بسم الله الرحمن الرحيم
في رحاب السيرة
عبر وعظات
اعتنى بها
أبو عامر الطيماوي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ،اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا اللهم علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
هل نحن بحاجة إلى تعلم سيرة سيد الخلق؟
[وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]
فإذا كان قلب سيد الأنبياء يزداد ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه، فأحرى أن تزداد قلوبنا إيماناً ويقيناً بسماع قصة سيد الأنبياء.
[أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ]
الإسلام بمجمله كلمتان؛ كلمة التوحيد وكلمة الرسالة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، إذاً الحديث عن رسول الله شطر الدين، بل هو جزء لا يتجزأ من الدعوة إلى الله، ذلك لأن في الحياة مثالية حالمة لا أحد يعبأ بها، وفي الحياة واقعية مقيتة لا أحد يلتف إليها، ولكن الناس يشدهون بمثالية واقعية أو بواقعية مثالية، هذا ما نجده في سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ]
... كيف يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة لنا، أي قدوة لنا، إن لم نعرف ماذا فعل في بيته؟ وكيف عامل زوجته، وكيف عامل أصحابه؟ وكيف كان في السلم؟ وكيف كان في الحرب؟ إذاً معرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولن يكون قدوة لنا إلا إذا عرفنا دقائق حياته.
(( اِسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ)).
نحن بحاجة إلى مسلم قدوة، كيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قرآناً يمشي؟ نحن بحاجة إلى مسلم يمشي، إذا حدثك فهو صادق، وإذا عاملك فهو أمين، وإذا استثيرت شهوته فهو عفيف. الكلام النظري ضَعُفَ تأثيره، لماذا؟ لأن الناس كفروا بالكلمة، لماذا كفر الناس بالكلمة؟ لأن كل الممارسات التي يمارسها الناس تتناقض مع كلامهم، تأتي إلى بلد، وتتفنن في إيقاع الأذى، وقتل الأبرياء، وهدم البيوت، وتقول: أنا جئت من أجل الحرية، من أجل أن تنعموا بالحرية، هذا الكلام مع هذه الممارسات يحمل الناس على أن يكفروا بالكلمة كفرًا كاملاً، نحن الآن في مشكلة، الناس كفروا بالكلمة، ولا يمكن أن تستعيد الكلمة قدسيتها إلا بالتطبيق، الأنبياء بماذا جاؤوا؟ هل جاؤوا بالصواريخ؟ بالطائرات؟ بحاملات الطائرات؟ بالغواصات؟ بالأقمار الصناعية؟ بالكمبيوتر؟ جاؤوا بالكلمة؛ الكلمة الطيبة تفعل فعل السحر في الناس، لكن الناس اليوم كفروا بالكلمة، لأن كل الذي يقال معه ممارسات تتناقض معه، مجلس يأمر بلدًا بعيدًا أن يطبق الديمقراطية، جيد، لكنه هو يمارس القهر والقمع عن طريق حق الفيتو، أو حق النقض، المجلس قمعي، وأمره ديمقراطي، كلام مضحك، لذلك كفر الناس بالكلمة، لا يمكن أن نعيد للكلمة مكانتها إلا بالتطبيق، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (( اِسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ بِكُمْ)).
كنا في الحج مرة، ورأينا رجلا تبدو على ملامحه أنه غربي؛ هو في الحقيقة من ألمانية الغربية، علمت بعد حين أن سبب إسلامه هو أن طالباً من سورية أقام في بيته، واستأجر غرفة، ولهذا الرجل فتاة جميلة، لم يستطع أن يضبط هذا الشاب مرة ينظر إليها، كلما وقعت عينه عليها غض بصره، هذا شيء ما استوعبه، ما هذا الإنسان؟ فحاوره، انتهى الحوار بإسلام هذا الرجل.
رجل في أمريكا اسمه جفري لنك، هذا الرجل من أكبر ملحدي أمريكا، دكتور في الرياضيات، بجامعة سان فرانسيسكو، سبب إلحاده أنه كان في التعليم الثانوي يدرس، وعنده مدرس للديانة المسيحية، وجاء إلى البيت، وانتقص هذا المدرس أمام أبيه، ما كان من أبيه إلا أن طرده من البيت، فلما طرده من البيت اعتنق الإلحاد، وتابع دراسته، وكان ذكياً إلى درجة غير عادية، كان أستاذه بالجامعة يقول له: اخرج من القاعة، ولك العلامة التامة، كان يربك أستاذه، استقر به المقام إلى أن أصبح أستاذاً للرياضيات في جامعة سان فرانسيسكو، كانت له مكانة كبيرة في الجامعة، حتى إن أستاذه كان يستشيره أحياناً في بعض رسالات الدكتوراه، عند أستاذه طالبة من الشرق الأوسط، نشأت مشكلة في أطروحتها، فأرسلها إلى هذا الدكتور البروفيسور جفري لنك، ليأخذ رأيه، هذا الأستاذ الجامعي الملحد الذي اعتنق الإلحاد رأى فتاة محجبة حجاباً كاملا، وفي أيام الصيف، والفتيات في أمريكة عرايا في الصيف، فقال: لا بد أن هذه الفتاة تعتنق ديناً عظيماً، وعندها قناعات كبيرة جداً حملتها على أن تخالف كل الفتيات في هذه البلاد، فقال هذا الأستاذ: والله لم أجرؤ على أن أحدق في وجهها، لقدسيتها، واندفعتْ بكلي إلى مساعدتها , وعكفت في اليوم نفسه على قراءة القرآن، قرأ القرآن، لكن عنده شعور أنه ليس كلام الله، فهو يبحث عن بعض الأخطاء، فلما وصل إلى قول تعالى:
[فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً]
قال: هنا، هنا الخطأ، له صديق في فرنسا اسمه موريس بوكاي، اتصل بها هاتفياً، وقال له: تعال وانظر، هذا فرعون مات، فكيف قال الله عز وجل: { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ }؟ قال: فرعون الذي قالت عنه الآية أنا رممت جثته بيدي، هو الآن في متحف مصر الفرعوني، وأسلم هذا الرجل.
في حديث جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِلنَّجَاشِيِّ: (( أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيئُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ )).
إخواننا الكرام، حال واحد مستقيم في ألف، أبلغ من قول ألف في واحد، إن أردت مجتمع ينهض كن قدوة، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الواحد كالألف، والمسلمون في عصور التخلف والشهوة الألف كأفٍّ، هل يُعقل أن يستنجد سيدنا خالد بسيدنا الصديق بمدد في معركة نهاوند، هو يحتاج خمسين ألف مقاتل، أرسل له الصديق واحدًا، هو القعقاع بن عمرو، فلما وصل إليه، قال له: أين المدد؟ قال له: أنا المدد، قال له: أنت؟! قال: أنا، واحد؟! قال: واحد، معه كتاب، فتح الكتاب، يقول سيدنا الصديق: يا خالد، لا تعجب أن أرسلت لك القعقاع بن عمرو، فو الذي نفس محمد بيده لا يهزم جيش فيه القعقاع، وانتصروا، واحد كألف، وثلاثمائة مليون مسلم لا وزن لهم اليوم، وليس أمرهم بأيديهم، ولا يملكون شيئاً.
1. أن الله سبحان الله لا يقبل دعوة محبة رسوله إلا بالدليل، لو قبلت دعوى من دون دليل لأدعى كل إنسان محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا )) .
بربكم لو سألتم مليارًا وثلاثمائة مليون مسلم: أتحب رسول الله؟ يقول لك: نعم، إذاً هذا سؤال ليس له معنى، ما دام كل إنسان يدعي محبة رسول الله. لكن يعلم حقيقة ذلك عند التعارض، حينما تتعارض مصلحتك مع الحكم الشرعي مع حكم قرآني، أو مع حكم نبوي، وتقف مع الحكم الشرعي، وتضع مصلحتك المتوهمة تحت قدمك، عندئذٍ تذوق حلاوة الإيمان، ذاق حلاوة الإيمان، من آمن بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، لذلك الله جل جلاله لا يقبل دعوة محبته إلا بالدليل.
إن كنا صادقين في حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم الشخصية التي نمشي في طريقها.
والحمد لله رب العالمين
-
الوحدة الأولى
نسب النبي صلى الله عليه وسلم وحسبه وصباه
أولاً: نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب" ، ويكنى أبا القاسم ، واهتمام العرب بأنسابها في الجاهلية أمر لم يزده الإسلام إلا تماسكاً وانتظاماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1- شرف النسب من لوازم الدعوة فلمز الداعي في نسبه يطعن في دعوته ودليله حادثة الإفك، ومما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم شريف النسب قوله صلى الله عليه وسلم : ((خرجت من نكاح ولم اخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء)). وقال : (( إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم)) . وقال أبو سفيان : ((هو فينا ذو نسب قال هرقل: كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها ))، والمشهور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وضع ديوان العطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم نسباً إلى رسول الله، قالوا: يبدأ أمير المؤمنين بنفسه فقال: لا ولكن ضعوا عمر حيث وضعه الله تعالى. فبدأ بأهل البيت ثم من يليهم حتى جاءت نوبته في بني عدي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش. وهذه الشهادة أيضاً قدمها جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي: (( حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه)). وقدمها المغيرة بن شعبة بين يدي يزدجر ملك فارس في غزوة القادسية: ((لقد بعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده فأرضه خير أرضنا وحسبه خير أحسابنا وبيته أعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا وهو بنفسه كان خيرنا ))، فما أحوج الدعاة إلى الله اليوم أن يفقهوا هذا المعنى في تخيرهم للمعادن النفيسة من الرجال والنساء فيضمونهم إلى ركب الدعاة فينتصرون للإسلام وينتصرون به.
2- شرف النسب سياج للداعية من السفهاء ، وعندما قال لوط عليه الصلاة والسلام لقومه وقد أرادوا إيذاءه في ضيفه [قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعقيباً على قوله: (( رحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد ولكنه عنى عشيرته فما بعث الله عز وجل بعده نبيا إلا بعثه في ثروة من قومه)) . ومما يشهد له قوله تعالى: [قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ]، من أجل هذا رأينا المرحلة المكية كلها والتي استمرت ثلاثة عشر عاماً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحياها في منعة من قومه وعشيرته الأقربين ، من بني هاشم والمطلب، وخاضت قريش بعدها الحرب ضد النبي صلى الله عليه وسلم لكنها لم تتمكن من النيل منه وهو في هذه الأرومة، وما انتهى الحصار بعد ثلاث سنين إلا من خلال العصبية القبلية ، إن في صفوف الكافرين نماذج تحمل الصفات الخلقية الكريمة وذات مواقع حساسة من القوة في المجتمع الجاهلي وشخصية الداعية التي تجذب هذه النماذج بخلقها وتضحياتها وتغزوها في أعماقها تدفع هذه النماذج من الكافرين إلى أن يكونوا حماة للدعوة والداعية، ومن خلال مركز القوة الذي تملكه ومن خلال بعض الأعراف والقوانين الجاهلية تستطيع أن تحتضن الدعوة وتفسح لها مجال الحرية لتنمو وإن كانت في عقيدتها على خلاف عقيدة الإسلام، أو تستطيع هذه النماذج الخيرة أن تحبط شراً يحيق بالمسلمين، ومنعة العشيرة وشرف القبيلة فيما مضى والذي كان يرعى الدعوة حتى تبلغ أشدها يمكن أن يظهر في عصرنا الحاضر بشرف النظام ومنعة القانون عند الذين يحرصون عليه من جهة وقد بهرتهم الدعوة من جهة أخرى ولاقت جوهراً نفيساً عندهم وهم في مواقع المسؤولية.
3- من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه قال تعالى :( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) وقال صلى الله عليه وسلم : ((يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا )) وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يا رسول الله إن عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف و يصل الرحم و يفعل و يفعل أينفعه ذلك ؟ قال : ((لا إنه لم يقل قط رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) ، وفي الحديث : (( هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فأبى علي)) وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي كان يصل وكان وكان فأين هو قال في النار فكأن الأعرابي وجد من ذلك فلما قفا دعاه فقال: (( إن أبي وأباك في النار)).(1)
4- الحث على التسمي باسم النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عن التكني بكنيته أثناء حياته فقط ففي الحديث : كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فقال رجل يا أبا القاسم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنما دعوت هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي)) ، قال ابن حجر: ... وقال المالكية هو خاص بحياته صلى الله عليه وسلم ، وسُمَى النبي صلى الله عليه وسلم لم تعهده العرب ولما سئل جده عن ذلك قال سميته محمداً ليحمده أهل الأرض والسماء ومن بر الأبناء أن يحسن الرجل اسم ولده وفي الحديث :" خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن وأصدق الأسماء همام وحارث وشر الأسماء حرب ومرة". وللنبي صلى الله عليه وسلم عدة أسماء ففي الحديث : " لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب". وفي حديث آخر في صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمّي لنا نَفْسَهُ أَسْمَاءً . فَقَالَ : (( أَنَا مُحَمّدٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَالْمُقَفّي ، وَالْحَاشِرُ ، وَنَبِيّ التّوْبَةِ ، وَنَبِيّ الرّحْمَةِ )) .
5- قال البيهقي: وزاد بعض العلماء فقال : سماه الله في القرآن : رسولاً ، نبياً ، أمياً ، شاهداً ، مبشراً ، نذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه ، وسراجاً منيراً ، ورؤفاً رحيما، ومذكراً ، وجعله رحمة ونعمة وهادياً.
6- الدلائل والعبر السابقة الذكر فيما يتعلق بنسب النبي صلى الله عليه وسلم إن كانت تدل على شيء فإنما تدل على قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
ثانياً: حسبه صلى الله عليه وسلم :
الحسب : الصفات الحميدة التي يتصف بها الأصول، أو مفاخر الآباء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حسيباً في قومه قد علمت العرب له ذلك وأقرت به رغم عدائها له صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
حسب النبي صلى الله عليه وسلم متأصل عرباً وقرشية وأخلاقا.
فمن محاسن العرب:
أ- ذكاء وفطنة : وما اتساع لغتهم إلا دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم فإذا كان للعسل ثمانون اسماً وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة فإن للجمل ألفاً وكذا للسيف ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقادة، وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلاً عن العبارة(2).
ب- ـ كرم وجود حتى سارت الركبان بكرم حاتم الطائي.
ج- أهل شجاعة ومروءة ونجدة: وكانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش
قال عنترة:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... ... ... أصبحت من غرض الحتوف بعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... ... ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل ...
وقال عنترة: ...
... لا تسقني ماء الحياة بذلة ... ... ... ... ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
... ماء الحياة بذلة كجهنم ... ... ... ... ... وجهنم بالعز أطيب منزل
د- عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل: جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب يأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
فدعاه لزيارته ودعا أمه لتزور أمه وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها فأعادت عليها الكرة وألحت فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم : وآ ذلاه بالتغلب فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند ، ثم قال:
بأي مشيئة عمرو بن هند ... ... ... ... ... تكون لقيلكم فيها قَطينا
بأي مشيئة عمرة بن هند ... ... ... ... ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً ... ... ... ... ... متى كنا لأمك مقتوينا
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... ... ... ... ... أبينا أن نقر الذل فينا
ه- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق: وفي قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحروب بينهم قائمة قال: " لولا أن يأثروا علي كذباً لكذبت عليه"
أما وفائهم فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب : " وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة فهي ولث وعقدة لا يحلها إلى خروج نفسه. وإن أحدهم ليرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه، فلا يغلق رهنه، ولا تخفر ذمته؛ وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته، لما خفر من جواره؛ وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله"، ومن القصص الدالة على وفائهم : أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث وقال : (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم، قال: فأنا هو، فتركه) وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار، ومن وفائهم ( أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني ورحل إلى كسرى فبطش به ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان فأبى فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: " يا معشر بكر، هالك معذور خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره ، الطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد" ، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهد.
و- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال والرضا باليسير:كانوا يقومون من الأكل ويقولون البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع قال شاعرهم:
إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... ... ... بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل
وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكارة والصبر في الشدائد وقد صبر قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار على الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنين حتى كانوا يأكلون الخبط(1) وورق السمر(2) حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة ، قال سعد: (خرجت ذات يوم أبول فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها ثم احرقتها ثم رضضتها وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثاً).
ز- قوة البدن وعظمة النفس: واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح: فها هو معاذ بن عمرو بن الجموح في إحدى المعارك يسحب يده خلفه بجلدة منه فلما آذته وضع عليها قدمه حتى طرحها، ومر عبد الله بن مسعود بأبي جهل فوجده بآخر رمق فوضع رجله على عاتقه فلما رآه أبو جهل قد وطئ عنقه قال له لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، فعالج قطع رأسه فقطعه ولم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل فيها خيطاً وجعل يجره حتى جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ح- العفو عند المقدرة وحماية الجار: وكانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، ويأبون أن يجهزوا على الجرحى وكانوا يرعون حقوق الجيرة ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... ... ... ... ... حتى يواري جارتي مأواها
أما عن حسب قريش:
فبيانه في سؤال وفد ربيعة أبا بكر عن نفسه فقال: أنا من قريش فقال: بخ بخ أهل الشرف والرياسة ، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة، فقال: أمنكم قصي الذي كان يدعى مجمعاً قال: لا ، فقال : منكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال لا ، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء؟ قال: لا..." .
أما عن النبي صلى الله عليه وسلم :
فحادثة الأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فلما عاد إلى قومه لاموه على
__________
(1) تنبيه: إخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا] فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب.
(2) يدل على ذلك: قصة توريث الخنثى وقصيدة الأصمعي.(1/1)
فعله فقال لهم: إن حاله يصدقه قدمت قومه فوجدتهم يسمونه " الصادق الأمين" فقلت: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، ومن كان أميناً في الأرض فهو أمين في السماء، فعجبوا من قوله وتركوه.
وخلاصة القول:
" الإيمان هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان "
ثالثاً: صبا النبي صلى الله عليه وسلم :
1. المولد :
ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين من عام الفيل في الثاني عشر من ربيع الأول.(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوم ولادته يوم الاثنين حيث قال لما سأله الأعرابي عن صوم يوم الاثنين ؟ : " ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه" وكان ذلك في عام الفيل ـ 570م ـ حيث زاد الله بيته تشريفاً ومكانة ورد حسد النصارى وحقدهم على مكة وعلى العرب في نحورهم ، وضحى أهل الفداء من ملوك حمير والنفيل ين حبيب دفاعاً عن المقدسات فذلك فعل الغرائز، وبالت العرب على قبر أبي رغال عميل أبرهة وجاسوسه وكان التقرير الواضح من عبد المطلب ( سنخلي بينك وبين البيت ) فكان حفظ البيت آية من آيات قدرة الله وأثراً من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه، ولاح آت لعبد المطلب وهو نائم بالحجر يرشده لموطن زمزم ليبقى ماءها لما شرب له، وحفظ الله نبيه من السبي وحفظ قومه أئمة ديانين وقادة متبوعين وصار أصحاب الفيل مثلاُ في الغابرين.
2. هيأ الله آيات للدلالة على مولده قال صلى الله عليه وسلم :" أنا دعوة أبي إبراهيم ـ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ـ وبشرى عيسى ـ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ـ عليهما السلام ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام واسترضعت في بني سعد بن بكر فبينا أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى انقياه رداه كما كان ثم قال أحدهما لصاحبه : زنه بعشرة من أمته . فوزنني بعشرة فوزنتهم ثم قال : زنه بمائة من أمته . فوزنني بمائة فوزنتهم ثم قال : زنه بألف من أمته فوزنني بألف فوزنتهم فقال : دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم"(2) قال ابن كثير : ( وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1) كل 365 سنة يأتي يوم الاثنين موافقاًَ لـ 12 من ربيع الأول.
(2) وأما شق الصدر الثاني فكان ليلة الإسراء .
3. معقلاً للإسلام وأهله وبها ينزل عيسى بن مريم بدمشق وفي الحديث الصحيح: " إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام"
وقال حسان بن ثابت والله إني لغلام يفعهٌ ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما سمعت إذ سمعت يهودياً يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب يا معشر يهود حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ما لك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به ، وقال عمرو بن نفيل: قال لي حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبي خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه.
2. الرضاع :
وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، ثم حليمة السعدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. ثبت إرضاع ثويبة مولاة أبي لهب للنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أم حبيبة قالت: إنا نحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة قال: " بنت أم سلمة" قلت: نعم ، قال: " إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة"، كما ثبت استرضاعه في بني سعد بقوله صلى الله عليه وسلم: " واسترضعت في بني سعد بن بكر" واختار الله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض لأنها لم تجد غيره فكان خيار الله لها أبرك وأفضل، وصاحبت فصاحة البادية كنف الطبيعة فاستمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجوها الطلق وشعاعها المرسل فنمى عوده وانطلقت أفكاره فكان الحكم لمتخاصمي البيت وكان المتحنث الليالي ذوات العدد.
3. بركة النبوة :
وقد فاضت الأرزاق عليها بحلول النبي صلى الله عليه وسلم ديارها بعد فاقة احتوشتها، فعادت شارفها حافلاً بعد جفاف وانقطاع ، در صدرها حتى أشبع الرضيعان وارتويا.
ووقع شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم في ديار حليمة علامة على طريق الإيمان تعين الناس على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. ظهرت بركة النبي صلى الله عليه وسلم علىالسيدة حليمة في كل شيء في إدرار ثديها وغزارة حليبها وقد كان لا يكفي ولدها وظهرت بركته في سكون الطفل ولدها وقد كان كثير البكاء وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدر شيئا وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يعهد ، كانت هذه البركان من أبرز مظاهر إكرام الله له مما حذا بأهل بيت حليمة السعدية أن يحبوا هذا الطفل ويحسنوا معاملته وحضانته فكانوا أرحم به من أولادهم، وإذا كانت بركة النبي صلى الله عليه وسلم قد حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير فقد عادت على هوازن بكمالهم فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم وذلك بعد فتح مكة بشهر فتوسلوا إليه برضاعه فأعتقهم تحنن عليهم وأحسن إليهم
امنن علينا رسول الله في دعة ... ... ... ... فإنك المرء نرجوه وننتظر
أمنن علىنسوة قد كنت ترضعها ... ... ... ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... ... ... ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر ...
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... ... ... ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
فأطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثيراً.
وهذه البركة كان جده يعرفها فعندما استسقى لقومه أخد بيد النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل السحاب واغدودق وانفجر له الوادي وفي ذلك يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ... ... ... ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
4. قصة الإيمان وحكايته الندية :
ووقع شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم في ديار حليمة علامة على طريق الإيمان تعين الناس على تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. ثبتت حادثة الصدر بالأحاديث الصحاح ومما أفادته رواياتها [... فاستخرج القلب واستخرج معه علقة سوداء فقال: هذا حظ الشيطان ... ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم على قلبي بخاتم النبوة ثم قال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة فإذا أنا أنظر إلى الألف فوق أشفق أن يخر علي بعضهم فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم ...وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمداً قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون ، قال أنس: وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره] ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثما ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك في قريش.
رابعاً: وفاة أمه صلى الله عليه وسلم :
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب وكانت وفاتها بالأبواء بين مكة والمدينة كانت قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، ولم يكن يتمه كسائر اليتم فلم يقهره وما أشعره بالذل ساعة فكان قدوة للناس وفي الناس الأيتام والضعفاء وكان النص النبوي العظيم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. لقد أحس النبي صلى الله عليه وسلم بمرارة اليتم ذكرى بالنسبة للأب لكن عانى ذلك بالنسبة لأمه ثم جده، وبذلك أحس واقعاً لا حديثاً بآلام اليتامى وأنين المعذبين فكان أباً لكل يتيم وكانت كلماته " أنا وكافل اليتم في الجنة هكذا" وقد اختار الله لنبيه هذه النشأة حتى لا يكون للمبطلين سبيل إلى إدخال الريبة في القلوب وإيهام الناس بأن محمداً إنما رضع لبان دعوته ورسالته من أبيه وجده، ولم لا وإن جده عبد المطلب كان صدراً في قومه فلقد كانت إليه الرفادة والسقاية.
لقد شاء الله لعبده وأحب اليتم والفقر ليكون على يديه فيما بعد هداية الإنسانية وشفائها من آلامها المادية كاليتم والفقر والمعنوية التي تتمثل بالضلال والتيه ولهذا كان التوجيه الرباني على ضوء عطائه له " (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) والدعاة الذين لم يعانوا من هذه الآلام والهموم والمحن غير قادرين على فهمها والإحساس فيها بله معالجتها عندما يملكون ناصية المعالجة.
خامساً: رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم :
قال صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم" فقال أصحابه وأنت؟ قال: نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة". فكانت رعاية الغنم قبل النبوة تمرناً لما سيكلف به من القيام من أمر أمته من حلم وشفقة لأنه إن صبر على رعي الغنم وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألف من ذلك الصبر على الأمة، وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعد أن أعلم كونه أكرم الخلق من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنه عليه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. قال صلى الله عليه وسلم : " السكينة في أهل الشاء" ، قال تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، ومن رحمته أنه ما آنس من نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكسب ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤونة الإنفاق عن عمه، وربا كانت الفائدة التي يجنيها من وراء عمله غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبي طالب ولكنه تعبير أخلاقي رفيع عن الشكر وبذل للوسع وشهامة في الطبع وبر في المعامة.
2. عمله في رعي الغنم على قراريط لأهل مكة مع أنه أجر زهيد هي دعوة كريمة لكل شاب مسلم وداعية أن يعمل جهده ويكسب من عرق جبينه فالعمل شرف ولا يضر نوع العمل ولو كان عند الناس وضيعا لكنه عظيم عند الله عزو وجل ( ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده) (لا يفتح الإنسان على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر يأخذ الرجل حبله فيعمد إلى الجبل فيحتطب على ظهره فيأكل به خير له من أن يسأل الناس معطى أو ممنوعا ذلك بأن اليد العليا أفضل من اليد السفلى)، وقد سار السلف الصالح من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم على نفس النهج النبوي في السعي في طلب الرزق قال عمر " أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألهاني الصفق بالأسواق"، وقال قتادة : " كان القوم تبايعون ويتجرون ولكنه إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله) ، وتقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم".
3. لا شك أن العمل الحر بالنسبة للداعية أعون له على دعوته وأقوم له على أن يقول الحق ويصدع فيه وكم من الناس يطأطئون للطغاة ويسكتون على باطلهم خوفاً على وظائفهم إنهم يبيعون دينهم بدنياهم.
سادساً: حفظ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم :
من اللطيف أن الله سبحانه قد حمى نبيه في صغره من أن يقع في الخطايا والآثام التي كان الشباب يقترفها حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدرك قيمة هذا بعد مبعثه ويشير إلى هذه العناية الربانية بقوله صلى الله عليه وسلم " ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله منهما، فوالله ما هممت بعدهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. أ ـ في مسند الإمام أحمد حديث جار لخديجة أنه سمع النبي يقول: أي خديجة والله لا أعبد اللات والعزى قال: وكان صنمهم التي كانوا يعبدون وكان لا يأكل ما ذبح على النصب ووافقه في ذلك زيد بن عمرو بن نفيل".
ب ـ وفي الصحيحين : لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل الحجارة فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال: "إزاري" فشد عليه إزاره.
ج ـ أخرج البيهقي بسند حسن عن زيد بن حارثة : كان صنم من نحاس ـ يقال له إساف ونائلة ـ يتمسح به المشركون إذا طافوا فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمسه" قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال: "ألم تنه" قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه.
د ـ أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان يقف مع الناس بـ(عرفات)، عن جبير بن مطعم قال: أضللت بعيراً لي بعرنة فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف فقلت: إن هذا من (الحمس) ما شأنه ها هنا؟!.
وهذا درس لكل داعية أن يكون على منهج الله في سلوكه وعمله ولو كلفته الاستقامة على هذا النهج العنت من الناس واللوم والإعراض منهم والأذى والتشهير كذلك، فلا عذر للداعية في مجاراة قومه في منكر عاداتهم وضلال سلوكهم وانحراف عقيدتهم. وما لم يكن الداعية قواماً على الحق في قومه فلن يستطيع أن يقودهم إلى النور، ويخرجهم من الظلمات، والتميز والمفاصلة في السلوك والموقف والعقيدة أمر أساسي بالنسبة للدعاة إلى الله، إن التساهل من الدعاة في هذه الجوانب هو الذي مكن من التساهل في استعمال التلفاز في كل بيت وهو الذي يحوي الغث والثمين، والمعازف فيه تكاد تملأ معظم برامجه وقلما ينجو من إثم هو أو أحد أهل بيته وهو يستمع لها أو يسكت على سماعها.
2. التأكيد على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً بخصائص البشرية كلها فكان يجد في نفسه ما يجد كل الشباب من مختلف الميول الفطرية فكان يحس بمعنى السمر واللهو إلا أن حكمه الله اقتضت عصمته مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعنه كل ما لا يتفق مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها، وهذا شأن أصحاب الدعوات أعلام الناس. قال الفضيل بن عياض: إني لأعصى الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي ، وللشيخ الراشد كلام جميل في رعاية الله لعبده.
الوحدة الثانية
شباب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أولاً: سفر أبي طالب به إلى الشام:
1. وقصة الراهب معروفة في المغازي وما أدري أرك البعثة أم لا، وقد وقع في بعض السير أنه كان من يهود تيماء، وفي مروج الذهب للمسعودي: أنه كان نصرانياً، وسماه الحافظ ابن حجر في الإصابة بحيرا.
2. وفي القرآن الكريم خبر هؤلاء الرهبان وأنهم (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وأن فريقاً منهم لم يكونوا يكتمون، منهم بحيرا الراهب، وعبد الله بن سلام، وبعض من التقاه سلمان الفارسي من الرهبان.
3. ولعل بحيرا ممن اطلع على الكتب السماوية وعلم ما فيها من صفات النبي صلى الله عليه وسلم أو لعله ممن عنى النبي صلى الله عليه وسلم:"قد كان فيمن كان قبلكم من بن إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء" أي يلهمون، قال بحيرا: "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي" فرأى بحيرا ما لم يره غيره وقد ورد في الخبر الصحيح أن الحجارة بمكة كانت تبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من سفره وتجواله مع عمه وبخاصة من أشياخ قريش حيث اطلع على تجارب الآخرين وخبرتهم والاستفادة من آرائهم فهم أصحاب خبرة ودراية وتجربة لم يمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنه تلك قال الغزالي في إحياء علوم الدين: " وإنما سمى السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق:ولذلك قال عمر رضي الله عنه للذي زكى عنده بعض الشهود:هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم أخلاقه:لا،فقال:ما أراك تعرفه وكان بِشرٌ يقول:يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا ساح طاب،وإذا طال مقامه في موضع تغير.وبالجملة فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة،فإذا حملت وعناء السفر وصرفت عن مألوفاتها المعادة وامتحنت بمشاق الغربة انكشفت غوائلها ووقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعلاجها".
2. حذر بحيرا من النصارى، وبين أنهم إذا علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم سيقتلونه وناشد عمه وأشياخ مكة ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه بالصفة يقتلونه، لقد كان الرومان على علم بأن مجئ هذا الرسول سيقضي على نفوذهم الاستعماري في المنطقة ومن ثم فهو العدو الذي سيقضي على مصالح دولة روما، ويعيد هذه المصالح إلى أربابها، وهذا ما يخشاه الرومان ، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على بني حنيفة كان جواب المثنى بن حارثة : إنا نزلنا أنهار كسرى وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك.
ثانثاً: حلف المطيبين ويسمى حلف الفضول :
4. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلف المطيبين مع عمومتي أنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه"وأصل الحلف المعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام، بقوله:" لا حلف في الإسلام" وما كان في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم " وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" .
