في
ظلال سيد قطب
لمحات من حياته وأعماله ومنهجه التفسيري
بقلم/
وصفي عاشور أبو زيد
باحث في العلوم الشرعية
دار العلوم – القاهرة
من التنزيل العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
(ولا تحسبنَّ الذين قُتِلُوا في سبيل الله أمواتًا بل
أحياءٌ عند ربهم يُرزَقون)
تقديم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد:
فإنه من دواعي الغبطة والخجل ، والإقدام والإحجام في آنٍ معًا أن أكتب - وأنا القليل الصغير - عن المفكر الكبير ، والمفسر الملهم شهيد الإسلام سيد قطب عليه رحمة الله ورضوانه.
لقد تهيأت له ظروف ، وقُدرت له أقدار جعلت منه هذا المفكر الكبير ، وصنعت منه ذلك المفسر الملهم ، وجعلت لكتابه مكانة ذات بال في خريطة التجديد التفسيري.
عمل في مقتبل عمره بالدرس الأدبي، فكان أديبًا عملاقًا، وناقدًا عبقريًّا؛ ثم اتجه اتجاهه الإسلامي ، ونذره القدر للعيش في ظلال القرآن، فقبع في زنزانة أصقلت روحه ، وقوَّت عقيدته ، وتسلح فيها بالسلاح الذي ينبغي أن يتسلح به كل مفسر للقرآن الكريم . ذلكم هو سلاح التقوى.
لقد أحسن عبد الناصر صنعًا - من حيث لا يقصد - حين قذف بالبريء الأعزل في غياهب السجن ؛ ليكون السلاح الذي استخدمه لكبت نشاطه ، وقتل قلمه هو نفس السلاح الذي جعل الله منه – بقدرته – أكبر عامل لانتشار فكره وانطلاق قلمه ؛ فيسُح سحًّا بكلام فيه روح الإلهام وإلهام الروح ، ليَخْرُج لنا هذا التفسير الجديد الذي سيظل درة العقد التفسيري على مر العصور.
لقد خدمه ذوقه الأدبي الرفيع - أيَّ خدمه - وهو يعيش في ظلال كلام رفيع ، فجاء تفسيره ثروة إسلامية - بمفهوم اللفظ الواسع - لا يستغني عنها مسلم معاصر.
وحاولت ألا تأخذني به العاطفة - وكثيرًا ما تأخذ الباحثين عند الكلام عنه - متحريًا - قدر الإمكان - الحيدة والموضوعية ، ومحتكمًا في كل فكرة وكل رأى إلى كلامه.(1/1)
كما تراوح النقل في معالجة القضايا بين الطول والقصر ، وكثير منه كان طويلاً على غير ما توصي به الدراسات الأكاديمية ؛ وذلك لظروفٍ اقتضاها الكلام ، ولطبيعة الشهيد في تعبيره المُسْهَب الفياض.
وربما يقال : إنك ستنطلق من منطق المحب لا منطق المحايد الموضوعي الناقد . وأبادر فأقول : وماذا علينا لو أحببنا علماءنا ومفكرينا ، وأكْبرناهم وأعْظمناهم ، وبوَّأناهم من قلوبنا المكانة اللائقة بهم ، ما دام هذا الحب لا يُعمي ولا يُصم ، وما داموا هم أهلاً للإكبار والإعظام؟.
إنني أزداد - إن شاء الله - بحبي للشهيد تقربًا إلى الله ، وبكتابتي عنه فخرًا عند الناس ، وبقراءتي له زادًا إلى اليوم الآخر.
ولئن بات ذكر الشهيد سيد قطب جريمة في عصرنا ، فلا أقل من أن يظهر ذكره في مثل هذه البحوث حتى يأذن الله بفجر عهد جديد.
وهذا الكتاب "فى ظلال سيد قطب" يحاول أن يكتب شيئًا من سيرة الرجل ، و يحصر مؤلفاته ما أمكن ، ويشير إلى الدراسات التي قامت حوله ، ويتعرف على منهجه في ظلاله، ويوضح ميزاته وخصائصه ، ويبين موقفه من بعض قضايا التفسير ، مما جعله موضع الثقة والقبول الحسن عند العلماء.
واقتضت طبيعته أن يأتي في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة:
الفصل الأول : حول سيد قطب.
حياته وأعماله ، بعض أقواله نثرًا وشعرًا ، ما قيل
عنه ، دراسات قامت حوله.
الفصل الثاني : منهجه في الظلال.
الفصل الثالث : موقفه من بعض قضايا التفسير.
الفصل الرابع : بعض قضايا الظلال في الميزان.
وأعلمُ أن سيد قطب قد قامت حوله دراسات عديدة في مجالات متنوعة ، لكن إذا فتح هذا الكتاب - بما يعطيه من صورة موجزة ومتكاملة - أعين القراء على عالم سيد قطب الرحيب ، وكان نافذة يطلون منها على إنتاجه وظلاله وحياته ، وشيئًا سهل التناول سهل التداول ، فقد بلغ ما يريد ، وأصاب ما يتغيَّاه.(1/2)
وللقارئ أن يفهم من عنوان الكتاب أنه في رحاب الرجل من حيث حياته وأعماله ، أو أنه في رحاب ظلاله ، فالمعنيين أردت ، وكليهما قصدت.
وفى النهاية لا أملك إلا أن أردد قول العماد الأصفهاني : "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده : لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدم كذا لكان أجمل، ولو تُرك هذا لكان أفضل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر".
والله المسئول أن يكون من العلم المنتفع به ، وأن أنال به الدرجات عنده ، إنه أعظم مأمول ، وأكرم مجيب ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
القاهرة
وصفى عاشور أبو زيد
فى : 28 من محرم 1419هـ .
الموافق : 24 من مايو 1998م .
الفصل الأول
حول سيد قطب
* حياته.
* أعماله.
* من مأثورات سيد قطب.
* قالوا عن سيد قطب.
* دراسات عن سيد قطب.
* اسمه ومولده وأسرته:
في قرية "موشا" إحدى قرى محافظة "أسيوط" بصعيد مصر 9/10/1906م ، الموافق 1324هـ ولد سيد قطب إبراهيم حسن الشاذلي.(1)
أصل أسرته من الهند ، كان كثير من الناس يُؤْثرون مجاورة البيت الحرام مهاجرين من أوطانهم هجرة لا عودة بعدها، ومن هؤلاء المهاجرين كان تاجرٌ هندي هو "الفقير عبد الله" جاء من الهند ليتخذ سكنًا مستديمًا في جوار بيت الله.
__________
(1) الأعلام : 3/147 لخير الدين الزِّرِكْلي، دار العلم ، بيروت ، ط السادسة 1418هـ ، وسيد قطب حياته وأدبه/11 د. عبد الباقي حسين ، رسالة ماجستير بدار العلوم 1980م.(1/3)
هذا الرجل هو الجد السادس لسيد قطب، ولم يَطُل المدى حتى نزل قريةً مصريةً - موشا - رجلٌ منحدر من سلالة هذا التاجر، ويتخذ من إحدى بناتها قرينةً له لينحدر من سلالتها والد سيد قطب، وهو الحاج قطب إبراهيم حسن الشاذلي(1)، الذي تزوج بامرأتين، وكانت أم سيد - فاطمة حسين عثمان - هي الزوجة الثانية، وأنجبت ستة أولاد : ثلاثة بنين ، وثلاث بنات ، وهم : نفيسة ، وسيد ، وأمينة ، ومحمد ، وحميدة، وطفل لم يعش إلا بضعة أيام.
ولد سيد بعد ثلاثة أعوام من شقيقته نفيسة، وظل الابن الوحيد لوالديه طوال ثلاثة عشر عامًا حتى رُزقا بمحمد في أبريل عام 1919م(2).
* نشأته وتربيته:
نشأ سيد قطب في قرية "موشا" التي تميزت بالسذاجة والبساطة سواء في العقائد والمعاملات ، أو في الأفراح والأحزان، وتمتعت بمناظر خلابة، وتمثلت أروع مشاهد الطبيعة وأجملها ، فهي قرية تقع في منطقة خصبة من وادي النيل يحتضنها بين أطلالها جبلان.
وسط هذه الطبيعة الساحرة فتح سيد قطب عينيه ، فتفتَّحت مشاعره وحواسه ، وتفجرت في نفسه أسرار الجمال الطبيعي ، وارتسمت في ذهنه الصور الساحرة التي لا تنمحي أبد الدهر(3)
نشأ سيد لوالدين كريمين في بيت له نصيب معلوم من السعة والعلم والثقافة، كما يمتاز بصبغته الدينية.(4)
__________
(1) عبقري الإسلام سيد قطب/27، د. سيد كشميري بتقديم أستاذنا الدكتور عبد الصبور شاهين ، طبع دار الفضيلة.
(2) عبقري الإسلام سيد قطب: 29 د. سيد كشميري.
(3) في وصف طبيعة هذه القرية يُراجع بتوسع : طفل من القرية لسيد قطب. الدار السعودية. جدة بدون تاريخ.
(4) عبقري الإسلام سيد قطب: 467 ، وسيد قطب حياته وأدبه : 12، 13 د. عبد الباقي حسين.(1/4)
وجد والدة مشغوفة بالقرآن وترتيله حتى إنه أهدى لها كتاب "التصوير الفني" يقول: "لطالما تسمَّعتِ من وراء "الشيش" في القرية للقراء يرتلون في دارنا طوال شهر رمضان . وأنا معك أحاول أن ألغو كالأطفال فتردني منك إشارة حازمة وهمسة حاسمة، فأنصت معك إلى الترتيل وتشرب نفسي موسيقاه. وإن لم أفهم بعدُ معناه.
وحينما نشأتُ بين يديكِ، بعثتِ بي إلى المدرسة الأولية في القرية ، وأولى أمانيك أن يفتح الله عليَّ ، فأحفظ القرآن ، وأن يرزقني الصوت الرخيم فأرتله لك كل آنٍ ، ثم عدلت بي عن هذا الطريق الجديد الذي أسلكه الآن ، بعدما تحقق لك شطر من أمانيك فحفظت القرآن!.
ولقد رحلت عنا - يا أماه - وآخر صورك الشاخصة في خيالي، جلستك في الدار أمام المذياع ، تستمعين للترتيل الجميل ، ويبدو في قسمات وجهك النبيل أنك تدركين - بقلبك الكبير وحسك البصير - مراميه وخفاياه.
فإليك يا أماه . ثمرة توجيهك الطويل . لطفلك الصغير . ولفتاك الكبير . ولئن كان قد فاته جمال الترتيل . فعسى ألا يكون قد فاته جمال التأويل. والله يرعاك عنده ويرعاه".
كما وجد والدًا متصفًا بمحاسن الكرامة والتقوى يستلذ بذكر الله، ويتمتع بتلاوة كتابه، وهو عند أهل الريف شخصية محترمة تهوى إليها القلوب عزًّا واحترامًا.
ولقد أهدى له كتاب "مشاهد القيامة في القرآن" يقول: "لقد طبعتَ في حسي وأنا طفل صغير مخافة اليوم الآخر ، ولم تَعِظْني أو تزجرني ، ولكنك كنت تعيش أمامي واليوم الآخر في حسابك ، وذكراه في ضميرك وعلى لسانك ، كنت تعلِّل تشددك في الحق الذي عليك، وتسامحك في الحق الذي لك بأنك تخشى اليوم الآخر ، وكنت تعفو عن الإساءة وأنت قادر على ردها لتكون لك كفارة في اليوم الآخر ، وإن صورتك المطبوعة في مخيلتي ونحن نفرغ كل مساء من طعام العشاء فتقرأ الفاتحة ، وتتوجه بها إلى روح أبيك في الدار الآخرة، ونحن أطفالك الصغار نتمتم مثلك بآيات منها متفرقات قبل أن نجيد حفظها كاملات".(1/5)
* تعليمه الابتدائي والتحاقه بدار العلوم:
لما ناهز سيد قطب السادسة من عمره في عام 1912م التحق بالمدرسة الحكومية ، وبعد انتظامه فيها أقبل على دروسه بجد واجتهاد ، وكان - رحمه الله - عنده شغف بالقراءة والسماع - منذ نعومة أظفاره - لا ينتهي ، وظمأ لا يرتوي ، وإذا ما حضر مجالس الوعظ فكر فيما يسمع ، وأحيانًا يقف ليناقش الواعظ وهو الطفل الصغير.
ومن الطريف الذي يرويه حضوره: درس عالم أزهري قَدِم إلى القرية ليُعلم القَرَويين الأميين من تفسير "الكشاف" للزمخشري، وهذا الدرس لا يتجاوز أن يجلس الشيخ ويلتف حوله القرويون الأميون، فيسحب من صدره "ملزمة" من تفسير الزمخشري ويروح يتلوه عليهم ، وهو يصفق بيديه بين آنٍ وآخر، ويقول: مفهوم ؟ فيجيب بعضهم : مفهوم.
ويمضى يصب عليهم ما في الزمخشري من بلاغة ونحو وصرف وتأويلات ، لا يدرون منها شيئًا ، وفى ليلة كان الشيخ يقرأ تفسير سورة الكهف ، ومر بقوله تعالى : "ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصًا".
ولما كان الطفل حريصًا على محصوله من النحو ، فقد لفت نظره أن كلمة "نبغ" محذوفة حرف العلة بلا مُسوِّغ ظاهر، فرفع إصبعه كما يصنع في المدرسة ، وقال : يا سيدنا الشيخ ، لماذا حذفت "الياء" في "نبغ" بدون جازم؟
ورفع الشيخ رأسه بلا اهتمام ، ثم مضى يقول – وكأنه يستمر في التلاوة – "يا سيدي حذفت الياء اعتباطًا للتسهيل"، ومضى لا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى الطفل الصغير.(1)
__________
(1) راجع طفل من القرية: 52، 53 .(1/6)
وانتهى من الدراسة في هذه المدرسة عام 1918م، فأراد والداه - بما تمتعا به من ثقافة ومعرفة لقدر العلم - أن يُلحقاه بدار العلوم بالقاهرة لكن ظروف الثورة - ثورة 19 - منعته من الالتحاق بها إلى حين ، ونزل سيد بالقاهرة عام 1921م ، فالتحق بمدرسة عبد العزيز الأولية ، ثم التحق بمدرسة المعلمين الأولية عام 1925م ، واستمر بها حتى عام 1928م ، وكانت الأخيرة تعطى صلاحية للعمل مدرسًا لكنها لم تُشبع نهمه ، فدفعته إلى أن يواصل الدراسة ، ويرتمي في حضن دار العلوم ، وبالفعل التحق سيد بـ: "تجهيزية دار العلوم" التي تؤهل الطلاب لدخول دار العلوم ، ومكث فيها سنتين حتى عام 1929م ، وفى عام 1930م التحق بدار العلوم ليتخرج فيها عام 1933م حاملاً شهادة "الليسانس" في الأدب واللغة ، وقَوِيَ واشتد ساعده في الكتابة حتى إنه – وهو طالب بالكلية – خرج بأبحاث تَعِد بناقد كبير ، وأديب واعد. منها بحثه القيم "مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر" الذي ألقاه محاضرة بالكلية في فبراير عام 1932 ، كما قرض الشعر ، وكتب مقالات أدبية واجتماعية وتربوية في الصحف والمجلات مثل : "الحياة الجديدة" ، و"البلاغ" ، و"الرسالة" ، و"المقتطف" ، و"صحيفة دار العلوم" ، كما كان يقيم الندوات ، ويَعقد الحفلات ، ويناقش الأمور الأدبية مؤيدًا العقاد ، ومهاجمًا مصطفى صادق الرافعي وتلاميذه"(1)
* بعد تخرجه واتصاله بالأستاذ العقاد:
__________
(1) عبقري الإسلام سيد قطب: 58 - 70 .(1/7)
بعد أن تخرج سيد قطب في دار العلوم تم تعيينه مدرسًا لمدارس وزارة المعارف الابتدائية حيث اشتغل لمدة ست سنوات (1933 - 1939م) ، ثم نقل إلى الوزارة ليعمل في التفتيش ، ومراقبة الثقافة العامة ، ثم عمل بعد ذلك مديرًا لمكتب الدكتور طه حسين الذي كان رئيسًا لقسم الثقافة بالوزارة ، ولم يكن دور سيد مقتصرًا على التدريس أو التفتيش فحسب ، بل كان دوره متحركًا ثوريًا حيث كتب كثيرًا من المقالات ، وألقى العديد من الخطب والمحاضرات ينتقد فيها المناهج التعليمية بتمام الجرأة والصراحة ، بالإضافة إلى كتاباته في مجالات متعددة مثل السياسة والاجتماع والدين والفكر ، فلم يكن بدٌّ من التعرض للمضايقات ، وقد كان. .. لكنه كان يتقبلها بصدر رحب ، وثغر باسم دون ملل أو ضجر ، ومن ذلك تهديد وزير المعارف له بالفصل ، وتصميمه على نفيه وتشريده ، لكن الدكتور طه حسين لم تكن تخفى عليه مواهب سيد وصلاحياته ، فحال دون ذلك ، ورأى أن يبتعد سيد قطب عن القاهرة لفترة حتى تهدأ حفيظة الوزير ، ففوض إليه مهمة التفتيش بمحافظات الصعيد(1)
وأرسلت الوزارة سيد قطب في 3/11/1948م(2)بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليدرس المناهج التعليمية، والنظم التربوية المتبعة هناك(3)وعاد سيد من بعثته إلى القاهرة 23/8/1950(4)، فكان أشد وأعنف من ذي قبل، فانتقد البرامج والمناهج المصرية بشدة؛ لأنه كان يراها من وضع الإنجليز(5).
__________
(1) عبقري الإسلام سيد قطب: 81، 82 .
(2) سيد قطب : 35 د. عبد الباقي حسين.
(3) عبقري الإسلام : 82 .
(4) سيد قطب : 38 .
(5) الأعلام للزِّرِكلي : 3/147 .(1/8)
وقد قُدر لسيد – بعد نزوله القاهرة – أن يتعرف على المفكر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد (1889 – 1664م) ، عملاق الأدب الحديث ، ورائد التجديد في الأدب والنقد، حيث بدأت آثار العقاد – بل التعصب له – تظهر على سيد قطب في نشاطاته الأدبية، ومقالاته الصحفية مذ كان طالبًا في دار العلوم ، وقد خاض المعارك الأدبية التي تزامنت ومطالع هذا القرن مهاجمًا شوقي، والرافعي ، وأبا شادي – متعصبًا للعقاد، ومتأثرًا به(1)
* توجهه الإسلامي وانضمامه للإخوان:
لأمر ما تهيأت الظروف والأقدار لتقضي بالافتراق بين سيد قطب وأستاذه العقاد ، فقد انتهج النهج الإسلامي ، والكتابة في الموضوعات الإسلامية ، وذلك لرغبته في الإصلاح الديني ، سواء كان إصلاحًا سياسيًا، أو اجتماعيًا، أو ثقافيًا... إلخ(2).
