في المحيط الفقهي
( 1 )
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
بسم الله الرحمن الرحيم
يمثل الفقه الإسلامي معلما بارزا من معالم التقدم الفكري والحضاري للمسلمين والذي تشكل مع بدايات الدعوة الإسلامية واستمر ينمو إلى يوم الناس هذا.
"لقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ويدلك عليه قوله عز وجل: { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } "(الإحياء1/32) ثم خصص باستنباط الأحكام الشرعية العملية من الأدلة التفصيلية، وأضحى علما مستقلا له قواعده وأصوله المستقلة.
أطوار الفقه الرئيسية:
مر الفقه بصفته علما بأطوار مختلفة فبدأ مع جيل الصحابة والذين اشتهر منهم الكثير من المفتين قسمهم ابن القيم في إعلام الموقعين على ثلاثة أقسام:
المكثرون في الفتيا وهم حوالى مائة ونيف وثلاثون منهم عمر وعلي وابن مسعود.
المتوسطون فيما روي عنهم من الفتيا كأبي بكر وأنس.
المقلون كأبي الدرداء وأبي عبيدة.
ومع انتشار الصحابة داعين لدين الله تتلمذ عليهم الكثير من التلاميذ وكانت من المفاخر أن يلتقي المرء صحابيا ويتلقى عنه العلم، ثم أخذ التلاميذ مكان اساتذتهم وهكذا دواليك ولمعت أسماء في بلدان شتى، منهم الفقهاء السبعة في المدينة نظم بعضهم اسماءهم قائلا:
إذا قيل من في العلم سبعة أبحر ... روايتهم ليست عن العلم خارجه
فقل هم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
ثم جاءت المدارس (المذاهب) الفقهية فاشتهرت عدة مدارس منها ما كتب له البقاء إلى زمننا هذا كالمذاهب الأربعة، ومنها ما اندثر مع بداياته كمذهب الليث بن سعد، ومنها ما بين ذلك كالإسحاقية نسبة لإسحاق بن راهوية.(1/1)
ثم جاء طور الترتيب والتبويب والتقعيد والضبط وجمع نصوص الأئمة خاصة الثلاثة عدا الشافعي الذي وفر على أتباعه جهدا مضنيا كانوا سيقومون به لولا ما صنفه في الأصول والفروع.
طبقات الفقهاء:
تختلف طبقات الفقهاء من مذهب لآخر وسأكتفي هنا بذكر طبقات الفقهاء عند الشافعية وهي كما يلي:
الأولى: مجتهد مستقل كالأئمة الأربعة.
الثانية: مجتهد منتسب كالمزني
الثالثة: أصحاب الوجوه كالقفال وأبي حامد
الرابعة:مجتهد الفتوى (النووي والرافعي)
الخامسة: نظار فيما اختلف فيه الشيخان النووي والرافعي، كابن الملقن وابن العماد
السادسة: حملة فقه ومراتبهم مختلفة، فالأعلون يلتحقون بالمرتبة الخامسة.
استنساخ النجاح الفقهي:
إذا أردت أن تصل إلى ما وصل إليه الناجحون فاسلك سبيلهم، هذه خلاصة لنظرية مهمة يتكلم عنها أصحاب البرمجة العصبية ويسمونها نظرية استنساخ النجاح، وهي صائبة إلى حد بعيد، إذ إن الطريق التي مر بها غيرك ووصل إلى مراده ستكون كذلك بالنسبة لك.
وأنت إن أردت أن تصل إلى مستوى رفيع في المعرفة الفقهية فما عليك إلا أن تسلك الطريق التي سلكها الناجحون من فقهاء الإسلام، ولأجل ذلك وضع لنا فقهاؤنا منهجا علميا للسير عليه حتى نصل إلى ما وصلوا إليه، وبيانه في النقطة التالية.
المنهج الفقهي:
يشتمل المنهج الفقهي لطالب الفقه على نمطين علميين: الفقه المذهبي، والفقه المقارن، وطريقة الأقدمين أن يبدأ الطالب بالدراسة الفقهية المذهبية ثم الاطلاع على ما عند المذاهب الأخرى من خلال كتب الفقه المقارن، وهو في كلا المنهجين يمضي وفق خطة علمية معينة يتدرج فيها من الكتب الصغيرة حتى الكبيرة بحيث يبلغ مرتبة عليا في فقه المذهب، ولكل مذهب منهجه الخاص وسأكتفي هنا بالمنهج الدراسي الخاص بالمذهب الشافعي وهو كما يلي:
متن سفينة النجا.
شرحه نيل الرجا
متن أبي شجاع والمسمى بمتن الغاية والتقريب.
شرح ابن قاسم على متن أبي شجاع.(1/2)
تحرير تنقيح اللباب لزكريا الأنصاري.
تحفة الطلاب شرح تنقيح اللباب لزكريا الأنصاري.
عمدة السالك وعدة الناسك.
منهاج الطالبين.
شروح المنهاج، ويبدأ بأحد الشرحين النهاية أو التحفة، بيد أني أفضل البدء بالنهاية لسهولة عبارته مقارنة مع التحفة، ثم يثني بالتحفة، ثم المغني، ثم ليطالع حواشي المتأخرين فإن فيها علما جما، والتي تتميز بما يلي:
ضبط الألفاظ.
توضيح المشكل من العبارات والألفاظ.
تصحيح بعض الأخطاء والأوهام.
مناقشة الأصل فيما ذهب إليه
التدليل لما يقوله الأصل
بيان وجه الدليل المذكور في الأصل.
ذكر فروع وفوائد تتعلق بمسألة الأصل، وغيرها.
هذا وقد انتشر أسلوب الحواشي في القرون المتأخرة نظرا لصعوبة الكثير من الشروح والمتون ولكونهم اكتفوا بما كتبه من سبقهم ولم يجدوا جديدا يضيفوه إليه.
هذا وقد يقلل البعض من أهمية الحواشي والحقيقة أن الحواشي ليست على مرتبة واحدة فمنها الجيد ومنها الرديء، والجيد منها مفيد لطالب العلم أيما فائدة وفيما ذكرناه سابقا يبين مدى خطأ من يلغي الحواشي من مطالعته وينظر لذلك.
أما أشهر الحواشي وأروعها فحاشية البيجوري على ابن قاسم، وحاشية الشرقاوي على التحفة لزكريا، وحاشية تحفة الحبيب للبجيرمي على الإقناع، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج، وحاشية الجمل على شرح المنهج، هذا وقد يزيد بعض أهل العلم أو ينقص من المنهج السابق تبعا لعرف بلادهم أو إلف ألفوه والمسألة هينة، بيد أن ما ينبغي الإشارة إليه أنه لا يصح الاكتفاء بقراءة الكتاب مرة واحدة بل لابد من أن يكثر من تكرار قراءته وتدريسه والبحث فيه والمداومة على مطالعته حتى يصبح كالمنقوش في ذهنه إضافة إلى الإكثار من قراءة كتب المذهب وخاصة كتب المتأخرين ، وهذا ما يستدعي سنوات من المثابرة والجد.
التدرج في طلب العلم:(1/3)
ذكرنا سابقا السلم العلمي للفقه الشافعي، كما وضع العلم سلما علميا لكل علم ففي القواعد الفقهية سلم وكذلك للأصول وغيرها، وهنا يرد سؤال مفاده: هل من الضروري أن يسير طالب العلم وفق هذا السلم أو أنه يمكن تجاوز بعضه؟
والجواب على ذلك أن طلبة العلم ليسوا في مستوى واحد بحيث يعمم الحكم على الجميع بل يمكن أن نقسمهم إلى ثلاثة أقسام رئيسية وهي:
الأول: من يأنس في نفسه قوة الإدراك وسرعة الفهم وقوة الذاكرة وقد درس كتبا أخرى في العلم الذي هو بصدده فهذا يمكنه الاقتصار على نصف المنهج أو نحوه بمعنى ألا تقل دراسته على ثلاثة كتب فهذا العدد هو أدنى ممكن، فمثلا يمكنه الاكتفاء في الفقه الشافعي بـ: متن أبي شجاع ثم التحرير ثم المنهاج، فيأخذ من كل مرحلة كتابا فمتن أبي شجاع من المرحلة الابتدائية، والتحرير من المتوسطة، والمنهاج من النهائية، ومع هذا فالأفضل أخذ السلم كتابا كتابا.
الثاني: من لم يدرس العلم الذي هو بصدده قط أو درسه ولكن لماما فعليه التدرج في طلب العلم فيمر على كل كتب السلم حتى ينهيه.
الثالث: من يريد الأخذ بحظ جيد من كل علم دون التوسع فيه فيمكنه الاكتفاء بـ: متن أبي شجاع في الفقه، وشرح الجرهزي في القواعد، وبلوغ السول شرح ذريعة الوصول في أصول الفقه.
الأكاديميات والفقه الإسلامي:
لقد كان المسجد هو المدرسة الأولى في تراثنا الفقهي ثم أنشأت المدارس وظهرت أماكن مخصصة للتعلم تختلف أسماؤها باختلاف البلدان فتخرجت منها أجيال من العلماء الكبار، ولم يكن يخطر ببال بعضهم يوما شيء اسمه الشهادة إلا ما كان من تطلع بعضهم لمناصب القضاء والأوقاف والحسبة وغيرها.(1/4)
ومع زحف الاستعمار إلى البلاد الإسلامية ظهر ما يسمى بالتعليم المدرسي والجامعي الذي كثيرا ما يسعى الطالب فيه للحصول على شهادة تفتح له سبل التوظيف والعمل وكان حظ الدراسة الشرعية كغيرها من التخصصات الأخرى فكان الأثر سلبيا من جوانب كثيرة لعل أهمها هو ضرب الإخلاص في العمق، وتحجيم الدراسة الشرعية في سنوات معدودة قد تسبقها دراسة هشة نوعا ما في معاهد شرعية.
بعد السنين الجامعية تلك تأتي مرحلة التخصص الدقيق وهو الماجستير والدكتوراه يبحث الطالب فيها جزئية بسيطة جدا ليحصل على شهادة في تخصص أكبر، فيبحث مثلا في أحكام الجبائر مثلا لينال شهادة الامتياز في الفقه الإسلامي!
وأنا هنا لا أغمط ما قدمته أبحاث الماجستير والدكتوراه من أبحاث مهمة ناقشت وعالجت كثيرا من نوازل العصر وغيرها بيد ما أنعيه على الجامعات هو تقزيم العلم الواسع في جزئية بسيطة، إضافة إلى تهميش علوم أخرى ضرورية بالنسبة للفقه والمتفقه والتي تمثل آلة النظر والسبر والاجتهاد والتي يذكرها الفقهاء في شروط المجتهد، لأن من يبحث ولو في مسألة فقهية واحدة ليتوصل إلى الراجح يحتاج المعرفة الواسعة في علوم الآلة ولا شك.
كما أن ما تفتقده الأكاديميات الشرعية اليوم الأدب مع علماء الإسلام الذين أجمعت الأمة على إمامتهم كالأئمة الأربعة وغيرهم، فالتعالي والتعالم عليهم واستخدام ألفاظ غير لائقة في رد أقوالهم أسلوب مرفوض جملة وتفصيلا، وما أغرى بعض هؤلاء المتطاولين إلا موت أولئك وفي الأمثال: حي غلب ألف ميت.(1/5)
بل ربما استنكف البعض من مصاحبة مشايخ العلم وجهابذته الذين أفنوا أعمارهم في دراسة العلم وتدريسه ويظن أن معرفته ببعض الكتب واستخراج الأقوال منها كافيا في أن يستغني عن فقهاء المذاهب وحملتها وربما اغتر آخرون بالمراتب العلمية والأكاديمية العليا في حين أننا جميعا نعلم نوعية وحجم ما يدرس في الجامعات وأنه نتف من هنا وهناك مع ضعف فيه، وأن طالب العلم الجاد يضطر إلى الجلوس على ركبتيه بين أيدي العلماء كي ينهل من العلم الغزير ويأخذ العلم كاملا من أول الكتاب إلى آخره لا مجتزءا ممسوخا، كما يستفيد الطالب من دروسه الخارجية شيئا مهما يندر أن يحصل عليه في كثير من الأكاديميات وهو الملكة، وإنها لعمر الله من الغايات والمقاصد الضرورية لطالب الفقه، لأن الفقه ببساطة هو الفهم، أو الفهم الدقيق كما قال الرازي وما حفظ المسائل والخلاف والأدلة وغيرها إلا آلات ووسائل لبلوغ تلك الغاية وهي الفهم الدقيق والمتعمق لنصوص الكتاب والسنة واكتساب الملكة الفقهية التي تعينه وتيسر له تكييف المسائل وتصويرها وفهم جوانبها وأبعادها بحيث لا تتشابه عليه ولا يلتبس عليه بعضها ببعض ولا يقف حائرا أمام النوازل التي لا يجدها في الكتب، ويصبح الفقه لدية لينا سهلا.
وأذكر هنا ملحة وهي أن أحد مشايخنا كان يقول: أنا درست في جامع، وأنتم درستم في جامعة، وليس الذكر كالأنثى.
حفظ المتون:
يعتبر حفظ المتون أمرا ضروريا لطالب العلم الشرعي وخاصة الفقه منه، وتكمن أهمية حفظ المتون فيما يلي:
أنها تحفظ العلم بحيث يصعب نسيان المسائل وأمثلتها وغيرها.
أنها تضبط الكثير من الضوابط والصور والاستثناءات والتفريعات والتي قد تبلغ كل مما سبق الأعداد الكثيرة مما يعني ضرورة حفظها وعدم الاكتفاء بقراءتها عدة مرات وفهمها.
من حفظ المتون كان علمه في رأسه لا في كراسه المعرض دوما للكثير من المتلفات كالضياع أو الغياب وغيرهما، فالحفظ ينقذك في أحايين كثيرة من مواقف حرجة.(1/6)
حفظ النص يمكنك من استحضاره في أي لحظة دون الحاجة إلى العودة المتكررة للكتب.
الحافظ حجته معه وهو الغالب دائما لمن لا يحفظ.
ويفضل أن يكون حفظ المتون في المراحل الأولى لطلب العلم وخاصة مع صغر السن، فيحاول الطالب أن يستغل هذه المرحلة الذهبية في حفظ المتون ثم ليكن الفهم بعد ذلك.
قد يسأل سائل عن أيهما أفضل حفظ النثر أم النظم، والجواب على ذلك أن الأمر يعود إلى الطالب نفسه وما الذي يفضله ويسهل عليه حفظه، والغالب أنه يفضل النظم نظرا لكونه على نسق وزني واحد مما يجعل أمر حفظه أهون من النثر الذي يصعب كثيرا ضبط ترتيب مسائله وجمله وكلماته وخاصة عندما يكبر حجمه كما يستغرق الكثير من الوقت في عملية الحفظ، ولهذا لجأ أهل العلم إلى نظم العلم كي يقربوه ويسهلوه للطلبة، ومع هذا فإن هناك متونا نثرية عند بعض المذاهب حفظها مقدم على حفظ المنظومات كمختصر خليل عند المالكية.
وهنا أذكر جملة منظومات جميلة ومهمة في الفقه الشافعي لمن يريد الحفظ وهي:
الزبد لابن رسلان وهي تزيد على الألف قليلا وعليها عدة شروح منها: مواهب الصمد للفشني وهو كتاب يتناسب مع مستوى المتن .
نظم متن أبي شجاع للعمريطي في حوالي ألف بيت ونصف.
نظم العمريطي لمتن التحرير في (2700بيت)(1).
__________
(1) وفي الأصول يحبذ حفظ نظم الكوكب الساطع،وهو نظم جامع مانع كأصله وتبلغ أبياته 1450 بيتا ، وفي القواعد الفقهية: نظم الفرائد الفقهية للأهدل.(1/7)
ثم بعد هذه المرحلة تأتي مرحلة الاطلاع على ما عند الآخرين من أهل العلم والمدارس الفقهية الأخرى عن طريق كتبها المذهبية أو عن طريق كتب الفقه المقارن وهذا ما يفضلة الكثيرون لصعوبة دراسة جميع المذاهب، بيد أن ساحتنا الفقهية لا زالت تعاني من قصور واضح في هذا المجال وما في تراثنا الفقهي فأنواع: منها غير المكتمل ومنها غير المستوعب ومنها غير المحقق والمدقق فبعضها ينقل عن بعض المذاهب ويغفل أخرى مع عدم الاهتمام في أحايين كثيرة لنقطة مهمة جدا وهي القول المعتمد في كل مذهب والتنبيه عليه إضافة إلى ما قد يصاحب تلك النقول من أخطاء وأوهام، هذه السلبيات وغيرها نجدها تقل نوعا ما عند المعاصرين بيد أن الحاجة ما زالت ماسة.
ومن الكتب المفيدة في هذا الجانب:
المجموع للنووي إلا أنه لم يكمله إذ وصل إلى كتاب الصرف ثم كتب السبكي قريب الجزأين ثم أكمل الشرح محمد نجيب المطيعي بيد أن على شرحه مؤاخذات عدة لعل من أهمها أنه لم يسلك منهج النووي في شرحه مما جعل البون شاسعا جدا بين طريقتين ومنهجين ضمهما شرح واحد، إضافة إلى أنه اعتمد في بعض النقول على كتب لا تعتبر حجة في المذهب كالفتح وغيره، مما أوقعه في أخطاء مذهبية.
المغني لابن قدامة وهو كتاب رائع لولا إغفاله في معظم كتابه لمذهب مالك ومذهب أبي حنيفة في أحايين كثيرة، كما أنه كثيرا ما يقصر الخلاف داخل المذهب الحنبلي أو بينه والشافعي أو يقتصر على ذكر خلاف الصحابة والتابعين أو أئمة آخرين كالأوزاعي وإسحاق.
ومما ينبغي أن يتنبه له طالب الفقه أن كتب الفقه المقارن لا يعتمد عليها في معرفة المذاهب إذ كثيرا ما تغفل الضوابط والقيود والشروط والمعتمد كما سبق ذكره.
هل حفظ المتون غاية أو وسيلة؟
يخطئ خطأ جسيما من يظن أن حفظ المتون هي الغاية والهدف لطالب العلم عموما والفقه خصوصا، بحيث يبقى طوال عمره دائرا في فلك المتون يخرج من متن ليدخل في آخر دون ترك زمن للفهم والتدقيق والتحقيق.(1/8)
ونحن عندما نؤكد على مسألة حفظ المتون لا يعني هذا أن يتحول الحفظ إلى غاية، بل هو في حقيقة الأمر وسيلة للوصول إلى مرتبة الفقيه القادر على النظر والاستنباط والتعامل مع النصوص، والغاية لا أن يكون آلة تسجيل يردد ما خزن في ذاكرته، ولهذا لو وصل إلى هذه المرتبة دون حفظ بيت واحد فقد وصل إلى الهدف المروم.
كما أن هذا الشخص يضيع جهده هدرا دون فائدة جليلة وإلا فما معنى أن يضيع أحدهم عشرين عاما في حفظ مختصر خليل وفهمه، فمتى سيأخذ العلوم الضرورية الأخرى ومتى سينظر في مخرجات عصرنا وعلومه إنه ولا شك سيبقى حبيس القرن السابع طوال العشرين عاما وما يتلوها في حين أن الفقه تفاعل مع مشاكل المجتمع وحاجاته والتي تختلف في كثير من جوانبها عما كان الأمر عليه قبل عقود بله قرون.
يضاف إلى ما سبق تبلد الذهن الناتج عن المداومة على الحفظ وإعطاء حيز صغير للفهم فتفقد الملكة شيئا فشيئا إن وجدت ويقل مستوى الفهم وهذا لعمر الله لا يصح أن يكون فقيها ولو حفظ كتب الدنيا.
ولهذا كله نقول لمن أراد أن يحفظ المتون أن يقتصر على متن جامع أو شبه جامع مما أقره أهل العلم واعتمدوه في كل مذهب أو علم إن أراد من أجل أن يضبط له مسائله وكي يتمكن من الانطلاق بعد ذلك ليحقق معنى التفقه الحقيقي في علوم الدين والدنيا.
المذهبية:(1/9)
نشأت في تاريخنا الفقهي مدارس فقهية عدة بقي منها أربعة مدارس: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، وكان لكل مدرسة أتباع يتدينون على طريقة مدرستهم أو مذهبهم الفقهي، ورغم أن هذا الخلاف لا يفسد للود قضيه كونه خلافا في فهم النص دائرا في فلك الاجتهاد السائغ، ورغم أن أئمة هذه المذاهب عرف عنهم تبادل الاحترام والتقدير إلا أن بعض المنتسبين لهذه المذاهب شوهوا الوجه المشرق لهذا التنوع الفقهي فشابوه بالتعصب والموالاة والمعاداة على أساسه فضاقت قرى بأهلها وأحرقت بيوت وهجرت جماعات ووقعت المآسي الكثيرة بسبب هذا التعصب وهو التعصب المذهبي!
ولهذا جاء جيل من أهل العلم فرأوا ما أفضى إليه هذا التعصب إلى درجة أنه كان في المسجد الحرام أربعة أئمة للمذاهب الأربعة وغيرها فنادى بنبذ التعصب المذهبي واتباع الدليل.
والصحيح أن الفقهاء جميعا متبعون للدليل بيد أن الخلاف جاء من جهات أخرى بينها الشيخ ابن تيمية في رفع الملام، ومن هنا يخطئ من يرمي بثروة الفقه الإسلامي ومدارسه وراء ظهره ليبدأ مسيرة الفقه من جديد.
والصحيح أيضا أن التمذهب جائز ما لم يفض إلى مفاسد ومحرمات، ولكن ينبغي على طالب العلم وهو يدرس مذهبا ما أن يجعله وسيلة للتفقه لا للتعصب لأنه لو وقع في هوة التعصب فلا فرق بينه والعامي الصرف الذي يتعصب لكل شيء، وتصبح الدراسة المذهبية وبالا عليه وهذا ننصحه بعدم التمذهب وأن يكتفي بقراءة كتب الفقهاء المجتهدين والتي ستخفف عنه كثيرا من غلوائه، كما ينصح بذلك من تفقه على مذهب معين أن يطالع كتبا من المذاهب الأخرى كي يعلم استدلالاتهم وتعليلاتهم.
وليحذر دارس الفقه المذهبي من المدرس المتعصب والذي قد يبث بعضا من تعصبه في نفوس تلاميذه فإذا وجد مدرسا معتدلا في نظره يجعل من الدراسة المذهبية وسيلة للتفقه واسع الاطلاع على ما عند الآخرين محترما لأئمة الإسلام مبجلا لهم فهو الغاية وإلا فمن دونه، والحذر الحذر من نفثات التعصب.(1/10)
كما قد يجد طالب العلم ودارس الفقه المذهبي شيئا قد يقوده إلى التعصب المذهبي في بعض الكتب المذهبية فليكن على انتباه.
التمذهب والتصوف:
يروج البعض لفكرة أن كل من ينتسب على مذهب معين يجب أن يكون صوفيا معللا زعمه بالارتباط الوثيق بين المذهب والتصوف وأن علماء المذهب كلهم صوفية،
والكلام هنا عن التصوف الفلسفي والذي دخل فيه الدخل وتأثر بمدارس فلسفية بعيدة كل البعد عن الإسلام، أما التصوف بمعنى التزكية وما يتعلق بها كما يستخدمه البعض فليس كلامنا فيه، والأفضل أن يسمى تزكية كما سماه الله سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: { قد أفلح من تزكى } .
وحقيقة الأمر أن المدرسة الفقهية حسب ما أسسها مؤسسها لا علاقة لها بتاتا بما جاء بعد ذلك في تاريخنا من أفكار مضللة وبدع انحرفت بالعقل والمجتمع المسلمين إلى هاوية الاستعمار والضعف والخور، فالفقه غير التصوف تماما، والقضية أن التصوف غلب في القرون المتأخرة على العالم الإسلامي وكان هؤلاء المتصوفة ينتسبون إلى المذاهب الفقهية نظرا لانتشار التقليد، وبعض الملبسين يذكر جملا من أسماء هؤلاء ليدلل على زعمه في حين أنه لو رجع قليلا إلى الوراء سيجد أن نسبة المتصوفة تقل في كل قرن عن سابقه، وهناك الكثير من أهل العلم المنتسبين إلى المذاهب الفقهية كانوا يشنعون ويردون ويبينون أخطاء المتصوفة وخاصة الغلاة منهم، ويكفي مثالا على ذلك موقف الشيخ أبو بكر بن المقري الشافعي من متصوفة عصره اتباع ابن عربي وما قاله فيهم وشيخهم في مختصره للروضة.
النقل من الكتب المعتمدة:
وقد شكلت معرفة الكتب المعتمدة في بيان مذهب ما مشكلة لدى بعض الباحثين، ومن أجل عموم الفائدة أذكر هنا جملة من الكتب المعتمدة في نقل المذاهب الأربعة كي لا يلتبس الأمر على الباحث في نقله للمذاهب، وهذه الكتب كما يلي:
الحنفية: بدائع الصنائع، حواشي ابن عابدين
المالكية: شرح عليش على خليل فهو عمدة المتأخرين.(1/11)
الشافعية: تحفة المحتاج، ونهاية المحتاج
الحنابلة: المغني، منتهى الإرادات
ومن هنا يعلم خطأ نسبة الأقوال من خلال كتب التفسير أو شروح الحديث أو الرقائق وغيرها بل لا بد من توثيق المعلومة بالرجوع إلى الكتب المؤلفة خصيصا لبيان فقه المذهب والمعتمدة عند علمائه وإلا فستضعف مصداقية البحث وجدواه بل وقد تنعدم.
الفقيه وعلم الحديث:
كم تكون المنقصة كبيرة عندما يجهل طالب الفقه الحديث ومصطلحه فلا يميز بين الصحيح والضعيف والموضوع، إنه بلا شك يكون قد فقد شرطا مهما لمريد الوصول إلى مرتبة الاجتهاد.
هذا وقد كان للفقهاء الأوائل اهتمام كبير بعلم الحديث وترى الكثير منهم بلغوا درجة طيبة في هذا العلم، في حين نجد العكس في الفقهاء المتأخرين الذين كانوا يكتفون بأخذ الحديث من دواوين السنة بل ومن غيرها وقد يذكرها على شكل فائدة وقد يكون هذا الحديث موضوعا وهو لا يدري.(1/12)
ولهذا فعلى طالب الفقه أن يدرس السنة ويكثر من المطالعة فيها فيبدأ بالصحيحين البخاري ثم مسلما ثم السنن أبي داود، والترمذي والنسائي وابن ماجة ثم سنن الدارمي إذ كانت في الأصل مكان سنن ابن ماجه ثم جاء ابن طاهر واستبدل سنن ابن ماجة بالدارمي(1) ثم موطأ الإمام مالك ثم مسند أحمد ثم الكتب التي التزم أصحابها الصحة كابني حبان وخزيمة والحاكم ثم المستخرجات وغيرها من كتب الحديث، وقد ذكر الشوكاني في أدب الطلب عندما قسم العلماء إلى أربعة مراتب أن على صاحب المرتبة الأولى أن يلازم قراءة السنة دون الاكتفاء ببعض مصادرها، في حين ذكر الغزالي وجماعة من الأصوليين في الشرط الثاني من شروط المجتهد -وهو معرفة السنة- الاكتفاء بكتاب جامع كسنن أبي داود أو معرفة السنن للبيهقي، وقد نازعه أهل العلم فقال النووي: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود وكذا قال ابن دقيق العيد.
ومن الفوائد الجليلة للاطلاع على السنة وحفظها أو جزء وافر منها هو قوة الحجة كما قال الشافعي: من كتب الحديث قويت حجته(2) كما يسعف المفتي وغيره في المواقف الحرجة.
