عنوان الكتاب:
عيون الرسائل والأجوبة على المسائل – الجزء الأول
تأليف:
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
1293 هـ
دراسة وتحقيق:
حسين محمد بوا
الناشر:
مكتبة الرشد - الرياض
الطبعة الأولى(1/1)
ص -5- ... شكر وتقدير
إنه بعد أن أكرمني الله -عز وجل- بإنهاء هذا البحث، لا يسعني إلا أن أشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه الغفيرة، وفضائله، وأحمده حمداً كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه. سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك،لا إله إلاأنت نستغفرك ونتوب إليك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا راد لما قضيت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وأتوجه بعد ذلك بخالص شكري وتقديري لهذه الجامعة الإسلامية المباركة، التي ربتني طيلة السنوات الثماني عشرة الماضية، تنقلت خلالها في جميع المراحل التابعة لها؛ ابتداءً بشعبة تعليم اللغة العربية، وانتهاءً بالدكتوراة. أسأل الله تعالى أن يحفظها من جميع مكائد أعداء الأمة الإسلامية، ويجعلها دوماً قلعةً للدعاة إلى دينه القويم.
ثم أشكر جميع القائمين عليها، الذين يسهرون على خدمة أبناء المسلمين، وعلى رأسهم معالي مديرها؛ فضيلة الدكتور/ صالح بن عبد الله العبود، وفضيلة الدكتور/ عبيد بن عبد الله السحيمي، عميد كلية الدعوة وأصول الدين، وفضيلة الدكتور/ صالح بن سعد السحيمي، رئيس قسم العقيدة في الجامعة.
كما أتوجه بخالص شكري إلى أستاذي وشيخي فضيلة الدكتور/ أحمد بن مرعي العَمري، المشرف على هذه الرسالة، والذي رافقني في هذا الدرب الطويل؛ فوجدته خير المعين بعد الله سبحانه وتعالى، والناصح الأمين. أسأل الله تعالى أن يكون جهدي فيه خالصاً لوجهه، ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وأخيراً أتوجه بشكري وتقديري إلى أستاذي فضيلة الدكتور/ صالح بن فوزان(1/2)
ص -6- ... ابن عبد الله الفوزان، وفضيلة الدكتور/ محمد بن خليفة التميمي، واللذين تقبلا مناقشة هذه الرسالة وتقويمها. فجزا الله الجميع عني خيراً، وأحسن مثوبتهم.
وأسأل الله أن يديم نعمة الأمن والإيمان على هذه البلاد، ويوفق ولاتها لما فيه عز الإسلام والمسلمين، ويحفظ لهم مقدساتهم. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/3)
ص -7- ... بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(1).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً}(2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِّينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً}(3)(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران، الآية (102).
(2) سور النساء، الآية (1).
(3) سورة الأحزاب، الآيتان (70-71).(1/4)
(4) هذه الخطبة مروية في السنن الأربعة وغيرها، وهي تعرف بخطبة الحاجة. انظر: سنن أبي داود، للإمام أبي داود بن الأشعث السجستاني، ومعه كتاب (معالم السنن) للخطابي، تعليق عزت عبيد الدعاس، طبعة دار الحديث، بيروت، ط/1، 1394هـ، 2/591، النكاح، باب في خطبة النكاح. سنن الترمذي، لمحمد بن عيسى بن سورة، (ت297هـ) تحقيق، أحمد محمد شاكر، ط/1، 1408هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 3/413، النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح. سنن النسائي بشرح السيوطي، مع حاشية الإمام السندي، دار الحديث بالقاهرة، 1407هـ، 1987م، 3/104-105، الجمعة، باب كيفية الخطبة. وأخرجه ابن ماجه (ت273هـ) في سننه بتحقيق، محمد مصطفى الأعظمي، شركة الطباعة العربية، بالرياض، ط/2/2، 1404هـ، 1/349، النكاح، باب خطبة النكاح. وذكره الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني، في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وشيء من فقهها وفوائدها، المكتب الإسلامي، بيروت، ط/4، 1405هـ-1985م، 1/276.
وقد أفرد -حفظه الله- رسالة خاصة بعنوان (خطبة الحاجة) جمع فيها الأحاديث الواردة فيها، وطرقها فلتراجع.(1/5)
ص -8- ... أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة(1). وإن من نعم الله عز وجل على هذه الأمة، أن بعث إليها رسول الهدى، خاتم الأنبياء والمرسلين محمداً صلوات الله وسلامه عليه، الذي أدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركهم على محجة بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
ثم إنه -سبحانه وتعالى- يقيض لهذا الدين -في كل عصر- طائفة من علماء أهل السنة، دعاة مخلصين، هم ورثة الأنبياء يقومون بالدعوة إلى الله، ويناضلون من أجل نشر الإسلام، وإحياء ما اندرس من سنة المصطفى -عليه السلام- ويقفون في وجه أعداء الملة؛ من الملحدين والحاقدين، يردون على شبهاتهم، ويفندون شبههم، ويبطلون زيفهم. ومنهم المجددون لأمر هذا الدين؛ الذين أشار إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))(2).
وكان من بين أولئك الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مجدد القرن الثاني عشر، الذي أحيا في نفوس العباد كلمة التوحيد، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قوله: "أما بعد: فإن خير الحديث ..." أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، انظر صحيح مسلم، بشرح النووي، 6/403، ط/،1 1407هـ، دار القلم، بيروت، بتحقيق لجنة من العلماء نشر مكتبة المعارف بالرياض.(1/6)
(2) أخرجه أبو داود في سننه، 4/480، الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة. والحاكم في المستدرك 4/522، وسكت عليه، وكذلك الذهبي. ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/150-151. وقال: (... والسند صحيح، ورجاله ثقات رجال مسلم ... ولا يعل الحديث قول أبي داود عقبة، رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل، وذلك لأن سعد بن أبي أيوب ثقة ثبت كما في (التقريب) وقد وصله وأسنده، فهي زيادة من ثقة، يجب قبولها).(1/7)
ص -9- ... فانتشرت دعوته وامتدت عبر الأجيال. فهو -رحمه الله- كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي الْسَّمَاء*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).
فمن ينظر إلى شجرة شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في إيجاد البيئة التي كانت قائمة أثناء كتابته لهذه الرسائل؛ لذا نجدها متنوعة في ثلاثة أنواع:
الأول: رسائل في عقيدة التوحيد وما يضادها من الشرك: فقد شملت رسائله في هذا الشأن، الدعوة إلى عقيدة التوحيد الصحيحة، وبيان أسسها ونواقضها، وبيان ما دعا إليه جده الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومراسلة أقرانه وتلاميذه في شأن الدعوة والرد على المنحرفين والمبطلين. وأقام الحجج على وجوب معاداة المشركين عامة، ووجوب البراءة منهم ومجاهدتهم والهجرة من ديارهم، وتحريم موالاتهم. كما فرّق بين معاملة المشركين المحاربين للمسلمين، المعادين لهم في الدين، ومعاملة غيرهم؛ وبين البلاد التي يفتن فيها المسلم، ولا يستطيع إقامة دينه فيها، والبلاد التي ليست كذلك؛ وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالعقيدة.
والثاني: رسائل في فتاوى: وكان مختصة بالأجوبة على أسئلة المتسائلين حول مسائل الفروع. وهي رسائل معدودة.
والثالث: رسائل في الفتن الواقعة في عصره: وهي تتناول الحث على مجاهدة تلك العساكر التي
أرسلتها الدولة العثمانية لإبطال دعوة التوحيد، وعلى العمل على إخماد نار الحرب بين
الأميرين عبد الله بن فيصل بن تركي، وأخيه سعود بن فيصل بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة إبراهيم، الآيتان (24-25)(1/8)
ص -10- ... تركي. وأخرى تبين ما كان يقوم به من عقد الصلح بينهما، وأخذ الأمان على أهل بلدته، وهكذا.
وقد بلغ مجموعها إلى ست وسبعين (76) رسالة، إضافة إلى إحدى وعشرين (21) رسالة من الملحقات في حواشي نسخة ( أ ).
ولا شك في أن هذه الرسائل، على الرغم من أن الشيخ كان يوجهها لأشخاص معينين، إلا أنها؛ لعظم ما فيها من المسائل العلمية والنصائح، والفوائد الدقيقة، فإن الحاجة إليها قائمة في كل زمان ومكان، ولكل فرد ومجتمع.
أسباب اختياري لهذه المخطوط:
بعد أن أنعم الله -سبحانه وتعالى- عليّ باجتياز مرحل الماجستير في هذه الجامعة، وجدت في نفسي دافعاً قوياً، وهمة عالية، تدفعني إلى طلب التزود من هذا العلم الشرعي.
ثم كانت نعم الله عليّ تترى؛ إذ منحتني الجامعة فرصة أخرى، لألتحق بهذه المرحلة التي أشعر فيها أني وصلت إلى بداية طلب العلم.
فبدأت مرحلة البحث والتنقيب عن موضوع يمكن تقديمه للقسم؛ ليكون منطلق عملي في هذه المرحلة العلمية.
وبعد البحث المضني، والمحاولات العديدة الجادة، التي قدمت فيها عدة موضوعات، ولم تحظ بالقبول، وقعت عيني على عنوان هذا المخطوط، فوجدت محتواه موافقاً لما أحتاج إليه، وللتخصص الذي أنا فيه. فاستخرت الله -عز وجل- على تقديمه، فوفقني لموافقة القسم عليه.
وقد كان من أهم الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذا المخطوط:
1- أن هذه الرسائل التي يحتويها هذا المخطوط لها أهمية كبرى، في خدمة العقيدة(1/9)
ص -11- ... الإسلامية، والدفاع عن السنة وأهلها.
2- كون صاحب المخطوط، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، علماً من أعلام أهل السنة والجماعة، عدواً لدوداً لأعداء الدعوة السلفية.
3- أنه قد قادني الرغبة الأكيدة في المشاركة في إخراج شيء من التراث الإسلامي الهائل، الذي لم يزل في دوره، وينتظر من يخرجه للقراء.
4- إبراز هذا الكتاب في صورة أوضح وسليمة قدر الإمكان؛ وذلك نظراً لكثرة تداول طلبة العلم للنسخة المطبوعة، والتي كانت بحاجة إلى التحقيق.
5- أنه لم يسبق -حسب علمي- أن حُقق هذا المخطوط تحقيقاً علمياً؛ فالرسائل التي نجدها مطبوعة في المجلد الثالث ضمن "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" ليست محققة، ولم يعتن طابعها بتصحيح جميع ما فيها من أخطاء.
6- توفر النسخ المخطوطة التي استعنت بها في تقويم النص.
تلك بعض الأسباب التي دعتني إلى اختيار هذا المخطوط.
أهمية هذا المخطوط
تبرز أهمية هذا المخطوط في الآتي:
1. أنه يتضمن رسائل مهمة، تنافح عن العقيدة السلفية, وتدرأ عنها الشبهات التي أثيرت حولها، والتي يستحدثها دعاة الضلالة في وقتنا الحاضر.
2. احتوائه على مسائل عقدية مهمة، جانب الصواب فيها كثيرٌ من المبتدعين. ففيه يبرز الشيخ المعتقد السليم حول تلك المسائل؛ كما يورد العديد من أقوال السلف التي هي بحاجة إلى الدراسة والتحقيق.(1/10)
ص -12- ... الخطة التي سرت عليها في الدراسة والتحقيق
اشتملت الخطة على تمهيد وقسمين: قسم الدراسة، وقسم التحقيق.
أما التمهيد: فيشتمل على الآتي:
- المقدمة.
- أسباب اختياري لهذا المخطوط.
- أهمية هذا المخطوط.
- الخطة التي سرتُ عليها في الدراسة والتحقيق.
- منهجي في الدراسة والتحقيق.
القسم الأول: الدراسة: وقد تضمنت دراسة عصر المؤلف، وحياته، وكتابه.
القسم الثاني: تحقيق النص.
أما القسم الأول: فيتكون من بابين:
الباب الأول: عصر المؤلف وحياته. وجعلته في فصلين:
الفصل الأول: عصر المؤلف: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية.
المبحث الثالث: الحالة الدينية.
الفصل الثاني: حياة المؤلف: وفيه مباحث:
المبحث الأول: اسمه ونسبه.(1/11)
ص -13- ... المبحث الثاني: ولادته وأسرته.
المبحث الثالث: صفاته الذاتية والفكرية.
المبحث الرابع: نشأته العلمية ورحلاته.
المبحث الخامس: شيوخه.
المبحث السادس: تلاميذه.
المبحث السابع: ثقافته وإنتاجه العلمي.
المبحث الثامن: عقيدته.
المبحث التاسع: أعماله ووظائفه.
المبحث العاشر: حياته السياسية.
المبحث الحادي عشر: وفاته والمرثيات التي قيلت فيه.
المبحث الثاني عشر: ثناء العلماء عليه.
أما الباب الثاني: فيتناول دراسة الكتاب: وقسمته إلى فصلين:
الفصل الأول: التعريف بالكتاب: وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: عنوان المخطوط.
المبحث الثاني: تعريف جامع الرسائل.
المبحث الثالث: توثيق نسبته إلى المؤلف.
المبحث الرابع: موضوع الكتاب.(1/12)
ص -14- ... المبحث الخامس: وصف النسخ الخطية والمطبوعة.
الفصل الثاني: دراسة تقويمية للكتاب. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: منهج المؤلف في الكتاب.
المبحث الثاني: مصادره.
المبحث الثالث: قيمة الكتاب.
أما القسم الثاني: فيتناول تحقيق النص.
ويشتمل على ذكر النص، والتعليقات التي وضعتها في الهامش.
منهجي وعملي في التحقيق:
1- بدأت بجمع النسخ التي اعتمدت عليها في مقابلة النص. فقمت من أجل ذلك برحلة علمية إلى مدينة الرياض، حيث وجدت أغلبها. وكذلك من أجل الاطلاع على بعض الأماكن في منطقة نجد بلد المؤلف، والتي ورد ذكرها في الرسائل.
2- قد أخرجت هذا الكتاب بعد مقابلته على أربع نسخ خطية، ونسخة مطبوعة واحدة، هي الجزء الثالث من كتاب: (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية).
3- اتبعت منهج إثبات النص الصحيح، لسبب أن جميع ما بيدي من النسخ ليس من ضمنها نسخة بخط المؤلف، بل كلها لنساخ مختلفين، فاحتمال وجود الخطأ عند أحدهم أثناء النسخ، وارد.
4- إذا اختلفت النسخ في كلمة أو عبارة، أثبت أصحها في نظري، وأضعها بين شرطتين مائلتين هكذا (//)، ثم أشير بالهامش إلى الكلمة الواردة في بقية النسخ.
5- التزمت بتحقيق رسائل الشيخ الواردة في المخطوط الذي بين يدي، ولم أتناول رسائله الواردة
في الأماكن الأخرى، كالتي وردت في الدرر السنية والرسائل الزائدة(1/13)
ص -15- ... في المطبوع وغيرها، عدا رسالة واحدة هي (الرد على الصحاف).
6- إن كانت الرسالة مما أحققه منشورة في أي كتاب، كالدرر السنية، أو الهدية السنية، أشير إليها بذكر مكان وجودها.
7- قمت بتصحيح الأخطاء الإملائية، بدون إشارة لذلك.
8- إن كان الخطأ في آية، أكتفي بتصحيحه، دون الإشارة لذلك.
9- إن كان الخطأ في حديث أو أثر، أصححه من أصله وأشير لذلك.
10- نبّهت على نهاية كل صفحة من صفحات نسخة ( أ ) بوضع رقم جانبي، ومن الملاحظ أن أشرت إلى نهاية كل الصفحة، بدلاً من (لوحة)؛ ذلك لأن النسخة التي اخترتها أصلاً، مرقمة بصفحتين في كل لوحة.
11- قمت بعزو الآيات القرآنية إلى مواضعها في المصحف الشريف، بذكر اسم السورة ورقم الآية.
12- التزمت في كتابة الآيات داخل النص بالرسم العثماني.
13- قمت بتخريج الأحاديث الواردة في هذا البحث، من مصادرها. واتبعت في ذلك الآتي:
- خرجت الأحاديث من الكتب الستة. وقد أزيد عليها أحياناً للفائدة.
- أذكر الجزء ورقم الصفحة مع الإشارة إلى اسم الكتاب، والباب، في الهامش.
- بعض الأحاديث التي أوردها في الهامش للاستشهاد، أكتفي أحياناً بذكر الجزء والصفحة.
- بعض الأحاديث التي لم ترد في الصحيحين، أذكر كلام علماء الحديث في تصحيحها أو عدمه، إن وقعت على شيء منه.
- الأحاديث التي اكتفى المؤلف بالإشارة إليها، أو بذكر جزء منها، أذكرها وأكملها(1/14)
ص -16- ... في الهامش مع التخريج.
14- قمت بعزو الآثار الواردة في البحث إلى مصادرها قدر الإمكان. سواء كانت للصحابة أو التابعين، أو من بعدهم من علماء سلف الأمة.
15- قمت بتوثيق النصوص المنقولة الواردة في النص المحقق، بمقابلتها بالأصل، وعزوها إلى مصادرها قدر الإمكان. فما أسقطه المؤلف أو أخطأ في نقله أصححه وفق ما يوجد في الأصل.
16- قمت بترتيب الرسائل ترتيباً فنياً؛ حيث إنها مختلطة في جميع النسخ عموماً. فقدمت الرسائل المتعلقة بالتوحيد والعقائد، ثم المتعلقة بالفتاوى، ثم تلك المتعلقة بالفتن، والواقعة بين أبناء فيصل بن تركي بن عبد الله عند صراعهم على الحكم.
17- قمت بترجمة مختصرة لمعظم الأعلام الذين ورد ذكرهم في البحث. واتبعت في ذلك الآتي:
- اكتفيت بذكر ما يميّز العلم عن غيره من: اسم المترجم له وأبيه وجده، وكنيته ولقبه وتاريخ وفاته، وأهم كتبه أحياناً، أو أمر اشتهر به. مع ذكر مصدرين أو أكثر لمن يرغب في الاطلاع عليه.
- تركت التعريف بمن تغني شهرتهم عن ترجمتهم، مثل أسماء الأنبياء وكبار الصحابة كالخلفاء الأربعة ونحوهم، وأصحاب الكتب الستة، والفقهاء الأربعة ونحوهم، ممن بلغت شهرتهم الآفاق. وقد أشير أحياناً إلى اسمه؛ (لتعيينه عن غيره) وأذكر له مرجعاً أو مرجعين لمن أراد الاطلاع على ترجمته.
- لم أتمكن من الحصول على ترجمة بعض الأعلام، التي كانت بحاجة إلى ذلك؛ للآتي:
أ- أن أغلب هؤلاء من المتأخرين، عاشوا في القرن (13 و 14) وهم في منطقة(1/15)
ص -17- ... نجد. وأكثرهم من صغار التلاميذ للشيخ، بحيث لم يُلفتوا أنظار المترجمين المعاصرين لهم ومن بعدهم. كما أنه من الملاحظ قلة كتب التراجم لأهل تلك المنطقة، والموجودة منها اعتنت بمشاهير الأعلام من العلماء والمشايخ والأمراء ونحوهم.
ب- أن بعضهم، من المبتدعين أو الفساق الذين كان يراسلهم الشيخ، فلم يلتفت إليهم أصحاب التراجم.
18- علقت على المسائل العقدية وغيرها، التي أشار إليها المؤلف، وكانت بحاجة إلى تعليق أو زيادة إيضاح. وأجعل عند بداية تعليقي في الهامش علامة (*) لتفريقه عن غيره.
19- قمت بوضع عناوين جانبية للرسائل والمسائل الواردة في النص وذلك بخط دقيق في بداية المسألة. ونقلت بعضها مما وضع في النسخة المطبوعة، مما رأيتها موافقة لما أراه مناسباً للموضوع.
20- عزوت الأبيات الشعرية إلى قائليها ومصادرها قدر الإمكان.
21- عرّفت بالفرق والطوائف الواردة في النص.
22- عرّفت ببعض الأماكن والبلدان الواردة في النص، مما قد تخفى على القارئ معرفتها.
23- قمت بشرح الكلمات الغريبة الواردة في النص، وكذلك المصطلحات.
24- لم ألتزم بذكر جميع تعليقات النساخ على حواشي النسخ؛ كشرح بعض الكلمات، أو التعليق الشخصي للناسخ.
25- أذكر جميع المعلومات الخاصة بالمصدر عند أول ذكره، وفي ذلك رمزت للطبعة بـ (ط) وللوفاة بـ (ت)، وللهجري بـ (هـ) وللميلاد بـ (م). ودوّنت المعلومات حسب ما هو موجود على عنوان الغلاف.(1/16)
ص -18- ... 26- في قسم الدراسة أو في التعليقات على النص، اكتفيت بذكر التاريخ الهجري.
27- فرّقت بين كلام الشيخ، وكلام جامع الرسائل بخط مغاير في الحجم، فأجعل كلام الشيخ في خط أكبر.
28- هناك رسائل أوردها ناسخ ( أ ) بالحواشي، ولم ترد في غيرها من النسخ، فقد أدرجتها ضمن الرسائل العامة ووزعتها حسب موضوعاتها.
29- وضعت فهارس مختلفة، تكشف أسرار الكتاب، وتبين للقارئ محتواه.
وهي تشمل:
فهرس الآيات القرآنية فهرس القواعد الأصولية
فهرس الأحاديث النبوية فهرس الوقائع والأحداث
فهرس الآثار فهرس الأمثال
فهرس الأعلام فهرس الأبيات الشعرية
فهرس المواقع فهرس الكلمات الغريبة
فهرس الفرق والطوائف فهرس المصادر والمراجع
فهرس القبائل فهرس الموضوعات
وبعد ... فهذا هو جهدي في هذا البحث، على ضوء الخطة التي رسمتها، وإني لأرجو الله -تعالى- أن أكون قد حققت من خلالها بعض مقاصد هذا التحقيق، فما تمَّ لي من ذلك فلله وحده النعمة والفضل. وإن كانت الأخرى، فهو جهد بشر معرض للنقص؛ إذ الكمال لله وحده -سبحانه وتعالى-. وأسأله -جلّت قدرته- أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن ينفعنا بما علمنا، ويعلمنا ما ينفعنا، ويزيدنا علماً.(1/17)
ص -19- ... كما أسأله -سبحانه- أن يغفر لي ما سبق إليه القلم أو الفهم الخاطئ في هذا البحث من نسبة قول أو مذهب أو رأي لغير صاحبه، أو استنباط في غير محله وعلى غير وجهه. إنه سميع مجيب.(1/18)
ص -23- ... المبحث الأول: الحالة السياسية
إن حياة المؤلف -رحمه الله- كانت ما بين عام خمسة وعشرين ومائتين وألف، وعام ثلاثة وتسعين ومائتين وألف الهجري (1225-1293هـ). وتعتبر هذه الفترة إحدى الأدوار التي مرت بها حكومة آل سعود (1)، والتي يمكن تقسيم أدوارها منذ نشأتها إلى اليوم كالتالي:
الدور الأول: [1137-1233هـ]:
يبدأ هذا الدور من نشأة حكومة آل سعود الأولى، على يد الأمير محمد بن سعود (2) بن محمد، إلى
نهاية حكم......................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آل سعود: هم العائلة المالكة بالمملكة العربية السعودية. أصلهم من فخذ المساليخ، من المنابهة، من المواهب، من مسلم، من قبيلة عَنَزَة، وعنزة من أشهر الأسر في بلاد العرب في الفضائل والحسنات والكرم والنبل. وتنتسب أسرة آل سعود إلى عميدها سعود، أمير الدرعية، من بني بكر بن وائل، من أشرف قبائل ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.
وسعود هذا هو المعروف بـ (سعود الأول) وهو سعود بن محمد بن مقرن بن إبراهيم ابن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي، شيخ من شيوخ قبيلة بكر بن وائل بن جديلة بن أسد ابن نزار بن معد بن عدنان، وإليه ينتمي آل سعود؛ فهو مؤسس العائلة. كان مقيماً في الدرعية في الدرعية. (ت1137هـ).
انظر: تاريخ ملوك آل سعود، لسمو الأمير سعود بن هذلول، أمير القصيم، تقديم: الأستاذ محمد العبود، ط/1، مطابع الرياض، 1380هـ،1961م، ص6. معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، 2/521. قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، مكتبة النهضة الحديثة، الرياض، ط/2، 1388هـ، 1968م، ص335. صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار، ط/2، 1364هـ، 1/37. جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ط/4، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1381هـ، 1961م، ص223.(1/19)
(2) هو مؤسس الدولة السعودية الأولى، الإمام محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن
مرخان، من بني مانع، أول من لقب بـ (الإمامة) من آل سعود، في نجد. كان مقامه بالدرعية، وولي الإمارة بعد وفاة أبيه بسنتين عام (1139هـ)، وحسنت سيرته وقويت شوكته، واتسعت إمارته. وفي أيامه سنة (1157هـ) وفد على الدرعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، صاحب الدعوة الإصلاحية، فتعاهدا على أن يكون ابن سعود حارساً للدين وناصراً للسنة، وأن يستمر ابن عبد الوهاب على الجهر بدعوته. توفي بالدرعية سنة (1179هـ)، رحمه الله. انظر: ترجمته: تاريخ ملوك آل سعود، ص6. عنوان المجد في تاريخ نجد، للعلامة عثمان بن بشر النجدي الحنبلي، نشر مكتبة الرياض الحديثة، بالرياض، 1/49. تاريخ نجد المسمى: روضة الأفكار والأفهام، لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام، لحسين بن غنام، تحقيق د. ناصر الدين الأسد، ط3/، 1403هـ، الرياض، 1/125. قلب الجزيرة، ص335. صقر الجزيرة، 1/43. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، مكتبة الرياض الحديثة، البطحاء، الرياض، 1393هـ-1973م، ص153. السعودية للسيد محمد إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976م، ص20. الأعلام- قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين -لخير الدين الزركلي (ت1396هـ) ط/3، 6/138. الدرعية، (العاصمة الأولى) لعبد الله بن محمد بن خميس، ط/1، 1412هـ-1982م، ص161.(1/20)
ص -24- ... عبد الله(1) بن سعود الكبير (2) حين سقوط الدرعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عبد الله بن سعود (الكبير) بن عبد العزيز بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن، أحد أمراء آل سعود في نجد، تولى الإمارة بعد وفاة والده (سعود الكبير) واستمرت ولايته بين عامي (1229-1233هـ) حين سقوط الدرعية، ووقوعه في الأسر، وقد قتله السلطان العثماني محمود، عام 1234هـ. رحمه الله.
انظر ترجمته: المختار من تاريخ الجبرتي، اختيار محمد قنديل البقلي، مطابع الشعب، 1958م، 4/290،299. قلب الجزيرة، ص341؛ وصقر الجزيرة، 1/61؛ السعودية للسيد محمد إبراهيم، ص26. تاريخ المملكة العربية السعودية، له أيضاً، ص161؛ تاريخ ملوك آل سعود، ص14. الأعلام للزركلي، 4/89؛ الدرعية، لابن خميس، ص217.(1/21)
(2) سعود الكبير: هو سعود بن عبد العزيز بن سعود بن محمد بن مقرن، وهو الملقب بـ (الكبير)، تولى الإمارة بعد مقتل والده سنة (1218هـ) واستمر حكمه إلى عام (1229هـ)، ويعتبر عصره، بحق، الدرة اللامعة في تاريخ حكومة آل سعود الأولى، حيث اكتسبت دولته على زمانه، أكبر رقعة. وحين نشوب الحرب بينه وبين المصريين مع الأتراك عام (1266هـ)، كانت بلاد ممتدة من أطراف عمان ونجران وعسير إلى شواطئ الفرات، والبادية السورية. وقد توفي -رحمه الله- سنة (1229هـ). انظر ترجمته: عنوان المجد، لابن بشر، 1/167- 178؛ تاريخ ملوك آل سعود، ص7-8؛ قلب الجزيرة، ص339. وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، للشيخ عبد الرزاق البيطار (1253-1335هـ) تحقيق وتنسيق وتعليق حفيده محمد بهجة البيطار، طبعة سنة 1382هـ، 1963م، 2/665-666. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص157. السعودية، له أيضاً، ص23. والدرعية، لعبد الله بن محمد بن خميس، ص190. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، لصلاح الدين المختار، مكتبة الحياة ببيروت، 1/133. موارد لتاريخ الوهابيين، للرحالة جوهان لوفيج بوركهارت، ترجمة د. عبد الله الصالح العثيمين، جامعة الملك سعود، ط/2، 1412هـ-1991م، ص31.(1/22)
ص -25- ... الدور الثاني: [1235-1293هـ]:
ويبدأ من ولاية تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، إلى نهاية ولاية عبد الله ابن فيصل بن تركي حين وفاته عام 1293هـ رحمه الله، وعندئذٍ تمكن محمد بن رشيد(1) من الاستيلاء على البلاد النجدية.
الدور الثالث: [1318هـ ....]:
من قيام الملك عبد العزيز(2) بن عبد الرحمن الفيصل، إلى الوقت الحاضر(3). وعلى ضوء
هذا التقسيم، يمكن تحديد الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد بن عبد الله بن علي بن رشيد، من شمر؛ أكبر أمراء آل رشيد أيام حكمهم في (حائل)، امتد حكمه إلى أطراف العراق، ومشارف الشام، ونواحي المدينة واليمامة، وغلب على نجد، وانتهز فرصة الخلاف بين أمراء آل سعود، فأدخل بلادهم في طاعته.
(ت1315هـ). انظر في ترجمته: قلب الجزيرة، ص344؛ عقد الدرر، ص99؛ الأعلام للزركلي، 6/244.
(2) هو الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة والمستمرة حتى الآن. ولد في الرياض سنة 1297هـ، واسترد ملك آبائه وأجداده سنة 1319هـ، وتوفي سنة 1373هـ. رحمه الله. انظر: صقر الجزيرة 1/80، 91، 94؛ والسعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص29.
(3) انظر التقسيم إلى هذه الأدوار: قلب جزيرة العرب، ص334. ويلاحظ أن المؤرخين قد قسموا تاريخ الدولة السعودية إلى ثلاثة أدوار: الدولة السعودية الأولى (1139-1235هـ) من محمد بن سعود (المؤسس) إلى نهاية عبد الله بن سعود.الدولة السعودية الثانية (1235-1293هـ) من ولاية تركي بن عبد الله، إلى نهاية عهد الإمام فيصل بن تركي، واستلام آل رشيد للحكم في نجد الدولة السعودية الثالثة (1319هـ ...) من الملك عبد العزيز إلى اليوم.(1/23)
انظر هذا التقسيم: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص223. وتاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين، للدكتورة مديحة أحمد درويش، دار الشروق للنشر والتوزيع، جدة، ط/1، 1400هـ-1980م، ص19. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص152. وقد فضلت السيرة على الأدوار التي مرّ بها حكم آل سعود، نظراً لموافقتها تسلسل الأحداث بشكل أدق، خاصة في تلك الفترة التي عاشها المؤلف، الشيخ عبد اللطيف.(1/24)
ص -26- ... -رحمه الله- بأنها كانت ما بين (منتصف الدور الأول، إلى نهاية الدور الثاني). والذي يهمنا هنا، هو تلك الفترة من الزمن التي أثرت تأثيراً مباشراً، في حياة شيخنا، وهو الدور الثاني.
فقد ولد الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- عام (1225هـ)، أي قبل نهاية الدور الأول من حكومة آل سعود بثماني سنوات؛ فلم يكن لهذا الدور أثر يذكر في مسار حياته، كما كان الأمر فيما بعده. وهنا نشير إلى بعض ما حدث من وقائع وأحداث سياسية في الفترة التي عاشها شيخنا عبد اللطيف، رحمه الله.
ما وقع من الأحداث بعد ولادته إلى نهاية الدور الثاني أي من [1225-1293هـ] كانت هذه الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، مليئة بالأحداث السياسية والفتن والحروب.
وقد كان من أبرزها ما نعرضه هنا على وجه الاختصار:-
أولاً: الفتنة العثمانية التركية المصرية [1226هـ]:-
كانت الدولة العثمانية قد انهارت فيها جميع المقومات التي تنهض عليها المجتمعات
الإسلامية السوية، فالأقاليم التابعة لها كانت في ذلك الوقت مسرحاً للفوضى(1/25)
ص -27- ... والمشادة(1)، وعدم الاستقرار السياسي والديني.
وقد ضاقت هذه الدولة ذرعاً بما رأت من قيام الدعوة السلفية، وما آلت إليه بفضل الله وتوفيقه لآل سعود بنصرتها، وكذلك ما كانوا يرونه من توسع آل سعود، وبسط سيطرتهم على نجد والحجاز وغيرهما، وجعلها تحت شعار الاعتراف بوحدانية الله؛ مما جعلهم يفكرون في غزوهم(2).
فأجمع الترك على المسير إلى الحجاز، وجمعوا لذلك آلات الحرب والأموال والذخائر من طعام
وغيره، وأرسلوها -مع العساكر من إسطنبول وما دونها من الشام- إلى محمد بن علي(3)
-صاحب مصر- الذي وكِّل إليه مهمة القتال، كل ذلك تحت إمرة السلطان
محمود بن عبد الحميد(4)، وكان ذلك عام (1226هـ)(5)، وهو الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: أعيان القرن الثالث عشر، في الفكر والسياسة والاجتماع، تأليف خليل مردم بك، تقديم عدنان مردم بك، مؤسسة الرسالة، ط/2، 1977م لاى، ص102-103. الدرعية، لابن خميس، ص231.
(2) انظر المرجع السابق، ص280-282؛ وتاريخ المملكة العربية في ماضيها وحاضرها، ص118-119 وما بعدها.
(3) هو محمد بن علي (باشا) ابن إبراهيم أغا بن علي، معروف بمحمد علي الكبير، مؤسس آخر دولة ملكية بمصر، ألباني الأصل، مستعرب، ولد في قولة -التابعة الآن لليونان، عام (1184هـ)، ولي مصر سنة (1220هـ)، انتدبته الدولة العثمانية لحرب الدولة السعودية الأولى، فكانت له معهم وقائع معروفة، وشارك في حرب (مورة)، جعلت له الدولة العثمانية حكم مصر وراثياً سنة (1257هـ)، واعتزل الأمور لابنه إبراهيم (باشا) سنة (1264هـ)، توفي بالإسكندرية في قصر رأس التين، ودفن بالقاهرة سنة (1265هـ).
انظر: ترجمته: أعيان القرن الثالث عشر، خليل مردم بك، ص115-120؛ وحلية البشر، 3/1240هـ؛ والأعلام للزركلي، 6/298-299.(1/26)
(4) هو السلطان محمود خان (الثاني) ابن عبد الحميد (الأول)، وهو السلطان الثلاثون، من سلاطين آل عثمان تبوأ السلطنة العثمانية سنة (1223هـ). توفي سنة (1255هـ). أعيان القرن الثالث عشر، لخليل مردم بك، ص102، 109.
(5) انظر تفاصيل ما وقع من الحروب في تلك الفترة: عنوان المجد لابن بشر، 1/157-161.(1/27)
ص -28- ... ولي سنة ميلاد الشيخ -رحمه الله-. فكانت الحروب منذ ذلك سجالاً بين العساكر المصرية، وأهل الحجاز ونجد. كما أنها كانت المقدمة لغزو نجد، وإسقاط الدرعية عاصمتها الأولى(1).
وكان نشوب هذه الحروب في أواخر عهد سعود بن عبد العزيز الكبير، المتوفى سنة (1229هـ) واستمرت إلى نهاية إلى ما بعد وفاته -رحمه الله-.
وبعد وفاته، تولى ابنه عبد الله الإمارة، ونازعه الحكم عمه عبد الله بن عبد العزيز(2)، إذ طمع فيه لما كان يرى منه من الهوان واللين والهوادة، ولكن عبد الله بن سعود انتصر عليه(3).
ثم إنه بسبب ما اتصف به من اللين والضعف، تسرب الوهن إلى قلب حكومته، وبدأت عناصر القوة والوحدة تنحل وتضمحل، ولم يستطع القضاء على الفتن والثورات، بل لم يستطع الثبوت لها(4).
وفي سنة (1232هـ) أرسل عبد الله بن سعود، حسن بن مزروع، وعبد الله بن عون إلى محمد علي في مصر بهدايا ومراسلات بتقرير الصلح، فلما قدموا عليه في مصر، وجدوه قد تغير(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: عنوان المجد، 1/202. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص51. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد جاسر، ط/1، 1386هـ-1966م، نشر دار اليمامة، الرياض، ص100. الدرعية، لابن خميس، ص335-336. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/119.
(2) عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن.
(3) صقر الجزيرة، 1/62. تحفة المستفيد بتاريخ الإحساء في القديم والجديد، لمحمد بن عبد الله بن عبد المحسن آل عبد القادر الأنصاري الإحسائي، مكتبة المعارف، الرياض، ومكتبة الإحساء الأهلية، الإحساء، ط/2، 1402هـ، 1982م، ص138-139. السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص25.
(4) انظر المرجع السابق، نفس الصفحة.
(5) عنوان المجد لابن بشر، 1/187.(1/28)
ص -29- ... وزاد هذا الوهن في طمع محمد بن علي -صاحب مصر- وانتهز الفرصة للهجوم على نجد، فجهز جيشاً قوياً من مصر والترك والمغرب والشام والعراق إلى نجد، عقد رايته لابنه إبراهيم باشا(1)، وذلك في شوال عام (1231هـ). رحل إبراهيم من القاهرة إلى قنا عن طريق النيل، ثم سافر إلى القصير(2) على ظهور الإبل، وركب البحر منه إلى ينبع، ثم إلى المدينة، ودخلها من غير مقاومة، عام 1231هـ(3)، ثم توجه إلى الحناكية(4) وعسكر فيها ستة أشهر، يغري العربان ويستغويهم، حتى انضم إليه بعض القبائل؛ مثل قبيلة حرب(5) بقيادة أحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو إبراهيم "باشا" ابن محمد بن علي "باشا" قائد من ولاة مصر، ولد في "نصرتلي" عام 1204هـ، قدم مصر مع طوسون بن محمد علي سنة 1220هـ، فتعلم بها. أرسله أبوه محمد سنة 1231هـ بحملة إلى الحجاز ونجد، ثم جعله قائداً للحملة المصرية في حرب مورة سنة 1239هـ، ثم سار بجيشة إلى سورية عام 1247هـ، فاستولى على عكة ودمشق وحمص وحلب. ولما تولى السلطان عبد المجيد اتفق مع الإنجليز على إخراجه من سورية، فأخرجوه وعاد إلى مصر عام 1256هـ، ونزل له محمد علي على إمارة الديار المصرية. (ت1264هـ). انظر ترجمته: أعيان القرن الثالث عشر، لخليل مردم بك، ص120-121. الأعلام للزركلي، 1/70.
