فصول فقه
المقاصد الشرعية والتكليف والحقوق
من كتاب
بلوغ السول وحصول المأمول
في شرح منظومة
مرتقى الوصول إلى الضروري من علم الأصول
المنظومة لأبي بكر محمد بن عاصم الغرناطي (ت 829 هـ)
والشرح لمحمد يحي المختار بن الطالب الولاتي الشنقيطي (ت 1330 هـ/1912م)
من الطبعة الحجرية بفاس 1327هـ
قال الشيخ الولاتي ـ رحمه الله ـ :
فصل في المقاصد الشرعية
أي الأمور المقصودة بالتكاليف الشرعية أي التي ترجع إليها التكاليف الشرعية.
مقاصدُ الشرعِ ثلاثٌ تُعتبَرْ ... - ... وأصلُها ما بالضرورةِ اشتهَرْ
يعني أن الأمور المقصودة بإنزال الشرع ثلاث مصالح؛ أولها: المصلحة الضرورية، والثانية: المصلحة الحاجية، والثالثة: المصلحة التحسينية؛ فجميع التكليف الشرعية راجعة إلى حفظ هذه المصالح الثلاث اهـ
(وأصلها ما بالضرورة اشتهر) يعني أن الأصل في المصالح الثلاث المصلحة التي اشتهرت بنسبتها إلى الضرورة أي المصلحة الضرورية.
واتَّفَقَتْ في شأنها الشرائعُ ... - ... إنْ كان أصلاً وسواهُ تابِعُ
(و) هي التي (اتفقت في شأنها الشرائع)
يعني أن المصلحة الضرورية هي المصلحة التي اتفقت جميع الشرائع أي الملل من لدن آدم إلى الآن على وجوب حفظها لأجل (إن كان) المقصد الضروري الذي هو المصلحة (أصلا) لغيره من المقاصد (وسواه) من المقاصد وهو الحاجي والتحسيني (تابع) له في الرعي؛ فلا يراعى المقصد الحاجي ولا التحسيني إلا بعد مراعاة المقصد الضروري، لأن الحاجي مكمل للضرورري، والتحسيني مكمل للحاجي اهـ
وهْو الذي برَعْيِهِ استقرَّا ... - ... صلاحُ دُنيا وصلاحُ أُخرى
يعني أن المقصد الضروري هو الذي استقرَّ أي ثبت برعيه أي مراعاته صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، فلا تصلح واحدة منهما إلا بمراعاته.(1/1)
فإذا فقد المقصد الضروري بأن لم يراع فسدت الدنيا أي فسد نظامها بالقتال والتهارج، وفسدت الآخرة بفوت النجاة والنعيم والخسران، نعوذ بالله من ذلك كله؛ وإنما سمي ضروريا بوصول الحاجة إليه إلى حد الضرورة.
وذاكَ حفظُ الدين ثمَّ العقلِ ... - ... والنفسِ والمالِ معاً والنسلِ
(وذاك) أي المقصد الضروري ستة أنواع،
أولها: (حفظ الدين) وهو المقصد الضروري الذي لأجل مراعاته قتل الكفار والمرتدين، وعقوبة الداعين إلى البدع.
(ثم العقل) أي وثانيها: حفظ العقل من الإفساد، وهو المقصد الضروري الذي لأجل مراعاته حدّ شارب المسكر بثمانين جلدة.
(و) ثالثها: حفظ (النفس) من الهلاك والإهلاك، وهو النقصد الضروري الذي شرع لأجل مراعاته القصاص.
(و) رابعها: حفظ (المال) من الإضاعة، وهو المقصد الضروري الذي شرع لأجل مراعاته حدّ السرقة والحرابة.
قوله: (معا) أي جميعاً، وهو منصوب على الحالية من قوله: والنفس والمال.
(و) خامسها: حفظ النسب (النسل) أي الذرية عن الجهل، وهو المقصد الضروري الذي شرع لأجل مراعاته حدّ الزنا.
وسادسها: حفظ العرض عن التنقيص، وهو المقصد الضروري الذي شرع لأجل مراعاته حدّ القذف.
وهذه المقاصد الستة مرتبة أعلاها حفظ الدين، فيجب تقديمه على جميعها عند التعارض؛ فإذا دار الهلاك بينه وبين واحد منها قدم عليه؛ ويليه حفظ النفس؛ ويلي ذلك حفظ العقل، ويلي ذلك حفظ النسب، ويلي ذلك حفظ المال والعرض لأنهما في رتبة واحدة عند السبكي؛ وقيل ما كان من حفظ العرض آئلاً لحفظ النسب كتحريم القذف فهو أرفع رتبة من المال، وما سوى ذلك فهو دون المال في الرتبة اهـ. وإنما كان حفظ المال ضروريا لتوقف البينة عليه فيجب حفظ هذه الستة.
مِن جهةِ الوجودِ والثباتِ ... - ... كالأكلِ والنِّكاحِ والصَّلاةِ
(من) جهتين (جهة الوجود والثبات) أي يجب حفظها من جهة وجودها وثباتها بأن يراعى ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك:(1/2)
(كالأكل والنكاح والصلاة) فاستعمال المأكولات راجع إلى حفظ النفس والعقل من جهة الوجود والثبات، وكذا استعمال سائر العادات من المشروبات والملبوسات والمسكونات، لأن وجود النفس والعقل وثبوتهما منوط باستعمال العادات، فلا يوجدان ولا يثبتان بدون استعمالهما اهـ. والنكاح وسائر المعاملات راجعة إلى حفظ النسب والمال والعرض من جهة الوجود والثبات، وإلى حفظ النفس والعقل أيضا من جهتهما لكن بواسطة استعمال العادات؛ لأن وجود النسب والمال والعرض وثبوتها منوط بالمعاملة مع الناس بالنكاح والبيع وسائر العقود، فلا يوجد نسب ولا مال ولا عرض، ولا يثبت بعد الوجود إلا بالمعاملة اهـ. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج والإيمان وسائر العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود والثبات، فلا يوجد الدين ولا يثبت بدون إقامة أصول العبادات وشعائر الإسلام، فوجوده منوط بوجودها اهـ
وأشار إلى الجهة الثانية التي يجب حفظ الضروريات الست منها بقوله:
وتارةً بالدرء للفسادِ ... - ... كالحدِّ والقصاصِ والجهادِ
يعني أن حفظ الضروريات الست يكون تارة بدرء الفساد والاختلال الواقع أو المتوقع عنها، وذلك حفظها من جانب العدم؛ كإقامة الحدّ على من فعل فاحشة، والقصاص من القاتل عمداً عدواناً، وتضمين الدية في الخطأ، وتضمين قيم المتلفات، وجهاد الكفار، وسائر العقوبات الشرعية كلها راجعة إلى حفظ الضروريات الست من جانب العدم:(1/3)
فإقامة الحد على الزاني واللائط راجعة إلى حفظ النسب من جانب العدم، وإقامة الحدّ على شارب الخمر راجعة إلى حفظ العقل من جانب العدم، وكذا لزوم الدية لمن أفسد عقل إنسان، فإنه راجع أيضاً إلى حفظ العقل من جانب العدم، وجهاد الكفار وقتل المرتدين وعقوبة أهل البدع، هذه الثلاثة راجعة إلى حفظ الدين من جانب العدم، وإقامة الحد على السارق والمحارب وتضمين القيمة لمن أتلف شيئاً وتعزير الغاصب كل هذه راجع إلى حفظ المال من جهة العدم؛ والقصاص في العمد وتضمين الدية في الخطأ راجعان إلى حفظ النفس من جهة العدم؛ وحد القذف راجع إلى حفظ العرض من جهة العدم اهـ.
وأشار إلى القسم الثاني من المقاصد الشرعية وهو الحاجي بقوله:
وبعدهُ الحاجِيُّ وهْوَ ما افتقَرْ ... - ... لهُ المُكلَّفُ بأمرٍ مُعْتبَرْ
(وبعده الحاجي) يعني أن المقصد الحاجي بعد المقصد الضروري في الرتبة، وسمي حاجياً لأن الحاجة تدعو إليه؛ وإنما كان بعد الضروري في الرتبة لأن الضرورة لم تلجئ إليه.
وأشار الناظم إلى تفسيره بقوله:
وهْوَ ما افتقَرْ ... - ... لهُ المُكلَّفُ بأمرٍ مُعْتبَرْ
من جهة التوسيعِ فيما ينتهِجْ ... - ... أو رفعِ تضييقٍ مُؤدٍّ للحرَجْ
يعني أن الحاجي هو المقصد الشرعي الذي يفتقر له المكلف بأمر معتبر أي افتقاراً معتبَراً من جهة التوسيع عليه فيما ينتهجه أي فيما يسلكهؤمن طرق المعاش، أو من جهة رفع التضييق عنه المؤدي للحرج أي المشقة. فإذا لم يُراعَ دخل على المكلَّفين جملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد الكائن في عدم مراعاة المفصد الضروري.
وهو يجري في العبادات أي يكون سبباً لمشروعية بعضها كالرخصة في الفطر لرمضان، والقصر للصلاة للمريض والمسافر، فإن السبب في مشروعيتها مقصد حاجي هو رفع الحرج والمشقة عن المريض والمسافر اهـ .(1/4)
ويجري في العادات أي يكون سبباً لمشروعية بعضها كإباحة الصيد والتمتع بالمُستلذات مما هو حلال مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً وما أشبه ذلك؛ فإن السبب في مشروعيتها مقصد حاجي هو التوسيع على المكلفين في معاشهم اهـ .