الفقه علم المشمرين:
كثيرا ما يحتج بعضهم بمقولة (العلم نقطة كثرها الجاهلون) محاولا بذلك ستر عجزه عن التعلم والسعي في طريق التفقه في الدين، ولا يدري أن المراد بالمقولة السابقة هو العلم الذي لا ينفع، ولهذا لن يصل أحد إلى ما وصل إليه علماء الأمة إلا بالمثابرة والقراءة والمطالعة والبحث والتدريس والتصنيف والسمر مع الكتب قارئا مفتشا منقبا، ولو كان العلم سهل المنال قريب المأخذ لكان الناس كلهم علماء، ولكن الأمر على خلاف ذلك.
الترميز الفقهي:
__________
(1) فائدة: تدخل الباء على المتروك في حيز: بدل والتبدل والاستبدال.
(2) تاريخ بغداد 7/276(1/13)
استخدم الفقهاء الرموز عوضا عن كتابة الأسماء والتي قد تطول أحيانا، واشتهرت بين فقهاء المذهب الواحد حتى أصبحت مصطلحا عاما لا يشذ عنه إلا القليل، وقد كان لكل مذهب ترميزه، وهذه جملة من رموز فقهاء الشافعية:
الرمز ... صاحب الرمز ... وفاته
(حج) ... ابن حجر الهيتمي ... ت 973هـ
(مر) ... محمد الرملي ... ت 1004هـ
(خط) ... محمد بن الخطيب الشربيني ... ت 977هـ
(بر) ... أحمد البرلسي المشهور بعميرة ... ت957هـ
(ع ش) ... علي الشبراملسي ... ت1087هـ
(زي) ... الزيادي ... ت1024هـ
(بج) ... سليمان البجيرمي ... ت1221هـ
(أج) ... عطية الأجهوري ... 1190هـ
(ج م) ... سليمان الجمل ... ت1204هـ
وغيرهم.
الاصطلاح الفقهي:
وكما اصطلح الفقهاء على رموز معينة تدل على شخصيات معينة كذلك اصطلحوا على جمل وألفاظ وألقاب وأسماء وكنى تدل على شخصيات ومعاني معينة تختلف باختلاف المذاهب كما قد تتفق في بعضها، وهذه جملة من هذه المصطلحات مما اصطلح عليه فقهاء الشافعية:
المصطلح ... المقصود بالمصطلح
(الإمام) ... أبو المعالي عبد الملك بن محمد الجويني.
(القاضي) ... عند الإطلاق القاضي حسين(1).
(القاضيان) ... الروياني(2) والماوردي(3).
(الشارح) أو (الشارح المحقق) ... الجلال المحلي، شارح المنهاج.
(الشيخان) ... الرافعي والنووي
__________
(1) الحسين بن محمد بن أحمد القاضي أبو علي المروذي، صاحب التعليقة المشهورة في المذهب، توفي في المحرم سنة اثنتين وستين وأربعمائة (طبقات الشافعية2/245)
(2) عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد بن أحمد، قاضي القضاة، فخر الإسلام، أبو المحاسن الروياني الطبري صاحب البحر وغيره، (سابق2/287)
(3) علي بن محمد بن حبيب القاضي أبو الحسن الماوردي البصري، أحد أئمة أصحاب الوجوه، قال الخطيب: كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعين، وله تصانيف عدة: في أصول الفقه وفروعه، توفي في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة (سابق2/230)(1/14)
(الشيوخ) ... الرافعي والنووي والسبكي(1).
(الشرح) ... شرح ابن حجر على المنهج القويم(2).
(الحاشية) ... حاشية ابن حجر على منسك النووي(3).
ويدخل في هذا مصطلحات النووي في المنهاج وغيره.
فقه الدليل:
يذكر البعض أن المذاهب الفقهية جنت على الفقه الإسلامي والمجتمع برمته، ويعللون ذلك بأن الناس التزموا مذاهب فقهية على حساب اتباع الدليل وأن المذهب أضحى عند المذهبيين مقدما على الدليل، كما جر هذا إلى ظهور العصبية المذهبية بشدة لدرجة أن الحرم المكي كانت تقام فيه أربع جماعات في وقت واحد.
ورد أصحاب الجانب الآخر ردودا عدة منها اللطيف والغالب منها كان طابعه الشدة لدرجة ان زعم أحدهم أن اللا مذهبية قنطرة إلى اللا دينية!!!
والحقيقة أن المذاهب الفقهية ليست كلاما فارغا لا معنى له، أو أنها لا تنبني على الدليل وقائل مثل هذا الكلام مخطئ خطأ جسيما، ويكفي أن تطالع الكتب المبينة لأدلة كل مذهب في أصول المسائل وفروعها كإعلاء السنن في الفقه الحنفي، والسنن الكبرى في الفقه الشافعي.
كما أننا لا يمكن أن نقذف في البحر بهذه الثروة الفقهية الهائلة والتي صنعها وفحصها أكابر علماء الإسلام، وأن نترك اجتهادات أئمة عظام لاجتهاد طلاب علم مبتدئين، لأن من المعلوم بداهة أن النصوص بالنظر إليها آحادا لا تفي بكل صور الحياة، مما تطلب أدلة أخرى دل عليها الشرع كالقياس باتفاق خلا الظاهرية، والعرف والاستحسان وشرع من قبلنا والمصلحة المرسلة وقول الصحابي عند بعض أهل العلم، وكل هذه لها ضوابط وشروط وتقسيمات، إضافة إلى المباحث الأصولية التي منها ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه.
ثم إن من يكتب في فقه الدليل ويدعو إلى اتباع ما كتب هو في الحقيقة يدعو الناس إلى تقليده.
__________
(1) انظر سلم المتعلم.
(2) المنهج القويم هو شرح حج للمقدمة الحضرمية .
(3) للإمام النووي كتاب في مناسك الحج وضع حج عليه حاشية سماها "الإيضاح".(1/15)
ولكن مع هذا نقول يمكن أن نقسم الناس على ثلاثة أقسام:
الأول: العامة والواجب على هؤلاء سؤال أهل العلم ممن يثقون بعلمهم ودينهم.
الثاني: طالب العلم الذي قد حصل قدرا جيدا -وأؤكد على قولي: جيدا- من العلوم الشرعية المشروطة في المجتهد فهذا يستطيع أن يرجح بين الأقوال في المسائل التى وردت فيها أدلة واضحة.
الثالث: المجتهد، وهو من بلغ رتبة الاجتهاد.
والقضية أن البعض يريد أن يقسم الناس إلى قسمين مجتهد وعامي ثم يشترط في المجتهد شروطا تعجيزية لا يمكن توفرها اليوم وهذا في الحقيقة يضرب الفقه والاجتهاد الفقهي بل والشرع الإسلامي في العمق، ذلك أن إيجاد الحلول الشرعية اليوم للكثير الكثير من قضايا الحياة المختلفة والمتنوعة أمر ضروري وإلا خسر الإسلام المعركة.
في حين أن الأمر أهون من ذلك.
الشوكاني مجددا:
قليلون هم أولئك العلماء الذين كان لهم الأثر والدور الفعال في حياة الأمة بشتى صورها بما فيها الحياة الفكرية، ومحاولة إخراج الأمة مما قد تقع فيه من خطأ، وهؤلاء هم من وصفهم الحديث المختلف في صحته: "يبعث الله على رأس كل سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" ومن بين هؤلاء الإمام الشوكاني صاحب الكتب النافعة والماتعة والذي أثر إيجابا على أجيال من الناس ولا زال تأثيره واقعا إلى اليوم.(1/16)
لقد استغرب الشوكاني كثيرا يوم أن كان صغيرا عندما سأل والده ذات مرة عن مسألة في "الأزهار" الكتاب المعتمد عند الزيدية(1)، تخالف الدليل، إذ كان جواب أبيه بأن هذا هو المذهب! ورغم مواصلته للدرس والطلب إلا أن السؤال لا زال يحيره: كيف يصح الدليل للمخالف في المذهب ثم لا نأخذ به بحجة أن المذهب يخالف؟!
فما لبث أن نزع رقة التقليد واجتهد وانتقل على السنة، فقام عليه الجماء الغفير من الناس وآذوه لخروجه عن مذهب الآل! وكان يدرس كتب السنة في الجامع الكبير بصنعاء رغم كل المحاولات البائسة لإثنائه عن درسه والتي تنوعت أشكالها وصورها.
وكان عاقبة صبره خيرا إذا عين قاضيا لقضاة اليمن في عصر ثلاثة أئمة زيدية، لا يعتبرهم بعض المتعصبين الزيديين من أئمتهم لكونهم أعطوا الشوكاني مكانه الصحيح ومكانته الحقة، فتمكن الشوكاني حينئذ بسبب موقعه من نشر مذهبه فنشأت مدرسته الفقهية والتي غطت بعد ذلك أقطار العالم الإسلامي.
__________
(1) يظن البعض خطأ أن غالبية اليمن زيدية، والحقيقة عكس ذلك تماما، فرغم انتشار رقعة حكم أئمة الزيدية في اليمن إلا أنهم لم يتمكنوا من نشر مذهبهم إلا في مناطق محدودة كانت في الأصل سنية على مذهب أبي حنيفة ومالك وأهل الحديث، ثم تحول أصحابها إلى هذا المذهب بفعل السلطة وغيرها، في حين ظلت معظم المناطق على المذهب السني بحيث تشكل نسبة الزيدية إلى السنة (10:1) علما أن الكثير من الزيدية عامة لا يعرفون التعصب المذهبي ولا يعتقدون عقائد الاعتزال وليس لهم من المذهب الزيدي إلا التأذين بحي على خير العمل، وإرسال اليدين وعدم التأمين وبدع عملية أخرى، كما يرجعون غالبيتهم إلى استفتاء العلماء الذين غالبهم من السنة، ومع انتشار المعاهد العلمية (الشرعية) والتي تتبنى منهج الشوكاني، في المناطق الزيدية تربت أجيال وعاد الكثيرون على حياض السنة كما كان آباؤهم وسلفهم قبل قدوم هذه المذهب، والحمد لله.(1/17)
لقد كانت دعوة الشوكاني إلى نبذ المذهبية والرجوع إلى المنبع الصافي مبنية على ما رآه من تعصب مقيت للمذاهب خرج بها عن إطارها الشرعي، إذ أصبحت عند بعض المتعصبة بمثابة الأديان لا المذاهب التي يجمعها دين واحد، ورأى كيف أن القرآن والسنة أهملا لدرجة فضيعة بحيث اقتصر الأمر على قراءتهما لمجرد التبرك فقط لا غير إما في المنازل أو في المساجد، أو أن يكون القرآن مجرد تمائم للاستشفاء، وليس وراء ذلك شيء.
فنهض الشوكاني فألف شرحا لبلوغ المرام يتكلم فيه على الحديث تخريجا وتحقيقا وشرح الحديث وفقهه مختارا للقول الذي يؤيده الدليل.
وبما أن الاجتهاد لا يتم إلا بالاجتهاد في علم الأصول كتب كتابه المختصر الماتع "إرشاد الفحول" وكان الجديد فيه اختياراته.
ثم كرّ على كتاب الأزهار فشرحه شرحا ناقدا في كتابه الشهير "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" فثار عليه بعض المتعصبة كان منهم شخص يدعى "ابن حريوة" وضع كتابا في الرد عليه أسماه "الغطمطم التيار المطهر لحدائق الأزهار من رجس السيل الجرار" قال الشوكاني حين سمع بهذا العنوان: وهل السيل الجرار ينجس أم يطهر؟!!
يقع هذا الغطمطم في حوالي ثلاثة مجلدات أو أكثر حشاه مؤلفه بالسب واللعن والتهجم المقذع الذي لا يليق بمسلم فضلا عن شخص يدعي في نفسه العلم، بل جل كتابه كان كذلك بحيث لو أخرجت السباب لما بقي من الكتاب إلا الثلث، وليت هذا الثلث كان ناقشا بالحجة والدليل بل جله هراء من مثل قوله بأن هذا القول مخالف لمذهب آل البيت، فلم يبق من الكتاب شيء في حقيقة الأمر، ثم كان عاقبة "ابن حريوة" هذا أن قبض عليه بتهمة الردة كونه يمارس السحر والشعوذة وحكم عليه بالموت ردة!!!(1/18)
العجيب في الأمر أن ابن حريوة أوغل في عداوته للشوكاني فزعم أن أباه كان يهوديا، ووصفه بابن اليهودية، فأخذ الكوثري هذا الكذب فطار به فرحا وكرره في مقالاته، فعجبت كيف أن هذا الرجل الذي كان نائبا للمفتي العثماني، والذي لا يجاوز كعب الشوكاني علما وأثرا يكبو هذه الكبوة فيصدق الشيعي المعتزلي المقتول بتهمة الردة في حق إمام من أئمة المسلمين، ولكنه التعصب المقيت الذي أوقعه في هذا الجور، وهو ذاته الذي أوقعه في طوام أخرى.
لقد وجدت الكثير من المتعصبين للمذاهب يقعون في عرض الشوكاني ويقللون من جهوده وعلمه، ويسمه البعض بالقاضي كالبنوري من متأخري الحنفية، مع أن أبا يوسف والكثير من فقهاء الأحناف كانوا قضاة، كما أن القضاء ليس ذما حتى يتندر به المتندر بل هو مزية لصاحبها كونه يعني معايشة صاحبها لهموم الناس ومشاكلهم واكتسابه الخبرة العملية في تنزيل الأحكام على الواقع، بل إن القضاء أبرز موقع وأفضله لمعرفة أحوال الناس وعاداتهم وأعرافهم وهذا من شروط الاجتهاد، فكيف بعد ذلك كله يوصم صاحبه بكونه قاضيا تقليلا من شأنه.
وأنت إذا أردت معرفة المتعصب المذهبي عرفته بوقوعه في مشايخ الإسلام: ابن تيمية وابن القيم وابن الوزير وابن الأمير والشوكاني، لأن هؤلاء كانوا دعاة حق لنبذ التعصب محاولين إخراج الأمة مما غرقت فيه من التقليد المقيت رغم وضوح الحق في كثير من الأحيان خصوصا بالنسبة لمن بلغ مرتبة عليا في العلوم الشرعية ومع هذا يحجز نفسه في بوتقة التقليد لسبب أو لآخر.
لقد عانى الشوكاني من متعصبة الزيدية كما عانى من متعصبة المذاهب السنية لا لشيء إلا لأنه عمل بما أوجبه عليه الشرع وهو الاجتهاد والدعوة إليه لكل مؤهل لذلك، وهذا ما لم يقبله البعض ولهذا كان الشوكاني شوكة في حلوقهم.
صلة الفقه بالعلوم العصرية:(1/19)
يظن البعض خطأ أن بلوغ مرتبة الفقيه قاصرة على مطالعة كتب الفقه القديمة أو حتى المعاصرة فقط والانكباب عليها وحفظها وفهمها دون إلقاء أي بال للعلوم العصرية والاكتشافات الحديثة مما يوقعه كثيرا في حرج كبير عند مناقشة هذه المسائل، أو عند الاستفتاء عنها مما يضطره إلى إحالة السائل أو الموضوع المطلوب منه إلى غيره وقد يمنعه هذا من حضور المنتديات العلمية والمؤتمرات الفقهية خشية الإحراج كما قد يعود هذا الجهل بالطوام في قضايا لا يفقه كثيرا منها ولا يدرك أبعادها وأسسها ومنطلقاتها مما قد يجعله فقيهاولكن لعصور غابرة أما عصرنا فلا أظن ذلك.
من المعلوم أن التصورات والتخلف التقني والبيئة المعرفية المتواضعة تؤثر تأثيرا كبيرا على فقه الفقيه واستنباطه وحكمه بالأحكام التكليفية من وجوب وحرمة وندب وإباحة وكراهة وأحكام وضعية من صحة وبطلان ورخصة وعزيمة ومانع وشرط وغيرها، والأقدمون كانوا يحكمون متأثرين بالبيئة المحيطة بهم بكل أبعادها فجاء العلم المعاصر والاكتشافات الحديثة فأظهرت الكثير من الحقائق والتي كانت تعد سابقا عند بعضهم من المستحيلات، وانقلبت الكثير من المعلومات والتي كان البعض يعدها يقينيات.
وأذكر هنا مثالا يبين جانبا مما سبق وهو أن المعتمد عند الشافعية أنه لا يجوز الصلاة على شيء في الهواء ما لم يكن متصلا بالأرض، فالصلاة على الأرجوحة لا تجوز ما لم تكن متصلة بالأرض وقد قالوا هذا القول قبل اختراع الطائرات التي تحمل المئات والتي تبقى أحيانا لساعات طويلة ثم هي عامة البلوى أي ليس الركوب على الطائرات نادرا بالنظر إلى كثير من الناس أو أكثرهم وربما لو وجد فقهاء الشافعية في هذا العصر لغيروا قولهم أو لاختاروا جواز أو وجوب أداء الصلاة دون قضاء، لأن قياس المذهب أنه يجب على راكب الطائرة أن يصلي لحرمة الوقت ثم يقضي.(1/20)
كم افترضوا افتراضات واختلفوا حولها والتي لا نجد لهذا الاختلاف وجها في هذا العصر كما في افتراضهم شخصا توضأ في مصر للصلاة في مكة هل يصح وضوؤه، وحدث خلاف كبير، في حين أن هذا الخلاف ضاقت دائرته باختراع الطائرات.
أعود وأقول إنه من الضروري أن يطلع الفقيه على جوانب من علوم العصر كي يفهم العصر ومتطلباته وضروراته بشكل أفضل، ولو تمكن من التخصص في علم آخر من العلوم الدنيوية فهو الأفضل، وإننا نتمنى بشدة أن تتبنى جامعات إسلامية هذا التوجه فتخرج لنا الفقيه الطبيب أو الفقيه الذي اضطلع وأخذ جرعات كافيه في الطب، ومثله يقال في الهندسة والاقتصاد وغيرها وربما دقت التخصصات لدقة العلم وتشعبه واتساعه.
فضاءات وعوائق:
ربما يكون علم الفقه أكثر العلوم الدينية رحابة وسعة نظرا لكون يتعلق بشؤون وصور الحياة والتي تتغير وتتبدل وتكثر أنماطها وصورها وهذا يعني ضرورة وجود فقهاء مجتهدين يبينون شرع الله في كل نازلة ويجب على الأمة أن تهيئ كل السبل من أجل ذلك، خاصة أن نوازل اليوم تستدعي سعة وتنوعا في الاطلاع وعمقا في فهم الوحي قرآنا وسنة، ودقة في تنزيل الأحكام وضبطها، أما لو كان مبدعا قادرا على إيجاد البدائل فقد تجاوز القنطرة وأصاب كبد الحاجة.
إن عصرنا يمر بسرعة مذهلة لدرجة أن المرء يصعب عليه متابعة تطوراته ونوازله، ولهذا كان لزاما على الفقيه أن يكون متابعا لتطورات العصر قدر استطاعته وأخص فقهاء المجامع الفقهية بذلك نظرا لما يتيسر لها من سبل.(1/21)
إن المجالات التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي المفصل فيها كثيرة، فالاقتصار في البحوث والتأليف على العموميات وأصول المسائل لا يكفي، وسأضرب هنا مثالا واحدا لمجال واحد يحتاج جهودا جبارة في هذا المضمار وهو المجال الطبي والذي يحتوي على نوازل كثيرة قد يصعب حصرها، نظرا لسعة هذا العلم وتطوره المستمر، وأنت لو بحثت عن الكتب أو الرسائل في هذا المجال لوجدتها نادرة للغاية وهي في أغلبها لا تخرج عن أصول المسائل.
إن حالة الفقر الفقهي هذه جعلت البعض ينفض يده من الفقه والفقهاء ويتجه صوب (الآخر) وهذا وإن كان لا يصح عذرا بين يدي الله سبحانه إلا أنه يظهر لنا مدى التقصير الذي نجنيه على ديننا وأمتنا وعلى الحقيقة.
مع هذا القول يستغرب حال باحثي الدراسات العليا والذين يرون في عنوان الرسالة وموضوعها مأزقا كبيرا لا يمكن تجاوزه إلا بصعوبة رغم وجود ركام من النوازل المتنوعة والمختلفة والسبب ولا شك يأتي من ضعف المنهج الدراسي الفقهي.
ولست أدري من هذا الفطحل الذي سيتخرج فقيها من أربع سنوات نصفها إجازات وعطل والنصف الآخر دراسة نتف من هنا وهناك، يضاف إلى هذا الجهل المطبق في تخصصات ومعارف أخرى بعضها لها علاقة بتخصصه، هذا بلا شك يعني العجز عن الوصول إلى مكامن حاجاتنا الفقهية ونوازلنا الحياتية، كما أن انعدام أساليب البحث والنظر والتحليل المبني على القواعد الشرعية وغرس حب المعرفة والتشجيع على تلقي العلم من أهله وعلمائه المتمرسين، كل هذه شكلت عوائق صعبة التجاوز إلى الفضاء الواسع، ولكن مع هذا كله فإن من نعمة الله على هذه الأمة أن الخير باق فيها إلى يوم القيامة ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وأملنا كبير في طلاب العلم الطموحين الذين يتتبعون مواقع العلم والعلماء ويبذلون الجهد والوقت والمال في سبيل التحصيل.
كتابة العلم:(1/22)
من نعم الله على الإنسان أن علمه القراءة والكتابة، وكانت الآيات الأولى في القرآن أمرة بالقراءة منبهة لفضل العلم قال سبحانه: { اقرأ باسم ربك الذي خلق () خلق الإنسان من علق() اقرأ وربك الأكرم () الذي علم بالقلم } وأقسم سبحانه بالقلم وما يسطره فقال: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } كل هذا يدل على أهمية ومنزلة العلم وكتابته، ومن ثم ذهب أهل العلم إلى جواز بل ندبية كتابة العلم بل لم يستبعد الحافظ ابن حجر وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم(1) ومثله الحافظ العيني حيث قال: "بل لا يبعد وجوبه في هذا الزمان لقلة اهتمام الناس بالحفظ ولو لم يكتب يخاف عليه من الضياع والاندراس(2) وحكى ابن حجر الهيتمي في التحفة القول بوجوبه واستوجهه حيث قال: " وكتابة العلم مستحبة وقيل واجبه، وهو وجيه في الأزمنة المتأخرة وإلا لضاع العلم، وإذا وجبت كتابة الوثائق لحفظ الحقوق فالعلم أولى"(3) والمراد بالوجوب هو الوجوب الكفائي كما في حواشي الشرواني نقلا عن الكردي.
من هنا يظهر أهمية كتابة العلم وتقييد وأن الاعتماد على الحفظ لا يكفي خاصة في العصور المتأخرة التي ضعفت فيها الهمم، والذاكرة تخون وتذهل خاصة مع توسع العلوم وتفرعها وكثرة المسائل والقيود والضوابط والقواعد والخلاف والتدليل والتعليل وغيرها مما قد ينسي بعضه بعضا.
ولهذا ينصح طالب العلم بأن يقيد الشوارد والفوائد العلمية وأن يكون معه دفتر يصحبه أثناء قراءاته ومطالعاته يدون فيه ما يخشى نسيانه أو الذهول عنه خاصة في المسائل الجديدة عليه والتي تكون غالبا عرضة للنسيان.
مثبتات العلم:
__________
(1) انظر الفتح 1/204
(2) عمدة القاري 2/158
(3) التحفة 1/ 33(1/23)
تمددت العلوم وتوسعت وكثرت فروعها مع تراكم الزمن والجهود ومن هذه العلوم علم الفقه مما يجعل ضبطه بالقراءة الأولى أو الثانية أو الثالثة أمرا صعبا وكثيرا ما تتفلت المعلومات وتنسى مما قد يحبط طالب العلم ويصيبه باليأس، وكثيرون هم الذين يسألون عن وسائل تثبيت العلم، والجواب أن هناك عدة وسائل لتثبيت العلم هي:
تقوى الله سبحانه، حيث قال { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } .
العمل بما يعلم.
الإكثار من المطالعة، فإنها زاد العالم.
التدريس: وهو وسيلة ناجعة جدا لتثبيت العلم، ولهذا ينصح أهل العلم بأن الطالب إذا قرأ كتابا كمتن أبي شجاع مثلا وأراد مراجعته وتثبيته فعليه بالتدريس، إذ بالتدريس سيضطر لاستيعاب الشرح ومراجعة الشروح والحواشي وحفظ الضوابط والقيود واستيعابها وقد تظهر له إشكالات لم تخطر له على بال أثناء دراسته فيسعى لإزالتها إما بمراجعة الكتب أو بسؤال من هو أعلم منه، كما أنه سيتوقع أسئلة قد ترد عليه فيحاول البحث والسؤال للإجابة عنها، فيكون هذا دافعا له في البحث والسؤال.
التأليف: وهو من مثبتتات العلم وداع إلى التزود منه وتحقيق مسائله وتدقيقها، والتوسع فيه مما يوسع إدراكه وعلمه وفقهه ويصقل موهبته الكتابية، وهو في تأليفه هذا مخير بين الكتابة في مسائل معينة كأحكام البسملة، وأحكام القرعة مثلا أو في مباحث الفقه كافة كتأليف شرح له مزايا خاصة لمتن صغير أو متوسط، أو اختصار كتب مطوله أو تعليق على شرح وهكذا.
حكم التفقه في الدين:
للتفقه في الدين حكمان:
فرض عين: وذلك في كل ما يجب على المسلم أن يقوم به كالوضوء والصلاة والزكاة إذا كان من أهلها، كما يكون التفقه عينيا في بعض الأبواب فالتاجر مثلا يجب عليه تعلم أحكام التجارة والمزارع يجب عليه تعلم الأحكام المتعلقة بالزراعة ولا يجب التعمق في تلك الأبواب بل المقصود أن يتعلم أصول المسائل وما معرفته ضرورية لكونها متعلقة بصلب العمل.(1/24)
فرض كفاية: وهو غير ما سبق مما لا يجب معرفته عينا على كل مكلف، وقد نص أهل العلم على أن تعلم العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقي لقوله تعالى: { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } التوبة122.
لحوم العلماء مسمومة:
ابتلي بعض طلبة العلم بالقدح في بعض أهل العلم والسخرية منهم والطعن في دينهم ودعوتهم، وكأنهم لم يقرؤوا يوما قوله- صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وإذا كان هذا في حق كل مسلم فكيف بمن نفع الله به الدين وأعلى به راية الشرع، ومن أمر الله بطاعتهم فقال: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وأولوا الأمر هم العلماء كما قال مالك والأمراء كما قال الشافعي، وأهل العلم هم من أو جب الله على كل مسلم ان يرجع إليهم فيما يجهل من دينه { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
لقد سخر بعض المنافقين من القراء فانزل الله { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ () لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } .(1/25)
وقد بوب الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب بابا بعنوان: "الترغيب في إكرام العلماء وإجلالهم وتوقيرهم والترهيب من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم" ذكر في جملة من الأحاديث حول هذا المعنى، ولو لم يكن من دليل حرمة الطعن في العلماء إلا أنه داخل في الغيبة دخولا أوليا لكفى ذلك ترهيبا من الإقدام عليه، ولو سأل هذا المغتاب المجترئ نفسه هل يرضى هذا لنفسه، وإذا لم يقبله فكيف يرضاه لغيره.
لقد سمعت بعضهم يسب سبابا مقذعا ويلعن بل ويكفر مجموعة من فقاء الإسلام لدرجة الهسترة، وكأنك تقف أمام سوقة لا أناس يزعمون التدين، وهم أنواع:
منهم من يدعي السلفية والسلفية منه براء، وهذه هي كتب الأخلاق والتراجم تحكي حال السلف، كما أن السلفية تعني التقيد بالدين المأخوذ من القرآن والسنة.