7. وسبب حلف المطيبين أن قبائل من قريش ـ بنو هاشم ، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة ـ تداعت إلى حلف فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدعان فتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك حلف الفضول، وسمي أيضاً: حلف المطيبين لأنهم جعلوا طيباً في جفنة وغمسوا أيديهم فيه وتحالفوا على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم فسموا المطيبين ... .
8. كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع لرفع الظلم عن أصحابه فما أن علم أن في الحبشة ملكاً عادلاً حتى أمر أصحابه أن يهاجروا إليها، فهل يكون هذا الفعل مشعراً بجواز التحالفات في العصر الحاضر، حتى مع من هو مخالف في الدين والعقيدة، إذا كان أميناً على الإسلام وأهله، ولا يكاد يخلوا الزمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب، روى ابن إسحاق ـ بسند جيد ـ أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ والوليد يومئذ أمير المدينة أمره عمه معاوية بن أبي سفيان ـ منازعة في مال كان بينهما فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفنني من حقي أو لأخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال: فقال عبد الله بن الزبير ـ وهو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال ـ : وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعاً. قال: وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك. وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ... ... ... ... ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم
... أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا ... ... ... ... ... فالجار والمعتر فيهم سالم
2. إن العدل قيمة مطلقة وليست نسبية وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين، فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية.
3. كان حلف الفضول واحة في ظلام الجاهلية وفيه دلالة بينة على أن شيوع الفساد في نظام أو مجتمع لا يعني خلوه من أي فضيلة وفي هذا درس عظيم للدعاة في مجتمعاتهم التي لا تحكم الإسلام أو تحاربه بأن لا يقفوا مكتوفي الأيدي ينتظرون التصفية والإبادة لا بد أن يتحركوا تحت أي ستار يصلون من خلاله إلى حمايتهم وحماية دعوتهم وإذا كانت القوانين السائدة والأعراف الحاكمة تهيئ لهم هذه الحماية، وتمنع عنهم هذه التصفية فحري بهم أن يستفيدوا منها، ويدافعوا المجتمع إلى التحرك من خلالها لحماية الدعوة ونصر المستضعفين.(1/2)
4. إن الظلم مرفوض بأي صورة، ولا يشترط الوقوف ضد الظالمين فقط عندما ينالون من الدعاة إلى الله، بل مواجهة الظالمين قائمة، ولو وقع الظلم على أقل الناس وأبعدهم عن الدعوة لأن منع الظلم في كل أشكاله هو الذي يحول دون وصوله إليهم ونحرهم بمديته، ويبقى هذا المبدأ العظيم الخالد هو الذي يحكم الدعاة في كل عصر " ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".
5. على المسلم أن يكون في مجتمعه إيجابياً فاعلاً يفتقده الناس إذا غاب ويصغون له ويطيعونه إذا حضر، يشاركهم في الفضائل ويتنزه عن الجهالات والرذائل ، لا أن يكون رقما من الأرقام على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه.نفقه ذلك من خلال مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه في حرب الفجار، وبناء الكعبة وحلف الفضول والتحكيم في الحجر الأسود، ولو كانت هذه الأمور خطأ لنزه الله نبيه عن ذلك وصرفه عنها.
6. المجتمعون في دار ابن جدعان نخبة قريش ، والقوة والنخبة مطلوبة في الإسلام، ولن يحترم ديننا إلا إذا تفوقنا في دنيانا(1) النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة ، قال: (( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين )) ، فلما أسلم حمزة، وهو من وجهاء قريش ، توقف إيذاء قريش للمسلمين ، ولما أسلم عمر صلى المسلمون في الكعبة ، الذين يحدثون انعطافات كبيرة جداً في المجتمع هم النخبة ، فكما أننا بحاجة إلى عدد كبير من المؤمنين الصادقين الطاهرين فنحن بحاجة أمس إلى نخبة متميزة تتمتع بكفاءات عالية ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ )) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التحق بالمسجد في معهد التحفيظ طالب، وكان في شهادة عامة ، أعتقد في المتوسطة ، وكان أبوه ينهاه عن الانضمام للمسجد نهياً لا حدود له ، كان يعنفه ، وكان يزجره ، وأحياناً يضربه ، فإذا بهذا الشاب نجح بتفوق على دمشق بأكملها ، فأمره أبوه أن يأخذ معه أخاه إلى المسجد
ثالثاً: تجارته بمال خديجة رضي الله عنها وزواجه منها:
خديجة بنت خويلد أقرب نساء النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم فلما بلغها عن رسول الله ما بلغ من صدق حديث وعظيم أمانة وكرم أخلاق عرضت عليه الخروج في تجارتها فخرج وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظا في التجارة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر خديجة وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، ويقول: أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري .. فلم تزل به حتى رضي، وهي أول من تزوجها، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده، وكانت قبله عند عتيق المخزومي، وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة وصدقت النبي في أول وهلة قال صلى الله عليه وسلم: " خير نسائها خديجة" وبشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب، بيتٌ لأنه لم يكن بيت إسلام على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي إلا بيتها، وقصبٌ: لأنها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، كم هي حاجة المؤمن للمرأة المؤمنة الصالحة تواسيه وتقف بجواره وتؤازره وتمنع عنه الأذى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتها يكثر ذكرها إنه الوفاء للمرأة الداعية المجاهدة المؤمنة التقية، لا يعيبها أن تذكر حتى في مجامع الرجال وحضرتهم، تذكر بالفضل والخير والسبق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. إن الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح، والتجارة مورد من موارد الرزق تدرب النبي صلى الله عليه وسلم على فنونها قبل البعثة، وبين في الإسلام أجر الصادق الأمين فيها فقال صلى الله عليه وسلم : " التاجر الأمين الصدوق المسلم : مع [ النبيين والصديقين و ] الشهداء يوم القيامة"، والتجارة بغير هاتين الصفتين وبال على صاحبها لقوله صلى الله عليه وسلم: " إن التجار هم الفجار . قيل : يا رسول الله ! أو ليس قد أحل الله البيع ؟ قال : بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون ]"، وعلى الدعاة أن يدخلوا غمار الأسواق ساعين لأسلمتها ونشر روح الإسلام بين أهلها تطبيقاً وتنزيلاً على معاملاتها فهي باب من الأبواب التي ينبغي أن يطرقها الدعاة ويضربوا فيها بنصيب.
2. أ ـ الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، قال الشيخ محمد الغزالي: وخديجة مثل طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوباً شديدة الحساسية ويلقون غبناً بالغاً من الواقع الذي يريدون تغييره ويقاسون جهاداً كبيراً في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والمواساة، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أثر كريم.
ب ـ أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري: إنها الجاهلية تقيس الناس بالمال والجاه فيعز لديها صاحب الكنز والجاه ويضعف عندها الصالح المؤمن الكريم، أما في عرف الدين : " إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه " وعن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندنا يتيمة وقد خطبها رجل معدم ورجل موسر وهي تهوى المعدم ونحن نهوى الموسر فقال صلى الله عليه وسلم [ لم ير للمتحابين مثل النكاح ] وقال صلى الله عليه وسلم : " إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها". قال عروة : وأنا أقول من عندي : من أول شؤمها أن يكثر صداقها ".
ج ـ فلم تزل به حتى رضي: إنه درس لكل امرأة مسلمة داعية، أن تعرف من تختار ليكون زوجاً لها، وعلى من توافق ليكون شريك حياتها، ولا ينقص من شأنها أن تسعى لذلك، ولا يخرم مروءتها أن تهيئ السبل لذلك وألا يكون المال أو المنصب أو الجاه أو الجمال فقط هي القيم التي تنطلق منها المرأة المسلمة، إنه الدين أولاً ، والخلق ثانياً، ولو كان ذا فقر مدقع أو غرم مفظع، لقد أدركت أم المؤمنين خديجة على جاهليتها قيمة الخلق والشرف والنبل وأن وزنها أعظم من المال الوفير والجاه العريض فهل يدرك إخواننا وأخواتنا هذه المعاني التي أدركها الجاهليون قبل الإسلام وينطلقون في زواجهم من هذه الأحكام؟!
3. نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق ألم فقد الأبناء كما ذاق من قبل ألم فقد الأبوين وقد شاء الله أن لا يعيش له صلى الله عليه وسلم أحد من الذكور حتى لا يكون مدعاة لافتتان الناس بهم وادعائهم لهم النبوة فأعطاه الذكور تكميلاً لفطرته البشرية وقضاء لحاجات النفس الإنسانية ولئلا ينتقص النبي في كمال رجولته شانئ أو يتقول عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر ليكون ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقون ثم يموتون كما أنه لون من ألوان الابتلاء وفي الحديث: " الناس أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة" وقال صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيرا يصب منه ".
4. في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة رد على من صوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل الغارق في لذاته وشهواته، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية عفيف النفس دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله، كما أنه تزوج من امرأة ثيب لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله، وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل ، إلى أن تجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في سن الشيوخ، وقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاماً وقد ناهز النبي صلى الله عليه وسلم الخمسين من العمر ، وكان الوفاء بعد الوفاة كان إذا ذبح الشاة يقول: " أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة".
5. الحب وموقف النبي صلى الله عليه وسلم منه:
أ ـ النبي الحبيب : عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة". فأغضبته يوماً فقلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول [إني رزقت حبها] ". وعن عمرو بن العاص قال: قلت يا رسول الله: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قال: إنما أعني من الرجال، قال: أبوها" . فنسبه إليها لشده حبه لها.
ب ـ النبي الشافع: عن ابن عباس قال : لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته فكلم العباس ليكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة إنه زوجك فقالت تأمرني به يا رسول الله قال إنما أنا شافع قال فخيرها فاختارت نفسها وكان عبدا لآل المغيرة يقال له مغيث.
ج ـ النبي ودواعي الحب: * " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه .. وكان إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث" ** "وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب قال: تشتهين تنظرين فقلت: نعم فأقامني وراءه خدي على خده".*** ويدعو بالشراب فآخذه فأشرب منه ثم أضعه فيأخذه فيشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح *** ظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي.
رابعاً: تجديد قريش بناء الكعبة :
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين)، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام إبراهيم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ثم بنيت بعد ذلك في زمان الجاهلية قبل مبعثه بخمس عشرة سنة فجعل ينقل معهم الحجارة للكعبةثم بنيت بعد ذلك في زمان الجاهلية قبل مبعثه بخمس عشرة سنة فجعل ينقل معهم الحجارة للكعبة ثم ترآءى الحجر فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فأخذوا بنواحيه فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال :"هل تدريبن لم كان قومك رفعوا بابها" قالت : لا،قال: " تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا" " لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفاً" " فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريباً من سبعة أذرع" فما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية اعتمد ابن الزبير في بناءه حديث عائشة فزاد فيه الحجر حتى أبدى أساً نظر الناس إليه فبنى عليه البناء وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل ابن الزبير كتب عبد الملك للحجاج:" إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء أما ما زاد في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه" وكان عبد الملك يقول:" وددت أني تركته وما تحمل".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. حتى إذا ارتفع البناء جاء إسماعيل بهذا الحجر فوضعه لأبيه فقام عليه وهو يبني (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فكان الطواف. قال النووي: ينبغي ألا يغير هذا البناء وذكر أن هارون الرشيد سأل مالك بن أ نس عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث المذكورة؟ فقال مالك: " ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل البيت لعبة للملوك لا يشار أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس".
2. السياسة العمياء: تعمي وتصم وتفسد الدين والإيمان وتدنس الأطراف والذيول إلا من يعصم الله ويحفظ "إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء" يقول: " وددت أني تركته وما تحمل" وهل ينفع الندم!
3. " لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم" إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بينهما بدئ بالأهم، هذا فقه الرسول الداعية أن يعتبر المصلحة في العمل الذي يريد، إن بناء الكعبة على قواعد إبراهيم أمنية نبوية، يمنعها الخوف من فتنة الناس، فتنة الناس والنبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فهذا يؤكد أن على المسلم أن يترك حقاً كثيراً، لئلا ينسب إلى الفتنة وإن كان محقاً.
4. الخلق الكريم الذي حبا الله به نبيه، حتى أصبح محط أنظار مجتمعه، وصار مضرب المثل فيهم، حتى لقبوه بالصادق الأمين، هذا الخلق هو الذي مكن النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاف حرب مدمرة في قومه من خلال التحكيم، فقد اغتبط الجميع أن كان الداخل الصادق الأمين وأعلنوا رضاهم بحكمه قبل أن يصدر حكمه لثقتهم بنزاهته، وتجرده وموضوعيته، فلا بد للداعية في مجتمعه أن يكون إيجابياً فاعلاُ، يفتقده الناس إذا غاب، ويصغون له ويطيعونه إذا حضر، لا أن يكون رقماً على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه، وحين يكون صاحب الكلمة الفصل فيهم عن حب وإعجاب واحترام، يكون قادراً على أن يوظف هذا الجاه كله لخدمة دعوته ولنشر الإسلام في صفوف عشيرته وقومه، ويكون قد هيأ الأرض الخصبة للبذرة الصالحة التي يغرسها فتنمو وتترعرع،ثم تزهر وتثمر وتعطي أحسن الجني وأطيب الثمار.
5. يستوقف المسلم قول أبي وهب بن عمرو بن مخزوم: ( لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس) فقد كان الجاهليون يدركون في حسهم مفهوم الحلال والحرام، وحين يقدمون على أمثال هذه المعاملات يعلمون أنهم يقدمون على إثم أو على شيء خبيث، وما يدعيه اليوم دعاة الجاهلية الحديثة من تبرير للزنا وأنه لا علاقة للآخرين به إن تم برضا الطرفين، ويشرعون القوانين في تحليله، وما يدعونه في تبرير الربا وأنه حق مكتسب للمال ويشرعون القوانين لإحلاله .. ليس هذا الادعاء أو هذا التشريع قناعة قائمة في النفس، بمقدار ما هو تغطية وتبرير لظلم يعرفون في أعماقهم حرمته : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).
6. لم يكن بإمكان قريش، كل قريش أن تبني البيت العتيق على ما بناه إبراهيم وإسماعيل من قبل آلاف السنين، وهما رجلان وحيدان، لم تكن تمتلك المال ولا الحرفة التي تقوم ببناء الكعبة، حتى جاءت بالرجل النجار الرومي، كذلك كنا، ثم تغيرت الدنيا، وبنينا البصرة والكوفة والقاهرة والقيروان وبغداد وتطوان، بهرت روائع حضارتنا كل الناس، في الهندسة والصيدلة في التحقيق والتوثيق ، في الإحصاء والرياضيات، تركب نساؤنا البحر كالملوك على الأسرة، وينادي فارسنا بحر الظلمات أن لو علمت وراءك أرضاً لغزوتك ، تركنا في كل رقعة أثراُ كريماً يقول: نحن المسلمون.
7. حين تضيق الدروب بالجاهلية، وتقف الحية في طريقها لبناء الكعبة، تضرع الجاهلية إلى الله وتقول:" رب لا ترع، أردنا تشريف بيتك" إنها الجاهلية هي هي، لم تتغير ولم تبدلها الأيام، فترى الجاهلية المعاصرة التي تقتل وتبيد، وتسجن وتظلم، وتتبع السبل الشائكة، وتحارب دين الله ودعاة الإسلام، هذه الجاهلية المعاصرة لها : أوقاف، وصلاة جمعة متلفزة، وعلماء ومفتون، وهيئات دينية، ومدارس ومعاهد دين على طريقة السلطان ونهجه، أما رأيت أبا جهل وهو يقول: " اللهم أقطعنا الرحم وآتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة" فأبو جهل يدعو الله ويناجيه " اللهم اللهم" والجاهلية تعمر بيت الله وتبنه.