وانضم سيد إلى "الإخوان المسلمون" عام 1951م ، واقتنع بأنها أنجح فكرة إسلامية في خلال القرون الأربعة الأخيرة في كل البلاد الإسلامية.
واقتنع بمنهج الإمام حسن البنا، وطريقة إصلاحه، وأسلوبه البالغ في التأثير والإقناع(3)ومن هنا أخذت الفرقة تزداد بينه وبين أستاذه العقاد، وقد كان الأخير منتميًا إلى حزب الوفد الذي كان دائم التهجم للإخوان ، ولم يكن ينقدهم ويهاجمهم فحسب ، بل كان ينبذهم هم ومرشدهم الأستاذ حسن البنا بالمهاترة، والألفاظ الوضيعة(4)
ولعل تحول سيد قطب إلى الإسلاميات والحركة الإسلامية هو صدى صوت الفطرة عنده ، وعَوْد إلى طبيعته، طبيعة البيئة التي نشأ فيها ، وتربى عليها.
__________
(1) عبقري الإسلام: 84 وما بعدها.
(2) ليس معنى هذا أن العقاد لم يكن اتجاهه إسلاميًّا ، إنما الإشارة هنا إلى التفرغ الكامل لسيد قطب في ذلك ، وإلا فقد خدم العقاد الفكر الإسلامي أي خدمة بما قدمه من مؤلفات بديعة.
(3) سيد قطب: 29 - 31 .
(4) عبقري الإسلام: 107 .(1/9)
وليس من شك في أن موهبة سيد الأدبية كانت لها اليد الطولى في إبراز مكانته بين الإخوان ، بل أصبح حاديهم على سبيل الكفاح، و سلك معهم وبهم سلوك المناضل بصورة فائقة متخذًا من موهبته الأدبية والعلمية سلاحًا له، وزادًا على الدرب الحركي.
*اعتقاله وإعدامه:
ولم يكن لسيد قطب - وقد سلك هذه السبيل - أن يعيش سالمًا آمنًا، فقد اعتُقل في يناير عام 1954م(1)، وأفرج عنه بعفو صحي في مايو عام 1964م ، لكن المخابرات أصرت على ضرب الإخوان ، فألقت القبض على محمد قطب 30/7/1965م ، فبعث أخوه سيد قطب - وقد أفرج عنه - احتجاجًا للمباحث العامة فقبضوا عليه هو الآخر في 9/8/1965م ، وقُدم للمحاكمة مع كثير من الإخوان ، وصدر الحكم بالإعدام مع سبعة من إخوانه ، ونُفذ الحكم في فجر الإثنين 13 جمادى الأولى 1386هـ الموافق 29/8/1966م(2)، وبنتفيذ الحكم انطوت صفحة مشرقة من صفحات التاريخ طالما أشعت بالنور، ودعت إلى الجهاد.
ويمضى الشهيد إلى جوار ربه ويكون استشهاده - على الطريقة التي أرادها الله - له أكبر العوامل في انتشار إنتاجه وكتبه، وعلو فكره وعلمه، ذلك أن كل كاتب يكتب ما يكتب مرة واحدة ، أما صاحبنا فقد كتب ما كتب مرتين : مرة بمداد العلماء ، وأخرى بدماء الشهداء.
ولما كانت نكسة عام 1967م قال الأستاذ علاّل الفاسي(3): "ما كان الله لينصر حربًا يقودها قاتل سيد قطب"(4).
رحم الله سيد قطب وأدخله فسيح جناته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا(5).
__________
(1) عبقري الإسلام سيد قطب : 169.
(2) سيد قطب : 43 ، 44.
(3) من علماء المغرب ، وله كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها".
(4) الأعلام الزركلي : 3/148.
(5) النساء: 69 .(1/10)
*مؤلفات سيد قطب(1)
يعتبر سيد قطب واحدًا من الذين حوربوا في إنتاجهم وفكرهم ، فلقد أتى على كتبه زمان حُكِم فيه عليها بالحرق والإعدام في دور النشر والمكتبات ، وكان ذكره في بعض الدراسات أو الرجوع إلى بعض كتبه جريمة لا تُغتفر، من أجل ذلك فقدت الأمة كثيرًا من تراثه الأدبي والفكري ، وهذا ما استطعت الوقوف عليه من مؤلفات الرجل :
* في الدراسات الأدبية:
1 - مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر.
2 - نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر.
3 - كتب وشخصيات.
4 - النقد الأدبي أصوله ومناهجه.
5 - الشاطئ المجهول.
* في الدراسات القرآنية:
6 - التصوير الفني في القرآن.
7 - مشاهد القيامة في القرآن.
8 - في ظلال القرآن.
* في الأدب القصصي:
9 - طفل القرية.
10 - أشواك.
11 - المدينة المسحورة.
* في أدب الدعوة:
12 - العدالة الاجتماعية في الإسلام.
13 - معركة الإسلام والرأسمالية.
14 - السلام العالمي والإسلام.
15 - دراسات إسلامية.
16 - هذا الدين.
17 - المستقبل لهذا الدين.
18 - خصائص التصور الإسلامي ومقوماته . جزءان.
19 - الإسلام ومشكلات الحضارة.
20 - معالم في الطريق.
* آثار أخرى:
21- الأطياف الأربعة.
22 - أفراح الروح.
23 - نحو مجتمع إسلامي.
24 - أمريكا التي رأيت.
25 - في التاريخ فكرة ومنهاج.
26 - القصص الديني. بالاشتراك مع عبد الحميد جودة السحار.
27 - روضة الطفل. بالاشتراك مع آخرين.
28 - الجديد في اللغة العربية. بالاشتراك مع آخرين.
29 - الجديد في المحفوظات. بالاشتراك مع آخرين.
30 - معركتنا مع اليهود.
31 - فقه الدعوة.
32 - طريق الدعوة في ظلال القرآن. جزءان.
33 - الجهاد في سبيل الله.
34 - الإسلام أو لا إسلام.
__________
(1) يراجع في ذلك عبقري الإسلام سيد قطب الأديب العملاق والمجدد الملهم د. سيد كشميري 221 – 459، وسيد قطب الأديب الناقد د. عبد الله الخباص 361 - 366 مكتبة المنار. الأردن. ط أولى 1983م.(1/11)
35 - إلى المتثاقلين عن الجهاد.
36 - تفسير آيات الربا.
37 - تفسير سورة الشورى.
38 - رسالة الصلاة.
39 - قصة الدعوة.
* مقدماته لبعض الكتب:
- مقدمة "الإيمان وأثره في نهضة الشعوب" ليوسف العظم.
- مقدمة "خالد بن الوليد" لصادق إبراهيم عرجون.
- مقدمة ديوان العزيز عتيق.
- مقدمة "سخريات صغيرة" لمحمد قطب.
- مقدمة"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"لأبى الحسن الندْوي.
* بحوث لم تُنشر:
40 - أساليب العرض الفني في القرآن.
41 - أصداء الزمن. ديوان شعر.
42 - أوليات في هذا الدين.
43 - تصويبات في الفكر الديني المعاصر.
44 - حلم الفجر. ديوان شعر.
45 - الشريف الرضى.
46 - شعراء الشباب.
47 - الشعر المعاصر.
48 - الصور والظلال في الشعر العربي.
49 - عرابي المفترى عليه.
50 - في ظلال السيرة.
51 - في موكب الإيمان.
52 - قافلة الرقيق. ديوان شعر.
53 - القصة الحديثة.
54 - القصة بين التوراة والقرآن.
55 - القصة في الأدب العربي.
56 - القطط الضالة.
57 - الكأس المسمومة. ديوان شعر.
58 - لحظات مع الخالدين.
59 - المدارس الأدبية المعاصرة أو (المذاهب الفنية المعاصرة).
60 - المذاهب الأدبية المعاصرة.
61 - المراهقة. أخطارها وعلاجها.
62 - المرأة لغز بسيط.
63 - المرأة في قصص توفيق الحكيم.
64 - هذا القرآن.
65 - معالم في الطريق. المجموعة الثانية.
66 - من أعماق الوادي.
67 - المنطق الوجداني في القرآن.
68 - مهمة الشاعر في الحياة. الكتاب الكامل.
69 - النقد في الأدب العربي.
70 - النماذج الإنسانية في القرآن.
أما عن المقالات والدراسات التي كتبها في الصحف والمجلات فهي كثرة كاثرة بحيث يصعب حصرها(1).
* من مأثورات سيد قطب
__________
(1) راجع مثلاً سيد قطب الأديب الناقد: 367، وما بعدها.(1/12)
لا أكتم القارئ سرًّا، فلقد وقعت في حيرة شديدة وأنا أتخير كلمات أكتبها تحت هذا العنوان من تراث الشهيد، إن كلماته تستحق أن تُدوَّن بماء الذهب في صحف من فضة، إنها كلمات يشع منها النور، ويتلألأ فيها الإيمان، ويتقاطر منها الصدق واليقين والإخلاص.
ولقد التقيت مع أحد رفقاء سجنه(1)وسألته عن حال الشهيد مع القرآن فقال : "كان إذا أراد أن يقرأ القرآن توضأ وضوءه للصلاة، ثم استقبل القبلة وانتظر حتى تسكن جوارحه ثم يقرأ القرآن وكأنَّ الله - بعظمته - يحدثه هو بصغره.
ثم قال لي : كان من أبرز ما وجدته عند هذا الرجل قدرته الفائقة على طيِّ ما حدث، وبدء صفحة جديدة للدعوة والبناء".
وهذا يدل على إيمان راسخ، واستعلاء وَرِثَهُ عن هذا الإيمان.
وهذه الكلمات ليست أجمل ما قال الشهيد إنما هي بعضٌ من أجمل ما قال.
*** (إن الكلمة لتنبعث ميتة، وتصل هامدة، مهما تكن طنَّانة رنانة متحمسة، إذا هي لم تنبعث من قلب يؤمن بها. ولن يؤمن إنسان بما يقول حقًّا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول، وتجسيمًا واقعيًّا لما ينطق.. عندئذ يؤمن الناس، ويثق الناس، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها، وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها، إنها تستحيل يؤمئذ دفعة حياة؛ لأنها منبثقة من حياة..) ظلال 1/68.
*** (إن القرآن ليس كتابًا للتلاوة ولا للثقافة .. وكفى .. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة ، وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث ! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة ، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب) ظلال 5/2836.
__________
(1) هو الأستاذ توفيق محمد ثابت وقد عاش محنة الاعتقال، ولا يزال حتى كتابة هذه السطور على قيد الحياة.(1/13)
*** (إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى ، والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب النقي الذي يخفق لها ويتحرك بها، والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال .. إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل ، إنما تنقص الناسَ الرغبةُ في الحق ، والقدرةُ على اختيار الطريق) ظلال 1/480.
*** (إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البَرَم به والجموح) ظلال 1/481.
*** (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة) عن كتاب "دعوة الإخوان المسلمين وعبقرية بناء جماعتها" ص19 .
*** (إن العزة ليست عنادًا جامحًا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل ، وليست طغيانًا فاجرًا يضرب في عتوٍّ وتجبر وإصرار ، وليست اندفاعًا باغيًا يخضع للنزوة ويَذل للشهوة ، وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا صلاح.. كلا!! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس ، واستعلاء على القيد والذل ، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله. ثم هي خضوع لله وخشية ، خشية لله وتقوى ، ومراقبة لله في السراء والضراء ، ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه ، ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه ، ومن هذه المراقبة لله لا تُعْنَى إلا برضاه) ظلال 5/2931.
*** (إن خصومة الحياة خير عندي من سلام الموت، وإن ضجة العاصفة أفضل من صمت الركود). مجلة الأسبوع: يونيو 1934م ، ع: 31 ص28.(1/14)
*** (إن القانون لا تحرسه نصوصه، ولا يحميه حراسه ، إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي القانون وتحميه ، وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه! ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية! ولن تستطيع الدولة - كائنًا ما كان الإرهاب فيها - أن تضع على رأس كل فرد حارسًا يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته ؛ ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس ، ومراقبتهم له في السر والعلن ..) ظلال 3/1384.
*** (عندما نعيش لذواتنا فحسب ، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة ، تبدأ من حيث بدأنا نعي ، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود !
أما عندما نعيش لغيرنا ، أي عندما نعيش لفكرة ، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة ، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض). أفراح الروح : 8.
*** (إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، إنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية ، ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية التي تجعل من التقاء جسدين التقاء نفسين وقلبين وروحين ، وبتعبير شامل التقاء إنسانين). ظلال 6/3596.
*** (بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن نُدخل العزاء أو الرضى ، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين !
إنها لذة سماوية عجيبة ليست في شيء من هذه الأرض ، إنها تجاوب العنصر السماوي الخالص في طبيعتنا ، إنها لا تطلب لها جزاءً خارجيًّا ؛ لأن جزاءها كامن فيها!). أفراح الروح : 25.
*** (إن الابتلاء بالخير أشد وطأة ، وإن خُيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر ، إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير..) ظلال 4/2377.(1/15)
*** (إن الإيمان الصحيح متى استقرت في القلب ظهرت آثاره في السلوك ، والإسلام عقيدة متحركة ، لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحقُّقها في عالم الشعور تتحرك لتُحقق مدلولها في الخارج ؛ ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع..) ظلال 4/2525.
*** (كم نمنح أنفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة ، حين نمنح الآخرين عطفنا وحبنا وثقتنا ، يوم تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير).
أفراح الروح : 12.
*** (إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماضٍ في الطريق اللاحب، ماضٍ في الخط الواصب ، مستقيم الخطى ، ثابت الأقدام ، يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمبتدعين ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء ، والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد ، والعاقبة هي العاقبة مهما طال الزمن ، ومهما طال الطريق، إن نصر الله دائمًا في نهاية الطريق...).
ظلال 2/1077.
*** (إن دين الله ليس راية ولا شعارًا ولا وراثة ! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفى الحياة سواء ، تتمثل في عقيدة تعمر القلب ، وشعائر تقام للتعبد ، ونظام يصرف الحياة) ظلال 2/940.
*** (كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان ! أما الأفكار التي لم تُطعم هذا الغذاء المقدس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام) .
أفراح الروح : 24.
*** (إن كنت مسجونًا بحق فأنا أرتضى حكم الحق، وإن كنت مسجونًًا بباطل فأنا أكبر من أن أسترْحَم الباطل).
*** (لو كان مقدرًا لهذا العالم الإسلامي أن يموت لمات في خلال فترة الاسترخاء والإعياء ، وفى إبَّان فتوة الاستعمار وقوته ، ولكنه لم يمت بل انتفض حيًّا كالمارد الجبار يحطم أغلاله وينقض أثقاله ويتحدى الاستعمار الذي شاخ...(1/16)
ما الذي احتفظ لهذه الشعوب بحيويتها الكامنة بعد قرون طويلة من النوم والاسترخاء ومن الضعف والجمود... إنه عقيدتها القوية العميقة .. هذه العقيدة التي تدعو معتنقيها إلى الاستعلاء ؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، كما تدعوهم إلى المقاومة والكفاح لتحقيق الاستعلاء وعدم الخضوع للقاهرين أيًّا كانت قوتهم المادية ؛ لأن القوة المادية وحدها لا تخيف المؤمنين بالله جبار السماوات والأرض القاهر فوق عباده أجمعين... وإن يوم الخلاص لقريب ، وإن الفجر ليبعث خيوطه ، وإن النور يتشقق به الأفق ، ولن ينام هذا العالم الإسلامي بعد صحوته ولن يموت هذا العالم الإسلامي بعد بعثه، ولو كان مقدرًا له الموت لمات ، ولن تموت العقيدة الحية التي قادته في كفاحه ؛ لأنها من روح الله ، والله حيٌّ لا يموت) في التاريخ فكره ومنهاج ص 7 - 10 .
**مختارات من شعره:
وإذا كان لسيد قطب أسلوبه المميز في النثر فإن له أسلوبه الباهر في الشعر ، والحق أن سيد قد أوتي هذه الموهبة ، موهبة الإبداع والتذوق ، والتعبير الجيد ، والخيال المحلق ، وهي موهبة يؤتيها الله من يشاء من عباده .
ولم يشأ سيد قطب أن يكون واحدًا من هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون ، وفي كل وادٍ يهيمون ، إنما هو من الشعراء المستثنَيْن : " الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا " ، على الرغم من أنها موهبة يغتر بها كثير ممن أوتوها، ولا يقدرونها حق قدرها ، فلا يتوجهون بها الوجهة الصحيحة.
وقد قدم لنا الدكتور عبد الباقي حسين دراسة ضافية عن حياة الرجل وشعره ، وتناول بالتفصيل ملامح شاعريته وتجربته الشعرية في الشكل والمضمون بما لا يوجب إلا الإحالة إليها ، وهي بعنوان: " سيد قطب ، حياته وأدبه ".(1/17)
كما قام مشكورًا بجمع ما تفرق من شعره في الصحف والمجلات ، بالإضافة إلى ديوانه الشهير " الشاطئ المجهول " ، وقد جمع هذا وذاك في كتاب واحد أسماه: " ديوان سيد قطب " نشرته دار الوفاء، وهذه مختارات من الديوان.
