كتاب
فتح مفرج الكرب
تأليف
زين الدين أبي يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري
تحقيق
الدكتور جميل عويضة
1429هـ / 2008 م
/ بسم الله الرحمن الرحيم 2أ
قال سيدنا ومولانا قاضي القضاة شيخ مشايخ الإسلام ، ملك العلماء الأعلام ، أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي ، تغمده برحمته ، وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركته .
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله مفرج الكرب ، المنجِّي لمن أصفاه من العطب ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد ...
... فقد شرحت فيما مضى القصيدة المسماة بالمنفرجة ، وهي في أكثر النسخ أربعون بيتا ، يحصل به المقصود ببركة ربنا المعبود ، ثم رأيت اختصاره لمن قصُرت همته عن كتابة المطولات ، ومطالعة الكثير من المتوسطات ، مع أني قد أذكر فيها ما ليس في الأصل ، والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، ووسيلة للفوز بجنات النعيم ، وسميته فتح مفرج الكرب ، والظاهر أنّ ناظمها ابتدأها لفظا أو خطا ببسم الله الرحمن الرحيم ، أو بالحمد لله لخبر : كل أمرٍ ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم ، وفي رواية بالحمد لله ، فهو أجذم ، أي مقطوع البركة ، ثم قال مخاطبا لما لا يعقل بعد تنزيله منزلة مَنْ يعقل .
اشتدي : علينا ، أزمة : أي شدة ، تنفرجي : أي تذهبي عنا ، قد آذن : بالمد : اعلم ، ليلك بالبلج : أي بضياء الصبح ، شبّه الشدّة بالليل في الكرب والفلق ، وأثبت لها شيئا من لوازم المشبه به ، وهو البلج ، والمراد طلب الفرج ؛ لتزول الشدة ، لا طلبها هي ، لكن لمَّا ثبت بالأدلة أنّ اشتدادها سبب الفرج أمرها ، وأقامها إقامةً للسبب مقام المُسبب ، وفيه تسلية / وتأنيس بأن الشدة نوع 2ب من النعمة ، لما يترتب عليها ، وقد للتحقيق ، والتقريب ، وكأنه قال : إنما طلبت اشتدادك لتحقق حصول الانفراج ، وقربه عنده .(1/1)
وظلام الليل له سرج : وهو الكواكب غير الشمس عند نورها ، حتى يغشاه أبو السرج : وهو الشمس ، وجعلت أباها لأنها الأصل ؛ إذ بنورها يذهب نور تلك ، والمراد أنّ الكروب الشديدة لابدّ في أثنائها من ألطاف (1) يحق معها الألم ، حتى يتفضل الله تعالى بالفرج التَّام ، كالليل المظلم ، جعل الله فيه الكواكب يقل بها ظلامه ، ويخف بها قبضه ، حتى يدخل النهار ، فيذهب ظلامه كله ، وتنبسط النفس بضوئه .
وسَحاب الخير : وهي غير الرزق ، لها مطر فإذا جاء الإبَّان تجي : أشار به إلى الحث على التزام الصبر في أزمنة الشدائد ؛ لأنها لا تنقضي إلاّ بانقضاء زمانها ، ولا يأتي الفرج إلاّ في زمانه المقدَّر له ، كالسحابة التي يكون معها الخصب بنزول المطر ، اها وقت مُقدّر ، ولا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه ، فالعاقل لا يسعه إلاّ الصبر ، والتسليم لله تعالى ، وحن الظن به .
وفوائد مولانا : أي ناصرنا تعالى ، جُمَلٌ : كثيرة لا تُحصى ، [ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ] ، لسروح الأنفس والمهج : بالسين والحاء المهملتين ، والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى موصوفها ، أي إلى الأنفس والأرواح السارحة ؛ لتحصيل منفعة معاش أو معاد ، وعطف على جمل .
ولها : أي الفوائد ، أرج : من أرج الطيب أرجاً ، وأريجاً إذا فاح ، وانتشر ، مُحيي : بضم الميم من إلإحياء ، أي مُحيي النفوس الزكية ، بأن يُحييها الله به أبدا ، فقصد محيا : بفتح الميم من الحياة ، أي زمان أو مكان ، ذاك الأرج : الشريف .
