فتح المالك بما يتعلق بقول الناس
وهو كذلك
تأليف
أحمد السجاعي الصفير
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أزال ظلم الجهل بأنوار العلوم ،ووقف بفضله من شاء لمعرفة المنطوق والمفهوم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الذي أوضح الله به كل مشكل ، وعلى آله وأصحابه القامعين لأهل الضلال ،وبهم الزيغ أبطل .
أما بعد ...
فالمقصود بيان مرجع الضمير والإشارة في قول بعض الناس : وهوكذلك ، مجيبا لمن قال : أنا أحبك ، مزيلا للإلباس ، ومُتْبِعا ذلك بالكلام على العطف ، وما يتعلق بالتركيب ؛ ليكون ذلك تحفة لكل حاذق عاقل لبيب أديب ، وسمّيته فتح المالك بما يتعلق بقول الناس وهوكذلك .
اعلم أنّ الضمير راجع للنسبة الكلامية، والإشارة راجعة للنسبة الخارجيةوالمعنى وإخبارك بثبوت المحبة لازم مثل ثبوتها في الخارج ، كذا أفاده بعض مشايخنا ، وجوّز بعض آخر ذالك، وزاد وجها ، وهو أن الضمير / راجع للنسبة الخلرجية ، والإشارة 2 ب للنسبة الكلامية ، والتقدير والواقع ثبوت المحبة لك، كما أخبرت ، انتهى .(1/1)
وقال استاذنا علاّمةعصره ، ووحيد دهره ، سيدنا الشيخ محمد الحفناوي (1) : إنّ الضمير والإشارة راجعان للحال والصفة ، والتقدير : وهو أي حالي القائم بي مثل ذلك ، أي حالك ووصفك القائم بك من الحب الذي ذكرته ، انتهى .
قلت : ويصح أنْ يكون في الكلام التفات من التكلّم للغيبة ، والأصل وأنا أحبك ، كما في قوله تعالى : [وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ] (2) والمشهور عند الجمهور أنّ الالتفات هو التعبير عنمعنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها ، بشرطأن يكون التعبير الثاني على خلاف ما يقتضيه الظاهر ، ويترقبه السامع ؛ ليخرج نحو أنا زيد ، وأنت عمرو ، ونحن اللذون صبحوا / الصباحا (3) ،
__________
(1) الشيخ محمد بن يوسف بن بنت الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الشافعي الأزهري . ولد سنة ثلاث وستين ومائة وألف وتربى في حجر جده وتخلق بأخلاقه ، وحفظ القرآن والألفية، وأكثر المتون المتداولة. وحضر دروس جده وأخي جده الشيخ يوسف الحفناوي، وحضر أشياخ الوقت كالشيخ علي العدوي والشيخ أحمد الدردير والشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي وغيرهم، وتمهر وأنجب، وأخذ طريق الخلوتية عن جده ولقنه الأسماء. ولما توفي جده ألقى الدروس في محله بالأزهر، ونشأ من صغره على أحسن طريقة وعفة نفس، ولازم الاشتغال بالعلم ، وكان عظيم النفس مع تهذيب الأخلاق والتبسط مع الإخوان والممازحة، مع تجنبه ما يخل بالمروءة، وله بعض تعليقات وحواش وشعر مناسب، ولم يزل على حالته إلى أن توفي يوم السبت رابع شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، وصلي عليه في الأزهر في مشهد عظيم، ودفن مع جده في تربة واحدة بمقبرة المجاورين ولم يخلف ذكوراً. حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر ، ص 2561 ـ 2562/ الموسوعة الشعرية .
