غاية المنة في إتمام تمام المنة
الجزء الأول
كتاب الطهارة
جمع وترتيب
أبو سند محمد
غاية المنة في إتمام تمام المنة
{ الجزء الأول : كتاب الطهارة }
ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا و نشهد ان لا اله إلا الله وحده لا شريك له و نشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه و على اله و سلم.
اما بعد
فلا يخفى على طلبة العلم أن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى قد قام بالتعليق على كتاب فقه السنة في كتابه المعروف بتمام المنة وحيث ان الشيخ رحمه الله تعالى لم يتمكن من إكمال الموضوع حيث لا زال كتاب فقه السنة بحاجة الى تعليقات الشيخ لتتم بها الفائدة لطلبة العلم ، لذلك استعنت بالله تعالى على جمع ما تيسر في التعليق على ما تبقى من فقه السنة و سيكون الجمع بإذن الله تعالى من كتب الشيخ و من تخاريجه و أبحاثه الحديثية و لعلنا نصل بذلك إلى ما تمناه الشيخ في مقدمته لكتاب تمام المنة حيث(1/1)
قال الشيخ رحمه الله تعالى في مقدمة الكتاب المذكور : " لقد علقنا على نحو ربع فقه السنة بفضل الله تبارك وتعالى راجيا منه عز وجل أن ييسر لي تمام التعليق عليه إذا نسأ الله في العمر وبارك في الوقت أو على الأقل أن أجرد بقية ما فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة ليكون القراء على علم بها ومعرفة بحقيقة قدر المسائل التي أقيمت عليها كمثل الحديث المذكور في أول كتاب الجنائز وهو يلي الصيام: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي . . الخ) فإنه ضعيف على شهرته في كتب السيرة ومن هنا أتى المؤلف وقد خرجته وبينت ضعفه في تخريج فقه السيرة (ص 131) ثم في (الضعيفة) (2933) ، وكحديث : " العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل : آية محكمة وسنة قائمة وفريضة عادلة) فإنه ضعيف أيضا وبيانه في تخريج المشكاة (239) و(الإرواء) (1664) و(ضعيف أبي داود) (496) وهو في آخر كتاب من كتب فقه السنة الفرائض وبين هذا وكتاب الجنائز كتب أخرى فيها عشرات - إن لم أقل مئات - الأحاديث الواهية".انتهي كلامه رحمه الله تعالى.
{ وقد كان عملي في هذا الكتاب ما يأتي }
1- قمت بدمج الكتابين فجعلتهما كتابا واحدا مع تغيير في لون وخط اصل الكتاب (فقه السنة) والتعليق (تمام المنة).
2- قمت بإكمال تخريج أحاديث فقه السنة التي لم يقم الشيخ بتخريجها من بداية كتاب الجنائز الى أخر الكتاب وبينت صحتها وضعفها من تخريجات الشيخ الألباني رحمه الله تعالى.
3- قمت بوضع بعض التعليقات من كلام الشيخ على بقية كتاب فقه السنة والتي لم يقم الشيخ بالتعليق عليه وهي من بداية كتاب الجنائز الى أخر الكتاب وقد آخذت هذه التعليقات من كتب الشيخ ومؤلفاته الأخرى .
هذا وقد قمت بتقسيم الكتاب الى أربعة أجزاء هذا هو الجزء الأول منه.
والله اسأل ان يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله ومن أتبعهم الى يوم الدين.
بسم الله الرحمن الرحيم(1/2)
{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد
فهذا الكتاب يتناول مسائل من الفقه الإسلامي مقرونة بأدلتها من صريح الكتاب وصحيح السنة ، ومما أجمعت عليه الأمة.
قلت : هذه الدعوى غالبية ، وإلا ففي الكتاب كثير من الأحاديث الضعيفة ، بعضها سكت عليها ، والبعض الآخر ظنها صحيحة أو حسنة ، قلد في ذلك غيره ، وهو واهم في ذلك كله . وفيه أيضا غير قليل من المسائل لم يذكر الدليل عليها ، بل إن بعضها الدليل على خلافها ، وسيأتي تفصيل هذا الإجمال في مواضعه اللائقة به إن شاء الله تعالى.
وقد عرضت في يسر وسهولة ، وبسط واستيعاب لكثير مما يحتاج إليه المسلم ، مع تجنب ذكر الخلاف إلا إذا وجد ما يسوغ ذكره فنشير إليه . وهو بهذا يعطي صورة صحيحة للفقه الإسلامي الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ، ويفتح للناس باب ألفهم عن الله ورسوله ، ويجمعهم على الكتاب والسنة ، ويقضي على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب ، كما يقضي على الخرافة القائلة : بأن باب الاجتهاد قد سد . وهذه محاولات أردنا بها خدمة ديننا ، ومنفعة إخواننا نسأل الله أن ينفع بها ، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
تمهيد(1/3)
رسالة الإسلام وعمومها والغاية منها أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ، والشريعة الجامعة التي تكفل للناس الحياة الكريمة المهذبة والتي تصل بهم إلى أعلى درجات الرقي والكمال . وفي مدى ثلاثة وعشرين عاما تقريبا ، قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الله ، تم له ما أراد من تبليغ الدين وجمع الناس عليه . عموم الرسالة ولم تكن رسالة الإسلام رسالة موضعية محددة ، يختص بها جيل من الناس دون جيل ، أو قبيل دون قبيل ، شأن الرسالات التي تقدمتها ، بل كانت رسالة عامة للناس جميعا إلى أن يرث الأرض ومن عليها ، لا يختص بها مصر دون مصر ، ولا عصر دون عصر . قال الله تعالى : (تبارك الله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وقال تعالى : (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) وقال تعالى : (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ، الذي له ملك السموات والأرض ، لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) وفي الحديث الصحيح : (كان كل نبي يبعث في قومه خاصة ، وبعثت إلى كل أحمر وأسود) .
ومما يؤكد عموم هذه الرسالة وشمولها ما يأتي :-
أنه ليس فيها ما يصعب على الناس اعتقاده ، أو يشق عليهم العمل به قال الله تعالى : (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ، وقال تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وقال تعالى : (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، وفي البخاري من حديث أبي سعيد المقبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
قلت : فيه أمران : الأول : أن الحديث ليس من حديث أبي سعيد الخدري لا عند البخاري ولا عند غيره . وإنما هو من حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة .(1/4)
وفي طبعة دار الكتاب العربي : " أبي سعيد المقبري " ، فهو خطأ آخر ، فإنه من حديث ابنه سعيد عن أبي هريرة ! انظر "فتح الباري" (1/94).
والآخر : أن البخاري إنما رواه في "الإيمان " بلفظ : " إن الدين يسر . ." دون زيادة : "هذا".
وإنما رواه بهذه الزيادة النسائي في "الإيمان" أيضا . وكذلك رواه ابن حبان وإسناده أصح ، كما بينه الحافظ في "الفتح" ، وله شواهد عنده ، منها عن بريدة ، وهو مخرج في "ظلال الجنة في تخريج كتاب السنة" (95-97).
وروي مرفوعا : (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة).
قلت : من المقرر عند المحدثين أن تصدير الحديث بصيغة " روي " إنما هو إشارة إلى أن الحديث ضعيف ، وعليه جرى المنذري في " الترغيب " كما سبق بيانه في قواعد الكتاب ، وما أعتقد إلا أن المؤلف حفظه الله تعالى يعلم هذا المقرر ويذكره ، وعليه نستطيع أن نقول : إنه لذهب إلى أن الحديث ضعيف وليس كذلك بل هو حديث حسن ، وكان يلزم المؤلف أن يحسن إسناده لأن الحافظ صرح بتحسينه في " الفتح " فلعله لم يقف عليه ، فإن قيل : لعل المؤلف وقف عليه ولم يره صوابا لأن الحديث من رواية محمد بن إسحاق ، وهو مدلس ، وقد عنعنه ؟ . قلت : هذا الجواب صحيح في الواقع ، ولكن عهدي بالمؤلف أنه يقدم رأي الحافظ على .(1/5)
ما يقتضيه علم أصول الحديث ! ! علمت هذا منه حين كان ينشر فصول كتابه هذا في مجلة " الإخوان المسلمون ، المصرية فنشرت فيها ردا على مقال له احتج فيه بحديث علي الآتي في " ما يحرم على الجنب " بلفظ : " كان لا يحجبه عن القرآن شئ ليس الجنابة " ، وقد بينت في الرد المشار إليه ضعف هذا الحديث حسبما يقتضيه علم الأصول ، فكتب فيها ردا علي خلاصته أن الحديث حسنه الحافظ ابن حجر ! فكتبت ردا آخر عليه خلاصته أن الجواب ليس على قواعد علم الحديث بل هو مجرد تقليد لا يفيد ، ولا ينفق في باب المناظرة ، ولكن المجلة لأمر ما لم تنشر ردي هذا ، ولذلك فإني ألزم المؤلف - حفظه الله تعالى- أن يحسن الحديث بالطريقين : التقليد ، والبحث حسب القواعد.
أما الأول ، فقد وضح مما سلف ، وهو تحسين الحافظ لإسناده.
وأما الآخر : فهو أن الحديث حسن لغيره ، لأن له شاهدا من حديث أبي قلابة الجرمى مرسلا بلفظ : " يا عثمان إن الله لم يبعثني بالرهبانية (مرتين أو ثلاثة) لأن أحب الدين عند الله الحنيفية السمحة".
أخرجه ابن سعد في "الطبقات" ( ج 3 ق 1 ص 287).
ثم وجدت له شاهدا آخر من رواية عبد العزيز بن مروان بن الحكم مرسلا ، أخرجه أحمد في الزهد (ص289و310) بسند صحيح .
ثم رأيت المؤلف قد وقع في خطأ آخر غريب حول هذا الحديث حيث عزاه لمسلم في "الطبعة السادسة" سنة (76هـ) ولا أصل له في مسلم ! وإنما رواه البخاري معلقا ، ووصله في "الأدب المفرد" وقد خرجته في "الصحيحة" (881).
2 - أن ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان ، كالعقائد والعبادات ، جاء مفصلا تفصيلا كاملا ، وموضحا بالنصوص المحيطة به ، فليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص منه ، وما يختلف باختلاف الزمان والمكان ، كالمصالح المدنية ، والأمور السياسية والحربية ، جاء مجملا ، ليتفق مع مصالح الناس في جميع العصور ، ويهتدي به أولو الأمر في إقامة الحق والعدل .(1/6)
3 - أن كل ما فيها من تعاليم إنما يقصد به حفظ الدين ، وحفظ النفس وحفظ العقل ، وحفظ النسل ، وحفظ المال ، وبدهي أن هذا يناسب الفطر و بساير العقول ، ويجاري التطور ويصلح لكل زمان ومكان . قال الله تعالى : (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، كذلك نفصل الايات لقوم يعلمون . قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وقال جل شأنه : (ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤت ون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، وأولئك هم المفلحون). الغاية منها والغاية التي ترمي إليها رسالة الإسلام ، تزكية الأنفس وتطهيرها عن طريق المعرفة بالله وعبادته ، وتدعيم الروابط الإنسانية وإقامتها على أساس الحب والرحمة والإخاء والمساواة والعدل ، وبذلك يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة ، قال الله سبحانه (هو الذي بعث في ألاميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) . وفي الحديث : (أنا رحمة مهداة).(1/7)
التشريع الإسلامي أو : الفقه والتشريع الإسلامي ناحية من النواحي الهامة التي انتظمتها رسالة الإسلام ، والتي تمثل الناحية العملية من هذه الرسالة . ولم يكن التشريع الديني المحض - كأحكام العبادات - يصدر إلا عن وحي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، من كتاب أو سنة ، أو بما يقره عليه من اجتهاد . وكانت مهمة الرسول لا تتجاوز دائرة التبليغ والتبيين (وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى) أما التشريع الذي يتصل بالأمور الدنيوية ، ومن قضائية وسياسية وحربية ، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاورة فيها ، وكان يرى الرأي فيرجع عنه لرأي أصحابه ، كما وقع في غزوة بدر وأحد ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليه صلى الله عليه وسلم يسألونه عما لم يعلموه ، ويستفسرونه فيما خفي عليهم من معاني النصوص ، ويعرضون عليه ما فهموه منها ، فكان أحيانا يقرهم على فهمهم ، وأحيانا يبين لهم موضع الخطأ فيما ذهبوا إليه . والقواعد العامة التي وضعها الإسلام ، ليسير على ضوئها المسلمون هي :
1 - النهي عن البحث فيما لم يقع من الحوادث حتى يقع ، قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم ، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم عفا الله عنها ، والله غفور حكيم) وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهى عن الاغلوطات ، وهي المسائل التي لم تقع.
قلت : الجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوهم أن الحديث ثابت ، وليس كذلك ، فانه من رواية عبد الله بن سعد عن الصنابحي عن معاوية بن أبي سفيان.
أخرجه أبو داود ، وأحمد ، وغيرهما ، وعبد الله هذا ، قال دحيم : "لا أعرفه".
وقال أبو حاتم : "مجهول".
وقال الساجي : "ضعفه أهل الشام".
ولذلك أشار الحافظ في "التقريب" إلى أنه لين الحديث إذا تفرد.(1/8)
ولم أجد له متابعا على هذا الحديث ، فهو ضعيف ، وقد أعله المناوي في " فيض القدير ، بما نقلناه عن الساجي والذين قبله ، فلا يغتر بسكوت أبي داود عليه ولا برمز السيوطي له بالحسن لما ذكرناه في المقدمة : (القاعدة السابعة والثامنة).
2 - تجنب كثرة السؤال وعضل المسائل ، ففي الحديث : (إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ، وإضاعة المال) وعنه صلى الله عليه وسلم : (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وعنه أيضا : (أعظم الناس جرما ، من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته).
3 - البعد عن الاختلاف والتفرق في الدين ، قال الله تعالى : (وأن هذه أمتكم أمة واحدة) ، وقال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) . وقال تعالى : (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ، وقال تعالى : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) ، وقال تعالى : (وكانوا شيعا) ، وقال تعالى : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، وأولئك لهم عذاب عظيم).(1/9)
4 - رد المسائل المتنازع فيها إلى الكتاب والسنة . عملا بقول الله تعالى : (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) ، وقوله تعالى : (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) ، وذلك لان الدين قد فصله الكتاب ، كما قال الله تعالى : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) ، وقال تعالى : (ما فرطنا في الكتاب من شئ) ، وبينته السنة العملية ، قال الله تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) . وقال تعالى : (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) ، وبذلك تم أمره ، ووضحت معالمه ، قال الله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا) . وما دامت المسائل الدينية قد بينت على هذا النحو ، وما دام الأصل الذي يرجع إليه عند التحاكم معلوما ، فلا معنى للاختلاف ولا مجال له ، قال الله تعالى : (وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد) ، وقال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) ، على ضوء هذه القواعد ، سار الصحابة ومن بعدهم من القرون المشهود لها بالخير ، ولم يقع بينهم اختلاف ، إلا في مسائل معدودة ، كان مرجعه التفاوت في فهم النصوص وأن بعضهم كان يعلم منها ما يخفي على البعض الأخر . فلما جاء أئمة المذاهب الأربعة تبعوا سنن من قبلهم ، إلا أن بعضهم كان أقرب إلى السنة ، كالحجازيين الذين كثر فيهم حملة السنة ورواة الآثار ، والبعض الأخر كان أقرب إلى الرأي كالعراقيين الذين قل فيهم حفظة الحديث ، لتنائي ديارهم عن منزل الوحي . بذل هؤلاء الأئمة أقصى ما في وسعهم في تعريف الناس بهذا الدين وهدايتهم به ، وكانوا ينهون عن تقليدهم ويقولون : لا يجوز لأحد أن يقول قولنا من غير أن يعرف دليلنا ، صرحوا أن مذهبهم هو الحديث الصحيح ، لأنهم لم يكونوا يقصدون أن يقلدوا كالمعصوم صلى الله عليه وسلم ، بل كان(1/10)
كل قصدهم أن يعينوا الناس على فهم أحكام الله . إلا أن الناس بعدهم قد فترت هممهم ، وضعفت عزائمهم وتحركت فيهم غريزة المحاكاة والتقليد ، فاكتفى كل جماعة منهم بمذهب معين ينظر فيه ، ويعول عليه ، ويتعصب له ، ويبذل كل ما أوتي من قوة في نصرته ، وينزل قول إمامه منزلة قول الشارع ، ولا يستجيز لنفسه أن يفتي في مسألة بما يخالف ما استنبطه إمامه ، وقد بلغ الغلو في الثقة بهؤلاء الأئمة حتى قال الكرخي : كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ . وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتابة والسنة ، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد ، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء ، وأقوال الفقهاء هي الشريعة ، واعتبر كل ما يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعا لا يوثق بأقواله ، ولا يعتد بفتاويه . وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية ، ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس ، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة ، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب ، والانصراف عن الاجتهاد ، محافظة على الأرزاق التي رتبت لهم ! سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلا : ما تقصير الشيخ تفي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته ؟ فسكت البلقيني ، فقال أبو زرعة : فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قدرت للفقهاء على المذاهب الأربعة وأن من خرج عن ذلك لم ينله شئ من ذلك ، وحرم ولاية القضاء ، وامتنع الناس عن إفتائه ، ونسبت إليه البدعة فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك . وبالعكوف على التقليد ، وفقد الهداية بالكتاب والسنة ، والقول بانسداد باب الاجتهاد وقعت الأمة في شر وبلاء ودخلت في جحر الضب الذي حذرها رسول الله صلى الله عليه وسلم . كان من آثار ذلك أن اختلف الأمة شيعا وأحزابا ، حتى إنهم اختلفوا في حكم تزوج الحنفية بالشافعي ، فقال بعضهم : لا يصح ، لأنها تشك في إيمانها ، وقال آخرون ، يصح قياسا على الذمية ،(1/11)
كما كان من آثار ذلك انتشار البدع ، واختفاء معالم السنن ، وخمود الحركة العقلية ، ووقف النشاط الفكري ، وضياع الاستقلال العلمي ، الأمر الذي أدى إلى ضعف شخصية الأمة ، وأفقدها الحياة المنتجة ، وقعد بها عن السير والنهوض ، ووجد الدخلاء بذلك ثغرات ينفذون منها إلى صميم الإسلام . مرت السنون ، وانقضت القرون ، وفي كل حين يبعث الله لهذه الأمة من يجدد لها دينها ، ويوقظها من سباتها ، ويوجهها الوجهة الصالحة ، إلا أنها لا تكاد تستيقظ حتى تعود إلى ما كانت عليه ، أو أشد مما كانت . وأخيرا انتهى الأمر بالتشريع الإسلامي ، الذي نظم الله به حياة الناس جميعا ، وجعله سلاحا لمعاشهم ومعادهم ، إلى دركة لم يسبق لها مثيل ، ونزل إلى هوة سحيقة ، وأصبح الاشتغال به مفسدة للعقل والقلب ، ومضيعة للزمن ، لا يفيد في دين الله ، ولا ينظم من حياة الناس . وهذا مثال لما كتبه بعض الفقهاء المتأخرين : عرف ابن عرفة التجارة فقال ، بيع منفعة ما أمكن نقله ، غير سفينة ولا حيوان ، لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها ، بعضه يتبعض بتبعيضها . فاعترض عليه أحد تلاميذه ، بأن كلمة بعض تنافي الاختصار ، وأنه لا ضرورة لذكرها ، فتوقف الشيخ يومين ، ثم أجاب بما لا طائل تحته وقف التشريع عند هذا الحد ووقف العلماء لا يستظهرون غير المتون ، ولا يعرفون غير الحواشي وما فيها من إيرادات واعتراضات وألغاز ، وما كتب عليها من تقريرات ، حتى وثبت أو رويا على الشرق تصفعه بيدها ، وتركله رجلها . فكان أن تيقظ على هذه الضربات ، وتلفت ذات اليمين وذات الشمال.(1/12)
إذا هو متخلف عن ركب الحياة الزاحف ، وقاعد بينما القافلة تسير . وإذا هو أمام عالم جديد ، كله الحياة والقوة والإنتاج ، فراعه ما رأى ، وبهره ما شاهد ، فصاح الذين تنكروا لتاريخهم وعقوا آباءهم ، ونسوا دينهم وتقاليدهم : أن ها هي ذي أوروبا يا معشر الشرقيين ، فاسلكوا سبيلها ، وقلدوها في خيرها وشرها ، وإيمانها وكفرها ، وحلوها ومرها ، ووقف الجامدون موقفا سلبيا ، يكثرون من الحوقلة والترجيع ، وانطووا على أنفسهم ، ولزموا بيوتهم ، فكان هذا برهانا آخر على أن شريعة الإسلام لدى المغرورين لا تجاري التطور ، ولا تتمشى مع الزمن . ثم كانت النتيجة الحتمية ، أن كان التشريع الأجنبي الدخيل هو الذي يهيمن على الحياة الشرقية ، مع منافاته لدينها وعاداتها وتقاليدها وأن كانت الأوضاع الأوروبية هي التي تغزو البيوت والشوارع والمنتديات والمدارس والمعاهد ، وأخذت موجتها تقوى وتتغلب على كل ناحية م ن النواحي حتى كاد الشرق ينسى دينه وتقاليده ويقطع الصلة بين حاضره وماضيه ، إلا أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة ، فهب دعاة الإصلاح يهيبون بهؤلاء المخدوعين بالغربيين ، أن : خذدوا حذركم ، وكفوا عن دعايتكم ، فإن ما عليه الغربيون من فساد الأخلاق لابد وأن ينتهي بهم إلى العاقبة السوآى ، وأنهم ما لم يصلحوا فطرهم بالإيمان الصحيح ويعدلوا طباعهم بالمثل العليا من الأخلاق ، فسوف تنقلب علومهم أداة تخريب وتدمير ، وتتحول مدنيتهم إلى نار تلتهمهم وتقضي عليهم القضاء الأخير (ألم تر كيف فعل ربك بعاد ؟ إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، وفرعون ذي الأوتاد . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد). ويصيحون بهؤلاء الجامدين دونكم لنبع الصافي ، والهدى الكريم : لنبع الكتاب وهدى السنة ، خذوا منهما دينكم وبشروا بهما غيركم ، فعند ذلك تهتدي بكم هذه الدنيا(1/13)
الحائرة ، وتسعد بكم هذه الإنسانية المعذبة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا). وكان من فضل الله أن استجاب لهذه الدعوة رجال بررة ، وتلقتها قلوب مخلصة ، واعتنقها شباب وهبها أعز ما يملك من الأموال والأنفس . فهل أذن الله لنوره أن يشرق على الأرض من جديد ؟ وهل أراد للإنسان أن يحيا حياة طيبة ، يسودها الإيمان والحب والإحسان والعدل ؟ هذا ما تشهد به الايات : (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا). (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟)
الطهارة
المياه وأقسامها
القسم الأول من المياه : الماء المطلق:-
وحكمه أنه طهور : أي أنه طاهر في نفسه مطهر لغيره ويندرج تحته من الأنواع ما يأتي:-
1 - ماء المطر والثلج والبرد: لقول الله تعالى : (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) ، وقوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة ، فقلت : يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : (أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) رواه الجماعة إلا الترمذي.(1/14)
2 - ماء البحر : لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ، إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته) رواه الخمسة . وقال الترمذي : هذا الحديث حسن صحيح ، وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : حديث صحيح .
3 - ماء زمزم : لما روي من حديث علي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ) رواه أحمد.
قلت : فيه مؤاخذتان : الأولى : أنه ليس من رواية أحمد ، وإنما هو من زوائد ابنه عليه (1/76).
والأخرى : تصديره بصيغة (روي) المشعرة بالضعف ينافي ( القاعدة الثالثة عشرة ) المتقدمة ، لأن الحديث إسناده حسن كما في "إرواء الغليل" (رقم 13) ، وصححه أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على "المسند" ( 2/19/564) ، وقد صرح أنه من "الزوائد".
4 - الماء المتغير بطول المكث : أو بسبب مقره ، أو بمخالطة ما لا ينفك عنه غالبا ، كالطحلب وورق الشجر ، فإن اسم الماء المطلق يتناوله باتفاق العلماء . والأصل في هذا الباب أن كل ما يصدق عليه اسم الماء مطلقا عن التقييد يصح التطهر به ، قال الله تعالى : (فلم تجدوا ماء فتيمموا).
القسم الثاني : الماء المستعمل وهو المنفصل من أعضاء المتوضئ والمغتسل :-(1/15)
وحكمه أنه طهور كالماء المطلق ، سواء بسواء ، اعتبارا بالأصل ، حيث كان طهورا ، ولم يوجد دليل يخرجه عن طهوريته ، والحديث لربيع بنت معوذ في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : (ومسح رأسه بما بقي من وضوء في يديه) رواه أحمد وأبو داود ، ولفظ أبي داود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح رأسه من فضل ماء كان بيده) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب ، فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال : (أين كنت يا أبا هريرة ؟) فقال : كنت جنبا ، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة ، فقال : سبحان الله إن المؤمن لا ينجس) رواه الجماعة : ووجه دلالة الحديث ، أن المؤمن إذا كان لا ينجس ، فلا وجه لجعل الماء فاقدا للطهورية بمجرد مماسته له ، إذ غايته التقاء طاهر بطاهر وهو لا يؤثر . قال ابن المنذر : روي عن علي وابن عمر وأبي أمامة وعطاء والحسن ومكحول والنخعي : أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد بللا في لحيته : يكفيه مسحه بذلك ، قال : وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل مطهرا ، وبه أقول : وهذا المذهب إحدى الروايات عن مالك والشافعي ، ونسبه ابن حزم إلى سفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر.
القسم الثالث : الماء الذي خالطه طاهر:-(1/16)
كالصابون والزعفران والدقيق وغيرها من الأشياء التي تنفك عنها غالبا . وحكمه أنه طهور مادام حافظا لاطلاقه ، فإن خرج عن إطلاقه بحيث صار لا يتناوله اسم الماء المطلق كان طاهرا في نفسه ، غير مطهر لغيره ، فعن أم عطية قالت : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته (زينب) فقال : ( إغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك - إن رأيتن - بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور ، فإذا فرغتن فآذنني فلما فرغن آذناه ، فأعطانا حقوه فقال : (أشعر نها إياه) تعني : إزاره ، رواه الجماعة . والميت لا يغسل إلا بما يصح به التطهير للحي ، وعند أحمد والنسائي وابن خزيمة من حديث أم هانئ : أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وميمونة من إناء واحد : قصعة فيها أثر العجين ، ففي الحديثين وجد الاختلاط ، إلا أنه لم يبلغ بحيث يسلب عنه إطلاق اسم الماء عليه.
القسم الرابع : الماء الذي لاقته النجاسة وله حالتان :-
( الأولى ) أن تغير النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه : وهو في هذه الحالة لا يجوز التطهر به إجماعا ، نقل ذلك ابن المنذر وابن الملقن.(1/17)
( الثانية ) أن يبقي الماء على إطلاقه : بأن لا يتغير أحد أوصافه الثلاثة . وحكمه أنه طاهر مطهر . قل أو كثر ، دليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام أعرابي فبال في المسجد ، فقام إليه الناس ليقعوا به . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء ، أو ذنوبا من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه الجماعة إلا مسلما وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (الماء طهور لا ينجسه شئ) رواه أحمد والشافعي وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه ، وقال أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح وصححه يحيى بن معين وأبو محمد بن حزم . وإلى هذا ذهب ابن عباس وأبو هريرة والحسن البصري ، وابن المسيب وعكرمة وابن أبي ليلى والثوري وداود الظاهري والنخعي ومالك وغيرهم ، وقال الغزالي : وددت لو أن مذهب الشافعي في المياه كان كمذهب مالك . وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) رواه الخمسة ، فهو مضطرب سندا ، ومتنا . قال ابن عبد البر في التمهيد : ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين ، مذهب ضعيف من جهة النظر ، غير ثابت من جهة الأثر.
أقول : كلا ، بل هو حديث صحيح ، وقد صححه جمع ، منهم أبو جعفر الطحاوي الحنفي ، والاضطراب الذي أشار إليه إنما هو في بعض طرقه الضيفة ، كما بينته في "صحيح أبي داود" (56-58) ، وأشرت إليه في "إرواء الغليل" (23) و (172).
نعم مفهوم الحديث معارض لعموم حديث أبي سعيد : "الماء طهور لا ينجسه شئ" ، وعليه الاعتماد في هذا الباب كما شرحه ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" فليراجعه من شاء التحقيق ، فإنه بحث عزيز هام ، وكذلك راجع له "السيل الجرار" للشوكاني (1/55).
السؤر
السؤر هو : ما بقي في الإناء بعد الشرب وهو أنواع :
( 1 ) سؤر الآدمي :-(1/18)
وهو طاهر من المسلم والكافر والجنب والحائض . وأما قول الله تعالى : (إنما المشركون نجس) فالمراد به نجاستهم المعنوية ، من جهة اعتقادهم الباطل ، وعدم تحرزهم من الأقذار والنجاسات ، لا أن أعيانهم وأبدانهم نجسة ، وقد كانوا يخالطون المسلمين ، وترد رسلهم ووفودهم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدخلون مسجده ، ولم يأمر بغسل شئ مما أصابته أبدانهم ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (كنت أشرب وأنا حائض ، فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم ، فيضع فاه على موضع في) رواه مسلم .
( 2 ) سؤر ما يؤكل لحمه :-
وهو طاهر ، لان لعابه متولد من لحم طاهر فأخذ حكمه . قال أبو بكر بن المنذر . أجمع أهل العلم على أن سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به .
( 3 ) سؤر البغل والحمار والسباع وجوارح الطير :-
وهو طاهر ، لحديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال نعم . وبما أفضلت السباع كلها أخرجه الشافعي و الدارقطني و البيهقي ، وقال : له أسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض كانت قوية.
قلت : هذا الحديث ضعيف كما قال النووي في "المجموع" (1/173) ، وتمام كلامه : "وإنما ذكرت هذا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه مثمهورأ في كتب الأصحاب ، وربما اعتمده بعضهم فنبهت عليه" . جزاه الله خيرا .
قلت : وأما قول البيهقي المذكور فالظاهر من تخريجه للحديث في "السنن الكبرى" (1/249-255) أنه يعني أسانيده الدائرة على داود بن الحصين عن أبيه ، ومع أن هذه الأسانيد كلها ضعيفة كما يشير إلى ذلك كلام البيهقي نفسه ، فإن مدارها على داود المذكور عن أبيه عن جابر.(1/19)
وداود مع كونه من رجال الشيخين فقد ضعفه بعضهم ، لكن أبوه الحصين لين الحديث كما في "التقريب" ، وقد أسقطه بعض الضعفاء فصار الحديث عن داود عن جابر ، فصار سالما من ضعف أبيه ، لكن داود لم يدرك جابرا ، فعاد الحديث منقطعا ! ثم إن متن الحديث منكر ، لمخالفته لحديث القلتين ، لأنه صدر جوابا لمن سأله عن الماء وما ينوبه من الدوأب والسباع ؟ فقال : "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" ، وفي رواية : "لا ينجس".
قال ابن التركماني في "الجوهر النقي" ( 1 / 250 ) : "وظاهر هذا يدل على نجاسة سؤر السباع ، إذ لولا ذلك لم يكن لهذا الشرط فائدة ، ولكان التقييد به ضائعا" . وذكر النووي نحوه في "المجموع" (1/173).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ليلا فمروا على رجل جالس عند مقراة له فقال عمر رضي الله عنه : أولغت السباع عليك الليلة في متكلف ! ، لها ما حملت في بطونها ، ولنا ما قي شراب وطهور) رواه الدارقطني.
قلت : وهذا ضعيف أيضا ، فيه عند الدارقطني (1/26) أيوب بن خالد الحراني قال الحافظ : " ضعيف " ، وهو مع ضعفه قد اضطرب في إسناده ، فمرة قال : نا محمد بن علوان عن نافع عن ابن عمر .
ومرة قال : نا خطاب بن القاسم عن عبد الكريم الجزري عن نافع به .
وابن علوان هذا قال الأزدي : " متروك ".
وخطاب بن القاسم ثقة لكنه اختلط قبل موته كما في " التقريب " .
على أن الراوي عن أيوب إسماعيل بن الحسن الحراني لم أعرفه . وقد أشار الحافظ في " التلخيص " إلى ضعف هذا الحديث ، وتبعه الشوكاني في " السيل الجرار " (1/60).
وعن يحيى بن سعيد (أن عمر خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر : لا تخبرنا ، فإنا نرد على السباع وترد علينا) رواه مالك في الموطأ.(1/20)
قلت : هذا الأثر في " الموطأ " ( 1 / 46 ) عن يحعص بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر . . . إلخ .
فالأثر من رواية يحهص بن عبد الرحمن عن عمر ، وليس من رواية يحيى بن سعيد عنه كما وقع في الكتاب ، فلعله سبق قلم من المؤلف ، أو سقط من الطابع .