__________
(1) كتبت ألطا ، وما أثبتناه من نسخة أخرى له ، ولكنها ليست مشابهة لهذه ، وهذا دليل على أنّ له ثلاثة شروح على المنفرجة .(1/2)
فلربتما : / أي وقت ، فاض : أي كثُر فيه ، المَحيا : بفتح الميم ، أي مكان 3أ الحياة ، ببحور (1) الموج : وهو المرتفع من الماء ، من أجل ، اللجج : جمع لجة ، وهي معظم الماشية المحيا بواد امتلأ بالماء ، بجامع المحليّة ، وهي كون الوادي محلاّ للماء والحيا محلاً للأنوار والمعارف ، والمعنى أنّك إذا امتثلت الأمر المذكور فقد غمرك فضل الله في الدارين ، فيفيض عليك كثيرا كالبحور المتلاطمة أمواجا من كثرتها ، وتار ربتما للتأنيث ، وترد ربّ للتكثير كثيرا ، وللتقليل قليلا ، والظاهر أنها هنا للتقليل ، ثم استأنف فقال :
والخلق : بمعنى المخلوق ، حالة كونه جميعاً : أي مجموعاً ، في يده : أي قوّته أو نعمته ، فذوو سعة : بفتح السين ، أي يسار ، وذوو حرج : أي ضيق ، نبه بذلك على كمال إحاطة الله تعالى بعالم الغيب والشهادة ، وتفصيله لا يعلم كنهه إلاّ هو ، قال تعالى : [ وما يعلم جنود ربك إلاّ هو ] .
وَ نزولهم نزولهم : أي الخلق من علو إلى سُفل ، أي مرتبة ، وطلوعهم من سُفل إلى علو كذلك ، فعلى دَرك : في الأول بفتح الواو وكسرها ، أي قعر ، وعلى درج : في الثاني ، أي مرتبة مرتفعة ، يقال : النار دركات ، والجنة درجات ، نبه بذلك ، وبما يأتي عقبه على طلب الخوف والرجاء والتوكل والتسليم لأمر الله تعالى ؛ تأكيدا لأمر الصبر الذي هو أساس التقوى ، وقد شبه ما حصل للعبد من الصفات السفلية والعلوية بالدرك والدرج ، بجامع المحليّة ؛ لأن الدرك والدرج محلان لمن حلَّ فيهما ، كما أنّ الانتقالات ، واكتساب المعاني السفلية والعلوية ، محل الكسب مقدرة بمقادير وصفات مخصوصة على الشبه ، كما أطلق اسم النزول والطلوع على اكتسابهما مبالغة في التشبيه .
__________
(1) كتبت بحوارخطأ .(1/3)
/ ومعايشهم : في الدنيا من مطعم وملبس ونحوها ، وعواقبهم : في الآخرة من 3 ب سعادة وشقاوة ، ليست في المشي : إليهم ، على عِوج : بل مستقيمة يتوجه إليهم في أوقاتها ، نزولهم وطلوعهم ، شبه المعايش والعواقب لحصولها شيئا فشيئا بالماشي ، وأثبت لها المشي ، وفيه إشارة إلى الإجمال في الطلب ، فإنّ الحرص لا يحصِّل شيئا لم يُقدّر ، وضده لا يمنع شيئا قُدِّر ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال : يا غلام إني أُعلِّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفّت الصحف . رواه الترمذي وصححه ، والفرج بالكسر ما كان في غير منتصب كالمباني والأرض ، وبالفتح ما كان في المنتصب كالحائط والرمح ، وتلك المذكورات من السعة والحَرج ، والنزول والطلوع والمعايش والعواقب .