ويجري في المعاملات أيضا أي يكون سبباً لمشروعية بعضها كالقراض والمساقاة والسلم وإلغاء التوابع في العقد على متبوعاتها كثمرة الشجر التي لم يبد صلاحها، ومال العبد وما أشبه ذلك؛ فإن السبب في مشروعية هذه مقصد حاجي هو التوسيع على المكلَّف فيما ينتهجه من طرق معاشه اهـ
ويجري أيضاً في العقوبات أي يكون سبباً لمشروعية بعضها كالحكم باللوث والتدمية والقسامة وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصناع، فإن السبب في مشروعيتها مقصد حاجي هو رفع التضييق والحرج عن المجني عليه في الثلاث الأول، وعن الجاني في الرابعة، والمصنوع له في الخامسة.
وثالثٌ قِسمُ المُحسِّناتِ ... - ... ما كان من مسائلِ (1) العادات
يعني أن القسم الثالث من المقاصد الشرعية هو قسم المحسنات وهو المقصد الشرعي أي المصلحة الشرعية التي في اعتبارها الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات واتباع أحسن المناهج في العبادات والعادات والمعاملات والعقوبات:
ففي العبادات كإزالة النجاسة وستر العورة وأخذ الزينة والتقرب بنوافل الخير من الصدقات والقربات وما أشبه ذلك، فإن السبب في مشروعيتها الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادة، إذ يقبح على الإنسان عادة أن يكون نجساً أو عارياً أو متقشِّفاً أو بخيلاً .
وفي العادات كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتناولات وما أشبه ذلك؛ فإن السبب في مشروعيتها الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادة.
__________
(1) قال المصنف ـ رحمه الله ـ: أظنه خطأ من الكاتب والصواب أن يقول من محاسن العادات.(1/5)
وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ، وسلب العبد أهلية الشهادة، وسلب المرأة أهلية الإمامة وإنكاحها نفسها، وندب العتق والكتابة والتدبير، فإن السبب في مشروعية هذه الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادة، إذ يقبح عادة بيع النجاسة وفضل الماء والكلأ وقطع الحقوق بشهادة رقيق والاقتداء به والتحاكم إليه، والاقتداء بامرأة وتفويض أمرها إليها، واسترقاق من يستحق العتق.
وفي العقوبات كمنع قتل الحر بالعبد ومنع قتل النساء والصبيان والرهبان من الكفار في الجهاد، فإن السبب في مشروعية ذلك الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادة إذ يقبح عادة قتل الحر بالعبد وقتل النساء والصبيان والرهبان من العدو.
وقوله في البيت: (من مسائل العادات)، أظنه خطأ من الكاتب، والصواب أن يقول من محاسن العادات. وقوله (ما كان) خبر مبتدأ محذوف.
وفي الضروريِّ وفي الحاجيِّ ... - ... ما هو من تتمَّةِ الأصليِّ
يعني أن لكل من المقصد الضروري والمقصد الحاجي متمما له مبالغاً في حفظه. فقوله (الأصلي) من إقامة الظاهر مقام المضمر، لأنه يعني به المقصد الضروري أو الحاجي المتمم. وقوله (ما) مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله.
كالحدِّ في شُربِ قليلِ المُسكِرِ ... - ... وكاعتبارِ كفْءِ ذات الصِّغَرِ
ثم أشار إلى مثال المتمم للضروري بقوله: (كالحدِّ في شُرب قليل المسكر) أي كثبوت الحد في شرب القليل الذي لا يسكر من جنس المسكر عادة، فشرعت إقامة الحد في شرب القليل تكميلاً للمقصد الضروري الذي هو حفظ العقل لئلا يلحقه تفويت، لأن شرب القليل يدعو إلى شرب الكثير المفسد للعقل.
وكاشتراط التماثل في القصاص فإنه شرع تكميلاً للمقصد الضروري الذي حفظ النفس من الهلاك، لأن التماثل لو لم يشترط في القصاص لأدى القصاص من غير المثل إلى القتال المفضي إلى كثير من النفوس.(1/6)
وكالمنع من نظر الأجنبية فإنه شرع تكميلاً للمقصد الضروري الذي هو حفظ النسب من الجهل، إذ لو لم يمنع لجرَّ إلى الزنا المفسد للنسب. وكمنع الربا فإنه شرع تكميلاً للمقصد الضروري الذي هو حفظ المال، إذ لو لم يمنع لجرّ إلى أكل أموال الناس بالباطل.
وكإظهار شعائر الإسلام، فإنه شرع تكميلا للمقصد الضروري الذي هو حفظ الدين، إذ لو لم يشرع إظهارها لجرّ ذلك إلى عدم إقامتها، وفي ذلك إضاعة للدين.
وأشار إلى مثال المتمم للحاجي بقوله: (وكاعتبار كفؤ ذات الصغر) أي كاعتبار الكفائة في تزويج الصغيرة، واعتبار مهر المثل فيه أيضاً؛ فإن السبب في مشروعية ما ذكر تكميل المقصد الحاجي الذي هو التوسيع على المكلف بالنكاح، إذ لو لم يعتبر الكفؤ ومهر المثل في نكاح الصغيرة لأدى ذلك إلى سوء العشرة بين الزوجين حتى يفترقا فيبطل المقصد الحاجي بالكلية.
وكالإشهاد وجواز اشتراط الرهن والحميل في البيع فإنه شرع لتكميل المقصد الحاجي الذي هو التوسيع على المكلف بالبيع لما فيه من تثمير المال، فلو لم يشرع ما ذكر لأدى ذلك إلى بطلان حقه بالكلية؛ وهذا بناء على أن البيع من باب الحاحي، والصحيح أنه من باب الضروري.
وكجواز الجمع بين الصلاتين في سفر القصر فإنه شرع لتكميل المقصد الحاجي الذي هو رفع المشقة على المسافر؛ إذ لو لم يشرع لأدى ذلك إلى الدخول في المشقة أيضاً.
تنبيهات: الأول: ترك الناظم متمم المقصد التحسيني وهو كآداب الإحداث أي قضاء حاجة البول والغائط، فإنها شرعت لتكميل المقصد التحسيني الذي هو الجري على مكارم الأخلاق بالاستبراء من الحدث والتحفظ منه، إذ لو لم تشرع لربما أدى ذلك إلى التلطخ بالنجاسة المفسد للمقصد التحسيني بالكلية.(1/7)
وكالإنفاق أي الصدقة من الكسب الطيب أي اشتراط الطيب فيه، فإنه شرع لتكميل المقصد التحسيني الذي هو الجري على مكارم الأخلاق بالإنفاق؛ إذ لو لم يشترط لربما أدى ذلك إلى الإنفاق من الحرام، وذلك مخل بمكارم الأخلاق. وكترك إبطال النافلة بعد الدخول فيها، فإنه منع لتكميل المقصد التحسيني الذي هو الجري على مكارم الأخلاق بالتنفل؛ إذ لو لم يمنع لربما أدى إلى ترك التنفل، وذلك مخل بالمقصد التحسيني.
الثاني: قال في التنقيح: تقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب كقطع الأيدي باليد الواحدة، فإن المقصد الذي شرع لأجله متردد بين الضروري والحاجي، فقيل إنه ضروري وهو صون الأعضاء عن القطع، وقيل إنه الحاجي وهو التوسيع على المجني عليه بزجر الجاني ومن يُعينه عن الجناية عليه، لأن الجاني يحتاج في جنايته إلى الاستعانة بالغير وقد يتعذر.
الثالث: قال في الضياء اللامع: قد يكون الوصف الواحد ضرورياً وحاجياً وتحسينياً لكن بحسب إضافات، كالنفقة فإنها على النفس ضرورية وعلى الزوجة حاجية وعلى القرباء تحسينية. وكالعدالة فإنها في الشاهد ضرورية صوناً للنفوس والأموال، وحاجية في الإمام، لأن الإمامة شفاعة والحاجة داعية إلى إصلاح حال الشفيع، وتحسينية في ولي النكاح لأنه قد يزعه طبعه عن الوقوع في العار والسعي في الاضطرار، وقيل حاجية على الخلاف، ولا تشترط في الإقرار اتفاقاً لقوة الوازع الطبعي.(1/8)
ودفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو أفضت إلى مخالفة القواعد، وهي تكون ضرورية مؤثرة في الترخيص في كل شيء كالبلد الذي يتعذر فيه العدول، قال ابن أبي زيد في النوادر: تقبل الشهادة أمثلهم حالا لأنها ضرورة، وكذلك يلزم في القضاة وولاة الأمور، وتكون حاجية ولذلك لم تشترط العدالة في الأوصياء دفعاً للمشقة الناشئة من الحيلولة بين الإنسان وبين من يريد أن يعتمد عليه، وتكون تحسينية كما في السلم والمساقات وبيع الغائب فإنها أبيحت مع الجهل في الأجرة دفعاً للمشقة عن الناس في معاشهم. وفي الصيد فإنه أبيح مع بقاء الفضلات فيه وعدم تسهيل الموت عليه دفعاً للمشقة وتوسيعاً على الناس في معاشهم.
فقد اعتبر دفع المشقة في الشرع في هذه الأمور مع مخالفتة للقواعد.
الرابع: قال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي في قواعده: كل تكملة فشرطها أن لا يبطل اعتبارها أصلها، مثاله حفظ مهجة مُهم كُلِّي، وحفظ المروءات مستحسن، فحرمت النجاسة حفظاً للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادة، فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى. وكذلك أصل البيع ضروري، ومنع الغرر والجهالة فيه مكمل، فلو اشترط نفي الغرر جملة لانحسم باب البيع.
وكلُُّها قواعدٌ كلِّيَّهْ ... - ... مقاصدُ الشرعِ بها مَرعِيَّهْ
يعني أن هذه المقاصد الثلاثة وهي المصلحة الضرورية والحاجية والتحسينية كلها قواعد كلية، أي كل واحد منها قاعدة كلية، أي شاملة للجزئيات دفعة، أي على سبيل الاستغراق. (مقاصد الشرع) أي أوامره ونواهيه (مرعية) أي محفوظة بها أي بسبب رعي تلك القواعد، فهي العلل في أحكام الشرع كلها، لأن الحكمة في إنزال الشرع رعي مصالح العباد بجلب النفع لهم ودفع الضرّ عنهم؛ والقواعد الثلاث قد اشتملت على جميع المصالح.