وهكذا رواه البيهقي (1/ 250 ) من طريق مالك ، والدارقطني (1/ 22) من طريق حماد ابن زيد : نا ييى بن سعيد به.
ثم إن هذا الأثر ضعيف أيضا لا يثبت عن عمر ، لأن ابن حاطب هذا لم يدرك عمر ، فإنه ولد في خلافة عثمان رضي الله عنهما.
ولذلك جزم النووي في المجموع (1/174) بأنه مرسل منقطع . ولكنه استدرك فقال : " إلا أن هذا المرسل له شواهد تقؤيه "
قلت : يشير إلى حديث جابر وابن عمر المتقدمين ، وقد علمت ما فيهما من الضعف في السند ، والنكارة في المتن ، لمخالفتهما لحديث القلتين فتذكر.
( 4 ) سؤر الهرة :-
وهو طاهر ، لحديث كبشة بنت كعب ، وكانت تحت أبي قتادة ، أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له . . فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت منه ، قالت كبشة : فرآني أنظر فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقالت : نعم . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنها ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات) رواه الخمسة ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وصححه البخاري وغيره .
( 5 ) سؤر الكلب والخنزير :-
وهو نجس يجب اجتنابه . أما سؤر الكلب ، فلما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا) و لأحمد ومسلم (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، وأما سؤر الخنزير فلخبثه وقذارته.
النجاسة
النجاسة : -(1/21)
هي القذارة التي يجب على المسلم أن ينتزه عنها ويغسل ما أصابه منها . قال الله تعالى : (وثيابك فطهر) وقال تعالى : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الطهور شطر الإيمان) . ولها مباحث نذكرها فيما يلي؛-
أنواع النجاسات
(1) الميتة :-
وهي ما مات حتف أنفه : أي من غير تذكية ، ويلحق بها ما قطع من الحي ، لحديث أبي واقد الليثي . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما قط من البهيمة وهي حية فهو ميتة ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، قال : والعمل على هذا عند أهل العلم .
ويستثنى من ذلك :
أ - ميتة السمك والجراد : فإنها طاهرة ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحل لنا ميتتان ودمان : أما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال ) رواه أحمد والشافعي وابن ماجة والبيهقي والدار قطني ، والحديث ضعيف ، لكن الإمام أحمد صحح وقفه ، كما قاله أبو زرعة وأبو حاتم ، ومثل هذا له حكم الرفع ، لان قول الصحابي : أحل لنا كذا وحرم علينا كذا . مثل قوله : أمرنا ونهينا ، وقد تقدم قول الرسول صلى الله عليه وسلم في البحر : (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) .
ب - ميتة ما لا دم له سائل كالنمل والنحل ونحوها : فإنها طاهرة إذا وقعت في شئ وماتت فيه لا تنجسه .
قال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في طهارة ما ذكر إلا ما روي عن الشافعي والمشهور من مذهبه أنه نجس ، ويعفى عنه إذا وقع في المائع ما لم يغيره .
ح - عظم الميتة وقرنها وظفرها وشعرها وريشها وجلدها : وكل ما هو من جنس ذلك طاهر ، لان الأصل في هذه كلها الطهارة ، ولا دليل على النجاسة.
فأقول : بلى ، قد قام الدليل على نجاسة جلد الميتة في أحاديث كثير معروفة كقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" ، رواه مسلم وغيره مخرجة في "غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام" (25-29).(1/22)
وفي "نيل الأوطار" ( 1 / 53 - 54 ) وغيره ، فلا أدري لم أعرض المؤلف عنها ؟ ! ومن الغريب حقا أنه ذكر في الباب
حديث ابن عباس في قصة شاة مولاة ميمونة ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟".
وهو صريح في أن الانتفاع به لا يكون إلا بعد الدبغ .
ولعله منعه من الاحتجاج به قوله : " وليس في البخاري والنسائي ذكر الدباغ ".
وهذا ليس بشئ عند أهل العلم ، لأن الحكم للزائد ، ولا سيما إذا كان له شواهد كما سبق ، ولهذا قال الحافظ في شرح حديث البخاري ( 9 / 658 ) : واستدل به الزهري بجواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقا ، سواء دبغ أم لم يدبغ ، لكن صح التقييد من طرق أخرى بالدباغ ".
ثم رأيت المؤلف قد رجع إلى الصواب في آخر هذا الباب عند عنوان : "تطهير جلد الميتة " ، واحتج بحديث مسلم المتقدم ، ولكنه قال : "رواه الشيخان" ، فوهم!(1/23)
قال الزهري : في عظام الموتى نحو الفيل وغيره : أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها ، لا يرون به بأسا ، رواه البخاري ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت ، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( وهلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعم به ؟ . فقالوا : إنها ميتة ، فقال : (إنما حرم أكلها) رواه الجماعة إلا أن ابن ماجة قال فيه : عن ميمونة ، وليس في البخاري ولا النسائي ذكر الدباغ ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية : (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) إلى آخر الآية ، وقال : إنما حرم ما يؤكل منها وهو اللحم ، فأما الجلد والقد والسن والعظم والشعر والصوف فهو حلال) ، رواه ابن المنذر وابن حاتم . وكذلك أنفحة الميتة ولبنها طاهر ، لان الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا من جبن المجوس ، وهو يعمل بالانفحة ، مع أن ذبائحهم تعتبر كالميتة ، وقد ثبت عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه سئل عن شئ من الجبن والسمن والفراء ، فقال : الحلال ما أحله الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه . ومن المعلوم أن السؤال كان عن جبن المجوس ، حينما كان سلمان ائب عمر بن الخطاب على المدائن .
( 2 ) الدم :-(1/24)
سواء كان دما مسفوحا - أي مصبوبا - كالدم الذي يجري من المذبوح ، أم دم حيض ، إلا أنه يعفى عن اليسير منه ، فعن ابن جريج في قوله تعالى : (أو دما مسفوحا) قال : المسفوح الذي يهراق . ولا بأس بما كان في العروق منها ، أخرجه ابن المنذر ، وعن أبي مجلز في الدم ، يكون في مذبح الشاة أو الدم يكون في أعلى القدر ؟ قال : لا بأس ، إنما نهى عن الدم المسفوح ، أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القدر ، وقال الحسن : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ، ذكره البخاري .
في هذا الفصل أمور لم يحقق المؤلف القول فيها لا من الناحية الحديثية ولا من الناحية الفقهية .
1 - أما الناحية الحديثية ففيها ما يأتي : الأول : قوله في أثر الحسن : ذكر . البخاري ، فأوهم أنه موصول عنده .
لأنه المقصود اصطلاحا عند إطلاق العزو إليه ، وهو إنما رواه معلقا بغير إسناد ، وقد وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح كما في الفتح (1/281).
وقد صح أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه ينعب دما ، قاله الحافظ في الفتح : وكان أبو هريرة رضي الله عنه لا يرى بأسا بالقطرة والقطرتين في الصلاة .
سكت عليه فأوهم أنه ثابت عنه ، وليس كذلك ، فقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/137-138).
حدثنا شريك عن عمران بن مسلم عن مجاهد عن أبي هريرة.
قلت : وهذا إسناد ضعيف لا يصح : شريك - وهو ابن عبد الله القاضي - ضعيف لسوء حفظه ، وشيخه عمران بن مسلم ، يحتمل أنه الفزاري الكوفي فقد ذكروا في الرواة عنه شريكا ، ولكنهم لم يذكروا في شيوخه مجاهدا ! والآخر : الأزدي الكوفي ، فقد ذكروا من شيوخه مجاهدا ، ولكنهم لم يذكروا في الرواة عنه شريكا ! فإن يكن الأول فهو ثقة . دان يكن الآخر فرافضي خبيث.
والله أعلم . ثم هو مع ضعفه مخالف لما صح عن أبي هريرة قال : لا وضوء إلا من حدث.(1/25)
رواه البخاري معلقا ووصله إسماعيل القاضي بإسناد صحيح كما قال الحافظ وقد جاء مرفوعا بلفظ : " إلا من صوت أو ريح " ، وهو مخرج في "المشكاة " (310/ التحقيق الثاني) ، و " الإرواء" (1/ 145 و 153) ، و "صحيح أبي داود" ( 196) ، ورواه مسلم بنحوه . ومخالف أيضا لحديث الأنصاري الذي قام يصتي في الليل ، فرماه المشرك بسهم ، فوضه فيه ، فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ومضى في صلاته وهو يموج دما.
كما علقه البخاري ووصله أحمد وغيره ، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (193) ، وهو في حكم المرفوع لأنه . يستبعد عادة أن لا يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فلو كان الدم الكثير ناقضا لبينه صلى الله عليه وسلم ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو معلوم من علم الأصول . وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم خفي ذلك عليه ، فما هو بخاف على الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، فلو كان ناقضا أو نجسا لأوحى بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو ظاهر لا يخفى على أحد . وإلى هذا ذهب البخاري كما دل عليه تعليقه بعفر الآثار المتقدمة ، واستظهره في " الفتح " وهو مذهب ابن حزم (1/255-).
2 - وأما من الناحية الفقهية ، ففيها : أولا : التسوية بين دم الحيض وغيره من الدماء كدم الإنسان ودم مأكول اللحم من الحيوان ، وهذا خطأ بيق وذلك لأمرين اثنين :-
1 - أنه لا دليل على ذلك من السنة بله الكتاب ، والأصل براءة الذمة إلا نص.
2 - أنه مخالف لما ثبت في السنة ، أما بخصوص دم الإنسان المسلم فلحديث الأنصاري الذي صلى وهو يموج دما ، وقد مضى قريبا.
وأما دم الحيوان فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه نحر جزورا ، فتلطخ بدمها وفرثها ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يتوضأ .(1/26)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1/125) ، وابن أبي شيبة (1/392) ، والطبراني في " المعجم الكبير " ( 9 / 28 4) بسند صحيح عنه ، ورواه البغوي في " الجعديات " (2/887 /2503).
وروى عقبه عن أبي موسى الأشعري : " ما أبالي لو نحرت جزورا فتلطخت بفرث ودمها ثم صليت ولم أمس ماء " ، وسنده ضعيف .
ثانيا : تفريقه بين الدم القليل والكثير ، وهذا وإن كان مسبوقا إليه من بعض الأئمة ، فإنه مما لا دليل عليه من السنة ، بل حديث الأنصاري يبطله كما هو ظاهر .
ولم يستدل المؤلف على هذا التفريق بغير أثر أبي هريرة المتقدم ، وقد عرفت ضعفه ، وإن / ضعفه ، وإن روي مرفوعا ففي إسناده متروك كما في " نيل الأوطار " ، وقد خرجته في " الضعيفة " ( 4386 ) ، وقد أجاد الرد على هذا التفريق ابن حزم رحمه الله في آخر الجزء الأول من " المحلى لا فليراجعه من شاء ، وكذا القرطبي وابن العربي في تفسيريهما ، فانظر إن شئت " الجامع لأحكام القرآن " ( 8 / 263 ) . ومن عجيب أمر المؤلف أنه سوى هنا في النجاسة بين الدماء ولم يستمن منها دماء الحيوانات المأكولة اللحم ، وفرق فيما يأتي بين بول الأدمي النجس وبول ما يؤكل لحمه من الحيوانات ، فحكم بطهارته تمسكا بالأصل ، واستصحابا للبراءة الأصلية ، فهلا تمسك بذلك هنا أيضا ، لأن الدليل واحد هنا وهناك ؟ !
وأما دم البراغيث وما يتشرح من الدمامل فإنه يعفى عنه لهذه الآثار وسئل أبو مجلز عن القيح يصيب البدن والثوب ؟ فقال : ليس بشئ ، وإنما ذكر الله الدم ولم يذكر القيح . وقال ابن تيمية : ويجب غسل الثوب من المدة والقيح . والصديد ، قال : ولم يقم دليل على نجاسته ، والأولى أن يتقيه الإنسان بقدر الامكان.
3 ) لحم الخنزير :-(1/27)
قال الله تعالى : (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس) : أي فإن ذلك كله خبيث تعافه الطباع السليمة ، فالضمير راجع إلى الأنواع الثلاثة ، ويجوز الحرز بشعر الخنزير في أظهر قولي العلماء.
4 ، 5 ، 6 ) قئ الأدمي وبوله ورجيعه :-
ونجاسة هذه الأشياء متفق عليها ، إلا أنه يعفى عن يسير القئ.
قلت : لم يذكر المؤلف الدليل على ذلك ، اللهم إلا قوله : إنه (متفق على نجاسته) ، وهذه دعوى منقوضة ، فقد خالف في ذلك ابن حزم ، حيث صرح بطهارة قئ المسلم ، راجع "المحلى" (1/183) ، وهو مذهب الإمام الشوكاني في الدرر البهية ، وصديق خان في شرحها (1/18-20) ، حيث لم يذكرا في (النجاسات) قئ الآدمي مطلقا ، وهو الحق ، ثم ذكرا أن في نجاسته خلافا ، ورجحا الطهارة بقولهما : "والأصل الطهارة ، فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح ، لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه" .
وذكر نحو الشوكاني أيضا في السيل الجرار (1/43).
وهذا الأصل قد اعتمده المؤلف في غير ما مسألة ، مثل طهارة ابوال ما يؤكل لحمه ، وطهارة الخمر فيما ذكر هو بعد ، وهو أصل عظيم من أصول الفقه ، فلا أدري ما الذي حمله على تركه هنا ، مع أنه ليس في الباب ما يعارضه من النصوص الخاصة ؟ وأما قوله : "ويعفى عن يسير القئ" ، فمجرد دعوى لا دليل عليها ، ولو رجع إلى الأصل المذكور لاستراح ولم يحتج إليها.(1/28)
ويخفف في بول الصبي الذي لم يأكل الطعام فيكتفي في تطهيره بالرش لحديث أم قيس رضي الله عنها ( أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام ، وأن ابنها ذاك بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلا) متفق عليه ، وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بول الغلام ينضح عليه ، وبول الجارية يغسل) قال قتادة : وهذا ما لم يطعما فإن طعما غسل بولهما ، ورواه أحمد - وهذا لفظه - وأصحاب السنن إلا النسائي . قال الحافظ في الفتح : وإسناده صحيح ، ثم أن النضح إنما يجزئ مادام الصبي يقتصر على الرضاع . أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف . ولعل سبب الرخصة في الاكتفاء بنضحه ولوع الناس بحمله المفضي إلى كثرة بوله عليهم ، ومشقة غسل ثيابهم ، فخفف فيه ذلك .
( 7 ) الودي :-
وهو ماء أبيض ثخين يخرج بعد البول وهو نجس من غير خلاف . قالت عائشة : وأما الودي فإنه يكون بعد البول فيغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ ولا يغتسل ، ورواه ابن المنذر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المني والودي والمذي ، أما المني ففيه الغسل ، وأما المذي والودي فيهما إسباغ الطهور رواه الاثرم والبيهقي ولفظه : (وأما الودي والمذي فقال : اغسل ذكرك أو مذاكيرك وتوضأ وضوءك في الصلاة) .
( 8 ) المذي :-(1/29)
وهو ماء أبيض لزج يخرج عند التفكير في الجماع أو عند الملاعبة ، وقد لا يشعر الإنسان بخروجه ، ويكون من الرجل والمرأة إلا أنه من المرأة أكثر ، وهو نجس باتفاق العلماء ، إلا أنه إذا أصاب البدن وجب غسله وإذا أصاب الثوب اكتفي فيه بالرش بالماء ، لان هذه نجاسة يشق الاحتراز عنها ، لكثرة ما يصيب ثياب الشاب العزاب ، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام . وعن علي رضي الله عنه قال : (كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، لمكان ابنته فسأل ، فقال : توضأ واغسل ذكرك) رواه البخاري وغيره ، وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : (كنت ألقى من المذي شدة وعناء ، وكنت أكثر منه الاغتسال ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (إنما يجزيك من ذلك الوضوء فقلت يا رسول الله ، كيف بما يصيب ثوبي منه ؟ قال ( يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به ثوبك حيث أنه قد أصاب منه) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي الحديث محمد بن إسحاق ، وهو ضعيف إذا عنعن ، لكونه مدلسا ، لكنه هنا صرح بالتحديث . ورواه الاثرم رضي الله عنه بلفظ : (كنت ألقى من المذي عناء فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك . فقال : يجزئك أن تأخذ حفنة من ماء فترش عليه).
( 9 ) المني :-
ذهب بعض العلماء إلى القول بنجاسته والظاهر أنه طاهر ، ولكن يستحب غسله إذا كان رطبا ، وفركه إن كان يابسا قالت عائشة رضي الله عنها : (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا) رواه الدار قطني وأبو عوانة والبزار وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب ؟ فقال : إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة رواه الدار قطني والبيهقي والطحاوي ، والحديث قد اختلف في رفعه ووقفه .
( 10 ) بول وروث ما لا يؤكل لحمه :-(1/30)
وهما نجسان ، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين ، والتمست الثالث فلم أجده ، فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال : (هذا رجس) رواه البخاري وابن ماجة وابن خزيمة ، وزاد في رواية (إنها ركس إنها روثة حمار) ويعفى عن اليسير منه ، لمشقة الاحتراز عنه . قال الوليد بن مسلم : قلت للاوزاعي : فأبوال الدواب مما لا يؤكل لحمه كالبغل ، والحمار والفرس ؟ فقال : قد كانوا يبتلون بذلك في مغازيهم فلا يغسلونه من جسد أو ثوب . وأما بول وروث ما يؤكل لحمه ، فقد ذهب إلى القول بطهارته مالك وأحمد وجماعة من الشافعية . قال ابن تيمية : لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته ، بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة . انتهى . قال أنس رضي الله عنه : (قدم أناس من عكل أو عريته فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها) رواه أحمد والشيخان دل هذا الحديث على طهارة بول الإبل . وغيرها من مأكول اللحم يقاس عليه . قال ابن المنذر : ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام لم يصب ، إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل قال : وفي ترك أهل العلم بيع بعار الغنم في أسواقهم ، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير ، دليل على طهارتها . وقال الشوكاني : الظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان يؤكل لحمه ، تمسكا بالأصل ، واستصحابا للبراءة الأصلية ، والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة ، فلا يقبل قول مدعيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما ، ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلا لذلك.
( 11 ) الجلالة :-(1/31)
ورد النهي عن ركوب الجلالة وأكل لحمها وشرب لبنها . فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة) رواه الخمسة إلا ابن ماجة ، وصححه الترمذي وفي رواية : (منهي عن ركوب الجلالة) رواه أبو داود . وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وعن الجلالة : عن ركوبها وأكل لحومها ، رواه أحمد والنسائي وأبو داود . والجلالة : هي التي تأكل العذرة ، من الإبل والبقر والغنم والدجاج والاوز وغيرها ، حتى يتغير ريحها . فإن حبست بعيدة عن العذرة زمنا ، وعفلت طاهرا فطاب لحمها وذهب اسم الجلالة عنها حلت ، لان علة النهي والتغيير ، وقد زالت.
( 12 ) الخمر :-
وهي نجسة عند جمهور العلماء ، لقول الله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) وذهبت طائفة إلى القول بطهارتها.
قلت : يحسن أن أذكر هنا أسماء بعض الأئمة الذين اختاروا هذا القول مع شئ يسير من تراجمهم ، حتى لا يظن بهم أحد أن لا شأن لهم في العلم ، ولا قدم راسخة لهم في الفقه ، بينما لهم في ذلك القدح المعلى :
1 - ربيعه بن أبي عبد الرحمن المعروف ب "ربيعة الرأي" ، قال في التهذيب : " أدرك بعض الصحابة والأكابر من التابعين ، وكان صاحب الفتوى بالمدينة ، وكان يجلس إليه وجوه الناس بالمدينة ، وكان يحضر في مجلسه أربعون معتما ، وعنه أخذ مالك" .
2 - الليث بن سعد المصري الفقيه ، إمام مشهور ، اعترف بفضله كبار الأئمة ، منهم الإمام مالك في رسالة كتبها إليه ، بل قال الإمام الشافعي : "الليث أفقه من مالك ، إلا أن أصحابه لم يقوموا به" .
وقال ابن بكير : " الليث أفقه من مالك ، ولكن كانت الحظوة لمالك " .
3 - إسماعيل بن يحيى المزني صاحب الإمام الشافعي ، وهو إمام مجتهد منسوب إلى الشافعي ، كما قال النووي في المجموع (1/72).(1/32)
وغير هؤلاء كثيرون من المتأخرين من البغداديين والقرويين ، رأوا جميعأ أن الخمر طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها كما في تفسير القرطبي (6 /88) ، وهو الراجح ، وللأصل المشار إليه آنفا ، وعدم الدليل المعارض .
وحملوا الرجس في الآية على الرجس المعنوي ، لان لفظ (رجس) خبر عن الحمر ، وما عطف عليها ، وهو لا يوصف بالنجاسة الحسية قطعا ، قال تعالى : (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) فالأوثان رجس معنوي ، لا تنجس من مسها : ولتفسيره في الآية بأنه من عمل الشيطان ، يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وفي سبل السلام : (والحق أن الأصل في الأعيان الطهارة ، وأن التحريم لا يلازم النجاسة ، فإن الحشيشة محرمة وهي طاهرة ، وأما النجاسة فيلازمها التحريم ، فكل نجس محرم ولا عكس ، وذلك لان الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال ، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها ، بخلاف الحكم بالتحريم ، فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورة وإجماعا) إذا عرفت هذا فتحريم الخمر والخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاسهما ، بل لابد من دليل آخر عليه ، وإلا بقيا على الأصول المتفق عليها من الطهارة ، فمن ادعى خلافه فالدليل عليه .
( 13 ) الكلب :-
وهو نجس ويجب غسل ما ولغ فيه سبع مرات ، أولاهن بالتراب ، حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والبيهقي : ولو ولغ في إناء فيه طعام جامد ألقي ما أصابه وما حوله ، وانتفع بالباقي على طهارته السابقة . أما شعر الكلب فالأظهر أنه طاهر ، ولم تثبت نجاسته.
تطهير النجاسات
تطهير البدن والثوب:-(1/33)
الثوب والبدن إذا أصابتهما نجاسة يجب غسلهما بالماء حتى تزول عنهما إن كانت مرئية كالدم ، فإن بقي بعد الغسل أثر يشق زواله فهو معفو عنه ، فإن لم تكن مرئية كالبول فإنه يكتفى بغسله ولو مرة واحدة ، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : (إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به ؟ فقال : تحته ثم تقرضه بالماء ، ثم تنضحه ثم تصلي فيه) متفق عليه ، وإذا أصابت النجاسة ذيل ثوب المرأة تطهره الأرض ، لما روي ، أن امرأة قالت لام سلمة رضي الله عنهما : (إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ؟ فقالت لها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يطهره ما بعده) رواه أحمد وأبو داود.
تطهير الأرض :-
تطهر الأرض إذا أصابتها نجاسة بصب الماء عليها ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام أعرابي فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه الجماعة إلا مسلما . وتطهر أيضا بالجفاف هي وما يتصل بها اتصال قرار ، كالشجر والبناء . قال أبو قلابة : جفاف الأرض طهورها ، وقالت عائشة رضي الله عنها : (زكاة الأرض يبسها) رواه ابن أبي شيبة . هذا إذا كانت النجاسة مائعة ، أما إذا كان لها جرم فلا تطهر إلا بزوال عينها أو بتحولها.
تطهير السمن ونحوه :-(1/34)
عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عن فأرة سقطت في سمن فقال : ألقوها ، وما حولها فاطرحوه وكلوا سمنكم) رواه البخاري . قال الحافظ : نقل ابن عبد البر الاتفاق على أن الجامد إذا وقعت فيه ميتة طرحت وما حولها منه ، إذا تحقق أن شيئا من أجزائها لم يصل إلى غير ذلك منه ، وأما المائع فاختلفوا فيه فذهب الجمهور إلى أنه ينجس كله بملاقاته النجاسة ، وخالف فريق منهم الزهري و الاوزاعي ، مذهبهما أن حكم المائع مثل حكم الماء ، في أنه لا ينجس إلا إذا تغير بالنجاسة ، فان لم يتغير فهو طاهر ، وهو مذهب ابن عباس وابن مسعود والبخاري ، وهو الصحيح.
تطهير جلد الميتة :-
يطهر جلد الميتة ظاهرا وباطنا بالدباغ ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) رواه الشيخان .
تطهير المرآة والسكبن والسيف والظفر والعظم والزجاج والآنية وكل صقيل لا مسام له :-
بالمسح الذي يزول به أثر النجاسة ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يصلون وهم حاملو سيوفهم وقد أصابها الدم ، فكانوا يمسحونها ويجتزئون بذلك .
تطهير النعل :-
يطهر النعل المتنجس والخف بالدلك بالأرض إذا ذهب أثر النجاسة ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور) رواه أبو داود . وفي رواية . (إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب) وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما ، فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما) رواه أحمد وأبو داود ، ولأنه محل تتكرر ملاقاته للنجاسة غالبا ، فأجزأ مسحه بالجامد كمحل الاستنجاء بل هو أولى ، فإن محل الاستنجاء يلاقي النجاسة مرتين أو ثلاثا.
فوائد تكثر الحاجة إليها(1/35)
1 - حبل الغسيل ينشر عليه الثوب النجس ثم تجففه الشمس أو الريح ، لا بأس بنشر الثوب الطاهر عليه بعد ذلك.
2 - لو سقط شئ على المرء لا يدري هل هو ماء أو بول لا يجب عليه أن يسأل ، فلو سأل لم يجب على المسئول أن يجيبه ولو علم أنه نجس ، ولا يجب عليه غسل ذلك.
3 - إذا أصاب الرجل أو الذيل بالليل شئ رطب . لا يعلم ما هو ، لا يجب عليه أن يشمه ويتعرف ما هو ، لما روى : أن عمر رضي الله عنه مر يوما ، فسقط عليه شئ من ميزاب ، ومعه صاحب له فقال : يا صحب الميزاب ماؤك طاهرا أو نجس فقال عمر : يا صاحب الميزاب لا تخبرنا ، ومضى.
4 - لا يجب غسل ما أصابه طين الشوارع . قال كميل بن زياد . رأيت عليا رضي الله عنه يخوض طين المطر ، ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه.
5 - إذا انصرف الرجل من صلاة رأى على ثوبه أو بدنه نجاسة لم يكن عالما بها ، أو كان يعلمها ولكنه نسيها أو لم ينسها ولكنه عجز عن إزالتها فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه ، لقوله تعالى . (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) . وهذا ما أفتى به كثير من الصحابة والتابعين.
قلت : والدليل على هذا القدر المذكور من كلامه حديث أبي سعيد الخدري قال : " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ، قال : ما حملكم على إلقائكم نعالكم ؟ قالوا : رأيناك ألقيت نعليك ، فالقينا نعالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا ، وقال : إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما " . رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح ، وهو مخرج في "الإرواء" (284) ، وقد ذكره المؤلف قبيل هذا الفصل ساكتا عليه!(1/36)
6 - من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله ، لأنه لا سبيل إلى العلم بتيقن الطهارة إلا بغسله جميعه ، فهو من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
قضاء الحاجة
لقاضي الحاجة آداب تتلخص فيما يلي :-
1 - أن لا يستصحب ما فيه اسم الله إلا إن خيف عليه . الضياع أو كان حرزا ، لحديث أنس رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما نقشه محمد رسول الله ، فكان إذا دخل الخلاء وضعه) رواه الأربعة . قال الحافظ في الحديث إنه معلول ، وقال أبو داود : إنه منكر ، والجزء الأول من الحديث صحيح.
2 - البعد والأستار عن الناس لا سيما عند الغائط ، لئلا يسمع له صوت أو تشم له رائحة ، لحديث جابر رضي الله عنه قال : (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى) رواه ابن ماجة ، ولأبي داود (كان إذا أرك البراز انطلق حتى لا يراه أحد) وله : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد).
3 - الجهر بالتسمية والاستعاذة عند الدخول في البنيان وعند تشمير الثياب في الفضاء . لحديث أنس رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدخل الخلاء قال : (بسم الله ، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) رواه الجماعة.
قلت : وهم المؤلف حفظه الله في عزو الحديث بهذا السياق للجماعة ، إذ ليس عندهم ولا عند أحد منهم : "بسم الله" ، وقد ساق الحديث مجد الدين ابن تيمية في المنتقى برواية الجماعة بلفظ : " كان إذا دخل الخلاء قال : أللهم . . " ، ثم قال : " ولسعيد بن منصور في سننه : "كان يقول : بسم الله ، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".
فكأن مؤلف نقل الحديث من المنتقى ، وفي أثناء النقل لرواية الجماعة منه انتقل بصره إلى لفظة البسملة في رواية سعيد فيه ، فكتبها في روايتهم ، وليست منها ! ورواية الجماعة مخرجة في الإرواء ( رقم 51 ) ، و صحيح أبى داود (3) ، وغيرهما.(1/37)
وثمة وهم آخر ، فإن المؤلف كأنه تسامح في رواية الحديث بالمعنى ، فانه قال : كان إذا أراد أن يدخل . . . " ، فزاد لفظ : "أراد" من عنده ، وليس يحسن ذلك رواية.
وأما رواية سعيد بزيادة البسملة ، فقد أخرجها ابن أبي شيبة أيضا في المصنف (1/1) من طريق أبي معشر نجيح عن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس نحوه .
وكذا رواه ابن أبي حاتم في العلل (1/64).
وأبو معشر ضعيف ، فلا تقبل منه هذه الزيادة .
ويظهر لي أن الحافظ ابن حجر لم يقف على هذه الزيادة ، فقد قال في "الفتح" : " وقد روى المعمرى هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب - يعني عن أنس - بلفظ الأمر قال : "إذا دخلتم الخلاء فقولوا : بسم الله ، أعوذ بالله من الخبث والخبائث".
وإسناده على شرط مسلم ، وفيه زيادة التسمية ، ولم أرها في غير هذه الرواية " . قلت : ويرى عندي شاذة لمخالفتها لكل طريق الحديث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس في "الصحيحين" وغيرهما ممن سبقت الإشارة إليهم . وقد رويت في حديث آخر عن أنس من طريق قتادة عنه بلفظ : "هذه الحشوش محتضرة ، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل : بسم الله" . لكنه ضعيف بهذا السياق ، اضطرب فيه بعض الرواة في سنده ومتنه ، والصواب أنه من مسند زيد بن أرقم مرفوعا بلفظ : "إن هذه الحشوش محتضرة ، فإذا أتى أحدكم الخلاء ، فليقل : أعوذ بالله من الخبث والخبائث".
وإسناده صحيح على طريق البخاري كما بينته في "صحيح سنن أبي داود" برقم (4)
وبالجملة ، فذكر البسملة في هذا الحديث من طريقين عن أنس شاذ أو منكر.
لكن قد جاء ما يدل على مشروعية التسميه عند دخول الخلاء ، وهو حديث علي رضي الله عنه مرفوعا بلفظ : "ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول : "بسم الله".(1/38)
أخرجه الترمذي (2/504– طبعة أحمد شاكر ، وابن ماجه (1/127- 128) ، وضعفه الترمذي ، لكن مال مغلطاي إلى صحته ، كما قال المناوي ، وله شاهد من حديث أنس عند الطبراني من طريقين عنه ، فالحديث حسن على أقل الدرجات ، ثم خرجت الحديث وتكلمت على طرقه ، وبينت ما لها وما عليها في "الإرواء" (50) ، فليراجعه من شاء . ثم اعلم أنه ليس في شئ من هذه الأحاديث أو غيرها الجهر الذي ذكره المؤلف حفظه الله ، فاقتضى التنبيه.
4 - أن يكف عن الكلام مطلقا ، سواء كان ذكرا أو غيره ، فلا يرد سلاما ولا يجيب مؤذنا إلا لما لا بد منه ، كإرشاد أعمى يخشى عليه من التردي ، فإن عطس أثناء ذلك حمد الله في نفسه ولا يحرك به لسانه ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه) رواه الجماعة إلا البخاري ، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحديث بظاهره يقيد حرمة الكلام ، إلا أن الإجماع صرف النهي عن التحريم إلى الكراهة.
قلت : الحديث ضعيف لا يصح إسناده ، وله علتان :
الأولى : أنه من رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن عياض عنه ، وقد طعن العلماء في رواية عكرمة عن يحيى خاصة ، فقال أبو داود : " في حديثه عن يحمص بن أبي كثير أضطراب " .
وقال الحافظ في "التقريب" : "صدوق يغلط ، وفي روايته عن يحيى اضطراب ، ولم يكن له كتاب" .
