فلسفة المكان في الشعر العربي
قراءة موضوعاتية جمالية.
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
تصميم الغلاف للفنان : عبدالله أبو راشد
((
د. حبيب مونسي
فلسفة المكان في الشعر العربي
قراءة موضوعاتية جمالية.
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
{ بسم الله الرحمن الرحيم }
المقدمة
ارتبطت دراسة المكان بالتحليل الروائي أساسا، لكون المكان هو المجال الذي تجري فيه أحداث القصة. ولا بد للحدث من إطار يشمله، ويحدد أبعاده، ويكسبه من المعقولية ما يجعله حدثا قابلا للوقوع على هذه الصفة أو تلك. ولا بد للحدث أن يأخذ حجمه الحقيقي استنادا لسعة المجال أو ضيقه.كما أن المكان يعود على الحدث من جهة ثانية بالقيمة الاجتماعية التي ترتبط به، ويحمله من الشحنات العاطفية التي تصاحبه.
لقد فطن النقد الحديث لمثل هذه العلاقات، وأسبغ عليها مسحة المؤثر الذي يعمل فيها عمله الخفي والمعلن. ولن يدعي التحليل الروائي فهمه السليم للنص إذا هو تجاهل، أو تجاوز النظر إلى المكان. لأن مثل هذا الصنيع يعد تحليلا منبتّ الصلة عن إطاره المادي والمعنوي. وكل ملامسة للمكان إنما هي ملامسة لشبكة العلاقات التي تربط الأشخاص بالمجال المعيشي ارتباط وجود، وانتماء، وهويّة. فالمسألة المكانية لا تقف عند حدود التأطير وحسب، وإنما تتعداها إلى مجالات أوسع، تضطلع بها الدراسات الإنسانية في مختلف اهتماماتها وحقولها.(1/1)
وتتكشف معضلة المكان في شكلها المعقد، حينما يلامس التفسير والتأويل تخوما، يكون فيها المعنى أكثر ارتباطا بالمكان وإيحاءاته. وكأن المعنى لا يكتسب أبعاده القصوى إلاّ إذا استرفد المكان، واستخلص منه محمولاته الدلالية. فإذا اقتصر التأويل على المعطيات الفكرية، والاجتماعية، والنفسية..مثلا فإن صنيعه ذاك يظل ناقصا، مهما كانت درجة العمق والإجادة في خطابه. بل إننا نزعم الساعة أن التأويل الذي يكتفي بذلك النزر القليل من الفحص، تأويل ناقص. لا يمكن أن يصل إلى عمق النص أبدا، مادامت المعطيات نفسها لا تتأسس قاعدة علمية، إلاّ إذا أخذت حظها من الارتباط التشعّبي الذي يشدها إلى المكان.
إننا عندما نقلِّب مباحث الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا ... نتأكد من الحضور الطاغي للمكان. بل قد نجد المقابلة التالية : الإنسان/ المكان في كل سطر نقرأه، وكأننا إزاء حقيقة أولية في كل فهم يروم النزول إلى أغوار الذات الإنسانية: شخصية، وفردا، ووجودا، وهوية، وفكرة.. وتلك حقيقة لم نجد لها في الدرس الأدبي إلاّ حضورا باهتا، أو كان حضورها في المناهج الاجتماعية حضورا تابعا لا متبوعا، خدمة لوجهة النظر المهيمنة أصلا على المنهج، وعلى النتائج المتوخاة من أدواته. والفرق بيّن في أن تكون "الموضوعة" متبوعة، تقيم اعتمادها على الوجود أولا، وفي أن تكون تابعة، تخدم هما منفصلا عنها.(1/2)
لقد كان شأن التابعية عماد الدراسات التحليلية للرواية، يأتي فيها المكان عنصرا أخيرا، منفصلا أو متصلا بالزمان، يجز به في ثنايا البحث تكملة للتحليل الشمولي الذي يقيم صلبه على هذا التصور أو ذاك. أو هو قريب من التحلية التي تضاف في خاتمة البحث تحديثا له. بيد أننا لا ننكر ما في هذه التابعية من أفكار جديدة، طريفة، عميقة، جادة.. غير أن صفة التابعية فيها جعلتها تحتل الدرجة التي ليست لها. ذلك ما سوغ للباحثين اليوم إفراد المكان بالدراسة المستقلة التي توقف عليه اهتمامها الأولي، دون أن تهمل ما في الروافد المعرفية الأخرى من فائدة. بل ليس أمامها من حيلة سوى الاعتماد عليها، لأنها لن تقو بمفردها على حمل عبء المكان الذي يفوق طاقتها، في انتشاره على حقول المعرفة الإنسانية المتباعدة.
ولما كان الشعر العربي، شعر مكاني في ارتباطه بالبيئة التي أنتجته، والإنسان الذي أبدعه، كان لزاما على الدرس الأدبي أن يلتفت إلى المكان فيه، نظرة لا تحكمها التابعية، فتحصر هم المكان في بعض المظاهر الثانوية، أو تتخطاه لمجرد ذكره بعبارات اهترأت استعمالاتها، و خوت دلالتها،و صدأت جدتها. بل التنقيب في عمق العلاقات التي ينشئها المكان بينه وبين مختلف المعاني، والعادات القولية، والفعلية، والأخلاق، والسلوك. مادامت الغنائية في الشعر العربي إنما تتأسس على اهتمام فردي في المقام الأول، ثم تنفتح لعديد من العلاقات الأخرى.(1/3)
وقد سعينا في بحثنا هذا إلى تقديم نموذج للقراءة المكانية، معتمدين على المكان في المقام الأول، جاعلين الاهتمامات الأخرى تابعة، خادمة، تأتي رافدة للمعاني التي يثيرها المكان في صميم المعمار الشعري كله.والقراءة على هذا النحو قراءة إشعاعية"Spectrale": أي أنها قراءة تتخذ المكان مركزا لمجموعة من الدوائر التي تنداح متباعدة عن المركز، فعل الحجر الذي يلقى به في الماء الساكن، فتنشأ عنه مجموعة من الدوائر التي تزداد اتساعا كلما ابتعدت عن المركز. والقراءة الإشعاعية تنطلق من المكان وتعود إليه، كلما استنفدت شعاعا من أشعتها. وكل شعاع إنما يمثل وجهة تسلكها القراءة لملامسة تخوم خاصة بها.
ومن حسنات القراءة الإشعاعية، أنها قراءة لا تستنكف الاستفادة من المعارف المختلفة، بل تجعل همها الأول في تلقيح رؤيتها بما تقدمه هذه المعارف، حتى وإن بدت للرائي أنها واهية الصلة بالمكان، أو أن اهتمامها به، يقع في مجال غير مجال الفن والأدب. والملف حقا في هذه الاستفادة، أنها كلما أوغلت في الحقول المعرفية البعيدة عن الأدب، كلما عادت بحمولات طريفة، تدخل على الأدب روحا جديدا، يبعث فيه من الحياة والجدة ما هو في حاجة إليه اليوم في خضم العلمنة الطاغية.كما أنها تعطي للدرس الأدبي من جهة ثانية صفة الشمول التي لا بد لدارس الأدب من الاضطلاع بها. لأنها من ضرورات الفهم الأدبي أساسا، والتي من شأنها أن تنسف الاعتقاد في جدوائية التخصص الضيق.(1/4)
إن دارس الأدب قارئ في المقام الأول ! والقراءة تحتم عليه إقامة الفهم، وضبط نتائجه. والفهم يشترط في صاحبه السعة والشمول المعرفي. وقد تقاس القراءة الحقة بهذه السعة، لا فيما تحشد من معلومات في حصادها، بل فيما تتخير منها لتدعيم فهمها للنص. فقد يتطلب النص في هذه النقطة من الكم معرفي، ما لا يتطلبه في نقطة أخرى. وهذا التوزيع في مقادير المعرفة، هو الذي يعطي للقراءة فاعليتها، ويؤكد للقارئ عبقريته. إذ ليس العبرة في الحشد و الجمع، بل العبرة في التوزيع الذكي الذي يخدم المعنى، ويحقق للنص عطائيته المفيدة.
إن ممارسة القراءة الإشعاعية، ممارسة ممتعة. لأنها مشاركة، والمشاركة تدرج القارئ في العملية الإبداعية إدراجا مزدوجا: إدراج في صلب النص، فيكون القارئ جزءا من النص ذاته. وإدراج خارجي تكون فيه الذات القارئة هي غياب النص. ونقصد من الغياب في هذا الموطن، العمق غير المرئي من مجال النص، الذي تشكله حزم الدوائر التي تحدثنا عنها من قبل. فكل حزمة منها تشكل عمقا، أو كثافة نصية، لها من التوتر الإبداعي، ومن الشحنة العاطفية، ومن القصدية المعنوية، ومن السمة الأسلوبية، ومن الصياغة اللغوية ما يحددها أثرا جزئيا في التركيب الكلي للنص الإبداعي عامة. فإذا استطعنا تحديد الحزم النصية، وألحقنا بكل واحدة منها ما يناسبها من عناصر الإبداع ومقوماته، استطعنا في أثر رجعي تحديد سماكة النص الأدبي، ووضعنا الحضور إلى جانب الغياب لتأكيد وحدة الأثر الإبداعي جملة واحدة.
سيجد القارئ في هذه الأوراق، شكلا من أشكال القراءة الإشعاعية. نقدمه محاولة لإرساء هذا النمط من القراءة، آملين أن يجد عند الدارسين من القبول ما يدفعنا إلى المضي به إلى أقصى الحدود. والله من وراء القصد، وعليه المعول والتكلان. والحمد لله رب العالمين.
سيدي بلعباس
. 2000 - 09 - 10.
(((
مدخل.
التأطير التنظيري.(1/5)
... لقد تفصد الاهتمام ب "المكان" عن الدراسات الوضعية التي نظرت إلى الظاهرة الاجتماعية باعتبارها "شيئا" ذا أبعاد مكانية وزمانية. لا تختلف عن الظواهر العلمية الأخرى في الطبيعيات مثلا. وعمل الاجتماعيون الوضعيون على تأكيد هذا التوجه، منذ "أوجست كونت" (1798/1857) و"تين"(1828
/1893)و"دوركايم"(1858/1917).
... لقد نظر "كونت" - من قبل- إلى الميتافيزيقا على أنها من مخلفات الماضي، وأنها شيء ينبغي أن نتغلب عليه، بأن ننصرف عنه للبحث عن القوانين. أي عن العلاقات الثابتة بين الظواهر.(1) وفي ذلك تحويل لوجهات البحث من العلل والأسباب الغيبية المتعالية، إلى الواقع بحيثياته المادية، المحصورة في الزمان والمكان، من خلال الملاحظة المستمرة للظواهر. وعمل "تين" على تأكيد المنحى الوضعي للمعرفة، حين استلهم نظرية "الوسط" "MILIEU" التي قال بها "كونت" وحللها إلى القوى الفاعلة فيها، فكانت : الجنس، والوسط، واللحظة. وراح يجريها في دراساته ابتداء من البحث الذي أنجزه لنيل شهادة الدكتوراه( طبع عام 1853) والموسوم ب"بحث في خرافات لافونتين" معللا رؤيته تلك، قائلا: »يمكن أن ننظر إلى الإنسان على أنه حيوان من نوع أعلى، ينشئ فلسفات وقصائد على نحو شبيه بدود القز حينما يصنع الشرانق، والنحل حينما يصنع الخلايا«.(2)
... ويبلغ به الاعتداد بالعلم حدا في كتابه "تاريخ الأدب الإنجليزي"( طبع عام1864) إلى القول:” إن الرذيلة و الفضيلة يصنعان مثل الفتريول و السكر، وكل معطى معقد يتولد من التقاء معطيات أخرى أبسط، يتوقف عليها. «(3)(1/6)
... وعمل "دوركايم" –من جهته- على تأكيد هذا الاعتقاد، حين عمل على تطهير علم الاجتماع من الاعتبارات الغائية، وتوثيق المنهج العلمي القائم على الملاحظة الخارجية للأشياء. وفيه يتساءل قائلا:” ما هو الشيء فعلا؟ الشيء في مقابل الفكرة، وهو يدرك من الخارج في مقابل ما يعرف من الداخل. «(4) ومعناه أن القاعدة الأساسية في المنهج الوضعي لا تتضمن أي تبرير ميتافيزيقي متعال يبحث في الغائيات، كما أنها تستبعد كل تفكير نظري مجرد في أساس الأشياء.
... ولا يخفى أن اعتبار الظواهر أشياء، هو مقايسة على ما يحدث في علم الطبيعيات، والكيمياء، والفيزياء. وهو ما يفرض بالتالي تبني النهج التجريبي الذي تشكّلت نواته الوضعية مع "فرنسيس بيكون"(1561/1626). والذي لم يكن سوى ردّ فعل قوي ضد الميتافيزيقا المدرسية، والنزعات التلفيقية. ومن ثمّ تأكد من ورائه الإيمان الكبير في العلم، وفي قدراته التفسيرية.. وإذا تتبعنا ممثلي الاتجاه الاجتماعي الوضعي، ألفينا عين اليقين في العلم و تبني خطواته، وإخضاع المفاهيم إلى التحليل العلمي لضبط دقّة الألفاظ و المصطلحات. وقد اختط الوضعيون شروطا تتأرجح بين إخضاع التفكير الفلسفي و الفني لعمليات التحليل العلمية، وإقصاء مواطن الاختلاف في اللفظ و المصطلح. وقد أثار هذا الفهم ردودا شكّلت تيارا موازيا للوضعية، ذلك هو تيار "فلسفة الحياة" أو "البرغسونية".(5)(1/7)
... يرى "دوركايم"أن القاعدة الأساسية في المنهج الاجتماعي هي: »عدّ الوقائع أشياء .. والشيء هو كل ما يُعطى، أو كل ما تبدى. أو بالأحرى يفرض نفسه على الملاحظة. والنظر إلى الظواهر على أنها أشياء هو النظر إليها على أنها معطيات تؤّلف نقطة ابتداء العلم.«(6) وينشأ عن "الشيئية" تحديد الموضع والأبعاد. فلا يمكن البتة إدراك حقيقة الشيء إلاّ من خلال دراسة الوسط الذي هو كائن فيه. والذي يستمد منه جملة خصائصه التمييزية التي تحدد صفاته وحدوده، وطبيعة التبادلات القائمة بينه وبين عناصر وسطه.ولهذه العلة اتجهت الدراسات الاجتماعية إلى "البيئات" المتحضرة والبدائية للكشف عن التفاعل المتبادل بينها و بين البنيات الذهنية للجماعات.
لقد أخذ الاهتمام بالمكان يكتسب طابعه العلمي، حين غدا امتدادا للجسد عند المفكرين الاجتماعيين و النفسانيين على حد سواء. فقد:»قارن عالم(1/8)
الاجتماع "أ.ت.هل" هذا الحيز بالفقاعة التي يعيش الفرد بداخلها، ويحملها أينما ذهب »(7) وهو فضاء تتعدد وظائفه ومعانيه بالنسبة لصاحبه وللآخرين. وكل اعتداء على جزء منه قد يولد ثورة واحتجاجا. وقد يكون في صورة أخرى دلالة على التقرب و المحبة. وهي معان لا تنشأ من "المكان" أصالة بقدر ما تنشأ عن الظواهر المصاحبة له. وقد تكشف الدراسات عن معان أخرى يمتلكها المكان الجغرافي، كإكساب "القيم" الاجتماعية نعوتا مكانية للدلالة على سموها ومكانتها و جدارتها. ف"الشريف" و"الوضيع"و"العالي"و"الدني" و"المنيع"و"الصغير"و"الكبير" أوصاف يجسدها البصري، ويحدّ حدودها شكلا ومضمونا. ولجلالها آثر الإنسان- في لحظة من تاريخه- استعارة معانيها لقيمه الاجتماعية. ذلك أن : »إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة، يساعد على تجسيدها. وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الأفهام. وينطبق هذا التجسيد المكاني على العديد من المنظومات الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والأخلاقية، والزمنية. بل إن هذا التبادل بين الصور الذهنية والمكانية امتدّ إلى اتصاف معان أخلاقية بالإحداثيات المكانية النابعة من حضارة المجتمع وثقافته، فلا يستوي "أهل اليمن" و"أهل الشمال". كما يتدرج السلم الاجتماعي من "فوق" إلى "تحت".(8)
... واستعمل "القرآن الكريم"هذا النعت المكاني:"أصحاب اليمين"و"أصحاب الشمال"للدلالة على أهل الجنة، وأهل النار.كما استعمل غيره من النعوت المكانية لتجسيد صور الإيمان والكفر.
((
هوامش:
1-أنظر مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا, ج1. ج. بنروبي. (ت) عبد الرحمن بدوي.ص:12.13.المؤسسة العربية للدراسات والنشر.ط2.. 1980.بيروت.
2- دوركايم. قواعد المنهج الاجتماعي. ذكره بنروبي. ص:20.
3- ذكره بنروبي. م.س.ص: 21.
4- دوركايم.م.س. ذكره بنروبي. ص:127.(1/9)
5- فتحي الشنيطي. أسس المنطق و المنهج العلمي. ص:154.153. دار النهضة العربية. بيروت.1970.
6-ج. بنروبي. م.س.ص: 19.
7- سيزا قاسم. جماليات المكان. ص:6. منشورات عيون المقالات. المغرب.
8- سيزا أحمد قاسم. بناء الرواية. ص:75. الهيئة المصرية العامة للكتاب. مصر.
(((
موضوعة الطلل
قراءة المكان، نص الشعر.
- مفهوم الاشتمال.
- المكان الطلل.
- المكان كتابة.
- تحولات الكتابة.
الفصل الأول:
... ... ... قراءة المكان. نص الشعر.
1-تقديم:
... رأى بعض الأعراب ابنا له يختطّ منزلا بطرف عصاه، فدنا منه، وقال:" أي بنيّ إنه قميصك، فإن شئت وسّعت، وإن شئت ضيّقت" وفي حركة الأعرابي تلك جملة من الحقائق المرتبطة بفلسفة المكان. قد لا نجد فيها – لأول وهلة – سوى إشارة إلى السعة والضيق الماديين. ويقف نظرنا عند البيت، وقد تفسّحت أرجاؤه، أو ضاقت أقطاره، وغدت حرجة تعوق الحركة و الانبساط. بيد أن التروي قليلا، وتجاوز المنزل إلى القميص، يكشف شيئا جديدا في معضلة المكان. مادام القميص ألصق الأثواب بجسد الإنسان، و ألوط به. وكأن المنزل – وهو يكتسب خصوصية القميص – يصير امتدادا للجسد ذاته. يجد فيه نعت الانبساط السالف دلالة جديدة، تجعل راحة الجسد لا تقف عند حدود أعضائه، وإنما تمتدّ لتشمل المكان كلّه. بل وأكثر من ذلك، قد يكتسب المكان في أثر رجعي، من الجسد انبساطه الخاص، فتسري فيه أحاسيس صاحبه جيئة وذهابا، في تبادل عجيب يعطي للمكان حياة، يتعذر على النظرة العجلى استكناه أسرارها.
2-مفهوم الاشتمال:(1/10)
... لقد حاول كثير من الروائيين، وهم يصفون المكان: منازلا، وسجونا، وأحياء.. وغيرها التوقف عند الحياة المنبعثة منها. وكأنها "كائنات" لها من الخصوصية ما يجعلها وهي تلامس الوافد عليها تملؤه، وتخالطه، وتتخلله، بما لديها من مشاعر، وأحاسيس. ألا ينتابنا كثير من الضيق والاختناق ونحن ندخل بعض البيوت ؟ أو نعبر بعض الشوارع ؟ أو نجلس في بعض الأمكنة ؟ وقد تسري في أجسادنا قشعريرة الخوف الغامض، والتقزز المحرج كذلك، ونحن ندخل أماكن تواجهنا أول مرة بما يملأ صدورنا توجسا وخشية. كما أننا قد نشعر بالعظمة والهيبة وضآلة النفس في مواطن يعمرها الجلال والجمال ؟
... ليس المكان إذن ذلك المعطى الخارجي المحايد، الذي نعبره دون أن نأبه به، وإنما المكان "حياة" لا يحده الطول والعرض فقط، وإنما خاصية "الاشتمال". ما دمنا نجد في الاشتمال معنى اللباس، ومنه "الشّملة". فالاشتمال تغطية وستر من ناحية، ومخالطة واندماج من ناحية أخرى. وكأني بالذين يدرسون الشخصية في معزل عن المكان والزمان، إنما يسلبونها شطرا ذا خطورة معتبرة في تحديد سيماتها، وتشخيص سلوكها، وتحديد أهدافها ومقاصدها. إذ العزل المتعسف للفرد عن مكانه، من قبيل التجزئة التي قد تقبلها عناصر العلوم الطبيعية الدقيقة، وترفضها عناصر العلوم الإنسانية القائمة على الكلية و "الاشتمال".
... إذا ارتضينا إجراء مصطلح "الاشتمال" الذي عرفناه في النحو العربي، ورضينا تحويله إلى الدرس الجمالي، فلغاية مزدوجة: فيه معنى اللباس
(القميص ). وفيه معنى التغطية ( المنزل ). وإذا عدنا إلى حديث الأعرابي، وجدنا للغايتين مضربا في المثل. وأدركنا أن المنزل الذي يختطّه الابن، سيظل ملازما له ما أقام فيه في تلك البقعة من الأرض، ملازمة قد تستغرق شطرا من حياته، يقصر أو يطول. ولكنه في كل الأحوال سيؤثر سلبا أو إيجابا في مستقبل شخصيته، وفي علاقاته الحميمية والاجتماعية على حد سواء.(1/11)
... لقد أدرك الأعرابي – بفطرته وتجربته – أن للمكان سطوة على مستقبل ابنه، وأنه في إمكان الابن أن يختار مقدار هذه السطوة وطبيعتها، وأن يوجهها اختيارا إلى الوجهة التي يريد. فإن ضيّق، ترتبت على الضيق عواقب شتى معقدة، تمتد في جميع الاتجاهات الاجتماعية. وإن وسّع كان الأمر كذلك. ويسهل علينا تصور عواقب الضيق، وعواقب السعة. ألا يقول المثل الدارج: "الضيق يعلِّم البخل"؟ إنها الحقيقة النابعة من صميم المعايشة الاجتماعية. مادام المسكن الضيق لا يسمح لصاحبه استدعاء أحبائه. فإذا هو عزم على الأمر، بادره الضيق بالرد والصد، وضاق بهم ذرعا قبل قدومهم عليه. ولو أجرينا دراسة في "تقاطع الأرحام" لوجدنا للضيق المكاني ضلع بالغ فيه، قبل أن يكون لضيق اليد بادرة. وأن إنجاز السكن على النحو الذي نرى، يعمل على تبديد أواصر المجتمع، وقتل العلاقات الأسرية، وقطع التواصل الرحمي، وتحويل المجمعات السكنية إلى "شقق" يأوي إليها أفراد لا رابط يربطهم بماض أو نسل. همهم الأول أن لا يزعجهم أحد في فسحتهم تلك، وأن لا يزعجوا بدورهم أحدا في فسحته الخاصة. حتى صار المكان أشبه شيء بكرة زجاجية مخبرية تنعزل فيها الجرثومة الخطرة على ذاتها قبل أن تكون خطورتها على غيرها.
... إن الرحلة والحركة، تنفيان المكان ! ولا يكون النفي إلغاء للمكان، ومسحا له. وإنما النفي هو في سلب المكان خصوصية الثبوت. لأن المكان عاجز عن الفعل التدميري الذي أشرنا إليه دون شيء من الثبوت، تتباطأ فيه حركة الزمن، وتتكرر فيها دوراته بانتظام روتيني ممل. وإذا سلبنا من المكان خاصية الثبوت، أو قللنا تأثيرها بفعل الحركة، فقد قللنا من سلطان المكان، ومنحنا التحول فرصة تجديد عناصر الشخصية، بما يطرأ عليها من تجدد، تكتسبه من الأمكنة الأخرى. وإذا كانت مفارقة المكان "فيزيائيا" مستحيلة كلية، فإنه في مستطاعنا التخفيف من وطأته، وإدخال التنوع عليه، بتعديد الأمكنة وتواليها.(1/12)
... لذلك كانت الرحلة عند العربي القديم عنوان الانعتاق والتحرر، يحن إليها كل حين، وكأنها جزء أساسي من تركيبته الشخصية، يألفها كل الإلف. وقد قال تعالى: { لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. } ( قريش2.1) ووجود الرحلة في الصيف والشتاء، يوقِّع السيرورة الزمنية للحياة، ويمنح للعربي جديده الذي هو في حاجة ماسة إليه. لأنه جزء من المعاش، والاستقرار، والأمن : { فليعبدوا ربّ هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع، و آمنهم من خوف. } (قريش 4.3) والرحلة – بعد - أي الانتقال من مكان إلى مكان :» مستمد من أسطورة البعث .. أما الانغلاق في مكان واحد، دون التمكن من الحركة. فإن هذه الحالة تعبر عن العجز، وعدم القدرة على الفعل، أو التفاعل مع العالم الخارجي، أي مع الآخرين.« (1) وإذا كان الله - عز وجل - قد خص قريشا بالرحلة شرقا وغربا، فإنه دعا في كثير من المواطن في كتابه الكريم إلى السياحة، والضرب في مناكب الأرض، والمرور على ديار الأقوام البائدة للتذكر والعبرة، وركوب البحار، وقطع الصحارى. بل وخص المرأة ب"السائحات".(1/13)
... إن البحث في أخلاق العرب قديما، في كرمهم، في عزّتهم، وشجاعتهم، وسماحتهم، ونجدتهم.. لن يكون بحثا دقيقا، سليم النتائج، إلاّ إذا ارتبط بما للمكان / الرحلة/ الترحال/ الظعن.. من تعالق يعطي لمثل هذه الصفات معناها الحقيقي. إن فهمنا لها اليوم – نحن الثبوتيون – غير واضح، ولا صحيح ما دمنا لم نجرب الانعتاق من المكان. فإذا أقمنا دراستنا على التصور والتخيل، كانت ملاحظاتنا باهتة، خالية من العلم، لأن الرحلة معاناة، والسفر مشاركة للمكان في التحول، واستبدال منظر بمنظر، وموقع بموقع، ومنزل بمنزل، وأهل بأهل..وكلما تجدد الإطار تجددت معه جملة الأحاسيس التي تباشرنا ونباشرها، تتخللنا ونتخللها، فنكتسب منها رهبتها وجلالها، أو وحشتها وتوجسها، أو لطفها وجمالها.. ألم يشاهد الأعرابي في كثيب الرمل المستدير خصر المرأة الفاتنة، ونعومتها في نعومة رماله ؟ ألم يوحي الليل البهيم المطبق بالخيمة المسدلة الستائر؟ ومن ثم النفس المثقلة بالهموم ؟
3-المكان، الطلل:(1/14)
... عندما يُفتَتَح سفر الشعر العربي، تقف الأطلال في وجه القارئ شامخة على مطلع القصائد، وكأنها السمة التي يُعرف بها الشعر العربي الجيد المكتمل على مر العصور. وكأن القصيدة الخالية من الطلل قصيدة ناقصة مبتورة، أو هي قصيدة لم تنل من النضج والاكتمال حظها الأوفر. فجاءت عاطلة من دون تلك الشارة، عارية من سمة التحول الذي أرّق العربي وأهمّه، على الرغم من حبه له، وسعيه وراءه، رحلة وسياحة، وهجرة. بيد أن العودة إلى المكان الذي ترك، والمنزل الذي هجر، تغمره بسيل من الذكرى المؤلمة، لما فيها من عودة إلى ماض حبيب، ووجوه أليفة، وعيش هني رغيد. فالطلل هاجس القصيدة العربية، و خشبة الصلب التي يحملها الشعر العربي على عاتقه، وإن حاول المحدثون التحلل منها. إلاّ أن الطلل ظل يعمر القصيدة ويسكنها، وإن لم يظهر على مطلعها. لأن الغاية انصرفت عن الوصف الحسي، ولكنها لم تنصرف عن فلسفة التحوّل، و الزوال، والفناء.(1/15)
... لقد ظل هذا الشعور، وما يزال كامنا في كل غنائية، تلتفت إلى الوجود، وتحاول التعرف على سرّه. ولم يعد الطلل شارة بارزة من حجارة، و نؤي، و أثافي، وإنما صار الطلل في أغوار النفس شقوقا وأخاديد يحتفرها سيل الدهر احتفارا، فتنبجس منها الأحاسيس، وقد اترعت حزنا وهما. فإن كانت بالأمس رمز استدعاء الماضي المنقطع، فإنها اليوم أوغل في الاتجاهين معا. تنظر إلى ماضي لم تنل منه حظا لطيف الذكر، حلو الذكرى، وتتشوف إلى مستقبل لا تعرف عنه شيئا. اللهم إلاّ مقدمات يقدمها الحاضر أكثر قتامة وغموضا، تعمرها هواجس الخوف، والتوجس، والريبة. من هنا كان الشعر الحديث شعر غموض، وشعر حزن.. شعر نوستالجيا إلى البداوة الحالمة التي لم تتحقق إلاّ لذلك الأعرابي الساذج الطيب. ومن هنا كانت معضلة الشعر الحديث ذات ارتباط عضوي بالمكان. لا تنفك عقده إلاّ من خلال تفكيك العلاقة الأخلاقية والقيمية بالمكان.فإذا رحنا نبحث عن العلل خارج هذا الإطار، كنا كطالب الدواء عند غير أهله.
... لقد أحس الواصفون للأطلال – نثرا وشعرا - بهذه العلاقة الوطيدة، وعادوا على المكان بأوصاف الإنس والاجتماع، وانصرفوا عن المظاهر الخارجية لعدم جدواها فيما يريدون البوح به من أحاسيس. وكلما أفرغوا على المكان شيئا من نعوت وأحوال الإنس، كلما بدت المسافة بين ما قصدوه وما حققوه قريبة يمكن الارتياح لها، إذ هي تفي ببعض المراد.(1/16)
كتب أحدهم يصف ديارا خالية، يقول:» دار لبست البلى، و تعطلت من الحلي، صارت من أهلها خالية، بعدما كانت بهم حالية، وقد أنفذ البين سكانها، وأقعد حيطانها. دار شاهدُ اليأس منها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر. كأن عمرانها يطوى،وخرابها ينشر. أركانها قيام وقعود، وحيطانها ركّع وسجود.« (2) وإذا حذفنا من النص: " صارت من أهلها خالية، وأنفذ البين سكانها" فقد حذفنا الشطر الحسي القليل من النص، وبقي الشطر الذي تتحول فيه الدار إلى "كائن" يجسد الضعف والهوان..إلى "المرأة" التي لا حول لها ولا قوة.وقد فارقها الأهل والصاحب، وأسلمها الدهر إلى الضياع والنسيان.
... إن صورة المرأة – في هذا الوصف – استدرار للعطف، وإشاعة لجو الحزن والضعف، وتأكيد لعامل الضياع، وانقطاع الرجاء. ولم يذكر الواصف المرأة صراحا، جهارا، ولكنه قدم "التعطيل من الحلي" ليخص هذا الجنس بالذات. فإذا رفع إلينا صورة المرأة التي لبست البلى بعد القشيب، وتعطلت من الحلي والحبيب، فقد غدت مقعدة، بائسة، قد انقطع حبل رجائها، وتضعضع أس بنائها، وطواها الدهر، ونشر خرابها. إنها صورة يألم لها العربي أشد الألم، فيبكي بكاء مرا. ولهذا السبب أبكت الأطلال شعراء لم تكن لهم صلة بذاك الطلل بعينه، وكأنهم يبكون للفكرة التي يحملها الطلل مطلقا.(1/17)
... لقد ادعى بعض النقاد، أن الشعراء "يقلدون" وهم يبكون الأطلال، وحملوا قول "امرئ القيس" معنى شططا، حين ذكر "كما بكى ابن حذام"، وفهموا منه تقليده في البكاء وحسب. ولم يفهموا أن الشاعر الأول قد أحسن وأجاد في التعرف على دواعي البكاء، وأسبابها العميقة، وأن الشاعر الثاني إنما قصد من خلال ذكره إلى ضرورة الاستمرار في البكاء، وفلسفة المواقف إزاءه. وليست كما في هذا الموطن للمشابهة الخارجية، والتقليد الساذج البارد. وإنما هي للاستمرار والمواصلة، وتعميق البحث في أسس التحول الذي يسكن الحياة، وتتجسد مظاهره في المكان. إن المكان - بهذا المعنى – كتابة، يجب قراءتها بما يناسبها من عمق ودلالة. وكل طلل – أيّا كان الطلل – ملك للشاعر، لا يختص به آحاد من الشعراء، حتى وإن قرنوه باسم الصاحبة. إن الصاحبة هنا "تعلّة" فقط تعطي للبكاء شيئا من الخصوصية التمييزية فقط. وكل القبور "قبر مالك" تثير في النفس أشجانا تسحّ الدموع سحا.
... إن المقابلة بين البكاء على الطلل، وفكرة "قبر مالك" تأخذ بعدها الأنطولوجي من كون البكاء استجابة تلقائية لما يبعثه الطلل من شجون في النفس العربية. وكأن المكان آية استحضار تفعل فعلها المباشر في النفس دون واسطة. لقد كان "متمم بن نويرة" أشعر الناس بالفكرة، وأعلمهم بالوقع الذي يصاحب رؤية القبر – أيا كان القبر – وكأنه قبر "مالك". بيد أن الجديد في قول "متمم بن نويرة" راجع إلى دفع لوم اللائمين على البكاء، ليس استنكارا للفعل في حد ذاته، وإنما خوفا على صاحبهم من كثرة البكاء. وكأنهم لا يرفضون الفكرة، بل يشفقون على الشاعر من الإفراط فيها. قال "متمم ابن نويرة" :
... وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته
... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك.
... لقد لامني عند القبور على البكا
... رفيقي لتذراف الدموع السوافك.
... فقلت لهم إن الشجا يبعث الشجا
... دعوني فهذا كله قبر مالك.(1/18)
ولو راقبنا كيف عالج الشاعر الموقف، أمكننا استخلاص جملة من الملاحظات القيّمة في هذا الباب. ولنا أن نجزم أول الأمر أن الشاعر لم يقصد التفنن في القول، وإنما جاءت الأبيات تلبية صادقة لدواعي الموقف. إنه يقف على "قبر" يبكي المكان وما اشتمل عليه من معاني الفقد والزوال مطلقا، وكأن كل قبر يحمل في صميمه هذا المعنى حملا واضحا، وأنه يخلف في قلوب أهله ما يخلفه قبر مالك على الحقيقة. ومنه جاء نعت الرفاق "كل قبر رأيته" وجاء الاقتران "لقبر ثوى" على سبيل المشابهة والهيئة الظاهرية عندهم. بينما يرى الشاعر خلاف ذلك. لذلك تراه يعود يؤكد اللوم "لقد لامني عند القبور على البكا" وكأن لتكرار الموقف عنده معنى يخالف ما يستشفه الرفاق من عين الهيئة والموقف. ومن ثم يجد الشاعر نفسه مجبرا على تقديم التعليل الذي يقربهم من حقيقة المعنى الذي يحمله في نفسه للموقف – وهو غير بعيد عما أشاروا – ولكن معنى الشاعر له خصوصية تحويل المكان وتأميمه لغرضه الخاص، حتى تغدو القبور أينما كانت "قبر مالك". وقرينة التحويل هي أن "الشجا يبعث الشجا". ولعمري إنها "الشقاوة" التي تحدث عنها "أبو نواس".
... إن نقادنا وهم يتساهلون في إصدار الأحكام، يؤكدون – من طرف خفي – أنهم لم يعودوا "عربا"، وليس في مستطاعهم فهم العرب. وما رأوه في قول "أبي نواس" :
... عاج الشقي على دار يسائلها
... وعجت أسأل عن خمارة البلد.
... لا يُرقئ الله عيني من بكت حجرا
... ولا شفى وجد من يصبو إلى وتد.(1/19)
تنصّلا من المقدمة الطللية، محض افتراء، وسوء فهم. لأن كلمة "الشقي" في قول "أبي نواس" تكشف عن عمق العلاقة بين الطلل والشقاوة.. شقاوة هذا الذي كتب على نفسه أن يبكي كل طلل يصادفه، وأن يجعل بكاءه على رأس غنائه وشعره، حدائه ورجزه. نعم إنها شقاوة وشقاء.. وليست تنصلا من المقدمة الطللية.و"أبو نواس" في لهوه يريد التنصل من عبء حمله الشعراء من قبله، وحمله هو في كثير من قصائده. وإذا كان رفاق "متمم بن نويرة" يشفقون على صاحبهم من مغبة طول البكا، فإن "أبو نواس" يتعمد - لاهيا – أن يدعو على صاحب الشجن بعدم الشفاء. وتلك مسألة يجب قراءتها من باب "السخرية" التي شاعت في ذلك العصر، لا أن تؤخذ مأخذ الجد، وتؤسس عليها الأحكام النقدية الجائرة.
... إن "أبا نواس" يحاول أن يخفف عن نفسه "ضريبة الشعر" لأنه يدرك أن للطلل سلطانه على الشعر العربي قديمه وحديثه. وآية ذلك أن الشعراء استمروا في الوقوف والبكاء من بعده. ولم يفهم أحد منهم أن قوله دعوة للتخلي عن الطلل. فالطلل في قرارة كل واحد منهم يحمله حلا وترحالا.
... كتب "إيليا الحاوي" عن الطلل يقول :» لقد كان شعراء المعلقات أهم من تصدى له، إذ جعلوه مطلعا لمعلقاتهم، وأمعنوا في التدقيق به، متناسخين، معبرين عنه من خلال المعاني المتداولة، متجاوزين في الغالب عن تجربتهم الخاصة. لهذا نرى ملامح الإنسان الموطوء بالأسى والحنين، تتقلص وتتضاءل في شعرهم. ويخيل إلينا أن الطلل لم يكن في نفوسهم بقدر ما كان في ذاكرتهم، وما يشتمل عليه من معان تقليدية ملفوظة. لقد كرسوه كمادة لاستهلال القصيدة، حتى شخص في تسع من المعلقات مما يرجح أن شعراء المعلقات اقتفوا به آثارا مبهمة لشعراء سابقين تعفّت أسماؤهم فضلا عن أشعارهم. وقد تحول وصف الطلل إلى وصف خارجي، لا يعبر عن الوجدان بما فيه من مضاعفات شعورية.« (3)(1/20)
... عندما نقرأ مثل هذا التعليق – والذي شاع في الدراسات النقدية حكما قطعيا، وقد تعمد الناشر كتابة بعض كلماته بالخط العريض( متناسخين، كرسوه كمادة لاستهلال القصيدة) إمعانا منه في إسباغ الصفة التقويمية على الحكم، وكأنه الحكم المنتهي الذي لا رجعة فيه – تنتابنا الدهشة والقلق في آن واحد. ومثار الدهشة عندنا ينبع من تساؤل بسيط: كيف يحق لشخص يجلس على أريكته، ويصدر حكما في أقوام بينه وبينهم مسافة القرون المتطاولة، والعهود البائدة ؟ كيف يعن له أن يحكم بالتناسخ؟ ألكون الطلل قد ظهر في مطلع تسع من المعلقات، في لغة متقاربة الألفاظ والعبارات ؟ أم لكونه تحلية مجانية تعلق على مطالع القصائد؟ إنني أقدر جهود الباحث وأرتاح لقراءته كثيرا ! ولكن مثار القلق عندي أن الناقلين عنه أخذوا الحكم مسلّمة، ورددوه في الدرس والكتابة، ولم يتساءلوا أبدا كيف خرج الطلل من النفس إلى الذاكرة ؟ ولا مقدار الفرق في الشيء تحبل به النفس، و يعتمل في أغوارها، وبينه وهو مصفوف، مرفوف في مخزن الذاكرة ؟ إن بين الوضعيتين بون شاسع ! معايشة ومكابدة ومعاناة هنا، وحفظ بارد معقم هناك.