وليسَ رافِعاً لكُلِّيَّاتِها ... - ... تخلُّفٌ لبعضِ جُزئيَّاتها(1/9)
يعني أن تخلف بعض جزئيات هذه القواعد الثلاث عنها لا يرفع كلياتها أي لا يقدح في كونها كلية أي عامة، بل يكون لتلك الجزئية النادرة حكم الغالب من نظائرها وتبقى القاعدة على عمومها لأنها ثابتة بالوضع لا بالعقل ، والغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي، لأن الجزئيات المختلفة لا تنتظم منها قاعدة تعارض هذه القاعدة الثابتة، ولأن الجزئية المختلفة قد يكون لها موجب إخراجها من القاعدة، ولأنها ثابتة بالوضع الاستقرائي، والقاعدة الوضعية لا يقدح فيها تخلف جزئية من جزئياتها عنها، وإنما يقدح ذلك في القواعد العقلية.
مثال تخلف جزئية من جزئيات المصلحة الضرورية: تخلف الحكمة في مشروعية العقوبة والازدجار عن المعصية، لأنا نجد من يعاقب ولا يزدجر عما عوقب عليه، وذلك لا يرفع العقوبة عنه، بل يعاقب كلما جنى.
ومثال جزئية من جزئيات المصلحة الحاجية: تخلف الحكمة من مشروعية القصر في السفر وهي المشقة عن القصر، وذلك في الملك المترفه بالسفر، فإنه لا يجد مشقة في سفره، وذلك لا يرفع حكم القصر عنه.
ومثال تخلف جزئية من جزئيات المصلحة التحسينية تخلف الحكمة في مشروعية الطهارة، وهي النظافة عنها في التيمم، فإنه على خلاف النظافة، وذلك لا يرفع كونه طهارة.
وهْيَ تعبُّداتٌ اَو عاداتٌ ... - ... ثمَّ جناياتٌ معاملاتٌ
يعني أن المصالح الثلاث وهي الضرورية والحاجية والتحسينية، كل واحد منها تجري في التعبدات أي مسائل العبادة، والعادات أي مسائل العادة، والجنايات أي العقوبات، والمعاملات. وقد بينا جريانها فيها عند التكلم عليها.
وجُملةُ التعبُّداتِ يمتنِعْ ... - ... أنْ يُستنابَ في الذي منها شُرِعْ
يعني أن جملة التعبدات أي جميعها يمتنع الاستنابة فيما شرع منها أي فيما تمحض منها للشرع بأن لم تكن فيه شائبة مالية.
وفي الذي يدخلُهُ المالُ نَظَرْ ... - ... مِن جهتين فيه خُلفٌ اشتهَرْ(1/10)
يعني أنه اشتهر الخلاف بين الفقهاء في الفعل التعبدي الذي يدخله المال: هل تجوز فيه الاستنابة أم لا؟؛ لأن فيه نظراً من جهتين، جهة التعبد وجهة المال، وإنما اشتهر فيه الخلاف بين الفقهاء:
إذْ صار من مجالِ الاجتهادِ ... - ... لناظرٍ كالحجِّ والجِهادِ
أي لأجل أنه صار بسبب دخول المال فيه مما يجول فيه الاجتهاد لمن نظر فيه، فمن نظر فيه من جهة التعبد منع الاستنابة فيه؛ ومن نظر فيه من جهة المالية أجازها فيه، وهو (كالحج والجهاد) والزكاة، فإن في كل من الثلاثة جهتين جهة التعبد وجهة المالية، ومذهب مالك جواز النيابة في الثلاثة.
وغيرُها يجوزُ باتِّفاقِ ... - ... نيابةٌ فيه على الإطلاقِ
يعني أن غير التعبدات من الأفعال فإنه يجوز فيه النيابة مُطلقا أي واجباً كان أو مندوباً اتفاقاً، وذلك كدفع الديون ورد المغصوب ونفقات الزوجات والأقارب وعلف الدواب ونحو ذلك.
ما لم تكن حكمتُه مقصورهْ ... - ... عادةً اَو شرعاً فلا ضرورهْ
يعني أن محل جواز النيابة في الفعل غير التعبدي ما لم تكن حكمته أي السر الذي شرع لأجله الفعل غير التعبدي مقصورة على الخطاب به عادة، أي لا تتعداه إلى غيره، فإذا ناب عنه غيره فيه تختلف الحكمة التي شرع لأجلها الفعل، أو مقصورة شرعاً عليه أي قصرها الشرع عليه، فإذا ناب عنه غيره فيه لم توجد الحكمة التي شرع لأجلها الفعل، فلا تجوز النيابة فيه ضرورة لأنه إذا ناب فيه عن المخاطب به غيره لم تحصل الحكمة التي شرع الفعل لأجلها عادة أو شرعاً.
كمثل ما للازدجارِ شرعُهُ ... - ... وكالذي لا يتعدَّى نفعُهُ
ثم أشار إلى تمثيل الفعل الذي حكمته مقصورة على المخاطب به عادة بقوله: (كمثل ما لازجار شرعه) أي كالفعل الذي شرع لأجل الزجر أو الردع كالحدود والعقوبات، فإنها لا تجوز فيها النيابة، إذ لو ناب عن مستحق الحد أو العقوبة غيره لم تحصل الحكمة التي شرع لأجلها الحد عادة، وهي الازدجار.(1/11)
(و) الفعل الذي حكمته مقصورة على المخاطب به شرعاً (كـ) الفعل (الذي لا يتعدى نفعه) المخاطب به كلاستمتاع بالزوجة والأمة فإنه لا تجوز فيه النيابة لأحد عن الزوج والسيد، إذ لو ناب عنه غيره فيه لم تحصل الحكمة التي شرع لأجلها النكاح والتسري شرعاً وهي الإعفاف والنسل.
تنبيه: قال المقري: "قاعدة: الفعل إن اشتمل وجوده على مصلحته مع قطع النظر عن فاعله صحت فيه النيابة ولم تشترط فيه النية؛ وإن لم يشتمل عليها إلا مع النظر إلى فاعله لم تصح فيه النيابة واشترطت فيه النية؛ فاشتراط النية وانتفاء صحة الاستنابة على هذا متلازمان، وكذلك عدم اشتراطها وصحة النيابة، فكل ما تصح فيه الاستنابة لا تشترط فيه النية، وكل ما تشترط فيه النية لا تصح فيه الاستنابة إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك. فمن ثم قال النعمان لا نيابة في الحج، وقلنا إنها رخصة.
وجُلُّ أهلِ العلم يمنعُ الحِيلْ ... - ... لقلبِ حُكمٍ أو لإسقاط عَملْ
يعني أن الجلّ أي الجمهور من أهل العلم يمنع الحيل الموصلة إلى قلب حكم أو إسقاط عمل، فالأول كاحتيال البخيل في إسقاط الزكاة بإبدال الماشية قرب الحول، فإنه تجب عليه ولا ينفعه احتياله معاملة له بنقيض قصده لأنه فاسد. والثاني كاحتيال الغاصب في وطء الجارية التي غصبها بأن أخفاها وزعم موتها ليغرم قيمتها لسيدها الذي غصبت منه، فإنه لا تنفعه حيلته بل تؤخذ منه الجارية، وترد لسيدها، ويأخذ هو منه القيمة التي دفع له، وكاحتيال من أراد وطء امرأة بنكاح فأقام بينة زور عند القاضي أنها زوجته، فلا يحل له وطؤها بذلك ولا ينفعه احتياله.
ومحل منع الاحتيال المذكور:
ما لم يكُ الشَّرعُ يُراعيهِ فذا ... - ... فيه الجوازُ باتِّفاقٍ يُحتذى
أي فإذا راعاه الشرع أي أذن فيه، (فذا) أي فهذا الاحتيال الذي أذن فيه الشرع يحتذى أي يتبع فيه الجواز اتفاقاً، وذلك:
كمثلِ ما روعيَ فيمن يُكرهُ ... - ... فاختارَ (1) أن يفعلَ شيئاً يُكرهُ
__________
(1) في الشرح (فاحتال)(1/12)
أي كمثل مراعاة الاحتيال فيمن يكره أي يقهر بغصب ماله أو على بيعه أو هبته (فاحتال أن يفعل شيئاً يكره) أي فاحتال في دفع الإكراه عنه بفعل شيء يكره أي يمنع ظاهراً لا باطناً، كما إذا أودع له الغاصب لماله دنانير أو دراهم فأراد جحدها وأمن فتنة ورذيلة تنسب إليه؛ وكما إذا استرعي المكره على البيع أو الهبة بأن أشهد بينة سر على أنه غير راض بالبيع أو الهبة، فإن هذا الاحتيال ينفع صاحبه لأنه جائز اتفاقاً.
أو يكنِ الشَّرعُ لهُ مُطَّرِحا ... - ... لم يعتبِره حيلةً إذْ وضحا
أي ومحل منع الاحتيال عند الجمهور ما لم يكن الشرع مطرحاً له أي لا يعتبره ولا يعده احتيالاً، إذ وضح أي لأجل أنه ظاهر، فقوله (لم يعتبره حيلة) تفسير لقوله مطرحاً، فإن الاحتيال حينئذ يكون جائزاً، وذلك:
كمنْ لهُ بُرٌّ رفيعُ العَيْنِ ... - ... فباعَ مُدًّا واشْترى مُدَّيْنِ
وذلك (كـ) احتيال (من له بر) أي قمح (رفيع العين) أي جيد العين، فأراد أن يبيع مدًّا منه بمدين من قمح رديء واحتال لذلك (فباع مُدًا) منه بدراهم (واشترى) بتلك الدراهم (مدين) من ذلك القمح الرديء، فتحيل إلى التفاضل في الجنس الواحد حيلة شرعية أي لم يعتبرها الشرع حيلة بل أجازها.