حِكَمٌ من الله تعالى ، حَكَمَتْ : أي قضت في كل الأمور ، لا رادّ لما قضى ، ثم انتسجت : أي التحمت ، بالمنتسج : أي المؤتلف ، والمراد به العبد المقضي عليه بالمقادير ، شبهها الناظم في تعلقها بالعبيد وتناسبها ، فهم مع تأثّرهم بها ارتفاعا وانخفاضا بخيوط تُنسج، وفي ذلك إشارة إلى تلقي المقادير بالقبول والتسليم لأمر الله تعالى ، والمراد بالحِكَم المقادير المُصوَّرة / بصورة الخيوط المنسوجة ، وثم للتعقيب ، بمعنى الفاء ، 4 أ كما في قول الشاعر (1) :
كَهزِّ الرُّدينيِّ تحت العجاج جَرى في الأَنابيبِ ثُمَ اضطرَب
أو للتراخي في الرتبة ؛ لأن الانتساج متأخر عن النسج رتبة ، كما في قوله تعالى : [ ثم كان من الذين آمنوا ] ، إذ رتبة الإيمان أعلى في الفضل من رتبة العتق والصدقة ، وإذا كانت المذكورات حِكَماً .
__________
(1) من المتقارب ، لحميد بن ثور الهلالي ، ديوانه/ الموسوعة الشعرية(1/4)
فإذا اقتصدت : أي توسطت في نظر العقل ، ثم انعرجت : أي مالت فيه ، فبمقتصد : أي باقتصادها وانفراجها كائنان بمقتصد ، وبمنعرج : بكسر الصاد ، والراء ، وهو العبد المقضي عليه بها فيصير باقتصادها في نظره مقتصدا ، وبانعراجها فيه منعرجا ، كما يصير باكتمالها فيه مكتملا ، فيتعرف إليه الحق في الأحوال الثلاثة فيتعرّف إليه في حال اكتمالها باسمه الجواد المنعم الكريم الغني ، وفي حال اقتصادها باسمه الحليم اللطيف ، وفي حال انفراجها باسمه القاهر العدل الحكم ، وتبدل هذه الأحوال من آثار القدر الذي استأثر الله بعلمه ، وأخفاه عن خلقه ، والواجب تسليم الأمر لمن له الخلق والأمر ، وقد حكي أنّ إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد أمره بالسجود لآدم ، فقال أُسلِّم أنّ الله خالقي و خالق الخلق ، لكن لي على حكمته أسئلة ، الأول :ما الحكمة في الخلق ، وكان عالما أنّ الكافر لا يستوجب إلاّ الألم ، الثاني : ما فائدة التكليف مع أنه لا يعود إليه نفع ولا ضرّ ، الثالث : هب أنه كلّفني بمعرفته وطاعته ، فلمَ كلَّفني بالسجود لآدم ، الرابع : لِمَ لعنني ، وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له/ ولا لغيره في السجود ، والعقوبة أعظم الضرر ، الخامس : 4 ب لِمَ مكَّنني من دخول الجنة ووسوسة آدم ، السادس : لِمَ سلَّطني على أولاده ، السابع : لِمَ أمهلني لمَّا استمهلته المدة الطويلة في ذلك ، فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الكبرياء : يا إبليس إنّك ما عرفتني ، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليَّ في شيء من أفعالي ، فإنني الله لا إله إلاّ أنا ، لا أُسأل عمَّا أفعل ، وربك يخلق ما يشاء ويختار ، ونبّه الناظم بثم على أنّ الانفراج متراخٍ عما قبله ، تفضّلا منه تعالى ؛ لأن معاملته لخلقه بمقتضى رحمانيته أكثر ، ولهذا قال تعالى : [ عذابي أُصيب به مَن أشاء ، ورحمتي وسعت كل شيء ] والإنسان يعدُّ أيام المحنة ، ولا يعدّ أيام النعمة .(1/5)
شهدت بعجائبها : أي الحِكَم ، أو أنواع المخلوقات ، حُجج : بضم الحاء ، أي أدلة ، كما شهدت بكمال وجود صانعها ، قامت : أي استثقلت أو دامت ، أو ظهرت ، أو غلبت ، بالأمر : أي بأن المؤثِّر في كلِّ أمرٍ هو الله تعالى ، على : ممن ، الحِجج : بكسر السين ، أي السنين .