وباسم الكلام على المبتدعة يقل بعضهم أدبه بل ويزداد سفاهة بعد سفاهة وهو لا يملك من العلم شيئا إلا ما يتدارسه مع الحاضرين معه.
ومنهم من يدعي التصوف بمعناه التزكوي ثم لا نرى للتزكية أثرا، خاصة إذا كان الأمر متعلقا بالشيخ ابن تيمية ومنهجه وكم وكم سمعت وقرأت للمناوئين له وهم يسبونه ويشتمونه ويلعنونه بل ويكفرونه ولولا أنه لم يكن في عصره استعمار غربي وجواسيس لقالوا بأنه عميل لتلك الدول، بل قرأت لأحد الأثيوبيين المقيمين حاليا في لبنان كتابا في المولد يكذب فيه على شيخ الإسلام دون خجل أو حياء وكأنه يركن إلى تصديق أتباعه له، ويظن أن الناس لا يقرؤون، وأن كذبه سينطلي على الآخرين... لقد خاب ظنه.
وصنف ثالث رأى في أهل العلم المشهود لهم بسعة الاطلاع والفقه في الدين والذين عركتهم الحياة وتشبعوا بمقاصد الشرع وحكمه رأى فيهم مداهنين للحكام متزلفين لهم فأخذ يصب جام غضبه وحنقه عليهم وقد لا يتورع عن التكفير والتفسيق!!!(1/26)
ولا شك أن هؤلاء ليسوا بطلاب علم بتاتا لأن المواصفات الضرورية لطلاب العلم أن يخشوا الله خشية تمنعهم عن اقتراف تلك الآثام، والله يقول: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وقال بعض السلف أخذا من هذه الآية: إنما العلم الخشية.
فاسألوا أهل الذكر:
من البدهي أن الواجب على كل مسلم ممن لم يبلغ مرتبة النظر والترجيح أن يرجع إلى الفقهاء العاملين المشهود لهم بذلك، المؤهلين للفتوى وتتوفر فيهم شروط المفتي التي ذكرها أهل العلم، لأن هؤلاء هم أهل الذكر الذين أمرنا الله بالرجوع إليهم فقال: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والذكر هو القرآن كما جاء مبينا في آية أخرى، وأهل القرآن هم العلماء بمراد الله والقادرون على الاستنباط منه، ولهذا سمي بالموقع عن الله،ولا يجوز بتاتا الرجوع إلى كل أحد فليس كل ملتح أو إمام مسجد فقيه في الدين.
إن كل من يتصدر الفتوى وهو غير مؤهل آثم بلا شك لمخالفته الآية السابقة ولقوله سبحانه: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } النحل116
بل لقد جعل الله القول عليه بغير علم أعظم من الشرك كما في قوله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" قال ابن القيم: "فرتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه"(1).
فالمسألة جد خطيرة ولهذا وجب التنبيه.
__________
(1) إعلام الموقعين 1/38(1/27)
أهل الرأي وأهل الحديث:
شاع بين أوساط المثقفين والكثير من طلبة العلم تقسيم الفقهاء على مدرستين: أهل رأي وأهل حديث، وأن أبا حنيفة يمثل الأولى ومالك يمثل الثانية، وأصبح هذا التقسيم من المسلمات والبدهيات، والصحيح أن هذا التقسيم لا صحة له البتة، فالرأي إذا كان المقصود به القول على الله بغير علم واتباع الهوى وما شابه ذلك فهذا مما لا يجوز أن يتبناه مسلم فضلا عن إمام مجمع على إمامته، وإذا كان المقصود بالرأي هو إعمال العقل في استنباط الأحكام من النصوص وسبر علل التشريع وتعدية الحكم إلى صور أخرى لاتحاد العلة أو الحكمة التشريعية، وملاحظة مقاصد الشرع وحكمه وتقديم الأقوى دليلا على غيره، فيشمل الرأي على هذا كل الأدلة التالية للقرآن والسنة والإجماع كالقياس والاستحسان وغيرهما، إذا كان هذا هو المقصود بالرأي –وهو كذلك- فهذا مما يفاخر به من ينسب إليه، بل لا يمكن أن يكون الفقيه فقيها إلا إذا كان كذلك، وعليه فلا يكون هذا القسم حكرا على أبي حنيفة أو مدرسة العراق بل إن لمالك وغيره من الأئمة القدح المعلى في ذلك مثلهم مثل أبي حنيفة وغيره، ومذهب مالك مشحون بالادلة الواضحة على عمق فقهه ودقة استنباطاته.
كما أن نسبة أبي حنيفة إلى مدسة الرأي يوحي -كما فهم البعض- ببعده عن السنة والركون إلى إعمال العقل ورد النصوص، والحقيقة أن أبا حنيفة كغيره من الأئمة كان معظما للشرع ونصوصه متبعا لما جاء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بل لقد كان يقدم الحديث الضعيف أحايين كثيرة على الرأي، وإنما كان أبو حنيفة في بلدة قل فيه حديث رسول الله وكثر فيها الكذابون والوضاعون فكان يتحرز في الأخذ بالسنة فإذا ما جاء بها من يثق به أو نحوه قبلها على الرأس والعين.(1/28)
إما نسبة مالك إلى أهل الحديث فيوحي –كما يفهم البعض- بأنه ظاهري لا يعمل المقاصد والعلل، وهذا مناقض صراحة لما يدل عليه فقه مالك أصولا وفروعا، ويكفي أن من أصوله أصل وصل فيه على ذروة إعمال الرأي تبعا للدليل وهو أصل المصلحة المرسلة، وما تبعها من أصول وفروع تدل بجلاء على علو قدره وسمو فقهه، وللشيخ ابن تيمية رسالة ضمن مجموع الفتاوى وطبعت مفردة في ترجيح مذهب مالك بناء على قوة تأصيل وتفريع الفقه المالكي.
والذي أفاد منه مالك بدرجة كبيرة في سمو فقهه هو وجوده في موطن السنة المدينة، مما يسر له معرفة السنة والالتقاء بجهابذتها من القاطنين في المدينة أو الجاءين إليها، على عكس ما حصل لأبي حنيفة ولربما كان هذا هو الدافع للتقسيم السابق.
الاجتهاد والتجديد:
لعل من أهم ما يميز الدين الإسلامي حثه على الاجتهاد وتجديد الدين والذي يعتبر حاجة تحتمها طبيعة هذا الدين وتفرضها الخصائص التي خص الله بها هذه الشريعة الغراء نظرا لتناهي النصوص كمّا مقابل عدم تناهي الحوادث والواقعات مما عنى ضرورة فتح باب الاجتهاد للمجتهدين المؤهلين القادرين على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة وتنزيلها على الواقع، والقادرين أيضا على تجديد معالم الدين وتنقيته مما علق به من البدع والخرافات وإزاحة ركام الضلالات الذي تكون عبر قرون من الجهل والاستعمار.(1/29)
ونظرا لأهمية الاجتهاد وضرورته كونه يشكل الأساس الذي يقوم عليه التجديد وتفعيل خاصية صلاح الإسلام لكل زمان ومكان، حدد علماء الإسلام الشروط التي يجب أن تتوفر في مدعي الاجتهاد والتي تتمثل في معرفة آيات القرآن وخاصة ما اصطلح على تسميته بآيات الأحكام والتي تبلغ حوالي الخمسمائة أية، ومعرفة السنة وخاصة أحاديث الأحكام ومصطلح الحديث بحيث يستطيع التمييز بين الصحيح والضعيف ومواطن الإجماع والخلاف، ومعرفة اللغة العربية، والأصول ومقاصد الشرع وعادات الناس وأعرافهم، فمن لمن تتوفر فيه كل هذه الشروط لم يجز له الاجتهاد، لأنه ببساطة موقع عن الله سبحانه وقد توعدالله القائل عليه بغير علم بالوعيد الشديد.
وفي تاريخنا الفكري نجد الكثير الكثير من المجتهدين الذين حفظ الله بهم الدين بيد أن الرسم البياني يظهر لنا أن غالبيتهم من القرون الإسلامية الأولى ثم ينزل قليلا قليلا حتى يصل إلى مستوى متدني قريب من الصفر.
فالمجتهدون في عصر الصحابة كثر وكذلك الأمر في التابعين وتابعيهم، واستقر الاجتهاد الفقهي بنشوء مدارس فقهية كتب لبعضها الانتشار والاستمرار كالمذاهب الأربعة ولأخرى الاندثار.(1/30)
ثم جاء أتباع المدارس الفقهية فاهتموا بالتأصيل للمذاهب والتفريع عليها، وترجيح الأقوال أو الروايات المعتمدة على غيرها، وبدأت دائرة الاجتهاد تضيق، فبعد فترة الفقهاء الأربعة زعم البعض أنه لم يأت بعدهم مجتهد مطلق، فزالت المرتبة الأولى من مراتب الاجتهاد وبقيت مراتب أخرى كمرتبة المجتهد المنتسب لمذهب كما هو حال المزني المنتسب للمذهب الشافعي، ومحمد بن الحسن وأبي يوسف المنتسبين للمذهب الحنفي، وهذه المرتبة زالت بزوال أصحابها أيضا، ثم تلت هذه المرتبة مرتبة ثالثة واصطلح البعض على تسميتهم بأصحاب الوجوه وهم من يستنبطون بناء على قواعد المذهب وأصوله ثم اختفت هذه المرتبة وظهرت مرتبة ثالثة وهي مرتبة مجتهدي الفتوى كالنووي والرافعي ثم ظهر طبقة أدنى حتى قيل لم يبق مجتهد من أي نوع وأن علماء العصور المتأخرة ما هم إلا مقلدين.
ونلاحظ هنا أن تصنيف العلماء لم يكن بناء على الأهلية والمستوى العلمي بقدر ما كان على تصنيفا زمنيا فكل جيل يرى نفسه أقل ممن سبقه ولو بذل في سبيل العلم والتعلم جهده ووقته كله، وجمع علوم الاجتهاد، وزعموا جواز خلو الزمان من مجتهدين قائمين لله بالحجة.
والغريب في الأمر أن هذه المقولة تنقل عن القفال قال الشوكاني في الإرشاد: "ولكنه ناقض ذلك فقال إنه ليس بمقلد للشافعي وإنما وافق رأيه رأيه" وقد رد واستغرب بعض أهل العلم هذه المقولة فابن دقيق العيد يقول في شرح خطبة الإمام: والأرض لا تخلوا من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح الحجة إلى أن يتأتى أمر الله في أشراط الساعة الكبرى" وقال الزركشي في البحر: "ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد" وهذه حكاية إجماع على وجود مجتهدين بعد عصر الفقهاء الأربعة.
أما الغرابة التي تحملها هذه المقولة فمن نواح عدة منها:(1/31)
1- أن القفال والغزالي والرازي وهم من تنقل عنهم هذه المقوله قد ادعى بعضهم لنفسه الاجتهاد، كما أنهم عاصروا مجتهدين كثرا ممن توفرت فيهم آلة الاجتهاد بل زيادة عليها.
2- وغريب من ناحية أن التأهل للاجتهاد والقدرة على الاستنباط مع كمال الفهم وقوة الإدراك فضل من الله على بعض عباده فهل رفع الله هذا الفضل؟ وهل من دليل على ذلك؟ في حين أن كثيرا من المتأخرين يتوسعون في باب الكرامات توسعا غريبا بل مخيفا في أحايين كثيرة، ويردون على مستكثرها بأنها من فضل الله وفضل الله واسع ولكنهم لا يرون فضله الواسع في باب الاجتهاد ويزعمون توقف عجلة الاجتهاد منذ قرون وهذا ما فتح المجال واسعا للدعاوى الباطلة والكرامات المزيفة والتي بنى عليها بعض المتأخرين أحكاما شرعية، بل وأدخلوها في صلب الدين وضيق الخناق على المجتهدين ومنعهم من بيان الحق وبدلا من أن يكون الاجتهاد مبنيا على القرآن والسنة أصبح مبنيا على الرؤى والمنامات والكرامات والاستحسانات التي لا دليل عليها إلا عمل فلان أو علان رغم أن هذه الاستحسانات ونحوها مما استحبوه أو حرموه أو حكموا عليه بأي حكم من الأحكام الخمسة داخل في دائرة الاجتهاد بلا ريب، ولكنه اجتهاد غير مقبول لسبب بسيط وهو أنهم أغلقوا باب الاجتهاد من وجهة نظرهم ولكونه من غير المؤهلين اجتهادا من وجهة نظرنا.
3- لا تستند هذه المقولة على حجة أو دليل واضح إلا العدم المزعوم ولا شك أن عدم الشيء لا يدل على استحالة حدوثه.
4- غلق باب الاجتهاد لا يعدو أن يكون اجتهادا محتملا للصواب والخطأ، وقد أثبت التاريخ خطأه.
5- استدل بعضهم لهذه المقولة بالإجماع أي إجماع المجتهدين على انعدام المجتهدين وهو دليل يناقض نفسه.(1/32)
6- أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره والسنة المطهرة قد دونت وتكلم الأمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد وقد كان الواحد من السلف الصالح يرحل في طلب حديث واحد من قطر إلى قطر فالاجتهاد على المتأخرين أيسر وأسهل من الاجتهاد على المتقدمين، مما يعني أن يرتفع الخط البياني ليدل على كثرة المجتهدين وتوسع علومهم وقدراتهم، لا أن ينعكس الأمر لأن هذا يعني أن تدوين العلم وجمعه وتيسيره نقمة لا نعمة وأن الفقيه الذي يحفظ بضع مئات أو آلاف من السنة وبضعة أقوال مؤهل للاجتهاد دون من جمع السنة والكلام على رجالها وتيسر له معرفة الصحيح منها والسقيم وغير ذلك ممن قرأنا في كتب التراجم عنهم بأنهم موسوعات علمية متنقلة لو وزع ما فيها على عشرات الناس لكانوا مجتهدين قال الشوكاني في الإرشاد "منهم ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد ثم تلميذه ابن سيد الناس ثم تلميذه زين الدين العراقي ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني ثم تلميذه السيوطي فهؤلاء ستة أعلام كل واحد منهم تلميذ من قبله قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة عالم بعلوم خارجه عنها ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم والتعداد لبعضهم".
وعلى الرغم من كثرة المجتهدين وتتابعهم كان الصوت الأعلى في النهاية لدعاة التقليد وغلق باب الاجتهاد وذهاب فضل الله الواسع مع ذهاب القرون المفضلة!!! مما جر الأمة إلى غياهب الجهل والتعصب وحصارها فكريا ووقف عجلة التقدم في حين كان الآخرون يسابقون الزمن فما درينا إلا والمستعمر في عقر دارنا.(1/33)
إننا نلاحظ كيف تزامنت قوة الأمة وانتصاراتها وفتوحها الواسعة مع عصور الاجتهاد وكيف أن هذه القوة والصمود بدأت تضعف رويدا رويدا مع التضييق على الاجتهاد ومحاصرته حتى أضحت الأمة جملة مقلدين يرون في بعض عباداتهم والتي يغلب على كثير منها مخالفة الشرع كل الدين، ولم يعد يوجد من أهل العلم إلا مقلدين كذلك وليت الأمر توقف على هذه الحال بل ما لبث أن انقرض هؤلاء كذلك حتى أنك تمر على عشرات القرى لا تكاد تجد فيها عالما أما السحرة والمشعوذين والقبور والسدنة وأرباب تقبيل الركب فهم بالمئات.
ومع بدايات العصر الحديث تطرف البعض فدعا لفتح باب الاجتهاد لكل أحد حتى ولو جهل كتابة اسمه، بل تعدى الأمر طوره إذ تجرأ بعض أولئك على الوقوع في أعراض أكابر أهل العلم المتقدمين الذين عم نفعهم وعلمهم، بل وتزوير الحقائق البدهية عنهم كقول أحدهم: "إن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيرا من قضايا الحياة العامة إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة ولذلك كانت الحياة العامة تدور بعيدا عنهم" وكأن العلماء جاؤوا وعاشوا في كوكب آخر وأنهم يقطنون المساجد لا يخرجون منها، ولا أدري أين كان يريد أن تعقد الدروس، أفي السوق مثلا، ثم ألم يقرأ أو يسمع عن جهود العلماء في الذود عن حياض الأمة دينا ودنيا كالإمام أحمد والعز ابن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم، ويزداد الجحود عند هذا القائل عندما ينكر وجود أحكام فقهية يمكن أن تؤسس بناء اقتصاديا للمجتمع الحديث، في حين أن كتب الفقه العامة والمتخصصة مليئة بأحكام المعاملات المالية والتقعيد لها، وزاد كم هذه الكتابات في العصر الحاضر مع الرسائل العلمية والبحوث الأكاديمية والمجمعية والفردية، حتى غدا الاقتصاد الإسلامي منهجا متكاملا تطبقه الكثير من المؤسسات.(1/34)
وحمادى القول أن الاجتهاد له شروط إذا ما توفرت في شخص وجب عليه الاجتهاد وحرم عليه التقليد، وإذا لم تتوفر فالواجب عليه سؤال أهل العلم الثقات، ولا يجوز سؤال غيرهم ?فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وأهل الذكر هم أهل القرآن العالمون به والمستنبطون منه المؤهلون لذلك والذين تلقوا العلم من نبعه الأصلي وعلى يد العلماء الأكفاء، ومن هنا يظهر تطرف القولين السابقين وإن كان القول بجواز الاجتهاد لكل مسلم أشد خطرا وفتكا كونه اعتداء على شرع الله وقول على الله بغير علم { قل إنما حرم ربي الفواحش...وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } والطريف أن دعاة هذا النوع من الاجتهاد ليسوا من المتخصصين في علم الشرع رغم أننا نعيش عصر التخصصات واحترامها ورغم أنهم وغيرهم كثيرا ما يؤكدون على الرجوع في كل علم إلى أهله، ولكن عندما يتعلق الأمر بشرع الله وتعبيدهم لمراده سبحانه واتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومراعاة مشاعر المسلمين ورغبتهم في الحياة وفق الدين والفوز في الآخرة برضوان الله وجتنه يصبح الأمر كلأ مباحا لكل مريد التكلم فيه بحق أو بغير حق بعلم أو بغير علم، إنها ارتكاسة فكرية ومنهجية ودينية أصابت هؤلاء وبدلا من أن يوجدوا للأمة الحلول الناجعة الناتجة عن الدراسة المتأنية للشرع والواقع وفتح أبواب مغلقة إذا بهم يغرقون الأمة بفلسفات لا معنى لها ويتسورون جدران الشرع ليكونوا في نهاية المطاف بعيدين كل البعد عنه وإن زعموا خلاف ذلك، وإنهم بدعوتهم هذا -زيادة على ما سبق- يوسعون الخرق ويتسببون في وقوع فتنة الاختلاف والفرقة ويفتحون الباب واسعا أمام الأهواء التي لا تقف عند حد ولا تنضبط بضابط وبدلا من أن يكون لدينا مذاهب فقهية معدودة لأئمة معتبرين إذا بها مئات الفرق إن لم يكن أكثر، والطريف أيضا أن نجد بعض دعاة هذا الاجتهاد العجيب ممن لا صلة لهم بعلوم بالشرع من قريب أو بعيد كما أنهم لم يتلقوا علومهم عن الثقات المسلمين،(1/35)
فتخصصاتهم غالبا الفلسفة والذي أثبت علماء الشرع والتاريخ والتجربة عدم جدواها، والكل يعلم أن من الأسباب الرئيسية للتقدم الغربي هو نبذه للفلسفة واعتماده على العلم التجريبي، هذا العلم الذي أكد كون هذا الدين من عند الله وأثبت صوابية منهجه واعتنقه الكثيرون بناء على هذه الحقيقة.
ورغم كل ما سبق هناك أمل عريض يبعثه وعد الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأنه يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة دينها كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره والذي صححه جمع من أهل العلم كالمناوي والسخاوي والعراقي بل نقل السيوطي في مرقاة الصعود اتفاق الحفاظ على تصحيحه، ونعني بالتجديد إحياء وبعث ما اندرس منه وتخليصه من البدع والمحدثات وتنزيله على واقع الحياة ومستجداتها، ومن خلال هذا التعريف نلاحظ أن كل المحاولات التي تهدف إلى تطويع الدين وجعله مسايرا لما فرضه (الآخر) بسطوته من أعراف وقيم غريبة ومنكرة تحت شعار التجديد والتطوير والإصلاح ليست من التجديد في شيء.
والظاهر أن التحديد برأس القرن تقريبي وليس احترازيا، والمقصود من الحديث أن المجدد من تأتي عليه نهاية القرن وقد ظهرت أعماله التجديدية واشتهر بالإصلاح وعم نفعه، ولا يشترط أن تقع وفاته قبيل نهاية القرن أو أن يبقى حيا حتى يدخل عليه القرن التالي، و (من) في الحديث للجمع لا للمفرد، فلا يلزم أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلا واحدا وإنما قد يكون واحدا وقد يكون أكثر منه خاصة في العصور المتأخرة نظرا لاتساع مجالات الانحراف وطرقه وأسبابه واتساع رقعة الأمة وانتشارها.(1/36)
ولا يلزم أن يكون المجدد من الفقهاء خاصة –كما ذهب إليه بعض أهل العلم- فإن انتفاع الأمة بالفقهاء وإن كان نفعا عاما في أمور الدين فإن انتفاعهم بغيرهم أيضا كثير مثل أولي الأمر وأصحاب الحديث والقراء وغيرهم فإن كل قوم ينفعون بفن لا ينفع به الآخر هذا ما قاله ابن الأثير وللنووي والذهبي وابن كثير والحافظ ابن حجر نحوه.
ولا بد من توفر شروط التجديد فيمن يدعى فيه ذلك والتي تتمثل في أن يكون معروفا بصفاء العقيدة وسلامة المنهج، وأن يكون عالما بل شرطوا أن يكون مجتهدا " قائما بالحجة ناصرا للسنة له ملكة رد المتشابهات إلى المحكمات وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان" كما قال المناوي في فيض القدير، وأن يشمل تجديده ميداني الفكر والسلوك في المجتمع، وأن يعم نفعه أهل زمانه.
وفي تاريخنا الإسلامي محطات تجديدية كثيرة عنت بتجديد الدين في مجالاته كلها سياسة وعقيدة ومنهجا وعملا وسلوكا وغيرها، ومن هؤلاء المجددين نذكر عمر ابن عبد العزيز والذي جدد الدين في المجال السياسي بإرجاعه أمر توليته إلى الأمة، وكان يطالب عماله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيمن يولونه شأنا من شؤون المسلمين، وغدا مضرب المثل في العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم جاء الشافعي مجددا للقرن الثاني والذي تمثل تجديده في دفاعه عن عقيدة الإسلام ضد الدعوات المنحرفة المتأثرة بالتيارات الخارجية، ونصرته للسنة حتى لقب بناصر السنة وبرزت نصرته للسنة في وضعه لقواعد علم أصول الحديث، وتعظيم السنة ورد شبهات المنكرين لحجيتها أو حجية بعضها، وجمعه بين رواية السنة ودرايتها وعموم علمه أهل الإسلام، بل لو لم يكن له إلا كتاب الرسالة والذي يعتبر أول كتاب في علم الأصول والذي يعد بحق من أعظم الآثار الإسلامية التي استحق بسببها الإمام الشافعي أن يوضع في سجل الخالدين.(1/37)
وفي أواخر القرن السابع وأوائل الثامن ظهر شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية والذي نبغ نبوغا في علوم الشرع قل نظيره، والمميز في شخصيته والذي أعطاه بعدا لم يتوافر لغيره أنه نشأ في عصر اعتورته أحداث كبار ومتغيرات كثيرة، واضطرابات سياسية وفكرية لم يسبق لها مثيل، وقد تمثل تجديده في جهاده ودفاعه عن بلاد الإسلام ضد الغازين ودفاعه عن الدين عقيدة وشريعة ضد البدع والخرافات والأفكار الدخيلة على الإسلام، والعودة به صافيا نقيا كما كان أول أمره، وقد ألف الكثير من الكتب والرسائل والفتاوى في سبيل ذلك وخلف لنا ثروة كبيرة.
ونلاحظ أنه رغم إغلاق بعضهم باب الاجتهاد إلا أن مسيرة التجديد استمرت وستبقى إلى ما شاء الله، إلا أن القبول العام للأعمال التجديدية قد يكون محدودا في مكان دون آخر وفي زمن دون زمن فابن تيمية مثلا لاقى تجديده قبولا واسعا في عصور متأخرة أكثر بكثير مما لاقى في عصره، والشوكاني كذلك كما انتشر علم الشوكاني في مناطق بعيدة عن بلده كالهند في حين أخفقت أحايين في موطنه.
ولكون التجديد له رنينه الجذاب حاول بعض العصريين ركوب موجة التجديد لكن تجديده كان مغايرا تماما لما صح في السنة ولما نعرفه من الشرع وأهله، فنرى الولع الشديد بما يسمونه تجديدا حتى يخيل إليك أنه يريد تجديد كل شيء حتى جلده.
فمن داع لنسف الدين كله عقيدة وشريعة، إلى مقدس للعقل ومقدم إياه على النصوص وإنكار الغيبيات وتأويلها ومحاصرة عموم النصوص وتقديم المصلحة على النص والطعن في المحدثين والفقهاء واتهامهم بالوضع والكذب! إلخ هذا الكم الهائل مما يسمونه زورا بالتجديد، وما هو في حقيقة الأمر إلا تحييد للدين، وما عملهم هذا إلا انحراف وتضليل للعقل المسلم، لا تجديدا بالمعنى الذي سقناه آنفا.(1/38)
والتجديد في هذا العصر له مجالاته الواسعة المفتوحة أمام كل مؤهل لذلك، ومقيدة بغير الثوابت فاركان الإسلام والإيمان والغيبيات المذكورة في القرآن والسنة كالجنة والنار والملائكة والجن وغيرها، والأحكام العملية المنصوصة أو المستنبطة من الأدلة استنباطا صحيحا سواء كانت كلية أم جزئية من عبادات ومعاملات وجنايات وسياسة شرعية والأخلاقيات والأذكار كل هذا لا يمكن التجديد فيها، لأن تلكم الأحكام مقصودة التحصيل، وإنما يكون التجديد في الوسائل، وإحياء ما اندرس من الدين وتخليص الشرع من البدع، ومراجعة الفتاوى والأحكام التي تركها الأقدمون المبنية على عوائد وملابسات مجتمعية ومعارفهم العلمية، وتنزيل الأحكام على واقع الحياة وإيجاد الحلول الشرعية للمشكلات المعاصرة بكافة جوانبها كي تسير الحياة وفقا لمراد الله، وهذا يتطابق مع معنى التجديد لغة والذي يعني وجود شيء كان على حالة ما ثم طرأ عليه ما غيره وأبلاه فإذا أعيد إلى مثل حالته الأولى التي كان عليها قبل أن يصيبه البلى والتغيير كان ذلك تجديدا.