... وإذا عدنا إلى صياغة الحكم ولغته، وجدتني أرتاب كثيرا في مصداقيته. فالباحث يؤسسه على : ( نرى، ويخيل إليّ، مما يرجح، أثار مبهمة..) وكأن إصداره له لم يكن عن طول روية وتمعن، وإنما كان محض رأي يحتاج إلى ترجيح علمي دقيق. لذلك كانت خاتمة الفقرة أمرّ طعما، حين وقفت نتيجة الحكم عند تحول " وصف الطلل إلى وصف خارجي لا يعبر عن الوجدان بما فيه من مضاعفات شعورية" وكأن المطلوب من الشاعر أن يتخلى عن شعره وزنا وقافية، والإسراع وراء الظلال الهاربة المتحولة للمعاني التي تستثيرها الأحاسيس الخاصة. ولو فعل الشعر ذلك لما كان شعرا، بل محض فلسفة، وغابت عنه الإنشادية، وانفرط عقد القافية، وتداخلت الأوزان والبحور.(1/21)
... كان ذلك القدر من القول يرضي الشاعر والمستمع المتلقي، ولم يكن يجد حاجة إلى إطالة وإفراط، ولم يعب عليه أحد من المتقدمين والمتأخرين صنيعه، إلى أن يأتي "العربي الجديد" ويرى الظاهرة مطردة في جميع النصوص، فلا يجد لها من تفسير سوى التناسخ، ولا من مبرر سوى تحلية مطالع القصائد، و يلتمس من قول شاعر حركة تمردية على الطلل.. وبعد هذا. هل كلفنا أنفسنا قراءة نفسية للطلل؟ هل كلفناها قراءة أنثروبولوجية، وأخرى أركيولوجية ؟ هل أرغمناها الفحص الاجتماعي / التاريخي ؟ كل ما نعرفه هو بعض المحاولات المعزولة التي رامت الاقتراب من هذه الجوانب في خجل، وتفاوتت في علمية مرتكزاتها المعرفية! ولم نعرف مشروعا رام محاصرة الطلل يقوم بها فريق من الدارسين المختصين.. إن النقد عندنا جهود فردية أنانية، إذا عارضها غيرنا أقمنا عليه الدنيا ولم نقعدها. لأننا مازلنا مسكونين بروح الخصومة والجدل.. بل لقد أقمنا بلاغتنا على الجدل والمخاصمة، وأنشأنا البيان على ثنائية القهر والتسلط، على مقابلة غالب ومغلوب.(4)
4- المكان كتابة:
... قال "ثعلبة بن عمرو العبدي":
... لمن دمن كأنهن صحائف
... قفار خلا منها الكثيب فواحف ؟
... فما أحدثت فيها العهود كأنما
... تلعب بالسمان فيها الزخارف
... أكب عليها كاتب بدواته
... يقيم يديه تارة و يخالف
... رجا صنعه ما كان يصنع ساجيا
... ويرفع عينيه عن النطع طارف.
لقد سبق وأن أشار "إيليا الحاوي" إلى أن وصف الطلل قد غدا وصفا خارجيا، يقوم على الذاكرة و محفوظها من الصيغ والألفاظ فقط، منصرفا عن التجربة النفسية للإنسان الموطوء بالأحزان والأشواق. بيد أننا ونحن نقدم هذه المقطوعة التي اختارها "الباحث نفسه"، نحاول مساءلته لتقرير بعض الحقائق الأولية، وصولا إلى دفع "الوصف الخارجي" الذي ختم حكمه النقدي.(1/22)
... إن الشاعر مسكون بالطلل في حلّه وترحاله، والاستفهام الذي تصدّر البيت الأول، استفهام خاص. أي أن الشاعر لا يبتغي طلب إجابة عنه، ولا يسعى إلى تعيين. إنه في هذا المقام يشبه "قبر مالك" لأن "شقاوة" الشاعر لا تقف به عند التحديد والتعيين، وإنما يساعده الاستفهام على فتح الجرح فقط، ونقل المكان عبر الكلمات إلى المستمع/ المتلقي. ذلك همّه الأول. ولهذا الغرض يستعين على ثقل المحمول بالتشبيه (كأنه) يدفعه مباشرة بعد الاستفهام.
إن الشاعر يشاهد – وهو على ظهر ناقته – مكانا ( دمن، كثيب من الرمل، أحجار، تربة تحولت ألوانها، بعض العشب..) وما يراه بأم عينيه، لا يعني شيئا عند المتلقي إن هو حمله إليه عبر اللغة وصفا خارجيا. وأول تحويل رمزي يجريه الشاعر في قرارة نفسه، يشبه إلى حد بعيد عملية الاختزال، يوكلها إلى تقنية التشبيه، حتى تتقارب العناصر المادية وتندمج في وحد دالة. ومن ثم راح يختار لها صفة الكتابة. ويكتسب التحويل الفني من هذه العملية النفسية /الإبداعية صفة الترميز التي تعزّ كثيرا على الشعراء، وتربك فيهم أداتهم الواصفة.وما يحمله الشعر بعدها، ليس مكانا كما نعهد، وإنما كتابة تحتاج إلى قراءة. وهي كتابة ستظل مستغلقة ما لم تعالج القراءة أقفالها وتفك عقدها. وإن نحن نعتناها بالوصف الخارجي، فاتنا من الشعر أروع ما فيه. وكأني بالشاعر قد انتهت مهمته عندما أنجز التحويل الرمزي، وقدم الكتابة بدل الطلل الواقعي. وذلك جهد طاقة الشعر، ومنتهى مستطاع الشاعر. ويبقى النص الجديد في حاجة مستمرة إلى قراءة.
5-تحولات الكتابة:(1/23)
... إنه نص عجيب غريب، دائم التحول ! كيف ؟إن اللحظة المكانية التي ارتسمت في قرارة الشاعر، كانت تعتمد على جملة من العناصر المادية المشاهدة، والتي ما تزال في رحمة التحول المستمر الذي تجريه الطبيعة على هيئتها من محو وتثبيت، كلما عادت إليها الأنواء، وعدت عليها الرياح، وتعاقب عليها الشتو والمصيف.. وكل حركة في هذه الظروف تغير ما تشاء من سطر، محوا وإضافة. إن الشاعر يدرك ذلك جيدا، ولا يأمن أن تظل الصحيفة التي شاهد على حالها، بل يجزم أنها ستتغير غدا أو بعد غد .. لذلك كانت صياغته للنص تحمل هذا التحول، وتشير إليه، حتى لا ينخدع المتلقي بما وصف، ولا يأمن بدوره السكون الذي يوحي به المكان ظاهريا.
... إن صورة المطر الذي يخلط التربة، ويشكل من ألوانها المختلفة زخارف وهيئات، فعل اللاعب اللاهي، ترفع إلينا ما نشهده في الفن الحديث الذي يقوم على مزج الألوان تلقائيا، مانحا للمصادفة صنع الأشكال وتمازجها، ودرجات تلوّنها. والفن الحديث يعجز إذا رام استنساخ صورة تصنعها المصادفة. لأنها خاضعة لوضعيات لا يتحكم فيها الرسام أبدا. وإذا اجتهد ليعيد الكرة، لم تسعفه المصادفة أبدا لإخراج ما كان قد تحقق قبلا. كذلك فعل الماء المنهمر، قد يخضع لغزارة الشؤبوب، واتجاه الريح، وشدة القطر.. ولا يكون هو هو أبدا. فالصورة التي ينشئها الساعة ستكون مغايرة لما أنشأ قبلها. إن الكتابة التي تحكمها المصادفة لا تقع على مثال سابق، ولن تكون نموذجا آخر لآحق. إنها كتابة مستمرة، ومحو مستمر يتداولان على الصحيفة.(1/24)
... بيد أن عقل الشاعر يريد لهذه الكتابة شيئا من يقين القصد، وإلاّ استحالت عبثا لا معنى يرجى فيها. فيختار صورة الكاتب المكب على الصحيفة، يتبع قلمه قصدا مبيتا، كلما كان ساجيا قاصدا لما يريد.وكأن الشاعر يريد من هذه الهيئة المزدوجة تحميل النص الجديد مقصدا، فيه من اليقين ما يمنحه فعل الدهر من سحق للكائن والموجود، وإفنائه مهما تطاول به العهد. وفيه من العبثية ما يعجز دونها التفسير، بل يجد فيها العقل مادة تفكير تصوغ للدهر حقيقته، وتعطي للفنان رمزيته، وللأزلية مطلقيتها. أما ما دعوناه "عبثا" فليس يراد من العبث معناه المعهود عندنا، وإنما ألجأنا الجهل به إلى هذا النعت. لأنه كتابة مستعصية علينا، لم تألفها عقولنا، ولا حواسنا. وقصارى الجهد إزاءها أن نفتحها على التأويل. فيكون لنا من النص الذي رفعه إلينا الشاعر سبيلان: سبيل التفسير، وسبيل التأويل. يقرأ التفسير ما خطّه القصد، ويقرأ التأويل ما اشتطّ به القلم.
... إن مهمة الشعر أن يرفع إلينا مثل هذه النصوص، حتى وإن وجدنا فيها – جهلا – وصفا خارجيا محضا. إنها نصوص مفتوحة غير منتهية. إنها في حاجة ماسة إلى قراءة ذات السبيلين. وكلما رفع الشاعر إلينا نصه ذاك، فقد انتهت مهمته، وبدأت مهمتنا نحن. لأن الشعر واسطة بين كتابتين : كتابة مستمرة يجيرها الدهر في الوجود، يقتطف منها الشعر لحظات فقط، وكتابة يحولها الشعر – بعد الاقتطاف – إلى لغة في حاجة إلى مزيد.
... قال "لبيد بن ربيعة العامري":
... عفت الديار محلها فمقامها
... بمنى تأبد غولها فرجامها
... فمدافع الريّان عري رسمها
... خلقا كما ضمن الوحي سلامها
... وجلا السيول عن الطلوع كأنها
... زبر تجدّ متونها أقلامها
... أو رجع واشمة أسف نؤورها
... كففا تعرض فوقهن وشامها
... وقفت أسألها، وكيف سؤالنا
... صما خوالد ما يبن كلامها ؟ (5)(1/25)
لقد كان العربي يدرك أن الكتابة تقاوم البلى، وتتغلب على النسيان. إنها فن عزيز، لا يملك ناصيته إلاّ آحاد من الناس، يضمنون به استدامة المعرفة والخبر. وكانوا يدركون ما للكاتب من مكانة عند ذويه، لأنها عنوان العلم والمعرفة.ولما كان "الدهر" معدن كل المعارف والخبرات، جعلوا عوارضه الطبيعية كاتبة. وربما كان في حديث "النّصبة" عند "الجاحظ" ما يشير إلى هذا المعنى. ومهما يكن فإن الخط أثر، والأثر خط، والدهر كاتب، والدمن صحائفه. والشاعر وهو يقف أمامها يستشعر معنيين: معنى التحول الذي يسكن الموجودات، فيزحزحها عن أحوالها التي كانت لها من قبل، ويتدرج بها من الجدة إلى البلى، ومن العمران إلى الخراب، ومن الحياة إلى الموت. ومعنى الكتابة التي لا تزال في حاجة إلى قراءة ثانية وثالثة.. وكأن وقفة الشاعر لا تكفي لاستيفاء المكتوب حقّه، بل تحتم عليه شروط الصناعة وإكراهاتها أن ينقل الإحساس "خاما" تتولاه العقول والذائقة فحصا وصهرا. تستخرج منه النفيس الذي يقاوم بدوره هاجس النسيان والمحو.(1/26)
... لقد خطّت السيول على وجهي الجبلين أخاديد وتجاعيد، تمتد كما يمتد السطر على وجه الصحيفة بيّنا واضحا. وكأن الجبل يفقد من جسده نصيبا كلما عاوده السيل، ينتقص منه انتقاصا، يزيل عنه هيبة القوة والجلد. فتبدو تجاعيده كتجاعيد الوجه الذي غضّنه الزمن، وكتبت عليه الأيام المتوالية صحيفتها التي لا يمحوها سوى الموت. ولا يجد الشاعر لهذا المظهر من محول رمزي سوى الكتابة على الصخر، أو في الزبر، أو خط الواشمة.. هيئات ثلاث تتلاحق في قرارة نفسه، ولكل واحدة منها حقيقتها الخاصة، وحمولتها المعرفية، ومرجعيتها التاريخية. ألم يكن "لبيدا" مثقفا ؟ - بالمعنى الذي نعرفه اليوم – إنه يعلم ما يثيره لفظ "الوحي" حتى وإن كان نظم القصيدة في الجاهلية ! ثم "الزبر" .. كلها ألفاظ تجعل القارئ الحديث يمد بصره نحو التاريخ، يتحسس آثار الحنيفية الأولى في العرب، ويتحسس أحاديث أهل الكتاب، ثم ينعطف إلى البيئة القريبة ليجد صورة الواشمة قريبة المنال من سامعيه.
... هذا حظ النص الذي يرفعه الشعر إلينا. يرفعه كتابة نعيد من خلاله رسم أبعاد المنظر الذي يجري فيه الريان بين جبلين وقد ترك الدهر فيهما آثاره. ولكن الشاعر يحاول محاولة أخرى سرعان ما يتخلى عنها، لأنها ليست من مهمة الشعر.. إنها مناط القراءة وحدها. حاول أن يقف ليسأل، ثم يتراجع منكرا موقفه. كيف يسأل "صما خوالد ما يبين كلامها" ؟ ولكنه يعرف أن لها كلاما على الرغم من صمتها وجمودها .. ودور القراءة أن تسألها أسئلة الشاعر، وأن تستنطقها لتسمع كلامها.(1/27)
... لقد قلنا قبلا أن التعامل مع المكان في الشعر العربي تعتوره قراءتان: قراءة تفسير وقراءة تأويل، وللتفسير حظ ما اعترى الجبلين من تحول، وحتّ، وتعرية. وللتأويل ما اكتنز الصخر من كلام. فإذا طالبنا الشاعر – بعد هذا – مواصلة القول فيها، فقد ألغينا دور القراءة، وعطلنا قدرة الشعر على الاستمرار، وقتلنا في نفوسنا الشاعر الذي لم نكنه في الفعل، وكناه في القوة.
((
هوامش:
1-سيزا أحمد قاسم. بناء الرواية.ص:77.
2-أحمد الهاشمي. جواهر الأدب.ج1.ص:328.
3-إيليا الحاوي. فن الوصف وتطوره في الشعر العربي.ص:22.21.
4-أنظر مصطفى ناصف. محاورات مع النثر العربي. الفصل الأول خاصة.
5-أحمد الهاشمي.م.س.ج2.ص:88.87.
(((
موضوعة الطلل. 2
مكان القراءة، نص الطلل.
- تقديم.
- حركة الانصراف.
- الطلل الحديث.
- الانفصال والاتصال.
- الطلل بين رؤيتين.
الفصل الثاني:
... ... ... مكان القراءة. نص الطلل.
1-تقديم:(1/28)
... استطاع الشاعر القديم أن يفتح سفر المكان من خلال ظاهرة الطلل، واستدامة فعل البكاء، واستشعار سلطة التحول والمحو، وإن اتهمناه بتناسخ التجربة والتقليد. وقد عميت علينا أسباب الرحلة، ودورها في التكوين الاجتماعي للذات العربية. ومادمنا في "شققنا" نخلد للسكون، فإنه يتعذر علينا فهم العلاقة المتجددة للبراح، و الانعتاق من المكان. بل وإكساب هذا الأخير تحولا وسيرورة، تشبه إلى حد بعيد تحولات الزمن و سيروراته. وكأن الزمن يعجز عن التأثير في المتحرك. لأنه لا يمسكه بكلتا يديه. لذلك كانت آثار الزمن مخوفة، وهي ترتسم على وجه الطلل، تذكر العربي الرحّالة بأنها سلطة قاهرة لا تهمله ولا تمهله. ومنها كان ذلك التوجس والخوف. وكانت تلك النبرة الحزينة وهي تباشر الطلل. فإن لم تبك فعلا استبكت، وطلبت البكاء عمدا. وكأنها تطلب حقا لها من الذات قبل أن تطلبه من الزمن. ومن ثم كانت الحركة عنوان خلاص يلجأ إليها العربي كلما أضجره المكوث، أو طال به البقاء.. حتى طول العمر إن استمر على وتيرة واحدة، كان مثار ضجر وسأم. ألم يقل " زهير بن أبي سلمى" :
... سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
... ثمانين حولا، لا أبا لك يسأم !
وليس مبعث السأم من تكاليف الحياة، لأنها الحياة عينها، وإنما السأم، كل السأم، من طول المكث، وقلة الحركة، بعدما يفقد الجسد قدرته على الترحال والحركة.
2-حركة الانصراف:
... حينما يقف العربي على الطلل لحظة، يقف وهو على ظهر جواده أو ناقته، متأهبا للتحول والاستمرار في الرحلة. فتعلق به تلك الملاحظات الخاطفة. ينقلها البصر في لحظات، فتستقر في أعماق الذات، قلقة مضطربة، يبحث لها عما أسميناه بالمحول الفني الذي يخرجها "نصا" خاما يتأذن للقراءة كل حين.ثم يصرف وجه راحلته إلى مقصده، كما يصرف وجه شعره إلى غرض ثان.. هما حركتان في آن واحد، تتجسدان في هندسة القصيدة.(1/29)
... وقفة قصيرة تملأ النفس حزنا ثم شجنا: حزن على ما مضى، وشجن على من فارق، ثم انصراف إلى وجهة جديدة. لذلك كان الغزل عقيب البكاء. ولنا أن نقف قليلا هنا! سماه النقاد غزلا، لأنهم وجدوا فيه ذكرا للمرأة، ولم يشهدوا أن الغزل المزعوم إنما يأتي دائما في صيغة الماضي المنقطع الذي انتهى، وتحولت صاحبته. لقد صارت بذلك جزءا من الطلل. إنه أشبه شيء برثاء الحال. إنه لون مما نسميه اليوم "نوستالجيا" وهي كل ذكرى كانت لذيذة في حينها، وصارت مع تطاول العهد مرّة المذاق، يحن إليها المتذكر، وفي نفسه حسرة الانقضاء والفوت. وليس غزلا ذاك الذي يستدرّه الطلل ويدفع إليه. إنه جزء من الطلل يرتبط به ارتباطا عضويا.
... كان الشاعر المتغزل فعلا يقول:
... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
... وما حب الديار شغفننا
... ولكن حب من سكن الديارا.
وكأن قبلاته ستتخلل الحجر والطين وصولا إلى ساكن الدار.وما يناله من لذة التقبيل، يعود عليه بالنشوة قريبا مما يجنيه من حرارة الخد. وقد نستبعد – نحن اليوم – تلك النشوة ونسخر من صاحبها، ولكننا إذا " تماهينا تعاطفيا" مع المشغوف، وتلمسنا حرارة حبه، أمكننا تلمس الدفء في الحجارة. وما نجنيه من هذا الموقف هو التمازج الحاصل بين المكان والمرأة. وكل تحول للمكان إنما هو تحول حتمي في المرأة. وبكاؤه بكاء لها. حتى وإن جاء الشعر حافلا بأوصافها ومحاسنها التي كانت لها في يوم ما. وليس ذلك الصنيع من قبيل الغزل، إذا خامرته مرارة الذكرى، ولوعة الفراق والشتات. و" طرفة بن العبد" أفصح قولا حين يردف بيته الطللي بقوله:
... وقوفا بها صحبي على مطيهم
... يقولون لا تهلك أسى و تجلد.(1)
ثم يضيف بعدما يعدد محاسنها في خمسة أبيات قائلا:
... و إني لأمضي الهم عند احتضاره
... بهوجاء مرقال تروح و تغتدي. (2)(1/30)
ففي البيت الأول إشارة إلى لوعة الفراق التي أثار شجونها الطلل، وفي الثاني ضرورة الرحلة والحركة للفرار من الهم. وكأن الإقامة ترادف الهلاك، والرحلة ترادف الانعتاق. وتظل صورة المرأة حاضرة بمفاتنها تتأرجح بين الذكرى الحلوة، والفقد المرير.
... وإني أزعم أن كثيرا مما يحسب على الغزل أنه منه، لابد من مراجعته ليحتل مكانة جديدة في أغراض الشعر العربي بين الشكوى والبكاء والحرمان. أما إطلاق اصطلاح "الغزل" على كل شعر ذكر المرأة، فذلك إجحاف في حق الشعر قبل أن يكون إجحافا في حق الشعراء. وهل نعدّ قصيدة "ابن زيدون" في "ولادة بنت المستكفي" غزلا، وصاحبها يبعث بها من ظلمة السجن، وقد زالت عنه الوزارة، وتولى عنه السلطان ؟ ألا تكون القصيدة رثاء للذات وقد أفل نجمها، وخبا توهجها ؟
3-الطلل الحديث:
... لم يكن الطلل ظاهرة "جاهلية" وحسب، وإنما كان الطلل، وسيظل شارة الشعر العربي ماضيا وحاضرا. ما دام الطلل يسكن الذات العربية هاجسا لا يتحول ولا يريم، وإن خفت ذكره حينا، يعود أحايين أخرى أشد توهجا وحضورا. وربما حمل كل حديث عن الدنيا وأسرارها، ومعاشها، شيئا من الطلل. وكل التفاتة إلى الماضي أو المستقبل لا تعدم من روح الطلل نصيبا مفروضا. وإذا أردنا أن نستسيغ هذا الطرح، علينا أن نتجاوز الطلل كما رأيناه من قبل: بعض أحجار كوتها نيران التنور، وبعض نؤي تهدمت جنباته، وبعض آثار حيوان..لأن ذلك ما تلمحه عين الشاعر الواقف، أما ما يحمله الشعر من بعد، وقد تحول من هيئة المنظور، إلى هيئة المتخيل الذي أضاف إليه الشاعر قدرا وفيرا من ذاته عبر التشبيه، والاستعارة، والكناية، والتصوير، والتشخيص، فطلل آخر. إنه الطلل الفني الذي يسكن أعماق الشاعر. إنه نصه الذي لا يسأم من حمله، ولا يمل من ترديده. فهو أبدا جديد، واحد، أبدي، أزلي، يجد في كل موقف يقفه الشاعر مخرجا يسعفه على الخروج، والنطق بأسراره.(1/31)
... لقد أعادت المدنية تشكيل الطلل في الشعر العربي الحديث. فلم يرتبط عندها بالرحلة، ولم يكن غرضا سريعا ما ينصرف عنه الشاعر إلى غيره، كانصرافه من موقفه ذاك إلى وجهته التي أخرجته من قومه. وإنما قدمت المدنية الطلل في ثوب آخر تجدد به عهده. لقد صار الطلل مكانا هادئا، يقع خارج دورة الزمن، خارج الحركة الجنونية المتسارعة المتدافعة للحياة، خارج الصخب والضيق. وكأن الطلل عزلة الزمن في الزمن، وعزلة المكان في المكان. تمر عليه فإذا بك تستشعر برودة الموت، وخلو الحياة. وكأن الزمن يتباطأ عمدا، وأن يد المحو تلهو به هنيهات هنيهات. إنها ليست في عجلة من أمرها. إن لها من الوقت ما يكفيها لمحوه ذرة ذرة.
... لم تكن وقفة الشعراء الرومنسيين على الطلل لتختلف عن وقفة الشعراء القدامى. بل هي وقفة واحدة، ذات هم واحد. تتكرر فيها الأسئلة الأزلية. وكأن النص ما يزال مفتوحا إلى الأبد. ووقفة "البحتري" على "إيوان كسرى"، ووقفة "عمر أبو ريشة" على "طلل روماني"، ووقفة "إلياس أبي شبكة" على "أطلال صور" وقفة واحدة. وقفة النفس التي يقلقها السؤال، فتهرب من صمت المعرفة وجهلها إلى صمت المكان وعلمه المكنون. إنه صامت عالم، يحمل في أحجاره وبقاياه أسرار من مضوا قبله وبعده.
... شاءت القصيدة أن تغير مقاربتها للطلل، تجديدا لثوب المعمار القديم الذي انصرف من البكاء إلى شيء من الحركة التي يتعمدها الشاعر هروبا من زحمة الدنيا إلى سعة الفضاء الخلو. وقد عرفنا هذا الانصراف جنينا مع "طرفة بن العبد" في قوله:
... وإني لأمضي الهم عمد احتضاره
... بهوجاء مرقال تروح و تغتدي.(3)
وواضحا بين الحركة في قول "البحتري":
... حضّرت رحلي الهموم فوجهت
... إلى بيض المدائن عنسي. (4)(1/32)
وهي حركة تريد استبدال هم ثقيل على النفس بهم آخر تتشوف إليه، وتسأل عن أخباره وأسراره. وقد تجد فيه السلوان والعظة، وقد يخفف عنها السؤال شيئا من الضيق الذي ينتابها، وقد يكون سؤالها مبعث ملاحظات تدق، فلا يلتفت إليها الزائر العادي الذي تشده رهبة المكان، فلا يتجاوز ضخامة المبنى، ولا يتعدى وجه الحجارة المصقول.
... إن الشاعر وهو ينغمس في هدأة المكان يرهف السمع، ويطبق الجفن، فتتسلل إلى أعماقه أصداء الماضي موشوشة أحاديثها الغامضة، ولغتها الغريبة. ولكل وقفة من وقفات الطلل في الشعر الحديث مقاربة خاصة، وإخراج مختلف. وكأن الشاعر قد استفاد مما في الفنون الأخرى من تقنيات كالمسرح والسينما، ومما يعطي الحركة حسا دراميا، يتولى هندسة النص جملة. تتوزع فيه مقاطع الوصف، والسؤال، والملاحظة، على مسافات النص. وكأنها بذلك تحاكي أجزاء المكان، القائم منها والحصيد. قد تدركه جملة، عن مبعُدة، ولكنها كلما اقتربت منه، كلما ابتلعها المكان، واشتمل عليها، حتى تصير الذات عنصرا من عناصره، وزمنا من أزمنته المتعددة المتعاقبة. وعملية الاشتمال هي التي تبعث في النفس الرهبة والخشية، وهي التي تملي على النفس أسئلتها. فالطلل لا يُساءل عن مبعُدة، وإنما الطلل احتواء قبل كل شيء. احتواء يعزل الذات عن ضجيج الحاضر وتلويثه. فهو إذ يُسكت ضوضاء الحاضر، يفتح وشوشات الماضي السحيق، تعلو تخفت، يلاحقها الشاعر مرهف السمع، يقظ الإحساس. يتتبعها في الشقوق والأخاديد، على وجه التراب الأغبر، وفي وجه الصخر المصقول. إنها في كل دقيق رفيع، وفي كل ضخم جبار !
4- الانفصال والاتصال:(1/33)
... وقف "عمر أبو ريشة" على طلل. وشاءت الوقفة أن تقدم ذاتها من خلال الشعر في هيئة يكون فيها لعاملي الانفصال والاتصال دورا التجاذب والتنافر في بناء النص كله. وكأن الغرض من هذه الوقفة هو المحافظة على شيء من شخوص العقل وحضوره، خوف الاستلاب والاحتواء المطلق. وهذه حركة تمكن الذات من مراقبة التفاصيل وعرضها، ثم إضفاء السؤال عليها. وهي عين ما صنع "امرئ القيس" و "البحتري" و غيرهما. بيد أن الجديد عند "عمر أبو ريشة" هو ما يحمله "الأمر" الموجه إلى قدميه: "قفي قدمي.. إن هذا المكان" وتسمية الطلل ب"المكان":
... قفي قدمي، إن هذا المكان
... يغيب به المرء عن حسه.( 5)
لم يكن الشاعر يقصد وجهة معينة، كانت قدماه تقودانه على غير هدى، فرارا من زحمة الحاضر.كان يتنقل شارد الفكر، يقلب طرفه في الأرجاء الواسعة من حوله، ثم فجأة يجد رجليه تتعثران في أرض غريبة التضاريس. فينتبه لما حوله..إنه مكان ! ولكنه ليس كسائر الأمكنة ! عندها تستيقظ فيه عين الملاحظ التي تلتقط الصور تباعا، على غير نظام ولا ترتيب.. كان الانتباه أولا إلى الأرض التي تعثرت فيها القدم، فقال:
... رمال وأنقاض صرح هوت
... أعاليه تبحث عن أسّه.(1/34)
لقد استطاعت العين المدربة التقاط جملة الطلل دفعة واحدة، وجاءت اللغة المواتية لتجعل أعالي البناء تعانق صخور الأساس. وقد طوي البناء طيا. غير أن الحركة المعنوية يتخللها التشخيص الذي يعطي للدمار حسه الدرامي.. فإذا أنشأنا المقابلة بين ماضيه وحاضره، كان لنا منها ذاك البناء الشامخ الذي تأنف أعاليه وبروجه أن تخفض الطرف نحو القاعدة.. بل تمعن في رفع رأسها إلى عنان السماء إمعانا في الكبرياء والتعاظم. بل يحق لنا أن نحول الصورة قليلا عن الإطار المادي، فإذا بالطبقة العلية من ملوك وسادة، تتفيأ شرفاته، ولا تلتفت إلى الطبقات التي ترفع قواعده.. و كلما شمخ البناء كانت أعداد المقهورين مضاعفة.. ولما حدث الدمار، راحت الطبقات العلية تتساءل عن سبب الكارثة وتبحث عن الأساس الذي لم يعد قادرا على حملها..
... إن الحركة التي اختارها الشاعر لوصف الأنقاض – حركة الأعالي الباحثة على الأساس –، فيها من الانفصال – انفصال الذات عن موضوع الملاحظة – ما يخولها مشاهدة المنظر حسيا، وتميز صخور الصرح، وأعمدته، و صخور الأساس، هي مرتمية بعضها فوق بعض. لا علو ولا شرف، لا برج ولا أساس. أما الاتصال – اتصال الذات بالموضوع – ففيه من التلمس المستبطن، ما يعطي لكل صخرة من الصخور رمزيتها وحياتها، فيتحول المشهد إلى شيء آخر أعظم فداحة من الأول، وأشد خطبا. لقد زال كبرياء العالي، وانكب على وجهه يسأل عمن كان في يوم من الأيام عماد ملكه وجبروته. ووقفة أمام أهرامات مصر قد لا تحدثك عن عظمة الفراعنة بقدر ما ترفع إليك آلام الملايين الذين سخّرهم الكبرياء المتجبر، وسلب منهم عرقهم، ودماءهم، وأرواحهم، وكتب عليهم الشقاء أبد الآبدين. قد تسمع من وشوشة المكان الصراخ والعويل والأنين.. قد تسمع فرقعة السياط والعصي..(1/35)
... إن الانفصال يكرّس الملاحظة الخارجية الواعية، ويفتح النفس على منافذ التأمل، لأنه يمكن العين من احتواء المكان احتواء تعيد من خلاله ترتيب عناصره، وفق الأحاسيس المصاحبة للآن الفني. بينما يكرس الاتصال الملاحظة الباطنية التي تسمح للمكان باحتواء الذات. وهو احتواء دمج، لا احتواء استلاب. لأن الدمج يحتفظ للذات بقدر من وعيها وانفصالها، أما الاستلاب فطغيان المكان كلية على الذات. وقد فطن "أبو ريشة" إلى ذلك الطغيان، فقال محذرا نفسه:
... قفي قدمي إن هذا المكان
... يغيب به المرء عن حسّه.
وكيف يكون الغياب، إن لم يكن استلابا وطغيانا للمكان ؟ حينها قد تعقد الرهبة لسانك، وتغلق منافذ تأملك، فيتعلق طرفك بالمكان مشدوها لا يقوى على شيء، ولا يعلق بخاطرك بعد الفراغ من الجولة إلاّ معنى العظمة والكبرياء، وذلك ما أراده أهل البناء من صرحهم قبلا. أما الطلل فيريد غير ذلك مطلقا.. لم يعد الطلل ملكا للفراعنة، ولا الإيوان ملكا للأكاسرة، ولا الطلل الذي نعاين ملكا للرومان. لقد غدا ملكا للشاعر والقارئ، يُمَلِّكُه الدهر كل عين ترى فيه مصرعا للكبرياء، وإذلالا للطغيان، وفناء للفناء.
... إن "الذهول" حالة وسطى بين الوعي والاستلاب، وهي حالة شبيهة بالضباب الشفيف الرقيق الذي يتيح الرؤية، ولكنه يمحو المسافات، وينتزع من الأشكال حدّتها. فالذهول مدخل لطيف للتأمل، لأنه الحركة البطيئة التي تتعمدها السينما حتى تمكن المشاهد من تملي اللقطة السريعة، والتدقيق في جزئياتها. وكأن الزمن فيها يتباطأ عمدا حتى تتمدد الأشكال والأحجام فتبرز واضحة – وضوحا خاصا – للعيان. ولولا الذهول ما استطاع الشعراء التوقف عند أدق الدقائق من الأحاسيس المرهفة التي يستخرجونها إخراجا. قد نرى فيه – نحن – عنتا وإرهاقا، بينما هو أشبه شيء بالمكاشفة الحالمة. يقول "عمر أبو ريشة" :
... أقلب طرفي به ذاهلا
... أسأل يومي عن أمسه.(1/36)
إن الذهول يتيح له إبقاء نافذة الحاضر موقدة، ومنه تأتي المقابلة بين اليوم والأمس، يوم الشاعر وأمس الطلل. بيد أنها المقابلة التي لا تتوقف عند حقيقة الزمن وتحولاته وحدها، بل تتعداها إلى شيء آخر يفصح عنه سيل الأسئلة التي تتوالى على لسان الشاعر دفقا واحدا متصلا. نعم هناك بون شاسع بين الأمس واليوم، ورسم الزمن وخطه واضح الدلالة، ولكن اليوم ظرف كما أن الأمس ظرف آخر. إن الزمن مجرد إطار. زمن الشاعر: همّ وضجر، وبحث عن شيء من فراغ البال والتسلية، وهروب من المدينة. وزمن الطلل حياة انتهت إلى خراب وزوال. كيف ؟
... أكانت تسيل عليه الحياة
... وتغفو الجفون على أنسه ؟
... وتشدو البلابل في سعده
... وتجري المقادير في نحسه ؟
... أأستنطق الصخر عن ناحتيه
... وأستنهض الميت من رمسه ؟
... حوافر خيل الزمان المشت
... تكاد تحدث عن بؤسه.
ما أقرب الأمس من اليوم ! وما أبعده ! إنه صوت "لبيد":
... وقفت أسألها، وكيف سؤالنا
... صما خوالد ما يبين كلامها ؟
شيء من العجز والقهر، يحولان دون مواصلة الحفر في أعماق الماضي. إن حجاب الصمت صفيق ثقيل، لا يمكن رفعه! كيف السبيل إلى دفع هذا الغيب ؟ إن حركة الانصراف التي لاحظناها في الشعر الجاهلي تبدأ من هذا العجز. شاعر يحوّل وجه راحلته وينصرف، وتتحول معه القصيدة، وتنصرف إلى غرض آخر.(1/37)
... لقد تحدث النقاد عن تفكك بناء القصيدة الجاهلية، وتعدد أغراضها، ولم يفطن أحد منهم إلى هذا العجز الذي يسبب الانصراف، ويلوي عنق الراحلة والقصيدة معا إلى وجهة أخرى. لقد كان الشاعر الجاهلي متواضعا أمام المكان، راضياً بالقسمة التي قسمت له. يقبل بالنزر القليل. أما الشاعر الحديث فملحاح، ولكن إلحاحه لا يعود عليه بطائل. إن تقهقر "عمر أبو ريشة" أمام الصمت رغم ضجيجه، وعلو أصواته، وتداخل لغطه، يوقع الشاعر في حيرة. من أين يبدأ؟ من ساعات الأنس والمرح واللهو ؟ أم من ساعات النكسات والنحس ؟ أم من بؤس الناحتين و البنائين، والخول، والعبيد؟ من الذين ذهبت أعمارهم هباء في رمال الصحارى، وغبار المحاجر ! الأولى أن نبحث عن عدد المقابر التي كانت على مقربة من البناء العظيم ! كم أزهق الهرم من روح ؟ كم طحنت الحجارة من جسد ؟ كم رمسا شُقّ ؟ كم ردما رُدم ؟..
... إن العجز هنا مبعثه هذا الكم الهائل من الأسئلة. إن الشعر لا يتسع لها، ولا لبعضها. إن واجبه الأول أن يعلمنا كيف نقف على الطلل ؟ كيف ومتى ننفصل ونتصل ؟ كيف نحذر من الاستلاب ونستفيد من الذهول. وحركة النكوص عند الشاعر لا تعني أبدا أنه ينفض يديه من الموضوع، ويتخلى عنه جملة. إنه يبحث عن لغة فوق اللغة، بإمكانها إرضاء الشعر وشروطه النظمية، وإرضاء الموقف وفداحته. وتقليب الطرف يصاحبه تلقائيا تقليب صفحات اللغة داخليا. إن البحث جار على صعيدين في آن. عين تبصر، وعين تتبصر، حتى تنبثق اللغة صدعا، وكأنها تحمل ما يحسن مخرجا وتخلصا في آن. واسمعه يقول:
... حوافر خيل الزمان المشتّ
... تكاد تحدث عن بؤسه.
ففي هذه "اللغة" – واللغة هنا أقصد بها الملاءمة التي استعرناها من(1/38)
"أرسطو" (6) – تتبلور الصياغة التي يوكل إليها تحديد موقف الفنان من موضوعه، وتحديد عمق النظرة إليه. وقد اختار الشاعر صورة الكوكبة من الفرسان التي تقتحم الجموع فتبددها، وتشتت شملها. وفي الحركة الحسية تداع لآلاف الصور التاريخية، التي يسهل استدعاؤها لمثل هذا الموقف. أما كلمة "بؤسه" فتأكيد لعدم الاستلاب، وتجاوز مظاهر العظمة التي تحول دون استبطان الأسرار الدنيا لعامة الناس. وكأني بهذا البيت – الذي كان يصلح لأن يكون قفلا للقصيدة، تنتهي إليه الشحنة العاطفية التي تتحدر من أعالي القصيدة – إتاحة أخرى للشاعر أن يعود إلى وعيه الأول، ويجدد الصلة بالطلل. بيد أنها صلة لم يعد الذهول يخالطها، ولم تعد الدهشة تلوّن خلفياتها. إنها عودة فيها كثير من الازدراء والاحتقار للعظمة الكاذبة، والكبرياء المهزوم. عودة تبحث في الطلل عما يدين أهل الطلل الأوائل، ويمرغ أنوفهم في التراب.واسمعه يقول:
... وتلك العناكب مذعورة
تريد التفلّت من حبسه
... لقد تعبت منه كف الدمار
... وباتت تخاف أذى لمسه
... هنا ينفض الوهم أشباحه
... وينتحر الموت في يأسه !