8. ابتدعت قريش تسميتها بالحُمس وهو الشدة في الدين والصلابة فلم يخرجوا من الحرم ليلة عرفات وكانوا يقولون: نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله، فكانوا لا يقفون بعرفات ـ مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم عليه السلام ـ حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة، وكانوا يمنعون الحجيج والعمار ـ ما داموا محرمين ـ أن يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس طاف عرياناً ولو كانت امرأة ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أوكله ... ... ... ... ... ... ... وما بدا منه فلا أحله
فجاء الإسلام وأنزل القرآن رداً عليهم فيما ابتدعوه، فقال: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) ، (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، فواجب الداعية أن يحيي ما أماته الناس من السنن وأن يحارب البدع بحيث لا تؤدي إلى مثلها أو أكبر منها.
الوحدة الثالثة
البعثة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام
أولاً: إرهاصات الوحي والنبوة :
( معنى الإرهاص ـ أنواع الإرهاصات التي وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الوحي ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك، فبدئ بأول خصال النبوة الرؤيا الصادقة وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر والشجر عليه.قلت: وفيه الندب إلى تهيئة من نزلت به نازلة أو وقع له خير جم خشية أن يفجأه الخبر.
ثانياً: اختلاء النبي في غار حراء ونزول جبريل بالوحي عليه :
( الخلوة في غار حراء ـ الرجوع إلى خديجة خائفاً ـ عند ورقة بن نوفل ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1. "حبب إليه الخلاء" عبرت عائشة بالبناء للمجهول لعدم تحقق الباعث على ذلك أو لينبه أنه لم يكن من باعث البشر وقد ورد في الحديث " حتى فجئه الحق بغتة" ،وفيه رد على الذين يتقولون على النبي صلى الله عليه وسلم من أنه (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ )، فوجئ النبي بجبريل أمامه يراه بعينيه ليتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمراً داخلياً مرده حديث النفس المجرد بل حقائق خارجية لا علاقة لها بالنفس داخل الذات، وداخله الخوف والرعب مما سمع ورأى ليتضح لكل مفكر عاقل أن ظاهرة الوحي فوجئ بها دون توقع سابق وهذا ليس شأن من يتدرج في التأمل والتفكير وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامة المفكرين والمتأملين حالات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة، وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغير اللون من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، ثم إن انقطاع الوحي مدة طويلة واستبداد القلق برسول الله من أجل ذلك تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاماً نفسياً ضرباً من الجنون إذ أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال، وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك يسألون: فلماذا كان ينزل عليه الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟ والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار إذ أن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحد معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوماً إذا ابتعد عن البصر بعداً يمنع من رؤيته، على أنه من اليسير على الله وهو الخالق لهذه العيون أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى، ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون، ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي:
أ ـ التمييز الواضح بين القرآن والحديث إذ كان يأمر بتسجيل الأول فوراً على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
ب ـ كان النبي يسأل عن بعض الأمور فلا يجيب عليها، وربما يمر على سكوته زمن طويل حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله، وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزل الآيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.
ج ـ كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً وليس من الممكن أن يعلم الإنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية كقصة يوسف.. وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم.. وقصة فرعون.
2. الخلوة شأن الصالحين وعباد الله العارفين والسر في الخلاء أن للنفس آفات لا يقطع شرتها إلا دواء العزلة عن الناس ومحاسبتها في نجوة من ضجيج الدنيا ومظاهرها ، فالكبر والعجب والحسد والرياء وحب الدنيا كل ذلك آفات من شأنها أن تتحكم في النفس وتتغلغل إلى أعماق القلب وتعمل عملها التهديمي في باطن الإنسان على الرغم مما قد يتحلى به ظاهره من الأعمال الصالحة والعبادات المبرورة، ورغم ما قد ينشغل به من القيام بشؤون الدعوة والإرشاد وموعظة الناس. وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم من " ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" من السبع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وكان يعتكف في رمضان يضرب له خباء يختلي بنفسه فيه، والاعتكاف سنة تخلي العبد إلى ربه فيفرغ القلب من الدنيا ويتعلق بالله تعالى ويأنس بالآخرة. إنها خلوة بل وقفة على الطريق ولفتة إلى الوراء لنراجع الرصيد ونفتش السلوك ونمحص الرأي ، ونهذب القلب، وننقي الضمير، لنتابع المسير بعد ذلك على الطريق على بينة وهدى.(1/3)
3. هذه الآيات الكريمات التي أنزلها الله على قلب نبيه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم) لتدل دلالة واضحة على عظمة دور العلم في حياة البشرية، العلم من لدن الحكيم الخبير والذي يعتمد على القراءة والكتابة بالقلم أسلوباً رئيسياً له. هذا العلم الذي قصره الكثيرين على العلم البشري القاصر بينما أوضح القرآن المقصود الأساسي منه ألا وهو الوحي (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)، (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)، (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) لكن عندما يذكر غير الوحي تأتي كلمة العلم نكرة – علم- لأنها تمثل جانباً من الحقيقة أما الحق الثابت في هذا الوجود هو الوحي فقط (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) . قال الغزالي في الإحياء: " العلم: وقد كان يطلق ذلك على العلم بالله تعالى وبآياته وبأفعاله في عباده وخلقه، حتى أنه لما مات عمر رضي الله عنه قال ابن مسعود رحمه الله، لقد مات تسعة أعشار العلم فعرفه بالألف واللام ثم فسره العلم بالله سبحانه وتعالى".
4. مدرسة حراء : غار حراء بما فيه من خلوة وعبادة وابتعاد عن ضجيج الحياة يمثل مرحلة من مراحل الدعوة، تلجأ له الدعوة المباركة، في الأعصر الحاضرة، راغبة أو راهبة، فتخلو لنفسها، تناقش أمرها، وتلم شعثها، وتعد خططها، أو تمكث فيه ريثما تزول آلة القتل والبطش، والقمع والسحق، ويظل حراء مدرسة تربوية لا يصلح أن تغلق أبوابها، لتبعث في الأمة روحاً وثابة، وهمة عالية.
5. الزوجة في عرف هذا الدين: لا شك أن موقف خديجة رضي الله عنها هو من أعظم المواقف التي شهدها تاريخ الأمة المسلمة، فكانت كما قال ابن هشام: ( آمنت به، وصدقت بما جاءه به،ووازرته في أمره، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رحمها الله تعالى). إنه درس للمرأة المسلمة الداعية، أن تكون دعوة الله ورسوله هي التي تملأ عليها كيانها، وحياتها، ووجودها، أما أسوتها خديجة، وأن تجعل حياتها ومالها وجاهها في سبيل الله، تحمل الراية بجوار زوجها الداعية، وتكون عوناً له لا عبئاً عليه، تخفف عنه آلامه وهمومه، لا تثبطه وتوهنه وتجره أن يثاقل إلى الأرض. ودرس للرجل المسلم الداعية، أن يعرف لزوجه فضلها ومحنتها في جواره، وصبرها على متاعبه، وأن يتمثل عظمة الوفاء النبوي في وصل صديقات خديجة بعد وفاتها، وفي هشه وبشه لاستئذان هالة أخت خديجة.
6. اقرأ باسم ربك: وكيف يقرأ؟ وما هو بقارئ؟ كيف ولا سبيل؟ لكن جبريل ييسر الأمر ويذلله ويقول له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، فإنك لا تقرؤه بقوتك، ولا بمعرفتك لكن بحول ربك وإعانته، اقرأ باسم ربك حتى تكون البداية باسم الله، فتمضي المسيرة الخالدة باسمه تعالى، وتصحبها كلمة الله، فلا تزال في رعايته وحفظه.
7. ليل العابدين: يتحنث النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الليالي ذوات العدد فالليل ليل الذاكرين وبكاء التائبين، وقد أثمر الليل ومدرسته (فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، بقي هذا دأبه صلى الله عليه وسلم فكان يقوم يصلي حتى تتورم قدماه لأنه دأب الصالحين قبلكم، وبقي ترك القيام وصمة وسبة " يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)
8. خوف النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل: والخوف أمر جبلي يصيب الناس كل الناس، فهذا نبي الله موسى يقول (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)، وفي خبر غلام أصحاب الأخدود قول الراهب : "فإن ابتليت فلا تدل علي" لكنه الخوف الذي لا يقعد صاحبه عن مصاولة الباطل ومجاولته، إنه خوف جبلي فطري، يعين الله عليه ويذهبه (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
9. حسن تصرف أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: انطلقت به حتى أتت ورقة بن نوفل وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني وكان شيخاً كبيرا، هي والله صفات المستشار المؤتمن:
أ ـ كاتب، في وقت يعز فيه القرطاس والقلم، في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب.
ب ـ صاحب دين في زمان الجاهلية.
ج ـ محنك مجرب، فقد كان شيخاً كبيراً
إنها خديجة ذات الرأي السديد، والنصح الرشيد، والفكر الثاقب، تعلم الناس كيف يكون من تبتغى عنده المشورة.
10. بين يدي ورقة:
أ ـ يا ابن عم اسمع من ابن أخيك : ذلك من أدبها رضي الله عنها، وهو إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه، من يعرف بقدره، ممن يكون أقرب منه إلى المسئول، قلت : وفيه التقديم بين يدي الله في الدعاء فليس أحد أحب المدح إليه من الله.
ب ـ يا ابن أخي ماذا ترى : بحنان أبوي بلا ترفع ولا تكبر،على دأب العلماء الكاتبين، ترقيقاً لقلبه، وإيناساً لنفسه، وإزالة لوحشته، وتهديئاً لروعه.
ج ـ هذا الناموس الذي نزل على موسى : فلست بدعاً من الرسل إنه منهاج النبوة والأنبياء إنه طريق الذين قال الله فيهم (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) إنك في طريق موسى المنتصر، موسى الذي هزم فرعون وأغرقه في البحر، وجعله أحاديث.
د ـ يا ليتني فيها جذعا: وإنما كان جنده صلى الله عليه وسلم شباب المهاجرين والأنصار وهم عدة المرسلين.
هـ ـ ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك: جواب عظيم من ورقة بن نوفل وهو يحدد خط سير الدعوة، فبمقدار عظمة التكريم بالنبوة، والبشارة بالنصر على طريق موسى، بمقدار الثمن الباهظ الذي يدفعه ثمناً لذلك، فلن يقبل الناس أفواجاً على هذا الدين حتى يكذب الصادق الأمين ، ولا يكتفى بتكذيبه، بل سيؤذى فوق ذلك ويخرج من أحب أرض الله إليه، إنه خط ثابت لأصحاب الدعوات لا مناص منه فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على الصبر على مشاق الطريق وتحمل تبعاته وأن يعلم أن هذا الدين وإن كان يمثل الفطرة السوية للبشر، لكنه يتعارض مع أهوائهم ومصالحهم وطغيانهم، ولن يدع الطغاة للدعاة الطريق مفروشاً بالرياحين ، بل يملؤونه بالدماء والأشلاء والآلام، ومهمة الداعية أن يقتلع هذه الأشواك، ويواجه المحن مهما اكتظت، والخطوب مهما ادلهمت، لأنه وضع نفسه على خطا النبيين، ولا بد أن يكون على مستوى المسئولية:
وإن كانت النفوس كباراً ... ... ... ... ... ... تعبت في مرادها الأجسام
... و ـ أومخرجي هم: استبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها، لكنها الجاهلية التي تلاحق العباد في كل واد، وتخرج الناس من دورها، ومرابع صباها، في تظاهرة فاجرة تهتف: (أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ !!).
ز ـ لورقة بن نوفل رضي الله عنه بشارة نبوية إذ الجزاء من جنس العمل فالذي بشر البشارة الأولى ورجا الله تعالى أن يكون فيها جذعاً لم يحرمه الله أجر تلك الوقفة "فإني رأيت له جنة أو جنتين" .
ثالثاً: بداية الدعوة، وأول الناس إسلاماً :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1 ـ لقد أجهد أهل العلم أنفسهم وهم يتابعون أول من أسلم فما بال الأول وما بال الآخر وقد آمن كل وحسن إسلامه؟
(لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) . أولئك منارات هدى وإشارات خير يرى الناس من خلالهم الطريق اللاحب فيمضون على خطى مسبوقة وسكيكة مطروقة قد مهدها الصابرون وسلكها السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فصار نورهم يسعى بين أيدي التابعين وبأيمانهم، فالسابقون الذين كشفوا الدرب وارتادوا، وبكروا تبكيراً، فرفل الناس بما أنتجوا وسطروا، السابقون الأولون وهم القدوات الفاضلة، والنماذج النادرة والمعادن البراقة الثمينة، كانوا مدارس تعلم آداب الدين، فاحترامهم واجب واستشارتهم غنيمة والارتباط بذكرياتهم طمأنينة، ألم تقرأ قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) فتعرف للسابق فضله ثم تمضي على سنة ناهجة فتدعو لكل سابق بفضله وتهتدي بهدي كتاب ربنا (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) متأسيا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم إذ يحفظ للأول مكانته ويسجل البدايات الكريمة ويضبط تاريخ الناس ويعرف لكل سبقه ويغض عن هفوات الكرام
2ـ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر فقالوا لا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين" فما أوذي بعدها. إن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه، فهمها ربيعة الأسلمي رضي الله عنه وقد غاضبه أبو بكر بكلمة، فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ربيعة، وهو المغاضب، فقال بعض الأسلمين لربيعة: يرحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ربيعة: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، وهذا ذو شيبة المسلمين، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة. إن للأوائل فضلاً، ومن كالأوائل؟ فلا أقل من أن ينصفوا عند الخصومة، وتصير ذكرياتهم الندية مجال التقدير والإجلال، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين، وإن زيداً كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حبي، والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي، وكان كعب بن مالك إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة يقول:"لأنه أول من جمع بنا" يعني أقام لهم صلاة الجمعة في المدينة بعد بيعة العقبة الأولى، ويقول عمر لخباب" ادن فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار" فيفسح عمر رضي الله عنه الصدر للصدور الأوائل الذين أسلفوا الصبر والإيمان في المحنة وكانت لهم فيها أيام إنما هي سنوات من سني من بعدهم فلهم الفضل ولا يفوتهم إلا من كان سباقا وإنما الناس منازل ودرجات [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا].
3 ـ كان أكثر الأولين من الضعفاء والمساكين، فصاروا في الناس شامة، تزدان بهم البلاد، وتوقرهم الأمم، وهم عند أنفسهم ضعاف، لهم دموع كالشموع، ورقة كالنسائم، واحتمال للآخرين، لم تعرفه طبائع الخلق.
قال هرقل: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟
فقال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.
قال: هم أتباع الرسل.
والأشراف هنا: أهل النخوة والتكبر منهم، لا كل شريف، وأتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً، كأبي جهل وأشياعه، إلى أن أهلكهم الله تعالى. ولا يعيب الأنبياء أن كان أتباعهم من الضعفاء بادي الرأي كما تزعم الجاهلية لكن يعيبها أن سادتها وكبراءها وملأها كانوا كلما دعوا إلى الله جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكابرا. فأي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ وهل يستوي الأعمى والبصير أو الظلمات والنور؟ لا يستويان مثلا، وهل يعيب الضعف أحداً؟
4 ـ تبقى كلمة سعد رضي الله عنه: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام" تنادي الذين لا يدونون تاريخهم ولا يكتبون أخبارهم بأنه لو كان ورعا ترك الكتابة والتحديث بالفضل لتركه الأكارم، ولتنزه عنه الصحابة. إن الحديث عن النفس صنفان، فصنف يحرم ولا يحل، وهو معروف لكل ذي لب وآخر قد ينزل منزلة المندوب أو أكثر لا سيما إذا كان التاريخ لا يكتب، ومدرسة الزهد تتسع، وأقلام الردة تطمس جهاد المؤمنين.