(2) القصير: بلفظ تصغير قصر: موضع قرب عيذاب، بينه وبين قوص قصبة الصعيد خمسة أيام، وهو من أعمال مصر، يعرف بقصير موسى أو قصير عزيز مصر.
انظر: معجم البلدان، 4/367.
(3) صقر الجزيرة، 1/63؛ قلب الجزيرة، لفؤاد حمزة، ص342.
(4) الحناكية: منطقة بين المدينة والقصيم تبعد عن المدينة المنورة (140كم) على طريق الرياض. انظر: الأطلس التاريخي للدولة السعودية، للدكتور إبراهيم جمعة، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز (11) بالرياض، ص32.(1/29)
(5) قبيلة حرب: قبيلة على ساحل البحر الأحمر، أكثرها من العدنانية، تمتد ديارها من جنوب ينبع إلى القنفذة على محاذاة الساحل، حدها الغربي من ينبع البحر إلى الرويس شمال جدة، ومن الشرق قبيلة عتيبة وسليم ومطير، ويحدها من الجنوب الأشراف ذوو بركات، ومن الشمال من جهة الغرب قبيلة جهينة، ومن الشرق قبيلة عنزة.
انظر: الرحلة اليمانية، لصاحب الدولة، أمير مكة، الشريف حسين باشا، وأعماله في محاربة الإدريسي، مع جغرافية البلاد العربية، وأسماء قبائلها؛ تأليف شرف بن عبد المحسن البركاتي، ط/2، ص137. معجم قبائل العرب، لعمر رضا كحالة، 1/259.(1/30)
ص -30- ... رؤسائها، غانم بن مضيان، وقبيلة عتيبة(1) ومطير(2)، وحدث بها معركة بينه وبين عبد الله، عام (1232هـ، انهزم فيها جيش عبد الله (3).
ثم سار بجيشه وأقبل على الرس(4)، التي دافع عنها أهلها دفاعاً مجيداً، فقتل من جيشه في الهجمة الأولى ثمانمائة (800) رجل، فطلب النجدة من المدينة المنورة، فسالت عليه، وضيق خناق الحصار على الرس، حتى افتتحها صلحاً بعد ثلاثة شهور ونصف، وفتك بزعمائها؛ ثم أخذت المدن والبلدان والقرى النجدية تتهاوى وتسقط في يد إبراهيم؛ مثل عنيزة(5) .................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قبيلة عتيبة: من أعظم قبائل العرب، لا يوجد بين القبائل العربية من يفوقهم في القوة، أو يزيدهم في العدد إلا قبيلة عنزة وهم في القسم الأوسط من المملكة العربية السعودية، تمتد منازلها من سفوح جبال الحجاز الشرقية، إلى الحرار، وسبيع في الجنوب.
انظر: قلب جزيرة العرب، ص187-189؛ والرحلة اليمانية، ص130؛ ومعجم قبائل العرب 2/752.
(2) قبيلة مطير: من قبائل الحجاز الممتدة إلى نجد، وهي مجموعة قبائل متحالفة، بعضها من قحطان، وبعضها من عدنان، تنتهي نسبتها إلى عبد الله بن دارم، يليها جنوباً قبيلة سليم، وقبائل عتيبة. انظر: قلب الجزيرة، ص200؛ والرحلة اليمانية، ص130؛ ومعجم قبائل العرب 3/1112.
(3) انظر تفاصيل ذلك: عنوان المجد؛ 1/189؛ وتاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/157-167.(1/31)
(4) الرس: مدينة رئيسية من مدن القصيم، وهي الثالثة بعد بريدة وعنيزة؛ تقع جنوب غرب منطقة القصيم في نجد، جنوب وادي الرمة، تبعد عن مدينة الرياض حوالي (500كم)، وعن المدينة المنورة (450كم) وعن بريدة (90كم) وعن عنيزة (60كم). هذه بلادنا: (11) الرس، تأليف عبد الله بن محمد الرشيد، ط/2، الرئاسة العامة لرعاية الشباب الرياض، 1408هـ، 1988م، ص13؛ وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص62.
(5) عُنيزة: من أعمال منطقة القصيم، وهي المدينة الثانية بعد بريدة، وتقع على بعد ثلاثين كم، جنوب غرب بريدة. كان أول من أنشأها، هو زهري بن جراح، كبلد مسكونة، وذلك في حوالي 630هـ. الرس، لعبد الله الرشيد، ص63. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/253. منطقة عنيزة، دراسة إقليمية، لعبد الرحمن صادق الشريف، مطبعة النهضة العربية، ص9.(1/32)
ص -31- ... فبريدة(1) فبقية مدن القصيم(2) فالوشم(3) وشقراء(4) وضرمة(5) وغيرها.
ثم أتى الجيش المصري على العامر(6)، فتركه خراباً، ثم مال إلى وادي حنيفة(7)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بريدة: عاصمة القصيم، وأكبر مدنها، تبعد عن الرياض (300كم)، وعن المدينة المنورة (500كم)، وعن مكة المكرمة (700كم)، وعن حائل (250كم). الرس، لعبد الله الرشيد، ص62؛ وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص61.
(2) القصيم: موضع بنجد، في وسط المملكة العربية السعودية، تقع الوشم في جنوبها الشرقي، ومنحدرات عتيبة في الجنوب الغربي، ويحفها جبل شمر من الغرب والشمال، قاعدته بريدة.
معجم البلدان لياقوت، الحموي (ت626هـ)، دار صادر، بيروت، 1397هـ-1977م، 4/367. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص60-61.
(3) الوشم: إقليم من أقاليم اليمامة يحده من الجنوب والشرق العارض وسدير، ومن الشمال القصيم، وهي مدينة عامرة متقدمة، بها مدارس وكثير من المرافق، من أشهر بلدانها: شقراء (العاصمة)، وثرمداء، وشيقر، والقصب، وغسلة، والوقف، وأثيثة، والفرعة، والحريقة، والداهنة.
جزيرة العرب في القرن العشرين، ص57. معجم اليمامة (معجم جغرافي للملكة العربية السعودية)، تأليف عبد الله بن محمد بن خميس، ط/2، 1400هـ-1980م، ص2/57، 441-444.
(4) شقراء: عاصمة الوشم وقاعدته، تقع في وسطها الغربي، تحت الصفراء.
المرجعان السابقان، الجزيرة، ص58؛ والمعجم 2/56-60.
(5) ضَرَمة: والآخرون يسمونها (ضرما)، قال ياقوت: إن أصلها (قرما) قرية بوادي قرقرى، باليمامة.
انظر تفاصيل موقعها: معجم البلدان 4/329. معجم اليمامة 2/92-97.
(6) العامر: ويقال (العامرية) وهي قرية باليمامة، منسوبة إلى رجل اسمه عامر. معجم البلدان 4/71. معجم اليمامة 2/132.(1/33)
(7) وادي حنيفة: (حنيفة) قبيلة شهيرة، جهيرة الصوت، قبيلة ربيعة العدنانية، نسبتها إلى جدها حنيفة بن لجيم بن علي بن صعب. وهذا الوادي ينسب إليها، ويقع في قلب نجد باليمامة. وينحدر هذا الوادي من الشمال إلى الجنوب؛ وفيها ثمانية سدود.
انظر تفاصيل موقعه: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/348-353؛ والمجاز بين اليمامة والحجاز، لعبد بن محمد بن خميس، من منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، الرياض، المملكة العربي السعودية، 1390هـ، 1970م، ص27.(1/34)
ص -32- ... ومنها إلى الجبيلة (1) حتى وصل الدرعية (2) عام 1233هـ(3). وقد التقى-قبل وصوله الدرعية- مع جيش عبد الله عدة مرات؛ كما في وقعة مادية التي انتهت بهزيمة عبد الله، ووقعة نجروش مع الترك، وانتهت بانهزام الترك، وغير ذلك من اللقاءات(4).
ثانياً: سقوط الدرعية (1233هـ):-
كانت الدرعية -حين مولد الشيخ عبد اللطيف- عاصمة الدولة السعودية الأولى، وعندما بلغ الشيخ ثماني سنين من العمر، حدث بها نكبة عظيمة، ودمار شديد على يد المجرم إبراهيم باشا.
فبعد وصوله إليها في العام المذكور آنفاً، حاصرها حصاراً شديداً، ولم يجعل لأهلها منفذاً. ومضت خمسة أشهر والدرعية ثابتة، فأخذت المؤن والأرزاق في النقاد، بينما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجبيلة: سلسلة جبلية، شرق الرياض، تمتد من الشمال إلى الجنوب، فطرفها الشمالي عند نهاية (روضة الجنادرية).
انظر تفاصيل موقعها: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/258.
(2) الدرعية: بكسر الدال، وإسكان الراء، وكسر العين، فياء مشددة -نسبة إلى الدروع، وهم بطن من بني حنيفة- أو أنها منقولة عن قرية في الخط، اسمها الدرعية قد بادت. وهي قرية من قرى نجد، تقع في شمال غرب الرياض بمسافة عشرين ميلاً، وقد زحف عمران مدينة الرياض الآن فتجاوزتها إلى ما بعدها، ويشقها وادي حنيفة نصفين، وهو تحت مدينة العيينة، وما بين المليبيد جنوباً إلى غصيبة شمالاً. وقد كانت العاصمة الأولى للدولة السعودية قبل الرياض.
انظر: الدرعية، لعبد الله بن محمد بن خميس، ص5، 46؛ ومعجم اليمامة، لابن خميس، 1/416-424.(1/35)
(3) انظر تفاصيل مسيرة إبراهيم باشا لغزو نجد في: عنوان المجد، 1/187-204، وما بعدها. قلب الجزيرة، ص342. تاريخ الجبرتي، 9/786، 922، 1002. حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، 1/424-425، 2/839؛ وصقر الجزيرة، 1/63-64. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، لإبراهيم بن صالح بن عيس (ت1343هـ)، ط/1، 1386-1966م، نشر دار اليمامة، الرياض، ص142-144. تاريخ الدولة السعودية، د. مديحة، ص51 وما بعدها.
(4) انظر التفاصيل: عنوان المجد، 1/183، 188.(1/36)
ص -33- ... كانت تسيل على إبراهيم من القصيم والمدينة المنورة والبصرة ومصر(1).
ثم صمم على مهاجمة الدرعية، فوالى الهجوم والتخريب وإطلاق القنابل والرصاص، فهدم المساكن والمساجد؛ فأسرع أهلها إلى أميرهم عبد الله، طالبين منه الخلاص مما هم فيه، فاضطر إلى الخروج إبراهيم باشا، ويسلمه نفسه بلا قيد ولا شرط، وذلك في الثامن من ذي الحجة سنة (1233هـ). فأظهر له الإكرام، وبعثه مع أربعمائة من رجاله إلى والده بمصره، وبالغ محمد علي في إكرامه -نفاقاً- ثم أرسله إلى الأستانة ومعه بعض رجاله، حيث أمر الباب العالي بقتله، فطوف بالأسواق مقيداً ليرى الترك رئيس الوهابية(2) الذي يعدونه خارجاً على الإسلام، ثم قتل في ميدان أيا(1) صقر الجزيرة، 1/64.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الوهابية: اسم يطلقه المبتدعون، أعداء الدعوة السلفية والمناوئون لها، على دعوة شيخ الإسلام مجدد الملة، الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، كما يسمون المناصرين لدعوته والآخذين بها (وهابيين). قال مسعود الندوي -رحمه الله-: "إن من أبرز الأكاذيب على دعوة شيخ الإسلام، تسميتها بالوهابية، ولكن أصحاب المطامع حاولوا من هذه التسمية أن يثبتوا أنها دين خارج عن الإسلام. واتحد الإنجليز والأتراك والمصريون فجعلوها شبحاً مخيفاً، بحيث كلما قامت أي حركة إسلامية في العالم الإسلامي ... ورأى الأوربيون فيها خطراً على مصالحهم، ربطوا حبالها بالوهابية النجدية ...". محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه، لمسعود الندوي، تعريب: عبد العليم، ص99.
وانظر: تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية، د. محمد بن سعد الشويعر، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع الرياض ط/2، 1413هـ، 1993، ص74.(1/37)
وقد ردّ العلامة أبو المعالي الآلوسي على هذه التسمية، عند رده على النبهاني -أحد الحاقدين على الدعوة السلفية، والقائلين بهذه النسبة- وبيّن خطأه بأن من وافق محمد بن عبد الوهاب، ينسب إلى اسمه فيقال: محمدية، لا إلى اسم أبيه، كما فعل هذا الجاهل بالعربية. أو رأى أنه لو راعى القواعد فسماهم محمدية، غص هو وأعداء الحق، لأن ذلك يشعر بكونهم أتباع محمد بن عبد الله.
انظر ردود الآلوسي في: الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى، لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي، (مخطوط) بمكتبة جامعة الملك سعود، تحت رقم (8721/2). رقم ميكروفيلم (1400/م) لوحه 2/أ-ب. تاريخ نجد، للسيد محمود شكري الآلوسي، تحقيق محمد بهجة الأثري، المطبعة السلفية بمصر، القاهرة، 1343هـ، ص106.(1/38)
ص -34- ... صوفيا(1) قال عبد الرزاق البيطار في حلية البشر(2): (كان محمد علي باشا، وزيراً على مصر للسلطان محمود، وهو الذي أمره بمقاتلة الوهابيين، فأرسل ولده إبراهيم باشا، ومعه عسكر عظيم من الأكراد والأرناؤوط وعرب مصر، لمحاربة عبد الله بن سعود أمير نجد، فقاتلهم وقتل ونهب وحرّق وخرّب وأسر عبد الله بن سعود وأرسله إلى مصر، فبعثه والي مصر إلى السلطان محمود، فصلبه، أما باقي عائلة أمراء الوهابيين (المعبر عنهم بآل مقرن) وباقي بيت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه نقلهم إلى مصر، وأسكنهم هناك).
وبعد أن دمر إبراهيم باشا الدرعية، وسوى معالمها بالأرض، ولم يترك فيها ما ينتفع به من منزل أو نخيل أو آبار أو عيون، توجه إلى مصر سنة (1234هـ)، مصطحباً معه أفراداً من آل سعود وبعض زعماء نجد، وقد كان من بينهم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، الذي اصطحب مع والده وأعمامه، وهو ابن ثماني سنين، وولى على نجد قائداً يدعى (إسماعيل باشا)، ثم رحل هذا إلى مصر مولياً مكانه (خالد باشا)، وكان خالد هذا جباراً قاسياً بطاشاً، أذاق النجديين ألوان العذاب والذل، فانتشرت الفوضى، وقطعت الطريق، ونهب السفر، وكثرت الغارات(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/39)
(1) انظر في سقوط الدرعية ومقتل عبد الله بن سعود: صقر الجزيرة، 1/64-65. قلب الجزيرة، ص342. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص144-145. تحفة المستفيد، ص143. تاريخ المملكة العريية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/168-188. وتاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص161-162. الدرعية، لابن خميس، ص222-224، 387، 388. الدولة السعودية الأولى، عهد الإمام عبد الله بن سعود، (نهاية الدولة السعودية الأولى) -للأستاذ د. منير العجلاني، ط/2، 1414هـ، 1993م، ص107-142. الظل الممدود في الوقائع الحاصلة في عهد ملوك آل سعود الأولين (تاريخ العجيلي)، تأليف محمد بن هادي بن بكر العجيلي، حررها في 1220هـ، تحقيق تقديم د. عبد الله بن محمد بن حسين أبو داهش، ط/1، 1408هـ، 1988م، ص490.
(2) حلية البشر 1/839. الدرعية، لابن خميس، ص393.
(3) انظر: صقر الجزيرة، ص1/66.(1/40)
ص -35- ... ثالثاً: قيام محمد بن مشاري: (1235هـ):-
وفي تلك الأحوال السيئة، نهض محمد بن مشاري من آل معمر، أمراء العيينة(1)، وقد ساعدته الظروف المتدهورة، فتمكن من الاستيلاء على أجزاء كبيرة من قلب الجزيرة؛ هي: العارض(2)، وسدير(3)، والوشم، والقصيم، وكان على اتفاق مع الترك العثمانيين، المرابطين في نجد حينذاك، وبينما هو منهمك في تثبيت قواعد إمارته قدم الجيش التركي بقيادة (عبوش أغا)، وما كاد يصل عنيزة حتى بادره ابن معمر بخطاب ورسول ينبئه بأنه مطيع للباب العالي، وتحت أمره، فرجع عبوش أغا من حيث جاء(4).
ثم إن مشاري بن سعود الكبير(5) ثار على ابن معمر ونازعه وقاومه، حيث إن ابن معمر كان قد استولى على أجزاء من نجد بما فيها (العارض) مقام مشاري ابن سعود،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العيينة: تصغير عين (وهي عين بني عامر من بني حنيفة) بلدة في اليمامة بنجد، كانت عامرة زاهرة في أيام النهضة الأولى لآل سعود، فخربت، ثم عادت إليها الحياة، فهي الآن بلدة كبيرة، فيها الجوامع والمدارس وكثير من المرافق الحكومية. انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين ص47؛ معجم اليمامة لابن خميس 2/198-204.
(2) العارض: منطقة بنجد، من قرى الشقيق، شمال قرية الراجحية. المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية، مقاطعة جازان، المخلاف السليماني، لمحمد بن أحمد العقيلي، دار اليمامة بالرياض، 1389هـ-1969م، ص150.(1/41)
(3) سدير: بضم السين، وفتح الدال، فياء ساكنة، فراء، من أكبر أقاليم اليمامة، شماليها، تنحدر أوديته من ظهر طويق (جبل)، يحده من الجنوب (العتك)، ومن الغرب مرتفعات جبل طويق ومنحدراته الغربية، ومن الشمال المرتفعات والقفاف المشرفة على روضة السبلة، ومن الشرق جبل مجزّل، وقاعدته المجمعة. ومن بلداته: الحوطة، والروضة، وجلاجل، والتويم، والعودة، وحرمة، والغاط، وعشيرة، وتمير، والعطار، والرويضة، وغيرها. معجم اليمامة، 2/18-19. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص58-59.
(4) صقر الجزيرة 1/66.
(5) هو مشاري بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، من أمراء آل سعود بنجد، وهو أحد الزعماء الفارين من مصر، وممن نفاهم إبراهيم باشا إليها، آلت إليه إمارته بعد أخيه عبد الله بن سعود، وكانت إقامته في العارض، بعد أن دُمرت الدرعية، (ت1235هـ).
انظر ترجمته: تاريخ ملوك آل سعود، ص17. قلب جزيرة العرب، ص343. صقر الجزيرة، 1/66-67. الأعلام للزركلي، 7/226.(1/42)
ص -36- ... فقاومه مشاري؛ لكونه أحق منه بالحكم، غير أن ابن معمر أسره، وسلمه إلى المعسكر التركي، الذين سجنوه إلى أن مات في السجن عام (1235هـ)(1).
رابعاً: قيام الإمام تركي بن عبد الله(2) واستعادته للسلطة في نجد، وطرده للقوات المصرية (1240هـ)(3):-
استمر حكم الأتراك لنجد، من (1233-1240هـ). وكان الإمام تركي بن عبد الله حينذاك متنقلاً في نجد، هارباً من وجه إبراهيم باشا، لئلا يقتله أو ينفيه كما فعل بآل سعود. وفي السنة (1235هـ) غادر الإمام تركي الرياض هارباً من الأتراك الذين حاصروها، وفي نفس الوقت كان ثائراً عليهم، ومضى يجمع الكلمة، ويوحِّد الصفوف، ويقضي على المنازعات الداخلية(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/199. قلب الجزيرة، ص343.
(2) الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن، أمير من أمراء آل سعود في نجد، وليها بعد مقتل ابن عمه مشاري بن سعود عام (1235هـ)، كان فاراً من وجه الترك وعمال والي مصر (محمد بن علي) كان شجاعاً، أخذ على عاتقه دفع الترك ومن معهم من المصريين عن بلاده: نجد، (ت1249هـ). رحمه الله.
انظر: ترجمته: قلب الجزيرة، 343-344. تاريخ ملوك آل سعود، ص18. الأعلام للزركلي، 2/84. جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص235-236. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص164؛ والسعودية له أيضاً، ص27. الدرعية، لابن خميس، ص397.
ويلاحظ هنا: أن عبد الله (والد تركي)، ليس هو عبد الله بن سعود الكبير، الذي أسره إبراهيم باشا بعد سقوط الدرعية، وقتله الترك في استنبول؛ كما توهم بعض الكتاب. ولزيادة الإيضاح انظر: الجدول الموضح لحكام آل سعود ص (53-54). جزيرة العرب في القرن العشرين، ص235.
(3) وانظر: عنوان المجد، 2-16-18.(1/43)
(4) انظر: قلب الجزيرة، ص343، صقر الجزيرة 1/67، وجزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبه، ص236.(1/44)
ص -37- ... وبعد أن علم بأن أحد آل معمر قد قبض على ابن عمه مشاري بن سعود، وسلمه إلى الترك، وأنهم قتلوه حبساً في السجن، خرج من مخبئه، ودخل "العارض" فنازع ابن معمر برهة من الزمن وقاتله، غير أن ابن معمر قتله ابن عمه(1). فصفا الجو لتركي، وتولى الحكم مكانه(2). وفي سنة (1236هـ) قدم حسين بك وأبوش أغا ومعهما عسكر من الدولة العثمانية، إلى الرياض، وحصروا تركيا في قصره. فتمكن من الهروب ليلاً، وأقام في بلدة الحلوة بنجد(3).
وفي سنة (1237هـ) غزا إبراهيم كاشف، وأغار على قبيلة سبيع في الحاير فكانت الهزيمة عليه، فقتل هو مع ثلاثمائة رجل. ووجهت الدولة العثمانية أبا علي البهلولي، بدلاً منه، ومعه ستمائة رجل، واستقر في الرياض(4).
وفي سنة (1240هـ) قويت شوكة الإمام تركي، فزحف على الرياض وفيها العساكر المصرية والتركية المرابطة في نجد(5)، وحاصر الحامية التي فيها، حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تذكر بعض المصادر أن الإمام تركياً بعد علمه بأن ابن معمر سلم مشاري بن سعود -ابن عم تركي- إلى الترك، وأنهم سجنوه، أسرع إلى الدرعية، وقصد قصر ابن معمر، وقبض عليه وسجنه، ثم سار إلى الرياض ونازل مشاري ابن معمر حتى قبض عليه، واستولى على الرياض، وسجن محمد بن مشاري (ابن معمر) وابنه مشاري، وقال تركي لابن معمر: إن أطلقت مشاري بن سعود أطلقتك، وإلا قتلتكما جميعاً، فكتب ابن معمر إلى عامله في السدوس بإطلاقه، فامتنع من إطلاقه؛ خوفاً من القائد التركي. ثم جاء خليل أغا وفيصل الدويش وتسلما مشاري ابن سعود. ولما سمع تركي بذلك، قتل محمد معمر بن مشاري وابنه. أما مشاري بن سعود، فقد حبسه القائد في عنيزة، ومات في محبسه -رحمة الله عليه-. تحفة المستفيد، ص146-147.
(2) انظر: صقر الجزيرة، 1/67. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص101.
(3) تحفة المستفيد، ص146.
(4) تحفة المستفيد، ص147.(1/45)
(5) انظر تفاصيل زحفه على الرياض واستيلائه عليه: عنوان المجد، 2/16-19. قلب جزيرة العرب، ص343-344. معجم اليمامة، لمحمد بن خميس، 1/497. الدولة السعودية ص24-25. تحفة المستفيد، ص148. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1-204-207.(1/46)
ص -38- ... صالحة قائد الحامية (أبو علي البهلولي)، على خروج العساكر من الرياض، وعودتهم إلى بلادهم، وتأمين جميع المحاربين معهم، فتم ذلك. ثم عين ابن عمه مشاري(1) بن ناصر بن مشاري بن سعود، أميراً على الرياض، ريثما يرتب الإمام تركي شؤونه(2). فغزا الإحساء والقطيف وفتحهما، وتمكن من بعض البوادي، وأدخل كثيراً من القرى والمدن تحت حكمه، كما انضم إليه زعماء القبائل بعد أن رأوا أن نجداً قد خضعت له. ثم عاد إلى الرياض، وعمرها، وحصنها بالأسوار، واتخذها قاعدة حكمه، عام 1240هـ، ومن يومئذٍ صارت الرياض هي العاصمة إلى اليوم(3).
وبولايته انتقل الحكم في آل سعود من سلالة عبد العزيز بن محمد، إلى سلالة أخيه عبد الله بن محمد، وبقي في هؤلاء إلى اليوم(4).
ويجدر بنا الإشارة إلى أن هذا هو مؤسس الإمارة السعودية في دورها الثاني عام (1235هـ)، بعد أن سقطت، وقتل عبد الله بن سعود(5)؛ لأنه منذ هذه السنة اعتبر الزعيم الساعي لاسترداد إمارة آل سعود، واستطاع بخلائقه الكبيرة، أن يجعل اسم آل سعود حياً في نفوس العرب. غير أن الأعداء كانوا قد أحاطوا به من كل جانب؛ فهو دائماً مهاجم أو مدافع(6). وفي عهده عاد الإمام عبد الرحمن بن حسن (والد الشيخ عبد اللطيف) إلى الرياض، قادماً من مصر، حيث نقله إبراهيم باشا بعد سقوط الدرعية. وكان تركي قد استدعى جميع المنفيين بالرجوع إلى نجد، بعد تطهيرها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مشاري بن ناصر بن مشاري بن سعود.
(2) معجم اليمامة 1/497. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص104-105
(3) انظر المرجعين السابقين، نفس الصفحات؛ وصقر الجزيرة 1/1-67-68.
(4) انظر: صقر الجزيرة، 1/67.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق. وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص235-236.(1/47)
ص -39- ... قوات المصريين والأتراك، واستتاب الأمن فيها.
مقتل الإمام تركي بن عبد الله (1249هـ)(1):-
وفي العام (1249هـ) قتل الإمام تركي بن عبد الله -رحمه الله-، قتله ابن أخته مشاري بن عبد الرحمن بن مشاري بن سعود(2)، وقد خامرته فكرة اغتيال خاله الإمام تركي، والاستيلاء على إمارته.
وكان الإمام فيصل بن تركي(3)، وهو الساعد القوي والعضد الوحيد والمناصر الأول لأبيه تركي(4)، فانتهز مشاري فرصة غياب الإمام فيصل -الذي كان قد خرج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تفاصيل مقتل الإمام تركي بن عبد الله: عنوان المجد، 2/49-52. صقر الجزيرة، 1/68. معجم اليمامة، لابن خميس، 1/497. جزيرة العرب، في القرن العشرين، ص336. تحفة المستفيد، ص150-151. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، ص105. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/256. تاريخ ملوك آل سعود، ص18.
(2) مشاري بن عبد الرحمن بن حسن بن مشاري بن سعود، أمير من أمراء آل سعود في نجد، كان أحد الذين نقلهم إبراهيم باشا إلى مصر، وفر منها سنة (1242هـ) فأكرمه خاله الإمام تركي، ثم تآمر على قتل خاله فقتله سنة (1249هـ)، وقد قتله الإمام فيصل بن تركي ثأراً لمقتل أبيه، وذلك عام (1249هـ).
(3) هو الأمير فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود (الأول) ابن محمد بن مقرن. ولد سنة 1213هـ، كان ضمن من نقلهم إبراهيم باشا إلى مصر، بعد سقوط الدرعية، وهو أحد أمراء آل سعود في نجد، تولى الحكم عام 1250هـ بعد مقتل والده، وفي عام 1254هـ استسلم للقائد التركي خورشيد باشا، الذي أرسله إلى مصر للمرة الثانية؛ ثم فر من مصر عام 1259هـ، وعاد إلى نجد واستعاد الحكم واستمر فيه إلى أن توفي عام 1282هـ.(1/48)
انظر ترجمته: قلب الجزيرة، ص344-345. تاريخ ملوك آل سعود، ص19-24. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص67-117. علماء نجد، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص48. الدرر السنية، 12/54، 58. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/278. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص166؛ والسعودية له أيضاً، ص27.
(4) انظر: صقر الجزيرة، 1/67.(1/49)
ص -40- ... غازياً ناحية البحرين في أطراف القطيف -فخطط لتنفيذ فكرته الخبيثة فاغتال الإمام تركي -رحمه الله- بواسطة خادم اسمه "إبراهيم بن حمزة" عقب خروج الإمام تركي من المسجد بعد صلاة الجمعة. وكان مشاري في المسجد فخرج شاهراً سيفه وتوعد الناس. ثم أسرع إلى قصر الحكم، فاستولى على جميع ما كان فيه من عتاد وأموال؛ وأمر نفسه سنة 1249هـ(1).
سعيُ الإمام فيصل للأخذ بالثأر من قاتل أبيه تركي (1249هـ):-
لم تدم إمارة مشاري -بعد قتله للإمام تركي- أكثر من أربعين (40) يوماً؛ إذ إن الإمام فيصل -بعد أن وصله نبأ مقتل أبيه- أسرع راجعاً إلى الرياض وأقبل بجموع كبيرة فقاتلوا مشارياً، فاستسلم ومن معه، وقتل هو وخمسة رجال كانوا قد اشتركوا معه في قتل تركي، -رحمه الله-(2).
خامساً: قيام الإمام فيصل بن تركي: (1250هـ-1282هـ)(3):
بعد مقتل تركي بن عبد الله، ومقتل قاتله مشاري بن عبد الرحمن، قام بالأمر الإمام فيصل -رحمه الله- واجتمعت كلمة أهل نجد عليه، حتى سنة (1252هـ)، حينما أعادت العساكر المصرية كرتها على نجد، بقيادة إسماعيل أغا، وقد قدم مع خالد بن سعود(4)، فنزل إسماعيل وخالد قصر الرياض، وبقيا إلى سنة (1254هـ)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صقر الجزيرة، 1/68. وحلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، لعبد الرزاق البيطاري، 1/425.
(2) انظر تفاصيل ذلك: عنوان المجد، ص2/49-52. صقر الجزيرة، 1/68-69. قلب الجزيرة، ص343-344. الأعلام للزركلي، ص7-226-227.
(3) انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص236.(1/50)
(4) خالد بن سعود (الكبير) بن عبد العزيز بن محمد بن سعود (الأول)، كان ممن نقله إبراهيم باشا إلى مصر من آل سعود، بعد سقوط الدرعية، وحينما أعادت العساكر المصرية كرتها، أرسله محمد علي مع إسماعيل أغا قائد الجيش، لاسترضاء أهل نجد، فتولى الحكم من 1254-1257هـ، حين ثار عليه عبد الله بن ثنيان ففر إلى الدمام. وقد توفي بجدة عام (1278هـ).
انظر: عنوان المجد، 2/69-70، وما بعدها. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص168. والسعودية، له أيضاً، ص27-28. والأعلام للزركلي، 2/269.(1/51)
ص -41- ... ثم عززا بحملة يقودها ملا سليمان الكردي، بعثه خورشيد باشا(1). ثم رجعت الحملة الأولى إلى مصر بعد هزيمتها على أيدي أهل الحوطة(2) والحلوة(3) والحريق(4)، سنة (1253هـ).
ولما علم الإمام فيصل بهزيمة هؤلاء، أسرع إلى الرياض وحاصرها، سبعين (70) يوماً فجاء فهيد الصيفي رئيس سبيع(5)، وقاس بن عضيب رئيس آل عاصم(6)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو محمد خورشيد باشا، قائد ألباني مستعرب، دخل مصر صغيراً، وتعلم في مدارسها المدنية ثم العسكرية. كان في حملة محمد علي التي ذهبت إلى الحجاز، وانتدبه محمد علي لقتال أهل "عسير" ثم بني حرب وجهينة. توفي بالمنصورة سنة (1265هـ).
انظر ترجمته: الأعلام للزركلي، 6/119.
(2) الحوطة (هي حوطة) بني تميم، وهي بلاد واسعة، تقع في ملتقى وادي نعام وبريك، وتسمى أيضاً حوطة الجنوب، تمييزاً لها عن حوطة سدير في شمال اليمامة. وأكثر سكانها من بني تميم، بني عمرو. تبعد عن الرياض حوالي (150كم) شطر الجنوب، بعد الخروج وقبل الأفلاج.
انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. معجم اليمامة، 1/354-355.
(3) الحلوة: هي البلدة الثانية في حوطة بني تميم بعد الحلة، وهي أعلى بلدة في وادي بريك، وسكانها جلهم بنو تميم من آل مرشد. معجم اليمامة، 338، 355.
(4) الحريق: بلدة في جنوب الرياض،تقع على أعلى وادٍ في جنوب نجد، ممتد من الشرق إلى الغرب. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. الرس، لعبد الله الرشيد، ص67. علماء نجد، لسام، 1/265.
(5) سبيع: قبيلة تقع أماكنها في وادي سبيع بين أطراف عسير الشرقية الشمالية، وبين نجد بقرب الوشم، وتمتد إلى وادي تربة ورينة، وهم أفخاذ؛ منهم بنو عامر، وبنو عمر، والقريشات، وآل عمير. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص42.(1/52)
(6) آل عاصم: بطن من آل سليمان من الجحادر، من قحطان نجد، فالحجاز بطنان؛ آل الجمل وآل سليمان؛ وآل سليمان ينقسمون إلى فخذين: آل محمد وآل عاصم. وآل محمد ينقسمون إلى عشيرتين: آل طريف، منهم الحشر، وآل رزق، منهم آل كريشان. قلب جزيرة العرب، ص197. معجم قبائل العرب، 2/702.(1/53)
ص -42- ... ففكا الحصار عن خالد، فرحل عنها فيصل(1).
الإمام فيصل بن تركي ينقل -أسيراً- إلى مصر مرة ثانية (1254هـ)(2):-
ثم قدم خورشيد باشا بحملة معه، واصطحب خالد بن سعود ومن معه؛ لحصار الإمام فيصل في الدلم(3) من الخرج(4)، وبعد قتال مرير،ثم الصلح بينهما، فسلم الإمام فيصل نفسه إلى خورشيد، على شروط؛ هي: الصفح عن الوطنيين، وتأمين أرواحهم وأموالهم، فإن قبل الشرط سلم، وإلا فالميدان لا يزال رحيباً. فقبل القائد المصري شروط فيصل، فسلم نفسه إليه، في 23 من رمضان سنة 1254هـ.
فأرسله إلى مصر مع ابنيه عبد الله ومحمد، وشقيقه وابن عمه جلوي. وظل هناك في مصر من عام 1254هـ، حتى عام 1259هـ؛ وبمغادرته الرياض قامت الثورات الداخلية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/297. تحفة المستفيد، 151-152.
(2) وقد كان نقله إلى صر للمرة الأولى بعد سقوط الدرعية عام 1233، فمكث هناك حتى عام 1242هـ، ثم نقله خورشيد باشا للمرة الثانية عام 1254هـ، وتمكن من الفرار للمرة الثانية أيضاً عام 1259هـ.
انظر: جزيرةالعرب في القرن العشرين، ص236. تحفة المستفيد، ص153. مدينة الرياض، لأحمد جاسر، ص106-107. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/235، 302، 318.
(3) الدِّم: بكسر الدال المشددة -بعضهم يضمها- وفتح اللام، فميمم، قاعدة إقليم الخرج قديماً، وكبرى مدنها، وهي اليوم مدينة كبيرة عامرة، ذات نخيل ومزارع وعمران، بها مدارس ومرافق كثيرة، تبعد عن الرياض حوالي (100كم). جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. معجم اليمامة، 1/431-436.(1/54)
(4) الخرج: بفتح الفاء، وإسكان الراء، فجيم، منطقة باليمامة، تلتقي فيها أودية عظام، من أكبر وادية العارض، وتعتبر من منطقة العارض في قلب اليمامة، يحدها شمالاً جبال (المغرة) وطرف جبل الجبيل، والدهناء شرقاً، والبياض جنوباً، ويحدها غرباً منحدرات جبل علية الشرقية. تبعد عن الرياض أكثر من (80كم) جنوباً.
انظر: معجم اليمامة، لابن خميس، 1/371-372. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص52. الرس، لعبد الله الرشيد، ص64-66.(1/55)
ص -43- ... وأصبحت الحرب شبه أهلية طمعاً في الحكم(1).
وبقي خالد أميراً على الرياض، ما عدا الحوطة والحريق، فإنهما لم يذعنا له. ولم تستقم له الأمور؛ لسوء معاملة العساكر المصرية معه، وقد قاومه أهل نجد حتى فرّ وخرج من الرياض، وأمّر حمد بن عياف، وهرب إلى الإحساء، ثم إلى القطيف، ثم إلى الكويت، ثم إلى مكة حيث مات في جدة سنة (1278هـ)(2).
وهنا قام الأمير عبد الله(3) بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان آل سعود بثورته، واستولى على الرياض عام (1257هـ)، فاستقام له الأمر في نجد بعد فرار خصمه، غير أن صفات الاستبداد كانت تغلب عليه. وظل على الحكم إلى أن قدم الإمام فيصل بن تركي إلى الرياض فاراً من مصر(4)(5).
ولما وصل نجداً، التف حوله الأنصار، فزحف بهم إلى عنيزة -مقر ابن ثنيان- فهزمه، والتف حوله رجالها، الذين كانوا ينتظرون ساعة الخلاص من ربقة الذل. وتوفي ابن ثنيان مسجوناً. وبذلك عاد حكم البلاد إلى فيصل، واسترد سلطته، التي امتدت إلى الإحساء، والقطيف، والعارض، والقصيم، والجبيل، ووادي الدواسر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: قلب الجزيرة، ص344. صقر الجزيرة، 1/71. معجم اليمامة، 1/498. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص237.
(2) انظر: صقر الجزيرة، 1/71.
(3) عبد الله بن ثنيان بن إبراهيم بن ثنيان بن سعود (الأول) ابن محمد، أمير من أمراء نجد، ثار على خالد بن سعود، واستولى على الرياض 1257هـ، وجلس على الحكم إلى أن قدم فيصل بن تركي من مصر عام 1259هـ، توفي في سجنه سنة 1259هـ.
انظر: تاريخ ملوك آل سعود، ص24-25. عنوان المجد، 2/92-103. الأعلام للزركلي، 4/75.
(4) وكان فراره هذه من مصر، هو الثاني، وكان الأول عندما كان ضمن من نقلهم إبراهيم باشا.
انظر: تحفة المستفيد، ص156. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص237. تاريخ ملوك آل سعود، ص25.
(5) صقر الجزيرة، 1/71. معجم اليمامة، 1/498.(1/56)
ص -44- ... وعسير، وأطراف الحجاز، كما أن البحرين، ومسقط، وسواحل عمان، كانت تدفع إليه ضرائب فرضها على أمرائها. وظل الإمام فيصل يحكم البلاد حتى وفاته -رحمه الله- في 21 من رجب سنة (1282هـ)، فخلفه ابنه عبد الله بن فيصل(1).