ورضاً بقضاء الله : تعالى ، حجىً : بفتح الحاء مع فتح الجيم وكسرها ، أي حقيق على كل مؤمن ؛ ليصون به إيمانه ، وسائر طاعاته ، وبكسرها مع فتح الجيم ، أي عقل لمحذوف مضاف ، أي ثمرته ، أو جعله العقل مبالغة ؛ لأنه سبب السعادة الدينية والدنيوية ، فجعل العقل الذي هو أشرف ما مُنِحَه الإنسان ، والله عَلَم على الذات الواجب الوجود ، المستحق لجميع المحامد ، والقضاء هو الحكم بالكليّات مجملة في الأول ، والقدر هو الحكم بوقوع جزئياتها مفصّلة فيما / لا يزال : قال تعالى : ... ... 5 أ
[ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ] (1) ويطلق القضاء على المقضي ، وقد بينه في الأصل ، مع فوائد أخر ، والرضا قسمان : قسم يكون لكل مُكلّف ، وهو ما لا بدّ منه في الإيمان ، وحقيقته أن [ لا ] (2) يعترض على حكم الله وتقديره ، وهو ما أشار إليه الناظم بما مرَّ ، وقسم لا يكون إلاّ لأرباب المقامات ، وحقيقته ابتهاج القلب ، وسروره بالمقضي ، وإلى هذا (3) مع التنبيه على أنه من المقامات ، وأنّ الأول أساسه أشار إليه بقوله : فعلى مركوزته فعُج : أي لكون الرضا حقاً على كل مؤمن ، أو لكونه أجل مطامعه ، فاعطف على أعلاه وأشرفه الذي هو في شرفه ، ومدار صحة الإيمان عليه ، والتوصل إليه من جميع جهاته وأسبابه كمركز الدائرة ، فشبّه الرضا بالدائرة ، وأعلاه وأشرفه بمركزها ، ورشح ذلك باستعارة العوج ، الذي هو العطف للطلب الكائن من جميع الجهات والأسباب .
__________
(1) الحجر 21
(2) سقطت من الأصل .
(3) يبدو أن هنا كلاما ساقط .(1/6)
وإذا انفتحت لك أبواب هدى : اهتدي بأنْ خلقه فيك ، فاعجل : أي فاسرع ، لخزائنها ولج : أي وادخل فيها ، واستعارة الانفتاح لارتفاع الموانع من نيل المقام والمعارف ، واستعار الأبواب لتلك الموانع ؛ لأنها مانعة من الهدى ، فلا يحصل في محله إلاّ بزوالها ، كالأبواب لا يتوصل إلى ما وراءها إلاّ بفتحها ، وحاصله أنه شبه في الصدر الهدى المتضمن لما اكتسبه العبد من المقامات والمعارف بخزائن لها أبواب ، فعلقه ، فالتشبيه استعارة بالكناية ، وإثبات الأبواب للهدى استعارة تخييلية ، ورشّحها بالانفتاح الملائم للأبواب .
وإذا حاولت نهايتها : / أي الأبواب (1)
/ البسيط في الأصل ، وهوىً مبتدأ ، وهو ميل النفس إلى الشهوة حلالاً أو حراما ، 5 ب مُتولٍ عنه : أي عن ما مرّ من الطاعات وغيرها من المقامات ، وعن الهدى ، وهو هو مضاف إلى متول ، أو موصوف به ، هجي : خبر المبتدأ ، أي ذُمَّ ، ثم بيّن أنّ حدوث الفعل المحمود إنما يكون بالاعتناء بكتاب الله تعالى .
وكتاب الله رياضته : أي تعليمه وتأديبه بأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، ووعظه ، وضرب أمثاله ، لعقول الخلق : كأئنة ، بمندرج : أي بطريق واضحة ، يتدرّج الناس فيها ؛ لصحتها ووضوحها من دَرَجَ القوم واندرجوا : مضوا في سبيلهم ، والمراد بدلائله ، وضرب أمثاله ، وآيات واضحة ، لا قدح فيها ولا في مقدماتها كالطُّرق المسلوكة لأمنها واتضاحها ، والرياضة من رضت الدابة : أي علمتها السير ، وإضافتها إلى ضمير الكتاب من الإسناد المجازي ، كقولهم : طريق سائر ، ونهر جارٍ ، لأن المُعَلِّم والمؤدب حقيقة هو الله ، لكن بألفاظ الكتاب ، فكأنها الرائضة لعقول الخلق ، ورياضته بدل اشتمال من المبتدأ قبله ، أو مبتدأ ثان خبره بمندرج ، وهو مع خبره خبر الأول .