إن إلحاح الشاعر مثمر.. وثمرته هذا الوعي الاجتماعي/ الحضاري الذي عرف كيف يموت الجشع الإنساني الطاغي، وكيف ينتحر الكبرياء الكاذب أمام الموت.. و "للعنكبوت" في الذاكرة العربية حضور خاص. ففي القرآن الكريم له رمزية تقترن بالوهن والضعف، وحقيقته بالمكان الخالي الخرب. لقد ضربه الله - عز وجل - مثلا لزوال الأمم التي سلط عليها عقابه، وعدد أسماءها، وصور هلاكها، وخراب مماليكها. بيد أن الشاعر يحول كل ذلك إلى تقابل نستشف منه مقابلة الصرح الذي كان متينا قويا، وغدا هباء منبثا، ببيت العنكبوت الذي لا يصمد أمام هبات النسيم اللطيف. وتمعن الصورة من ناحية ثانية في مسلك الازدراء والسخرية، حين تجعل العناكب مذعورة من فداحة الخطب، تسعى للتفلّت من حبسه، لا من شبكة بيتها.(1/39)
... تجاور وتنافر في آن ! يصنعان نغمة السخرية الرومنسية التي لا تهمل الواقع الاجتماعي، حتى وإن كانت حالمة النبرات. إلاّ أن نقدها لاذع مرّ. يتخير من الصور ما يستوقف القراءة، فتعالجه لتجني من تنافرها وتجاورها جملة المتناقضات التي تعمر حياة الناس واجتماعهم. وها هو الدمار نفسه يتعب ويتأفف من فعله. بل يخاف لمس صنيعه."وكل شيء لا محالة زائل". ولو وقف الإنسان أمام الطلل عين الوقفة لنفض عن نفسه وهم الخلود والبقاء.
5-الطلل بين رؤيتين:
... هل قال الشعر القديم مثل هذا القول الذي تقوله القصيدة الحديثة ؟ نعم وزيادة ! والجديد فيها أنها استفادت من طرائق الإخراج وعمق الأسئلة.. بيد أن النص.. نص الطلل واحد عند الجميع. وواحديته لا تعني التكرار أبدا، وإنما هو نص كبير "جامع" "أزلي" يقتطع منه الشعراء نصوص القراءة، كل حسب قدرته واقتداره، حسب انفصاله وذهوله. وخير مثال نسوقه لتقرير هذه الحقيقة من شعر "شوقي" في الأهرام و أبي الهول.
... كان "شوقي" في جلسته مع "أمين الريحاني" ورفقته عند سفح الهرم، تكريما للأديب السوري، ينظر إلى الأهرام بعين الانفصال، فلا يستوقفه فيها سوى مظاهر العظمة والجلال. تستدرجه إلى مدح الفراعنة، والإشادة بأخلاقهم. وهي ملاحظات خارجية يمليها الانفصال، ويختار الاستلاب صورها ومعانيها لاشتمال المكان على الشاعر وتسلطه عليه، فلا يجد في نفسه سوى تلك المظاهر الخارجية التي تحجب عنه ما تحتها من حقائق التاريخ. يقول "شوقي" مترسما خطى الشعر القديم:
... قف ناد أهرام الجلال وناد
... هل من بناتك مجلس أوناد ؟
قل للأعاجيب الثلاث مقالة
... من هاتف بمكانتهن وشاد
... لله أنت، فما رأيت على الصفا
... هذا الجلال ولا على الأوتاد.
... لك كالمعابد روعة قدسية
... و عليك روحانية العباد
... أسست من أحلامهم بقواعد
... ورفعت من أخلاقهم بعماد.(1/40)
ولا يكفي أن يكون الوصف دقيقا رائقا، كما لا يكفي أن يكون الشعر مطبوعا صافيا. لأن الانفصال سيبقي على الحاسة الشعرية بعيدة عن تلمس رمزية الموضوع، خالية من حرارة السؤال المستبطن، الذي يتوغل بعيدا وراء كتل الحجارة. كما أن للمجلس الذي جلس "حفلة تكريم" عوارض أخرى تصرف هذا النص عن أن يكون نص طلل. لأن شرط الطلل هو الوحدة. والمناسبة تفضي إلى نقل التفاخر إلى الحجب. ومعنى الحجب هنا، هو الإغضاء عن الأسئلة التي ينثها الحجر، والتي تتجاوز العظمة إلى الضعة، وتتجاوز الجلال إلى الدناءة.. لقد كان "شوقي" في ذلك الإبان مسكونا ب"الفرعونية" انتماء، وكان "إلياس أبي شبكة" مسكونا ب"الفينيقية" في لبنان. وهي حجاب آخر يسدله الانفصال دون أسرار الطلل، فيحجب الرؤية، ويوقف اللغة على ما يشبه المدح الخالص.
... أما إذا راقبنا شوقي – في موقف آخر – في نص طللي حقيقي، وقد تجرد من انفصاله، فإننا نلمس حرارة السؤال، وإلحاحه، وتحول شكل اللغة، وانقلاب الهم، ليتجاوز نص الطلل إلى خطابه، فيتخطى الحامل سريعا إلى محموله. واسمعه يقول في "أبي الهول":
... أبا الهول، طال عليك العصر
... وبُلِّغت في الأرض أقصى العمر
... فيا لدة الدهر لا الدهر شبّ
... ولا أنت جاوزت حدّ الصغر
... إلام ركوبك متن الرمال
... لطي الأصيل،و جوب السحر؟
... تسافر متنقلا في القرون
... فأيّان تلقي غبار السفر ؟
... أبينك عهد و بين الجبال
... تزولان في الموعد المنتظر؟
... أبا الهول ماذا وراء البقاء
... إذا ما تطاول غير الضجر ؟ (8)(1/41)
إن النص يتناسى الفكرة التي يؤمن بها الشاعر قبل دخوله حرم الشعر، ويقدم الذات عارية أمام السؤال الأزلي. ويتحول الطلل إلى رمز يجسد في بقائه الزمن. فتتجسد من خلاله رحلة الدهر من الميلاد إلى القيامة. وليس مطلب الشاعر تلمس هذا الجانب من الحقيقة، لأنها معلومة، واضحة. ولكن مقصده في الضجر الذي يولده البقاء، ويترتب عليه. وفي الفكرة استحضار لسأم "زهير ابن أبي سلمى" و شكوى "لبيد ابن ربيعة". وكأن الموت – على الرغم من ارتباطه بالزوال – يبقى الحرية الوحيدة التي تحقق الانعتاق من أسر الضجر والحبس.وتمكن الحياة من الاستمرار.
... إن فاجعة البقاء أثقل من فاجعة الموت، إذا كان البقاء رديف السكون، والهمود، والانتظار الذي لا رجاء فيه، ولا أمل بعده.
... إن نص الطلل مكان للقراءة، شريطة أن يعتور الذات انفصال واتصال، يتعاقبان على النص. يهيئ الأول عين الملاحظة، ويملؤها رهبة ووحشة، ويُعِدّ الثاني البصيرة للاستغناء عن البصر. فيطبق الجفن لتتخلل ضبابية الذهول سعيا وراء الأسئلة المفتوحة دوما أمام حيرة الإنسان.
((
هوامش:
1-أحمد الهاشمي. جواهر الأدب.ج2.ص:68.
2-م.س.ص:69.
3-م.س.ص:69.
4-أحمد حسن الزيات. تاريخ الأدب العربي.ص:290.
5-عمر أبو ريشة. الديوان.ص:125.
6-أنظر فصل موضوعة السجن.
7-أحمد شوقي. الديوان.ج1.ص:113.
8-م.س.ص:133.132
(((
موضوعة الطلل.3.
حكاية الطلل، نص السرد
- تقديم.
- نص السرد.
- المدخل القصصي.
- موقف السارد.
- فاعلية التشخيص.
- فاعلية الازدواج.
- فاعلية العرض.
الفصل الثالث:
... ... ... حكاية الطلل، نص السرد.
1-تقديم:
... الأليق بالطلل أن يحتويه الشعر، لا أن تحتويه الحكاية ! إن الطلل موضوعة فلسفية في أساسها الأول. وإن كانت مكانا محددا. ومن ثم كان في فسحة الشعر مجال للطلل، لا تقو الحكاية على حمله، لأنها سرد محض.(1/42)
ويخضع السرد إلى نظام التوالي والتعاقب الذي يخضع له الشعر، ولكنه يتجرأ على كسر طوقه. وإن حاولت الرواية فعل ذلك اضطرب تسلسل الحدث فيها، واختل نظام الحكاية، وغابت الوحدة التي يسعى السرد إلى تكريسها من خلال فعل الحكي.
... لقد حاولت الرواية الجديدة – مع روب غرييه، ونتالي ساروت –تعمد كسر نظام التوالي، فأخرجت للناس قصصا من دون بداية ولا نهاية، تتجاور فيها الفصول دون أن يكون بينها رابط سببي واضح. مما جعل قراءتها متعبة تترك للقارئ مهمة الترتيب، واختلاق التوالي الذي تهتدي إليه القراءة من جملة ما يقرأ. وكأن نص القراءة عمل تال يقوم عقيب الفراغ من القراءة الأولى كتخمين محتمل للنص المتشظي في الكتابة. وهي التجارب التي استمرت في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي، إلاّ أنها ولّدت ردّة لدى الجمهور القارئ إلى الرواية الكلاسيكية القائمة على الهندسة الواضحة،
والمعمار المتماسك، والوصف المستقصي المستفيض، والاستبطان النفسي العميق. وبغية القراءة لا تقف عند همِّ إعادة البناء واحتمالات الأشكال، بقدر ما تقف عند "التلصص" على الآخر. لقد نعت "ألبيرس" هذا الجنوح بدور "مصاص الدماء"، لأن القارئ يجد لذته في التجسس على الآخر، كما يجد الكاتب متعته في هتك الأعراض وفضح الناس.(1)
... بيد أن للحكاية سبلا لكسر التوالي، وإجراء التعديل على السيرورة الزمنية، ودمج الماضي في الحاضر، والحاضر في الماضي، والتراجع والقفز.. وهي سبل معروفة مقبولة تعطي للسرد حيوية وقدرة على التفلت من سلطان الزمان والمكان. وربما كان التداعي الذي عرفته الرواية الحديثة أروع مركبة يركبها القاص لجوب متاهات النفس والزمن و الأمكنة. دون أن يقطع حبل التوالي، أو يخل بنظام السرد. أو أن يتعمد جعل النهاية بداية، والبداية نهاية، أو ما يعرف بالسرد المعكوس.(1/43)
... غير أن السرد لا يعترف بالسؤال ! وإنما يقيم اعتماده على الحدث. والطلل نص خال من الحدث. ومعنى ذلك أن الحدث الذي يلحق نص الطلل حدث متولد عن الأسئلة، يرفعه السؤال إمكانية لبيان، أو تبرير، أو سبب. والشعر إن عمد إلى شيء من السرد، فليس غرضه الحدث ولا هو منتهى مقصده. بل الحدث ظرف يتلقى فيه السؤال عنصر إجابته.فتتشكل منهما الحكاية الشعرية التي تنشئ نص الطلل في شكل جديد، قد يختلف عن النصوص التي عرضنا شكلا فقط، دون أن يتخلى عن جوهر مطالبه الأزلية.
... عندما يعمد الشعر إلى السرد، فإنه يقوم باستعارة اصطناعية، تساعده على تحديد الإطار الذي يحدد عناصر موضوعه. ذلك أن الرسام حين يحدد حجم اللوحة، فإنه يحدد تبعا لذلك حجم العناصر التي ستشكل موضوعه. فالإطار فعل تنظيمي للمادة الفنية. به يتحقق فعل الحصر، وبه يتحقق مبدأ الأولويات. إذ لا يمكننا اعتبار المنظر الطبيعي الفاتن عملا فنيا فقط لافتقاره إلى إطار. فإن ألحقنا به إطارا – مهما كانت طبيعة الإطار – فقد حولناه إلى عمل فني. لأن الإطار لمٌّ لشعث الموضوع واختصار له في آن. فليست كل العناصر تصلح لأن تكون طرفا في الموضوع. بل هي على جمالها قد تشوش هذا التنظيم، وتدخل عليه سمة الاكتضاض التي تبدد طاقته، وتستنزف رونقه وماءه. والشعر عندما يعمد إلى السرد يعمد إلى إطار اصطناعي يسعى من خلاله إلى عزل العناصر المشوشة، وتهذيب الشعث، وترتيب المصادفة.(1/44)
... لقد رأينا كيف تحاصر الأسئلة الشاعر في موقفه مع "أبي ريشة"، وكيف يستشعر العجز فيتقهقر متراجعا. وحركة النكوص هذه تنبئ عن عدم وجود الإطار، لا السردي فقط، ولكن الإطار المناسب الذي يسمح للاكتضاض بالتنظيم والتهذيب. فتتعاقب الأسئلة والملاحظات، كل واحدة منها في موقفها الخاص بها، لا تزاحمها فيه أخرى، ولا تشوش صفاءها. وليس خلو الشعر من الإطار عيبا، إنما هو محض اختيار. لأن غرض النص أن تأتي الأسئلة على ذلك النحو لتصدم القارئ، شعثاء غبراء، قلقة مضطربة، صاخبة هامسة.. وفي هذه الفوضى سيمات جمالية لا تنكرها الذائقة. بل قد ترتاح لها ارتياحها للماء الدافق الهدّار، المتكسر على الصخر. وانبساطها للماء الهين الرقراق الذي يخاتل الحصى والعشب.
... وإذا اختار الشاعر إطارا اصطناعيا فلمقصد جديد، يريده لنص الطلل، حتى يتمكن هذا الأخير من سرد حكايته، أو حكاية من حكاياته. وإذا فعل ذلك لم يكن إخلاصه للإطار وشروطه الفنية واجبا حتميا، وإنما يظل إخلاصه لجنسه أولا، يتصرف فيه وفق شروطه فينقلب إلى الإطار يطاوعه حتى ينصاع لمطلب الجنس الأدبي. وهي عملية تدجين لا تخلو من عبقرية التأليف، تجعل الشاعر يقظا على جبهتين: جبهة الشعر، وجبهة السرد. وللأولى هيمنة الجنس، وللثانية إمكانات الرافد المساعد.
2-نص السرد:
يقول "إلياس أبي شبكة":
على ذروة بين أطلال صور
يحيط بها شجر و صخور
يقوم بناء كعش النسور
بناء يرى العابرون عليه
نباتا تراءى على جانبيه
فغطي بعوسجه سدفتيه. (2)(1/45)
عُرف الشعر قديما ملحميا، يروي قصة تطول أحداثها، ويتعاقب عليها الواقعي والعجائبي، في صنيع ممتزج تغيب بينهما الحدود والفواصل، فيقبل العقل والذوق هذا وذاك. وربما يستريح العقل لذلك المزج ويستمرئه مادام مثار لذة تجعل الاحتمال قائما في كل خطوات السرد. ولهذا السبب ما زلنا نقرأ "ألف ليلة وليلة" ولا نسأل أنفسنا عن مصداقية الحدث، ولا عن تاريخية الزمن، ولا عن جغرافية المكان. بل نكتفي بالأسماء على علاّتها، ولا يغنينا البحث فيها. بل تكفي المتعة الناشئة من فعل التخذير الذي يصاحب الأحداث و فجائيتها. وكأننا نستسلم لهدير الكلمات، وهدهدة الأحاسيس البسيطة. وقد استطاع الشعر استيعاب ذلك كله، وحمله أصالة دون أن يتعثر السرد، أو تضيق العبارة. وتلك مطاوعة خاصة تقبلها اللغة الشعرية، وهي تختزل السرد في عبارات يتسع لها الوزن، وتقبلها القافية.
... والمطاوعة تحتاج إلى كثير من الدربة والمران. لأنها تضع على لسان الشاعر قصة السرد، وتحتال لهذا الوضع حتى يجد الفسحة المناسبة التي تستوعب طاقته. وكأن العملية "مطٌّ" للقالب الشعري دون أن يفقد خصائصه البنائية التي هي له أصالة. بل نحسب "المط" و "التمديد" ظاهرة نتوهمها ونحن نقرأ القصة الشعرية، دون أن يكون لها وجود فعلي. وأنها مجرد إحساس غامض يوهمنا به السرد أثناء ملاحقة الحدث.
أ-المدخل القصصي:(1/46)
... لجأ الشاعر على طريقة الرومنسيين إلى تحديد المكان، مادام المكان:” هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث.« (3) والتعرف عليه يموقع القصة في إطار محدد، ويكسبها الوجود الفعلي في الزمان والحيز. وهو عند "إلياس أبي شبكة" مكان مشرف عال، يحيط به الشجر والصخر، إمعانا في المنعة والابتعاد. وهي سمة كل البناءات التي كانت تخشى الغزو والمخاتلة، فتختار من الأرض أحزنها وأرفعها، وتتعلق بها. وكأنها تحاول بإجرائها ذاك أن تضيف إلى حصانة المكان حصانتها الخاصة. وأول ما يوحي به الموقع، ويقابله في صورته المادية عش النسر مشابهة. بيد أنه البناء الذي لا يستوقف العابر إلاّ ريثما يلاحظ العوسج الذي يحيط به.
... إننا إذا جمعنا عناصر الصورة داخل الإطار الذي حدده الشاعر للرؤية، لم نجد إلاّ عناصر قليلة تمّ اختيارها لتطغى على غيرها، وتؤدي من ثم وظيفتين على الأقل: وظيفة الإخبار، ووظيفة التصوير.(4) وقد يكون الإخبار إخبارا صرفا كالذي نصادفه في البيت الأول، أو تصويرا عندما يستند الخبر إلى التشبيه، أو الكناية، أو الاستعارة. وإذا استثنينا التشبيه أمكننا رد السرد كله إلى الوظيفة الإخبارية الصرفة، التي يناط بها دور تحضير المتلقي لاستقبال القصة.(1/47)
... لقد رأى "غريماس" للسرد مستويين:» مستوى ظاهري، أو صريح النص، والمستوى الثاني، الذي هو قاسم باطني و بنيوي مشترك.«(5) فإذا وزعنا وحدات السرد على المستويين، خرجنا بنصين متداخلين/ منفصلين..صريح النص الذي يعرض مكانا مشرفا عاليا، قد غزته الأشواك وسدّت سدفتيه. ونص باطني يعرض المكان كعش النسر، لا يستوقف العابرين إلاّ ريثما يلاحظون خلوه ووحشته. وتراكب النصين في نسق واحد، يثير لدى المتلقي سلسلة من الأسئلة التي تتجاوز مظهرية المكان إلى مخبريته. فتتلاشى معالمه من مقدمة الاهتمام ليغوص النظر بعدها في أغوار الطلل.مستكشفا تجاور المنعة والوحشة، الحصانة والخراب، الحياة والموت. وكأن هذا التنافر الصريح، لا يستقيم معه ذاك التجاور، إلاّ لعلل لا تظهر للعيان أبدا.ولو ظهرت جلية لشدّ تناقضها العابرين.
... إن تراكب النصين – الصريح والباطني – اللذين تحدث عنهما "غريماس" لا شك سيولد التنافذ الحاصل بينهما نصا ثالثا، هو نتاج التمازج الكلي بين عناصر التكوين السردي: من إخبار، وتصوير وظيفةً، إلى صريح وباطني شكلا وبنيةً. إن الشاعر- وهو يدرج التشبيه ضمن الخبر – يحدث في بنية السرد شرخا تتمدد من خلاله أسئلة تتجاوز نص السرد جملة وتفصيلا، وترتفع إلى حقيقة الطلل، مستشرفة قصته، متطلعة خبره، قبل أن تباشره القراءة بعدُ.
... لقد زعم بعض النقاد أن القراءة أحداث مجزأة. ومعنى التجزئة فيها، أننا نقرأ أولا ثم نؤول ثانيا..وذلك وهم مردود، لأن القراءة – وهي تقتحم صلب النص- تقدم التأويل ليفتح أمامها مسالك النص، جملة جملة. وإلاّ لتعذر على القراءة مواصلة فعلها. فالقراءة تأويل مستمر يقتحم النص من أول حرف، إذ هو الذي يعطي للتلقي وجهته، وكثافته، ويحدد مقاصده.(6)(1/48)
... ولا تتحقق القيمة التعبيرية للأثر- حسب جون ديوي- إلاّ من خلال:» التنافذ الكلي للمواد في المرحلة الساكنة ( النص) إلى المرحلة النشطة ( القراءة) وهذه الأخيرة تتضمن إعادة تنظيم كلي للمواد، مدعومة بتجاربنا السابقة. وأن القيمة التعبيرية للنص هي رمز نشاط الانصهار الكلي لما نجد، وما يقدمه لنا إدراكنا اليقظ، وما ينضاف إلينا من معنى.«(7) وكأني بالتنافذ الحاصل بين السكون والنشاط – النص والقراءة – هو العملية التأويلية ذاتها، وقد جزّء طرفاها الإخباري والتصويري عند الأسلوبيين، أو الصريح والباطن عند السيميائيين. وهي تسميات – وإن اختلفت في الاصطلاح – إلاّ أنها تتفق في الغاية المنشودة. والمدخل الذي عرضه الشاعر تسمح عناصره اللغوية بتمييز المستويين تمييزا واضحا أسلوبيا على الأقل. كما تسمح القراءة باستكشاف القيمة التعبيرية التي تنبثق عن انصهار الساكن في المتحرك.
ب-موقف السارد:
... إن استفادة الطلل من هذا الفهم، يتيح للمدخل القصصي أداء وظيفته رغم اقتصاده اللغوي. كما يتيح التقابل بين عناصر الظاهر:( المنعة، الحصانة، الشوك)، وعناصر الباطن : ( الوحشة، الخراب، الموت ) إجراء سلسلة من القراءات التشاكلية، والتقابلية لاستنباط العلاقات السيميائية التي تربط الظاهر بالباطن. وتتيح من جهة أخرى تحويل النص إلى حقل من الرمز التي تتجاوز إخبارية اللغة إلى فضاء المعنى المحتمل الدفين، كما تمكن السائل المستفسر من طرح أسئلته الملحاحة على الطلل..
... ثم يستمر السرد هينا يقول:
كرمس قديم لمين وزور
تكلل بالشوك لا بالزهور
طلاه الظلام بلون دجاه
لكثرة ما لامسته خطاه
ومرّ عليه الضيا فطلاه
كأني به برج جن وحور
تردد بين ظلام و نور.(1/49)
تتراجع الوظيفة الإخبارية بفعل وجود "كاف" التشبيه، فاسحة المجال أمام وظيفة التصوير. فينقلب النص ظاهرا لباطن مقدما لغة مترددة، متعثرة بين متقابلات، يتوكأ على ثنائية تشده إلى طرفين: ظلمة ونور/ خير وشر. إن الطلل وهو يجسد هذه الثنائية، يستعيد من خلال هيئته تلك، أصل الفكر الديني القديم عند الشعوب البائدة، فيشطر العالم إلى شطرين :ظلام ونور/ خير وشر. ويقيم الحياة على مبدأ الصراع بينهما سجالا. إذ يملك كل واحد منهما أسباب القوة والغلبة، والقهر. وقبل هذا يحدد الشاعر موقفه تحديدا يذكرنا بعامل "الانفصال" الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق. إذ هو يعاين الطلل خارج حيز "الاشتمال" و "الاستلاب" فلا يرى فيه آية عظمة وجلال، وإنما شارة مين وزور.(1/50)
... إن الرومنسي لا تخدعه عظمة البناء، فهي عنده عنوان استعباد وقهر. والطلل الواقف أمامه لا يوحي هموده إلاّ بالموت والرمس. حتى وإن كانت "الكاف" للمفارقة والاختلاف، تقف حاجزا بين المشبه والمشبه به، وتمنع تداخلهما عكس ما تقتضيه الاستعارة. وهي من جهة ثانية رمز شخوص العقل وحضوره. فالطلل ليس رمسا وإنما هو كالرمس، والذي يعطيه قابلية احتواء الثنائية، هو تذبذب اللغة بين طرفي حقيقته. والملفت في السرد – هنا – أن نصيب الظلام أوفر من نصيب الضياء، والتأكيد عليه واضح في البدء بالظلام قبل النور.. هل كان لون حجارته باعثا على ذلك الاختيار ؟ هل كان موقف الشاعر من الطلل سبب ذلك السبق ؟ إن اختيار الاحتمال الأول لا يؤكده شيء في النص، وإن كانت غالبية الصخر تميل إلى السواد نظرا لطبيعة تكوينها الجيولوجي، ونظرا لما يعتريها من عوامل المناخ المتقلب. وربما لا يرى العابر أول وهلة سوى كتلة حجرية تميل إلى السواد فيعلق بذهنه هذا اللون قبل غيره! بيد أنها ملاحظة سطحية لما نعلم ما للون من دلالة. والسواد في هذا الموقف، سمة لا بد من قراءتها في حقل الدلالة التي تشيعها العناصر الأخرى المجاورة لها في النسق الشعري كالمين، والزور، والشوك. وكأن الطلل شاهد – عبر الزمان – على ذلك الصراع من جهة، وعلى ضرورة وجود الثنائيات الضدية في الحياة من جهة أخرى. إنه في هذا الموقف يفصح عن شيء رهيب : إذ لا وجود للوسطية في هذه الدنيا.. يأتي الظلام ثم يأتي الضياء، يتداولان، لكل واحد منهما عالمه الخاص وقيمه الخاصة. ثم يتراجع محكوما بدورة الفلك القاهر، ليحل محله الثاني، وهكذا دواليك. ذلك ما يفسر قول "إلياس أبي شبكة":
كأني به برج جن وحور
تردد بين ظلام ونور.(1/51)
ولا يزال الشاعر يصر على تقديم عالم الظلام ويخصص أهله، وعالم النور ويحدد أهله: جن وحور. إن العالم شطران : جن وحور/ ظلام ونور. ولا مكانة للإنسان بينهما، إنه مقصى، أو هو مجرد تابع لواحد منهما، مجبور على اتباع قيمه وتصوراته.
ج-فاعلية التشخيص:
... وقفت محاولات الشعراء لاستنطاق الطلل عاجزة أمام صمته الرهيب الكئيب، وأرهفت السمع لالتقاط أخفت الذبذبات، ثم تراجعت مكتفية بالتخمين والظن، مرددة أسئلتها لعلها تجد جوابا في مستقبل الأيام. ولم نجد شاعرا أجرى حوار مع المكان في بضع من الأبيات إلاّ "ابن خفاجة الأندلسي" في وقفته أمام الجبل، حين أجرى بعض تأملاته على لسانه وقد حوّله إلى شيخ وقور، ناسك، معمم بالبياض. وذلك مسلك تشخيص أثير في الشعر العربي القديم. استعمله الشعراء كلما أحسوا بضرورة المحاورة والتخاطب، وإضفاء الحياة على الجماد. ولم يفت السرد مثل هذا الصنيع. ولكنه التشخيص الذي لا يلجأ إلى الحوار، بل إلى الحركة. فينقلب المشخّص إلى كائن يحيا حياة خاصة، تتولاه المخيلة وصفا، مركزة على بعض هيئاته وأحواله.(1/52)
... إن التشخيص في أبسط تعريف له يتمثل:» في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. هذه الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانية.. تهب لهذه الأشياء عواطف آدمية، وخلجات إنسانية.«(8) وكأن التشخيص حركة تحويلية ذات مدرج واحد فقط، ترتقي بالجامد إلى الحي لغاية تعبيرية، ثم تتوقف عند هذا الحد من الجهد والاجتهاد. غير أن الصورة الناشئة عن هذا الارتقاء، لم تعد ملكا للتشخيص ولا حكرا عليه. فالتشخيص عملية وحسب، إنها تقنية تخضع لتحويل رمزي معين. فإذا تمت على الوجه السليم، استحالت "صورة". وقد درج البعض على اختزال الصورة في الاستعارة من حيث الجوهر. بيد أن الصورة تكوين آخر أكثر تعقيدا مما يتصور حين تقرن بالاستعارة. ذلك أن الصورة تشكيل للعناصر المنظورة والمحسوسة في إطار محدد، وفق رؤية خاصة، ومسافة مدروسة، لغاية تعبيرية تتجاوز الأسلبة إلى فضاء المعنى.
... إن الصورة وهي تقوم على التشكيل، تخضع أولا لهندسة مبيتة خدمة لمقصد بعيد. فهي من هذه الناحية "عمل واع بهدفه" ذلك هو التعريف الذي قدمه "سانتايانا" للفن.(9) ومن شأن الوعي في الحركة التصويرية أن يضيق من منافذ الخيال أولا، حتى يسمح للصورة بترتيب عناصرها ترتيبا واعيا بالأولويات والأسبقيات، ثم يفتح منافذ الخيال ليصبغ الصورة بصبغتها الخاصة.(1/53)
... أعلم أنني حين أقدم المسألة على هذا النحو، أقوم بتجزئة العملية الإبداعية، وهو أمر مردود في حقيقة النشاط الفني، ولكننا حين نقف على خطاطات الرسم التي أنجزها الرسامون قبل اللوحة النهائية،نتفطن إلى كثير من العناصر، وقد تحركت من أمكنتها، أو تزحزحت إلى الخلفية، وتقدمت أخرى. وكثير من الظلال غابت، أو شعّ فيها النور.. ولو عُرضت علينا محاولة من المحاولات لسلمنا أنها اللوحة النهائية، ولما وجدنا فيها خللا. ولكن عين الفنان وجدت ما لم نجده، فقدمت وأخرت..إن عرض سلسلة المحاولات مرقمة تدريجيا إلى جنب اللوحة المنتهية هو أكبر درس في الفن تعجز عنه محاضرات النقاد. وهو الذي يؤكد حضور الوعي و سيطرته على الإبداع.(10)
... وعندما يلجأ الشاعر إلى التشخيص، لا يفعل ذلك طلبا لخلع الحياة على الجماد وحسب، وإنما لخلق صورة. لا يقف القصد عندها هي الأخرى، بل الصورة "تكتيل" تعبيري من نوع خاص، تتعامد فيه حركتان:
... ... الإيقاع ... ... ... النسق:
الدلالة المعنوية.
اللغة.
السياق:
الأبعاد. الإطار. الترابط ... ... الزاوية. ... التكامل.
... ... ... الظلال.
... ... ... الأسلوب.
... ... ... الإيحاء.
... ليس التعامد مجرد تقاطع بين نسق الصورة و سياقها الخاص، وإنما نريد من التعامد أن يحمل جملة العلاقات الناشئة من تقاطع كل العناصر فيما بينها. كأن نأخذ مثلا تقاطع الزاوية والإيحاء، مادامت الزاوية تحدد جهة النظر واتجاهه، والإيحاء يحدد الوجه الذي تعرضه الصورة للزاوية، وكلما تحرك محور الزاوية، تحرك معه لون الإيحاء. لذلك نحصل على سلسلة من الإيحاءات بمجرد أن نتحرك من نقطة إلى أخرى. ولا تنتهي العلاقة عند هذه الثنائية، بل ترتبط مع غيرها. فإذا أضفنا إليهما اللغة، أو الأسلوب، أخرجنا الإيحاء من حالة الكمون الغامض إلى حالة التعبير البيّن.وتتعدد التعابير بعدد النقاط المتحركة على محور الزاوية وحدها، فما بالنا بالعناصر جميعها دفعة واحدة!(1/54)
... إن هذا الفهم يجعل الصورة عالما متحركا، تتعذر الإحاطة به كلية في جملته، لأنه خاضع من ناحية خارجية إلى المتلقي سنا، وثقافة، وعصرا، وذوقا.. وكلما عددت القراء فأنت تعدد عطائية الصورة، وقدرتها على التعبير. لذلك يجوز لنا أن نزعم الآن أن معنى الصورة يقع دوما خارجها، في نقطة ما على المسافة الفاصلة بين الصورة و التلقي.تلك المسافة يحدد طولها وقصرها عاملا الانفصال والاتصال اللذين أشرنا إليهما من قبل.
... قال "إلياس أبي شبكة":
إذا النور لوّنه في السحر
ومدّ عليه ظلال الحور
تراءى كطيف خلال الشجر
أتى من دياميسه ليزور
بقايا تلك البدور.
... *
وحين يسيل اصفرار المغيب
على جانبيه بشكل كئيب
يبين كهيكل عظم مريب
أبى أن توسده في القبور
غداة تمرد أيدي الدهور.
... إن الشاعر لا يكتفي بصورة واحدة، إنه مسكون بشطر الطلل إلى نصفين.. ظلام ونور. لذلك يقدم صورتين متواليتين: يجعل الأولى قائمة على شرط "إذا"، ويجعل الثانية ملكا لدورة الزمن. ولا أحسب ذلك منه عبثا لغويا، و تلوينا في استعمال الأدوات.. وإذا نظرنا إليه من زاوية غلبة الظلام على النور في موضوع الطلل، تبين لنا أن الشرط الأول ضروري لبيان حقيقة الصورة. إنها لا تتحقق دائما، بل شريطة أن يغشاه النور. فإذا حدث ذلك، فلا نظن أن الظلام سيتراجع كلية، بل سيخفت وقعه إلى حين. فهو قابع في الجيوب لا يزال يلون أطرافها. و"ظلال الحور" خليط بياض وسواد، لأن النور والضياء لم يتحققا جهارا بعدُ. إنها زمنية السَّحَر، وغبش الضياء والظلام.(1/55)
... ربما كان الشاعر الرومنسي لا يزال مأخوذا بأوقات خاصة من الليل والنهار، لها في نفسه الوقع الحزين، كما لها من فكره توالي الميلاد والموت. ساعة السحَر، وساعة المغيب. وهما الساعتان اللتان استأثرتا بالشعر الرومنسي لما فيهما من دلالة الكتابة والمحو، وتتساوى فيهما لذة الميلاد ولوعة الفراق. إن الطلل وهو يتلون بالنور، لا يغدو بيِّن القسمات، واضح المعالم، كما ننتظر من فعل الإضاءة والتلوين، وإنما يظل حبيس الطيف الذي يلمّ ليلا أو سحرا. خرج لتوِّه من دياميس الليل البهيم، ليطل إطلالة خفيفة على الذراري ثم يعود. إنها اللحظة "المشرقة" في وجه الطلل. يذرع فيها عالمه المجهول ليزور. وحين يأتي المغيب – وهو آت حتما، لا شرط للشاعر في ذلك – تبدأ حركة أخرى.
... كان "التلوين" علامة على الصورة الأولى، وفيه من لطافة المسح والرفق ما فيه. وصار "السيلان" شارة للثانية، وفيه من الشدة ما فيه. سيلان اصفرار كئيب يسيل على جانبيه. وهي حركة فيها كثير من القوة الدلالية التي تلاحقها العين، والاصفرار الكئيب يغمر المكان. يلطِّخه من كل ناحية.إنه اصفرار يتحول تدريجيا – حين يخالطه الغسق – إلى احمرار إلى سواد.. فعل الصديد و النجيع الذي يثع من الجرح الفاسد. ثم يختار الشاعر للمشخَّص لفظا جديدا يقابل ( تراءى) في الصورة الأولى، والذي يقدم بين يديه عدم اليقين.. قد يكون أو لا يكون.. إنه لفظ "يبين" وفيه من قوة الوضوح ما يجعل الصورة الثانية حقيقة واقعة لا خيالا. إن الشاعر يبصره الساعة هيكلا عظميا مريبا على الحقيقة، لا على سبيل المجاز.(1/56)
... عندما ندعي ذلك، ونرفض المجاز في الصورة الفنية، لا نفعل ذلك عبثا باللغة، وإنما نلجأ إلى واقعية "الذهول" – التي أشرنا إليها من قبل – فالذهول حالة ضبابية تتكسر فيها الحدود والمعالم، وتغيب المسافات، وتأخذ الأشكال أحجاما ليست لها أصالة. وما يشاهده الرائي في غمرة الذهول، ليس تخيُّلا – بمعنى التحويل الفني – ولكن حقيقة فنية، تغاير الحقيقة الواقعية. لأنها لا تنتمي إلى عالمها، ولا إلى مجالها.. مجال الأولى الشخوص، ومجال الثانية الذهول. والبصر بينهما في شؤون شتى. فإذا شخص البصر كان حديدا، وإذا ذهل كان غائما مائجا. والبيان الذي يتحدث عنه الشاعر بيان من نوع خاص.. إنه بيان الذهول، وحقيقته حقيقة الفن.
... "هيكل عظمي، يأبى أن يوسد التراب" ذلك هو الطلل في عين الشاعر الذاهلة. لقد عزلت العالم الخارجي عزلا تاما. ولم يعد أمامها سوى الطلل في صراعه مع الدهر..يأبى..يرفض، يتمرد. هل في ذلك تشبث بالحياة والبقاء ؟ هل هو مجرد عناد ؟ الفناء محبب عند الرومنسيين، لأنه آية خلاص وانعتاق. هل يجد الشاعر في عناد الطلل شكلا آخر من أشكال المين والزور ؟ شكلا آخر للكبرياء الكاذب، والتطاول المريب ؟ لو رضي بالقضاء لكان رمسا.. قبرا.. ولكن بقاءه يسجنه في هيئتين سجنا مؤبدا: هيئة الطيف المترائي، وهيئة الهيكل العظمي المريب. "حجر سيزيف" أبدا يتدحرج ليعيد الكرة ! وأي شقاوة أكبر من عود أبدي لا رجاء فيه ولا طائل !
... إن "فكرة الشقاء والشقي" ما تزال حية، تمتد من الطلل إلى الواقف عليه، وكأن آية السحر تنطلي على الساحر، فيغدو مسحورا بدوره. وشقاوة الواقف في إثارة مثل هذه الصور الكئيبة. كذلك لم يكن الشعر الرومنسي ليمارس بلذة ومتعة، وإنما كان يُنتَزَعُ من الذات انتزاعا مؤلما، يبددها إربا إربا.وكأنه انتقام منها لأنها اختارت البوح بالمستور، وكشف المكنون.
د- فاعلية الازدواج:(1/57)
... يمضي السرد سريعا، حين يتخلص من الصورة، يقفز عبر الزمان والمكان، يلملم أطراف الحكاية. يقول "إلياس أبي شبكة":
... فاصغ لنسأل عنه الصخور
... أللحب شُيّد، أم للشرور ؟
... أيا سائل الصخر عن جاره
... دع الصخر ينطق بأخباره
... فليس ضنينا بأسراره. !