قلت : ومن اضطرابه في هذا الحديث أنه مرة رواه عن يحص عن هلال ، ومرة أخرى قال : عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة
عن أبي هريرة . وكأنه لهذا قال المنذري في "الترغيب" بعد أن ذكره من حديث أبي هريرة برواية الطبراني : "إسناده لين".(1/39)
الثانية : أن هلال بن عياض ، قال المنذري : "هو في عداد المجهولين" . وقال الذهبي : "لا يعرف" . وقال الحافظ في "التقريب" : "مجهول".
ولذلك أوردت الحديث في كتابي "ضعيف سنن أبي داود" (رقم 3) ، وقد تكلمت عليه فيه بتفصيل.
ولم يتنبه الشوكاني في "السيل" (1/68) للعلة الأولى ، وأجاب عن الأخرى بأن هلالا ذكره ابن حبان في الثقات ، وكأنه لم يستحضر كلام الحافظ وغيره في تساهل ابن حبان في التوثيق ، ولا تجهيل من ذكرنا لهلال هذا ، ويقال : عياض بن هلال .
وهكذا أورده ابن حبان في الثقات (5/265) ، ولم يذكر له راويا غير يحمى بن أبي كثير ! فإذا ثبت ضعف الحديث ، فلا يجوز إثبات الحكم به ، بل ولا إيراده إلا مع بيان ضعفه ، على أن الذي أفهمه من الحديث النهي عن التحدث مع الآخر حالة كشفهما عن عورتيهما ، وأما الحديث بدون كشف فما أرى الحديث يدل على النهي عنه لو صح ، فليتأمل.
5 - أن يعظم القبلة فلا يستقبلها ولا يستدبرها ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها) رواه أحمد ومسلم ، وهذا النهي محمول على الكراهة ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : (رقيت يوما بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) رواه الجماعة ، أو يقال في الجمع بينهما : أن التحريم في الصحراء والإباحة في البنيان وهذا الوجه أصح من سابقه ، فعن مروان الأصغر قال : رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة يبول إليها ، فقلت : أبا عبد الرحمن . . . أليس قد نهي عن ذلك ؟ قال : بلى . . . إنما نهي عن هذا في الفضاء . فإذا كان بينك وبين القبلة شئ يسترك فلا بأس) رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم ، وإسناده حسن ، كما في الفتح.(1/40)
فأقول : هو كذلك ، لولا أنه لم يظهر في فعله صلى الله عليه وآله المخالف لقوله أنه فعل ذلك تشريعا للناس ، كيف وهو أمر لا يمكن الإطلاع عليه عادة كما لا يخفى؟ ! فالصواب القول بالتحريم مطلقا في الصحراء والبنيان ، وهذا الذي انتهى إليه الشوكاني في نيل الأوطار ، و السيل الجرار (1/69) ، قال فيه : "وحقيقة النهي التحريم ، ولا يصرف ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، فقد عرفناك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ، إلى أن يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك ، وإلا كان فعله خاصا به . وهذه المسألة مقررة في الأصول ، محررة أبلغ تحرير ، وذلك هو الحق كما لا يخفى على منصف.
ولو قدرنا أن مثل هذا الفعل قد قام ما يدل على التأسي به فيه لكان خاصا بالعمران ، فإنه رآه وهو في بيت حفصة كذلك بين لبنتين.
قلت : ويعني أنه لم يقم الدليل المشار إليه ، فبقي الحكم على عمومه ، والفعل خاص به صلى الله عليه وآله.
وأما قول ابن عمر في حديث مروان الأصفر الذي ذكره المؤلف عقب الحديث السابق : " إنما نهى عن هذا في الفضاء . . ." ، فليس صريحا في الرفع ، بل يمكن أن يكون ذلك فهما منه لفعله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة ، فلا ينهض دليلا للتخصيص بالصحراء كما بينه الشوكاني ، فليراجعه من شاء (1/73).
وإن مما يؤيد العموم الأحاديث التي وردت في النهي عن البصق تجاه القبلة في المسجد وخارجه ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفلته بين عينيه" وهو مخرج في الصحيحة (222 و 223) ، وقد جزم النووي بالمنع في كل حالة ، داخل الصلاة وخارجها ، وفي المسجد أو غيره ، كما نقلته عنه هناك ، وبه قال الصنعاني
فإذا كان البصق تجاه القبلة في البنيان منهيا عنه محرما ، أفلا يكون البول والغائط تجاهها محرما من باب أولى؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار!(1/41)
6 - أن يطلب مكانا لينا منخفضا ليحترز فيه من إصابة النجاسة ، لحديث أبي موسى رضي الله عنه قال : (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان دمث إلى جنب حائط فبال . وقال : إذا بال أحدكم فليرتد لبوله) رواه أحمد وأبو داود والحديث وإن كان فيه مجهول ، إلا أن معناه صحيح.
7 - أن يتقي الجحر لئلا يكون فيه شئ يؤذيه من الهوام ، لحديث قتادة عن عبد الله بن سرجس قال : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الجحر ، قالوا لقتادة : ما يكره من البول في الجحر ؟ قال : إنها مساكن الجن) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم والبيهقي ، وصححه ابن خزيمة وابن السكن.
قلت : الحديث ضعيف ، وتصحيح من صححه تساهل أو خطأ منهم ، فإن له علة تمنع الحكم عليه بالصحة ، وهي عنعنة قتادة ، فإنه مدلس ، فقد أورده في المدلسين الحافظ برهان الدين الحلبي في التبيين لأسماء المدلسين ، وقال : إنه مشهور بالتدليس ، وكذلك قال الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين ، وزاد : وصفه به النسائي وغيره . وأورده الحافظ في المرتبة الثالثة ، وهى التي خصها كما قال في المقدمة : ب "من أكثر من التدليس ، فلم يحتج به الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع ، ومنهم من رد حديثهم مطلقا ، ومنهم من قبلهم" .
هذا يقال فيما لوثبت سماع قتادة من ابن سرجس في الجملة ، وقد أثبته علي ابن المديني ، ونفاه غيره ، فقال الحاكم في معرفة علوم الحديث (ص111) : "فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة . . . وأن قتادة لم يسمع من
صحابي غير أنس" .(1/42)
فالحديث عنده منقطع ، ومع ذلك فقد أورده في المستدرك ، وصححه ، فكأنه ذهل عن علة الحديث ، ولهذا ضعف ابن التركماني الحديث ، فقال في الجوهر النقي : قلت : روى ابن أبي حاتم عن حرب بن إسماعيل عن ابن حنبل قال : ما أعلم قتادة روى عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عن أنس ، قيل له : فابن سرجس ؟ فكأنه لم يره سماعا".
8 - أن يتجنب ظل الناس وطريقهم ومتحدثهم ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اتقوا اللاعنين قالوا : وما اللاعنان يا رسول الله ؟ قال : الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلتهم) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
9 - أن لا يبول في مستحمه ، ولا في الماء الراد أو الجاري ، لحديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه ، فإن عامة الوسواس منه) رواه الخمسة ، لكن قوله (ثم يتوضأ فيه) لأحمد وأبي داود فقط ، وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة ، وعنه رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري) ، قال في مجمع الزوائد : رواه الطبراني ورجاله ثقات فإن كان في المغتسل نحو بالوعة فلا يكره البول فيه.
قوله حديث عبد الله بن معقل ( كذا ، والصواب منفل) أن النبي صلى الله عليه وسلم لا قال : لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه ، فان عامة الوسواس منه رواه الخمسة "(1/43)
قلت : القول في هذا الحديث كالقول في الذي قبله ، فإن مدار هذا عند جميع مخرجيه على الحسن البصري عن عبد الله بن مغفل ، والحسن البصري على جلالة قدره فإنه من المشهورين بالتدليس كما قال برهان الدين الحلبي ، وقال الحافظ في التقريب : كان يرسل كثيرا ويدلس لما ، وقال الذهبي : كان كثير التدليس ، فإذا قال في حديث : عن فلان ، ضعف احتجاجه ، ولا سيما بمن قيل : إنه لم يسمع منهم ، كأبي هريرة وغيره " . وقد أشار الترمذي إلى ضعف الحديث ، فقال بعد أن خرجه : " حديث غريب "ولذلك أوردته في " ضعيف أبي داود" (رقم7).
لكن في الباب حديث آخر بلفظ : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم ، أو يبول في مغتسله".
أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح ، صححه جمع كالعسقلاني وغيره ، وهو مخرج في صحيح أبي داود (21) ، فلو أن المؤلف احتج به لأصاب ! ثم ذكر في آداب قضاء الحاجة : "أن لا يبول في الماء الراكد أو الجاري".
قلت : أما الماء الراكد ، فنعم ، لأن الحديث الوارد فيه صحيح ، أخرجه مسلم وغيره كما في الكتاب ، من حديث جابر . وله شاهد أقوى منه من حديث أبي هريرة ، رواه الشيخان ، وهو مخرج في صحيح أبي داود (رقم61و62).
أما الماء الجاري فلا ، لأن الحديث أورده عقب حديث جابر قائلا : " وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري . قال في مجمع الزوائد : رواه الطبراني ورجاله ثقات.
كذا قال ، وفيه من لا يعرف ، وآخر متهم ، وعنعنة أبي الزبير ، وقد رواه الليث عنه بلفظ : "الدائم" ، رواه مسلم وغيره كما تقدم ، ورواية الليث عنه صحيحة ، لأنه لا يروي عنه إلا ما صرح له بالسماع كما هو معروف ، فهذا هو المحفوظ في حديث جابر.
وأما لفظ : "الجاري" ، فهو منكر ، وقد بوب أبو عوانة لحديث الليث بقوله : "بيان حظر البول في الماء الراكد ، والدليل على إباحة البول في الماء الجاري".(1/44)
فسقط بهذا البيان إلحاق المؤلف الماء الجاري بالماء الراكد ، وحديثه الذي استدل به ، قد بسطت الكلام على نكارته في الضعيفة ، برقم (5227).
( تنبيه ) : ثم إنه فبما عزاه المؤلف ل مجمع الزوائد أنه رواه الطبراني ، اختصارا مخلا ، لأن من المصطلح عند العلماء أن إطلاق العزو للطبراني يعني أنه رواه في المعجم الكبير ، فإذا أرادوا غيره قيدوا العزو ، وهذا ما فعله الهيثمي في المجمع (1/204) ، فإنه قال : رواه الطبراني في الأوسط . . .". وكذلك قال المنذري في الترغيب.
10 - أن لا يبول قائما ، لمنافاته الوقار ومحاسن العادات ولأنه قد يتطاير عليه رشاشة ، فإذا أمن من الرشاش جاز . قالت عائشة رضي الله عنها : (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا جالسا) رواه الخمسة إلا أبا داود . قال الترمذي : (هو أحسن شئ في هذا الباب وأصح) انتهى.
قلت : إسناده عن عائشة ضعيف ، فيه شريك - وهو ابن عبد الله القاضي - وهو ضعيف لا يحتج بما تفرد به كهذا الحديث ، قال الحافظ في " التقريب " : " صدوق يخطئ كثيرا ، تغير حفظه منذ ولي القضاء " . وقول الترمذي : " هو أحسن شئ . ." ، لا يفيد حسنه فضلا عن صحته ، وإنما يعطي حسنا أو صحة نسبيا كما هو معروف عند من لهم عناية بهذا العلم الشريف .
ثم وجدت لشريك متابعا قويا ، فصح بذلك الحديث ، لكنه ناف ، وحديث حذيفة الذي بعد هذا في الكتاب مثبت ، ومن المعلوم أن المثبت مقدم على النافي ، لأن معه زيادة علم ، فيجوز الأمران ، والواجب الاحتراز من رشاش البول ، فبأيهما حصل وجب.
وانظر إن شئت الإرواء (1/95) و الصحيحة وأما حديث : "من الخطإ أن يبول الرجل قائما" ، فلا يصح مرفوعا . والصواب موقوف ، وبيانه في الإرواء (59).
وقول الشوكاني في السيل (1/67) : إن البول من قيام إذا لم يكن محرمأ فهو مكروه كراهة شديدة " ، مما لا يلتفت إليه .(1/45)
وكلام عائشة مبني على ما علمت ، فلا ينافي ما روي عن حذيفة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت فقال : أدنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ ومسح على خفيه) رواه الجماعة.
قلت : الحديث صحيح بلا شك ، فتصديره بقوله : "روي" ، يشعر بأنه ضعيف كما اتفق عليه المحدثون ، فكان الواجب أن يقال : "ورد" ، أو نحو ذلك مما يشعر بثبوت الحديث.
قال النووي : البول جالسا أحب إلي ، وقائما مباح ، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 - أن يزيل ما على السبيلين من النجاسة وجوبا بالحجر وما في معناه من كل جامد طاهر قالع للنجاسة ليس له حرمة أو يزيلها بالماء فقط ، أو بهما معا.
قلت : الجمع بين الماء والحجارة في الاستنجاء لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم ، فأخشى أن يكون القول بالجمع من الغلو في الدين ، لأن هديه صلى الله عليه وسلم الاكتفاء بأحدهما ، " وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها . . .".
وأما حديث جمع أهل قباء بين الماء والحجارة ، ونزول قوله تعالى فيهم : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) ، فضعيف الإسناد ، لا يحتج به ، ضعفه النووي والحافظ وغيرهما ، وأصل الحديث عند أبي داود وغيره من حديث أبي هريرة دون ذكر الحجارة ، ولذلك أورده أبو داود في "باب الاستنجاء بالماء" ، وله شواهد كثيرة ، ليس في شئ منها ذكر الحجارة ، وقد بينت ذلك في صحيح سنن أبي داود (رقم 34).(1/46)
لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه) رواه أحمد والنسائي وأبو داود والدار قطني . وعن أنس رضي الله عنه قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزه فيستنجي بالماء) متفق عليه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال : (إنهما يعذبان ، وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الأخر فكان يمشي بالنميمة) رواه الجماعة . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا : (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه).
12 - أن لا يستنجي بيمينه تنزيها لها عن مباشرة الأقذار لحديث عبد الرحمن بن زيد قال : ( قيل لسلمان : قد علمكم نبيكم كل شئ حتى الخراءة . فقال سلمان : أجل . . . نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول ، أو نستنجي باليمين ، أو يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار ، وأن لا يستنجي برجيع أو بعظم) رواه مسلم وأبو داود والترمذي . وعن فحصة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لأكله وشربه وثيابه وأخذه وعطائه ، وشماله لما سوى ذلك) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي.
13 - أن يدلك يده بعد الاستنجاء بالأرض ، أو يغسلها بصابون ونحوه ليزول ما علق بها من الرائحة الكريهة ، لحديث ، أبي هريرة رضي الله عنه قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض) رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وابن ماجة.(1/47)
14 - أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ليدفع عن نفسه الوسوسة ، فمتى وجد بللا قال : هذا أثر النضح ، لحديث الحكم بن سفيان ، أو سفيان بن الحكم رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بال توضأ وينتضح ) وفي رواية : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم نضح فرجه) .
قلت : هذا الحديث لا يصح متنه ، لأن فيه اضطرابا كثيرا على نحو عشرة وجوه لخصها الحافظ في " التهذيب " ، وفي ثبوت صحبة الحكم بن سفيان خلاف .
لكن الحديث له شواهد أوردت بعضها في " صحيح أبي داود " ( رقم 159 ) ، منها حديث ابن عباس أن النبي ( ص ) توضأ مرة ونضح فرجه .
أخرجه الدارمي والبيهقي ، وسنده صحيح على شرط الشيخين ، فلو أن المؤلف آثر هذا الحديث لصحة إسناده على ذلك ، أو على الأقل أشار إليه ، لكان أحسن.
وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله .
15 - أن يقدم رجله اليسرى في الدخول ، فإذا خرج فليقدم رجله اليمنى ثم ليقل : غفرانك . فعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال : (غفرانك) رواه الخمسة إلا النسائي . وحديث عائشة أصح ما ورد في هذا الباب كما قال أبو حاتم وروي من طرق ضعيفة انه صلى الله عليه وسلم كان يقول : (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) ، وقوله : (الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى في قوته ، وأذهب عني أذاه).
فأقول : قوله : " من طرق ضعيفة " ليس دقيقا في التعبير عن حال هذين الحديثين ، فإن الأول من حديث أبي ذر ، ومن حديث أنس ، وهما مخرجان في الإرواء برقم (53) بإسنادين ضعيفين.
والآخر من حديث ابن عمر ، وهو مخرج في الضعيفة برقم (4187) . وقد فصلت القول في ذلك في الأحاديث الضعيفة برقم (5658) ، وبينت أن حديث أبي ذر في إسناده جهالة واضطراب واختلاف في المتن.(1/48)
ثم إن قوله : "من طرق ضعيفة" ، قد يشعر أن لكل من الحديثين أكثر من طريق واحد ، بحيث يتوارد على ذهن القارئ ما يقال من أن الحديث الضعيف يتقوى بكثرة الطرق ، فيتوهم أن هذا الذي يعنيه المؤلف بقوله المذكور : "من طرق ضعيفة" ، ولعله لا يقصد ذلك ، لما سبق بيانه.
سنن الفطرة
قد اختار الله سننا للأنبياء عليهم السلام ، وأمرنا بالإقتداء بهم فيها ، وجعلها من قبيل الشعائر التي يكثر وقوعها ليعرف بها أتباعهم ، ويتميزوا بها عن غيرهم . وهذه الخصال تسمى سنن الفطرة وبيانها فيما يلي :
1 - الختان :-
وهو قطع الجلدة التي تغطي الحشفة ، لئلا يجتمع فيها الوسخ ، وليتمكن من الاستبراء من البول ، ولئلا تنقص لذة الجماع ، هذا بالنسبة إلى الرجل . وأما المرأة فيقطع الجزء الأعلى من الفرج بالنسبة لها أحاديث الأمر بختان المرأة ضعيفة لم يصح منها شئ .
أقول : ليس هذا على إطلاقه ، فقد صح قوله صلى الله عليه وسلم لبعض الختانات في المدينة : "اخفضي ولا تنهكي ، فإنه أنضر للوجه ، وأحظى للزوج".
رواه أبو داود ، والبزار ، والطبراني ، وغيرهم ، وله طرق وشواهد عن جمع من الصحابة خرجتها في الصحيحة (2/353-358) ببسط قد لا تراه في مكان آخر ، وبينت فيه أن ختن النساء كان معروفا عند السلف خلافا لبعض من لا علم بالآثار عنده.
وإن مما يؤكد ذلك كله الحديث المشهور : "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" ، وهو مخرج في الإرواء (رقم 80) . قال الإمام أحمد رحمه الله : "وفي هذا دليل على أن النساء كن يختن" . انظر " تحفة المودود في أحكام المولود" .
لابن القيم (ص 64 - هندية).(1/49)
وهو سنة قديمة . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة ، واختتن بالقدوم) رواه البخاري ، ومذهب الجمهور أنه واجب ، ويرى الشافعية استحبابه يوم السابع . وقال الشوكاني : لم يرد تحديد وقت له ولا ما يفيد وجوبه.
قلت : أما التحديد فورد فيه حديثان :
الأول : عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين ، وختنهما لسبعة أيام . رواه الطبراني في المعجم الصغير (ص 185 ، بسند رجاله ثقات ، لكن فيه محمد بن أبي السري العسقلاني ، وفيه كلام من قبل حفظه ، والوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية وقد عنعنه.
والحديث عزاه الحافظ في الفتح (10/282) لأبي الشيخ والبيهقي ، وسكت عليه الحافظ ، فلعله عندهما من طريق أخرى . الثاني : عن ابن عباس قال : سبعة من السنة في الصبي يوم السابع : يسمى ، ويختن . . . الحديث .
رواه الطبراني في الأوسط (1/334/562) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/59) : "رجاله ثقات" ، وأما الحافظ ، فقال في الفتح (9/483) : "أخرجه الطبراني في الأوسط ، وفي سنده ضعف".
قلت : وهو الصواب ، لأن في سنده رواد بن الجراح ، وفيه ضعف ، كما في الكاشف للذهبي ، لكن أحد الحديثين يقوي الآخر ، إذ مخرجهما مختلف ، وليس فيهما متهم ، وقد أخذ به الشافعية ، فاستحبوا الختان يوم السابع من الولادة كما في المجموع (1/307) وغيره.
وأما الحد الأعلى للختان ، فهو قبل البلوغ ، قال ابن القيم : " لا يجوز للولي أن يترك ختن الصبي حتى يجاوز البلوغ".
انظر "تحفة المودود في أحكام المولود" له ( ص 60 - 61 ) .(1/50)
وأما حكم الختان فالراجح عندنا وجوبه ، وهو مذهب الجمهور ، كمالك والشافعي وأحمد ، واختاره ابن القيم ، وساق في التدليل على ذلك خمسة عشر وجها ، وهي لي ان كانت مفرداتها لا تنهض على ذلك ، فلا شك أن مجموعها ينهض به ، ولا يتسع المجال لسوقها جميعا ههنا ، فأكتفي منها بوجهين : :
الأول : قوله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) ، والختان من ملته ، كما في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب ، وهذا الوجه أحسن الحجج ، كما قال البيهقى ، ونقله الحافظ (10/281).
الثاني : أن الختان من أظهر الشعائر التي يفرق بها بين المسلم والنصراني ، حتى إن المسلمين لا يكادون يعدون الأقلف منهم.
ومن شاء الإطلاع على بقية الوجوه المشار إليها فليراجع كتاب "التحفة" (ص53-60).
2 ، 3 - الاستحداد ، ونتف الإبط :-
وهما سنتان يجزئ فيهما الحلق والقص والنتف والبؤرة .
4 ، 5 - تقليم الأظافر وقص الشارب أو إحفاؤه :-(1/51)
وبكل منهما وردت روايات صحيحة ، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خالفوا المشركين : وفروا اللحى ، وأحفوا الشوارب) رواه الشيخان ، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم (خمس من الفطرة : الاستحداد ، والختان ، وقص الشارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر) رواه الجماعة فلا يتعين منهما شئ وبأيهما تتحقق السنة ، فإن المقصود أن لا يطول الشارب حتى يتعلق به الطعام والشراب ولا يجتمع فيه الأوساخ . وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد والنسائي ، والترمذي وصححه ، ويستحب الاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب أو إحفاءه كل أسبوع استكمالا للنظافة واسترواحا للنفس ، فإن بقاء بعض الشعور في الجسم يولد فيها ضيقا وكآبة ، وقد رخص ترك هذه الأشياء إلى الأربعين ، ولا عذر لتركه بعد ذلك ، لحديث أنس رضي الله عنه قال : (وقت لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، ألا يترك أكثر من أربعين ليلة) ، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما .
6 - إعفاء اللحية :-
وتركها حتى تكثر ، بحيث تكون مظهرا من مظاهر الوقار ، فلا تقصر تقصيرا يكون قريبا من الحلق ولا تترك حتى تفحش ، بل يحسن التوسط فإنه في كل شئ حسن ، ثم إنها من تمام الرجولة ، وكمال الفحولة فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خالفوا المشركين : وفروا اللحى ، وأحفوا الشوارب) ، متفق عليه ، وزاد البخاري ( وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه).
7 - إكرام الشعر:-(1/52)
إذا وفر وترك بأن يدهن ويسرح ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من كان له شعر فليكرمه) رواه أبو داود ، وعن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ، ففعل ثم رجع ، فقال صلى الله عليه وسلم : (أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان) رواه مالك . وعن أبي قتادة رضي الله عنه (أنه كان له جمة ضخمة . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يحسن إليها ، وأن يترجل كل يوم) . رواه النسائي ، ورواه مالك في الموطأ بلفظ : (قلت : يا رسول الله إن لي جمة أفأرجلها ؟ قال نعم . . . وأكرمها) فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وسلم (وأكرمها) .
وحلق شعر الرأس مباح وكذا توفيره لمن يكرمه ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (احلقوا كله أو ذروا كله) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وأما حلق بعضه وترك بعضه فيكره تنزيها ، لحديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع ، فقيل لنافع : ما القزع ؟ قال : أن يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه) متفق عليه ، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما السابق.
قلت : حديث عطاء بن يسار ، قال : " أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته . . ." . رواه مالك .
عطاء هذا تابعي معروف ، فالحديث مرسل ضعيف ، وقد جاء موصولا من حديث جابر بلفظ آخر أتم منه ، وليس فيه ذكر اللحية . رواه أبو داود وغيره وهو مخرج في الصحيحة (493).
ثم قال : "وعن أبي قتادة : أنه كان له جمة ضخمة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فأمره أن يحسن إليها ، وأن يترجل كل يوم .(1/53)
رواه النسائي ، ورواه مالك في الموطأ بلفظ : قلت : إن لي جمة ، فأرجلها ؟ قال : (نعم وأكرمها).
فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين من أجل قوله صلى الله عليه وسلم : (وأكرمها) " .
فأقول : هذا الحديث لا يصح عن أبي قتادة لانقطاع إسناده ، واضطراب متنه .
أما الانقطاع فهو أن النسائي رواه في سننه (2/292) من طريق عمر بن علي بن مقدم قال : حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن المنكدر عن أبي قتادة . . . وهذا إسناد ظاهره الصحة ، فإن رجاله ثقات رجال الشيخين ، لكن له علة خفية ، وهي أن ابن مقدم هذا مع كونه ثقة فقد كان يدلس تدليسا غريبا ، بينه ابن سعد بقوله : " كان ثقة ، وكان يدلس تدليسا
شديدا ، يقول : سمعت و حدثنا ، ثم يسكت ، فيقول : هشام بن عروة والأعمش . .".
ولذلك قال الحافظ في "مقدمة الفتح" (ص431) : "وعابوه بكثرة التدليس ، ولم أر له في " الصحيح " إلا ما توبع عليه " .
ولم يوثقه في " التقريب " ، فإنه اقتصر على قوله فيه : "وكان يدلس شديدا".
فمثله لا يحتج به ولو صرح بالتحديث ، إلا إذا توبع ، فكيف إذا خولف ؟ ! فقد قال مالك في روايته (3/624) : "عن يحيى بن سعيد أن أبا قتادة الأنصاري قال . . ." فذكره.
فأسقط بين يحيى وأبي قتادة محمد بن المنكدر ، فصار منقطعا ، لأن يحيى ابن سعيد - وهو ابن قيس الأنصاري المدني - لم يدرك أبا قتادة ، ولهذا قال السيوطي في "تنوير الحوالك" : "هو منقطع ، وقد أخرجه البزار من طريق عمر بن علي المقدمي عن يحيى ابن سعيد عن محمد بن المنكدر عن جابر".
قلت : وهذه خلاف رواية النسائي ، فإنها عن أبي قتادة ، وهذه عن جابر ! فهذا اختلاف آخر في إسناده . وقد وجدت له طريقا أخرى عن كل من أبي قتادة وجابر.(1/54)
أما الطريق عن أبي قتادة ، فقال الطبراني في الأوسط (رقم 4090) : حدثنا علي بن سعيد الرازي قال : نا سليمان بن عمر بن خالد الرقي قال : ثنا يحيى ابن سعيد الأموي عن ابن جريج عن عطاء عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ شعرا فليحسن إليه ، أو ليحلقه " ، وكان أبو قتادة يرجل شعره غبا .
وقال الطبراني : "لم يروه عن ابن جريج إلا يحيى بن سعيد الأموي".
قلت : وهو ثقة من رجال الشيخين ، وكذا من فوقه ، وإنما النظر فين دونهم ، وقد قال الهيثمي في المجمع (5/164) : رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه علي بن سعيد الرازي ، قال الدارقطني : ليس بالقوي ، وبقية رجاله رجال الصحيح .
كذا قال ! وسليمان بن عمر وأبوه ليسا من رجال الصحيح ، بل ولا من رجال السنن الأربعة ، والأول له ترجمة في الجرح والتعديل (2/1/131) بكتابة أبي حاتم عنه. وفي ثقات ابن حبان (8/280) ، وقال : "حدثنا عنه شيخنا الخضر بن أحمد بن قيدهوز " بحران " - وغيره . مات سنة تسع وأربعين ومائتين " . وأما أبو عمر بن خالد
الرقي ، فلم أر له ترجمة إلا عند ابن حبان ترجمة موجزة جدا لا طائل تحتها ، فقد قال (8/444) : " يروي عن موسى بن أعين روى عنه ابنه سليمان بن عمر بن خالد".
قلت : فهو في عداد المجهولين .
والله أعلم .
بقي الكلام على الطريق الأخرى عن جابر ، وهي في الحقيقة تعود إلى الطريق الأولى التي رواها النسائي ، فقال الطبراني في الأوسط أيضا (1/387/675- المطبوعة) : حدثنا أحمد قال : حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال : حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : "كان لأبي قتادة جمة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيها ؟ فقال : أكرمها وادهنها".
وقال الطبراني : "لم يروه عن يحيى إلا إسماعيل".(1/55)
قلت : إسماعيل ثقة ، ولكنه في روايته عن الحجازيين ضعيف ، وهذه منها . ولكنه قد عه ابن مقدم كما تقدم ، إلا أنه مدلس ، فمن الممكن أن يكون تلقاه عن إسماعيل ثم دلسه ، فلا قيمة حينئذ لهذه المتابعة ، ولعله لذلك جزم الطبراني بأنه لم يروه عن يحيى إلا إسماعيل .
والله أعلم .
وأما اضطراب المتن فذلك ظاهر من الروايات المتقدمة ، ويمكن تلخيصها بالوجوه الآتية :
الأول : رواية النسائي المرفوعة : وأن يترجل كل يوم .
الثاني : رواية مالك : فكان أبو قتادة ربما دهنها في اليوم مرتين .
الثالث : رواية عطاء : وكان أبو قتادة يرجل شعره غبا .
الرابع : رواية إسماعيل المرفوعة : أكرمها وادهنها .
فهذا - كما ترى - اضطراب شديد ، لا يمكن التوفيق بين هذه الوجوه إلا بترجيح وجه منها ، ولا سبيل إلى ذلك لضعف أسانيدها كما رأيت ، فلا بد من تلمس المرجح من خارجها .
وقد وجدنا حديثين : الأول : نهى عن الترجل إلا غبا .
والآخر : كان ينهانا عن الإرفاه : الترجل كل يوم .
وهما مخرجان في الصحيحة (501و502) . ومن الواضح أن الأول يبطل الوجه الأول ويرجح عليه الوجه الثالث .
وأن الحديث الآخر يؤكد بطلان الوجه الأول وأرجحية الوجه الثالث .
والخلاصة أن الروايتين اللتين ذكرهما المؤلف عن أبي قتادة وجابر منكرتان سندا ومتنا ، فلا يعتمد عليهما ، ولا يجوز الأخذ بما فيهما مما يخالف الحديثين الصحيحين المذكورين آنفا.
أما الأمر بإكرام الشعر فهو ثابت في عدة أحاديث ، وقد خرجت بعضها في المصدر السابق الصحيحة (500و501) ، هو مقيد بالحديثين المشار إليهما كما هو ظاهر .وبالله التوفيق.
8 - ترك الشيب وإبقاؤه سواء كان في اللحية أو في الرأس :-(1/56)
والمرأة والرجل في ذلك سواء ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تنتف الشيب فإنه نور المسلم ، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ، ورفعه بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة) ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة . وعن أنس رضي الله عنه قال : (كنا نكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته) رواه مسلم.
9 - تغيير الشيب بالحناء والحمرة والصفرة ونحوها :-
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) رواه الجماعة ، ولحديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم) رواه الخمسة . وقد ورد ما يفيد كراهة الخضاب ، ويظهر أن هذا مما يختلف باختلاف السن والعرف والعادة . فقد روي عن بعض الصحابة أن ترك الخضاب أفضل ، وروي عن بعضهم أن فعله أفضل ، وكان بعضهم يخضب بالصفرة ، وبعضهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران ، وخضب جماعة منهم بالسواد . ذكر الحافظ في الفتح عن ابن شهاب الزهري أنه قال : كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه حديدا ، فلما نفض الوجه والأسنان تركناه . وأما حديث جابر رضي الله عنه قال : جئ بأبي قحافة (والد أبي بكر) يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكأن رأسه ثغامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشئ وجنبوه السواد) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ، فإنه واقعة عين ، ووقائع الأعيان لا عموم لها . ثم أنه لا يستحسن لرجل كأبي قحافة ، وقد اشتعل رأسه شيبا ، أن يصبغ بالسواد ، فهذا مما لا يليق بمثله.
قوله في تغيير الشيب بالحناء : "قلت : وقد ورد ما يفيد كراهية الخضاب".(1/57)
قلت : لم أجد للمؤلف في هذه الدعوى سلفا ، ولا علمت لها أصلا ، ولعله يعني ورود ذلك عن الصحابة ، والذي نقله الشوكاني عنهم في النيل (1/103) إنما هو الاختلاف في الأفضل ، وليس الكراهة ، وعلى افتراض أنه روي ذلك عن أحد منهم ، فلا حجة فيه لأمرين :
الأول : أن الصحابة لم يتفقوا على ذلك ، بل منهم من خضب كالشيخين رضي الله عنهما ، وهو في صحيح مسلم وغيره ، ومنهم من ترك ، والترك لا يدل على كراهة الخضاب ، بل على جواز تركه.