ومنْ أجاز فأرى اجتهادَهْ ... - ... أدَّى لذا والخُلفُ في شهادهْ
يعني من أجاز الحيل مُطلقاً وهو أبو حنيفة، فأرى اجتهاده أداه إلى ذلك بحسب ما ظهر له من أدلة الشريعة، وغايته أن يكون مخطئاً في اجتهاده وله أجر.
(والخلف) بين أبي حنيفة والجمهور كائن (في شهاده) أي بسبب شهادة، فأبو حنيفة شاهد جواز بعض الحيل في الشريعة فقاس عليها سائر الحيل، والجمهور شاهدوا الممنوع من الحيل والجائز منها في الشرع ففصلوا فيها التفصيل الذي ذكر الناظم.
ولا يُقالُ إنَّهُ تعمَّدا ... - ... خلافَ قَصدِ الشَّرعِ فيما اعتمدا
أي ولا يجوز أن يقال أن أبا حنيفة تعمد فيما اعتمد من جواز الحيل مطلقاً مخالفة ما قصده الشرع لأنه إمام هدي اتفاقاً.(1/13)
وواجِبٌ في مُشكَلاتِ الحُكمِ ... - ... تحسينُنا الظنَّ بأهلِ العلمِ
يعني أنه يجب علينا إذا أشكل علينا حكم منسوب لأحد من أهل العلم المقتدى بهم أن نحسن ظننا بهم فنقول لعله وجد له دليلا لم نطلع عليه، لأن العلماء مأمونون على الشريعة فلا ينقلون فيها إلا نقلاً صحيحاً، ولا يجتهدون فيها بالهوى بل بحسب ما يظهر لهم من شعاع نورها.
فصل في التكليف
القصدُ بالتكليفِ صرفُ الخلقِ ... - ... عن داعيات النفسِ نحو الحقِّ
يعني أن القصد بالتكليف أي الحكمة في مشروعية التكاليف الشرعية على الخلق صرفُهم إلى جهة الحق سبحانه أي إلى عبادته عن داعيات نفوسهم أي أهوائهم، بأن يخالفوا أهواءهم ويقبلوا على عبادة الله سبحانه، حتى يتصفوا بالعبودية لله ويقيموا في حضرته آمنين من الهوى والشيطان.
وهْوَ على العمومِ والإطلاقِ ... - ... في الناسِ والأزمانِ والأفاقِ
يعني أن التكليف كائن على العموم في الناس، فلا أحد مستثنى منه، وكائن على الإطلاق أيضاً في الأزمان والآفاق أي البلاد فليس مختصاً بأهل زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بأهل بلده، بل متعلق بأهل كل زمان وأهل كل بلد لم يستثن منه زمان ولا مكان.
وشرعُهُ لقصدِ أن يُقيما ... - ... مصالِحَ الخلقِ لتستقيما
يعني أن التكليف شرع أي شرعه الله لأجل أن يقيم به مصالح خلقه ليستقيموا فيما بينهم ويصلحوا ذات بينهم ويعدلوا في معاملتهم، وجعل التكليف قسمين:
أمراً ونهياً باعتبارِ الآجِلِ ... - ... وقد يكونُ رعيُهُ للعاجلِ
من حيثُ سعيُهم لأخرى تاتي ... - ... لا جهةِ الأهواءِ والعاداتِ
يعني أن الله تعالى جعل التكليف قسمين أمراً ونهياً، فالأمر يتضمن جلب مصلحة بامتثاله، والنهي يتضمن درء مفسدة باجتناب المنهي عنه، وتلك المصلحة المجلوبة والمفسدة المدروءة باعتبار المقام الآجل، أي الدار الآخرة، لأنها هي الأصل، وهذه الدار إنما هي طريق إليها.(1/14)
وقد يكون رعيه أي رعي التكليف لمصالح الخلق راجعاً للمقام العاجل أي في الدار الدنيا؛ لكن إذا كان الحكم التكليفي شرع لأجل مصلحة في الدنيا لا يكون ذلك من حيث ذاتها بل من حيث إن جلب تلك المصلحة الدنيوية المجلوبة للخلق في دنياهم تستلزم سعيهم لمصلحة أخروية تأتي في المآل، لأن الدنيا ليست مقصودة لذاتها بل لتكون مطية الآخرة لأنها توطية وتمهيد لها لا دار حقيقية.
قوله: (لا جهة الأهواء والعادات) يعني أن الحكم التكليفي المستجلب لمصلحة دنوية إنما شرع لها من جهة أنها تتضمن مصلحة أخروية لا من جهة أن تلك المصلحة الدنيوية موافقة للهوى وحكم العادة. قال الله تعالى { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن }
وكم دليلٍ للعقولِ واضحِ ... - ... على التفات الشرعِ للمصالِحِ
ممَّا أتى في مُحكمِ التنزيلِ ... - ... في معرِضِ المِنَّةِ والتَّعليلِ
يعني أن الأدلة الشرعية الدالة على أن الشرع ملتفت إلى مصالح العباد في الدنيا والآخرة أي مبني عليها كثيرة، وتلك الأدلة مما أتى في محكم التنزيل أي في القرآن العظيم في معرض المنة أي امتنان الله على عبيده، والتعليل أي تعليله تعالى لأحكامه التي كلفهم بها.
كقولِهِ جلَّ يُريدُ اللَّهُ ... - ... غالِبُهُ ذلك مُقتضاهُ
(كقوله) عزّ و(جلَّ) في تعليل الترخيص للمريض والمسافر في الإفطار في رمضان (يريد الله) بكم اليسر ولا يريد بكم العسر بعد قوله { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } يعني أن علة الترخيص للمريض والمسافر في الإفطار في رمضان إرادة الله اليسر وعدم إرادته العسر بعباده.(1/15)
(غالبه ذلك مقتضاه) يعني أن غالب التكليف أي الأكثر من الأحكام التكليفية مقتضاه ذلك أي التعليل بالمصالح. قال أبو إسحاق الشاطبي في قواعده: وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً لما استقرينا منها أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي القائل أن أحكامه تعالى ليست بمعلَّلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك قائلا خلافا للمعتزلة وأكثر الفقهاء المتأخرين القائلين أن أحكامه تعالى معلّلة برعاية مصالح العباد، وقد قال تعالى { رسلاً مبشرين ومنذرين ليلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ، { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } .
والمصالح المستجلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية ودرء مفاسدها العادية { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } .
وأما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن يؤتى على آخره كقوله تعالى بعد آية الوضوء { ما يريد الله أن يجعل عليكم } إلى قوله { ليتم نعمته عليكم } وقوله { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } وقوله { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقوله { ولكم في القصاص حياة } .
وفي المفاسِدِ معَ المصالحِ ... - ... دفعاً وجلباً ميلُهُ للرَّاجِحِ
يعني أن ميل الشرع كائن إلى الراجح من درء المفسدة وجلب المصلحة إذا تعارضا، كما إذا دار الأمر بين إحياء النفس وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإبقاء المال، فإن إحياء النفس أولى لأنه أرجح من إبقاء المال، فيجب شرعاً إتلاف المال لإحيائها. وكما إذا عارض إحياءها إماتة الدين، فإن إحياء الدين أولى وإن أدى إلى إماتة نفوس كثيرة ]و[ كما في المحارب فإن إحياء النفوس الكثيرة يكون أولى.(1/16)
ومن كلا الضدَّين ما لا يُعتبَرْ ... - ... لكونِهِ في عكسِه قدِ انغمَرْ
يعني أن من الضدين أي المصلحة والمفسدة ما لايُعتبر شرعاً لكونه مغموراً في ضده أي غالباً عليه ضده.
مثال المفسدة في المصلحة أي الغالبة عليها المصلحة: مفسدة عصر الخمر من العنب فإنها ملغاة لا تعتبر شرعاً لأن المصلحة الناشئة عن غرس العنب أكثر وأعظم منها، فيجوز غرس العنب إجماعاً. والمفسدة الناشئة من فداء الأسرى بالمال من أيدي العدو وهي دفع المال لهم لينتفعوا به، وهو محرم عليهم بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وهذه المفسدة ملغاة لأنها مغمورة في المصلحة الناشئة عن فدائهم وهي تخليصهم من أيدي الكفار.
ومثال المصلحة المغمورة في المفسدة: مصلحة الاستقاء من الآبار المحفورة في أزقة المسلمين فإنها ملغاة لا تعتبر شرعاً لأنها مغمورة في المفسدة الناشئة عن حفرها، وهي إهلاك المارين بالتردي فيها، فلذا حرم حفرها. ومصلحة التلذذ والتفكه بشرب الخمر فإنها مغمورة في المفسدة الناشئة عن شربه وهي إفساد العقل الذي يجب حفظه إجماعاً، فلذا حرم شربه ولم يلتفت إلى المصلحة التي فيه.
وما له تعلُّقٌ بالأُخرى ... - ... فَهْوَ بتقديمٍ لديه أَحْرَى
يعني أن ما كان من المصلحة والمفسدة المتعارضين متعلقاً بالآخرة فإنه أحرى أي أحق بالتقديم عند الله على المتعلق منهما بالدنيا لأن الحذر بحسب الغرر والآخرة أهم من الدنيا شرعاً وعقلاً وعادة.
فصل في شروط التكليف
واشتُرِطَ البلوغُ للتكليفِ ... - ... كالعقلِ والإسلامِ والتعريفِ
يعني أنه يشترط في التكليف أي تعلق خطاب الله أي أمره ونهيه بالمكلف شروط؛
أولها: البلوغ بالاحتلام أو الإنبات أو ثمانية عشر حولاً أو بالحيض أو الحمل، فلا تكليف يتعلق بالصبي إجماعاً.
وثانيها: العقل المُميِّز بين الخطأ والصواب، فلا تكليف يتعلق بالمجنون والسكران والمغمى عليه.(1/17)
ثالثها: الإسلام فلا يتعلق بالكافر الخطاب بالفروع على أحد القولين المشهورين، وأما الخطاب بالأصول فإنه متعلق بالكافر إجماعاً.