يمثل الصخر – صخر الطلل – الحاجز الأول الذي تتكسر عليه نصال الغزو، فيتقهقر الشاعر، لأنه لا يملك أداة تقهر صلابته، وتفتح مغاليقه. لقد تراجع كثير من الشعراء عند هذه العقبة. انصرف الشاعر الجاهلي،و الإسلامي القديم، وحاول آخرون إجراء حوار من خلال فاعلية التشخيص. واختار شاعرنا سبيل السرد، ليتولى بنفسه رواية أسرار الصخر. إنها قفزة من شأنها إزالة عقبة الصمت. لا يغنينا معرفة كيفها في شيء. لقد حدثت فقط. وحديثها يقول:
... بناه الجلال وشيد مجده
... وقد كان عهد الجبابر عهده
... وكان الزمان المسود عبده
... تنار الليالي بأنواره
... وتزهى بأعياده سمّاره
*
... بنته يد الفاتحين الألى
... أهابوا بفنيقيا للعلى
... فأمسى شعبها بهم الأول
... يقود الزمان بأبصاره
... ويسجده تحت أسواره
... *
... وكانت أميرته يوم كان
... أمير القصور بذاك الزمان
... كحورية من عذارى الجنان
... معطّرة مثل أشجاره
... بدهن اللبان وأسحاره
... *
2- وهبت على القصر ريح سموم
... ذرت منه أنوار تلك النجوم
... كما ذرت النار شعب سدوم
... لم يبق من مجد آثاره
... سوى غرفات لتذكاره
... ترى البوم يخلف أربابها
... و يقتحم النتن أبوابها
... و يفترش السوس أخشابها
... *
... كشعب تخلى لأشراره
... فقام الدمار لإنذاره
... لقد سلطت فوهات الجحيم
... على صور سخطا عظيم
... كنار يهوذا و أورشليم
... *
3- ... وأبقى الزمان بأسفاره
... من المجد ذكرى لزواره.
ه- فاعلية العرض:(1/58)
... إن خضوع الفكرة لهندسة العرض، أمر خطير في مجال المعنى. وإذا كنا نهمل العرض وهندسته، فإننا – حتما – سنهمل الشطر الفني الأكثر فاعلية وتأثيرا في البناء الفني العام للنص. لأن العرض الدقيق البارع قد يستر كثيرا من التخون و النقص الذي يعتري الفكرة. ألا ترى أن عرض السلع أدعى إلى إغراء المشتري، وحثه على الإقبال عليها ؟ إن اختيار الشاعر سبيل التقابل بين الصورتين: الإشراق والتعتيم. الظلام والنور، يخدم الفكرة التي أنشأها للطلل.
... قسم الشاعر حديث الصخور إلى قسمين، وبدأ وفقا لحتمية الزمن بالميلاد والازدهار. ثم أعقبه بالموت والاندثار، مؤكدا قضاء الدهر في الموجودات كلها، في أدق عناصرها، كما يشهده أجلها وجليلها. والجديد الذي يضاف إلى هذه الحقيقة لا يتصل بدورة الأفلاك والمقادير، بل يتصل بالمعاني المنبثقة عنها، والتي تجعل التجبر ينتهي إلى ذل، والفتح إلى هزيمة، والعبودية إلى تمرد، والأنس إلى فراق، والجمال إلى قبح، والقوة إلى ضعف.. وما أشنع أن نرى آية الصلابة والقوة ينخرها سوس ودود !وما أفظع أن نجد العطر يتحول إلى نتن. بيد أن للتحول أسراره. هل يحق لنا أن نطمع في استدامة الصلاح ؟ هل ذلك ممكن ؟ أم أن سلطان الفساد في استفحال مستمر.؟
... نظريا نعم ! إذا قطعنا دابر الفساد.. الفساد سم زعاف يدب في عروق الصلابة والمتانة. وإذا خنعنا، وقنعنا بالأذى والشرور، فقد حكمنا على الصلاح بالزوال.. ونكون "كشعب تخلى لأشراره" وعاقبة ذلك التخلي دمار يشبه دمار "سادوم" حين جعل الله عز وجل عاليها سافلها وأمطرها حجارة ونارا. لن يكون الدمار قضاء مبرما لا مفرّ منه مع الصلاح والاستقامة.. هناك منطقة وسطى بين هذا وذاك يتجاذبها على مرّ السنين شدّ وإرخاء، يمكن الحياة من الاستمرار. أما أن يترك الأمر لغير أهله، فذلك آذان بالزوال الوشيك. وذلك هو الدرس الرومنسي في موضوعة الطلل.(1/59)
... لقد اختار الشاعر قفلا للسرد. تركه الزمان للعابرين، ليرفع الطلل من حالاته تلك، إلى العظة، إلى الذكرى، إلى الدرس، الذي لا يمل الطلل من ترديده .
((
هوامش:
1-أنظر.ألبيرس. تاريخ الرواية الحديثة. ص:7.
2-إيليا الحاوي. إلياس أبي شبكة.ص:108.
3-أحمد سيزا قاسم. بناء الرواية.ص:76.
4-جوزيف ميشال شريم.دليل الدراسات الأسلوبية.ص:17.
5-سمير المرزوقي وجميل شاكر.مدخل إلى نظرية القصة.ص:113.
6-أنظر ميشال أوتان.سيميائية القراءة.
7-U. Eco.L’oeuvre ouverte. P.46.
8-سيد قطب. النقد الأدبي. ص:61.
9-جيروم ستولنيتز. النقد الفني.ص: 131.
10-Stéfan Zweig. Le secret de la création artistique.in. Derniers messages.p : 101.
(((
موضوعة الجبل.1.
الإطار المعرفي لموضوعة الجبل.
- تقديم.
- الإطار الخرافي/الأسطوري
- الإطار الديني.
- الإطار الفني.
الفصل الرابع:
... ... الأطر المعرفية لموضوعة الجبل
1-تقديم
... إذا كانت الدراسات الاجتماعية الوضعية، قد وضعت يدها على "المكان" "وسطا" باعتباره عاملا فعالا في تشكيل البنيات الذهنية، والخصائص الجنسية، ورامت دراسته من منظور علمي، فعددت أشكاله: بدائي، ريفي، حضري، مدنيّة، معمل، سجن.. محاولة إيجاد مبادئ للتحول الاجتماعي والأخلاقي في العينات المدروسة، فإن الجمالية استقطبت "المكان""حيزا" أو "فضاء" لتنقّب فيه عن مشكّلات الفضاء المادية والمعنوية. خاصة وأن الوضعية استهوت لفيفا معتبرا من الأدباء الروائيين، استخدموا دقة الوصف والتصوير لنقل "المكان" الاجتماعي وأشكاله إلى فضاء اللغة. حتى غدت الروايات "سجونا" و"محتشدات" و"شقق"و"مناجم"(1/60)
... لقد بدأ العملية "بلزاك""BALZAC" وأتمها "زولا""ZOLA" ولم يكن النقل الفني نقلا "فتوغرافيا" كالذي يشهده علم الاجتماع الوضعي، وإنما كان إبداعا يعترف به الوضعيون أنفسهم. فقد أعلن "تين":» أنه من المستحيل في الفن أن ننقل المعطيات كما هي، وأنه على الفنان أن يختار، وأن يغير، في الحقيقة الواقعية«(1). وقد يحمل الاعتراف خصوصية يقرها الوضعيون للفن، تحاول "الجماليات" و "علم الجمال" تداركها، حين يعطي للمكان و تشكيلاته المختلفة أبعادا "إستطيقية" تضفي على الأثر الفني دلالات معرفية وفنية .
... لقد تحول "البصري" في الكتابات الجديدة إلى بعد تحسب له الدراسات النقدية، والقراءة حسابه.إذ تُحمّله القصدية التأليفية دلالة ما، ورؤية خاصة للأشياء. و تتبع انحناءاته وانكساراته. لقد عدت "المعرفة المكانية" شرطا ضروريا لأدراك جماليات المكان في النص الإبداعي. واستثيرت الحواس جميعها لالتقاط هذا المعطى الجديد في الكتابة. كما أضحى "للموضوعة" "THEME" المكانية معرفتها الخاصة، والتي تشكل مرجعيتها المعرفية. فتشحنها بالمعاني المختلفة، بحسب وجهة الاستعمال وإرادة التوظيف. ف"الموضوعة" "تاريخا" جرم مشحون بالمعطيات المترسبة خلال الأزمنة. تترادف بداخلها الحقائق والخرافات، فتتشظى فيها الدلالة بحسب النسق الفني الذي تدرج فيه.
... وقد اخترنا "موضوعة الجبل" في شعر "مفدي زكرياء" الثوري، ونحن ندرك ما تثيره هذه الموضوعة في نفس المتلقي ابتداء إذا ما قرنت بالثورة الجزائرية التحريرية. ولكننا نحاول قبل رصد السيمات الجمالية فيها، الكشف عن "المعرفة المكانية" التي تحبل بها الموضوعة في الذهن العربي الإسلامي، حتى تطلّ علينا بثقلها التاريخي و الثقافي وقد اغتنت بكل الإيحاءات التي يتلبّسها الشعر عند الإشارة والرمز .. وكل شاعر يستند-في هذا- إلى الضمير الجمعي الذي شكّله الدين، والثقافة، والتاريخ المشترك.
2- الإطار الخرافي/الأسطوري:(1/61)
... الجبل.. مكان للضياع والفقد.. الجبل.. ارتفاع وحاجز ونهاية.. لقد عمدت القصة الخرافية، والقصة الشعبية إلى استعمال "الجبل" لواحد من هذه المعاني، بعد إحاطته بهالة من الضبابية و عدم التحديد. تبث فيه الروائح والأصوات، من همهمة وهمس وهدير.. وكل لغط غامض و غريب. وهي في سعيها ذاك تراعي – ابتداء- عاملا نفسيا مركوزا في المتلقي الذي تمتلئ نفسه فرقا مما يسمع، ومما يرتسم على وجه "الحاكي " من تعابير تهوّل الوصف، وتنفخ فيه الأصوات، وتبث فيه الحركات.
... فإذا كان "الضياع" مقصدا للسارد، كان الجبل وعرا، متشابك الأدغال، تتعثر دروبه هبوطا وصعودا، تعمرها أصوات بعيدة متوعدة، وحشرجات قريبة مخيفة. وكأن كل خطوة فيه مزلق من مزالق الهلاك. لأن مثل هذا الوصف يكثّف الإحساس بالضياع والفقد، وغالبا ما يكون ليلا.
... أما "الارتفاع" و"الحاجز" و"النهاية" و"المنعة" فمعايير يدرجها الحاكي نهارا،لأنها معايير بصرية، يدركها المتلقي من خلال الوصف المبالغ فيه، والذي يجعلها تسد وجه السماء، وترتفع لتغيب خلف الغيوم. فكل شيء فيها ضخم كبير، تمتلئ النفس منه رهبة. فهي أوصاف تدرك عن بعد، خلاف جبل الضياع الذي يدرك عن قرب. وفي كلا الموقفين استناد إلى العامل النفسي التخييلي الذي يستعيد ترتيب الصور التي يبثها الحاكي، ويضخمها بدوره حتى تبلغ أبعادا خيالية. ولا يكون معنى "النهاية" حقيقة عينية إلاّ إذا أدرك عن مبعدة. فالمسافة هي التي تحدد طول الامتداد، وعلو الارتفاع.(1/62)
... لقد استعملت الخرافة هذا النمط من الوصف، وتأرجحت بين الطرفين : البعد والقرب، واستطاعت أن تبرز المعاني التي قصدتها من وراء إغراق المتلقي داخل عتمة الجبل، أو من وراء شده مشدوها عن بعد إلى ضخامته. فإذا استعرضنا الأوصاف التي ملأت أقاصيص "ألف ليلة وليلة"ألفينا هذا النمط من المكان : ».. الملعون، أو المسحور، أو الخرافي،ليس عجيبا خارقا فحسب، إنما كان شريرا. لم تكن سفينة تمر بالقرب منه إلاّ وكان يصيبها من شرّه المستطير، فتتمزق أجزاؤها، وتتساقط ألواحها، وتتطاير مساميرها نحو الجبل الملعون. وما ذاك إلاّ بحكم الجاذبية الشديدة التي كانت العفاريت العاتية جعلتها فيه لتخويف الإنس. «(2) وكأنه مكان للضياع والفقد والموت والتلاشي، حين تتحول المراكب على جنباته إلى ألواح عائمة وقد تفككت دُسُرها.. وتزداد غرابة المكان قوة حين تحل به الأرواح الشريرة من جن وعفاريت، وهي تتلذذ بهلاك البحارة. وهو مكان لا يلاقونه مصادفة في طرق المغامرة، وإنما يساقون إليه قسرا حين تندفع بهم الأمواج نحوه بشدة هائلة.
... لقد أدركت القصة الخرافية ما للمكان من سحر، فراحت تصف القصور والبحار والبساتين، والصحارى، والجبال. بل أضحى بعضها ذا شهرة يعلمها الخاص والعام، تجري على الألسن دلالة على الاستحالة و الاستغراب. وذلك شأن "جبل قاف" وهو الذي : »يذكر رمزا للبعد الهائل من جهة، والاستحالة عليه من جهة أخراة. «(3) ويذهب "عبد الملك مرتاض" إلى أن جبل "قاف" يتردد كثيرا في أحاديث الأولياء و الصالحين ورجال التصوف.(4) وقد تؤول شهرة هذا الجبل إلى التحدي الذي يقترن بشرط تجاوز هذا الأفق "ولو في جبل قاف" "وراء جبل قاف" وكأنه علامة تقع على تخوم الأرض وحدودها. فكل تجاوز له إنما هو من قبيل خوارق الجن و العفاريت.(1/63)
... وربما عملت دلالة "الحد" "LIMITE" و "النهاية" "FIN" في عدم وجود أوصاف لهذا الجبل يتداولها القص الشعبي، وإنما الجبل -هنا- حد ونهاية فقط. ودلالته على البعد المفرط أو الاستحالة البعيدة. لذلك تجاهلت الخرافة وصفه، وكأنه حدّ لم يصل إليه أحد من الإنس ليخبر عنه. ونستطيع أن نعتقد أن وصف الجبل عن قرب في- القصص الخرافي – و تتبع مسالكه وشعابه، وأدغاله ووحشته، إنما هو في القص وسيلة للتعبير عن الضياع والهلكة. وما أساليب التهويل في القص و الوصف إلاّ إمعان في بث الخوف والفزع في نفس المتلقي، حين يستيقن ضياع بطل القصة وهلاكه الوشيك.. وكلما كان التهويل أخّاذا حيا مسكونا بروح شريرة لا يسلم منها أحد.
... كما أن وصف الجبل عن بعد، لم يكن إلاّ للتعبير عن المنعة و الحد و النهاية. وفي هذه الحالة يتعمد القص أسلوب التضخيم – في مقابل التهويل- حتى يغدو الجبل نهاية حقا للوجود المكاني. وقد استطاعت الخرافة أن توهم المتلقي أنها فعلا قد أقامت حدودا للمعمورة من خلال هذه السلاسل الممتدة من الجبال.(1/64)
... لم تكن الخرافة قصصا تروى أمام جموع مشدوهة، ترتعد فرائصها من الخوف، أمام نار متأججة مساء، كما يتبادر للأذهان أول وهلة. وإنما كانت أكثر من ذلك، فهي مصدر المعرفة البدائية، لأنها في جوهرها جماع: »الأفكار والممارسات و العادات التي لا تستند إلى تبرير علمي (ولكن) الذهنية الخرافية هي التي تسيطر على الفرد و الجماعة، بحيث يكون للخرافة فيها مكان بارز، سواء في نقل المعلومات وتمثيلها، وفي تفسير الأحداث وتعليلها. «(5)وذلك حين يشيع جو من الإيمان و اليقين في المرويات التي تجيب عن الأسئلة المكبوتة في نفوس الجماعة. فالخرافة :” مجازا علم ما قبل التاريخ، أو هي الإرهاصات الأولى لتفسير الوجود وعقلنة أحداثه. «(6) وقد عمدت العقلنة الخرافية إلى تسمية المكان الخرافي "جبل قاف" "واق واق" وحددت مواقعه "شمالاً" و"جنوبا" وكأنها تحاول أن تعطيه ما للمكان الجغرافي من وجود و حقيقة، بعدما استخدمته لغايات "فنية" أخرى.
3- الإطار الديني:(1/65)
... يتعامل القرآن الكريم مع المكان – تعامله مع كل شيء- على وجه الحقيقة، فلا مجال فيه لما هو متخيل، بيد أن المكان القرآني خلاف غيره، يتمتع بجملة من الخصائص التي تكسبه سمة مميزة. فليس القرآن الكريم كتاب جغرافيا، وإن كثر فيه الحديث عن الأقوام البائدة وبعض أماكنها ك"الأحقاف" و"الحجر" و"مصر" و"سبأ" و"مدين" و"بابل", "مكة" و"المدينة".. وهو ذكر يرد لتلاحمه مع الأحداث وارتباطه بها. وكأن في تحديده بياناً لأهمية المكان في ذلك الموقف بالذات. حتى تكتمل الغاية وراء إيراد الخبر، وتفصيله. فقد عرض الله - عز وجل - في قصة "يوسف" - عليه السلام - مكانا واحدا "معلوما""مصر" وأبهم الأماكن الأخرى لقلة أهميتها بالنسبة للحدث عامة، و بالنسبة للغاية التربوية التي يرومها. ولم يحتفل القرآن الكريم ب"المكان" عندما يتجاوزه الحدث، وترفع عنه أهميته، فلا يكون في ذكره غاية إيمانية تتحدد ببيانه. وقد وردت الأخبار عن "قرى" و"أقوام" يأتي ذكرها معلقا في الزمان والمكان، لتقدم هدفا تربويا أو إيمانيا، ثم يتحول عنها القرآن الكريم إلى أغراض أخرى.
... وليس القرآن كتاب قصص، حتى يفيض في وصف المكان، كما هو الشأن مع أمكنة القص المعهودة. بل إن شكل القصة في القرآن الكريم يختلف عما هو جار في أعراف الأدب، مادامت القصة -عنده- حاملا تربويا تسعى إلى تثبيت الإيمان، وإيراد العبرة، والإخبار بقضاء الله - عز وجل - . فهي "حامل" "SUPPORT" لا يتوقف اهتمام القارئ عنده، بل يتجاوزه إلى المحمول فيه، حتى يكتمل هدف القص.
... ولا يحمل المكان القرآني سيمات المكان الفني و الأدبي، بل يمتاز بالاقتصاد الشديد، ولا يكون إلاّ بالقدر الذي يتطلبه الحدث و يقتضيه الهدف التربوي. وقد تكشف الدراسات الجمالية المتخصصة عن سيمات أخرى لم نلمحها في عجالتنا هذه. تكون عونا للأدباء في التعامل مع المكان تحت توجيه قرآني معجز.(1/66)
... لقد ترددت "موضوعة الجبل" ( جبل+ الجبال) تسعة وثلاثين مرة(7) في القرآن الكريم. وجاء ذكرها في مواطن مختلفة، لتلبي دلالات معينة في سياق مخصوص. وقد كان استعمالها على وجه الحقيقة- حقيقة اللفظ لما وضع له- ولم تنصرف إلى المجاز أبدا، بل ظلت دالة على الجبل المعروف عند العامة من الناس. ولا يسعى القرآن الكريم - في هذا- إلى تجاوز تواضع اللغة إلى معنى من المعاني، بل جاءت الإشارة إلى المعاني من خلال السياق وحده، دون أن تنزاح لفظة الجبل إلى مجاز ما. نحاول استعراضها باختصار:
أ-النكرة والمعرفة:
في الغالب أن ينشأ عن استعمال "النكرة" إبهام في تحديد الاسم، وكأن المستعمل لا يريد أن يرتبط باسم معين، بل يريد أن يترك الأمر على انفتاحه قابلا لكل اختيار. وقد أمر الله - عز وجل - إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل بعضا من الطير على رأس جبل ..أيّا كان الجبل قريبا كان أو بعيدا. لأن الغرض هنا هو تحقق قدرة الله - عز وجل - على بعث الحياة فيها وقد اختلط اللحم والدم و العظم. فأبهم المكان، ولم يحدده تاركا ذلك لإبراهيم - عليه السلام - . كذلك الأمر مع ابن نوح - عليه السلام - حين قال رادا على نداء أبيه : { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. } ( هود43.). وربما كان استخفاف الابن بأبيه كما استخف به قومه باعثا على هذا اللون من الرد ومن ثم تنكير الجبل، حتى ولو لم يكن الجبل حاضرا بين يديه.. إنه جبل يعصمه من الماء.(1/67)
ولا يكون استعمال المعرّف إلاّ لمعلوم من المكان. وقد استعمله الله - عز وجل - مرتين بصيغة المفرد في سورة "الأعراف" حينما سأل موسى - عليه السلام - ربه الرؤية. وكانت رحمة الله - عز وجل - أن جعله يجرب معاينة تجلي الله - عز وجل - لمن هو أشدّ منه قوة، وأمتن صلابة، وأوسع جثة. فكان الجبل:? { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربّه قال ربي أرني أنظر إليك، قال لن تراني، ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني. فلما تجلى ربّه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا. فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين. } ( الأعراف143.)
ب-الحياة والإحساس:
شاء الفكر الغربي أن يقسم الموجودات إلى حية وجامدة لا حياة فيها. ومنه كانت علوم الحياة وعلوم الطبيعة، وكأن هذه الأخيرة مواد خالية من كل حرارة، وإنما جعلت لتكون مواد وحسب. إلاّ أن الفكر الإسلامي لا يتصورها كذلك. فهي تتمتع بحياة خاصة، لا نفقهها نحن، وتتحدث بلسان لا نعيه، وهي في مناجاة مستمرة مع خالقها بله التسبيح و التحميد .تنفعل لأوامره نواهيه، تفرح وتحزن وتخاف. وقد نعجب اليوم أن مثل هذا الفهم لم يعمر حياتنا، حتى نرى الحجر والشجر أحياء تعيش و تشعر وتألم .!(1/68)
لقد حمل إلينا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقيقة، عندما قالت الجبال: ( ربّ اذن لي أن أخرّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك..) وكأنها تنقم عليه عدم الطاعة وشكر النعمة. فإذا هو أطاع الله - عز وجل - كا ن وإياها على سنة واحدة، تعطيه مما سخرها له الله - عز وجل - أضعافا مضاعفة. وقد شهدنا كيف ذهبت جلاميد الجبل هباء عند رؤية الله - عز وجل - ، ولم ندر كم كان مقدار التجلي، ولا مدته. بل قد يكون خطفا من البصر، أعقبه انهيار كلي للجبل. وكما دكّه التجلي، تصدّعه الخشية حين سماع الذكر. قال تعالى:? { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.? } ( الحشر21).ومن علمها بعظمة الله وجلاله، ترفض الجبال حمل الأمانة التي عرضت عليها قبل أن تعرض على الإنسان :? { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا.? } ( الأحزاب72). إنها كائنات "عاقلة " تخشى تبعات الأمانة و تشفق منها لمعرفتها حقّ الله - عز وجل - ، تمتلك قلبا حيا نابضا بذكر الله وخشيته.
ج- زوال العالم:
... إذا تضعضع الثابت واهتزت أركانه، و تلاشت صلابته، فلا بقاء لمن هو أدنى منه متانة وأقل كثافة :? { فإذا الجبال سيّرت..? } و { و بسّت بسّا } فإن الأرض قد فقدت أوتادها ومراسيها، وأضحت رجراجة لا يثبت على ظهرها شيء قائم أبدا، واضطربت هنا وهناك، وتدافعت كتلتها، فقد حلّت نهاية العالم وأزفت قيامته.(1/69)
... وقد جاء في الأثر ما يفهم منه أن خلق الأرض و خلق الجبال مفترق. وكأن خلق الأرض كان قبلا، يمثل مرحلة أولى في عملية التكوين الجيولوجي، إذ كانت الأرض كتلة رجراجة لا قرار لها، تميد يمينا وشمالا، وترتفع وتنخفض، بفعل المادة اللزجة المتحركة التي هي في طور التشكّل أو في نهايته. ثم جاءت الجبال في مرحلة تالية لتقف أوتادا ومراسي تثبت المادة المتحركة.. أخرج "الترمذي" في أواخر جامعه( ج1.ص:214 ) عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال، فعاد بها عليها فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدّ الجبال).فإذا كان الهدم عكس البناء، كان زوال الجبال - على الصورة التي وصفها الله - عز وجل - أذان بزوال الأرض ونهايتها. وقد نعجب إذا وجدنا أن رزق الأرض موقوف، موقوت في الجبال، مطمور فيها يسلكه الله - عز وجل - في الأرض بقدر، حتى ينال أهل الأرض حظهم من القوت تباعا. قال تعالى:
? { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا، ذلك ربّ العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها، وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين.? } ( فصلت 10.9.).
... يذهب " الشيخ الشعراوي" إلى أن الأقوات :” التي يحتاجها خلق الله إلى أن تقوم القيامة موجودة في الأرض، ولو أردنا الدقّة في فهم العبارة القرآنية، لوجدنا أن الأقوات مطمورة في الجبال. فكأن الجبال التي نراها صخورا منصوبة في الأرض هي مفاتيح أقوات البشر. وشاء الله أن تكون الجبال صلبة لأنها لو كانت رخوة وأمطرت السماء لحدث استطراق في الرخو كلّه، ولتبدد الخصب في بقعة على سطح الأرض. هذا الخصب الذي يستحلبه النبات لغذائه.. وقد تفسد الأرض لو زادت فيها هذه المواد..أو على الأقل تجف منها الخصوبة في وقت قصير.. لذلك شاء الله أن تكون الجبال صخورا جامدة .. ثمّ ينزل منها بقدر. «(8)
4- الإطار الفني:(1/70)
لقد أدرك الشاعر العربي منذ العهود البائدة أنه لا يستطيع أن يبرح المكان، وأن المكان يحتويه في حياته ومماته. فهو جزء منه لا يختلف عنه في شيء، بل يحمل من سابقيه الذين رحلوا بقية يقف عليها في كل طلل يخاطبها و تخاطبه. وليس عجيبا أن يكون الطلل ممثلا لتجربة البراح و الحنين والندم (9) ومهما يكن من تفسير نسوقه للطلل وظاهرته الافتتاحية في الشعر الجاهلي، فإنه يبقى مكانا واقعيا ( جغرافيا) تعرفه الذاكرة التاريخية في أخبارها وأيامها.. وقد انشعبت التفسيرات الوجودية والنفسية لتعليل ذلك"التشبّث" عند الشعراء، ولو كان في تداولهم له ما يشبه التقليد البعيد الذي يتناسخون فيه التجربة في مقابل تجاربهم الخاصة. (10)كما يزعم النقد الحديث. وإن أبدعوا في مواطن وصفية أخرى كالأنواء و الصحراء، والوحش، و الرمال، وغيرها..
إن أروع تجربة ل"موضوعة الجبل" في الشعر العربي، نجدها عند شاعر الأندلس "ابن خفاجة" دون أن نجد عنده ذكرا للجبل بهذا الاسم. وإنما يحيد عنه إلى وصف مناسب هو "الأرعن" أي الجبل الطويل.. و يتجاوز الشاعر والوصف الحسي المادي ( بيتان) وكأن وصف "الأرعن" يكفي لبيان المراد الذي قصده الشاعر .. إلى الوصف المعنوي الذي تنفذ إليه التجربة الوجدانية بعمق، حتى ينقلب الوصف المادي إلى تشخيص يمكّن الشاعر من المحاورة، والبحث عن سر البقاء و التحول.
أ-الشيخ الوقور:
وهي صورة أثيرة عند العربي، يجد فيها الوقار والحكمة و بعد النظر، وكأنه ناسك يتأمل الفلاة، يفكر في عواقب الدنيا.
وقور على ظهر الفلاة كأنه
طوال الليالي مفكر في العواقب.(11).
وتستمر الصورة الحسية لتعزز المعطى المعنوي ( الشيخ) حين يصبح الغمام عمامة يعتمّ بها الشيخ الوقور، وحين تكتمل هيئة الوقار و العلم، لم يعد أمام المتعلم إلاّ الإصغاء والاستماع.
ب-الحديث العجيب:(1/71)
وفيه تتزاحم ذكريات "الجبل" فهو ملجأ للقاتل الجاني، وموطن العابد الناسك، وهو منزل كلّ سار بالليل و سارب بالنهار، ومقيل كلّ راكب وراجل. وهو حاجز للريح، وكاسر للموج.. كلّ هؤلاء يسحقهم الدهر تباعا .. إن ما به من خفق الدوح رجفة للأضلع، وما به من هديل الورق نواح وبكاء.. إنه – هنا- باق، ويتحول كلّ شيء إلى فناء.( 12)
((
هوامش:
1-م.س.ص:75.
2-عبد الملك مرتاض. ألف ليلة وليلة. ديوان المطبوعات الجامعية. 1993. الجزائر.
3- أنظر ألف ليلة وليلة. م.س. النص الملحق. ص:320.
4- م.س.ص: 139.
5- إبراهيم بدران. وسلوى الخماش. العقلية العربية.ج1. الخرافة. دار الحقيقة. بيروت.1979.
6-إبراهيم بدران. حول العقلية العربية. ص:287. في. الفلسفة في الوطن العربي، بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول. الجامعة الأردنية. مركز دراسات الوحدة العربية. سبتمبر1985.بيروت.
7- جبل 05 مرات. الجبال 33 مرة. الجبل 01 مرة.
8- محمد متولي الشعراوي. في تربية الإنسان المسلم. ص:227.226. دار العودة. بيروت.1982.
9- أنظر إيليا الحاوي. فن الوصف وتطوره في الشعر العربي. ص:21. دار الكتاب اللبناني. دار الكتاب المصري. ط2. 1980.
10- م.س.ص:21.
11- ابن خفاجة. الديوان. ص: 43.42. دار بيروت للطباعة والنشر.(د.ت).
(((
موضوعة الجبل.2.
التجلي الجمالي.
- الفضاء المادي.
- الفضاء المعنوي.
- المكان الزماني.
- الزمان المكاني.
الفصل الخامس:
... ... ... التجلي الجمالي.
1-تقديم:(1/72)
... يبدو أن الأطر المعرفية لموضوعة "الجبل" توقفنا على مرجعية هائلة لم نزعم أبدا استغراقها درسا. فهي تتسع طولا وعرضا، لتمتدّ في أعماق التاريخ. وتتعدد موضوعا في النشاط الفني لكل شاعر وناثر. وما عرضناه لم يكن إلاّ تذكيرا بالإطار المعرفي الذي يستند إليه كلّ استعمال فني.لأننا واجدون الشعراء لا يتورعون من التوظيف الديني و الخرافي و الفني، على صعيد واحد لخلق الحيرة الفنية عند التلقي، ولإشباع النص بالتوترات التاريخية و الفنية معا.
... وكلما كان إحساس الشاعر بعمق المرجعية التي يركن إليها، كلما تعددت في يده إمكانات الاستعمال، وأسعفته القدرة الإبداعية على المزج و التركيب بين العناصر التي ذكرناها، حتى يؤلف منها "تركيبة" غاية في الجدة والإبداع. وقد رأينا "ابن خفاجة" يعمد إلى خاصية" الإحساس و الحياة"التي نبّه إليها القرآن الكريم، ليجعل منها مادة للحوار، وكأنه يرى تأويب الجبال مع "أيوب" - عليه السلام - (1) مدعاة لبث الحياة في جبله الخاص.
... لم يكن "مفدي زكرياء" بدعا من الشعراء، وإنما كان يعي خطورة هذه المرجعية المعرفية ل"موضوعة الجبل". ولم يتوان في استغلالها استغلالا قويا. وهو في معرض الحديث عن الثورة التحريرية، والتغني بها. وليس بين يديه سوى الجبال ملجأ للثوار يأوون إليها، فتتحول إلى ثكنات، ومدارس،ومستشفيات، و إقامات ممنّعة .. هذه الجبال بصلابتها وثباتها توحي للمستعمر بصلابة عود أهل البلد وثباتهم. فهي رمز ذلك الإصرار الذي توارثته الأجيال منذ القدم.
... وقد وجد "مفدي زكرياء" في الأطر المعرفية مرجعية يغترف منها صوره. مادام يدرك أنها تلامس شغاف كلّ عربي. ولا حاجة له في الإفاضة والإطالة. وإنما تكفي الإشارة المختصرة العامرة بالدلالة. والتي تفتح في ذهن المتلقي سيلا من التداعيات، يرجع بها القهقرى إلى ذلك الأصل الذي يمتد به بعيدا في أعماق الثقافة الواحدة.
2-الفضاء المادي، الدال والمدلول:(1/73)
إن أيسر السبل في التعامل مع المكان، استعماله على وجه الحقيقة، كأن يدل على موقع معلوم، أو مجهول. ومن ثم يأتي نعته مناسبا للمقام الذي استعمل من أجله. بيد أن أساليب العرض تتفاوت جودة وحسنا بحسب السبك وقوة العبارة، وبناء النسق اللغوي المصاحب له.
ومن هنا قامت الأساليب على تدبير مواقع الكلمات داخل نسق معين، لأن:” اختيار الكلمات لا يكون مفيدا إلاّ إذا أحكم توزيع هذه الكلمات، وهي تتوزع على مستويين: حضوري وغيابي. فهي تتوزع سياقيا على امتداد خطي، ويكون لتجاورها تأثير دلالي وصوتي وتركيبي.. وهي أيضا تتوزع غيابيا في شكل تداعيات للكلمة المنتمية لنفس الجدول الدلالي. «(2)
وتتحدد القدرة التأليفية في ضبط التقاطع الحاصل بين ركني الحضور والغياب، حتى تأخذ اللفظة حظها من الأدبية ( الشعرية) حين يكون الصوتي عاملا نفسيا لتوليد الانثيال الخيالي، وتعاقب الصور الحية لدى التلقي. ومنه ينشأ "الاتساع". وهو المبدأ الثالث الذي تقوم عليه دراسة الأسلوب عند كل من "سبيتزر" "SPITZER" و"ماروزو" "MAROUZOU" بعد مبدأ التركيب، أو(1/74)
التنظيم.(3) والذي يجعل من الأسلوب "بناء واعيا" لا مجال فيه للعفوية والاتفاقية الميكانيكية التي عرفها الفن السريالي والانطباعي.. فإذا كانت اللسانيات قد أقرت للدال مدلولا، فإن :” الأدب يخترق هذا القانون، فيجعل للدال إمكانية تعدد مدلولاته، وهو ما عبر عنه الأسلوبيون بمصطلح "الاتساع". ومن هنا ينشأ مبدأ طاقة الشحن. فالدلالة الذاتية ليست حافزا للدلالة الحافة. «(4) وعندما تتسع الهوة الدلالية بين الدال والدلالة و تتلاشى معالم المرجعية الأولى، تتعدد الاحتمالات الممكنة. الأمر الذي ينشئ التذبذب بين لذة التقبل و خيبة الانتظار. أو ما أسماه "ريفاتير" "RIFFATERRE" "المفاجأة" وأسند إليها قوانين خاصة. فاستعمال الدال على وجه الحقيقة لا يفقده شيئا من أدبيته. وقد استطاع "مفدي زكرياء" أن يجريه غير مرة على هذا النسق، فتنفتح دلالته على التعدد. وهي تحيل على مرجعية معرفية أكثر اتساعا وأشمل دلالة.
واندفعنا مثل الكواسر
نرتاد المنايا ونلتقي البارودا
من جبال رهيبة شامخات
قد رفعنا على ذراها البنودا
وشعاب ممنّعات براها
مبدع الأكوان للوغى أخدودا. (5).(1/75)
... تبدو هندسة التركيب جلية بيّنة، عندما نراقب مقاييس مقولة الأسلوب: ( اختيار، تركيب، اتساع)، لأن الإنشاء "الواعي" للنسق يفرض توزيعا للعناصر على مساحة محدودة ( الوزن الشعري، البحر). فالشاعر يريد أن يعلل الاندفاع الكاسر الذي يرتاد الموت.. وفيه مفارقة أولية في لفظ "نرتاد" لما له من خلفية تعمرها البهجة والاكتشاف.فهو سياحة وريادة، غير أنها للموت و لقاء البارود.. ولا بدّ لهذا الفعل "الغريب" المفارق للعادة، من ميدان ( مكان) يناسبه طردا في غرابته ومفارقته أولا.. فإذا علمنا أنَّ الاندفاع كان من جبال "رهيبة شامخات" تحققنا أن المفارقة في "نرتاد" نشأت من لقائها بالجبال الرهيبة الشامخة، التي رفعت على ذراها بنود الجهاد، ومن "شعاب ممنعات". هذا الفضاء العالي/ العميق، الرهيب/ المنيع، لم يخلق بهذه الصفات إلاّ لأنّ "مبدع الكون" أراده أن يكون ميدانا للوغى والاحتراب.
... وإذا أعدنا توزيع "التركيب" توزيعا أسلوبيا، ألفينا الاختيار يقع في
( نرتاد، جبال رهيبة شامخات، شعاب ممنعات، براها مبدع الكون أخدودا) ومنه كان التركيب الواعي يقرن بين( نرتاد المنايا، نلتقي البارودا، رفعنا على ذراها البنودا). وكان المزج بين العناصر على المستوى الشعري، هو البناء الأخير للإبداع الفني، وقد غدت عناصره أكثر جاذبية، وأكثر قدرة على الإيحاء. وليس ارتياد المنايا يتحقق عقلا، إلاّ لأن مبدع الكون برا الجبال و الشعاب للجهاد والشجاعة.
... لقد أدرك الأسلوبيون أن التعامل مع المدلول بعد تحديد "الاختيار و التنظيم" لا يكون على مستوى "الاتساع" إلاّ ضربا من المقاربة الحدسية الباطنية، ذلك أن المدلول: »لا يقاس ولا يعدّل ولا يسجل، ولا نستطيع أن نحلله إلاّ بطريقة تقريبية مبهمة، مع أننا نتلقاه بشكل مباشر في تعقيده الخصب الهائل. ففي أبسط القصائد نجد المدلول عالما بأكمله. «(6)
3-الفضاء المعنوي، المرجعية والتاريخ:(1/76)
يرى "طه وادي" أن الحقيقة المجردة وحدها لا تكفي للتعبير عن تجربة الفنان، ولا يمكنها أن تستغرق انفعالاته ورؤياه. ولذلك يلجأ دوما إلى الاستعانة بالتراث :” وإحداث ما يسمى ب"التحويل الرمزي""transformation symbolique". أن يعبر عن تجربته الخاصة موظفا في ذلك كلّ ما يستطيع الاستعانة به من عناصر التراث البشري، يثري به فكره الفني، ورؤيته الأدبية. «(7) وهنا لن تصبح أداته اللغوية إشارية تقريرية ذات بعد دلالي واحد، وإنما سوف تصبح كما أسماها "ريتشاردز" لغة مشخصة "Figuratif langage”. ولولا عمليات التحويل الرمزي ما كان للشعراء أن يتجاوزوا جفاف اللغة التقريرية، وإبعاد شبحها عن ساحة الشعر. لأن اللغة المشخصة لغة تعبث بشخوص العقل، واستقامة المنطق، ومعقولية الأشياء. فهي تعيد ترتيب الموجودات: ( حي/ميت، متحرك/ جامد، لا شعور/ شعور..) حتى تتمكن من إحداث تبادلات يخلقها التشخيص في الجماد و الموات.. يقول "مفدي زكرياء":
وطن يعزّ على البقاء وما انقضى
رغم البلاء عن البلى متمنّعا
لم يرض يوما بالوثاق، ولم يزل
متشامخا مهما النكال تنوّعا
هذه الجبال الشاهقات شواهد
سخرت بمن مسخ الحقائق وادعى
سل "جرجرة" تنبيك عن غضباتها
واستفت "شيليا" لحظة و"شلعلعا"
واخشع ب "وانشريس" إن ترابها
ما انفكّ للجند المعطر مصرعا (8)(1/77)
تلعب الأطر المعرفية لموضوعة "الجبل" دورا بارزا في بناء هذه الأبيات، وخلق الاتساع في الدلالة من خلال نظام التحويل الرمزي واللغة المشخصة. لقد أدرك الشاعر أن الحديث عن بقاء الوطن بواسطة التقرير المجرد عملية لا ترقى إلى التعبير الفني الجمالي، فعدل عنه إلى التحويل الرمزي مرتكزا إلى إطارين معرفيين في ذات الوقت : إطار ديني، وآخر فني. بل يمكن إرجاعها إلى إطار ديني واحد..فالسؤال والاستفتاء.. مطلبهما المرجعي "ديني" الأول يطلب المعرفة، والثاني يطلب الفقه والفهم .بيد أن الموقف الفني يفرض علينا اختيار الإطار الفني لما فيه من مشابهة. فالجبال الشاهقات في ثباتها عبر الأزمنة المتطاولة، قد اكتسبت "معرفة" وخبرت الحوادث والأحوال، وقد رزقت فهما من صبرها ذاك. وهي في موقفها هذا تضارع "جبل ابن خفاجة" كأنه طوال الليالي مفكر في العواقب. فإذا سألناها عن "غضباتها" حدثتنا عنها منذ فجر التاريخ إلى يوم الناس هذا. وكذا الأمر إذا استفتيناها في بغي الإنسان وعدوانه، وأكل القوي للضعيف واستعباده.. إنها أحوال خبرتها من تعاقب الأجيال والحقب عليها.