ويذكر الشيخ الغزالي في كتابه كيف نفهم الإسلام أن كل محاولة للبتر أو الإضافة أو التحوير هي خروج عن الإسلام وافتراء على الله وافتيات على الناس وتهجم على الحق بغير علم وليس يقبل من أحد بتة أن يقول: هذا نص فات أوانه أو أن الحياة قد بلغت طورا يقتضي ترك كذا من الأحكام، وأن تجديد الدين لا يعني ارتكاب شيء من المحاولات المنكورة، ولم يفهم أحد من الأولين أو الآخرين أن تجديد الدين يعني تسويغ البدع ومطاوعة الرغبات وإتاحة العبث بالنصوص والأصول لكل متهجم، غير أن عصابة من الناس درجت في هذه الأيام على إثارة لفظ غريب حول إمكان ما يسمونه تطوير الدين وجعل أحكامه ملائمة للعصر الحديث.(1/39)
إن ما يدعى اليوم أنه تجديد ما هو إلا تبديد للدين والتدين وهو في كثير من جوانبه محاولة لضرب الدين في العمق، وتحجيم عمله وأثره ومحاصرته في دور العبادة وما شابهها، وفي كل هذا لا يفرقون بين ما هو ثابت لا يتبدل بتبدل الزمان والمكان ومتغير بحسب الزمان والمكان والأحوال والأشخاص فالعبادات مثلا ثوابت لا يصح القول إن العبادات إنما شرعت لتهذيب النفس فإذا ما هذبت بوسيلة أخرى فلا داعي للعبادة، والله يقول: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أو القول بصحة الصلاة على الكراسي، أو تبديل الجمعة على الأحد، وكل ما نص الشرع على تحريمه لا يتغير إلا للضرورة في بعضها.
أما المتغيرات فكثيرة وهي محال الاجتهاد التي لم يرد فيها دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح، ومنها قضية تجديد الخطاب الديني، وبغض النظر عن المقاصد والمآرب التي يتوخاها آخرون من هذا المصطلح إلا أننا نقول بأن تجديد الخطاب الديني أمر مطلوب وهو من المتغيرات التي تتغير بتغير الزمان والمكان وحال المخاطب ومستواه خاصة وأننا اليوم نعاني من الرتابة شكلا ومضمونا، مع الضعف الظاهر عند كثيرين من المتصدرين لهذه المهمة الجليلة مما يستدعي فعلا ضرورة تجديد هذا الخطاب الذي غدا عند البعض منفرا لا جاذبا.
ولا نعني هنا بتاتا بالتجديد الارتكاز أو تلبية رغبات الآخرين أو أن نحو أجزاء من الدين كي يرضى عنا الآخرون، فهذا مما لا يجوز البتة ولا شك أنه داخل في قوله تعالى موبخا ومقرعا بني إسرائيل الذين فعلوا نفس هذه الفعلة: { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } البقرة85
فتاوى فقهية(1/40)
س1- إذا اختلف كلام الطبيبة مع القابلة بأن قالت الطبيبة ليست هذه العلقة أصل آدمي وقالت القابلة خلافه أو العكس بقول من نأخذ؟
ج- إذا تعارض قول الطبيبة مع قول القابلة فلا تخلو الطبيبة من أن تكون متخصصة أو لا ذلك أن الطب تخصصات متنوعة ومختلفة، فإذا كانت كذلك فكلامها مقدم على القابلة لأن الطبيبة هنا أعلم من القابلة، أما إذا لم يكن تخصص الطبيبة بأن كان تخصصها طب عام أو أسنان أو غيرهما فلا يقبل كلامها بل المعول عليه هو كلام القابلة.
س2- ما الفائدة المترتبة على التفريق بين كون هذه اللحمة علقة أو مضغة؟
ج- الفائدة أنه يتعلق بالعلقة ثلاثة أحكام: وجوب الغسل وإفطار الصائمة وتسمية الخارج عقبها نفاسا، وتزيد المضغة على العلقة بأنها تنقضي بها العدة.
س3- هل يجوز اللعب بالشطرنج؟
ج- الشطرنج وهو اللعبة المعروفة اختلف فيها الفقهاء على قولين:
القول الأول: تحريم اللعب بالشطرنج وهذا مذهب الجمهور الحنفية والمالكية والحنبلية، ورأوها لعبة يسقط بها عدالة الشخص، فلا تقبل شهادته، بل نقل عن أبي يوسف كراهة إلقاء السلام على اللاعبين، ولا يستبعد موافقة غيره له لأن السلام عليهم قد يفهم منه موافقتهم على ما هم فيه إضافة إلى أنه ورد حديث ينهى عن السلام عليهم وسيأتي ذكره.(1/41)
وقد استدلوا بقوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) فقالوا إن الشطرنج يدخل ضمن معنى الميسر ونقل عن مالك أنه قال : الميسر ميسران : ميسر اللهو وميسر القمار فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها وميسر القمار : ما يخاطر الناس عليه قال علي بن أبي طالب : الشطرنج ميسر العجم (قرطبي 3/50) كما استدل بعضهم بأحاديث تذكر العقاب الشديد للاعب الشطرنج كحديث إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون الأزلام : الشطرنج والنرد وما كان من اللهو فلا تسلموا عليهم فإن سلموا عليكم فلا تردوا عليهم فإنهم إذا اجتمعوا وأكبوا عليها جاء إبليس أخزاه الله بجنوده فأحدق بهم كلما ذهب رجل يصرف بصره عن الشطرنج لكز في ثغره وجاءت الملائكة من وراء ذلك فأحدقوا بهم ولم يدنوا منهم فما يزالون يلعنونهم حتى يتفرقوا عنها حين يتفرقون الكلاب اجتمعت على جيفة فأكلت منها حتى ملأت بطونها ثم تفرقت" وحديث "إياكم واللعب بالنرد والشطرنج".
القول الثاني: وهو جواز اللعب بالشطرنج مع الكراهة وهذا مذهب الإمام الشافعي وإسحاق، وقالوا لا تسقط عدالة لاعبها، وعللوا قولهم هذا بأن "فيه فائدة وهي معرفة تدبير الحروب ومعرفة المكايد فأشبه السبق والرمى" ولأن الأصل الإباحة.
وردوا على استدلال من استدل بالآية بأن المراد بالميسر هو القمار لأن الميسر مأخوذ من اليسر أي أخذ المال والحصول عليه بسهولة ويسر وهذا لا يكون إلا بالقمار، وهذا لا يجوز، وأما الأحاديث فقال ابن كثير: الأحاديث المروية فيه لا يصح منها شيء، والسبب في ذلك بسيط جدا وهو أن الشطرنج لم يظهر في وقت النبي- صلى الله عليه وسلم - وإنما عرفه الصحابة بعد ذلك، هذا وقد حاول بعضهم وضع أحاديث في تجريم لاعب هذه اللعبة فوضع الحديث السابق ممعنا في تنويع العقوبات، ويبدو أنه من صنف من قالوا: بأنهم يكذبون لرسول الله لا عليه!!(1/42)
نخلص من هذا إلى جواز اللعب بالشطرنج ولكن لا بد من شروط وهي:
ألا تلهيه عن الفروض الدينية كالصلاة ونحوها.
ألا تشتمل على القمار.
أن يغلب على الظن عدم تأديتها إلى التشاحن والتقاتل.
س- ما هو النرد وما حكم اللعب به؟
ج- النرد هي ما تعرف الآن بلعبة الطاولة والجمهور من أهل العلم على حرمته بعوض أو بغير عوض، وللشافعية وجه بالكراهة، وقد صح في مسلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه" وفي سنن أبي داود وغيره عن أبي موسى الأشعرى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله" وحسنه الألباني.
س- هل يجوز للمرأة أن تلبس ثوب زوجها وتؤدي به الصلاة لعدم وجود ثوب خاص لها تصلي فيه، وهل يدخل هذا تحت نهي النساء عن التشبه بالرجال؟
ج- نعم يجوز للمرأة ذلك إذا قصدت ستر بدنها لأداء الصلاة ولم تقصد التشبه بالرجل.
س- هل يجوز المسح على الجوارب؟
ج- ذهب احمد إلى جواز المسح على الجوارب بشرطين: أن يكون صفيقا لا يبدو منه شيء من القدم والثاني أن يمكن متابعة المشي فيه، وعليه فالجوارب الشفافة والخفيفة لا يجزئ المسح عليه بل يجب نزعها وغسل القدم.
س- هل تجوز عملية رتق غشاء البكارة؟
ج- اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة على عدة أقوال الراجح منها الحرمة، فلا يجوز للمرأة ولا للطبيبة بله الطبيب فهو من باب أولى الإقدام على هذه العملية، لما يترتب عليها من مفاسد دينية واجتماعية، إذ تسهل هذه العملية على الفتيات المنحرفات ارتكاب جريمة الزنا ثم إجراء عملية الرتق، كما أن فيه اطلاعا للعورات وعون على هذه المفسد، كما أنه غش للزوج الذي يظن عذرية الزوجة والواقع العكس.
س- هل تصح الرقية بالكتابة على الورق ثم محوها بالماء وشربه؟(1/43)
ج- شرب محو القرآن لا تأثير له في الشفاء ولا يندرج تحت قوله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء } لأن الشارب إنما يشرب الماء ممزوجا بالحبر، بل قد يسبب له ضررا ولهذا الأولى كراهته، كما يحرم على من علم ضرره عليه.
س- رجل وقف ثلث ماله على أولاده وأولاد أولاده وهكذا للقراءة عليه دون البنات، والآن مات الذكور ولم يبق إلا إناث فكيف يفعل بالوقف؟
ج- هذا الوقف باطل لأنه حيلة لمنع البنات من الإرث وعليه يقسم المال على الورثة حسب القسمة الشرعية.
س- رجل وقف أرضا لتكون مقبرة ثم مات فجاء أولاده وتقاسموا المال بينهم وهم يعلمون أنه وقف، ثم تاب أحدهم وكان نصيبه في وسط الأرض، وهو يريد أن يعيدها وقفا ولكن إخوانه يأبون ويقولون إما أن يبيع لهم الأرض أو يعطيهم فما الحل؟
ج- الحمد لله، لا يجوز الاعتداء على الوقف وأخذه أو قسمته بين الورثة، لأنه لم يكن من ملك الميت حتى يورث، وفاعل هذا مرتكب لكبيرة من الكبائر بل فيها جملة كبائر، ذلك ان الحقوق نوعان: حقوق الله وحقوق البشر:
أما حق الله هنا فهو أن الأرض الموقوفة قد خرجت من ملك الواقف إلى ملك الله وعليه فلا يجوز لأحد التصرف فيه باي شكل من الأشكال إلا بحسب شرط الواقف، والآخذ للأرض يكون معتديا على حق الله محارب له، وإنها لمأساة ومصيبة أن يكون الله القوي المنتقم هو خصمه، ومسكين هذا الذي يفرح بقطعة ارض لا تلبث ان تزول إما مع مصائب وشقاء الدنيا والتي كلها بتقدير الله، أو مع الموت الذي لا مفر منه والذي سيحاسب بعده على كل ما اقترفت يداه فما تنفعه الأرض يومئذ، كما ثبت في السنة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من اغتصب شبر أرض طوقه من سبع ارضين" أي يجعل الأرض المغصوبة بطبقاتها السبع كالطوق والقيد على عنق الغاصب فمن العاقل الذي يرى هذا المصير ثم يقدم على سببه.(1/44)
أما حق البشر فيتمثل في أمرين: الأول: حق والده الذي أراد أن يحوز أجر الصدقة الجارية والتي تستمر إلى قيام الساعة، فكان من واجب الابن أن يحقق رغبة أبيه بل من الطاعة والتي فيها الأجر الكبير وجميعنا نحتاج إلى الأجر أن يوقف شيئا على والده وأن يدعو له دوما ففي صحيح السنة ان النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" فمن صلاح الولد ان يدعو لأبيه لا أن يقطع عليه سبيل الخير الذي هو في أشد الحاجة إليه، عن هذا والله لهو من العقوق، من أجل حفنة من تراب ما تلبث أن تزول، وليتخيل هذا الولد لو أنه قرب أجله ورأى نفسه قد أسرف في المعاصي وكلنا كذلك وأراد أن يقابل الله بعمل حسن يبقى له ما بقي الناس، ثم يموت ويدفن وإذا بابنه الذي رباه وعلمه وسهر من أجله يبخل عليه بأن ينفذ الوقف.
والحق الثاني: الموقوف عليهم فهؤلاء بأكلهم أموال الوقف يكون قد اعتدوا على حقوق غيرهم وأكلوا المال بالباطل وإن من أشد عواقب أكل المال بالباطل: أن لا تستجاب له دعوة وتغلق عليها أبواب السماء، فإذا ما مرض أو أصيب بكروه فدعا الله أن يشفيه أو يزيل عنه الضر فأبشره بأن دعوته لن تستجاب.
وثبت في السنة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما جسد نبت من حرام فالنار أولى به".
أما الولد التائب فنقول له عرفت الحق فالزمه واعلم أن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضه وأن الرزق بيد الله وحده، وعليك الآن أن تجعلها وقفا كما أراد والدك فغن أبى إخوانك فيعليك أن تسجلها في وزارة الأوقاف لتخرج من عهدتك فإن لم يتيسر كأن كانت الجهة الحكومية مهملة فقد برءت ذمتك ودعهم يتحملون وزرهم، وما الدنيا غلا أيام وتنقضي وعند الله تجتمع الخصوم.
س- هل يجوز الدعاء في الصلاة بالأعجمية؟(1/45)
ج- الحمد لله، اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال: فعند الحنفية والمالكية قولان الجواز وعدمه، ولم يجزه الحنابلة وأبطلوا الصلاة به، أما الشافعية فقد فرقوا بين الدعاء المأثور وغير الماثور فأجازوا ترجمة الأول وهو الدعاء المأثور وفي ترجمة غير المأثور أوجه المعتمد أنه لا يجوز وتبطل به الصلاة، ولهم وجه بعدم البطلان.
س- ما حكم منكر السنة، هل هو مسلم أو لا؟
ج- الحمد لله، لقد ظهر ت في هذا لعصر نابتة سوء تدعي اتباع القرآن ونبذ السنة، متعللة بعلل واهية أخذتها عن أعداء الإسلام من المستشرقين الذين لم يألوا جهدا في محاولة نقض عرى الإسلام وأصوله والتي من أهمها أصل السنة ذلك لأنهم رأوا أن السنة كانت مبينة للقرآن ومقيدة لمطلقة ومخصصة لعامه، وزادت أحكاما أخرى، وكان من أهم ما بينته السنة ما يتعلق بأركان الإسلام الخمسة، فالسنة هي التي بينت كثيرا من مسائل الإيمان كما بينت صفات عبادات الصلاة والزكاة والصوم والحج، في حين اقتصر القرآن على الأمر بها جملة، وبسبب هذه المنزلة المهمة للسنة أراد أعداء الإسلام أن يقضوا عليها ليتوصلوا إلى القضاء على الإسلام برمته ولكن هيهات.
وإن من المعروف بداهة أن الله سبحانه قد أمر المسلمين في قرآنه بالتمسك بالسنة واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه: { وأطيعو الله وأطيعوا الرسول } فطاعة الله تكون بالعمل بما جاء في القرآن وطاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم - تكون بالعمل بالسنة، وقال سبحانه: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وحذرنا من مخالفة أمره- صلى الله عليه وسلم - فقال: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ولا شك أن مخالفة السنة مخالفة لأمره- صلى الله عليه وسلم -.(1/46)
هذا وقد حذرنا النبي- صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء القوم وأخبرنا عنهم ففي الحديث الثابت والذي أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه لا يوشك رجل شبعان على أريكته ( السرير ) يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ...الخ.
والغريب أن هؤلاء المنكرين تفرقوا شيعا وأحزابا بل كل فرد منهم يمثل فرقة مستقلة إذ يستنبط كل واحد منهم ما شاء كيفما شاء لأي شيء شاء، فضلوا وأضلوا، ففي مسألة الصلاة مثلا اختلفوا فيها على أهواء فيذهب أحدهم إلى أن الصلاة اثنتان وآخر: ثلاث، ويزيد احدهم فيجعلها ستا، وينكر بعضهم الصلاة من أصلها بهذه الكيفية، وهلم جرا .
هذا وقد ظهرت هذه البدعة قديما مع أفراد لا علم لهم بالدين فرد عليهم علماء الإسلام وبينوا لهم الحق والصواب.
أما حكم هؤلاء فماذا تقول في شخص يقول في الصلاة والتي هي الركن الثاني ما سقناه آنفا، ثم ينكر الزكاة بالطريقة التي بينتها السنة والأمر نفسه في الصوم والحج بل ويقول بجواز ترك أحكام القرآن لأنها آنية، بل يغلو بعضهم فيدعي النبوة، ويزايد عليه آخر ويقول بأن الإنسان يمكنه أن يصل إلى مرتبة الإلهية!!!
ويكفي أن أسوق جملة من كلام علماء الإسلام في حكم هؤلاء.
- قال الآجري في كتاب الشريعة (58):" وكذلك جميع فرائض الله عز وجل التي فرضها الله جل وعلا في كتابه لا يعلم حكم فيها إلا بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم
هذا قول علماء المسلمين من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام ودخل في ملة الملحدين نعوذ بالله تعالى من الضلالة بعد الهدى".(1/47)
- وقال الإمام ابن حزم في الإحكام (2/208): "ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق".
- وقال السيوطي في مفتاح الجنة (ص5): "فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة".
س- ما هي الكيفية الثابتة في مكان وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة؟
ج- الحمدلله، الثابت من فعله- صلى الله عليه وسلم - وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث وائل بن حجر أنه وضع يده اليمنى على اليسرى على صدره.
وأما ما روي عن علي أن السنة وضع الأكف على الأكف تحت السرة فحديث ضعيف لا تقوم به حجة لأنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف باتفاق أئمة الجرح والتعديل.
أما بالنسبة للخلاف الفقهي فقد ذهب إلى ما ثبت في السنة الإمام الشافعي، وذهب إلى أنها تحت السرة أبو حنيفة والثوري وإسحاق ويروى عن علي وأبي هريرة، وعن أحمد ثلاث روايات الثالثة أنه مخير، قال ابن قدامة والأمر في ذلك واسع.
تبقى نقطة أحب التنبيه عليها وهي أن الضم يشتمل على أكثر من سنة فوضع اليمنى على اليسرى سنة وكونها على الصدر سنة أخرى فمن وضع يديه تحت السرة فقد أتى بسنة وترك أخرى، ومن أتى بالفعلين كان أجره مضاعفا والله أعلم.
س: هل تجوز وظيفة المحاماة؟
ج: الحمد لله رب العالمين وبعد، فقد اختلف الفقهاء المعاصرون حول مشروعية وجواز عمل المحاماة على قولين:(1/48)
القول الأول: يحرم ممارسة هذا العمل وبناء عليه تحرم كل الوسائل المعينة عليه بما فيه إيجاد تشريعات منظمة له ومعناه أيضا إثم كل من يمارسه أو من يوكل في قضيته محاميا، وذهب إلى هذا القول أبو الأعلى المودودي وكانت حجته أن عمل المحامي غير معروف في القضاء الإسلامي، كما أن مهنة المحاماة مهنة مرتزقة فهي لا تخدم المجتمع بل على العكس تضلل العدالة وأن الغالب على أصحاب هذه المهنة الكذب والتزوير والبحث عن المال بغض النظر عن صدق ما يدافع عنه من كذبه، ولهذا يشتهر بين الناس المحامون الكذابون وقدرتهم على إخراج عتاولة الإجرام بحنكتهم وذكائهم، وأصبح الكثير من المحامين خبراء في الالتفاف على القوانين، ولهذا كله لا يمكن –حسب هذا الرأي- أن توجد هذا المهنة في مجتمع مسلم ينبذ كل مظاهر الدجل والكذب.
القول الثاني: يجوز ممارسة هذه المهنة، وهذا هو الغالب على الفقهاء المعاصرين، وعللوا قولهم بما يلي:
أن المحاماة هي في التكييف الشرعي وكالة بالخصومة، فيجوز شرعا لشخص ما أن يوكل غيره في دعوى ما وهذا هو عين المحاماة.
أن هذا التوكيل بالخصومة كان موجودا في تاريخنا القضائي الإسلامي، فنفي وجوده ليس صحيحا، والذي لم يكن موجودا هو التسمية وبعض الإجراءات التي تنص عليها القوانين أما صلب عملية المحاماة وهو الوكالة بالخصومة فلم يقل أحد من فقهاء المسلمين ببطلانه، ومن المعلوم أن الأسماء لا تؤثر في الحكم بل العبرة بالمضمون.
ليس جميع الناس يتمكنون من المطالبة بحقوقهم وليسوا جميعا متقنين لأداء وعرض الحجج، كما أن الخبرة القانونية المعينة على معرفة ما يترتب على الدعوى من أحكام وكيفية سير الدعوى وإجراءاتها مما يجهله العامة مما يعني ضرورة وجود طائفة مختصة بهذا الجانب.
وأجابوا عن الممارسات الخاطئة للكثير من المحامين بأنها لا تعني تحريم عمل المحاماة بل تضبط بضوابط وشروط، وبهذا يمكن أن نتفادى الكثير من سلبيات هذا العمل.(1/49)
وهذا القول هو الذي يظهر رجحانه.
س- هل يقع طلاق المسحور؟
ج- إذا طلق وهو فاقد للوعي بحيث لا يدري ولا يميز ما يقول لا يقع طلاقه، أما إذا كان مدركا لما يقوله فطلاقه نافذ.
س- متى يؤذن بالصلاة خير من النوم في الأول أو الثاني وهل حديثه صحيح؟
ج- معتمد مذهب الشافعي إن المؤذن يقوله في أذاني الصبح، وذهب بعذ الشافعية إلى أنه في الأذان الأول فإن لم يأت به أتى به في الثاني.
س- هناك مكتبة وقفية فيها الكثير من الكتب المتشابهة في حين لا توجد كتب أخرى نحتاجها فهل لو تبادلنا مع مكاتب أخرى يجوز أو لا؟
ج- نعم يجوز ذلك ولكن بشرط الاستغناء عنها استغناء كاملا بحيث لا يحتاجها أحد زوار المكتبة ولو بعد حين، فإذا كان كذلك فلا يجوز.
س- إمام مسجد جمع مالا من أجل شراء ماء لآلة شفط الماء ثم احتاج المال لشراء زيت لهذه الآلة فهل يجوز له ذلك، أم أنه من تغيير الوقف؟
ج- هذا المال ليس وقفا بل هو صدقة في عمارة المسجد وملحقاته فكل ما هو داخل في هذا الإطار يصح صرف المال المجموع فيه.
س- حكم عروض الأزياء للمحجبات؟
ج- إذا كانت هذه العروض مقتصرة على النساء فقط فجائز أما أن يكون الحاضرون أو المشاهدون رجالا فلا يجوز لأن المرأة في هذه العروض تتكسر وتتثنى وتظهر مفاتنها بشكل مغري كما أن الرجل سيفتح عينيه ليرى المرأة من أعلاها إلى أسفلها وليستمتع بحركاتها وغنجها وحركاتها المثيرة، وهذا لا ينسجم مع الإسلام بتاتا الذي سد كل سبل الغواية، وإذا كان الله سبحانه قد حرم الخضوع بالقول فقال: { ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } فكيف بالخضوع البدني وما سيخلفه من مرض في قلوب الأصحاء فكيف بمن هم مرضى أساسا.
س- ما حكم مسابقات الجمال؟
ج- مسابقات الجمال بالصورة الحاصلة اليوم لا تجوز بل هي باب فتنة وفساد، وكشف للعورات ولهث وراء الشهوة المحرمة.
س- هل الذكر المقيد للعيد يستحب مطلقا طوال العام ؟(1/50)
ج- نعم لكونه ذكرا، لكن لا يعتقد الذاكر سنيته، ولا يداوم عليه طوال العام لأنه ذكر مؤقت بأيام عيد الأضحى.
س- مسجد لم يكن فيه قبور ثم وسع وأدخلت فيه قبور ولكن سويت بالأرض بفعل الزمن ثم أقيم جدار بين المسجد القديم والجديد هل يجوز الصلاة في الجديد أو القديم فقط؟
ج- تجوز الصلاة في القديم أما الجديد فليس مسجدا بل هو مقبرة والأولى ترك الصلاة فيه.
س- لو كبر في العيد تكبيرات أخرى غير الوارد هل يكون مأجورا؟
ج- الحمد لله، لو كبر تكبيرا آخر نحو الله الأكبر فقد نص الشافعية على أنه مثل الله أكبر في افتتاح الصلاة وعليه فهنا يكون قد أتى بالسنة، ويؤجر المرء على كل ذكر بيد أن بعض المناسبات والأزمنة والأعمال لها أذكار مخصوصة فالإتيان بها هو المسنون والأجر فيها مضاعف على الذكر وعلى موافقة السنة.
س- هل يصح وضع اليمين على اليسار في الصلاة بحيث يقبض على المرفق؟
ج- ثبت في السنة من حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد أبو داود وابن خزيمة وابن حبان، وليس في السنة ما يحدد المراد باليد اليمنى هل الكف فقط أم الكف والساعد، وعليه فيصح وضع اليمنى على اليسري بأي هيئة كان هذا الوضع، هذا وقد ذكر النووي كيفيتان هما وجهان في المذهب في ضع اليمنى على اليسرى فليراجع.
س- يسهو الإمام أحيانا فنسبح ولا يدري كيف يفعل؟
ج- الحمدلله،إذا سها الإمام ونبهه المأموم بالتسبيح فلم يدر ما يفعل فعليه أن يبني على ما استيقن ويسجد للسهو استحبابا.
وأما المأموم فلا يجوز له متابعة الإمام في خطئه فلو قام الإمام لخامسة فالمأموم مخير بين أن ينتظر الإمام على حالته فينتظره مثلا في التشهد في حالة قيام الإمام للخامسة حتي يجلس الإمام ويتشهد ويسلم ويسلم المأموم معه، والخيار الثاني أن ينوي مفارقة الإمام ويكمل صلاته بمفرده.(1/51)
س- توفي رجل وعليه لزوجته مهر مؤخر فأخبرت أهله بأن المهر في ذمته، فقالوا وغيرهم: بأن المؤخر إنما هو إذا طلق والرجل مات ولم يطلق فهل هذا صحيح؟
س- الحمد لله، المهر حق للزوجة ناتج عن عقد الزواج ولا علاقة له بالطلاق أو الموت، فالمهر المؤخر دين على الزوج المتوفى يجب إخراجه من رأس التركة ثم يقسم الباقي على حسب القسمة الشرعية
س- إذا خالعت الزوجة زوجها هل تستحق المهر المؤخر؟
ج- نعم، لأن المهر المؤخر أو المؤجل هو جزء من المهر ولهذا فهو دين في ذمة الزوج ولا علاقة له بقضية الطلاق أو الخلع.
س- رجل متزوج يأمره أبوه أن يحضر زوجته لخدمة والدته، وهي ترفض فهل تأثم الزوجة برفضها أمر زوجها؟
ج- لا يجب على الزوجة خدمة والدة الزوج وإذا أمرها زوجها فرفضت لا إثم عليها، والأمر الذي لا يجوز للزوجة مخالفته هو ما كان من حقوق الزوج، وخدمة والد الزوج ليست من حقوقه بل نص بعض أهل العلم على أنه لا يجب على الزوجة خدمة زوجها وأن الواجب عليها هو التمكين ولزوم البيت، ومع هذا نقول للزوج أن يتلطف زوجته في ذلك وأن يرغبها في الأجر والثواب، وأن تضع نفسها في مكان والدة زوجها وقد أصابها الكبر والمرض وهكذا والله أعلم.