ويشار هنا إلى أنه في عهده -وفي عام (1264هـ)- عاد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الرياض فاراً من مصر، حيث كان نقل مع والده بعد سقوط الدرعية.
كما أن نشاط الشيخ -رحمه الله- السياسي، كان على أشده في هذه الفترة؛ وذلك لمحله من الإمام فيصل؛ حيث كان مرافقه في أغلب أوقاته ومستشاره. وفي ذلك قال حافظ وهبة: "وقد زار الرياض الرحالة (بلجريف)، فوصف بلاط فيصل ... كما وصف سلطة الشيخ عبد اللطيف، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها تأتي بعد فيصل مباشرة"(2).
بداية الدور الثالث من حكومة آل سعود: [1282-1293هـ]:-
تقدمت الإشارة إلى أن هذا الدور بدأ من بداية الفتنة الأهلية بين أبناء فيصل بن تركي، رحمه الله. وهنا نورد نبذة يسيرة عما حدث في تلك الفترة:
الفتنة الأهلية بين أبناء فيصل بن تركي بعد وفاته: 1282-1293هـ(3) بلغت الدولة السعودية في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- مبلغاً طيباً، لكنها لم تدم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر المراجع السابقة: صقر الجزيرة، 1/72. المعجم، نفس الصفحة. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص240. تحفة المستفيد، ص165. عقد الدرر، ص46. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/359.
(2) جزيرة العرب في القرن العشرين، 1/359.
غير أني لم أتمكن من الوقوف علىكتاب الرحالة المذكور؛ لمعرفة ما وصف به الشيخ عبد اللطيف.(1/57)
(3) انظر تفاصيل تلك الفتنة في: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص177-186. قلب جزيرة العرب، ص345-348. صقر الجزيرة، 1-74-79. تحفة المستفيد، ص166. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/195. جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص240-245. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص105. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد الجاسر، ص109-111. الدولة السعودية الثانية، د. عبد الفتاح، ص156-192. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/360. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، ص170-174؛ السعودية، له أيضاً، ص28-29. تاريخ الدولة السعودية، د. مديحة أحمد، ص64-67.(1/58)
ص -45- ... طويلاً؛ فما كاد يودع الحياة، حتى أخذت في التقلص؛ بسبب الحروب بين أبنائه(1). وقد كان له أربعة أبناء: عبد الله (2)، وسعود (3)، وعبد الرحمن (4)، ومحمد (5). وكان قد جعل عبد الله ولياً للعهد؛ لأنه أكبر أولاده، ولما امتاز به من الخلائق الكريمة (6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صقر الجزيرة، 1/73.
(2) عبد الله بن فيصل بن تركي، من أمراء آل سعود في نجد، بويع بعد وفاة أبيه عام (1282هـ)، (ت1307هـ).
انظر ترجمته: تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، لصلاح الدين المختار، 1/385. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، 173؛ السعودية، له أيضاً، ص28. تاريخ ملوك آل سعود، ص26. الأعلام للزركلي، 4/113.
(3) سعود بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد، من أمراء آل سعود في نجد، خرج على أخيه عبد الله وصار بينهما نزاع وصراع مسلح (ت1291هـ).
انظر ترجمته: قلب جزيرة العرب، ص346. وتاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/376. تاريخ المملكة العربية السعودية، للسيد محمد إبراهيم، 173؛ والسعودية، له أيضاً، ص28. تاريخ ملوك آل سعود، ص29. الأعلام للزركلي، 3/90-91.
(4) هو عبد الرحمن بن فيصل بن تركي، أحد أمراء نجد، وهو والد الملك عبد العزيز، طال عمره حتى شهد ملك ابنه (1346هـ).
انظر ترجمته: قلب الجزيرة، ص347. الأعلام للزركلي، 322.
(5) هو محمد بن فيصل بن تركي، تولى إمارة الرياض بعد أخيه عبد الرحمن.
انظر ترجمته: قلب الجزيرة، ص348.
(6) انظر: صقر الجزيرة، 1/74.(1/59)
ص -46- ... وبعد وفاته، استقل محمد بالمنطقة الشمالية، واستقل سعود بالخرج والأفلاج(1)، وبقي عبد الله وعبد الرحمن في الرياض. وبانقسامهم ضعفت حكومتهم، وتمرد العربان، وخرجت كل قبيلة عن حدودها، تسطو وتنهب، بعد أن كانت في عهد الإمام فيصل لا تستطيع فعل شيء من ذلك(2).
فكان الصراع على الحكم محتدماً بين أبنائه، الأمر الذي أشعل نار الحرب، فصارت حروب أهلية بينهم، أشغلت كل من كانت له حمية دينية، وغيرة على دماء المسلمين، كان في مقدمة أولئك، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمة الله عليه.
وكان الأمير عبد الله الفيصل، قد خلف أباه بعد وفاته، غير أن أخاه سعوداً خرج عليه، وغادر الرياض متجهاً شطر القبائل سنة (1283هـ)، باحثاً عن الأنصار يحارب بهم أخاه عبد الله، فألفى من قبائل العجمان(3) وبني خالد(4) عوناً ونصراً،وكان فيصل قد قضى على نفوذهم في الإحساء، ونهضوا لمساعدته، ومقصدهم استرداد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأفلاج: موضع باليمامة، بين العارض ومطلع الشمس، تصب فيه أودية العارض، وتنتهي إليه سيولها.وهي أربعة فراسخ طولاً وعرضاً، مستديرة.
انظر: معجم البلدان، 1/232، 4/271. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص53. الرس، لعبد الله الرشيد، ص67.
(2) انظر المرجع السابق، نفس الصفحة.
(3) العجمان: قبيلة تنتسب إلى مذكر بن يام بن أصبا بن رافع بن مالك بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان، هاجروا من نجران إلى جهات الإحساء، ثم ارتحلوا ونزلوا الصبيحية، الماء المعروف بقرب الكويت،منازلهم في جوار بني خالد، اعتبارً من الطف إلى القير. وكانت هذه القبيلة قد أظهرت التمرد والعصيان على الإمام فيصل، وذلك سنة (1276هـ). انظر: قلب الجزيرة، ص190. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص82. معجم قبائل العرب، 2/758-759. تحفة المستفيد، ص156.(1/60)
(4) بنو خالد: من أقدم القبائل العربية، منازلها على ساحل الخليج العربي، ما بين وادي المقطع في الشمال، ومقاطعة البياض في الجنوب. قلب الجزيرة، ص154-155. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص42. معجم قبائل العرب، 1/327.(1/61)
ص -47- ... سلطتهم المفقودة في الإحساء(1) وقد وقع بين الأخوين معارك عدة، تبادلا فيها الهزائم، كان أول لقاء بينهما في وقعة (الجودة)(2) سنة (1287هـ)، حيث وقعت معركة حامية الوطيس، غلب فيها عبد الله، وكسرت شوكته، فذهب يستنجد بأمراء القبائل في عنيزة وحائل، فلم يجد لديهما آذان صاغية؛ خوفاً من سعود، ولقي قولاً حسناً لدى رئيس سبيع عساف بن اثنين، ولدى زعيم قبيلة مطير سلطان الدويش.
ثم بعث عبد العزيز أبو بطين إلى والي بغداد مدحت باشا(3)، يستعينه على أخيه(4). فرأى مدحت أن الوقت قد حان لاسترداد الإحساء من آل سعود، فنهض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص177. وصقر الجزيرة، 1/74. وجزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص241.
(2) وقعة الجودة: (الجودة) ماء معروف. وقد كانت هذه الوقعة بين سعود بن فيصل -عندما قدم من عمان ومعه جنود كثيرة من العجمان، واستولى على الحسا- وأخيه محمد بن فيصل، الذي جهزه أخوه عبد الله بن فيصل لقتال سعود، بعد أن سمع بقدومه من عمان والبحرين للحسا. فنزل محمد على الجودة، فحصل بينهم وقعة شديدة في رمضان 1287هـ؛ وصارت الهزيمة على محمد وأتباعه، وأسر محمد، وأرسله أخوه سعود إلى القطيف، فحبس هناك، إلى أن أطلقه عسكر الترك في ربيع الآخرة، 1288هـ.
انظر: تاريخ المملكة، لصلاح الدين، 1/367. بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص179-181، 182. وتذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الواحد الديان، وذكر حوادث الزمان، للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن، من علماء أهل القصيم في بريدة، ط/1 على مطابع مؤسسة النور للطباعة والتجليد، الرياض.186-195. تحفة المستفيد، ص169-170.(1/62)
(3) مدحت باشا: (أو أحمد مدحت) ابن حاجي حافظ أشرف أفندي (أبو الأحرار) العثماني. ولد في اسطنبول، وكان أبوه قاضياً، وسماه "محمد شفيق" وغلب عليه اسم "أحمد مدحت" ثم "مدحت" تعلم العربية والفارسية، وتقلب في الوظائف، وعين والياً على بغداد سنة(1286-1288هـ) ودُعي إلى الأستانة معزولاً، فما لبث أن تولى منصب الصدارة العظمى، وأصدر الدستور العثماني سنة (1293هـ), توفي سنة (1301هـ). الأعلام للزركلي، 7/195.
(4) وعلى هذا الفعل عاتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وبيّن له بطلانه، كما سياتي في رسالته (11)، ص288. وانظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص242.(1/63)
ص -48- ... من توه، وبعث إلى ناصر السعدون باشا(1) -زعيم قبائل المنتفق(2)- كما بعث إلى عبد الله بن صباح أمير الكويت يستنصرهما، وجعل القيادة العامة بيد نافد باشا(3).
وكان سعود بن فيصل قد دخل الرياض سنة (1288هـ)، بعد وقعة الجودة، وخرج منها عبد الله(4). وهنا كان للشيخ عبد اللطيف موقف مشرف، تحدث عنه إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى(5) فقال: (خاف الشيخ عبد اللطيف على البلد وأهلها أن يستبيحها سعود ومن معه من الأشرار وفجار القراء، فخرج إلى سعود قبل دخوله إليها؛ خشية أن يأخذه عنوة، فتسفك الدماء وتستباح النساء، فخاطبه فيما يصلح الحال بينه وبين أخيه الإمام. فاشترط سعود الشروط الثقال على أخيه فلم تتفق الحال، فصارت الهمة فيما يدفع الفتنة ويجمع الكلمة، فرأى الشيخ -بثاقب رأيه- النزول إلى هذا المتغلب، والتوثق منه، ودفع صولته، وخرج إليه رؤساء البلد والمعروفون من رجال الرياض بأمر الشيخ، فبايعوا سعوداً، وأعطاهم على دمائهم وأموالهم، محسنهم ومسيئهم، عهد الله وميثاقه).
وبذلك دخل سعود الرياض حاكماً، للمرة الأولى، عام (1288هـ)، بعد وقعة الجودة(6). ثم إن القلوب بدأت تنصرف عنه، بسبب الفظائع التي ارتكبها أنصاره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ناصر السعدون (باشا) ابن راشد بن ثامر السعدون، والٍ من رجال هذه الأسرة في العراق، تولى (المننتفق) إقطاعاً سنة (1282هـ) وصحب حملة وجهتها الحكومة العثمانية إلى الإحساء. توفي في الأستانة سنة 1301هـ.
(2) قبيلة المنتفق: من أهم قبائل العراق، منازلها في المناطق الواقعة بين البصرة وبغداد، وتتجول في الجزيرة بين دجلة والفرات. وهو بطن من عامر بن صعصعة، من العدنانيين.
انظر: معجم قبائل العرب، لكحالة، 3/1144.
(3) صقر الجزيرة، 1/75.
(4) تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/196. معجم اليمامة، 1/498. وجزيرة العرب في القرن العشرين، ص242.(1/64)
(5) انظر، تذكرة أولي النهى، ص196.
(6) انظر: تحفة المستفيد، ص174.(1/65)
ص -49- ... وأصهاره العجمان، فاجتمع أهل الرياض تحت قيادة عمه عبد الله بن تركي، وطردوه من الرياض. فوجد أخوه عبد الله بن فيصل -المقيم في الإحساء حينذاك- الفرصة السانحة، فترك الإحساء ودخل الرياض بدون مقاومة. غير أن سعوداً لم يمهله، بل جمع أنصاره وتوجه إليه في الرياض، ونازل أخاه في مكان يسمى (الجزعة) وهزمه، واقتحم البلدة ونهب سكانها، ودخل الرياض للمرة الثانية عام (1290هـ). فمضى عبد الله يجمع الرجال، والتقى الأخوان أيضاً في (البرة)، لكن عبد الله انهزم أيضاً، فرجع إلى الإحساء(1). واستقر سعود على الحكم في الرياض، غير أنه ضعف شأنه حتى قام عليه رجال عتيبة، تحت إمرة زعيمهم مسلط بن ربيعان، بأعمال النهب والسلب؛ فنهبوا الجانب الغربي من الرياض، وخرج إليهم سعود فانهزم، وقتل كثير من أنصاره، وجرح هو جرحاً بليغاً ألزمه الفراش، إلى أن مات من أثره سنة (1291هـ)(2).
وقد تحدث عبد الله البسام عن هذه الفتنة بين الأخوين فقال: (... بعد وفاة الإمام فيصل، واستيلاء الإمام عبد الله على الحكم، حدثت بين عبد الله وأخيه سعود الفيصل منازعة على الحكم، وطال النزاع بينهما، وتطور إلى تكوين جيشين من البادية والحاضرة، كل جيش تحت إمرة وتدبير واحد منهما، والتحم القتال بينهما، وتعددت المعارك، وصارت فتنة كبرى في نجد، وصار الطمع في الحكم وحب السلطة وإيقاد نار العداوة بين الطائفتين، مع الهوى والشيطان، كل ذلك ألهب نار الحرب وأشعلها، والشيخ عبد اللطيف، وحده، هو مطفيها، فغلب كثرة الشر، وضاع صوت الحق في صخب أبواق الباطل ...)(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص242-243. صقر الجزيرة، 1/76.
(2) جزيرة العرب ص243. صقر الجزيرة 1/76. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد جاسر، ص109-110.(1/66)
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/66. وانظر تفاصيل هذه الفتنة: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، ص181-183. تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها، 1/376-385. قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، ص345-346. مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، لأحمد الجاسر، ص109-111. علماء الدعوة، ص50(1/67)
ص -50- ... وبموت سعود، صفا الجو بعض الصفاء لعبد الله، ورجع إلى الرياض من الإحساء، فوجد أهل الرياض قد بايعوا أخاه عبد الرحمن، غير أن أخاه هذا كان على جانب كبير من الحكمة، فنزل عن الحكم لأخيه الكبير(1)، -وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل مساع حثيثة قام بها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن؛ قطعاً لأشطان الفتن والثورات، وحقناً لدماء المسلمين. وكان هذا العمل في التوفيق بين الأخوين، من أهم وآخر ما قام به الشيخ عبد اللطيف في آخر حياته؛ إذ أتته المنية بعد ذلك عام (1293هـ).
وما كاد عبد الله يستقر في الحكم، حتى قام عليه خصومه من أبناء أخيه سعود، واستطاعوا -بعد مناوشات- أن يقبضوا عليه، فألقوه في غياهب السجن، غير أن محمد بن رشيد -أمير حائل- أسرع إلى الرياض، وأخرجه من سجنه بقوة، وصحبه معه إلى حائل، وجعل عبد الرحمن والياً عليها من قبله، وذلك سنة (1306هـ) ثم استدعاه أيضاً وجعله مع أخيه، وولي مكانة سالم السبهان.
ثم بعد سنوات أذن محمد بن رشيد لعبد الله بالرجوع إلى الرياض، بعد أن وثق منه أنه عاجز عن القيام بأي عمل عدائي؛ إذ كان مريضاً وقد دنا أجله كما أذن لأخيه عبد الرحمن أن يصحبه، فتوفي الأمير عبد الله بعد وصوله إلى الرياض بيوم واحد(2). وهكذا كان سير الأحداث السياسة، في تلك الفترة التي عاشها الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صقر الجزيرة، ص1/76، جزيرة العرب في القرن العشرين، ص243. تحفة المستفيد، ص176.
(2) انظر: المراجع السابقة: صقر الجزيرة، 1/76. وجزيرة العرب، ص244.(1/68)
ص -51- ... المبحث الثاني الحالة الاجتماعية
كانت الجزيرة العربية مقسمة إلى مناطق عدة وأمارات تضم القبائل العربية التي أصبحت مستقرة، ولم تكن الحالة الاجتماعية في إقليم نجد تختلف عما كان سائداً ذلك الوقت في شبه الجزيرة العربية؛ فكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الأساسية، لكل قبيلة بدوية كبيرة أمير أو شيخ، يمتد نفوذه حسب كفاءته الشخصية، وهمته وقوته وهو عادة أوفر أفراد القبيلة ثراء(1).
وكانت أسرة آل سعود في نجد على رأس تلك المناطق، وكان سعود بن عبد العزيز، يمنح مشايخ البدو الكبار، الذين تتبعهم قبائل صغيرة، لقب أمير الأمراء.
وكانت الإمارات الرئيسية هي: الإحساء، والعارض، والقصيم، والوشم، والسدير، ، ووادي الدواسر، وجبل شمر، والحرمين، والخرج، والقطيف، وجهات عمان. فتلك كانت المناطق التابعة لحكم آل سعود في عهد سعود بن عبد العزيز (ت1229هـ)، وكان ما بعده امتداداً لذلك، إلى أن حدث التغيرات السياسية، التي سببها الأطماع الخارجية، والنزاعات والنعرات الداخلية، كما تقدم ذكرها.
وكان لسعود من القوة والنفوذ، بحيث يستطيع عزل من يريد من زعماء القبائل وأمراء المناطق، ولكنه بصفة عامة كان يثبت من اختاره العرب لأنفسهم(2).
وكان بين أفراد القبيلة البدو الرحل، والحضر المستقرون. أما البدو فإنهم يتنقلون بأغنامهم وإبلهم وراء المرعى حيثما وجد، ويجوبون المناطق؛ بحثاً لسبيل رزقهم وهذه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزيرة العرب في القرن العشرين، ص223. موارد لتاريخ الوهابيين، ص42-43. الدولة السعودية الأولى (1158-1233) ط/2، لعبد الرحيم بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم، 1975م، ص20-21.
(2) انظر المرجع السابق: موارد، ص41-42.(1/69)
ص -52- ... الحياة كانت في كثير من الأوقات سبباً في تقاتل القبائل من أجل المرعى ومصادر المياه(1).
أما الحضر فكانوا هم سكان الواحات والقرى، فكانت لهم صفة الاستقرار، غير أن حياتهم كانت متأثرة بحياة البدو؛ لما بينهم من صلات المصاهرة والقربى والتجارة.
أما طبائعهم، فكانت تختلف حسب المناطق التي يعيشون فيها وظروف الحياة التي يعيشونها(2).
أما منطقة نجد فكانت مقر أمراء آل سعود، وكانت أهم العشائر النجدية: آل مرة، وبنو خالد، والعجمان في الشرق، وقحطان في الجنوب والجنوب الغربي، وسبيع والسهول في الغرب، ومطير في الشمال الغربي، وشمر في الشمال، وعتيبة في الشمال الغربي، وحرب في الشمال الشرقي، وعَنَزة في الشمال الشرقي أيضاً(3).
وكان من صفات أهل نجد التجارة؛ فإن كثيراً منهم كانوا يسافرون إلى أطراف الروم وبقية جزيرة العرب، كما كان يأتيهم عن طريق القطيف والبحر شيء كثير(4).
وكان أهل عنيزة في القصيم، وأهل الرياض، أكثر السكان حضارة، وأقلهم سكاناً وادي الدواسر والسليّل.
ولم يكن النور الكهربائي معروفاً، وكان السكان يستعملون مصابيح تضاء بالبترول، وهي واردة إليهم من الخليج أو الحجاز، وأواني الطبخ من النخاس غالباً، ويصنع البعض أنواع الفخار في نجد. وكانت خدمات الملابس كلها ترد من الخارج، إلا ما يصنع من الصوف وكذلك المصنوعات الجلدية ترد من الخارج إلا ما يلزم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدولة السعودية الأولى (1158-1233هـ)، ص20-21.
(2) الدول السعودية الأولى (1158-1233هـ)، ص21.
(3) انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص46-47.
(4) الدولة السعودية الأولى (1158-1233هـ)، ص22(1/70)
ص -53- ... لقراب المياه، والدلاء، والسرج، والنعال؛ فإنها كانت تصنع في نجد(1)(2).
أما الدرعية -العاصمة- على وجه الخصوص، فكانت ذات شأن كبير، ومد وفير، تغص بالأموال، وتزدهر بالأعمال، وتزهو بالمباني الفاخرة، وكان بها أسواق متعددة(3).
وبعد سقوطها في أيدي الغزاة الأتراك والمصريين، وفي عهد خالد باشا بالتحديد، انتشرت الفوضى، وقطعت الطريق، ونهب السفر، وكثرت الغارات؛ لكل من أنس من نفسه القوة، عدا على الضعيف ينهبه، وكل من عضه الجوع هب كالمجنون، يدفعه بالسلب، فلا يتورع في قتل نفس من أجل لقمة يسد بها السغب، وأصبح الناس أوابد ضارية، يفترس القوي منها الضعيف، لا قائد يقودها إلى الخير، ولا سلطان للفضيلة عليهم، ولا رادع من دين أو من خلق(4).
وقد وصف ابن بشر حال نجد الاجتماعية، في فترة ما بعد سقوط الدرعية إلى قيام تركي بن عبد الله، وذكر بأن نظام الجماعة انحل، وتطايرت شرر الفتن، في تلك الأوطان وتعذرت الأسفار بين البلدان، وعاثت فيها العساكر المصرية، فقتلوا صناديد الرجال، وصادروا أهلها فأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وقطعوا الحدائق، وهدموا القصور العاليات، وصار أهل نجد بينهم أذل من العبيد، وتفرقت علماؤهم وخيارهم ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هكذا كان الأمراء في ذلك الوقت، أما الآن -وفي ظل النهضة الحديثة- فقد تطورت الحياة تطوراً سريعاً وباهراً في جميع ربوع المملكة، لا سيما في عهد خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله ونصر به الإسلام والمسلمين- وذلك من حيث التطور المعماري، وفي الحياة الأسرية والمنزلية، أو الاجتماعية عموماً. فمدينة الرياض وغيرها من المدن في المملكة العربية السعودية -حالياً- غيرها في البلاد الأخرى، بل قد تمتاز على كثير منها في بلدان العالم؛ وهذا –بفضل الله وحده، وتوفيقه للساهرين على هذا النمو المطرد.
(2) انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، ص47-48.(1/71)
(3) انظر: تذكرة أهل النهى والعرفان، 1/55،92، الدرعية، ص408-409.
(4) انظر: صقر الجزيرة، 1/66.(1/72)
ص -54- ... بين طريد وشريد، وظهر المنكر، وعدم المعروف، وصار الرجل في جوف بيته مخوفاً، وتتابعت هذه المحن في تلك الجزيرة نحو أربع سنين، والشر فيها في زيادة وظهور وتمكين، حتى أنعش الله -تعالى- أهل نجد بشبل من أشبال ملوكها؛ الأمير تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود(1).
هذا ملخص الحالة الاجتماعية في عصر الشيخ عبد اللطيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: عنوان المجد، 2/4-5.(1/73)
ص -55- ... المبحث الثالث الحالة الدينية
منذ أن تعاهد الأمير محمد بن سعود مع محمد بن عبد الوهاب سنة (1158هـ) وتحالفا(1) على تطهير جزيرة العرب من البدع والخرافات، ونشر كلمة التوحيد وحمايتها، دخلت نجد أو بالأحرى الدرعية مع سائر الإمارات الأخرى في حرب دينية دامية؛ كما فعل حاكم الإحساء ابن عريعر الخالدي، وحاكم نجران السيد حسن ابن هبة الله، اللذان تحالفا عام (1178هـ)، على الزحف على الدرعية؛ للقضاء على مهد الدعوة الدينية، وكسر شوكة دعاتها(2). وأمثال أولئك كثيرون. غير أن ذلك لم يثن أبناء سعود المتعاقبين على حكم البلاد السعودية، عن التمسك بمبدأ حماية الدين ونصرة عقيدة التوحيد، وجعلها أساساً للحكم.
فبعد وفاة الإمام محمد بن سعود (1179هـ) تولى الأمر بعده أكبر أولاده الأمير عبد العزيز بن محمد (ت1218هـ) فسار على خطة أبيه في التعاون مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ)، في تجديد الدعوة، وإعلاء كلمة الله(3).
ويمكن تلخيص الحالة الدينية في العصر الذي عاشه الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- في الآتي:
أولاً: حال الدرعية:-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر التحالف بين محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب، على نشر الدعوة: جزيرة العرب، لحافظ وهبة، 223. قلب الجزيرة، لفؤاد حمزة، ص235. الأعلام للزركلي، 6/138. تاريخ نجد المسمى (روضة الأفكار) 1/80-81. الدرعية، لابن خميس، ص163.
(2) جزيرة العرب في القرن العشرين، ص223-224.
(3) المرجع السابق، ص224.(1/74)
ص -56- ... فقد كانت الدرعية -مسقط رأس الشيخ- مركزاً لحماية الدين ونشر الدعوة، فهي كما وصفها الشيخ عبد الله البسام بقوله:
(... والدرعية حينئذٍ كعبة العلم، وموطن الدعوة، ومعهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية، وعرين الليوث السعوديين من حماة الدين وذادة الملة الإسلامية ...)(1).
ووصفها أيضاً -عند ترجمته للشيخ عبد اللطيف- بقوله:
(إن الدرعية الزاخرة بالعلم، والساطعة بالإيمان، والمشرقة بالدين، والآهلة بالعلماء ...)(2).
فمن ذلك يمكننا معرفة المكانة الدينية، التي كانت تمتاز بها تلك البلدة.
أما بعد سقوطها في أيدي الغزاة المصريين والأتراك، فقد انقلب الحال رأساً على عقب؛ حيث انعدم فيها -وفي سائر المناطق النجدية التي وقعت في أيدي الطغاة- كثير من مظاهر الدين، وصار أهلها -كما قال ابن بشر-: "وهجر كثير منهم الصلاة وأفطر في رمضان، وجر الربا والغناء في المجالس، وسفت الذراري على المجامع والمدارس، واندرس السؤال عن أصول الإسلام وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كل البلاد"(3).
ثانياً: حال الإحساء:-
أما في منطقة الإحساء، فكانت الأحوال الدينية مختلفة تماماًَ عما كانت عليها في الدعية، فقد كان فيها خليط من العقائد والآراء.
وقد وصف الشيخ عبد الله البسام ما كانت عليه هذه المنطقة من أحوال دينية فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/56.
(2) المرجع السابق، 1/63.
(3) عنوان المجد، 2/4.(1/75)
ص -57- ... (... ولما استولى الإمام فيصل على الإحساء، وكان فيها خليط من العقائد والآراء، فالرافضة(1) لهم شوكة، وعلماء الشافعية والمالكية أشاعرة(2)، وعلماء الأحناف ماتريدية(3)، وتشترك هذه الطوائف كلها في وسائل الشرك؛ من نحو تعظيم القبور، والغلو في الصالحين، والبدع؛ من نحو الموالد، ومراسم الموت، والجنائز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الرافضة: هم الذين رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (وذلك أنهم طلبوا إليه أن يتبرأ من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلم يفعل، فرفضوه وتفرقوا عنه، فقال لهم زيد: رفضتموني؟ قالوا نعم. فبقي عليهم هذا الاسم. ومن أهم معتقداتهم: "التقية" والقول بالنص على إمامة علي، والبراءة من أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما-، وموالاة أهل البيت.
انظر: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن بن علي بن إسماعيل الأشعري (ت330هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع ونشر مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، ط2/، 1389هـ-1969م، 1/89. والفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الإسفراييني (ت429هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان، ص21. والحجة في بيان المحجة، وشرح عقيدة أهل السنة، للإمام الحافظ قوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني (ت535هـ)، تحقيق ودراسة: محمد بن ربيع ابن هادي المدخلي، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، ط/1، 1411هـ-1990م، 2/487.
(2) الأشاعرة: طائفة من أهل الكلام، ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري. وهذا اللفظ ينصرف عند الإطلاق إلى أولئك الذين اتبعوه في فترة انتسابه إلى ابن كلاب؛ لذا قد نطلق عليهم أحياناً (الأشعرية والكلابية).
وهم يفروقون بين صفات الله؛ فيجعلون منها سبع صفات، يسمونها صفات المعاني، وهي: (الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام).(1/76)
أما بقية الصفات، فإنهم يوافقون المعتزلة في تأويلها، الخبرية منها والفعلية، وهو تأويل يفضي إلى نفيها، بحيث لا يثبتون إلا لازمها، فيقولون مثلاً: المراد بالرحمة الإنعام، وهكذا في جميع الصفات.
انظر: الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات لمحمد أمان ابن علي الجامي، ط1، 1408هـ، ص139-220.
(3) الماتريدية: فرقة كلامية تنتسب إلى إمامها أبي منصور الماتريدي الحنفي المتكلم، المتوفى سنة (333هـ). من أهم معتقداتهم: التأويل، وأن ظواهر نصوص الصفات، موهمة للتشبيه، وأنها ظنية لا تثبت بها العقيدة.
انظر: الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، لشمس الدين محمد أشرف، رسالة ماجستير على الآلة الكاتبة، ص5.(1/77)
ص -58- ... فكان الشيخ عبد اللطيف هو المختار لمقابلة، مثل هؤلاء، ومحاربة أمثال هذه الأمور، فبعثه الإمام إليهم"(1).
فهنا نجد الأمير فيصل بن تركي قد انتدب الشيخ عبد اللطيف لمهمة مقابلة أولئك القوم، ومناقشتهم وردهم إلى جادة صوابهم، فوفق لذلك -رحمه الله-.
ثالثاً: الاستمرار في ظهور معارضين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركتهم في ذلك:-
منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية السلفية، برز كثير من المعارضين لها في شتى أنحاء شبه الجزيرة العربية وخارجها، قاموا ببث سموم الفساد والتضليل، وجردوا أنفسهم للدعوة إلى البدع والخرافات، وألفوا في ذلك مؤلفات. كان من ضمن أولئك:
1- داود بن جرجيس العراقي(2): وقد كان لهذا يد في الإفساد والتضليل حينما استوطن نجداً، فالتف حوله من أخذ عنه، فكان رائد التضليل. وألف كتاب: (صلح الإخوان من أهل الإيمان، وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم).
ويحتوي هذا الكتاب على خبث كامنٍ، وسمٍّ دفين؛ إذ إن من اطلع على عنوان هذا الكتاب، قد يحسبه ضمن الكتب المناصرة لعلماء الدعوة، والواقع أنه دافع فيه عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(2) هو داود بن سليمان بن جرجيس البغدادي، النقشبندي الخالدي، من أهل بغداد، ولد سنة (1231هـ) قام برحلات إلى الحجاز والشام، وله مناظرات مع السلفيين، حيث دعا إلى الاستعانة والاستغاثة بقبر أبيه، والاستمداد من الأموات، وألف في ذلك كتاب: صلح الإخوان، والمنحة الوهابية في الرد على الوهابية، ورسائل مشتملة على الهذيان والكذب والبهتان، توفي يوم الاثنين، 19 من رمضان، سنة (1299هـ).(1/78)
انظر ترجمته: المسك الأذفر في نشر مزايا القرن الثاني عشر والثالث عشر، لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي، تحقيق عبد الله الجابوري، دار العلوم، الرياض، 1402هـ/1982م، ص459 -462. والدر المنتثر في رجال القرن الثاني عشر والثالث عشر، لعلي علاء الدين الآلوسي، تحقيق: جمال الدين الآلوسي، وعبد الله الجابوري، وزارة الثقافة والإرشاد، دار الجمهورية، بغداد، 1387،1967م، ص174. أعلام الزركلي. معجم المؤلفين، 4/236.(1/79)
ص -59- ... الاستغاثة بالأموات، وضلل معارضي ذلك، ونقل فيه خمسين موضعاً من كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، يزعم أنها تشهد له على استحباب دعاء الموتى والاستغاثة بهم.
2- عثمان بن منصور(1)، وكان طاغية من أهل البدع، ألف في السبّ وشتم شيخ الإسلام ومجدد الدعوة السلفية محمد بن عبد الوهاب كتاباً سماه (جلاء الغمة من تكفير هذه الأمة)، والمراد بالأمة عنده، عبدة الأصنام، فانتصر لهم فيه، وضلل أهل التوحيد(2).
3- يوسف بن إسماعيل النبهاني(3) صاحب كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، والرائية الصغرى، وغيرهما، أظهر فيها حملة عنيفة على من سماهم وهابيين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عثمان بن عبد العزيز بن منصور بن أحمد، الناصري العمري، ولد في الفرعة وقراء على علماء سدير، ثم سافر إلى العراق وقرأ على علمائها، ومن أشهرهم داود بن جرجيس، شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، سماه: (فتح الحميد، شرح كتاب التوحيد)، قال الشيخ عبد اللطيف: والرجل فيه رعونة ... حتى إنه كتابه الذي زعم أنه شرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات ما لا يحصيه إلا الله ..." وكان متردداً في اتجاهه العقائدي. تولى قضاء حائل وسدير، (ت1282هـ).
(2) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان 1/226. علماء الدعوة، ص49-50. مقدمة دلائل الرسوخ، ص3-7.
(3) هو يوسف بن إسماعيل النبهاني، عمل في القضاء والصحافة، له عدة كتب، تمضنت الطعن والافتراءات على من سماهم وهابيين؛ لمنعهم الاستغاثة بالموتى؛ مثل كتاب: "شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، وله الرائية الصغرى"، رد عليه الإمام أبو المعالي الآلوسي في "الآية الكبرى" (ت1350هـ).
انظر ترجمته: الأعلام للزركلي، 8/218. مجلة المنار، م13، ج10، ص797.(1/80)
ص -60- ... فقام في مقابلة هؤلاء، علماء سلفيون دعاة، وأخذوا يردون على ما يبثه أولئك الطغاة من مفتريات حول دعوة الحق، والعقيدة الصحيحة، ويفندون مزاعمهم؛ فألفوا في ذلك مؤلفات، كان من أهمها:
ردود العلماء على كتاب ابن جرجيس (صلح الإخوان) المتقدم، فقد تصدى للرد على هذا الكتاب، جملة من العلماء؛ هم:
أ- الشيخ العلامة عبد الرحمن بن حسن -والد الشيخ عبد اللطيف- الذي قام بالرد والردع على شبهات هذا المفتري، وذلك في كتاب سماه: (القول الفصل النفيس).
ب- ابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن الذي تبعه في الرد على تلك الشبه، وذلك في كتابه:
(منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس)(1). إلا أن المنية عاجلته فلم يكلمه.
ج- العلامة العراقي السيد محمود شكري الآلوسي (ت1342هـ) الذي قام بعد وفاة الشيخ عبد اللطيف، بإكمال ما بدأه الشيخ من الرد، تتمة للفائدة، وذلك في كتاب سماه: (فتح المنان في الرد على صلح الإخوان تتمة منهاج التأسيس).
د- الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز أبو بطين (ت1282هـ) الذي قام بالدور نفسه، في كتابه: (تأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس)، وكتاب (الانتصار في الرد على ابن جرجيس) أيضاً(2).
هـ- (تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس)، وهو أيضاً كتاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: هدية العارفين، 1/619. إيضاح المكنون، 2/585.
(2) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/574. ومقدمة كتاب: منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس، للشيخ عبد اللطيف (1293هـ)، دار الهداية، للطبع والنشر والترجمة، الرياض، ص/2، 1407هـ-1987م. ص5.(1/81)
ص -61- ... للشيخ عبد اللطيف، رد به على ابن جرجيس.
و- (دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ)، وهو كتاب رد به الشيخ عبد اللطيف أيضاً، على مفتريات داود بن جرجيس.
ومن الكتب التي ظهرت في الرد على دعاة الضلالة أيضاً:
كتاب مصباح الظلام(1)، الذي رد به الشيخ عبد اللطيف على كتاب عثمان بن منصور "كشف الغمة" المتقدم ذكره.
وبهذا نختم ملخص ما كان عليه عصر المؤلف، من النواحي السياسية، والاجتماعية، والدينية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي ذكره ضمن مؤلفات الشيخ.(1/82)
ص -65- ... المبحث الأول اسمه ونسبه(1)
هو الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن(2) بن الشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المراجع التي ترجمت للشيخ: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمعه: عبد الرحمن بن القاسم العاصمي القحطاني النجدي، الجزء الثاني عشر (وهو كتاب تراجم أصحاب الرسائل والأجوبة)، مؤسسة النور للطباعة والتجليد، الرياض، ط/1، ج12/66-75. علماء نجد خلال ستة قرون، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام، نشر مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1/63-71. عنوان المجد في تاريخ نجد، لابن بشر، ص20. كتاب عقد الدرر، فيما وقع في نجد من الحوادث في القرن الثالث عشر، وأول الرابع عشر، للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي الحنبلي، ذيل به على كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) للشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر النجدي، تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، طبعة وزارة المعارف، بالمملكة العربية السعودية. ص77-78. علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ. مطبعة المدني بمصر، طبعة عام 1386هـ/1966م. ص47-58. مشاهير علماء نجد وغيرهم، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ط/2، دار اليمامة للبحث، الرياض، 1394هـ، 93-121. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/220-235. معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، نشر مكتبة المثنى، 1377هـ، 6/10-11. الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء والمستعربين والمتشرقين، لخير الدين الزركلي (ت1396هـ)، ط/3، 1389هـ، 4/182. (بدون صور).(1/83)
(2) هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الدرعية سنة 1193هـ، والدرعية حينئذٍ موطن الدعوة، ومهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية، وعرين الليوث حماة الدين وذاذة الملة الإسلامية. نشأ بها وعاش فيها، وكان ممن نقل إلى مصر حين نكبة الدرعية عندما خرّبها إبراهيم باشا، وعاد إلى الرياض في عهد الإمام تركي بن عبد الله -رحمه الله- وصار قاضياً، ويرجع إليه في الفتوى.
له مؤلفات منها:
"فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" وهو تهذيب وإكمال لكتاب "تيسير العزيز الحميد" لابن عمه سليمان بن عبد الله، وله "قرة عيون الموحدين" و "الرد على عثمان بن منصور"، و "الرد على داود بن جرجيس" وغيرها. توفي سنة 1285هـ، ودفن في مقبرة العود في الرياض. رحمة الله عليه.