__________
(1) هنا سقط بمقدار ورقتين ( أربع صفحات ) فقد ترك الشارح اثني عشر بيتا دون شرح .(1/7)
وخيار الناس هُداتهم : إلى طريق الحق ، وهم العلماء العاملون ؛ لأدلَّة كثيرة ، كقوله تعالى : [ شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم ] ، وقوله : [ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُوتوا العلم درجات ] ، وسواهم من همج الهمج : لخبر : الناس رجلان : عالم ومُتعلِّم ، وسائر الناس / همج لا خير فيهم ، رواه ابن ماجة بلفظ العالِم 6 أ والمتعلِّم شريكان في الخير ، ولا خير في سائر الناس ، والهمج جمع همجة ، وهي الشاة المهزولة ، والذباب الصغير الذي يسقط على وجه الغنم والحمير ، شبَّه بذلك غير الهداة في قلّة الهمة ، وخسّة العزائم ، فبالغ بإضافتهم إلى الهمج ، ثم بالغ بأن جعلهم من همج الهمج ، تنبيها على ذم العلم الذي لا ينفع صاحبه عند الله بأن قصد به حظَّاً أو جاهاً دنيوياً ، والهمج يقال أيضا للرعاع من الناس الحمقى ، وعليه فلا تشبيه ، ولمَّا أشار إلى عِظَم خطر العلم والعمل فهن قصد بهما ذلك أشار إلى الأمر بالجدّ فيهما ، والصبر عليهما ؛ ليسلم الآتي منهما من الخطر ، فقال :
وإذا كنت المقدام : أي الكثير الإقدام على العدو بشجاعتك ، فلا تجزع : أي تضطرب ، والحرب : أي القتال من : أجل ، الرهج : أي الغبار الذي في جدّك ونشاطك قوي القلب بالله ، نافذ العزم فيما تطلبه كالمقدام الذي لا يرده عن مقصده رادّ ، وإنْ عَظُم ، وإذا كنت كذلك فلا تجزع من مجاهدتك الشيطان والنفس ، ومخالفتهما المشبهة بالحرب من العوارض من الشبهة بالرهج في الدناءة كوسوسة الشيطان ، وهوى النفس .(1/8)
وإذا أبصرت : بعد جدك في العلم والعمل ، وإعراضك عن العوارض الدنيّة ، منار هدى : أي الطريق المستقيم ، فاظهر فرداً : أي فاعل منفردا ، فوق الثبج : بفتح الباء ، أي الوسط ، أي المعظم من منار الهدى ؛ لتصير من المختصين به ، المتمكنين منه ، والمنار مفعَل من النور ، وهو ما يحلّ فيه النور ، وهو أيضا العَلَم الذي يُنصب في الطريق للاهتداء ، واستعار / الإبصار ، وهو رؤية العين للعَلَم للدليل الواضح المفيد للعِلْم 6 ب والعمل ، أو للشيخ المفيد لذلك ، فقد قالوا : منْ لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه ، واستعار الشيخ لأقوى وأشرف أدلّة العِلم ، وأسباب العمل ، وواسطة كل شيء خياره ، ومعظمه أقواه .
وإذا اشتاقت نفس : أي مالت إلى محبوبها ميلاً تخترق به الأحشاء ، بحيث لا تسكن باللقاء وجدت ألما بالشوق المعتلج : أي الاشتياق على الشوق ، لأنه يسكن بلقاء المشتاق إليه ، كما مرّ ، بخلاف الشوق ، وقد ذكرت في الأصل الفرق بين الشوق والمحبة ، مع فوائد اُخر.