رابعها: التعريف أي بلوغ الدعوة، فلا خطاب يتعلق بأهل الفترة، أما بالفروع فباتفاق، وأما بالأصول فعلى مذهب الأشاعرة من أهل الأصول والمتكلمين بناء على أن الإيمان لا يجب إلا بعد البعثة بدليل قوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } أي ولا مثيبين. وقيل إنهم مكلفون بالأصول كالإيمان وسائر الكليات الست، بناء على أن الإيمان يجب بمجرد العقل، واعمده النووي في شرح مسلم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الذين مضوا في الجاهلية في النار". وحكى القرافي الإجماع على تعذيب موتى الجاهلية في النار على كفرهم، ولولا التكليف لما عذبوا.
والذِّهنُ أن يحضُرَ وقتَ الفرضِ ... - ... وعدمُ الإكراه عند البعضِ
يعني أن حضور ذهن المكلف عند وقت تعلق الفرض به الموقت له شرعاً شرط في توجه التكليف إليه، فلا تكليف يتعلق بالناسي والغافل والنائم وقت الفرض؛ وهذا بناء على أن النوم والنسيان والغفلة مانعة من الوجوب، وقيل إنها مانعة من الأداء فقط، وهو الصحيح، وعليه فتكون شرط أداء فقط لا شرط وجوب ، وهذا هو الشرط الخامس في التكليف.
والسادس: عدم الإكراه، فإنه شرط في توجه التكليف عند بعض العلماء بناء على أن الإكراه مانع من الوجوب، وهو الصحيح لقوله تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي طاقتها، والمكرَه لا طاقة له حين الإكراه؛ وقيل إن عدم الإكراه شرط في الأداء لا في الوجوب.
وتظهر ثمرة الخلاف في تكليف النائم والغافل والناسي والمكره فيما إذا زال العذر وأراد قضاء الفرض، هل ينوي الأداء بناء على أنه لم يكن مكلَّفاً حين العذر أو ينوي القضاء بناء على أنه مكلف حين العذر، وإنما الممنوع منه الأداء فقط.
وليست الزكاةُ للصبيِّ ... - ... من ذاك والخطابُ للوليِّ(1/18)
يعني أن وجوب الزكاة في مال الصبي ليس من ذاك أي ليس من خطاب التكليف بل هو من باب خطاب الوضع، والخطاب بوجوبها متعلق بالولي فيجب عليه إخراجها من مال الصبي الذي في حجره. وكذا وجوبها في مال المجنون فإنه من خطاب الوضع والولي هو المخاطب بوجوب إخراجها من ماله.
وهْو بما ليس يُطاقُ قد يسعْ ... - ... عقلاً ولكن ذاك شرعاً امتنعْ
يعني أن التكليف بما لايطاق أي بالمحال يجوز عقلاً عندنا خلافاً للغزالي والمعتزلة سواء كان محالاً لذاته، وهو المحال عادة وعقلا كالجمع بين الضدين، أم لغيره وهو المحال عادة فقط كالطيران من الإنسان، أو عقلا فقط كالإيمان ممن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل وأبي لهب.
(ولكن ذاك) أي المحال لذاته والمحال العادي لم يقع التكليف به في الشريعة اتفاقاً بين الفرقين. دليلنا على جوازه قوله تعالى { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } لأن سؤال دفعه يدل على دفعه، ودليلنا على عدم وقوعه قوله تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } أي طاقتها. ودليل الغزالي والمعتزلة على أن المحال الذي استحالته لغير تعلق علم الله بعدم وقوعه لا يجوز التكليف به عقلا أنه لا فائدة في طلبه من المكلفين لظهور امتناع وقوعه منهم. وأجيبوا بأن فائدته اختبارهم هل يهتمون ويقدمون على الامتثال فيترتب الثواب أو لا قيترتب العقاب. وأما المحال لتعلق علم الله بعدم وقوعه فالتكلف به جائز وواقع إجماعاً كإيمان أبي جهل لأن الله تعالى كلف الثقلين بالإيمان وقال { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } .
ولاحِقٌ بذاك ما فيه حَرَجْ ... - ... ممَّا عن المُعتادِ يُلفى قد خَرجْ
يعني أن الفعل الذي فيه حرج أي مشقة على المكلف وكانت مشقته من المشقة الخارجة عن المعتاد من المشقات (لاحق بذاك) أي بالمحال، فلا تكليف به لأحد لقوله تعالى { ما جعل عليكم في الدين من حرج } ، ولأن المشقة تجلب التيسير، ولذا شرعت الرخص كالقصر والفطر في السفر والفطر في رمضان.(1/19)
وليس منه كلُّ ما لم نَقْدِرِ ... - ... عليه من مُعتادِ فعلِ البشَرِ
أي وليس من ذي الحرج الملحق بالمحال في عدم وقوع التكليف به كل فعل لم نقدر عليه إلا بمشقة من كل فعل في طوق البشر عادة، بل الفعل الذي لا نقدر عليه إلا بمشقة قسمان:
فإذا كان الدوام عليه يؤدي إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو إلى وقوع خلل في نفس فاعله أو ماله أو حاله فهو من الفعل ذي المشقة الملحق بالمحال في عدم التكليف به لأن مشقته خارجة عن المعتاد، وإن لم الدوام عليه يؤدي إلى شيء مما ذكر فليس من الملحق بالمحال لأن مشقته غير خارجة عن المعتاد من المشقة فلا تعد في العادة مشقة، إذ أحوال الإنسان في العادة كلها شاقة، لأنها دار تعب لا دار راحة قاله أبو إسحاق الشاطبي.
واشتُرِطَ الإمكانُ عند الأكثرِ ... - ... ونسبوا خلافَه للأشعري
يعني أن إمكان إيقاع الفعل أي تمكن المكلف منه شرط في توجه التكليف عليه عند الأكثر من العلماء، فالنائم والساهي والملجأ والمكره غير مكلفين على الأصح، (ونسبوا) أي رواة علم الأصول القول المخالف لهذا القول وهو القول بأن الإمكان شرط في الأداء لا في توجه التكليف على المكلف للأشعري بناء على جواز التكليف بالمحال. قال في الغيث الهامع والمشهور منعه وإن جوزنا ذلك أي التكليف بالمحال لأن في ذلك فائدة الابتلاء، وتلك الفائدة مفقودة هنا في تكليف النائم والساهي. فالنائم والساهي والملجأ والمكره مكلفون حال العذر عند الأشعري، والممنوع منهم الأداء فقط. ومعنى كونهم مكلفين حينئذ أن الخطاب متعلق بذممهم.
والاتفاقُ أنه قد وقعا ... - ... بما من المعلوم أن لن يقعا
يعني أن الاتفاق بين العلماء واقع على أن التكليف واقع شرعا بالفعل الذي ثبت في علم الله أنه لا يقع كإيمان أبي جهل وأبي لهب وكسائر المأمورات التي علم الله أن بعض المكلفين لا يمتثلها والمنهيات التي علم الله أن بعض المكلفين لا يجتنبها.(1/20)
وليس في التكليفِ شرطاً قطعا ... - ... أن يحصُلَ الشَّرطُ المرادُ شرعا
يعني أن حصول الشرط الشرعي كالطهارة مثلا ليس شرطاً في توجه التكليف على المكلف قطعاً، إذ يلزم على كونه شرطاً فيه أن المحدث غير مخاطب بالصلاة بعد دخول الوقت حتى يتطهر وأنه لا إثم عليه إذا خرج الوقت وهو لم يتطهر، وذلك خلاف الإجماع قاله ابن العربي.
وكالإيمان فإنه شرط شرعي في صحة الأعمال وقبولها اتفاقاً واختلف هل هو شرط في توجه التكليف أو لا، وإنما هو شرط في صحة الأعمال فقط وهو المشهور لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على المشهور.
وهْيَ بحُكم الفرضِ في وقوعِ ... - ... تكليفِ مَنْ كَفرَ بالفروعِ
يعني أن مسألة الخلاف في وجود الشرط الشرعي كالإيمان مثلا هل هو شرط في توجه التكليف على المكلف أم لا؟ مفروضة في وقوع تكليف الكفار بفروع الشريعة في الشرع. فعلى أن الشرط الشرعي شرط في توجه التكليف يكون وجود الإيمان شرطاً في توجه التكليف لأنه شرط شرعي في صحة الأعمال اتفاقاً، وعليه فيكون الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وبه قال أبو الحجاج يوسف الضرير. وعلى أن الشرط الشرعي ليس شرطاً في توجه التكليف لا يكون وجود الإيمان شرطاً في توجه التكليف، وعليه فيكون الكفار مخاطبين بفروع الشريعة، وهو المشهور كما في الحطاب.
وباتفاقٍ قاطعِ البُرهانِ ... - ... أن خوطِبَ الكُفَّارُ بالإيمانِ
يعني أن خطاب الكفار بالإيمان بعد البعثة كائن باتفاق بين العلماء، برهانه أي ذلك الاتفاق (قاطع) أي لا ظني لكثرة أدلته من الكتاب والسنة ولانعقاد الإجماع عليه بين الأمة، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول ما يدعو الناس إليه الإيمان، وإنما لم نذكر شيئاً من أدلته لأنها أظهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر. وإنما كلف الكفار بالإيمان:
ليحصُلَ التكليفُ بالمشروعِ ... - ... في حقِّهم من سائر الفروعِ(1/21)
أي ليحصل تكليفهم بما شرع في حقهم من سائر فروع الشريعة، لأن التكليف بها متوقف على التكليف بالإيمان، لأنه أصلها ولا يمكن التكليف بالفرع دون التكليف بأصله.