س- أمر شخص ولده أن يطلق زوجته فهل يجب عليه ذلك وهل يأثم إن لم يفعل؟
ج- ليس من العقوق في شيء أن يرفض تطليق زوجته خاصة إذا كانت متدينة، بل يأثم الأب بطلبه ذلك لأنه سيتسبب في القضاء على أسرة وضياع الأولاد وربما ترتب عليه مفاسد أخرى كما أنه لا يحس بأنه يدمر حياة فتاة ويوقع البغضاء بين الأسر ثم المجتمع ولهذا كان هذا العمل إثما لا يجوز إتيانه، إلا إذا كانت الزوجة فاسقة فيجب طاعة الأب حينئذ.
س- هل يجوز بيع العملة المزورة؟(1/52)
ج- لا يجوز بيع العملة المزورة لأنه غش ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "من غش فليس منا" وكفى بهذا زجرا وتهديدا ولهذا كان الغش من الكبائر، ولما يترتب على الغش في العملة من مفاسد اقتصادية وسياسية واجتماعية، وإذا غُش شخص فلا يجوز له أن يغش غيره والله أعلم.
س- ماذا تفعل الزوجة في حالة هروب زوجها فيما عرف بالزواج السياحي؟
ج- الحمد لله، ذهب بعض أهل العلم من المتقدمين والمعاصرين إلى بطلان هذا العقد لكون الرجل تزوج ناويا الطلاق بعد زمن يقل أو يطول وهذا مما يخالف مقصد النكاح، إضافة إلى كونه غشا للزوجة، وعلى هذا القول لا تحتاج المرأة إلى رفع قضية طلاق ونحوها بل بمجرد أن تعلم نية الزوج إما بقوله أو قرينة بحرم على المرأة البقاء معه وتعتد منه وله الزواج بمن شاءت لان العقد السابق كان عقدا باطلا.
وذهب جماهير أهل العلم إلى إثم الزوج وصحة العقد فعليها على هذا القول أن ترفع أمرها إلى القضاء.
س- هل تصح صلاة امرأة كانت تلبس بنطالا ثم لبست قميصا إلا أنه إلى منتصف الساقين وغطى البنطال الجزء المتبقي؟
ج- نعم تصح صلاتها، لأنه يصدق عليها أنها ساترة لبدنها.
س- هل تقوم فرشاة الأسنان تقوم مقام السواك؟
ج- يندب استعمال السواك في مواطن منها: عند الوضوء والصلاة وتغير الفم وغيرها، والغرض منه إزالة قلح الأسنان وتطييب الفم كما ثبت في السنة: "السواك يطيب الفم ويرضي الرب" "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" وعليه نص الفقهاء على قيام غيره مقامة إذا كان خشنا، ويدخل في هذا الفرشاة، بل الفرشاة يطلق عليها سواك لغة.
س- هل يجوز ما يسمى بالدريس وهو إعطاء شخص مبلغا من المال مقابل قراءته القرآن وإيصاله للميت؟(1/53)
ج- الحمد لله، لا أرى جواز هذا الفعل لما يجره من المفاسد، وقد رأينا كيف اتخذ بعض الناس القراءة عملا وأوجد فئة لا عمل لها في حقيقة الأمر إلا التلفت يمنة ويسرة بحثا عن ذاك المسكين طالب القراءة، وهذه بلا شك بطالة مقنعة، كما أننا لا ندري هل يقرأ هذا الأجير أم لا، بل وجد بعضهم أميا لا يجيد القراءة.
والأفضل أن يقرأ أقارب الميت على ميتهم حتى ولو مما يحفظون من السور ويكررونها ويتصدقون بهذا المال موصلين الأجر للميت.
س- هناك أوقاف لما يسمى بالدريس فهل هي صحيحة وهل يجب على الورثة إنفاذ هذا الوقف؟
ج- الحمد لله، القراءة على الميت مقابل مال لم يثبت جوازه أو فعله عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابة ولا من بعدهم رغم كثرة الموتى وحاجتهم للأجر والثواب، ولأن فيه مفاسد دينية ونفسية واجتماعية على المعطي والأخذ والمجتمع، ولهذا لا نحبذ هذا النوع من الإجارة ولا نقره وإن ذهب البعض إلى جوازه، وعليه فالأوقاف التي من هذا القبيل يجوز نقلها إلى منافع اعتبرها الشارع ورتب عليها الأجر كإطعام المساكين والفقراء واليتامى وكسوتهم.
س- هل قراءة يس على الميت بصورة جماعية أثناء تخزين القات أو في المسجد بين مغرب وعشاء لمدة ثلاثة أيام جائز أو لا؟
ج- ثبت في السنة اقرؤوا على موتاكم يس صححه الحاكم وابن حبان والشوكاني وغيرهم، وقد اختلف العلماء في المراد بالحديث فذهب بعضهم إلى ندب قراءة يس عن احتضار المريض، وأنه المراد ب(موتاكم) لقرب أجله أو باعتبار ما سيكون، ومنعوه بعد الموت.(1/54)
وذهب آخرون إلى جواز قراءة يس بعد موت الميت لظاهر الحديث، وإذا قلنا بهذا القول فالمراد بقراءة يس هي القراءة الآحادية لا الاجتماعية لأن هذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرون المفضلة، وكون الخطاب بالجمع لا يعني ولا يستلزم القراءة الجماعة، كالأمر بإتيان الزكاة فلا يستلزم أخراجها ممن هي عليه جماعة واحدة بل يجوز لكل واحد يدفع زكاته لوحده، وإضافة إلى ما سبق فإن القراءة الجماعية كما نلاحظها من هؤلاء تحتوي على رفع الصوت بصورة مزرية بالقرآن والمسجد والذي يحرم فيه رفع الأصوات ولو بالقرآن خاصة إذا كان هناك مصلون وقد ثبت في السنة "لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" أخرجه أبو داود وغيره وصححه ابن حجر، وفي أبي داود أيضا عن أبي سعيد أنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة.
كما أن من يقرأ مع الجماعة تفوته بعض الآيات أو الكلمات ولربما ابتدأ كلمة وجاء بكلمة أخرى لا تتناسب مع ما سبقها، كما أحتفت بهذه القراءة جملة من البدع إذ يزيد البعض قراء سور أخرى وأدعية معينة يلتزمونها وهذه كلها تدخل في دائرة البدعة، والجائز أن يقرأ كل إنسان لوحده.
أما قراءة القرآن حال كون القارئ يمضغ القات فجائز وإن كان الأولى أن يكون قارئ القرآن على أحسن أحواله وأفضلها.
س- هل يجوز الدعاء الجماعي أي أن يدعو واحد ويوءمّن الباقون أثناء تناول الإفطار في رمضان، أو أن نأتي بالمأثورات الصباحية والمسائية بشكل جماعي؟
ج- يجوز ذلك بشرطين: الأول: ألا يعتقدوا سنية ما يفعلوه.
والثاني: ألا يتخذوه عادة.
س- هل النحنحة أثناء الصلاة تبطلها؟
ج- ذهب بعض أهل العلم إلى ذلك، ومذهب أبي حنيفة وأحمد عدم البطلان لأن النحنحة ليست كلاما.(1/55)
س- هل نزع المرأة ثيابها في الحمامات والمسابح الخاصة للنساء أو نزع اللباس الخارجي في الأعراس ونحوها تدخل في حديث النهي عن نزع المرأة ثيابها في غير بيت زوجها؟
س- هل يجوز أن تكون خطبة الجمعة بغير العربية، وإذا كان لا يجوز فهل يجوز وضع آلة تترجم خطبة الجمعة ؟
ج- الحمد لله، ذهب الجمهور من أهل العلم إلا اشتراط كون خطبة الجمعة بالعربية، لأنها ذكر مفروض كتكبيرة الإحرام فكما نقول بعدم جواز ترجمة تكبيرة الإحرام فخطبة الجمعة كذلك، في حين ذهب الحنفية إلى جواز ذلك.
أما وضع آلة تترجم الخطبة فلا أظن هذا مجزئا بل قد تبطل الجمعة لأن السامع يسمع غير الخطيب فهو بمثابة من ينصت لغير الخطيب، ورغم أن الشافعية استحبوا الإنصات إلا أنهم يوجبون سماع أركان الخطبة الخمسة كما هو مذهبهم وهي: الحمد لله، والصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والوصية بالتقوى والدعاء للمؤمنين وأية من القرآن.
س- صلوا جماعة في غرفة وصلى معم آخرون في غرفة مجاورة وبينهما جدار وبابا الغرفتين إلى الصالة فهل تصح صلاة الجماعة الأخرى؟
ج- ذهب البعض إلى بطلان صلاة من يصلي في الغرفة الأخرى نظرا لوجود جدار يمنع ترابط الجماعة ولفقهاء المذاهب اختلافات وتفاصيل ليس هذا محلها، والذي يظهر الاكتفاء بمعرفة انتقالات الإمام إما بسماع صوت أو برؤيته أو رؤية بعض صف ولو كان بينهما حائل وجمعهما مكان واحد أو قربا من بعضهم عرفا.
س- شخص في بلد أجنبي يعمل معظم أيام الأسبوع في عمل مباح وفي في يوم أو يومين يحمل بمطعم يبيع لحم الخنزير في أواني بلاستيكية (سفري) وعمله قاصر على غسل الأواني التي يتناول فيها الطعام المباح فهل يجوز له ذلك؟
ج- الأولى ترك هذا العمل، والبحث عن عمل آخر ليس فيه ما ذكر أو ما شابههة، فإذا لم يجد وكان كما ذكر في السؤال بأنه لا يبيع لحم الخنزير وليس لعمله دخل بهذا النجس فلا بأس إنشاء الله.(1/56)
س- شخص لدى شخص مال بالريال السعودي هل يجوز إخراج زكاته بالريال اليمني؟
ج- نعم يجوز إخراج ما يعادل الريال السعودي باليمني.
س- هل إذا فسخت الخطبة من قبل البنت وقد دفع الخاطب نصف المبلغ المحدد ترجع المبلغ مثني؟
ج- إذا فسخت الخطبة أرجعت البنت أو أهلها كل المال المدفوع مهرا، ولا يجوز أن يأخذ الخاطب زيادة على ذلك.
س- رجل عقد على امرأة وبقي لمدة سنتين أو أكثر ولم يدخل بها، ولم يكن يعطيها نفقة أو غيرها ثم طلقها فهل لها حق عليه؟
ج- إذا خرجت من بيت أهلها إلى بيته ولم يمسها هذه المدة ثم طلقها فلها نصف المهر، ونفقة المدة المذكورة، أما إذا لم تخرج إلى بيته وبقيت في بيت أبيها فها نصف المهر فقط.
س- أب قدم ابنته هدية لرجل أحسن إليه بموافقة البنت وبدون صداق؟
ج- المرأة لا تهدى، لا بد من الصداق ولو يسيرا، ثم لا بد من موافقة البنت الموافقة الحقيقية، فإذا كانت غير راضية فلا يجوز إكراهها أو إحراجها لكي تقبل، وهناك وسائل أخرى لرد الجميل.
وبهذا نصل إلى الختام راجيا من الله العلي القدير أن يجعل ما كتبت في ميزان حسناتي طالبا من كل قارئ لهذه الرسالة أن يدعو لي بظهر الغيب بالعلم والعمل الخالصين لله سبحانه.
والحمدلله رب العالمين.(1/57)
في المحيط الفقهي
(2)
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
alhzm@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فهذا الجزء الثاني من كتاب أسميته بـ "في المحيط الفقهي" هو عبارة عن أبحاث ونظرات فقهية دفعني إليها بعض المناقشات فأحببت أن أدونها كي يستفيد منها من أراد ذلك.
أسأله سبحانه أن يجعل ما كتبته في ميزان حسناتي والله المستعان.
تقليد غير الأربعة:
ذكر بعض أهل العلم كأبي عمرو بن الصلاح وغيره انه لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة، وعلل ذلك بكون مذاهبهم مدونة مضبوطة خدمها العشرات من أهل العم ونقحوها وضبطوا المسائل وعركته أيديهم، ومحصته إذهانهم الوقادة، وتناقلوا هذا العلم فيما بينهم، مما يعنى الثقة بنقل المذهب وصحته ومعرفة ضوابط وشروط وأركان مسائله، وهذا ما لا يتوفر في غير المذاهب الأربعة: مذاهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم بل المذاهب التي اشتهرت وانتشرت في بقاع واسعة واستمرت لقرون كمذهب الظاهرية.
في حين ذهب آخرون إلى أنه يجوز للمفتي تقليد غير الأربعة في حق نفسه لا في الإفتاء والقضاء، قال هذا السبكي وتبعه آخرون، ونظم هذا بعضهم قائلاً:
وجاز تقليد لغير الأربعة في حق نفسه وفي هذا سعة
لا في قضاء مع إفتاء ذكر هذا عن السبكي الإمام المشتهر
وقال آخر:
وجائز تقليد غير الأربعة في غير إفتاء وفي هذا سعة
وحجة من قال بهذا القول أن المستفتي عندما يسال المفتي إنما يسأله عن المعتمد في المذهب السائد في البلد والذي يكون أحد المذاهب الأربعة.
والصحيح -والله أعلم- أنه لا يخلو المنقول عنهم الفتاوى والأحكام من أقسام:(1/1)
الأول: من اشتهر علما وعملا واستفاضت إمامته وانشأ مدرسة فقهيه تتابعت عليه أجيال من العلماء وغيرهم حتى عصرنا الحاضر، وهؤلاء هم المذاهب الأربعة، فهؤلاء يجوز تقليدهم والفتوى بأقوالهم، ما لم يضعف مدركها ضعفا بينا، كالقول بعدم سنية وضع اليمين عل الشمال في الصلاة.
الثاني: من اشتهر علما وعملا واستفاضت إمامته وانشأ مدرسة فقهيه تتابعت عليه أجيال من العلماء وغيرهم إلا أنه اندثرت بعد قرون، كمذهب داود الظاهري والمتمثل في كتب ابن حزم،والذي اندثر في القرن الثامن، فهذا يجوز تقليده كذلك والفتوى بقوله ما لم يضعف
ضعفا جليا كقول داود فيمن بال في وعاء ثم صبه في الماء أنه غير داخل في النهي عن البول في الماء الراكد!!
الثالث: من كان كذلك إلا أن مذهبه لم ينتشر انتشار المذاهب السابقة ولم يحظ بعلماء أكابر يمحصوه كمذهب سفيان الثوري والذي استمر إلى القرن الثالث، ومذاهب: الليث بن سعد، وابن المنذر وإسحاق وغيرهم ممن اندثرت مذاهبهم سريعا.
الرابع: من كان كذلك لكنه لم يؤسس لمدرسة فقهية ويدخل في هذا فقهاء الصحابة والتابعين وغيرهم ممن لم ينتسب إلى مذهب معين وكان يجتهد اجتهادا مطلقا.
الخامس: من جاء متأخرا ودون آراءه في العديد من الكتب والرسائل وضبطها، وتبعه على مذهبه قلة، إلا أنهم لم يتعاملوا معه علة أنه مدرسة
فقهية، بل على أنه مجتهد فتح باب الاجتهاد فوافقوه في هذا الأصل وقد يخالفوه في الفروع، كابن تيمية، وابن قيم الجوزية وابن الأمير والشوكاني ونحوهم.(1/2)
السادس: أئمة مشهورين إلا أنه لا يوثق بما نقل عنهم كما هو الحال مع الإمام زيد بن علي، والإمام جعفر الصادق، حيث كثر نقل المتهمين لأقوال هذين الإمامين ونحوهم، ونسب إليهما مذهبان قام عليه بعض من نسب نفسه إليهما في حين أن الذي صح عنهما قليل، وزاد الطين بلة أن بعض هؤلاء الأتباع يقدم الروايات المكذوبة عليهما بحجة مخالفتها لأهل السنة وأن ما روي موافقا لهم إنما كا تقية!! قال هذا الشيعة المنتسبين زورا إلى الإمام جعفر الصادق، وبهذه القاعدة الشنيعة ضاع مذهب جعفر وسادت الروايات المكذوبة، مع أن هذه الحجة داحضة، لأن دعوى التقية غير تقية، فلا يوجد شيء في الإسلام بهذا الاسم والذي له معنى ومضمون معين فكيف يقول به هذا الإمام، ثم على قولهم هذا يبعد أن يمارس هذا الإمام الإفتاء بما يعتقد بطلانه ومخالفته لدين الله مما يعني التسبب في إضلال الناس وخداعهم، كما أن هذه الدعوى يمكن أن تقابل بنقيضها بأن يقال: ولماذا لا تكون تلك الروايات المخالفة قالها تقية –إذا سلمنا تنزلا بالقول بها-.
أما بالنسبة للإمام زيد ف يوجد كتاب يصح عنه حتى مجموعه الذي يفرح به البعض ويجعله أول ما دون في الحديث ينغص عليه أنه من رواية متهم وهو أبو إسحاق الواسطي،
ثم على فرض صحته فليس كتاب فقه بل هو كتاب حديث، وأما رسائله الأخرى في بعض مباحث العقيدة فلا نسلم صحتها لما في أسانيدها من متهمين بل بعضها غير متصلة الإسناد فإذا ما زاد على ذلك اشتمال هذه الرسائل على عقائد مخالفة لعقيدة سلف الأمة وما اشتملت عليه من مسائل وضعت بعد عصره لبدل دلالة واضحة على وضع هذه الرسائل على هذا الإمام السلفي.
والمرتبة الثالثة وما بعدها هي التي ينزل عليها كلام أبي عمرو، والصواب أنه يجوز تقليد هذه المراتب والأخذ بها ما عدا الأخيرة -لما سأبينه لاحقا- بشروط:(1/3)
الأول: قوة المدرك –بضم الميم- وهو الملحظ الفقهي الذي استند إليه هؤلاء الأئمة بحيث يرجح على قول غيرهم من الأئمة أيا كانوا، لأن العبرة بقوة الدليل لا بمنزلة قائله.
الثاني: ألا يكون هذا القول شاذا عن أقوال أهل العلم، ومعلوم أن لكل عالم هفوة، وقد حذ أهل العلم من تقليد العلماء واتباعهم في زلاتهم وشذوذهم، ونحن لا نثبت لأحد عصمة غير الأنبياء، كما لا يعني هذا الشذوذ الانتقاص من أقدار أهل العلم بتاتا، ولا النقص من أجورهم إذ هم دائرون بين الأجر والأجرين، والكلام في تقليدهم واعتماد أقوالهم الشاذة، وقد أجمع أهل العلم على عدم جواز هذا التقليد والاتباع.
ولكن قد يسأل سائل عن ضابط الشذوذ الذي نستطيع من خلاله الحكم على قول ما بأنه شاذ.
والجواب على ذلك أن هناك ضابطان:
الأول: ما خالف المذاهب الأربعة.
وهذا باطل لوجوه:
معلوم أصوليا أن الإجماع حجة وأصل من أصول الاستدلال، وباتفاق ليس إجماع الأربعة مما يدخل في هذا الأصل.
كما أن جماعة الأربعة ليست معصومة مما يعني بطلان المدعى.
أن وجود أربع مدارس فقهية تتبع أربعة فقهاء لا يؤثر في صحة قول من ضعفه.
لم يتعبدنا الله سبحانه بتقليد أو اتباع هؤلاء الأئمة دون غيرهم حتى نحرم الخروج على مذاهبهم
من المعلوم أن السنة وكثير من العلوم الأخرى لم تدون وتضبط إلا بعد عصر الأئمة الأربعة، مما يعني احتمال فوات سنن عن هؤلاء الأربعة وعرفها غيرهم ممن عاصرهم -الحوادث الدالة على هذا كثيرة- أو عرفها غيرهم من الحفاظ الفقهاء الذين ندبوا أنفسهم لجمع السنة وتدوينها وبلغوا رتبة الاجتهاد، فكيف نسد على أنفسنا بابا لا يسعنا.
ما المزية التي حازها الأربعة على غيرهم من الفقهاء المجتهدين المتقدمين عليهم والمتأخرين، وبعضهم لهم مذاهب.
في هذا الضابط إهدار لمدارس فقهية أخرى لها أئمتها وفقهها وأصولها، مما يعني الإجحاف بحقهم وعلمهم، وطمس للثروة الفقهية التي نباهي بها الثقافات الأخرى.(1/4)
أننا وجدنا أقوالا خارج المذاهب الأربعة لها وزنها الفقهي الاستنباطي ومدركها القوي، والذي يربو أحيانا على ما ذهب غليه الأربعة.
يؤيد هذا أننا وجدنا مجتهدين كبارا اختاروا أقوالا خارج هذه المذاهب ولم يردعهم كونها كذلك، ويكفي مثلا على ذلك كثيرا من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وهو من هو علما وعملا، ولا نزكيه على الله.
يزيد في ضعف هذه الدعوى أن نقول: هل المراد بما عليه المذاهب الأربعة ما اعتمده المتأخرون من أقوال وروايات أئمة المذاهب وأصحابهم، أو يدخل في ذلك كل الأقوال والروايات، هذا إشكال.
فإن قلنا ما اعتمده المتأخرون فكيف نقدم أقوالهم واعتمادهم –وغالبيتهم مقلدين- على أقوال غيرهم من المجتهدين المشهود لهم بذل.
وإن قلنا جميع والأقوال الروايات، عاد الأمر إلى ما ذكرنا سابقا من طلب الدليل على ذلك.
ليس كل ما هو معتمد في مذهب ما منقولا عن إمام المذهب، بل هناك الأقوال المخرّجة على أقوال الإمام وقواعده وأصوله، أفيكون هذا القول أقوى ويحرم الخروج عليه من قول إمام مجتهد خرج على الدليل، أم أن الأصل هو العكس، نقول هذا في القضية عموما لا في ترجيح قول مجتهد على معتمد المذهب.
الضابط الثاني: ما خالف الإجماع:
وهذا ضابط له وجاهته بيد أنه غير كافي ولا يشمل أقوالا حكم عليها بعض الفقهاء بالشذوذ رغم عدم مخالفتها للإجماع.
ولهذا يمكن أن نضبطه بضابط وهو: ما خالف النص –وهو ما يقابل الظاهر- أو الإجماع، أو خالف قواعد الاستنباط.
القياس في العبادات:(1/5)
يلتبس على البعض معنى قولهم: لا قياس في العبادات، ويظنون أن معناها أن العبادات يقتصر الاستدلال فيها على القرآن والسنة فقط، وهذا غير صحيح بالمرة، لأن القياس دليل معتبر يصح إذا وجدت شروطه دون فرق بين باب وباب، ومن يقرا كتاب القياس من كتب الأصول لا يجدهم يقصرون الاستدلال به فيما عدا العبادات، والقاعدة أن كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جائز فيه كما قاله الزنجاني في تخريج الفروع ونحو هذا قاله علماء الفقه والأصول، إلا ما كان من خلاف لأبي حنيفة حيث أخرج: الحدود والكفارات والمقدرات والرخص، قال في الكوكب الساطع:
والحنفي في الحد والتقدير وفي ترخص وفي التكفير
والسبب أنه رأى أن الحدود والكفارات والتقديرات أمور مقدرة لا يهتدي العقل إلى تعقل المعنى الموجب لتقديرها فلا نعقل فيها العلة، والقياس فرع تعقل العلة، وأما الرخص فهي منح من الله تعالى فلا يتعدى بها عن مواردها.
وقد أجاب الجمهور عن هذه التعليلات في كتبهم الأصولية، وانظر على سبيل المثال كتاب الإبهاج 3/30، وشروح الكوكب عند شرحها للبيت السابق.
هذا هو الخلاف وليس وراءه خلاف آخر، وأنت ترى أنه لم يذكر العبادات، وعليه فالقياس دليل شرعي متى ما توفرت شروطه.
بل إنه يدخل العبادات بقية أنواع الأدلة المختلف فيها، بما فيها المصلحة، فقد صحح النووي ندب تغميض العينين في الصلاة إذا كان في ذلك زيادة خشوع فيها، وهذا نظر مصلحي.
والحقيقة أن هذه القاعدة المراد بها أن القياس لا يدخل ما ليس معقول المعنى وهو الذي يصطلح عليه بالتعبدي كعدد الصلوات والركعات ومقادير الزكوات وأنصبة الورثة ونحوها، هذا هو المراد وهو شرط من شروط صحة القياس، ولكن البعض يشرق في فهمه حيث يغرب النص:
سارت مشرقة وسار مغربا شتان بين مشرق ومغرب.
فقه القاعدتين:(1/6)
يحفظ البعض قاعدتين ويظن أنه قد جمع الفقه من أطرافه، وأنه يستطيع من خلال هاتين القاعدتين أن يجيب على أي سؤال، وأن ما كتب في الفقه من مؤلفات ما هو إلا نقطة كثرها الجاهلون، وهاتان القاعدتان هما: الأصل في العبادات التوقف وفي المعاملات الإباحة.
عجبا من هذه الجرأة، لو كان الأمر كذلك لكان صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقهاء مجتهدون بل لكان المسلمون كذلك، لأن حفظ قاعدتين، ليس بالأمر المستحيل ولا الصعب.
ولو كان الأمر كذلك لما قال الله: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } و لما قال: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } ولما احتجنا إلى علماء وفقهاء، ولا إلى أئمة أجلاء يزيلون غبش الجهل والبدعة، ولكان من الغباء الماحق تصنيف عشرات الكتب في الفقه والقواعد والأصول وغيرها، ولما احتجنا إلى الرحلة والقراءة والمعرفة، ولهان الخطب!!
وأس المشكلة الجهل، والتكاسل أو التكبر أحيانا من القعود على الركب والانكباب على الكتب، وتسويد الطروس، بالفوائد الشموس التي تبدد ظلمة الجهل، وتزيح غبش الفكر، مع هذا إذا ما استولت الغفلة على عقولنا واستبد الكسل بأبداننا وفئران الوقت بزماننا فعلينا بمراجعة أولي العلم، الذين أمرنا الله بالرجوع إليهم وسؤالهم إذا ما دهمتنا أمور أو استبدت بنا حوادث.
أما ألّا نكون لا من هؤلاء ولا من أولئك فهو الضياع بعينه، في الدنيا والأخرى، وجهلنا المركب لن يغنينا عند الله شيئا.
تقرير البدهيات:
إن من عجائب زماننا هذا إنكار البدهيات، ويحتاج البعض إلى القبول بها والتسليم بها جملة من التقريرات العقلية أو النقلية، وكأن الشمس لا ترى لذي عينين.
وهذا نجده في فئة من الصالحين المتدينين وفي غيرهم بل نجده فيمن يزعم أنه يتربع في أعلى سلم التفضيل البشري والتقنية الإنسانية.(1/7)
لقد كان الناس قديما في الغالب يعترفون بجهلهم، وإذا ما وضح لهم أمر أو وجدوا عواقبه وخيمة اجتنبوه، وأخذوا منه عبرة، أما أناس زماننا فكثير منهم يلدغون من الجحر الواحد مرات ولا يستيقضون بل يمعنون في طلب اللدغ وتكريره، وينكرون الشمس في رابعة النهار، ويزعمون أنهم على حق، إنه زمن الجهل المركب.
ويكفي أن نضرب على ذلك بعض الأمثلة:
يفتي بعض الجهلة بجواز زواج المسلمة من غير المسلم، يكذب ويفتري ويزعم أن هذا هو الدين، نعم هو الدين لكنه ليس دين الله، الذي ارتضاه لعباده وأنزل لهم قرآنا يتلى فيه قوله: { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } والمشركون لفظ عام يدخل فيه كل مشرك ممن ليس مسلما، وهذا ما فهمه الصحابة، وقوله: { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } .
ويغتر البعض فيرى عمامته والدال التي تتقدم اسمه، وكلماته المطعمة بمصطلحات شرعيه فيضن فيه الإمامة، ولا يدري أن الإمامة لا تنال بالعمامة، ولا بالجماهير الغفيرة، ولا بهتاف الهاتفين، تصفيق المصفقين، وحضور الحاضرين، ولا بالدال نقطة، التي حازها ممن لا يرجون لله وقارا.