الثاني : أنه مخالف للثابت عنه في قولا وفعلا .
أما القول فقد ذكر المصنف فيه حديثين .
وأما الفعل ، ففي صحيح البخاري وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها أخرجت من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوبأ . وفي معناه أحاديث أخرى بوب لها الترمذي في الشمائل المحمدية : "باب ما جاء في خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فراجعها إن شئت في كتابي مختصر الشمائل (41/37-41).
وإن كان يعني ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر ، فنقول : إن كان يريد مطلق الورود - أعني سواء
كان صحيحا أو ضعيفا ، فمسلم . وإن كان يريد الصحيح كما هو المتبادر من عبارته ، فمردود ، لأن غاية ما روي في ذلك
حديثان : أحدهما ضعيف ، والآخر لا أصل له . أما الأول ، فحديث عبد الرحمن بن حرملة أن ابن مسود كان يقول : "كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر خلال : الصفرة يعني الخلوق ، وتغيير الشيب . . . الحديث" . رواه أبو داود (2/197) ، وأحمد (رقم3605،3774،4179) ، وعبد الرحمن هذا قال ابن المديني فيه : "لا نعرفه من أصحاب ابن مسعود".(1/58)
وقال البخاري : "لا يصح حديثه". يعني هذا ، فقد ساقه الذهبي عقب عبارة البخاري هذه ، ثم قال الذهبي : "وهذا منكر" ، ثم سها الذهبي عن هذا ، فوافق في التلخيص الحاكم على تصحيحه للحديث في المستدرك ! وأما توثيق ابن حبان لعبد الرحمن هذا فلا يعتد به لما ذكرته في المقدمة ، ولذلك لم يلتفت إلى توثيقه لهذا الرجل الذهبي في "الميزان" والحافظ في "التقريب" ، حيث أفاد أنه لين الحديث ، وعليه فلا يغتر بتصحيح الشيخ أحمد محمد شاكر لهذا الحديث ، لأنه بناه على توثيق ابن حبان للمذكور ، وكثيرا ما يفعل ذلك ، ويصحح أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها ، وقد كنت ناقشته في هذه المسألة في المدينة المنورة وهو في "الفندق" سنة 69 ه بعد موسم الحج ، ولكني لم أصل معه إلى نتيجة مع الأسف ، والله يرحمنا وإياه.
والحديث الثاني : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه بلفظ : "من شاب شيبة فهي نور إلا أن ينتفها أو يخضبها" ، هكذا أورده بعضهم ، وهو في سنن أبي داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، من هذا الوجه ، لكن دون قوله : "إلا أن ينتفها أو يخضبها" ، وكذلك هو في "المسند" (6672،6675،6937،6962،6989).
وفى رواية له : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نتف الشيب ، وقال : هو نور".
فهذا يدل على أن ذكر الخضاب في الحديث لا أصل له ، وتد قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق الحديث باللفظ الأول : "أخرجه الترمذي وحسنه ، ولم أر في شئ من طرقه الاستثناء المذكور".
قلت : ويستدرك عليه برواية أحمد التي فيها ذكر النتف.
وثمة حديث ثالث ممكن أن يؤخذ حكم الخضاب من لفظه المطلق ، وهو : عن أم سليم مرفوعا : "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا ما لم يغيرها".
رواه الحاكم في "الكنى" كما في "الجامع الصغير" ، ورمز لحسنه كما قال المناوي في شرحه ، ولكن النفس لا تطمئن لتحسين السيوطي له لما عرف من تساهله ، فراجع المقدمة : القاعدة الثامنة.(1/59)
ثم وقفت على سند الحديث ، وتبين لي أنني كنت على صواب في عدم الاعتماد على تحسينه ، وقد كشفت عن علته في "الصحيحة" تحت الحديث (1244) ، وحكمت بوضعه ، فأوردته في "ضعيف الجامع الصغير" (5651) ، وهو
كتاب حافل بالأحاديث الضعيفة والموضوعة لا مثيل له . والله الموفق.
وخلاصة القول ، أنه لا يجوز معارضة ، الأحاديث الصحيحة المتضمنة لجواز الخضاب واستحبابه بهذه الأحاديث الضعيفة ، ولو صح شئ منها لوجب التوفيق بينها بوجه من وجوه الجمع بين الأحاديث وما أكثرها ، والوجه هنا أن يقال : إن التغيير المذكور في الحديث الأول والثالث هو النتف ، وهو منهي عنه صراحة في رواية أحمد للحديث الثاني . أو هو الخصب بالسواد ، فإنه منهي عنه.
وبهذا شرح الحديثان ، انظر الخطابي في المعالم ، والمناوي في الفيض ، وقال ابن القيم في تهذيب السنن (6/103) : "والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه ، فإن الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم من تغيير الشيب أمران : أحدهما : نتفه والثاني : خصابه بالسواد كما تقدم ، والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره بغير السواد كالحناء والصفرة ، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم .(1/60)
قال : "وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم ، وهو الصواب بلا ريب لما تقدم ، وقيل للإمام أحمد : تكره الخصاب بالسواد ؟ قال : إي والله . ورخص فيه آخرون ، ومنهم أصحاب أبي حنيفة ، وروي ذلك عن الحسن والحسين ، وفي ثبوته عنهم نظر ، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنته أحق بالإتباع ، ولو خالفها من خالفها" قلت : وللأحاديث المتقدمة في الحض على الخصاب كثر اشتغال السلف بهذه السنة ، فترى المؤرخين في التراجم لهم يقولون : "وكان يخصب" ، و "كان لا يخصب" ، ولا تزال هذه السنة معمولا بها في بعض البلاد الإسلامية ، ولا سيما التي لم تتأثر كثيرا بالمدنية الغربية ، وعاداتها السيئة . والحق أنها سنة ثابتة مستمرة ، وقد جرى عمل السلف عليها - كما تقدم - وتواردت الأحاديث في الحض على العمل بها ، فلا يجوز للمسلمين أن يحدثوا عرفا مخالفا لها ، ولاسيما مع بقاء علة الخصاب المنصوص عليها في حديث الجماعة : "ان اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". وهو مخرج في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (104) . ولذلك فإنا نقطع بأن ما ذهب إليه المؤلف من رجوع أمر الخصاب إلى العرف والعادة خطأ واضح لا يجوز الاغترار به . والله الموفق .
وأعتقد أن المؤلف - عفا الله عني وعنه - قد فتح بمذهبه هذا بابا واسعا من الشر لا يمكن غلقه إلا بإعطاء أوامر النبي صلى الله عليه وسلم وسنته التعبدية من التقدير والاعتبار ما تستحق ، فإنه إذا كان هو يرى ترك الخضاب مع ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا لمجرد مخالفة ذلك لعادة المسلمين اليوم ، فما الذي يمنع غير المؤلف - ممن ليس عنده
من العلم بالسنة وقدرها ما عند المؤلف - أن يتجاوز هذه المسألة إلى غيرها ، ومنها إلى أخرى ، ويجيز تركها كلها على الرغم من أمره صلى الله عليه وسلم بها وحضه عليها ، كل ذلك لمخالفتها لعادة المسلمين وأذواقهم ؟ ! وأي(1/61)
مسلمين ؟ مسلمو القرن العشرين ؟ ! لقد كنا ولا نزال نشكو من إعراض أكثر المسلمين عن العمل بالحديث تعصبا منهم لأئمتهم ، ونشكو من مخالفة بعض الصوفية للأوامر الشرعية لأنها - بزعمهم - لا تتفق مع أذواقهم ، وإذا بنا اليوم - ونحن ندعي الغيرة على الإسلام والعمل بالسنة - أمام تعصب جديد ، وصوفية حديثة ، نقدم أذواقنا وعاداتنا ، ونتعصب لها على هديه صلى الله عليه وسلم وأمره دون أن يكون لنافي ذلك قدوة فيمن سلف ، من أمام يوثق بعلمه وذوقه ! قرأت منذ بضعة أيام كتاب الإسلام المصفى لأحد الكتاب الغيورين على الإسلام - كما يبدو ذلك من كتابه - والحريصين على بقائه نقيا سليما كما كان في عهده صلى الله عليه وسلم ، فإذا به يقول - بعد أن ساق أحاديث صحيحة في الأمر بإعفاء اللحية مخالفة للمشركين - ما نصه : "والأمر بإعفائها لم يكن إلا من قبل الندب ! وشأنها شأن كل المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام ، ولا يفرضها على أتباعه ، بل يتركها لأذواقهم ، وما تتطلبه بيئاتهم وعصورهم " ! فانظر لهذا الغيور على أحكام الإسلام كيف مقد لنسف الأمر بإعفاء اللحية بأن حمل الأمر بها على الندب أولا ، ثم زعم أن الإسلام ترك هذا الأمر المندوب لأذواق المسلمين وبيئاتهم ، فإذا استذوقوه فعلوه ، لا لأنه أمر به صلى الله عليه وسلم ، بل لأنه موافق لذوقهم وعصرهم ، وإن لم يستذوقوه ، تركوه غير مبالين بمخالفتهم لأمره صلى الله عليه وسلم ، ولو فرض أنه للندب ! وإني لأخشى أن يكون رأي المؤلف قريبأ من هذا ، وإلا فما باله لم يتعرض لبيان حكم الإعفاء مع كثرة النصوص التي تتعلق به كما يأتي بيانه ، بينما نراه قد جزم ببيان حكم الختان مع أنه لا نص فيه كما أشار إليه فيما تقدم مع الرد عليه ، اللهم إلا تعليقه على قوله صلى الله عليه وسلم: "وفروا اللحى . . ." : "حمل الفقهاء هذا الأمر على الوجوب ، وقالوا بحرمة حلق اللحية . . ." ، فإنه ليس صريحا في التعبير عن(1/62)
رأيه الشخصي ، وبخاصة أنه يعلم أن مخالفة الإعفاء أكثر وأظهر من مخالفة الختان ، فإن كثيرا من خاصة العلماء والشيوخ قد ابتلوا بالوقوع فيها ، بل وبالتزين والتجمل بها ، بل إن بعضهم قد يتجرأ على الإفتاء بجواز حلقها ، ولاسيما في مصر التي يعيش فيها السيد سابق والأستاذ السمان ، فهذا وحده كان كافيا في أن يحمله على بيان حكم هذه المخالفة ، ولذلك فإني أنتهز هذه الفرصة لأبين حكم الشرع فيها ، وأستحسن أن يكون ذلك بالرد على تلك الفقرة التي نقلتها عن كتاب "الإسلام المصفى" لشديد صلتها بالموضوع ، فأقول :
أولا : ذكر أن الأمر بإعفاء اللحية للندب ، وقد سمعنا هذا كثيرا من غيره ، وإبطالا لهذه الدعوى أقول : هذا خلاف ما تقرر في "علم الأصول" : أن الأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم الوجوب ، لقوله تعالى : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" ، وغيره من الأدلة التي لا مجال لذكرها الآن ، والخروج عن هذا الأصل لا يجوز إلا بدليل صحيح تقوم به الحجة ، وحضرة الكاتب لم يأت بأي دليل يسوغ له خروجه عن هذا الأصل في هذه المسألة ، اللهم
إلا ادعاؤه أن الإسلام لا يهتم بكل المظاهر الشكلية . . . ومع أنها دعوى عارية عن الدليل ، فإنها منقوضة أيضا بأحاديث كثيرة ، وهو في قولنا : ثانيا : زعم أن كل المظاهر الشكلية لا يهتم بها الإسلام ، وأن اللحية منها . أقول : هذا الزعم باطل قطعا ، لا يشك فيه ذلك أي منصف متجرد عن أتباع الهوى بعد أن يقف على الأحاديث الآتية ، وكلها صحيحة :
1 - عن ابن عباس قال : "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال".
2 - عن عائشة أن جارية من الأنصار تزوجت ، وأنها مرضت ، فتمعط شعرها ، فأرادوا أن يصلوها ، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "لعن الله الواصلة والمستوصلة".(1/63)
3 - عن ابن مسعود مرفوعا : "لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله".
4 - عن عبد الله بن عمرو قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال : "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما" . أخرج هذه الأحاديث الشيخان في صحيحيهما : إلا الأخير منها فتفرد به مسلم ، وير مخرجة في آداب الزفاف و " حجاب المرأة المسلمة . وفي الباب أحاديث كثيرة جدا ، وهى مادة كتاب : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فليراجعه من شاء . فهذه نصوص صريحة تبين أن الإسلام قد اهتم بالمظاهر الشكلية اهتماما بالغا إلى درجة أنه لعن المخالف فيها ، فكيف يسوغ مع هذا أن يقال : إن كل المظاهر لا يهتم بها الإسلام . . .؟!(1/64)
إن كان حضرة الكاتب لم يطلع عليها ، فهو في منتهى الغرابة ، إذ يجرؤ على الكتابة في هذه المسالة التي لها ما وراءها من الفروع الكثيرة لون أن يراجع ولو مصدرا واحدا من مصادر الإسلام الأساسية ! وإن كان اطلع عليها ، فاني أخشى أن يكون جوابه عنها أنها لا توافق الذوق ! أو يقول : لا يقرها المنطق ! كما قال ذلك في مسألة نزول عيسى عليه السلام (ص 75) ، وحينئذ أعترف بأنه لا جواب إلا الشكوى إلى الله تعالى . . . مما سبق من النصوص يمكن للمسلم الذي لم تفسد فطرته أن يأخذ منها أدلة كثيرة قاطعة على وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها : أولا : أمر الشارع بإعفائها ، والأصل في الأمر الوجوب ، فثبت المدعى . ثانيا : حرم تشبه الرجال بالنساء ، وحلق الرجل لحيته فيه تشبه بالنساء فيما هو من أظهر مظاهر أنوثتهن ، فثب حرمة حلقها ، ولزم وجوب إعفائها . ثالثا : لعن النامصة - وهي التي تنتف شعر حاجبيها أو غير بقصد التجميل - وعلل ذلك بأنه تغيير لخلق الله تعالى ، والذي يحلق لحيته إنما يفعل ذلك للحسن - زعم - وهو في ذلك يغير خلقة الله تعالى ، فهو في حكم النامصة تماما ولا فرق إلا في اللفظ ، ولا أعتقد أنه يوجد اليوم على وجه الأرض ظاهري يجمد على ظاهر اللفظ ، ولا يمعن النظر في المعنى المقصود منه ، ولاسيما إذا كان مقرونا بعلة يقتضي عدم الجمود عليه كقوله عليه السلام ههنا : ". . . للحسن ، المغيرات خلق الله".
وثمة دليل رابع ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم جعل إعفاء اللحية من الفطرة ، كما جعل منها قص الأظفار وحلق العانة ، وغير ذلك مما رواه مسلم في " صحيحه " ، ففيه رد صريح على الكاتب ومن ذهب مذهبه أن اللحية من أمور العادات التي يختلف الحكم(1/65)
فيها باختلاف الأزمان والعصور ! ذلك لأن الفطرة من الأمور التي لا تقبل شرعا التبدل مهما تبدلت الأعراف والعادات : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
فإن خولفنا في هذا أيضا ، فإني لا أستبعد أن يأتي يوم يوجد فيه من الشيوخ والكتاب المتأثرين بالجو الفاسد الذي يعيشون فيه ، وقد سرت فيه عادة إعفاء شعر العانة مكان حلقه وإعفاء اللحية ! وإطالة الأظافر كالوحوش ! لا أستبعد أن يأتي يوم يقول فيه بعض أولئك بجواز هذه الأمور المخالفة للفطرة بدعوى أن العصر الذي هم فيه يستذوقها ويستحسنها ! وأنها من المظاهر الشكلية التي لا يهتم بها الإسلام ، بل يتركها لأذواقهم ! ! يقولون هذا ، ولو كان من وراء ذلك ضياع الشخصية الإسلامية التي هي من مظاهر قوة الأمة ، فاللهم هداك .
قوله : "وكان بعضهم - يعني الصحابة - يخضب بالصفرة ، وبعضهم بالحناء والكتم ، وبعضهم بالزعفران ، وخضب جماعة منهم بالسواد".
قلت : أما الصبغ بغير السواد فهو ثابت عنهم ، وهو الموافق لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله . وأما قوله : "وخضب جماعة منهم بالسواد" .(1/66)
قلت : إن ثبت هذا عنهم ، فلا حجة في ذلك ، لأنه خلاف السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فعلا وقولا ، وقد قال تعالى : ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول..) ومن الثابت عن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر الصبغ بالحناء والكتم كما تقدم ، فالأخذ به هو الواجب لموافقته للسنة ، دون فعل من خالفهما من الصحابة الذين أشار إليهم المؤلف ، ولا سيما وفي ثبوت ذلك عن بعضهم نظر كما تقدم عن ابن القيم رحمه الله تعالى ، ولذلك قال النووي في المجموع (1/294) : "اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد ، وظاهر عبارات أصحابنا أنه مكروه كراهة تنزيه ، والصحيح ، بل الصواب ، أنه حرام ، وممن صرح بتحريمه صاحب" الحاوي (قال النووي) : ودليل تحريمه حديث جابر . . ." . ثم ذكر حديثه الآتي في الكتاب بلفظ : " وجنبوه السواد " . ولكن المؤلف - عفا الله عنا وعنه - تأوله تأويلا أبطل به دلالته ، ويأتي الرد عليه قريبا بإذنه عز وجل . قوله : "ذكر الحافظ في الفتح عن ابن شهاب الزهري أنه قال : كنا نخضب بالسواد إذا كان الوجه حديدا ، فلما نفض الوجه والأسنان تركناه".
فأقول : هذا إن ثبت إسناده إلى الزهري فلا حجة فيه لأنه مقطوع موقوف عليه ، ولو أنه رفعه لم يحتج به أيضا لأنه يكون مرسلا ، فالعجب من المؤلف كيف يتعلق بمثله ليرد دلالة حديث جابر الآتي بعد هذا إن شاء الله تعالى مع الرد عليه.
ولقد أفصح الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام عن الغرض من ذكره لهذا الأثر في كتابه ، فإنه استشهد به على أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم : "وجنبوه السواد" ، خاص بالشيخ الكبير الذي عم الشيب رأسه ولحيته ! وقد رددت عليه في غاية المرام (ص83-84) ، فليراجعه من شاء.(1/67)
قوله : "وأما حديث جابر فقال : جئ بأبي قحافة (والد أبى بكر) يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن رأسه ثغامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيره بشئ ، وجنبوه السواد" . رواه الجماعة إلا البخاري
والترمذي ، فإنه واقعة عين ، ووقائع الأعيان لا عموم لها" .
قلت : لا أرى أن الحديث من "وقائع الأعيان التي لا عموم لها" ، بل هو من باب "الأمر للواحد أمر لجميع الأمة أم لا ؟ " ، والحق الأول كما سبق بيانه في "المقدمة : القاعدة 15" . ولذلك لما حكى الشوكاني في النيل (1/105) تفضي بعضهم من الحديث بأنه ليس في حق كل أحد تعقبه بقوله : "بأنه مبني على أن حكمه على الواحد ليس حكمأ على الجماعة ، وفيه خلاف معروف في الأصول" ، واختار في مكان آخر ما رجحناه ، وقد نقلت كلامه في ذلك هناك ، ولذلك جرى العلماء على الاحتجاج بهذا الحديث على أنه ليس خاصا بأبي قحافة ، وتقدم كلام النووي في ذلك قريبا .
ونحوه كلام الحافظ في الفتح (6/499و10/354) . فليراجعه من شاء . ويؤيد ما سبق أحاديث:
1 - عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة" . أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد ، والطبراني في " الكبير " ، بسند صحيح ، وقال الحافظ في الفتح : وصححه ابن حبان ، وإسناده قوي ، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه ، وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي ، فحكمه الرفع ، ولهذا اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهة تحريم ، والحديث أورده الهيثمي في المجمع (5/161) بلفظ : "يسودون أشعارهم ، لا ينظر الله إليهم" ، والباقي مثله ، ثم قال : "رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده جيد". وله شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا ، رواه أبو الحسن الإخميمي في حديثه (2/11/1).(1/68)
2 - عن أبي الدرداء مرفوعا : "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة" . قال الهيثمي : " رواه الطبراني ، وفيه الوضين بن عطاء ، وثقه أحمد وابن معين ، وابن حبان ، وضعفه من هو دونهم في المنزلة ، وبقية رجاله ثقات . وقال الحافظ (10/292) بعد أن عزاه للطبراني وابن أبى عاصم : "وسنده لين".
3 - عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : "كنا يوما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليهم اليهود ، فرآهم بيض اللحى ، فقال : ما لكم لا تغيرون ؟ فقيل : إنهم يكرهون ، فقال في صلى الله عليه وسلم : ولكنكم غيروا ، وإياي والسواد" ، قال الهيثمى : " رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه ابن لهيعة ، وبقية رجاله ثقات ، وهو حديث حسن".
4 - عن عبد الله بن عمر رفعه : "الصفرة خضاب المؤمن ، والحمرة خضاب المسلم ، والسواد خضاب الكافر" ، قال الهيثمي : رواه الطبراني ، وفيه من لم أعرفه.
قلت : فهذه الأحاديث من وقف عليها لا يتردد في القطع بحرمة الخضاب بالسواد على كل أحد ، وهو قول جماعة من أهل العلم كما تقدم عن ابن القيم ، وقال : "إنه هو الصواب بلا ريب" . وأما حديث : "إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد ، أرغب لنسائكم فيكم ، وأهيب لكم في صدور عدوكم" . رواه ابن ماجه (2/382) ، فإنه ضعيف السند ، فيه راويان ضعيفان ، وبيان ذلك في الأحاديث الضعيفة (2972).
الوضوء
الوضوء معروف من أنه :- طهارة مائية تتعلق بالوجه واليدين والرأس والرجلين ، ومباحثه ما يأتي :
(1) دليل مشروعيته :-
ثبتت مشروعيته بأدلة ثلاثة :
( الدليل الأول ) الكتاب الكريم :- قال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين).
(الدليل الثاني) السنة :- روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي .(1/69)
(الدليل الثالث) الإجماع :- انعقد إجماع المسلمين على مشروعية الوضوء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، فصار معلوما من الدين بالضرورة.
(2 ) فضله :-
ورد في فضل الوضوء أحاديث كثيرة نكتفي بالإشارة إلى بعضها :
( أ ) عن عبد الله الصنابجي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال إذا توضأ العبد فمضمض خرجت الخطايا من فيه ، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه ، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أظفار عينيه ، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظافر يديه . فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظافر رجليه . ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة) رواه مالك والنسائي وابن ماجه والحاكم .
( ب ) وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن الخصلة الصالحة تكون في الرجل يصلح الله بها عمله كله ، وطهور الرجل لصلاته يكفر الله بطهوره ذنوبه وتبقى صلاته له نافلة) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط .
قلت : هذا حديث منكر كما قال ابن عدي وابن حبان ، وقد أساء المؤلف بإيراده إياه مرتين : الأولى : أنه خرجه موهما القراء ثبوته بسكوته عليه . والأخرى : أن هذا التخريج ليس منه -كسائر تخريج كتابه - وإنما نقله عن ترغيب المنذري (1/95) ، و مجمع الهيثمي (1/225) ، وقد بينا أنه معلول بأنه من رواية بشار بن الحكم ، وهو متفق على أنه منكر الحديث لا يحتج به إذا تفرد ، كما بينته في الأحاديث الضعيفة (2999) ، وبينت هناك أن الشطر الثاني من الحديث صحيح بشواهده ، ومنها حديث الصنابحي الذي في الكتاب قبيل هذا ، فلو أن المؤلف أعرض عن ذكره لأصاب ، وإلا وجب أن يبين علته وأن لا يكتمها.(1/70)
( ج ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات . قالوا : بلى يا رسول الله ، قال إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط) رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي .
( د ) وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال : (السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون ، وددت لو أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ قال : أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم : ألا هلم ، فيقال : إنهم بدلوا بعدك فأقول : سحقا سحقاً) رواه مسلم.
( 3 ) فرائضه :-
للوضوء فرائض وأركان تتركب منها حقيقته ، إذا تخلف فرض منها لا يتحقق ولا يعتد به شرعا ، وإليك بيانها :
( الفرض الأول ) النية :- وحقيقتها الإرادة المتوجهة نحو الفعل ، ابتغاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه ، وهي عمل قلبي محض لا دخل للسان فيه ، والتلفظ بها غير مشروع ، ودليل فرضيتها حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى . . .) الحديث رواه الجماعة .
( الفرض الثاني ) غسل الوجه مرة واحدة :- أي إسالة الماء عليه ، لان معنى الغسل الإسالة . وحد الوجه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا ، ومن شحمة الإذن إلى شحمة الإذن عرضا .(1/71)
( الفرض الثالث ) غسل اليدين إلى المرفقين :- والمرفق هو المفصل الذي بين العضد والساعد ، ويدخل المرفقان فيما يجب غسله وهذا هو المضطرد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه ترك غسلهما :
( الفرض الرابع ) مسح الرأس :- والمسح معناه الإصابة بالبلل ، ولا يتحقق إلا بحركة العضو الماسح ملصقا بالممسوح فوضع اليد أو الإصبع على الرأس أو غيره لا يسمى مسحا ، ثم إن ظاهر قوله تعالى : (وامسحوا برءوسكم) لا يقتضي وجوب تعميم الرأس بالمسح ، بل يفهم منه أن مسح بعض الرأس يكفي في الامتثال ، والمحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاك طرق ثلاث :
( ا ) مسح جميع رأسه : ففي حديث عبد الله بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) رواه الجماعة.
( ب ) مسحه على العمامة وحدها : ففي حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه قال : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه) ، رواه أحمد والبخاري وابن ماجة . وعن بلال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (امسحوا على الخفين والخمار) رواه أحمد . وقال عمر رضي الله عنه : (من لم يطهره المسح على العمامة لا طهره الله) ، وقد ورد في ذلك أحاديث رواها البخاري ومسلم وغيرهما من الأئمة . كما ورد العمل به عن كثير من أهل العلم .
( ج ) مسحه على الناصية والعمامة ، ففي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين ) رواه مسلم . هذا هو المحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ عنه الاقتصار على مسح بعض الرأس ، وإن كان ظاهر الآية يقتضيه كما تقدم ، ثم إنه لا يكفي مسح الشعر الخارج عن محاذاة الرأس كالضفيرة .(1/72)
( الفرض الخامس ) غسل الرجلين مع الكعبين :- وهذا هو الثابت المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله . قال ابن عمر رضي الله عنهما : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته : ( ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاثا ، متفق عليه ، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل العقبين . وما تقدم من الفرائض هو المنصوص عليه في قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين).
( الفرض السادس ) الترتيب :- لان الله تعالى قد ذكر في الآية فرائض الوضوء مرتبة مع فصل الرجلين عن اليدين - وفريضة كل منهما الغسل - بالرأس الذي فريضته المسح ، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة . وهي هنا الترتيب ، والآية ما سبقت إلا لبيان الواجب ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : (ابدأوا بما بدأ الله به ) ومضت السنة العملية على هذا الترتيب بين الأركان فلم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتبا ، والوضوء عبادة ومدار الأمر في العبادات على الإتباع ، فليس لأحد أن يخالف المأثور في كيفية وضوئه صلى الله عليه وسلم ، خصوصا ما كان مضطردا منها.
قوله في الفرض السادس من فرائض الوضوء : في الحديث الصحيح : ابدأوا بما بدأ الله به" .
قلت : الحديث بهذا اللفظ شاذ غير صحيح ، والمحفوظ إنما بلفظ : "أبدأ" بصيغة الخبر ، وليس بصيغة الأمر . هكذا رواه مسلم وغيره كما حققته في إرواء الغليل (4/316-319/1120) ، فراجعه.(1/73)
قوله في الفرض السادس : " . . . فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتبا " . قلت : تبع المؤلف في هذا ابن القيم رحمه الله ، حيث صرح به في " زاد المعاد " ، وقد تعقبته في " التعليقات الجياد " بما أخرجه أحمد ، ومن طريقه أبو داود عن المقدام بن معدي كرب قال : " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء ، فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاثا ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ، وغسل رجليه ثلاثا". وسنده صحيح . وقال الشوكاني : "إسناده صالح".
وقد أخرجه الضياء في " المختارة " ، وهو يدل على عدم وجوب الترتيب ، وأزيد هنا فأقول : إن النووي والحافظ ابن حجر حسنا إسناده.
و قوله في الفرض السادس : ". . . فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ إلا مرتبا".
قلت : تبع المؤلف في هذا ابن القيم رحمه الله ، حيث صرح به في زاد المعاد ، وقد تعقبته في التعليقات الجياد بما أخرجه أحمد ، ومن طريقه أبو داود عن المقدام بن معدي كرب قال : "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء ، فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاثا ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ، وغسل رجليه ثلاثا".
وسنده صحيح . وقال الشوكاني : "إسناده صالح".
وقد أخرجه الضياء في المختارة ، وهو يدل على عدم وجوب الترتيب ، وأزيد هنا فأقول : إن النووي والحافظ ابن حجر حسنا إسناده.
( 4 ) سنن الوضوء:-
أي ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل من غير لزوم ولا إنكار على من تركها . وبيانها ما يأتي:-
1- التسمية في أوله :- ورد في التسمية للوضوء أحاديث ضعيفة لكن مجموعها يزيدها قوة تدل على أن لها أصلا ، وهي بعد ذلك أمر حسن في نفسه ، ومشروع في الجملة.(1/74)
قلت : أقوى ما ورد فيها حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : "لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" . له ثلاثة طرق وشواهد كثيرة أشرت إليها في صحيح سنن أبي داود (رقم 90) ، فإذا كان المؤلف قد اعترف بأن الحديث قوي ، فيلزمه أن يقول بما يدل عليه ظاهره ، ألا وهو وجوب التسمية ، ولا دليل يقتضي الخروج عن ظاهره إلى القول بأن الأمر فيه للاستحباب فقط ، فثبت الوجوب ، وهو مذهب الظاهرية ، وإسحاق ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، واختاره صديق خان ، والشوكاني ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وراجع له السيل الجرار (1/76-77).
2- السواك : - ويطلق على العود الذي يستاك به وعلى الاستياك نفسه ، وهو دلك الأسنان بذلك العود أو نحوه من كل خشن تنظف به الأسنان ، وخير ما يستاك به عود الأراك الذي يؤتي به من الحجاز ، لان من خواصه أن يشد اللثة ، ويحول دون مرض الأسنان ، ويقوي على الهضم ، ويدر البول ، وإن كانت السنة تحصل بكل ما يزيل صفرة الأسنان وينظف الفم كالفرشة ونحوها . وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل وضوء) رواه مالك والشافعي والبيهقي والحاكم . وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (السواك مطهرة للفم ، مرضاة للرب) رواه أحمد والنسائي والترمذي . وهو مستحب في جميع الأوقات ولكن في خمسة أوقات أشد استحبابا:-
( 1 ) عند الوضوء .
( 2 ) وعند الصلاة .
( 3 ) وعند قراءة القرآن
( 4 ) وعند الاستيقاظ من النوم
( 5 ) وعند تغير الفم . والصائم و المفطر في استعماله أول النهار وآخره سواء ، لحديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي ، يتسوك وهو صائم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.(1/75)
قلت : استدلاله بالحديث وسكوته عليه يوهم أنه حديث ثابت ، وليس كذلك ، لأن مدار سنده على عاصم بن عبد الله ، وهو ضعيف كما قال الحافظ في التقريب ، وقد أشار البخاري في صحيحه إلى تضعيف الحديث حيث قال : "ويذكر عن عامر بن ربيعة".
وتناقض فيه كلام الحافظ في التلخيص ، ففي موضع حسنه ، وفي آخر ضعفه ، وهذا هو المناسب ، لجزمه في الكتاب الأول بضعف راوي الحديث ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، لذلك كنا نتمنى أن يستدل على ما ذهب إليه من استحباب السواك للصائم أول النهار وآخره بالبراءة الأصلية ، وإذا أورد الحديث أن يبين ضعفه.
وإذا استعمل السواك ، فالسنة غسله بعد الاستعمال تنظيفا له ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك ، لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه) رواه أبو داود والبيهقي .
قلت : سكت عليه المؤلف تبعا لأبي داود ، ثم المنذري في مختصره ، وفي إسناده كثير بن عبيد رضيع عائشة ، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان ، وروى عنه جماعة ، وفي التقريب : مقبول.
فالحديث محتمل للتحسين ، وقد حسنه النووي ، وقواه الحافظ فاحتج به كما بينته في صحيح أبي داود (41) . والله أعلم.