(2) يس 22
(3) صدر بيت من الرجز ، والبيت بتمامه :
نحن اللذون صبحوا الصباحا يوم النخيل غارةً ملحاحا
قطعة من أرجوزة أوردها أبو زيد في نوادره، وقال: هي لأبي حرب الأعلم، من بني عقيل بالتصغير، وهو شاعرٌ جاهلي. وبعدهما:
نحن قتلنا الملك الجحجاحا ولم ندع لسارحٍ مراحا
ولا دياراً أو دماً مفاحا نحن بنو خويلدٍ صراحا
لا كذب اليوم ولا مراحا
انظر خزانة الأدب 6/23(1/2)
والنكتة فيه أنّ 3 أ الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى آخر كانأحسن ، وأشهى للقلب ، وألذّ للسمع ، وأكثر إصغاءً إليه ؛ لِما فيه من التنقل ، ولا يكون في جملة ، بل في جملتين ، كما أفاد السيوطي ، فإن قلت : ما هنا هو على طريق السكاكي ، أو غيره ، قلت :هوظاهر على طريق السكاكي ، ويصح أنيكون على كلام الجمهور تنزيلا للكلامينمنزلة الكلام الواحد ، إذ المقصود منهما الإخبار بثبوت المحبة ، فإن قلت : ما النكتة في العدول من التكلّم إلى الغيبة ؟ قلت : ليكون في الكلام نوع بديعي ، وهوما تقدم ، وللإشارة إلى أنه لا ينبغي للمتكلم الإتيان بلفظأنا ؛ لإشعارها بالعظمة ، وقدأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على مَنْ قال بعدما استأذن عليه وقال مَنْ ؟ فقال : أنا ، فجعل عليه الصلاة والسلام يقول : ( أنا أنا ) إنكارا عليه (1) ، فإن قلت : قد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر) (2) / قلت 3ب الإنكار إنما كان خوفا من تسويل الشيطان له بالكبر ونحوه ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك ، وأيضا هو مأمور بالتحدث بالنعمة ، قال الله تعالى :[ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ] (3) ، فأخبر أنه في نفسه عظيم ، وذلك بتعظيم الله له ، وفيه إشارة إلى أنّ قول المرء : أنا ، ليس بحرام ، فقد ظهر لك رقة الإلتفات ، فلا عبرة بقول مَنْ نفاه ، ولا التفات .
وقد ارتضى ذلك جميع المشايخ الأعلام ، وهوبمكان من اللطف خلافا لِما سرى إلى بعض الأقوام (4) ، وأنه لا يتعين الوجه الأول ، والله أعلم ، وعليه المعوَّل .
__________
(1) المسند الجامع 9/175 / المكتبة الشاملة ,
(2) كشف الخفاء 1/17 / المكتبة الشاملة .
(3) الضحى 11
(4) كتبت : الأهوام .(1/3)
فإن قلت : هل لقول الناس أنا أُحبك أصل في السنة ؟ قلت : نعم ، فقد ورد في الأحاديث المسلسلة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : ( إني أُحبك ) (1) ، فقال : اللهم أعنَّي على ذكركوشكرك وحسن عبادتك ، ومعاذ قال لمن روى عنه : وأنا أحبك ، فقال : اللهم ...ألخ (2) ، أي إلى أنْ / وصل إلينا . ... ... ... 4أ
__________
(1) المقاصد الحسنة 1/18 / المكتبة الشاملة .
(2) أي اللهم أعني على ذكرك وشكركوحسن عبادتك .(1/4)
فإن قلت : هل الواو في قولهم : وهو كذلك عاطفة ، أو استئنافية ، أو زائدة ؟ قلت: يصح أن تكون عاطفة ، على قوله : أنا بتنزيل الكلامين منزلة الكلام الواحد ، لما تقدم ، وقال شيخنا المتقدم ذكرة (1) : يصح أن يكون معطوفا على مُقدَّر، أي صدقت ، وهو كذلك ، ولا يصح أن تكون استئنافية ؛ لأنها الداخلة على جملة بعد جملة يمتنع العطف عليها ، نحو [ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ] (2) ، ونحو: لا تأكل السمك وتشربُ اللبن ، فيمن رفع ، ونحو: [مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ] (3) فيمن رفع أيضا ، إذ لوكانت واو العطف لانتصب [ نُقر] ، ولانتصب ، أو انجزم وتشرب ، وللزم عطف الخبر على الأمر ، ذكرة ابن هشام في بانت سعاد المغني ، لكن نقل بعض مشايخنا الأعلام عن المحقق ابن هشام في بانت سعاد أنها تقع بكثرة في أول القصائد والأبواب والفصول ، وتقع بندرة في غير / ذلك ، وقد ذكر العلاّمة ابن قاسم في شرح أبي شجاع على الغزي ما 4ب يؤيد ذلك فعلى هذا يجوز أن تكون استئنافية ، وعلى كل من الإستئناف والعطف لا محلّ لهذه الجملة من الإعراب ؛ لأنها على الأول مستأنفة نحو : [ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ] (4) ، فإن قلت : هل هو استئناف نحوي ، أو بياني ؟قلت : هوبياني ؛ لأنه وقع في جواب سؤال مقدَّر نشأ ذلك السؤال من الكلام السابق ، وذلك أنه لمَّا قال : أنا أحبك ، كأنه قيل : وهل ذلك ثابت عندك ، أو هل أنت كذلك ؟ فأجاب بما ذكر ، وعلى الثاني تابعة لما لا موضع له ، نحو قام زيد وقعد عمرو ، ولا يصح أن تكون زائدة ؛ لمنع البصريين لها ، ومَنْ جوَّززيادتها وهم الكوفيون ، لم يكن في أمثلتهم زيادتها في أول الكلام ، وذلك ظاهرفي أنها لا تُزاد في الأول ، وجملة أنا أحبك كبرى ؛ لأن خبر المبتدأ فيها جملة ، وجملة أنا أحبك صغرى ؛ لأنها خبر عن أنا ،
__________
(1) محمد الحفناوي .