... أما التحويل الثاني، في ( واخشع) فمشبع بحيثيات "قدسية". فإذا حولنا "اخشع" إلى "اخلع" لتبادر إلى أذهاننا موقف "موسى" - عليه السلام - بوادي طوى، وخلع النعلين. فقد لامست رجلا "موسى" - عليه السلام - تراب الوادي، وتلقى كلام الله - عز وجل - في خشوع ورهبة.. و يتحول المكان-هنا- إلى فضاء مقدس، لأن التراب قد تخضب بدم الشهادة، فلامس منها القداسة والطهر.. فهو معطر من دماء الشهداء الزكية.إن الموقف القديم يتوازى، أو يقف في خلفية حية وراء الموقف الجديد. وتكتنف الفضاء قداسة واحدة ذات مصدر واحد.(1/78)
... إننا ندرك الآن أن الحقيقة المجردة وحدها لم تكن قادرة على حمل هذه الظلال القدسية، وبثها من خلال الكلمات. بيد أن اللغة المشخصة -كما أسماها "ريتشاردز"- تجعل ذلك ممكنا من خلال توزيع جديد للعناصر، وتحويل عبقري في خصائص الأشياء و المعاني. وكأننا نخلق المعاني الجديدة بخلق لغة جديدة. فالفن قادر على تخصيب :” الكلمة لتبلغ نماءها في حقل المجتمع معتمدا على الإحاطة باختلاجات الوجدان الجماعي، وهو يجعلها تتسرب داخل أسوار الذهول الفني محافظة على وعيها وتحديقها نحو قضايا العصر. «(9) عندها ندرك كيف تخدم وقفة "موسى" - عليه السلام - في جبل "الطور" وقفة أخرى في جبل "الونشريس" وقد تباعد الزمن قرونا متطاولة. ذلك هو تحديق اللفظة إلى قضايا العصر وهي تختزن في إطارها المعرفي أثرا حاسما في حياة البشرية قديما.
4 - المكان الزماني،النبوءة والوحي:
... تلقى موسى - عليه السلام - الوحي خاشعا بوادي "طوى"، وكلمه الله - عز وجل - تكليما. وكان ذلك أعلى درجات الوحي، أما "الإلهام" و"التبليغ" فأدناها مرتبة. وهي مصطلحات يحتفل بها الإطار الديني، لما فيها من صلة بين الله وعباده، إمّا نفثا في الروع، وإمّا تبليغا برسول، وإمّا تكليما من دون واسطة.. ولم تفت شاعرنا هذه الدرجات، فهو يقول مخاطبا "نوفمبر":
نوفمبر حدثنا عهدناك صادقا
ألست الذي ألهمت أحجارنا النطقا؟
ألست الذي كنت المسيح بأرضنا
وأشرقت من علياك تخلقنا خلقا؟
ألست الذي بلّغت شمّ جبالنا
قرار السما فاستصرخت تنسف الرقّا؟( 0 1)(1/79)
... إن الشاعر في حاجة –دوما –إلى تخطي حدود السائد المألوف في فنه.فهو لا يركن إلى الواقعي الصرف، إلاّ بقدر ريثما يؤمّن لنفسه منطلقا أو مرتكزا، ثم يقفز بعد ذلك إلى أجواء الاستعارة محلقا بعدة أجنحة. آملا أن يقفز وراءه المتلقي مترسما خطاه. وينشأهذا التجانس بين الشاعر والمتلقي بناء على أمل يسكن كل شاعر في قدرة متلقيه تتبع الظلال الهاربة وراء الإيحاءات والإشارات. فالشاعر لايقول كلّ شيء، وإن كان يرغب - -من أعماقه-أن يقول كل شيء. بيد أن حدود الفن المكانية والزمانية تحول دون ذلك. ولا يبقى أمام الشاعر غير ذلك "التواطؤ""complicite" بينه وبين المتلقي ليمرر من خلاله تيار التداعي والإحالة المرجعية. وإذا أحس الشاعر أن "الوتيرة" قد ضبطت راح يغرق في عتمات المعنى أكثر فأكثر، وتلفع شعره بالغموض والرمز.
... "نوفمبر عهدناك صادقا"ذلك حظ "الواقعي" من النص. فإذا كان صادقا، فمعناه أن مصدر معرفته"علوي" لايشوبه شك.لأنه هو الذي "ألهم"، وهو الذي"أشرق"، وهو الذي "بلغ". فإذا كان الإلهام يتأتى على شكل نفخ في الروع، أو في شكل استعداد فطري، يجده الملهم في ذاته كامنا، فيصدر عنه في شكل نزوع غريزي محض، كسلوك الحشرات والحيوانات والإنسان في بعض مواقفه، فإن "الإشراق" لون من الفيض يشع في كل خلايا الوجود، يملؤها إحساسا وحياة ومعرفة. وقد اعتقد المتصوفة أن حضور الله - عز وجل - في ملكوته يحدث على هذه الشاكلة من التجلي. أما التبليغ فلا يكون إلاّ جهرا.
... فإذا تملينا "الحركات " الثلاث وجدناها تنطلق من إدراك حدسي باطني ذاتي لا يخص إلاّ الذات الملهمة وحدها دون سواها من الذوات، وكأن أحجار الجبال تجد في قرارتها إرادة التعبير عن الجهاد والمقاومة، ثم يأتي "الإشراق" فيعم كل عناصر الوجود، يبعث فيها الحياة، غير أن الإشراق يظل-وإن عمّ-أمرا سريا يدب دبيبا، بينما يكون "التبليغ" وحده إعلانا جهوريا يملأ السماء و الأرض نداء.(1/80)
... وإذا عدنا مرة ثانية إلى الخطوات الثلاث، ألفينا سرا عجيبا، فالجبال قد اكتنزت في أحجارها تاريخ الثورات التي عرفها الوطن، فهو يحدث بها من خلال هيئات جباله ووديانه وشعابه وأحجاره.. وكأن الثورة كامنة فيها كمون الشرر في الزناد. ثم تأتي الخطوة الثانية، وقد تغلغلت الثورة في كل ذات جزائرية، ولكنها ما زالت في حالة تستر تنتظر اللحظة المواتية للانطلاق. ثم تكون الخطوة الثالثة صدعا بالأمر و تبليغا جهوريا بكل لغة ولسان. وقد نجد في صورة المسيح - عليه السلام - وهو يعيد الحياة للموتى، -بإذن الله-صورة شعب بدأ يستيقظ من سبات عميق في النصف الأول من القرن الماضي..إنه بعث، وخلق، وإحياء.
... لقد كان "نوفمبر" "ميقات" الانطلاقة، وكانت الجبال مكانها. وقد اقترن "نوفمبر" في المخيال الشعبي بالجبال، حتى تداخلت الدلالة الزمانية والمكانية في تداع واحد. فإذا ذكر الأول تبادر الثاني إلى الذهن، وإذا ذكر الثاني قفز الأول إلى الذهن. وعلى هذا النحو يتحدد المكان زمنيا في الذاكرة الجماعية، إلى أن تمحوه ترابطات أخرى تكون أكثر تلاحما وتأثيرا في الجيل الذي تعاصره.
5- الزمان المكاني، الوحي والمعجزة:(1/81)
... يزعم "سارتر" "SARTRE" أن العمل الفني مهما بدا منتهيا، فهو ليس كذلك، بل يحتاج إلى من يكمله، بل يحتاج دوما إلى من يكمله.وهو في أثناء هذه العملية لا يمل من الاستزادة، كلما قلنا له هل اكتفيت قال هل من مزيد:” وقد سأل رسام مبتدئ أستاذه قائلا: متى أعدّ اللوحة من لوحات رسمي كاملة؟ فأجابه الأستاذ قائلا: في الوقت الذي تستطيع النظر إليها دهشا قائلا في نفسك : أنا الذي فعلت هذا؟ (11) كما أدرك النقد الحديث أن حقيقة النص الأدبي تتخطى حدود الورقة المكتوبة ، إذ لم يعد النص إلاّ حاملا "كاليغرافيا" باردا، مشحونا بالرموز الخطية. ولم يعد النص محمول تلك الرموز في منطوقها الصوتي، بل غدا "شيئا" آخر يقع على مسافة ما بين الكاتب والمتلقي. وهو "شيء" قد تخلق من نطفة أمشاج بين هذا و ذاك، والمعرفة المحايثة التي تحتضنهما. وكلما تجدد الطرفان و الوسط تجدد النص " الافتراضي" "TEXTE VIRTUEL"وتحوّل. وعندما نقرأ ل "مفدي زكرياء"قوله:
ورثنا عصا موسى فجدّد صنعها
حجانا فراحت تلقف النار لا السحرا
وكلّم الله موسى في الطور خفية
وفي الأطلس الجبار كلمنا جهرا
وأنطق عيسى الإنس بعد وفاتهم
فألهمنا في الحرب أن ننطق الصخرا. (12)
... يقف الشاعر بين معجزتين يكتنفهما "المكان": "الطور" و"الأطلس الجبار". في الطور عرف موسى - عليه السلام - القدرة العجيبة التي أودعها الله - عز وجل - في عصاه. بيد أن الشاعر لا يريد نقل المعجزة الإلهية بكليتها - -وأنى له ذلك-بل يحولها على طريقة الفن ومنهجه، من خلال التحويل الرمزي، وينسب ذلك إلى الحجا، إشارة إلى تدبير قادة الثورة وعبقرية الشعب حين غدت "عصيهم " تلقف النار بدل السحر. فالمكان هو الذي أتاح تحويل وظيفة العصا مجازا ورمزا. والمكان هو الذي أتاح تحويل التكليم من الخفية إلى الجهر. لأن الله - عز وجل - انفرد بموسى - عليه السلام - في الطور، وهو هنا يخاطب شعبا مجاهدا بأكمله.(1/82)
... لقد أدرك الشاعر أن توظيف الإطار الديني يحي في نفوس المتلقين سيلا من التداعيات، يستعيدون من خلالها جملة من المواقف والصور التي كررها القرآن الكريم في مواضع عدّة. ومن ثم يُكسب الصورة الشعرية طاقة تعبيرية، إقناعية، ما كان لها أن تكتسبها لو عمدت إلى التعابير المألوفة في أحاديث الناس. لقد خلق حضور "العصا" بمعجزاتها وحضور "الطور" بخشيته، و"عيسى" - عليه السلام - بمعجزته، جوا من القداسة ينداح ليصل عبر الزمان إلى ساحات الجهاد في جبال الجزائر.
... إن استدعاء التراث - -بهذه الصورة- الغزيرة في أبيات قليلة، لايسمح للشاعر بالشرح والتفسير، وإنما يحيل ذلك إلى الألفاظ في اتساعها تعانق كل ظل هارب من ظلال المواقف القديمة. فقد تسأل كيف كان التكليم؟ وبأي صورة أحيا عيسى - عليه السلام - الموتى؟ قد تبحث عن دقائق الجزئيات وراء كل حادث، ولكنك تظفر في آخر المطاف بفيض من الأحاسيس وهي تعمر وجدانك وأنت تقرأ مثل هذا الشعر..إننا نشهد أن استعمال "المكان" عند "مفدي زكرياء" يتدرج من الحقيقة الواقعية ( ص:12 ) إلى التشخيص والمحاورة ( ص:32. 65. 66) إلى تلقي الوحي ( ص:198.199 ) إلى تحقيق المعجزة ( ص:306 ) ، وكأنه تطور مطّرد يشهد على صدقه ديوانه كله.بل تشهد على صحته مراحل الثورة التحريرية نفسها.
((
هوامش.
1-لاحظ أن الشاعر ابن خفاجة استعمل لفظة "مؤوب" في : وكم مرّ بي من مدلج و مؤوب. قال تعالى:(وآتينا داود فضلا يا جبال أوّبي معه) (فاطر)
2-توفيق الزيدي. أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث. ص:83. الدار العربية للكتاب. ليبيا.1984.
3-تبنى مقولة الأسلوب على ثلاثة مقاييس:الاختيار. التركيب. الاتساع.
4-توفيق الزيدي.م.س.ص:86.
5- مفدي زكرياء. اللهب المقدس. المؤسسة الوطنية للكتاب.ص:12.( الذبيح الصاعد).
6-صلاح فضل. علم الأسلوب :106. الهيئة المصرية العامة للكتاب.ط2. 1985.(1/83)
7-طه وادي. جماليات القصيدة العربية.ص:74. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1985.
8-اللهب المقدس.ص:66.65.
9- رجاء عيد. فلسفة الالتزام في النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق. ص:80. منشأة المعارف بالأسكندرية.1986.
10-اللهب المقدس.ص:199.198.
11-جان بول سارتر. ما الأدب؟ (ت) محمد غنيمي هلال. ص:46. دار العودة. بيروت.(د.ت).
12-اللهب المقدس. ص:306.
(((
موضوعة السجن.
الموقف والتجربة الفنية.
- الموقف وأصول التجربة الفنية.
- الإبداع و الموقف الثوري.
- السجن فضاء للموقف الفني.
- السجن.قداسة الفضاء الرمزي.
- السجن.ثنائية الحياة والموت.
- السجن.فضاء تحول.
- السجن.فضاء تأمل وفلسفة.
الفصل السادس:
... ... ... الموقف والتجربة الفنية.
1-تقديم:
... لم تكن الثورة الجزائرية ميدانا تتكسر فيه النصال على النصال، وإنما كانت الثورة- كذلك – فسحة جمالية تتلاقى فيها عطاءات الوجدان. فتلتحم بالمواقف المختلفة مفضية إلى تجارب فنية ناضجة، قد تأتت لها من الدهر نار منضجة، تمحّصت فيها المقولات المختلفة. فأعطت نتاجا، نقف اليوم أمامه، موقف إجلال وإكبار، متسائلين: كيف استطاعت مثل تلك التجارب أن تؤدي وظيفتين في آن واحد؟ : وظيفة النضال. ووظيفة الإبداع !
... وإذا قدرنا للشاعر حيثيات يعمرها الخوف والترقب، والترحل المستمر. فمتى واتته السكينة لإفراغ ذلك التوتر، وذلك الخوف، وذلك الأمل في صنيع فني ؟ أم أن الموقف المشحون بالقلاقل، كفيل بمفرده لإخراج العمل الفني في ثوب رائق جميل ؟ تقف القراءة إزاءه مشدودة مشدوهة. وكلما أجرت فيه أداة وجدت فيه طواعية وانفتاحا. وكأن النص – في تلك الظروف – اكتنز أسئلته الخاصة، فلم تعد تفاجئه القراءة. بل يتكيف مع مطالبها. فيكون لها النص مراغا واسعا تتفنن في استخراج أسراره وجواهره.(1/84)
... وربما كان للموقف المشحون بالمشاعر الحادة، و وقوف الموت والحياة جنبا إلى جنب في أية لحظة، واختلاطهما في تركيب عجيب غريب لم تعهده النفس من قبل، تتوجس منه خيفة، وتقبل عليه تتحسس جوهره ومبناه. سحر آخر ينضاف إلى سحر المضمون. إذ لم تعد الكلمات خجلى، مدارية، رواغة، وإنما كانت الكلمات "عارية" "صاخبة" تحمل حقيقتها في كفها. فلا تداري قارئا، ولا مستمعا. فقد تلاشى عنها ظل النفاق والخوف. فهي في بساطتها كالقذيفة خالية من حياة، وهي كالحياة مترعة بالمكر والخديعة في آن. وهي في رمزيتها كالوجود الملغز المشحون بالدلالة والتحول.
1-الموقف وأصول التجربة الفنية:
... من اليسير أن ندرك خطورة المواقف في سلوك كل فرد، مهما كانت الاستجابات التي تتمخض عنها. إلاّ أنه من العسير جدا – بل ومن المتعذر في أحايين كثيرة – أن ندرك جملة العناصر المشكِّلة للمواقف من ناحية، مادية ومعنوية، والأخرى التي تتفصد عن ارتسام علامات المواقف على صفحة الشخصية، وما يميز هذه الأخيرة عن غيرها من الشخصيات. كما أن الحادث من تلاحم الموقف مع خصوصية كل فرد إنما هو من قبيل التفاعل المعقد الغامض الذي نشهد بعض آثاره في خواص المادة. ويعسر علينا إدراك كمِّه وكيفه.
... لقد أدرك النقد القديم، غموض هذه المسألة في عالم الفن. فاكتفى بالإشارة إلى التلاحم الذي ذكرناه، وسكت عن كيفيات الاختلاط. فالفكرة – مثلا – عند "أرسطو" هي :» القدرة على إيجاد اللغة التي يقتضيها الموقف، و يتلاءم وإياها.« (1) بيد أن الاستجابة لهذا المطلب تفرض على كل منفعل للموقف، الراغب في التعبير عنه، أن يقوم بعمليتين اثنتين تباعا:
أ- إيجاد اللغة:(1/85)
... إذ لا يكفي أن يركن الفنان إلى الموروث القائم في اللغة، في شكله ومادته، وما صاغته الألسن في مثل تلك المواقف، وما استحسنت من لفظ، وما استملحت من عبارة، وما ابتغت من دلالة. لأن الاكتفاء بالموجود الموروث، إنهاك لحرارة الموقف وجدّته. ما دامت التعابير السالفة قد استنفدت المواقف التي من أجلها أنشئت. فكل موقف يفرز من خلال عناصره المادية والمعنوية جملة من المتطلبات الفنية. وكل استجابة له، إنما تخلق له لغته الخاصة. فإذا تولى الموقف، واستنفد طاقته، تولّت العبارة التي من أجله أنشئت، فلم تعد صالحة في تركيبها ذاك، وحرارتها تلك، لتعبر عن موقف جديد إلاّ من خلال المماثلة فقط. وهي خطوة تبتعد عن الموقف الخاص وتقلل من شدّته.
... إننا من خلال ترديد مَثَل ما، نعلن عن عجزنا عن إيجاد اللغة التي تعبر عن مواقفنا الخاصة، فنكتفي ب"استعارة" باردة، خبت جذوتها، وغدت رمادا باليا. ومهما تفننا في إخراج المثل، فلن نبلغ حرارة ذلك الموقف، وجدّة تلك اللغة كما كانت حينما قال أعرابي لأخيه – وهو يراه يغرق في السيل الجارف - :( يداك أوكتا، وفوك نفخ ). ونكاد نجزم أنه لم يقصد التفنن في القول، وإنما كان همُّه الأول - في تلك اللحظة الحرجة، الضيقة – تحديد مسؤولية الغريق، ونفيها عن نفسه. فاقتضى الموقف منه التركيز على سببي النجاة والحيطة. ثم جاء بترتيب "غريب" ملفت للانتباه، حين بدأ بعقد الحبل ولم يبدأ بالنفخ. لأنه يدرك في هذه اللحظة، أن سبب هلاك صاحبه يعود إلى وهن في الوكاء (2) لا إلى قلّة النفخ. إننا نلمح في تسارع العبارة، وتركيزها على هذه النقطة بدل تلك، أنها تمتح هيأتها من هيأة الموقف المتسارع المضطرب. إنها قضية لحظات فقط. وقد استطاع الأعرابي أن يجد اللغة التي يقتضيها الموقف، وتعبر هي عنه أحسن تعبير.
ب-التلاؤم:(1/86)
... وإذا تملينا المثل – الذي سقناه – جيدا، أدركنا قيمة العنصر الثاني الذي أضافه "أرسطو" في تحديده الفكرة. ذلك أن التلاؤم يضفي على العبارة بعدها النفسي، والاجتماعي،و الإنساني، بحسب الغرض العام للتعبير. فالأعرابي – في هذا المثل – لا يريد أن يخبر الغريق بحقيقة جديدة عليه، لأنه يعانيها حين النطق بالعبارة. وإنما غرضه أن ينفض يديه من مسؤولية ما يحدث أمامه. فالبعد إذن بعد نفسي/ اجتماعي. نفسي من حيث طمأنة الذات حتى لا يؤنبها ضمير. واجتماعي حتى لا يُطَالَب بثأر. وعبارة المثل، سواء صاح بها الأعرابي في وجه صاحبه، أو قالها لنفسه، تؤدي هذه الوظيفة أداء رائعا. ومن ثم سارت بين الناس مثلا. فالتلاؤم بينها وبين خصوصية الموقف، هو الذي رفعها إلى مرتبة الأمثال الخالدة.
... لقد سمى العرب هذه التركيبة "مراعاة مقتضى الحال" في حديثهم عن البلاغة. وقد وسع النقد الحديث درسه للموقف "Situation" من خلال فرزه للعناصر التي تتشابك في بنيته "الزمكانية". وقد جعلها ثلاثة جوانب:» إنساني في تعبير الكاتب عن المشاعر، وتصويره للأفكار التي يجابه بها الواقع. سواء كان واقعيا ذاتيا، أم اجتماعيا. ثم جانب فني عام يتعلق بطبيعة الموقف تبعا للقواعد الفنية التي يحتملها التصوير الأدبي، مادامت طبيعة الأدب تستلزم التجسيم للأفكار بالطرق الفنية لا التجريد. ثم فني خاص تبعا للأجناس الأدبية.« (3)(1/87)
... إن التعبير عن المواقف مجابهة للواقع، واتخاذ "موقف" إزاءه. لأن المجابهة تقتضي الإفصاح عن رأي، أو قرار، أو سلوك. عندها ندرك أن المواقف تشكيلات خاصة ضمن الواقع، تتضمن زمانا ومكانا يعطيان للموقف بعدا مأساويا، تتلون فيه المشاعر بحسب طبيعة الزمان والمكان. كما أن المجابهة لا تكتسب بعدها الإنساني التراجيدي إلاّ من خلال تشابك عناصر الموقف مع عنصري الزمان والمكان، في إطار وعي خاص باللحظة القائمة. لأنه :» على قدر وعي الأديب بالواقع الذي يعايشه، وإدراكه لطبيعة الصراعات والعلاقات فيه، يتضح موقفه الفكري إزاءه، وتتحدد فلسفته في التعبير الفني معه.« (4) فالموقف – إذن – ليس معطى خارجي صرفا، إنما هو من خلال التعبير الفني إنشاء ذاتي، لا يتكرر أبدا في ذات الصفة والشكل.ما دامت الإدراكات لطبيعة الصراعات تتبدل وتتغير تبعا لتبدل الوعي وتجدد أسس انبنائه. فالفنان لا يرسم الواقع:» كما هو مستقلا عنه، وبلا مشاركة منه، لأنه غير مكلف فقط بتقديم تقرير عن نتيجة المعركة. بل هو واحد من المناضلين، له نصيب من المبادرة التاريخية، ومن المسؤولية.« (5)
... لقد حاول "أرسطو" – من قبل – التأكيد على مشاركة الأديب من خلال "إيجاد اللغة" و "الملاءمة" بينها وبين الموقف. وفي ذلك دمج للفنان في الواقع، تتأكد من خلاله مسؤولية هذا الأخير في كيفية عرضه وتقديمه. إذ هو جزء منه، يحاول أن ينتزعه– عبر اللغة – ليكون واقعا خاصا في لحظة خاصة. مادام الواقع في جملته:» ليس إلاّ محصلة لجميع العلاقات المتشابكة بين الذات والموضوع. لا الماضية فحسب، وإنما المستقبلية أيضا. ولا تنحصر في الأحداث الخارجية وحدها، وإنما يشمل أيضا التجارب الذاتية.« (6)
2-الإبداع والموقف الثوري:(1/88)
... إن عبقرية الموقف إذا وافت عبقرية الفنان، صنعت فنا يتجاوز حدود المكان والزمان معا. ذلك أن الموقف "الصادق" بما أمدّ من مشاعر وتعابير، يكسب الألفاظ كثيرا من حدّته، وصرامته، وتوقد أحاسيسه. إذ الموقف هو الآخر فضاء محاصر، تعتوره مضايقات شتى تهدده بالتحول المستمر بحسب حاجات الوعي، وتلوّناته الآنية والبعيدة. فالمكان الذي:» يعيش فيه البشر مكان ثقافي، أي أن الإنسان يحول معطيات الواقع المحسوس وينظمها، لا من خلال توظيفها المادي لسد حاجاته المعيشة فقط، بل من خلال إعطائها دلالة وقيمة. وتكتسب عناصر العالم المحسوس دلالتها من خلال إدخالها في نظام اللغة. فاللغة هي المقابل اللاّمحسوس لعالم المحسوسات.« (7) وكأن الموقف يكتنز "إيجاد اللغة" التي تستطيع حمل ظلال الموقف، والأحاسيس المرافقة له حملا بالقوة، لا حملا بالفعل.
... إن الثورة انقلاب مستمر للأحداث، وتوال متسارع لها! فالموقف "الحار" قد لا يدوم طويلا، تلحظه " النفس الشاعرة" طرفة عين، فيرتسم في أغوارها فكرة غامضة، ويعتمل في مسالك قرارتها مولدا سلاسل من التأملات والانبثاقات المتلاحقة، تتزاحم فيها الصور تباعا. وعندما يتاح للتجربة أن تستكتب ذاتها، وتخرج واقعها، تبدو الكتابة وقد اكتنزت "اللحظة" و حيثياتها ومشاعرها. فيتحقق بذلك شرط الإبداع الصادق من جهة، وشرط نقاء التجربة من جهة أخرى.(1/89)
... إن فهم الموقف على هذه الصورة، يدفع ما رآه بعض النقاد من أن الشعر الثوري، شعر خطابي سطحي، يخلو من حرارة الإبداع، ودفء الصناعة. وقد وجدنا "صلاح خرفي" يدفع ذلك معتقدا أن الموقف لم يكن ليتيح للشاعر فرصة المراجعة. فالشاعر يهتبل اللحظة العابرة ليسجل موقفا طارئا، لم تكتمل عناصره وشروطه. ومن ثم يقف "صالح خرفي الشاعر" مترددا في اختيار المعيار الذي يزن به قيمة شعره، فيقول:» وكم تجاذبني نظرتان: نظرة مثالية فنية تزهدني فيها ( مجموعته الشعرية)، إذ أعترف بأن أغلب قصائد المجموعة سجِّل تلبية للمناسبة العابرة، وتحت إلحاحها القاسي. وربما برر هذه التلبية الفورية عندي، إيماني بأن الثورة المشتعلة في حاجة إلى صوت يحمس لها، أكثر من حاجتها إلى نغمة "حالمة" تتغنى بها. وكنت لا أستنكف أن أجد نفسي غير مرة في موقف خطيب لا شاعر، ما دامت الثورة التي تلهمني، تجعلني كأني على صخرة من صخور الأطلس الشامخ أهيب بالثائرين الأحرار.وإذا كان العمل الفني في حاجة إلى "هدأة"، فتلك التي لم يكن في وسع الثورة المتجددة مع الدقائق والثواني أن توفرها لنا. ولم يكن في وسعنا أن نمر بالحادثة البطولية مر الكرام، سعيا وراء الفن الأمثل.«(8)(1/90)
... بيد أن الموقف يُفترض فيه أن يحدد نمط القراءة، حينما يعين النص استجابة فورية للحظة معينة. وقراءة الشعر الذي كتب على قمم الجبال، لا يشترط فيه شرائط الصنعة، إلاّ ما جاء عفوا. وإنما يشترط فيه "صدق التجربة". ولا نريد من "الصدق" فحواه الأخلاقي، بقدر ما نريد فحوى التجربة الإنسانية في خوفها وأملها، في استكانتها وثورتها. إنها حالات قد تخالط الذات الواحدة في الموقف الواحد، فتعطي إعصارا من الغضب والتحدي. غير أن الإقبال على هذه "الجُمُلة" "Totalité" الانفعالية، يقتضي منّا إدراك خلفيات ذلك التقاطع وذلك التفاعل. ونحن نعرف اليوم أن لاختلاط المشاعر مفعول كيماوي يصعب التنبؤ بنتائجه. فقد يتولد الأمل من موقف الخيبة، ويتولد الحذر من موقف الرجاء. وتلك نتائج لا يمكن التحكم فيها، وإنما الذات تملي فيها مخاوفها وآمالها. كذلك جاء الشعر مفعما بالشجاعة وهو ينطلق من حيز ضيق، يحاصره الموت من كل جانب.
3-السجن فضاء للموقف الفني:
... إننا ننظر إلى موضوعة السجن "Thème" على أنها فضاء يحتوي الموقف الفني ويوجهه، ويبعث فيه شروط الإبداع المختلفة، ويمكِّنه من "الهدأة"، فتكتسب اللغة فيها طابعا خاصا، تتأرجح دلالتها بين قطبين: قطب الداخل، وقطب الخارج/ قطب الحقيقة، وقطب الرمز. إن اللغة تفقد وظيفتها الدلالية المعهودة، لتكتسب من الموقف مرجعية تأثيلية، تغترف منها رمزيتها وإشاريتها. وتغدو قراءة اللغة في هذا الفضاء: الضيق / الواسع ضربا من التجديد في قاموسها الدلالي. إذ يتوجب أساسا إهمال ما هو معروف، وجار على الألسنة، ومصاحبة الشاعر في هذا الفضاء.. في مشاعره، ومخاوفه، وآلامه، في ما يريده من لغته لنفسه ولغيره. إنه عالم خاص، له قوانينه، وأعرافه، وعاداته، وبالتالي له لغته الخاصة. فكل كلام يندّ عن هذه الدائرة المغلقة، كلام غريب مردود.(1/91)
... إن محاورة الشاعر خارج هذه الدائرة يضع اللغة في مأزق حرج، إذ لا يحمل الخطاب عين الدلالة، وعين الرمز. ولكن الشاعر يسدّ هذه الثغرة حين يعتبر أن كل "جزائري" –تحت نير الاستعمار- يحمل زنزانته في داخليته.. "في الحنايا". وعلى هذا الاعتبار فقط، تكون الذات المتلقية مضبوطة على نفس موجات البث الشعري. فالداخل والخارج سيان في كل ذات، سواء أكانت نزيلة في ضيق المكان( السجن) أو خارجه، نزيلة وضع يتسلط في الآخر على جميع الحريات. ما دام المكان يرتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الحرية. ومما لاشك فيه أن الحرية:» في أكثر صورها بدائية، هي حرية الحركة. ويمكن القول أن العلاقة بين الإنسان والمكان – من هذا المنحى – تظهر بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية. وتصبح الحرية في هذا المضمار، هي مجموع الأفعال التي يستطيع الإنسان أن يقوم بها دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي، لا يقدر على قهرها أو تجاوزها.« (9) وقد يتضح الأمر أكثر، إذا أدركنا أن القارئ الضمني الذي يخاطبه الشاعر، قارئ مستعمَر تتساوى إقامته خارج السجن وداخله.
... إن موضوعة السجن تحدد موقفها الخاص "الستاتيكي" نسبيا، ما دام الزمن الذي يجري فيه لا يسلك مجرى الزمن "الكرونولوجي" الخارجي. فللسجن زمنه الخاص الذي يتخلل الذات المسجونة، ويطبعها بحركته شبه الراكدة، والتي من شأنها تبليد الإحساس، وقتل المبادرة، وإخماد الثورة..بيد أن هذا الزمن "الدائري" يتيح شيئا من الانفراج والانفتاح، فيفسح صدره للتأمل والمراجعة. وبذلك ينتفي وجوده "المادي" حاجزا، ليسكن منطقة "البين بين". إنه جزيرة تقع على مسافة ما بين الواقع واللاّواقع، بين الوجود واللاّوجود، بين السماء والأرض، بين الحياة والموت، على مدرج التأمل الثاقب.. إنه هناك وهنا في ذات الآن.(1/92)
... ولما كان السجن كذلك، كان الموقف الذي يشمله، موقفا متباطئا، متراخيا، تعود فيه الذكرى فتعمر أرجاءه، وتعود المواقف السالفة إلى حيزه لتأخذ نصيبها من التروي والدرس. عندها يكتمل شرط النضج للتجربة الفنية. فتتحلل اللغة من دلالتها المباشرة وتروغ إلى الرمز، حتى تتمكن من احتواء الظلال الكثيفة للمواقف القديمة. وتنشأ القصيدة – هذه المرة – لا كاستجابة فورية، وإنما تأخذ حظها من الصناعة والمراجعة. ففضاء السجن لا يمتّ ظاهريا بصلة للمواقف التي سلفت، وإنما العلاقة هنا، علاقة استشراف وإطلالة.
... إن عملية الإبداع داخل السجن، هي دائما محاولات لنسف "المكان"، وفتق حدوده، وتجاوزها. فكل بيت من الشعر يتغنى به الشاعر، إنما هو "مشروع" "Projet"- في عرف الوجوديين – ليحقق من خلاله "أناه" خارج الموقف المحاصر.وربما فسر لنا هذا الفهم جنوح "مفدي زكرياء" إلى إشارات تتصل بعالم القداسة العلوية ك"المعراج، والمهبط، والمسرى..".إنها رموز للانفلات من قبضة "الإنساني" المحدود العاجز:» إلى غاية له يحاول بها التغيير من حالته الحاضرة.« (10). فالسجن، وإن تحقق مكانيا،حيزا للقهر والحجر، فإنه زمنيا تعطيل لسيرورة الحياة..حياة فرد معين. وكأن السجّان يريد أن "يوقف" حياة السجين لسنوات معدودات، ثم يعيد "تشغيله" بعد ذلك. فالإقصاء مضاعف: إقصاء مكاني، وإقصاء زماني. وهنا تتكشف فكرة "البين بين". فالسجن لاوجود له في المكان العام "Public" المشترك، ولا في الزمان العام. إنما هو مقصى.
4-السجن.قداسة الفضاء الرمزي:(1/93)
... تأخذ موضوعة السجن عند "مفدي زكرياء" طابع الفضاء المتعدد الدلالة، والذي يلتقي فيه الموقف الإنساني بشتى مشكِّلاته، فيأخذ أبعادا تجعله مكانا خاصا "Spécial" يتسم بجماليات متعددة، كثيرة الثراء، تسمو على الواقع، وتتجاوزه لتشكِّل منطقة "موجبة" "Positive" على الدوام. فالسجن – عنده – لا يرادف الحجر والمنع، بل يرادف التحرر والانطلاق والريادة. فتنتفي دلالته المعجمية الأولى، وتتلاشى وظيفته الاستعمارية، لتحل محلها وظيفة أخرى أكبر خطرا.. إنه يخاطبه قائلا:
يا سجن ازخر بجنود الكفاح
فأنت يا سجن طريق الخلود
أنت محراب الضحايا
يا مصنع المجد ورمز الفدا
يا مهبط الوحي لشعر البقا
يا معقل الأبطال و الشهدا
يا منتدى الأحرار والملتقى
أصبحت يا سجن لنا معبدا
عليك نتلو العهد و الموثقا
أنت أنت أنت يا بربروس.(11)
إن مراقبة اللغة – من خلال هذه الموضوعة – يكشف عن انزياح دلالي خطير في بنية النص.إذ تكون الانطلاقة من فضاء مشخّص مخاطب، تستقيم مناداته ب"يا سجن" لأنه "بربروس" وذلك هو نصيب الواقعي التقريري من النص.فإذا تمّ للشاعر هذا المنطلق الذي تستحيل فيه جدران السجن إلى مخاطب، تتقرر الصفة الإيجابية للسجن، إذ يغدو طريقا للخلود. فالجمع الذي يزخر به، لا يعاني فيه قيد الحجز والحجر، بل يستعد للانطلاق بعيدا.. إلى الخلود.(1/94)
... إن رمزية "الخلود" تكشف عن حمولة دينية زاخرة، تبدأ ببذل النفس، وتنتهي بالشهادة عند وعد الله - عز وجل - : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون. } (آل عمران ).إنها رمزية تفتح السجن على فضاء آخر، أكثر طهارة من الفضاء الأول. ف"المحراب" قطعة منه تتعالى لتسكن فسحة "البين بين" البرزخية، تتأتى فيها الصلة المنشودة بالعالم العلوي. فالتحول من الحشد والتجميع إلى الطريق..إلى المحراب..رحلة يتعدد فيها الفضاء الجديد للسجن، من "النحن" إلى "الأنا"، من الهم الجماعي إلى الاهتمام الفردي، فتزول عنه عوارض الدنيا ليسمو إلى مدارات الطهر الخالص.وأي مجد أرسى دعامة من التضحية ؟.
... وتتعدد العلاقة بين الفضاءين: فضاء المحراب، وفضاء الخلود عن طريق الوحي ومهبطه.. وذلك رمز آخر يحفل بحمولة دينية، تعطيه صدق الوعد، وصدق الموقف. إنه فضاء يتلقى فيه الشاعر نفثا علويا يؤكد صدق مقصده، وسلامة مسلكه، وعدالة قضيته. إن "المحراب" حيز منجاة، و"المهبط" حيز وحي، يجعلان من السجن "المكان" "معراجا" تذرعه إرادة الله - عز وجل - ورغبة الشاعر في آن.ومن ثم يغدو فضاء السجن، فضاء "وسيطا" "Intermédiaire" يستشرف الواقع ويعلوه. ويتحول الحيز الجديد إلى حيز إبداع يتأتى للشاعر فيه ما لا يتأتى له في غيره من فرائد القول، مادام نتاجه للبقاء والخلود. وأي مطلب أسمى تحلم به التجربة الإنسانية من خلود آثارها !