5 ـ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : "اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك فإذا بلغك ظهورنا فأقبل". نعم، فلسنا أول الماضين في طريق الكتمان، ولا أول من يكتم إيمانه، لكنه لا يكتم إلا عن فرعون وملئه، ولموسى وفرعون قصه، ذكرها القرآن الكريم، فكان للذي يكتم إيمانه حظ الدنيا والآخرة. إن كتمان الحق والإسرار به، لا يكاد يقوى عليه إلا قليلون، لأن الصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر لا يكاد يطيقه أو ذر رضي الله عنه فيقول: "والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم". لكنها السنة الماضية أن يكتم الرجل المؤمن إيمانه من فرعون وملئه، يكتم إيمانه أو يقتلوا من يقول: ربي الله، والقتل لا يخيف عباد الله الصالحين: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل"، " لست أبالي بالحبس، ولا قتلاً بالسيف" لست أبالي، وما أظن أحمد إلا متأسيا بخبيب الأنصاري:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... ... ... ... ... ... ... على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... ... ... ... ... ... ... يبارك على أوصال شلو ممزع
نعم، ولست أبالي، لكن كيف تفعل بقوله:"فإذا بلغك ظهورنا فأقبل"؟ فإن لنا ظهورا يتشوق الكون إليه ويتهيأ له الآفاق وتسعد بطلعته الدنا " يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مليء جنانا" و "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه" و"إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضه فلا يجد أحداً يقبله منه" و "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر". إنه المستقبل لهذا الدين، فهل ترضى الجاهلية بالدنية راغبة وتبدي السمع والطاعة راضية؟ أم أنه الجهاد والشهادة، والكتم على الأمر، والصبر على الشدة، حتى " يخرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف" يكبرون ويهللون ويفتحون ويعفون ويذهب الناس طلقاء، بعد أن كسروا قوس حمزة وتلطخوا بدمه وبقروا بطنه ولاكو كبده وجدعوا أنفه الأشم. إن الإسلام قدر الله الآتي، فلذلك كله كان الكتمان، وكانت الدعوة سراً، لأجل الكون أن يشرق ولأجل الناس أن تسعد، ولأجل الخير أن ينشر، فللعزيز حقه ، وللذليل حقه، حقه الذي أمر الله به فلا يعتدى عليه ولا يظلم (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) الناس على الإطلاق، مؤمنهم وكافرهم. لم يكن الكتمان للتآمر على الناس، ولا لقلب الموازين، ولا للبطش بالشعوب، ونهب أموالهم، وسلب ممتلكاتهم، والاستبداد بحقوقهم، وتزييف إرادتهم، والتسلط على أحرارهم، بالسحق والسجن، والسفك والقتل. كان الكتمان حاجة دعوة، وسياسة نبوة يُعْمِلُها النبي صلى الله عليه وسلم كلما دعت الجاجة إليها من شدة بطش وتعاقب أذى"فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلى وحده وهو خائف" وكان ذلك بعد الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب كتاباً لأمير السرية ويقول له: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم". فالعمل سراً، وكتمان الأمر باب من أبواب السياسة الشرعية يعمل بها كلما دعت الحاجة إليها.
6 ـ للسرية في الدعوة تكاليف أقلها أنك لا تكاد تجد معك إلا القليل لكنه القليل المميز الذي صقلته المحنة وهيأته الشدة، فيكون الناس كلهم في خبط وحيرة غير هذا الذي كان قدره أن يكون أول الغيث والندى، فكيف رأيت أبا بكر في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانخلع قلب عمر، ولم تقله قدماه، وصارت المدينة كما قال أنس: "أظلم منها كل شيء" فكيف كان أبو بكر، أرأيت البدر الساطع والقمر المنير!.
رابعاً: الجهر بالدعوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1 ـ هذه البداية الطبيعية للداعية المسلم " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص" فأحرى به أن يبدأ بآله، زوجه وولده وعشيرته، فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الأقارب من صلى الأرحام " غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها" وسماه أيضا ربأ " يربأ أهله" يحفظهم ويتطلع لهم، كما يفعل الرِّبئة عين القوم وطليعتهم الذي ينظر ويسهر لئلا يدهمهم العدو ولا يكون في الغالب إلا على جبل، أو شرف، أو شيء مرتفع لينظر إلى بعد. وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد انطلق إلى رَضْمة من جبل فصعد على الصفا فعلا أعلاها حجراً يربأ أهله ويبل رحمه بلالها.
2 ـ "فعلا أعلاها حجراً" إنه أعلى المنابر في تلك البلد فأعلى المنابر لدين الله ودعوته ولا يحسن الزهد فيها متعللا بورع أو شبهة، فتترك منابر الصدارة السياسية والاجتماعية ونحوها للفسقة والمردة وأقلام الردة والضلال. إن صعود النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، وارتقاءه أعلاها حجراً فعل يعلم الدعاة أين ينبغي أن يكونوا من الناس؟ فصعوده سنة كونية، حدثنا عنها الراشد، وهو يصف طريقة صناعة الحياة، فيجعل الداعية صاعداً راقيا إذ "دوران بعض الخلق في فلك خلق آخر مصطفى وأقوى منه" سنة المخلوقات، تراها في بناء الكون الواسع، أو أصغر مكوناته الذرة، فكيف ترضى بالدنية فتكون في آخر الصف ويسبقك الأباعد؟
3 ـ ناسب في دعوته صلى الله عليه وسلم عشيرته: "أنقذوا أنفسكم من النار" أن يقول: "غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" وبلالها من البلل وهو الماء الذي يطفيء النار (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ( فكأن تلك الدعوة كانت تنظر إلى الغيب من ستر رقيق، فيرى النبي ملأ قريش ومردتها (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).
4 ـ ينادي النبي صلى الله عليه وسلم القبائل"فعم وخص" حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر: ما هو؟
إنه النداء الجاد واللهفة الحقة "فيهتف: يا صباحاه!" يهتف أرأيت كيف؟ وينادي"اشتروا أنفسكم" ويقيم الحجة عليهم قبل أن يكلمهم فيؤكد لهم، بشهادتهم أنه الصادق فما جربنا عليك إلا صدقا! ويقول:"أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟" "أراد بذلك تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب " وهي طريقة استدلال هرقل على أبي سفيان: "وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله". إنها اللفة في دعوة الناس حتى يهدهده ربه (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فيستعمل كل أنواع النداء، في دعوة حقيقية جادة، يبذل فيها الوسع والطاقةة، يصعد ويهتف وينادي ويقيم الحجة قبل أن يتكلم، ولا يترك أحداً إلا دعاه، فدعا الرجال والنساء حتى أرسل صاحب العذر من يسمع له الخبر. إنها إشارة للذين يريدون أن يقوموا لدعوة الناس، فهذه سكة أبي القاسم وطريقته في دعوة الناس، معالمها الصبر والمجاهدة وبذل العمر كله في مناداة الناس حتى يستجيبوا.
5 ـ ترى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة يستعمل مصطلح القوم فيقول: "يا صباحاه!" و" يهتف: يا صباحاه!". إنها رعاية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وتوفيقه أن يحسن نداء القوم بما ألفوا وعرفوا فإنه قد يقع في التصور لماذا لم يجمعهم النبي على نداء إسلامي آخر؟ ولماذا صعد نفس المنبر الصفا؟فلم يصعد ظهر الكعبة مثلا؟ نعم قد يجري السؤال على الخاطر لكن من يدري ماذا كانت قريش فاعلة لو أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتغيير من اللحظة الأولى. إن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتشوق لإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم وهاهو الآن يستعمل مصطلح القوم: "يا صباحاه!" ليسير المؤمنون على هديه صلى الله عليه وسلم فيصبروا حتى يصعد بلال مكبراً سطح الكعبة، فالساعة آتية ولكنكم تستعجلون.(1/4)
6ـ ترى النبي صلى الله عليه وسلم أيضا يؤكد في اللقاء الأول "يا صفية عمة رسول الله" فهذه سنام الأمر وذروته وعماده!! ولا تغرنك الرغبة في عدم تغيير مصطلح القوم أو صعود منابرهم أن تتناسى للحظة واحدة المعلم الأصيل والفيصل الخطير "رسول الله" فلقد تزدحم الأوهام وتكثر التصورات فينسى الناس ذلك للحظة، لكنها اللحظة الأخيرة، وبعدها الطوفان.
7ـ قال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعنا؟ فنزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ).
نعم، لهذا الأمر يكون الجمع، وهل يجمع لغير هذا، وسل حذيفة رضي الله عنه يجيبك" فجاءنا الله بهذا الخير" فإن يكن الاجتماع على خير فبها، وإلا فعليك بخاصة نفسك. والجاهلية الأولى ووليدتها المعاصرة لا ترى أن هذا الأمر يدعى له أو يجتمع عليه أما أن تجمع الملايين من الناس على لعب الكرة أو القمار أو المسارح فهذا أمر معتبر مستجاب له. إن في الناس اليوم شيئاً واضحاً من أخلاق " ألهذا جمعتنا؟" تراه في عزوف عن نفير وانحراف عن "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وتخلف ممقوت عن صلاة الجماعة، وتقاعد عن نجدة، وتسامر على باطل. وتظل صورى أبي لهب وهي تستخف باجتماع إسلامي مبارك شاخصة تقول: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون، تنتظر أن يقال لها: تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب، هلك عني سلطاني!!.
إن ظاهرة " ألهذا جمعتنا؟" قد اتسع خرقها وبلغ الصالحين من الناس، فصرت ترى لهم انصرافا عجبا نحو الدنيا ومن فيها في كل الميادين.
الوحدة الرابعة
استعلاء الجاهلية
أولاً: تعذيب قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه :
( تعذيب قريش النبي صلى الله عليه وسلم ، تعذيب قريش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ حصار قريش النبي صلى الله عليه وسلم وآل هاشم ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1 ـ (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) قال ابن عباس: فوالله لو دعا ناديه لأخذته زبانية ربه، " وشدد الأمر في حق أبي جهل للتهديد وإرادة وطء العنق الشريف، وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة لو فعل ذلك" فهل تعجل العقوبة لمن كان مثله في الكفر والأذى اليوم؟ احتمال.
2- [أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ] هي قصة أبي بكر رضي الله عنه، الذي ينتصر لله ورسوله فيكون له في آخر اللحظات، كلمات نبوية تبشر به وتعلي شأنه وتذكر موقفه، فقد " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصب رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة". إنه ليس من الناس أحد أمن علي، على الحقيقة التامة بنص النبي صلى الله عليه وسلم واعتراف كرام الصحابة رضي الله عنهم. يقول ابن مسعود "لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأنا أرهب منهم" وذلك لما قامت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم وألقت سلى الجزور "وفرثها ودمها" على ظهر النبي الساجد صلى الله عليه وسلم، لم يكن لابن مسعود طاقة بهم وقد استضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وهو قائم ينظر، وبعضهم ينسب فعل ذلك إلى بعض تهكما ويثب بعضهم على بعض من المرح والبطر وكثرة الضحك. ويخطب علي رضي الله عنه فيقول:"من أشجع الناس؟ قالوا: أنت قال: أما أني ما بارزني أحد إلا أنصفت منه ولكنه أبو بكر لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلقاه ويقولون له: أنت تجعل الآلهة إلها واحداً؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا ويدفع هذا ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً يقول ربي الله؟ ثم بكى علي ثم قال أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون أفضل أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير منه، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا يعلن بإيمانه". فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعلم الناس بعده العزة والجهاد، وكيف تكون الشجاعة؟ وأنها الوقوف في وجه البغاة الطغاة مهما انتفش باطلهم واستعلى، وله رضي الله عنه في هذا سلف، مؤمن آل فرعون رحمه الله تعالى، فإنما هي سنن الصالحين.
3 ـ "فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر" هي عذر للذين لا يقدرون على منافحة الباطل ومدافعته، فمن لم يكن كأبي بكر رضي الله عنه ولم يستطع ما استطاع، فإن له في قول علي رضي الله عنه عزاء وسعة، والناس منازل فمنهم من يأتيه الصريخ إلى داره فيقال له: أدرك صاحبك، ومنهم من دون ذلك، ولكل فضله وجهاده وأجره.
4 ـ نلمح لأبي بكر فقهاً دقيقاً وهو يحاول ألا ينال المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر فيقول:"أتقتلون رجلا يقول ربي الله" فيعمد إلى كلمات لا تزيد اللهب اشتعالاً، فكلمة : ربي الله لا تغاضب الجاهلية، كما لو قال: أتقتلون رجلا يقول: لا إله إلا الله، فإن الجاهلية كانت تقر بالربوبية [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ] لكنها "لإ إله إلا الله" التي كانت تستفزهم،وكانوا يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب!! فعمله رضي الله عنه أصل في المحافظة على الطاقات، وعدم الانجرار للمعارك الجانبية المفتعلة، مع المحافظة على العقيدة والدين.
5ـ "فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم" والدعاء عدة المؤمنين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] وفي رواية "فحمد الله وأثنى عليه" ثم قال وهو مستقبل الكعبة: أما بعد اللهم". إنه "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء" "لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته" فحيث العدو والعجز والقهر، فلا أكرم من الدعاء ولا أندى على نفس المؤمن المجاهد. وكم كانت قريش تتخوف من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال لهم" تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح" "فأخذت القوم كلمة" فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته" وكيف لا يخافون دعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ " لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر".
6 ـ "وخافوا دعوته" فيه:
أ ـ دليل على معرفة الكفار بصدقه صلى الله عليه وسلم لخوفهم من دعائه.
ب ـ تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما ازدادت عند المسلمين إلا تعظيماً.
ج ـ جواز الدعاء على الظالم لكن قال بعضهم: محله ما إذا كان كافراً، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيداً لاحتمال أن يكون اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعى لكل حي بالهداية.
د ـ الدعاء أكرم شيء على الله تعالى، وهو طريق الصبر في سبيل الله، وصدق في اللجأ، وتفويض الأمور إليه، والتوكيل عليه، ودفع الأعداء وطرد عداوتهم وكيدهم وشرهم. وفي قصص الصالحين واستغاثتهم بالله تعالى بدءاً بأنبياء الله ومروراً بالصحابة بينات، تفرق الداعين عن اللاهين، وتبين أثر الدعاء في حاية المؤمن.
7 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد" "لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشي عليه" فكم لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة من أذى!! فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه أذى الجاهلية، وتخيف السياط أحمد، وتخلع يد مالك، ويقطع رأس أحمد بن نصر الخزاعي وهو يتمتم باسم الله، فعلام نستكثر الأذى وننكر أن يصيبنا، فهل نسينا [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ] [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ].
8 ـ "سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا" هذه الجاهلية وهذا سمتها؛ الغمز والأذى وبتر الأقوال وتضخيم الأمور وقلب حقائقها، سفه وشتم وعاب وفرق وسب، فتصير رسالة الإسلام تسفيها وشتما وتعييبا وتفريقا وسبابا، متناسين أنه كلما " مر بهم غمزوه ببعض ما يقول" وأنهم كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون. وهي الجاهلية المعاصرة في كل ما يتصل بالإسلام وجنده تراه في كل ما يصدر عن أجهزتها وأدواتها.
9 ـ قالت قريش: "لو قد رأينا محمداً لقد قمنا إليه قيام رجل واحد" نعم؛ فهكذا تكون الوَحدة، ولهذا الأمر نقوم "قيام رجل واحد" فينطلق وزراء الداخلية للمؤتمر، ويصدرون قرار محاربة الإرهاب؟ ويعلو نباح الإذاعات وفحيحها؛ وتدق بصاطير الأجهزة في الهزيع الأخير من الليل أبواب الذاكرين الله كثيراً والذاكرات: أن افتحوا؛ هيا افتحوا. وتخنق الأنفاس في الأكياس السود القاتمة، وتضرب الوجوه المؤمنة الوضيئة، ويتفل فيها، ويسب الله والقرآن والسنة، ويقتلون حمزة، ويلوكون كبده وينتفون لحيته. وتعمر زنازين بذكر الله، وتتمتم أفواه وشفاه بالتسبيح وبالتهليل، وتغني أمريكا الناطور وتعلفه، وتعزف لحن إسرائيل، ويشربون نخب العجل في أمريكا أو لندن. ويزفر يونس غيظه، ويهمس للكرام الصابرين: لقد رأيت الذين سخروا صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب؛ فإنما هي غيمة صيف عما قريب تنقشع، فصبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
10 ـ تعذيب قريش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بيان للجاهلية في عدوانها وسطوتها على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون: ربنا آمنا؛ بل تجاوزوا المستضعفين فكلما جاءهم رسول استكبروا ففريقا يكذبون ويقتلون فريقا. هي الجاهلية قديما وحديثا، كلمتها: اقتلوه أو حرقوه، اقتلوا الذين آمنوا معه. وتضرب قريش خبابا ضربا شديداً فيترك ندوبا في ظهره إلى أن يلقى الله، يقول عمر لخباب يوما: ادن فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار، فجعل خباب يريه آثار بظهره مما عذبه المشركون وذلك في خلافة عمر فأي عذاب هذا الذي سطوا به على المسلمين؟ حتى بقيت آثاره عشرات السنين؟ إنها الجاهلية. ويبلغ بطش قريش عمرا رضي الله عنه "اجتمع الناس عند داره وقالوا: صبأ عمر فجلس في الداء خائفا إذ جاءه العاص بن وائل السهمي فقال له: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت!! قال لا سبيل إليك، فبعد أن قالها أمنت" حتى عمر رغم ما فيه من الجلد والقوة في أمر الله تخيفة الجاهلية ويجلس في الدار خائفا يترقب يقول: ربي نجني من القوم الظالمين. وتكتشف الجاهلية الإكراه على الكفر فيصبح وسيلتها المحببة لتعذيب الصحابة رضي الله عنهم "فوالله كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله، فيقول: نعم".