وأنهم ليسوا بمقبولي العملْ ... - ... حتى يُرى الإيمان منهم قد حصلْ
يعني أن الاتفاق بين العلماء واقع أيضاً على أنهم أي الكفار لا يقبل منهم عمل حسن كالإنفاق والإحسان إلى المخلوقين حتى يحصل الإيمان منهم، لأن الطاعة لا تنفع مع الكفار إذ الإيمان أصلها، وإذا سقط الأصل فالفرع أجدر منه بالسقوط، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا عمل الكافر حسنة أطعمه الله بها طعمة في الدنيا"
والخُلفُ في الخطاب بالفروعِ ... - ... ثالثُها بالنَّهيِ عن ممنوعِ
يعني أن الخلاف بين الفقهاء كائن في خطاب الكفار بفروع الشريعة، فقيل إنهم مخاطبون بها وهو المشهور، قال الباجي وهو ظاهر مذهب مالك لقوله تعالى حكاية عن الكفار حين قال لهم الملائكة { ما سلككم في سقر قالوا نكُ من المصلين.. } وقوله تعالى { وويل للمشركين الذين لا يوتون الزكاة } لأن تعذيبهم على ترك الصلاة وما معها ووعيدهم على ترك الزكاة يدل قطعاً على أنهم مخاطبون بها، والصلاة والزكاة من فروع الشريعة. ومذهب جمهور الحنفية أبي حامد الإسفراييني أنهم غير مخاطبين بالفروع لأنها لا تصح منهم ولا يمكن أن يخاطب الإنسان بما لا يصح منه ولا يقبل ولأنهم لو كانوا مخاطبين بها حين الكفر لوجب عليهم قضاؤها بعد الإيمان، وذلك باطل؛ وأجيبوا بأن القضاء بأمر جديد وذلك لم يرد. وقيل إنهم مخاطبون بالنواهي دون الأوامر لأن الأمر تتوقف صحته وقبوله على نية التقرب والامتثال، وتلك متعذرة منهم حال الكفر، والنهي لا يحتاج إلى نية، بل يخرج الإنسان من عهدته بمجرد تركه وإن لم يشعر به.
وليس من ذلك باتِّفاقِ ... - ... ما مثلُ الاتلافِ على الإطلاقِ(1/22)
يعني أن الخطاب بترتب الضمان على الإتلاف والدية والقصاص على قتل النفس وسائر الأروش على الجنايات وآثار العقود عليها وثبوت النسب وثبوت العوض في الذمة (ليس من ذاك) أي ليس من الخطاب المختلف فيه: هل هو متعلق بالكفار أم لا؟، لأن هذا خطاب وضع، وهو متعلق بهم إجماعاً، والكافر فيه كالمسلم اتفاقاً. والمراد بالكافر الكافر الذي تجري عليه أحكام المسلمين كالذمي، وأما الحربي فإنه لا يضمن متلفه ولا مجنيه، وقيل يضمن المسلم (1) وماله بناء على أنه مكلف بالفروع، وردّ بأن دار الحرب ليست بدار تضمين.
فصل في الحقوق
المترتبة في ذمة المكلف وهي ثلاثة أقسام: منها ما هو مشترك بين الخالق والمخلوق، ومنها ما هو خالص لجانب الخالق، ومنها ما هو خالص لجانب المخلوق. وحق الله: أمره ونهيه، وحق العبد: مصالحه.
ترتُّبُ الحقوقِ في المطالبِ ... - ... مُشترَكٌ وخالصٌ لجانبِ
وإلى الحق المشترك أشار الناظم بقوله: (ترتب الحقوق في المطالب . مشترك) يعني أن ترتب الحقوق في مطالبِها أي مواضع طلبِها وهي الذمم على ثلاثة أقسام: منها ما هو مشترك بين الله وعباده (و) منها ما هو (خالص لجانب) إما لجانب الله، وإما لجانب العبد.
فخالصٌ للَّه كالزكاةِ ... - ... فذاك لا يسقطُ بالمماتِ
يعني أن الحق الخالص لجانب الله كالزكاة والصلاة والصوم والحج؛ ومعنى كون الحق في هذه خالصاً لله أنها تعبّد محض ليس فيها إلا أمر الله، فليست فيها مصلحة للمخلوق غير المأمور إلا الزكاة فإن فيها مصلحة للمساكين لكن لما كانوا غير معيَّنين صارت كالخالص لله.
(فذاك) أي الحق الخالص لله إذا تركه المأمور به لا يسقط عنه مادام حياً إلى مماته، فإذا أسقط المساكين الزكاة عن الغني فإنها لا تسقط عنه.
وخالصٌ للعبدِ كالدَّينِ إذا ... - ... أسقطَهُ فنافذٌ ما أنفذا
__________
(1) العبارة فيها نقص.(1/23)
يعني أن الحق الخالص للعبد كالدين فإنه ينفذ فيه أي يمضي فيه ما أنفذه أي أمضاه ربّه، فإذا أسقطه سقط عن المدين إذا كان رشيداً، لأن الدَّين ليس فيه شائبة تعبّد، وإنما كان الحق فيه خالصاً للعبد، لأنه إذا أسقطه سقط اتفاقاً. وإلا فما من حق للعبد إلا وفيه حق لله هو أمره بأدائه.
وذو اشتراكٍ مثلُ حدِّ القذفِ ... - ... فذا الذي فيه مناطُ الخُلفِ
يعني أن الحق المشترك بين الله وعبده كحد القذف فإنه هو مناط الخلاف بين العلماء أي محل تعلقه أي هو متعلق الخلاف، وإنما كان الحق في حد القذف مشتركاً بين الله وعبده لأن فيه حد المقذوف من جهة هتك عرضه، وحق الله من جهة أمره به.
فبعضُهم حقَّ العبادِ غلَّبوا ... - ... وقيل حقُّ اللَّه فيه أوجَبُ
يعني أن بعض العلماء غلّب حق العباد في حدّ القذف لتضرّرهم بهتك عروضهم وصعوبة العفو عليهم بخلاف الله تعالى فإنه لا يتضرر بترك العباد لمأموراته تعالى عن ذلك علوا كبيراً؛ والعفو هيّن عليه سبحانه. ومعنى تغليب حق العباد أن المقذوف إذا أسقط الحدّ عن القاذف يسقط عنه. وبعضهم غلّب حقَّ الله لأنه المالك الخالق المستحق لأن يمتثل أمره، وعليه فلا يسقط حدّ القذف عن القاذف إذا أسقطه عنه المقذوف؛ والأول هو المشهور إذا قصد المقذوف بإسقاط الحدّ الستر على نفسه سواء كان الإسقاط قبل بلوغ الإمام أو نائبه أو بعده.
ومنه محدودٌ له ترتُّبُ ... - ... في ذمَّةٍ ديناً عليه يَجِبُ
يعني أن الحق مطلقاً سواء كان حق الله أو حق العبد على قسمين: محدود أي مقدّر شرعاً، وغير محدود. فالمحدود منه هو الذي له ترتُّب في ذمّة المكلّف حال كونه دَيناً واجباً عليه.
فحق الله المحدود أي المقدَّر شرعاً كفرائض الصلاة والصوم والحج والزكاة، فإنها إذا تعلَّقت بذمة المكلّف تكون دَيْناً عليه حتَّى يُؤديَها. وحق العبد المقدّر شرعاً كالديون المالية المترتبة في الذمة من البيع أو الإتلاف، فإنها تبقى دَيناً على المكلّف ما دام لم يقضِها.(1/24)
ومُقتضى التقدير في الأشياءِ ... - ... يُشْعِرُ بالقصدِ إلى الأداءِ
يعني أن مقتضى تقدير الحق أي تحيده شرعاً يشعر بقصد أدائه أي تحديد الشارع له يدل على أنه طالب من المكلّف أداءه وإنه باق عليه إن لم يؤدّه ولا يسقط عنه إلا بدليل.
وغيرُ محدودٍ كهذا يُطلَبُ ... - ... وما لَهُ في ذمَّةٍ ترتُّبُ
يعني أن الحق غير المحدود أي الذي لم يقدّر شرعاً (كهذا) أي كالحق المحدود في أنه يطلب من المكلف فعله إما لزوماً وإما ندباً ولكنه لا ترتب له في الذمة إذا ترك فعله حين طلب منه كالصدقات المطلقة وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر فروض الكفاية.
فصل في أفعال المُكلَّف
وتقسيمها باعتبار ورود الأحكام عليها وتضمنها للمصالح والمفاسد بالذات أو بالتبع:
وكُلُّ فعلٍ للعبادِ يوجدُ ... - ... إما وسيلةٌ وإما مقصدُ
يعني أن كلّ فعل يوجده العباد أي يصدر منه ظاهراً فإنه لا يخلو من أمرين: إما أن يكون وسيلة لغيره وإما أن يكون مقصداً أي مقصوداً في ذاته.
والمقاصد: هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
والوسائل: هي الطرق الموصلة إلى المقاصد؛ فهي غير مقصودة لذاتها بل لتوصل إلى المقصود.
وهْيَ لَهُ في الخمسةِ الأحكامِ ... - ... تأتي به بحكمِ الالتزامِ
يعني أن الوسيلة (تأتي به) أي بحسب المقصد (بحكم الالتزام) له في الأحكام الخمسة غير أنها أخفض رتبة منه في الحكم؛ فوسيلة الواجب واجبة ووسيلة المحرم محرمة ووسيلة المندوب مندوبة ووسيلة المكروه مكروهة ووسيلة الجائز جائزة.
ويدل على اعتبار الوسائل قوله تعالى { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة } الآية فأثابهم على الظمأ وما معه لأنه وسيلة إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين وصون المسلمين؛ وهذا يدلّ على أن وسيلة الوسيلة كالوسيلة.(1/25)
قوله (وهي) مبتدأ خبره الجملة تأتي؛ والباء في (به) متعلق بتأتي والضمير عائد على المقصد؛ والباء في (بحكم) متعلقة بـ (تأتي) أيضاً؛ واللام في (له) متعلقة بـ (الالتزام) في آخر البيت، والضمير للمقصد.