إن الإمامة إنما تنال بالصبر على لأواء الطلب والجد في التلقي، واليقين بالله وشرعه وفضل الله عليه.
ويزاد الأمر سوءا عندما يزعم ألا عذاب في القبر وأن ما تواترت به الأحاديث حول هذا المعنى مجرد ترهات ومخترعات من رواة كذابين، ولا يدري –وربما يدري- أن القرآن دل على ذلك في قوله سبحانه: { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } وقوله تعالى: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } وصدق الله سبحانه { وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
إنما العلم بالتعلم:
أمرنا الله بالعودة على أهل العلم في كل ما يشكل علينا من قضايانا الدينية في حلها وحرمتها، ومعلوم أن لأهل العلم شروط ذكرها الأصوليون في مبحث الاجتهاد من كتب(1/8)
الأصول، كما ذكرها غيرهم من علماء التفسير والفقه، ومع هذا نجد البعض يرجع إلى آخرين ليس لهم في وادي العلم الشرعي نصيب، غير مجرد التطفل، ويا ليته يجيب بأجوبة العلماء، بل يجمح في أقواله فإذا به يجاوز الشرع على البدعة ثم يجمح به جهله وكبره ولا يدري إلى وهو خارج دائرة الإسلام.
هذا النوع من الناس لا مكابح لهم تمنعهم، ولا زمام أو خطام يوقفهم، ما إن يرى نفسه يستطيع جمع الكلمات ورصها حتى يظن نفسه هناك حيث لا يستطيع أحد اللحاق به... حتى ولا شرع الله.
يقول سبحانه: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } أي لا يفلحون في دنياهم ولا أخراهم، وهذا فيه تهديد بليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وهذا ما نراه واقعا جليا "لا يفلحون" فلم يفلحوا في حياتهم الخاصة، ولم يفلحوا في حياتهم العامة، ولم يفلحوا في دينهم وعقيدتهم، ,أضحت حياة بعضهم سوداء مظلمة يخرج من نكبة على أخرى ومن مصيبة على كارثة.
مخطئ من يظن أن شهاداته تخلصه من حكم الله.
مخطئ من يظن أن مستواه العلمي يمكنه من القول على الله بغير علم.
فقهاء المصلحة:
اشتهر في وقتنا الحالي ما يسمى بفقه المصلحة، ورأينا لفيفا ممن لا ناقة لهم ولا جمل في العلم الشرعي يتقحمون باب الفتوى والقول في دين الله معتمدين على اعتقادهم بأن الفقه يقتصر على النظر المصلحي وأن المصلحة أينما كانت فثم وجه الله، وردوا بسبب هذا الفهم اجتهادات أكابر الأمة وفقهاء الدين ممن أمر الله بسؤالهم والرجوع إليهم، وممن حملوا أمانة تعليمه وتبيينه، في حين أن هؤلاء المتقحمون لا يجرؤون على نطق كلمة واحدة في مسألة طبية أو هندسية أو في أي مجال آخر خارج عن معرفتهم وتخصصهم خلا دين الله.(1/9)
ولا يبال هؤلاء في أي واد وقعوا وفي أي متاهة ذهبوا، ولا يدركون أنهم بتقحمهم هذا السبيل إنما يتقحمون النار، وأن خصيمهم يوم القيامة لن يكون الناس فقط ممن أضلوهم بل ورب البرية كذلك، لأنهم لم يقفوا عند حدوده، ويتبعوا أوامره، بل زادوا ووقعوا زورا عنه سبحانه، لأن المفتي موقع عن الله، فضلوا وأضلوا، فعليهم وزرهم ووزر من عمل بقولهم كما ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم ورواه أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" هذا وعيد شديد لكل من تقول على الله بغير علم، وكلما كان هذا المتقحم مقبول الكلمة واسع الجاه والتأثير بين الناس كلما زاد إثمه وكثر خصمه، وهذا يستدعي مراعاة ما يقول ما يفعل، والتأني في ذلك، والرجوع إلى أهل العلم والاختصاص.
أما عن المصلحة فلا ننكر أن "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها" كما قال ابن القيم.
ولكن هنا مقدمة مهمة وهي أن المصالح ليست في مرتبة واحدة، ولا هي نوع واحد، بل هي مراتب وأنواع، فمنها المعتبر ومنها غير المعتبر وهو ميسميه علماء الأصول بالمصلحة الملغاة، ثم منها ما هو في أعلى مراتب التقديم كمصلحة الدين على غيره من المصالح الضرورية، والمصالح الضرورية على غيرها من الحاجية، والحاجية على التحسينية، وهكذا في مكملات هذه المصالح، كما أن هناك المصالح الحقيقية والمصالح الوهمية، وهنا نقول من يستطيع أن يميز أنواع المصالح ويقدم الأولى فالأولى، ويعرف مرتبة المصلحة وشروطها وكيفية تقديمها واعتبارها، وسبل الجمع بينها وغيرها؟(1/10)
كل هذا وغيره لا يمكن لخريج كلية شريعة أو حتى لمن يحمل الدكتواره بله صحفيا درس الصحافة أربع سنوات ثم تخرج ليكتب في الصحف والمجلات منشغلا بذلك بعيدا عن علم الشرع وعلمائه مكتفيا بمعرفته بالمصلحة.
إن من يستطيع التمييز بين المصالح ومراتبها وأنواعها وكيفية التعامل معها هو الفقيه المجتهد وحده، الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها علماء الأصول والفقه، والذي تشبع من علوم الشرع خاصة القرآن والسنة بحيث أصبح الاجتهاد ملكة لا صناعة يقتدر بها على معالجة شؤون الحياة العامة أو الخاصة، أو ما يدخل في إطار اجتهاده الجزئي إذا قلنا بتجزؤ الاجتهاد وهو ما نعتقده.
لكن للأسف لا نجد هذا المفهوم وهو ضرورة كون المفتي في الدين هم العلماء الراسخون راسخا في أذهان البعض فتراه يشرق ويغرب، يحلل ويحرم دون ضابط، ولكي يبرر جهله، يحتج بمقولة تنسب لعلي بن أبي طالب: "العلم نقطة كثرها الجاهلون" ويتعلل بأن دين الله يسر، والحقيقة أن العلم الذي نتحدث عنه هو نقطة حقا بالنسبة لما أضيف إليه من أغلوطات وعلوم محرمة كالسحر والشعوذة والرمل والخط وغيرها من العلوم الضارة أو التي لا تنفع، أما علوم القرآن والسنة: من تفسير وحديث ومصطلح وفقه وأصول وغيرها فهذه لب العلم وأصله، وهي النقطة التي قالها علي رضي الله عنه، وإلا فلماذا لم يكن الصحابة جميعا ثم من بعدهم إلى يوم الناس هذا علماء فقهاء، ثم لماذا يأمرنا الله بالرجوع إلى أهل العلم، بل لماذ الحثّ عليه أصلا والترغيب فيه وتكثير درجاته ما دام أنه يتأتى لأي شخص، ثم هل من فائدة للفقهاء والمجتهدين وعلوم الشرع التي تعبوا في جمعها واستنباطها وتدوينها.
الحقيقة أن هؤلاء ينطبق عليهم قول عمر في ذمه لأمثالهم: " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم السنن أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها وسئلوا فقالوا في الدين برأيهم".
المفتى والتخصصات الأخرى:(1/11)
الحياة اليوم ليست كما هي عليه بالأمس فبعد أن كانت حياة بسيطة غدة اليوم حياة معقدة متشابكة، ترتبط أجزاؤها ببعضها البعض بحيث يصعب فك هذا الاشتباك، ويكون من الخطأ الجسيم معالجة قضية ذات بعد اجتماعي دون النظر إلى اصدائها وتأثيراتها السياسية والاقتصادية، وتزداد القضية تعقيدا وخطورة عندما تتعلق بالمجتمع المسلم برمته، فهنا يتطلب الأمر حذقا وفقها واحتياطا ودراسة وتأملا زائدا، وليس هذا فقط، بل يحتاج إلى الرجوع إلى علماء التخصصات الأخرى، فعندما تناقش مسألة اقتصادية نحتاج –مثلا- إلى علماء اقتصاد واجتماع وسياسة ليضعوا أمامنا التصور الواضح الكامل عن المسألة المطروحة
وأبعادها والمصالح والمفاسد الواقعة والمتوقعة، والحلول من وجهة نظرهم، ثم يأتي الفقيه ليطلع على ذلك كله ويناقشه مع أهله، فيتمكن حينئذ من تزييف أو تصحيح المصالح والمفاسد، واعتماد الحلول والوسائل الشرعية.
أما الاكتفاء بنظرته الجزئية الخاصة وبناء الفتوى عليها فليس سديدا البته، ولا يبعد صاحبه من الإثم لأن المجتهد الذي يسلم من الأثم هو من بذل وسعه ورجع إلى أهل التخصصات المتعلقة بمحل الفتوى، أما التمحور حول الذات فلا يجوز البتة، إذ لم يعد يوجد اليوم الفقيه الموسوعي المتبحر في علوم الدين والدنيا، لسبب بسيط وهو كثرة هذه العلوم وتشعبها بحيث يفني المرء حياته في تخصص دقيق جدا وهو في النهاية لم يعلم منه إلا القليل { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } هذا إضافة إلى ما تستفيده الفتوى من توارد عقول عليها ومراجعتها ولهذا كان الأصل أن يتعدد المجتهدون كي يدلو كل واحد بدلوه، فتتمحص الفتوى دراسة ومناقشة فتخرج أقرب إلى الصواب إن لم تكن صوابا.
الإجازة بالفتوى:
ذكر أهل العلم أن الفتوى والتدريس لا يتوقف على الإجازة من الشيخ ونحوه وأن الشرط إنما هو الأهلية لذلك، وهذا كلام صحيح لا غبار عليه، ولكن هنا كلمتان:(1/12)
الأولى: أن الشهادات العليا اليوم لا تدل بتاتا على جواز الفتوى للحاصل عليها وإن كانت تتضمن ذلك، فليس كل من حصل على الدال أو ما هو أعلى منها يصير بذلك مفتيا، لأن شهادة الفتوى هي ما في الراس لا ما في الكراس، ولا ننكر وجود من هو مؤهل من حملة هذه الشهادات لكنني أزعم أنهم قلة قليلة إذا ما قورنت بالكثرة الكاثرة من أولئك المتخرجين، وخاصة أن فروع الدراسات الإسلامية كثيرة، ومن يمكنه الإفتاء هم تخصص وحيد من هذه الفروع، إذن الشهادة ليست إجازة.
الثانية: أنني أرى والله أعلم، أن إيجاد آلية معينة لمن يجوز له الإفتاء هو الأصح، لما يترتب من مفاسد على جعل هذه القضية دون ضابط معين، ولكن أحذر أيضا من تكميم أفواه العلماء بحجة عدم الأهلية لديهم، أو لسبب آخر يتعلق بقضايا عنصرية يرفضها الإسلام رفضا قاطعا، ولهذا أحبذ ألا يسمح لأحد بالإفتاء إلا إذا كان مجازا من هيئة شرعية معتبره أو مجازا من علماء معتبرين، وليس شرطا أن يكونوا حكوميين، كي نضمن أمرين: الأول: السماح للمؤهلين بالقيام بدورهم الديني والتعليمي على أكمل وجه، والثاني: سد الباب أمام غير المؤهلين، فنصون دينه ودين المجتمع، ونسلم عبث العابثين.
القرض الربوي:
ورد إلي سؤال مفاده أن مجموعة اشتركوا في تأسيس مصنع، وكان لبعض الشركاء تجارات أخرى، فأقرضوا المصنع أموالا وسلعا، وبعد فترة من الزمن طالبوا بأموالهم إما كاملة أو مقسطة، ولكن المصنع للا يستطيع سداد الأموال، فبحث مديره عن حل فذهب إلى بنك إسلامي ولكنه –كما يقول- بعد اجتماعات وتقديم ضمانات لم ينجح في إقناعهم، ولأن المصنع على وشك الإفلاس ويحتاج إلى شراء معداد جديدة لتزيد القدرة الإنتاجية بحيث يتمكن من سداد الدين، تقدم مدير المصنع إلى بنك ربوي، وزعم أنه وجد عنده التسهيلات الكاملة، وهو الآن يسأل: هل يجوز له مواصلة هذا المشوار الربوي تبعا لقاعدة الضرورات تبيح المحضورات، أم لا؟
وكان الجواب كالتالي:(1/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : فتوى بشأن الاقتراض من بنك ربوي لشراء معدات وتسديد ديون
الحمد لله رب العالمين وبعد:
فقد وصنا سؤالكم المزبور حول حكم الاقتراض من بنك ربوي لشراء معدات وتسديد ديون، وإلا فسيعلن المصنع إفلاسه، وينتهي المشروع التي تقتات منه أسر، ونلخص الجواب في النقاط التالية:
حكم الاقتراض بالربا:
لا يخفى على مسلم أن الربا محرم، وأن حرمته من المعلوم من الدين بالضرورة قال سبحانه: { وأحل الله البيع وحرم الربا } بل هو من كبائر الذنوب الجالبة للعن والسخط من الله سبحانه، بل توعد الله سبحانه بإعلان الحرب على المرابي فقال: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } وكفى بهذا تهديدا.
كما صح في السنة عن خمسة من الصحابة كما ذكر الترمذي في سننه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله وشاهديه، فلم يكتف بلعن فاعلي الربا بل وضم إليهم الشاهدان، لأنهما ببساطة معينان على هذه الجريمة، وهذا في إشارة إلى دخول كل من يعين على ارتكاب هذه الفعلة من كتبة وحرس وموظفين.
هل الضرورة تبيح الربا؟
اتفق الفقهاء على قاعدة مفادها أن الضرورات تبيح المحضورات، ولكنهم ضبطوا هذه الضرورة بأن يكون فيها إتلاف للنفس أو لعضو من الأعضاء، ومن الأمثلة على هذا:
لو لم يجد طعاما أو شرابا إلا بربا، وخاف على نفسه الهلاك.
إذا لم يجد لباسا يتقي به الحر أو البرد المهلكين إلا بتعامل ربوي.
لم يجد سكنا يأوي إليه بحيث سيهلك لو بقي على حالته أو تصيبه مشقة شديدة لا تحتمل عادة إلا بتعامل ربوي
ففي مثل هذه الحالات يجوز هذا التعامل للمضطر دون غيره، ثم إذا تمكن من مقاضاته فليس لصاحب السلة أو الدائن إلا ثمن المثل.(1/14)
ومن هنا يظهر أن مسألة الخسارة التجارية لا تدخل في الاضطرار، وعليه فلا يجوز أن تكون سبب للتعامل به، بل هي فتنة وابتلاء من الله لينظر كيف يصنع عبده هل سيستسلم للوسوسة ويسلم زمام نفسه للشيطان فيوقعه في المهالك أم أنه سيصمد ويصبر ويستعين به سبحانه.
ج- البنك الربوي ليس حلا:
ذكر السائل أن البنك الربوي سهل له عملية الاقتراض مقابل ضمانات أقل مما طلبه البنك الإسلامي، وهنا نقول: مخطئ من يظن أن البنك الربوي يمثل حلا للمشاكل الاقتصادية ويكفي أن نسمع عن دعاوى الحجر وإشهار الإفلاس لمصانع وشركات اتخذت من الربا معينا لها ومخرجا من مآزقها المالية.
إن الله قد حكم على الربا بالمحق فقال: { يمحق الله الربا } ينقصه ويذهب بركته وإن كان كثيرا، فشراء المعدات أو إنشاء المشاريع الناتجة عن قروض الربا لن يكتب لها النجاح فإذا
ما نجحت فلن ينجح صاحبها، إن المصير هو المحق ولا شك، وفي مثل هذه القضايا لا تكفي دراسات الجدوى، لأنها دراسات صماء بكماء عن رضا الله وسخطه، فلا تدرج هذا في حساباتها، ولهذا لا غرابة أن تكون نتيجة المعصية البوار على خلاف التوقعات وهذه الدراسات.
وقضية أخرى وهو أنك عندما تستدين بالربا سيزاد على الدين نسبة الربا والتي قد تتعاظم ثم لا تدري إلا وقد حجر على المصنع، ويضيع كل شيء إضافة إلى غضب الله ولعنته، أي تضيع الدنيا والآخرة فماذا يبقى.
د- حلول:
وبعد أن تبين لنا حرمة الربا وضرره وعدم جدواه، نشد على يد السائل وأمثاله بأن يلزموا الاستغفار فهو باب من أبواب الرزق الوفير، وأن يدعوا الله متضرعين كي يخرجهم مما هم فيه، وأن يغنيهم بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه.
ثم يبحثوا في كل اتجاه عن طريقة مباحة يفكون بها ضيقتهم، والمرء إذا بذل وسعه في البحث عن الحلال فلن يخيبه الله أبدا وسيوفقه إن عاجلا أو عاجلا.
وهنا سأذكر حلولا لعلها تفيد أو تفتح بعض الأفق:(1/15)
يمكن أن يدخل الدائنون بدنهم شركاء في هذا المصنع، وإذا كانوا شركاء فيه فتزاد نسب مشاركاتهم.
يمكن فتح باب اكتتاب بسقف مالي معين سواء لفئة معينة أو غيرها.
المحاولة ثانية مع البنوك الإسلامية فهناك عدة بنوك يمكن أن تجد في إحداها ضالتك.
البحث عن شركاء جدد يوفرون السيولة الكافية لشراء الآلات اللازمة.
البحث عن تجار تجرى معهم عقود مرابحة.
والله المستعان
فهد عبد الله.
الفقه اليماني:
لم يحظ فقه بشهادة مشرفة كما حظي به الفقه اليماني، كيف وقد ثبت في السنة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان".
فقوله: "الفقه يمان وسام شرف من جملة أوسمة منحها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى لأهل اليمن، وهي شهادة فوق كل شهادة، ومهما حاول البعض لي النص وتأويله أو تنزيله على غير أهله فإن كلامه لاينظر له ولرما كان وراء بعض هذه التأويلات نزعات غير مرضية.
وجملة: "الفقه يمان" اسمية، وعلماء البيان يقولون الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، فهي منقبة لأهل اليمن إلى قيام الساعة، ولا يعني هذا عموم الأفراد أي أن كلل يمان فقيها بل يعني أنهم كذلك في الجملة أو أن من تيسر له طلب العلم والتمرس فيه فإنه مهيأ أكثر من غيره في الفقه والتفقه.
ولكن نلاحظ اليوم أن الفقه اليمان في بعض جانب التمثيل الفقهي رديء للغاية، وإن كان غير كذلك في الجانب الأكاديمي والنهضة الفقهية كيف والشوكاني وابن الأمير وابن الوزير من الرواد بل هم الرواد للنهضة الفقهية الحديثة.(1/16)
بل ما أعنيه أنه على تنوع المجامع الفقهية من المجمع الفقهي التابع للمؤتمر إلى المجمع الفقهي التابع للرابطة إلى المجمع الفقهي الأوروبي لا نجد فيها (فقيها) يمانيا واحدا، ولا أقول هذا لشيء إلا لأبين مدى الحرمان الذي يصيب هذه المجامع عندما حرمت نفسها من معدن الفقه (والفقه يمان) لا ننسى أن هذا حديث نبوي وليس حكمة أو أثرا أو مقولة متعصب.
وإني لأستغرب حقا كيف يتهيأ للبعض من أقطار معينة تبوء المناصب العلمية الرفيعة أو الظهور المتكرر في القنوات الفضائية ولا نجد شخصية فقهية يمانية، إني أتسائل: أهو التعصب أم قلة التوفيق؟
المشكلة أن هؤلاء لا يحرمون أنفسهم فحسب بل وغيرهم من عامة الناس.
نعم الفقهاء اليمانون لا يجيدون ثرثرة الحديث وإن كان هناك من يتقن ذلك إلا أنه أسلوب لا يحبذونه، وهذه منقبة لا يدركها إلا الملهمون.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن فقهاء اليمن لا يكثرون من ذكر الافتراضات والتفريعات والجدل الفقهي، وقال بأن قوله- صلى الله عليه وسلم -: "والفقه يمان" يدل على سلامة هذا المنهج، لكن اليوم يريد أن يجعل طريقته هي المقياس...تبّاً.. وماذا نفعل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهادته.(1/17)
زد على ذلك أن هذا الكلام ليس قاصرا على الفقه فقط بل على الحديث أيضا، ففي ديارنا محدثون كبار أبرزهم شيخنا وأستاذنا المحدث/ حسن حيدر الوائلي، والذي يحفظ الترمذي كاسمه ويحفظ الصحيحين وغيرهما بل يحفظ الأحاديث بأسانيدها التي يقول فيها الترمذي: "وفي الباب من حديث..." وهذا شيء كثير، وله تحقيقات وتعليقات ومصنفات لم يتيسر له طبع بعضها إلا بصعوبة بالغة، لأن دور النشر –كما نعرف- لا تبحث عن الفائدة والكتب الغنية، وإنما تبحث عن العائد، وبما أن مؤلف هذه الكتب مجهول بالنسبة إليها فتعزف عن طباعة كتبه، في حين يحظى بعض طويلبي العلم بطباعة كتبهم الهزيلة والركيكة شكلا ومضمونا، وإن هذا من أمارات الساعة كما في الحديث الصحيح: "إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" أخرجه الطبراني.
تعميم الجنابي بحلية الفضة:
نقل الشيخ عبد الله بن سليمان الجرهزي عن جمع من علماء اليمن جواز تعميم الجنابي بحلية الفضة، وإن كانت علة صورة الإناء، والذي يفيده كلام التحفة تحريم ذلك، لأن التحلية جعل قطع من النقد في مواضع وهو المعتمد، ويجوز تقليد الاول ولا ينكر على العوام استعمالهم لها، ولا يطالبون بزكاة للخلاف، والله لا يعذب فيما اختلفت فيه الأمة(1).
هل يوجد مجتهدون اليوم؟
قال بعضهم كـ"عمر البصري" محشي التحفة أنه لا يوجد أحد في زمنه من هو من أهل الترجيح وتبعه على هذا القول غيره، لكن قال جمال الدين الأهدل: والعمل من أصحابنا المتأخرين المانعين من ذلك على خلافه فيخرجون فروعا ويرجحون خلافا مما هو من وظيفة أهل الترجيح، وفضل الله واسع(2).
ومع عدم إنكارنا لفضل الله الواسع إلا أننا نلاحظ عليه أمران:
__________
(1) عمدة المفتي والمستفتي لجمال الدين الأهدل 1/15
(2) عمدة المفتي والمستفتي 2/28(1/18)
الأول: أن هذا التخريج بل والاجتهاد في تنزيل الأحكام دون وجود نظائر وهذا هو الاجتهاد بعينه كما ذكرنا سابقا، كثيرا ما يكون في مسائل بدعية، أما في قضايا الأمة الرئيسية أو في دفع بدعة أو إنكارها فنجد البعض يكع ويدعي غلق باب الاجتهاد.
فمثلا نجد البعض يستحب رفع القباب والأضرحة على القبور، والاستحباب حكم شرعي، رغم أن المعروف من المذهب الكراهة، ودون الخوض في كنه هذه الكراهة هل هي تحريمية أو تنزيهية، إلا أنا نقول كيف يقول هذا الرجل بأن هذه البدعة مندوبة ثم يقول بأنه ليس من المجتهدين، وقد يشن الغارة على غيره من الأئمة الذين وصلوا إلى هذه المرتبة، في حين نجد هذه النماذج تعجز عن إيجاد حلول ومخارج لما عانته الأمة من ويلات وضعف، بل لقد كان مشاركا في هذا التردي في المستوى الديني والثقافي والحضاري، ولم يقف الأمر عند ذلك بل نقل الشرقاوي عن الزيادي وهو من المتأخرين أنه أمر ببناء قبة على قبر رجل يدعى الزفزاف تمييزا له عن غيره وليكون قبلة للزائرين بسبب ولايته!!
وعندما قال له البعض: أليس هذا حراما يامولانا؟
أتدرون ما كانت إجابته؟ لقد قال قولا لا يجوز لعامي فاقد القراءة والكتابة أن يقوله بله عن عالم له مؤلفات وحواش.
لقد أجاب قائلا: وإن كان حراما فأنا آمر به!!! أستغفر الله.
الثاني: أننا لا نرى فضل الله الواسع هذا إلا لأقوام وطوائف بل لأفراد، وإذا ما أعلن البعض اجتهاده شنت عليه الغارات، كما حدث مع السيوطي حيث أدعى الاجتهاد فجاءه البعض يسأله في مسائل فلم يجب فقالوا: كيف تدعي الاجتهاد وأنت لم تعرف هذه المسائل؟(1/19)
رغم أنه من المعروف أصوليا أنه لا يشترط في المجتهد المطلق أن يجيب على كل سؤال ولهذا كان أرجح أقول الأصوليين صحة تجزؤ الاجتهاد، مستدلين بوقائع عن أئمة العلم الذين أجابوا بـ: لا أدري في الكثير الكثير من المسائل، وهاهو الإمام مالك يُسأل أربعين مسألة فيجيب عن أربع فقط ويقول في الباقي لا أعلم، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون وقال جنة العالم لا أدري فإن أخطأها فقد أصيبت مقاتله".
إن الاجتهاد باق إلى أن يشاء الله سبحانه، وفضل الواسع على زيد هو كذلك على عمرو، والعبرة بالأهلية وموافقة الدليل لا بالمذهبية والعصبية، والموافقة والمخالفة.
أحكام العملة الورقية(1):
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، فإن من المسلم به إسلاميا أن دين الإسلام دين شامل لكل مناحي الحياة لا يشذ عنه شيء، وأن المسلم مخاطب الأحكام التكليفية في مجالات حياته كاملة ولا يقتصر الأمر على مجال العبادات مثلا كما يحاول البعض أن يروج له، ومن البدهي أن المال يمثل ركيزة أساسية في حياة الأفراد والشعوب والحضارات بل لقد كان السبب في إشعال فتيل الحروب وذهاب الأرواح وتدمير الحضارات والدول، كما أنه كان سببا كبيرا في إقامة حضارات حكمت شعوبا ورقاعا واسعة من الأرض، وبسبب هذا الموقع الذي يحتله المال فمن البدهي أن يكون للشرع الإسلامي منهج وموقف إزاء كل التعاملات المالية المختلفة والمتنوعة، ومن هنا كان لزاما على علماء الإسلام أن يتعرفوا على التطورات المالية ويدرسوها دراسات متأنية ويسلطوا عليها ضوء الشرع، ليعلما مواطن الحلال من الحرام وليبينوا للأمة كي تعمل بالحلال وتجتنب الحرام.
__________
(1) هذا ملخص لرسالة علمية تحمل هذا العنوان.(1/20)
وإن المسائل المهمة في هذا العصر مسألة العملة الورقية وما يتعلق بها من أحكام ربما يجهل بعضها الكثيرون وفيما يلي بيان لجملة من هذه الأحكام التي ينبغي بل يجب على من يتعامل بها أن يتعلمها ليعرف متى يكون تعامله حلالا ومتى لا يكون كذلك، لكي يرضي ربه أولا ولكي يأكل اللقمة الحلال التي لا تنغص على المسلم عيشه، لأن الله ما أمرنا إلا بما فيه نفعنا وما نهانا إلا عما فيه ضرنا فطوبى لمن رشد.
أولا: تعريف العملة الورقية:
يتوجب التفريق بين مفهومي النقد والعملة , فالنقد يشمل كافة المبادلات التي تتمتع بقبول عام في الوفاء بالإلتزامات, وهو غالباً ما يكون ناشئاً عن الإتفاق أو العادة أو العرف أو ثقة الأفراد.