... إننا نشهد أن فضاء السجن- من خلال تعدد وظائفه - يجسد موقفا إنسانيا تتحقق فيه الصلة بين الذات وخالقها، تحققا يتيح صفاءها ونقاءها. وتلك صرخة "يوسف": { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. } (يوسف23) ولهذا السبب كان السجن مصنعا للمجد.
5-السجن. ثنائية الحياة والموت:(1/95)
... إذا كنا قد قررنا من قبل أن السجن معراج، تذرعه إرادة الله عز وجل، ورغبة الشاعر، فإن الوقوف مع السجين يبلور الفكرة ويعطيها أبعاداأخرى تتوسع معها مدارات الحيز، وتتقاطع فيها فضاءات شتى، وتعمرهارمزيات عدّة. يمكن استنطاقها انطلاقا من إدراك خصوصية كل فضاء. يقول "مفدي زكرياء" عن السجين المقاد إلى المقصلة:
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوانا، يتلو النشيدا
باسم الثغر، كالملاك أو كالط
فل يستقبل الصباح الجديدا
شامخا أنفه، جلالا وتيها
رافعا رأسه، يناجي الخلودا
رافلا في خلال زغردة تملأ
من لحنها الفضاء البعيدا. (12)
يمكننا الساعة تمثل الموقف داخل السجن، بل ومشاهدته من خلال الكتابة المشهدية، وعيون السجناء تطل من كوى الزنزانات، تراقب مرور السجين مقادا إلى الشهادة. إنه موقف تتوقف فيه كل حركة: حركة التنفس في الصدور، حركة الزمن بين الجدران، لأن النهاية الدنيوية قد أزفت. تتباطأ الحركة إلى درجة أن كل خطوة فيها تحتفر أثرها في النفوس. إن مساحة الكوة التي يطل منها السجين على رفيق دربه، لا تسمح له بالرؤية الشاملة، بل تقتطع من المشهد "لمحة" يُسجّل أثرها في نفسه وبصيرته، فيتوهم بعدها أن الحركة قد توقفت، وأنه يشاهد تفاصيل لا يشاهدها غيره. لهذا السبب تزاحمت التشبيهات في أبيات "مفدي زكرياء" تزاحما عجيبا. لأنه- وهو المطل من كوّته حافظ على لقطة واحدة من المشهد تقاطعت فيها مشاعر عدة. فراح يبحث لها عن معادلات في ذاكرته واعتقاده، والموكب يواصل سيره الجنائزي. فتزاحمت الصور في خلده.
... إن الألفاظ في البيت الأول تكشف عن تباطؤ الزمن والحركة معا. ف"قام، يختال، وئيدا، يتلو.." كلها ألفاظ تختزن البطء، والسكينة، والوقار. فالقيام له حركته الخاصة، والاختيال له سيماته المميزة، والتوأدة، والتهادي، والتلاوة.. وكأن الحركة رسمت على شريط يتيح للعين فرصة التملي و التفرّس في أحوال السجين.(1/96)
... والغريب أن اللغة، هي الأخرى تشارك في صنع هذه الحركة المشهدية، إذ هي تدفع ب"المدود" إلى ساحة البيت لتمدد الكلمات "صوتا" وكأنها تتمدد نتيجة تمدد الزمن الحافل بالمشاعر. قام، يختال، شامخا، رافلا، رافعا..مسيح، وئيد، يتهادى، نشوان، باسم..ولم تخل كلمة من كلماته من مد، حتى يتوقف المشهد في سكونية المسيح التي تعرض بالمستعمر من خلال دفع زعم الصلب إلى يقين "بعث" عيسى عليه السلام.
... وتتضافر الألفاظ من جهة ثانية لإشاعة جو من الإيجابية "Positivité" والإشراق على الموقف، وكأن الموت الأكيد خلاص وفوز. فالاختيال، والتهادي، والشموخ، والرّفل..إشارات تكتسب دلالتها الرمزية من فضاء : السجن/المعراج. فاللحظة..لحظة لقاء بين الذات وخالقها، وحُقّ لها أن تبتسم، وأن ترفل في صفائها كالمسيح..كالملاك.. كالطفل. إن عرض الموقف في إيجابيته المطلقة، يجعل من السجن فضاء محببا. وتبقى رمزية "الصباح" الجديد محل قراءتين: صباح الشهادة والخلود، وصباح الاستقلال والحرية. فالفضاء هنا دائرة "وجودية" "Existentielle" تلتقي فيها الحياة بالموت في تكامل، لا يحمل تعارضا أنطولوجيا. فالخلود حياة، والاستقلال حياة. وكما يبطن الخلود وفات، يبطن الاستقلال ممات.
6-السجن. فضاء تحول:
... إذا سلمنا أن موضوعة السجن قد أخذت عند "مفدي زكرياء" شكل فضاءات متعددة :
سيان عندي، مفتوح ومنغلق
ياسجن، بابك، أم شُدّت به الحلق
يا سجن ما أنت ؟ لا أخشاك تعرفني
من يحدق البحر، لا يحدق به الغرق
إني بلوتك في ضيق و في سعة
وذقت كأسك، لاحقد، و لاحنق. (13)
تتجاوب المواقف المثارة في لحظتها، فيجد فيه الشاعر فسحة لإنشاء جملة من "التحويلات" "Métamorphoses" الرمزية التي تنطلق من واقع عام-هذه المرة- لتحاور الآخر. لذلك جاء الحديث مركزا على الانتماء، والأصالة، ملفوفا برمزية رومنسية جذابة:
اعصفي يا رياح
واقصفي يا رعود
واثخني يا جراح
واحدقي يا قيود
نحن قوم أباة(1/97)
ليس فينا جبان. (14)
لابد ابتداء من التكيز على خصوصية السجن عند "مفدي زكرياء" إنها خصوصية موجبة دائما، لا يتسرب إليها شك، ولا يساورها ريب. فهو الآن في ثوب من الرمزية لا يخشى أن يخاطب الرياح التي ترادف وضع البلاد، مخاطبة المتحدي الذي يستهين بفعلها. فيدعوها إلى مضاعفة النشاط. وقد يبدو الموقف غريبا إذا هو فهم على هذا النحو، ولكن رمزية "الرياح" ترتبط في ذهن المسلم دائما بالخصب والعطاء، لدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - :"اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا". ولارتباط الريح دائما بالهلاك والدمار. وقد يكون الاستعمال عند "مفدي زكرياء" مقصودا من باب معارضة المواقف ودفعها. فالعصف، والقصف، يثيران الخوف والفزع. وقد ارتبطا في الموروث العرفي بهذه المعاني جملة. فالفضاء هنا فضاء تحول، يجعل من الواقع المعطى إمكانية تجاوز لواقع أحسن وأمثل. فالأمر في اثخني، واحدقي يعلن التحدي المستمر لذلك الواقع مادامت النتيجة: نحن قوم أباة، ليس فينا جبان.
...
إن الفضاء يكشف عن تدبير حاذق لهندسة النص. وطابع التحويل يسكن الغضب والثورة التي صاغت مثل هذه الأبيات، وأعطتها هذه الرمزية القوية التي تكشف للقارئ صلابة العود، وإصرار السجين.
7-السجن. فضاء تأمل وفلسفة:
... إن عناصر التحويل التي استنطقناها في الأبيات السالفة، توحي لنا بإمكانية أخرى تسكن هذا الفضاء، وتعطيه خصوصية جديدة تندرج في إطار إيجابيته، وتكسبه مجالا يعمره التأمل، والتفلسف. فتتسع دائرته، وتتحول حدوده إلى شيء يتجاوب فيه الداخل والخارج، ويتقاطعان في الذات الواحدة. فيعطي التأمل في هذه الحالة، تركيبا شعريا فلسفيا، تخالطه اللغة الحالمة، فتصبغه برومنسية لم نألفها في شعر "مفدي زكرياء" إلاّ لماما.. إنه يقول:
-في الحنايا.. وسواد الليل قاتم
... مالت الأكوان سكرى.. ثملات
... أودعتها مهجة الأقدار سرا
-في الزوايا.. بين سهران ونائم
... ونجوم الليل حيرى .. حالمات(1/98)
... ضارعات، بث فيها الغيب أمرا
-والمنايا.. بين مظلوم و ظالم
... مثقلات، ضقن صبرا.. جاثمات
... ظلن يرقن متى يطلعن فجرا. (15)
وتكشف هندسة النص، عن هندسة الفضاء/ المكان. فالسجن: فضاء تأمل يعطي للنفس فرصة مراجعة مواقفها. فيكون لها من هذه الوقفة حالة استبطان ذاتي يتحدد من خلالها الفضاء الداخلي الأول ( في الحنايا ) إنه السجن الأول، وما يعمره من مخاوف وآمال.. وتترادف ظلمة السجن وظلمة النفس، وتتراكب طبقاتها في آن. عندها تتحقق ثنائية الداخل/ الداخل، فيكون فضاء السجن فضاء مضاعفا: سجن الذات وسجن المستعمر. وفي هذه الحالة تأتي اللغة لتعطي لذلك التركيب جسدا لغويا ( إيجاد اللغة ). فالسواد رمزية تتناول متاعب النفس وهمومها، إذ لا يوصف الليل بالسواد إلاّ إمعانا في المبالغة واصطيادا للظلال النفسية فيه. ثم يأتي الليل رمزا للسكون والسكينة الظاهرية، وتعطل حركة الواقع. وفي هذا المشهد تميل الأكوان سكرى ثملات.. والأكوان جمع "مائع" رجراج، يتسع لكل كائن موجود.. وكأن سواد الواقع يشقيه ويتعبه، فيكون الليل فسحة تترنح فيها الأكوان مثقلة بالهموم والأحزان. إنها في حالتها تلك، تشكل بالنسبة للشاعر سرا.. وأي سر ! فللأقدار وقائع لا مراجعة فيها، وهي واقعة لا محالة. إنها تتعاطف مع الكائنات، فتستعمل مهجتها بدل قضائها. وهنا ينفتح الفضاء السجني لمعانقة الكون كله، ويتوحد معه تعاطفيا.. إنه فعل مشاركة.(1/99)
... تلك هي حقيقة الفضاء الداخلي.أما الفضاء الخارجي( السجن ) فيتحدد المكان فيه من خلال "الزوايا" التي يتكدس فيها السجناء بين سهران ونائم. ويسهل علينا إسقاط معطيات العالم الخارجي على العالم الداخلي، فيكون السواد للسهر، ويكون الليل للنوم، وتكون النجوم للعيون.. نوم، وحيرة وأحلام. إن الفقرة الثانية كتابة فنية للفقرة الأولى، تلتمس إسقاط العالم الخارجي على العالم الداخلي. ونكتشف علاقة هذا الإسقاط في لفظ "ضارعات" الذي يصور مشهد المتعبد في محرابه الذي يتجاوز المكان إلى خالق المكان. وفي التضرع توحد آخر بالقضاء والقدر. كما أن "جاثمات" تجسيد لسكونية التضرع ظاهريا، ولكنها تكشف عن تحليق خارق عجيب يتجاوز كل التخوم.
... إن موضوعة السجن، تعلن عن فضاء موجب دوما عند "مفدي زكرياء" وتعطي للتجربة الشعرية أصالة ترود جميع مستويات المعنى، وإن كانت تجنح إلى الرمز. فالرمز مفعِّل قوتها، وخالق ديناميتها.
((
هوامش:
1-أرسطو. فن الشعر نقلا عن محمد غنيمي هلال. الموقف الأدبي.ص:111.
2-أحمد بن علي الفيومي المقرئ.المصباح المنير.ص:345.
3-غنيمي هلال.م.س.ص:110.
4-طه وادي. جماليات القصيدة العربية.ص:69.
5-صلاح فضل. منهج الواقعية للإبداع الأدبي.ص:60.
6-م.س.ص:140.139.
7-يوري لتمان.مشكلة المكان الفني.(تر) سيزا قاسم دراز.ص:64.
8-صالح خرفي.أطلس المعجزات.ص: المقدمة.
9-سيزا قاسم دراز. المكان ودلالته.ص:59.
10-محمد غنيمي هلال.م.س.ص:120.119.
11-مفدي زكرياء. اللهب المقدس.ص:91.88.
12-م.س.ص:9.
13-م.س.ص:21.20.
14-م.س.ص:84.
15-م.س.ص:125.124.
(((
موضوعة الدنيا.
نص التضاد
- المكان الزماني.
- الموت الحقيقة الوجود.
- الدنيا.الدار والزوال.
- النص والمجال النصي.
- حركية النكوص.
الفصل السابع:
... ... ... المكان الزماني. نص التضاد
1-تقديم:(1/100)
... نروم في هذا الفصل ملامسة جانب لا يكاد يلتفت إليه أحد من دارسي المكان لبعده عن المكان بمعناه الفيزيقي المعهود. ذلك أن المكان مجال محدود معلوم، بيّن الخصائص والمميزات. والمكان الذي نقصده الساعة غير ذلك، وإن حمل من نعوت المكان الفيزيقي نعت "الدار" و"البيت". إنه مكان زماني، وذلك لانصراف دلالته إلى الظرف الزماني الذي يحتوي الأحداث ويمكنها من التوالي، وفق الحتمية التاريخية المعهودة. بيد أن النعت الشعري والنثري، يفضل استعمال اصطلاح "الدار" للحديث عن "الدنيا". وكأن الالتفات إلى الحيز المكاني أقوى في إشاريته إلى الدنيا من لفظها أصالة. بل قد تظل دلالة "الدنيا" عائمة، متأرجحة بين الظرف الزماني ومعنى "التدني" دون أن تنال قسطا من التحديد الخاص. أو هي في لفظها ذاك، تتسع لتشمل سائر الناس ماضيا وحاضرا. وإذا نحن خصصناها ب"الدار" صارت خاصة الفرد الذي يتحدث عنها، أو الذي يتلقى خبرها. وكأننا إذ نطلق لفظ "الدار" نسعى لكي نعطي لأنفسنا التجسيد الحسي لمعنى الدنيا العائم الشاسع. عندها فقط تنقلب الدنيا إلى ذلك المتاع الذي يجد عند كل واحد منا صورته المتأرجحة بين المثال الذي يحلم به، والواقع الذي يقطن فيه.(1/101)
... وإذا استقام لنا هذا الفهم، تمكنا من قراءة قسط كبير من الشعر العربي الدائر حول "موضوعة الدنيا" على أنه شعر فيه للمكان: المجازي/ الحقيقي شطر وافر من الحضور. استطاع الشعر من خلاله صب جملة من المعاني المتصلة بحقيقة الدنيا في الظرف المكاني.وكأن التنافذ بين الاصطلاحين من القوة الرمزية ما يجعل الحديث من باب المجاز أصالة، ولكنه يظل خاضعا لشروط المكان الفيزيقية. وهذا الشأن يستقيم مع مقابلة الدنيا بالآخرة، وجعل هذه الأخيرة "دارا" أخرى أكسبها الوحي حظا من المواصفات التي تقف في الطرف الآخر من الدار الفانية. وكأن المقابلة بينهما تتسع لتجعل تقابلهما يتجاوز الأحياز إلى تقابل الفناء والخلود. إنها الفكرة التي نؤسس عليها " نص التضاد" في كل شعر تعرض لموضوعة الدنيا.
2-الموت: الحقيقة والوجود.
... إذا كان الشعراء يحملون "شقاوة" الطلل في شعرهم نصا، وفي أنفسهم هاجسا، يعرض عليهم صور التحول والفناء، فإن الظرف الذي يشتمل على هذه المواقف كلها هو "الدنيا". ومحاورة الطلل في وجه من وجوهها، محاورة للدنيا وأحوالها الصائرة إلى الفناء والموت. وكأن الطلل مظهر شاخص من مظاهرها، وموضوع بارز من مواضيعها. والاجتزاء به، معالجة جزئية للقضية الأولى التي تسكن الإنسان عبر العصور. وكلما فكر الإنسان في ذاته وجودا، أو فكر فيها مشروعا، وقفت الدنيا بجميع ملابساتها قبالته. تذكره بضرورة الزوال. إنها الصدمة التي تجابه كل عقل يشرئب خارج إطار الآن، ليطل على المستقبل، ويلامس خاصية الزمان، فيجدها في حركة مستمرة نحو غاية واحدة، سارية على جميع الكائنات دون تمييز أو تعيين.(1/102)
... وليس الاهتمام بالدنيا "قيمة" وليد ظرف حضاري معين، يصنعه وعي ثقافي متقدم. وإنما الاهتمام "فطرة" تنشأ في النفس مع البوادر الأولى للتفكير الجاد. وتأخذ حظها من العمق والتدبر كلما تقدم بصاحبها ركب الزمان، واغتنت بالتجارب والملاحظات. حتى تأخذ النظرة النافذة فيها طابع التفلسف الحق، الذي يحمل على عاتقه إيجاد الجواب الشافي للسر المستديم. ذلك هو الهم الذي تحمله كل الفلسفات، سواء رفعت بصرها إلى السماء، أو ركزته في الأرض. فبين مبتغاها هذا وذاك، سؤال واحد عن الأين والأين: أين يبحث في الأصل والنشأة، وأين يبحث في المنتهى والمصير. وكلما غمض الطرفان، وافتقرا إلى دليل، كلما سعت النفس إلى إيجاد البديل الذي يرضيها في موقفها ذاك. فصنعت لنفسها الاعتقاد الذي تركن إليه.وإذا فحصنا الاعتقاد عينه بين السذاجة والنضج، وجدنا لضرورة المعرفة – معرفة المبدأ والمنتهى – حضورا يؤرق النفس كل حين. وسواء ركنت النفس إلى القالب الأسطوري، تفسر به حيرتها ومبتغاها، أو سارعت إلى إنشاء الاعتقاد الوضعي الخاص استنادا إلى فهم خاص للحياة والاجتماع، فإن الاعتقاد واحد بين الطرفين يسلك سبلا مختلفة لغاية واحدة.(1/103)
... إن التفسير الأسطوري، وإن بدا سطحيا ساذجا للنظرة المتحضرة، يحمل في طياته طفولة النفس البشرية، ومقدار احتمالها المعرفي. فهي إن أوكلت الوجود إلى "قصص" و "حكايات" يتعذر عليها معرفة منابعها الأولى، تطمئن لها، استسلاما لما تجده فيها من تفسير وتعليل. ولا تسأل الكيف، والأين، والمتى.. ومن استسلامها ذاك كانت الأسطورة شكلا للعلم المتاح الذي يرفد الحياة، ويتوجب على الأجيال حمله، وتناقله. الأمر الذي يفسر تمسك الشعوب بها تمسكا يقترب من التقديس، أو هو التقديس عينه. بل قد نجد في صلب الديانات السماوية نسيجا أسطوريا، لا تنفك هذه الديانات من ترديده. وتلتمس له اليوم من آليات التأويل و الهيرمونيطيقا و السيميائية، ما ينقله من مجاله الأسطوري الساذج إلى غمرة الدلالة الواقعية الموحية.(1/104)
... إنه الأمر الذي ركبته، وتركبه اليهودية، والمسيحية، في محاولاتها تمديد النص المقدس عندها. وهو ما يفسر ضخامة الشروح التي كتبت وتكتب على هامش التوراة والإنجيل. والتي تتسع بفعل الهيرمونيتيك في جميع الاتجاهات، سعيا وراء التوافق الحضاري الحديث. ذلك أن الفهم المحكوم بالعصر وإفرازاته الفكرية والعلمية، يلتمس من الشروح والتوسيعات ما يؤكد مصداقيته، وفهمه الخاص. وكأن العملية تنهج سبيلا معكوسة يقف فيها النص عند عتبته الأولى أسطوريا، وتعتوره الشروح لتمديد "حياته" حتى يساير حاضر الناس. يقول "ميشال فوكو" :» لا يوجد موضوع من موضوعات التأويل إلاّ وقد أوِّل من قبل، بحيث تقوم علاقة التأويل على عنف بقدر ما هي علاقة توضيح وكشف. ومن هنا لا يكتفي التأويل بالكشف عن خفايا مادة التأويل التي تمنح بشكل سلبي وانفعالي، بل يستحوذ التأويل بعنف على تأويل آخر سابق عليه، فيقلبه لكي ينزل عليه ضربات عنيفة.«(1) ومعنى ذلك أن التأويل الجديد محو للتأويل السابق وتسفيه له. وبعبارة أخرى أن الجيل الذي يتلو يرفض اعتقادات الجيل الذي سبقه. ومن ثم فإن نصه الجديد مخالف للنص القديم كل المخالفة، لأن حيثيات الفهم عنده تجد في الأسطورة الأم ما لم يجده فهم الجيل الذي سبقه. والأخطر من ذلك، أن الحاصل إثر كل تأويل للنص، أن الدين الجديد غير الدين القديم وإن احتفظ بالاسم عينه.(1/105)
... والأمر ليس كذلك فيما يخص القرآن الكريم، الذي يتجاوز نصه الزمنية البشرية، وعلى الفهم أن يلاحقه بما استحصد من فكر، وعلم، ومعرفة. فالتأويل هنا غير التأويل هناك. التأويل في القرآن الكريم كشفُ عن مخبوء مستتر تجد فيه الأجيال المتعاقبة حظها الذي قُسم لها. والتأويل في غيره، تمديد وتمطيط لنص ساكن. يعود عليه الفهم بالزيادة والنقصان. ففي الأول يظل مراد الله عز وجل من كتابه واحدا وفي الثاني يتعدد مراد الأفراد بعدد الأزمنة و الأفهام. وكأن الأسطورة لم تخفت، ولم يخب وميضها. وإنما تجدد إهابها مع كل جيل، لتكون أسطورتهم الخاصة دون غيرهم من الأجيال المتقدمة. ذلك أنه:» لا توجد هيرمزنيتيك عامة، أو قانون عالمي للتفسير النثري، بل توجد نظريات مستقلة ومتعارضة في تحديدها لقواعد التأويل.« (2) في حين أن التأويل عند المسلمين لا يتجاوز عملية الترجيح بين احتمالين، مع وجود قرينة الترجيح لأحدهما. وتكتسب القرينة قوتها الترجيحية من ثبات مصدرها قرآنا، أو حديثا، أو أثرا، أو إجماعا، أو قياسا. والتفسير بعد علم له من القواعد الصارمة ما يجعله أكثر دقة من كثير من العلوم الطبيعية.(1/106)
لم يكن الشاعر الجاهلي بدعا من الشعراء !كانت له أساطيره التي يركن إليها في فهمه للحياة.ولكنها لم تكن من القوة بحيث تسيطر على فطرته، وتخمرها كلية. بل كانت الفطرة عارية تطل كل حين وراء كل سؤال جوهري، متلمسة المظاهر العامة التي يخلفها سيل الزمن وتواليه، وأحداثه. تقف من الحياة موقف المراقب الحصيف الذي يستخلص من التشابه، والتعارض، والتناقض، والتوالي دروسه. فتسجلها في ثوب من الحكمة، والمثل، تلخيصا للعلم الحاصل من التجربة المعاشة. ذلك ما تكشفه القراءة المتأنية للأمثال، والحكم، بعيدا عن محمولاتها المباشرة، وصولا إلى الأفكار التأسيسية التي أنشأتها، وصاغت عبارتها. إذ المثل – مثلما قلنا سابقا – موقف من الحياة. وكذلك الحكمة، وكأنها استخلاص لزبدة المعرفة من مخاض اليومي المتحول. وعندما نقرأ ل"زهير ابن أبي سلمى" قوله:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمّر فيهرم. (3)
ندرك أن منشأ هذا التصور هو الملاحظة المستمرة لفعل الموت، يبحث له العقل عن نظام أو سرّ في اختياره لضحاياه. فلا يجد، فتأتي صورة "الناقة العمياء" التي تسير على غير هدى، خابطة برجليها أمامها من البيئة، تعرض نفسها مثالا للحالة التي يعاينها الشاعر في فعل الموت. وليس في الموقف فلسفة مثلما زعموا. بل فيه ملاحظة وابتغاء المعادل المماثل. أو هي في عرفنا اليوم قراءة بالمماثلة. فإن غاب عن الشاعر قضاء الله عز وجل في آجال الناس، فإن فعل الموت لا يقدم في حصاده اليومي إلاّ ما تقدمه الصورة التي اختار الشاعر. وكذا الأمر في قوله:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم.(1/107)
إذ تحتل المعايشة للأحداث الدنيوية مكانة بارزة في نسج حقيقة هذا الاعتراف. لأن الشاعر تفاجئه الأيام بجديدها الذي يباغته، حاملا في طياته السار والضار، المعقول واللامعقول. وهو حين يقرر علم اليوم الذي طرأ، والماضي الذي انفرط، يقرر سلطة الخبر والرواية في إنشاء معرفته. ولكنه يظل أعزلا فيما يخص الغد/ الغيب. تلك المعرفة التي أتاحت للشاعر إنشاء تلك السلسلة من الحكم التي افتتح كل واحدة منها ب"ومن" لأنها نتاج الخبرة، والملاحظة، والتجربة.فهي دوما تحصل على نحو واحد مطّرد.
... ولا يبرح الموت يؤرق الشاعر العربي القديم، يبحث له عن معادل موضوعي، يقرب صورته وفعله، ويحاول فك لغز اختياره لضحاياه. إنه لا يختار الشيخ الهرم، ولا المريض المقعد، ولا الجريح المدنف.. بل يأخذ من الصحيح والعليل، والشاب والكهل، والفتى والعجوز.. وأخذه لا يخضع في عين الجاهلي لنظام ولا لمنطق. ولذلك وجدنا "طرفة بن العبد" يأخذ من واقعه صورة رمزية، قوية الدلالة من وجهين:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لك الطول المرخى و ثناياه باليد. (4)
أما الوجه الأول، فصورة الطول الذي يرخى للدابة، حتى يسمح لها بالتنقل سعيا وراء الكلأ، وهو مشدود إلى يد أو وتد. والطول يستمد فاعليته من طول حبله، ومن المراس الذي يشده. وهي صورة تتكرر يوميا في حياة الأعراب. وأما الوجه الثاني فصورة الدابة نفسها التي لا تعبأ بِطَولها. فإذا أحللنا الإنسان مكانها، كانت حقيقة عمره ومقداره كحقيقة الطول وامتداده. يتناساه ولا يعبأ به، وهو في نقصان مستمر كلما تقدم به الزمن، وتقلبت به الأحداث، إلى أن يبلغ الطول نهايته، فيشدّه شدة عنيفة: هي الموت.
... كان الشاعر العربي يدرك ذلك جيدا، فلا يجعل للموت من سبب. لا المرض ولا الشيخوخة..لا الشجاعة ولا الجبن. إن الموت هناك في نهاية المطاف يكمن للساهي الناسي، وللمتيقظ الحساس. إنها الحقيقة التي عبر عنها "طرفة" أروع تعبير. واسمعه يقول:(1/108)
لعمرك ما أدري وإني لواجل
أفي اليوم إقدام المنية أم غد ؟
فإن تك خلفي لا يفتها سواديا
وإن تك قدامي أجدها بمرصد. (5)
قد نتوقف قليلا عند عبارة "وإني لواجل" .لأنها تملك حظا كبيرا من الصدق والإنسانية. وهي عبارة تنمّ عن خلو الذات من النفاق، والتظاهر الكاذب. تطل من ورائها الفطرة التي لم تخالطها شوائب الأفكار المتناقضة. إنه إنسان يخشى الموت، ويخاف منه. لأنه يعلم أن وراءه زوال، واندثار، وبلى. والطلل شاهده الأول في حياته.وليس له إلاّ "اللحظة" التي تكتنفه، يهتبل فرصتها للذة والعيش، بما يتيحه له فقره أو غناه. والتعبير عن "اللحظة" حاضر في شعر "طرفة" حضورا قويا ملفتا. لأنه يدرك أنه يقف في نقطة بين زمنين: زمن انقضى لا يملك من أمره شيئا، وزمن قادم لا يعرف عنه شيئا، وليس له إلاّ اللحظة الشاخصة يصنع فيها لنفسه ذكرا، أو لذة، أو يستكين فيدعها تفلت منه فارغة خاوية. إنها لحظة في مقدورها صنع غده، إن كان له غد ! لذلك يقول:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي. (6)
والمبادرة في هذا المقام، هي اهتبال اللحظة لما يريده الشاعر من نفسه ولها. فالموت كما يعرضه في بيته السابق، إما أنه يقتفي أثره، ويلاحق سواده في دروب الأيام، وإما أنه يكمن له في شعب من شعابها و يترصّده. والصورة أكثر إلحاحا على الشاعر من غيرها لسبب بسيط، يقيمه الشاعر على قاعدة حسابية بسيطة، تجعل لكل ذات موتتها الخاصة. إنه يقول:
أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى
بعيدا غدا، ما أقرب اليوم من غد ! (7)(1/109)
وإذا حاولنا التأكد من العمر الذي يذرعه الإنسان – بحسب هذه الرؤية – تبين لنا أن العمر هو مجموع اللحظات التي اهتبلها الإنسان، وصنع فيها لنفسه ذكرا أو لذة. أما التي انصرمت دون أن تعقب بين يديه شيئا، فهي ليست له. بل في نفسه من انقضائها حسرات وخيبات. يقابل بينها وبين تلك التي نال منها اللذة، فلا يجدها إلاّ سويعات قليلة، لا تشكل إلاّ شطرا يسيرا من عمره كلّه. تلك هي مرارة الخيبة في الشعر العربي. وذلك هو مبعث التكالب على الشرب، وطلب اللذة، والحمد.
3- الدنيا، الدار والزوال:
... شدّد كثير من الشعراء على فكرة الزوال التي ترتبط بالدنيا ارتباطا يعززه التاريخ وتوالي الحدثان. ولكن الفكرة إن ظلت في ارتباطها ذاك، لا تستوفي حسها الدرامي في النفس.لأنها لن تتعلق سوى بالفكرة المجردة التي سرعان ما يتناساها الذاكر. لذلك اقترنت فكرة الزوال ب"الدار". وهو الاقتران الذي يعطي للاصطلاح حضوره المؤثر في حياة الفرد. ف"الدار" تمتح دلالتها من الاستدارة والانغلاق، وكأن فعلها ذاك يؤمن للإنسان حيزا ينعزل فيه عن غيره من الناس. فيستره العزل، ويؤمن له الراحة والأمن من جهة، كما يؤمن له ستر العيب، والسر من جهة أخرى. ولا يقف مدلول الدار عند الهم الفردي، وإنما يتسع ليشمل علاقات الجوار، والاجتماع، والمعاملات. وكأن الدار امتداد لصاحبها في المكان والزمان معا. وكلما قويت الدار واشتدّ ركنها، كلما كان ركن صاحبها شديدا متينا.(1/110)
... وإذا قرنت فكرة الزوال ب"الدار" أخذت الفكرة حظها من التجسيد الذي يعطي لزوالها فداحة الخطب. فيزول عن صاحبها الستر، والأمن، والاجتماع. إذ التشرّد يتم مكاني لانعدام وجود الفضاء الذي يأوي إليه المشرّد. وكل من فقد شيئا من السكن – والسكن يمتدّ من الدار إلى الزوجة – فقد الهوية. هوية الانتساب إلى دار، إلى جوار، إلى اجتماع، إلى حضارة..لذلك التزم الشعر الإسلامي بخاصة تحديد الدنيا بالدار، وربط صاحبها بها، ربط الملكية الزائلة، وفي ذهنه تجاوزها إلى دار أخرى بعدها. وطالب الدنيا كراكب البحر، إن سلم قيل مخاطر، وإن عطب قيل مغرور.ومنه قول الشاعر:
ألا كل حي هالك و ابن هالك
و ذو نسب في الهالكين عريق
فقل لغريب الدار إنك راحل
إلى منزل نائي المحل سحيق
و ما تعدم الدنيا الدنية أهلها
شواظ حريق ،أو دخان حريق
فلا تحسب الدنيا إذا ما سكنتها
قرارا فما دنياك غير طريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
عليك بدار لا يزال ظلالها
ولا يتأذى أهلها بمضيق. (8)(1/111)
إنه التأكيد الذي يستطرق من الذات الفردية ليتحول إلى قانون شامل يسري على الجميع، فلا يسلم من حصاده أحد من الناس.هذه هي الفكرة التي تعن للشاعر وهو يقبل على الموضوع. ولكنها فكرة وإن قبلها الناس، خالية من كل تأثير، عاطلة من كل إحساس، مادامت في ثوبها ذاك، من السعة والشمول، وكأنها لا تعني أحدا من الناس، بل كل الناس. حتى ليشعر الواحد منهم أنه استثناء في العدد والقاعدة معا.قد نسمي ذلك الشعور "غفلة". وهي غفلة تستديم مفعولها المخذر من تناسي الحدث، أو مراقبته في الآخرين بعين باردة. لذا يجد الشاعر نفسه مرغما على المسك بها، ورجها بعنف، مستعملا تقنيات التنبيه المختلفة، كي يعطيها من القوة ما يزيل الخدر، ومن الحرارة ما يبدد الغفلة. وذلك صنيع الشاعر مع أداة الاستفتاح (ألا) والاستغراق (كل) والشمول (حي) والنتيجة ( هالك وابن هالك) لأن الشاعر لا يطمئن ليقظة السامع المتلقي، فيبادره بهذا السيل الدافق من المنبهات. ويستمر به في نوع من الإلحاح ( وذو نسب في الهالكين عريق) ارتدادا إلى نشأة الإنسان الأولى. ليجعل من الموت حتما مقدورا على كل حي. بعدها يتحول الحديث من العموم إلى الخصوص، ومن الحي إلى الفرد ( الغريب).(1/112)
... وإذا كنا قد قررنا أن دلالة الدار تنصرف إلى الاطمئنان، والأمن، والستر، فإن الشاعر يدرك أن ذلك الانصراف وقتي جزئي، وأنه أشبه بالمقيل تحت ظل الشجرة المتحول الزائل. فيمعن مرّة أخرى في تبديد هذا الوهم بإضافة نعت "الغريب" الذي يحمله المقيل في المسافر العابر، ويمرره إلى الدار. ولا تكون الغربة هنا بمعناها الأول، بعدا عن الأهل، والأحبة، والوطن، وإنما الغربة إمعان آخر في تحميل الدار دلالة الرحلة والسفر. فيكون المكان في وضعه ذاك حاملا لمعنيين متدابرين متناقضين: معنى الدار والأمن الزائلين، ومعنى الغربة والاغتراب الدائمين. عندها يقتحم مفهوم "الرحلة" و "السفر" و "العبور" مفهوم الدار اقتحاما يجعل الاطمئنان إلى دلالته "غفلة" وضربا من "الغرور".
... لقد اختار الشاعر لهذه الفكرة صياغة فيها من ضروب التركيب الأسلوبي، ما يجعلها منبها أسلوبيا يعمل في اتجاهين: مخاطبة الغريب مخاطبة غير مباشرة عن طريق (فقل) واستعمال الجملة المؤكدة ( إنك راحل). وفي الأسلوبين مسحة من السخرية والجد في آن. نلمس الأولى من الصيغة غير المباشرة، وكأنها تعريض بالغفلة والغافل الذي يستنيم لخدر البقاء والطمأنينة، ونتحسس الثاني من التوكيد، وشخوص الجملة الاسمية خارج إطار الزمن. لأن الراحل سيرحل إن عاجلا أو آجلا. ولا مجال له لمخادعة نفسه برغبة البقاء والاستمرار. وأن منتهى الرحلة إلى قرار مظلم سحيق.(1/113)
... إن الشعر لا يقول أشياءه في اللغة المعتادة. إن له من اللغة ألفاظا وتراكيب تمعن في خلق جو من المعاني التي تعمل عملها الدسيس في النفس، على مراحل. لقد اختار لفظ "المحل" عوضا عن "القبر". والمحل مكان لا صفة له، ولا تمييز. لأنه يتسع لكل حيز له خاصية الاشتمال على الميت وغيره. رمسا كان أو ردما، أم فضاء مفتوحا تتحلل فيه الجثة وتذروها رياح البلى. وهو ضرب من التعتيم الذي يشيع كثيرا من الخوف والتوجس، حتى ليتمنى الإنسان أن تكون نهايته إلى قبر معلوم أفضل من أن تكون نهبا لضواري السباع وجوارح الطير، تنهشها نهشا، أو قوارض الأرض تنخرها نخرا.ثم يمعن مرّة أخرى في إجراء التقابل بين "النائي" و"السحيق"، وبينهما من الفروق ما يجعل الأول للبعد، والثاني للعمق. فيكون المكان "القبر" على ظهوره المادي نائيا وسحيقا في آن ! إنها الفكرة التي أبدعها "ابن الرومي" في رثاء ابنه، عندما وقف على قبره يشاهد التباين عينه. واسمعه يقول:
طواه الردى عني، فأضحى مزاره
بعيدا على قرب، قريبا على بعد. (9)(1/114)
إن تجاور القرب والبعد في الموقف الواحد، يفرض على النفس تحسس الفروق التي تلحق كل واحد منهما بالنسبة للواقف عليهما. هناك "قبر"و "منزل"، وهناك "بعد"و "نأي"، وهناك "سطح" و"عمق". إنها التعارضات التي تعطي للمكان الجديد خصوصية الحضور والغياب في آن واحد. حضور تشهده العين، وترقب مظاهره، وغياب تتحسسه النفس، وتستشعر آثاره.مما يعطي للمكان الجديد صفة "البرزخية" التي تفصله عن المكان المعطى، وترحل به إلى مسافة ما بين الدارين. خارج الظرف الزماني الحياتي.فهو ماثل فيه مثول المادة، غائب عنه غياب الروح. وقد عبرنا عن هذه الحالة ب"البين بين"، وهو التعبير الذي يظل عاجزا عن استيفاء حق المكان "البرزخ" لأنه يخرج عن كل مقايسة دنيوية. وكل ما يستطيعه العقل، والقلب إزاءه، هو إنشاء هذه السلسلة من التعارضات بين النعوت. وعندما يستشعر العجز إزاءه ينصرف عنه مرة أخرى عائدا إلى الشاهد.. إلى الدار الدنيا ممعنا في وصفها، وفضح هشاشة بنائها، وسرابية وعودها.. إن الشاعر يعود إليها قائلا :
وما تعدم الدنيا الدنية أهلها
شواظ حريق، أو دخان حريق
فلا تحسبن الدنيا إذا ما سكنتها
قرارا فما دنياك غير طريق. (10)(1/115)
لقد حتمت إزالة كل فضيلة عن الدنيا، وتحويلها إلى مجرد "طريق" تعبرها قوافل الناس منذ فجر البشرية، أن ينعتها الشاعر بالدّنية إيغالا في دناءتها وسقوطها. إذ هي تقابل الإقبال عليها بلفح الشواظ، ونتن الدخان. وما يحسبه الغافل متعة ولذة، إنما هو ألم، أو يعقب ألما. فإذا حولنا الدنيا إلى طريق، أزلنا عنها صفة المكان الساكن، وأكسبناها صفة الطريق الممتد، الذي يوصل إلى قرار. وصفة الطريق تزيل عن المكان ما يلحقه من ملكية وعمران، ويرفع الصورة من الاستقرار إلى الحركة.فإذا هي تنقلب إلى جماعات وأفراد يفدون تباعا في اتجاه واحد، إلى غاية واحدة. ذلك هو صنيع الشعر في جوهرية مقاصده، إذ القصيدة تحاول :» تنمية الوجدان لكي يصبح وجدانا جمعيا، مثلما تحاول تنمية العقل ليكون انفعاليا. ومن هنا يدخل القارئ بكل قواه العقلية و الوجدانية، ليكون فاعلا مشاركا في صناعة النص.فهو– هنا – ينتج نصا، وليس يستهلك قولا، أو ينفعل بتعبير.«(11)
... إن مشاركة القارئ في تجلية خصائص المكان، لا يكون من خلال التلقي الساذج السلبي، وإنما المشاركة بانفعال في المنبهات التي يزرعها الشاعر في نصه. فإنها تعمل على صعيدين في آن واحد: صعيد إحداث الصدمة الانفعالية حين لقاء المتلقي بلغة النص، وصعيد فتح سيل الصور الوجدانية المنثالة عن طريق التخييل، حين التوغل داخل تعتيم الصياغة الأسلوبية. وهي الحالة التي تنزع من العقل شخوصه المنطقي لتسبغ عليه شطرا من حساسية القلب. فيتجاور العقل والقلب لتدبُّر الملاحظة، وما يرافقها من تحويلات رمزية، تفتح النص على فائض النص.(1/116)
... قد نسمي فائض النص ب"المجال النصي" و نقصد بالمجال النصي، تلك الحقول التي تتفتح إثر القراءة على هامش النص، تعمرها الصور والأخيلة، التي لا يكون لها في النص إلاّ الإشارة الباهتة، والرمز البعيد. ولكنها عند استدعائها تعطي للإشارة ما يعززها من قوة، وما يثبتها من يقين. مستفيدة من خبرة القارئ وقدرته على تجاوز اللغة إلى فضاءات الدلالة. إن "مجال النص" هو مجال المعنى الذي تنتجه القراءة، لأنه غير معنى النص، ولا مقصده. إنه المعنى الناشئ عن لقاء قراءتين: قراءة الشاعر وقراءة المتلقي. وهو بذلك يقع حتما خارج النص. وربما يسوقنا تحديد "خارج النص" إلى مراجعة فهمنا ل"النص" ماهية ووجودا. فالنص الأول "نص الشعر" هو ذلك النص الذي احتواه الجنس لغة وتعبيرا، ووزنا وقافية. و "نص القراءة" هو ذلك النص الذي نثرته القراءة على حدود المعرفة المتاحة والقابلية التقبلية، التي يتمتع بها القارئ في سنه، وثقافته، ومستواه، ولحظته القرائية. وبين النصين – كما نشهد – هوّة سحيقة على مستوى الماهية والوجود معا. إن المستوى الأول يختص به الجنس وحدوده التقعيدية، أما المستوى الثاني فيختص به الإنتاج القرائي، وفاعلية فتق حدوده الدلالية والرمزية.(1/117)
... وإذا عدنا إلى "عبد الله الغذامي" وجدناه يقول:» إن القصيدة.. لا تكتفي بأن تقول فقط، أو أن تعبر فقط، أو أن تصور فقط، وإنما تسعى إلى توظيف كل ذلك لتجعل منه احتمالا نصوصيا لعالم جديد، ليس انعكاسا لأي عالم قائم، سواء في الخارج أو في الداخل.«(12). إنه الفهم الذي يضعنا أمام مستويين: مستوى الإفصاح، أو القول، والتعبير، والتصوير. وهو ما دعوناه ب"نص الشعر". ومستوى المشاركة والإنشاء. وهو الذي يُستَعمَل فيه القول لتخصيب القراءة، وخلق الفائض، أو المجال النصي الذي يتجاوز النص، لا إلى واقع قائم شاخص، ولكن إلى إنشاء واقع جديد، هو واقع الشعر. وهو واقع يرفض الأحادية ليتجدد ويتعدد مع كل مشاركة. وما تقدمه قراءة المكان مثلا، واقع من بين احتمالات كثيرة في مستطاع مجال النص توليدها.يتحراها العقل المنفعل ليكسبها شيئا من المعقولية والاحتمال.وإذا قرن الشعر بين الدنيا والدار، فذلك بغية تخصيص العام، و تضييق مجاله، حتى ترتبط به الفداحة والخطب، ربطا يجعل الذات الفردية معنية به قبل غيرها من الذوات.