أخي
أخي أنت حرٌّ وراء السدود أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصمًا فماذا يَضيرك كيدُ العبيد
أخي ستَبِيد جيوش الظلام ويُشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها ترى الفجر يرمُقُنا من بعيد
أخي قد أصابك سهم ذليل وغدْرًا رماك ذراعٌ كليل
ستُبْتَر يومًا فصبر جميل ولم يَدْمَ بعدُ عرينُ الأسود
أخي قد سرت من يديك الدماء أبتْ أن تُشَلَّ بقيد الإماء
سترفع قُربانها ... للسماء مُخضَّبة بوسام الخلود
أخي هل تُراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهِلَيْك السلاح
فمَن للضحايا يواسي الجراح ويرفع رايتها من جديد
أخي هل سمعت أنين التراب تدكُّ حصَاهُ جيوشُ الخراب
تُمزِّق أحشاءه بالحراب وتصفعه وهْو صلبٌ عنيد
أخي إنني اليوم صلب المِراس أدكُّ صخور الجبال الرواس
غدًا سأُشيحُ بفأس الخلاص رؤوس الأفاعي إلى أن تَبِيد
أخي إن ذَرَفْتَ عليَّ الدموع وبلَّلت قبري بها في خشوع
فأَوْقِدْ لهم من رُفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجْد تليد
أخي إن نَمُتْ نلقَ أحبابنا فروضات ربي أُعدَّت لنا
وأطيارها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
أخي إنني ما سئمت الكفاح ولا أنا ألقيتُ عني السلاح
وإن طوَّقتْني جيوش الظلام فإني على ثقة بالصباح
وإني على ثقة من طريقي إلى الله ربِّ السَّنا والشروق
فإن عافَنِي السَّوْقُ أو عقَّني فإني أمين لعهدي الوثيق
أخي أخذوك على إثرنا وفوجٌ على إثر فوج جديد
فإن أنا مُتُّ فإني شهيد وأنت ستمضي بنصر جديد
قد اختارنا الله في دعوته وإنَّا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضَوْا نَحْبَهم ومنا الحفيظ على ذمته
أخي فامض لا تلتفت للوراء طريقك قد خضَّبته الدماء(1/18)
ولا تلتفت ههنا أو هناك ولا تتطلَّع لغير السماء
فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نُسْتَذَلَّ ولن نُستباح
وإني لأسمع صوت الدماء قويًّا ينادي الكفاح ... الكفاح
سأثأر لكنْ لرب ودين وأمضي على سُنتي في يقين
فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين
سعادة الشعراء
دعني ولا تَنْفُسْ عليَّ مواهبي خذها وخذ ألمي بها ومتاعبي
دعني فلستُ كما حسبتَ منعَّمًا بمواهب ملكتْ عليَّ مذاهبي
أنت الخليُّ فخلِّني وعواطفي آلمْتَ وجداني فلست بصاحبي
دعني أعيش كما يشاء لي الأسى لا كنت مثلي، لا دهتك نوائبي
إني شقي لو علمت دخائلي فدعِ المظاهر لا ترُعْك جوانبي
****
الشعر من نعم الحياة عرفته وعرفت فيه البؤسَ ضربةَ لازب
الشعر ذوب حشاشة مسفوكة ألمًا ووَجْدًا في حنين ذاهب
ما ضر قومًا لا تُذاب قلوبهم شعرًا ودمعًا مثل قلبي الذائب
****
الناس تقْنع بالحياة وترتضي منها محاسن شُوِّهت بمثالب
والشاعرون تَؤُزُّهُم أَدْرَانُها يَبْغُونها لم تمتزج بشوائب
حسٌّ أرقُّ من الأثير يُهيجه ما قد تمرُّ عليه مرَّ اللاعب
****
من لي إذا جنَّ الظلام بهدْأةٍ كالهادئين ومن يُطمْئن جانبي
أنا في الطبيعة مغرمٌ بمشاهدٍ تُلهي فؤادي عن أعزِّ رغائبي
الليل يُشجيني برائع صحْوِهِ وكواكبٌ يَغْرُبْنَ إثر كواكب
والبدر يُوحي لي بسر طوافه مستوحشًا لم يأتنس بمصاحب
والحسن يدعوني إليه فأنْثَنِي ويصُدُّني عنه بصفقة خائب
****
البائسون إذا سمعتُ أنينهم أحسست أن مصابهم هو صائبي
والباسمون إذا شَهدت ثغورهم هاجت حنيني للصفاء الذاهب
والبعد يُؤذيني ورب مفارق لم يُؤْذه يومًا تنائي غائب
وكرامةٍ لو مُسَّ منها جانبٌ أصْغرتُ عيشي عندها ومطالبي
بلغ الحِفاظُ بها القداسةَ والتُّقى وحذارِ وهمٍ خاطئٍ أو صائب
****
يا ليت لي نفسًا إذا ما سُمْتُها عَكَرَ الورودِ استرشدَتْ بتجاربي
لكنها نفْس سَمَتْ فتألَّمتْ والماءُ لا يصفو الحياةَ لشارب(1/19)
دعني أعيش معذَّبًا متألمًا بمواهبي. يا شقوتي بمواهبي
الغد المجهول
يا ليت شعري ما يُخبِّئه غدي إني أروح مع الظنون وأغتدي
وأُجِيل باصرتي بها وبصيرتي أبْغي الهُدَى فيها وما أنا مهتدِ
حتى إذا لاح اليقين خلالها أشفقت من وجه اليقين الأسود
وأشحْت عنه ولو أطَقْت دعوتُه وطرحت عنِّي حيرتي وتردُّدي
فكأنَّني الملاح تاه سفينُه ويخاف من شطٍّ مُريب أجرد
ماذا سيُولد يوم تُولَد يا غدي إني أُحس بهول هذا المولد
سيصرِّح الشك الدفين بمهجتي فأبِيتُ فاقدَ خيرَ ما ملكت يدي
ستروغ من حولي عواطفُ لم تزل تُضفي عليَّ بعطفها المتودد
ستجفُّ أزهار يفوح عبيرها حولي، وينفحني بها الأرَجُ النَّدِي
والمِشعَل الهادي سيخبو ضوؤه ويَلفُّني الليل البهيم بمفردي
ماذا تُخلِّف يوم تذهب يا غدي لا شيء بعد الفقْد للمتفقِّد
"ستخلف الأيامُ قاعًا صفصفًا تذرو الرياح بها غبار الفَدْفد"
لا مرتجى يُرْجَى ولا أسفٌ على ماضٍ يضيع كأنه لم يُوجَدِ
أبدًا ولا ذكرى تجدد ما انطوى حتى التألُّم لا يعود بمشهدي
ربَّاه إني قد سئمت تردُّدي فالآن فلْتَقْدم بِهَوْلِكَ يا غدي
إلى البلاد الشقيقة(1)
عهدٌ على الأيام ألا تُهزموا فالنَّصر يَنبُت حيث يُهْراق الدَّم
في حيث تَعْتَبِطُ الدماء فأيقنوا أنْ سوف تَحْيَوْا بالدماء وتَعْظُمُوا
تبغون الاستقلال؟ تلك طريقُه ولقد أخذتم بالطريق فيمِّموا
وهو الجهاد حميَّة جشَّامة ما إن تخاف من الردى أو تحجم
إنَّ الخلود لمَن يُطيق مُيسَّر فليَمْضِ طلاب الخلود ويَقْدُمُوا
وطن يُقسَّم للدَّخيل هديةً فعلام يَحْجُمُ بعد هذا مُحْجِم
الشرق يا للشرق تلك دماؤه والغرب يا للغرب يُضْريه الدم
الشرق ويْحَ الشرقِ كيف تقحَّموا حُرُمَاتِهِ الكبرى وكيف تهجَّموا
غرَّتْهُموا سنة الكرى فتوهموا! يا للذكاء ! فكيف قد غرتْهمو؟
__________
(1) نُشرت 1931م بمناسبة ثورة فلسطين وحوادثها الدموية.(1/20)
سِنَةٌ ومرَّت والنِّيامُ تَيَقَّظُوا فلْيَعْلموا مَن نحن أو لا يَعْلموا!
اليومَ فَلْيِلِغُوا الدِّماء وفي غَدٍ فلْيَندموا عنها ولاتَ المندم
أبطال الاستقلال تلك تحية من مصر يبعثها فؤاد مُفعم
إخواننا في الحال والعقبى معًا إخواننا فيما يَلَُّذ ويُؤلم
مصر الفتاة وما تزال فتية تهفو إليكم بالقلوب وتَعْظُم
في كلِّ مُطَّلع وكلِّ ثَنيةٍ نارٌ من الشرق الفَتيِّ سَتُضْرَمُ
**قالوا عن سيد قطب:
إن النفس التي ترضى عن الخالق ، وتبلغ من الخلق شغاف القلوب تستنطق قلوبهم ، وتستخرج من صدورهم كلمات لا تقل عن جمال هذه النفس وجلالها شيئًا مذكورًا.
ونحسب سيد قطب - ولا نزكى على الله أحدًا - واحدًا من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأحد الشخصيات التي استنفرت أقلام العلماء والمفكرين - بحثًا ودراسة. جمعًا وترتيبًا. كلماتٍ وتقريظات - بما يتناسب وفكر سيد ومكانته ، ويقترب من جمال كلماته وجلالها.
وها هي ذي بعض الكلمات التي كتبها عنه بعض العلماء والمفكرين:
*** (قليلون جدًّا هم الذين لا يستطيع كاتب أن يقدمهم إلى القراء مهما أوتي من العلم والمعرفة ، أو برز في صناعة القرطاس والقلم... ومن هؤلاء الشهيد الخالد سيد قطب .. فحسب هذا العالم المبرَّز أن يُشار إلى ما يكتب بعبارة واحدة تقول: "بقلم سيد قطب" فقد استطاع هذا العملاق الفذ خلال عدة سنوات أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه ، وأن يحتل مكانة في فترة وجيزة بين أصحاب الأفهام ، والفقهاء العظام ، والأئمة الأعلام ، فكان إنتاجه العلمي زادًا لكل عالم ، ومادة لكل كاتب ، ومدادًا لكل باحث عن الحقيقة المجردة!!) الأستاذ : حسن عاشور(1)
__________
(1) صاحب دار الاعتصام.(1/21)
*** (لو أننا تناولنا نتاجه في ضوء عمره(1)لدعونا الزملاء جميعهم إلى اكتتابٍ عام يطيب لكاتب هذا الفصل أن يساهم فيه برأسه حتى نقيم له تمثالاً في حجم صورته ونتوجه بهذه الشهادة: "نشهد نحن الموقعين على هذا أن زميلنا سيد قطب من أولئك الذين أربت أقدارهم على أعمارهم .. ولكننا في مصر، ومصر المحروسة بلد العُقوق") على أحمد عامر(2)
*** (لقد ضرب سيد قطب مَثَل الأديب الذي غرس فيه الطموح والاعتداد بالنفس ، وتسلح بقوة الإرادة والصبر والعمل الدائب كي يحقق ذاته وأمله...) د. عبد الباقي حسين(3)
*** (لقد كان من بواعث اغتباطي أن أشرفت على إلقاء هذه المحاضرة بمدرج دار العلوم مهد العلم والأدب الذي قال فيه المرحوم الإمام الأستاذ الشيخ محمد عبده: "إن باحثًا مدققًا لو أراد أن يعرف أين تموت اللغة العربية وأين تحيا لوجدها تموت في كل مكان ، وتحيا في دار العلوم، ولئن كنت قدمت المحاضر سيد قطب بأنه طالب يسرني أن يكون أحد تلاميذي، فإنني أقول اليوم، وقد سمعت محاضرته - إنه لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورًا وقناعة واطمئنانًا إلى أنني سأحمِّل أمانة العلم والأدب مَن لا أشكُّ في حسن قيامه عليها، وقصارى القراء أن أقول لهم إنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم ، وإذا قلت دار العلوم ، فقد عنيت دار الحكمة والأدب) د. مهدى علام(4)
*** (أول ناقدَيْن كَتَبَا عن مؤلفاتي في مجلة "الرسالة" هما : سيد قطب وأنور المعداوي ، فقد كان لهما الفضل في انتزاعي من الظلام إلى النور). الأستاذ : نجيب محفوظ.
__________
(1) لم يكن سيد قطب يومئذ بلغ الثلاثين من عمره.
(2) أحد معاصري سيد قطب .
(3) أستاذ في الأدب ، حصل على الماجستير في أدب سيد قطب من دار العلوم.
(4) كان أستاذًا للأدب بدار العلوم.(1/22)
*** (إنه رجل عزيز على أنفسنا حبيب إلى قلوبنا ؛ لأنه قدم الكثير للفكر الإسلامي، ثم قدم حياته ودمه فداءً لدعوة الإسلام وكلمة الإيمان) د. يوسف القرضاوي.
*** (هو سيد قطب... الشهيد... الداعية ... المفكر...الإمام، وهو جدير أن يوصف بهذه الألقاب ، وأن يجمع كل هذه الوظائف ، التي يكفى واحدة منها لتجعل صاحبها في مصافِّ الخالدين... فكيف بمن جمعها كما لم يجمعها أحد قبله "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل منهم" ... إنه خط الدعوة الإسلامية طريقها وجدد طاقتها إلى قرنين قادمين من الزمان على الأقل .......... إن الذي يقرأ كلام سيد قطب في تفسيره - بخاصة - وسائر كتبه الحركية بعامة - يشعر أن هذا كلام ليس تراكيب لغوية تنتمي إلى أساليب الكتاب المحترفين ومهارات المتفننين .. بل كان جنينًا في رحم المعاناة ، وكان غذاؤه روح كاتبه ، وكانت حروفه من نبض قلبه وذوب وجدانه) د. عبد الصبور شاهين.
*** (كان سيد قطب تبرًا(1)في تُرْب ، لا يعرف قدره إلا من ارتقى مرتقاه ، فهو مدرسة وحده ، ويكفيه شرفًا أن نبَّه الأمة إلى الكنز الذي لا يفنى. القرآن الكريم) . الأستاذ : توفيق محمد ثابت.
*** (وتوالت الأيام فاستشهد سيد قطب بعد سجن بلغ ثلاثة عشر عامًا ، وتعذيب لم تكن تطيقه الفيلة ، مع أنه لم يقتل ولم يسرق ولم يؤذ قط.
إنه الرجل الذي كتب عشرين مؤلفًا ، منها ثلاثون مجلدًا سماها " في ظلال القران " حياءً من الله أن يسميها تفسيرًا للقرآن ، الرجل الذي ترك عمله مستشارًا لوزارة التربية ليكتب للمسلمين ، ويعيش على الكفاف ، ثم طاف القارات مبشرًا بالإسلام.
الرجل الذي تعرف على دعوة الإخوان المسلمين، وظل عشرة أعوام فيها يربى ويوجه ثم يقول : لم أبلغ عند نفسي أن أكون عضوًا في هذه الجماعة). الأستاذ/ عبد البديع صقر.
** الدراسات التي قامت حول سيد قطب
__________
(1) تبر : ذهب ، والتُّرْب هو التراب.(1/23)
لقد قامت حول سيد قطب دراسات أكاديمية ، وبحوث علمية في مجالات متنوعة، ومن جامعات مختلفة ؛ لتدل دلالة قاطعة على الموسوعية الثقافية التي مثَّلها هذا الرجل.
ولئن كانت هذه الدراسات قد تكاثرت حوله ، فليس معنى ذلك أن معينه قد نضب ... كلا! إن معينه فيَّاض دفَّاق ؛ لأنه يستمد ذلك من حياته مع القرآن ، وعمله بالقرآن ، وتأمله في القرآن ، والقرآن لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد.
وفيما يلي أدوِّن ما وقفت عليه - قدر استطاعتي- من الدراسات التي قامت حوله عسى أن تكون نافذة للقراء يطلون من خلالها على ثراث سيد قطب.
(1) عبقري الإسلام سيد قطب الأديب العملاق والمجدد الملهم .
سيد كشميري ، قدمه الباحث إلى المعهد المركزي للغة الإنجليزية واللغات الأجنبية بحيدر آباد بالهند - للحصول على الدكتوراه – وقدم له د. عبد الصبور شاهين.
(2) سيد قطب الأديب الناقد .
عبد الله الخباص - ماجستير كلية الآداب بالجامعة الأردنية.
(3) سيد قطب الناقد الأدبي .
أحمد البدوي - دكتوراه من جامعة الخرطوم.
(4) الشهيد سيد قطب .
بقلم طائفة من الكتاب يضم بعض المقالات والقصائد في شأن
سيد قطب ومناضلته في ميدان الحركة والدعوة.
(5) رائد الفكر الإسلامي الشهيد سيد قطب.
يوسف العظم.
(6) سيد قطب وتراثه الأدبي والفكري .
عبد الرحمن البليهي . دكتوراه بكلية الشريعة بالرياض .
(7) سيد قطب الشهيد الحي .
صلاح عبد الفتاح الخالدي.
(8) نظرية التصوير الفني عند سيد قطب .
صلاح عبد الفتاح الخالدي.
(9) ظهور داعية إسلامي : التطور الفكري عند سيد قطب .
عدنان أيوب مسلم - دكتوراه جامعة ميتشيغان الأمريكية .
(10) سيد قطب فكره وأدبه .
سميرة فياض - دكتوراه جامعة مانشستر .
(11) سيد قطب صفحات مجهولة .
محمد بركة.
(12) سيد قطب من القرية إلى المشنقة.
دراسة وثائقية. عادل حمودة.
(13) سيد قطب وأثره في الفكر السياسي .(1/24)
شريف إسماعيل يونس - ماجستير آداب عين شمس.
(14) أمريكا من الداخل كما يراها سيد قطب .
صلاح عبد الفتاح الخالدي.
(15) سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد.
صلاح عبد الفتاح الخالدي.
(16) مدخل إلى ظلال القرآن.
صلاح عبد الفتاح الخالدي.
(17) سيد قطب حياته وأدبه .
د. عبد الباقي حسين – رسالة ماجستير بدار العلوم 1980م.
(18) العلاقة المجازية في كتاب في ظلال القرآن.
صلاح محمود علي شحاتة – دكتوراه بجامعة الأزهر.
1977م.
(19) سيد قطب مع فكره السياسي والاجتماعي والديني.
مهدي فضل الله – دكتوراه جامعة السربون بفرنسا 1976م.
(20) سيد قطب خلاصة حياته. منهجه في الحركة. النقد الموجه إليه.
محمد توفيق بركات.
(21) سيد قطب أو ثورة الفكر الإسلامي.
محمد علي قطب.
(22) العالم الرباني الشهيد سيد قطب.
العشماوي أحمد سليمان.
(23) سيد قطب ومنهجه في التفسير.
إسماعيل الحاج أمين حاج مجمد – ماجستير جامعة الأزهر(1)
الفصل الثاني
منهجه في الظلال
حين نتحدث عن منهج "في ظلال القرآن" فإننا أمام تجربة جديدة ، ومنهج متفرد في النظر إلى القرآن الكريم ، وفهمه ، وإدراك أسراره ، والحِكَم التي نُزِّل من أجلها القرآن.
تجربة فريدة من نوعها لا نكاد نجد لها نظيرًا في تاريخ التفسير على الرغم من التضخم الذي حظي به تاريخ القرآن في تفسيره ، واستكناه حقائقه.