أما العملة فهي نوع من أنواع النقود الحكومية وهو ما يكون لها قوة إبراء الديون وتقتصر على المسكوكات المعدنية والعملة الورقية الحكومية .
والنقد يشمل إضافة لذلك على الأوراق المصرفية المتداولة تحت مدلول ثقة المتعاملين في قدرة وملاءة البنك الذي أصدرها ,بدفع قيمتها بعملة الدولة .
أما العملة الورقية فهي التي تصدرها الحكومة وتشمل فئات معينة ومختلفة وكل فئة تحمل قيمة اسمية بدون ما يقابلها من ضمان معدني, وهي بالتالي تستمد قوتها من إرادة الدولة وثقة المتعاملين بها(1).
ثانيا: تكييف العملة الورقية:
كانت العملة قديما هي الدينار الذهب والدرهم الفضة وبهاتين العملتين كان يتعامل المسلمون بيعا وشراء، ولم تظهر العملة الورقية كبديل للدينار والدرهم إلا متأخرا حيث ترجع بداية جعلها نقودا إلزامية إلى سنة 1914م، فمن البدهي ألا يتحدث عنها فقها الإسلام وإن تكلموا عن عملة أخرى وهي المسماة بالفلوس وهي عملة نحاسية تستمد قوتها من اعتراف السلطان لها وإعطائها قيمة معينة.
__________
(1) جرائم تزييف العملات مازن الحنبلي(1/21)
هذا وقد كانت الكتب والبحوث الفقهية في بيان تكييف وأحكام العملة الورقية نادرة للغاية، ولكن بعد قيام الجامعات وبرامج الدراسات العليا ساهم هذا في إنعاش الكثير من الجوانب العلمية في المجال الفقهي والتي كان منها دراسة العملة الورقية وموطنها من الشرع.
وقد اختلف العلماء المعاصرون في تكييف العملة الورقية، وكان لهم مواقف مختلفة في مالية هذه العملة وهي مختصرة كما يلي:
القول الأول: العملة الورقية سندات ديون، قال بهذا الرأي محمد الأمين الشنقيطي، وغيره. فالنقود على هذا القول مجرد صكوك تثبت مديونية البنك لحاملها، لأنها مغطاة بالذهب بنسبة 100% أو جزء عظيم منها نقدا ذهبيا ويكمل الباقي بسندات ديون على الحكومة أو أوراق أسهم شركات رائجة، فمن ملك الورقة النقدية ملك لرصيدها الذهبي.
وهذا التكييف يفضي إلى مجموع من الأحكام منها عدم جواز كون الأوراق المالية راس مال في السلم لأنه سيكون بيع دين بدين، وتعامل في الزكاة باعتبارها دينا ويجري فيها الخلاف، فعند الحنابلة لا تجب الزكاة ما لم يقبض، وعدم جواز صرفها بالذهب والفضة ولو يدا بيد لأن من شرط الصرف التقابض في مجلس العقد.
ويناقش هذا القول بأنه لم تعد الأوراق سندات ديون يعطى صاحبها ما تثبته ذهبا فبعد 1914م صارت إلزامية غير قابلة للصرف كما لم يعد الذهب يغطي إلا جزءا يسيرا، كما أنه لا يصح قياسها على الدين لأن الدين لا ينتفع به صاحبه وهو الدائن أما هذه النقود فينتفع بها حاملها فعلا كما ينتفع بالذهب الذي اعتبر أثمانا للأشياء وهو يحوزها فعلا(1).
القول الثاني:هي عرض من عروض التجارة، وقال به عبد الرحمن السعدي(2)، لأن العقد واقع على ذلك الورق نفسه والورق سلعة، كما أنها تسقط إذا أسقطتها الحكومة فليست بنقود.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته 2/772
(2) الفتاوى السعدية237، وابن منيع الورق النقدي 55(1/22)
ويترتب على هذا الرأي عدم جريان الربا فيها لأنها ليست بربوية كما يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة، كما لا تجب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة رغم أنهم أوجبوا زكاتها، وعدم جواز جعلها رأس مال شركة المضاربة إذ يشترط فيها أن يكون من الأثمان والأوراق عروض.
ويناقشون بأن العقد وقع على قوة الورق الشرائية لا ذاتها، وقولهم بانهيارها دليل على أنه ليست سلعة، فالغرض من السلع الانتفاع بخلاف النقود الغرض منها الانتفاع فهي من فئة النقود لا السلع(1).
القول الثالث: أنها ملحقة بالفلوس لأن كلا منهما سلعة بالأصل ثمن بالاصطلاح بخلاف الذهب والفضة لأنهما أثمان بالذلات، قال به محمد عليش المالكي.
وهذه خلاصة لأحكام الفلوس:
أ - عند الحنفية:
الفلوس عند الحنفية لا زكاة فيها ما لم تعد للتجارة وإن راجت والمعتمد عندهم وجوب الزكاة في قيمتها إذا كانت أثمانا رائجة ولو لم تعد للتجارة(2).
وفي الربا عندهم فيها قولان: قال أبو حنيفة وأبو يوسف الفلوس ليست محلا لربا الفضل إذا عينها العاقدان بأن قال بعني هذا الفلس بهذين الفلسين، أما إذا لم يعينا فيحرم التفاضل فيها، ففي حالة التعيين قد أبطلا ثمنيتها فعادت إلى أصلها وهي سلعة عددية(3)، ولا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة لاتفاق الجنس، أما إذا لم يعينا فيحرم التفاضل لأنها حينئذ أثمان، وقال محمد الفلوس محل للربا فلا يجوز بيعها ببعض متفاضلاً لأنها أثمان باصطلاح الكل وليس للعاقدين إبطال هذا الاصطلاح، ورجحه صاحب فتح القدير وقال:"ينبغي أن يكون قول الكل"(4) وهذا يدل على أن الفلوس راجت في زمنه.
__________
(1) انظر بداية المجتهد 1/310، والمغني 2/601 في تكميل أحد النقدين بالآخر.
(2) حاشية ابن عابدين 2/32
(3) فتح القدير5/391
(4) 5/391 كتاب الشركة فصل لا تنعقد الشركة...(1/23)
وبالنسبة للمضاربة فعن أبي حنيفة وأبي يوسف عدم الجواز لأنها أثمان باصطلاح الناس، وتجوز عند محمد لأن الفلوس ما دامت رائجة فهي ثمن فتلحق بالنقدين، ولأنها ثمن لا تتعين عند المقابلة بخلاف جنسها وهو المعتمد عند الحنفية(1).
ب- رأي المالكية في الفلوس:
لا تجب الزكاة في الفلوس إلا إذا أعدت للتجارة فعند ذلك تجب فيها زكاة العروض(2)، أما الربا فالمعتمد أنه لا ربا في الفلوس وروي ربويتها(3)، وفي جعل الفلوس رأس مال المضاربة قولان الأصح عدم الجواز(4).
ج- رأي الشافعية:
لا زكاة في الفلوس ما لم تعد للتجارة فهي في حكم العروض(5)، وذهب جمهور الشافعية إلى أنه لاربا في الفلوس ولو راجت رواج النقدين خلافا للخراسانيين(6)، كما لا يجوز جعل رأس مال المضاربة فلوسا لأنها في حكم العروض(7).
د- الحنابلة:
بالنسبة للزكاة فالمعتمد ألا زكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة فهي في حكم العروض، وقيل تجب إذا كانت أثمانا رائجة(8)، أما الربا فالمشهور أنها ليست محلا لربا الفضل لأنها معدودة فليست مكيلة او موزونة، فيجوز بيع فلس بفلسين متفاضلا لكن لا يجوز نسيئة لاتحاد الجنس، وفي رواية عدم جواز بيع فلس بفلسين مطلقا لأن كل ما كان أصله الوزن فلا يجوز التفاضل فيه ولو دخلته يد الصنعة(9)، أما جعل الفلوس رأس مال المضاربة فلا يجوز لأنها تنفق مرة وتكسد أخرى.
نخلص من هذا أن معتمد الحنفية أن تأخذ الفلوس حكم النقدين، خلافا للمعتمد من المذاهب الثلاثة.
__________
(1) فتح القدير 5/391 كتاب الشركة، والمبسوط 22/21 كتاب المضاربة.
(2) المدونة 1/341 كتاب الزكاة: زكاة اللؤلؤ
(3) حاشية الدسوقي 3/61 باب ينعقد البيع بما يدل
(4) مواهب الجليل 5/359 باب القراض
(5) قال في الأم 3/98 ليس في الفلوس زكاة".
(6) روضة الطالبين 3/338
(7) مغني المحتاج 2/310
(8) كشاف القناع 2/235
(9) المغني 5/126(1/24)
وعليه فإلحاق الأوراق النقدية بالفلوس يعني: عدم وجوب الزكاة فيها ما لم تعد للتجارة، ولا زكاة فيها، ولا يجوز جعلها رأس مال الشركة كل هذا على رأي الجمهور، وهذا الأحكام(1) لا تتفق ومقاصد الشرع ولا يكن عدها آراء للفقهاء لخلل في تخريج الأوراق النقدية على الفلوس.
ويناقش هذا القول بأن قياس الأوراق النقدية على الفلوس غير صحيح لما يلي
الفلوس ليست لها قوة إبراء غير محددة وليست إلزامية، بخلاف الأوراق التقدية فهي تتمتع بقوة إبراء غير محددة وهي إلزامية، بمعنى أن الدائن يحق له أن يرفض قبول الفلوس الرائجة إذا لم تكن مشروطة في العقد كما صرح به الفقهاء(2)أما هذه الأوراق فلا يحق لأحد أن يرفضها بل إن رفضها فإنه يعاقب، ويعد المدين بريء الذمة عند سداد دينه بهذه الأوراق فالفرق بينهما شاسع(3).
الفلوس كانت عملة مساعدة وليست نقودا رئيسية إذ كانت تستخدم لشراء الأشياء الرخيصة التي لا تقوم بدرهم(4) ونظرا لضعف قوتها الشرائية لم يسبغ عليها الفقهاء أحكام النقدين لأن نسبة الفلس إلى الدرهم هي:48:1، فإذا قومت الفلوس بالفضة لإعطاء زكاتها فتساوي 9600 فلس، ولم يكن الناس يسعون للحصول على مثل هذه الكمية إذ لا فائدة فيها إلا كونها للتجارة وحينئذ تزكى زكاة عروض تجارة، أما الأوراق التقدية فهي نقود رئيسية بل هي وحدها النقد الرئيسي.
الأوراق النقدية في غلاء قيمتها كالنقدين بل إن بعض الأوراق النقدية تعجز عن اللحاق بقيمتها أكبر قطعة نقدية ذهبية .
__________
(1) الأوراق النقدية لأحمد حسن 193.
(2) قال في الأم3/98: "الفلوس لا تكون ثمنا إلا بشرط ألا ترى رجلا لو كان له على رجل دانق لم يجبره على أن يأخذ منه فلوسا وإنما يجبره على أن يأخذ الفضة".
(3) النقود وظائفها وأحكامها لزعتري 354
(4) يقول السرخسي 22/21: "وهي ثمن لبعض الأشياء في عادة التجار دون بعض"(1/25)
القول الرابع: ليست بمال أصلا، قاله الشرواني لأنها غير منتفع بها بحد ذاتها فلا تعد مالا، كما أن السلطة إذا منعت تداول هذه الأوراق سقطت قيمتها(1)، ويترتب عليه عدم وجوب الزكاة فيها مطلقا لا عينا ولا تجارة، وليس فيها ربا الفضل أو النسيئة، ولا يجوز جعلها رأس مال المضاربة، ولا دفعها ثمنا لسائر الأموال وغيرها من الأحكام التي تلغي أحكام الشرع، وهو مناقش بأن لها قيمة ومنفعة، أما قوله بإبطال السلطان فهذا اعتراف بأن لها قيمة قبل الإبطال.
القول الخامس: العملة الورقية متفرعة من الذهب والفضة قال به عبد الرزاق عفيفي، وعلله بأن هذه الأوراق لا قيمة لها في نفسها لكنها تستمد قوتها الشرائية من تغطيتها المعدنية، ويترتب على هذا القول وجوب الزكاة ، ودخول الربا بنوعيه، وجواز جعلها رأس مال المضاربة، وفي الصرف إذا كانت عملتان متفرعتان عن الذهب فلا يجوز التفاضل بينهما إلا بشرط تساويهما في القيمة كالدولار مقابل الريال، أما إذا اختلفت تغطيتهما فيجوز التفاضل ويحرم النساء، ويشكل عليه لو كانت التغطية ذهبا وفضة معا كيف نكيفها حينئذ.
القول السادس: هي نقد مستقل قائم بذاته، ويترتب عليه كل أحكام النقدين، وإلى هذا القول ذهب السواد الأعظم من المعاصرين.
والذي قرره المجمع الفقهي التابع للمؤتمر الإسلامي: هي أنها اعتبارية فيها صفة الثمينة كاملة ولها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم وسائر أحكامهما(2).
ثالثا: أحكام العملة الورقية:
تبعا للقرار السابق من أن العملة الورقية تقوم مقام الذهب والفضة أوجز هنا الأحكام المتعلقة بالعملة الورقية.
وجوب الزكاة:
__________
(1) حواشي الشرواني4/238
(2) القرار التاسع.(1/26)
تجب في العملة الورقية الزكاة إذا بلغت نصابا، بأن تساوي قيمة 85 جراما من الذهب، فيخرج المالك ربع العشر، لأن العملة الورقية مال نام، فإذا كانت قيمة نصاب الذهب مائة ألف ريال وكان صاحب المال يمتلك هذا المبلغ وحال عليه الحول وهو معه فيجب عليه تزكية ماله وهو هنا ربع العشر أي ألفان وخمسمائة ريال فقط.
واختلف الفقهاء فيما إذا نقص النصاب أثناء الحول هل يبطله أو لا؟ فذهب المالكية والشافعية إلى اشتراط ملك النصاب في جميع السنة فلو نقص نقصا يسيرا ثم تم بعد ساعة انقطع الحول الأول واستأنف حولا جديدا، وذهب الحنفية إلى أن النصاب إذا كمل في طرفي الحول لم يضر نقصه في وسطه سواء كان هذا النقص يسيرا أم كثيرا.، وذهب الحنابلة إلى اشتراط النصاب في جميع الحول لكنهم قالوا لا يضر النقص اليسير كساعة وساعتين إذ لا حكم لليسير كالعمل اليسير في الصلاة، والعفو عن يسير الدم.
وذهب الجمهور من المالكية والحنفية والحنابلة إلى أن الدين يمنع وجوب الزكاة إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد المدين ما يقضيه سوى النصاب أما إذا زاد ماله عن الدين فتجب الزكاة، غير أن الحنفية خصوا الدين الذي يمنع الزكاة بالذي له مطالب من جهة العباد سواء أكان لله كالزكاة أو للآدميين، أما ما ليس له مطالب من جهة العباد كدين النذر فلا يمنع وجوب الزكاة، لأن الزكاة إنما وجبت مواساة للفقراء والمدين محتاج لقضاء دين كحاجة الفقير أو أشد، أما الشافعية فالأصح أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة لأن الزكاة تتعلق بالعين والدين يتعلق بالذمة فلا يمنع أحدهما الآخر.
وزاد الحنفية شرط أن يكون المال زائدا على الحوائج الأصلية، فمن ملك نصابا وهو محتاج إلى بيت ياوي غليه وثياب يدفع بها عنه الحر والبرد وكتب العلم لأهلها وآلات الحرفة وأثاث المنزل فلا زكاة لأنها مستحقة بصرفها في تلك الحوائج فهي كالمعدومة وذلك كمن عنده ماء لا يكفيه إلا لسد عطشه فهو كالعدم لذا جاز التيمم.(1/27)
دخول الربا:
تخضع العملة الورقية لأحكام الصرف، والمقصود بالصرف هو بيع العملات بعضها ببعض، وللصرف ضوابط يجب مراعاتها وفي مخالفتها الوقوع في الربا، وهذه الضوابط وهي:
1- التقابض: إي قبض البدلين (الثمن والمثمن) قبل الافتراق بالأبدان بأن يقوم أحدهما من مجلسه أو أن يخرج من الغرفة والمسألة عرفية.
2- التماثل: أي لا يجوز أن يزيد أحدهما عن الآخر عند اتحاد الجنس فيحرم مبادلة 10 ريال يمني بعشرين ريالا يمنيا أيضا، أما إذا اختلف الجنس فيجوز التفاضل كأن يصرف 10ريال سعودي بعشرين يمني، إذ إن كل عملة تعتبر جنسا مختلفة.
3- الحلول: فلا يجوز أن يشترط أحدهما أو هما جميعا تأخير التقابض، سواء اتحدا جنسا أو اختلفا، لأن قبض البدلين مستحق قبل الافتراق.
ودليل ما سبق ما رواه أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض(1) ولا تبيعوا منها غائبا بناجز"(2).
وذهب الجماهير من أهل العلم إلى اشتراط خلو العقد من خيار الشرط، لأن خيار الشرط يمنع تمام الملك وذلك يخل بتمام القبض، فإذا اشترطا أو أحدهما الخيار فإن العقد يفسد في حين خالف الحنابلة وذهبوا إلى صحة العقد وفساد الشرط(3).
مبادلة الأوراق النقدية بالحلي:
أي هل يجوز أن يشتري أحدهم ذهبا بعملة ورقية نسيئة، فيقبض المشتري الحلي ويبقى ثمنه أو بعض ثمنه في ذمة المشتري؟
__________
(1) أي لا تفضلوا والشف الزيادة.
(2) مسلم 3/1208
(3) انظر: فتح القدير 6/260وما بعدها، المدورنة 3/3، كفاية الأخيار 1/335، والمغني 4/134 ونيل الأوطار 5/152(1/28)
والجواب على ذلك أن العملة الورقية قد أصبحت اليوم بمثابة الذهب والفضة قديما وأنهما يجتمعان في علة متعدية واحدة وهي الثمنية، وعليه فلا يجوز بيع الحلي بالعملة الورقية نسيئة لأنهما ربويين فيشترط فيهما التقابض والحلول ولا يشترط التماثل لاختلاف الجنس وهذا ما قرره المجمع الفقهي التابع للمؤتمر الإسلامي(1).
المعاملات المصرفية:
تقوم البنوك بمنح قروض بربا بضمان أو بغير ضمان والحكم الشرعي هنا هو:
لا يجوز وضع المال في البنوك الربوية.
فإن أودعها في البنك لا يجوز تركها لأن فيه إعانة على المعصية.
لا يجوز الانتفاع بها.
يفرقها في سبل الخير، علما أن هذا الإنفاق ليس من باب التصدق ولا أجر فيه بل هو تخلص من المال الحرام.
ومن الخدمات المصرفية تحويل النقود مقابل مبلغ من النقود يأخذه البنك عن عملية التحويل فيدفع البنك شيكا مقابل استلام النقود ليقبض صاحب الشيك النقود في البلد الآخر أو من بنك آخر، فيقيد هذا البنك المبلغ في سجلاته، وقد قرر المجمع الفقهي التابع للمؤتمر قيام الشيك مقام القبض في صرف النقود بالتحويل في المصارف، وقرر الاكتفاء بالقيد في دفاتر المصرف عن القبض لمن يريد استبدال عملة أخرى مودعة في المصرف(2).
5 - تغير قيمة العملة:
فرق الفقهاء في أحكام تغير النقود الخلقية بين حالتين: 1- الكساد والغلاء والرخص 2- الانقطاع.
ففي الحالة الأولى أجمع الفقهاء على أن الدين الثابت في الذمة إذا كان عملة ذهبية او فضية خالصة أو مغلوبة الغش فابطل السلطان التعامل بها وهي موجودة أو ارتفعت قوتها الشرائية أو انخفضت فلا يلزم المدين بأداء غيرها سواء أكان الدين ناتجا عن بيع أم قرض أم إجارة أم مهر مؤجل(3).
__________
(1) مجلة الاقتصاد الإسلامي ع 69
(2) مجلة المجمع ع 8/72
(3) حاشية الدسوقي 3/365، رد المحتار 4/25، روضة الطالبين 3/365 شرح منتهى الإرادات 2/226(1/29)
أما في حالة الكساد فإنه وإن أبطل السلطان التعامل بها فلا تفقد ثمنيتها لأنها أثمان خلقة(1).
وأما حالة الغلاء والرخص فإنها ظاهرة طبيعية تتوازن تلقائيا لأنه في ظل نظام القاعدة المعدنية تتوفر حرية تحويل النقود من مسكوكات إلى سبائك فمثلا إذا انخفضت القوة الشرائية للدراهم والدنانير وهي حالة الرخص فإن الافراد سيحولون نقودهم إلى سبائك فيزداد عرض الذهب فينجم عن ذلك انخفاض سعر الذهب حتى يتوازن سعره كسبائك مع سعره كنقد(2).
أما في حالة انقطاعها فقد اجمع الفقهاء على أن الدين الثابت في الذمة إذا كان ناشئا عن بيع او قرض أو إجارة أو مهر وكان دنانير ودراهم خالصة أو مغلوبة الغش فالواجب قيمتها، وتدفع القيمة من غير الجنس عند الشافعية والحنابلة خشية الوقوع في الربا.
أما تغير قيمة الدراهم والدنانير المغشوشة والفلوس فقد جعل لها الفقهاء أربع حالات:
__________
(1) رد المحتار 4/25
(2) آثار التغيرات في قيمة النقود 362(1/30)
الكساد العام: بان يحل محلها نقد جديد فهل يعطي المدين المثل أم القيمة أربعة أقوال: المالكية والشافعية أنه لا عبرة بالكساد وليس للدائن إلا النقد المعين ما دام أنه موجود وسواء كان الدين من بيع أو إجارة أو قرض، وعللوه بان النقود ثبتت في الذمة وما كان كذلك وجب رد مثله لا قيمته(1)، وفرق أبو حنيفة بين كل من البيع والإجارة من ناحية والقرض من ناحية أخرى، ففي البيع والإجارة يفسد العقد فإذا راج ذلك النقد عاد العقد صحيحا، وفي حالة فساد البيع إن كان المبيع قائما في يد المشتري ولم يتغير وجب رده إلى البائع أما إذا خرج من ملك المشتري أو تغير وجب دفع مثله عن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا، أما في حالة فساد الإجارة فالواجب أجر المثل، أما بالنسبة للقروض فالواجب مثل النقود المقرضة ولا عبرة بكسادها، وعللوه بان ثمنية الدراهم المغشوشة والفلوس ثبتت باصطلاح الناس عليها لا بالخلقة وانعقاد البيع أو الإجارة كان باعتبار مالية قائمة بصفة الثمنية فيها باعتبار رواجها، فإذا انتفت بقي المبيع بلا ثمن فيفسد البيع، وهذا بخلاف استقراض النقود فلم يكن باعتبار صفة الثمنية بل لكونها من ذوات الأمثال، ولأن القرض إعارة وموجبها رد العين معنى(2). وقال أبو يوسف والحنابلة إذا كسدت وجب على المدين رد قيمتها من نقد آخر غير كاسد وتقدر القيمة يوم التعامل وهو يوم التعلق بالذمة ولا يجزئ رد مثل الكاسد، لأن تحريم السلطان لتلك النقود منع لنفاقها وإبطال لماليتها فأشبه تلفها وتعيبها فلا يلزم الدائن بقبولها، ولأنه دفع شيئا منتفعا به فلا يظلم بإعطاء ما لا ينتفع به، اما القرض وإن لم يقتض وصف الثمنية إلا أنه لا يقتضي سقوط اعتبارها إذا كان المقبوض موصوفا بها لأن الأوصاف معتبرة في الديون(3). وذهب محمد بن الحسن وقول عند الشافعية وبعض الحنابلة إلى وجوب دفع قيمة
__________
(1) الدسوقي 3/45، مغني المحتاج 2/17
(2) البدائع 4،24
(3) فتح القدير 6/167، المغني 4/365(1/31)
النقد الكاسد لكنهم قالوا تقدر القيمة في آخر يوم تعامل الناس به من نقد آخر غير كاسد(1)
الكساد المحلي: وهو أن يروج في بلدة دون أخرى وهذه الحالة لم يبينها غلاالحنفية فاتفقوا على عدم فساد العقد واتفقوا على أن البائع له الخيار إن شاء أخذ الدراهم التي وقع البيع بها وإن شاء أخذ قيمتها من نقد آخر(2).
انقطاع النقد وهو ما لا يوجد في السوق وإن وجد مع الصيارفة وفي البيوت فللفقهاء أربعة أقوال: المالكية والشافعية: إن كان له مثل وجب وإلا فقيمته وتقدر عند المالكية بأبعد الأجلين العدم والاستحقاق، وعند الشافعية بوقت المطالبة(3).أبو حنيفة: يفسد عقد البيع ويجب رد المبيع إن كان قائما وإلا فمثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا(4). أبو يوسف: يجب دفع قيمة النقد المنقطع وتقدر القيمة يوم ثبوت الدين في الذمة(5). محمد بن الحسن وهو المعتمد عند الحنفية والحنابلة: يجب دفع قيمة النقد المنقطع وتقدر قيمته في آخر يوم تعامل الناس به لأنه وقت الانتقال إلى القيمة(6).
الغلاء والرخص: وهذه أهم حالة يمكن الاستفادة منها اليوم، نظرا لتعرض العملة الورقية للتضخم فلا تكاد تثبت العملة الورقية على سعر معين بل قد ترتفع بدرجة كبيرة كما قد تنخفض حتى لكأنها لا تساوي شيئا، وتعتبر هذه المشكلة من المشاكل الكبيرة التي يعاني منها العصر، وتظهر في مسألة القرض فقد يقرض أحدهم الآخر مبلغا من المال ثم إذا استوفاه وجده أقل قيمة من نقوده الأولى، ومثله ما لو أمهر امرأة مبلغا ثم حدث الزواج بعد انخفاض قيمة النقود، ومثله في البيع والإجارة وغيرها، وهذه الحالة كثيرا ما تؤدي إلى مشاكل.
__________
(1) تبيين الحقائق 4/134، المغني 4/358.
(2) تنبيه الرقود 3
(3) الخرشي 5/55، الحاوي 5/150
(4) فتح القدير 6/277
(5) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4/142
(6) فتح القدير 6/277، المغني 4/358(1/32)
والسؤال هنا هل تقضى الديون بمثل عددها، فمن استدان ألفا فليس عليه إلا الألف، أم تعتبر القيمة؟
اختلف الفقهاء على ثلاثة أقوال:
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى قضاء الدين بالمثل لا القيمة، ولا عبرة للغلاء والرخص، قياسا على المثليات، ولأن العدد المذكور هو المترتب في ذمته(1).
وذهب أبو يوسف وهو المفتى به عند الحنفية أن المدين ملزم بوفاء قيمة النقد عند غلائه أو رخصه فإن كان الدين بيع قدرت قيمة النقد يوم البيع، وإن كان من قرض فالقيمة يوم القرض(2).
ذهب بعض المالكية إلى أن التغير إن كان فاحشا بحيث كان انخفاض القوة الشرائية للنقد كبيرا فالواجب على المدين قيمة النقد يوم ثبوته في الذمة وإلا فالواجب المثل(3).