ويسقطُ اعتبارُها ويُفقدُ ... - ... بحيثما يسقطُ ذاك المقصدُ
يعني أن الوسيلة يسقط اعتبارها ويفقد ـ بالبناء للمفعول ـ أي يعدم بالكلية حيثما سقط مقصدها الموصلة له.
قال في التنقيح خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس من لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر وهو معدوم فيحتاج إلى ما يدل على أنه مقصود في نفسه وإلا فهو مشكل.
قال في التنقيح قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى المصلحة الراجحة عليها كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال إلى العدو الذين حرم عليهم الانتفاع به لكونهم مخاطبين بفروع الشريعة عندنا. وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يزني بامرأة إذا عجز عن ذلك إلا به. وكدفع المال إلى المحارب حتى لا يقتتل هو وصاحب المال؛ واشترط مالك رحمه الله فيه اليسارة.
قلت: فتبيّن بهذا أن الأصل في مداراة الظلمة التحريم لأنها وسيلة إلى الحرام وهو انتفاعهم بمال المسلمين المدفوع لهم لأنهم مخاطبون بفروع الشريعة قطعاً، ولا تكون جائزة إلا إذا أفضت إلى مصلحة أرجح من الحرام الموصلة إليه.
وقدْ يُرى المقصدُ والوسيلهْ ... - ... وهْوَ لشيءٍ فوقهُ وسيلهْ
يعني أن المقصد والوسيلة كلّ منهما قد يرى وسيلة إلى شيء فوقه في جلب مصلحة أو درء مفسدة فيكون المقصد وسيلة باعتبار مقصد فوقه في جلب المصلحة أو درء المفسدة؛ وتكون الوسيلة وسيلة لوسيلة فوقها في القُرْب من المقصد.
ومنه إنشاءٌ لمِلكٍ عادِيْ ... - ... كلاحتطابِ وكالاصطيادِ(1/26)
هذا شروع منه في تقسيم فعل المكلف باعتبار كونه إنشاء لملك أو نقلا له يعني أن فعل المكلَّف مننه ما هو إنشاء لملك عادي كالاحتطاب أي جمع الحطب في مكان غير مملوك، وكاصطياد الوحش، وكإرقاق الكافر وإحياء الموات، فإن في هذا كله إنشاء الملك عادة.
ونقلُ مِلكٍ كان من قبلُ عرَضْ ... - ... مع عوضٍ كالبيعِ أو دون عوضْ
يعني أن فعل المكلف منه نقل الملك الذي كان عارضاً أي ثابتاً قبل النقل لغير الناقل، وهو على قسمين:
إما أن يكون مع عوض في الأعيان كالبيع والقرض أو في المنافع كالكراء والإجارة والمساقاة والقراض والمزارعة والجعالة. وإما أن يكون بدون عوض كالهبة والصدقة والوصية والعمرى.
قوله (قبلُ) بالبناء على الضم لقطعها عن الإضافة لفظاً لا معنى.
ومنه الاسقاطُ لحقٍّ هُوَ لَهْ ... - ... معْ عوضٍ أو دونهُ قدْ أعلَمَهْ
يعني أن فعل المكلف منه إسقاطه لحقه الثابت له وذلك على قسمين:
إما أن يكون مع عوض كالخلع، فإنه عوض لإسقاط الزوج لحقه من العصمة، وكالعفو عن القصاص على مال، والكتابة وبيع العبد من نفسه، والصلح عن الدين؛ فجميع هذه الإسقاطات في مقابلة عوض.
وإما أن يكون الإسقاط بدون عوض كالإبراء من الدين، والعفو عن القصاص لا على مال، والعفو عن التعزير وحد القذف، والطلاق والعتاق، وإنفاق المساجد.
والضمير في (أعلمه) للإسقاط.
ومنهُ الاِقباضُ لِمَنْ لَهُ وَجبْ ... - ... بالفعلِ أو بنيَّةٍ كمثلِ الاَبْ
يعني أن فعل المكلف منه الإقباض أي إقباض الحق لمن هو له أي تمكينه منه، وذلك إما أن يكون بالفعل كالمناولة في العروض والنقود وبالوزن والكيل في الموزونات والمكيلات، وبالتمكين في العقار والأشجار، وإما أن يكون بالنية كمثل إقباض الأب من نفسه لولده، وإقباض الولي من محجوره أو من نفسه لمحجوره.
ومثلُ ذاك القبضُ في معناهُ ... - ... إماَّ بإذن الشَّرعِ أو سواهُ(1/27)
يعني أن القبض كالإقباض في معناه، وهو أنه يكون بالفعل كقبض المشتري الثمن من البائع، ويكون بالنية كقبض الولي لمحجوره من نفسه أو من محجور له آخر إذا تسلف مال محجوره لنفسه أو لمحجور له آخر ثم رده، فإن ذلك قبض حكمي، وهو القبض بالنية.
والقبض الفعلي على قسمين:
إما أن يكون بإذن الشرع وحده كاللقطة، والمغصوب من الغاصب وأموال بيت المال وأموال الغائبين والمحجورين والزكاة.
وإما أن يكون بإذن غير الشرع مع الشرع كقبض المبيع بإذن البائع، وقبض المستأجر الأجرة بإذن المؤجر، وقبض المرتهن الرهن بإذن الراهن، وقبض الموهوب والمتصدق عليه الهبة والصدقة بإذن الواهب والمتصدق، وقبض المستعير العارية بإذن المعير.
أو بإذن غير الشرع فقط أي لا مع الشرع كقبض الغاصب المغصوب من مالكه قهراً تعدياً.
ومنه الالتزامُ كالضمانِ ... - ... ومنه الاشتراكُ في الأعيانِ
(ومنه الالتزام كالضمان) يعني أن فعل المكلف منه الالتزام للحق غير اللازم له ولا يكون إلا بغير عوض كالضمان بالمال أو بالوجه أو بالطلب وكالنذور.
(ومنه الاشتراك في الأعيان) يعني أن فعل المكلف منه الاشتراك في الأعيان أي ذوات المال لا المنافع، وهو الشركة في الأموال وهي جائزة بشروطها المذكورة في الفروع.
والإذنُ في الشيءِ لِحوزِ نافِعِ ... - ... إمَّا في الاَعيانِ أو المنافعِ
(والإذن في الشيء لحوز نافع) يعني أن فعل المكلف منه الإذن أي إذنه لغيره في حوز شيئه حوزاً نافعاً للحائز المأذون له في الحوز وذلك (إما) أن يكون (في الأعيان) أي بتفويت عين الشيء المحوز كالضيافات والمنائح (أو) أي وإما أن يكون في (المنافع) أي منافع الشيء المحوز دون تفويت عينه كالعواري والاصطناع بالحلق والحجامة.
ومنه الاِتلافُ لحقِّ الناسِ ... - ... في الأكلِ والمركبِ واللباسِ(1/28)
يعني أن فعل المكلف منه الإتلاف أي إتلافه للشيء المأذون في إتلافه لأجل حق الناس الكائن في إتلافه، وذلك يكون في الأكل أي في أكله وشربه والتداوي به لأجل إصلاح الأجساد والأرواح بالأطعمة والأشربة والأدوية أو في المركب أي الركوب على الدواب والسفن لأجل الإراحة ودفع المشقة عن النفوس فتتلف المراكب لذلك، واللباس أي وإتلاف اللباس باللبس لأجل ستر العورة، والتوقي من الحر والبرد.
أو لاندفاعِ الضُّرِّ عنهم والخَطرْ ... - ... كقتلِ شيءٍ فيه للخلقِ ضرَرْ
(أو) أي ويكون الإتلاف (لاندفاع الضر عنهم والخطر . كقتل شيء فيه للخلق ضرر) يعني أن فعل المكلف الذي هو الإتلاف للشيء يكون لأجل دفع ضر ذلك الشيء عن الناس وخطره، وذلك كقتل شيء فيه ضرر للخلق كقتل الصوال والمؤذي من الحيوان كالحيات والعقارب.
إماَّ لحقٍّ فيه للَّه انحتَمْ ... - ... كقتلِ من يكفرُ أو كسرِ صَنَمْ
و(إما) أن يكون الإتلاف للشيء (لحق الله فيه انحتم) أي لأجل حق لله فيه منحتم أي واجب وذلك (كقتل من يكفر أو كسر الصنم) أي كقتل الكافر وكسر الصنم لتعظيم الله ولمحو الكفر من قلوب الكفار، وكقتل البغاة لتعظيم الكلمة ورجم الزناة للزجر.
وبعدهُ التأديبُ بالأحكامِ ... - ... والزجرِ للكفِّ عن الآثامِ
يعني أن الإتلاف بالقتل بعده في الرتبة التأديب بالأحكام أي بإجراء الأحكام الشرعية الشاقة على المذنب كالسجن وأمر الإمام الناس بهجره، وبالزجر بأنواع التعزيرات والحدودات والعقوبات.
والحكمة في مشروعية التأديب والزجر الكف عن الآثام أي كف الناس عن إتيان الآثام أي الذنوب.
وسُمِّيَ الحدَّ مع التقديرِ ... - ... ودونهُ سُمِّيَ بالتَّعزيرِ
يعني أن الزجر يسمى حداًّ إذا كان مع التقدير أي مقدراً كثمانين جلدة في القذف ومائة في زنا البكر، وإن كان الزجر دون تقدير أي غير محدود في الشرع بل موكول إلى اجتهاد الحاكم فإنه يسمى تعزيراً.