انظر ترجمته المراجع السابقة: عنوان المجد، 2/20-23. الدرر السنية، 12/60-66. علماء نجد، 1/56-62. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص78-92. علماء الدعوة، ص48.(1/84)
ص -66- ... حسن(1) بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أبو عبد الله، الإمام العلامة، والقدوة الفهامة، حاوي علوم الفروع والأصول، الفقيه الحنبلي(2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله، أنجب ابناً واحداً هو العلامة عبد الرحمن بن حسن، والد الشيخ عبد اللطيف.
علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ص91.
(2) انظر: علماء نجد، 1/63. علماء الدعوة، ص47. الأعلام للزركلي، 4/182.(1/85)
ص -67- ... المبحث الثاني ولادته وأسرته
أولاً: مولده:-
ولد -رحمه الله- في بلدة الدرعية، سنة 1225هـ(1).
ثانياً: أمه:-
أما والدته، فهي بنت عم أبيه، الشيخ عبد الله(2) ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فجاء كريم الأبوين عريق الأصلين(3).
ثالثاً: زواجه:
أما عن زواجه، فقد أقام الشيخ -رحمه الله- في مصر(4)، فنشأ وتزوج فيها، وطالت إقامته فيها حتى بلغت واحداً وثلاثين عاماً(5).
وقد تزوج -رحمه الله- بالثانية في الهفوف بالإحساء بعد عودته من مصر، عندما أرسله الإمام فيصل بن تركي إلى هناك لتقرير عقيدة السلف. فتزوج هناك من ابنة عبد الله بن أحمد الوهيبي، التي أنجبت منه ولده عبد الله بن عبد اللطيف(6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرر السنية، 12/66. عقد الدرر، ص77. معجم المؤلفين، 6/10.
(2) ستأتي ترجمته ضمن شيوخه (الشيخ الثاني).
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63.
(4) سيأتي بيان ذهابه إلى مصر في المبحث الرابع، عند ذكر نشأنه و رحلاته.
(5) علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص47، وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/64.
(6) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/525-526، ترجمة ولده (عبد الله) في هامش الصفحة التالية (ص70).(1/86)
ص -68- ... رابعاً: أولاده(1):-
وقد خلف -رحمة الله عليه- ثمانية أبناء علماء فضلاء،هم:
1- الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف(2).
2- الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ذكر أولاده في: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/234. الدرر السنية، 12/72. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/70. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص120. علماء الدعوة ص91-92. عقد الدرر، ص78.
(2) هو الشيخ العلامة عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الهفوف في الإحساء عام 1265هـ وذلك حين كان والده في الإحساء حيث أرسله الإمام فيصل بن تركي لتقرير عقيدة التوحيد، نشأ في بيت علم ودين وورع، وحفظ القرآن صغيراً، وقرأ على جده لأمه الشيخ عبد الله بن أحمد الوهيبي على جده لأبيه عبد الرحمن، وعلى أبيه، وعلى علماء الرياض، رحمة الله عليهم أجمعين، وبعد وفاة والده، رحل إلى الأفلاج وقرأ على الشيخ حمد بن عتيق، فصار عالماً جليلاً، فاشتهر في نجد بالعلم، وبعد صيته، فتوافد عليه طلال العلم من آفاق نجد. عاش عشرين عاماً في ولاية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل، وصاهره بزواجه من بنته، فالشيخ عبد الله هو جد صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود لأمه. له رسائل عديدة في أجزاء الرسائل والمسائل النجدية (ت1339هـ)، وخرج في جنازته الملك عبد العزيز، ودفن في مقبرة العود.
انظر ترجمته في: علماء الدعوة، ص59-64. الدرر السنية، 12/96-99. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/72-78. عقد الدرر لإبراهيم بن صالح، ص78-80. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص129.(1/87)
(3) هو الشيخ العلامة إبراهيم بن عبد اللطيف بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1280هـ ونشأ بها، ودرس عن والده وحفظ القرآن، وقرأ على أخيه عبد الله وعلى الشيخ حمد بن فارس بن محمود، حتى مهر في التوحيد والتفسير والحديث والفقه، عينه الملك عبد العزيز قاضياً لمدينة الرياض عام 1319هـ. (ت 1329هـ). -رحمه الله-.
انظر: ترجمته في: الدرر السنية، 12/82-86. وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/126-128. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص125.(1/88)
ص -69- ... 3- الشيخ محمد بن عبد اللطيف(1).
4- عبد العزيز بن عبد اللطيف(2).
5- عمر بن عبد اللطيف(3).
6- عبد الرحمن بن عبد اللطيف(4).
7- صالح بن عبد اللطيف(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1282هـ، ونشأ بها وقرأ القرآن، ثم قرأ على أخيه عبد الله وعلى الشيخ محمد ابن محمود، والشيخ حمد بن عتيق، وغيرهم رحمهم الله، فصار له اليد الطولى في التوحيد والتفسير والحديث، عينه الملك عبد العزيز قاضياً في الوشم، ومقر عمله في شقراء، ثم بعثه إلى عسير وبلاد الحجاز مرشد وداعياً للإفتاء والتدريس، له رسائل وأجوبه. (ت 1376هـ)، -رحمه الله-.
انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 3/894. مشاهير علماء نجد، ص146.
(2) ذكره عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله في: علماء الدعوة، ص92. وفي مشاهير علماء نجد، ص120.
(3) هو الشيخ عمر بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، ولد بمدينة الرياض عام 1284هـ، قرأ على أخيه الأكبر عبد الله، وعلى الشيخ محمد بن محمود وغيرهما. كان يغزو مع الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، وولاه خطابة جامع الرياض الكبير خلفاً لأخير عبد الله، (ت 1365هـ)، -رحمه الله-.
(4) هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. ولد بمدينة الرياض عام 1288هـ وكفله أخوه عبد العزيز بعد وفاة أبيه 1293هـ. وقرأ على أخيه عبد الله وعلى الشيخ عبد الرحمن مفيريج وحمد بن فارس، عين قاضياً لهجرة ساجر المعروفة في السر بنجد عند سكانها الروقة. صحب الملك عبد العزيز -رحمه الله- في دخوله مكة عام 1343هـ وعين قاضياً للخرج عام 1350هـ (ت 1366هـ)، -رحمه الله-. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص145.
(5) لم أقف على ترجمته.(1/89)
ص -70- ... 8- أحمد بن عبد اللطيف(1).
وجميع هؤلاء عدا أحمد نشأوا في الرياض حيث مولدهم خلا عبد الله الذي كان مولده في الإحساء عاشوا وتعلموا فيها وماتوا فيها(2).
أما أحمد، فهو أكبر أولاده، ولد في مصر، ولما أراد الشيخ الخروج والعودة إلى نجد، عرض عليه الخروج معه، فامتنع، وهو مهندس بناء، ولما سافر عمه إسحاق ابن عبد الرحمن إلى القاهرة لطلب العلم، رأى ابن أخيه هذا، وبعد ذلك انقطعت أخباره(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم أقف على ترجمته.
(2) علماء الدعوة، ص58،91. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/70.
(3) المرجعان السابقان: علماء الدعوة، 57، 91-92. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص120. علماء نجد، 1/70-71.(1/90)
ص -71- ... المبحث الثالث صفاته الذاتية و الفكرية
كان للشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- صفات ذاتية مميزة تميزه عن غيره من سابقيه وأقرانه من آل الشيخ -رحمهم الله-.
أما صفاته الذاتية:
فكان من أبرزها، أنه كان ضخم الجثة، قوي البنية، سليم الأعضاء والحواس، أبيضاً مشرباً بحمرة، كث اللحية، مستدير الوجه، جهوري الصوت، حاد البصر. كما اشتهر -رحمه الله- بجمال الخط، ووضوح العبارة، وفصاحة اللسان، وكانت اللهجة المصرية الحفيفة تغلب على لغته، نظراً لطول مكثه في مصر منذ سن الطفولة.
وكان مهيب الطلعة، قوي الشخصية، جسوراً في قول الحق، صادق اللهجة، مخلصاً لدينه، غيوراً على حرمات الإسلام، متفانياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ناصحاً متقبلاً للنصائح، وكان ذاكراً لله –تعالى- وتلاوة آيات القرآن ديدنه، كما كان -رحمه الله- مهاباً محترماً عند ولاة الأمور ومن دونهم من الخاصة والعامة(1).
أما صفاته الفكرية:-
فقد كان أكثر علماً من سابقيه، باستثناء والده الشيخ عبد الرحمن، وجده الكبير، محمد بن عبد الوهاب، -رحمة الله عليهم-، وقد كان يتصف بحدة الذكاء والفطنة وسرعة الحفظ(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: علماء الدعوة، ص49. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223. مقدمة الرسائل المفيدة، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، بقلم عبد الرحمن بن سليمان الرويشد، ص14.
(2) المراجع السابقة.(1/91)
ص -72- ... قال عنه الشيخ إبراهيم بن صالح في عقد الدرر (1): "... وكان -رحمه الله- في الحفظ آية باهرة، متوقد الذكاء كأن العلوم نصب عينيه، وكان كثير المطالعة، ملازماً للتدريس، مرغباً في العلم، معيناً عليه ...".
وقال عبد الرحمن بن القاسم القحطاني في الدرر السنية (2): "لم يُر شخص له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة، التي يحصل بها الكمال لسواه؛ فإنه -رحمه الله-كان كاملاً في صورته ومعناه، من الحسن والإحسان، والحكم والسؤدد، والعلوم المتنوعة، والأخلاق الجميلة، والأمور المستحسنة التي لم تكمل من غيره. وقد عُلم من كرم أخلاقه وحسن عشرته، وهيبته وجلالته، وفور حلمه، وكثرة علمه، وغزارة فطنته، وكمال مروءته، ودوام بشره، وعزوف نفسه عن الدنيا وأهلها، والمناصب لأربابها، ما قد عجز عنه كبار الأكياس ...".
كما وصفه المترجمون له بجميع ما يمكن الاتصاف به من أوصاف خيرة كقول إبراهيم بن عبيد وغيره عند ترجمته: "الشيخ الإمام النبيل، العلامة الجليل الألمعي، الماهر الهمام، والحبر السميدع (3) المقدام في العمل، البحر الزاخر، والعلم الظاهر، ذو الأخلاق الزكية والمناقب الجلية، شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام ... وكان على شيء عجيب من البصيرة في الدين، وسعة الحلم، وكمال الأدب ..."(4).
وقال الشيخ عبد الرحمن القحطاني: "الإمام العالم العلامة، العالم العامل، الحبر العلم الكامل، سيد أهل الإسلام في زمانه، وقطب فلك الأنام في أوانه، أوحد البلغاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عقد الدرر، ص78. وانظر هذا الكلام في: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/222.
(2) الدرر السنية، 12/66-67.
(3) السميدع: الدؤوب في العمل، الذي لا يعرف الإعياء.(1/92)
انظر: ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير. أساس البلاغة، للطاهر أحمد الزاوي، الدار العربية للكتاب، ط/3، 1980م. 2/609؛ لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، دار صادر بيروت، لبنان، 3/219، مادة (سمد).
(4) المرجع السابق: تذكرة أولي النهى، 1/221،223.(1/93)
ص -73- ... بدر الفصحاء، ... سيف السنة المسلول، حاوي المعقول والمنقول، البليغ المصقع(1)، واللوذعي البلتع (2) الفصيح، المجاهد، النصيح ..."(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مصقع: أي بليغ: لسان العرب، 8/203. مادة (صقع).
(2) بلتع: أي حاذق ظريف متكلم. المرجع السابق، (8/20). مادة (بلتع).
(3) الدرر السنية، 12/67. وانظر ما وصفه به المترجمون من الصفات: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63. عقد الدرر للشيخ إبراهيم بن صالح، ص77.(1/94)
ص -74- ... المبحث الرابع نشأته العلمية ورحلاته
نشأ -رحمه الله- في بلدته الدرعية مسقط رأسه وعاصمة الدعوة السلفية؛ فقرأ فيها القرآن وحفظه، وتعلم دروسه الأولى، في الكتاتيب المنتشرة في تلك البلدة؛ وربي فيها تربية إسلامية كريمة، في بيت والده وأعمامه، إلى أن بلغ ثمان سنين(1).
وقد كانت الدرعية حينذاك تعج بحركة العلم والعلماء؛ كما وصفها القحطاني: "أنها كانت كعبة العلم، وموطن الدعوة، ومعهد علماء السلف، وعاصمة الجزيرة العربية"(2).
ووصفها الشيخ عبد الله البسام بقوله: "... إن الدرعية الزاخرة بالعلم، والساطعة بالإيمان، والمشرقة بالدين، والآهلة بالعلماء، ... أصيبت بالنكبة ..."(3).
فهو -رحمه الله- بعد بلوغه سن التمييز، حصل له رحلة إجبارية، لم تكن في حسبانه، إذ إنه وهو في ذلك العمر المبكر –مع ما كانت تمتاز به بلدة الدرعية من نشاطات علمية واسعة- لم يكن قد حان له وقت ليخرج في طلب العلم. وهكذا توالت رحلاته كما نعرضها لها هنا كالآتي:
أولاً رحلته إلى مصر، سنة (1233هـ):-
عندما بلغ الشيخ –رحمه الله- الثامنة من عمره، حلّت ببلدته الدرعية كارثة كبرى، ومصيبة عظمى، وهي النكبة العثمانية الهمجية العدائية، حيث دمرت بأيدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرر السنية، 12/66. وانظر: الأعلام، للزركلي، 4/182. مقدمة الرسائل المفيدة، بقلم عبد الرحمن بن سليمان الرويشد، ص11.
(2) المرجع السابق، الدرر، 12/60.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63.(1/95)
ص -75- ... السلطة الغازية، وأسقطت حكم البلاد فيها. وكان ذلك بقيادة المجرم الطاغية إبراهيم باشا(1) ابن محمد علي باشا، ومعه جيش كبير من المرتزقة والخونة وأعداء الدولة السلفية(2) فعند ذلك، نقل -رحمه الله- مع والده وأعمامه وحمولته(3) إلى مصر، وكان نقلهم إلى هناك بأمر وزير الخليفة العثماني على مصر حينذاك محمد علي باشا(4).
بذلك تمت رحلته المصرية التي لم تكن أساساً رحلة علمية، غير أنها تحولت بفضل الله –تعالى- إلى رحلة علمية، أفاد منها الشيخ -رحمه الله- وكانت منطلقاً في مسيرته العلمية.
قال الشيخ عبد الله البسام:
"... إلا أنه وإن انتقل من مربع من مرابع العلم، ومعهد من معاهده، فقد دخل في مدينة العلم، واستقر في دار من دوره، فهذا الأزهر الشريف تعقد في جنباته وأورقته حلقات التفسير، والحديث، والأصول، وعلوم التفسير، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله، وعلوم العربية؛ من النحو، والصرف، والبيان، وغير ذلك، وها هم كبار العلماء متوافرون ليلاً ونهاراً لإمداد الطلاب بمزيد من العلم والعرفان. وها هي المكتبات العامرة بنفائس الكتب وذخائر المراجع، فصار العلم سلوته في غربته، والكتب جليسه في وحدته، والعماء أنسه في وحشته، فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدمت ترجمته، في ص29.
(2) انظر تفاصل ذلك الغزو في: عنوان المجد لابن بشر، 1/196-210.
(3) الحمولة: بلغة أهل نجد الاصطلاحية تعني: العشيرة.
انظر:: علماء الدعوة، ص47 (الهامش).
(4) انظر: الدرر السنية، 12/66. وعلماء الدعوة ص47. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63. مقدمة الرسائل المفيدة، للشيخ عبد اللطيف، ص11-12.
(5) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63.(1/96)
ص -76- ... وقال أيضاً: "وطالب إقامته فيها حتى بلغت واحداً وثلاثين عاماً،قضاها كلها في العلم، تعلماً، وبحثاً، ومراجعة ومذاكرة، حتى صار من حملة العلم الكبار، وأوعيته الواسعة"(1).
وبهذا يكون الشيخ -رحمه الله- قد عوض على مصيبة التهجير، وما لقي من جرائها من آلام وأوجاع، عوضها بما حصل عليه من علم وفضل، فكانت رحلته رمية من غير رام(2).
ثانياً: عودته إلى نجد سنة 1264هـ:
لما طهرت نجد من الجيش العثماني المحتل بفضل الله تعالى، ثم بفضل الله تعالى، ثم بفضل الإمام تركي من بن عبد الله، الذي هزمهم وطردهم وسكنت بعد فتن مشاري وعبد الله ابن ثنيان، ولانت المحافظة عليهم في مصر من المراقبين، خرج من القاهرة متوجهاص إلى نجد، عن طريق مكة المكرمة. وقد حمل معه عند عودته كتباً كثيرة(3). وكان الإمام تركي بن عبد الله ابن (مؤسس الدولة السعودية الأولى) الإمام محمد ابن سعود -رحمهم الله- قد دعاهم إلى العودة من مصر إلى موطنهم الرياض. فسارع والده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بالعودة إلى نجد عام 1241هـ. أما ابنه الشيخ عبد اللطيف، فقد تأخر مدة
من الزمن بمصر، حيث كان مشغولاً بطلب العلم. فكان قدومه إلى نجد عام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 1/64.
(2) أصل هذا الكلام مثل، هو: (رب رمية من غير رام)، أي رب رمية مصيبة، من رام مخطئ. مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري الميداني، نشر دار مكتبة الحياة، بيروت، 1961م/1299، مثل رقم (1581). جمهرة الأمثال، لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، ضبط د. أحمد عبد السلام، تخريج محمد سعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/11408هـ-1988م، 1/399 رقم المثل (881).
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/64.(1/97)
ص -77- ... 1264هـ في عهد الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله- الذي تولى السلطة بعد استشهاد والده الإمام تركي بن عبد الله، -رحمه الله-(1).
ثالثاً: رحلته إلى الإحساء سنة 1264هـ:-
بعد عودته -رحمه الله- إلى الرياض، وجلس لطلاب العلم بها، عَرَف الإمام فيصل ووالده عبد الرحمن(2) -رحمهما الله- غزارة علمه، وسعة اطلاعه، وصفاء عقيدته، وقوة عارضته، وقدرته على المناظرة.
فبعثه الإمام فيصل -رحمه الله- إلى الإحساء العقيدة السلفية، وبث دعوة التوحيد،ومناظرة علمائها في أصول الدين والعقائد؛ إذ الغالب عليهم حينذاك مذهب الأشاعرة، والرفض، وبدع الجنائز والقبور(3).
فقدم الشيخ إلى الإحساء سنة 1264هـ، وأقام بها سنتين، يوضح طريقة السلف، ويناظر علماءها، ويقابل الحجة بأقوى منها، فظهر عليهم بالأدلة،وقهرهم بالحجة، فأذعنوا له وأسلموا، فزال ما في نفوسهم من رواسب الشبه وباطل التأويل، وقرر لهم طريقة أهل السنة والجماعة، وما هم عليه في باب الأسماء والصفات (4). وبعده بسنتين عاد إلى الرياض، حيث استقر. فكانت رحلته إلى الإحساء آخر رحلة خاصة يقوم بها؛ إذا لم يكن خروجه بعد ذلك إلا مرافقاً للإمام فيصل بن تركي، رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: عنوان المجد لابن بشر، 2/20. علماء نجد ستة قرون، 1/64، مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص94.
(2) وكانا هما القائمين على تسيير شؤون البلاد حينذاك، في كلتا الناحيتين، السياسية، والدينية.
(3) تقدم كلام الشيخ عبد الله البسام في وصف الإحساء، ص59.
(4) علماء الدعوة، ص48. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.(1/98)
ص -78- ... المبحث الخامس شيوخه(1)
أخذ الشيخ -رحمه الله- عن عدة من العلماء الأعلام، الأفاضل الكرام، منهم مشائخ بلده النجديين، وغيرهم من المصريين، حيث رحل في صغره، وهم:
أولاً: مشايخ بلده (النجديون):-
كان ممن أخذ عنهم من المشايخ النجديين:
الشيخ الأول: والده، الشيخ عبد الرحمن(2) بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
الشيخ الثاني: عمه، الشيخ عبد الله محمد بن عبد الوهاب:-
هو الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بدر الأعلام، ومفتي الأنام، التقي النقي الورع، الفارس في العلوم، السيف الصارم المسلول على المبتدعين، عالم نجد ومفتيه بعد والده. ولد في الدرعية، وأخذ العلم عن أبيه، ونقل إلى مصر عام 1233هـ، مع آل بيت الشيخ عند فتنة إبراهيم باشا، حين استولى على الدرعية وخربها، تفقه في المذاهب، وأدرك في الأصول والفنون أعلاها، له اليد الطولى في كل فن من فنون العلم، وله منها: الرد على الزيدية، أسماه: "جواب أهل السنة في كلام
الشيعة الزيدية"(3)، و "مختصر السيرة" مجلدان، "الفصول النافعة في المكفرات الواقعة"، "منسك الحج" وله رسائل وفتاوى.................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصادر التي ذكرت شيوخه: الدرر السنية لعبد الرحمن القحطاني، 2/66. تذكرة أولي النهى والعرفان، لإبراهيم بن عبيد، 1/222، عقد الدرر لإبراهيم بن صالح، ص77-78. علماء نجد خلال ستة قرون، لعبد الله البسام، 1/61،63. علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ص47. وذكر ابن بشر في عنوان المجد، 2/20، أخذه عن شيخه.
(2) تقدمت ترجمته، ص65.
(3) هذا مطبوع في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 4/47-222.(1/99)
ص -79- ... في الدرر السنية. توفي بمصر سنة 1242هـ (1)، رحمه الله تعالى.
الشيخ الثالث: عمه، الشيخ إبراهيم ابن الشي محمد بن عبد الوهاب:-
هو الشيخ العالم الثقة العابد الورع، الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان متواضعاً، حسن الأخلاق، أدرك حظاً من العلوم وأفاد، له مشاركة كثيرة في رسائل وأجوبة، كان حياً بمصر سنة 1251هـ، وفيها توفي -رحمه الله تعالى-(2).
الشيخ الرابع: عمه، الشيخ علي ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب:-
هو الإمام العلامة الفقيه، علي بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية ونشأ بها، وهو أكبر أبناء الشيخ محمد سناً، وكان الشيخ يكنى به فيقال: (أبو علي)، أخذ عن أبيه، وكان عالماً جليلاً ورعاً كثير الخوف من الله زاهداً، كان ممن نقل إلى مصر من آل بيت الشيخ، بعد خراب الدرعية على يد إبراهيم باشا، عام 1233هـ، وأقام في القاهرة حتى توفي فيها عام 1245هـ(3).
الشيخ الخامس: خاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:-
ولد في مدينة الدرعية عام 1219هـ، ونشأ بها، وبها قرأ مبادئ العلوم. سقطت الدرعية وعمره (14) عاماً، فنقل مع والده إلى مصر، وفي القاهرة شرع في طلب العلم في الجامع الأزهر، وفي حلقات علماء الأزهر الكبار، حتى بلغ مبلغاً كبيراً من العلم. وكان يقرأ في بيته وعلى والده وابن عمه الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فأخذ عنهما حسن العقيدة وصفاء التوحيد، وتوغل في علوم التفسير والحديث وأصولهما، والفقه، وعلم اللغة في الأزهر، ثم صار أحد المدرسين في الجامع الأزهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرر السنية، 12/43-50، علماء نجد خلال ستة قرون، 1/63. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص48.
(2) الدرر السنية، 12/46.
(3) المصدر السابق، 12/46-47. علماء نجد خلال ستة قرون، 3/735-736.(1/100)
ص -80- ... وفيه أحيا مذهب الحنابلة، وانتفع بعلمه خلق كثير، في مقدمتهم ابن أخته الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن. توفي المترجم له في القاهرة سنة 1274هـ(1).
الشيخ السادس: الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد الحنبلي:-
هو الشيخ أحمد بن حسن بن رشيد بن عفالق العفالقي القحطاني نسباً، الإحسائي ثم المدني ثم القاهري، الشهير بالحنبلي، ولد في الإحساء عام 1155هـ، ورباه الشيخ محمد بن فيروز، تربية دينية وعلمية، ولازم دروسه ملازمة تامة، فقرأ عليه أنواع العلوم، ففاق أقرانه حتى صار له تلاميذ بإشارة من شيخه. سافر إلى الشام، ثم إلى المدينة المنورة، وسكن بها، عينه الإمام سعود بن عبد العزيز قاضياً على المدينة، ولما اقتربت جيوش إبراهيم باشا من المدينة المنورة، هرب المترجم له إلى الدرعية عاصمة البلاد السعودية آنذاك فصار مع المحاصرين فيها، حينما وصلت جيوش الباشا إلى أسوارها، واستولى عليها كان الشيخ ممن عذب من علمائها وأعيانها. قال ابن بشر: "أمر عليه الباشا فعزر بالضرب والعذاب، وقلعوا جميع أسنانه. وطلبه محمد علي باشا إلى مصر؛ لما اشتهر به من رجحان العقل وسعة العلم. فلما وصل أكرمه ورتب له رواتب جزيلة، وجمع بينه وبين علماء مصر، ودرس المذهب الحنبلي في قلعة محمد علي".
أما تلاميذه فكثيرون؛ إذ درس في الإحساء والمدينة المنورة، والدرعية، والقاهرة، من أبرزهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين، ومحمد بن إبراهيم بن سيف، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وغيرهم. كان من المعجبين بإمامه أحمد بن حنبل وبمذهبه، وفيه يقول:
أنا حنبلي ما حيت فإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا
توفي -رحمه الله- بالقاهرة بعد أن جاوز الثمانين، في عام 1257هـ(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المصدر السابق، (علماء نجد)، 2/393-395.(1/101)
(2) المرجع السابق، 1/163. علماء الدعوة، ص47. انظر: صقر الجزيرة، 1/65.(1/102)
ص -81- ... ثانياً: من أخذ عنهم من علماء مصر:
الشيخ السابع: الشيخ محمد بن محمود بن محمد الجزائري:-
هو محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي، الشهير بابن العنابي، الشيخ الإمام العالم العلامة، فقيه مقرئ مجود للقرآن. تولى إفتاء الإسكندرية في عهد محمد علي، خديوي مصر، من آثاره: "التوفيق والتمهيد في شرح الفريد في التجويد"، و كتاب "السعي المحمود في ترتيب العساكر والجنود" وغيرهما. (ت 1265هـ)، -رحمه الله تعالى -(1).
الشيخ الثامن: الشيخ إبراهيم الباجوري:-
هو الشيخ إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري، الفرضي الشافعي، شيخ الجامع الأزهر آنذاك، ولد في الباجور سنة (1198هـ)، وتعلم في الأزهر. من تصانيفه: ":تحفة البشر على مولد ابن حجر"، و "التحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية في الفرائض"، وله حاشية على الشمائل للترمذي، وغيرها. (ت 1277هـ)، -رحمة الله عليه-(2).
الشيخ التاسع: الشيخ مصطفى الأزهري(3).
الشيخ العاشر: الشيخ أحمد الصعيدي(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معجم المؤلفين، 12/5. هدية العارفين. أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا البغدادي، طبعة المكتبة الإسلامية، والجعفري، بتبريز طهران، خيابان، بوذر جمهري، ط3/1387هـ-1947م، 2/387. إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لإسماعيل باشا محمد أمين بن مير سليم الباباني، أصلاً، والبغدادي مولداً ومسكناً، تصحيح محمد الدين بالتقايا، منشورات مكتبة المثنى، بغداد، 2/112.
(2) حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر، 1/7-11. هدية العارفين، 1/41-42. الأعلام للزركلي، 1/71.
(3) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه.
(4) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه.(1/103)
ص -82- ... المبحث السادس تلاميذه(1)
أما تلاميذه -رحمه الله- فنظراً لكونه إمام عصره وشيخ زمانه، فقد قصده العديد من طلبة العلم، من أدنى البلاد وأقصاها، وأخذوا عنه العلم، فتعلم منه فحول من العلماء، وتخرج عليه جهابذة من الأئمة، يعذر حصرهم في هذا المبحث، ويكفي هنا أن نشير إلى بعض النابهين منهم:
الأول: ابنه العلامة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف(2).
الثاني: ابنه الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف(3).
الثالث: ابنه الشيخ محمد بن عبد اللطيف(4).
الرابع: ابنه الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف(5).
الخامس: أخوه الشيخ إسحاق:
هو إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، -رحمهم الله-، ولد في مدينة الرياض عام 1276هـ ونشأ بها. قرأ على أخيه عبد اللطيف، وعلى الشيخ حمد بن عتيق(6)، وابن أخيه عبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المراجع التي ذكرت تلاميذه: الدرر السنية 12/72-73. عقد الدرر، ص78. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/69. مشاهير علماء نجد وغيرهم، 96-97. علماء الدعوة، ص49. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/224-225.
(2) تقدمت ترجمته في، ص68.
(3) تقدمت ترجمته في، ص68.
(4) تقدمت ترجمته في، ص69.
(5) تقدمت ترجمته، ص69. وقد انفرد القحطاني بذكره ضمن تلاميذ، في الدرر السنية، 12/72.
(6) تأتي ترجمته قريباً ضمن التلاميذ، ص92، فهو التلميذ رقم (25).(1/104)
ص -83- ... ابن محمود، وغيرهم.
ولما هاجت الفتن، واستولى آل الرشيد على الرياض، وارتحل آل السعود إلى الكويت، لم تطب له الإقامة في نجد، فرحل إلى الهند عام 1309هـ، وأكمل دراسته هناك، وأخذ هناك عن الشيخ نذر حسين، وحسين بن محسن الأنصاري(1)، فكان عالماً في الأصول والفروع، ثم عاد إلى الرياض في حكم آل الرشيد، فجلس للتدريس وتصدى للفتوى، له رسائل متفرقة في الدرر السنية في الأجوبة النجدية. (ت1319هـ)(2)، -رحمه الله-.
السادس: الشيخ حسن بن حسين:
وهو حسن بن حسين بن علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض عام 1266هـ، ونشأ بها وحفظ القرآن، وأخذ عن علماء الرياض، ومنهم: عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحمد بن عتيق وغيرهم، ولاه الأمير محمد بن عبد الله بن رشيد(3) قضاء الأفلاج، ثم نقله إلى قضاء السدير ثم إلى قضاء الرياض، وكانت له حلقات دروس علمية، توفي في الرياض سنة 1341هـ، -رحمه الله-(4).
السابع: الشيخ سليمان بن سحمان(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسين بن محمد الأنصاري، اليمني، فقيه، توفي بهوبال. من آثاره: "التحفة المرضية في حل بعض مشكلات الهدية"، و "نور العينين من فتاوى الشيخ حسين". (ت 1327هـ). معجم المؤلفين، 4/43.
(2) انظر: الدرر السنية، 12/79. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/215-206.
(3) تقدمت ترجمته في، ص25.
(4) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/212-213.
(5) ستأتي ترجمته مستقلاً في الباب الثاني، المبحث الثاني: (ترجمه جامع الرسائل) ص121.(1/105)
ص -84- ... الثامن: الشيخ محمد بن محمود:
هو الشيخ محمد بن محمد بن عثمان الضالع نسباً، القصيمي أصلاً، البغدادي مولداً ومنشأً، الحلبي مقاماً ومماتاً. ولد عام 1259هـ في بغداد، واستوطن حلب سنة 1280هـ، وحج سنة 1292هـ، أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وكان ينتصر لمذهب السلف الصالح، متعصباً لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن الدعاة إليها، له رسائل وقصيدة دافع فيها عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، توفي سنة 1337هـ، -رحمه الله تعالى-(1).
التاسع: الشيخ حمد بن فارس:
هو الشيخ حمد بن فارس بن محمد بن فارس بن عبد العزيز بن محمد. ولد عام 1263هـ كان والده من أهل العلم، فتعلم عل يديه الفرائض والحساب ومبادئ العلوم، ثم على الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب الهاجري القحطاني، ثم سافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وعن غيره حتى صار أنحى أهل زمانه في نجد، ومرجع العلماء فيه.
عينه الإمام عبد الله الفيصل على بيت المال، وكان حينذاك كوزارة المالية في العهد الحاضر، كما عينه مديراً لأوقاف آل سعود، ينفذها في أعمال البر. توفي في الرياض سنة (1345هـ)، رحمه الله(2).
العاشر: الشيخ صعب بن عبد الله:
هو الشيخ صعب بن عبد الله بن صعب بن محمد التويجري، من آل جبارة، ولد سنة
(1255هـ) في بلدة بريدة، ونشأ فيها، ثم قرأ على علمائها، ثم سافر إلى الرياض، فقرأ
على الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حتى أدرك وصار من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 3/931-933.
(2) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/233-235. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص288.(1/106)
ص -85- ... العلماء الأفاضل، عرض عليه قضاء بريدة في عدة مناسبات فرفض ذلك، وكان سمح النفس دمث الأخلاق، فصار أصحابه يسمونه "سهلاً". توفي في بلدة بريدة سنة (1339هـ)(1).
الحادي عشر: الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع:
هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مانع بن إبراهيم الوهيبي، التميمي نسباً، الشقراوي ثم الإحسائي بلداً، ولد في بلدة شقراء عاصمة بلدان الوشم ونشأ فيها. من مشايخه: والده الشيخ محمد، وجده لأمه الشيخ عبد الله أبو بطين، والعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وغيرهم، ولاه الإمام فيصل قضاء القطيف(2)، جمع كتباً كثيرة قيمة بخط يده المتقن المضبوط. له قصائد كثيرة، ورسالة في طلاق الثلاثة. توفي في الإحساء سنة (1287هـ)(3).
الثاني عشر: الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد:
هو الشيخ محمد بن عبد الله بن حمد بن محمد بن سليم، استقر أجدادهم في مدينة الدرعية وقت قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بتجديد الدعوة السلفية. ولد عام (1240هـ)، ونشأ وتعلم في الدرعية، ثم قرأ على علماء القصيم، ثم رحل إلى الرياض وقرأ على أشهر علمائها الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم ذهب إلى شقراء بعد أن عاد إليها شيخه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق: 2/379-380.
(2) القطيف: تقع القطيف في الجهة الشمالية الشرقية من الإحساء، ويحدها شمالاً وغرباً صحراء بياض، وجنوباً برُ الظهران، وتمتد القطيف عل ساحل الخليج مسافة عشرة أميال. انظز: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة، ص66-68. تحفة المستفيد، ص27. الموسوعة لشرقي البلاد العربية السعودية، لعبد الرحمن عبد الكريم العبيد، ط/1، 1413-1993م. 2/209.
(3) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/187. علماء نجد خلال ستة قرون، 2/419-421.(1/107)
ص -86- ... عبد الله أبو بطين من عنيزة، فاستأنف عليه الدراسة، حتى أدرك إدراكاً تاماً في العلوم الشرعية والعربية، وتصدى للتدريس والإفادة، تولى القضاء في بريدة حتى عهد الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، توفي في مدينة بريدة عام 1323هـ، رحمه الله(1).
الثالث عشر: الشيخ محمد بن عمر بن سليم:
هو الشيخ محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن صالح بن حمد بن محمد بن سليم، ولد عام (1245هـ) في بريدة عاصمة القصيم حيث انتقل أبوه عمر بعد خراب الدرعية (موطنه) على أيدي إبراهيم باشا ونشأ فيها وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، ثم شرع في القراءة على علماء القصيم، ثم رحل إلى الرياض، وقرأ على أشهر علمائها حينذاك، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف ابن عبد الرحمن، ثم إلى شقراء حيث الشيخ أبو بطين، حتى أدرك في علم التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصولها. أذن له الشيخ عبد الرحمن وعبد اللطيف في القضاء والتدريس. توفي سنة (1308هـ)، رحمه الله(2).
الرابع عشر: الشيخ علي بن عيسى:
هو الشيخ علي بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى. ولد في بلدة شقراء عاصمة الوشم عام (1249هـ)، أخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن ونجله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. عينه الإمام عبد الله الفيصل قاضياً في شقراء وسائر مقاطعة الوشم. توفي -رحمه الله- عام (1331هـ)(3).
الخامس عشر: الشيخ أحمد بن عيسى:
هو الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 3/872-875.
(2) المرجع السابق، 3/918.
(3) المرجع السابق، 3/720-723. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص272.(1/108)
ص -87- ... عيسى ابن علي بن عطية. ولد في شقراء سنة (1253هـ)، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن الكريم، وقرأ على والده التوحيد والفقه والحديث، وعلى الشيخ عبد الله أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن ونجله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وأدرك إدراكاً تاماً، وفاق أقرانه، وكان نشيطاً في الدعوة حتى اتصل بأمير مكة الشريف عون الرفي(1)، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور والمزارات، ففعل الشريف ذلك. له قصيدة ينهى فيها أبناء فيصل عن التفرق والاختلاف، وله شرح على نونية ابن القيم، و "تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي"، والرد على دحلان(2) في كتابه "خلاصة الكلام"، و "الرد على ابن جرجيس، سماه: "الرد على شبهات المستغيثين بغير الله"، و "تهديم المباني في الرد على النبهاني" وغيرها. توفي رحمه الله سنة (1229هـ)(3).
السادس عشر: الشيخ عثمان بن عيسى:
هو عثمان بن علي بن عيسى الثوري الربابي السبيعي، ولد في شقراء ونشأ فيها، وقرأ على علمائها، الشيخ عبد العزيز الحصين والعلامة عبد الله أبي بطين، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عينه الإمام فيصل قاضياً في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو الشريف محمد بن عون بن محسن بن حسين أمير مكة، كان أميراً على تربة ، ثم على قبائل عسير، ومن تبعهم، ثم على مكة، (ت 1274هـ).
انظر: أعيان القرن الثالث عشر، خليل مردوم بك، ص134، 135،136.
(2) هو أحمد بن زيني دحلان، ولد سنة (1232هـ)، وتولى فيها الإفتاء والتدريس، له مؤلفات، بث فيها الأكاذيب والمفتريات ضد الدعوة السلفية ومجددها الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومن ذلك رسالته "الدرر السنية في الرد على الوهابية"، طبعت عدة مرات وموجودة أيضاً ضمن كتابه: "خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام" وغيرهما (ت 1304هـ).(1/109)
انظر: ترجمته: الأعلام للزركلي، 1/129. ومعجم المؤلفين، 1/29. مجلة المنار، محمد رشيد رضا، م7، ص393.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون 1/155-162. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص260.(1/110)
ص -88- ... بلدة سدير. توفي سنة (1285هـ)، رحمه الله(1).
السابع عشر: الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف:
هو الشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن سيف، أصله من بلدة ثادق(2) عاصمة بلدان المحمل(3)، قرأ على والده الشيخ إبراهيم الحديث والتفسير، ثم على الشيخ عبد الرحمن بن حسن النحو والتجويد ومبادئ العلوم الشرعية، وعلى الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم سافر إلى مصر في حدود سنة (1254هـ)، وحصل جملة من فنون العلم في المعاني والبيان والحساب عينه الإمام فيصل قاضياً في مدينة حائل(4) وما يتبعها من القرى والبوادي، وفيها توفي عام (1265هـ)، رحمه الله (5).