__________
(1) ذهبت إلى كلية أصول الدين بجامعة الأزهر لأطِّلع على هذه الرسالة ؛ لأنها في صميم ما أكتب ، فقال لي المسئول هناك : "إن الرسالة قد منعها الأزهر"، وكان ذلك من الأسباب التي شجعتني على نشر الكتاب ، سيما وأنه لا يوجد كتاب سهل التناول مختصر يتحدث عن قواعد الشهيد في تفسيره ، ويقدم هذه الصورة المجملة عنه.(1/25)
إنه الالتحام المباشر بالقرآن الكريم ، والرجوع إليه وحده ، والعيش في ظلاله دون أن يحول بينه وبين هدايته قضايا كلامية ، أو بحوث فقهية ، أو مجادلات فلسفية ، أو تعصبات مدرسية ، أو رموز باطنية ، أو إيحاءات صوفية ، أو تفاصيل لغوية ونحوية وبلاغية وإعجازية.
يقول أستاذنا الدكتور محمد شريف : "لقد شاء الشهيد أن يكون مرجعه الأول والأخير هو القرآن الكريم ، وتأثيره في نفسه ، وكم كان للمفسرين من مراجع وبحوث حجبت عنهم سحر القرآن ، وتأثيره في نفوسهم ، وهدايته لقلوبهم ، ولكن الشهيد لم يشأ أن يكون واحدًا من هؤلاء الذين تنطفئ ضياء الكلمة القرآنية بين ما يقدمونه للناس من بحوث واهتمامات تحجب عنهم هدى الله ، وروحانية القرآن"(1).
يقول هو عن نفسه : "كل ما حاولته ألا أُغرِق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي ، وتحجب روحي عن القرآن"(2).
ويبدو أن هذه سمة عامة في فكر الشهيد ، فالذي يستقرئ كتبه في مختلف المجالات يجدها واضحة وضوح الصبح لذى عينين ، وهو ما يدل على التحرر والتفرد .
يقول في مقدمة كتابه القيم "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" : (منهجنا في هذا البحث "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة - بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً - وأن نستحضر - بقدر الإمكان الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر، والملابسات الاعتقادية والاجتماعية السياسية، التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدى ، ثم التيه الذي ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي !.
__________
(1) اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: 574 . الطبعة الأولى . دار التراث . 1402هـ. ، وقد عقد الدكتور فيه مبحثًا عن تفسير الشهيد جدير أن يُنشر منفردًا ليعم به النفع.
(2) مقدمة الطبعة الأولى للظلال ، نقلاً عن عبقري الإسلام سيد قطب د. سيد كشميري : 316.(1/26)
ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم ، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقًا لا مقررات عقلية ولا مفردات شعورية - من رواسب الثقافات التي لم نَسْتَقِهَا من القرآن ذاته - نحاكم إليها نصوصه ، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة) ص15 .
لم يشغل الشهيد نفسه - إذن - بهذه البحوث التي تحجب عنه هداية القرآن ، وتحول بينه وبين إدراك أسرار هذا الكتاب العجيب، ومعرفة أنه منهج حياة ، ودستور للوحدة بين المسلمين.
وهو بطريقته تلك يتوافق مع الأستاذ الإمام محمد عبده حين قال: "إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس وما فهموه، وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا، وعن سنة نبيه الذي يبين لنا ما أنزل إلينا"(1).
إلا أن الإمام ومدرسته وقفوا من العقل موقفًا لا يتفق وموقف سيد قطب(2).
****آثار الالتحام المباشر بالقرآن عند سيد قطب:
أولا: الإحساس بمقاصد القرآن وإدراك غاياته.
ولقد كان لهذا الالتحام المباشر - مع صاحبنا – نتائجه الضخمة، وعوائده الكبيرة إذ يقرر الشهيد أن "الحياة في ظلال القرآن نعمة ... نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها ، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه .. والحمد لله .. لقد منّ الله على بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان ، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي".
"لقد عشت أسمع الله - تعالى - يتحدث إلىَّ بهذا القرآن - أنا العبد القليل الصغير - أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم"(3)
__________
(1) مقدمة تفسير المنار: 1/26. ط3 دار المنار بمصر 1367هـ.
(2) راجع ص 101 من هذا البحث.
(3) مقدمة "فى ظلال القرآن" الطبعة الثالثة والعشرون/. دار الشروق. 1415هـ.(1/27)
ومن هنا أدرك - بعد النظر في القرآن ودراسة الواقع - مدى الهُوَّة البعيدة ، والبَوْن الشاسع بين ما ينبغي أن تكون عليه البشرية عمومًا ، وبين ما وصلت إليه اليوم من تخبط في مستنقع آسن ، وسيْر في دائرة مغلقة مظلمة لا يستطيعون منها فكاكًا ، وهم يصطرخون فيها.
يقول الشهيد : "وعشت - في ظلال القرآن - أحس هذا التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريد الله ، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله .. ثم أنظر .. فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية ، والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تُملَى عليها ، وبين فطرتها التي فطرها الله عليها ، وأقول في نفسي : أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ يا حسرة على العباد".
"عشت أتملى – في ظلال القرآن – ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود .. لغاية الوجود كله ، وغاية الوجود الإنساني .. وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية في المستنقع الآسن ، وفى الدرك الهابط ، وفى الظلام البهيم ، وعندها ذلك المرتع الزكي ، وذلك المرتقى العالي ، وذلك النور الوضيء"(1).
وينتهي الشهيد من العيش في ظلال القرآن إلى نتيجة جازمة حاسمة هي أنه "لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا الإنسان ، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة .. إلا بالرجوع إلى الله..".
__________
(1) السابق :1/ 11.(1/28)
"إن الاحتكام إلى منهج الله ليس نافلة ولا تطوعًا ولا موضع اختيار ، إنما هو الإيمان .. أو .. فلا إيمان .. إن هذه البشرية - وهى من صنع الله - لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يَخْرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل داء : "وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين"(1)... ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه"(2).
ثانيا: إدراك حركية الدين.
ومن أعظم الثمار - إن لم تكن أعظمها - التي أنتجتها تجربة الشهيد في تفسيره هذا : إدراك أن هذا الدين إنما طابعه العمل والحركة والسعي لتمكين كلمة الله في الأرض ، ومن ثم ضرب الذكر صفحًا عن المباحث الأخرى التي لا تعتمد على الحركة والمكابدة ، والنهوض العملي بتبعات العقيدة ، والتي لا جدوى فيها، ولا طائل من ورائها إذا نظرنا إلى النتائج العملية(3).
يقول: "إن الحركة هي قوام هذا الدين ، ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ، والتجارب تجزم بأن الذين لا يُدمَجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه مهما تفرغوا لدراسته في الكتب دراسة باردة، وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ، ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق"(4).
__________
(1) الإسراء: 82.
(2) الظلال:1/ 15.
(3) ليست هذه دعوة من الشهيد لإهمال فهم الألفاظ والعبارات القرآنية ، وليست كذلك دعوة لعدم الانشغال بالبحوث الفقهية والفلسفية وغيرها ، إنما هي صيحة لإدراك حكمة القرآن ، ومنهجه العملي ، وطريقته الحركية. وأعظم ما يدحض ذلك هو ثقافته الموسوعية بالمفردات والألفاظ الفلسفية وغير ذلك.
(4) في ظلال القرآن 3/1734 - 1736، وراجع: 4/203 - 2039.(1/29)
ولعل ما صادفه الشهيد من محن وابتلاءات - لا سيما بعد توجهه الإسلامي - قد نضح بعوائده على تفسيره بما جعل منه كتابًا "كأنه تنزيل من التنزيل ، أو قبس من نور الذكر الحكيم"(1)
ومن ثم رسخت معتقداته الحركية ، وازدادت خبراته العملية ، فقرأ القرآن ، وسمعه كأنه يتنزل أول مرة ، وكما يقول: "ولن تنكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب ، وهم قاعدون"(2).
ويقول : " وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرآن شيئًا ، فهذا القرآن لا يدرك أسراره قاعد ، ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته ووجهته ..... وإني لأهيب بقراء هذه الظلال ألا تكون هي هدفهم من الكتاب ، إنما يقرءونها ليَدْنوا من القرآن ذاته ، ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته ، ويطرحوا عنهم هذه الظلال . وهم لن يتناولوه في حقيقته إلا إذا وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض المعركة مع الجاهلية باسمه وتحت رايته"(3).
ثالثا: معايشة القرآن في عصر التنزيل.
__________
(1) هذه العبارة استعرتها من الزعيم سعد زغلول، وقد قالها يصف بها وحي القلم للرافعي.
(2) في ظلال القرآن: 3/1453.
(3) الظلال : 4/2038 ، 2039.(1/30)
ومن الثمار العظيمة كذلك التي أنتجتها تجربة الشهيد أنه كان يجد في نفسه تأثيرًا للقرآن كما لو كان يعيش أيام التنزيل مع النبي وصحابته ، ففي تفسيره لقوله تعالى : " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم "(1)بعدما سجل خواطره الفياضة حولها - وهي من أنفس ما في الظلال – قال : " لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة . واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي ، وضيق بضائقة ، وعسر من مشقة ، واجهتني في ذات اللحظة ، ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها ، وأن تسكب حقيقتها في روحي ، كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني ، حقيقة أذوقها لا معنى أدركه ، فكانت رحمة بذاتها، تقدم نفسها لي تفسيرًا واقعيًّا لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا ، وقد قرأتها من قبل كثيرًا ، ومررت بها من قبل كثيرًا، ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها ، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول : ها أنا ذا .. نموذجًا من رحمة الله حين يفتحها، فانظر كيف تكون!
__________
(1) فاطر : 2.(1/31)
إنه لم يتغير شيء مما حولي ، ولكن لقد تغير كل شيء في حسي ! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود ، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية ، نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها ، ولكنه قلما يقدر على تصويرها ، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة ، وقد عشتُها وتذوقتها وعرفتها . وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي . وها أنا ذا أجد الفرج والفرح والرِّي والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته. آية من القرآن تفتح كوة من نور ، وتفجر ينبوعًا من الرحمة، وتشق طريقًا ممهودًا إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين وفي نبضة قلب وفي خفقة جنان . اللهم حمدًا لك . اللهم منزل هذا القرآن . هدًى ورحمة للمؤمنين ..."(1).
وفي آخر سورة النجم ، وفي حادث السجود ، وبعد رفضه لقصة "الغرانيق" ، وترجيحه أن سجود المشركين كان بتأثير سلطان القرآن - يجد في إحساسه مُستأنَسًا لصحة حادث سجود المشركين عند سماعها ، فبينما كان الشهيد مع رُفقة من أصحابه إذ طرق أسماعهم صوت قارئ للقرآن من قريب ، يتلو سورة النجم فأنصتوا لهذا الصوت ، ومضى القارئ وسيد قطب يعيش معه حيث الرسول وما رآه من آيات كبرى وهو لا يطيق تصور ذلك الملأ الأعلي ، والكائن البشري وهو في بطن أمه ، وعلم الله يحيط به ، ثم يرتجف الشهيد عند الحساب والجزاء وعند مصارع الأمم السابقة : " ثم جاءت الصيحة الأخيرة ، واهتز كياني كله أمام التبكيت الرعيب ، " أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون؟".
__________
(1) الظلال : 5/2924.(1/32)
فلما سمعت: " فاسجدوا لله واعبدوا " .. كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقًّا إلى أوصالي ، واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي ، لم أملك مقاومته ، فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ، ولا أن أكفكف دموعًا هاتنة ، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة .
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح ، وأن تعليله قريب ، إنه كامن في هذا السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ، ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها . ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة .. وذلك سر القرآن .. فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ، وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير .. فيكون منها ما يكون .."(1).
والحق أنه لم يرْتقِ قطب إلى هذا المرتقى العالي مع القرآن، والتعبير عن أهدافه وغاياته ، وتسجيل مقاصده وهداياته باقتدار وبراعة لا نعرف لها مثيلاً – إلا لأنه تحرك، ونهج نهج القرآن الحركي العملي، وتمثَّل توجيهاته الروحية والفكرية واقعًا حيًّا ملموسًا ، وعاش مع القرآن كما لو كان يشاهد التنزيل ، فجاءت ألفاظه نابضة بأنفاسه، ممتزجة بدمائه.
** البعد الثاني لمنهجه : الهدائية والأدبية.
__________
(1) الظلال : 3420ـ3421.(1/33)
ولكي نتصور منهج سيد قطب في التفسير تصورًا كاملاً نضيف إلى هذا البعد - بعد الالتحام بالقرآن ، وإدراك حركيته ، أو كما يعبر عنها أستاذنا الدكتور شريف بـ : "الهدائية"(1)– بعدًا آخر هو البعد الأدبي ، والذي بيَّن أسسه ، ووضح قواعده في كتابه الرائد "التصوير الفني في القرآن". حيث يرى في هذا الكتاب أن التصوير هو الأداة المفضلة والقاعدة الأساسية، والخصيصة الكبرى للتعبير في القرآن بل ويكوِّن مذهبًا مقرَّرًا، وخطة موحدة في أن تلك هي الطريقة التي اختارها القرآن للتعبير عن جميع أغراضه فيما عدا غرض التشريع(2).
__________
(1) اتجاهات التجديد: 569.
(2) التصوير الفني في القرآن: راجع مثلاً 9 – 10، 15 – 23 ،187 – 207 ط3 دار المعارف . بدون تاريخ.(1/34)
قال الشهيد : "التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ، فهو يعبر بالصورة المُحَسة المتخيَّلة عن المعنى الذهني ، والحالة النفسية ، وعن الحادث المحسوس ، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني ، والطبيعة البشرية ، ثم يرتقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة ، أو الحركة المتجددة ، فإذا المعنى الذهني هيئة ، أو حركة ، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة ، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها الحوار ، فقد استوت لها كل عناصر التخييل ، فما يكاد يبدأ العرض حتى يُحيل المستمعين نظَّارة ، وحتى ينقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو سيقع ، حيث تتوالى المناظر ، وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أنه كلام يُتلى ، ومثل يضرب ، ويتخيل أنه منظر يُعرض ، وحادث يقع ، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو ، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من المواقف المتساوقة مع الحوادث ، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة ، فتنم عن الأحاسيس المضمرة ، إنها الحياة هنا ، وليست حكاية الحياة"(1)
وينوه الشهيد بهذه النظرية - نظرية التصوير - ويدعو إلى التوسع في معنى التصوير : "فهو تصوير باللون ، وتصوير بالحركة ، وتصوير بالتخييل ، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل ، وكثيرًا ما يشترك الوصف والحوار ، وجرس الكلمات ، ونغم العبارات ، وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن ، والحس والخيال ، والفكر والوجدان"(2).
وقد أورد الشهيد اثنين وأربعين مثالاً - وأمثلة القرآن أكثر من ذلك - تأييدًا لهذه النظرية، وتدليلاً على ما اكتشفه من أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن(3).
__________
(1) التصوير الفني في القرآن: 34 - 35.
(2) السابق : الموضع نفسه.
(3) السابق : الموضع نفسه ، وما بعده.(1/35)
وقد طبق هذه الفكرة في كتابيه "مشاهد القيامة في القرآن" ، و"فى ظلال القرآن".
والحق أن الذي يقرأ للمنظِّرين المبدعين ، المؤصلين المطبقين يجد فجوة واضحة بين النظرية والتطبيق تتفاوت سعتها وضيقها من كاتب لآخر ، لكننا هنا أمام أمر آخر ، فالذي يتصفح الكتابين - في أي موضع شاء - يجد التطبيق والتنظير منطبقين تمام الانطباق ، وهذا يشير إلى ثقافة واسعة ، وخيال واقعي ، وعبقرية فذة.
فمثلاً في "فى ظلال القرآن" يطالعنا الشهيد منذ السطور الأولى بتطبيق عملي لنظريته "التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الحظ واللون، إذ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات ، ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج بالحياة"(1).
وذلك في افتتاحية سورة البقرة عند رسم القرآن ثلاث صور لثلاثة أنماط من النفوس ، نكتفي بمشهد من الصورة الثالثة ، وهى صورة النفس المعقدة الملتوية المضطربة الحائرة. صورة المنافقين: " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق .." الآيتان(2).
يقول - رحمه الله -: "إنه مشهد عجيب حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء .. صيب من السماء هاطل غزير فيه ظلمات ورعد وبرق ، كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ، أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون ، وهم مفزَّعون يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.
__________
(1) الظلال: 1/37.
(2) البقرة: 29 - 30.(1/36)
إن الحركة التي تغمر المشهد كله من الصيب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق إلى الحائرين المفزَّعين فيه إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يخيم الظلام ، إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيجابي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون ، بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين ، بين ما يقولونه لحظة ، ثم ينكثون عنه فجأة ، بين ما يطلبونه من هدى ونور ، وما يفيئون إليه من ضلال وظلام ، فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ، ويجسم صورة شعورية ، وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس"(1).
ويرى الشهيد أن للتناسق في القرآن صورًا متعددة(2)فيتناسق التعبير مع الحالة التي يراد تصويرها، فيساعد على إكمال الصورة الحسية أو المعنوية ، يقول في تفسير قوله - تعالى-: " إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"(3): "ومن هنا يجيء ذكر الدواب في موضعه المناسب، ولفظ الدواب يشمل الناس فيما يشمل ، فهم يدبون على الأرض ، ولكن استعماله يكثر في الدواب من الأنعام ، فيُلقى ظله بمجرد إطلاقه ، ويخلع على "الصم البكم الذين لا يعقلون" صورة البهيمة في الحس والخيال(4).
ويتناسق التعبير ممثَّلاً في جرس الكلمات ، ونغم العبارات مع الحالة التي تعبر عنها.
يقول في تفسير قوله : فإذا جاءت الصاخة..(5): "والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ ، يكاد يخرق صماخ الأذن ، وهو يشق الهواء شقًّا. حتى يصل إلى الأذن صاخًّا مُلحًّا"(6).
__________
(1) الظلال: 1/46.
(2) التصوير الفني في القرآن: 74 ، وما بعدها.
(3) الأنفال: 22.
(4) الظلال: 3/1493.
(5) عبس: 33.