ويسن لمن لا أسنان له أن يستاك بإصبعه ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله الرجل يذهب فوه أيستاك ؟ قال : (نعم) قلت : كيف يصنع ؟ قال : (يدخل إصبعه في فيه) رواه الطبراني .
قلت : سكت عليه فأوهم بثبوته ، وليس بثابت ، فقد قال الهيثمي في المجمع (2/100) : "رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه عيسى بن عبد الله الأنصاري وهو ضعيف" .
وساق له الذهبي في ترجمته من الميزان أحاديث مما أنكر عليه هذا أحدها ! وقال الحافظ في التلخيص (1/383) : "قلت : عيسى ضعفه ابن حبان ، وذكر له ابن عدي هذا الحديث من مناكيره" .
قلت : وإذا عرفت ذلك تبين لك أن قول المؤلف : "ويسن . . ." ، منكر أيضا كما لا يخفى.(1/76)
3 - غسل الكفين ثلاثا في أول الوضوء :- لحديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا) رواه أحمد والنسائي ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في إناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده) رواه الجماعة . إلا أن البخاري لم يذكر العدد.
4- المضمضة ثلاثا :- لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا توضأت فمضمض) رواه أبو داود والبيهقي.
5- الاستنشاق والاستنثار ثلاثا :- لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر) رواه الشيخان وأبو داود . والسنة أن يكون الاستنشاق باليمنى والاستنثار باليسرى ، لحديث علي رضي الله عنه (أنه دعا بوضوء فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى ، ففعل هذا ثلاثا ، ثم قال : هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد والنسائي . وتتحقق المضمضة والاستنشاق إذا وصل الماء إلى الفم والأنف بأي صفة ، إلا أن الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل.(1/77)
أقول : إن كان يعني التثليث فيهما فهو مسلم ، وإن كان يعني أصل المذكورات - كما هو الظاهر - فهو مرفوض ، لأنه خلاف الأوامر التي جاءت في الأحاديث التي ذكرها ، فإنها تدل على وجوبها ، ولذلك قال الشوكاني في السيل الجرار (1/81) : "أقول : القول بالوجوب هو الحق ، لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ، ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه . وقد ثبت مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ، ورواه جميع من روى وضوه صلى الله عليه وسلم وبين صفته ، فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق . وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة . . ." . ثم ذكر حديث لقيط بن صبرة.
ثم ذكر مثل ذلك في تخليل اللحية ، وهو الصواب ، وينبغي أن يقال ذلك في تخليل الأصابع أيضا لثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم .
وأقول تعقيبا على كلام الحافظ : قد رويت تلك الجملة من غير هذه الرواية المتقدمة ، فأخرجه الإمام أحمد (2/262) ، من طريق ليث عن كعب عن أبي هريرة مرفوعا به . إلا أن ليثا ، وهو ابن أبي سليم ، ضعيف لا يحتج به إذا تفرد فكيف إذا خالف؟!
6- تخليل اللحية :- لحديث عثمان رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وعن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء ، فأدخله تحت حنكه فخلل به ، وقال : (هكذا أمرني ربي عز وجل) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم.(1/78)
7 - تخليل الأصابع :- لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة ، وعن المستورد بن شداد رضي الله عنه قال : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلل أصابع رجليه بخنصره) رواه الخمسة إلا أحمد . وقد ورد ما يفيد استحباب تحريك الخاتم ونحوه كالأساور ، إلا أنه لم يصل إلى درجة الصحيح ، لكن ينبغي العمل به لدخوله تحت عموم الأمر بالإسباغ .
8 - تثليث الغسل :- وهو السنة التي جرى عليها العمل غالبا وما ورد مخالفا لها فهو لبيان الجواز . فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء ، فأراه ثلاثا ثلاثاً وقال : (هذا الوضوء ، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة . وعن عثمان رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثاً) رواه أحمد ومسلم والترمذي ، وصح أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ومرتين مرتين ، أما مسح الرأس مرة واحدة فهو الأكثر رواية.
قلت : بلى ، قد صح من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا ، أخرجه أبو داود بسندين حسنين ، وله إسناد ثالث حسن أيضا ، وقد تكلمت على هذه الأسانيد بشئ من التفصيل في صحيح أبي داود (رقم95،98) ، وقد قال الحافظ في الفتح : "وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس ، والزيادة من الثقة مقبولة"، وذكر في التلخيص أن ابن الجوزي مال في كشف المشكل إلى تصحيح التكرير.
قلت : وهو الحق ، لأن رواية المرة الواحدة وإن كثرت لا تعارض رواية التثليث ، إذ الكلام في أنه سنة ، ومن شأنها أن تفعل أحيانا وتترك أحيانا ، وهو اختيار في سبل السلام ، فراجعه إن شئت.(1/79)
9 - التيامن :- أي البدء بغسل اليمين قبل غسل اليسار من اليدين والرجلين ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في تنعله وترجله و طهوره ، وفي شأنه كله) متفق عليه ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا لبستم وإذا توضأتم فأبدءوا بأيمانكم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.
10- الدلك :- وهو إمرار اليد على العضو مع الماء أو بعده ، فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثلث مد فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه) رواه ابن خزيمة.
قلت : الحديث في بلوغ المرام وغيره برواية ابن خزيمة بلفظ : "ثلثي" ، على التثنية ، وكذلك هو في "مستدرك الحاكم" و "سنن البيهقي" ، فالظاهر أن ما في الكتاب خطأ مطبعي فيصحح ، وقد قال الصنعاني : "فثلثا المد هو أقل ما ورد أنه توضأ به صلى الله عليه وسلم ، وأما حديث أنه توضأ بثلث مد ، فلا أصل له.
ثم طبع - والحمد لله - "صحيح ابن خزيمة" ، فرأيت الحديث فيه (1/6 2/118) بلفظ التثنية ، وهو مخرج في "صحيح أبي داود" (84) وبالله التوفيق.
وعنه رضي الله عنه ، (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فجعل يقول هكذا : يدلك) رواه أبو داود الطيالسي وأحمد وابن حبان وأبو يعلى.
11 - الموالاة :- إي تتابع غسل الأعضاء بعضها إثر بعض بألا يقطع المتوضئ وضوءه بعمل أجنبي ، يعد في العرف انصرافا عنه وعلى هذا مضت السنة ، وعليها عمل المسلمين سلفا وخلفا.(1/80)
12 - مسح الأذنين :- والسنة مسح باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بالإبهامين بماء الرأس لأنهما منه . فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسح في وضوئه رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ، وأدخل أصبعه في صماخي أذنيه) رواه أبو داود والطحاوي ، وعن ابن عامر رضي الله عنهما في وصفه وضوء النبي صلى الله عليه وسلم (ومسح برأسه وأذنيه مسحة واحدة) رواه أحمد وأبو داود . وفي رواية (مسح رأسه وأذنيه وباطنهما بالمسبحتين وظاهرهما بإبهاميه).
13- إطالة الغرة والتحجيل :- أما إطالة الغرة فبأن يغسل جزءا من مقدم الرأس ، زائدا عن المفروض في غسل الوجه وأما إطالة التحجيل ، فبأن يغسل ما فوق المرفقين والكعبين لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء) فقال أبو هريرة : فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل . رواه أحمد والشيخان .
قلت : قوله في الحديث : "فمن استطاع . . ." مدرج فيه من أحد رواته ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره غير واحد من الحفاظ ، كما قال المنذري في الترغيب (1/92) ، والحديث عندهم من رواية نعيم بن المجمر عن أبي هريرة ، وقد بين أحمد في رواية له (2/334-523) أنه مدرج ، فقال في آخر الحديث : "فقال نعيم : لا أدري قوله : "من استطاع أن يطيل غرته فليفعل" من قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، أو من قول أبي هريرة ؟" . وقال الحافظ في الفتح : "لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة ، وهم عشرة ، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه".
وكان ابن تيمية يقول : هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلامه صلى الله عليه وسلم فإن الغرة لا تكون في اليد ، لا تكون إلا في الوجه ، وإطالته غير ممكنة ، إذ تدخل في الرأس ، فلا تسمى تلك غرة ، كذا في "إعلام الموقعين" (6/316).(1/81)
وعن أبي زرعة (أن أبا هريرة رضي الله عنه دعا بوضوء فتوضأ وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفقين ، فلما غسل رجليه جاوز الكعبين إلى الساقين ، فقلت : ما هذا ؟ فقال : هذا مبلغ الحلية) رواه أحمد واللفظ له ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
قلت : فيه ملاحظتان :
الأولى : أن اللفظ لأحمد (2/232) ، فكان ينبغي بيان ذلك ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
الثانية : أن مسلما لم يخرجه من رواية أبي زرعة ، فلا يجوز عزوها إليه ، وإنما رواه من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مختصرا ، ومن طريق نعيم بن المجمر عنه أتم من الروايتين ، ولفظه : ". . . ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء ، فمن استطاع. . .الحديث" . وهكذا أخرجه أبو عوانة في صحيحه (1/243) ، ولكنه لم يصرح برفع الجملة الأخيرة إلى النبي صلى الله عليه وآله ، والله أعلم.(1/82)
14 - الاقتصاد في الماء وإن كان الاغتراف من البحر :- لحديث أنس رضي الله عنه قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد) ، متفق عليه ، وعن عبيدالله بن أبي يزيد أن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنهما : (كم يكفيني من الوضوء ؟ قال مد ، قال كم يكفيني للغسل ؟ قال صاع ، فقال الرجل : لا يكفيني ، فقال : لا أم لك قد كفى من هو خير منك : رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات ، وروي عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال . (ما هذا السرف يا سعد ؟ ! فقال : وهل في الماء من سرف ؟ قال : (نعم وإن كنت على نهر جار) رواه أحمد وابن ماجة وفي سنده ضعف ، والإسراف يتحقق باستعمال الماء لغير فائدة شرعية ، كأن يزيد في الغسل على الثلاث ، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال : (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثاً ، قال : (هذا الوضوء ، من زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة بأسانيد صحيحة ، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة . قال البخاري : كره أهل العلم في ماء الوضوء أن يتجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
15 - الدعاء أثناء :- لم يثبت من أدعية الوضوء شئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فسمعته يقول يدعو : (اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسع لي في داري ، وبارك لي في رزقي) فقلت : يا نبي الله سمعتك تدعو بكذا وكذا قال : (وهل تركن من شئ ؟) رواه النسائي وابن السني بإسناد صحيح.(1/83)
قلت : لنا على هذا مؤاخذات :
الأولى : أن الحديث ليس من أذكار الوضوء ، وإنما هو من أذكار الصلاة ، بدليل رواية الإمام أحمد في المسند ، وابنه عبد الله في زوائده ، من طريق عبد الله بن محمد بن أبى شيبة : ثنا معتمر بن سليمان عن عباد بن عباد عن أبي مجلز عن أبى موسى به مختصرا بلفظ : "فتوضأ وصلى وقال : اللهم . . ." ، وقد قال الحافظ في "أماليه على الأذكار" : رواه الطبراني في الكبير من رواية مسدد وعارم والمقدمي كلهم عن معتمر ، ووقع في روايتهم : "فتوضأ ثم صلى ثم قال : . . ." ، وهذا يدفع ترجمة ابن السني حيث قال : "باب ما يقوله بين ظهراني وضوئه" ، لتصريحه بأنه قاله بعد الصلاة ، ويدفع احتمال كونه بين الوضوء والصلاة).
الثانية : أنه أطلق عزوه للنسائي فأوهم أن الحديث في سننه ، لأنه هو الذي يفهم عند المشتغلين بالسنة عند الإطلاق ، ولم يروه في السنن ، بل في " عمل اليوم والليلة كما صرح بذلك النووي في الأذكار (ص38) ، فكان على المؤلف أن يقيده بذلك ، ولا سيما إنه نقل جل ما في هذا الفصل عن النووي ، وإن لم يصرح بذلك ! ثم رأيته في عمل اليوم والليلة للنسائي (172/80) ، وترجم له بما ترجم له ابن السني في كتابه (7).
ومثل هذا الإيهام قد تكرر من المؤلف كثيرا ، ولم أنبه عليه إلا نادرا لمناسبة ما ، لأنه لا فائدة كبرى في ذلك . الثالثة : جريه مع النووي على تصحيح إسناده ! وليس كذلك ، بل هو ضعيف لانقطاعه ما بين أبي مجلز وأبي موسى كما يأتي بيانه
، ولم يتنبه لذلك النووي ومن تبعه ، وقوفا منهم مع ظاهر إسناده ، فإنهم ثقات جميعأ . قال الحافظ ابن حجر في الأمالي : "وأما حكم الشيخ (يعني الإمام النووي) على الإسناد بالصحة ففيه نظر ، لأن أبا مجلز لم يلق سمرة بن جندب ، ولا عمران بن حصين فيما قال ابن المديني ، وقد تأخرا بعد أبي موسى ، ففي سماعه من أبي موسى نظر ، وقد عهد منه الإرسال عمن يلقاه".(1/84)
وقد وجدت للحديث علة أخرى ، وهي الوقف ، فقد أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف (1/297) من طريق أبي بردة قال : كان أبو موسى إذا فرغ من صلاته قال : "اللهم اغفر لي ذنبي ، ويسر لي أمري ، وبارك لي في رزقي" . وسنده صحيح ، وهذا يرجح أن الحديث أصله موقوف ، وأنه لا يصح رفعه ، وأنه من أذكار الصلاة لو صح . وقد غفل عن هذا التحقيق المعلق على "زاد المعاد" ، فإنه صرح بأن سنده صحيح تبعا للنووي ، ثم تعقب مؤلف "الزاد" الذي ذكر الحديث في أدعية الصلاة ، فقال : "ولم نر من ذكره في أدعية الصلاة كما ذكر المصنف"! ! نعم الدعاء الذي في الحديث له شاهد ذكرته في غاية المرام (ص85) ، فالدعاء به مطلقا غير مقيد بالصلاة أو الوضوء حسن ، ولذلك أوردته في صحيح الجامع (1276) ، وغفل عن هذا بعض إخواننا ، فأورده فيما يقال في الوضوء أو الصلاة - والشك مني - فرسالته لا تطولها الآن يدي.
لكن النسائي أدخله في (باب ما يقول بعد الفراغ من الوضوء) وابن السني ترجم له (باب ما يقول بين ظهراني وضوئه) ، قال النووي وكلاهما محتمل.
16 - الدعاء بعده :- لحديث عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) رواه مسلم ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من توضأ فقال : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم جعل في طابع فلم يكسر إلى يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط ، ورواته رواة الصحيح ، واللفظ له ورواه النسائي وقال في آخره : (ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش فلم تكسر إلى يوم القيامة) وصوب وقفه .
قلت : فيه مؤاخذات : الأولى :(1/85)
أطلق عزوه للنسائي ، فأوهم أنه في سننه ، وليس كذلك ، وإنما أخرجه في عمل اليوم والليلة كما قيده النووي ، والحافظ المزي في التحفة (3/صفحة98/447) ، والعسقلاني ، وهو فيه برقم (81و82) ، وأما عزو ابن القيم إياه في الزاد ل"سنن النسائي" فوهم محض لم يتنبه له المعلق عليه ، ثم قصر تقصيرا فاحشا في تخريجه ، فلم يعزه لغير ابن السني بسند
ضعيف!
الثانية : أن النسائي قال في المرفوع : "هذا خطأ ، والصواب موقوف".
فكان ينبغي نقله عنه أداء للأمانة ، ثم الجواب عن هذا الإعلال كما فعل الحافظ بأنه في حكم المرفوع ، لأنه لا يقال بمجرد الرأي ، وبخاصة أنه جاء مرفوعا من طرق أخرى كما هو مبين في "الصحيحة" (2333).
الثالثة : أن التخريج المذكور من رواية الطبراني . . نقله من كتاب " الترغيب " للمنذري (1/105) ، وقد قال في آخره : "وصوب وقفه على أبي سعيد" . وكذلك قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/239) . وقد عرفت الجواب آنفا . وقد وقع لبعض العلماء حول هذا الحديث أخطاء عجيبة ، لا أطيل الكلام بذكرها هنا ، ومحل ذلك في المصدر السابق . والله تعالى هو الموفق.
وأما دعاء : (أللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، فهي في رواية الترمذي ، وقد قال في الحديث وفي إسناده اضطراب ، ولا يصح فيه شئ كبير.
قلت : هذا الكلام يوهم أن الدعاء المذكور جاء في حديث تفرد بإخراجه الترمذي ، وأعله بالاضطراب ، والواقع أن الحديث أصله عند مسلم وغيره من حديث عمر ، وقد ذكره المؤلف قبيل هذا الكلام ، وكذلك رواه الترمذي ، وزاد فيه بعد التهليل هذا الدعاء ، ثم أعله بالاضطراب كما نقله المصنف عنه ، وهولا يريد به الزيادة وحدها ، بل الحديث جملة ، وحينئذ يكون المصنف قد نقل نقلين متناقضين : تصحيح مسلم للحديث ، وتضعيف الترمذي له ، ثم هو لم يرجح أحدهما على الآخر.(1/86)
والحق أن الحديث صحيح ، والاضطراب المشار إليه ليس من الاضطراب الذي يعل به الحديث ، ولا يتسع المجال لبيان ذلك ، فمن شاء التحقق مما نقول فليراجع تعليق الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر على الترمذي (1/77-83) ، فقد جمع فيه طرق الحديث ، وبين أنه لا اضطراب فيها . فإن قيل : قد عرفنا أن الحديث صحيح ، فما حاله إسناد هذه الزيادة عند الترمذي ؟ قلت : إسنادها صحيح ، رجاله كلهم ثقات ، رجال مسلم ، غير شيخ الترمذي جعفر بن محمد بن عمران التغلبي ، وهو صدوق كما قال أبو حاتم . ثم إن لها شواهد من حديث ثوبان عند ابن السني (رقم 30) ، وابن عمر ، وأنس ، كما ذكره البيهقي في سننه (1/78) ، ولذلك جزم ابن القيم في زاد المعاد (1/69) بثبوت الحديث مع هذه الزيادة عن النبي صلى الله عليه وآله.(1/87)
17 - صلاة ركعتين بعده :- لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال : (يا بلال حدثني بأرجي عمل عملته في الإسلام إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة . قال : ما عملت عملا أرجى عندي من إني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي) . متفق عليه ، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه ، وعن خمران مولى عثمان : أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء فأفرغ عن يمينه من إنائه فغسلها ثلاث مرات ، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم وغيرهما . وما بقي من تعاهد موقي العينين وغضون الوجه ، ومن تحريك الخاتم ، ومن مسح العنق ، لم نتعرض لذكره ، لان الأحاديث فيها لم تبلغ درجة الصحيح ، وإن كان يعمل بها تتميما للنظافة.
قلت : العنق ليس محلا للنظافة في الوضوء شرعا بخلاف المحال الأخرى التي ذكرت قبله ، ولذلك فإني لا أرى جواز مسحه في الوضوء ، إلا بدليل خاص يصلح الاحتجاج به ، وهو مفقود كما أشار إليه المصنف ، وخلاف هذا تشريع بالرأي لا يجوز . على أن تحريك الخاتم لا بد منه إذا كان ضيقا . والله ولي التوفيق.
( 4 ) – مكروهاته :-
يكره للمتوضئ أن يترك سنة من السنن المتقدم ذكرها ، حتى لا يحرم ثوابها ، لان فعل المكروه يوجب حرمان الثواب ، وتتحقق الكراهية بترك السنة.
( 5 )- نواقض الوضوء :-
للوضوء نواقض تبطلة وتخرجه عن إفادة المقصود منه ، نذكرها فيما يلي :-(1/88)
1 - كل ما خرج من السبيلين (القبل والدبر) ويشمل ذلك ما يأتي :-
( 1 ) البول.
( 2 ) الغائط ، لقول الله تعالى : (أو جاء أحد منكم من الغائط) وهو كناية عن قضاء الحاجة من بول وغائط.
( 3 ) ريح الدبر : لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) فقال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : (فساء أو ضراط) . متفق عليه ، وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) رواه مسلم وليس السمع أو وجدان الرائحة شرطا في ذلك ، بل المراد حصول اليقين وبخروج شئ منه.
( 4 ، 5 ، 6 ) المني والمذي والودي ، لقول رسول الله في المذي : (فيه الوضوء) ولقول ابن عباس رضي الله عنهما : (أما المني فهو الذي منه الغسل ، وأما المذي والودي فقال : أغسل ذكرك أو مذاكيرك ، وتوضأ وضوءك للصلاة) ، رواه البيهقي في السنن.
قلت : هذا موقوف ، والاستدلال به وحده - مع أنه مختلف في صلاحيته للاحتجاج به - يوهم أن ليس في المرفوع ما يدل على ما دل عليه الموقوف ، ولو بالنسبة لبعض النواقض ، وليس كذلك ، ففي المذي أحاديث أشهرها حديث علي ابن أبي طالب قال : "استحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي من أجل فاطمة ، فأمرت رجلا فسأله ، فقال : فيه الوضوء" أخرجه الشيخان وغيرهما ، وهو مخرج في صحيح أبي داود (200) ، و الإرواء (108).(1/89)
2 - النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك مع عدم تمكن المقعدة من الأرض :- لحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه . فإذا كان النائم جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لا ينتقض وضوءه ، وعلى هذا يحمل حديث أنس رضي الله عنه قال : ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون ) . رواه الشافعي ومسلم وأبو داود والترمذي ، ولفظ الترمذي من طريق شعبة : (لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظون للصلاة حتى لأسمع لأحدهم غطيطا ، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون) قال ابن المبارك : هذا عندنا وهم جلوس.
قلت : قد ذكر الحافظ في الفتح (1/251) نحو كلام ابن المبارك هذا ، ثم رده بقوله : "لكن في مسند البزار بإسناد صحيح في هذا الحديث : فيضعون جنوبهم ، فمنهم من ينام ، ثم يقومون إلى الصلاة" .(1/90)
قلت : وأخرجه أيضا أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص318) بلفظ : "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضعون جنوبهم فينامون ، فمنهم من يتوضأ ، ومنهم من لا يتوضأ" . وإسناده صحيح على شرط الشيخين . فهذا اللفظ خلاف اللفظ الأول : "تخفق رؤوسهم" ، فإن هذا إنما يكون وهم جلوس كما قال ابن المبارك ، فإما أن يقال : إن الحديث مضطرب ، فيسقط الاستدلال به ، وإما أن يجمع بين اللفظين ، فيقال : كان بعضهم ينام جالسا ، وبعضهم مضطجعا ، فمنهم من يتوضأ ، ومنهم من لا يتوضأ ، وهذا هو الأقرب ، وحينئذ فالحديث دليل لمن قال : إن النوم لا ينقض الوضوء مطلقا ، وقد صح ذلك عن أبي موسى الأشعري ، وابن عمر ، وابن المسيب ، كما في الفتح ، وهو باللفظ الآخر لا يمكن حمله على النوم ممكنا مقعدته من الأرض ، وحينئذ فهو معارض لحديث صفوان بن عسال المذكور في الكتاب بلفظ : " . . . لكن من غائط وبول ونوم " ، فإنه يدل على أن النوم ناقض مطلقا كالغائط والبول ، ولا شك أنه أرجح من حديث أنس ، لأنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك حديث أنس ، إذ من الممكن أن يكون ذلك قبل إيجاب الوضوء من النوم . فالحق أن النوم ناقض مطلقا ، ولا دليل يصلح لتقييد حديث صفوان ، بل يؤيده حديث علي مرفوعا : "وكاء السه العينان ، فمن نام فليتوضأ" ، وإسناده حسن كما قال ذري المنذري والنووي وابن الصلاح ، وقد بينته في صحيح أبي داود (رقم198) ، فقد أمر صلى الله عليه وآله كل نائم أن يتوضأ . ولا يعكر على عمومه - كما ظن البعض - أن الحديث أشار إلى أن النوم ليس ناقضا في نفسه ، بل هو مظنة خروج شئ من الإنسان في هذه الحالة ، فإنا نقول : لما كان الأمر كذلك ، أمر صلى الله عليه وآله كل نائم أن يتوضأ ، ولو كان متمكنا ، لأنه عليه السلام أخبر أن العينين وكاء السه ، فإذا نامت العينان ، انطلق الوكاء ، كما في حديث آخر ، والمتمكن نائم ، فقد ينطلق وكاؤه ، ولو في بعض الأحوال ،(1/91)
كأن يميل يمينا أو يسارا ، فاقتضت الحكمة أن يؤمر بالوضوء كل نائم . والله أعلم . وما اخترناه هو مذهب
ابن حزم ، وهو الذي مال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام في قصة طريفة حكاها عنه ابن عبد البر في شرح الموطأ
(1/117/2) قال : "كنت أفتي أن من نام جالسا لا وضوء عليه حتى قعد إلى جنبي رجل يوم الجمعة ، فنام ، فخرجت منه ريح ! فقلت : قم فتوضأ . فقال : لم أنم . فقلت : بلى ، وقد خرجت منك ريح تنقض الوضوء ! فجعل يحلف بالله ما كان ذلك منه ، وقال لي : بل منك خرجت ! فزالت ما كنت أعتقد في نوم الجالس ، وراعيت غلبة النوم ومخالطته القلب".(1/92)
( فائدة هامة ) : قال الخطابي في غريب الحديث (ق32/2) : "وحقيقة النوم هو الغشية الثقيلة التي تهجم على القلب فتقطعه عن معرفة الأمور الظاهرة . و ( الناعس ) : هو الذي رهقه ثقل فقطعه عن معرفة الأحوال الباطنة " . وبمعرفة هذه الحقيقة من الفرق بين النوم والنعاس تزول إشكالات كثيرة ، ويتأكد القول بأن النوم ناقض مطلقا . ولقد أنحرف قلم الشوكاني عن الصواب هنا في السيل الجرار ، فإنه بعد أن قرر وجه القول المذكور أحسن تقرير ، عقب عليه بقوله (1/96) : "ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا ، وهي تقوي بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي ل "المنتفى" ، فتكون مقيدة لما ورد في نقض مطلق النوم ، فلا ينقض إلا نوم المضطجع " ! وأنت إذا رجعت إلى الشرح المذكور وجدته قد ذكر فيه ثلاثة أحاديث : الأول : عن ابن عباس : "ليس على من نام ساجدا وضوء . . ، ومع أنه قد ذكر تضعيفه عن جمع كثير من الأئمة . وعن البيهقي أنه قال : أنكره جميع أئمة الحديث على أبي خالد الدالاني . فقد حاول تقويته بقول الذهبي في " المعني " في الدالاني : " مشهور حسن الحديث " . وليس يخفى على العارف بهذا الفن ، أن مثل هذا القول لو سلم به ، فلا يفيد تقوية للحديث ، وقد أجمع المحدثون المتقدمون على إنكاره كما تقدم ، فكيف وقد قال الحافظ في الدالاني هذا : "صدوق يخطئ كثيرا وكان يدلس" ؟ ! والذهبي نفسه قد ذكر هذا الحديث في ترجمته من الميزان في جملة ما أنكر عليه ؟ ! فكيف وفي إسناده علل ثلاثة أخرى بينتها في كتابي ضعيف أبي داود (25) ، ذكر الشوكاني نفسه منها الوقف ، ولكنه مر عليها ! الثاني : عن ابن عمرو مرفوعا نحوه . قال الشوكاني : " وفيه مهدي بن هلال ، وهو متهم بوضع الحديث . وعمر بن هارون البلخي ، وهو متروك . ومقاتل بن سليمان ، وهو متهم " . الثالث : عن حذيفة مرفوعا : قال البيهقي : "تفرد به بحر بن كنيز وهو متروك لا يحتج به" .(1/93)
فأنت ترى أن هذه الأحاديث شديدة الضعف ، فلا ينجبر ضعفها بمجموعها ، كما هو معلوم عند الشوكاني وغيره ، فلا أدري ما الذي حمله على المخالفة ؟
3- زوال العقل :- سواء كان الجنون أو بالإغماء أو بالكسر أو بالدواء . وسواء قل أو كثر ، وسواء كانت المقعدة ممكنة من الأرض أم لا ، لان الذهول عند هذه الأسباب أبلغ من النوم ، وعلى هذا اتفقت كلمة العلماء.
4- مس الفرج بدون حائل :- لحديث يسرة بنت صفوان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ) رواه الخمسة وصححه الترمذي وقال البخاري وهو أصح شئ في هذا الباب ، ورواه أيضا مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وقال أبو داود : قلت لأحمد : حديث يسرة ليس بصحيح ؟ فقال : بل هو صحيح ، وفي رواية لأحمد والنسائي عن يسرة : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ويتوضأ من مس الذكر ) وهذا يشمل ذكر نفسه وذكر غيره ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من أفضى بيده إلى ذكر ليس دونه ستر ، فقد وجب عليه الوضوء) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه هو وابن عبد البر ، وقال ابن السكن : هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب ، وفي لفظ الشافعي (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ، ليس بينها وبينه شئ فليتوضأ ) ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم : ( أيما رجل مس فرجه فليتوضأ ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ) . رواه أحمد ، قال ابن القيم : قال الحازمي : هذا إسناد صحيح ، ويرى الأحناف أن مس الذكر لا ينقض الوضوء لحديث طلق : (أن رجلا سأل النبي عن رجل يمس ذكره ، هل عليه الوضوء ؟ فقال : لا ، إنما هو بضعة منك) رواه الخمسة ، وصححه ابن حبان ، قال ابن المديني : هو أحسن من حديث يسرة.(1/94)
قلت : قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هو بضعة منك" ، فيه إشارة لطيفة إلى أن المس الذي لا يوجب الوضوء إنما هو الذي لا يقترن معه شهوة ، لأنه في هذه الحالة يمكن تشبيه مس العضو بمس عضو آخر من الجسم ، بخلاف ما إذا مسه بشهوة ، فحينئذ لا يشبه مسه مس العضو الآخر ، لأنه لا يقترن عادة بشهوة ، وهذا أمر بين كما ترى ، وعليه فالحديث ليس دليلا للحنفية الذين يقولون بأن المس مطلقا لا ينقض الوضوء ، بل هو دليل لمن يقول بأن المس بغير شهوة لا ينقض ، وأما المس الشهوة فينقض ، بدليل حديث بسرة ، وبهذا يجمع بين الحديثين ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه على ما أذكر . والله أعلم.
( 6 )- ما لا ينقض الوضوء:-
أحببنا أن نشير إلى ما ظن أنه ناقض للوضوء وليس بناقض ، لعدم ورود دليل صحيح يمكن أن يعول عليه في ذلك ، وبيانه فيما يلي :
1 - لمس المرأة بدون حائل :- فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم وقال : (إن القبلة لا تنقض الوضوء ولا تفطر الصائم) أخرجه إسحاق ابن راهويه ، وأخرجه أيضا البزار بسند جيد . قال عبد الحق : لا أعلم له علة توجب تركه . وعنها رضي الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من الفراض فالتمسته ، فوضعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ، وهو يقول : (اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك) رواه مسلم والترمذي وصححه ، وعنها رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) ، رواه أحمد والأربعة ، بسند رجاله ثقات ، وعنها رضي الله عنها قالت : (كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي) وفي لفظ (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي) متفق عليه.(1/95)
2 - خروج الدم من غير المخرج المعتاد :- سواء كان بجرح أو حجامة أو رعاف ، وسواء كان قليلا أو كثيرا : قال الحسن رضي الله عنه : (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم) رواه البخاري ، وقال : وعصر ابن عمر رضي الله عنهما بثرة وخرج منها الدم فلم يتوضأ وبصق ابن أبي أوقى دما ومضى في صلاته ، وصلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وجرحه يثعب دما وقد أصيب عباد بن بشر بسهام وهو يصلي فاستمر في صلاته ، رواه أبو داود وابن خزيمة والبخاري تعليقا.
3 - القئ :- سواء أكان مل ء الفم أو دونه ، ولم يرد في نقضه حديث يحتج به.
4 - أكل لحم الإبل :- وهو رأي الخلفاء الأربعة وكثير من الصحابة والتابعين ، إلا أنه صح الحديث بالأمر بالوضوء منه . فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ . . قال : (إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ) ، قال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم توضأ من لحوم الإبل ، قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : لا) رواه أحمد ومسلم ، وعن البراء ابن عازب رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل ؟ فقال : توضئوا منها وسئل عن لحوم الغنم ؟ فقال : لا تتوضئوا منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ؟ فقال : لا تصلوا فيها ، فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ؟ فقال : صلوا فيها فإنها بركة) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان ، وقال ابن خزيمة : لم أر خلافا بين علماء الحديث في أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل ، لعدالة ناقليه ، وقال النووي : هذا المذهب أقوى دليلا ، وإن كان الجمهور على خلافه ، انتهى .