الثامن عشر: الشيخ صالح بن قرناس:
هو الشيخ صالح بن قرناس بن عبد الرحمن بن قرناس بن حمد بن علي بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 3/708.
(2) ثادق: يطلق اسم ثادق على موضعين في المملكة، أحدهما وادي غرب القصيم، يسير في وادي الرمة، والآخر: بلد واقع في إقليم "المحمل" من اليمامة، وهي قاعدة الإقليم، وهذا الثاني هو المقصود هنا.
جزيرة العرب في القرن العشرين، ص51. معجم اليمامة، 1/221. والمجاز بين اليمامة والحجاز، لابن خميس، ص346، 348.
(3) المِحْمَل: بكسر الميم وإسكان الحاء وفتح الميم فلام، إقليم من أقاليم العارض، قاعدته "ثادق"، ومن بلدانه: البير، والصفرات، ورغبة، والرويضة، ودقلة، وحليفة، وغيرها.
انظر: معجم اليمامة، 2/344.
(4) حائل: موضع باليمامة، تقع إلى الشمال الغربي من الوادي بين جبل أجاء وسلمى عند طرفه الشمالي، يحدها من الشمال والشمال الغربي مدينة رفحا، وعرعر، وطريف، ومن الجنوب المدينة المنورة، ومن الشرق القصيم، وهو وادٍ أصله من الدهناء.
حائل مدينة وتاريخ، د. محمد سعد الشويعر، المحاضرة السادسة، ص28-30. لمحات عن منطقة حائل، لفهد علي العريفي، ط/1، ص15. جزيرة العرب في القرن العشرين، ص59. معجم اليمامة، 1/289.(1/111)
(5) علماء نجد خلال ستة قرون، 3/777-778.(1/112)
ص -89- ... محمد، ولد في بلدة الرس عام (1253هـ)، ونشأ وشب في بيت علم، قرأ على أخيه محمد بن قرناس، ثم على بعض علماء الرس، ثم سافر إلى الرياض، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن وابنه الشيخ عبد اللطيف، وغيرهما. تولى قضاء الرس بعد موت أخيه محمد، وكذلك عنيزة وبريدة، من عام (1275هـ) حتى عام (1330هـ)، وكانت مدة قضائه (55) عاماً. توفي في الرس سنة: (1336هـ)، رحمه الله (1).
التاسع عشر: الشيخ صالح بن محمد الشثري:-
هو الشيخ صالح بن محمد الشثري، من علماء الحوطة، له كتاب: "تأييد الملك المنان في نقض ضلالات دحلان"(2). أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن وكان بينهما مراسلات(3)(4).
العشرون: الشيخ عبد العزيز بن عبد الجبار:-
هو الشيخ عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار بن أحمد بن شبانة بن محمد. ولد في المجمعة(5)، قاعدة بلدان سدير، في بيت حافل بالعلم والعلماء فقرأ على أبيه وعمه الشيخ حمد بن عبد الجبار وغيرهما. ثم رحل في طلب العلم إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، حتى أدرك إدراكاً تاماً. عينه الإمام فيصل بن تركي قاضياً في مدينة حائل وتوابعها، ثم بعد وفاة والده قاضي سدير، نقله الإمام إلى قضاء سدير مكان والده، وكان مقر عمله في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 2/375-377.
(2) وهو كتاب مخطوط في مكتبة الرياض السعودية بالرياض، برقم، 197/86.
(3) انظر الرسالة رقم (11) و (17) مما يأتي، وهي من بعض الرسائل التي أرسلها الشيخ عبد اللطيف إليه.
(4) انظر: مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص97.
(5) المجمعة: موضع واقع في إقليم السدير، بل هو قاعدته، وهي في الجانب الجنوبي من وادي المشجر، وهي مدينة ناضهة، بها جوامع ومساجد وعديد من المرافق الحكومية.
جزيرة العرب في القرن العشرين، ص59. معجم اليمامة، 2/333-340.(1/113)
ص -90- ... المجمعة، حتى توفي -رحمه الله- عام (1274هـ)، في ولاية الإمام فيصل بن تركي(1).
الحادي والعشرون: الشيخ عبد العزيز الصرامي:-
هو الشيخ عبد العزيز بن صالح الصرامي، أخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن حسن، تولى قضاء الخرج عام 1317هـ، بعد وفاة شيخه عبد الله بن حسين المخضوب(2).
الثاني والعشرون: الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي:-
هو الشيخ عبد العزيز بن محمد بن علي بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الرياض ونشأ فيها، وشرع في القراءة على علمائها، ومن أشهر مشايخه: العلامة عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. تولى القضاء في مقاطعة سدير في عهد الأمير محمد بن رشيد، ثم عين قاضياً في مدينة الرياض. توفي سنة (1319هـ)، رحمه الله(3).
الثالث والعشرون: الشيخ عبد الله الوهيبي:-
هو الشيخ عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن إبراهيم بن سليمان الوهيبي، من المشارفة، ثم من الوهبة. كان والده صهر الشيخ عبد اللطيف، حيث تزوج من ابنته التي أنجبت منه ابنه العلامة عبد الله. خلف والده على قضاء الإحساء(4).
الرابع والعشرون: الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان:-
هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن ناصر بن دخيل، من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: عنوان المجد، 2/21. علماء نجد خلال ستة قرون، 2/483-484.
(2) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/532.
(3) المرجع السابق، 2/486.
(4) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/525-526.(1/114)
ص -91- ... آل رحمة الناصري التميمي، فهو من النواصر الذين هم من الحبطات. انتقلت أسرة المترجم له من الفرعة(1) بلدتهم الأصلية إلى المجمعة عاصمة السدير، فولد فيها عام 1261هـ، ونشأ فيها، وأخذ مبادئ القراءة والكتابة، ثم شرع في طلب العلم، فتلقاه عن الشيخ الفرضي عبد الله بن راشد، وأدرك أيام الشيخ عبد الرحمن بن حسن فأخذ عنه وعن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ثم رحل إلى القصيم فأخذ عن علمائها توفي -رحمه الله- في المذنب أحد بلدان القصيم الشرقية عام (1324هـ)(2).
الخامس والعشرون: الشيخ حمد بن علي بن عتيق:-
هو الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق، العلامة الثقة في العقيدة، أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم، وتولى مناصب القضاء في الخرج ثم في الحوطة ثم في الأفلاج. توفي -رحمه الله- سنة (1301هـ)(3).
السادس والعشرون: الشيخ عبد الله بن محمد بن مفدا:-
هو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مفدا، وأصل عشيرة آل مفدا أشيقر، إحدى بلدان الوشم، نزح منها والده إلى بريدة في القصيم، فولد المترجم له هناك عام (1271هـ)، فنشأ فيها وأخذ عن علمائها، ثم سافر إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وعن ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، حتى أدرك لا سيما في التوحيد. وكان زاهداً ورعاً صالحاً. ألف رسالة مختصرة مفيدة عن المداينات المحرمة. توفي في بريدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفرعة: يريد هنا "فرع الوشم" وهي مجاورة لبلدة "أشيقر" جنوبها، سكانها نواصر من تميم. معجم اليمامة، 2/249-250.
(2) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/619.
(3) انظر: الدرر السنية، 12/77-79. وعلماء الدعوة، ص82-83. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص244-245.(1/115)
ص -92- ... عام (1337هـ)، رحمه الله (1).
السابع والعشرون: الشيخ حمد بن عبد العزيز:-
هو الشيخ حمد بن عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز العوسجي البدراني الدوسري، ولد في بلدة ثادق عام 1245هـ، رحل إلى الرياض فقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، حتى صار عالماً كبيراً. توفي -رحمه الله- سنة (1330هـ)(2).
الثامن والعشرون: الشيخ عبد العزيز بن حسن:-
هو الشيخ عبد العزيز بن حسن بن عبد الله بن محمد، من آل حسن الفضلي، من قبيلة الفضول، الملقب، بـ (حصام) أخذ عن أبيه، ثم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وله معه مراسلات عديدة، ولاه الإمام فيصل بن تركي القضاء في حريملاء والمحمل. توفي سنة (1299هـ)، رحمه الله (3).
التاسع والعشرون: إبراهيم بن عيسى:-
هو إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبد الله بن عيسى بن علي بن عطية، ولد عام (1200هـ) في بلدة شقراء عاصمة الوشم ونشأ فيها وتعلم القراءة والكتابة، وأخذ عن مشائخها، ومنهم الشيخ عبد العزيز الحصين، وعبد الله أبو بطين، ثم رحل إلى الرياض وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وأخذ عنه جماعة من الفضلاء. ولاه الإمام فيصل القضاء على شقراء وعلى جميع بلدان الوشم. توفي عام (1281هـ)، رحمه الله (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/638-641.
(2) المرجع السابق، 1/227.
(3) انظر: عنوان المجد لابن بشر، 2/135-136. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/251. علماء نجد ستة قرون، 2/438-442.
(4) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/107-108.(1/116)
ص -93- ... الثلاثون: الشيخ عبد الرحمن بن عدوان:-
هو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عدوان اليربوعي، أصله من آله عدوان من بلدة أثيثة، ثم انتقلوا إلى حريملاء، وهناك ولد المترجم له، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وأخذ عن الشيخ محمد بن مقرن الودغاني الدوسري، لما نزل على بلدتهم قاضياً، أخذ عنه التوحيد والتفسير والحديث والفقه والفرائض، ثم رحل إلى الرياض فأخذ عن علامتها الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعن ابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. عينه. الإمام فيصل -بمشورة الشيخ عبد الرحمن- قاضياً على الرياض، ثم جاء ولاية عبد الله الفيصل، فأبقاه على عمله حتى توفي في الرياض عام (1285هـ)، رحمه الله(1).
الحادي والثلاثون: الشيخ عبد العزيز بن صالح المرشدي:-
هو الشيخ عبد العزيز بن صالح بن موسى بن صالح بن مرشد المرشدي، ولد في الرياض، وأخذ عن أشهر مشايخها، الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وغيرهما حتى أدرك. كان عالماً متبحراً، قوي الذاكرة حاد الذهن، ولاه الإمام فيصل قضاء مقاطعة سدير عام (1273هـ)، ثم نقله إلى قضاء الرياض، وولاه محمد بن رشيد قضاء مدينة حائل، وفيها توفي سنة (1324هـ)، رحمه الله (2).
الثاني والثلاثون: الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب:-
هو الشيخ عبد الله بن حسين بن أحمد المخضوب، من بني هاجر، وهي قبيلة قحطانية كبيرة، ولد حوالي (1230هـ)، ونشأ محباً للعلم، فقرأ على علماء نجد، منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 2/395-397.
(2) علماء نجد خلال ستة قرون، 2/469-470.(1/117)
ص -94- ... الرحمن بن عدوان، حتى أدرك وصار عالماً أديباً، له رسائل متبادلة بينه وبين الشيخ حمد بن عتيق، حول العقيدة، وله ديوان في خطب الجمع والأعياد، ورسائل كثيرة سماها "البرهان في تحريم الدخان" ونظم الأسماء الحسنى، ونظم الأجرومية. توفي في بلدة الدلم سنة (1317هـ)، رحمه الله (1).
الثالث والثلاثون: عبد الرحمن الوهيبي:-
وهو قاضي الإمام فيصل على الإحساء، بعد وفاة الشيخ عبد الله الوهيبي(2).
الرابع والثلاثون: زيد بن محمد من آل سليمان، ولد في الحريق، ونشأ بها، ودرس على الشيخ حمد بن عتيق قاضي الأفلاج، ثم سافر إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف وغيرهما، له مراسلات مع علماء نجد، أشهرها تلك الرسائل التي كتبها إليه الشيخ عبد اللطيف، بخصوص شقاق أبناء الإمام فيصل بن تركي (ت1307هـ)، رحمهم الله(3).
وهناك تلاميذ آخرون، لم أجد لهم ترجمة، وأكتفي هنا بمجرد سرد أسمائهم كالآتي:
الخامس والثلاثون أحمد الرجباني.
السادس والثلاثون أحمد بن عبيد.
السابع والثلاثون إبراهيم بن راشد.
الثامن والثلاثون إبراهيم بن عبد الملك بن حسين آل الشيخ.
التاسع والثلاثون إبراهيم بن مرشد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 2/530-532.
(2) الدرر السنية، 12/58-73.
(3) علماء نجد خلال ستة قرون، 1/265. وانظر الرسالة (11) التي أرسل إليه الشيخ عبد اللطيف في هذا الشأن.(1/118)
ص -95- ... الأربعون إسماعيل بن عبد الرحمن.
الحادي والأربعون حسين بن تميم.
الثاني والأربعون حسين بن علي.
الثالث والأربعون حمد بن سلمان.
الرابع والأربعون سليمان بن حسين.
الخامس والأربعون صالح بن عثمان بن عقيل.
السادس والأربعون عبد الرحمن بن بشر.
السابع والأربعون عبد الرحمن بن نافع.
الثامن والأربعون عبد الرزاق.
التاسع والأربعون ناصر بن حسين.
الخمسون عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين.
الحادي والخمسون عبد العزيز بن شلوان.
الثاني والخمسون عبد الله بن علي بن جريس.
الثالث والخمسون عبد الله بن علي بن حسين.
الرابع والخمسون عبد الله بن محمد الخرجي.
الخامس والخمسون عبد الله بن معيذر.
السادس والخمسون عبد الله بن نصير.
السابع والخمسون عثمان بن علي بن عيس السبيعي.
الثامن والخمسون عثمان بن مرشد.
التاسع والخمسون علي بن سليم.(1/119)
ص -96- ... الستون علي بن نفيسة.
الحادي والستون عمر بن يوسف.
الثاني والستون محمد بن حسن بن جريبة.
الثالث والستون محمد بن خميس.
الرابع والستون منيف بن نشاط.
وخلائق من أهل نجد والإحساء وغيرهما.(1/120)
ص -97- ... المبحث السابع ثقافته وإنتاجه العلمي
خلف الشيخ -رحمه الله- نتاجاً علمياً كبيراً، ساعده على ذلك اجتهاده الكبير وشدة حرصه في مجال طلب العلم وتحصيله، أضف إلى ذلك ذكاءه المتوهج، وسرعة حفظه(1) التي منحته ثقافة واسعة، في شتى الفنون العلمية، خاصة الدينية منها.
وقد سبق أن علمنا مولده، وحسن تربيته، ونشأته في بيت علم، يحيط به جهابذة من العلماء العاملين، من أمثال والده وأعمامه وغيرهم. ولا شك أن نشأة كهذه في شخصية مثل شخصية هذا الشيخ، تُوجد لدى صاحبها أرضية خصبة لإعداد نفسه وفق البيئة التي تربى فيها.
مصنفاته(2):
تتناول أغلب مصنفات الشيخ -رحمه الله- الرد على المبطلين، ودحض شبه المنحرفين، وفتن أهل الخرافات والملحدين، فكانت منهلاً عذباً يرده الموحدون، ويأخذ بها أهل المعرفة المتقون. فمصنفاته -رحمه الله- عديدة مفيدة، وهي:
أولاً: الكتب المخطوطة:
(1) البراهين الإسلامية في الرد على الشبهات الفارسية:
مخطوط يوجد في المكتبة السعودية بالرياض، تحت رقم (359/86).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد تقدم قول الشيخ إبراهيم بن صالح في وصفه بذبك، عن ذكر صفاته الفكري، ص72.
(2) المراجع التي ذكرت مصنفاته: الدرر السنية، 12/71-72. عقد الدرر، للشيخ إبراهيم بن صالح، ص78. تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/266. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص98. علماء الدعوة، ص498. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/68-69. ومعجم المؤلفين، 6/11. وهدية العارفين، 1/619. إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، 4/580. والأعلام للزركلي، 4/182.(1/121)
ص -98- ... (2) عيون الرسائل والأجوبة على المسائل:
وهو عبارة عن مجموعة رسائل وأجوبة مفيدة، جمعها تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان، في كتاب أسماه بهذا الاسم. وهو ما أنا بصدد تحقيقه.
وقد خصص جامع كتاب مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث منه، لهذا الكتاب، وهو ليس جامعاً لجميع رسائل الشيخ -رحمه الله- بل له رسائل أخرى عديدة، في بيان عقيدة السلف الصالح، وغير ذلك، موزعة في أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الأخرى، وفي الهدية السنية، كما يوجد كثير منها في الدرر السنية(1).
(3) الإتحاف في الرد على الصحاف(2):
وهو كتاب رد به على عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف (مخطوط) في مكتبة الرياض السعودية، تحت رقم (359/86)، ويقع في تسع عشرة صفحة،. وقد طبع هذا الكتاب ضمن مجموع الرسائل والمسائل النجدية، في المجلد الثالث المحتوي على رسائل الشيخ عبد اللطيف، (3/430) قام بنسخها الشيخ سليمان بن سحمان عام 1338هـ هو أيضاً مطبوع ضمن الدرر السنية، لابن قاسم (9/404-417).
وقد حقق الكتاب عام 1416هـ، قام بذلك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد. وطبع في مطبعة دار العاصمة بالرياض. ويقع الكتاب في (54) صفحة.
ثانياً: الكتب المطبوعة:
(4) مصباح الظلام في الرد على منتقص شيخ الإسلام:
وهو كتاب في مجلد، رد به على الطاغية عثمان بن عبد العزيز بن منصور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وسيأتي مزيد بيان حول هذا الكتاب، في دراسة مستقلة في الباب الثاني، الخاص بدراسته.
(2) ذكره عبد الرحمن في مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص98، وأشار إلى كونه مخطوطاً.(1/122)
ص -99- ... الناصري، من تلاميذ داود بن جرجيس، وذلك لما أقذع في مسبة علم الأعلام، ومشيد دعائم الإسلام، ومردي عبادة الأوثان والأصنام في وقته الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ فقد ألف هذا الملحد مؤلفاً سماه "جلاء الغمة من تكفير هذه الأمة"، والمراد بالأمة عنده، عبدة الأصنام، فانتصر لهم فيه، وضلل أهل التوحيد(1)، وعلى هذا الكتاب كان رد الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله.
(5) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس:
وهو كتاب يقع في مجلد، في (396) صفحة، ردّ به كتاب: "صلح الإخوان" لداود بن جرجيس البغدادي. فرغ منه في حدود سنة 1280هـ(2).
ولما صنف هذا الكتاب، أثنى عليه جملة من العلماء والأدباء، منهم: العلامة الأفندي عبد القادر البغدادي، قال فيه:
عبد اللطيف جزاه الله خالقنا ... يوم الجزاء بأجر غير ممنون
هو الهمام الذي شاعت فضائله ... في الشرق والغرب من نجد إلى الصين
بحر من العلم يبدي من معارفه ... بديع در عزيز القدر مكنون
أحيا طريق رسول الله عن شبه ... منسوبة لجهول غير مأمون
وسادس من أقاويل ملفقة ... كأنها بعض أقوال المجانين
ظن ابن جرجيس من جهل ومن سفه ... لم يبق في الناس ذو علم وتمكين
فقال ما قال من زور ومن كذب ... ظنونه في مجال غير مظنون
ولم يكن يغني عنه الظن فانعكست ... ظنونه في مجال غير مظنون
إذ رده ناكصاً يدعو النجاء على ... أعقابه خسر الدنيا مع الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكره البسام في علماء نجد خلال ستة قرون، 1/69، والكتاب لم أطلع عليه.(1) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/266. وعلماء الدعوة، ص49-50. وانظر: مقدمة دلائل الرسوخ، ص3-7.
(2) انظر: هدية العارفين 1/619، إيضاح المكنون، 2/585.(1/123)
ص -100- ... دلائل أشرقت فالشهب أرسلها ... عبد اللطيف رجوماً للشياطين
جزاه مولاه عنه كل صالحة ... من جنة الخلد في يوم الموازين(1)
(6): تحفة الطالب والجليس في الرد على داود بن جرجيس وهو كتاب مطبوع باسم "تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس"، وهو كتاب صغير يقع في (156) صفحة. وقد اعتنى بنشره وتحقيقه عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، وطبعت الطبعة الثانية منه بدار العاصمة بالرياض عام 1410هـ، بالمملكة العربية السعودية.
(7): دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ:
وهو كتاب رد به على ما لفقه داعية الكفر والضلال، داود بن جرجيس.
قال الشيخ محمد بن عبد العزيز مانع في تصديره لهذا الكتاب:
"ألفه قبل وفاته بنحو سنتين، وطبع أول مر في (1305هـ)، ونفدت طبعته، وقل وجوده حتى نسي أو كاد أن ينسى(2)، حتى وجد منه نسخة في مكتبة محمد بن حسين نصيف، بالحجاز"(3).
وكان -رحمه الله- قد شرع في شرح كتاب الكبائر، وشرح نونية ابن القيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر القصيدة: في تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/226-227. وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/68-69. وفي الدرر، 12/69، جزء منها.
(2) ولعل هذا هو السبب الذي جعل بعض من ذكر كتبه -بل أكثرهم- يغفلون عن ذكر هذا الكتاب.
(3) انظر: مقدمة الطبعة الثانية للكتاب، ص3-5.
وقد طبع الكتاب الطبعة الثانية سنة"1382هـ /1962م على نفقة صاحب السمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، حاكم قطر سابقا، قام بتنفيذه مطبعة المدني، المؤسسة السعودية بمصر، ثم أعيد تصوير الطبعة الثانية عام 1402هـ، من قبل الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإدارة العامة للتوعية والتوجيه، مع زيادة التقديم للهيئة.(1/124)
ص -101- ... فاخترمته المنية قبل إتمامهما(1)؛ إذ إن الفتن والاضطرابات التي حصلت بين أبناء فيصل بن تركي، أشغلته كثيراً عن تحقيق ذلك، بل وأبعدته عن مجال التصنيف عموماً في أواخر حياته، وعليها المعول في قلة إنتاجه التأليفي.
وكما أنه -رحمه الله- ناثر جيد، فهو شاعر مجيد، فله عدة قصائد، وقد سخر شعره لرد الشبه، فكان يقاتل أهلها بمثل سلاحهم، ويدمرهم بمثل عدتهم. فله من ذلك قصيدة طويلة، رد بها قصيدة البولاقي المصري، التي خلط فيها المصري وسوى بين البدع في العبادات والبدع في العادات(2). وكذلك له قصائد إخوانية بينه وبين بعض محبيه من أهل العلم(3).
وسيقف القارئ على بعض قصائده -رحمه الله- ضمن هذه الرسائل التي نحن بصدد تحقيقها. كما أن له تحقيقات نفيسة وتدقيقات لطيفة(4)، رحمة الله عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الدرر السنية، 12/27. وعلماء نجد خلال ستة قرون، 1/68. وعلماء الدعوة، ص50.
(2) انظر: علماء الدعوة، ص50.
(3) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/69.
(4) عقد الدرر، ص78.(1/125)
ص -102- ... المبحث الثامن عقيدته
كان الشيخ عبد للطيف -رحمه الله- سلفي العقيدة، ومن مناصريها ودعاتها. وقد اجتمعت لديه عدة عوامل، كان بمجملها -بعد توفيق الله تعالى- السبب في سلامة عقيدته وصفوتها، التي اشتهر بها، وقضى طيلة حياته في مناصرتها والدفاع ومن تلك العوامل:
أولاً: كونه من أصل أسرة الدعوة السلفية:
فهو -رحمه الله- من أحفاد الشيخ، محيي العقيدة السلفية، جده الكبير الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كما أن أباه عبد الرحمن بن حسن، كما أن أحد المناضلين لتبديد ظلام الشرك والذب عن عقيدة السلف، والتصدي لدعاة الضلال وعبدة القبور، الذين كانت رؤوسهم مرتفعة على عهده.
الثاني: تربيته بين مناصري العقيدة السلفية:
لم يكتف الشيخ -رحمه الله- بفضل انتسابه إلى تلك الأسرة الشريفة، بل حاز أيضاً فضل التربية والنشأة بين حماة الدعوة السلفية، وذاذة الملة الإسلامية؛ فقد كانت مدينة الدرعية -موطنه الأصلي- تعج بعلماء الدعوة السلفية ومشهورة، بالحركة العلمية، وكان ذلك عاملاً قوياً في نشأته على العقيدة الصافية التي كان سائدة في تلك البلدة حينذاك.
ثالثاً: أخذه للعقيدة من منابعها الصافية:
وهذا من أبرز ما يوضح صفاء عقيدته؛ إذ إنه -رحمه الله- أخذ العقيدة من معينها الصافي عن أبيه وعمه وخاله وغيرهم حين وجوده بمصر.(1/126)
ص -103- ... قال البسام في علماء نجد خلال ستة قرون(1)، عند حديثه عن نشأة الشيخ العلمية، وهو في مصر:
"... فصار يتردد بين بيته والأزهر الشريف، فيجد في البيت أباه وعمه وخاله، فدرس على جملة من علماء نجد منهم: جده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، وخاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد، ووالده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ أحمد بن حسن بن رشيد المشهور بالحنبلي، كل هؤلاء من النجديين الذين تلقى عنهم في مصر، يلقنونه العقيدة الصحيحة، ويدرسون له علوم السلف الصالح ...".
فتلك هي أبرز العوامل التي ساعدته على النمو على عقيدة السلف الصالح، حتى صار أعظم دعاتها، رحمة الله عليه.
ثم إن رسائله التي أنا بصدد تحقيقها، لتجلي عن حقيقة عقيدته السلفية؛ حيث تناولت مسائل عالجها الشيخ وفق عقيدة السلف الصالح، واعتمد في ذلك على أقوالهم وما كانوا عليه من أعمال، التي كانت ترجمة عملية لمراد كتاب الله الكريم وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كما تضمنت رسائله جميع أنواع التوحيد؛ الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، حسب ما وردت في الكتاب والسنة، فكل رسائله وأجوبته وفتاويه تدور حول هذه الأقسام الثلاثة. فنجد مثلاً الرسالة رقم (63)، قد خصها بتوحيد الأسماء والصفات، وهي كلها صورة طبق أصل عقيدة السلف الصالح في هذا الباب.
ومن أجل صفاء عقيدته، وسعة اطلاعه على ما كان عليه السلف، وجلده على المناظرة وإقامة الحجج لنصرة مذهب أهل السنة والجماعة؛ انتدبه الإمام فيصل بن تركي -رحمهم الله- لمهمة إصلاح أهل الإحساء، الذين كانت شبه الجاهلية راسخة في أذهانهم حينذاك. وقد استطاع الشيخ -رحمه الله- إعادة ذلك البلد إلى مذهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قاله في: 1/63-64.(1/127)
ص -104- ... السلف الصالح، وإظهار الحق لهم، وتصفية عقيدتهم من رواسب الشرك، وتوحيد طريقتهم على نهج أهل السنة والجماعة(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد تقدم الحديث على هذه المهمة، عن رحلته إلى الإحساء، ص (77).(1/128)
ص -105- ... المبحث التاسع أعماله ووظائفه
قام الشيخ رحمه الله بعد وظائف، أملتها عليه مكانته العلمية الرفيعة، ومارسها حسب ما حكمت به ظروف بلده حينذاك، ووفق مكانته من الإمام فيصل ابن تركي، الذي كان هو مع الشيخ عبد الرحمن بن حسن والد الشيخ عبد اللطيف المسيّران لشئون البلد، سياسياً ودينياً؛ ولذا نجد أن أعماله كانت متمثلة في كلتا الناحيتين.
وهنا نوجز أهم ما قام به من تلك الأعمال، كما يلي:
أولاً: نشره للعلم والدعوة إلى الله تعالى:
كان -رحمه الله- قد قدم من مصر، بعد تزوده بعلم وفير، فكان مهيئاً للعطاء والإفادة، وكان قد حمل معه مكتبة حافلة بنفائس الكتب كثيرة. وبعد استقراره في الرياض، بدأ الناس ينتفعون بعلمه(1)، وكان عنده حلقة تدريس، واتخذ من المسجد الكبير المعروف بـ(مسجد الشيخ عبد الله) مدرسة كبيرة؛ لتدريس مختلف الفنون والعلوم، كالبلاغة والمعاني والبيان، وقواعد الفقه والأصول والتجويد، بالإضافة إلى علوم أخرى(2).
وقد تقدم أن علمنا إرسال الإمام فيصل له إلى الإحساء للدعوة إلى الله، وإصلاح أهلها(3)، وبعد رجوعه من الإحساء إلى الرياض، قام بمؤازرة والده في نشر الدعوة والعلم وبثه، وإحياء معالم الدعوة، وتجديد ما اندثر منها، فملأ نجداً في زمانهما علماً، وأعادا إلى الدعوة السلفية قوتها ونشاطها ومجدها، بعد ما أصيبت بالوقوف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ويشهد لذلك كثرة تلاميذه، كما تقدم ذكرهم، ص (82-96).
(2) عنوان المجد، لابن بشر، 2/20.
(3) تقدم في، ص 77، عند ذكر رحلته إلى الإحساء، وكذلك في ص102 عند ذكر عقيدته.(1/129)
ص -106- ... ومنيت بالركود أيام الفتن والاضطرابات(1).
ثم إن الشيخ -رحمه الله- كان رفيق الإمام فيصل بن تركي في أسفاره وغزواته، فكان ينتهز الفرصة في تلك الرحلات، فيعظ ويذكر وينشر الدعوة، ويعلم الجاهل، ويرشد الضال (2).
قال الشيخ عبد الله البسام عند كلامه عن أعمال الشيخ:
"... كانت أوقات الشيخ عبد اللطيف مقسمة بين التأليف والرد على المبطلين، وبين الرسائل والنصائح التي تبعث إلى البلدان والمخالفين، وبين الدروس العامة والخاصة التي لا تنقطع، ولا يخل بمواعيدها، وبين مقابلة الوافدين والمراجعين، وبين مجالسه الخاصة مع الإمام فيصل، ثم ابنه عبد الله؛ لبحث شؤون الدولة وأمور الحكم"(3).
ثانياً: مساعدته لوالده:
إنه -رحمه الله- بعد عودته من مصر، وقدومه إلى الرياض عام (1264هـ)، كان الإمام فيصل بن تركي هو صاحب السلطة المطلقة في بلاد نجد، وكان أبوه عبد الرحمن بن حسن هو المرجع في الشؤون الإسلامية والشرعية، وكان الشيخ عبد الرحمن قد دخل في العقد الثامن من عمره، واحتاج إلى مساعد قوي يعينه على مهامه الكبرى والكثيرة، وأعماله الجليلة، فلما قدم عليه ابنه عبد اللطيف، الذي وعى صدره علوم نجد وعلوم مصر، كان خير معين لوالده -بعد الله سبحانه وتعالى- على أداء مهامه، وكبير مسؤلياته؛ لذا عوّل عليه الإمامان، واعتمد عليه الزعيمان في صعاب وعويص المشاكل(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: علماء الدعوة، لعبد الرحمن بن عبد اللطيف، ص48-49.
(2) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(3) المرجع السابق، 1/66.
(4) انظر: المرجع السابق، 1/65.(1/130)
ص -107- ... ثالثاً: القضاء والفتوى:
من أعماله -رحمه الله- اشتغاله بالقضاء والفتوى؛ فبعد عودته إلى نجد متسلحاً بالعلم الواسع والعقل الراجح، لم يتردد الإمام فيصل بن تركي في تقليده هذا الأمر الحساس في نظام ملكه، والذي لم يكن يصلح إلا لمثله.
قال ابن بشر:
"استعمله الإمام فيصل قاضياً في الإحساء، ثم كان قاضياً مع أبيه في الرياض"(1). وكان الإمام يخصه ويسافر معه، فكان الشيخ في معيته إماماً وقاضياً له(2).
وهكذا قام بهذه الأعمال وغيرها خير قيام، وسار فيها أحسن سيرة، ولم يخل بشيء من وظائفه اليومية، فقد أعطى كل ذي حق حقه، وسار بأعماله على الوجه المرضي حتى لقي ربه"، رحمه الله تعالى رحمة واسعة(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عنوان المجد لابن بشر، 2/20. وانظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223.
(2) تذكرة أولي النهى، 1/223. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/65.
(3) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/66.(1/131)
ص -108- ... المبحث العاشر حياته السياسية
كانت بداية حياته السياسية، بعد عودته من الإحساء عام (1266هـ)؛ حيث أرسله الإمام فيصل بن تركي في مهمة دعوية؛ لإصلاح أهلها من البدع والخرافات الشركية، والتشعبات المذهبية.
قال الشيخ الشيخ عبد الله البسام:
"... ولما عاد إلى العاصمة الكبيرة، وجد أباه وإمامه قد طعنا في السن وثقلت عليهم المسؤوليات الجسام للدولة، فكان العضد الأيمن لأبيه، كما صار الأمير عبد الله الفيصل الساعد القوي للإمام، فسار الرجلان القويان في أعمال الدولة وشؤونها، تحت توجيه وإرشاد الإمام المحنك والعالم المجرب، فاستقامت الأمور وصلحت الأحوال، حتى استقرت البلاد، وأمن العباد، وفاض الخير، وعم الرخاء.
فرحل الإمامان في سني متجاورة، وأيام متقاربة، فقد توفي الإمام فيصل عام (1282هـ) وتوفي الشيخ عبد الرحمن عام (1284هـ)، فاستقل بالأمر الخليفتان، وانفرد كل منهما بمسؤلياته ومسؤليات والده"(1).
فهكذا كانت بداية حياته السياسية، التي تطورت حسب تطور الأحداث، وما وقع من فتن بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي -رحمه الله-.
وتبرز أدواره السياسية في الأمور الآتية:
أولاً: مواقفه في الفتن:
تقدم بيان ما حدث بين أبناء الإمام فيصل، الأمير عبد الله الفيصل، وأخيه سعود الفيصل، من المنازعة على الحكم بعد وفاة أبيهما، وما أتبع ذلك من حروب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 1/66.(1/132)
ص -109- ... وفتن(1)، فقد كان الشيخ عبد اللطيف وحده هو مطفيها -بعون الله تعالى له-. فوقف الشيخ -رحمه الله- في تلك الحروب مواقف خالدة ومشرفة، تشهد له بالوطنية الصادقة، والغيرة المتناهية على حرمات الإسلام والدين.
وقد تحدث الشيخ نفسه في بعض رسائله(2) عن هذه الفتنة، ودوره في إطفائها، وهي تبرز ما عاش فيه من قلق نفسي واضطراب، وفتن وملاحم، وخوف على المسلمين وبلدانهم من الغارات والنكبات، وشغل بتسكين الأمور، وملاينة الحكام المتعاقبين على مجلس الحكم، في فترة ما بين وفاة الإمام فيصل بن تركي عام (1282هـ)، إلى وفاته هو عام (1293هـ)(3).
فقد كان يحاول دائماً عقد الصلح بين الأبناء المتنازعين على الحكم، وجرّد نفسه للدفاع عن الأوطان والمحارم، كما كان يجتهد في أخذ الأمان لأهل الرياض، من القوات الغازية التي كانت تتبادل الهجوم على الرياض(4).
وكان -رحمه الله- ينظر إلى تلك الصراعات بنظرة ثاقبة، وتبصر أبعد عمقاً، وأكثر اتساعاً، فكان يرى أن الفتنة لم تكن بين أميرين فحسب، وإنما كانت الشعلة المستهدفة لحرق حصون الدعوة، وسحق الكيان المتماسك الذي أسسه آل سعود. فكان يرقب تحرك أعداء الدعوة التقليديين، والأعداء الدخلاء الجاثمين على الحدود.
وبناء على هذا، كان يرى أن أياً من ذينك الأميرين استطاع الغلبة وقيادة الأمة وحمايتها من الأعداء، والمحافظة على الدعوة السلفية، أنه يكون الأحق للأمر والبيعة(5)، خاصة أنه كان يلمس من كل منهما التحمس للدعوة، والحفاظ عليها على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم ذلك في، ص 44-50.
(2) سيأتي كلام الشيخ عن هذه الفتنة وما حدث فيها، في الرسالة رقم (10)، و (11)، و (48).
(3) انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 1/68.
(4) سيذكر قيامه بذلك في رسالته (11).
(5) وسيأتي زيادة تفصيل هذه المسألة في حينها في، ص278-284.(1/133)
ص -110- ... ما تركها عليه أبوهم الإمام فيصل(1)،رحمة الله عليهم.
وفي إحدى المرات، سعى إلى تنازل الإمام عبد الرحمن بن فيصل عن الحكم، لأخيه عبد الله(2)؛ لأنه أكبر وأقدم في الولاية، أشار عليه بذلك، وكرر عليه طلبه، حتى أجابه إلى ذلك، فخرج الأمير عبد الرحمن من الرياض، وقدم على أخيه عبد الله، وهو إذ ذاك في بادية عتيبيّة(3). وبذلك تحقق للشيخ ما أراده من حقن دماء المسلمين، فصار الحكم إلى عبد الله، بطريقة سلمية.
ولم تكن هذه المرة الأولى ولا الأخيرة، بل إنه -رحمه الله- تحقق له حقن دماء المسلمين مرات عديدة، بفضل الله، ثم بفضل سعيه الحثيث والمخلص.
فهذا باختصار كان موقفه من الفتن، كما سيأتي ذكره في بعض رسائله مما يأتي إن شاء الله(4).
ثانياً: رسائله السياسية:
ومن الأمور التي تضمنتها حياته السياسية، وأبرز دوره السياسي، رسائله التي كان يصدرها إلى جهات شتى، إلى الأمراء، والحكام، والإخوان، والعامة.
فقد لعبت رسائله دوراً هاماً في تثبيت دعائم الحكم لآل سعود وتوطيدها، إذ كان يعمل من خلالها على استمالة الرعية إليهم(5).
ومن رسائله السياسية، تلك التي أرسلها على لسان الإمام عبد الله الفيصل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/244. ومقدمة الرسائل المفيدة، ص15-16.
(2) كما جاء ذلك في رسالته رقم (11).
(3) تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/218-219.
(4) انظر: الرسالة رقم (11).
(5) انظر مثلاً: الرسالة رقم (8) إلى من يراه من المسلمين، في الحث على لزوم الجماعة، والنهي عن نصرة أعداء الإسلام، والرسالة رقم (23) للإمام فيصل بن تركي، والرسالة رقم (47) لأمير الشارقة سالم بن سلطان، وهي أيضاً في لزوم الجماعة وعدم نزع يد من الطاعة، ونحوها.(1/134)
ص -111- ... لوالي بغداد، بعد أن بين للإمام عبد الله، حرمة ما فعله من الاستنصار بأعداء الإسلام على المسلمين(1)، وأقنعه بذلك، وأظهر عبد الله التوبة(2)، فكتب على لسانه لوالي بغداد، أن الله قد أغنى ويسر، وانقاد للناس من أهل نجد والبوادي، ما يحصل به المقصود إن شاء الله، وأن لا حاجة لنا بعساكر الدولة(3).