(6) الظلال: 6/3834.(1/37)
ويتناسق تنوع نظام الفواصل والقوافي لتأدية الهدف المقصود ، يقول في حديثه عن سورة المدثر: "وهذه السورة قصيرة الآيات ، سريعة الجريان ، منوَّعة الفواصل والقوافي ، يتَّئد إيقاعها أحيانًا ، ويجرى لاهثًا أحيانًا ... وهذا التنوع في الإيقاع والقافية بتنوع المشاهد والظلال - يجعل للسورة مذاقًا خاصًّا، ولا سيما عند رد بعض القوافي ، ورجعها بعد انتهائها كقافية الراء الساكنة : المدثر. أنذر. فكبر ... وعودتها بعد فترة : قدر. بسر. استكبر. سقر. .. وكذلك الانتقال من قافية إلى قافية في الفقرة الواحدة مفاجأة ، ولكن لهدف خاص. عند قوله : فما لهم عن التذكرة معرضين . كأنهم حمر مستنفرة . فرت من قسورة(1)... ففي الآية الأولى كان يسأل ويستنكر ، وفى الثانية والثالثة كان يصور ويسخر!"(2).
إلى غير ذلك من أنواع التناسق التي أوردها الشهيد بكثرة في كتابه "التصوير الفني".
ولقد ذهب أحد الباحثين إلى أن سيد قطب لم يُسبق إلى هذه النظرية فيقرر ذلك قائلاً: "ونعتقد أن سيد قطب أول مفسر في المكتبة العربية نجح في الكشف عن الارتباط المعنوي ، والتناسق التعبيري بين ألفاظ القرآن وآياته وأجزائه بصورة شاملة ... وأن هذه الخاصية ليست في معاني القرآن فحسب بل هي موجودة في حبكة ألفاظه ، وأصواته ، وموسيقى عباراته ، ورنين لهجته"(3)وهذا حق ، فقد أشاد بها كثير من الأدباء والعلماء(4)، وتلك النظرية هي لب نظرية الشهيد في فهمه للقرآن وتفسيره.
__________
(1) المدثر: 49 - 51.
(2) الظلال: 6/3753 - 3754.
(3) سيد كشميري في بحثه: عبقري الإسلام سيد قطب: 356.
(4) منهم د. صبحي الصالح، وصلاح الخالدي، وعلي أحمد باكثير، ونجيب محفوظ.(1/38)
وإن المرء ليعجب كيف لم تُكتشف هذه النظرية القرآنية إلا مؤخرًا في هذا العصر ، على الرغم من وضوحها بشدة في كل سورة وآية من سور القرآن وآياته ، وفي كل لفظة من ألفاظه ، بل في كل حرف من حروفه؟، ولكنها حكمة الله التي لا تكشف شيئًا من العلم إلا بمقدار ، ولا تقضي شيئًا إلا بأجل مسمى ، وتهيئ من تشاء لما تشاء ، ثم هي آية أخرى في أن هذا القرآن لا يزال بكرًا ، وأنه لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الرد.
وللشهيد قطب - بعد ذلك - طريقة في عرض السورة تشي بتمكنه المكين من القرآن ، وتصوره الشامل لكل سورة من سوره : جوهرها وآفاقها.
فهو يقدم كل سورة بمقدمة يكشف فيها عن مقاصد السورة الكلية ، ويميط اللثام عن هدفها الرئيس فيما يسمَّى بالوحدة العضوية(1)، ويربط بين أجزائها وموضوعاتها ربط الخبير بالقرآن ، وطريقة القرآن.
ويقول مقرِّرًا هذه القاعدة التي اتبعها في تفسيره : "إن لكل سورة من سوره شخصية مميزة ! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ، ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص ... وهذا طابع عام في سور القرآن جميعًا ، ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور"(2).
__________
(1) نقول هنا الوحدة العضوية ولا نقول الموضوعية خلافًا لأمين الخولي ومدرسته؛ لأن الوحدة الموضوعية لا تتحقق ولو في قصار السور ، إنما نكتفي بأن يكون للسورة توجه عام وإن تعددت موضوعاتها فهي تصب في هدف واحد ، وهذا ما نجح فيه سيد قطب، ومحمد عبد الله دراز، ومحمد الغزالي.
(2) الظلال: 1/28، وراجع: 3/1243.(1/39)
وقد يتسع إطار هذه الوحدة ، أو الموضوع الرئيس عند الشهيد ليشمل مجموعة من السور المتتابعة يضمها جزء واحد(1)، نجد ذلك جليًا في الجزء الأخير من القرآن ، يقول الشهيد: "هذا الجزء كله ذو طابع عام .... إنها طرقات متوالية على الحس ، طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بنوّم غارقين في النوم ! نومهم ثقيل ... تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد: اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا... وهكذا مرة أخرى ، وثالثة ، ورابعة ، وخامسة ، وعاشرة ... ومع الطرقات والصيحات يدٌ قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزًّا عنيفًا ، وهم كأنهم يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة ، ثم يعودون لما كانوا فيه ! فتعود اليد القوية تهزهم هزًا عنيفًا ، ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد، وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب....."(2).
ويتَّبع الشهيد قاعدة أخرى في تناوله للقرآن ، وهى تقسيم السورة إلى مقاطع أو - على حد تعبيره – أشواط ، لكل شوط هدف رئيسي ، ولا تتخلف القاعدة الأولى هنا(3)- أعنى التقديم للسورة أو الجزء - فهو يقدم كل شوط بمقدمة يبين فيها هدفه الخاص ، وموضوعه الرئيس ، لكن كل هذه الأهداف التي تضمنتها الأشواط تصب جميعًا في الهدف العام ، والمقصد الأساسي الذي تعالجه السورة.
وبعد أن طوفنا على منهج سيد قطب في تفسيره ، وبينَّا طريقة عرضه للسور - نقرر أن الشهيد يقوم نموذجًا فريدًا ، ومثالاً وحيدًا بين مفسري القرآن الكريم - على كثرة التفاسير وتنوعها - لا لشيء إلا أنه علق القرآن بالواقع العملي ، واستنزل نصوصه على الحياة ، واستنهض الواقع والحياة معًا لهداية القرآن؛ لأن القرآن إنما نزله الله ؛ لكي يستهديه المسلمون في كل زمان ومكان ، ويُحكِّموه فيما شجر بينهم.
__________
(1) اتجاهات التجديد: 585.
(2) الظلال: 6/3800.
(3) اتجاهات التجديد: 587.(1/40)
إنه المنهج الذي يقرب بين الإنسان وبين كلام ربه ، فيشعر أنه يناجيه هو ، ويناديه هو ، ويأمره هو ، وينهاه هو ؛ ليأخذ من خلاله معتقداته وأخلاقه ، وشعائره وشرائعه ، وأفكاره وتصوراته، وعاداته وتقاليده ، وقيمه وموازينه ، وكل ما دق وجل من أمور دينه ودنياه مباشرة دون حائل يحول بينه وبين ذلك.
إنه المنهج الذي يوضح الحقائق الكبرى حول الله والكون والحياة ، ويبين الحقائق الروحية ، والمناهج العملية ، ويثير النفوس للحركة ، فتأخذ منه ما تحتاج ، وتنهل منه ما تريد ، فتنطلق متحركة بمنهج الله قائمة بتبعات العقيدة مستهدفة خدمة الإسلام ، وإعلاء رايته ، واستعادة سلطانه.
لقد تخفف الشهيد من قيود كثيرة تعوقه عن الالتحام المباشر بالقرآن ليستخرج كنوزه ، ويسبر أغواره ، ويقف على حِكَمه وأسراره؛ ولهذا لم يسمِّ الكتاب تفسيرًا ، إنما أسماه "في ظلال القرآن" (إلى جانب ما تُشعِر به هذه التسمية من أدب جم، وتواضع حميد خليق بأن يتحلى بهما من عاش حياته في رحاب القرآن ثم بذلها فداء عقيدة القرآن)(1).
الفصل الثالث
موقفه من بعض قضايا التفسير
أولاً - موقفه من المأثور
إن للمأثور والمنقول من أقوال السلف والسابقين فائدة كبرى لا غنى عنها ، فلا يسع مفسرًا لكتاب الله في عصرنا مثلاً أن يُهمل أقوال السابقين من السلف ومفسري القرآن ، ولا يسع شارحًا لأحاديث البخاري ومسلم كذلك إهمال أقوال السابقين في شرح تلك الأحاديث ، إن الذي يفعل ذلك ، ويسير في الطريق وحده كأن لم يسبقه أحد – لا شك أنه يضل ويتيه ، ويحجر على نفسه واسعًا ، ويغلق على نفسه بابًا من الفهم لا مسوغ لإغلاقه ، بل ويحرم نفسه من كنوز عظيمة في الاجتهادات والآراء.
__________
(1) راجع اتجاهات التجديد: 570.(1/41)
ونعني بالمأثور هنا ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة - هكذا بالترتيب - بيانًا وتفسيرًا لمراد الله تعالى من كتابه، وقد جاء في مقدمة تفسير ابن كثير أن أحسن طرق التفسير هي : (أن يُفسَّر القرآن بالقرآن ، فما أُجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر ، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله تعالى - كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن ........ وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لِمَا شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح ، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم)(1).
أما أقوال التابعين فحولها خلاف : فمنهم من اعتبرها من التفسير بالمأثور ؛ لأنهم نقلوه عن الصحابة غالبًا ، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي(2)
ولقد أدرك مفسرنا الشهيد هذه الحقيقة ، فنراه يفسر القرآن بالقرآن أحيانًا قليلة ، ويفسر القرآن بالسنة ، لكنه يورد ذلك كله في حدود المنهج الذي ارتضاه في التفسير ، فلا يقف أمام الروايات طويلاً إنما يورد ما صح منها مؤيدًا ذلك بالأدلة بصورة لا تخرجه عن الحياة في ظلال القرآن ، واستهدائه للحياة ، والعيش معه أيام نزوله ، والتركيز على المبادئ الكبيرة ، وإبراز الحِكَم والمقاصد التي يرمي إليها القرآن.
__________
(1) ج: 1 ص: 4 دار الفكر . بيروت . 1401هـ.
(2) مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ عبد العظيم الزرقاني : 2/ 12، 13. دار إحياء الكتب العربية.(1/42)
فعندما تعرض لقوله تعالى : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون"(1)قال : "الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله ، لا يخلطون بهذا الإيمان شركًا في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه . هؤلاء لهم الأمن ، وهؤلاء هم المهتدون" ، ولم يذكر الروايات التي وردت في السنة توضح أن المقصود بالظلم هو الشرك إلا بعد الآية التي تليها : "وتلك حجتنا....". ولم يوردها إلا لهدف معين أيضًا ، قال : "وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا القرآن يتنزل عليهم غضًّا ، وتشربه نفوسهم ، وتعيش به وله ، وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ، وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق في ربع قرن من الزمان..." ثم يورد الشهيد آثارًا ثلاثة رواها ابن جرير كلها تُظهر درجة خوف الصحابة وفزعهم من أن يكون معنى الظلم هو المتبادر إلى الذهن ، لكن النبي وضح لهم ذلك وقال : "إنما هو قول لقمان لابنه : لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ، فيكون الكلام : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
ثم يقول الشهيد بعد هذه الآثار : "فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم . كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم .... وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب. وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير ، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف . حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير"(2).
هكذا يسوق الشهيد الروايات والآثار هذا السياق ، ويوردها هذا الإيراد في حدود الظلال والنفوذ إلى روح القرآن ، والحياة معه أيام نزوله.
__________
(1) الأنعام : 82.
(2) 2/1142-1143.(1/43)
وعندما تعرض لقوله تعالى : " ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليُضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هُزُوًا....."(1)لم يورد أثر ابن عباس المشهور في تفسيره للهو الحديث بالغناء . إنما وضع القاعدة العامة حين قال : " ولهو الحديث كل كلام يُلهي القلب ويأكل الوقت ، ولا يثمر خيرًا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه الأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح" ثم أورد أن النضر بن الحارث كان يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ؛ ليجذب الناس إليها ويصرفهم عن القرآن الكريم.
ثم يقول : " ولكن النص أهم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه ، وهو يصور فريقًا من الناس واضح السمات ، قائمًا في كل حين . وقد كان قائمًا في عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات"(2)
بهذه الكيفية ينفذ الشهيد إلى لب ما يريده القرآن ، ويضع القواعد والمبادئ والكليات ، متجاوزًا الشكلية والحدودية على الرغم من أن الأثر الذي أورده أكثر وجاهة وتناسبًا مع الآية من الأثر الذي يُروى عن ابن عباس رضي الله عنه.
وإذا أردنا بالمأثور هنا معناه الواسع من إيرادٍ لأسباب النزول، وأقوال المفسرين الأوائل ، وغير ذلك ، فنجد الشهيد في بداية كل سورة وشوط يتعرض للمنقول من أقوال الرواة والمفسرين في أسباب النزول ، وتاريخ النزول ، ويجمع بين أقوال الرواة من كتب التاريخ والحديث والتفسير لا ليجمع حشودًا منها الغث والسمين ، والصواب والخطأ ، إنما يجمعها ، وينقحها ، ويرجح بينها في ضوء ظروف نزول السورة ، وتوجهها العام.
ولهذا الغرض لا يغادر شيئًا من الآثار المهمة من المنقول والمأثور في التفسير للأسلاف إلا أحصاه ، وبهذا نحس أن "الظلال" من التفاسير القليلة التي تصون القارئ من الهُيام والتشتت بين أحشاد الخلافات.
__________
(1) لقمان : 6.
(2) 5/2784.(1/44)
من ذلك ما أورده بين يدي سورة "المائدة" وهو تحديد الفترة التاريخية - من حياة الجماعة المسلمة في المدينة - التي نزلت فيها هذه السورة ، فيذكر أن الروايات التي تقول بأنها نزلت بعد "الفتح" كثيرة لكن المراجعة الموضوعية وأحداث السيرة تنفى ذلك، فلقد كان لليهود نفوذ وسيطرة ، وقد تضاءل هذا النفوذ بعد وقعة بني قريظة ، وقد تطهرت الأرض من القبائل اليهودية الثلاثة ، فقول الله لنبيه "ولا تزال تطلع على خائنة" منهم لا بد سابق على هذه الفترة ، وكذلك أمره بالحكم بينهم أو الإعراض عنهم.
وينتهي الشهيد من هذه الملاحظات قائلاً: "يترجح لدينا أن مطالع السورة وبعض مقاطعها هي التي نزلت بعد سورة الفتح ، بينما نزلت مقاطع منها قبل ذلك ، كما أن الآية التي فيها قول الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" لابد أن تكون نزلت بعد ذلك(1).
ثانيًا: موقفه من المكي والمدني
لمعرفة المكي والمدني في القرآن أهمية ضرورية للمفسر والفقيه على السواء ، فالقرآن نزل منجمًا كما هو معروف، منه ما نزل في مكة، وهو القرآن الذي يعالج قضايا العقيدة والإيمان والقيم والموازين الصحيحة مما هو ضروري للجماعة المسلمة الوليدة ، ومنه ما نزل بالمدينة ، وهو القرآن الذي يشرع وينظم وينشئ المجتمع.
وللعلماء في معنى المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة :
الأول : ضابطه المكان ، وهو أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة ولو قبل الهجرة ، ويدخل في مكة ضواحيها كالمُنزَّل على النبي بمنىً وعرفات والحديبية ، كما يدخل في المدينة ضواحيها كالمُنزَّل ببدر وأحد.
__________
(1) راجع الظلال: 2/831 -832 ، وراجع أيضًا 1/457 – 467.(1/45)
والثاني : ضابطه الخطاب ، فالمكي ما وقع خطابًا لأهل مكة ، والمدني ما وقع خطابًا لأهل المدينة ، وعليه يُحمل قول من قال : إن ما صدر في القرآن بلفظ " يا أيها الناس" ، و "يا بني آدم" مكيٌّ ، وما صدر بلفظ "يا أيها الذين آمنوا" فهو مدني ؛ لأن الكفر كان غالبًا على أهل مكة فخوطبوا بـ "يا أيها الناس" ، وإن كان غيرهم داخلاً فيهم ، ولأن الإيمان كان غالبًا على أهل المدينة فخوطبوا بـ "يا أيها الذين آمنوا" ، وإن كان غيرهم داخلاً فيهم أيضًا.
أما الثالث : وهو المشهور فهو أن المكي من القرآن ما كان نزوله قبل الهجرة إلى المدينة وإن كان نزوله بغير مكة ، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان نزوله بغير المدينة . وضابط هذا التعريف - كما هو واضح – الزمان ، وهو صحيح سليم ؛ لأنه حاصر ومضطرد ولا يختلف بخلاف سابقيه ؛ ولذلك اعتمده العلماء واشتهر بينهم(1).
ومجمل السور التي نزلت بمكة خمس وثمانون سورة ، وجميع ما نزل بالمدينة تسع وعشرون سورة على اختلاف الروايات(2).
** فوائد العلم بالمكي والمدني:
من أكبر فوائد العلم بالمكي والمدني معرفة الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان في موضوع واحد ، وكان بينهما تناقض ومخالفة ، ثم عُرف أن بعضها مكي والآخر مدني ، فنحكم بنسخ المدني المتأخر للمكي المتقدم.
ومن فوائد معرفته الوقوف على تاريخ التشريع وتدرج الأحكام ، فتتبين بذلك رحمة الله وحكمته وعلمه ، كما يتبين سمو الشريعة في تربيتها للشعوب والأفراد.
__________
(1) راجع البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/187. دار الجيل. 1408هـ بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/9. دار الندوة الجديدة، وبهامشه إعجاز القرآن للباقلاني، ومناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني: 1/193ـ195. وانظر تعقيبات الزرقاني وردوده على التعريفين الأوَّلين في نفس الموضع.
(2) البرهان: 1/194.(1/46)
ومن فوائد ذلك أيضًا الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالمًا من التغيير والتحريف، وآية ذلك اهتمام المسلمين به حتى عرفوا ما نزل منه بمكة وما نزل بالمدينة ، وما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها ، ما نزل بالسفر وما نزل بالحضر ، ما نزل بالليل وما نزل بالنهار، ما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف ، ما نزل بالأرض وما نزل بالسماء(1).
** ضوابط لمعرفة المكي والمدني:
هناك علامات وضوابط يُعرف من خلالها ما إذا كان القرآن مكيًّا أو مدنيًّا ، وهذه العلامات منها ما يتعلق بالألفاظ والشكليات ، ومنها ما يتعلق بالمعاني الكبيرة والأهداف العامة.
فأما الألفاظ والشكليات : فالمكي ما يَرد فيه لفظ "كلا" ، وكل سورة فيها سجدة ، وقصص الأنبياء والأمم السابقة سوى البقرة ، وقصة آدم وإبليس سوى البقرة ، والمدني ما يَرد فيه الحديث عن الحدود والفرائض ، والإذن بالجهاد وبيان أحكامه ، وذكر المنافقين؛ لأن ظهورهم وحديث القرآن عنهم كان في المدينة ؛ إذ لم يكن هناك مبرر لظهورهم في مكة وقد كانت الجماعة المسلمة وليدة ضعيفة لا يستدعي حالها نفاقًا من أحد.