هذه خلاصة الخلاف، وقد ذهب بعض المعاصرين إلى ترجيح القولين الأخيرين، والذي يظهر والله أعلم أن الأخذ بغير مذهب الجمهور فيه محاذير منها دخوله في الربا فمن اقترض ألفا ثم رد ألفين فلا شك أنه ربا، كما أن فيه جهالة من ناحية أن المقرض أو البائع أو الزوجة لا يدرون كم سيستلمون، ويزداد الأمر سوءا على المقترض والمشتري والزوج إذ لا يدرون كم سيسلمون، أضف إلى ذلك عدم انضباطه، ومن هنا كان رأي الجمهور هو الصحيح، ولكن قد يريد البعض أن يضمن ماله بحيث يبقى على قيمته أو قريبا منها، فيمكن له أن يقرض يبيع أو يمهر ذهبا ثم يستلمه وقت حلوله ذهبا أو قيمته نقودا، كما يمكنه أن يربطه بعملة أجنبية يغلب عليها الاستقرار فيقرضه مثلا ألفا سويسريا ثم يعطيه صرفها عملة محلية وعند المطالبة يأخذ الألف السويسرية أو صرفها من العملة المحلية.
__________
(1) انظر الدسوقي 3/45، ونهاية المحتاج 3/399، والمغني 4/365.
(2) انظر تنبيه الرقود لابن عابدين 5
(3) حاشية الرهوني 5/121، وانظر بشكل موسع الأوراق النقدية لأحمد حسن 337 وما بعدها.(1/33)
هذه خلاصة ما يتعلق بالعملة الورقية من أحكام، أسأل الله أن يهدينا ويوفقنا للعمل بشرعه والحمد لله رب العالمين.
الزواج العرفي:
الحمد لله القائل {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
يشكل الزواج والحياة الزوجية ركنا أساسيا في حياة الإنسان –ذكرا وأنثى- ويعتبر نقطة تحول كبرى في حياته والتي غالبا ما تكون نحو الأفضل والأصلح إذ بالزواج يحصل السكن الروحي والهدوء النفسي والانطفاء الغريزي، فهو سنة من سنن الله في خلقه، ولهذا حث الشرع عليه ورغب فيه.
والنكاح الشرعي ليس له وصف خاص يوصف به إلا الشرعية، ومع هذا فقد وردت لنا أنكحة لها مسميات تخفي وراءها جملة مدلولات والفقهيه هو الذي لا يغتر أو يتأثر بالاسم بل يسأل عن المعنى والمضمون فإذا توفرت أركان العقد وشروطه فهو صحيح وإلا فهو باطل وإن احتاج إلى تفصيل فيفصل فيه، ثم ليسم بعد ذلك بأي اسم.
ومن هذه الأنكحة ما يسمى بالنكاح أو الزواج العرفي والذي مارسه كثيرون في بلدان إسلامية متعددة وبنسب متفاوتة تكبر في بعضها وتقل في أخرى، كما أشكل حكمه على كثير من الناس فراحوا يسألون عنه ويستفتون العلماء ونعم ما فعلوا.
جاء في كتاب بيان للناس الذي يصدره الأزهر تعريف للزواج العرفي والفرق بينه وبين الزواج السري وإليك نص هذه الفتوي :
أ – تعريف الزواج العرفي وحكمه:
الزواج العُرْفي: اصطلاح حديث يُطلَق على عَقْد الزواج غير المُوَثَّق بوثيقة رسمية، سواء أكان مكتوبًا أم غير مكتوب.
وهو نَوْعان: نوع يكون مستوفيًا لأركانه وشروطه، ونوع لا يكون مستوفيًا لذلك.(1/34)
1ـ فالنوع الأول إذا تمَّ على هذه الصورة يكون عقدًا صحيحًا شرعًا، وتترتب عليه كل أثاره من حِلَّ التمتُّع وثبوت الحقوق لكل من الزوجين، وللذرية الناتجة منه، وكذلك التوارُث عند الوفاة، وغير ذلك من الآثار، دون الحاجة إلى توثيقه توثيقًا رسميًّا، وكان ذلك هو السائد قبل أن تُوجَد الأنظِمَة الحديثة لتقييد العقود وسماع الدَّعَاوى والفصل في المنازعات.
ويُمكن إثبات هذا العقد أمام المحاكم بطرُق الإثبات المعروفة، وكان للتوثيق الرسمي أهميته في حفظ الحقوق الزوجية، ومنع سماع دعاوَى الزواج الذي يَتِمُّ لأغراض سيئة.
2 ـ والنوع الثاني يتم بعِدَّة صور، منها أن تجري صيغة العقد بين الرجل والمرأة دون شهود على ذلك، وهو الزواج السرِّي، ومنها أن يتم العقد أمام الشهود ولكن لفترة معينة.
وهاتان الصورتان باطلتان باتفاق مذاهب أهل السنة، لفُقْدان الإشهاد في الصورة الأولى، ولتحديد العقد في الصورة الثانية؛ لأن المفروض في عقد الزواج أن يكون خاليًا من التحديد بمدة ليَتِمَّ السكَن والاستقرار في الأسرة.
ب- ما يدعو إلى الزواج العرفي:
والذي يدعو إلى الزواج العرفي بنوعَيْهِ أمور، منها:
1ـ أن تكون الزوجة مُسْتَحِقَّة لمعاش من زوجها الأول، وتُريد أن تحتفظ به؛ لأنه يسقط بالزواج بعده إن وُثِّق، أو تكون مستحقة لمعونة أو مُتَمَتِّعة بامتيازات ما دامت غير متزوجة، كأن تكون حاضنة لأولادها تتمتَّع بالمسكَن وأجر الحضانة ووجود أولادها معها ولو تزَوَّجت زواجًا موثقًا من غير محرم لهؤلاء الأولاد سقط ما كانت تتمتع به.
2ـ أن يكون الزوج متزوجًا بزوجة أخرى، ويخشى من توثيق زواجِه الثاني ما يترتب عليه من مشاكل بينه وبين أسرته، وما يتعرَّض له من عقوبات تَفْرِضها بعض النظم.
3 ـ أن يكون الزوج مغتربًا ويخشى الانحراف بدون زواج، لكن لو قيد رسميًّا تترتب عليه مشاكل فيلجأ إلى الزواج العرفي.(1/35)
وإذا كان النوع الثاني من الزواج العرفي باطلًا ومحرمًا باتفاق العلماء لعدم استكمال مقوماته؛ فإن النوع الأول ـ على الرغم من صحته ـ ممنوع للآثار التي لا يُقِرُّها الشرع، ومنها استيلاء صاحبه المعاش أو المُتَمَتِّعة بامتيازات أو مَعُونات أو حقوق على غير حقها الذي لا تستحقه بالزواج، ومعلوم أن أخذ ما ليس بحق حرام، فهو أكل للأموال بالباطل، وظُلْم لمَن يدفع هذا الحق، أو لمن ضاع عليه حق بسبب مُزاحمة الزوجة له، وكل ذلك حرام.
ومنها تعريض حقها أو حقه في الميراث للضياع، حيث لا تُسْمَع الدعوى بدون وثيقة، وكذلك حقها في النفقة على الزوج إذا هجرها، وكذلك في الطلاق إذا ضارَها، وفي الزواج من غيره إذا لم يطلقها، وفي غير ذلك من الحقوق التي تختلف النظُم في وسائل إثباتها وسماع الدعوى من أجلها.
ومن أجل هذه الآثار يكون الزواج العرفي الذي لم يُوَثَّق ممنوعًا ـ على الرغم من صحة المعاشرة الزوجية إن كان مستوفيًا لأركانه وشروطه، فقد يكون الشيء صحيحًا ومع ذلك يكون حرامًا، كالصلاة في ثوب مغصوب، والحج من مال حرام.
ولا مانع أن يتخذ أولياء الأمور إجراءات تُحِدُّ منه، وذلك لدَرْء المَفْسَدة في مثل الحالات المذكورة.
ج- مفاسد الزواج العرفي:
ذكر فيما سبق بعضامن مفاسد هذا الأسلوب في النكاح وأجملها فيما يلي:
عدم ترتب آثار هذا النكاح قضاء من نفقة وسكنى وإرث وغيرها مما يجعل المرأة في نهاية المطاف فريسة لمن سلمته نفسها وأعز ما تملك فلو طلقها فليس لها مطالبته قضاء بأي أثر من آثار الزوجية.(1/36)
يظل الرجل والمرأة في حالة من الخوف والذعر خشية أن يضبطا متلبسين ويفضح أمرهما، لكن ما هي إلا فترة من الزمن حتى تنتفخ بطن الشابة فتحاول إخفاءها عن أنظار الأهل بشتى الوسائل ولكن دون جدوى وستجد نفسها أمام خيارات صعبة قد يكون الموت أحدها، في حين أن الفتى الذي أحبته! وسلمت له نفسها! قد تنصل من كل شيء وأنكر كل شيء والضحية في النهاية هي الفتاة التي أضاعت دينها ودنياها من أجل لا شيء.
فيه ضياع للأولاد بل والجناية عليهم في بعض الأحيان فبعض من يقترفون هذه الفعلة يقدمون على إزهاق نفوس بريئة بالإجهاض وغيره.
يعطي مجالا رحبا للظن السيء بالفتى والفتاةمما قد يعرضهما لمواقف غير محمودة، ومراودات واعتداءات.
يساهم هذا النكاح في نشر الرذيلة والفاحشة من وجوه متعددة، منها أن يتساهل بعض الشباب فيعقدون عقدا آثما بغير شهود أيضا وهو باطل بإجماع بل هو زنا محض، ومنها أنه يجعل المجتمع يتقبل المعاشرة دون رابطة محترمة مما يدفع الكثيرين لأن يمارسوا الزنا والعياذ بالله، ومنها أيضا أن تصبح الفتاة صيدا سهلا لبعض المستهترين والمجرمين ومن الواقع أن فتاة بلغت من العمر (21) عاماً، أحبت شابا! فتزوجا عرفياً بالسر واستأجر شقة متواضعة بمنطقة شعبية وكانا يلتقيان يومياً فيها، إلى أن حدث ذات يوم أن تهجم عليها ابن صاحب المنزل في غيبة زوجها وراودها عن نفسها وهددها بأنه سيخبر أهلها بزواجها دون علمهم وأنه أتى بعنوانها من خلال صورة البطاقة المسلمة إليهم وقت تحرير عقد الإيجار.
وأمام تهديده لم تجد سوى أباجورة صغيرة كانت أمامها سددت له عدة ضربات في وجهه مما أسفر عن تصفية عينه اليسرى، وفجأة ترى نفسها متهمة بإحداث عاهة مستديمة لشاب في مقتبل حياته، وإذا بها تحاكم مجرمة خلف القضبان، فهل هذا ما تريد الفتاة.(1/37)
كما يتسبب هذا الزواج في انتشار الجريمة والفساد في الأرض، والحالات من هذا النوع كثيرة، منها: حالة بنت اللواء والتي هي في العشرينات من عمرها والتي تزوجت بعشيقها! عرفياً حتى حين علم أبوها اللواء وأراد إجبار الشاب على طلاقها فرفض الأمر الذي أغضب الأب فتناول مسدسه وأفرغه في صدر الشاب وأرداه قتيلاً وسجن أهله وأخذ ابنته.
د- انتشار الزواج العرفي:
إن هذا الزواج الآثم قد انتشر انتشارا فظيعا في بعض الدول العربية فلقد صرحت, وزيرة الشؤون الاجتماعية في جمهورية مصر العربية، في ندوة خاصة لمناقشة هذا الطاعون الفتاك تقيم ندوة خاصة لمناقشتها صرحت بأن عدد الزيجات العرفية بين طالبات الجامعات فقط وصل إلى 17% ويقال: إن عدد الطالبات في الجامعات المصرية حوالي مليون طالبة، فهذا يعني أن هناك حوالي "170" ألف طالبة تزوجن من وراء ظهور أهلهن وعلى علاقة بطلبة زملاء لهن في الجامعة، ولا يدخل في هذه الإحصائية من لم يتجاوبن كما لا تدخل الفئات الأخرى، إن العدد حينئذ سيكون مهولا جدا.
هذا وقد كشفت دراسة أجرتها إذاعة "B.B.C في القاهرة عن انتشار الزواج العرفي بين الشباب، وأن 44% من تلك الزيجات استكملت بزواج تقليدي بعد ذلك، فأين الآخرون؟ لقد تركوا الفتيات يعانين الويل والخزي والعار.
لقد أخذ هذا الزواج في الانتشار في دول تعتبر مجتمعاتها شديدة المحافظة مما ألقى بظلال الخوف عند عقلاء المجتمع من هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، مما دفعهم لأن يبحثوا عن أساس هذه المشكلة وحلها.
هـ- منزلة الزواج في الإسلام:
يقول سبحانه: "{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }النور54.(1/38)
لا شك أن اتباع الشرع الحنيف هو الضمان الوحيد للسلامة والاطمئنان دنيا وأخرى، ولأن الزواج وبناء الأسرة من أهم مراحل الإنسان فقد أحاطه الشرع بهالة من التعظيم والتفخيم فاشترط فيه الولي والشهود والإيجاب والقبول وموافقة الفتاة، فعن عَائِشَةَ عن رسول الله قالت: قَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ)) قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ(1)وعن عائشة مرفوعا : "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: "فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدف والصوت في النكاح"(3).
ولأن في رابطة الزواج ألفة ومودة بين أسرتين إذ تربط بينهما رابطة المصاهرة، اشترط الشرع أن يكون العقد بولي، ولم يغفل جانب الفتاة فاعتبر رضاها.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وشَرَط في النكاح شروطًا زائدة على مجرد العقد، فقطع عنه شبه بعض أنواع السفاح بها، كاشتراط إعلانه، إما بالشهادة، أو بترك الكتمان، أو بهما معًا، واشترط الولي، ومنع المرأة أن تليه، وندب إلى إظهاره، حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة، وأوجب فيه المهر، ومنع هبة المرأة نفسها لغير النبي ، وسر ذلك: أن في ضد ذلك والإخلال به ذريعة إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، كما في الأثر: "المرأة لا تزوج نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، فإنه لا تشاء زانية أن تقول: زوجتك نفسي بكذا سراً من وليها، بغير شهود ولا إعلان، ولا وليمة، ولا دف، ولا صوت.
__________
(1) سنن الترمذي 3/407
(2) صحيح ابن حبان9/386
(3) النسائي 6/127 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (4206)(1/39)
ومعلوم قطعًا أن مفسدة الزنى لا تنتفي بقولها: أنكحتك نفسي، أو زوجتك نفسي، أو أبحتك مني كذا وكذا، فلو انتفت مفسدة الزنى بذلك لكان هذا من أيسر الأمور عليها وعلى الرجل، فعظم الشارع أمر هذا العقد، وسد الذريعة إلى مشابهة الزنى بكل طريق"(1).
و- من المسؤول:
لا شك أن هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة لها أسباب أدت إليها وفاقمتها وبات من المعروف بداهة أن السبب الرئيسي فيها هو جشع أولياء الأمور وعدم خوفهم من الله سبحانه إذ يغالون في المهور وقوائم الطلبات التي لا تنتهي فلا يدري المتقدم إلا وهو أمام جدار صلب ويكتشف الفتى والفتاة أن بينهما وبين الحلال أسوارا لا يستطيعون تجاوزها، وبعض الأولياء يظنون أنهم يوفرون لابنتهم العيشة الرغيدة، وأنهم بهذا التصرف الأحمق يعطون لابنتهم قدرا، ولا يعلمون أنهم قد أدخلوها قِدرا مليئا بالمعاناة،
والأصل أن ينظر الأب إلى الشاب المتدين الذي يخاف الله في زوجته وأصهاره ، الشاب الذي يأمن على ابنته معه أما المظاهر الكاذبة والزائفة فما تلبث أن تزول بل قد تصبح جحيما لا يطاق ÷ذا إن جاء من تتوافر فيه صفات المال والجاه وإلا فإن الفتاة في ستضل حبيسة العنوسة وربما أدى الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، ولهذا قال الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(2).
ولايدركون أيضا أنهم قد وقعوا فيما حرم الله والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"(3) كما أنهم لايدركون أنهم قد تسببوا في فساد ابنتهم وسبل الفساد اليوم متنوعة منها هذا اللون من النكاح، كما تسببوا في تشتيت أسرتهم، وإذا بهم يضربون كفا بكف ويعضون أصابع الندامة ولكن بعد فوات الأوان.
أخطأ في فتواه:
__________
(1) إغاثة اللهفان 1/366
(2) الترمذي3/394، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: (270)
(3) البخاري 1/304(1/40)
لا يخلو مفتٍ من غرائب في فتاواه يشذ بها عن غيره من علماء الأمة، ويصادم فيها الدليل النصي والواقعي، بيد أن هذا الشذوذ قد يخف وقد يغلظ تبعا لبعده من الدليل ومقدار معارضته له.
وبما أن هناك الكثير من القضايا التي قد لا يتضح فيها وجه الدليل اتضاحا كاملا فيعذر المجتهد بمخالفته إلا أنه حين يظهر الدليل نصا وواقعا ولا يبذل المجتهد –إن كان مجتهدا حقا- وسعه ثم يخالفه ضاربا بكل الحيثيات والدلالات الرادة لقوله عرض الحائط فلا يبعد حينئذ من الإثم.
زد على ذلك ما لو كان هذا المفتي يجيب في مسألة لها علاقة وطيدة بجوانب اقتصادية يجهلها ويجهل تبعات فتواه التي لربما تودي بالمجتمع الإسلامي برمته، وتضرب ضروريات الإسلام ومقاصده.
وكمثال على هذا النوع من الفتاوى غير المسؤولة أذكر مثالين اثنين:
الربا في العملة الورقية:
عندما لا يفقه طالب العلم عصره وواقعه، وعندما لا يلم بتطورات الحياة وحركتها المتسارعة والمتغيرة دوما، وعندما لا يحيط علما بالنظريات والتعاملات المستجدة وما يتبعها من آثار، وعندما تسيطر عليه فكرة التقليد إلى أبعد مدى بحيث يصبح تقليدا أعمى، حينها يضل الرأي ويزيغ الفكر، وتزل الفتوى في مهاوي لا قرار لها.(1/41)
وكم كان استغرابي عظيما عندما علمت أن بعض المفتين ممن يزعمون انتسابهم لمذاهب فقهية عظيمة كالمذهب المالكي والشافعي وغيرهما يفتون بعدم وجود الربا في بيع عشرة ريال نقدا بعشرين من جنس واحد، أي أنهم لا يدخلون الأوراق النقدية في الربويات، محتجين بأن علة الرا غير متوفة في هذا النوع من النقود، لأن العلة هي الثمنية، وهي علة قاصة على الذهب والفضة، لا تتعداهما إلى غيرهما، واستدلوا أيضا بكلام الفقهاء عن الفلوس وهي الدراهم المغشوشة، وحقيقتها معدن تعامل الناس به وجازوه بينهم، وقد نص جمهور الفقهاء على عدم جريان الربا فيها ولو راجت رواج النقود كما قال السيوطي في الأشباه والنظائر وغيره، لأنها ليست نقدا بدليل أن الإمام أو رئيس الدولة يستطيع إلغائها فتصبح ورقا بلا قيمة، فهي -إذن- ليست نقدا فلا يدخلها ربا اليد، ولا ربا الفضل، وإنما هي سلعة من السلع أو شيء من الأشياء ينظر إليها من خلال العلة الأخرى في غير النقد عند مالك والشافعي، وهي علة مركبة عن مالك من الطعم والاقتيات والادخار زاد متأخروا المالكية غلبة العيش، مع اتحاد الجنس في ربا الفضل، أو الطعم فقط في ربا النساء وعند الشافعي العلة الطعم في الحالتين، واتحاد الجنس عنده شرط وليس جزء علة كما نبه عليه الزنجاني في تخريج الفروع على الأصول.
أما عند أبي حنيفة وأحمد في المعتمد فالعلة الكيل والوزن في النقد وغيره مع اتحاد الجنس.
وهذا الكلام غير صحيح بالمرة لما يلي:
أن العلة ليست هي الثمنية القاصرة بل مطلق الثمنية والتي هي رواية أخرى عن مالك، لإثبات هذا له مقام آخر.
لا ينزل كلام الأئمة على ما استجد من أحداث خاصة فيما تعم به البلوى، وفيما لم يعرفوه.
الفلوس غير الورق النقدي تماما، فالقياس فاسد الاعتبار إذ إن هناك فروقا جوهرية كثيرة بينهما، منها :(1/42)
أن الورق النقدي أصبح اليوم هو العملة الرسمية ولا تجد أحدا يتعامل بدنانير الذهب في تجارته أو تعاملاته، بخلاف الفلوس فإنها كانت عملة تابعة لعملة الذهب والفضة.
كان الغالب أن الفلوس يشترى بها ما رخص ثمنه، فقد كانوا قبل ذلك يقرضون الدراهم والدنانير ليشتروا الشيء اليسير والرخيص فاعتاضوا عن المكسرات بالفلوس، ولم يكونوا يشترون بها ما غلا ثمنه، بخلاف الأوراق النقدية التي نستطيع أن نشتري بها ما غلا وما رخص ونشتري بها الدراهم والدنانير.
أن هؤلاء القائسين يدعون في أغلبهم انعدام المجتهدين من قرون ثم يأتون ويقيسون، وهل الاجتهاد إلا القياس كما قال الشافعي!!!
والأنكى من هذا أن هذه المسألة ليست مسألة فردة لا علاقة لها بغيرها من مسائل الفقه، بل لها تداعيات خطيرة على المستوى الفقهي والمجتمعي، فإننا عندما نقول بأن الأوراق النقدية ليست نقدا يلزمنا ما يلي:
عدم وجوب الزكاة فيها، وقد ذكر بعض المقلدين ذلك، ولا أقول تسهيلا على بعض الموسرين المستفتين، وإنما جهلا منه بتبعة هذا القول الذي يعني عدم وجوب الزكاة على جميع التجار والكانزين لأموالهم في البنوك المحلية والخارجية، واقتصار الزكاة على قلة قلية من تجار الذهب ونحوهم والمساكين من المزارعين ورعاة الأنعام.
وهذا يعني تعميق الفجوة وتوسعتها بين طبقات المجتمع وخاصة الموسرين والفقراء، من حيث قلة الموارد الزكوية التي تلازم ازدياد الأغنياء غنى، والفقراء فقرا وتكثيرهم، ويصبح عبء الطبقات المسحوقة على كاهل متوسطي الدخل والمساكين أيضا ممن ملكوا أنصبة في الزرع والثمر في حين لا يتحمل الأثرياء أية تبعة،كل هذا بسبب هذه الفتوى الغريبة العجيبة غير المسؤولة.(1/43)
لا يصح أن تكون ثمنا أو نحوه في البيوعات مطلقا إما حاضرا أم في الذمة وهذا ما صرح به الشرواني في حواشيه علىالتحفة، كما لا تصح في سائر التعاملات ولا في أروش الجنايات وغيرها، وعليه فكل تعاملات المسلمين ودياتهم باطلة، إذ لا بد أن تكون بالذهب أو الفضة لا الأوراق النقدية وفي هذا حرج شديد، يكفي في نقض هذا القول وأصله من أساسه.
كل هذا وغيره يبين لنا فساد الفتوى آنفة الذكر وعدم انسجامها مع قواعد الشرع ومقاصده والتي ترمي إلى استقرار المعاملات بين الناس، ورفع الحرج عنهم، واعتبار عموم البلوى وغيرها,
ب- فوائد البنوك هي عين الربا:
أفتى البعض بجواز الربا في البنوك الربوية، وسموها فائدة استثمارية، وأنها لا علاقة لها بالربا، وهذه فتوى خاطئة يظهر خطؤها مما يلي:
معلوم أن الربا نوعان على تقسيم بعض أهل العلم وأربعة على تقسيم آخرين، من هذه الأنواع: ربا القرض وهو المشروط فيه جر نفع لأحد المتعاقدين، ورده بعضهم إلى ربا الفضل، فمن يقول: أقرضتك ألف بشرط أن ترد ألفان فقد دخل في الربا بالإجماع.
أن البنوك الربوية هي بنوك ائتمانية أي تعمل في مجال القروض، فتستقبل أموال المودعين وتعطيهم ربحا يمثل نسبة معلومة كـ (5%) مثلا، وتقرض المال المودع وتقرضه لآخر بنسبة زائدة كـ (8%) مثلا، فيربح البنك الفارق بين النسبتين.
فالبنوك ليست مؤسسات أو شركات أو مصانع استثمارية ولا تملك شيئا من هذا لأنها لا تريد أن تدخل في معمعات الربح والخسارة، بل تريد أن تحصل على ربحها مضمونا دون عناء.
قعد الفقهاء قاعدة تقول: "الغنم بالغرم" بمعنى أن الغرم لا بد أن يقابله غرم، فلا يوجد ربح مضمون، وما في البنوك غنم لا غرم فيه.(1/44)
الاستثمار له أنواع شتى من البيوع بأنواعه إلى الشركات بأنواعها وغيرها، وأقرب مثال لعمل هذه البنوك هو المضاربة أي أن المودِع (صاحب المال) يسلم المال للبنك (المضارب) وما حصل من الربح –إن حصل- يكون بينهم بحسب ما اتفقوا عليه، فيكون مثلا: لرب المال (50%)، وللبنك (50%).
وكذلك يقال في البنك عندما يكون مودعا عند شخص طلب ذلك.
وإن لم يكن ربح فلا يأخذ البنك شيئا، هذا هو معنى الاستثمار.
وعند النظر لا نجد ذلك بل نجد النسبة معلومة سواء حدث ربح أم خسارة بل لا دخل للبنك أو المودع بهما وكل ما يعرفه هو النسبة لا غير، فأين الاستثمار هنا؟
زد على ذلك أن من يقول هذه الفتوى يغفل أصل عمل البنوك وهو الائتمان لا الاستثمار، وأن البنوك الإسلامية هي المتميزة بهذا وإلا فلا فرق حينئذ.
زد على ذلك أن أصحاب هذه البنوك يسمون العملية التي تجري في هذه البنوك إيداعا، وقرضا، وهل الإيداع والقرض يجر نفعا مشروطا ويحلّ، والقاعدة الفقهية تقول: "كل قرض جر نفعا فهو ربا".
إن هذا المفتي لا يدرك مقدار الجناية التي يجنيها على الأمة دينيا من حيث جعله الناس يأكلون الربا، وضربه الاقتصاد الإسلامي في العمق.
إن هذه الفتوى تنسف ما جاهد الكثيرون وناضلوا عليه من أجل أن يبنوا اقتصادا إسلاميا خاليا من الربا ويقوم على الاستثمار.
إنه ينسف المؤسسات الاقتصادية الإسلامية القائمة والتي تتحسن يوما بعد يوم وتؤتي ثمارها طيبة بإذن الله بشهادة (الآخر).
إنه ببساطة يقول: لا داعي لهذا الهراء الذي تسمونه إسلاميا فإن البنوك الربوية هي الإسلامية!!
إنه بفتواه الخرقاء هذه يضرب الاقتصاد الإسلامي، فتصبح دعاوى العلماء المصلحين الداعين إلى أسلمة البنوك دعاوى فارغة، كاذبة.
لقد تكلم الكثيرون من فطاحلة الاقتصاد الدولي أن ما تعانية اقتصاديات الدول اليوم من تضخم يعود في الأساس إلى مشكلة الربا الذي نظر له المنظرون فغرق بها الاقتصاد المعاصر.(1/45)
وأن ما كانوا يرونه بالأمس حسنا أضحى اليوم أشد ضررا على الفرد والأسرة والمجتمع برمته، وهذا المفتي يقول: إنه : حسن حلال زلال، بل وفيه الزكاة على مذهب فلان وعلان.
معاذ الله أن يكون سلف الأمة ممن يتعدون حرمات الله.
والله الهادي إلى الحق.(1/46)