وثنايا : المرأة ، الحسنا : وهي أربع ثنتان من أعلى ، وثنتان من أسفل ، ضاحكة : صاحبتها ، وتمام الضِّحك : منها بكسر الضاد ، وإسكان الحاء لغة في الضَّحِك بفتح الضاد ، مع كسر الحاء وإسكانها كائن على الفلج : منها بفتح اللام من فلِح بكسرها ، وهو تباعد منابت الأسنان ، وهو حسن فيها ، أي وأدلة العِلم ، وأسباب العمل واضحة حسنة ، لا لبس فيها يُخاف منه الهلاك ، والوقوع في الضلال ، وإنما تخاف مما يعرض للسانك من جهة الشيطان والنفس ، وتمام وضوحها بوضوح أصلها لأنه وضع مَنْ ينطق عن الهوى ، فشبّه دلائل العلم ، وأسباب العمل بثنايا امرأة حسناء .(1/9)
وعياب : جمع عَيْبَة وهي وعاء من جلد تُصان فيه الأمتعة كالثياب ويجوز به (1) عمن هو محل سرك من رجل أو امرأة ، ومنه : الأنصار كرشي وعيبتي ، الأسرار : جمع سرٍّ / 7 أ وهو ما يُكتم ، اجتمعت : أي عياب الأسرار ، بأمانتها : أي عليها ، أو معها ، والأمانة ضد الخيانة ، المراد ما يؤتمن عليه ، تحت الشرج : بفتح الشين والراء ، أي عُرى العياب ، وأراد بالأسرار أسرار الله في خلقه مما حجبهم عنه ، ولم يطلع عليه أحد إلاّ مَن شاء الله ممن اصطفاه ، فشبه حجب الأسرار الغيبية في منعه الخلق عنها إلاّ مَنْ تيسّر له بعيبة مملوءة شدت بعُراها شدّاً وثيقا حتى لا يخرج منها شيء ، ولا يطلع على ما فيها إلاّ مَنْ أذِن له في حلِّ عُراها ، فيصل إلى ما فيها من الأمانات والأسرار ، والمقصود بهذا البيت أنّما أُخفي من العالِم الراسخ ، والعارف الكاشف أكثر مما عرفه ؛ لأن كلّ أحد إنما يعلم ما فتح الله عليه به ، والله تعالى يقول : [ وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا ] ، [ ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء ] ، فإذا ارتضى الله أحداً من خلقه على بعض تلك الأسرار المغيبة اللدنية كما قال في حق الخضر: [ وعلمناه من لدنا علما ] .
__________
(1) في مخطوطة الأضواء البهجة ويطلق مجازا عمن هو محل سرك .(1/10)
والرفق : وهو التوسط واللطافة في الأمر ، يدوم : به العمل لصاحبه والخَرق : بفتح الخاء مصدر خرُق بضم الراء ، وهو ضد الرفق ، وبضم الخاء اسم للحاصل بالفعل ، يصير إلى الهرج : بإسكان الراء الفتنة وكثرة الفساد ، وبفتحها تحيُّر البصر ، لكنه على الأول فتحها أيضا للوزن ، وهو بالمعنيين كناية عن انقطاع الفعل ، لأن الفتنة والتحيّر لا يدوم معها فعل ، أي مَنْ سلك في كلِّ ما مرّ من الخصال العلمية والعملية الرفق مع الناس في تحصيلها ، ولم يجهد نفسه ، دامت له فاستفاد وأفاد ، وهدى واهتدى ، ومن كلّف نفسه فوق طاقتها ، وعامل الناس بصلابة الجانب / لم تدم له ؛ لجهله ، فضلَّ وأضلّ ، وذلك 7ب لخبر : ما كان الرفق في شيء قط إلاّ زانه ، وما كان الخرق في شيء قط إلاّ شانه ، وإنّ الله رفيق يحب الرفق .