وأما ما يتعلق بالمعاني وموضوعات الحديث والأهداف : فقد كتب فيه الشيخ الزرقاني كلامًا نفيسًا يحسن أن ننقله هنا ببعض التصرف ، ذكر(2)أن القرآن المكي " حمل حملة شعواء على الشرك والوثنية ، وعلى الشبهات التي تذرع بها أهل مكة للإصرار على الشرك والوثنية ، ودخل عليهم من كل باب ، وأتاهم بكل دليل، وحاكمهم إلى الحس ، وضرب لهم أبلغ الأمثال...
وفتح عيونهم على ما في أنفسهم من شواهد الحق ، وعلى ما في الكون من أعلام الرشد، ونوَّع لهم في الأدلة ، وتفنن في الأساليب ، وقاضاهم إلى الأوليات والمشاهدات ، ثم قادهم إلى الاعتراف بتوحيد الله في ألوهيته وربوبيته ، والإيمان بالبعث ومسئوليته ، والجزاء العادل ودقته...
__________
(1) راجع مناهل العرفان: 1/195.
(2) مناهل العرفان : 1/202ـ204.(1/47)
وتحدث عن عاداتهم القبيحة ، وما زال بهم حتى طهرهم منها ، وشرح لهم أصول الأخلاق ، وحقوق الاجتماع شرحًا عجيبًا كرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وفوضى الجهل وجفاء الطبع ، وقذارة القلب وخشونة اللفظ ، وحبب إليهم الإيمان والطاعة والعلم والمحبة والرحمة والإخلاص ، وقص عليهم من أنباء الرسل وقصص الأمم السابقة ما فيه أنفع المواعظ وأنفع العبر ، وسلك مع أهل مكة سبيل الإيجاز في خطابه ، حتى جاءت السور المكية قصيرة الآيات صغيرة السور ؛ لأنهم كانوا أهل فصاحة وبيان.
أما المدني فمن خواصه التحدث عن دقائق التشريع وتفاصيل الأحكام ، ودعوة أهل الكتاب من يهود ونصارى إلى الإسلام ، ومناقشتهم ومحاكمتهم إلى العقل والتاريخ ، وسلك معهم سلوك الإطناب والتطويل ؛ وذلك لأن أهل المدينة لم يكونوا يُضاهئون أهل مكة في الفصاحة والذكاء والبيان. ا.هـ
والشهيد سيد قطب يقرر هذه العلامات وتلك الضوابط ، فعند تناوله لسورة الأنعام يقول:
"هذه السورة مكية ، من القرآن المكي ، القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عامًا كاملة يحدثه فيها عن قضية واحدة لا تتغير ، ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر . ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى.
لقد كان يعالج القضية الأولى ، والقضية الكبرى ، والقضية الأساسية ، في هذا الدين الجديد، "قضية العقيدة" ممثلة في قاعدتها الرئيسية.. الألوهية والعبودية ، وما بينهما من علاقة".(1/48)
قال الشهيد : " لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله..كان يقول له : من هو؟ ومن أين جاء وكيف جاء ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب في نهاية المطاف؟ من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟.. وكان يقول له : ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه غيبًا يستشرفه ولا يراه؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار؟ من ذا يدبره ومن ذا يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟... وكان يقول له كذلك : كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ، ومع الكون أيضًا ، وكيف يتعامل العباد مع خالق العباد".
ثم يقول : " ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليه من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من بيان، وأنها استقرت استقرارًا مكينًا ثابتًا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ، وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين"(1).
وفي حديثه عن سورة الحج قال : "هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها . وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال، وآيات العقاب بالمثل ، فهي مدنية قطعًا ، فالمسلمون لم يُؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة ، وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة"(2).
وعند معالجته للمكي والمدني لا يورد قول المفسرين قبله – بمكية السورة أو مدنيتها – فحسب ، إنما يورد الآراء ، وينقحها ، ويرجح ما يراه صوابًا في ضوء الملابسات التي تزامنت ونزول السورة ، وفى ضوء سياقها العام ، ومقصدها الأساسي الذي تعالجه.
__________
(1) الظلال: 2/1004 ـ 1005.
(2) الظلال : 4/2405ـ2406.(1/49)
وقد جاء في حديثه عن سورة العنكبوت قوله : (سورة العنكبوت مكية وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى مدنية، وذلك لذكر "الجهاد" فيها ، وذكر "المنافقين".
ولكننا نرجح أن السورة كلها مكية ، وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبى وقاص ... وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال ، وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية ؛ لذلك نرجح مكية الآيات كلها . أما تفسير ذكر الجهاد فيسير ؛ لأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة - أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن - وهذا واضح في السياق . وكذلك ذكر النفاق ، فقد جاء بصدد تصوير حاله نموذج من الناس"(1).
بل إننا نرى الشهيد يتعمق أكثر من هذا فيحدد الحقبة التي نزلت فيها السورة ، ويخالف ما عليه ترتيب المصاحف المختلفة ، وذلك في سورة "القلم" فجميع المصاحف على أنها نزلت بعد "العلق" فهي الثانية ، وينفى الشهيد ذلك مرجحًا أنها نزلت بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة مؤيدًا ذلك بالأدلة(2).
ثالثًا: موقفه من الإسرائيليات
قضية الإسرائيليات في تراثنا الفكري التفسيري من القضايا الشائكة الصعبة ، فقد وقعت في بعض الكتب وغصَّت بها بعض التفسيرات ، فجمعت الغث والسمين والمقبول منها والمردود.
والحق أنها أفسدت على المسلمين فكرهم ، وأبعدتهم عن مهامهم الأساسية بانشغالهم فيما لا يغنى ولا يفيد ، ولا أساس له من الصحة.
ويعلل العلامة ابن خلدون نقْل علماء المسلمين هذه الأخبار وقبولهم لها بسببين : يمكن أن نطلق على الأول : "سبب اجتماعي"، والثاني : "سبب ديني".
__________
(1) الظلال: 5/2718، وراجع : 4/1839 - 1840، 1949 - 1950.
(2) راجع الظلال: 6/ 3850 - 3651.(1/50)
يبين معللاً سبب النقل: " أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية ، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ،
ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من
النصارى"(1).
قال ابن خلدون : " وتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملؤوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كما قلنا من أهل التوراة الذين يسكنون البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك . إلا أنهم بعُدَ صيتهم ، وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة ، فتُلقِّيَت بالقبول من يومئذ"(2).
ومن التفاسير التي نجد فيها هذه الإسرائيليات : تفسير الخازن، وتفسير القرطبي ، وتفسير ابن كثير ، إلا أن الأخير يتعرض لها بالنقد والتحليل.
أما مفسرنا الشهيد فله موقف حاسم صارم تجاه هذه الإسرائيليات وتلك الأخبار ، وقد استمد هذا الحسم من القرآن ذاته، وهو أن ظاهر النص يكفى ، ويجب أن نقف عند حدود ما تعطيه الكلمات ، فلو كان لذكر ذلك فائدة لأفصح الله عنها ، وفصلها لنا تفصيلاً.
يقول عند حديثه عن قصة آدم وإبليس والشجرة المحرمة والجنة: "أين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي كان فيها آدم وزوجته حينًا من الزمان؟ ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟..كيف قال الله لهم وكيف أجابوه؟...
__________
(1) المقدمة : 3/1031، دار نهضة مصر، الطبعة الثالثة، بتحقيق: علي عبد الواحد وافي.
(2) السابق : 3/1032.(1/51)
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ، وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته ، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به ، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض ، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب . وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرفه بأسرارها ، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب فيما لا جدوى له في معرفته...
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه ، وحسبنا ما يقص لنا عنه ، بالقدر الذي يَصْلُح لنا في حياتنا، ويُصْلِح سرائرنا ومعاشنا ، ولْنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية ، ومن تصور للوجود وارتباطاته ، ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه... فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى"(1).
ويقول في حديثه عن الرجل الذي "مر على قرية وهى خاوية على عروشها ..."(2): "من هو الذي مر على قرية؟ ما هذه القرية التي مر عليها وهي خاوية على عروشها؟ إن القرآن لم يفصح عنها، ولو كانت حكمة النص لا تتحقق إلا بهذا الإفصاح ما أهمله في القرآن ، فلنقف نحن - على طريقتنا في هذه الظلال - عند تلك الظلال"(3).
__________
(1) الظلال : 1/59، وراجع: 3/1270. وقارن هذا بما ورد في الطبري: 1/229 وما بعدها ، دار الفكر، 1405هـ، والقرطبي: 1/302 وما بعدها، ط2، دار الشعب، وابن كثير : 1/79.
(2) البقرة: 259.
(3) الظلال: 1/299، وقارن ذلك بما في القرطبي مثلاً: 3/284.(1/52)
وعندما تعرض لابني آدم : قابيل وهابيل لم يورد شيئًا مما أورده غيره من المفسرين ، إنما قال : "ولا يحدد السياق القرآني لا زمانَ ولا مكانَ ولا أسماءَ القصةِ ، وعلى الرغم من ورود بعض الآثار والروايات عن "قابيل وهابيل" وأنهما هما ابنا آدم في هذه القصة ، وورود تفصيلات عن القضية بينهما ، والنزاع على أختين لهما ، فإننا نؤثر أن نستبقي القصة - كما وردت - مجملة بدون تحديد." ، قال الشهيد : " وبقاء القصة مجملة - كما وردت في سياقها القرآني - يؤدي الغرض من عرضها ، ويؤدي الإيحاءات كاملة ، ولا تضيف التفصيلات شيئًا إلى هذه الأهداف الأساسية ؛ لذلك نقف نحن عند النص العام لا نخصصه ولا نفصله"(1).
وشاهد آخر في سورة "الفيل" يعرض رأى الأستاذ الإمام محمد عبده حيث يذهب الإمام بالعقل إلى حيث لا ينبغي الذهاب ، فيصف أحجام الطير، ويبين جنسه ، وكنه الحجارة التي يرمي بها ، ويقرر أن الجدري والحصبة ظهرا في مكة في هذا العام.
بينما يتخذ الشهيد موقفًا مخالفًا مقتصرًا على ما جاء في السورة رافضًا كل ما جاء من روايات حول الطير والحجارة . يقول : "فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيرًا أبابيل غير المعهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفًا مثيرًا ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! تحمل حجارة غير معهودة تفعل بالأجسام فعلاً غير معهود"(2).
__________
(1) الظلال: 2/875.
(2) الظلال: 6/3977.(1/53)
وهكذا يكتفي الشهيد بما ورد في القرآن من حديث ولا يتعرض لنقد خبر أو قبوله أو رده ؛ لأنه لا يورد شيئًا من ذلك أصلاً إنما يشغل نفسه وفكره بما يقرره القرآن من مبادئ وأصول، وما يرمي إليه من أهداف وغايات ، وما يعالجه من علل وأمراض، وما يضعه من حلول للمشكلات وإصلاح للأمم والأفراد، وما يبثه في نفس المؤمن وضميره من مراقبة وخوف وخشية لله في السر والعلن.
رابعًا: موقفه من المتشابهات
وتلك قضية لا تقل خطورة عن السابقة ، فقد حفل تراثنا الفكري بالإغراق والتفلسف حول الآيات المتشابهة ، وخاضوا في مباحث كلامية وفلسفية ما كان أغناهم عنها!
والمتشابه من القرآن هو ما استأثر الله بعلمه ، ولا يُدرَك معناه عقلاً ولا نقلاً ، ويحتمل أوجهًا عدة ، وكانت دلالته غير راجحة.
وهو خلاف علم المتشابه الذي هو إيراد القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة ، ويكثر في إيراد القصص والأنبياء(1).
وجمهور أهل السنة من السلف وأهل الحديث على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها ، والأثر الذي روي عن الإمام مالك في ذلك أشهر من أن يُذكر وهو : "الكيف مجهول ، والاستواء معلوم ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة".
أما الخلَف فلهم مذهب آخر وهو التأويل ، لكن مع ما يليق بجلال الله تعالى ، ومن أمثلة ذلك : قوله تعالى : "وهو معكم أينما كنتم"(2). قالوا إن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة ، فليس لها إلا أن تنصرف إلى الكينونة بالعلم والإحاطة ، وكذلك قوله :" ولتصنع على عيني"(3).
قالوا إن حرف "على" يفيد الفوقية ، ومستحيل أن يُصنع موسى فوق عين الله ، فوجب الانصراف إلى الرعاية والعناية ، وهكذا(4).
__________
(1) راجع البرهان: 1/112.
(2) الحديد : 4.
(3) طه : 39.
(4) راجع أمثلة أخرى في الإتقان : 2/6.(1/54)
ويجب أن نرد المتشابهات من الآيات إلى المحكمات منها ، ففي المتشابهات في الذات والصفات نرده إلى محكم قوله : " ليس كمثله شيء"(1)، وفي المتشابهات في الأفعال نرده إلى محكم قوله :" قل فلله الحجة البالغة"(2)
وهكذا(3).
وقد ذكر الشيخ الزرقاني ثلاثة أنواع من المتشابهات ، وأفاض في ذكر حِكَمِ كل منها:
نوع لا يستطيع البشر جميعًا أن يصلوا إليه، كالعلم بذات الله وحقائق صفاته ، والعلم بالغيب عمومًا ، ومن حكم هذا النوع رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف الذي لا يطيق معرفة كل شيء ، ولكن يكون ذلك اختبارًا وابتلاء للإنسان هل سيؤمن أم سيكفر ، يصدق أم يكذب؟ ثم إقامة الدليل من هذا النوع على عجز الإنسان وجهالته مهما بلغ علمه وعظم استعداده ، وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة، وأنه وحده هو الذي أحاط بكل شيء علمًا ، وأن الخلق جميعًا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
ونوع يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدراسة.
والنوع الثالث : هو ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم.
والحكمة من هذين النوعين - كما يقول الزرقاني - تحقيق إعجاز القرآن ؛ لأن كل ما استتبع فيه شيئًا من الخفاء المؤدي إلى التشابه له مدخل عظيم في بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى في البيان.
ومن الحكم : تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه ؛ لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه المستلزمة للخفاء دالٌّ على معانٍ كثيرة زائدة على ما يُستفاد من أصل الكلام ، ولو عبر عن هذه المعاني الثانوية لتضاعف حجم القرآن بما يصعب معه حفظه والمحافظة عليه " قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا"(4).
ومنها : أن وجود المتشابهات يصعِّب الوصول إلى الحق مما يوجب مزيد الثواب.
__________
(1) الشورى : 11.
(2) الأنعام : 149.
(3) راجع البرهان : 2/71.
(4) الكهف : 109.(1/55)
ومنها : أن القرآن باشتماله على المحكم والمتشابه يستدعي تحصيل علوم كثيرة مما يعين على النظر والاستدلال ، كما يفتح آفاقًا للعقل ويحرره من ربقة التقليد.(1)
وللشهيد المفسر موقفه الحاسم إزاء هذه القضية ، والذي لا يقل حسمًا عن موقفه من : "وجدت أن احترام العقل البشرى ذاته هو الذي يُحتِّم علىَّ ألا أتجاوز به طاقته ، وألا أجدف به في مجاهيل ليس عليها لديَّ من دليل"(2).
والعقول متعددة يتعاورها النقص والهوى ، "وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة فإننا ننتهي إلى فوضى"(3).
ثم إنه لو تكشف الغيب للبشر فلن يكون هناك معنى لإيمان أو جحود ؛ لأنه عندئذ – كما يقول أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي - سيكون الناس محمولين مجبرين على الإيمان بالله، وهنا يصبح الخلق عالمين بمجرد خلقهم بكل حكم الله وأسراره في الوجود دون بذل أي جهد من أحدهم، وبهذا يَفقد العملُ والجهد والاختبار البشرى كلَّ قيمة ومعنى لها، ولا يصبح هناك معنى ولا ضرورة للجزاء والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار"(4).
وبناء على ذلك يعتقد مفسرنا الشهيد أن ظاهر النص يكفى - في الآيات المتشابهة - للمؤمن السليم الطبع الإيجابي الفهم والعمل ، ومن ثم يتركها كما يتركها النص القرآني.
__________
(1) مناهل العرفان : 2/282ـ285 ، وراجع البرهان : 2/75،76.
(2) التصوير الفني في القرآن: 17.
(3) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: 22.
(4) مدخل إلى علم التفسير باب "المعرفة البشرية: مجالها وحدودها": 310. مكتبة
الشباب. 1416هـ.(1/56)
يقول عند تفسير قوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم"(1): "ويُكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء ، ويتحدثون عن القبْلية والبعْدية. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية ، وينسَون أن " قبل وبعد " اصطلاحات بشرية لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى ، وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقرِّبان إلى التصور البشرى المحدود صورة غير المحدود .. ولا يزيدان .. وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى ، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية ، وللعقلية الإسلامية الناصعة .. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة فنفسد جمال العقيدة ، وجمال القران بقضايا علم الكلام!!"(2).
ويقول بعد الكلام عن آية الكرسي في سورة البقرة : " ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقِهْنا طريقة القرآن التعبيرية ، ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغربية التي أفسدت علينا كثيرًا من بساطة القرآن ووضوحه. ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن ، ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان"(3).
__________
(1) البقرة : 29.
(2) الظلال: 1/53 – 54.
(3) الظلال :1/290.(1/57)
وعندما تحدث عن إمداد الله للمسلمين بالملائكة وما شاركوا المسلمين به من ضرب وطعن في غزوة بدر يقرر أنه : " تُروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر: عددهم، وطريقة مشاركتهم في المعركة ، وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبِّتين ، وما كانوا يقولونه للمشركين مخذِّلين ، ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة ، والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية " ، ثم يقول : " إننا نؤمن بوجود خلق من خلق الله اسمهم الملائكة ، ولكنا لا ندرك من طبيعتهم إلا ما أخبرنا به خالقهم عنهم، فلا نملك من إدراك الكيفية التي اشتركوا بها في نصر المسلمين يوم بدر إلا بمقدار ما يقرره النص القرآني..."(1).