إلا أنه يقال : كيف خفي حديث جابر والبراء على الخلفاء الراشدين والجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين.(1/96)
قلت : هذا الاستفهام لا طائل تحته بعد أن صح الحديث عنه صلى الله عليه وسلم باعتراف المؤلف ، فلا يجوز تركه مهما كان المخالفون له في العدد والمنزلة ، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما "يثبت بنفسه لا بعمل غيره من بعده" كما قال الإمام الشافعي على ما سبق في "المقدمة : القاعدة14" . وإني لأستغرب جدا من المؤلف هذا القول ، لأنه لا يتفق في شئ مع الغرض الذي من أجله وضع كتابه هذا ، وهو "جمع المسلمين على الكتاب والسنة ، والقضاء على الخلاف وبدعة التعصب للمذاهب" ، كما نص هو عليه في المقدمة ، بل إن قوله هذا تأييد عملي للمقلدة الذين يردون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الدعوى في أئمتهم!
ملاحظة :- (ثم رأيت المؤلف جزاه الله خيرا قد حذف من طبعته الجديدة للكتاب (1/55) هذا الاستفهام ، تجاوبا منه مع إنكارنا إياه . أثابه الله).
أقول : هذا على افتراض أن ما ذكره المؤلف عن الخلفاء الراشدين من مخالفة الحديث ثابت عنهم ، وإلا فإني أقول : أين السند الصحيح بذلك عنهم ؟ وهذا أقل ما يجب على من يريد أن يرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة غيره له ! ! وليس للمؤلف أي دليل أو سند في إثبات ذلك إلا اعتماده على ما ذكره النووي في شرح مسلم أنه : "ذهب
الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء - يعني أكل لحم الجزور - ، وممن ذهب إليه الخلفاء الأربعة الراشدون . . ." ، وهذه الدعوى خطأ من النووي رحمه الله ، قد نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقال في القواعد النورانية (ص9) :(1/97)
"وأما من نقل عن الخلفاء الراشدين أو جمهور الصحابة أنهم لم يكونوا يتوضؤون من لحوم الإبل ، فقد غلط عليهم ، إنما توهم ذلك لما نقل عنهم أنهم لم يكونوا يتوضؤون مما مست النار ، وإنما المراد أن كل ما مست النار ليس سببا عندهم لوجوب الوضوء ، والذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الوضوء من لحوم الإبل ليس سببه مس النار ، كما يقال : كان فلان لا يتوضأ من مس الذكر ، وإن كان يتوضأ منه إذا خرج منه مذي".
قلت : ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الطحاوي (1/41) ، والبيهقي (1/157) رويا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب أكلا خبزا ولحما فصليا ، ولم يتوضيا . ثم أخرجا نحوه عن عثمان ، والبيهقي عن علي . فأنت ترى أنه ليس في هذه الآثار ذكر للحم الإبل البتة ، وإنما ذكر فيها اللحم مطلقا ، وهذا لو كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب حمله على غير لحم الإبل دفعا للتعارض ، فكيف وهو عن غيره صلى الله عليه وسلم، فحمله على غير لحم الإبل واجب من باب أولى ، حملا لأعمالهم على موافقة الشريعة ، لا على مخالفتها ، ولذلك أورد الطحاوي والبيهقي هذه الآثار في باب "الوضوء مما مست النار" ، ولم يوردها البيهقي في "باب التوضوء من لحوم الإبل" ، وإنما قال فيه : "وروينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس : الوضوء مما خرج وليس مما دخل ، وإنما قالا ذلك في ترك الوضوء مما مست النار" . ثم روى البيهقي فيه بسنده عن ابن مسعود أنه أكل لحم جزور ولم يتوضأ ، ثم قال : "وهذا منقطع وموقوف ، وبمثل هذا لا يترك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قلت : وبخاصة أنه ثبت عن الصحابة خلافه ، فقال جابر بن سمرة رضي الله عنه : كنا نتوضأ من لحوم الإبل ، ولا نتوضأ من لحوم الغنم ، رواه ابن أبي شيبة في المصنف (1/46) بسند صحيح عنه.(1/98)
5 - شك المتوضئ في الحدث :- إذا شك المتطهر ، هل أحدث أم لا ؟ لا يضره الشك ولا ينتقض وضوءه سواء كان في الصلاة أو خارجها ، حتى يتيقن أنه أحدث . فعن عباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه قال : شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة ؟ قال : (لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) رواه الجماعة إلا الترمذي ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا وجد أحدكم في نفسه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) رواه مسلم وأبو داود والترمذي ، وليس المراد خصوص سماع الصوت ووجدان الريح ، بل العمدة اليقين بأنه خرج منه شئ ، قال ابن المبارك : إذا شك في الحدث فإنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن استيقانا يقدر أن يحلف عليه ، أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين.
6 - القهقهة في الصلاة :- لا تنقض الوضوء ، لعدم صحة ما ورد في ذلك.
7 - تغسيل الميت :- لا يجب منه الوضوء لضعف دليل النقض.
( 7 )- ما يجب له الوضوء :-
يجب الوضوء لأمور ثلاثة :
( الأول ) الصلاة مطلقا :- فرضا أو نفلا ، ولو صلاة جنازة لقول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم ، وأرجلكم إلى الكعبين) : أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا يقبل الله صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول) رواه الجماعة إلا البخاري.
( الثاني ) الطواف بالبيت :- لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ) رواه الترمذي والدار قطني وصححه الحاكم ، وابن السكن وابن خزيمة .(1/99)
( الثالث ) مس المصحف :- لما رواه أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهله اليمن كتابا وكان فيه : (لا يمس القرآن إلا طاهر) . رواه النسائي والدار قطني والبيهقي والاثرم ، قال ابن عبد البر في هذا الحديث : إنه أشبه بالتواتر ، لتلقي الناس له بالقبول ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يمس القرآن إلا طاهر) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : (رجاله موثقون) فالحديث يدل على أنه لا يجوز مس المصحف ، إلا لمن كان طاهرا ولكن (الطاهر) لفظ مشترك ، يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر ، والطاهر من الحدث الأصغر ، ويطلق على المؤمن ، وعلى من ليس على بدنه نجاسة ، ولابد لحمله على معين من قرينة . فلا يكون الحديث نصا في منع المحدث حدثا أصغر من مس المصحف.(1/100)
قلت : هذا الكلام اختصره المؤلف من كلام الشوكاني على الحديث في نيل الأوطار (1/180-181) ، وهو كلام مستقيم لا غبار عليه ، إلا قوله في آخره : "فلا يكون الحديث نصا في منع المحدث حدثا أصغر من مس المصحف " فإنه من كلام المؤلف ، ومفهومه أن الحديث نص في منع المحدث حدثا أكبر من مس المصحف ، وهو على هذا غير منسجم مع سياق كلامه ، لأنه قال فيه : " ولا بد لحمله على معين من قرينة " ، فها هو قد حمله على المحدث حدثا أكبر ، فأين القرينة ؟ ! فالأقرب - والله أعلم - أن المراد بالطاهر في هذا الحديث هو المؤمن ، سواء أكان محدثا حدثا أكبر أو أصغر أو حائضا أو على بدنه نجاسة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن لا ينجس" ، وهو متفق على صحته ، والمراد عدم تمكين المشرك من مسه ، فهو كحديث : "نهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو" ، متفق عليه أيضا ، وقد بسط القول في هذه المسالة الشوكاني قي كتابه السابق ، فراجعه إن شئت زيادة التحقيق ثم إن الحديث قد خرجته من طرق في إرواء الغليل (122) ، فليراجعه من شاء.
وأما قول الله سبحانه : (لا يمسه إلا المطهرون) فالظاهر رجوع الضمير إلى الكتاب المكنون ، وهو اللوح المحفوظ ، لأنه الأقرب ، والمطهرون الملائكة ، فهو كقوله تعالى : (في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة) وذهب ابن عباس والشعبي والضحاك وزيد بن علي والمؤيد بالله وداود وابن حزم وحماد بن أبي سليمان : إلى أنه يجوز للمحدث حدثا أصغر من المصحف وأما القراءة له بدون مس فهي جائزة اتفاقا.
( 8 ) - ما يستحب له الوضوء :-(1/101)
1 - عند ذكر الله عز وجل :- لحديث المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه ( أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى توضأ فرد عليه ، وقال : (إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على الطهارة) ، قال قتادة (فكان الحسن من أجل هذا يكره أن يقرأ أو يذكر الله عز وجل حتى يطهر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وعن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال : (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى أقبل على جدار فمسح بوجهه ويديه ، ثم رد عليه السلام) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي ، وهذا على سبيل الأفضلية والندب . وإلا فذكر الله عز وجل يجوز للمتطهر والمحدث والجنب والقائم والقاعد ، والماشي والمضطجع بدون كراهة ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه الخمسة إلا النسائي ، وذكره البخاري بغير إسناد ، وعن علي كرم الله وجهه قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرئنا ويأكل معنا اللحم ، ولم يكن يحجزه عن القرآن شئ ليس الجنابة) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن السكن.(1/102)
قلت : الترمذي معروف عند العلماء بتساهله في التصحيح ، حتى قال الذهبي في ترجمة كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف من الميزان : "ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحيه" . وكذلك ابن السكن ليس تصحيحه مما إليه يركن ، ولذلك لا بد من النظر في سند الحديث إذا صححه أحد هذين أو من كان مثلهما في التساهل كابن خزيمة وابن حبان ، حتى يكون المسلم على بصيرة من صحة حديث نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد وجدنا في الأئمة ممن ضعف الحديث من هم أعلى كعبا في هذا العلم ، وأكثر عددا من الترمذي وابن السكن ، فقال النووي : "خالف الترمذي الأكثرون ، فضعفوا هذا الحديث" . وقال المنذري في مختصر السنن (1/156) : "وذكر أبو بكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة . وحكى البخاري عن عمرو بن مرة : كان عبد الله - يعني : ابن سلمة - يحدثنا فنعرف وننكر ، وكان قد كبر ، لا يتابع على حديثه . وذكر الإمام الشافعي هذا الحديث وقال : لم يكن أهل الحديث يثبتونه . قال البيهقي : وإنما توقف الشافعي في ثبوت هذا الحديث لأن مداره على عبد الله بن سلمة الكوفي ، وكان قد كبر وأنكر من حديثه وعقله بعض النكر ، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر . قال شعبة : وذكر الخطابي أن الإمام أحمد كان يوهن حديث علي ويضعف أمر عبد الله بن سلمة " . فهذا الإمام الشافعي وأحمد والبيهقي والخطابي قد ضعفوا الحديث ، فقولهم مقدم لوجوه : الأول : أنهم أعلم وأكثر . الثاني : أنهم قد بينوا علة الحديث ، وهي كون راويه قد تغير عقله ، وحدث به في حالة التغير ، فهذا جرح مفسر ، لا يجوز أن يصرف عنه النظر . الثالث : أنه قد عارضه حديث عائشة رضي الله عنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" . رواه مسلم وأبو عوانة في صحيحيهما ، فهو بعمومه يشمل حالة الجنابة وغيرها كما أن الذكر يشمل القرآن وغيره . وقد كنت قديما اعترضت على المؤلف(1/103)
لاحتجاجه بهذا الحديث ، واحتججت عليه بنحوما ذكرت هنا ، ثم رد عل بأن الحافظ حسنه ، فتعجبت وقتئذ كيف قدم تحسين الحافظ على تضعيف هؤلاء الأئمة ، مع كون هذا التضعيف موافقا لقواعد علم الحديث من رد حديث المختلط والمتغير ، كما تقدم بيانه في المقدمة . والآن أعود فأذكر الأستاذ الفاضل بهذه الحقيقة ، ( فإن الذكرى تنفع المؤمنين ). وقد زدت هذا البحت بيانا في الإرواء (485) ، فمن شاء رجع إليه .
2 - عند النوم : - لما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ، ثم قل اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت ، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة ، واجعلهن آخر ما تتكلم به قال فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت : ورسولك ، قال : لا . . . ونبيك الذي أرسلت) رواه أحمد والبخاري والترمذي ، ويتأكد ذلك في حق الجنب ، لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال يا رسول الله أينام أحدنا جنبا ؟ قال : (نعم إذا توضأ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب ، غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة) رواه الجماعة.(1/104)
3 - يستحب الوضوء للجنب : - إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يعاود الجماع ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ) ، وعن عمار بن ياسر (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام ، أن يتوضأ وضوءه للصلاة) ، رواه أحمد والترمذي وصححه ، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) رواه الجماعة إلا البخاري ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . وزادوا (فإنه أنشط للعود).
4 - يندب قبل الغسل سواء كان واجبا أو مستحبا : - لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة ، يبدأ فيغسل يديه ، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة) ، الحديث رواه الجماعة .
5 - يندب من أكل ما مسته النار : - لحديث إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال : مررت بأبي هريرة وهو يتوضأ فقال : أتدري مم أتوضأ ؟ من أثوار أقط أكلتها ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (توضئوا مما مست النار) ، رواه أحمد ومسلم والأربعة ، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (توضئوا مما مست النار) ، رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة . والأمر بالوضوء محمول على الندب لحديث عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه قال : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة فأكل منها فدعي إلى الصلاة فقام وطرح السكين وصلى ولم يتوضأ) متفق عليه ، قال النووي : فيه جواز قطع اللحم بالسكين.(1/105)
6 - تجديد الوضوء لكل صلاة : - لحديث بريدة رضي الله عنه قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر . يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله ! فقال : عمدا فعلته يا عمر) رواه أحمد ومسلم وغيرهما ، وابن عمرو بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال ، كان أنس بن مالك يقول : (كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث) ، رواه أحمد والبخاري . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لولا أن أشق على أمتي لامرتهم عند كل صلاة بوضوء ، ومع كل وضوء بسواك) رواه أحمد بسند حسن ، وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
قلت : هذا يوهم أن الترمذي - الذي من عادته أن يتكلم على الحديث تصحيحا أو تضعيفا - قد سكت على هذا الحديث ، وليس كذلك ، بل صرح عقب تخريجه بأن إسناده ضعيف . وقد يعتذر عن المؤلف بأنه استغنى عن ذكره
اختصارا مكتفيا بالإشارة إلى ضعف الحديث بتصديره إياه بقوله : "روي" .(1/106)
فأقول : هذا لا يكفي ، فإنا مأمورون بمخاطبة الناس على قدر ما يفهمون ، والتصدير المذكور أمر اصطلاحي عند المحدثين ، قليل من قراء هذا الكتاب من يعلم المقصود منه أو يتنبه له ، حتى المؤلف نفسه قد ذهل عن هذه الحقيقة حين نقل بعض الأحاديث عن الترغيب للمنذري مصدرة بهذه اللفظة : "روي" ، وعقب ذلك بقوله : "سكت عنه المنذري" ، مع أن المنذري ضعفه بهذا التصدير ! فإذا خفي هذا على المؤلف نفسه ، فلن يخفى على قراء كتابه أولى ، ولا سيما أنه لم ينص في المقدمة على أن له هذا الاصطلاح كما فعل المنذري في مقدمة كتابه ، وقد نقلت كلامه في مقدمة هذه التعليقات "القاعدة : 13" فراجعها ، بل أنا في شك من أن يكون المؤلف قد عنى تضعيف الحديث بهذا التصدير الذي تبع فيه المنذري ، لما ذكرته آنفا ، ولما سيأتي في "الغسل من غسل الميت" . ثم إن الحديث متفق على تضعيفه عند المحدثين ، وقد ذكرت نصوصهم في ذلك في كتابي ضعيف سنن أبي داود (رقم9) ، ومنهم المنذري ، حيث صدره بصيغة (روي) ، وعنه نقله المؤلف بالحرف الواحد!
هذا ، وتتميما للفائدة ، أذكر مواضع أخرى يستحب لها الوضوء لم يذكرها المؤلف ، وقد أوردتها في "الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب" ومنه نقلت الخلاصة الآتية :(1/107)
1 - الوضوء عند كل حدث ، لحديث بريدة بن الحصيب قال : أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فدعا بلالا ، فقال : يا بلال بما سبقتني إلى الجنة ؟ ! إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي ؟ فقال بلال : يا رسول الله ! ما أذنت قط إلا صليت ركعتين ، ولا أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ، فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله " : لهذا " . رواه الترمذي والحاكم وابن خزيمة في " صحيحه " ، وإسناده صحيح على شرط مسلم ، واقتصر المنذزي على عزوه لابن خزيمة وحده ، وهو قصور ! 2 - الوضوء من القئ ، لحديث معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء ، فأفطر ، فتوضأ ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق ، فذكرت ذلك له ، فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءه " . أخرجه الترمذي (1/142-143) وغيره بإسناد صحيح ، والاضطراب الذي وقع في سنده لا يعله ، لأن حسينا المعلم قد جوده كما قال الترمذي وأحمد . راجع نيل الأوطار (1/164) ، وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على الترمذي وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموعة الرسائل الكبرى على استحباب الوضوء من القئ ، لهذا الحديث (2/234).
3 - الوضوء من حمل الميت ، لقوله " صلى الله عليه وآله : "من غسل ميتا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ" . وهو حديث صحيح جاء من طرق بعضها صحيح وبعضها حسن كما ذكرته في إرواء الغليل (رقم144) ، وقواه ابن القيم وابن القطان وابن حزم والحافظ ، راجع التلخيص الحبير (2/134) . ثم رأيت المؤلف قد احتج بالحديث على استحباب الغسل من غسل الميت فيما يأتي من كتابه ، فكأنه ذهل عن الاستدلال به لما ذكرته هنا.
( 9 ) - فوائد يحتاج المتوضئ إليها:-
1 - الكلام المباح أثناء الوضوء مباح ، ولم يرد في السنة ما يدل على منعه.
2 - الدعاء عند غسل الأعضاء باطل لا أصل له . والمطلوب الاقتصار على الأدعية التي تقدم ذكرها في سنن الوضوء.(1/108)
3 - لو شك المتوضئ في عدد الغسلات يبني على اليقين وهو الأقل.
4 - وجود الحائل مثل الشمع على أي عضو من أعضاء الوضوء يبطله ، أما اللون وحده ، كالخضاب بالحناء مثلا ، فإنه لا يؤثر في صحة الوضوء ، لأنه لا يحول بين البشرة وبين وصول الماء إليها.
5 - المستحاضة ، ومن به سلس بول أو انفلات ريح ، أو غير ذلك من الأعذار يتوضئون لكل صلاة ، إذا كان العذر يستغرق جميع الوقت ، أو كان لا يمكن ضبطه ، وتعتبر صلاتهم صحيحة مع قيام العذر.
6 - يجوز الاستعانة بالغير في الوضوء.
7 - يباح للمتوضئ أن ينشف أعضاءه بمنديل ونحوه صيفا وشتاء.
المسح على الخفين
( 1 ) - دليل مشروعيته : -
ثبت المسح على الخفين بالسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال النووي : أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين - في السفر والحضر ، سواء كان لحاجة أو غيرها - حتى للمرأة الملازمة والزمن الذي لا يمشي ، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج ، ولا يعتد بخلافهم ، وقال الحافظ بن حجر في الفتح : وقد صرح جمع من الحفاظ ، بأن المسح على الخفين متواتر ، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ، منهم العشرة . انتهى ، وأقوى الأحاديث حجة في المسح ، ما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن همام النخعي رضي الله عنه ، قال : (بال جرير بن عبد الله ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا وقد بلت ؟ قال : نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه) ، قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث لان إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، أي أن جريرا أسلم في السنة العاشرة بعد نزول آية الوضوء التي تفيد وجوب غسل الرجلين ، فيكون حديثه مبينا أي المراد بالآية إيجاب الغسل لغير صاحب الخف ، وأم ا صاحب الخف ففرضه المسح فتكون السنة مخصصة للآية.
( 2 ) - مشروعية المسح على الجوربين : -(1/109)
يجوز المسح على الجوربين ، وقد روي ذلك عن كثير من الصحابة . قال أبو داود : ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء ابن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث ، وروي أيضا عن عمر بن الخطاب وابن عباس ، انتهى ، وروي أيضا عن عمار و بلال بن عبد الله بن أبي أوفى وابن عمر ، وفي تهذيب السنن لابن القيم عن ابن المندر : أن أحمد نص على جواز المسح على الجوربين ، وهذا من إنصافه وعدله ، وإنما عمدته هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وصريح القياس ، فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر ، يصح أن يحال الحكم عليه ، والمسح عليهما قول أكثر أهل العلم ، انتهى . وممن أجاز المسح عليهما سفيان الثوري وابن المبارك وعطاء والحسن وسعيد بن المسيب ، وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز المسح عليهما إذا كانا ثخينين لا يشفان عما تحتهما ، وكان أبو حنيفة لا يجوز المسح على الجورب الثخين ثم رجع إلى الجواز قبل موته بثلاثة أيام أو بسبعة ، ومسح على جوربيه الثخينين في مرضه وقال لعواده : فعلت ما كنت أنهى عنه ، وعن المغيرة بن شعبة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه أحمد والطحاوي وابن ماجة والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، (وضعفه أبو داود) .
قلت : قال أبو داود في سننه بعد أن ساق الحديث : "كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث ، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين".(1/110)
قلت : فأنت ترى أن أبا داود إنما ضعفه لا لعلة في سند الحديث ، بل لمخالفته للمعروف عن المغيرة من مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين ، ولا يخفى على العاقل أن هذا ليس بعلة تقدح في صحة الحديث ، لأن ثبوت مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين لا ينفي ثبوت مسحه صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين ، فإذا روى هذا عن المغيرة ثقة ، وجب الأخذ به لعدم منافاته لما رواه غيره عن المغيرة من المسح على الخفين ، والواقع أن رواة
هذا الحديث كلهم رواة ثقات ، وإسناده صحيح على شرط البخاري ، وقد قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في الإمام : "ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس (راويه عن هذيل) على كونه ليس مخالفا لرواية الجمهور مخالفة معارضة ، بل هو أمر زائد على ما رووه ، ولا يعارضه ، ولا سيما أنه طريق مستقل برواية هذيل عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها" . وهذا هو تحقيق القول في الحديث حسبما تقتضيه قواعد علم الحديث ، فلا تغتر بما ينقل عن بعض العلماء من تضيفه ، فإنه مبني على علة غير قادحة كما بينا ، ومن شاء . زيادة في التحقيق فليراجع تحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر على سنن الترمذي (2/167-168) ، و الإرواء (101) ، و صحيح أبي داود (147و148).
والمسح على الجوربين كان هو المقصود ، وجاء المسح على النعلين تبعا.(1/111)
قلت : قد يوهم هذا الكلام أن المسح على النعلين غير جائز ، ودفعا لذلك أقول : قد صح عنه صلى الله عليه وسلم المسح على النعلين استقلالا ، دون ذكر الجوربين من حديث علي بن أبي طالب ، وأوس بن أبي أوس الثقفي ، وابن عمر ، وصححه ابن القطان كما في شرح علوم الحديث للعراقي (ص12) ، وقد تكلمت على أسانيدها في صحيح سنن أبي داود (رقم150و156) . فهذه الأحاديث تدل على جواز المسح على النعلين أيضا ، وقد ثبت ذلك عن بعض السلف أيضا كما يأتي قريبا ، ففيه دليل واضح على عدم اشتراط كون الخف ساترا لمحل الفرض كما نقله المؤلف عن شيخ الإسلام (ص 106).
وكما يجوز المسح على الجوربين يجوز المسح على كل ما يستر الرجلين كاللفائف ونحوها ، وهي ما يلف على الرجل من البرد أو خوف الحفاء أو لجراح بهما ونحو ذلك ، قال ابن تيمية : والصواب أنه يمسح على اللفائف ، وهي بالمسح أولى من الخف والجورب ، فإن اللفائف إنما تستعمل للحاجة في العادة ، وفي نزعها ضرر : إما إصابة البرد ، وإما التأذي بالحفاء ، وإما التاذي بالجرح ، فإذا جاز المسح على الخفين والجوربين ، فعلى اللفائف بطريق الأولى ، ومن ادعى في شئ من ذلك إجماعا فليس معه إلا عدم العلم ، ولا يمكنه أن ينقل المنع عن عشرة من العلماء المشهورين ، فضلا عن الإجماع ، إلى أن قال : فمن تدبر ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطى القياس حقه علم أن الرخصة منه في هذا الباب واسعة ، وأن ذلك من محاسن الشريعة ، ومن الحنيفية السمحة التي بعث بها ، انتهى . وإذا كان بالخف أو الجورب خروق فلا بأس بالمسح عليه ، مادام يلبس في العادة ، قال الثوري : كانت خفاف المهاجرين والانصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس ، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم.
( 3 ) - شروط المسح على الخف وما في معناه : -(1/112)
يشترط لجواز المسح أن يلبس الخف وما في معناه من كل ساتر على وضوء ، لحديث المغيرة بن شعبة قال : ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير فأفرغت عليه من الاداوة فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لانزع خفيه فقال : (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما ) رواه أحمد والبخاري ومسلم . وروى الحميدي في مسنده عنه قال : قلنا يا رسول الله أيمسح أحدنا على الخفين ؟ قال : (نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان) وما اشترطه بعض الفقهاء من أن الخف لا بد أن يكون ساترا لمحل الفرض ، وأن يثبت بنفسه من غير شد مع إمكان متابعة المشي فيه . قد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ضعفه في الفتاوى.
( 4 ) - محل المسح : -
المحل المشروع في المسح ظهر الخف ، لحديث المغيرة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه . وعن علي رضي الله عنه قال : (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) رواه أبو داود والدار قطني ، وإسناده حسن أو صحيح ، والواجب في المسح ما يطلق عليه اسم المسح لغة ، من غير تحديد ، ولم يصح فيه شئ.
( 5 ) - توقيت المسح : -(1/113)
مدة المسح على الخفين للمقيم يوم وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ، قال صفوان بن عسال رضي الله عنه : ( أمرنا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ، ويوما وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما إلا من جنابة) رواه الشافعي وأحمد وابن خزيمة ، والترمذي والنسائي وصححاه ، وعن شريح بن هاني رضي الله عنه قال : سألت عائشة عن المسح على الخفين فقالت : سل عليا ، فإنه أعلم بهذا مني ، كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوم وليلة) ، رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة ، قال البيهقي : هو أصح ما روي في هذا الباب ، والمختار أن ابتداء المدة من وقت المسح ، وقيل من وقت الحدث بعد اللبس.
( 6 ) - صفة المسح : -
والمتوضئ بعد أن يتم وضوءه ويلبس الخف أو الجورب يصح له المسح عليه كلما أراد الوضوء ، بدلا من غسل رجليه ، يرخص له في ذلك يوما وليلة ، إذا كان مقيما ، وثلاثة أيام ولياليها إن كان مسافرا ، إلا إذا أجنب فإنه يجب عليه نزعه ، لحديث صفوان المتقدم.
( 7 ) - ما يبطل المسح :-
1 - انقضاء المدة.
2 - الجنابة.
3 - نزع الخف . فإذا انقضت المدة أو نزع الخف وكان متوضئا قبل غسله رجليه فقط.
قلت : الأمر الثاني دليله حديث صفوان - بن عسال المتقدم في الكتاب في بحث (نواقض الوضوء/النوم المستغرق) . وأما الأمر الأول والثالث فلا دليل عليهما البتة ، ولذلك قال شيخ الإسلام في الاختيارات (ص9) : "لا ينقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ، ولا بانقضاء المدة ، ولا يجب عليه مسح رأسه ولا قدميه ، وهو مذهب الحسن البصري ، كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور".(1/114)
قلت : وما ذكره عن الحسن البصري علقه البخاري عنه في صحيحه (1/225) ، فقال : "وقال الحسن : إن أخذ من شعره وأظفاره ، أو خلع خفيه ، فلا وضوء عليه" . قال الحافظ : التعليق عنه للمسألة الأولى وصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح ، وأما التعليق عنه للمسألة الثانية فوصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ، ووافقه على ذلك
إبراهيم النخعي وطاوس وقتادة وعطاء وبه كان يفتي سليمان بن حرب وداود".
قلت : وهذا مذهب علي بن أبي طالب أيضا ، فقد أخرج البيهقي (1/288) ، والطحاوي في شرح المعاني (1/58) ، عن أبي ظبيان أنه رأى عليا رضي الله عنه بال قائما ، ثم دعا بماء ، فتوضأ ومسح على نعليه ، ثم دخل المسجد ، فخلع نعليه ، ثم صلى . زاد البيهقي : "فأم الناس" . وإسنادهما صحيح على شرط الشيخين . وفيه دليل على جواز المسح على النعلين ، وقد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث سبقت الإشارة إليها.
الغسل
الغسل معناه : تعميم البدن بالماء ، وهو مشروع ، لقول الله تعالى : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) وقوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) .
وله مباحث تنحصر فيما يأتي :
( 1 ) - يجب الغسل لأمور خمسة : -
( الأول ) خروج المني بشهوة في النوم أو اليقظة من ذكر أو أنثى وهو قول عامة الفقهاء : - لحديث أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الماء من الماء) رواه مسلم ، وعن أم سلمة رضي الله عنها : أن أم سليم قالت : (يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق ، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت ؟ قال : نعم ، إذا رأت الماء) رواه الشيخان وغيرهما.
فالماء الأول الماء المطهر ، والثاني المني . وهنا صور كثيرا ما تقع ، أحببنا أن ننبه عليها للحاجة إليها :-(1/115)
ا - إذا خرج المني من غير شهوة ، بل لمرض أو برد فلا يجب الغسل . ففي حديث علي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : (فإذا فضخت الماء فاغتسل) ، رواه أبو داود . قال مجاهد : بينا نحن أصحاب ابن عباس - حلق في المسجد : - (طاووس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة - وابن عباس قائم يصلي) إذا وقف علينا رجل فقال : هل من مفت ؟ فقلنا : سل ، فقال إني كلما بلت تبعه الماء الدافق ؟ قلنا الذي يكون منه الولد ؟ قال : نعم ، قلنا : عليك الغسل ، قال : فولى الرجل وهو يرجع ، قال : وعجل ابن عباس في صلاته ، ثم قال لعكرمة علي بالرجل ، وأقبل علينا فقال : أرأيتم ما أفتيتم به هذا الرجل ، عن كتاب الله ؟ قلنا : لا . قال : فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : لا ، قال : فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا لا ، قال : فعمه ؟ قلنا : عن رأينا ، قال : فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)
قلت : أورده من حديث ابن عباس في قصة له مع بعض أصحابه من التابعين ، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجه وابن عبد البر في " جامع العلم " عنه مرفوعأ دون القصة ، وقال الترمذي : حديث غريب . يعني ضعيف ، ونقل المناوي عن الحافظ العراقي أنه قال : "إسناده ضعيف جدا" . وهو كما قال ، وبيانه في التعليق على المشكاة (217) . وأما القصة ، فلم أقف الآن على سندها للنظر فيه ، وما أظنها تصح ، وفيها نكارة ، والله أعلم.
قال : وجاء الرجل فأقبل عليه ابن عباس فقال : أرأيت إذا كان ذلك منك ، أتجد شهوة في قبلك ؟ قال : لا ، قال : فهل تجد خدرا في جسدك ؟ قال : لا ، قال إنما هذه إبردة ، يجزيك منها الوضوء).(1/116)
ب - إذا احتلم ولم يجد منيا فلا غسل عليه ، قال ابن المنذر . أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم ، وفي حديث أم سليم المتقدم فهل على المرأة غسل إذا احتلمت ؟ قال : (نعم إذا رأت الماء) ما يدل على أنها إذا لم تره فلا غسل عليها ، لكن إذا خرج بعد الاستيقاظ وجب عليها الغسل.
ح - إذا انتبه من النوم فوجد بللا ولم يذكر احتلاما ، فإن تيقن أنه مني فعليه الغسل ، لان الظاهر أن خروجه كان لاحتلام نسيه ، فإن شك ولم يعلم ، هل هو مني أو غيره ؟ فعيله الغسل احتياطا . وقال مجادة وقتادة : لا غسل عليه حتى يوقن بالماء الدافق ، لان اليقين بقاء الطهارة ، فلا يزول بالشك.
د - أحس بانتقال المني عند الشهوة ، فأمسك ذكره فلم يخرج فلا غسل عليه ، لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الاغتسال على رؤية الماء . فلا يثبت الحكم بدونه ، لكن إن مشى فخرج منه المني فعليه الغسل.