... ولمَّا فرغ من (1) التنبيه على المقامات العملية ، والحكم النبوية ، ختم ذلك بالدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم الواضع لتلك المسالك ، ولأصحابه الأربعة الخلفاء الحافظين طريقته ، الكاشفين لما أشكل من ذلك ، رضي الله عنهم ، وعن سائر الصحابة ، فقال :
صلوات الله : تعالى ، جمع الصلاة باعتبار أنواعها ، وهي من الله رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، ومن الآدميين تضرّع ودعاء كائنة على النبي صلى الله عليه وسلم ، المَهديّ : بفتح الميم ، أي الرشيد الموفق لخلق الهداية فيه ، الهادي : أي المُرشد الناس : من الإنس والجن ، إلى النَّهَج : بفتح الهاء لغة في إسكانها ، أي الطريق المستقيم ، قال تعالى : [ إلى سراط مستقيم ] أي الدين الشبيه في وضوحه وأمنه بالطريق الواضح وكان حقّه ذكر السلام أيضا ؛ لأنه يُكره إفراد الصلاة عنه ، وبالعكس ، ولعله ذكره لفظا .
__________
(1) كتبت على ، والصواب ما أثبتناه(1/11)
وَ على الإمام أبي بكر الصديق ، وهو أفضل الصحابة صادف في سيرته : أي طريقته التي منها مبادرته للإسلام مع وجاهته ورياسته قبل إسلامه ، وَ في لسان مقالته : أي قول لسانه ، اللهج : بكسر الهاء ، أي المثابر على الصدق .
وَ على الإمام أبي حفص عمر بن الخطاب ، وكرامته : أي المعروفة الظاهرة ، إذ له الكرامات أخر في قصة سارية الديلمي من أنه كان يوم الجمعة يخطب بالمدينة ، فرأى العسكر بنهاوند ، قال : يا سارية الجبل الجبل ، فصعد سارية / وجنده الجبل ، 8 أ وقاتلوا الكفار ، فهزموهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، وجاءه البشير بعد شهر ، وأضاف سارية إلى الخُلُج : بضم الخاء واللام : قوم من العرب من عدوان فألحقهم عمر بن الخطاب بالحارث بن مالك بن النضر بن كنانة ، وسُمُّوا بذلك لأنهم اختلجوا من عدوان ، وبفتحها أن يشتكي الرجل عظامه من عمل أو طول مشي وتعب ، وبفتح الخاء ، وكسر اللام المشتكي من ذلك تنبيها على عِظم الأمر ، وشدة الكرب ، كقولهم في جدّ النبي صلى الله عليه وسلم شيبة الحمد ، لكثرة حمد الناس له ، وقولهم : في طلحة الصحابي : طلحة الخير لكثرة خيره ، ويجوز جعله نعتا لسارية ، وإن كان مصدرا بتقدير فتح اللام ، لأن المصدر يُنعت به على المبالغة ، أو لتأويله بالوصف ، والكرامة أمر خارق للعادة على يد وليّ غير مقارن بدعوى النبوة منه .(1/12)
وَ على الإمام أبي عمرو عثمان بن عفان ذي النورين : لأنه تزوّج بنتي النبي صلى الله عليه وسلم رقية ثم أمّ كلثوم ، المستحِيى المُستحيا : بكسر ياء إحداهما ، وفتح الأخرى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا بحافة بئر ، وهو مكشوف الفخذ ، فدخل أبو بكر ، فلم يغطِّ فخذه ، ودخل عمر ، فلم يغطِّه ، ودخل عثمان فغطَّاه ، وقال : ألا أستحيي ممن استحت منه الملائكة ، رواه البخاري وغيره ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : عثمان أحيا أمتي وأكرمها ، البَهج : بالموحّدة : أي حسن الخَلق والخُلُق ، قال ابن عبد البر : كان جميلا ، طويل اللحيَة ، حسن الوجه ، وقال في موضع آخر : كان ربعة ، حسن الوجه ، رقيق البشرة ، عظيم اللحية ، أسمر اللون ، كان يُصفِّر لحيته ، ويشدُّ أسنانه بالذهب .
وَ على الإمام أبي حسن : علي بن أبي/ طالب ، يُفزع إليه في العلم إذا وافى 8 ب بسحائبه : جمع سحابة ، الخُلُج : بضم الخاء واللام ، جمع خلوج ، السحاب المتفرق ، وقام الإجماع على غزارة علمه .
والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
تمّ الشرح المبارك ، بحمد الله وعونه ، وحسن توفيقه
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
والحمد لله رب العالمين .(1/13)