وهكذا يقف الشهيد عند حدود ما يعطيه النص القرآني ولا يتجاوزه ، ويرى أن فيه الكفاية لمن كان عنده علم وخبرة بطريقة القرآن ، ويعفي نفسه من الخوض في مباحث علم الكلام التي تحجبه عن هداية القرآن ، والتي تُقحم العقل في مجاهيل لا ضابط لها ، ولا حدود لها ، ولا دليل عليها ؛ لأنها ليست من مجال العقل البشري في قليل ولا كثير ، تلك المباحث التي أنتجتها مرحلة بلغ فيها الترف الفكري منتهاه عندما انصرف الناس بها عن أهداف القرآن ومقاصده، واهتماماته وإيجابيته ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
خامسًا: موقفه من التفسير العلمي
التفسير العلمي هو التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن ، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها(2).
وتلك قضية القضايا - كما يعبر الدكتور محمد شريف -: تفسير القرآن بالعلم ، والعلم بالقرآن.
__________
(1) الظلال : 3/1483 ، 1485.
(2) دائرة المعارف الإسلامية . مادة تفسير:5/357.(1/58)
فقد درج كثير من العلماء على ليِّ نصوص القرآن ، وقَسْرِهَا قسْرًا بيِّنًا لكي تتوافق واكتشافًا علميًا حديثًا ؛ ليُثْبِتُوا بذلك سبقًا أو إعجازًا للقرآن.
ولقد وقع فريسة لهذه الفتنة كثير من كبار المفسرين والعلماء منهم حجة الإسلام الغزالي، والفخر الرازي، وازداد الافتتان بها في العصر الحديث كما يظهر في " الجواهر في تفسير القرآن" للشيخ : طنطاوي جوهري، ولا نكون مبالغين إذا قلنا : لقد بلغ هذا الافتتان ذروته في هذا العصر.
والحق أن هؤلاء وسيلة للضرر أكثر منها للنفع ، وأدوات للتبديد أكثر منها للتجديد ، ومعاول للهدم أكثر من أن يكونوا سواعد للبناء ، وتكون النتائج التي ينتهون إليها ليست للإسلام ولا للقرآن، إنما على حساب الإسلام والقرآن.
نعم .. الفطرة الكونية حق ، والقرآن حق ، ومصدرهما واحد ، والحق لا يعارض الحق بل يوافقه ويشهد له كما يقول ابن رشد القرطبي.
وكما يقول الشيخ محمد الغزالي : "والتطابق بين حقائق القرآن، ومعارف الكون مفروض ابتداءً ؛ فإن مُنزِّل الكتاب هو مُجري السحاب.
ويستحيل أن تختلف حقيقة كونية ، وحقيقة قرآنية ، كما لا يختلف قول العاقل وعمله ، والواقع أن القرآن في الدلالة على الله "كون" ناطق ، كما أن هذا الكون الضخم "قرآن" صامت ، وكلاهما ينبثق من ذات واحدة ، ويهدف إلى غاية واحدة"(1).
لكن لا يحملنا هذا على الاعتساف وليِّ عنق الآيات ، فنحمِّل الآيات والكلمات ما لا تحتمل في حقيقة وضعها واستعمالاتها اللغوية من أجل أن نثبت أسبقية أو إعجازًا للقرآن هو في الحقيقة أغنى الأغنياء عنهما.
ويَشترط العلماء فيمن يتصدى لتفسير القرآن بالنظريات الحديثة والاكتشافات العلمية شروطًا :
__________
(1) نظرات في القرآن : 13 ، دار الكتب الحديثة ، الطبعة الثالثة.(1/59)
منها : ما يتصل بالنص القرآني، وهى الشروط التي قررها العلماء الأقدمون في تفسير القرآن من معرفة للناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومعرفة بعلوم اللغة والبلاغة من بيان وبديع ومعاني .... إلخ.
ومنها : ما يتصل بالنظرية أو الاكتشاف العلمي ذاته ، ومن هذه الشروط:
- عدم الإسراع في تفسير القرآن باكتشاف لا يزال في طور الفرض العلمي، ولم يُتحقَّق من ثبوته وصحته المطلقة. فضلاً عن أنَّ بعض النظريات تنتهي وتنهار.
- ألا يقدَّم هذا التفسير على سبيل الجزم واليقين، إنما يقدمه على أنه معنى محتمل في الآية، وأن الله وحده هو العليم بمراده علمًا يقينيًّا محيطًا، لا يتيسر مثل هذا العلم - أو ما يقاربه – لمخلوق(1).
لقد تحدث علماؤنا قديمًا وحديثًا حول هذا الموضوع ، بل أثار ضجة كبيرة على صفحات الجرائد حينًا من الدهر.
وممن تحدث فيه قديمًا الشاطبي والغزالي والسيوطي ، ويغلب عليهم التأييد لهذا النوع من التفسير باستثناء الشاطبي الذي بالغ في إنكاره بحجج قوية حتى تعقبه الشيخ دراز في تعليقاته على الموافقات(2).
ومن المعاصرين الشيخ شلتوت والشيخ أمين الخولي ، ويغلب عليهم المعارضة.
ولمفسرنا الشهيد موقف إزاء هذا النوع من التفسير أقرب إلى اتجاه المعاصرين منه إلى القدماء.
فقد يظن ظان أن "الظلال" - وقد ضم انطباعات صاحبه، واتسم بالهدائية والأدبية في آن معًا - لا يأبه بالنظريات العلمية أو الاكتشافات الحديثة ، ولا يضع للتفسير العلمي مكانًا في ظلاله.
وهو ظن يتوافق مع طبيعة تفسيره وتوجهه العام، لكن الذي يراجع الكتاب يجد خلاف ذلك تمامًا، فهو يناقش هذا الأمر في كثير من الآيات وعشرات المواضع من كتابه غير أنه يلتزم بالشروط التي أسلفناها.
__________
(1) مدخل إلى علم التفسير: 23 - 29 ، وراجع اتجاهات التجديد: 676 - 196.
(2) راجع الموافقات: 2/60، وما بعدها . دار الكتب العلمية . بيروت.(1/60)
ولا أدل على ذلك من أن ننقل كلامه هو في ذلك. يقول - رحمه الله - وهو يفسر قوله تعالى : " يسألونك عن الأهلة....."(1): "وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يُضِيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحْملوا عليه ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك ، وما إليها ؛ ليعْظموه بهذا ويكْبروه ... إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة .... فمن الخطأ المنهجي - بحكم المنهج العملي الإنساني ذاته - أن نعلق الحقائق النهاية القرآنية بحقائق غير نهائية، وهى كل ما يصل إليه العلم البشرى ! ... وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة - أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا - تحتوى أولاً على خطأ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم:
الأولى : هي الهزيمة الداخلية التي تُخيِّل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن ، والقرآن تابع ، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم...
والثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته....
والثالثة : هي التأويل المستمر - مع التمحُّل والتكلف - لنصوص القرآن كي نحملها ، ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر. وكل يوم يجد فيها جديد"(2).
وهكذا نجد مكتشفات العلم عند الشهيد احتمالية - وإن ثبتت النظرية على سبيل اليقين ؛ لأن النظرية عرضة لأن تخْلَق وتفنى وتحل محلها غيرها(3).
__________
(1) البقرة: 189.
(2) الظلال: 1/181ـ182 ، وراجع تطبيقًا لذلك في الظلال : 6/3832 – 3833 ، 3437 – 3440 ، 3974 –3981 ، 1/167 ، 180 – 184 ، 278 – 282 ، 510 - 511.
(3) وذلك مثل قوانين نيوتين الثلاثة، والتي أحلت محلها نظرية أينشتين بعد فشل قوانين نيوتن في تحقيق بعض الظواهر.(1/61)
فلا يقطع سيد قطب بثباتها ويقينيَّتها ، كما لا يرفضها رفضًا كليًّا ، إنما يستفيد منها في حدود طبيعتها المتغيرة المتجددة ، وفي في حدود طبيعة القرآن الثابتة الخالدة.
وهذا ما نبه إليه المفكر الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد إذ يقول : "نحن لا نحب أن نقحم الكتاب في تفسير المذاهب العلمية والنظريات الطبيعية كلما ظهر منها مذهب قابل للمناقشة والتعديل ، أو ظهرت منها نظرية يقول بها أناس ويرفضها آخرون ، ومهما يكن من ثبوت النظريات المنسوبة إلى العلم فهو ثبوت إلى حين لا يلبث أن يتطرق إليه الشك ، ويتحيَّفه التعديل والتصحيح"(1).
وما ذلك إلا "ليخاطب كل إنسان في كل بيئة وكل زمان، ولا تحتاج إلى درجة من العلم والمعرفة تزيد على نصيب معرفة الإنسان حيث كان"(2).
يضاف إلى ذلك أننا نرى الشهيد ينقل فصولاً كاملة من كتب علمية شهيرة ؛ ليستأنس بها في توضيح آية معينة مثل : كتاب "الله يتجلى في عصر العلم"(3). ترجمة د. الدمرداش عبد المجيد سرحان، وكتاب "العلم يدعو إلى الإيمان"(4). ترجمة محمود الفلكي، و"الإنسان ذلك المجهول"(5). لأليكيس كاريل ، و"الله والعلم الحديث"(6)لعبد الرازق نوفل ، و"الإسلام والعلم الحديث"(7)للدكتور عبد العزيز إسماعيل ، وغير ذلك.
الفصل الرابع
بعض قضايا الظلال في الميزان
في هذا الفصل سنتناول بعض آراء سيد قطب التي وردت في ظلاله بالنقد والتحليل محاولين توضيح ما له وما عليه قدر استطاعتنا.
__________
(1) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. دار نهضة مصر . 1998م.
(2) اتجاهات التجديد: 593.
(3) راجع الظلال: 2/1116.
(4) السابق: 6/3686.
(5) السابق: 2/1116.
(6) السابق: 6/3450 – 3451، 3470.
(7) السابق: 4/2181.(1/62)
ولقد وُجهت إلى الشهيد سيد قطب اتهامات كثيرة، وانتقادات عديدة، ولكن أغلبها لا يسندها دليل ، ولا يدعمها برهان ، ولا تنهض بها حجة ، وذلك مثل اتهامه بالقول بوحدة الوجود، أو القول بالحلول والاتحاد ، أو القول بأن في عقيدته دخلاً وخللاً ، بل وصلت بعضها إلى اتهامه بالكفر .... إلى غير ذلك مما فُهم عنه خطأ ، وحادت فيه أفهام من اتهموه عن الصواب ، وقعد بهم إدراكهم عن استيعاب ما يقوله الشهيد ، فجاءت انتقاداتهم واتهاماتهم هشة واهنة ، وذهبت أدراج الرياح كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
ولا ندرى إذا اتُّهم سيد قطب في عقيدته فمن تصح عقيدته في هذه الأمة ؟!! وكيف يكون متَّهمًا بالدخل أو الخلل في عقيدته من عاش جل حياته في ظلال القرآن ، ثم بذلها رخيصة فداء عقيدة القرآن؟!!
وفيما يلي نناقش قضيتين هامتين دار حولهما نقاش طويل عسى أن نهتدي فيهما إلى كلمة سواء وهما: الاجتهاد ، وجاهلية المجتمع.
أولاً - الاجتهاد:
يتلخص رأى الشهيد حول الاجتهاد في أنه يرى المجتمع الذي نعيش فيه الآن مجتمعًا جاهليًّا بما تعنيه الكلمة، وما ذلك إلا أنه رفض أن يكون الحكم فيه لله - تعالى - فهو ليس مجتمعًا مسلمًا، ومن ثَمَّ كان استفراغ الجهد في استنباط الأحكام من خلال أدلتها الشرعية، ومحاولة وجود حلول لما يقذف به المجتمع - بتطوره - من مشكلات - عبثًا وهزلاً لا يليق بجدية الإسلام، وأيُّ عبث أن نسأل الإسلام، ونطلب منه حلولاً لمشكلات لم يكن هو السبب في وجودها؟!!
لأن الإسلام لو كان حاكمًا في هذا المجتمع لم يكن لهذه المشكلات أن تظهر، أو على الأقل تظهر بصورة أقل مما وجدت بها في المجتمع الذي أُبعِد عنه الإسلام.(1/63)
فالإسلام ليس مسئولاً عن إيجاد حلول فقهية أو غيرها لمشكلات في مجتمع غير إسلامي سبّب وجودها أنه لم يعرف الإسلام، فلابد من قيام هذا المجتمع ثم نقدم حلولاً لأي مشكلة تظهر إن ظهرت ، "أما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل الفقه ، والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس باستنبات البذور في الهواء ، ولن ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء .... وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية - إذن - بوسائل مكافئة . إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى ... وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه"(1).
لقد كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن عباس ، ومالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي ، وأبو يوسف ومحمد ، والقرافي والشاطبي ، وابن تيمية وابن القيم وابن عبد السلام - يعيشون في مجتمع يحتكم إلى الإسلام ، ويزاولون هم الإسلام في حياتهم الخاصة ، ومن ثم كانوا مستوفين للشرطين الأساسيين لنشأة فقه إسلامي وتطوره ، مع استيفائهم لشروط الاجتهاد.
أما اليوم فلابد أن نحسب حساب عوامل كثيرة ، منها : بُعْد الواقع العملي والنفسي والشعوري والاعتقادي عن جو الإسلام والحياة الإسلامية ، ولابد أن نحسب حساب الهزيمة الروحية والعقلية أمام الحضارة الغربية ، وأولى هذه الهزائم أن نعتبر الواقع هو الأصل الذي ينبغي على الإسلام أن يسايره ويواكبه ، ولا يكون الإسلام متبوعًا، إنما يكون تابعًا ، ثم يستنكر استفتاء الإسلام في مشكلات لم يتسبب هو في وجودها ؛ لأن ذلك لا يليق بجدية الإسلام ، إنما هو استنبات للبذور في الهواء.
__________
(1) الظلال: 4/2012 ، وراجع ما قبلها وما بعدها ، وقد أورد هذا الرأي في كتابه: "معالم في الطريق" ، ووسَّع عرضه في كتابه: "الإسلام ومشكلات الحضارة".(1/64)
هذا هو المحور الذي يدور حوله رأى سيد قطب في الاجتهاد . والحق أن هذا الذي ذهب إليه الشهيد رأى خطير على المجتمع الإسلامي ، ورِدَّة إلى الفقهاء الذين نادوا بإغلاق باب الاجتهاد - مع اختلاف يسير - ومن ثم يدمَّر المجتمع ، ويزداد سوءًا على سوء.
إن مكمن الخطر في هذا الرأي هو اتهام الشهيد - رحمه الله - المجتمعَ الإسلامي بالجاهلية، وهذا هو السر الكامن وراء تشدده في رفض كل محاولة لعرض نظام الإسلام ، وتقديم حلول من فقهه لمشكلات الحياة المعاصرة(1).
الذي لا شك فيه أن هناك فارقًا بين المجتمع الجاهلي الأول وبين مجتمعنا الذي نعيش فيه، فمجتمعنا خليط من الإسلام والجاهلية.
فيه أناس يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويقرون لله بالوحدانية والسلطان ، وهناك أناس على النقيض من ذلك ؛ فليس صحيحًا - إذن - أن نشبه مجتمعنا بمجتمع جاهلي.
يضاف إلى ذلك أننا إذا أحجمنا عن إفتاء الناس في مجتمع لا يُحكِّم شرع الله في كل شئونه ، وتوضيح أمور الدين لهم من عبادات ومعاملات وغير ذلك لضل ذلك المجتمع ، وازداد جاهلية إلى جاهليته، وظلمات إلى ظلمته ، ودخل في دائرة مغلقة لا انفكاك منها، ولا رجاء معها.
إنما إفتاء المفتين، واستنباط المجتهدين، ومحاولتهم مواجهة المشكلات الجديدة - وسط هذا المجتمع الجاهلي على حد تعبير الشهيد - هو في حقيقته لبنة في صرح المجتمع الإسلامي الذي يدعو إلى قيامه الشهيد رحمه الله.
لقد غلا الأستاذ سيد قطب – غفر الله له - وشط في هذا الرأي حتى إن أحدًا من المفكرين والفقهاء لم يذهب إلى هذا الذي قال به(2).
__________
(1) الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط. د. يوسف القرضاوي. ص: 114. وما بعدها. دار التوزيع والنشر 1414هـ.
(2) السابق: 128 ، وما بعدها.(1/65)
ومنهم الدكتور مصطفى السباعي ، والسيد أبو الأعلى المودودي ، والقاضي الشهيد عبد القادر عودة ، فيما قدموه من فكر وحلول لمشكلات عصرهم ، ويضاف إلى ذلك ما كتبه أكابر علماء الفقه في مطلع هذا القرن مثل الشيخ أحمد إبراهيم بك ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ على الخفيف ، ومن المعاصرين من لا يقل عنهم فضلاً وعلمًا.
فقد قدموا حلولاً فقهية واقتصادية في كتاباتهم التي عالجوا بها مشكلات عصرهم ، ولم يقل أحد إن هذا استنبات للبذور في الهواء.
ولعل الجو الخانق الذي عاشه الشهيد ، وتجرع مرارته بما امتلأ به من تعذيب لا يطاق ، وفاض به من اضطهاد شامل قد أثر على فكر الشهيد تأثيرًا سلبيًّا، وكان له الدور البارز فيما ذهب إليه. ولكل فعل رد فعل كما يقولون.
وعلى كل حال فكل يُؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم – فمن اجتهد وأصاب فله أجران ، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ، ويأبى الله إلا أن تكون العصمة له ولكتابه وأنبيائه.
ثانيًا - جاهلية المجتمع:
أثار الأستاذ سيد قطب هذا المصطلح في القضية السابقة - الاجتهاد - لكنه يحتاج إلى وقفة أخرى منفصلة عن الوقفة مع الاجتهاد.
ينبثق مصطلح الجاهلية عنده - كما قلنا - عن رفض المجتمع لحاكمية الله التي هي أخص خصائص الألوهية ، وهذا ما يقوله دائمًا كلما تعرض لقضية الحكم أو قابله مصطلح "جاهلية".
يقول مثلاً : "والجاهلية ليست فترة تاريخية ، إنما هي حالة توجد كلما وجدت مقوماتها في وضع أو نظام، وهي في صميمها : الرجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر لا إلى منهج الله ، وشريعته للحياة ، ويستوي أن تكون هذه الأهواء أهواء فرد ، أو أهواء طبقة ، أو أهواء أمة ، أو أهواء جيل كامل في الناس .. فكلها .. ما دامت لا ترجع إلى شريعة الله ... أهواء ..."(1).