ه - رأى في ثوبه منيا ، لا يعلم وقت حصوله ، وكان قد صلى ، يلزمه إعادة الصلاة من آخر نومة له ، إلا أن يرى ما يدل على أنه قبلها ، فيعيد من أدنى نومة يحتمل أنه منها.(1/117)
( الثاني ) : إلتقاء الختانين : - أي تغييب الحشفة في الفرج وإن لم يحصل إنزال ، لقول الله تعالى : (وإن كنتم جنبا فاطهروا) قال الشافعي : كلام العرب يقتضي أن الجنابة تطلق بالحقيقة على الجماع وإن لم يكن فيه إنزال ، قال : فإن كل من خوطب بأن فلانا أجنب عن فلانة عقل أنه أصابها وإن لم ينزل . قال : ولم يختلف أحد أن الزنا الذي يجب به الجلد هو الجماع ، ولو لم يكن منه إنزال ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل . أنزل أم لم ينزل) رواه أحمد ومسلم ، وعن سعيد ابن المسيب : أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال لعائشة : إني أريد أن أسألك عن شئ وأنا استحي منك ، فقالت : سل ولا تستحي فإنما أنا أمك ، فسألها عن الرجل يغشى ولا ينزل فقالت عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل) ، رواه أحمد ومالك بألفاظ مختلفة . ولا بد من الإيلاج بالفعل ، أما مجرد المس من غير إيلاج فلا غسل على واحد منهما إجماعا.
( الثالث ) : انقطاع الحيض والنفاس : - لقول الله تعالى (ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي جحش رضي الله عنها (دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، اغتسلي وصلي) متفق عليه ، وهذا ، وإن كان واردا في الحيض ، إلا أن النفاس كالحيض بإجماع الصحابة ، فإن ولدت ولم ير الدم فقيل عليها الغسل ، وقيل لا غسل عليها ، ولم يرد نص في ذلك.
( الرابع ) الموت : - إذا مات المسلم وجب تغسيله إجماعا ، على تفصيل يأتي في موضعه.(1/118)
( الخامس ) : الكافر إذا أسلم : - إذا أسلم الكافر يجب عليه الغسل ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن ثمامة الحنفي أسر ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إليه فيقول : ما عندك يا ثمامة ؟ فيقول : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت ، وكان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يحبون الفداء ويقولون : ما نصنع بقتل هذا ؟ فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ، فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة وأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لقد حسن إسلام أخيكم) رواه أحمد وأصله عند الشيخين.
( 2 ) - ما يحرم على الجنب: -
1 - الصلاة .
2 - الطواف : - وقد تقدمت أدلة ذلك في مبحث ما يجب له الوضوء.
3 - مس المصحف وحمله : - وحرمتهما متفق عليها بين الأئمة ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة ، وجوز داود ابن حزم للجنب مس المصحف وحمله ولم يريا بهما بأسا ، واستدلالا بما جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى هرقل كتابا فيه : (بسم الله الرحمن الرحيم . . . إلى أن قال يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) ، قال ابن حزم : فهذا رسول الله بعث كتابا ، وفيه هذه الآية إلى النصارى وقد أيقن أنهم يمسون هذا الكتاب ، وأجاب الجمهور عن هذا بأن هذه رسالة ولا مانع من مس ما اشتملت عليه من آيات من القرآن كالرسائل وكتب التفسير والفقه وغيرها ، فإن هذه لا تسمى مصحفا ولا تثبت لها حرمته .(1/119)
قلت : هذا الجواب مبني على القول بحرمة مس المصحف من الجنب ، والمصنف لم يذكر دليلا عليه ههنا ، ولكنه أشار في " فصل : ما يجب له الوضوء " أن الدليل هو قوله صلى الله عليه وسلم : "لا يمس القرآن إلا طاهر" ، مع أنه صرح هناك بأن لفظة "طاهر" مشترك يحتمل معاني شتى ، وأنه لا بد من حمله على معنى معين من قرينة ، ثم حمله هو على غير الجنب بغير قرينة ، وقد رددنا عليه هناك بما فيه كفاية ، وبينا المراد من الحديث هناك ، وأنه لا يدل على تحريم مس القرآن على المؤمن مطلقا . فراجعه . والبراءة الأصلية مع الذين قالوا بجواز مس القران من المسلم الجنب ، وليس في الباب نقل صحيح يجيز الخروج عنها . فتأمل . قوله : "يحرم على الجنب أن يقرأ شيئا من القرآن عند الجمهور . لحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن القرآن شئ ليس الجنابة . رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي وغيره . قال الحافظ في الفتح : وضعف بعضهم بعض رواته ، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة".
قلت : كلا ، بل هو من قبيل الضعيف الذي لا تقوم به حجة ، لأنه تفرد به عبد الله بن سلمة ، وقد كان تغير بآخر عمره باعتراف الحافظ ابن حجر نفسه في " التقريب " ، وفي هذه الحالة كان قد حدث بهذا الحديث كما سبق بيانه في فصل ما يستحب له الوضوء ، وهي علة قوية تورث شبهة في ثبوت الحديث ، تمنع من الاحتجاج به ، سيما وقد ثبت عن عائشة ما يعارضه ، وقد ذكرته ثم ، وليس له ما يشهد له من الطرق ما يصلح لتقويته مثل قول المؤلف عقبه : "وعنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، ثم قرأ شيئا من القرآن ، ثم قال : "هكذا لمن ليس بجنب ، فأما الجنب فلا ، ولا آية". رواه أحمد وأبو يعلى وهذا لفظه ، قال الهيثمي : رجاله موثقون .
قلت : فإن لهذه الطريق علتين : الضعف ، والوقف.(1/120)
أما الضعف فسببه أن في سنده عامر بن السمط أبا الغريف ولم يوثقه غير ابن حبان ، وهو مشهور بالتساهل في التوثيق كما بينته في " المقدمة " ، وقد خالفه من هو أعرف بالرجال منه ، وهو أبو حاتم الرازي ، فقال في أبي الغريف هذا : "ليس بالمشهور . . . قد تكلموا فيه ، من نظراء أصبغ بن نباتة".
وأصبغ هذا لين الحديث عند أبي حاتم ، ومتروك عند غيره ، ومنهم الحافظ ابن حجر ، فثبت ضعفه . وأما الوقف فقد أخرجه الدارقطني وغيره عن أبي الغريف عن علي موقوفا عليه كما بينت ذلك في "ضعيف سنن أبي داود"
(رقم131) . فقد عاد الحديث إلى أنه موقوف مع ضعف إسناده ، فلا يصلح شاهدا للمرفوع الذي قبله ، بل لعل هذا أصله موقوف أيضا ، أخطأ في رفعه ولفظه عبد الله ابن سلمة حين رواه في حالة التغير ، وهذا محتمل ، فسقط الاستدلال بالحديث على التحريم ، ووجب الرجوع إلى الأصل ، وهو الإباحة ، وهو مذهب داود وأصحابه ، و احتج له ابن حزم (1/77-80) ، ورواه عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وإسناده عن هذا جيد ، رواه عنه حماد بن أبي سليمان قال : سألت سعيد بن جبير عن الجنب يقرأ ؟ فلم يربه بأسا ، وقال : أليس في جوفه القرآن ؟ وقرن البغوي في شرح السنة (2/43) مع القائلين بالجواز عكرمة أيضا ، لكن لا يخفى أن الأمر لا يخلو من كراهة ، لحديث : "إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر" . انظر الصحيحة (834) والله أعلم.(1/121)
4 - قراءة القرآن : - يحرم على الجنب أن يقرأ شيئا من القرآن عند الجمهور . لحديث علي رضي الله عنه : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يحجبه عن القرآن شئ ليس الجنابة) رواه أصحاب السنن ، وصححه الترمذي وغيره . قال الحافظ في الفتح : وضعف بعضهم بعض رواته ، والحق أنه من قبيل الحسن ، يصلح للحجة ، وعنه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن ثم قال : (هكذا لمن ليس بجنب ، فأما الجنب فلا . ولا آية) رواه أحمد وأبو يعلى وهذا لفظه ، قال الهيتمي : رجاله موثقون ، قال الشوكاني : فإن صح هذا صلح للاستدلال به على التحريم . أما الحديث الاول فليس فيه ما يدل على التحريم . لأنه غايته أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القراءة حال الجنابة ، ومثله لا يصلح متمسكا للكراهة ، فكيف يستدل به على التحريم ؟ . انتهى . وذهب البخاري والطبراني وداود وابن حزم إلى جواز القراءة للجنب . قال البخاري : قال إبراهيم : لا بأس أن تقرأ الحائض الآية ، ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأسا ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه . قال الحافظ تعليقا على هذا ، لم يصح عند المصنف (يعني البخاري) شئ من الأحاديث الواردة في ذلك : أي في منع الجنب والحائض من القراءة ، وإن كان مجموع ما ورد في ذلك تقوم به الحجة عند غيره لكن أكثرها قابل للتأويل .(1/122)
5 - المكث في المسجد : - يحرم على الجنب أن يمكث في المسجد ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال (وجهوا هذه البيوت عن المسجد) ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا ، رجاء أن ينزل فيهم رخصة ، فخرج إليهم فقال : (وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) رواه أبو داود ، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته : (ان المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب) رواه ابن ماجة والطبراني .
قلت : سوق الحديث على هذه الصورة يوهم القارئ أنهما حديثان بإسنادين متغايرين ، أحدهما عن عائشة ، والآخر عن أم سلمة ، وليس كذلك ، بل هما حديث واحد بإسناد واحد ، مداره على جسرة بنت دجاجة ، اضطربت في روايته ، فمرة قالت : "عن عائشة" ، ومرة : "عن أم سلمة" ، والاضطراب مما يوهن به الحديث كما هو معروف عند(1/123)
المحدثين ، لأنه يدل على عدم ضبط الراوي وحفظه . يضاف إلى ذلك أن جسرة هذه لم يوثقها من يعتمد على توثيقه ، بل قال البخاري : "عندها عجائب" . ولذلك ضعف جماعة هذا الحديث كما قال الخطابي . وقال البيهقي . "ليس بالقوي لما" . وقال عبد الحق : "لا يثبت" . وبالغ ابن حزم فقال : "إنه باطل". وللحديث شاهدان لا ينهضان لتقويته ودعمه ، لأن في أحدهما متروكا ، وفي الآخر كذابا ، وقد خرجتهما وفصلت القول فيهما في ضعيف سنن أبي داود (رقم32) . والقول عندنا في هذه المسألة من الناحية الفقهية كالقول في مس القرآن من الجنب ، للبراءة الأصلية ، وعدم وجود ما ينهض على التحريم ، وبه قال الإمام أحمد وغيره . قال البغوي في "شرح السنة" (2/46) : "وجوز أحمد والمزني المكث فيه ، وضعف أحمد الحديث ، لأن راويه أفلت مجهول ، وتأول الآية على أن (عابري السبيل) هم المسافرون تصيبهم الجنابة ، فيتيممون ويصلون ، وقد روي ذلك عن ابن عباس".
والحديثان يدلان على عدم حل اللبث في المسجد والمكث فيه للحائض والجنب ، لكن يرخص لهما في اجتيازه لقول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) وعن جابر رضي الله عنه قال : (كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا) رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه . وعن زيد بن أسلم قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب ، رواه ابن المنذر . وعن يزيد بن حبيب : أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم إلى المسجد ، فكانت تصيبهم جنابة فلا يجدون الماء ، ولا طريق إليه إلا من المسجد ، فأنزل الله تعالى (ولا جنبا إلا عابري سبيل) رواه ابن جرير .(1/124)
قلت : كذا في الأصل : " ابن حبيب " ، ولعله خطأ مطبعي ، والصواب : "ابن أبي حبيب" كما في "تفسير ابن جرير" ، وكتب الرجال ، وهو أبو رجاء المصري ، وكان فقيها من ثقات التابعين ، إلا أنه كان يرسل . فهذه الرواية معللة بالإرسال ، فلا يفرح بها .
قال الشوكاني عقب هذا . وهذا من الدلالة على المطلوب بمحل لا يبقى بعده ريب ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناوليني الخمرة من المسجد) فقلت : إني حائض ، فقال : (إن حيضتك ليست في يدك) رواه الجماعة إلا البخاري ، وعن ميمونة رضي الله عنها قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض ، ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض) رواه أحمد والنسائي وله شواهد.
( 3 ) - الاغتسال المستحبة: -
أي التي يمدح المكلف على فعلها ويثاب ، وإذا تركها لا لوم عليه ولا عقاب ، وهي ستة نذكرها فيما يلي :(1/125)
1 - غسل الجمعة : - لما كان يوم الجمعة يوم اجتماع للعبادة والصلاة أمر الشارع بالغسل وأكده ليكون المسلمون في اجتماعهم على أحسن حال من النظافة والتطهير . فعن أبي سعيد رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (غسل الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأم يمس من الطيب ما يقدر عليه) رواه البخاري ومسلم . والمراد بالمحتلم البالغ ، والمراد بالوجوب تأكيد استحبابه ، بدليل ما رواه البخاري عن ابن عمر : (أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة ، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عثمان ، فناداه عمر : أية ساعة هذه ؟ قال : إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت ، فقال : والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ؟) . قال الشافعي : فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل ، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل ، دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار . ويدل على استحباب الغسل أيضا ، ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام) . قال القرطبي في تقرير الاستدلال بهذا الحديث عن الاستحباب : ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضي للصحة ، يدل على أن الوضوء كاف . وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص : إنه من أقوى ما استدل به على عدم فرضية الغسل للجمعة ، والقول بالاستحباب بناء على أن ترك الاغتسال لا يترتب عليه حصول ضرر ، فإن ترتب على تركه أذى الناس بالعرق والرائحة الكريهة ونحو ذلك مما يسئ ، كان الغسل واجبا وتركه محرما ، وقد ذهب جماعة من العلماء ، إلى القول بوجوب الغسل للجمعة وإن لم يحصل أذى بتركه.(1/126)
وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ، لأن الأحاديث الدالة عليه أقوى إسنادا وأصرح في الدلالة من الأحاديث التي استدل بها المخالفون على الاستحباب ، فانظر مثلا استدلالهم بحديث عمر المذكور في الكتاب ، فإنه لا حجة لهم فيه ، بل هو عليهم ، لأن إنكار عمر على رأس المنبر في ذلك الجمع الحافل على مثل ذلك الصحابي الجليل ، وتقرير جميع الحاضرين من الصحابة وغيرهم لما وقع من ذلك الإنكار ، لهو من أعظم الأدلة القاضية بأن الوجوب كان معلوما عند الصحابة ، ولو كان الأمر عندهم على عدم الوجوب لما عول ذلك الصحابي في الاعتذار على غيره ، فأي تقرير من عمر ومن حضر بعد هذا الإنكار ؟ ! وكذلك استدلالهم بحديث أبي هريرة : "من توضأ فأحسن الوضوء . . ." ، فقد أجاب عنه الحافظ نفسه بقوله في الفتح : "ليس فيه نفي الغسل ، وقد ورد من وجه آخر في الصحيح بلفظ : "من اغتسل" ، فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء" .
وجملة القول أن الأحاديث المصرحة بوجوب غسل الجمعة فيها حكم زائد على الأحاديث المفيدة لاستحبابه فلا تعارض بينها ، والواجب الأخذ بما تضمن الزيادة منها . وراجع تفصيل هذا البحث في "نيل الأوطار" للشوكاني ، و "المحلى" لابن حزم.(1/127)
مستدلين بقول أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما . يغسل فيه رأسه وجسده) رواه البخاري ومسلم وحملوا الأحاديث الواردة في هذا الباب على ظاهرا وردوا ما عارضها . ووقت الغسل يمتد من طلوع الفجر إلى صلاة الجمعة ، وإن كان المستحب أن يتصل الغسل بالذهاب ، وإذا أحدث بعد الغسل يكفيه الوضوء . قال الاثرم : سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث ، هل يكفيه الوضوء ؟ فقال نعم ، ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزى . انتهى ، يشير أحمد إلى ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه ، وله صحبة : أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغسل ويخرج وقت الغسل بالفراغ من الصلاة فمن اغتسل بعد الصلاة لا يكون غسلا للجمعة ، ولا يعتبر فاعله آتيا بما أمر به ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل ) رواه الجماعة ، ولمسلم ( إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل) وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على ذلك.
2 - غسل العيدين :- استحب العلماء الغسل للعيدين ، ولم يأت في ذلك حديث صحيح ، قال في البدر المنير : أحاديث غسل العيدين ضعيفة ، وفيها آثار عن الصحابة جيدة.(1/128)
3 - غسل من غسل ميتا : - يستحب لمن غسل ميتا أن يغتسل عند كثير من أهل العلم ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : - ( من غسل ميتا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ ) رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم . وقد طعن الأئمة في هذا الحديث . قال علي بن المدايني وأحمد وابن المنذر والرافعي وغيرهم : لم يصحح علماء الحديث في هذا الباب شيئا ، لكن الحافظ ابن حجر قال في حديثنا هذا قد حسنه الترمذي وصححه ابن حبان ، وهو - بكثرة طرقه - أقل أحواله أن يكون حسنا ، فإنكار النووي على الترمذي تحسينه معترض ، وقال الذهبي : طرق هذا الحديث أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء ، والأمر في الحديث محمول على الندب ، لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : كنا نغسل الميت ، فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل . رواه الخطب بإسناد صحيح .
قلت : لا شك أن إسناده صحيح ، لكن تصديره بقوله : " روي " ، لا يتفق مع ما طلح عليه المحدثون من أن هذه الصيغة ونحوها إنما يصدر بها الحديث الضعيف ! فهذا يدلنا على أن المؤلف لم يراع هذا الاصطلاح ههنا ، فهل يا ترى يرعاه حين يصدَّر الحديث بهذه الصيغة ، ويسكت عنه كما فعل في الحديث المتقدم ( ص 44 ) ؟ أنا في شك من ذلك كما ذكرته هناك . والله أعلم . ثم إن المؤلف تبع الحافظ ابن حجر في " التلخيص " أو من نقل ذلك عنه في اقتصار عزوه للخطيب ، يعني في " تاريخه " ، وذلك يوهم أنه ليس عند من هو أعلى طبقة منه ، وكتابه أشهر من كتابه ، وليس كذلك ، فقد أخرجه الدارقطني أيضا في " سننه " ( ص 191 ) ، وهي فائدة أحببت أن أنبه عليها .
ولما غسلت أسماء بنت عميش زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين توفي خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت : إن هذا يوم شديد البرد ، وأنا صائمة ، فهل علي من غسل ؟ فقالوا : لا ، رواه مالك.(1/129)
قلت : جزمه بان أسماء غسلت زوجها . . . إلخ . يوهم أن القصة صحيحة الإسناد ، وليس كذلك لانقطاعه ، فإن مالكا أخرجها في "الموطأ" (1/222-223) عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي ثم خرجت . . . وعبد الله بن أبي بكر هذا ليس هو ابن أبي بكر الصديق كما قد يتوهم ، بل هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، وهو ثقة إمام من شيوخ مالك ، ولكنه لم يدرك أسماء بنت عميس ، فإن وفاتها قبل سنة خمسين ، وولادة عبد الله بعد سنة ستين كما يستفاد من "التهذيب" وغيره . ولو صح
هذا الأثر لكان ظاهر الدلالة على وجوب هذا الاغتسال كما هو مذهب ابن حزم ، لأنهم إنما أفتوها بتركه لعذر البرد
الشديد مع كونها صائمة ، فتأمل.
(فائدة) : ههنا أعسال ثابتة ، لم يتعرض المؤلف لذكرها ، فرأيت من الفائدة أن لا نغفلها:
1 - الاغتسال عند كل جماع ، لحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه ، يغتسل عند هذه وعند هذه ، قال : فقلت : يا رسول الله ! ألا تجعله واحدا ؟ قال : هذا أزكى وأطيب وأطهر . رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن ، ولذلك أوردته في صحيح أبي داود ، وذكرت فيه أن الحافظ ابن حجر قواه ، واستدل به على ما ذكرنا.
2 - اغتسال المستحاضة لكل صلاة ، أو للظهر والعصر جميعا غسلا ، وللمغرب والعشاء جميعا غسلا ، وللفجر غسلا ، لحديث عائشة قالت : إن أم حبيبة استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها بالغسل لكل صلاة . . . الحديث ، وفي رواية عنها : " استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا واحدا ، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا ، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا ، وإسناد هذه الرواية صحيح على شرط الشيخين ، والأولى صحيح فقط كما بينته في صحيح السنن (رقم300و305).(1/130)
3 - الاغتسال بعد الإغماء ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فقال : ضعوا لي ماء في المخضب . قالت : ففعلت ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فقال : ضعوا لي الماء في المخضب . قالت : ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق ، قال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . فذكرت إرساله إلى أبي بكر وتمام الحديث . متفق عليه كما في المنتقى ، أورده في باب : غسل المغمى عليه إذا أفاق . قال الشوكاني (1/212) : " وقد ساقه المصنف ههنا للاستدلال به على استحباب الاغتسال للمغمى عليه وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، وهو مثقل بالمرض ، فدل ذلك على تأكد استحبابه".
4 - الاغتسال من دفن المشرك ، لحديث علي بن أبي طالب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا طالب مات ، فقال : اذهب فواره ، فلما واريته ، رجعت إليه ، فقال لي : اغتسل . أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح ، وله إسناد آخر صحيح أيضا ، وفيه زيادات ، وقد أوردته في المبحث (79) ، فقرة "ب" ، من كتابي "أحكام الجنائز" ، وقد فرغت منه قريبا . ثم طبع والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
4 - غسل الإحرام : - يندب الغسل لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة عند الجمهور ، لحديث زيد ابن ثابت (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل) رواه الدار قطني والبيهقي والترمذي وحسنه ، وضعفه العقيلي.(1/131)
5 - غسل دخول مكة : - يستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل ، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما : (أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ثم يدخل مكة نهارا) ، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله ، رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ مسلم ، وقال ابن المنذر : الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء ، وليس في تركه عندهم فدية ، وقال أكثرهم : يجزئ عنه الوضوء.
6 - غسل الوقوف بعرفة : - يندب الغسل لمن أراد الوقوف بعرفة الحج ، لما رواه مالك بن نافع : (أن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ، ولدخول مكة ، ولوقوفه عشية عرفة).
( 4 )- أركان الغسل:-
لا تتم حقيقة الغسل المشروع إلا بأمرين :
1 - النية : - إذ هي المميزة للعبادة عن العادة ، وليست النية إلا عملا قلبيا محضا . وأما ما درج عليه كثير من الناس واعتادوه من التلفظ بها فهو محدث غير مشروع ، ينبغي هجره والأعراض عنه وقد تقدم الكلام على حقيقة النية في الوضوء.
2 - غسل جميع الأعضاء : - لقول الله تعالى : (وإن كنتم جنبا فاطهروا) أي اغتسلوا ، وقوله : (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) : أي يغتسلن . والدليل على أن المراد بالتطهر الغسل ، ما جاء صريحا في قول الله تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) وحقيقة الاغتسال ، غسل جميع الأعضاء.
( 5 )- سننه :-
يسن للمغتسل مراعاة فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في غسله فيبدأ
1 - بغسل يديه ثلاثا .
2 - ثم يغسل فرجه .
3 - ثم يتوضأ وضوءا كاملا كالوضوء للصلاة ، وله تأخير غسل رجليه إلى أن يتم غسله ، إذا كان يغتسل في طست ونحوه.
4 - ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثا مع تخليل الشعر ، ليصل الماء إلى أصوله.(1/132)
5 - ثم يفيض الماء على سائر البدن بادئا بالشق الأيمن ثم الأيسر مع تعاهد الإبطين وداخل الأذنين والسرة وأصابع الرجلين وذلك ما يمكن دلكه من البدن . وأصل ذلك كله ما جاء عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حثيات ، ثم أفاض على سائر جسده) ، رواه البخاري ومسلم . وفي رواية لهما : (ثم يخلل بيديه شعره ، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات) ، ولهما عنها أيضا قالت : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشئ نحو الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ، ثم أخذ بكفيه فقلبهما على رأسه) وعن ميمونة رضي الله عنها قالت : وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء يغتسل به ، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ، ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ويديه ، ثم غسل رأسه ثلاثا ، ثم أفرغ على جسده ، ثم تنحى من مقامه فغسل قدميه ، قالت : فأتيته بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده رواه الجماعة.
( 6 )- غسل المرأة :-(1/133)
غسل المرأة كغسل الرجل ، إلا أن المرأة لا يجب عليها أن تنقض ضفيرتها ، إن وصل الماء إلى أصل الشعر ، لحديث أم سلمة رضي الله عنها ، أن امرأة قالت يا رسول الله ، إني امرأة أشد ضفر رأسي ، أفأنقضه للجنابة ؟ قال : (إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء ثم تفضي على سائر جسدك ، فإذا أنت قد طهرت) رواه أحمد ومسلم والترمذي وقال : حسن صحيح ، وعن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال : بلغ عائشة رضي الله عنها أن عبد الله ابن عمرو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن فقالت : (يا عجبا لابن عمر ، يأمر النساء إذا اغتسلن بنقض رؤوسهن ، أفلا يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات) رواه أحمد ومسلم ، ويستحب للمرأة إذا اغتسلت من حيض أو نفاس ، أن تأخذ قطعة من قطن ونحوه ، وتضيف إليها مسكا أو طيبا ثم تتبع بها أثر الدم ، لتطيب المحل وتدفع عنه رائحة الدم الكريهة . فعن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت يزيد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض قال : (تأخذ إحداكم ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور (ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكا شديدا حتى يبلغ شئون رأسها ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها) قالت أسماء : وكيف تطهر بها ؟ قال : ( سبحان الله ! تطهري بها) فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك . تتبعي أثر الدم : وسألته عن غسل الجنابة فقال : (تأخذي ماءك فتطهرين فتحسنين الطهور أو أبلغي الطهور ، ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء) فقالت عائشة : (نعم النساء نساء الأنصار . لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) رواه الجماعة إلا الترمذي.
( 7 )- مسائل تتعلق بالغسل :-(1/134)
1 - يجزئ غسل واحد عن حيض وجنابة ، أو عن جمعة وعيد ، أو عن جنابة وجمعة ، وإذا نوى الكل ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وإنما لكل امرئ ما نوى).
قلت : الذي يتبين لي أنه لا يجزى ذلك ، بل لا بد من الغسل لكل ما يجب الغسل له غسلا على حدة ، فيغتسل للحيض غسلا ، وللجنابة غسلا آخر ، أو للجنابة غسلا ، وللجمعة غسلا آخر ، لأن هذه الأغسال قد قام الدليل على وجوب كل واحد منها على انفراده ، فلا يجوز توحيدها في عمل واحد ، ألا ترى أنه لو كان عليه قضاء شهر رمضان أنه لا يجوز له أن ينوي قضاءه مع صيامه لشهر رمضان أداء ، وهكذا يقال في الصلاة ونحوها ، والتفريق بين هذه العبادات وبين الغسل لا دليل عليه ، ومن ادعاه فليتفضل بالبيان . واستدلال المصنف بقوله صلى الله عليه وسلم : "وإنما لكل امرئ ما نوى" لا وجه له ههنا ، وليس له العموم الذي نزع إليه المصنف إذ المعنى : له ما نوى من النية الصالحة أو الفاسدة في العمل المشروع ، بمعنى أن العمل المشروع لا يكون مقبولا عند الله إلا إذا كانت النية فيه صالحة ، بخلاف ما إذا كانت النية فاسدة . مثل أن يقصد به غير وجه الله تعالى ، فحينئذ لا يقبل عمله ، ويدلك على أن هذا هو المراد من الحديث تمامه ، وهو : "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله
(وهذه هي النية الصالحة) ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها (وهذه هي النية الفاسدة) ، فهجرته إلى ما هاجر إليه".(1/135)
وخلاصة القول أن الحديث إنما يدل على صلاح العمل الذي ثبت في الشرع جوازه إذا اقترنت به النية الصالحة ، وأما أنه يدل على صلاح ما لم يثبت جوازه بدليل خاص لمجرد اقترانه بالنية الصالحة ، فلا دليل فيه البتة ، وهذا بين لا يخفى . وقد عكس ابن حزم فاستدل بالحديث على ما ذهبنا إليه ، فقال بعد أن ذكر أن من أجنب يوم الجمعة فلا يجزيه إلا غسلان ، غسل ينوي به الجنابة ، وغسل آخر ينوي به الجمعة . . . إلخ . قال (2/43) : "برهان ذلك قول الله تعالى : (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى" ، فصح يقينا أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذ قد صح ذلك ، فمن الباطل أن يجزئ عمل عن عملين أو أكثر ، وصح يقينا أنه إن نوى أحد ما عليه من ذلك ، فإنما له بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة الذي نواه فقط ، وليس له ما لم ينوه ، فإن نوى بعمله ذلك غسلين فصاعدا ، فقد خالف ما أمر به ، لأنه مأمور بغسل تام لكل وجه من الوجوه التي ذكرنا ، فلم يفعل ذلك ، والغسل لا ينقسم ، فبطل عمله كله ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا . فهو رد" . ثم ذكر ه ذهب إلى ما اختاره من عدم الإجزاء جماعة من السلف منهم جابر بن زيد والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم وطاوس وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وميمون بن مهران ، قال : "وهو قول داود وأصحابنا" . وقد ساق الآثار بذلك عنهم فراجعها ، ويحسن أن يلحق بهم أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه ، فقد روى الحاكم (1/282) من طريق يحمص بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة قال : دخل علي أبى وأنا أغتسل يوم الجمعة ، فقال : غسل من جنابة أو للجمعة ؟ قال : قلت : من جنابة . قال : أعد غسلا آخر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى" . وقال(1/136)
الحاكم : "حديث صحيح على شرط الشيخين" . ووافقه الذهبي ! فلو كان أبو قتادة يرى أجزاء الغسل الواحد عن الغسلين لما أمره بإعادة غسل واحد للجمعة ، بل لقال له : انو في غسلك من الجنابة الغسل للجمعة أيضا . لكن في صحة الإسناد المذكور نظر ، لأن يحيى بن أبي كثير مدلس وقد عنعنه ، ثم إن في الطريق إليه هارون بن مسلم العجلي ، وليس من رجال الشيخين ، بل ولا روى له أحد . من الستة شيئا ، وقد قال فيه الحاكم عقب هذا الحديث : "ثقة ، روى عنه أحمد بن حنبل وعبد الله بن عمر القواريري".
وروى عنه جماعة آخرون ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وأخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما كما في التهذيب ، وقال : قال أبو حاتم : "فيه لين" . وقال في التقريب : صدوق . فالظاهر أنه حسن الحديث على الأقل . وقد رواه من طريقه الطبراني في الأوسط كما في "المجمع" (2/174) ، وقال : "وفيه هارون بن مسلم ، قال أبو حاتم : فيه لين . ووثقه الحاكم وابن حبان ، وبقية رجاله ثقات" . ثم خرجته في "الصحيحة" (2321).
2 - إذا اغتسل من الجنابة ، ولم يكن قد توضأ يقوم الغسل عن الوضوء ، قالت عائشة : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوضأ بعد الغسل) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لرجل - قال له : إني أتوضأ بعد الغسل - فقال له : لقد تغمقت ، وقال أبو بكر ابن العربي : لم يختلف العلماء أن الوضوء داخل تحت الغسل ، وأن نية طهارة الجنابة تأتي على طهارة الحدث وتقضي عليها ، لان موانع الجنابة أكثر من موانع الحدث ، فدخل الأقل في نية الأكثر ، وأجزأت نية الأكبر عنه.(1/137)
قلت : بلى ، قد اختلف العلماء في ذلك ، وابن العربي إنما قال ما علم ، (وفوق كل ذي علم عليتم) ، فقد قال الحافظ في "الفتح" 2 (1/287) : "ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل ، وهو مردود ، فقد ذهب جماعة ، منهم أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث " . قال الشوكاني عقبه : "وهو قول أكثر العلماء ، وإلى القول الأول - أعني : عدم وجوب الوضوء مع الغسل ودخول الطهارة الصغرى تحت الكبرى - ذهب زيد بن علي ، ولا شك في مشروعية الوضوء مقدما على الغسل كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة ، وأما الوجوب فلم يدل عليه دليل ، والفعل بمجرده لا ينتهض للوجوب ، نعم ، يمكن تأييد القول الثاني بالأدلة القاضية بوجوب الوضوء".
قلت : وعدم الوجوب هو مذهب ابن حزم ، خلافا لما قد يظن ، راجع المحلى (2/28).
3 - يجوز للجنب والحائض إزالة الشعر ، وقص الظفر والخروج إلى السوق وغيره من غير كراهية . قال عطاء يحتجم الجنب ، ويقلم أظافره ، ويحلق رأسه ، وإن لم يتوضأ رواه البخاري.