قال الشيخ إبراهيم بن عبيد، عند كلامه عن مواقف الشيخ ودوره في الفتنة:
"... فقام -رحمه الله- بأعباء الدفاع عن بيضة الإسلام، وبث رسائله ونصائحه، ولم يأل جهداً في تسكين تلك الثوائر، ونصر دين الله باللسان والحجة، واستعمل ضروباً من الحكمة؛ كل ذلك لتحذير المعتدين، وتذكير المسلمين، وإفادة السامعين"(4)، نسأل الله أن يشكر سعيه، ويعظم أجره، ويجازيه على إحسانه إحساناً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حيث كان عبد الله قد استنجد بجيش من بغداد، على أخيه سعود.
(2) كما سيذكر ذلك الشيخ في رسالته (11).
(3) انظر الرسالة في: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/195-196.
(4) المرجع السابق، 1/224.(1/135)
ص -112- ... المبحث الحادي عشر وفاته والمرثيات التي قيلت فيه
المطلب الأول: وفاته:
توفي -رحمه الله- في 14 من ذي القعدة عام 1293هـ(1)، وأصيب المسلمون بفقده، كما فقدته الرؤساء والمحافل.
وقد كانت وفاته -رحمه الله- في مدينة الرياض(2)، عن ثمانية وستين عاماً (68) من العمر، ثمانية منها في الدرعية، وإحدى وثلاثين عاماً بمصر، وعامان في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: علماء الدعوة لعبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله، ص57. ومشاهير علماء نجد له أيضاً، ص119، 145. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/71، 73. عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث، لإبراهيم بن صالح، ص77. تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، لإبراهيم بن صالح بن عيسى، ص188. الأعلام للزركلي، 4/182 (ط/3، الخالية من الصور). عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية، د. صالح بن عبد العبود، ط/1، 1408هـ، ص66، وقد خالف بعض المؤرخين هذا الرأي: فذهب القحطاني في الدرر السنية (12/73)، إلى أن وفاته كانت في (4 من ذي الحجة، 1292هـ). وذهب كحالة في معجم المؤلفين (6/10)، إلى أن وفاته كانت في (14 من ذي القعدة (1292هـ).
والصواب ما أثبته من أن وفاته كانت في (1293هـ)، وذلك للآتي:
أ- تواتر ذلك لدى أكثر المؤرخين الذين ذكروا وفاته.
ب- أن من بين الذين ذكروه (الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف) فهو أقرب شخص من الشيخ، زماناً وقرابة، فقوله -على هذا الأساس- يقدم على غيره، ويكون الاعتماد عليه أسلم؛ باعتبار موقعه من النسب.
جـ- أن من بين الذاكرين لهذا التاريخ، الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى، (1270-1343هـ) في كتابيه (عقد الدرر ... وتاريخ بعض الحوادث ...)، فقد كان حياً حين وفاة الشيخ كما هو واضح، فقوله في تحديد وفاة الشيخ أضبط من غيره.(1/136)
(2) انظر: عقد الدرر، ص77. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/71. معجم المؤلفين، 6/10.، الإعلام للزركلي، 4/182.(1/137)
ص -113- ... الإحساء وسبعة وعشرون عاماً بنجد(1) قضاها كلها في تحصيل العلم ونشره، والكفاح الدائب، والنضال المتواصل؛ لحماية عقيدة التوحيد، والذود عن حياض الدين وحرمات المسلمين.
فنسأل الله تعالى أن يرحمه رحمة واسعة، ويجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يتغمده برحمته وعفوه وغفرانه، ويسكنه فسيح جناته، وفي النعيم المقيم. آمين.
المطلب الثاني: مرثياته:
وقد رثاه جماعة من العلماء نذكر هنا بعض ما قيل في ذلك:
أ- قال ابنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف:
"لما رأيت أهل الفهم والذكاء لم يتعرضوا لرثي شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، علامة دهره ووحيد عصره، الوالد الشيخ عبد اللطيف، ثبت الله حجته، أحببت أن أبذل وسعي في ذلك ... وقلت مستعيناً بالله شعراً:
لقد أظلمت من كل أرجائها نجد ... وقد كان لي في عهدها بالهدى عهدُ
وكنا وأهلوها على خير حالة ... وأنوار هذا الدين من أفقها تبدو
وقد ساعد ليلى وطاب وصالها ... ولاح لنا من وجهها القمر الفرد
بها قام سوق للشريعة عامراً ... فكل مقال لا تقرره رد
وكل إمام لا ينفذ أمرها ... فإن كل ما يبنى من الأمر منهد
فصحراؤها روض تفتق زهره ... وحصباؤها ودر وأمواهها شهد
فلله عصر قد مضى في حمائها ... به ارتفع الإسلام وانهزم الضد
صحبناهم والدهر مرخ رواقه ... وقد مس أهل الزيغ في بأسهم حد
لقد حل بالسمحا من الخطب فاضع ... لدن غاب من آفاقها الطالع السعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علماء الدعوة، ص57. مشاهير علماء نجد، ص119.(1/138)
ص -114- ... إمام التقى بحر الندى علم الهدى ... عبد اللطيف العالم الأوحد الفرد
فمذ غاب عن عيني تمثلت منشداً ... لما قاله في السالف العالم المجد
أليل غشى الدنيا أم الأفق مسود ... أم الفتنة الظلماء قد أقبلت تعدو
أم السرج النجدية الزهر أطفئت ... فأظلمت الآفاق إذ أظلمت نجد
نعم كورت شمس الهدى وبدا الردى ... وضعضع ركن للهدى فهو منهد
حليف المعالي قد رقي ذروة الهدى ... ومن دونها النسران والنجم والسعد
وعلامة ما الشافعي ومالك ... وأحمد والنعمان والليث والمجد
يرى في ثياب النسك حبراً كأنه ... مليك جليل القدر تعفو له الأسد
فسائل به آيات مجد شواهدا ... طوالعها لا يستطاع لها جحد
فكم من ضلال قد تصدى لرده ... وكم من هدى أبداه إذ أشكل الرد
فيها أيها الحبر الذي كان حجة ... عليك سلام الله ما سبح الرعد
بنيت بناءً للشريعة قد سما ... به من قبلك الأب والجد
وأسست هذا الدين حتى سما ... به أناس رعاهم قبلك الذيب والفهد
أنبأتهم كيف السياسة والعلى ... وكيف يقاد الجيش والجرد والجند
فأورثتهم مجداً وما كان مثله ... يرام له إرث وإن عظم الجد
حظوظ بميراث النبي أشادها ... إمام سما في العلم ليس له ند
أعاد لنا نهج الشريعة واضحا ... وقد عز من دهر تقادم أن يبدو
وجلى لنا أسرار شرعة أحمد ... وأن إله الحق في حكمه فرد
فجرّت به نجد ذيول افتخارها ... وكادت إلى فوق السماكين تعتد
حديث رسول الله إن جاء درسه ... يفوح به من طيبة المسك والورد
محاسن من دنيا ودين سماء بها ... إلى شرف العليا فحق له المجد(1)
ب- ورثاه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن طوق، بقصيدة مطلعها:
أبا خلق الأيام حيا تسالمه ... وإن عظمت هماته وعزائمه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرر السنية، 12/68-69.(1/139)
ص -115- ... فما أوحش الدنيا ويا حزن نجدها ... ويا يتمه للعلم إذ مات عالمه
فما مر يوم مر يوم أتى به ... بأوحش أنباء بريد يكاتمه
وجدنا كأن الأرض حتماً تزلزت ... فأظلم كل الكون وارتج عالمه
وهاجت رياح من زفير تنفس ... وجاد بماء الجفن سحا غمائمه
فيالك من رزء فظيع على الورى ... وهد بسور العلم أوهاه ثالمه
فقد كان للدنيا وللدين عدة ... وكنزاً أبى مضروبها أن يقاومه
بقية أهل العلم والعَلَم الذي ... تلقاه فرع أصلته أكارمه
إلى أن قال:
وعاش سعيداً ثم مات موحداً ... على المبلغ المنجي طريق ملازمه
فلا حي إلا والكل هالك ... سواه ولا بد المنون تزاحمه
وماذا وإن أعطيت عمراً كآدم ... وللدهر يوماً سوف يدركك صارمه
فطوبى لعبد أيقظته عناية ... وجافته عن دار الغرور عزائمه(1)
جـ- ورثاه تلميذه (وجامع رسائله) الشيخ سليمان بن سحمان، بقصيدة طويلة، في (42) بيتاً، نقتطف منها الأبيات التالية، ومطلعها:
تذكرت والذكرى تهيج البواكيا ... وتظهر مكنوناً من الحزن ثاويا
معاهد كانت بالهدى مستنيرة ... وبالعلم يزهو ربع تلك الروابيا
فما كان إلا برهة ثم أطبقت ... علينا بأنواع الهموم الروازيا
فكنا أحاديث كأخبار من مضى ... وننبأو عنها في القرون الخواليا
لعمري لئن كانت أصيبت قلوبنا ... وأوجعها فقدان تلك المعاليا
لقد زادت البلوى اضطراماً وحرقة ... فحق لنا اهراق دمع المآقيا
فقد أظلمت أرجاء نجد وأطفئت ... مصابيح داجيها لخطب وداهيا
لموت إمام الدين والعلم والتقى ... مذيق العدا كاسات سم الأفاعيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 12/73-74.(1/140)
ص -116- ... ولما نمى الركبان أخبار موته ... وأصبح ناعي الدين فينا مناديا
رثيناه جبراً للقلوب لما بها ... وحل بها من موجعات التآسيا
لشمس الهدى بدر الدجى علم الهدى ... وغيظ العدا فليبك من كان باكيا
ولا زال إحسان الإله وبره ... على قبره ذا ديمة ثم هاميا
وأسكنه الفردوس فضلاً ورحمة ... وألحقه بالصالحين المهاديا
عليه تحيات السلام وإن نأى ... وأضحى دفيناً في المقابر ثاويا
فيا معشر الإخوان صبراً فإنما ... مضى لسبيل كلنا فيه ماضيا
فإن أقل البدر الفريد وأصبحت ... ربوع ذوي الإسلام منه خواليا
فقد شاد أعلام الشريعة واقتفى ... بآثار آباء كرام المساعيا
همُ جددوا الإسلام بعد اندراسه ... وأحيوا من الأعلام ما كان عافيا
فيا رب جد بالفضل منك تكرماً ... وبالعفو عنهم يا مجيب المناديا
وابق بينهم سادة يقتدى بهم ... إلى الخير يا من ليس عنا بلاهيا(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المرجع السابق، 12/74-75، وتذكرة أولي النهى والعرفان، 1/233-234.(1/141)
ص -117- ... المبحث الثاني عشر ثناء العلماء عليه
وقد أثنى عليه جماعة من العلماء الأفاضل، ويدور كلامهم في ذلك على ما اشتهر به الشيخ وتبحر فيه من علوم وفنون شتى.
فقد وصفه الشيخ إبراهيم بن صالح بقوله: "... كان -رحمه الله- إماماً عالماً فاضلاً بارعاً محدثاً فقيهاً أصولياً ..."(1).
كما قيل في الثناء عليه، عدد من القصائد، منها: قول الفاضل علي أفندي:
لاح نور وزال الضلال ... ودها الشرك والعناد زوال
وتجلت شمس الكمال عياناً ... بعد ما كان دونها ضلال
ورياض التوحيد جاد رباها ... من سما الحق عارض هطال
وبدا الجهبذ المحقق للحق ... الإمام المهذب المفضال
والهزبر الهمام والعالم النحرير ... من عنده تنتهي الآمال
ذاك عبد اللطيف كنز المعالي ... هو بحر للعلم بحر زلال(2)
وقال الشيخ أحمد بن مشرف الإحسائي:
وعبد اللطيف الحبر لا تنس فضله ... إمام هدى بالعلم تزهو محافله(3)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد المانع:
سما رتبة في العلم لم يتصل بها ... سواه ولم يبلغ سناها ذوو الصدر
فكان أحق الناس في قول من مضى ... إذا ما انتدى للقوم في محفل الذكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عقد الدرر، 12/77.
(2) الدرر السنية، 12/69.
(3) المرجع السابق، نفس الصفحة.(1/142)
ص -118- ... وأقلامه تجري على متن طرسه ... فتشفى أوام الصدر عن مغلق الحصر
وإن طالب يأتيه يبغي إفادة ... أزاح له الإشكال بالسبر والخبر
وأنهله من بحره الجم نهلة ... فراح بها بدري وقد كان لا يدري(1)
وقال فيه تلميذه سليمان بن سحمان:
فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ... إمام الهدى قد كان لله داعيا
لقد كان فخراً للأنام وحجة ... وثقلاً على الأعداء عضباً يمانيا
إماماً سما مجدا إلى المجد وارتقى ... وحل رواق المجد إذ كان عاليا
تصدى لرد المنكرات وهدماً ... بنته عداة الدين من كان طاغيا
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... ويحمي حماها من شرور الأعاديا
حياة إله العرش في العلم والنهى ... بما فاق أبناء الزمان تساميا
وقال:
لقد جدّ في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر
وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر
وقال:
عبد اللطيف الذي شاعت مناقبه ... غرباً وشرقاً ومن بصرى إلى عدن
ما مصقع بلتع حاذاه أو علم ... في العلم فيما علمنا من بني زمن(2)
إلى آخر القصيدة. وغير ذلك من القصائد التي وردت في الثناء على الشيخ عبد اللطيف، رحمة الله عليه(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، 12/69-70.
(2) المرجع السابق، 12/-70-71.
(3) انظر بقية ما قيل فيه في المرجع السابق.(1/143)
ص -121- ... المبحث الأول عنوان المخطوط
اتفقت جميع النسخ على تسمية الكتاب على الورقة الأولى: بأنه: (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل).
وهذا الاسم ليس من وضع المؤلف الشيخ عبد اللطيف صاحب الرسائل، وإنما وضعه تلميذه (جامع الرسائل) الشيخ سليمان بن سحمان، بعد أن جمع رسائل شيخه التي كانت منتشرة في كتاب واحد، فسماه بهذا الاسم، وهو ما وضحه أصحاب التراجم، كما يأتي بيانه قريباً في مبحث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف. وعليه، يجدر بنا معرفة نبذة يسيرة عن جامع هذه الرسائل التي بين أيدينا وذلك في المبحث التالي:-(1/144)
ص -122- ... المبحث الثاني ترجمة جامع الرسائل
قام بأعباء جمع هذه الرسائل وتربيتها على ما هي عليه، الأستاذ الفاضل، صاحب المصنفات العديدة المفيدة، واللسان المدافع عن الدعوة السلفية، الشيخ العلامة، سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان بن مسفر بن محمد بن مالك ابن عامر، الخشعمي مولاهم، العسيري أصلاً ومولداً، النجدي منشأ ومستقراً.
ولد في قرية السقا(1) عام 1226هـ، ونزح والده إلى الرياض في ولاية الإمام فيصل بن تركي، كرمه الإمام فيصل. قرأ على الإمام عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحمد بن عتيق قاضي الأفلاج وغيرهم. له مصنفات عديدة، منها:
- الحجج الواضحة الإسلامية (مخطوط) في مكتبة الشيخ عبد الرحمن بن سحمان بالرياض.
- الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد. مطبوع بمطابع الرياض، الطبعة الثانية 1376هـ.
- إقامة الدليل والمحجة.
- البيان المبدي لشناعة لقول المجدي. مطبوع بمطبعة القرآن والسنة، أمر تسر الهند.
- تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعى باليماني شرف. مطبوع بمطبعة المصطفوية، 1323هـ بومبي.
- تبرئة الشيخين الإمامين، من تزوير أهل الكذب والمين. مطبوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السقا: قرية من ضواحي مدينة أبها. (ذكره لي الدكتور سعيد أبو مدرة، قسم الدعوة بالجامعة الإسلامية.(1/145)
ص -123- ... - تنبيه ذوي الألباب السليمة عن الوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى، 1343هـ.
- الجواب الفارق بين العمامة والعصائب.
- الجواب المستطاب على ما أورد الجاهل المرتاب، المسمى بمبروك.
- الجواب المنكي في الرد على الكنكني.
- حل الوثاق في أحكام الطلاق.
- الصواعق المرسلة الشهابية، على الشبه الداحضة الشامية. مطبوع بمطابع الرياض، 1376هـ. (ضمن مجموعة كتب).
- الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، جميل أفندي الزهاوي. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى، 1343هـ.
- عقود الجواهر المنضدة الحسان من أشعار سليمان بن سحمان. مطبوع بمطبعة المصطفوية، الطبعة الأولى، 1337هـ بومبي.
- كشف الأوهام والالتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس.
- كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام. مطبوع بمطابع الرياض، 1376هـ.
- منهاج الحق.
- نبذة في الزيارة.
- الهدية السنية والتحفة الوهابية. مطبوع بمطبعة المنار بمصر، الطبعة الثانية، 1343هـ وله رسائل وأجوبة، وغير ذلك من المصنفات المفيدة. وقد كف بصره عام 1331هـ، وتوفي سنة 1349هـ، رحمه الله(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرر السنية، 12/87-93. علماء نجد خلال ستة قرون، 1/279-281. علماء الدعوة(1/146)
ص -124- ... المبحث الثالث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
من بين الأمور المثبتة والمؤيدة لنسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه، والتي جعلني أتأكد من حقيقة هذه النسبة، ما يلي:
أولاً: المعاجم والكتب التي نسبت إليه هذه الرسائل:
1- الدرر السنية:
فقد قال الشيخ عبد الرحمن القحطاني عند ذكره لمصنفاته: "له رسائل عديدة وأجوبة مفيدة، تبلغ مجلداً، جمع أكثرها الشيخ سليمان بن سحمان وقال: لقد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة ... إلخ"(1).
وهذا الكلام نفسه هو ما ذكره جامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان، في مقدمته على الرسائل، كما سيأتي(2).
2- تذكرة أولى النهى والعرفان، لإبراهيم بن عبيد (3) قال فيه:
"أما رسائله ونصائحه، فقد جمعها الشيخ المعاصر سليمان بن سحمان، جعلها منسوقة واعتنى بضبطها والتعريف بها ، وجعل لكل رسالة مقدمة فيها تحتوي عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص87 المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عرض ونقض، إعداد عبد العزيز محمد بن علي بن عبد اللطيف، دار الوطن للنشر، ط1/، 1412هـ، ص383-384. مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص290-322. وانظر مقدمة الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية، لسليمان بن سحمان، مطابع دار الثقافة، مكة المكرمة، الزاهرة، 1393هـ-1973م، ص أ – ز.
(1) الدرر السنية، 12/71.
(2) سيأتي ذلك عند بداية القسم الثاني، (التحقيق).
(3) تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/227.(1/147)
ص -125- ... ولم يفته منها إلا النادر. ويا ليته اعتنى بترتيب الرسائل، وذكر وقت التاريخ لوضع المؤلف لها".
وها هي منشورة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، من أحب مراجعتها فليراجعها، ... بيد أنه لم يجمل ترتيبها، ووضع تاريخ لكل رسالة، إن تيسر ذلك وساقها الله إلى خبير بتلك البضاعة، فيا حسنها. وقد وضعها الشيخ المعاصر في نحو من عشرين كراسة وسماها: (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل) فناهيك بها أمارات أعربت عن قدر منشيها ومنزلته، وأجوبة أفصحت عن براعته ودرجته".
3- علماء نجد خلال ستة قرون: لعبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام: فعند ذكره لمؤلفات الشيخ عبد اللطيف، عدّ من ضمنها هذا المخطوط، فقال: "(عيون الرسائل والمسائل) وهي مخطوطة في مكتبة جامعة الرياض".
وقد صدق، إذا وجدت هناك بعض النسخ لهذه المخطوطة، كما سيأتي بيانه(1).
4- مشاهير علماء نجد وغيرهم: للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، فقد قال عنده ذكره لمصنفات الشيخ عبد اللطيف: "... وله رسائل كثيرة، كتبها في أغراض متعددة، علمية واجتماعية وسياسية، لو جمعت على حدة لبلغت مجلداً ضخماً، ولكنها طبعت مفرقة في مجاميع الرسائل والمسائل النجدية"(2).
5- عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في آخر القرن الثالث عشر وأول الرابع عشر، للشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي:
قال عند تعداده لمصنفات الشيخ: "وله رسائل عديدة وأجوبة على أسئلة مفيدة"(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يأتي ذلك في المبحث الرابع، عند وصف النسخ الخطية.
(2) مشاهير علماء نجد وغيرهم، ص98، 99.
(3) عقد الدرر، ص78.(1/148)
ص -126- ... 6- الأعلام، لخير الدين الزركلي(1):
قال عند ترجمته: "... له مصنفات، منها: ... ورسائل وأجوبة وردود".
ثانياً: نسبة الجامع للرسائل الرسائل إلى صاحبها:
نجد أن جامع هذه الرسائل تلميذه الشيخ سليمان بن سحمان، قد نسبها إلى شيخه عبد اللطيف -رحمه الله- كما جاء ذلك في مقدمته عليها. ولا شك أنه أدرى بما قام به شيخه من أعمال علمية؛ لقربه ومعاشرته له، مع ما قام به من مجهود جبار في إحياء تراث شيخه.
ثالثاً: تصدير الرسائل باسم الشيخ صاحبها:
إن كل رسالة من جميع هذه الرسائل، كان الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- يصدرها بذكر اسمه، فيقول: "من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ..."، وهذا مما يؤيد ثبوت كون هذه الرسائل له.
رابعاً: اتفاق جميع النسخ المخطوطة:
على نسبة الكتاب لصاحبه، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله.
خامساً: ما ذكره بعض المحققين المعتمدين من علمائنا المعاصرين:
ومن أولئك: شيخنا الفاضل، الدكتور صالح بن عبد الله بن عبد الرحمن العبود -نفعنا الله بعلمه والمسلمين-، فقد قال في كتابه: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي" عند ذكره للمراجع الأساسية التي اعتمد عليها في كتابه؛ قال: "والثالث: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، المولود عام 1225هـ،
والمتوفى عام 1293هـ، والذي رتب هذه المسائل وبوبها هو تلميذه سليمان بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأعلام للزركلي، 4/182.(1/149)
ص -127- ... سحمان، المولود عام 1266هـ، والمتوفى عام 1349هـ"(1).
وقال أيضاً عند ترجمته للشيخ عبد الرحمن بن حسن والد الشيخ عبد اللطيف: "… وقد ساعده على حمل راية العلم والسنة، ابنه الشيخ عبد اللطيف، فقد كتب رسائل كثيرة … خصص جامع الرسائل والمسائل النجدية الجزء الثالث من مجموعة الرسائل والمسائل لبعضها، فبلغت ستاً وسبعين رسالة، في أربعمائة وثلاث وخمسين صفحة (453)"(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص102.
(2) المرجع السابق، ص566.(1/150)
ص -128- ... المبحث الرابع موضوع الكتاب
يتناول هذا الكتاب ثلاثة موضوعات رئيسية؛ وهي:
الأول: رسائل في عقيدة التوحيد، وما يضادها من الشرك.
وهي معظمها، يتناول فيها مسائل متعلقة بالعقيدة، بأنواعها؛ في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
الثاني: رسائل في الفتاوى.
وهي عبارة عن أجوبة حول مسائل كانت ترده من بعض السائلين عن مسائل فهقية. وهي قليلة.
الثالث: رسائل في الفتن الواقعة في عصره. وهي عدة رسائل.
وهذه الرسائل غير مرتبة ترتيباً موضوعياً، فكما قال الشيخ محمد رشيد رضا(1) في مقدمة مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، عند كلامه عن مجهود الشيخ ابن سحمان في جمع هذه الرسائل، قال:
"... ثم إنه لم يعن بترتيبها بحسب موضوعاتها، كجعل الرسائل الخاصة بالتوحيد
والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع متناسقة في باب، والرسائل والفتاوى في الفروع متناسبة في باب آخر، والرسائل المتعلقة بالفتنة والشقاق الذي وقع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني، البغدادي الأصل، الحسيني النسب، صاحب مجلة، المنار، من الكتاب، عالم بالحديث والأدب والتاريخ والتفسير. له تفسير القرآن الكريم، والوحي المحمدي، ويسر الإسلام وأصول التشريع العام، وغيرها. قدم لكتاب: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، وبعض التعليقات عليه. (ت 1354هـ).
انظر: الأعلام للزركلي، 6/126.(1/151)
ص -129- ... بين آل سعود بسبب التنازع على الإمارة، متتابعة في باب ثالث(1) لكانت الفائدة أتم"(2).
هذا ما رآه الشيخ رشيد، وهو في الواقع رأي سليم؛ إذ إن تمام الفائدة والتيسير على القارئ يقتضيان ذلك؛ حيث يسهل الوقوف على الرسائل ذات الموضوع الواحد، متناسقة متتالية في مكان واحد.
وعليه، فقد رأيت أن أقوم بهذا العمل، وأرتِّب الرسائل ترتيباً موضوعياً. وبذلك سوف تكون الرسائل مرتبة على أبوابها كالتالي، وفقاً لأرقامها في النسخة الأصل:
أولاً: الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع، وما ينافيها من الشرك والابتداع:
أرقامها: 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 10، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19، 20، 23، 24، 25، 28، 30، 31، 32، 33، 35، 36، 40، 41، 42، 55، 57، 58، 59، 62، 63، 64، 66، 67، 68، 69، 70، 73، 74.
[المجموع 45 رسالة]، يزاد عليها (11) رسالة من الرسائل الملحقة وهي: 77، 78، 79، 80، 86 88، 93، 94، 95، 96، 97.
ثانياً: الرسائل الخاصة بالفتاوى في الفروع:
أرقامها: 21، 22، 34، 37، 38، 39، 43، 45، 46، 47، 53، 54، 56، 60، 61، 72، 75، 76. [المجموع 18 رسالة]، يزاد عليها (8) من الرسائل الملحقة هي: 83، 84، 85، 87، 89، 90، 91، 92.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هكذا في النص، والظاهر أن هنا سقطاً، تقديره: "ولو فعل ذلك ...".
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، لبعض علماء نجد الأعلام، دار العاصمة، الرياض، النشرة الثالثة، 1412هـ، 3/ ص م.(1/152)
ص -130- ... ثالثاً: الرسائل المتعلقة بالفتن:
أرقامها: 9، 11، 26، 27، 29، 44، 48، 49، 50، 51، 52، 65، 71 [المجموع13]، يزاد عليها (2) من الرسائل الملحقة هما: 81، 82.
فمجموع هذه الرسائل كلها (97) رسالة. وعلى حسب هذه الأرقام، سيكون الترتيب الفني لهذه الرسائل.
ويشار هنا إلى أن جميع الرسائل في كل النسخ المخطوطة، غير مرقمة، وهذه الأرقام من وضعي، حسب تسلسل الرسائل في النسخة الأصل.(1/153)
ص -131- ... المبحث الخامس وصف النسخة الخطية والمطبوعة
أ- النسخ المخطوطة
أولاً: عدد النسخ المخطوطة:
وجدت للمخطوطة أربع نسخ خطية، وهي التي كان عليها العمل.
ثانياً: وصف النسخ الأربعة:
النسخة الأولى: ورمزها ( أ ).
- مكان وجودها: هي موجودة بمكتبة جامعة الملك سعود، بالرياض، المملكة العربية السعودية، قسم المخطوطات، برقم 315/3م(1)،عقائد.
- الناسخ: لا يوجد اسم الناسخ على غلاف هذه النسخة.
- تاريخ نسخها: سنة 1319هـ، هذا ما ورد في آخر رسالة (20) صفحة52، قال: "تحريراً في 29 صفر، 1319هـ".
ويوجد بالغلاف سنة 1340هـ، وهو من وضع مصور النسخة، ويُوهم هذا التاريخ بكونها منسوخة في هذه السنة، والحق أن هذا التاريخ هو تاريخ المعلِّق على النسخة، ومالكها الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن ربيعة، كما صرح بذلك في ختام بعض تعليقاته في هامش صفحة (107) جاء فيها: " ... وصلى الله على محمد وسلم، غرة/ جا(2)/ سنة 1285هـ" ثم قال: "نقلتها من تلك النسخة المؤرخة بهذا التاريخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد صورتها حين زيارتي للمكتبة، يوم الثلاثاء في 24 من شوال، 1414هـ، الموافق 5 من أبريل، 1994م.
(2) هكذا، ولم أدر ما مراده، لعله يريد غرة أحد الجمادين.(1/154)
ص -132- ... وأنا الفقير إلى الله عبده، عبد ا لله بن إبراهيم بن محمد بن ربيعة، وذلك في 28 صفر 1340هـ" ا.هـ. كما أن له عليها تعليقات في هامش بعض الصفحات للفائدة.
- السماعات الموجودة عليها: جاء على الورقة الأولى، بعد اسم الكتاب واسم المؤلف، سماعان:
1- سماع عن اسم مالك النسخة، هو: "مما منّ الله بها على عبده، عبد الله بن إبراهيم الربيعي".
2- سماع ثان على الورقة الأولى: "ليعلم الناظر لهذا المجموع، أنه إلى حد هذا، وهي الرسالة التي فيها نسب الشيخ محمد، -رحمه الله-، أنه من جمع الشيخ سليمان بن سحمان، والباقي علّقه في هذا المجموع من وجده بعد، وهو كاتبها (1) عبد الله بن إبراهيم الربيعي، لأجل فائدة للمسلمين، جزى الله فاعل الخير بخير الجزاء".
- عدد أوراقها: (69) أي 138 صفحة، ضمن مجموع.
- مقياسها ومسطرتها: 34 X 16سم.
- عدد الأسطر في كل صفحة: تختلف عدد الأسطر الموجودة على صفحات هذه النسخة، فالصفحات الأولى يتراوح متوسط عدد الأسطر فيها بين 35-37 سطراً، وفي الصفحات الوسطى ما بين 40-45، بينما يصل عدد الأسطر في بعض الصفحات الأخيرة إلى ما فوق الخمسين 50 سطراً في الصفحة.
- عدد الكلمات في كل سطر: يبلغ متوسط عدد الكلمات في كل سطر: 16 كلمة.
خطها: خط نسخ جيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كاتب الملحق، وليس الأصل؛ للتباين الواضح بين الخطين. وهو أيضاً صاحب التعليقات في حواشي الصفحات.(1/155)
ص -133- ... الملاحظات عليها:
نسخة جيدة، وإن كان ببعض الكلمات في الصفحات الأولى تلويث بالحبر، ورطوبة وبلل مما أفسد الكتابة، من غير طمس، ويمكن قراءتها.
يوجد بها بعض الأخطاء الإملائية.
- سبب اختيارها لتكون الأصل:
فقد اخترت هذه النسخة ( أ ) لتكون الأصل للأسباب الآتية:
1. كمالها وسلامتها من النقص عموماً، وما فيها من الزيادات عن غيرها.
2. وضوح خطها وجودته.
3. قلة أخطائها، خاصة اللغوية والإملائية، التي تكثر في غيرها.
النسخة الثانية، ورمزها ( ب ).
- مكان وجودها: هي موجودة بالمكتبة السعودية بالرياض، قسم المخطوطات، برقم 55/86، عقائد. كما توجد أيضاً في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، المملكة العربية السعودية، قسم المخطوطات، برقم (ف 6/15 س). فهو ضمن مجموع، أي رقم الفلم (6)، وترتيب الكتاب في الفلم (15). وهو مصور عن نسخة المكتبة السعودية بالرياض (1). ويوجد نسخة منه في مكتبة الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، قسم المخطوطات، برقم 21/214.
- الناسخ: إبراهيم بن حسن الضبيب(2).
- تاريخ النسخ: سنة 1335هـ، كما هو واضح في الورقة الأخيرة عند النهاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صورتها يوم الأربعاء من مكتبة جامعة الملك سعود، في 25 من شوال، 1414هـ، الموافق 6 من أبريل، 1994م.
(2) هو إبراهيم بن حسن الضبيب، وقد جاء التصريح بكونه كاتبه، في آخر الرسالة.(1/156)
ص -134- ... في صفحة 237. وجاء في آخر الورقة الأخيرة: "... ممليه إبراهيم بن حسن الضبيب، يبلّغ الجميع السلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تمت هذه الرسائل بعون مولى الفضل والفضائل سبحانه جل عن ند وعن مماثل، فرحم الله مؤلفها وكاتبها والمطالع فيها، آمين ثم آمين. 28 شوال، 1335هـ" ا.هـ.
- عدد أوراقها: 116 ورقة. أي 232، من (ص5 – 237).
- مسطرتها: 8، 24 X 16سم.
- عدد الأسطر في كل صفحة: 23 سطراً.
- عدد الكلمات في كل سطر: 13 – 15 كلمة.
- خطها: نسخ معتاد جيد، بعض الكلمات في الأصل بلون أحمر، لون بعض الورق يميل إلى الصفرة قليلاً.
- الملاحظات عليها:
1. هذه النسخة غير مكتملة؛ فقد سقطت من بدايتها ورقتان من صفحة (1-4) وهي من الرسالة الأولى.
2. سقطت منها رسائل رقم (6) (59) كما سقطت منها أربعة عشر رسالة في الأخير,س من رقم (62-75).
3. مخالفتها الشديدة في ترتيب الرسائل فيها، عما في غيرها. فالرسائل المتقدمة في بقية النسخ إلى نصف مجموعها_ هي الأخيرة في هذه النسخة.
4. يوجد بها مسألة زائدة (حول عمل ختمة في ليلة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-) وهي تأتي بعد نهاية الرسالة الأولى مباشرة، في ص12.
5. يوجد بها أخطاء إملائية، متشابهة، إلى حد كبير، بأخطاء النسخة ( أ ).(1/157)
ص -135- ... 6. يوجد بياض بالصفحة 34 كاملة.
7. يوجد ببعض الهوامش تصحيحات وتعليقات.
النسخة الثالثة: ورمزها ( ج ).
- مكان وجودها: موجودة بالمكتبة السعودية بالرياض، قسم المخطوطات، تحت رقم (358/86) عقائد.
كما توجد أيضاً في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، قسم المخطوطات، برقم (ف 40/13س)، وهي مصورة عن نسخة المكتبة السعودية(1).
- الناسخ: لم يذكر، ولم أجد ما يشير إليه.
- تاريخ النسخ: لم يذكر. وعلى الورقة الأولى: "لعله القرن الثالث عشر الهجري". وهذا هو المؤكد، بدليل وجود تمليك سنة 1297هـ, كما سيأتي في السماعات التالية، فيكون النسخ قبله.
-السماعات الموجودة عليها: يوجد على الورقة الأولى سماع واحد، وهو عبارة عن مالك النسخة، يليها عدد من تمليكات:
التمليك الأول:
وهو تمليك مؤرخ سنة (1310هـ) ومشطوب، ونصه: "تملّكه بفضل ربه المنان، صالح بن محمد بن عجلان، بالشراء الشرعي، بحضرة الإخوان/(2)/ وصالح البنيان (3)، والله خير شاهد، سنة 1310هـ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد صورتها مع النسختين السابقتين. انظر هامش الصفحة 133.
(2) اسم شخص غير واضح، لعله (مصلح وحمد).
(3) هو الشيخ صالح بن سالم بن محسن آل بنيان، ولد في حائل 1256هـ، وعين قاضياً فيها، وفيها توفي سنة 1330هـ. انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/349-351.(1/158)
ص -136- ... تمليك ثان:
ثم جاء تحته مباشرة تمليك مؤرخ سنة (1314هـ) وهو مشطوب أيضاً ونصه: "ثم انتقل إلى ملك الفقير إلى ربه المنان، عبده عطية بن سليمان، بالشراء الشرعي، وذلك سنة 1314هـ"(1).
تمليك ثالث:
يوجد تمليك ثالث وهو لمالك النسخة، مؤرخ سنة (1321هـ): ونصه: "الحمد لله وحده وبعد: فقد منّ الله الملك المعبود، بملك مجموع هذه الرسائل، على عبده الفقير المذنب المقر المعترف بالذنوب والتقصير، الراجي عفو اللطيف الخبير، عبده عيسى بن حمود آل مهوس، بالشراء الشرعي سنة (1321هـ).
تمليك رابع:
جاء في هامش صفحة (224) وهي الصفحة الأخيرة من النسخة، ذكر لأقدم تمليك لهذه النسخة ونصه:
"في ملك الفقير إلى الله سبحانه وتعالى، عبد الله بن أحمد /(2) / غفر الله له ولوالديه وللمسلمين. وصلى الله على محمد وسلم. سنة (1297هـ)".
- عدد أوارقها: (128) ورقة، أي (256) صفحة.
- مقياسها ومسطرتها: 24 X 17.5سم.
- عدد الأسطر في كل صفحة: 25.
- عدد الكلمات في كل سطر: 13-14.
- خطها: نسخ حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صورة نسخة (ج) الورقة الأولى ص141.
(2) هنا نسبة لم أتمكن من قراءتها.(1/159)
ص -137- ... - الملاحظات عليها:
1- النسخة ناقصة من آخرها، فهي تنتهي برسالة رقم (58) من مجموع الرسائل البالغ عددها (74). كما أنها تنتهي مع نهاية صفحة (224)، أما بقية الصفحات من (225-255) فهي تكرار لبعض رسائل تقدمت في نفس النسخة.
* فمن صفحة (225-243)، تكرار لرسالة تقدمت في صفحة (151-163).
* ومن صفحة (244-255) آخر النسخة، تكرار للرسائل من صفحة (206-223) من النسخة.
وذكر في هامش هذه الصفحات المكررة: "وقف لوجه الله تعالى، على يد عيسى آل مهوس(1)، إن شاء الله تعالى".
2- نسخة حسنة، يوجد ببعض الهوامش تعليقات وتصويبات.
3- رؤوس فقراتها أكبر، وبعضها بالحمرة (في الأصل) دون النسخة المصورة.
4- في صفحتها (224) زيادة مسألة في "بيع النخل بالدين الحال الذي في الذمة قبل قبضه".
5- يوجد طمس لبعض الأسطر في بعض الصفحات مثل صفحة 195، 196، 221.
النسخة الرابعة: ورمزها ( د ).
- مكان وجودها: هي موجودة بمكتبة الجامعة الإسلامية المركزية بالمدينة المنورة، قسم المخطوطات، تحت رقم الفلم (5229)، العقيدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا الذي ملكه سنة (1321هـ). ومن الملاحظ، أن خط الرسائل المكررة، التي جعلها عيسى آل مهوس لا يختلف عن خط بقية النسخة، فإن كان مراده هنا بقوله: "على يد عيسى ..." أنه بنسخ يده، فيمكن اعتباره حينئذٍ الناسخ لهذه النسخة (ج)، وإن كان المراد المراد استنساخه لهذا الجزء من أجل الوقف، فعندئذٍ يظل الناسخ مجهولاً. والله أعلم.(1/160)
ص -138- ... - الناسخ: عبد العزيز بن محمد بن منيع(1). وهو في السماع أول المخطوطة كما يأتي.