4-النص والمجال النصي:(1/118)
... كلما ضاق مجال الفن، وضاق وسيطه، لجأ الفن إلى تقنية التوسعة الرمزية. وهي ضرب من تمديد الحدود ودفعها بعيدا في إطال المجال النصي. وكأن الفن – وهو يدرك ما بأدواته من ضيق وقصور – يفتح منافذ أخرى لاستزادة المعنى، وخلق التداعيات التي تعطيه – في أثر رجعي – ما يشبه التمدد والتجدد. والشعر من هذا القبيل الذي يفطن دوما إلى حدوده النظمية، فلا يركن إلى سعتها المحدودة. بل يحوِّل الاتصال بالقارئ من مجال الإبلاغ، إلى مجال الجمال. وفي هذا التحويل تفقد اللغة إشاريتها المعهودة، لتتلبس رمزية تكتنز في كل صورة من صورها احتمالات شتى لإنشاء المعنى. عندها قد نتحدث عن مقصديات النص الشعري، وعن مقصديات النص القرائي.وكأننا إزاء نصين، لا نصا واحدا. واللغة الأدبية أكثر حذرا في التعبير، وفي التعامل مع اللغة ذاتها. لأن الشاعر :» يستعمل اللغة استعمالا جماليا، وليس استعمالا اتصاليا.«(13) وكلما كان التأكيد على الاتصال تراجعت الشعرية فاسحة المجال أمام الإعلام. كذلك الأمر، إذا كان التأكيد على الأدبية تقاصر الإعلام وتراجع، لاختلاف القناة اللغوية التي يسلكها الإعلام والشعرية. والتأكيد على الاتصال الجمالي، يعطي للوسيط اللغوي حركية التمدد لملامسة تخوم الرمز. ولهذا السبب ألحق الدرس الأسلوبي بالرمز أربعة شروط لمعرفته:
- الخاصية الشكلية التصويرية: أي اعتبار الرمز – لا في حد ذاته – وإنما فيما يرمز إليه.
- قابليته للتلقي: أي أن هناك شيئا مثاليا غير منظور، يتصل بما وراء الحس، يتم تلقيه بالرمز الذي يجعله موضوعيا.
- قدرته الذاتية: أي أن للرمز طاقة خاصة به، منبثقة عنه، تميزه عن الإشارة التي لا حول لها ولا قوة في نفسها.
- تلقيه كرمز: مما يعني أن الرمز عميق الجذور اجتماعيا وإنسانيا، ويصبح من الخطأ تصور قيام الرمز ثم تلقيه بعد ذلك. لأن العملية تحول الشيء إلى رمز وتقبله على هذا الأساس، تعد عملية واحدة لا تتجزأ على مراحل.(14)(1/119)
... وإذا تمثلنا حقيقته بعد ذلك، عنّ لنا وكأنه يقع دوما خارج النص وجودا، وإن تحملت اللغة عبء تمثيله خطا. فهو في النص إثارة لعوالمه الخاصة التي تأتي من وراء حدود اللغة لتسعف المعنى المتوخى على الأقل في أول تقدير للشاعر، ولكنه يتسع في القراءة لتجاوز ذلك المعنى الأولي لخلق سلسلة من التداعيات التي ترتبط بالنص مثيرا، وتنفصل عنه أثرا. مما يسهل علينا قبول مفهوم الأثر باعتباره ناتجا عن القراءة. أو هو ما يعلق بالخاطر بعدها، ويستمرّ في النفس أفقا مكتسبا بعدها، في مستطاعه محاورة نصوص أخرى.
... إننا إذن إزاء نص الدنيا لا نقنع – ولا ينبغي لنا أن نقنع – بالمحمول الذي تفرزه اللغة اتصاليا، حتى نمكِّن النص من تجاوز عتبة الوسيط إلى فضاء الرمز فمجال النص. وإذا نحن فعلنا ذلك، أكدنا شباب النص وتجدده، وفسحنا أمامه مجال التثاقف الحضاري الذي يكسبه من جديد المعرفة قسطا يوسع به مجاله الخاص. ونص الدنيا – مثلما رأينا – نص قديم جديد، يردد فكرة واحدة في أثواب فنية شتى. أما نحن فينصرف همنا إلى المكان وحده متناسين النغمة الواعظة فيه.وهي منه لحمة وسدى.
... يقول "محمد العيد آل خليفة" في شعره المبكر:
بيض وسود، وأخيار وأشرار
كم تحتوين على الأضداد يا دار!
العرش والفرش، والأحداث بينهما
خير وشر، فإقلال و إكثار
والليل والصبح ،والإنسان عندهما
نعسان مستيقظ، والماء والنار
والأنجم الزهر : هذا النجم مرتفع
زاهي الضياء، و هذا النجم منهار
تبدو في الأفق أشتاتا ويجمعها
في سيرها فلك في الأفق دوّار. (15)(1/120)
كنا قد نعتنا فصلنا من قبل ب"نص التضاد" إشارة إلى هذه النزعة التي صادفناها في كل النصوص التي تحدثت عن الدنيا. وكأن الشعراء يجدون في أنفسهم ذلك التعارض بين الدارين شاخصا في كل معنى يرومون التعبير عنه. بل التضاد يسكن نص الدنيا وحدها، قبل مقابلته بالدار الأخرى. وكأنهم يشاهدون في عناصرها ذلك البناء القائم على الضدية. و"محمد العيد آل خليفة" ينشئ نصه تأسيسا عليها، ليجعل الصياغة تتأرجح بين طرفين: سالب وموجب، يتبادلان المواقع، أو يتجاوران، أو يتنافران..
فالبيت الأول يحكمه التجاور والتنافر في آن: تجاور في "البياض" و"السواد"، إشارة إلى اختلاف ألوان الناس، شعوبا وقبائل. وتنافر في "الأخيار" و "الأشرار". ولكنه يسمي كل ذلك تضادا على سبيل الإجمال. بينما تلمح القراءة في التجاور تسوية من حيث القيمة، إذ لا فرق بين أبيض وأسود. والواو العاطفة لا تفيد ترتيبا تفاضليا، بقدر ما تفيد مجرد العطف الذي ينفي الترتيب، ويتيح قلب الصياغة إلى : أسود وأبيض.
إننا نخال البدء بالبياض جاء كذلك لأنه في اعتقاد الشاعر الأصل الأول الذي بدأت منه البشرية، وأن السواد طارئ عليها فيما بعد. وقد كان أبونا "آدم" أبيضا تخالطه حمرة، ومنه اسمه "آدم". فلا ضدية إذن بين السواد والبياض، وإنما الضدية في الخير والشر.
... وإذا عدلنا عن الترتيب الذي اقترحه الشاعر، إلى إنشاء تشاكل جديد، أمكننا تقديم الضدية على النحو التالي:
بيض. أخيار. بياض. خير.
سود. أشرار. سواد. شر.
التشاكل الأول. التشاكل الثاني.(1/121)
... غير أن هذا الترتيب ينطوي على مخادعة يصنعها الانقياد وراء الاعتقاد السطحي غير المؤسس. فالتشاكل الأول لا يقوم على القيمة، وإنما على الصفة. وإذا قلنا بيض وسود، فإننا نتحدث عن أشخاص، ولا يستقيم أن يكون البيض خيِّرين، والسود شريرين على وجه الإطلاق. فتلك عنصرية بغيضة، أسس عليها الغرب اعتقاده العنصري لاستعباد شطر من البشرية، وما زالت مخلفات الاعتقاد تفعل فعلها الشنيع في بعض العقول والطوائف. وهو تشاكل ناقص لا تستقيم علاقاته الداخلية أبدا.
... أما التشاكل الثاني، فيتأسس على القيمة التي يحملها الرمز عرفا واعتقادا في آن. فإذا شاع عند طائفة من الناس أن البياض رمز للخير، وأن السواد رمز للشر، وقُسِّم الوجود إلى نور وظلام، خير وشر، قامت الضدية في التشاكل، وتحركت العلاقات الداخلية لإنشاء التضاد، والتناقض، والاستتباع، على النحو التالي:
تضاد
بياض. سواد.
استتباع تناقض استتباع
... خير تضاد. شر.
... إن التشاكل الذي يفصِّل هذه العلاقات على مستوى الرمز، يرفع الملاحظة من المجال البصري السطحي إلى مجال القيمة التي تقبع وراء الاعتقاد الجماعي، وتؤسس جملة من الأحكام المترتبة على المتقابلات الأربعة. فإن أقرّت استتباع الخير للبياض، والشر للسواد، فإنها تقيم التناقض علاقة بين البياض والشر. وبين السواد والخير. وتقيم التضاد علاقة بين البياض والسواد، والخير والشر. وهي دائرة مغلقة يتعذر على أي طرف وسط التولُّج بينها.فإما هذا أو ذاك، ولا ثالث لهما. وإقصاء العنصر الثالث يقسم الدنيا شطرين: خير وشر. فإما خير كله وإما شر كله. وهي نظرة فيها كثير من التطرف والإقصاء. لأن مقاصد الوجود في البشر عند الله عز وجل تتلخص في مجاهدة الذات بين هذين الطرفين، وفي المجاهدة يستقيم مبدأ الثواب والعقاب، والتوبة والمغفرة.وهما عصب الحس في كل عبادة.(1/122)
... إن الشاعر، وهو ينطلق من أفق "القيمة" في شطر الدنيا إلى نصفين- غير متساويين، لأن الغلبة ستكون للسواد، وذلك ما يفصح عنه باقي النص – يتمادى في استغلال الضدية إلى أبعد الحدود. فينزل إلى المتاع، إلى العرش والفرش، والإقلال والإكثار. وتعمد الصياغة في هذا البيت إلى قلب التناظر على النحو التالي:
تضاد.
... ... عرش. إقلال.
... ... تضاد استتباع. ... ... تضاد.
... ... فرش. إكثار.
تضاد.
... ليكون الاستتباع علاقة داخلية، بينما كان في التشاكل السابق علاقة طرفية ( خارجية ). ولنا أن نتساءل هل في قلب التناظر من فائدة أسلوبية، أو دلالية ترجى ؟ أم أن الأمر لا يعدو التنويع الأسلوبي للصياغة ؟ ثم هل الفرش يضاد العرش على الحقيقة ؟ أم أن لفظة الفرش لم تخضع إلاّ لنزوة الجناس والجرس فقط؟ أم الفرش رمز للحصير في كوخ الفقير ؟ وإذا قبلنا بالمعنى الأخير، ورضينا إجراءه ضدِّيا ليقابل العرش، بقي علينا تدبر أمر التناظر المقلوب في التشاكل.
... إن جعل الاستتباع علاقة داخلية يبطل علاقات التناقض التي رصدناها في التشاكل السابق. إذ لا يجوز بعدها قبول التناقض بين الإقلال والإكثار. فالعلاقة بينهما علاقة ضدية واضحة. فإذا البياض يناقض الشر، ولا يضاده، فذلك لجملة القرائن التي هي لكل واحد منهما. أما الإقلال والإكثار فلا يتوفران على مثل تلك القرائن. وغيابها يبطل علاقة التناقض، ويثبت علاقة التضاد. فقلب التناظر على هذا النحو إنقاص من علاقات التشاكل الأخير، وحصر العلاقة في اتجاه واحد فقط:
... عرش إكثار.
... فرش. إقلال.(1/123)
ومنه تكون الإشارة إلى الملوك والعبيد عنصرا جديدا في القسمة التي أحدثها الشاعر في الدنيا. وقد يحسن بنا دائما أن نسجل غياب الوسطية في ذلك التشطير. وكأن منطق الذم يجنح دوما إلى النفي الخالص والسلب الخالص، ويتغاضى عن ذلك الوسط. إمّا لأنه لا يراه إلاّ وهما يعتقد أصحابه أنهم كذلك، وهم في حقيقة الأمر أقرب إلى الطرف الحضيض منهم إلى العالي. وذلك الوهم له في واقع الناس ما يعززه. فالطبقة الاجتماعية الوسطى تسعى جاهدة للانفلات من الطبقة الدنيا، فتتنكر لها سلوكا، ولغة، وعادات، وتجتهد في اللحاق بالأخرى، ولا تنال منها شيئا. وهي في وسطيتها تلك تضمر سائر العقد، والأفكار، والضغائن. ومنها يفرز الواقع أكثر فكره المتطرف الثوري. وشطر الدنيا على هذا النحو الحاد يذكر هؤلاء وهؤلاء بالمواقع الحقة التي يحتلونها في الدار الفانية.ومهما استكثر هؤلاء جمعا فإنهم لن يبلغوا معشار ما يكاثر أولئك !
... ثم يمضي الشاعر نازلا من التعميم إلى التخصيص، ومن حديثه عن الطبقات إلى ذكر الإنسان..إن الإنسان هنا يمثل مطلق الفرد، أيّا كان ذلك الفرد، وأيّا كانت طبقته.ففيه تستوي الملاحظة التالية، لأنها سارية على الجميع.لا يفلت من طوقها أحد من الناس. لكن الشاعر يختار لها مقابلا يشبهها في فعلها الاشتمالي الذي يكتنف الجميع. إنه "الليل" و"النهار" ( الصبح). وهنا كذلك قلب جديد للتناظر السالف ( بيض/ سود) ( ليل/ صبح) لأن قلب التناظر على هذا النحو يوحي بسريان القانون: قانون الفناء في كلا الاتجاهين. وتوالي الليل والصبح، ظاهرة كونية لا يستطيع الإنسان دفعها مهما فعل. ويقابلها فيه
(نعسان/ مستيقظ) وفي المادة (ماء/نار).(1/124)
... جاء في الحديث الشريف "أن الناس نيام وإذا ما ماتوا استيقظوا" (16) ونومهم هي الغفلة التي تحدثنا عنها آنفا. ونومهم ذاك يمنعهم من مشاهدة آثار التحول التي تعتري الدار، وتعبث بالأقوام، والأمم، وتضحك من إصرارهم على التملك والحيازة. فهم في فعلهم ذاك سادرون، لا يأبهون للأنفس التي تُتخطَّف من حواليهم. قد تدمع لهم عين، ويرق قلب، ويختلج وجدان، ولكنهم لا يتصورون أبدا أنهم معنيون بالقضاء.فإذا حلّ بواحد منهم صار بصره حديدا، وأدرك اليقين. إنها اليقظة التي عناها الحديث الشريف، بيد أنها يقظة بعد فوات الأوان. وإذا كان الحديث قد عمّ سائر الناس على سبيل التغليب، فإن الشاعر – عملا بالتقابل – خصّ البعض باليقظة. مادام فيهم من يذكر الدار بالذم، ويحذر الناس من الاطمئنان إليها..ألم يقل:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق.
وإذا انتهى الشاعر إلى هذا المستوى من التخصيص، عاد ثانية إلى النظرة الشمولية التي تجعل صنيع الدنيا واحدا في الجميع. إذ يستوي عندها الشريف والوضيع، السيد والمسود، الحر والعبد، الشيخ والوليد، الذكر والأنثى.. إنها لا تبصر فيهم إلاّ وجودا واحدا، تسير به إلى نهايته المحتومة. أليست طريقا وحسب؟ يعبرها المارون زرافات ووحدانا ! إن عقل الشاعر يشتغل بطريقة خاصة. إن الفكرة التي تسكنه تريد الخروج لتعبر عن هذه الحقيقة الجديدة. ولكن الشاعرية تبحث لها عمّا يعادلها في التصوير، حتى تأخذ الفكرة بعدها الكوني الجبار. ولا يجد لها خيرا من صورة الأنجم الزهر، بعضها قريب لامع، وبعضها بعيد باهت، ولكنها كلها تدور في فلك واحد، وتجري لمستقر واحد. وهي حركة كبيرة موّارة، تعطي للفكرة بعدها الكوني الذي يجعلها قضاء فوق الإنسان وتدبيره.(1/125)
... إننا عندما نراقب الصياغة، ندرك شيئا من العنت الذي يواجهه الشعراء حين يحتضنون الفكرة، ويعسر عليهم بعدها إيجاد اللغة الملائمة، والصورة المواتية. وكم من فكرة أزرت بها الصورة، ولم تعطها حقها، بل تخونتها واعتراها النقص من ناحية الإخراج. وفي المقابل كم من فكرة بسيطة أعطتها الصورة الملائمة مجالا دلاليا ارتفع بها من السذاجة والسطحية إلى رحاب التفلسف العميق. لقد فطن النقد الفني إلى مسألة التفاصيل التي تجعل الصورة على هذه الدرجة من القوة. لأن فاعلية التفاصيل تخلق الألفة بالصورة، إذ تعرضها في شتى أبعادها. وقد احتاج "محمد العيد" إلى بيتين كاملين لاحتواء الفكرة في نطاق الصورة. إنه يقول:
والأنجم الزهر: هذا النجم مرتفع
زاهي الضياء، وهذا النجم منهار
تبدو على الأفق أشتاتا ويجمعها
في سيرها فلك في الأفق دوار.
وإذا رحنا نجزئ الصنيع الفني، قلنا إن الفكرة تنتهي عند التقابل بين الارتفاع والانهيار، واجتماع الكل في مسار واحد هو الدنيا. وأن الصورة تبدأ عند مراقبة السماء بأنجمها المنثورة في الفضاء المديد، بين سطوع باهر، وخفوت وامض، وجماع الكل في الحركة الكونية الواحدة. وارتباط الفكرة بالصورة يتم على مستوى التقابل من ناحية، وعلى مستوى المشابهة من ناحية أخرى. بيد أن الألفة بالصورة على هذا النحو لا يبقيها في هذا المستوى من العطاء الدلالي. بل تنمي الألفة إحساسنا بالتأثير الكلي للعمل الفني، وأن الوعي:» بالتفاصيل يؤثر في تفسيرنا، فحين نعود إلى العمل نرى فيه أشياء جديدة.. فازدياد المعرفة يجعل إحساسنا بالتأثير الكلي للعمل أكثر تحديدا ودقة.«(17)
5-حركية النكوص:(1/126)
... لمحنا في الشعر العربي، حركة داخلية، سميناها الانصراف، وعللناها بالعجز عن المجابهة. عندما يقف الشاعر حائرا عاجزا عن استنطاق الصمت المجسد أمامه في الآثار. وقلنا إن سلطة الطلل آتية من هذا الباب، ترد عنه جميع المحاولات التي رامت التجسس على أسراره. ولكنها عادت تنكر فعلها، وتعلن عن عدم جدوائية مساءلاتها. ورأينا كيف حاول الشاعر الحديث – الملحاح – أن يجعل حركة النكوص تراجعا استراتيجيا ليعاود الكرة على الطلل، وقد غير النظرة والزاوية. وكيف أن المحاولة قد تثمر جديدا، أو قد تبوء بالفشل.
... إن "محمد العيد" ينهج السبيل عينه. لم تغن المتقابلات، ولم تشف غليله، وكأن هناك تخوما أخرى يتحسسها في نفسه، ولا يجد لها سبيلا واضحة، ولا تستوفيها المتقابلات حقها. إنه يجد في نفسه متاهات غامضة المسالك والمعاني، ولا يجد لها في لسانه المفتاح الذي يفك أقفالها، ولا النور الذي يفضض عتمتها. وحركة النكوص عنده يسجلها على النحو التالي قائلا:
يا دار هل فيك من هاد ليرشدني
فإنني مستريب فيك محتار.
همي تقسَّم أشطارا، و لن تجدي
من همه مثل همي فيك أشطار.
يعروه خفض ورفع في تنقله
كأنه كلا يذروه إعصار.
... وهي في صلب النص تؤدي وظيفتين على الأقل: إنها محو لنص التضاد، وتقليل لفائدته. وهي تلمس جديد لسبيل تعطي للصياغة وتيرة أخرى غير وتيرة التشاكل.(1/127)
... إن عملية المحو ضرب من المجاز، وليس المحو إلغاء لشطر من القصيدة، بل المحو في هذا المقام عملية انصراف جديدة كالتي رددها بعض شعراء المديح قائلين صراحة: "دع ذا" تاركين الغزل الذي استهلوا به القصيدة إلى الغرض الذي من أجله جاؤوا الممدوح. وفي كلمة "دع" تهوين من شأن المطلع الغزلي أمام الغرض الأصلي..وهو محو صريح يريد الشاعر من ممدوحه أن لا يلتفت إليه على وجه الحقيقة. أما المحو هنا فعملية أخرى مرادها أن تقول: إن الشطر الذي سلف لم يؤد واجبه حق الأداء، وإن الشاعر غير راض عنه، وإن مراده الآن أن يجد منفذا آخر لمعاودة الكرة على الدار.
... إن شرط النكوص والمحو أن تتغير الصياغة، وأن تتبدل الوتيرة، وأن تسكن النص نغمة جديدة. فإن لم يحدث من ذلك شيء كانت العملية كاذبة في أساسها، أو هي مجرد زيف وتدليس، سريعا ما يظهر مينه، ويُفتضح ادعاؤه. لذلك وجدنا "محمد العيد" بعدها يلتفت إلى "حكيم المعرة" في عزوفه عن الدنيا، ورفضه أكل لحم كل ذي روح، ورفض الزواج، وتحاشي اللذات. وإلى منكر البعث من الملاحدة. وفي هذا الشطر من القصيدة يختفي التقابل والتشاكل، وينتهي التأرجح بين الطرفين المتناقضين، و يسكن القصيدة روح من الاسترسال وراء واقع الناس.(1/128)
... لقد حقق النكوص غايته في هذا الشطر، وحوّل الوتيرة إلى ذبذبة أكثر امتدادا وطولا، وانتهى أخيرا إلى تبجيل الله عز وجل، ومدح العلماء الأخيار.. بل استطاعت حركة النكوص أن تنتج واحداً وعشرين بيتا، يختلف نسجها عن الأبيات الخمسة عشر السالفة التي أنتجها التشاكل والتضاد. وتختلف غايتها كذلك مما يعطي لمثل هذه النصوص قابلية التجدد الداخلية. وإننا نزعم الساعة أن القراءة التي لا تفطن لمثل هذه الحركة تفوِّت على نفسها فرصة الفهم السليم للنص. والأخطر من ذلك قد تتهم النص بالتضعضع والاختلال، وهي لا ترى فيه فعل هذه الحركة، ولا تتلمس قوتها. ذلك أن الإبداع الفني ليس استرسالا هيِّنا سلسا، وإنما هو مغالبة ومقاومة لاعتراضات داخلية وخارجية، سبيلها الخفض والرفع مثلما قال الشاعر عن نفسه. وبين الخفض والرفع تتجدد الوتيرة، ويتمايز الدفق الشعري، وتتلون الصياغة. وتوترات الكتابة الإبداعية
(18) ذات شأن في إنشاء المعنى، وإحداث مجالات النص، من جهة الإبداع، وذات تأثير دسيس في تعدد القراءات من جهة التلقي.
((
هوامش:
1-سعيد علوش. هيرمونيتيك النثر الأدبي.ص:6.
2-م.س.ص:14.
3-أحمد الهاشمي. جواهر الأدب.ج2.ص:52.
4-م.س.ج2.ص:74.
5-م.س.ج2.ص:77.
6-م.س.ج2.ص:74.
7-م.س.ج2.ص:77.
8-عبد العزيز المحمد السلمان. إيقاظ أولي الهمم العالية إلى اغتنام الأيام الخالية.ص:21.
9-جورج عبده معتوق. ابن الرومي.الشاعر المغبون.ص:91.
10-عبد العزيز المحمد السلمان.م.س.ص:21.
11-عبد الله الغذامي. تشريح النص.ص:39.
12-م.س.ص:39.
13-مازن الوعر. دراسات لسانية تطبيقية.ص:131.
14-أنظر صلاح فضل. نظرية البنائية في النقد الأدبي.ص:460.
15-محمد العيد آل خليفة. الديوان.ص:7.
16- الحديث الشريف.
17-جيروم ستولنيتز. النقد الفني.ص:109.108.(1/129)
18-أنظر كتابنا ( توترات الإبداع الشعري) (مخطوط) وهو مقاربة تكشف عن العلاقة القائمة بين التوتر الإبداعي والانفتاح القرائي وتعدده في الشعر خاصة.
(((
الموضوع الجمالي.
المكان جماليا
- تقديم.
- النداء والتلقي.
- المكان.الحضور والغياب.
- جماليات التركيب.
- لوحات الشعر الجمالية.
الفصل الثامن.:
... ... ... ... المكان جماليا.
1-تقديم:
... لقد أخذ الحديث عن المكان في الشعر العربي أبعادا مختلفة، بحسب زوايا الرؤية التي عالجته من جهة، وبحسب الفهم الذي أنيط به من جهة ثانية،وبحسب المعارف الرافدة التي تؤثث الدراسة. وكل مقاربة للمكان من هذه المنازع إنما قدمت نتائجها الدقيقة التي أعطت للمكان ثقله الفني في البناء الشعري شكلا ومضمونا، حتى غدت مقولة المكان من الخطورة ما يجعلها موضوعة تتشعب إلى رؤى ذات طبيعة ميتافيزيقية، بعدما كانت تدرك فقط في الحدود الجغرافية والاجتماعية و النفسية. ذلك أن المكان في صلته بالذات المبدعة والمتلقية، يتخذ من الصفات المتشابكة ما يجعله من المقولات الأكثر تعقيدا على مستوى المعنى والمبنى. وأن فك هذه العلاقات يقتضي من الدرس التحليلي أن يسترفد سائر المعارف التي أنتجتها العلوم الإنسانية لفك ألغازه، حتى تفضي إلى الحقيقة التي من أجلها سيق المكان في الشعر موضوعا، أو إشارة، أو رمزا.
2-الموضوع، النداء والتلقي:(1/130)
... فإذا كانت الدراسات الواقعية قد رأت في المكان " شيئا " يتحدد وجوده في إطار الواقع، بعين المواصفات الخارجية التي تمتلكها الأشياء، فإنه في الدرس النفساني يستحيل إلى " تمثيل" و " تصور " وكأن المسألة عند هؤلاء تفترق عن الشيء الغفل ذي المادة الصلبة، إلى لون من التصور الذي يحدث على مستوى النفس فقط، حين يجعلها تتمثل من خلال المكان جملة من الأحاسيس والمشاعر التي ربما أثارها المكان بمحمولاته التذكُّرية، التي لها صلة بالذات في لحظة من لحظاتها السالفة. والتمثيل يحيل المكان على عملية القلب التي ترتفع بالمكان من الوجود الفعلي إلى الوجود المتصور في أعماق الذات. فليس القصد من ورائه عرضه موضوعا جماليا، بل الغرض في اعتباره محوِّلا يمكِّن الذات من التقاط المشاعر والأحاسيس، مما يفيض عن المكان، وهو يندرج ضمن البناء الفني عموما. فإذا آنسنا من الموقف الواقعي تطرفا في التعامل مع المكان، تطرفا يجعله شبيها بأي شيء آخر.فإن التطرف عينه نلحظه عند النفسانيين وهم يحاولون جعل المكان مجرد تمثيل، تُسلب منه خاصية الموضوع المستقل بذاته، ليكون أيقونا على إحساس ما يعتم في أعماق الذات.(1/131)
... إن ما عابه " سارتر" على الاتجاهين معا، جعله يلتمس للموضوع الجمالي وجودا يقع بعيدا عن الشيئية المادية، والتمثيل الباهت. فهو عنده موضوع "متخيل" "IMAGINAIRE" يمكن إعادة بنائه انطلاقا من النص،واعتمادا على المعطيات التي يحملها القارئ في ذاته للموضوع. فالمكان مثلا، تعاد صياغته في الذات استنادا إلى اللغة الواصفة، ولكن اعتمادا على قدرات الذات وهي تتملى هذه اللغة،وتعيد من خلالها تشكيل المكان بحسب المقاييس التي تراها مناسبة له في تخييلها .فالصياغة إذا خلق مستمر للموضوع عند كل قراءة. وليس المكان مكان واحد بل أمكنة تتعدد كلما تعددت القراءة، وتجددت أدواتها، واغتنت بالجديد من المعرفة والمقاييس. فالتخييل إذا، مسألة لا تسلب المكان وجوده الفعلي الجغرافي/ التاريخي، بل تكسبه عند كل محاولة جديدا ينضاف إليه عند كل قراءة. هذه العملية المستمرة هي التي تجعل قارئ الرواية يعيد بناء المكان الموصوف على الهيئة التي يراها تناسب فهمه الخاص للنص، استنادا إلى المعرفة التاريخية المتعلقة بالعمران في الزمن الذي تتناوله الرواية.وقد يأتي آخر له من سعة الاطلاع العمراني ما يجعله يقرأ الرواية التي تتحدث عن أمكنة القرن التاسع عشر مثلا، فلا يفوته من هيئاتها شيئا. بل تكون الرواية بالنسبة إليه سياحة في عالم يعرف عنه دقائقه..وعين الأمر نلحظه فيما يتعلق بالثياب والعادات والأواني وغيرها..ذلك أن:« الوظيفة التخييلية..تلقائية إبداعية، يستطيع الوعي عن طريقها أن يهب لنفسه موضوعه الخاص، بحيث أن الموضوع المتصور ليبدو وكأنه لا يملك من التحديدات إلا ما أضفاه عليه الوعي. وعلى حين أن موضوع الإدراك الحسي هو موضوع يلتقي به الوعي، نجد أن موضوع التخيل إنما هو موضوع يقدمه الوعي لنفسه وبنفسه.» (1) فالمكان حينما يكون موضوعا جماليا متخيلا يكتسب خاصية الأثر المبدع الذي تؤول ملكيته إلى القارئ أولا وأخير.(1/132)
فالشاعر لا يقدم سوى الإشارة إليه في إبداعه، يعمل الاقتصاد الشعري على اختزالها،وحذف أجزائها. بيد أن التخييل يعيد إليها المحذوف، ليس بالطريقة الآلية التي يمكن أن نتصورها سريعا، وإنما بالإضافة الجديدة التي لم تكن للمكان من قبل. فالصورة المتخيلة:« إنما تتجلى في كون الموضوع يظهر غائبا " ABSENT" بوجه من الوجوه في صميم حضرته "PRESENCE" نفسها. وما يميز الصورة المتخيلة عن الصورة المتذكرة، إنما هو بناؤها اللاعقلي، فإن موضوع الذاكرة له واقعيته في صميم الماضي، وهو يتمتع بفردية الشيء المعطى " DONNE".» (2).
3 - المكان الحضور والغياب:
... إن تأرجح الموضوع الجمالي بين الحضور والغياب، يجعلنا أمام نصين متوازيين: نص الغياب،وهو النص الذي يقدمه الشعر والرواية وغيرهما..وهو مكان الشاعر الذي أراد له أن يحتل مكانا في بنائه الفني، ومواصفاته الواقعية أو المتخيلة في ذهن صاحبه، لا يسعفه الفن في بسطها في جملتها كليا. وإنما يعمل على أن يتخير منها ما يمثل المكان الذي يريد أحسن تمثيل.أما النص الثاني: نص الحضور، فهو النص الذي يعمل التخييل على بنائه تباعا. فهو نص الإبداع الذي تتولى القراءة بسط مشكِّلاته المختلفة، وإكسابه من القيم التعبيرية ما يرفعه عن المكان الحسي المادي. لأنه ليس من غرض التخييل أن يختلق مكانا وحسب، بل الغرض كله في الارتفاع بالموضوع من الهيئة المادية إلى التعبير الجمالي انطلاقا من موقف إستيطيقي خاص بالمتلقي.(1/133)
... ولا يتسنى للتخييل أن يبني المكان إذا لم يسترفد المعرفة الخارجية، التي تكون عونا له في إنشاء الأبعاد الواقعية للموضوع، والتي لا يستغني عنها الموضوع الجمالي مهما أوتي من دقة ومهارة إبداعية. بيد أن المعرفة الخارجية قد تشوش التلقي الجمالي، وتصرف الانتباه من الموقف الجمالي إلى غيره من المواقف المعرفية الأخرى. فإذا أردنا للمعرفة الخارجية أن تكون مثمرة، أوقفناها على الشروط التالية: «إذا لم تكن تضعف الانتباه الجمالي إلى الموضوع، أو تقضي عليه.وإذا كانت متعلقة بمعنى الموضوع وطابعه التعبيري. وإذا جعلت لاستجابتنا الجمالية المباشرة للموضوع طابعا أرفع، ودلالة أقوى.» (3) وهي الشروط التي تحد من هيمنة المعرفة الخارجية وتسلطها على الموضوع. فالغرض الأولي الذي يكون للذة التقبل قد يتلاشى تحت مفعول المعرفة وقوتها. بيد أن المزج الحكيم بين عناصر المعرفة والتقبل الجمالي يكفل للموضوع أوفر قسط من العطاء التعبيري المثمر.(1/134)
إن الموضوع الجمالي نداء يوجهه الفنان إلى المتذوق :« مهيبا بتخيله أن يعمل عمله من وراء المدرك الحسي. وليست مخيلة المتذوق أو المتأمل مجرد وظيفة تنظيمية تقتصر على تنسيق الإدراكات الحسية، بل هي وظيفة تركيبية تقوم بعملية إعادة تكوين الموضوع الجمالي ابتداء من تلك الآثار التي خلفها الفنان.» (4) والفرق بين التنظيم والتركيب يتجلى في عملية الخلق التي تقوم بها المخيلة، لأنها إذا عمدت إلى التنظيم اقتصر همها على إعادة بناء الموضوع على الهيئة التي خلفها الفنان دون تجاوز أو إضافة، ومن ثم البقاء في دائرة الحسي المعطى كما عبر عنه "سارتر" من قبل. في حين أن التركيب وظيفة مختلفة كل الاختلاف، لأنها تنطلق من الآثار الحسية البسيطة التي يحملها العمل الفني إلى رحابة الإبداع والحرية. فيكون لها مجال الإضافة والبناء الحر، واختلاق الشكل الذي يتناسب مع الفهم العام للمواقف التي يثيرها الأثر الفني في جملته. وكأن العمل الفني في جملته مجرد وسيلة تتيح للخيال فرصة الظهور والتحقق في أشكال متعددة، تتناسب طردا ومستويات التلقي والقراءة.
4-جماليات التركيب:
... يرى "روبرت شولتز " أن العالم الذي يخلقه الخيال :« سواء أكان قصة، أم مسرحية، أم قصيدة، هو سياق ندركه، وأكاد أقول نخلقه حول الرسالة التي توجه أفكارنا. ولكن وراء هذا العالم أو حوله يكمن العالم الظاهري .» (5) فالمسألة قائمة إذا على مبدأ التراكب بين عالمين: عالم متخيل، ينشئه التلقي استنادا إلى المعادل الحسي الذي يقدمه النص. وعالم قائم بذاته معطى، يحتفل به السياق الخارجي، والمعرفة الخارجية. بيد أن العالم الذي يخلقه التلقي، ليس عالما صرفا، وإنما هو تعبير قبل كل شيء. لأنه يتضمن رسالة تحمل على عاتقها خطابا معينا، هو خطاب الأدب، أو الفن.(1/135)
... وعندما نقبل على الأثر الفني نحلله إلى عناصره التركيبية، ومن ثم إلى عناصره الجمالية، تعترضنا عقبة أولى، مفادها أننا لا نستمتع بالعمل، ولا نكون محيطين بالرسالة الفنية التي يبثها، إلا من خلال تناول الأثر في جملته وكليته. وعزل العناصر عن بعضها بعض للدرس والتأمل يفقدها خاصية الوحدة التي تفقد الأثر انسجامه الكلي الذي يقوم عليه الموضوع الجمالي. إن التحليل وهو يقتل الوحدة، يقضي من ناحية ثانية على التجربة الإستيطيقية التي يعانيها المتلقي.فإن كان التحليل شر لابد منه، لمباشرة الأثر الفني، فإننا نزعم أن المتذوق الجمالي يجتهد في أن لا تغيب عن ذهنه الوحدة المتلاحمة الأثر في كليته. وكأنه إزاء كل صورة من الصور التي ينشئها الفن، يراعي الإطار الذي يحفظ له كمالها، وهو عاكف على التفرس في أجزائها.