(2) الحج 5
(3) الأعراف 186
(4) الكوثر 1(1/5)
وأمَّا جملة وهوكذلك /فإن كانت الكاف حرف جر متعلقة 5أ بفعل أجرى فيها ما تقدم ، وإن تعلقت باسم ، وكانت اسما فلا يتأتى فيها ما ذكر ، ولا يخفى أنها قضية شخصية لتشخَّص موضوعها وتُعيِّنه .
واعلم أنّ مذهب البصريين أنَّ ألف أنا زائدة ، والاسم هو الهمزة والنون ، ومذهب الكوفيين أنّ الاسم مجموع الأحرف الثلاثة ، وفيه لغات خمس ، ذكرها في التسهيل :
فُصحاهن : إثبات ألفه وقفا ، وحذفها وصلا .
والثانية : إثباتها وصلا ووقفا ، وهي لغة تميم.
والثالثة : هنا بإبدال همزته ها .
والرابعة : آن بمدة بعد الهمزة ، قال ابن مالك : مَنْ قال أنْ فإنه قلب أنا ، كما قال بعض العرب في رآى رآأى .
والخامسة :أن كعن ، حكاها قطرب .
وأما هو فمذهب البصريين أنه بجملته ضمير ، والتحقيق أن الضمائر وأسماء الإشارة جزئيات وضعا واستعمالا لكنها موضوعة بقانون كلّي ، وقيل : إنها كليات وضعا ، جزئيات
/ استعمالا ، ورُدَّ بأنه يلزم عليه وجود مجازات لا حقائق لها، وقد نوقش هذا الرد بأنه 5ب لا مانع من أنّ القائل بما ذكر يلتزم ذلك .
... ... خاتمة : نسأل الله حسنها ، المحبة مأخوذة منحبّة القلب بفتح الحاء ، وهي سويداؤه ، ويقال : ثمرته ، فهي ترجع إلى كونها خلاصة الشيء ، وقيل : مَنْ حبب الإنسان بالتحريك ، وهو صفاء بياضها ، ونضارتها ، فهي صفاء المودة ،وقيل : من الحُباب بالضم ، وهو الحب ، قال الشاعر (1) :
فواللَهَ ما أَدْرِي وإنِّي لَصادقٌ أَداءٌ عَرانِي مِنْ حُبابِكِ أَمْ سِحرُ
__________
(1) من الطويل ، لأبي عطاء السندي / الموسوعة الشعرية .(1/6)
وعليه فهي غليان القلب وثورانه عند التعطّش إلى لقاء المحبوب ،وهذا في حق الحوادث ، وأمَّا حُبّ الله للعبد فهو إرادته لإنعام مخصوص عليه ، ومحبة العبد لله مَيْلٌ من العبد ، وتَوَقَان وحال يجدها من نفسه من نوع ما يجده من محبوباتها المعتادة له ، وهوصحيح ؛ لأن النفوس / مجبولة على الميل إلى الحسن والكمال والجمال ، فبقدر ما ينكشف من 6 ذلك ، يكون الميل والتعلّق ، أفاده ابن حجر ، والحب في الله مطلوب شرعا، كما أنَّ البغض في الله كذلك ، فقد ورد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفضل الأعمال الحب في الله (1) ،وروى أبو أمامة : مَنْ أحبّ في الله ، وأبغض في الله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان (2) ، وروي أيضا : أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (3) .
اللهم ارزقنا العمل بكتابك ،وسنة رسولك ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه
كلّما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون وصلى الله على سيدنا
محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
آمين آمين آمين آمين
آمين
وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة
يوم السبت الموافق 16 صفر سنة 1304
ألف وثلاثمائة وأربعة
من الهجرة .
...
__________
(1) (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله تعالى) رواه أبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه. كشف الخفاء 1/157
(2) عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان. رواه الطبراني في الأوسط وفيه صدقة بن عبد الله السمين ضعفه البخاري وأحمد وغيرهما . مجمع الزوائد 1/48
(3) رواه أحمد ، انظر تخريج أحاديث الأحياء 9/186(1/7)