- تاريخ النسخ: 1310هـ.
- ويوجد في لوحة (96) رسم لسنة 1291هـ، عند نهاية أحد الرسائل(2).
- السماعات الموجودة عليها: جاء على الورقة الأولى بعد اسم الكتاب سماع واحد، وهو عبارة عن مالك النسخة وكاتبها: "في ملك من كتبه لنفسه عبد العزيز بن محمد بن منيع، غفر الله له ولوالديه وإخوانه المسلمين. وصلى الله على محمد، سنة 1310هـ".
- عدد أوراقها: 119 ورقة، أي (238) صفحة.
- مقياسها ومسطرتها: لا يوجد.
- عدد الأسطر في كل صفحة: 29.
- عدد الكلمات في كل سطر: 12-13.
- خطها: نسخ لا بأس به.
- الملاحظات عليها: يوجد على هذه النسخة ملاحظات عدة، منها:
1. اشتمالها على كثرة الأخطاء، اللغوية والإملائية، فلا تدانيها في هذا نسخة من النسخ الموجودة لدي. فمن أخطائها الإملائية على سبيل المثال:
- لفظ [ابن] مرسوم مع ألفه بين علمين، هذا في النسخة كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن محمد بن منيع الوهيبي، ولد في عنيزة سنة 1263هـ (ت 1307هـ) انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/487-491.
(2) ولعله كان تاريخاً أنهى فيه نسخ تلك الرسالة. فيكون التاريخ المثبت على الورقة الأولى، عند الانتهاء الكلي من النسخ.(1/161)
ص -139- ... - لفظ [الموالات والمعادات] بتاء مفتوحة. وكذلك التبديل بين التاء المفتوحة والمربوطة في الكلمات المنتهية بها؛ مثل: [جفاة جفات/ جهات جهاة].
- كل لفظ منتهٍ بهمزة مثل (الأهواء) يقلب آخرها ألفاً مقصورة (الأهوى).
- التبديل بين الضاد والظاء في كثير من الكلمات التي ورد فيها هذان الحرفان؛ مثل: [أضهره، ضنّ الضالم/ بدلاً من: أظهره، ظنّ، الظالم]، ونحو: [الفاظل، حاظر، ظرره/ بدلاً من: الفاضل، حاضر، ضرره].
- القطع بين أجزاء الكلمة؛ فكثير من الكلمات يكتب أولها في آخر السطر، والجزء الأخير منها في أول السطر التالي؛ مثل: [الموالات/ الإقامة/ كان/ قا ل/ ذالك/ يش رع] وهكذا.
2. يوجد بعض التصويبات في هوامش بعض الصفحات.(1/162)
ص -140- ... ب- النسخة المطبوعة
أولاً: عدد الطبعات:
طبعت رسائل الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- وفتاواه متفرقة في الكتب المشتملة على الرسائل النجدية، فجاءت بعض رسائله في الدرر السنية(1)، وفي الهدية السنية(2)، وفي بعض أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية(3).
ثم طبعت بعض هذه الرسائل مجموعة، بعد أن خصص جامع الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث من المجموعة، لهذه الرسائل الواردة في المخطوطة التي بين أيدينا. وتشتمل الطبعة كلها على خمسة أجزاء، طُبعت طبعة واحدة، وصوِّرت تلك الطبعة مرتين، وإليك فيما يلي وصف النسخة المطبوعة..
ثانياً: وصف النسخة المطبوعة.
الطبعة الأولى:
- طابعها: طبعت هذه الرسائل للمرة الأولى، بمطبعة المنار، بجمهورية مصر العربية، على نفقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، رحمه الله، وقد جعل الكتاب وقفاً لله تعالى(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر بعض رسائله في الدرر السنية: 1/183-256؛* 3/322-353؛* 4/37-54، 60-69، 76، 88، 91، 100، 102، 115، 158، 170، 186، 197-198، 201-202، 227-228، 230، 310، 316، 328؛* 5/258؛* 8/117-156، 241-248؛* 9/66-88؛* 10/26-27، 93-95.
(2) انظر: الهدية السنية الرسالة رقم (4)، ص99-114. وهي رسالة عن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(3) انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 1/408-425. ويشمل على (13) رسالة وفتاوى، و 14/452، ويشتمل على (11) رسالة وفتاوى.
(4) انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 1/12 من مقدمة الطبعة الثانية.(1/163)
ص -141- ... - سنة الطباعة 1349هـ، كما هو على غلاف الطبعة الثالثة. وفي مشاهير علماء نجد وغيرهم ص105، 112، ذكر أن الطبعة الأولى كانت في سنة 1346هـ.
- عدد صفحاتها: عدد صفحات الجزء الثالث الخاص برسائل الشيخ عبد اللطيف (455) صفحة.
النشرة الثانية: (مصورة من الطبعة الأولى).
- الناشر: وقد أعيد طباعة هذا الكتاب، للمرة الثانية، وقام بنشره مكتبة الإمام الشافعي، بالرياض، المملكة العربية السعودية. وهو تصوير عن الطبعة الأولى، على نفقة المحسن الكبير الشيخ على بن فهد بن هزّاع. قال الشيخ عبد السلام بن برجس في مقدمة الطبعة الثانية: "ليعلم بأن هذه الطبعة مصورة عن الطبعة الأولى، التي علق عليها وأشرف على طباعتها، الشيخ العالم العلامة المحقق محمد رشيد رضا، رحمه الله. وقد صوّبنا الأخطاء المطبعية المرفقة في أول كل مجلد من الطبعة الأولى، ووضعنا فهرساً تحليلياً للمسائل الموجودة في الرسائل الشخصية والاستفتاءات، مرتباً على الكتب والأبواب، قام به بعض طلبة العلم، وفقهم الله تعالى"(1).
- سنة النشر: 1408هـ.
- عدد صفحاتها: 455 صفحة.
النشرة الثالثة: (مصورة من الطبعة الأولى).
الناشر: دار العاصمة، الرياض، بالمملكة العربية السعودية. وقد صدر الإذن بإعادة طباعة هذا الكتاب، من الرئاسة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد، بالمملكة السعودية، برقم 621/5، وتاريخ 4/6/1409هـ.
سنة النشر: 1412هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع السابق، نفس الصفحة.(1/164)
ص -142- ... - عدد صفحاتها: 455 صفحة.
- الملاحظات عليها(1):
تتمثل معظم الملاحظات في النسخة المطبوعة، في (الزيادة والإسقاط والتبديل) في العديد من الكلمات. فلا أدري أكذلك كانت هذه النسخة التي اعتمد عليها الناسخ لهذا المطبوع، أم أن ذلك كان تصرفاً من الناسخ، في محاولته تقريب الألفاظ لفهم القراء؟! وعلى كل حال، يمكن الإشارة إلى ما فيها من ملاحظات، على النحو التالي:
أ: زيادة كلمات أو حروف؛ مثل:
- في 3/30: (فقال شيخ الإسلام) بزيادة فاء في الأول.
- في 3/53: (في تفسيرها وتأويلها) بزيادة كلمة: تفسيرها.
ب: إسقاط بعض الكلمات؛ مثل:
- في 3/37: (أشرت فيه) بدلاً من (أشرت لك فيه) بإسقاط (لك).
- في 3/40: (الذي أظهر الفتوى) بدلاً من: (الذي أظهر هذه الفتوى).
- في 3/47: (بحقيقة الإسلام وقواعده) بدل: (حقيقة الإسلام وقواعده الكبار).
جـ: التبديل بين الكلمات، مثل:
- في 3/26: (فمن عرف غول هذا الكلام) بدلاً من: غور.
- في 3/53: (ببلد الشرك) بدلاً من: بدار الشرك.
- في 3/48: (ومحو أساسه) بدلاً من (ومحو آثاره).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اكتفيت بإيراد الملاحظات حول النشرة الأخيرة (الثالثة)، لكونها التي تعاملت معها مباشرة، وعليها أجريت المقابلة مع النسخ المخطوطة. والأمر الآخر: أن جميع الملاحظات الواردة على هذه النشرة تنطبق على بقية النشرات؛ وذلك لكونها جميعاً مصورة من الطبعة الأولى الوحيد التي علق عليها الشيخ محمد رشيد رضا.(1/165)
ص -143- ... يوجد في آخر الكتاب رسالة زائدة، أرسلها في الرد على عبد اللطيف الصحاف. قال جامع الرسائل في الهامش: "جاءتنا هذه الرسالة منفردة، فألحقناها بالمجموع، وجعلناها خاتمة له". وهي من ص430-452، وقد تناولتها وألحقتها بالرسائل المحققة.
وقد طبعت هذه الرسائل أيضاً في مطبعة أم القرى، بمكة المكرمة، تحت اسم (الرسائل المفيدة)، على نفقه الشيخ أحمد بن إبراهيم بن مقيّل -رحمه الله- وجعلها وقفاً لوجه الله(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم أجد على النسخة التي اطلعت عليها، إشارة إلى سنة الطبع، وقد قدم له الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد. ولعل هذه النسخة هي التي أشار إليها الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه: علماء الدعوة، ص50، واعتبرها طبعة ثانية.(1/166)
ص -147- ... المبحث الأول منهج المؤلف في الكتاب
نظراً لعدم كون هذه الرسائل، من جمع المؤلف نفسه في كتاب مستقل، بل من أحد تلاميذه؛ فإن الكتاب لا يوجد فيه ما يصرِّح بمنهج مؤلفه، الذي سار عليه. لكننا بعد قراءة الكتاب، نستطيع استنتاج منهج المؤلف على النحو التالي:
أولاً:
يعتمد الشيخ في كتاباته على مادة مأخوذة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال سلف الأمة من الصحاب والتابعين ومن تبعهم من أئمة الدين، عليهم رحمة الله.
ثانياً:
أسلوب الشيخ في الرسائل يمتاز بالاحترام لمن يرسل إليه، والتأدب الشديد معه في الألفاظ، حتى وإن كان من تلاميذه، أو من بعض خصومه الذين يخالفونه الرأي. وهذه شيمه العلماء الأجلاء.
ثالثاً:
مخاطبة الخواطر، ومراعاة أقدار الناس الذين يراسلهم؛ فنجده في جوابه الذي ردّ به على الجهمي الذي كابر وتعالى، وأظهر معرفته بما تحدى بها الشيخ من الأسئلة(1)، نجد الشيخ -رحمه الله- قد نقل كلام السائل بحروفه على ما فيه من التحريف واللحن اللغوي؛ ليعتبر الناظر، ويعلم قدر السائل، ثم أخذ يصحح عبارات السائل، مع إبطال أسئلته بالأجوبة الدامغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الرسالة رقم (41).(1/167)
ص -148- ... رابعاً:
في الاستدلال على المسائل، يسرد أدلة من الكتاب، ومن السنة النبوية المطهرة، ثم يذكر أقوال السلف الصالح، وأئمة الدين. ويذكر أحياناً محل الشاهد من الآية أو الحديث(1)، وقليل من الأحاديث يستدل بمعانيها.
خامساً:
الاعتناء بسلامة اللغة، وذلك يعود إلى ما كان عليه من درجة علمية عالية؛ فهو عالم عصره، وشيخ مشايخ زمنه، فنجده في الرسالة الحادية والأربعين (41)، يعتني بتوضيح مسائل وألفاظ لغوية، وبلاغية.
سادساً:
اعتنى بيان عقيدة السلف الصالح، فنجده في الرسالة السبعين (70) قد نقل عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وبين ما دعا إليه الشيخ من أركان الإسلام وشعب الإيمان، وترك جميع أنواع الشرك والابتداع.
سابعاً:
أفرد باب الأسماء والصفات برسالة خاصة، وهي (63) بين فيها ما يجب الإيمان به واعتقاده في هذا الباب.
ثامناً:
أن فتاواه تسير على طريقة السلف الصالح، من حيث الاعتدال والتوسط في المسائل، بعيداً عن التشدد في الفتوى، من غير مجانبة الحق. ومن اطلع على موقفه في مسألة التكفير، في الرسالة رقم (1)، علم قدره، ومدى موافقته لمذهب السلف الصالح في ذلك. وهكذا في بقية المسائل.
ذلك بعض النقاط المستنبطة، مما كان عليه منهجه في رسائله، رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد كثر في الرسالة (19)، عند سرده لآيات الصفات.(1/168)
ص -149- ... المبحث الثاني مصادره
تشمل المصادر التي اعتمد عليها الشيخ في كتابة رسائله، الأمور التالية:
1- القرآن الكريم:
فقد كان يستدل بآيات من كتاب الله، في أجوبته على المسائل التي كانت ترده، وكذلك في فتاويه، ونصائحه.
2- الأحاديث النبوية الشريفة:
كان -رحمه الله- يستمد أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في استدلالاته على المسائل، من كتب السنة المعتمدة، وبتتبع الأحاديث التي استعملها، نجدها مأخوذة من الصحيحين، ومن كتب السنن؛ كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرها.
3- مؤلفات أئمة السلف الصالح:
فقد اعتمد على كثير من كتب علماء السلف، وأئمة الدعوة؛ من ذلك ما يلي:
كتب التفسير: وهي ما اعتمد عليها في تفسير الآيات من كتاب الله، التي كان يستدل بها؛ ومن تلك التفاسير:
1- تفسير أبي السعود، [328].
2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري (ت 310هـ)، [191].
3- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (ت 774هـ).
- كتب أخرى:
4- فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ).(1/169)
ص -150- ... 5- الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ)، [ص 218].
6- منهاج السنة النبوية، لابن تيمية [271].
7- كتاب الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [221].
8- بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة (وهو السبعينية)، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [398].
9- الرسالة السنية، لتقي الدين أحمد بن عبد الحليم، [707-708].
10- الحوادث والبدع للطرطوشي (ت 205هـ)، [664].
11- نونية ابن القيم (الكافية الشافية)، لابن قيم الجوزية (751هـ)، [178].
12- مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية (751هـ)، [193].
13- زاد المعاد في هدي خير العباد، [247].
14- الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيتمي (ت 974هـ)، [175].
15- الإعلام بقواطع الإسلام، لأحمد بن محمد بن حجر الهيتمي، [175].
16- سير أعلام النبلاء للذهبي (ت 748هـ)، [399].
17- تبيين المحارم المذكورة في القرآن، للشيخ سنان الدين يوسف الأماسي الحنفي، [721].
18- كشف الكربة في فضل الغربة.
19- نيل الأوطار منتقى الأخبار، للشوكاني، [242].
20- كتاب الاستغاثة أو الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، [605-624].
21- بدائع الفوائد، لابن القيم، [329].
22- الإقناع [720]. وغير ذلك من الكتب التي كانت معتمدة في رسائله.(1/170)
ص -151- ... المبحث الثالث قيمة الكتاب
يعد هذا الكتاب المؤلف من مجموعة رسائل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ضمن أفضل كتب في باب العقيدة، ويحتل مكانة متقدمة بين كتب علماء الدعوة؛ وذلك للأمور الآتية:
أولاً: أن هذا الكتاب حافل بدرر المسائل وغرر الفوائد؛ فرسائله؛ محتوية على مسائل عقدية، وتعالج قضاياها، بأحسن أسلوب، وأدق استدلال؛ فما تحتويه من مواضيع العقيدة قلما تجده على هذا النسق في غيره من الكتب المصنفة في هذا الباب(1).
ثانياً: هذه الرسائل تزيل كثيراً من الشبهات التي يلفقها أعداء الدعوة السلفية، والملة المحمدية، ويحاولون بها الصد عن سبيل الله.
ثالثاً: أنه قد كان لهذه الرسائل دور كبير في عصر المؤلف؛ حيث إنه استخدمها كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، كما يظهر ذلك جلياً في مضمونها. ويُعد هذا المنهج الدعوي امتداداً لمنهج أبيه وجده قبله؛ فقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يراسل أهل عصره معلماً وموضحاً لهم ما يحتاجون إليه من مسائل الدين، كما كان لوالد المؤلف رسائل من هذا القبيل، طبعت تحت عنوان "المراسلات" التي قال جامعها في مقدمتها: "ففي تلك الفترة أخذت المراسلات مأخذها لتجديد النصح والمشاورات والإجابة على الاستفتاءات، وهذه المراسلات امتداد لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي كتب الرسائل يدعو فيها الملوك إلى الدخول في دين الله".
كان لهذه الرسائل أيضاً دورها في تثبيت دعائم الحكم لآل سعود، الذين تعاهدوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ما وصفها بها جامعها الشيخ سليمان بن سحمان، في مقدمته عليها، ص155.(1/171)
ص -152- ... على مناصرة هذه الدعوة وتعاقبوا على ذلك.
رابعاً: أن مؤلفه -رحمه الله- من قلائل علماء أهل السنة والجماعة، أئمة الدعوة النجدية, الذين حازوا ثقة العلماء قبل التلاميذ، وشهد لهم التاريخ بالجهد والجهاد، من أجل إعادة الدعوة السلفية الصحيحة إلى مجراها الطبيعي، وإقامتها في هذا البلد العزيز، الذي منه انطلقت من جديد، تجاه دول العالم المتفرقة. فمن الطبيعي أن يكون كتابه ذا أهمية كبرى، وقيمة رفيعة، في المجتمعات المسلمة.
إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على قيمة هذا الكتاب.
وبهذا ينتهي القسم الأول (الدراسي)، ويليه القسم الثاني المشتمل على تحقيق النص. نسأل الله أن يوفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأن يفعنا بما علمنا ويزيدنا علماً.(1/172)
ص -155- ... بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة جامع الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين،/(1) وعليه نتوكل ونعتمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله /.
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فإن هذه الرسائل الساطعة المفيدة، والأجوبة القاطعة السديدة، قد اشتملت على أصول أصيلة، ومباحث جليلة، لا تكاد تجدها في كثير من الكتب المصنفة، والدواوين المشهورة المؤلفة، إذا سرح العالم النحرير إنسان نظره، في غوامض معانيها، وأسام(2) ثاقب فكره في مطاوح(3) مروجها ومبانيها، وورد من نمير(4) معينها الصافي البحور الزاخرة، وارتوى من سلسال لطائف تلك المعارف والعلوم الفاخرة، علم أن هذا الإمام قد حاز قصب السبق في الفروع والأصول(5), واحتوى منها على ما سمق(6) وسبق به الأئمة الفحول، وأنه قد أمّ إلى هام العلى فعلا ذُراها، وسما من العلوم النبوية إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من هنا اختلاف في النسخ، ففي ( أ ) زيادة هنا: (على أمور الدنيا والدين، إنه هو المعين)، وفي (جـ): (وبه الثقة وعليه التكلان)، والمثبت من (د).
(2) أسام: أي أرعاها، يقال: سامت السائمة، وأسمتها، إذا خليتها ترعى.
انظر: لسان العرب 12/311 مادة (سوم).
(3) أصله من "طاح" إذا تاح في الأرض، وطوحه: أي توحه، وذهب به هاهنا وهاهنا، وطوح في البلاد: إذا رمى بنفسه ها هنا وها هنا، "والمطاوح": المقاذف.
انظر: الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط/2، 1399هـ-1979م، 1/389. ولسان العرب، 2/535-536 مادة (طوح).
(4) النمير: الكثير الناجع ، فماء النمير: الكثير والناجع في الري.
انظر: لسان العرب 5/236 مادة (نمر). والمعنى: أي ورد معيناً كثير الماء ناجعاً.
(5) أي في عصره.
(6) سمق: أي طال، يقال سمق النبات، إذا طال. لسان العرب 10/263، مادة (سمق).(1/173)
ص -156- ... علالي معالمها وعلاها، فرحمة الله عليه من إمام بلتع(1)، وفاضل فصيح مصقع(2)؛ فقد تبحر في جميع فنون العلوم، وبلغ شأو (3) المتنبي(4) في رصانة المنثور والمنظوم. وهذه رسائله تطلعك على ما هنالك، وثواقب
علومه يهتدي بها السائر عن سلوك معاطب المهالك(5).
فيا من هو العالي على كل خلقه ... وسوى السماوات العلى وبناها
وكان لها -سبحانه جل- ممسكاً ... بغير عماد في الوجود تراها
وزين أدناها بشهب ثواقب ... مصابيح في ديجورها(6) ودجاها(7)
وأطدّ بالأطواد (8) أرضاً بسيطة ... وأحكمها -سبحانه- ودحاها
بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... أذقه من الفردوس طيب جناها
وأول الرضا هذا الإمام الذي له ... مآثر يزهو في الأنام سناها
وبوئه في الفردوس والخلد منزلاً ... وألبسه من أثوابها وحُلاها
فقد قام في نصر الشريعة جاهداً ... ولم يأل جهداً(9) في ارتفاع ذراها
ورد على من ندّ من كل ملحد ... عن السنة الغرا ورام خفاها
وقد شُيِّدت أركان سنة أحمد ... رسائله اللاتي أضاء ضياها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بلتع: تقدم ذكر معناه في ص73.
(2) مصقع: تقدم ذكر معناه في ص73.
(3) في جميع النسخ (شاوي)، ومعنى الشأو: الغاية والأمد. لسان العرب، 14/417. مادة (شأو) يريد أن الشيخ قد بلغ غاية المتنبي في نظم الشعر.
(4) هو ذلك الشاعر المشهور: أحمد بن حسين بن حسن أبو الطيب الكوفي (ت 354هـ).
انظر: سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748هـ)، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت,لبنان. ط7، 1410هـ-1990م، 16/199.
(5) هذه المقدمة ذكرها الشيخ إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223.
(6) الديجور: الظلمة. لسان العرب، 4/278، مادة (دجر).
(7) الدجى: سواد الليل مع غيم. لسان العرب، 14/249، مادة (دجا).
(8) جمع الطود, وهو الجبل العظيم. لسان العرب، 3/270. مادة (طود).
(9) في (د) جهد.(1/174)
ص -157- ... فأشرف منها الحق للخلق ناصعاً ... وأعشى عيون الملحدين سناها
وأجدر وأجوبة/ تسمو(1)/ وتسمق بالهدى ... لأسئلة قد أشكلت فجلاها
يضئ لأهل الحق منها نواشر ... يفوح عبير المسك طيب شذاها
إذا أرسل النحرير ثاقب فكره ... يفيح معانيها وشأو ذُراها
أقرّ له بالفضل والعلم والحجا ... وإن قد تسامى للعلى فعلاها(2)
وهذا نص الموجود من الرسالة(3):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في جميع النسخ (تسموا)، وفي المطبوع المثبت.
(2) القصيدة لجامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان، وقد وردت في الدرر السنية، 12/72, وأوردها أيضا الشيخ إبراهيم بن عبيد في تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/223
(3) كلام جامع الرسائل هنا يوهم أن الرسالة ناقصة، وأنه هنا يذكر الجزء الموجود منها، لكن الرسالة كاملة.
أولاً: الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع
الرسالة الأولى(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى عبد العزيز الخطيب (2)، سلام على عباد الله الصالحين، وبعد:
فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها، وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت الإنكار على من يكفر المسلمين في قولك: إن ما أنكره شيخنا الوالد(3) من تكفيركم أهل الحق(4) واعتقاد إصابتكم، إنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وردت هذه الرسالة في الدرر السنية، 1/232-242.
(2) لم أقف له على ترجمة فيما اطلعت.
(3) يريد والده عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب.
(4) تعليق حول مسألة التكفير:
تعد مسألة التكفير من المسائل ذات الخطورة البالغة في أمتنا الإسلامية. فقد عمدت بعض(1/175)
ص -158- ... ....................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرق -قديماً وحديثاً- إلى تكفير مخالفيهم من الفرق الأخرى التي تخالفهم الرأي كما كان شأن الخوارج مع الصحابة؛ إذ كفروهم تبعاً لمذهبهم في تكفير مرتكب الذنب، وقد تبعهم المعتزلة في ذلك؛ فأخرجوا مرتكب الكبيرة من الإسلام، وإن لم يحكموا عليه بالكفر، بل ساووا بينه وبين الكافر في الخلود في النار، وكذلك غلاة الشيعة، كفروا الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ثلاثة منهم فقط: المقداد بن الأسود، وأبا ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
(الشيعة وأهل البيت، للأستاذ إحسان إلهي ظهير، مطبعة جاويد رياض، باكستان، ط/7، 1404هـ/1984م، نشر إدارة ترجمان السنة، لاهور، ص45-46).
ويكون التكفير أحياناً على شكل أفراد، يكفر بعضهم بعضاً.
وهذا داء عضال, امتد عبر الأجيال إلى وقتنا الحاضر، الذي نشاهد فيه كثرة التهاون بأمره، والتهور في إطلاقه. فلم يعد من العجب أن نجد جماعتين تدعي كل منهما القيام بالدعوة إلى الله، بينما ترمي بالكفر, الجماعة الأخرى، المخالفة لها في المبادئ، أو أسلوب عمل، أو لمجرد مصالح شخصية محضة. وهذا منتشر في بلاد العالم الإسلامي.
ويجدر بي أن أتناول هنا بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع الهام، باختصار على النحو الآتي:
أولاً: بيان أنواع الكفر:
إن مذهب أهل السنة في التكفير عموماً مبني على أصلين هما :
الأصل الأول: أن تدل نصوص الكتاب والسنة على أن القول أو الفعل الصادر من المحكوم عليه موجب للكفر.
فعلى هذا الأصل نجد العلماء يقسمون الكفر إلى قسمين: أحدهما :كفر اعتقادي، وثانيهما: كفر غير اعتقادي، وعليه يكون التكفير تابعاً لهذين القسمين اعتقادي، وغير اعتقادي.(1/176)
القسم الأول: الكفر الاعتقادي: ويعلم بـ (الكفر الأكبر)، وهذا النوع يتبعه التكفير الاعتقادي، وهو الحكم بالكفر على من اعتقده بقلبه، أو أظهر أمراً يبعد عند الناس أن يطلق على فاعله أو قائله أنه مسلم. وهو ضربان:
الضرب الأول: أن يصرح المرء بما يعتقده من الكفر، ويدلل على ذلك بما يظهره من أعمال الكفر. فهذا كافر كفراً اعتقادياً عند الله وعند الناس.
الضرب الثاني: أن يعتقد الكفر بقلبه، ولا يصرح به، لكنه يظهر أعمالاً تدل عليه، مع عدم وجود موانع شرعية تصرف عنه الحكم بالكفر الاعتقادي. فهذا أيضاً كافر عند الله، أما عند الناس فنسبة الكفر إليه، تكون باعتبار أن عمله ذلك، لا يصدر إلا ممن كان كافراً، معلوم الكفر. أما حقيقة ما في قلبه، فلا يعلمها إلا الله، أو من أخبره الله بالوحي، من أنبيائه ورسله.(1/177)
ص -159- ... ....................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القسم الثاني: الكفر غير الاعتقادي: ويتبع هذا النوع الكفر غير الاعتقادي، الذي يطلق عليه بعض العلماء أنه: كفر النعمة، أو كفر دون كفر، أو الكفر الأصغر، أي الذي لا يخرج صاحبه عن الملة، وهو: الحكم بالكفر على من أظهر عملاً أو قولاً مكفراً، دون اعتقاده، مع وجود موانع شرعية تصرفه عن الكفر الاعتقادي.
وهذا القسم ينقسم إلى نوعين:
أولهما: التكفير العملي: وهو الحكم بالكفر على من ظهرت منه أعمال كفرية، مع وجود موانع شرعية تصرفه عن الكفر الاعتقادي.
ثانيهما: التكفير القولي: وهو الحكم بالكفر على من تلفظ بأقوال كفرية، مع وجود الموانع الشرعية التي تصرفه عن الكفر الاعتقادي. انظر هذا التقسيم في:
- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728 هـ)، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 11/137-138. والمنهاج في شعب الإيمان، لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي (ت 403هـ)، تحقيق: حلمي محمد فودة، دار الفكرة، ط/1، 1399هـ 199..
- كتاب الصلاة وحكم تاركها، للإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ)، ضبط وتخريج محمد نظام الدين الفتيح، مكتبة دار التراث للنشر والتوزيع، المدينة المنورة ط/2، 1412هـ/1992م. ص51-53.
أما الأصل الثاني (المتعلق بتكفير المعين) وهو أن ينطبق هذا الحكم على القائل أو الفاعل المعين، بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي موانعه.
وعليه، فلا يحكم على أحد من أهل القبلة بالكفر حتى يتوفر فيه شروط التكفير وتنتفي موانعه، وتلك الشروط هي:
1. أن يظهر الكفر بقول أو فعل وإن كان مدعياً الإسلام.
2. أن تبلغه الحجة الموجبة لبيان الحق وزوال الشبهة.
3. أن تكون الحجة ثابتة لديه إن كان من أهل النظر.
4. أن يكون بالغاً، عاقلاً، يفهم.(1/178)
5. أن لا يكون معذوراً بقرب العهد بالإسلام.
6. أن لا يكون مكرهاً على الكفر.
7. أن لا يكون جاهلاً بأن ينشأ ببادية بعيدة عن العلم.
أما موانع التكفير فهي على عكس تلك الشروط السابقة:
1- إخفاؤه لكفره. 2- عدم بلوغ الحجة. 3- الجهل. 4- الإكراه (الملجئ) على الكفر.(1/179)
ص -160- ... ................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5. أو لم ير تلك الحجة بالتأويل أو عدم الثبوت عنده. 6- التقليد، حيث إنه يترجح القول بجواز التقليد في العقائد للعامي الذي لا يستطيع النظر والاستدلال.
7- أن يكون صغيراً أو مجنوناً.
انظر تفاصيل هذه الموانع: كتاب: نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف, للدكتور محمد بن عبد الله بن علي الوهيبى. دار المسلم للنشر والتوزيع الرياض، ط/1، 1416هـ/1996، ج1، 225-309؛ 25-49. وكتاب ضوابط التكفير مستقاة من المصادر السلفية، جمع وتأليف: حسن بن علي بن حسين العواجي، نشر دار البخاري، المدينة المنورة، ط/1، 1415هـ، ص34- 35، 36.
ثانياً: التحذير من تكفير المسلم:
بعد ما علمنا من أقسام التكفير، يجب أن نعلم أن الإسلام قد حذر منها، ونهى عن إطلاقه على المسلمين؛ فامتنع عنه السلف الصالح أهل السنة، إلا فيمن تحقق فيه الشروط كما تقدم، أما من لم يتوفر فيه الأصلان، فالإسلام يحذر من تكفيره.
وقد ورد في ذلك نصوص عدة، من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نذكر منها ما يلي: أ- ما ورد من ذلك في كتاب الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94]. في الآية يأمر الله سبحانه وتعالى بالتثبت والتأكد قبل إطلاق نفي الإيمان عن أحد.
قال القاسمي: "في الآية دليل على فساد قول المعتزلة، لأنه نهاهم أن يقولوا لمن قال: إني مسلم: لست مؤمناً؛ وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن" تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، لمحمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي، ط/1، 1377هـ/1957م، 5/1480.(1/180)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. وفي هذه الآية، يأمر سبحانه وتعالى بالتبين في الحكم على الناس.
ب- أما ما ورد من السنة في التحذير من التكفير، فمنها:
- ما أخرجه مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كفر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما" وفي رواية أخرى: "أيما رجل قال لأخيه ياكافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه"صحيح مسلم بشرح النووي (ت 676هـ)، ط/1، 1407هـ، دار القلم، بيروت، تحقيق لجنة من العلماء، نشر مكتبة المعارف بالرياض، 2/408-411. الإيمان،
باب إيمان من قال لأخيه يا كافر. صحيح البخاري، لأبي عبد الله(1/181)
ص -161- ... ...............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256هـ)، تحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي، دار القلم، بيروت، ط/1، 1407هـ، 1987م، 8/353، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال. سنن أبي داود، 5/64، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. سنن الترمذي، 5/23، كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر.
- وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك)). صحيح البخاري 8/336، الأدب، باب ما ينهى عنه من السباب واللعن.
- وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((... ومن دعا رجلاً بالكفر، أو قال عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه)). صحيح مسلم بشرح النووي، 2/412، الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. ومعنى ((حار عليه)) أي رجع عليه ما نَسَب إليه. النهاية في غريب الحديث والأثر، لأبي السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606هـ)، تحقيق محمود محمد الطناحي، نشر المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، 1/458.
- وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((... لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر، فهو كقتله)). صحيح البخاري 8/354، الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كقاتله.، سنن الترمذي 5/23، الإيمان، باب ما جاء فيمن رمى أخاه بكفر، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
والآثار الواردة في التحذير من ترامي المسلمين بعضهم بعضاً بالكفر كثيرة، اكتفينا بما تقدم، وكلها تحذر من إطلاق التكفير لأحد من المسلمين، ما لم يظهر دليلاً قاطعاً على كفر.
ثالثاً: منهج السلف في الحكم بالكفر:(1/182)
إن السلف -رحمهم الله- قد ساروا في هذه المسألة، على الطريقة النبوية، واسترشدوا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فهم لم يكونوا يقدمون على إطلاق لفظ الكفر على أحد من أهل القبلة، بمجرد ما يصدر منه من فجور أو فسوق أو معصية. وفي ذلك قال الطحاوي -رحمه الله- عند كلامه عن عقيدة السلف، تجاه القبلة: "ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا نفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى".
شرح العقيدة الطحاوية (أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي( للإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العز الدمشقي (ت 792هـ) تحقيق وتعليق وتخريج وتقديم د. عبد الله(1/183)
ص -162- ... ..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط/2، 1413هـ، 1993م، ص539. وانظر في ذلك أيضاً مجموع فتاوى ابن تيمية، 3/151.
فهم لا يحكمون بالكفر على أحد، حتى يثبت حكمه بالحجة والبرهان الواضح، فمتى رأوا منه كفراً بواحاً، فإنهم يحكمون عليه بالكفر مع الاحتياط والتحرز في اللفظ، لا يتعدون الإطلاق الذي أطلقه الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "التكفير والتفسيق هو إلى الله ورسوله، ليس لأحد في هذا حكم، وإنما على الناس إيجاب ما أوجبه الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وتصديق ما أخبر به ورسوله". مجموع الفتاوى، 5/554-555.
وقال -رحمه الله تعالى-: " (والكفر) هو من الأحكام الشرعية، وليس كل من خالف شيئاً علم بنظر العقل يكون كافراً، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقول، لم يحكم بكفره حتى يكون قوله كفراً في الشريعة" مجموع الفتاوى، 12/225.,
فمتى أظهر العبد قولاً أو فعلاً مكفراً، سموا قوله أو فعله كفراً، وقد يطلقون القول بتكفير صاحب هذا العمل غير المعين، فيقولون: من قال أو فعل أو ترك كذا، فهو كافر.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: في المجموع 35/165-166: "وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر قولاً، يطلق كما دل على ذلك الدلائل الشرعية؛ فإن (الإيمان) من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، وليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك، بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه ... وتقوم عليه الحجة بالرسالة، كما قال الله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].(1/184)
وقال -رحمه الله- في المجموع أيضاً 23/453: "إن القول قد يكون كفراً، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله، لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها". وانظر أيضاً المجموع، 7/619.
فكلام شيخ الإسلام هذا، يعطي مزيداً من الوضوح لمنهج السلف، في الحكم بالكفر، وإقامة الحجة على المرء، يكون إما بتعليمه -إن كان جاهلاً- أو بإزالة شبهته وإظهار الحق له بالدليل -إن كان من أهل النظر والاستدلال- وهكذا، فهو بعد ذلك إما أن يرجع، أو يستكبر ويصر على ما هو كفر من قول أو فعل، فهنا الحكم عليه بالارتداد، ويجرى عليه عقوبة الحد، ويلزمه أحكام المرتدين.
رابعاً: حكم من كفّر مسلماً:
علمنا فيما تقدم من الأحاديث، أن من رمى أخاه بالكفر، فإن أحدهما ييوء به، فإن كان(1/185)
ص -163- ... من أهل النقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالباً على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير، فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغي عن سبيل الرشاد والعمى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال، وإلا رجعت إليه. فهل يحكم بالكفر على من كفر أخاه المسلم، ولم يكن كذلك؟
إننا بالنظر إلى هذه الأحاديث، نجد أن للعلماء فيها تأويلات عدة؛ لذا قال النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم 2/409، عند شرحه لحديث: ((فقد باء به أحدهما)) قال: "هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات، من حيث إن ظاهره غير مرا، وذلك أن مذهب أهل الحق، أنه لا يكفر مسلم بالمعاصي، كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه كافر، من غير اعتقاد بطلان الإسلام".
وهنا أكتفي بذكر ما تبين من أقوالهم وهو:
ألاً: أن هذه الأحاديث وردت للزجر والتحذير للمسلم، من أن يقول ذلك لأخيه المسلم.
ثانياً: أنه لا يقطع بتكفير من أخطأ في التكفير متأولاً؛ كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب إنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-: ((وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر ... الحديث)) أخرجه البخاري في صحيحه، 8/354، كتاب الأدب. وعليه بوب فقال: بال من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً".
أما من كفر مسلماً بلا تأويل، فإن هذا يحكم عليه بالكفر، وعليه بوّب البخاري -رحمه الله- فقال: "باب من كفر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال". صحيح البخاري، 8/353، كتاب الأدب.
قال النووي -رحمه الله-: "ولو قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل، كفر، لأنه سمى الإسلام كفراً". روضة الطالبين وعمدة المتقين، للإمام النووي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط/2، 1405هـ، 10/65.(1/186)
وقال الحليمي في المنهاج، 3/109 -بعد ما أورد حديث: ((فقد باء به أحدهما)) – قال: "يحتمل أن يكون معنى ذلك، أنه إن وصف ما عليه أخوه المسلم بأنه كفر، فقد كفر نفسه، ولو لم يكن على أخيه شيء. وإن كان المقول ذلك يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فقد صدق عليه، وليس على قائله شيء".
وانظر الإعلام بقواطع الإسلام، مطبوع مع كتاب "الزواجر على اقتراف الكبائر" كلاهما لأحمد بن حجر المكي الهيتمي (ت 974هـ)، ط/2 الحلبي بمصر، 1390هـ - 1970م، 2/340-344. وأحكام المرتد في الشريعة الإسلامية، لنعمان عبد العزيز السمرائي، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص113.(1/187)
ص -164- ... وقد رأيت سنة أربع وستين ومائتين وألف(1)، رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء، قد اعتزلوا الجمعة والجماعة، وكفروا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم؛ يقولون: أهل الإحساء يجالسون بن فيروز(2) ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده(3)، الذي يرد دعوة الشيخ محمد(4)، ولم يقبلها وعاداها، قالوا: ومن لم يصرح بكفره، فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله. ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين، ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام(5)، حتى تركوا رد السلام. فرفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وتهددتهم، وأغلظت لهم القول، فزعموا أولاً أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، ودحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا حين بعثه إلى هناك الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله، في مهمة إصلاح أهل تلك المنطقة، كما تقدم في، ص77-103.