__________
(1) الظلال: 2/899.(1/66)
ولعل هذا المصطلح بالذات - الحاكمية - من أكبر المصطلحات القطبية المودودية ـ خاصة في العصر الحديث ـ التي حُمِّلت أكثر مما ينبغي أن تتحمل سواء بالإفراط أو التفريط.
والحق أن هذا المصطلح ـ في أصله ـ لا يرجع إلى قطب أو المودودي ، إنما يرجع إلى الأصوليين ، ففي بداية أبواب علم الأصول تجد بابًا عن الحكم تحدثوا فيه عن : الحاكم ، والمحكوم عليه ، والمحكوم به ....الخ، فهو إذن مصطلح أصولي ، وليس مودوديًّا أو قطبيًّا.
ولقد انقسم العلماء والمفكرون ـ كما هي عادتنا في قضايانا الفكرية ـ إزاء هذه القضية إلى فريقين: فريق حمَّل الشهيد مسئولية ظهور الفكر التكفيري، وجماعات التكفير التي أوقعت المجتمع الإسلامي في بلبلة واضطراب وفوضي : هذا يكفر ذاك، ومن لم يُكفر الكافر فقد كفر، ومن رمى أخاه بكلمة الكفر فقد باء بها أحدهما ـ كما جاء في الحديث ـ حتى صار موج التكفير هدارًا في المجتمع، ورجع كثير من الأفراد كفارًا يضرب بعضهم رقاب بعض.
بل إن هذا الفريق قرر أن الشهيد يُكفر المجتمع بما فيه من أفراد ونظم ما داموا بعيدين عن شريعة الله.
والفريق الآخر برَّأ الشهيد من كل شيء ، ووضعوه في منزلة لا يليق لها معها الخطأ ، وأنحى باللائمة على الذين فهموا هذا الفهم ، وجعلوا أقوال الشهيد مُتَّكأ يتّكئون عليه في تهوُّرهم ، واعوجاج فهمهم ، ورميهم المجتمع بالكفر والفسوق والعصيان.
والموقف الصحيح دائمًا هو الموقف الوسط الذي لا يميل ذات اليمين وذات الشمال ، فلا يتجنى على أحد ، ولا يظلم أحدًا ، إنما يتناول القضايا بهدوء وتُؤَدة ، وينظر إلى الأمور بموضوعية وإنصاف.(1/67)
ومن مقتضيات هذا الإنصاف هنا أنه كان ينبغي على الشهيد أن يوضح مراده بالتكفير والجاهلية : هل يقصد بالجاهلية جاهلية الأخلاق أم جاهلية المجتمع؟ وهل كان يقصد بالتكفير تكفير الأفراد والأشخاص ، أم تكفير المجتمع ونظم الحكم؟ كما كان ينبغي عليه أن يبين درجات الكفر وأنواعه ؛ حتى لا تختلط على الناس المفاهيم والمصطلحات.
وكان على الطرف الآخر ـ شباب التكفير المتهور ـ أن يفهم كلام الشهيد بإنصاف وموضوعية في إطار الظروف والملابسات، وفي ضوء الفترة الزمنية التي قيل فيها هذا الكلام.
وما دام هناك وجه حسن يُحمل عليه كلام الشهيد كان ينبغي الانصراف إليه ، ولا نصير إلى ما رأيناه إلا إذا استحال من كل الوجوه حَمْلُ الكلام على وجه حسن.
ولكي نتبين هذا الأمر ينبغي الرجوع إلى مواضعه وحصرها في القرآن الكريم أولاً ، ثم ننقل أراء الشهيد فيها، وأعتقد أنه لا أدل على تحديد مفهوم معين عند شخص معين من الرجوع والاحتكام إلى كلامه هو.
لقد ورد لفظ الجاهلية في القرآن الكريم أربع مرات(1).
الأول : في سورة آل عمران. قال تعالى : "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل
إن الأمر كله لله"(2).
وقد نزلت هذه الآية في هزيمة أحد التي تحدثت عنها السورة باستفاضة وتفصيل.
__________
(1) معجم ألفاظ القرآن الكريم: 1/252 - 253 مجمع اللغة العربية. ط ثانية 1409هـ.
(2) آل عمران: 154.(1/68)
وملخص ما قاله الشهيد : أن الله يصور مدى ضعف العقيدة ، وتزعزع الإيمان في قلوب هؤلاء ، والذي نتج عنه من الحالة النفسية - عند الهزيمة - تنفيض أيديهم من كل شيء ، وتبرئتهم أنفسَهم بحجج واهية "هل لنا من الأمر من شيء..." ، وتعدَّى ذلك إلى قلوبهم الضعيفة ، ويقينهم الطائش ، وسوء ظنهم بالله - تعالي – "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" ... ويعلمهم الله - تعالي - ويوجههم إلى الوجهة الصحيحة "قل إن الأمر كله لله".
إذن الأمر أمر طبيعي فطرى حيث لم تستقر حقيقة الإيمان بمقتضياتها بعْدُ في قلوب هذه الفئة فلا غرو أن يكون فيها جاهلية(1).
الثاني : في سورة المائدة يقول تعالى : "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون"(2).
وهى أكثر المواضع حِدّة في المواضع الأربعة حيث نرى لهجة الشهيد فيها عالية حادة صارمة لا مواربة فيها ولا التواء ، فهو يرمى مَن لم يحكم بما أنزل الله بالكفر الصراح، ويضيف إليه الظلم والفسق : "والذي لا يبتغى حكم الله يبتغى حكم الجاهلية، والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية ، ويعيش في الجاهلية"(3).
ونحن مع الشهيد في هذه اللهجة ؛ لأن أمر الحكم يحتاج صراحة وحزمًا ووضوحًا كصراحة الشهيد وحزمه ووضوحه ؛ لأنها قضية مصيرية .... إنها الإيمان أو فلا إيمان.
لكن كان ينبغي أن يفصّل الشهيد ويبين ـ كما قلنا من قبل ـ أن هناك كفرًا دون كفر، وهناك كفرًا أكبر وكفرًا أصغر ، والكفر الأكبر خمسة أنواع: كفر تكذيب ، وكفر استكبار وإباء مع التصديق ، وكفر إعراض، وكفر شك ، وكفر نفاق، كما أن هناك أنواعًا للكفر الأصغر ، وهكذا ...
__________
(1) الظلال: 1/495 - 497.
(2) آية: 50 .
(3) الظلال 2 / 904 .(1/69)
وقد حقق العلامة المحقق ابن قيم الجوزية هذه المسألة ، فأورد أقوالاً في تفسير الآية ـ آية المائدة ـ منها : أن ترك الحكم قد يكون جحدًا له ، ومنها : أنه ترْك للحكم بجميع ما أنزل الله ، ومنها: مخالفة النص تعمدًا من غير جهل ولا خطأ ، ومنهم من تأول الآية على أهل الكتاب.
ثم يقول مُحققًا : " والصحيح : أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكُفْرَيْن الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة ، وعدل عنه عصيانًا ، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا كفر أصغر ، وإن اعتقد أنه كفر غير واجب ، وأنه مخير قيه مع تيقنه أنه حكم الله ، فهذا كفر أكبر ، وإن جهله وأخطأ فهذا مخطئ ، له حكم المخطئين "(1).
الموضع الثالث : في سورة الأحزاب يقول تعالى : "وقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ولاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى"(2)
وهنا يورد آراء المفسرين حول صور تبرج الجاهلية الأولى . ذكر منها:
- خروج المرأة تمشى بين الرجال.
- مشية التكسر والتغنج ، وغير ذلك.
وذكر أنها صور تبدو ساذجة لما نحن عليه الآن؛ لأن الإنسان ـ في عصرنا - أصبح لا يعجب بالحشمة، أو جمال الروح والعفة ؛ لأن هذا الجمال الراقي لا يدركه أصحاب الذوق الغليظ الذي لا يرى إلا جمال اللحم العاري، ولا يسمع إلا هتاف اللحم الجاهر.
وينتهي إلى أننا نعيش الآن فترة جاهلية عمياء غليظة الحس. حيوانية التصور. هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين(3).
والشهيد هنا يعني بالجاهلية جاهلية الأخلاق ، كما هو واضح من فحوى الكلام.
أما الموضع الرابع : ففي سورة الفتح يقول تعالى: "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجاهلية ..."(4)
__________
(1) مدارج السالكين : 1/303ـ326. دار الحديث . طبعة أولى . 1416هـ.
(2) آية:33 .
(3) الظلال: 5/2860 - 2861.
(4) آية: 26 .(1/70)
وهو توضيح للنعرة الجاهلية التي استقرت في قلوب الكافرين لما فيهم من جفوة عن الحق ، وعدم الخضوع والاستسلام له. ذلك أنهم منعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه من المسجد الحرام ، وحبسوا الهدْي الذي ساقوه أن يبلغ محله الذي يُنحر فيه، حتى لا تقول العرب : إنهم دخلوها عليهم عنوة(1).
هذه كل المواضع التي ورد فيها هذا اللفظ ، وتلك هي آراء الشهيد فيها.
ولعله قد اتضح الآن تصوُّر الشهيد للجاهلية من خلال هذه المواضع.
فالموضع الأول : يعالج ضعف العقيدة ، ولا يخلو ضعف العقيدة من أن يكون فيه جاهلية ، وهو أمر بدهي.
والثاني : وهو أشدها : يكفِّر كل من لم يحكم بما أنزل الله ، ويضيف إليه الفسق والظلم ، وقد عقبنا عليه.
والثالث : وهو أمر أخلاقي، وتقرير للواقع بحق.
والرابع : توضيح للنعرة الجاهلية ، والفطرة البشرية للكافرين بعيدًا عن المجتمع المسلم.
ومن الجدير بالذكر أن نقرر هنا ونوضح أن الشهيد لم يكن يقصد بالتكفير الأفراد أو الأشخاص ، إنما يريد به نظم الحكم ، وتشريعات المجتمع ، ومصادر المعرفة والقيم في الدولة كما اتضح فيما نقلناه عنه من تعريف الجاهلية.
يقول في تفسير قوله تعالى : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا...."(2): "يأمر الله المسلمين إذا خرجوا غزاة ، ألا يبدءوا بقتال أحد أو قتله حتى يتبينوا ، وأن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان"(3).
وعندما تحدث عن الذين آمنوا ولم يهاجروا وموقف المجتمع المسلم منهم قال : "فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم، ومن ثَمَّ لا تكون بينهم وبينه ولاية ، ولكن هناك رابطة العقيدة "(4).
__________
(1) الظلال: 6/3329.
(2) النساء: 94.
(3) الظلال : 2/737.
(4) الظلال : 3/1559.(1/71)
والذي يبدو - كما يقول الأستاذ سالم البهنساوي(1)- أن الشهيد يطلق كلمة المجتمع
ويعني بها نظام الحكم ، فجاهلية المجتمع عنده هي جاهلية نظام الحكم في مناهجه وتشريعاته وقيمه العلمانية ، فمصطلح "المجتمع" تغير مدلوله في عصرنا حيث أضحى بمعنى الأفراد والأشخاص والأمة ، ومن هنا كانت الشبهات في فهم أقواله، وهو بريء من تكفير الأفراد والأمة.
وما أردنا هنا أن نُبرِّئ الشهيد من كل شيء ، ولا أن نُحمِّل المسئولية شباب التكفير الذي وهن لما أصابه؛ لأن الجميع بشر ليست لهم العصمة . يصيبون ويخطئون ، ويؤخذ من كلامهم ويرد.
إنما أردنا أن نوضح الأمور في هدوء وإنصاف ؛ لنستبين الحق من الباطل ، ونَميز الخبيث من الطيب، ونُقيم الوزن بالقسط ولا نخسر الميزان.
خاتمة
لقد حظي في ظلال القران بمكانة مرموقة في المكتبة التفسيرية وبين المفسرين، وحظي بثقة العلماء على اختلاف تخصصاتهم واتجاهاتهم.
ولعل المنهج الذي اتبعه الشهيد في تفسيره ، وموقفه من القضايا التي أوضحناها من إسرائيليات ومتشابهات وغير ذلك هو الذي رشح له هذه المكانة.
وكما ختمت المقدمة بكلمة العماد الأصفهاني أختم الخاتمة بأن هذا جهد المقل ، ونتائج المبتدئ الذي يخطئ أكثر مما يصيب ، والذي لا يزال يحبو على الطريق ، ينظر - في هذا الجهد - من أسفل إلى أعلي مصوبًا بصره ، دافعًا برأسه إلى الخلف حتى يتسنَّى له أن يتصور ويستوعب - قدر إمكانه - العالم الرحيب ، والفكر السامق الذي مثله سيد قطب وظلال القرآن.
أهم المراجع
__________
(1) شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر: 318، دار الوفاء، طبعة أولى، 1409هـ.، ومن المراجع الهامة في ذلك : قضية الحكم وتكفير المسلم للأستاذ البهنساوي. وقد نقل فيه كلامًا هامًّا عن الأستاذ محمد قطب ـ أخي الشهيد ـ مؤداه أن الشهيد كان يقصد بالتكفير والتجهيل المجتمع والنظم لا الأشخاص والأفراد . فلْيُراجع.(1/72)
1- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ، وبهامشه : إعجاز القرآن للباقلاني. دار الندوة الجديدة.
2 - الأعلام. خير الدين الزركلي . دار العلم. بيروت. ط سادسة
1418هـ.
3 - البرهان في علوم القرآن للزركشي . دار الجيل. 1408هـ.
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
4 - أفراح الروح . سيد قطب. مكتبة الإيمان.
5 - اتجاهات التجديد. لأستاذنا الدكتور محمد إبراهيم شريف. دار
التراث. ط أولى . 1402هـ.
6 – التصوير الفني في القرآن. سيد قطب. دار المعارف. طبعة
ثالثة. بدون تاريخ.
7 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بـ "المنار". محمد رشيد رضا.
دار المنار. ط. ثالثة . 1367هـ.
8 – تفسير القرآن العظيم . لابن كثير. دار الفكر . بيروت .
1401هـ.
9 - الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط. د. يوسف
القرضاوي . دار التوزيع والنشر 1414هـ.
10 - حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. عباس محمود العقاد.
نهضة مصر. 1998م.
11 - خصائص التصور الإسلامي ومقوماته. سيد قطب. دار
الشروق. ط رابعة . 1398هـ.
12 - دائرة المعارف الإسلامية ..... مادة " تفسير ".
13 - سيد قطب الأديب الناقد – عبد الله الخباص . ماجستير كلية
الآداب بالجامعة الأردنية. مكتبة المنار ط1 1983م .
14 - سيد قطب حياته وأدبه. د. عبد الباقي حسين. رسالة ماجستير
بدار العلوم 1980م.
15 - شبهات حول الفكر الإسلامي المعاصر. سالم البهنساوى. دار
الوفاء. ط أولى. 1409هـ.
16- طفل من القرية. سيد قطب . الدار السعودية . جدة . بدون
تاريخ.
17 - عبقري الإسلام سيد قطب الأديب العملاق والمجدد الملهم.
د. سيد بشير كشميري. دار الفضيلة . تقديم أستاذنا الدكتور
عبد الصبور شاهين.
18 - في التاريخ فكرة ومنهاج. سيد قطب. دار الشروق.
19 - في ظلال القرآن. سيد قطب. دار الشروق. ط. سادسة
عشرة. 1410هـ.
20 - مجلة الأسبوع . العدد 31. يونيو 1934م.
21 - مدارج السالكين. لابن قيم الجوزية. دار الحديث. ط أولى.
1416هـ.(1/73)
22 – مدخل إلى علم التفسير. لأستاذنا الدكتور محمد بلتاجي.
مكتبة الشباب 1416هـ.
23 – معجم ألفاظ القرآن الكريم مجمع اللغة العربية. ط ثانية .
1409هـ.
24 – مقدمة ابن خلدون. دار نهضة مصر. ط ثالثة . تحقيق :
د. علي عبد الواحد وافي.
25- مناهل العرفان في علوم القرآن . عبد العظيم الزرقاني. دار
إحياء الكتب العربية.
26- الموافقات في أصول الشريعة. أبو إسحاق الشاطبي ، بتعليق
الشيخ عبد الله دراز. دار الكتب العلمية . بيروت.
27 - نظرات في القرآن . محمد الغزالي . ط ثالثة . دار الكتب
الحديثة.
الفهرس
الموضوع الصفحة
تقديم .......................................................
الفصل الأول: "حول سيد قطب : حياته وأعماله".............
* حياته:
- اسمه ومولده وأسرته...... ..... .....
- نشأته وتربيته .... ..... ..... .....
- تعليمه الابتدائي والتحاقه بدار العلوم ..... ..... .....
- بعد تخرجه واتصاله بالأستاذ العقاد .... ..... ...... ....
- توجهه الإسلامي وانضمامه للإخوان ..... .... ..... ...
- اعتقاله وإعدامه ..... ..... ..... ....
? مؤلفاته:
- في الدراسات الأدبية .... ..... .... .....
- في الدراسات القرآنية ..... ..... ..... .....
- في الأدب القصصي ..... ..... .....
- في أدب الدعوة ..... ..... .... ..... ....
- آثار أخرى ...... .... .... ..... .... .....
- مقدماته لبعض الكتب ..... ..... ..... .....
- بحوث لم تنشر .... ..... .... .....
? من مأثورات سيد قطب .... ..... ..... .....
? مختارات من شعره ... ... .. .. .. .. ..
? قالوا عن سيد قطب .... ..... ..... ......
? الدراسات التي قامت حول سيد قطب ..... ..... .....
الفصل الثاني : منهجه في الظلال.
** البعد الأول لمنهجه : الالتحام المباشر بالقرآن .....
? آثار هذا الالتحام ..... .....
- الإحساس بمقاصد القرآن وهداياته .... .... ....(1/74)
- إدراك حركية الدين .... ..... .....
- معايشة القرآن في عصر التنزيل ... .....
- ** البعد الثاني لمنهجه : الهدائية والأدبية .... .....
الفصل الثالث : موقفه من بعض قضايا التفسير.
أولاً - موقفه من المأثور .............................
ثانيًا - موقفه من المكي والمدني ......................
- فوائد العلم بالمكي والمدني..... ..... ..... ......
- ضوابط لمعرفة المكي والمدني ..... ..... ......
ثالثًا - موقفه من الإسرائيليات........................
رابعًا - موقفه من المتشابهات.......................
خامسًا - موقفه من التفسير العلمي ...............
الفصل الرابع : بعض قضايا الظلال في الميزان.
أولاً - الاجتهاد ....................................
ثانيًا - جاهلية المجتمع ...........................
خاتمة .................................................
أهم المراجع .........................................
الفهرس ..............................................(1/75)