4 - لا بأس بدخول الحمام ، إن سلم الداخل من النظر إلى العورات ، وسلم من نظر الناس إلى عورته .(1/138)
قلت : هذا الكلام بإطلاقه يشمل كل من يدخل الحمام ، ولو كان من النساء ، ولا سيما أن المؤلف لم يستثنهن من الحكم المذكور ، فعليه أقول : لا يجوز إشراك النساء في هذا الحكم ، بل الحمام - والمقصود به ما كان خارج الدار طبعا - حرام عليهن مطلقا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ، يدخل الحمام إلا بمئزر ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام" . رواه الترمذي وحسنه ، وله شواهد كثيرة ، تراجع في الترغيب . وعن أبي المليح قال : "دخل نسوة من أهل الشام على عائشة رضي الله عنها ، فقالت : من أنتن ؟ قلن : من أهل الشام ، قالت : لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات ؟ قلن : نعم . قالت : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى" . رواه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين . وراجع صحيح الترغيب (1/141/157-165-طبعة مكتبة المعارف الرياض) ، وهي طبعة جديدة منقحة ومزيدة . وأما استثناء المريضة والنفساء ، كما جاء في حديث ابن عمرو عند أبي داود وغيره فلا يصح سنده كما هو مبين في "غاية المرام" (192) وغيره.
قال أحمد : إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخله ، وإلا فلا تدخل . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) . وذكر الله في الحمام لا حرج فيه ، فإن ذكر الله في كل حال حسن ، ما لم يرد ما يمنع ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يذكر الله على كل أحيانه.
5 - لا بأس بتنشيف الأعضاء بمنديل ونحوه ، في الغسل والوضوء ، صيفا وشتاء.(1/139)
6 - يجوز للرجل أن يغتسل ببقية الماء الذي اغتسلت منه المرأة والعكس ، كما يجوز لهما أن يغتسلا معا من إناء واحد . فعن ابن عباس قال : اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليتوضأ منها ، أو يغتسل ، فقالت له يا رسول الله : إني كنت جنبا ! فقال : (إن الماء لا يجنب) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وقال : حسن صحيح . وكانت عائشة تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد ، فيبادرهما وتبادره ، حتى يقول لها : دعي لي ، وتقول له : دع لي .
7 - لا يجوز الاغتسال عريانا بين الناس ، لان كشف العورة محرم ، فإن استتر بثوب ونحوه فلا بأس . فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره فاطمة بثوب ويغتسل ، أما لو اغتسل عريانا بعيدا عن أعين الناس فلا مانع منه ، فقد اغتسل موسى عليه السلام عريانا ، كما رواه البخاري فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (بينا أيوب عليه السلام يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب ، فجعل أيوب يحثي في ثوبه . فناداه ربه تبارك وتعالى : (يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى وعزتك ، ولكن لا غنى لي عن بركتك) رواه أحمد والبخاري والنسائي .
التيمم
( 1 ) - تعريفه :-
المعنى اللغوي للتيمم : القصد . والشرعي : القصد إلى الصعيد ، لمسح الوجه واليدين ، بنية استباحة الصلاة ونحوها.
( 2 ) - دليل مشروعيته :-
ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع . أما الكتاب فلقول الله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) .(1/140)
وأما السنة ، فلحديث أبي أمامة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا ، فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده طهوره) رواه أحمد . وأما الإجماع ، فلان المسلمين أجمعوا على أن التيمم مشروع ، بدلا من الوضوء والغسل في أحوال خاصة.
( 3 ) - اختصاص هذه الامة به :-
وهو من الخصائص التي خص الله بها هذه الأمة . فعن جابر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي . نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث في قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة) . رواه الشيخان.
(4 ) - سبب مشروعيته : -
روت عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي . فأقام النبي صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا : ألا ترى إلى ما صنعت عائشة ؟ فجاء أبو بكر ، والنبي صلى الله عليه وسلم على فخذي قد نام ، فعاتبني وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده خاصرتي فما يمنعني من التحرك إلا مكان النبي صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فنام حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل الله تعالى آية التيمم (فتيمموا) قال السيد بن حضير : ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر ! ! فقالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته) . رواه الجماعة إلا الترمذي .
(5 ) - الأسباب المبيحة له : -
يباح التيمم للمحدث حدثا أصغر أو أكبر ، في الحضر والسفر ، إذا وجد سبب من الأسباب الآتية:(1/141)
ا - إذا لم يجد الماء ، أو وجد منه ما لا يكفيه للطهارة ، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فصلى بالناس ، فإذا هو رجل معتزل فقال : (ما منعك أن تصلي ؟) قال : أصابتني جنابة ، ولا ماء . قال : (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) رواه الشيخان . وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن الصعيد طهور لمن لم يجد الماء عشر سنين) رواه أصحاب السنن ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . لكن يجب عليه - قبل أن يتيمم - أن يطلب الماء من رجله ، أو من رفقته ، أو ما قرب منه عادة ، فإذا تيقن عدمه ، أو أنه بعيد عنه ، لا يجب عليه الطلب.
ب - إذا كان به جراحة أو مرض ، وخاف من استعمال الماء زيادة المرض أو تأخر الشفاء ، سواء عرف ذلك بالتجربة أو بإخبار الثقة من الأطباء ، لحديث جابر رضي الله عليه قال ، خرجنا في سفر ، فأصاب رجلا منا حجر ، فشجه في رأسه ثم احتلم ، فسأل أصحابه : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات . فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال : (قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العي السؤال . إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ، ويغسل سائر جسده) رواه أبو داود وابن ماجة والدار قطني ، وصححه ابن السكن .
قلت : هذا الحديث ضعفه البيهقي والعسقلاني وغيرهما ، لكن له شاهد من حديث ابن عباس يرتقي به إلى درجة الحسن ، لكن ليس فيه قوله : "ويعصر . . . إلخ" فهي زيادة ضعيفة منكرة لتفرد هذا الطريق الضعيف بها . وراجع "التلخيص الحبير" (2/292و295) ، و "بلوغ المرام" . ومن هذا يتبين أن احتجاج المؤلف بالحديث هنا متجه ، بخلاف احتجاجه به في "المسح على الجبيرة" ، ويأتي زيادة بيان هناك.(1/142)
ج - إذا كان الماء شديد البرودة ، وغلب على ظنه حصول ضرر بإستعماله بشرط أن يعجز عن تسخينه ولو بالأجر ، أولا يتيسر له دخول الحمام ، لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ، أنه لما بعث في غزوة ذات السلاسل قال : احتملت في ليلة شديدة البرودة ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح . فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال : (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟) . فقلت : ذكرت قول الله عز وجل : (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله ولم يقل شيئا . رواه أحمد وأبو داود والحاكم والدار قطني وابن حبان ، وعلقه البخاري . وفي هذا إقرار ، والإقرار حجة لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل.
د - إذا كان الماء قريبا منه ، إلا أنه يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله أو فوت الرفقة ، أو حال بينه وبين الماء عدو يخشى منه ، سواء كان العدو آدميا أو غيره ، أو كان مسجونا ، أو عجز عن استخراجه ، لفقد آلة الماء ، كحبل ودلو ، لان وجود الماء في هذه الأحوال كعدمه ، وكذلك من خاف إن اغتسل أن يرمي بما هو برئ منه ويتضرر به ، جاز التيمم.
ه - إذا احتاج إلى الماء حالا أو مآلا لشربه أو شرب غيره ، ولو كان كلبا غير عقور ، أو احتاج له لعجن أو طبخ وإزالة نجاسة غير معفو عنها ، فإنه يتيمم ويحفظ ما معه من الماء . قال الإمام أحمد رضي الله عنه : عدة من الصحابة تيمموا وحبسوا لماء لشفاههم . وعن علي رضي الله عنه أنه قال - في الرجل يكون في السفر ، فتصيبه الجنابة ، ومعه قليل من الماء ، يخاف أن يعطش - : يتيمم ولا يغتسل . رواه الدار قطني . قال ابن تيمية : ومن كان حاقنا عادما للماء ، فالأفضل أن يصلي بالتيمم غير حاقن من أن يحفظ وضوءه ويصلي حاقنا . و إذا كان قادرا على استعمال الماء ، لكنه خشي خروج الوقت باستعماله في الوضوء أو الغسل ، فأنه يتيمم ويصلي ، ولا إعادة عليه.(1/143)
قلت : والذي يتبين لي خلافه ، ذلك لأنه من الثابت في الشريعة أن التيمم إنما يشرع عند عدم وجود الماء بنص القرآن الكريم ، وتوسعت في ذلك السنة المطهرة فأجازته لمرض أو برد شديد كما ذكره المؤلف ، فأين الدليل على جوازه مع قدرته على استعمال الماء ؟ فإن قيل : هو خشية خروج الوقت . قلت : هذا وحده لا يصلح دليلا ، لأن هذا الذي خشي خروج الوقت له حالتان لا ثالث لهما : إما أن يكون ضاق عليه الوقت بكسبه وتكاسله ، أو بسبب لا يملكه مثل النوم والنسيان ، ففي هذه الحالة الثانية فالوقت يبتدئ من حين الاستيقاظ أو التذكر بقدر ما يتمكن من أداء الصلاة فيه كما أمر ، بدليل قوله في : "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" أخرجه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم ، فقد جعل الشارع الحكيم لهذا المعذور وقتا خاصا به ، فهو إذا صلى كما أمر ، يستعمل الماء لغسله أو وضوئه ، فليس يخشى عليه خروج الوقت ، فثبت أنه لا يجوز له أن يتيمم ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الاختيارات (ص12) ، وذكر في "المسائل الماردينية" (ص65) أنه مذهب الجمهور . وأما في الحالة الأول ، فمن المسلم أنه في الأصل مأمور باستعمال الماء ، وأنه لا يتيمم ، فكذلك يجب عليه في هذه الحالة أن يستعمل الماء ، فإن أدرك الصلاة فبها ، وإن فاتته فلا يلومن إلا نفسه ، لأنه هو الذي سعى إلى هذه النتيجة .
هذا هو الذي اطمأنت إليه نفسي ، وانشرح له صدري ، وإن كان شيخ الإسلام وغيره قالوا : إنه يتيمم ويصلي ، والله أعلم . ثم رأيت الشوكاني كأنه مال إلى هذا الذي ذكرته ، فراجع " السيل الجرار " ( 1 / 126 - 127 ) .
(6 ) - الصعيد الذي يتيمم به :-
يجوز التيمم بالتراب الطاهر وكل ما كان من جنس الأرض ، كالرمل والحجر والرجص . لقول الله تعالى : (فتيمموا صعيدا طيبا) وقد أجمع أهل اللغة ، على أن الصعيد وجه الأرض ، ترابا كان أو غيره.
(7 ) - كيفية التيمم : -(1/144)
على المتيمم أن يقدم النية وتقدم الكلام عليها في الوضوء ، ثم يسمي الله تعالى ، ويضرب بيديه الصعيد الطاهر ، ويمسح بهما وجهه ويديه إلى الرسغين . ولم يرد في ذلك أصح ولا أصرح من حديث عمار رضي الله عنه قال : اجنبت فلم أصب الماء فتمعكت في الصعيد وصليت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (إنما كان يكفيك هكذا ) وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض وتنفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه) . رواه الشيخان . وفي لفظ آخر : (إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ، ثم تنفخ فيهما ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين) رواه الدار قطني . ففي هذا الحديث ، الاكتفاء بضربة واحدة ، والاقتصار في مسح اليدين على الكفين ، وان من السنة لمن تيمم بالتراب ، أن ينفض يديه وينفخهما منه ، ولا يعفر به وجهه.
(8 ) - ما يباح به التيمم :-
التيمم بدل من الوضوء والغسل عند عدم الماء فيباح به ما يباح بهما ، من الصلاة ومس المصحف وغيرهما ، ولا يشترط لصحته دخول الوقت ، وللمتيمم أن يصلي بالتيمم الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ، فحكمه كحكم الوضوء ، سواء بسواء ، فعن أبي ذر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن الصعيد طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين . فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير) رواه أحمد والترمذي وصححه.
(9 ) - نواقضه :-(1/145)
ينقض التيمم كل ما ينقض الوضوء ، لأنه بدل منه ، كما ينقضه وجود الماء لمن فقده ، أو القدرة على استعماله ، لمن عجز عنه . لكن إذا صلى بالتيمم ، ثم وجد الماء ، أو قدر على استعماله بعد الفراغ من الصلاة ، لا تجب عليه الإعادة ، وإن كان الوقت باقيا ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجد الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرا له ذلك ، فقال للذي لم يعد : (أصبت السنة وأجزأتك صلاتك) وقال للذي توضأ وأعاد : (لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي . أما إذا وجد الماء وقدر على استعماله بعد الدخول في الصلاة ، وقبل الفراغ منها ، فإن وضوءه ينتقض ، ويجب عليه التطهر بالماء ، لحديث أبي ذر المتقدم . وإذا تيمم الجنب أو الحائض لسبب من الأسباب المبيحة للتيمم وصلى ، لا تجب عليه إعادة الصلاة . ويجب عليه الغسل متى قدر على استعمال الماء ، لحديث عمر رضي الله عنه قال : (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، قال : (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟) قال : أصابتني جنابة ولم أجد ماء . قال : (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) ثم ذكر عمران : أنهم بعد أن وجدوا الماء أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أصابته الجنابة إناء من ماء وقال : (إذهب فأفرغه عليك) ، رواه البخاري .
المسح على الجبيرة ونحوها
( 1 )- مشروعية المسح على الجبيرة والعصابة :-(1/146)
يشرع المسح على الجبيرة ونحوها مما يربط به العضو المريض . لأحاديث وردت في ذلك ، وهي وإن كانت ضعيفة ، إلا أن لها طرقا يشد بعضها بعضا . وتجعلها صالحة للاستدلال بها على المشروعية . من هذه الأحاديث حديث جابر : أن رجلا أصابه حجر ، فشجه في رأسه ثم احتلم ، فسأل أصحابه ، هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : لا نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات . فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بذلك فقال : ( قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتمم ويعصر أو يعصب على جرحه ، ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده ) ، رواه أبو داود وابن ماجة والدار قطني وصححه ابن السكن . وصح عن ابن عمر ، أنه مسح على العصابة .
قلت : تبع المؤلف في تقوية الحديث الصنعاني والشوكاني وغيرهما ، وهو ذهول منهم جميعا عن القاعدة إلتي أوردتها في "المقدمة : القاعدة 10" ، والتي خلاصتها أن الحديث لا يقوى بكثرة الطرق إذا كان الضعف فيها شديدا ، وهذه الأحاديث من هذا القبيل ، وهي أربعة ، ولا بأس من أن نبين عللها بشئ من الاختصار :
الأول : حديث جابر المذكور في الكتاب ، وموضع الشاهد منه قوله : " ويعصب ، أو يعصر على جرحه . . . " ، وقد بينا فيما تقدم أن هذه الجملة منكرة ، فأغنى عن الإعادة .(1/147)
الثاني : عن على قال : انكسرت إحدى زندقي ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرني أن أمسح على الجبائر . قال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" : " رواه ابن ماجه بسند واه جدا " . وقال شارحه الصنعاني "والحديث أنكره يحيى بن معين وأحمد وغيرهما ، قالوا : وذلك أنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي ، وهو كذاب ، ورواه الدارقطني والبيهقي من طريقين أوهى منه ، قال النووي : اتفق الحفاظ على ضعف هذا الحديث : وقال الشافعي : لو عرفت إسناده بالصحة لقلت به ، وهذا مما أستخير الله فيه" . وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه : "هذا حديث باطل لا أصل له" .
الثالث : عن أبي أمامة ، رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8/154/7597) بإسناده ، وقد ساقه في نصب الراية (1/186) ، وفيه إسحاق بن داود الصواف شيخ الطبراني ، ولم أجد له ترجمة ، وحفص بن عمر - وهو العدني - قال النسائي : ليس ثقة ، .
الرابع : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الجبائر . أخرجه الدارقطني وقال : "أبو عمارة (يعني محمد بن أحمد بن المهدي أحد رواته) ضيف جدا ، ولا يصح هذا الحديث مرفوعا" . وقد رواه البيهقي (1/228) عن ابن(1/148)
عمر موقوفا عليه بسند صحيح ، ثم قال : "هو عن ابن عمر صحيح" . وقال البيهقي بعد أن ساق الحديث الثاني من طريق الأول وأشار إلى طرقه الأخرى وضعفها كلها : " ولا يثبت في هذا الباب شئ ، وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح الذي تقدم - يعني حديث جابر - وليس بالقوي ، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم ، مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة " . قلت : فأنت ترى البيهقي قد اعتمد في الباب على أقوال الفقهاء وأثر ابن عمر المشار إليه آنفا ، فلو كان الحديث قويا بهذه الطرق لا حتج البيهقي بذلك ، لأنه من القائلين بتقوية الحديث بكثرة الطرق ، ولكنه لم يفعل مع احتياجه للحديث ، وذلك لشدة ضعف طرقه كما بينا . ولذلك ذهب ابن حزم إلى أنه لا يشرع المسح على الجبيرة ، قال (2/74-75) : " برهان ذلك قول الله تعالى : (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ، فسقط بالقرآن والسنة كل ما عجز عنه المرء ، وكان التعويض منه شرعا ، والشرع لا يلزم إلا بقرآن أو سنة ، ولم يأت قرآن ولا سنة بتعويض المسح على الجبائر والدواء من غسل ما لا يقدر على غسله ، فسقط القول بذلك" . ثم ذكر عن الشعبي ما يوافق قوله ، ومثله عن داود وأصحابه ، وهو الحق إن شاء الله . وأجاب عن أثر ابن عمر المتقدم بأنه فعل منه رضي الله عنه وليس إيجابا للمسح عليها ، وقد صح عنه أنه كان يدخل الماء في باطن عينيه في الوضوء والغسل ، ولا يشرع ذلك ، فضلا عن أن يكون فرضا!
( 2 )- حكم المسح :-
حكم المسح على الجبيرة الوجوب ، في الوضوء والغسل ، بدلا من غسل العضو المريض أو مسحه.
( 3 )- متى يجب المسح :-(1/149)
من به جراحة أو كسر وأراد الوضوء أو الغسل ، وجب عليه غسل أعضائه ، ولو اقتضى ذلك تسخين الماء ، فإن خاف الضرر من غسل العضو المريض ، بأن ترتب على غسله حدوث مرض ، أو زيادة ألم ، أو تأخر شفاء ، انتقل فرضه إلى مسح العضو المريض بالماء ، فإن خاف الضرر من المسح وجب عليه أن يربط على جرح عصابة ، أو يشد على كسره جبيرة ، بحيث لا يتجاوز العضو المريض إلا لضرورة ربطها ، ثم يمسح عليها مرة تعمها . والجبيرة أو العصابة لا يشترط تقدم الطهارة على شدها ، ولا توقيت فيها بزمن ، بل يمسح عليها دائما في الوضوء والغسل ، ما دام العذر قائما .
( 4 )- مبطلات المسح :-
يبطل المسح على الجبيرة ، بنزعها من مكانها أو سقوطها عن موضعها عن برء أو براءة موضعها ، وإن لم تسقط . صلاة فاقد الطهورين من عدم الماء والصعيد بكل حال يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه . لما رواه مسلم عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه ، فنزلت آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير . جزاك الله خيرا ، فو الله ما نزل بك أمر قط ، إلا جعل الله لك منه مخرجا ، وجعل للمسلمين منه بركة ، فهؤلاء الصحابة صلوا حين عدموا ما جعل لهم طهورا ، وشكوا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكره عليهم ، ولم يأمرهم بالإعادة : قال النووي : وهو أقوى الأقوال دليلا.
الحيض
( 1 ) - تعريفه :-
أصل الحيض في اللغة : السيلان ، والمراد به هنا : الدم الخارج من قبل المرأة حال صحتها ، من غير سبب ولادة ولا افتضاض .
( 2 ) - وقته : -
يرى كثير من العلماء أن وقته لا يبدأ قبل بلوغ الأنثى تسع سنين فإذا رأت الدم قبل بلوغها هذا السن لا يكون دم حيض ، بل دم علة(1/150)
وفساد ، وقد يمتد إلى آخر العمر ، ولم يأت دليل على أن له غاية ينتهي إليها ، فمتى رأت العجوز المسنة الدم ، فهو حيض .
( 3 )- لونه :-
يشترط في دم الحيض أن يكون على لون من ألوان الدم الآتية :
أ - السواد :- لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ، أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا كان دم الحيضة أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الأخر فتوضي وصلي فإنما هو عرق) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والدار قطني . وقال : رواته كلهم ثقات ورواه الحاكم وقال : على شرط مسلم .
ب - الحمرة :- لأنها أصل لون الدم .
ح - الصفرة :- وهي ماء تراه المرأة كالصديد يعلوه اصفرار .
د - الكدرة :- وهي التوسط بين لون البياض والسواد كالماء الوسخ ، لحديث علقمة بن أبي علقمة عن أمه مرجانة مولاة عائشة رضي الله عنها قالت : (كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة ، فتقول . لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) رواه مالك ومحمد بن الحسن وعلقه البخاري .(1/151)
قلت : مرجانة هذه لم يوثقها غير ابن حبان ، لكن قد تابعتها عمرة عن عائشة بمعناه . أخرجه البيهقي (1/336) ، وإسناده حسن. والحديث وإن كان موقوفا فله حكم المرفوع لوجوه ، أقواها أنه يشهد له مفهوم حديث أم عطية المذكور في الكتاب عقب هذا بلفظ : "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا" ، فإنه يدل بطريق المفهوم أنهن كن يعتبرن ذلك قبل الطهر حيضا ، وهو مذهب الجمهور كما قال الشوكاني . وكنت قديما أرى أن الحيض هو الدم الأسود فقط لظاهر حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها المذكور في الكتاب ، ثم بدا لي وأنا أكتب هذه التعليقات أن الحق ما ذكره السيد سابق : أنه الحمرة والصفرة والكدرة أيضا قبل الطهر لهذا الحديث وشاهده ، وبدا لي أيضا أنه لا يعارضهما حديث فاطمة ، لأنه وارد في دم المستحاضة التي اختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة ، فهي تميز بين دم الاستحاضة ودم الحيض بالسواد ، فإذا رأته تركت الصلاة ، وإذا رأت غيره صلت ، ولا يحتمل الحديث غير هذا والله أعلم.
وإنما تكون الصفرة والكدرة حيضا في أيام الحيض ، وفي غيرها لا تعتبر حيضا ، لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت : ( كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا ) رواه أبو داود والبخاري ولم يذكر بعد الطهر .
( 4 )- مدته:-(1/152)
لا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره . ولم يأت في تقدير مدته ما تقوم به الحجة . ثم إن كانت لها عادة متقررة تعمل عليها ، لحديث أم سلمة رضي الله عنها : أنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال : (لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر ، فتدع الصلاة ثم لتغتسل ولتستثفر ثم تصلي) رواه الخمسة إلا الترمذي ، وإن لم تكن لها عادة متقررة ترجع إلى القرائن المستفادة من الدم لحديث فاطمة بنت أبي حبيش المتقدم ، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ) فدل الحديث على أن دم الحيض متميز عن غيره ، معروف لدى النساء.
(5 )- مدة الطهر بين الحيضتين :-
اتفق العلماء على أنه لا حد لأكثر الطهر المتخلل بين الحيضتين . واختلفوا في أقله ، فقدره بعضهم بخمسة عشر يوما ، وذهب فريق منهم إلى أنه ثلاثة عشر . والحق أنه لم يأت في تقدير أقله دليل ينهض للاحتجاج به.
النفاس
( 1 ) - تعريفه :-
هو الدم الخارج من قبل المرأة بسبب الولادة وإن كان المولود سقطا.
( 2 ) - مدته : -
لا حد لأقل النفاس ، فيتحقق بلحظة فإذا ولدت وانقطع دمها عقب الولادة ، أو ولدت بلا دم وانقضى نفاسها ، لزمها ما يلزم الطاهرات من الصلاة والصوم وغيرهما ، وأما أكثره فأربعون يوما . لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : (كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوما) . رواه الخمسة إلا النسائي وقال الترمذي - بعد هذا الحديث - : قد أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم ، على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما ، إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ، فإنها تغتسل وتصلي ، فإن رأت الدم بعد الأربعين ، فإن أكثر أهل العلم قالوا : لا تدع الصلاة بعد الأربعين.
( 3 )- ما يحرم على الحائض والنفساء: -(1/153)
تشترك الحائض والنفساء مع الجنب في جميع ما تقدم مما يحرم على الجنب ، وفي أن كل واحد من هؤلاء الثلاث يقال له محدث حدثا أكبر ويحرم على الحائض والنفساء - زيادة على ما تقدم - أمور :-
1 - الصوم :- فلا يحل للحائض والنفساء أن تصوم ، فإن صامت لا ينعقد صيامها ، ووقع باطلا ، ويجب عليها قضاء ما فاتها من أيام الحيض والنفاس في شهر رمضان ، بخلاف ما فاتها من الصلاة ، فإنه لا يجب عليها قضاؤه دفعا للمشقة ، فإن الصلاة يكثر تكرارها ، بخلاف الصوم ، لحديث أبي سعيد الخدري قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال : (يا معشر النساء تصدقن فإني أيتكن أكثر أهل النار فقلن : ولم يا رسول الله ؟ قال : تكثرن اللعن وتكفرن العشير . ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ! قلن : وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى . قال فذلك من نقضان عقلها ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن : بلى . قال . فذلك نقصان دينها) رواه البخاري ومسلم . وعن معاذة قالت : (سألت عائشة رضي الله عنها ، فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت : كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة). رواه الجماعة .(1/154)
2 - الوطء : - وهو حرام بإجماع المسلمين ، بنص الكتاب والسنة ، فلا يحل وطء الحائض والنفساء حتى تطهر ، لحديث أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوها . ولقد سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اصنعوا كل شئ إلا النكاح) ، وفي لفظ (إلا الجماع) رواه الجماعة إلا البخاري ، قال النووي : ولو اعتقد مسلم حل جماع الحائض في فرجها صار كافرا مرتدا ، ولو فعله غير معتقد حله ناسيا أو جاهلا الحرمة أو وجود الحيض ، فلا إثم عليه ولا كفارة ، وإن فعله عامدا عالما بالحيض والتحريم مختارا فقد ارتكب معصية كبيرة ، يجب عليه التوبة منها . وفي وجوب الكفارة قولان : أصحهما أنه لا كفارة عليه ، ثم قال : النوع الثاني أن يباشرها فيما فوق السرة وتحت الركبة وهذا حلال بالإجماع ، والنوع الثالث أن يباشرها فيما بين السرة والركبة ، غير القبل والدبر . وأكثر العلماء على حرمته . ثم اختار النووي الحل مع الكراهة ، لأنه أقوى من حيث الدليل ، انتهى ملخصا . والدليل الذي أشار إليه ، ما روي عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها شيئا . رواه أبو داود . قال الحافظ : إسناده قوي . وعن مسروق بن الاجدع ، قال : سألت عائشة : ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضا ؟ قالت : (كل شئ إلا الفرج) رواه البخاري في تاريخه.
الاستحاضة
( 1 ) - تعريفها: -
هي استمرار نزول الدم وجريانه في غير أوانه .
( 2 ) - أحوال المستحاضة : -
المستحاضة لها ثلاث حالات :(1/155)
ا - أن تكون مدة الحيض معروفة لها قبل الاستحاضة ، وفي هذه الحالة تعتبر هذه المدة المعروفة هي مدة الحيض ، والباقي استحاضة ، لحديث أم سلمة : أنها استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة تهراق الدم فقال : (لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشعر ، فتدع الصلاة ، ثم لتغتسل ولتستثفر ثم تصلي) رواه مالك والشافعي والخمسة إلا الترمذي قال النووي : وإسناده على شرطهما . قال الخطابي : هذا حكم المرأة يكون لها من الشهر أيام معلومة تحيضها في أيام الصحة قبل حدوث العلة ثم تستحاض فتهريق الدم ، ويستمر بها السيلان أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تدع الصلاة من الشهر قدر الأيام التي كانت تحيض ، قبل أن يصيبها ما أصابها ، فإذا استوفت عدد تلك الأيام ، اغتسلت مرة واحدة ، وحكمها حكم الطواهر.(1/156)
ب - أن يستمر بها الدم ولم يكن لها أيام معروفة ، إما لانها حسبت عادتها ، أو بلغت مستحاضة ، ولا تستطيع تمييز دم الحيض . وفي هذه الحالة يكون حيضها ستة أيام أو سبعة ، على غالب عادة النساء ، لحديث جمنة بنت جحش قالت : كنت أستحاض حيضة شديدة كثيرة ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بن جحش ، قالت فقلت : يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة ، فما ترى فيها ، وقد منعتني الصلاة والصيام ؟ فقال : ( أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم) قالت : هو أكثر من ذلك ، قال ( فتلجمي ) قالت : إنما أثج ثجا فقال : (سآمرك بآمرين) أيهما فعلت فقد أجزأ عنك من الأخر ، فان قويت عليها فأنت أعلم ، فقال لها : ( إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان ، فتحيضي ستة أيام إلى سبعة في علم الله ثم اغتسلي ، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت ، فصلي أربعا وعشرين ليلة ، أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها ، وصومي ، فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن بميقات حيضهن وطهرهن ، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ، فتغسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا ، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء وتجمعين الصلاتين فافعلي ، وتغتسلين مع الفجر وتصلين ، فكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك . . .) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهذا أحب الأمرين إلي ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح . قال : وسألت عنه البخاري فقال : حديث حسن . وقال أحمد بن حنبل : هو حديث حسن صحيح . قال الخطابي - تعليقا على هذا الحديث - : إنما هي امرأة مبتدأة لم يتقدم لها أيام ، ولا هي مميزة لدمها ، وقد استمر بها الدم حتى غلبها ، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها إلى العرف الظاهر والأمر الغالب من أحوال النساء كما حمل أمرها في تحيضها كل شهر مرة واحدة على الغالب من عادتهن . ويدل على هذا قوله(1/157)
: ( كما تحيض النساء ويطهرن بميقات حيضهن وطهرهن ) قال : وهذا أصل في قياس أمر النساء بعضهن على بعض ، في باب الحيض والحمل والبلوغ ، وما أشبه هذا من أمورهن .
ح - أن لا تكون لها عادة ، ولكنها تستطيع تمييز دم الحيض عن غيره وفي هذه الحالة تعمل بالتمييز ، لحديث فاطمة بنت أبي حبيش : أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الأخر فتوضئي وصلى فإنما هو عرق ) وقد تقدم .
( 3 ) - أحكامها :-
للمستحاضة أحكام نلخصها فيما يأتي :
ا - أنه لا يجب عليها الغسل لشئ من الصلاة ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة ، حينما ينقطع حيضها . وبهذا قال الجمهور من السلف والخلف .
ب - أنه يجب عليها الوضوء لكل صلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم - في رواية البخاري - : (ثم توضئي لكل صلاة) . وعند مالك يستحب لها الوضوء لكل صلاة ، ولا يجب إلا بحدث آخر .
ح - أن تغسل فرجها قبل الوضوء وتحشوه بخرقة أو قطنة دفعا للنجاسة ، وتقليلا لها ، فإذا لم يندفع الدم بذلك شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت واستثفرت ، ولا يجب هذا ، وإنما هو الأولى .
د - ألا تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة عند الجمهور إذ طهارتها ضرورية ، فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة .
ه - أنه يجوز لزوجها أن يطأها في حال جريان الدم ، عند جماهير العلماء لأنه لم يرد دليل بتحريم جماعها . قال ابن عباس : المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت الصلاة ، أعظم رواه البخاري ليعني إذا جاز لها أن تصلي ودمها جار ، وهي أعظم ما يشترط لها الطهارة ، جاز جماعها . وعن عكرمة بنت حمنة ، أنها كانت مستحاضة وكان زوجها يجامعها . رواه أبو داود والبيهقي ، وقال النووي : إسناده حسن .(1/158)
قلت : كذا في الأصل : "عكرمة بن حمنة" ، وهو خطأ مطبعي عجيب ! ولعل الأصل : "عكرمة عن حمنة" ، وهي بنت جحش ، لأنه كذلك في "سنن أبي داود" ، فإن كان هذا هو الأصل فما النكتة من ذكر عكرمة في سنده والابتداء من عنده ، ولا سيما أنه خلاف الاختصار الذي جرى عليه المؤلف في الكتاب ؟ ! ثم إن " حمنة " كذا هو في الأصل أيضا بكسر الميم ، وكذلك تقدم في بحث اضة ، وهو خطأ ، والصواب : "حمنة" بسكون الميم كما في "المغني" للشيخ الفتني و "القاموس" وغيرهما.
و - أن لها حكم الطاهرات : تصلي وتصوم وتعتكف وتقرأ القرآن وتمس المصحف وتحمله وتفعل كل العبادات . وهذا مجمع عليه.(1/159)