12 ـ صار سمت الصالحين وفقههم أن الذي يكره على الكفر ويختار القتل، أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة، وما كان دون الكفر كأن يكره على أكل الخنزير وشرب الخمر مثلا فالفعل أولى. لكن بلالا يتعب من بعده ويأبى إلا أن يقولها "أحد أحد" فلا يعرف للرخصة بابا. "أخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديث وصهروهم في الشمس فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالٌ فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأعطوه الولدان وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد".
"إلا بلالٌ" الباقي رمزاً للأبطال، معلم الناس الحق والبطولة والجهاد.
" إلا بلال" القابض جمر الثبات، يأكل القيد يمينه، يتغذى من شرايين فؤاده، لم يقل يوما: نعم.
"إلا بلال" غزة المؤمن في وجه الردى.
"إلا بلال القائل: أحد أحد" فذهبت تلك الكلمة مثلا .
"أحد أحد" يربى عليه المجاهدون ويدربون.
"أحد أحد" فلا اعتراف بسلطان غير سلطان الواحد الأحد.
"أحد أحد" فلا انحناء أمام هيلمان الجاهلية وطيشها وطغيانها فكله إلى زوال ولكنكم تستعجلون.
11 ـ الابتلاء سنة في الدعوات [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ] و " من يرد الله به خيرا يصب منه" يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها، ويوجه إليه البلاء فيصيبه فإنه "إذا أحب قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع" و "من أعطي فشكر وابتلي فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر أولئك لهم الأمن وهم مهتدون". وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن، لأن الآدمي لا ينفك غالبا من ألم، وفي حديث سعد بن أبي وقاص "قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة" ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم خبابا بأخبار الصالحين من الأمم "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه" يذكره بذلك "تسلية له وتسرية وإشارة إلى الصبر حتى تنقضي المدة المقدورة".
12 ـ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك غير الدعاء والبشارة فيدعو على الكافرين ويبشر الصابرين بالجنة وأكرم بها من بشارة [مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الكَافِرِينَ النَّارُ] قال عثمان رضي الله عنه: ألا أحدثكم عن عمار؟ أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بيدي نتمشى في البطحاء حتى أتى على أبيه وأمه وعليه يعذبون، فقال أبو عمار: يا رسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبر" ثم قال: "الله اغفر لآل ياسر" وفي رواية "اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة" . إن موعدك الجنة هي نفس الكلمات يوم بيعة العقبة الأولى "فإن وفيتم فلكم الجنة". ويأتي رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ماذا لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة"، [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] "الجنة" فهل تكفي البشارة؟ أم أن الناس تستعجل الثمر قبل أوانه ثم لا تجد غير حسرات في الدنيا والآخرة. " الجنة" كلمة واحدة غير أنها تكفي إبراهيم وموسى ومحمداً وعيسى ويوسف وذا الكفل وأبا بكر وعر والشافعي وابن معين وأحمد وصلاح الدين وكل أبي كريم تذكره هذه الكلمة بما عهد الله عنده.
ثانياً: حصار قريش النبي صلى الله عليه وسلم وآل هاشم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1 ـ الحصار طبع المجرمين وقطاع الطرق قديما وحديثا؛ يؤذى به الناس ويضيق عليهم في الأرزاق والمعاملات والعقود؛فكم ابتلي المسلمون بأذى المشركين لما تحالفت قريش أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤووهم وحصروهم في الشعب فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جُرءاءٌ عليه قومه. ولذلك تلجأ إليه الجاهلية تضيقا على الناس وكبتا لهم فإنه "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" "ويوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم من قبل العجم يمنعون ذاك، ثم يوشك أهل الشام أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدي من قبل الروم""ومنعت مصر إردبها ودينارها وعدتم من حيث بدأتم". وهذا قد وجد في زماننا في العراق وهو الآن موجود، وهو إنذار بما يكون من سوء العاقبة وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر وكذلك وقع. وهو واقع الآن على بلاد كثيرة من بلاد العرب والمسلمين وغيرهم يمارسه ظلمة كفرة لا يرجون لله وقارا. وهو الآن موجود حيث يضيق على الصالحين فيحرمون الحقوق الشرعية كالوظائف والسفر والارتحال وطلب العلم.
2 ـ: "نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر" وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم. ويسمي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحلف تقاسما على الكفر، فتقاسموا على الكفر وتحالفوا عليه وتعاهدوا حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، نحن نسلمه؟ ويسبهم أبو بكر يوم الحديبية وكل يوم " أنحن نفر عنه وندعه"؟ مالكم كيف تحكمون؟ ويحدب بنو هاشم والمطلب على النبي صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم في شعب صعب ودرب شائك، واليوم نسلمه ونسلم أنفسنا لنعلف طحين أمريكا فكل شيء يباع حتى الكرامة والديانة والوطن.
3 ـ "منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف حيث تقاسموا على الكفر" نزوله صلى الله عليه وسلم هنا شكرا لله تعالى على الظهور بعد الاختفاء، ليظهر فيه عزة الإسلام بعد أن كان فيه ذليلا، وليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم وتمكنه من دخول مكة ظاهرا رغم أنف من سعى في اخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا ومقابلتهم بالمن والإحسان، وصار الحصار ذكرى.
4 ـ ارتكبت قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم حصارا آخر فمنعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يظهروا تلاوة القرآن وذلك قبل الهجرة، ومنعتهم بعد الهجرة من الطواف بالبيت معتمرين قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "إنك آتيه ومطوف به" وفرح الصحابة واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك فتجهزوا وخرجوا معه، فمنعتهم قريش، وكم كان الطرد طعبا موجعا! يقول عمر: "أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى. فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به". وينطلق سعد بن معاذ معتمراً فنزل على أمية بن خلف بن أبي صفوان، فقال أمية لسعد: انتظر حتى اذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت. فبينما سعد يطوف إذ أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمداً وأصحابه! فقال: نعم فتلاحيا بينهما، فقال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، فسكت الذي همه درهمه وكسبه وتجارته".
ثالثاً: مفاوضة قريش النبي صلى الله عليه وسلم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1 ـ تبدأ الجاهلية مع النبي صلى الله عليه وسلم حوارها المتعنت غير الجاد، فلعله يقبل منها عرضا، أو يستجيب لما تقول، وهي محاولات عصم الله منها رسوله صلى الله عليه وسلم. هي محاولات السلطان والشيطان معاً يجريها مع أصحاب الدعوات دائما، يغريهم لنحرفوا ويرضوا بالحل الوسط مقابل مغانم يتصورونها، فتطلب الجاهلية تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان، "ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهايته" فتذوق ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا.
2 ـ وتطلب الجاهلية الخوارق المادية [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا] وتتعنت في اقتراحاتها وتتبجح بلا أدب ولا تحرج، ويسألون أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم قال: " لا بل أستأني بهم" فأنزل الله عز وجل [وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا].
3 ـ كانت الجاهلية كما ربيبتها المعاصرة تروح ليهود فتقعي بين يديها لعلها تستطيع أن تجد عندها كملة تواجه بها محمدا صلى الله عليه وسلم فتقع منه على خلة تعيبه معاذ الله!!. فكانت تقول ليهود: "أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل؟ فقال: سلوه عن الروح، فسألوه فأنزل الله [وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا].(1/5)
4 ـ تشي سورة الكافرون بأن الجاهلية كانت ترغب في مبادلة النبي صلى الله عليه وسلم دينا بدين، وما من مؤمن يقرأ قوله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا] إلا وتخيل قريشا وهي تلوي أعناق الحقيقة لتصل إلى مآربها في حرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الهدى. ولقد يلتبس على الدعاة حال الجاهلية فيصدقون أنهم حقا قد اتخذوك خليلا، فيرى أن الوقوف في نصف الطريق محتمل وأن المخاللة والمصادقة تصير خطوة في طريق عود الناس عن الانحراف فيأتي موقف النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومعسول كلامها ولين جانبها أحيانا ليدلل أن لا مجال للترقيع فلا أنصاف حلول ولا التقاء في منتصف الطريق مهما تزيت الجاهلية وتزينت، أو ادعت الإسلام واتخذته عنوانا والنص القرآني الكريم يشير إلى هذه المحاولات وتأتي السنة لترسم طريق المسلم إزائها ، روى عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: " جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا فانهه عن أذانا. فقال: يا بن أخي: إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانته عن ذلك، فقال: فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس قالوا: نعم قال: "ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة". فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي فارجعوا.
5 ـ تقرأ كلام الجاهلية: "إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مسجدنا" فتعجب من حالها إذ تسمي الحق أذى، وتصف محمداً صلى الله عليه وسلم بالمؤذي، وأين؟ في نادينا وفي مسجدنا، فالنادي لهم، حتى المسجد لهم!! أرأيت كيف يحتكرون المؤسسات؟ ويصادرون الإمكانات، فإن كان ابن أخيك حاضراً تلك الأماكن فليعلم أنه "في نادينا وفي مسجدنا". إنها الجاهلية المعاصرة تحتكر وتصادر وتمنع وتقمع وتقف في سبيل كل كلمة وتسمي الداعية إرهابياً رجعياً وأصوليا متطرفا كما كانت الجاهلية الأولى تفعل فتسمي النبي صلى الله عليه وسلم مذمما. والجاهلية التي تملأ الكون سبابا وشتما تتهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسبها ويشتمها فتقول: "يا أبا طالب ابن أخيك يشتم آلهتنا يقول ويقول ويفعل ويفعل فأرسل إليه فانهه".
6 ـ "يا عم إنما أني إنما أريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية. قالوا: وما هي نعم وأبيك عشرا؟ قال: لا إله إلا الله. قال فقاموا وهم ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الألهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب!!" . هي كلمة لكن لا كالكلمات، إنها كلمة التقوى تواجه الذين جعلوا في قلوبهم حمية الجاهلية إنها الكلمة الطيبة التي ضرب الله مثلا [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]. هي الكلمة التي تقف في وجه الكلمة الخبيثة وتكابدها تحتى تجتث وتزول. هي والله الكلمة التي تنزل السكينة على رسول الله وعلى المؤمنين في أشد الظروف وأحلكها، فهل كانت قريش تدرك ما تفعل وهي تصد تلك الكلمة وتعاديها؟ وهل الجاهلية المعاصرة اليوم وهؤلاء الجاثمون على القلوب والأفئدة يدركون انهم بصدهم هذه الكلمة إنما يصدفون عن حق وحضارة وجيش وفكرة وعلم وتقوى أن أنهم لا زالوا يرددون: " أجعل الألهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب!!. إي والله فإن حال الجاهلية هذا لشيء عجاب!! فقد كان قرب ابي طالب موضع رجل فوثب أبو جهل فجلس في ذلك المجلس، أرأيت: حتى هذه لا تدعك الجاهلية تصل إليه حتى تسابقك وتأخذه دونك فإياك إياك.
رابعاً: الهجرة إلى الحبشة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1 ـ تستوي الحبشة حضاريا مع فارس والروم فحين يكاتب النبي صلى الله عليه وسلم تلك البلاد يكاتبها فيكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي، وتساوي العرب بين النجاشي وكسرى وقيصر فيقول العربي: لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. وتدل النصوص على أن تواصلا حضاريا قويا كان بين الحبشة والدول القريبة والبعيدة فترى السفن مواخر بن الروم والحبشة تنقل الناس والبضائع في سفن تتسع لنحو ستين راكبا بل تحتمل أن تضع أم جميل ولدها محمدا في السفينة في طريق الهجرة إلى الحبشة. وفي الحبشة كنائس ومبان وكتاتيب تشير إلى كثرة العمار والبناء، وهو بناء مزخرف منقوش مرسوم. وفي الحبشة نظام سياسي شوري ترى فيه النجاشي لا يقطع أمراً حتى يجمع البطارقة والقساوسة فيشاورهم ويأخذ رأيهم، كما لم يكن يصدر حكما في قضية خصم حتى يسمع الخصم الآخر كما فعل مع جعفر في عدالة لا تكاد تجد لها مثيلا. فهذه الحبشة التي رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنها تصلح أرضاً لهجرة أصحابه، رغم المفارقة في اللسان والمباعدة في الأوطان بتواصلها مع الأمم والشعوب وعدالة حكامها وعمله بالشورى وعمارتها وبنيانها واحترامها للمواثيق وهي مميزات الدول التي يمكن أن تكون صالحة للمعاهدة مع المسلمين في كل زمان والله تعالى أعلم.
2 ـ "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه" تقول أم سلمة: " أمنا على ديننا وعبدنا الله" هذه شارة الخير وعلامته أن تأمن على دينك فتسلم فأن تبتلى في المال والجسد والأهل والولد ثم تجد دينك سالما فتحمد الله على سلامة الدين والإيمان، فذلك خير الدنيا والآخرة ولك سلف به تهتدي وبسننه تحتذي [إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ] فالأمن الذي يمتن الله به على الناس أمن العبادة والصلاح، فهل يتحقق الأمن للناس إلا بعبادة الله والرجوع إليه؟ وهذه حياة الأمم في صفحتها المنظورة والمطمورة تنبيك بالفرق بين من أعرض عن ذكر الله فصارت معيشته ضنكى وبين من يعمل فيحيى حياة طيبة [وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] ولعل الأمة المسلمة اليوم تدرك سر شقوتها وتعلم كم جنت يد المجرمين المتسلطين على الشعوب فيغوونهم ويمرغون أنوفهم في وحل يهود ويملأون الدنيا بالفسق والعربدة ويدخلون الشذوذ والفسوق والعصيان غرف الناس المغلقة ويساهمون في الخنا ثم بعد ذلك يتساءلون عن سبب الضياع والذلة والصغار وذهاب الهيبة بين الأمم.
3 ـ الحبشة التي نزلها الصحابة الكرام كانت بالأمس القريب تقود الفيل لتهدم البيت فتقفها الطير الأبابيل، ثم يتغير حال الحبشة ويصير حاكمها رجلا صالحا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يموت الرجل الصالح ويتولى الحبشة بعده نجاشي آخر لا يرعى الدين أو الذمة يدعى إلى الله تعالى فلا يجيب. الحبشة التي هذا وصفها ـ لا يظلم عنده أحد ـ يحالفها النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو أصحابه للهجرة إليها، فحين تحسن أن تكون أصيلة كريم تحالفها الأمة المسلمة وحين تسيء فلكل سبيله.
4 ـ "فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا الى النجاشي فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية وقالوا لهما ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم". هي الجاهلية! فما يضيرها أن يخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بلاد غريبة بعيدة؟ فترسل رسلا ووفودا وتتكلف أموالا وهدايا وتتجشم السفر فمم تخاف؟ وما عسى يفعل أولئك؟ إن ضغط قريش كان أكثر شدة لأنهم تحسبوا من عواقب الهجرة هؤلاء الفتية الفارين بدينهم، فإن قريشا كانت تتخوف من انتشار دين الله تعالى حتى قال أبو سفيان " لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر" فالخوف من أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء قبولا فيجتث قريشا من أصولها يجلد ظهور الجاهليين فيخرجون في الأرض تحريضا على الرسالة وأتباعها.