... إننا إذا عاملنا المكان من منظور الجماليات، وفق هذه الرؤية، سهل علينا تقصي عناصره من جهة، وفهم التداخل الذي يؤسس وحدته من جهة ثانية.ذلك أن العمل الفني:” شديد التعقيد، وهذا ما يثبته تحليل بناء العمل الفني، فإذا ما شئنا أن نتحدث عنه على أي نحو، فلا بد لنا من أن نحلل تعقده إلى أجزائه المكونة له، وليس في استطاعتنا أن نتحدث إلا عن شيء واحد في المرة الواحدة. فالتحليل إذن محتوم، وإلا كان علينا أن نظل خرسا إزاء العمل.« (6)(1/136)
... وتتأتى شدة التعقيد من التكثيف الذي يلجأ إليه الفن عادة، ومن اقتصاد اللغة. ذلك أن الفنان لا يلجأ إلى عناصر الموضوع جميعها، يدرجها على نسق واحد في العمل الفني، وإنما يتخير منها ما كان أكثر تعبيرا عن دواخل التجربة الجمالية التي يعانيها أولا. ومن ثم تغدو العملية أشبه شيء بعملية تصفية للموضوع من الشوائب الزائدة التي تثقله، والتي قد تشوش عطاءه الدلالي الذي ينتظره منه الفنان. فيغدو العنصر المكون للموضوع أقرب إلى الأيقون الذي لا يحيل على ذاته، وإنما يشير إلى ترابطات دلالية من الكثرة والتعدد، ما يجعل العنصر الواحد أكثر فاعلية في القراءات المتوالية. وعبقرية الاختيار، عبقرية تقع مسئوليتها على عاتق الفنان الذي يعرف من موضوعه ما لا يعرفه المتلقي ابتداء. وإذا شئنا لذلك تمثيلا، قدمنا قصيدة للأمير عبد القادر الجزائري.والتي تناول فيها المفاضلة بين البدو والحضر. بيد أن هذه القصيدة تحتاج إلى سياق خاص حتى يضبط التلقي القناة التي تسلكها اللغة في تعاملها مع عناصر المكان. وتلك معرفة ضرورية لفتح منافذ التقبل عند القارئ، لأنها ستجعل الشاعر والقارئ على وتيرة واحدة من البث. تنتظم فيها الإشارات والدلالات انتظاما محكما يفضي إلى نتيجة جمالية واحدة. ولا نزعم أن النتيجة التي وصفناها بالواحدة، هي واحدة عند الجميع، ولكننا نقصد من الواحدية ذلك الهدف الذي يحمله قصد الشاعر، وإن تعدد القصد الذي يحمله النص.والقصد الذي تتكفل به الرسالة الجمالية.
5-لوحات الشعر الجمالية:(1/137)
قال الأمير عبد القادر الجزائري في قصر " أمبواز" بفرنسا، لما تناهت إليه وفي حضرته،مناظرة بين مثقفين يفضل أحدهم الحياة البدوية ورومنسيتها، بينما يفضل الآخر حياة المدن وبرجوازيتها. وعلى عادة العربي ينتصر الشاعر للبداوة التي نسجت خصال العربي، وأملت عليه قيمه الخَلقية والخُلقية. فالإطار العام للنص، يأخذ فاعليته من هذا الموقف الذي تتقابل فيه حضارتان: حضارة شرقية حافلة بالمروءة والشهامة، والعدل، والانشراح..وحضاره عامرة بالكبرياء والهيمنة والقهر. وليست المسألة إذن، مسألة بدو وحاضرة، كما نتوهم سريعا ونحن نتناول النص. إنما يمتد الموقف بعيدا في أغوار الصراع بين حضارتين، والفارق بينهما في هذا المقام، فارق جمالي في مظهره، سياسي/ حضاري في خطابه العميق.
يا عاذرا لامرئ قد هام في الحضر
وعاذلا لمحب البدو والقفر
لا تذممن بيوتا خف محملها
وتمدحن بيوت الطين والحجر
لو كنت تعلم ما في البدو، تعذرني
لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر
قال الألى قد مضوا قولا يصدقه
نقل وعقل، وما للحق من غير
» الحسن يظهر في بيتين رونقه
بيت من الشعر، أو بيت من الشعر «.(7)(1/138)
استطاع الشاعر في هذه المقدمة نسج السياق الخاص للقصيدة، الذي يمكن المتلقي من التموقع داخل الموقف. ذلك أن الموقف يملي فيما يمليه على الشاعر، لون اللغة، ولون العرض الذي يساير اللغة. فالتكثيف الذي نشاهده في هذه الأبيات، تكثيف ينزع إلى حركة تريد التفلت سريعا من الموقف العام الذي أملى النص، إلى الموضوع الجمالي الذي هو مثار الجدل بين المتعارضين. بيد أن الشاعر لا يخفي موقفه من المسألة التي هو طرف فيها. وانتصاره للبداوة واضح من الوهلة الأولى، مما سيعطي للموقف الجمالي صفة المرافعة التي تؤكد تفوقه وحسنه. وكأن الأمير في هذه القضية لا يقف بين متعارضين من الغرب، وإنما يقف بمفرده في جهة، ويقف الآخرون في الجهة المقابلة. لذلك كان الخطاب بضمير المفرد حين يتوجه إلى الآخر، وبضمير المخاطِب حين ينقل عن نفسه. إننا نلحظ ذلك جليا في ( لو كنت تعلم) و ( تعذرني). فالشاعر في هذا الموقف لسان الحضارة العربية، ومنافحها الذي يتوقف على براعته نقل الحسن من الخفاء إلى التجلي، وإرغام المتلقي على تقبل الحسن في مظهره الذي ستعرضه القصيدة.(1/139)
... إن هذه المهمة ستلقي على الشاعر ثقل اختيار المشاهد المعبرة عن الحسن، وتخيرها من بين غيرها، وتصفية عناصرها من الشوائب التي قد تشوش جمالها، وتقديمها في أطر زمانية ومكانية تجعل الحواس تستيقظ لتلمس ما فيها من سحر وجاذبية. إن دور الإطار مهم في هذه العملية. إنه المنظم لشعث الصورة، والموزع لعناصرها على مساحة المشهد. فإذا كان الإطار ضيقا، أو فضفاضا أفسدت السعة، أو الضيق جمال العناصر وأفقدتها فاعليتها الدلالية الموقوفة عليها. ذلك أن الإطار :» ينظم الموضوع الفني ويوحده، وأن هذا أمر له قيمته، لأنه يربط بين أطراف تجربتنا التي لن تكون بغير هذا الإطار إلا مشوهة، لا شكل لها.« (8) وكأن الشاعر بحاسته الدقيقة يدرك خطورة هذا الموقف، فيمهد له تمهيدا حضاريا يشمل السياق العام للنص، وتمهيدا جماليا ينتظم الموضوع الجمالي في كليته.ولذلك رأيناه يستنجد بآراء من سبقوه في المسألة. وحضور" المعري" في البيت الأخير من القطعة دليل على أن الشاعر، لا يجد للجمال منفذا واحدا، يقصره على الذوق الذاتي المتقلب، المرهون بالمزاج المتحول. بل يجعل قضية الجمال تحتكم إلى النقل والعقل معا،فإذا وافق النقل والعقل في مسألة من المسائل، كان ناتجهما الحق الذي لا تعدد له، لأنه أبدا واحد. والشاعر حين يجنح لمثل هذا التخريج لا يريد أن يكون موضوعه الجمالي قائما على رومنسية فيها من الشذوذ الذاتي القسط الذي يفسد عليها كل موضوعية، إنما يريدها – وإن تشبعت بنوستالجيا الوطن والأهل – تحتفظ في ذاتها بكثير من الحق الذي يعطي للمناظرة وجهها الجاد والجدلي.(1/140)
... كانت الصورة الأولى التي قدمها الشاعر إلى خصمه، صورة عن الصحراء. وللصحراء من الصور ما يجعلها مثار خوف وضياع، ومبعث فقد وهلاك، ومنزع فقر وشظف عيش..بيد أن الخبير بها يختار منها أروع المشاهد وأحسنها، في ألطف الأزمنة وأرقها. وانظر إلى عبقرية الشاعر حين يدعو مناظره إلى الصحراء صبحا كان ليله ماطرا..إنه الإطار المكاني والزماني الذي يقدم فيه الموضوع الجمالي في أبعاده المختلفة: صباح رقّ نسيمه، وابتلت رماله، فإذا هي بساط من الدرر المتوقدة في عين الشمس..واسمعه يقول:
... لو كنت أصبحت في الصحراء مرتقيا
... بساط رمل به الحصباء كالدرر
... أو جلت في روضة ،قد راق منظرها
... بكل لون جميل شيق عطر
... تستنشقن نسيما ،طاب منشقه
... يزيد في الروح، لم يمرر على قذر
... أو كنت في صبح ليل، هاج هاتنه
... علوت في مرقب، أو جلت بالنظر
... رأيت في كل وجه في بسائطها
... سربا من الوحش يرعى أطيب الشجر.( 9)
يأخذ الموضوع الجمالي عند الأمير حركته التأثيرية من فعل لا يمكن للغربي الذي لا يعرف الصحراء إدراكه بسهولة، لذلك يعمد الشاعر إلى تكراره، تأكيدا عليه، حتى يأخذ حظه من المثول بين يدي المتلقي. فالمطَّلع على الصحراء لا يدرك جمالها إلا إذا كان في مقدوره اشتمالها في نظرة بانورامية، يستشرف منها المناظر كلها في جملة واحدة. وهو الأمر الذي استدعى حضور الألفاظ التالية ( مرتقيا) (علوت) ( مرقب) (جلت بالنظر) ( رأيت في كل وجه) ( في بسائطها)(1/141)
وهي الحركة التي ترفع المشاهد إلى القمة التي تجعله يطل على المناظر في جملتها وتمامها. وإذا عدنا إلى أساليب تأمل اللوحات الفنية، وخاصة عند الجشطالت، وجدناهم يؤكدون على النظرة العامة التي تستقطب اللوحة في جملتها، فتدرك فيها عناصرها في تعاقدها وتجاورها، وتوزعها في فضاء اللوحة، ثم تتيح للمتلقي أن يقترب قليلا لتفرس العناصر، وكشف تلاحمها في البناء الكلي للأثر. كذلك صنع الأمير بحاسة الشاعر العارف بالصحراء. إنه يضعك أمام ذهول السعة، ويترك نفسك تتشرب المجال في شساعته وامتداده، ويضعك على الشارف من المكان ليتيح لك إجالة النظر، ثم يدفعك في رفق إلى العناصر التي تخيرها، فيجعلك بين المتناهي الكبر، والمتناهي الصغر..بين البسائط وبين الحصباء. إنه مشهد الهدوء والسكون والأمن والاسترسال.
... ومن حيل الشاعر في المقارعة، أن لا يترك مُناظِرَه يسترسل حالما مع المشهد الهادئ الذي عرض عليه. إنما يريد أن يرجّه رجا. أن يدخل عليه بالحركة التي تزعزع اعتقاده الجديد. فإذا كان قد آنس من قبل سرب الوحش يرعى أطيب الشجر، فإن هذه الصورة عند البدوي لا تستقر على حالها أبد الدهر.إنها هدنة وحسب. لابد لها أن تتحول إلى الحركة السريعة الخاطفة. واسمعه يقول:
... نباكر الصيد أحيانا، فنبغته
... فالصيد منا مدى الأوقات في ذعر
... ونحن فوق جياد الخيل، نركضها
... شليلها زينة الأكفال والخصر
... نطارد الوحش،والعزلان نلحقها
... على البعاد وما تنجو من الضرر. (10)(1/142)
يتغير الإطار الجديد للصورة، فإذا هي صورة متحركة، مليئة بالأصوات وحمحمة الخيول وهي تعلك ألجمتها. إن الغربي يرى فيها الصورة الزيتية لحملات الصيد التي كان الأرستقراطيون يعدونها لضيوفهم.تتعالى فيها أصوات الأبواق التي تستحث الكلاب للطراد..غير أنها هنا تختلف في كثير من مشاهدها. وأول اختلاف في زمنها البكور. فالبكور يجعل الصيد مقبلا على الكلأ، بعد هدأة الليل وطوله. وهو تقليد عربي بعيد. نجد حضوره عند امرئ القيس في الجاهلية. وهو من ناحية أخرى أنسب الأوقات للخيل والفارس، وأنشطها على الإطلاق.
... إن الزمن في الصيد، يأخذ أبعاده من طبيعة العربي أولا، ومن طبيعة أرضه ثانيا. ولا تستوي الأزمنة بالنسبة للصيد والصائد، وإنما هو زمن واحد. إذا فاته، فاته الخير كله. وإذا كانت حملات الصيد عند الغربي تقوم على نفخ الأبواق ونباح الكلاب، فإنها عند العربي حركة سريعة صامتة هدفها المباغتة التي تجعل الصيد يدرك طرادا وملاحقة..فصيد الصحراء لا يعتمد التخفي والتستر والتمويه، شأن وحش الغابات، وإنما اعتماده على العدو وسرعته في الفضاء الواسع للصحراء. لذلك كان الضجيج عند الغربي مبعثا على إثارة الطريدة. وكان الطراد والملاحقة دركا للصيد عند العربي. وفي هذا المقام يكون المعول الأول على أصالة الفرس، ومهارة الفارس. فالفروسية في الموقف العربي ضرب من الأخلاق قبل أن تكون ضربا من القدرة. لأنها مرتبطة بالحياتي اليومي للعربي. فإذا كانت هناك تسلية وزينة، فإنها هنا ضرورة ومعاش.(1/143)
... ولم يفت الشاعر التركيز على الجزئيات التي تصنع خصوصية الصورة. فلم يذكر الخيل ويتركها عاطلة من كل جمال، بل يلتفت إلى الشليل الذي يزين الكفل والخصر.وكأن الخيل وهي تستعد للطراد، تلبس من زينة القوم ما يجعلها تبدو في أبهى الحلل وأقشبها. إن الفارس وهو على صهوة الجواد لا يشكل إلا قطعة واحدة من فرسه.وكأنه امتداد له..يمتد به في الخفة والرشاقة، كما يمتد به في الزينة والحلة. وأي عيب يلحق الفرس، لابد لاحقا صاحبه. لذلك كانت العناية بهذا الجانب الجمالي أدخل في آداب الفروسية التي قلنا عنها إنها من أخلاق الفارس وآدابه. وقد يكفيك النظر إلى الجواد لتميز سمات صاحبه فتعرفه قبل أن تراه. ولهذا السبب لم يجد الشاعر بدا من إلحاق حديث الحرب والنجدة بحديث الصيد والطراد. وكأن حديث الصيد ومهارته استعداد فطري للحرب. وتجانس الفارس وجواده في الملاحقة، تجانس في الحرب والمصاولة. إن تقارب الصورتين في المعنى والهدف، حتم على الشاعر أن يقرن بينهما في صورة واحدة. قد نفهم من ذلك التعريض بالغربي، وقد نفهم منه فقط التلاحم الكلي بين الفراس والفرس. يقول الأمير:
... فخيلنا دائما للحرب مسرجة
... من استغاث بنا بشره بالظفر
... لنا المهاري، وما للريم سرعتها
... بها وبالخيل نلنا كل مفتخر. (10)(1/144)
إن الشاعر العربي لا ينتج شعره في غنائية الذات المفرطة..أي أنه لا يترك للذات سلطة التملك الكلية التي تنسيه الموقف الذي من أجله ينشد شعره. وكأني بالأمير وهو يسترسل من صورة إلى أخرى، يبقي طيف المُناظِر حاضرا أمامه كل حين. هذا المُناظِر الذي ينتظر منه الهفوة التي تبيح له نقد الرؤية الجمالية التي يقدمها خصمه. صحيح أن الموقف: موقف الصيد والحرب، والنجدة والإغاثة. موقف رجولي لا حضور فيه للمرأة. ولكن الشاعر يدمجها في الصورة في ظرف من اللين والرفق. فيجعل لها المهاري التي تحملها هوادج مزينة تتهادى بها يمينا ويسارا، بعيدا عن السرعة التي تخضها خضا.إنه يستثنيها حفاظا عليها، وصونا لها من الضرر.
... إنها الصورة التي أثارها قبلا، حين قدم لوحة الرحيل والظعن، لما قال:
... يوم الرحيل إذا شدّت هوادجنا
... شقائق عمّها مزن من المطر
... فيها العذارى، وفيها جعلن كوى
... مرقعات بأحداق من الحور. (11)
لقد كانت لوحة الهودج مما يستملح العربي، كما كانت مثار الأسى والحزن الذي ظل ملازما له حين الوقوف على أطلال الديار التي تحول عنها أهلها. إن الرحيل بالنسبة له تغيير للأفق، وتجديد للمناظر، وانفتاح على مجالات جديدة. بيد أنه من ناحية أخرى مفارقة للإلف والعادة. فقد تفترق القبيلة إلى شُعَب وبطون.. وفي افتراقها تصرم لحبال الحب والوجد. إن فيها من الحرمان ما يؤرق الفتى العربي، ويحدث في قلبه الصدع الذي لا يرأب، والكسر الذي لا يجبر. لذلك كانت الرحلة دائما ذلك الهاجس الذي يعمر حياة العربي بالخوف والرجاء. ويملأها بالأمل والترقب. غير أن كثرة الأطلال تشهد على الفاجعة التي أضحى الشعر العربي ينشدها أبد الأزمنة، وعلى ألسنة الشعراء جميعهم.(1/145)
... إن الغربي لا يدرك حقيقة الرحلة التي يثيرها الشاعر..إن له منها ذلك المشهد الذي عرفت عبقرية الشاعر كيف تقدمه، وكيف تتخير منه العناصر التي تقع في النفس موقع الاستحسان..الهوادج التي تبدو في زينتها كالشقائق بعد أن بللها القطر.الهوادج التي تحتوي على العذارى خصوصا..الهوادج التي بها كوى التصقت بها العيون السود، وجعلتها رقعا حوراء. ودقة الاختيار لم تنصرف إلى ضخامتها واتساعها، وصلابتها..وغير ذلك من آثار النعمة مثلا، وإنما انصرفت إلى تلك النظرات التي يلتقطها فتيان الحي وهم يتبعون رتل القافلة الظاعنة. يقرؤون فيها لغتهم الخاصة، ويتصنتون منها أحاديثهم الحسان.
... يبدو أن الأمير، وهو في موقف المناظرة، عرف كيف يجعل من شعره معرضا فنيا للجمال. ذلك المعرض الذي أوجده "إتيان دينيه" في لوحاته الجزائرية، كما أوجده الفنانون المستشرقون الذي جابوا أطراف الصحراء بحثا عن حياة الشرق الساحرة. فرسموا الألوان والظلال، وأثبتوا الملامح والقسمات. وقدموا للغرب صورة الشرق كما شهدت بها ريشاتهم وإبداعاتهم. غير أنها الشرق بعين الغرب، وليس الشرق بعين الشرق. ومهما حاول الغربي نقل المشاهد بأمانة وصدق فإنه لن يفلح أبدا في نقل العواطف التي تصاحبها، والامتدادات التي تتولد عنها في نفسية العربي. لذلك كان الشعر العربي خير فنان، وخير رسول.
((
هوامش:
1-إبراهيم زكرياء. فلسفة الفن. ص:231.
2-م.س.ص:232.
3-جيروم ستولنيتز. النقد الفني.(ت) إبراهيم زكرياء.ص:79.
4-إبراهيم زكرياء.م.م.س.ص:236.
5-روبرت شولتز. السيمياء والتأويل.(ت) سعيد الغانمي.ص:64.
6-جيروم ستولنيتز.م.م.س.ص:322.323.
7-الأمير عبد القادر الجزائري. الديوان.ص:44.
8-جيروم ستولنيتز.م.م.س.ص:67.
9- الأمير عبد القادر.الديوان.ص:44.45.
10-م.س.ص:48.
(((
الخاتمة.(1/146)
... كثيرا ما يكون التصور الذي يحمله الباحث في قرارة نفسه، أول الأمر فكرة غامضة، في حاجة إلى إطار يمكنها من التجسد والظهور. وإذا اكتسبت هذا الإطار تبدت فيها مسافات لا قبل للتصور الأولي الذي سطره الباحث قبلا، وبانت حاجتها إلى إضافات تتوسع لتلامس تخوم الحقول المعرفية المتاخمة للحقل الذي يشتغل فيه الباحث. ومن ثم يظهر الجهد الفردي لمحاصرة الظاهرة ضربا من العبث الذي لا طائل وراءه. وبدت المسافات في حاجة إلى فريق باحث يتحاماها حتى يوسعها بحثا وتنقيبا. وفكرة الفريق الباحث فكرة متجذرة في القدم في الثقافة العربية. لأننا إذا أخذنا مباحث النحو العربي، أو الفقهي، أو التفسير، أو غيرها .. وجمعنا ما ألفه السلف فيها، ألفينا الجهود الفردية تصب كلها في قناة واحدة. وكأن الأمر يقوم على اتفاق ضمني يجعل نشاط الآحاد منهم، وكأنه نشاط جماعي يقوم على اتفاق مبدئي لدراسة المبحث الواحد.
... ولا نزعم أن الفكرة كانت على النحو الذي نتخيله اليوم، ولكن قراءة التأليف العربي القديم، وفحص منهجيته، يكشف عن التأسيس الذي يعطي للمتقدم حضوره في البناء المعرفي الناشئ للمبحث، من دون إلغاء، أو تجاوز. وعندما نحلم نحن بالفريق الباحث نجد له في أنفسنا صورة الجماعة التي تتعدد اختصاصاتها وتختلف اهتماماتها، ولكنها تتفق في تحديد الظاهرة المراد دراستها. وتصب الجهود أخيرا في تأليف واحد يجمع خلاصات الأبحاث، ولا يكون تقريرا نهائيا مغلقا منتهيا، بل يقدم من خلال إفرازاته "قراءة" للظاهرة، في لحظة حضارية ومعرفية معينة، قد تسعفها الأيام والمعارف المستجدة بما يثريها ويضيف إليها ما فاتها من قبل. ولا نفهم من نشاط الفريق القارئ أن البحث ينفض يديه من الظاهرة حالما تصدر النتائج ليحول وجهه شطر ظاهرة أخرى، فذلك ادعاء باطل من وجوه كثيرة. وأخطر ما فيه أنه قتل للظواهر المدروسة، وإبادة لشطر من الإنسان نفسه.(1/147)
... لقد كانت جولتنا مع المكان، كلما استبدت بنا أظهرت لنا من السعة ما أرغمنا على الاعتراف بمحدودية التصور الذي أنشأناه قبلا، وفتحت أمامنا إمكانات دراسة العلاقات التالية:
العلاقة بين المكان واللغة.
العلاقة بين المكان والأسلوب.
العلاقة بين المكان والصورة.
العلاقة بين المكان والذات.
العلاقة بين المكان والشخصية.
العلاقة بين المكان وطبيعة الأحاسيس المنبعثة منه، وارتباطها بموقف الشاعر من جهة، وموقفه الفكري من جهة ثانية، إضافة إلى سنه، واعتقاده، ودينه..
العلاقة بين المكان والأخلاق العامة والخاصة.
العلاقة بين المكان والمعمار الشعري العربي.
العلاقة بين المكان والأغراض الشعرية العربية.
وليس تعدادنا لهذه العلاقات حصراً لها، أو تحديداً وإنما أردنا من خلالها بيان ما يثيره المكان في نفسية الدارس وهو يقلب صفحاته في الشعر العربي. وقد يجد آخرون ارتباطات أخرى أكثر طرافة وعمقا في الصلة بين المكان والإبداع بصفة خاصة، أو بينه وبين الفن بصفة عامة.
... وأول شعور يلتصق بذهن الباحث وهو يقلب صفحات الشعر العربي، ذلك الحضور الطاغي للمكان في المعمار الشعري، وفي صلب المعنى. وكأن الشعر ما كتب إلاّ ليعبر عن المكان أصالة من خلال الأغراض التي يثيرها ظاهريا. وكأن المكان هو المطلب الأول في كل إبداع شعري يتحمل عبء التعبير عن الهموم الأخرى التي لها صلة به من ناحية أو أخرى.(1/148)
... لقد كان الطلل في الشعر العربي القديم، كما كان في الشعر الحديث شارة الشعر العربي الأولى ودليله الذي يعرف به في الشعر العالمي. ويكفي حضور هذه الشارة حتى يتأكد الدارس أنه أمام فكر، وفلسفة، ودين.. قبل أن يكون أمام شعر غنائي فردي المنبع. ألم يكن الشعر ديوان العرب ؟ وكونه "الديوان" يعطي للمصطلح معنى المكان، قبل أن يعطيه معنى "الكتاب" فالديوان مكان الجلوس ، والمنادمة، والحديث، والحكمة، والرأي، والحرب..مكان المجادلة، والمناظرة، والمكاثرة، والمهاترة، والمفاخرة.. وما شئنا من العادات المتجذرة في المجتمع العربي القديم. وعندما نثير اصطلاح الديوان – الآن – لا يعلق بأذهاننا سوى الكتاب الذي يضم بين دفتيه أشعارا، وحكما، وحسب. لأننا نستحضر في أذهاننا الديوان ثقافيا فقط، ولا نستحضره حياتيا. فإن فعلنا ذلك تكشف أمامنا الديوان مكانا يعج بالحركة، والأصوات، والحياة. يتقلب فيه أناس لنا منهم صور باهتة، كثيرا ما شوهتها المسلسلات، والأفلام الرخيصة الغثة. إن الديوان أو النادي، مجال حياة، تتلخص فيه صور الحضارة التي تكتنف المجتمع. بل النادي مجال النخبة من المجتمع، فيه يجتمع علية القوم، اجتماع لهو، واجتماع جد. وفي لهوهم وجدهم تتجسد صور الثقافة المعيشة.(1/149)
... إن المكان، وهو يتسع هذا الاتساع، يتبدى موضوعة أكثر خطورة مما يتصوره الفحص السريع للموضوعات التي تسكن الشعر العربي، أو ما يحتمله النقد الموضوعاتي وهو يتصيد الموضوعات ليكتب عنها المقال. ولم نحمل بحثنا ثقل الحديث عن "البروكسميا" "La Proxémique" التي يجعلها البحث السيميائي المجال الذي يتدخل فيه الإنسان "لتنظيم" المكان وفق الحاجات التي تمليها عليه شروط الحياة والاجتماع. ذلك أن الطلل صورة من ذلك التنظيم الذي يرتبط بحياة الجاهلي ارتباط معاش. والشاعر حين يصف الطلل تقع عينه على الآثار التنظيمية التي يجريها القوم على المجال المعيشي. وذكر النؤي، والأثافي، ومواقع الأوتاد، ومرابط الإبل، و مرابض الكلاب.. وغيرها إنما تقع على ذلك التنظيم الذي يشغل بال "البروكسيما". كما لم نحمله الحديث عن الفروق التي تكون بين المجال، والحيز، والمحل، والدار، والبيت، وغيرها .. لأننا نظرنا إليها جملة على أنها مكان وحسب. والتمييز بينها مما يخدم التخصيص المكاني، وتحديد الفضاء الذي يتصل بالشخص اتصال القميص بالجسد.
... كما لا نجد ضرورة في تحديد النتائج التي توصل إليها البحث، بل نتركها في صلب البحث دعوة للاستزادة لعلنا نعود إليها في قراءة لاحقة، تكون أكثر عمقا وتحديدا، مدعومة بآليات جديدة مما يتمخض عن الدراسات المتاخمة للأدب، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، والعمارة، وحركات النزوح وأسبابها المختلفة. وحسبنا أننا قد أثرنا المكان في ثوب عربي محض، حتى وإن كنا قد استشهدنا ببعض المقولات الغربية استئناسا فقط. لأننا نعتقد أن المكان العربي لابد أن يغاير المكان الغربي ضرورة، تغاير الطبيعة والمناخ. وأن فهمه لابد وأن ينبع من ذائقة تناسبه، وتفهم عنه ما يحبل به من معان وأفكار.
تم والحمد لله.
(((
قائمة
المصادر والمراجع.
... القرآن الكريم.
1-إبراهيم بدران.وسلوى الخماش.العقلية العربية.الخرافة(1) دار الحقيقة بيروت.1979.(1/150)
-إبراهيم بدران. حول العقلية العربية. في الفلسفة في الوطن العربي. بحوث المؤتمر العربي الأول.الجامعة الأردنية. مركز دراسات الوحدة العربية.بيروت.1985.
2-ابن خفاجة. الديوان. دار بيروت للطباعة والنشر.(دت).
3-أحمد الهاشمي. جواهر الأدب.منشورات مؤسسة المعارف. 1985. بيروت.
4-أحمد بن علي الفيومي المقرئ. المصباح المنير. المكتبة العصرية.صيدا.ط1. 1996.
5-أحمد حسن الزيات. تاريخ الأدب العربي. دار الثقافة.1985.بيروت.
6-أحمد شوقي. الديوان.دار الكتاب اللبناني.(دت) بيروت.
7-ألبيرس. تاريخ الرواية الحديثة.( تر) جورج سالم. منشورات عويدات.ط2.1982. بيروت.
8-إيليا الحاوي. فن الوصف في الشعر العربي.دار الكتاب اللبناني.1980.
-إيليا الحاوي. إلياس أبي شبكة.دار الكتاب اللبناني.(دت) بيروت.
9-توفيق الزيدي. أثر اللسانيات في النقد العربي.الدار العربية للكتاب.1984.ليبيا.
10-جان بول سارتر. ما الأدب ؟ (تر) محمد غنيمي هلال.دار العودة. بيروت.(دت).
11-جورج عبده معتوق. ابن الرومي، الشاعر المغبون.دار الكتاب اللبناني.ط2. بيروت.1984.
12-جوزيف ميشال شريم.دليل الدراسات الأسلوبية.المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.ط1. 1984.بيروت.
13-جيروم ستولنيتز. النقد الفني. (تر) فؤاد زكريا. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1981.
14-رجاء عيد. فلسفة الالتزام في النقد الأدبي.منشأة المعارف بالإسكندرية.1986.
15-سعيد علوش. هيرمونتيك النثر الأدبي. دار الكتاب اللبناني.ط1. 1985.
16-سمير المرزوقي وجميل شاكر.مدخل إلى نظرية القصة. الدار التونسية للنشر.(دت) تونس.
17-سيد قطب. النقد الأدبي..دار الشروق.(دت) بيروت.
18-سيزا أحمد قاسم. بناء الرواية. الهيئة المصرية العامة للكتاب.ط2.1985.
19-سيزا قاسم دراز.المكان ودلالته. عيون المقالات. الدار البيضاء. المغرب.
20-صالح خرفي. أطلس المعجزات. الشركة الوطنية للكتاب. الجزائر.1968.(1/151)
21-صلاح فضل. منهج الواقعية في الإبداع الأدبي. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1978.
-صلاح فضل. علم الأسلوب.الهيئة المصرية العامة للكتاب. ط2.1985.
-صلاح فضل. النظرية البنائية في النقد الأدبي. المكتبة الأنجلو المصرية.ط.1981.2.
22-طه وادي. جماليات القصيدة العربية.الهيئة المصرية العامة للكتاب.1981.
23-عبد العزيز المحمد السلمان.إيقاظ أولي الهمم العالية إلى اغتنام الأيام الخالية.مطابع الخالد.ط2. 1407هـ السعودية.
24-عبد الملك مرتاض. ألف ليلة وليلة.ديوان المطبوعات الجامعية.1993.
25-عبد الله الغذامي. تشريح النص. دار الطليعة.ط1. 1987.بيروت.
26-عمر أبو ريشة. الديوان. دار العودة.ط1. 1971. بيروت.
27-فتحي الشنيطي.أسس المنطق والمنهج العلمي. دار النهضة العربية.1970.بيروت.
28-مازن الوعر. دراسات لسانية تطبيقية. دار طلاس للنشر.ط1. 1989.دمشق.
29-محمد العيد آل خليفة. الديوان. المؤسسة الوطنية للكتاب.1979. الجزائر.
30-محمد غنيمي هلال.الموقف الأدبي. دار العودة (دت) بيروت.
31-محمد متولي الشعراوي. في تربية الإنسان المسلم. دار العودة. 1982.بيروت.
32-مفدي زكرياء. اللهب المقدس. المؤسسة الوطنية للكتاب.ط.1991.2.
33-مصطفى ناصف. محاورات مع النثر العربي. عالم الفكر.1997. الكويت.
34-ميشال أوتن.سيميولوجيا القراءة.(تر) طاهر رواينية. مجلة تجليات الحداثة. ع:4. جامعة وهران.
35-يوري لوتمان. مشكلة المكان الفني.(تر) سيزا قاسم دراز.عيون المقالات.الدار البيضاء المغرب.
36-Emberto.Eco. L’oeuvre ouverte. Trad. Chantal Roux de Bezieux. Ed. Seuil1965. Paris.
37-Stéfan Zweig. Derniers Messages. Trad. Alzir Hella.ed. Victor Attinger. 1949.Paris.
(((
الفهرس المفصل
المقدمة ... 3
مدخل. التأطير التنظيري. ... 3
موضوعة الطلل قراءة المكان، نص الشعر. ... 3
الفصل الأول: قراءة المكان. نص الشعر. ... 3
1-تقديم: ... 3
2-مفهوم الاشتمال: ... 3
3-المكان، الطلل: ... 3(1/152)
4- المكان كتابة: ... 3
5-تحولات الكتابة: ... 3
هوامش: ... 3
موضوعة الطلل. 2 مكان القراءة، نص الطلل. ... 3
الفصل الثاني: مكان القراءة. نص الطلل. ... 3
1-تقديم: ... 3
2-حركة الانصراف: ... 3
3-الطلل الحديث: ... 3
4- الانفصال والاتصال: ... 3
5-الطلل بين رؤيتين: ... 3
موضوعة الطلل.3. حكاية الطلل، نص السرد ... 3
الفصل الثالث: حكاية الطلل، نص السرد. ... 3
1-تقديم: ... 3
2-نص السرد: ... 3
أ-المدخل القصصي: ... 3
ب-موقف السارد: ... 3
ج-فاعلية التشخيص: ... 3
د- فاعلية الازدواج: ... 3
ه- فاعلية العرض: ... 3
موضوعة الجبل.1. الإطار المعرفي لموضوعة الجبل. ... 3
الفصل الرابع: الأطر المعرفية لموضوعة الجبل ... 3
1-تقديم ... 3
2- الإطار الخرافي/الأسطوري: ... 3
3- الإطار الديني: ... 3
أ-النكرة والمعرفة: ... 3
ب-الحياة والإحساس: ... 3
ج- زوال العالم: ... 3
4- الإطار الفني: ... 3
أ-الشيخ الوقور: ... 3
ب-الحديث العجيب: ... 3
موضوعة الجبل.2. التجلي الجمالي. ... 3
الفصل الخامس: التجلي الجمالي. ... 3
1-تقديم: ... 3
2-الفضاء المادي، الدال والمدلول: ... 3
3-الفضاء المعنوي، المرجعية والتاريخ: ... 3
4 - المكان الزماني،النبوءة والوحي: ... 3
5- الزمان المكاني، الوحي والمعجزة: ... 3
موضوعة السجن. الموقف والتجربة الفنية. ... 3
الفصل السادس: الموقف والتجربة الفنية. ... 3
1-تقديم: ... 3
2-الموقف وأصول التجربة الفنية: ... 3
أ- إيجاد اللغة: ... 3
ب-التلاؤم: ... 3
3-الإبداع والموقف الثوري: ... 3
4-السجن فضاء للموقف الفني: ... 3
5-السجن.قداسة الفضاء الرمزي: ... 3
6-السجن. ثنائية الحياة والموت: ... 3
7-السجن. فضاء تحول: ... 3
8-السجن. فضاء تأمل وفلسفة: ... 3
موضوعة الدنيا. نص التضاد ... 3
الفصل السابع: المكان الزماني. نص التضاد ... 3
1-تقديم: ... 3
2-الموت: الحقيقة والوجود. ... 3
3- الدنيا، الدار والزوال: ... 3
4-النص والمجال النصي: ... 3
5-حركية النكوص: ... 3
الموضوع الجمالي. المكان جماليا ... 3
الفصل الثامن.: المكان جماليا. ... 3
1-تقديم: ... 3
2-الموضوع، النداء والتلقي: ... 3
3 - المكان الحضور والغياب: ... 3
4-جماليات التركيب: ... 3(1/153)
5-لوحات الشعر الجمالية: ... 3
الخاتمة. ... 3
قائمة المصادر والمراجع. ... 3
الفهرس المفصل ... 3
((
هذا الكتاب
تتكشف معضلة المكان في شكلها المعقد، حينما يلامس التفسير والتأويل تخوما، يكون فيها المعنى أكثر ارتباطا بالمكان وإيحاءاته. وكأن المعنى لا يكتسب أبعاده القصوى إلاّ إذا استرفد المكان، واستخلص منه محمولاته الدلالية. فإذا اقتصر التأويل على المعطيات الفكرية، والاجتماعية، والنفسية..مثلا فإن صنيعه ذاك يظل ناقصا، مهما كانت درجة العمق والإجادة في خطابه. بل إننا نزعم الساعة أن التأويل الذي يكتفي بذلك النزر القليل من الفحص، تأويل ناقص. لا يمكن أن يصل إلى عمق النص أبدا، مادامت المعطيات نفسها لا تتأسس قاعدة علمية، إلاّ إذا أخذت حظها من الارتباط التشعّبي الذي يشدها إلى المكان.
... إننا عندما نقلِّب مباحث الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا نتأكد من الحضور الطاغي للمكان. بل قد نجد المقابلة التالية : الإنسان/ المكان في كل سطر نقرأه، وكأننا إزاء حقيقة أولية في كل فهم يروم النزول إلى أغوار الذات الإنسانية: شخصية، وفردا، ووجودا، وهوية، وفكرة.. وتلك حقيقة لم نجد لها في الدرس الأدبي إلاّ حضورا باهتا..
(((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
فلسفة المكان في الشعر العربي: قراءة موضوعاتية جمالية : دراسة / حبيب مونسي– دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 –
148 ص؛ 24سم.
1- 811.009 م و ن ف ... ... ... ... 2- العنوان
3- مونسي
ع- 2422/12/ 2001 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/154)