فصل في المقاصد الشرعية(1/29)
مقاصدُ الشرعِ ثلاثٌ تُعتبَرْ ... - ... وأصلُها ما بالضرورةِ اشتهَرْ
واتَّفَقَتْ في شأنها الشرائعُ ... - ... إنْ كان أصلاً وسواهُ تابِعُ
وهْو الذي برَعْيِهِ استقرَّا ... - ... صلاحُ دُنيا وصلاحُ أُخرى
وذاكَ حفظُ الدين ثمَّ العقلِ ... - ... والنفسِ والمالِ معاً والنسلِ
مِن جهةِ الوجودِ والثباتِ ... - ... كالأكلِ والنِّكاحِ والصَّلاةِ
وتارةً بالدرء للفسادِ ... - ... كالحدِّ والقصاصِ والجهادِ
وبعدهُ الحاجِيُّ وهْوَ ما افتقَرْ ... - ... لهُ المُكلَّفُ بأمرٍ مُعْتبَرْ
من جهة التوسيعِ فيما ينتهِجْ ... - ... أو رفعِ تضييقٍ مُؤدٍّ للحرَجْ
وثالثٌ قِسمُ المُحسِّناتِ ... - ... ما كان من مسائلِ (1) العادات
وفي الضروريِّ وفي الحاجيِّ ... - ... ما هو من تتمَّةِ الأصليِّ
كالحدِّ في شُربِ قليلِ المُسكِرِ ... - ... وكاعتبارِ كفْءِ ذات الصِّغَرِ
وكلُُّها قواعدٌ كلِّيَّهْ ... - ... مقاصدُ الشرعِ بها مَرعِيَّهْ
وليسَ رافِعاً لكُلِّيَّاتِها ... - ... تخلُّفٌ لبعضِ جُزئيَّاتها
وهْيَ تعبُّداتٌ اَو عاداتُ ... - ... ثمَّ جناياتٌ معاملاتُ
وجُملةُ التعبُّداتِ يمتنِعْ ... - ... أنْ يُستنابَ في الذي منها شُرِعْ
وفي الذي يدخلُهُ المالُ نَظَرْ ... - ... مِن جهتين فيه خُلفٌ اشتهَرْ
إذْ صار من مجالِ الاجتهادِ ... - ... لناظرٍ كالحجِّ والجِهادِ
وغيرُها يجوزُ باتِّفاقِ ... - ... نيابةٌ فيه على الإطلاقِ
ما لم تكن حكمتُه مقصورهْ ... - ... عادةً اَو شرعاً فلا ضرورهْ
كمثل ما للازدجارِ شرعُهُ ... - ... وكالذي لا يتعدَّى نفعُهُ
وجُلُّ أهلِ العلم يمنعُ الحِيلْ ... - ... لقلبِ حُكمٍ أو لإسقاط عَملْ
ما لم يكُ الشَّرعُ يُراعيهِ فذا ... - ... فيه الجوازُ باتِّفاقٍ يُحتذى
كمثلِ ما روعيَ فيمن يُكرهُ ... - ... فاختارَ أن يفعلَ شيئاً يُكرهُ
أو يكنِ الشَّرعُ لهُ مُطَّرِحا ... - ... لم يعتبِره حيلةً إذْ وضحا
كمنْ لهُ بُرٌّ رفيعُ العَيْنِ ... - ... فباعَ مُدًّا واشْترى مُدَّيْنِ
ومنْ أجاز فأرى اجتهادَهْ ... - ... أدَّى لذا والخُلفُ في شهادهْ
__________
(1) قال المصنف ـ رحمه الله ـ: أظنه خطأ من الكاتب والصواب أن يقول من محاسن العادات.(1/30)
ولا يُقالُ إنَّهُ تعمَّدا ... - ... خلافَ قَصدِ الشَّرعِ فيما اعتمدا
وواجِبٌ في مُشكَلاتِ الحُكمِ ... - ... تحسينُنا الظنَّ بأهلِ العلمِ
فصل في التَّكليف
القصدُ بالتكليفِ صرفُ الخلقِ ... - ... عن داعيات النفسِ نحو الحقِّ
وهْوَ على العمومِ والإطلاقِ ... - ... في الناسِ والأزمانِ والأفاقِ
وشرعُهُ لقصدِ أن يُقيما ... - ... مصالِحَ الخلقِ لتستقيما
أمراً ونهياً باعتبارِ الآجِلِ ... - ... وقد يكونُ رعيُهُ للعاجلِ
من حيثُ سعيُهم لأخرى تاتي ... - ... لا جهةِ الأهواءِ والعاداتِ
وكم دليلٍ للعقولِ واضحِ ... - ... على التفات الشرعِ للمصالِحِ
ممَّا أتى في مُحكمِ التنزيلِ ... - ... في معرِضِ المِنَّةِ والتَّعليلِ
كقولِهِ جلَّ يُريدُ اللَّهُ ... - ... غالِبُهُ ذلك مُقتضاهُ
وفي المفاسِدِ معَ المصالحِ ... - ... دفعاً وجلباً ميلُهُ للرَّاجِحِ
ومن كلا الضدَّين ما لا يُعتبَرْ ... - ... لكونِهِ في عكسِه قدِ انغمَرْ
وما له تعلُّقٌ بالأُخرى ... - ... فَهْوَ بتقديمٍ لديه أَحْرَى
واشتُرِطَ البلوغُ للتكليفِ ... - ... كالعقلِ والإسلامِ والتعريفِ
والذِّهنُ أن يحضُرَ وقتَ الفرضِ ... - ... وعدمُ الإكراه عند البعضِ
وليست الزكاةُ للصبيِّ ... - ... من ذاك والخطابُ للوليِّ
وهْو بما ليس يُطاقُ قد يسعْ ... - ... عقلاً ولكن ذاك شرعاً امتنعْ
ولاحِقٌ بذاك ما فيه حَرَجْ ... - ... ممَّا عن المُعتادِ يُلفى قد خَرجْ
وليس منه كلُّ ما لم نَقْدِرِ ... - ... عليه من مُعتادِ فعلِ البشَرِ
واشتُرِطَ الإمكانُ عند الأكثرِ ... - ... ونسبوا خلافَه للأشعري
والاتفاقُ أنه قد وقعا ... - ... بما من المعلوم أن لن يقعا
وليس في التكليفِ شرطاً قطعا ... - ... أن يحصُلَ الشَّرطُ المرادُ شرعا
وهْيَ بحُكم الفرضِ في وقوعِ ... - ... تكليفِ مَنْ كَفرَ بالفروعِ
وباتفاقٍ قاطعِ البُرهانِ ... - ... أن خوطِبَ الكُفَّارُ بالإيمانِ
ليحصُلَ التكليفُ بالمشروعِ ... - ... في حقِّهم من سائر الفروعِ
وأنهم ليسوا بمقبولي العملْ ... - ... حتى يُرى الإيمان منهم قد حصلْ
والخُلفُ في الخطاب بالفروعِ ... - ... ثالثُها بالنَّهيِ عن ممنوعِ(1/31)
وليس من ذلك باتِّفاقِ ... - ... ما مثلُ الاتلافِ على الإطلاقِ
فصل في الحقوق
ترتُّبُ الحقوقِ في المطالبِ ... - ... مُشترَكٌ وخالصٌ لجانبِ
فخالصٌ للَّه كالزكاةِ ... - ... فذاك لا يسقطُ بالمماتِ
وخالصٌ للعبدِ كالدَّينِ إذا ... - ... أسقطَهُ فنافذٌ ما أنفذا
وذو اشتراكٍ مثلُ حدِّ القذفِ ... - ... فذا الذي فيه مناطُ الخُلفِ
فبعضُهم حقَّ العبادِ غلَّبوا ... - ... وقيل حقُّ اللَّه فيه أوجَبُ
ومنه محدودٌ له ترتُّبُ ... - ... في ذمَّةٍ ديناً عليه يَجِبُ
ومُقتضى التقدير في الأشياءِ ... - ... يُشْعِرُ بالقصدِ إلى الأداءِ
وغيرُ محدودٍ كهذا يُطلَبُ ... - ... وما لَهُ في ذمَّةٍ ترتُّبُ
فصل في أفعال المُكلَّف
وكُلُّ فعلٍ للعبادِ يوجدُ ... - ... إما وسيلةٌ وإما مقصدُ
وهْيَ لَهُ في الخمسةِ الأحكامِ ... - ... تأتي به بحكمِ الالتزامِ
ويسقطُ اعتبارُها ويُفقدُ ... - ... بحيثما يسقطُ ذاك المقصدُ
وقدْ يُرى المقصدُ والوسيلهْ ... - ... وهْوَ لشيءٍ فوقهُ وسيلهْ
ومنه إنشاءٌ لمِلكٍ عادِيْ ... - ... كالاحتطابِ وكالاصطيادِ
ونقلُ مِلكٍ كان من قبلُ عرَضْ ... - ... معْ عِوَضٍ كالبيعِ أو دون عوضْ
ومنه الاسقاطُ لحقٍّ هُوَ لَهْ ... - ... معْ عوضٍ أو دونهُ قدْ أعلَمَهْ
ومنهُ الاِقباضُ لِمَنْ لَهُ وَجبْ ... - ... بالفعلِ أو بنيَّةٍ كمثلِ الاَبْ
ومثلُ ذاك القبضُ في معناهُ ... - ... إماَّ بإذن الشَّرعِ أو سواهُ
ومنه الالتزامُ كالضمانِ ... - ... ومنه الاشتراكُ في الأعيانِ
والإذنُ في الشيءِ لِحوزِ نافِعِ ... - ... إمَّا في الاَعيانِ أو المنافعِ
ومنه الاِتلافُ لحقِّ الناسِ ... - ... في الأكلِ والمركبِ واللباسِ
أو لاندفاعِ الضُّرِّ عنهم والخَطرْ ... - ... كقتلِ شيءٍ فيه للخلقِ ضرَرْ
إماَّ لحقٍّ فيه للَّه انحتَمْ ... - ... كقتلِ من يكفرُ أو كسرِ صَنَمْ
وبعدهُ التأديبُ بالأحكامِ ... - ... والزجرِ للكفِّ عن الآثامِ
وسُمِّيَ الحدَّ مع التقديرِ ... - ... ودونهُ سُمِّيَ بالتَّعزيرِ(1/32)