5 ـ انظر إلى الجاهلية تنفق الأموال والمدخرات رشوة للملوك والبطارقة في حين تنتهب الجزيرةُ الجزيرةَ لصالح أقطاب الجاهلية ويجوع الفقراء حتى لا يجد الفقير ما يقيم أوده بينما تقدم الجاهلية المال بلا حساب رشوة رخيصة. وهذه الأموال التي تقدم رشوة للحرف عن الحق تجد لها في المستنقعات الآسنة حياة لكن حيث العدل والحق حيث الدين والأمن لا تجد من يقبلها فترتد على أصحابها خائبين [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] فتفشل المؤامرة ويخيب الوفد ويعود مقبوحا مطرودا ويعلو صوت العدل مسقطا قناع أبي لهب "اذهبوا فأنت سيوم بأرضي من سبكم غرم ردوا عليهما هداياهما".
6 ـ تفشل مؤامرة قريش لأنها صدت بمن يسمع صوت المستضعفين ويأذن لهم أن يقولوا كلمة واحدة في جلسة حوارية لا نتهي بالسحق والسحل، وتنفيذ القرارات المعدة مسبقاً لدى هامان. ولنا اليوم جاهلية تمنع المؤمن من قول كلمة واحدة، فلا منبر ولا إعلام ولا صحافة أو أقلام، وتسد الأسباب في وجه كلمة الحق ويترك الهواء للفضائيات الغازية تنبح وتعوي وتعض. وتريد الجاهلية للمال أن يصل قبل أن يكلموا النجاشي حتى تمتليء الأفواه بالدراهم وتصم الآذان عن الحق ويقولوا بفهم واحد: "صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم".كيف وقد أكلوا بجعفر وأصحابه لحما طريقا وثريدا! وتقلبوا في الهدايا والنعيم والثراء وركبوا اليخوت الفارهة كما البوارج فيا للجاهلية ما أرخصها! حين تُسلِمين جعفر ومن معه لفرعون وهامان وجنودهما لأجل الدراهم القليلة يرتع بها السياسيون ويرعوا في المنتجعات والمتنزهات والفنادق.
7 ـ "إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشرف قومهم ليردهم إليهم". تقول الجاهلية في وصف جعفر ومن معه "غلمان سفهاء" وتسمي سفهاء مكة وكفارها "أشراف قومهم" في ميزان جاهلي عجيب لا يقيم وزنا للدين والحق، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون في ضلالة تزكم رائحتها الأخشم قبل غيره "فيقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" فترفع شأن "طامر طامر" وتحط قدر "الكريم بن الكريم".
8 ـ "ولم يدخلوا في دينكم" فهل كانت الجاهلية ترغب في دين الحبش حتى تقول هذه الكلمة؟ أم أنها الرغبة في ركوب الصعب والذلول لإدراك الطريدة فتحرض هذا التحريض الرخيص. وهي أشبه بالجاسوسية وكتابة التقارير التي توغر صدور حكومات ظالمة على عباد الله رغبة في النكاية والأذى فتوضع الأكياس الخانقة على الأنوف وتجري سيارات الحديد المجنونة تطوي الصحارى التي افتتحها عمر وخالد لتصل إلى السجن ويلقى الكرام فيها عشرات السنين! بينما عبدة العجل يرتعون في يافا وعسقلان. ومن عجيب الجاهلية المعاصرة أن يمارس هذا التحريض الرخيص كبار الرؤساء يفترون ويكذبون يتقربون به إلى أمريكا وربيبتها زلفا.
9 ـ " وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم" وهب أنكم لا تعرفونه أفتحتكرون المعرفة؟ وتصادرون عقول الناس وقلوبهم وتحاكموهم إلى الموروثات والتصورات؟ فمن السفهاء ومن الأشراف إذا؟.
10 ـ "ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم" لماذا تخاف الجاهلية الحوار العلني المكشوف؟ لماذا يخافون الوقوف أمام الناس؟ ما بالهم يتأخرون حتى عن جاهلية قبل أن يكلمهم؟ ألا يأذنوا للذبيح أن يفصح عن الألم فيقول: لا! أليست الجاهلية؟ ذلك أن جعفر سيفضح الجاهلية ويعريها " كنا قوم أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار يأكل القوي منا الضعيف". فلذلك تريد الجاهلية المعاصرة ألا ترى جعفر يصد عن الناس الأذى فلا يكون فيها غير صحافة السلطان والنسوان، فتلمع للحاكم شاربه وحذائه وتكتب الإعلانات الجميلة الطافحة بالصدور والنحور. أما أن يفسح بين جعفر والناس فيبلغ كلام ربه ويرد على قريش قالة السوء فهذا ما لا تقره الجاهلية أو ترضاه بل تطلق الموت ألوانا متعددة على من يحسن أن يمسك قلما أو فرشاة ترسم صورة غير صورة السلطان. وكشف الحقيقة أمام الناس جعلت غلام أصحاب الاخدود يقبل على الشهادة في سبيل الله متحديا الجاهلية التي تريد ألا يطلع الناس على حقيقة الأرباب الزائفة. وتتبع الجاهلية المعاصرة سنن الملك "فليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة" فتحسب على خطباء المساجد ووعاظها الكلمات وتحصيها وكذلك الصحافة والإعلام وأساتذة الجامعات وغيرهم.
11 ـ "فلما جاءهم رسوله اجتمعوا" هي خاصية هذه الأمة تتمثل في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] فهل تصير سنة محمد صلى الله عليه وسلم لدى المؤمنين اليوم عملا دارجا فترى الشورى في أبهى صورة وتأخذ دورها في سياسة الأمة المسلمة أم سيظل الاستبداد والقمع والسطو على عقول الناس أساس التعامل؟ هذا مرض العرب والمسلمين اليوم أنك لا تكاد ترى من يستشير أو يستخير فيسوق الناس وعاعهم بسطوة النار والمال والسلاح فمن أخنى وأعطى يمنح ويعط ومن قال لا فله البِلى. وقد استشرى المرض وتطاول ليصل كل الناس حتى هؤلاء الكرام من الاسلاميين على شتى المناهج فمجالس الشورى والانتخابات أوامر وتوجيهات.
12 ـ "نقول ما علمنا كائن ما هو كائن" بهذه العزة وبهذه الصرامة فالحق لا ينثني ولا ينحني إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه قويا لا ضعف فيه صريحا لا مداورة فيه كائن ما هو كائن فمن لم يعجبه الحق فليذهب فإن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها إنما هي لله وهي لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير فلذلك كانت كلمتهم كالصمامة: "نقول ما علمنا كائن ما هو كائن".
13 ـ "فقال له جعفر بن أبي طالب: أيها الملك" هذا جعفر يرتقي في أسباب العلم والفقه فإن " من إجلال الله إكرام ذي السلطان المقسط" وقد كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خاطب الملوك والأمراء أن يوقرهم ويسميهم عظماء فيقول: عظيم الروم، وعظيم القبط، وعظيم فارس ونحو ذلك، وكلمة "ذي السلطان المقسط" مطلقة تصدق على كل في سلطانه من مسلم وكافر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل مع الملوك والأمراء إذا كاتبهم فلا يخفى كتابه من إكرام لمصلحة التألف.
14 ـ " عدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا وقهرونا وظلمونا وشقوا علينا" هذا الخطاب الرقيق الندي من أمير مهاجري الحبشة بهذه العاطفة الجياشة يسيل رقة وحنانا يستثير في النجاشي عاطفة الملك المقسط الملك الإنسان الملك البكاء الذي يرق قلبه لتلاوة القرآن "فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته" بهذا التحنان والتحبب والاستعطاف والترقق الذي لا يعرفه إلى الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها فقد تلجيء المحنة إلى مثل هذا الخطاب بل قد تلجيء إلى أكثر منه. وذكر جعفر عذاب الجاهلية مفصلا يشعر بضرورة إحسان عرض المسألة على من ترتجى عنده النصرة هذا من جهة ومن جهة أخرى يشير إلى سءو الجاهلية التي لا ترحم.
15- اختيار جعفر صدرا من سورة مريم عليها السلام يدل على التوفيق الرباني للعبد ساعة الشدة فإنه ليحسن للعبد أن يكون حافظا لكتاب الله عارفا بمواطن الآيات فيتلو منها موطن ترقيق القلوب وتهذيب النفوس ساعة العسرة فيدفع بتلاوته أذى الجاهلية. وحين تلا جعفر الآيات اختار ما يصلح لهؤلاء القوم من النصارى [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ] وكذلك كان قالت أم سلمة: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
16- "قالت أم سلمة: فلما خرجنا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لأنبئنهم غدا عيبهم ثم أستأصل به خضراءهم فقال عبد الله بن أبي ربيعة وكان أتقى الرجلين فينا لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد"
أ- في كلامها ما يوحي بأن جعفر ومن معه كانوا يتابعون الحدث لدى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. ومتابعة العدو وتتبع عوراته حتى يعلم تدبيره فيتقى منهج النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة مشتهرة يبعث عيونا تسمع له ما تقول الجاهلية وتخطط، وقد قال البخاري في كتاب الجهاد " باب فضل الطليعة" و " باب هل يبعث الطليعة وحده" وإن نظرة واحدة لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم تقفك على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في العيون والطلائع فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب" من يأتينا بخبر القوم" فقال الزبير: أنا فخرج الزبير لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين.
ب – قول عمرو بن العاص "ثم أستأصل به خضراءهم" يدل على منهجية الجاهلية في الاستئصال [قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ].
ج – "وكان أتقى الرجلين فينا" هاهي أم سلمة تؤكد على منهج الإسلام الخالد في انصاف الناس ولو كانوا أعداء، فلو استطاع جعفر ومن معه أن يستعذبوا هذه التقوى لكان حسنا.
د – مشهد عبد الله بن أبي ربيعة معروف مكرور على مدى الأيام لكنه لا يستطيع أن يخالف الجاهلية كل المخالفة فصورته ليست كصورة مؤمن آل فرعون فذاك يدفعه إيمانه أن يجري وراء موسى فيخبره وينمي له خيرا، وهذا يكتفي بكلمة خير في جلسة مغلقة لا تأتي ثمرا فالبناء عليه والتأمل فيه قد يكون مهلكة.
هـ ـ في بقية الخبر لفتة تستحق الانتباه فهذا عمرو بن العاص يطالع ويناظر ويكتشف ما لدى خصمه من دقيق الأخبار ويعرف أن جعفر يقول إن عيسى ابن مريم عبد. أرأيت كيف عدوك؟ فتنبه!!.
17- قالت أم سلمة: "فوالله إنا على ذلك إذ نزل به من ينازعه في ملكة فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا".
أ - فيه الدلالة على استشراف المستقبل ومتابعته لدى الطوائف المستضعفة الغريبة في البلاد فإن السياسيين متقلبون فقد يتغير النجاشي الصالح فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه فلعله يحسن أن لا تكون المحالفات مع أفراد وإن كانوا حكاما وملوكا فقد شهد التاريخ ما يدل على ذلك.
ب – قام الصحابة ينظرون ويتابعون يعوم ابن العوام ويدعوا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده فبذلوا جهدهم في متابعة الأمر، ولو أمكنهم أكثر لفعلوا.
18- "ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان" فلا يحمل كلام الصالحين إلى على الغبطة فيتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود ومنه [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] .
19 - جاء خبر الهجرة من طريق أم سلمة وأسماء بنت عميس وهذا مشعر بأهمية دور المرأة المسلمة واطلاعها على أحداث الهجرة وتفاصيلها فالمرأة المسلمة تتحمل أعباء الاضطهاد والهجرة جنبا إلى جنب مع الرجل في سبيل الله وتتكر مواقف المرأة في السلم والحرب فتصبح صورة المساحة المتاحة للمرأة والذروة السامية التي سمقتها والمسئوليات العظيمة التي أوكلت لها بعد ما كانت تعاني من ضيق واحتقار واهمال في عهود الجاهلية المظلمة. فالمرأة تهاجر مع زوجها بدءا بعثمان ورقية وانتهاء بحاطب وأم جميل زوجه التي تضع حملها بالسفينة تفر بدينها من الفتن.
خامساً: الإسراء والمعراج:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1- كان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وسط شدة أذى قريش على النبي صلى الله عليه وسلم إيذانا ببلوغه صلى الله عليه وسلم تلك الدرجة العالية الرفيعة التي بلغها وهي درجة العبودية "أسرى بعبده "، والعبودة الواردة في هذا الموطن هي عينها التي تحدثت عنها الآيات بعد قليل عن عبودية نوح عليه السلام وعبودية الفاتحين لبيت المقدس [ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا] فهي أسمى المنازل وأرقى الدرجات.
2 – وقع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلا وأصل السُّري في لغة العرب السير ليلا فالكملة تحمل معها زمانها ولا تحتاج إلى ذاكرة ولكن السياق ينص على الليل، ويجيء الحديث فيضفي المعنى نفسه" لما كان ليلة أسري بي" فيؤكد النص القرآني "ليلا" لتناسب الحركة الليلية التي تتوافق مع ذكر العبد والعباد إذ الليل ليل العابدين الذين يتلون آيات الله آناء الليل.
وفضل الإسراء بالليل على السير بالنهار معلوم لما وقع من الإسراء بالليل ولذلك كانت أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل.(1/6)
3 – تأتي البشارة المهمة في "وعد الآخرة" فقد كانت بنو إسرائيل ترغب في أن يكون علوها الكبير بهدم المسجد الأقصى فيأتي النص القرآني ليقول [وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ] على الكمال والتمام وسلامة بيت الله من إيجافهم [كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ] بل وتبشر الآيات أن الهدم والتدمير سيكون لدولة بني إسرائيل لا للمسجد بفضل الله ومنته [وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا] فهل يملك نص من النصوص أن يصور هذه المعجزة كما جاءت في نص الإسراء هنا؟ فمن أين كان يقع في تصور العرب والمسلمين أن شذاذ الآفاق وقطاع الطريق سيصير لهم دولة ونفير وجيش وتقتيل يفسد في الأرض، من أين كان يقع هذا في خيال الناس؟ فإن كان قد وقع على قدر الله وقضائه كما وصفت الآيات فإن بقية الخبر واقعة لكن للمعجزة جند ورجال اختصهم الله بالعبودية لنفسه [ عِبَادًا لَنَا] فلا تكن كالذين قالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ].
4 – قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مضطجعا بين النائم واليقظان" بينته رواية البخاري الأخرى "وتنام عينه ولا ينام قلبه" فقلبه صلى الله عليه وسلم في النوم واليقظة سواء، وعينه أيضا لم يكن النوم يتمكن منها فقوله صلى الله عليه وسلم محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق استمر في يقظته صلى الله عليه وسلم. وقد كان ابن عباس رضي الله عنه يقول [وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ] قال: شيء أريه النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة رآه بعينه حين أسري به إلى بيت المقدس.
5- كانت القدرة الربانية صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق ولكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه صلى الله عليه وسلم لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي وأكرم، والحكمة في الإسراء به راكبا مع القدرة على طي الأرض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة في مقام خرق العادة لأن العادة جرب بأن الملك إذا استدعى من يختص به يبعث إليه بما يركبه، ولعل استصعاب البراق ركوب النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليه شبيه رجفة جبل أحد فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب ولا أدل على ذلك من حب أحد نبينا صلى الله عليه وسلم ومع ذلك رجف به فكم قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد " هذا جبل يحبنا ونحبه" والله تعالى أعلم.
6- "فلما جاوزت بكى فقيل ما أبكاك؟ قال: يارب هذا الغلام الذي بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي" إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل الرحمة في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمة لأمته، وقال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدا وإنما كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي ترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره لأن لكل نبي مثل أجر كل من تبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبينا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة.
7 – "ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإني والله قد جربت الناس قبلك، وأنا أعلم بالناس منك! عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة". الدلالة على الاستفادة من تجارب الأمم واضحة، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يترك رأي موسى عليه السلام وإنما رجع لقوله مستشيرا جبريل عليه السلام "فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار". وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك دين، والتجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجربهم. وقبول النبي صلى الله عليه وسلم استشارة موسى عليه السلام دليل على فضل محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنه رجع لقوله وهو دونه في الفضل.
8- " ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران فسألت جبريل فقال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهران: النيل والفرات" قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنة وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى ثم يسيران حيث شاء الله ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها وهذا لا يمنعه العقل وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد فالأمر دين والتسليم للخبر خير من إعمال العقل فيه.
9 – "فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل" فقال اشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقال جبريل: اخترت الفطرة التي أنت عليها وأمتك الحمد لله الذي هداك للفطرة". الفطرة دين الإسلام والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللبن دون غيره لكونه مألوفا له ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة والصواب أن يقال: ذلك توفيق الله رسوله صلى الله عليه وسلم .
10 – "فيستبشر به أهل السماء" فيه استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء فكأنهم أعلموا أنه سيعرج به فكانوا مترقبين لذلك.
11 - [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ] وغيره الكفر المردود مهما كانت التسميات ولهذا كانت رحلة الإسراء والمعراج رحلة مختارة من اللطيف الخبير، رحلة تربط عقيدة التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وتربط الأماكن المقدسة لدين التوحديد برباط واحد وكأنما أريد بهذه الرحلة إعلان وراثة رسالته بها جميعا فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان وتشمل آماداً وآفاقا أوسع من الزمان والمكان وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى.
12- "لما كانت ليلى أسري به وأصبحت بمكة فظعت بأمري وعرفت أن الناس مكذبي فكربت كربة ما كربت مثله قط" هذا أمر يصيب الناس في مواقف الشدة وقد حكى لنا القرآن الكريم وقوعه لسيدنا موسى حين تحدى فرعون بما آتاه الله من آيات [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى] وكما قال الله تعالى لموسى [قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى] جلا لمحمد صلى الله عليه وسلم بين المقدس وكشفه وأظهره "فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه". ولله تعالى سنة مع رسله والدعاة لدينه [إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ].
13- "هل تستطيع أن تنعت لن المسجد؟ "فذهبت أنعت" فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب" إذا فلماذا التكذيب؟ ولم يبلغ الأذى هذا الحد؟ "فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب، زعم"! ويقول بعض من آمن من قبل: "نحن نصدق محمدا بما يقول! فارتدوا كفارا فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل". قد يبدو للجاهلية أن تسمع وأن تطلب الأدلة نعم فد تفعل هذا فيظن الكرام أنها على الجادة فيما تقول فيذهب في القول ويطيل في التفصيل ويأتي بالأدلة ثم يجد فجأة جوابا واحداً لدى الجاهلية في كل زمان يتصدر وسائل الإعلام وطرائق البث في كل الأوقات "نحن نصدق محمداً بما يقول!!". وفي هؤلاء المكذبين ممن ارتدوا عن دينهم تكذيبا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن كان على شركه فازداد تكذيبا نزل قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ].
14- ذهب معظم السلف والخلف أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بروحه وجسده يقظة إلى بيت المقدس ثم السماوات وهو الحق والصواب لا يجوز العدول عنه ولا حاجة إلى التأول وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط لما وقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد من ارتد مع أن الإنسان يرى في نومه ما هو مستبعد ولا ينكر ذلك أحد.
خامساً: وفاة خديجة رضي الله عنها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1- يذكر الكثيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى تلك السنة التي توفيت فيها خديجة " عام الحزن" ولم يرد في خبر صحيح قط أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك العام بهذه الكلمة ولم يذكر الأئمة المحققون تسمية الحديث "بعام الحزن" كالإمام ابن اسحاق وهو عمدة أهل السير، وابن الجوزي في المنتظم، وابن الأثير في التاريخ، والإمام الذهبي في سيرته، وغيرهم ممن يعتد بهم من أهل العلم.
2- أشتهر بين الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن عائشة قالت استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: "اللهم هالة بنت خويلد" فغرت فقلت وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها" وهو من رواية الصحيحين لكنهم يروون معه زيادة "ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء" وهذه الزيادة شاذة.
سادسا: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف:
الحدث: عن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1- يتفق الحديث مع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة فقد كانت الجاهلية تكيل له الأذى وهو لا يزداد إلا دعاء لهم بالخير والهداية يقول أبو هريرة رضي الله عنه قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها فظن الناس أن يدعو عليهم فقال: "اللهم اهد دوسا وأت بهم"، وقال جابر قالوا يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم فقال صلى الله عليه وسلم " الله اهد ثقيف". إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الطائف مشعر بأن المسلم لا يعادي الناس ابتداء ولا يحمل عليهم فهمه الدعوة والرسالة فلا ينشغل بالدعاء عليهم فجل غايته صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الدين بالصورة التي يحبها الله تعالى ويرتضيها [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ].
2 ـ يقفنا رفض النبي صلى الله عليه وسلم دعوة ملك الجبال على معاني الرحمة المهداة، ففيه بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على قومه ومزيد صبره وحلمه، وهو موافق لقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ و] [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ومجيء ملك الجبال إلى النبي صلى الله عليه وسلم في لحظة الشدة يكفي لأن يتأسى النبي صلى الله عليه وسلم بنوح عليه السلام فيقول [ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا] لكنه محمد صلى الله عليه وسلم الذي يستعلي على الجراح ويتنزه عن الانتقام ولا يجد إلا الكلمة الحسنة "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" فيفتح للمسلمين بعده باب المسامحة والعفو الحسن رجاء أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا.
3- "عرضت نفسي على ابن عبد ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت" فيذكر اسمه كأنما هو حاضر يسمعه دون لمز أو أذى بأدب نبوي كريم يحسن التذكير به لكي يأخذ دوره في حاية المسلمين اليوم. إن كثيرا من الناس ممن يقع عليه ظلم أو أذى يسمح لنفسه أن يخوض في ظالمه كيف يشاء وهذا لا يدل على خلق ودين فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يذكر الرجل وهو كافر مات على كفره دون أن يلحقه لمز أو أذى، ولا يبعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد من هذا الأدب أيضا ألا يساء آل هذا الرجل ممن أسلم بهذه السبة والله تعالى أعلم.
4- " فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب" في صورة محزنة أليمة لم تفصلها صحاح الأحاديث لكن وصفتها الروايات التي لا تخلو من ضعف بأنهم قد أغروا سفهاءهم وعبيدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فقذفوه بالحجارة حتى أدموه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم بل بالناس أجمعين.
سابعا: دعوة الحجيج والعرب في أسواقها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1- كيف يمكن لأمة أن تقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تكون كما هي علي اليوم من هوان وذلة وقعود؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين الرجال يطوف على المنازل يدعو الناس جهارا ثم يسر إسرارا وينادي في المواسم ليلا ونهارا.
2ـ إنك لتلمس الجاهلية في صورتها الممقوتة المعاصرة، فتأمل ما قد يفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد علمت أنه ما من هوان وإنما هي سنن الأنبياء والمرسلين فأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: "إن هذا قد غوى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه وهو على أثره" ويخوفون الناس: "احذر غلام قريش لا يفتنك". ثم انظر الى تلفاز يكذب وجرائد تقذف وإذاعات تفتري تساوي البقل بالنخل والزيتون بالغرقد [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ] وادع ولا تلتفت لما يشاغلك به أبو جهل وأبو لهب وادع عشرات السنين فإن العاقبة للمتقين وتتبع الناس في منازلهم واعلم أنها موسم عما قريب ينفض فلا تضع فرصة الدعوة لدين الله.
ثامنا: بيعقة العقبة الأولى والثانية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:
1- يقول عبادة: "كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا" ويقول جابر: " شهد بي خالاي العقبة" ويقول كعب: "ولقد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر". بهذه الكلمات يصدر الصحابة حديثهم ويبدؤنه فيؤرخون للرسالة ويذكرون التفاصيل ويحمدون الله على النعمة فيذكرون حضورهم ومشاهدتهم، فهذا فقه سلف الأمة لا يجدون حرجا من ذكر فضائلهم والتحديث بمناقبهم ونقل تجاربهم لمن بعدهم شرط ذلك كله الصدق والإخلاص، فإخلاص العمل لله سنام الأمر كله.
2- "ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف فرحل إليه منا سبعون رجلا " إنها حضارة أمتنا تسبق كل الناس يعقدون المؤتمر جميعا فلا يفوت الخير أحدا، يستوي في حضوره الأحرار والعبيد، ويتخذون قرارا بالإجماع ثم ينفذونه.
3- "حتى قدموا عليه في الموسم" في ركب لا يثير الجاهلية فتستأصلهم، فتصير سنتهم ألا يشعلوا النار أو يسعروها فلسنا "دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد" فلا نفتعل الصراع أو نستشرفه.
4- "حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسسلل مستخفين تسلل القطا من رجل ورجلين" مؤثرين سلامة الناس بعامة لا عن عجز وقعود.
5 - "فوالذي يعثك بالحق لئن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم أؤمر بذلك" فلكل أمة أجل، فالموعد بدر والخندق والساعة أدهى وأمر.
6- التربية الأمنية: أ ـ تكاد تلمس أن الجاهلية لم تكن غافلة عن كثير مما يجري في موسم الحج فتبث عيونا وروادا يرفؤونها بالخبر ويتعسون على محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه فلذلك كله كانت حيطته وحذره فيأمر أصحابه أن يعودا إلى رحالهم، ثم تجيء قريش فتقول: "يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا" فيكون الحدث درسا يعلمنا أن الحفظ والرعاية لا تكون بالأسباب تتخذ وإنما هي رعاية الله والتوكل عليه، نعم إن الله تعالى يأمر بالأخذ بالأسباب لكن لا يأمر باتخاذها والتوكل عليها.
... ... ب ـ الأمم والشعوب لا تكاد تتوقف عن متابعة الأمم الأخرى "قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه" فليكن سر المسلمين في أيدي كبار ثقاتهم لا يطلعون عليه الناس فإنه مهما بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في الاحتياط حتى كان الاجتماع ليلا في شعب خال بعيد، بلغ الخبر قريشا.
7 – اجتمع الصحابة بالشعب من الرجال والنساء سبعون رجلا وامرأتان من نسائهم نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو. ولم لا فالنساء شقائق الرجال، شقيقة روحه تشاركه العمل على قدم المساواة وتمضي معه في الطريق الناهج الطويل تحمل هم الدين والرسالة وتسير بالدعوة في الأرض تطير معه وراء كل هيعة منذ بايعت نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو إلى أن خرجت أم سليم رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد مرورا بأم حرام ابنة ملحان رضي الله عنها تمتطي " ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة" وانتهاء بكل كريمة تقف في صف جند الله تعالى تطاول السحاب حتى تبلغ المنى، فكم سجلت المرأة المسلمة بأحرف من نور مواقف تشهد بما كانت تتمتع به المرأة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من رجاحة عقل وحسن رأي وتقدم في المواقع، فالمراة ترى الرأي الحكيم في أشد الظروف حلكة مثلها مثل الرجل سواء بسواء، و"شهدت نسيبة بنت كعب بيعقة العقبة مع زوجها، وبايعت ليلتئذ وشهدت أحدا مع زوجها وشهدت بعية الرضوان وشهدت قتال مسيلمة مع ولدها حبيب وجرحت يومئذ اثنتى عشرة جراحة وقطعت يدها وقتل حبيب" فحذار من اصطحاب المرأة في مثل هذه المواطن بلا محرم، فقد كانت في كل مرة مع زوجها أو محارمها.
8- "فاعترض القوم أبو الهيثم بن التيهان، فقال: هل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟" كم يذكرنا هذا الحوار بالسياسيين من الزعماء والحكام والحزبيين، كم يذكرنا بوعود عوج يسخى بها ويجاد ساعة الحاجة للناس على نية الخلف المبيتة ثم يؤذى الناس ويتنكر لهم. وجاءت ساعة الوفاء "أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم الى بيوتهم وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم أنا منكم وأنتم مني".
9- "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أروع هذه الابتسامة النبوية في أحلك ظرف وأشده في ليل بهيم وشعب وضيم تتفتح الشفاه عن ابتسامة لا يحجبها كلكل الليل وهوله فتكون في قلب الصحابة بلسما ما عانوا وما كانوا. وتبدو من الصحابي لحظة حرص وأثره فيجد ابتسامة النبي صلى الله عليه وسلم دواء وشفاء فقد " دلي جراب من شحم يوم خيبر فأتيته فالتزمته ثم قلت: لا أعطي من هذا أحدا اليوم شيئا، قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إلي فاستحييت منه". فكانت دواء التنزه عن خوارم المروءة فاستحيا من فعله ذلك ومن قوله معا رضي الله عنه.
10- "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس" هذا معلم مهم، فلا يصح أن يترك الناس هملا لا هداه لهم يقومون عليهم فيعلمونهم ويبصرونهم ويصلونهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومراعاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا من الأوس والخزرج درس في مراقبة أحوال الناس والسعي فيما يعينهم على الطاعة فإن الأوسيين لم يكونوا ليرضوا أن يكون أمراؤهم ونقباؤهم من الخزرج وفي الناس في كل عصور أمور لا يصح تجاوزها فإن تخطيها يخمد نارها للحظة ثم يشتعل الفتيل.
11- "وما أحب أن لي بها مشهد بدر" لماذا وبدر في الناس أذكر؟ ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخذت وأعطيت" فبايعناه فأخذ علينا، ويعطينا الجنة. فهل رأيت قط بيعة كهذه؟ وهل هي ما قال الله تعالى وعنى؟ [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] هي بيعة مع الله ألا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون الله ودون الجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله.
الوحدة الخامسة
الهجرة وبناء الدولة
ثامنا:الهجرة إلى المدينة المنورة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العبر والعظات:(1/7)
1 – كانت فتنة المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فتنة الإيذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان الهزء والسخرية، فلما أذن لهم الرسول بالهجرة أصبحت فتنتهم في ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم. ولقد كانوا أوفياء لدينهم مخلصين لربهم أمام الفتنة الأولى والثانية، قابلوا المحن والشدائد بصبر ثابت وعزم عنيد. حتى أشار لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، توجهوا إليها وقد تركوا من ورائهم الوطن وما لهم فيه من مال ومتاع، ذلك أنهم خرجوا مستخفين متسللين ولا يتم ذلك إلا إذا تخلصوا من الأمتعة والأثقال، فتركوا كل ذلك في مكة ليسلم لهم الدين واستعاضوا عنه بالأخوة الذين ينتظرونهم في المدينة ليؤووهم وينصروهم. وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذي أخلص الدين لله، لا يبالي بالوطن ولا بالمال في سبيل أن يسلم له دينه. هذا عن أصحاب رسول الله في مكة أما أهل المدينة الذين آووهم في بيوتهم وواسوهم ونصروهم فقد قدموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الهل عز وجل. وأنت خبير أن الله عز وجل قد جعل أخوة الدين أقوى من أخوة النسب وحدها، ولذلك كان الميراث في صدر الإسلام على اساس وشيجة الدين وأخوته والهجرة في سبيله. ولم يستقر حكم الميراث على أساس علاقة القرابة إلا بعد أن تكامل الإسلام في المدينة، وصارت للمسلمين دار إسلام قوية منيعة. يقول الله عز وجل [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا] ثم إنه يستنبط من مشروعية هذه الهجرة حكمان شرعيان:
... أ- وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام. روى القرطبي عن ابن العربي:"أن هذه الهجرة كانت فرضا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة والتي انقطعت بالفتح إنما هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن بقي في دار الحرب عصى" ومثل دار الحرب في ذلك كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه إقامة الشعائر الدينية من صلاة وصيام وجماعة وأذان وغير ذلك من أحكامه الظاهرة. ومما يستدل
في حادثة الهجرة :
استعمال النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله وأسماء دلالة على أنه لم يبقَ في أيدي الأمة من ورقة رابحة إلا الشباب ، عليهم المعول.(1/8)