(2) لم أعرفه.(1/188)
(3) جده: هو محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الله بن فيروز الوهيبي، ثم التميمي، نسباً، النجدي أصلاً، الإحسائي مولداً، ومنشأ، ثم البصري وفاة ومدفناً، ولد في الإحساء سنة 1142هـ وكف بصره وهو ابن ثلاث، كان عالماً لكثير من الكتب، أنكر عليه معاداته الشديدة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومحاربته لدعوته برسائله وقصائده وأجوبته، حتى صار لهذه الدعوة من ألد الخصوم -ولهذا كان أصحاب ابن فيروز "الحفيد" يطالبونه بتكفير جده، كما جاء في المتن –نزح من الإحساء إلى العراق بعد أن قويت الدعوة السلفية، بمساندة آل سعود، فلما تيقن من أن الجيوش السعودية قد أوشكت أن تستولي على الإحساء -في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود- خاف منهم ورحل إلى البصرة، وفيها توفي عام (1216هـ). علماء نجد خلال ستة قرون، 3/882-886.
(4) ابن عبد الوهاب.
(5) أحكام الردة الصريحة:
أ. وجوب قتل المرتد اتفاقاً.
ب- زوال ملكه عن أمواله.
ج. بينونة زوجته منه.
د- لبا يرث ولا يورث. وغيرها. وتفاصيل في كتب الفروع.(1/189)
ص -165- ... والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر(1) كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة(2) يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيه حكمها، وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك. وقد أفرد ابن حجر(3) هذه المسألة بكتاب سماه "الإعلام بقواطع الإسلام"(4).
وقد أظهر الفارسيان المذكوران، التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين. نعوذ بالله من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر: أحكام المرتد لنعمان السمرائي، الصفحات: 211، 230،265، 282.
(1) وقد تقدم بيان ذلك عند ذكر منهج السلف في التكفير، ص161.
(2) المذاهب المقلدة المشهورة في الأمة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
(3) هو أحمد بن علي بن حجر الهيتمي، أبو العباس المكي، ولد بمصر سنة (909هـ)، وأخذ عن علماء الأزهر، من مؤلفاته، الفتاوى الحديثية، وشرح المشكاة، والإعلام بقواطع الإسلام، وغيرها (ت 974هـ).
انظر ترجمته: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي بن العماد الحنبلي (ت 1089هـ)، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت، 8/370. وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، لنعمان خير الدين بن الآلوسي البغدادي (1317هـ)، مطبعة المدني، 140هـ، ص40. الأعلام، لخير الدين الزركلي، ط/6، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، 1984م، 1/234.
(4) هذا الكتاب مُذيَّل لكتاب الزواجر، لابن حجر الهيتمي، وقد قسمه إلى ثلاثة فصول كالآتي:
أ- في الألفاظ التي هي كفر.
ب- فيما اختلف في التكفير به.
ج- فيما يخشى على فاعله أو قائله الكفر.(1/190)
ص -166- ... الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور(1)، وقد بلغنا عنكم / نحو(2)/ من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة(3)، والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايات، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات.
والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزقه الله الفهم عن الله، وأوتي الحكمة وفصل الخطاب.
والكلام في ذلك يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيرها لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها؛ فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة موانع الخطاب وتفاصيله، يحصل به شيء من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم السنة والقرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا مثل. ومعنى الحور: بفتح الحاء المهملة وإسكان الواو، فراء: النقصان والرجوع، والكور: بفتح الكاف، وإسكان الواو: الزيادة. فمعنى قوله: "والحور بعد الكور" أي: نعوذ بالله من الرجوع بعد الاستقامة، والنقصان بعد الزيادة.
انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/458. ولسان العرب 5/15-156. مادة (حور). وريحانه الألبّا، 2/338.
(2) في ( أ ) و (ج): نحوا.
(3) معنى (الموالاة والمعاداة) جاء في لسان العرب، 15/409 مادة (ولي): "قال ابن هوى فيواليه أو يحابيه، ووالى فلان فلاناً، إذا أحبه. والموالاة ضد المعاداة، والولي ضد العدو. لسان العربي، 1536.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد". الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد ا لقادر الأرنؤوط، نشر مكتبة البيان، دمشق، توزيع مكتبة المؤيد، الطائف، طبعة عام 1405هـ-1985م، ص9.(1/191)
ص -167- ... قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كافيته:
فعليك بالتفصيل والتبيين(1) ... فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا(2) هذا الوجود وخبطا(3) ... الأذهان والآراء كل زمان(4)
وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفِّرات أهل الإسلام، فهذا مذهب الحرورية(5) المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين، ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليه تحكيم أبي موسى الأشعري(6) وعمرو بن العاص، في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام(7)، فأنكرت الخوارج(8) عليه ذلك، وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا حكّمت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الكافية الشافية: (والتمييز) بدلاً من (والتبيين).
(2) في (د): أفسد.
(3) في (د): خبط.
(4) شرح القصيدة النونية، المسماة: الشافية الكافية للفرق الناجية، لابن قيم الجوزية، ، شرح د. محمد خليل هراس، دار الفاروق للطباعة والنشر، 1/123.
(5) الحرورية: قال ابن الأثير: طائفة من الخوارج، نسبوا إلى حروراء. وهو موضع قريب من الكوفة، كان أول مجتمعهم وتحكيمهم فيها. وهم إحدى فرق الخوارج الذي قاتلهم عليّ.
النهاية لابن الأثير، 1/366. وانظر: البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (ت 774هـ)، تحقيق د. أحمد أبو ملحم وجماعة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/5، 1409هـ-1989م، م7/ 289،291. ومعجم البلدان، 2/245، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، بدون تاريخ، 2/350.
(6) هو عبد الله بن قيس بن سليم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيه مقرئ، أسلم بمكة وهاجر إلى الحبشة، كان أحد الحكمين في الفتنة بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما- توفي سنة (44هـ) على الصحيح.
انظر: سير الأعلام، 2/380.
(7) وكانت الفتنة عام 37هـ عُلمت بوقعة صفين. انظر: البداية والنهاية، 7/264،268.(1/192)
(8) الخوارج: هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بسبب تحكيمه للرجلين (أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص) في الفتنة بينه وبين معاوية. قال أبو الحسن الأشعري: "والسبب الذي سموا له خوارج على عليّ بن أبي طالب". مقالات الإسلاميين، 1/207.(1/193)
ص -168- ... الرجال في دين الله(1)، وواليت معاوية وعمراً، وتوليتهما، وقد قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ}(2) وضربت المدة بينكم وبينهم، وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت(3) (براءة)(4). وطال بينهم النزاع والخصام حتى غاروا على سرح المسلمين، وقتلوا من ظفروا به من أصحاب عليّ(5)، فحينئذٍ شمر لقتالهم، وقتلهم(6) دون النهروان(7) بعد الإعذار والإنذار، ...........................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهم منقسمون إلى فرق متعددة، عددها المصنفون في الفرق؛ كالأشعري في المقالات 1/112-166؛ والبغدادي في الفرق بين الفرق، ص72-109؛ والشهرستاني في الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، (ت 479هـ)، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1/14-138.
ومن أهم آرائهم الاعتقادية:
* يجمعهم تكفيرهم علياً وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن صوبهما أو صوب أحدهما، أو رضي بالتحكيم. المقالات، 1/167. الفرق بين الفرق، ص74. الحجة في بيان المحجة، 2/479.
* تكفيرهم أهل الكبائر وتخليدهم في النار. وخالفهم النجدات منهم في القول بالخلود.
المقالات، 1/168-204.
(1) ولذلك سموا أيضاً محكمة. انظر: المقالات 1/207. والفرق بين الفرق، ص74. والملل والنحل، 1/115. والبداية والنهاية، 7/289.
(2) سورة الأنعام، الآية (57).
(3) في ( أ )، و (د): نزلت.
(4) وتسمى بسور التوبة. ولها العد من الأسماء. انظر: الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، 1408هـ-1988م، 8/ م،8/40. فتح القدير، الجامع بين فني الرواية الدراية من علم التفسير، لمحمد بن علي الشوكاني (1250هـ)، مكتبة الحلبي بمصر، ط/2، 1383هـ-1964م، 2/331.(1/194)
(5) وقد كان ضمن من قتلوهم: عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه، وهي حامل، فذبحوها. انظر: البداي والنهاية 7/298.
(6) انظر قصة قتال عليّ رضي الله عنه للخوارج في: البداية والنهاية، 7/299-300.
(7) النهروان: قال ياقوت: أكثر ما يجري على الألسنة بكسر النون، وهي ثلاثة نهراوات، الأعلى، والأوسط والأسفل، وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط، من الجانب الشرقي، حدها الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، منها: إسكاف، وجرجرايا، والصافية، وديرقني، وغير ذلك. وكان بها وقعة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مع الخوارج. معجم البلدان، 5/324-325.(1/195)
ص -169- ... والتمس المخدج(1) المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المخدج: هو ناقص الخلق، يقال أخدج الردل صلاته، فهو مخدح وهي مخدجة. والخداج. النقصان، وأصل ذلك من خداج الناقة، إذا ولدت وزلداً ناقص الخلق، أو لغير تمام.
ومخدج اليد: أي ناقص اليد. انظر: النهاية لابن الأثير، 2/13. ولسان العرب، 2/248، مادة (خدج).
(2) الحديث الذي ورد فيه التماس علي رضي الله عنه للمخدج: عن سلمة بن كهيل، حدثني زيد بن وهب الجهني، أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي رضي الله عنه، الذين ساروا إلى الخوارج، فقال عليّ رضي الله عنه ": أيها الناس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشي، ولا صيامكم إلى صيامكم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذي يصيبونهم، ما قُضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض. فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على سرح الناس، فسيروا على اسم الله)) قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال: "مررنا على قنطرة، فلما التقينا، وعلى الخوارج يومئذٍ عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهم: "ألقوا رماحكم وسلوا سيوفكم من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء". فرجعوا فوحشوا برماحهم، وسلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم". قال: "وقُتل بعضهم على بعض، وما أصيب من الناس يومئذٍ إلا رجلان. فقال علي رضي(1/196)
الله عنه": التمسوا فيهم المخدج"، فالتمسوه، فلم يجدوه. فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم بعضاً، قال: "أخروهم"، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر ثم قال: "صدق الله، وبلغ رسوله". قال: "فقام إليه عبيدة السليمان، فقال: "يا أمير المؤمنين، والله الذي لا إله إلا هو، لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "إي والله الذي لا إله إلا هو"، حتى استحلفه ثلاثاً، وهو يحلف. أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي، 7/177-178، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج، واللفظ له. وأبو داود في سننه، 1/32، المقدمة، باب ذكر الخوارج (مختصراً). والإمام أحمد في مسنده، طبعة مؤسسة قرطبة، بها فهرس رواه المسند، لمحمد ناصر الدين الألباني، 1/88، 140-141. من طرق آخر.
كلام علماء أهل السنة في الخوارج:
أولاً: في وجوب قتالهم:
يجمع العلماء على وجوب قتال الخوارج متى خرجوا على الإمام وخالفوا الجماعة. وقد نقل هذا الإجماع، الإمام النووي في شرح مسلم، 7/175، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 3/282.
ثانياً: في تكفيرهم:
ولهم في تكفيرهم قولان مشهوران، وهما روايتان عن الإمام أحمد -كما ذكره شيخ الإسلام في المجموع 28/500. وقد ذكر الإمام أحمد بن حجر في الفتح 12/313-315، أقوالهم وحجتهم في المسألة.
والتحقيق هو القول بعدم تكفيرهم؛ لما نقله شيخ الإسلام من إجماع الصحابة على عدم تكفيرهم، وأنه لم يكن في الصحاب من يكفرهم، لا علي ولا غيره من الصحابة، بل حكموا فيهم بحكم المسلمين الظالمين المعتدين. انظر مجموع الفتاوى 3/282، 5/247، 7/217.(1/197)
ص -170- ... فوجده علي، فسُرَّ بذلك وسجد شكراً لله على توفيقه، وقال: "لو يعلم الذين يقاتلون ماذا(1) لهم على لسان محمد، لنكلوا عن العمل، هذا، وهم/من/(2) أكثر الناس عبادة /و/(3) صلاة وصوماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من هنا "ماذا لهم ..." بداية نسخة (ب)، وما قبله ساقط.
(2) ساقط في (جـ)، و (د)، والمطبوع.
(3) الواو ساقط في جميع النسخ، مثبت في المطبوع.
فصل
ولفظ الظالم والمعصية، والفسوق والفجور، والموالاة والمعاداة، والركون والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق(1/198)
ص -171- ... وحقيقتها المطلقة، وقد يراد مطلق الحقيقة(1) والأول(2) هو الأصل عند الأصوليين والثاني (3) لا يحمل الكلام عليه، إلا بقرينة لفظية أو معنوية؛ وإنما يعرف معنى لفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور. ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية (4)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المسمى المطلق، والحقيقة المطلقة للفظ المعين، يراد به: العموم الشامل لجميع أفراد ذلك المسمى، أو تلك الحقيقة، بحيث لا يبقى فرد من أفراده إلا ويدخل فيه. ويكون ذلك العموم مطلقاً، أي غير مقيد بقيد يوجب تخصيصه.
فالمسمى المطلق للفظ الإيمان (الإيمان المطلق) مثلاً، يراد به جميع أنواع الإيمان وأفراده (صفاته)، بحيث لا يبقى صفة من صفاته إلا دخل فيه. وهو غير مقيد بقيد يوجب تخصيصه. أما مطلق الحقيقة للفظ الإيمان (مطلق الإيمان)، فهذا مجرد إشارة وبيان لحقيقة إحدى أوصاف الإيمان، وأنه مشارك في صفة الإيمان الذي يصدق على كل صفة من أوصافه.
وكذلك المسمى المطلق للفظ الظلم (الظلم المطلق) مثلاً، يراد به جميع أنواع الظلم وأفراده، بحيث لا يبقى نوع من أنواعه إلا دخل فيه. وهو غير مقيد بقيد يوجب تخصيصه، كما لو قيد بالنفس مثلاً، فيقال: (ظلم النفس).
وهكذا جميع الألفاظ التي أوردها المؤلف هنا، (الظلم والمعصية والفسوق ... إلخ).(1/199)
أما مطلق الحقيقة للفظ الظلم (مطلق الظلم)، فهذا مجرد إشارة وبيان لحقيقة أحد أنواع الظلم، وأنه مشارك في صفة الظلم الذي يصدق على كل فرد من أفراده. وإضافة لفظ (مطلق) إلى الظلم؛ لتمييزه عن بقية المطلقات، أي ليس مطلق أمر، ولا مطلق حيوان، ونحوهما.
(2) أي (المسمى المطلق، والحقيقة المطلقة). انظر: الفروق، لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي القرافي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1/127.
(3) أي (مطلق الحقيقة)، فالكلام لا يحمل عليه إلا بقرينته. فمعرفة الشيء بأنه فسوق مثلاً، يفتقر لقرينة لفظية، بأن يصرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) سورة إبراهيم: الآية (4).
(5) سورة النحل: الآيتان (43،44). في ( أ ) لم يذكر الآية (44) مع أن فيها محل الشاهد، وهو: البيان النبوي المشار إليه آنفاً، والذي من أجله سيقت هذه الآية والتي قبلها.(1/200)
ص -172- ... وكذلك اسم المؤمن والبر والتقي، يراد به عند الإطلاق والثناء(1)، غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي(2)، ألا ترى أن الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم, يدخلون في عموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}(3)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}(4)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}(5) . ولا يدخلون في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}(6)، وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}(7) وله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}(8).
وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق بالإيمان والبر، وفي الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن))(9)وقوله: ((لا يؤمن من لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراد بهذه الألفاظ (المؤمن، البر، التقي) عند الإطلاق، والثناء: المؤمنون الذين يقيمون الواجبات والطاعات، وينتهون عن المنهيات.
(2) ويراد بهذه الألفاظ في مقام الأمر والنهي: كل مؤمن نطق بالشهادتين.
(3) سورة المائدة: الآية (6).
(4) سورة الأحزاب: الآية (69).
(5) سورة المائدة: الآية (106).
(6) سورة الأنفال: الآية (2)
(7) سورة الحجرات: الآية (15).
(8) سورة الحديد: الآية (19). في الآيات الثلاث الأخيرة، خص الإيمان في الذين يجدون في قلوبهم وجلاً عند سماع ذكر الله، والذين لا يرتابون بعد إيمانهم؛ وعلى ذلك فهي لا تتناول المنافقين والمشركين والفساق؛ إذ هي في مجال مدح وثناء.(1/201)
(9) صحيح البخاري مع الفتح، 5/143، المظالم باب النهبى بغير إذن صاحبه، من حديث أبي هريرة. صحيح مسلم بشرح النووي، 12/401، الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي. سنن النسائي بشرح السيوطي، 8/313 الأشربة، باب ذكر الروايات المغلطات في شرب الخمر. سنن ابن ماجه، 2/365، الفتن، باب النهي عن النهبة.(1/202)
ص -173- ... يأمن جاره بوائقه))(1)(2).
لكن نفي الإيمان هنا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسوله(3)، وهذا هو الذي فهمه السلف وقرروه في باب الرد على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البوائق: جمع بائقة، وهي النازلة، والداهية، والشر الشديد و (بوائقه) أي غوائله وشروره, النهاية لابن الأثير، 1/162.
(2) الحديث بهذا اللفظ أورده ابن الأثير في النهاية، 1/162. وقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح، 10/457، الأدب باب، إثم من لا يأمن جاره بوائقه، عن أبي شريح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول لله، قالك الذي لا يأمن جاره بوائقه))..
وأخرجه مسل في صحيحه بشرح النووي، 2/377، الإيمان، باب تحريم الجار، بلفظ: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، وبهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد في مسنه، 2/373.
(3) قال النووي -رحمه الله- في شرحه لحديث ((لا يزني الزاني)): هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون، إن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، كما يقال: "لا عيش إلا عيش الآخرة". شرح صحيح مسلم للنووي، 2/401.(1/203)
يؤيد هذا التأويل حديث أبي ذر –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة))، قلت: وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق)) قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر)). رواه البخاري في صحيحه مع الفتح، 3/132، الجنائز، باب في الجنائز، ومن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله"؛ ومسلم في صحيحه بشرح النووي، 2/456، الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله سيئاً دخل الجنة، وفي كتاب الزكاة، 7/80، باب الترغيب في الصدقة؛ والترمذي في سننه، 5/27، الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. فيفهم من هذا الحديث عدم تكفير النبي صلى الله عليه وسلم لفاعل هذه الأمور، بل هو صريح، بل هو صريح بجواز دخول الجنة، فهو مسلم عصى ربه، وهذا ما أكده في حديث عبادة بن الصامت رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -وحوله عصابة من أصحابه-: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفى عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك)) صحيح البخاري مع الفتح 1/81، الإيمان باب (حدثنا أبو اليماني). صحيح مسلم بشرح النووي، 11/235، الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها. سنن الترمذي، 4/36، الحدود، باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها. سنن النسائي، 17/161-162، البيعة، باب ثواب من وفّى بما بايع عليه.(1/204)
وهذا الحديث صريح في أن مرتكب الكبيرة، لا يكفر، وإنما هو تحت مشيئة الله تعالى، إن مات على ذلك. وقد نقل الإمام النووي -رحمه الله- إجماع أهل الحق على أن الزاني، والسارق، والقاتل ، وغيرهم من أصحاب الكبائر -غير الشرك-، لا يكفرون، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا أسقطت عقوبتهم (في الآخرة)، وإن ماتوا مصرين على الكبائر، كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم، وأدخلهم الجنة أولاً، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة. شرح صحيح مسلم للنووي، 12/401-402.
قال ابن قتيبة -رحمه الله-: "وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن، من لم يأمن جاره بوائقه" يريد:" ليس بمستكمل الإيمان". تأويل الحديث، لأبي محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة (276هـ)، تصحيح محمد زهري النجار، دار الجيل، بيروت، لبنان، طبعة عام 1393هـ-1972م، ص171.(1/205)
ص -174- ... الخوارج(1)، والمرجئة(2)، ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا، فإنه مضلة الأفهام، ومزلة الأقدام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الذين يكفرون مرتكبي الكبير. وقد تقدمت ترجمتهم، وبيان مذهبهم في ص179.
(2) المرجئة: اسم مشتق من الإرجاء، وهو على معنيين: الأول التأخير، والثاني: إعطاء الرجاء. ويصدق إطلاق كلا المعنيين على المرجئة؛ فعلى الأول: لأنهم يؤخرون الأعمال عن الإيمان، أي أنها لا تدخل في مسمى الإيمان. وعلى الثاني: لأنهم يعطون رجاء الفوز والسعادة في الآخرة، لمن لم يعمل.
انظر: الملل والنحل، 1/139. ولسان العرب، 1/84.
فالمرجئة -كما يقول ابن في النهاية، 2/206-: هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة. وهؤلاء هم المرجئة الخالصة. وانظر: الملل والنحل، 1/139. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والفقهاء منهم؛ مثل حماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة، متفقون مع سائر أهل السنة على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم بالشفاعة. مجموع الفتاوى، 1/338. وقال في محل آخر: "وقالت المرجئة -مقتصدهم وغلاتهم كالجهمية- قد علمنا أن أهل الذنوب من أهل القبلة، لا يخلدون في النار، بل يخرجون منها كما تواترت بذلك الأحاديث". مجموع الفتاوى، 1/348.
وقال ابن منظور في اللسان، 1/84: "المرجئة: صنف من المسلمين، يقولون: الإيمان بلا عمل. كأنهم قدموا القول وأرجوا العمل، أي أخروه". لسان العرب، 1/84.
والمرجئة: فرق متعددة، ذكرها علماء الفرق في مصنفاتهم؛ كالأشعري في [المقالات، 1/213-223]، والبغدادي في [الفرق بين الفرق، ص202-205]، والشهرستاني في [الملل والنحل، 1/139-146].
وكل تلك الفرق التي ذكروها عائدة إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ إذ صنفهم إلى ثلاثة أصناف، فقال: والمرجئة ثلاثة أصناف:(1/206)
الأول: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخلها في الإيمان، كجهم ومن تبعه كالصالحي.
والثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يُعرف لأحد قبل الكرامية.
والثالث: تصديق القلب وقول اللسان. وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم. انتهى. مجموع الفتاوى، 7/195.
يعني بأهل الفقه والعبادة، الإمام أبا حنيفة وأصحابه، فهم يقولون بهذا القول، ويقولون: إن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزء من الإيمان، كما يتفقون مع بقية أهل السنة في أن مرتكب الكبير لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله.
انظر: شرح العقيدة الطحاوية، 313-314. ومجموع الفتاوى، 3/151.(1/207)
ص -175- ... أما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر، فقد يمنع منه مانع في حق المعين(1)؛ كحب الله ورسوله(2)، والجهاد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: مجموع الفتاوى، 23/345.
(2) ومثل ذلك: ما أخرجه البخاري من حديث زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، أن رجلاً كان عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً، فأمر به فجلد؛ فقال رجل من القوم: اللهم، ما أكثر ما يؤتى به فقال النبي صل الله عليه وسلم ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)). صحيح البخاري مع فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1408هـ، 12/77. شرح السنة، لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي (ت156هـ)، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1396هـ/1976م، 10/337.
فالحديث صريح في أن حب الله ورسوله، هو المانع من إلحاق اللعن لهذا الصحابي رضي الله عنه على الرغم من ثبوت اللعن لشارب الخمر، فيما أخرجه أبو داود، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)). سنن أبي داود، 4/82، الأشربة، باب العنب يعصر للخمر. سنن ابن ماجه، 2/255، الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه.(1/208)
ص -176- ... سبيله(1)، ورجحان الحسنات(2) ومغفرة الله ورحمته(3)، وشفاعة المؤمنين(4)، والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة(5). ولذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة، بجنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجهاد في سبيل الله، من الأمور التي تمنع إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر؛ إذ إن القتل فيه مكفر عن جميع الذنوب والخطايا إلا الدين. كما جاء ذلك في حديث أبي قتادة عن أبيه، أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قام فيهم، فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله، أفضل الأعمال. فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ((نعم إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ...)) الحديث . صحيح مسلم بشرح النووي، 13/32، الإمارة، باب (من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه).
وأخرجه مالك في الموطأ، بتصحيح فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي بمصر، 2/461، الجهاد، باب الشهداء في سبيل الله. سنن الترمذي، 4/184، الجهاد، باب فيمن يستشهد وعليه دين.
(2) إن المرء قد يرتكب بعض الكبائر، لكنه قد يترجح حسناته عل سيئاته عند الميزان، فيكون ذلك مانعاً للحوق الوعيد على تلك الكبائر. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة 6،7].
(3) مغفرة الله ورحمته، من الأمور المانعة لتحقيق الوعيد في حق المعين. وفي ذلك جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين، بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم ...)) الحديث صحيح مسلم بشرح النووي، 17/93، باب سعة رحمة الله. والأحاديث في مغفرة الله لعباده كثيرة.(1/209)
(4) وفيه جاء قوله صلى الله عليه وسلم ((ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه)). صحيح مسلم بشرح النووي، 7/22، الجنائز، باب من صلى الله علبيه أربعون، شفعوا فيه. سنن ابن ماجه، 1/274، الجنائز، باب (ما جاء فيمن صلى الله عليه جماعة من المسلمين).
(5) وفي ذلك أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها من العمل، ابتلاه الله -عز وجل- بالحزن ليكفرها عنه)) مسند الإمام أحمد 6/157. وأخرج مسلم في صحيحه، قوله صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته))، باب (ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض). وأخرجه البخاري في صحيحه، 7/218، كتاب المرضى والطب، باب (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأول فالأول). وأحمد في مسنده، 1/441.(1/210)
ص -177- ... ولا نار(1)، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة، فهم يفرقون بين العام والمطلق (2)، والخاص المقيد(3)، وكان عبد الله حماراً(4) يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى إلى رسول الله فقال النبي لا تلعنه؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، ص305-366. ومجموع الفتاوى، 23/345.
(2) اللفظ العام: هو المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحد. المحصول في علم أصول الفقه، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي، (ت606هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1408هـ-1988م، 1/353.
ووصف اللفظ العام هنا بالإطلاق، أي أنه غير مقيد موجب لتخصيصه، من صفة، أو استثناء، أو شرط، ونحوها. ومثال ذلك (الوعيد العام) الذي جاء في لعنه صلى الله عليه وسلم الخمر، وشاربها، وساقيها ... إلخ؛ فهو لعن عام غير مقيد بشيء يخصصه.
(3) الخاص: ما أخرج عن بعض ما تناوله الخطاب العام. المحصول، للرازي، 1/396.
ومثاله هذا الصحابي عبد الله، وكان ذلك التخصيص مقيداً بصفة هي حبه لله ورسوله. فالوعيد الخاص المعين ما تناول فرداً بعينه. كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
فمراد الشيخ هنا، أن الصحابة -رضوان الله عليهم- يفرقون بين الوعيد العام المطلق، والخاص المقيد.
(4) هو صحابي جليل، اسمه عبد الله، وحمار لقب له، صاحب المزاح الذي كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويضحكه.
انظر ترجمته: تجريد أسماء الصحابة، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ)، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان. 1/306.(1/211)
ص -178- ... فإنه يحب الله ورسول))(1)، مع أنه لعن الخمر، وشاربها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه(2). وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة (3)، وما فيها من الفوائد؛ فإنه هاجر إلى الله ورسوله، وجاهد في سبيله؛ لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله، إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بشأن رسول الله، ومسيره لجهادهم؛ ليتخذ بذلك يداً عندهم تحمي أهله وماله بمكة، فنزل الوحي بخبره.
موالاة الكفار المكفرة وما دونها وكان قد أعطي الكتاب/ ظعينة/ (4) فجعلته في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أورده بهذا اللفظ: عبد الرزاق (211هـ) في مصنفه، ط/1، 1392هـ-1972م، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، حديث رقم (13552) و (17082).
والهندي في كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين علي المتقي بن حسام الدين الهندي (975هـ)، نشر مكتبة التراث الإسلامي، حلب، حديث رقم (13749)، وعندها كان الشارب (ابن النعمان). وقد تقدم تخريج الحديث عند البخاري في ص186، بلفظ آخر.
(2) تقدم تخريج هذا الحديث في صفحة 75.
(3) صحابي معروف، اشتهر بقصته هذه التي أشار إليها المؤلف هنا.
انظر ترجمته: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، 1/312. أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير (630هـ)، الشعب، 1/431. الإصابة في تمييز الصحابة، لأحمد بن حجر العسقلاني (852هـ)، مكتبة الكليات الأزهرية، ط/، 1389هـ-1969، 2/192. تهذيب التهذيب، لأحمد بن محمد بن حجر العسقلاني (ت852هـ)، 2/168.
(4) في جميع النسخ (ضعينة) بالضاد، وهو خطأ، والصواب المثبت، بالظاء، ومعناه: المرأة. وأصل الظعينة الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، وقيل للمرأة ظعينة؛ لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن، وجمعها: ظعنٌ، وظعائن، وأظعان.(1/212)
وقيل إنها كانت امرأة من مزينة: انظر فتح الباري، 7/593. وقال ابن إسحاق: "زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم لي غيره، أنها سارة، مولاة لعبض بني المطلب".
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لمحمد بن إسحاق (ت151هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة، نشر مكتبة محمد علي صبيح، ط/1، 1383هـ/1963م، 4/858.(1/213)
ص -179- ... شعرها، فأرسل رسول الله علياً والزبير في طلب الظعينة (1)، وأخبرهما أنهما يجدانها في "روضة خاخ"(2) فكان ذلك؛ وتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها، فأتي به رسول الله، فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: (ما هذا) فقال: يا رسول الله، إني لم أكفر بعد إيماني، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أنه تكون لي عند القوم يداً، أحمي بها أهلي ومالي. فقال صدقكم، خلوا سبيله)، واستأذن عمر في قتله فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)(3).
وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}(4). فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه، وله خصوصية السبب الدالة على إرادته، مع أنه في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل. لكن قوله صلى الله عليه وسلم ((صدقكم, خلوا سبيله))(5) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك، إذا كان مؤمناً بالله ورسوله، غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل: ((خلوا سبيله)). ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم لعمر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في جميع النسخ (ضعينة).
(2) روضة خاخ: موضع بين الحرمين، بقرب حمراء الأسد من المدينة. معجم البلدان، 2/335.(1/214)
(3) أصل هذه القصة في الصحيحين؛ فهي في صحيح البخاري مع الفتح، 7/592، المغازي، 16/288-289، كتاب فضائل الصحابة، من فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" على الصحيحين لمحمد بن عبد الله الحاكم (ت 405هـ)، بذيله تلخيص المستدرك، للذهبي، دار الفكر، بيروت، 1389هـ، 1978م. 13/301-302. انظر القصة: البدايةوالنهاية، لابن كثير 4/284-284. والسيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وزميليه، نشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، 4/40-41 وسيرة النبي لابن إسحاق، 4/858.
(4) سور الممتحنة: الآية (1).
(5) تقدم تخريجه.(1/215)
ص -180- ... "ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"(1). هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من إلحاق الكفر وأحكامه، فإن الكفر يهدم ما قبله، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}(2)، وقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(3), والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع، (فلا يظن)(4) هذا.
وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (5) وقوله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (6) وقوله: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7)، فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة(8).
وأصل الموالاة هو الحب، والنصرة، والصدقة، ودون ذلك مراتب متعددة. ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه ص179.
(2) سور المائدة: الآية (5).
(3) سورة الأنعام: الآية (88).
(4) ما بين القوسين ساقط في (ب)، و (ج)، و (د).
(5) سورة المائدة: الآية (51).
(6) سورة المجادلة: الآية (22).
(7) سورة المائدة: الآية (57).(1/216)
(8) قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ومن يتول اليهود والنصارى، دون المؤمنين، فإنه منهم يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحداً إلا وهو به، وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه، ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه، وسخطه، وصار حكمه حكمه".
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، (ت 310هـ) دار الفكر، 1408هـ، 6/277.
وهذا النوع من الموالاة التي ذكرها الطبري، هو الموالاة المطلقة العامة، وهو ما لم يقترب إليه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، إذ إنه أراد مجرد اتخاذ يدٍ عندهم يحفظ ماله.(1/217)
ص -181- ... الصحابة والتابعين، معروف في هذا الباب وفي غيره. وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني، وألبست الأحكام، على خلوف من العجم والمولدين (1) الذين لا دراية لهم بهذا الشأن، ولا ممارسة بمعاني السنة والقرآن؛ ولهذا قال الحسن(2) -رحمه الله-: "من العجمة أتوا"(3). وقال أبو عمرو بن العلاء(4) لعمرو بن عبيد(5) لما ناظره في مسألة خلود أهل الكبائر في النار، واحتج ابن عبيد أن هنا وعداً، والله لا يخلف وعده(6)، يشير إلى ما في القرآن من الوعيد على بعض الكبائر والذنوب، بالنار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المولدون: جمع مولد، وهو العربي غير المحض، يقال: رجل مولد إذا كان عربياً غير محض. لسان العرب، 3/469، مادة (ولد).
(2) هو الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصري، مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ولد بالمدينة، من خيار التابعين (ت110هـ).
انظر ترجمته: الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار صادر بيروت، 7/156. وسير أعلام النبلاء، 4/563-588. وتذكرة الحفاظ، للذهبي (448هـ)، دار إحياء التراث العربي 1/71. وتهذيب التهذيب، 2/263.
(3) لم أجد مصدره فيما اطلعت عليه.
(4) في ( أ ) و (د): (عمرو بن العلاء)، وهو خطأ. وفي غيرهما: (أبو عمرو بن العلاء) وهو الصواب. وهو أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العربان التميمي البصري، شيخ القراء، اختلف في اسمه على أقوال أشهرها: زبّان، وقيل العربان. ولد نحو سن سبعين. وتوفي سنة 154هـ.
انظر ترجمته: سير الأعلام، 6/407. تهذيب التهذيب، 12/178.
(5) عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان البصري الزاهد القدري، كبير المعتزلة، جالس الحسن البصري، مات بطريق مكة سنة 143هـ.(1/218)
انظر ترجمته: تاريخ بغداد أو مدينة السلام، للحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 12/166. ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان (ت681هـ)، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر، طبعة سنة 1397هـ-1977م، 3/460-462. سير الأعلام، 6/104. تهذيب التهذيب. 830.
(6) هذا بناءً على مذهب المعتزلة بأنه يجب على الله تنفيذ الوعد، وهو أحد أصولهم الخمسة، وهي: (1 التوحيد) (2) المنزلة بين المنزلتين (3) العدل (4) الوعد والوعيد (5) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انظر معانيها عندهم: شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار(1/219)
ص -182- ... والخلود (1)، فقال له ابن العلاء: من العجمة أُتيت، هذا وعيد لا وعد،
وأنشد قول الشاعر:
وإني وإن أوعدته(2) أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز(3) موعدي(4)
وقال بعض الأئمة، فيما نقل البخاري أو غيره، إن من سعادة الأعجمي والأعرابي، إذا أسلما، أن يوفقا لصاحب سنة، وإن من شقاوتهما أن يمتحنا، ...............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بن أحمد، تعليق الإمام ابن الحسين بن أبي هاشم، تقديم د. عبد الكريم عثمان، نشر مكتبة وهبة، مطبعة الاستقلال الكبرى، ط/1، 1384هـ/1965م، ص149، 299، 609، 695، 739. مجموع الفتاوى، 1398، 368-390. الصفات الإلهية في الكتاب والسنة في ضوء الإثبات والنفي، لمحمد بن علي الجامي، ط/1، 1408هـ، ص141-142.
(1) مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء:93].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68-69].
(2) في ( أ ) (واعدته). وفي بقية النسخ: (أوعدته)، وهكذا في ديوان عامر بن طفيل، دار صادر، بيروت، 1383هـ، 1963م، ص58، وانظر: تاريخ بغداد، 12/176، وهو الصواب؛ لأن القياس من الوعيد أن يقال: أوعد، وأوعدته بالشر. انظر: لسان العرب، 3/463، مادة (وعد).
(3) في رواية: (لأخلف إيعادي وأنجز موعدي).
(4) انظر هذه المناظرة في: تاريخ بغداد، 12/175-176. والحجة في بيان المحجة، 2/73. ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية (751هـ)، دار الكتت العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، 1403هـ-1983م. 1/396.(1/220)
والمقصود هنا أن يثبت ابن العلاء لمناظره، ما هو عكس مذهب المعتزلة، وهو أنه لا يجب على الله إنفاذ الوعيد، وأنه تعالى قد يترك عقاب العاصي تكرماً منه وفضلاً. وقد تقرر عند العرب أنهم لا يلحقون العار بمن توعد ثم لا ينفذه، بل يرون ذلك كرماً وفضلاً، وإنما خلف الوعد والعار ملحق بمن يعد الخير ثم لا يفعله. والبيت لعامر بن الطفيل العامر. انظر ديوانه، ص58.(1/221)
ص -183- ... وييسرا(1) لصاحب هوى وبدعة(2). ونضرب لك مثلاً وهو: أن رجلين تنازعا في آيات من كتاب الله، أحدهما خارجي(3)، والآخر مرجئ (4)، قال الخارجي: إن قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (5)، دليل على حبوط أعمال العصاة والفجار وبطلانها (6)؛ إذ لا قائل إنهم من عباد الله المتقين.
قال المرجئ: هي في الشرك، فكل من اتقى الشرك يقبل عمله (7)، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}(8).
قال الخارجي: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (9) يرد ما ذهبت إليه.
قال المرجئ: المعصية هنا الشرك بالله، واتخاذ الأنداد معه، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}(10).
قال الخارجي: قوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ}(11)، دليل على أن الفساق من أهل النار الخالدين فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د) ويتيسرا.
(2) لم أهتد إلى مصدره.
(3) الخارجي: مفرد الخوارج، وقد تقدم بيان مذهبهم في ص167.
(4) المرجئ: هو من يخرج الأعمال من مسمى الإيمان. وقد تقدم بيان مذهب المرجئة في ص174.
(5) سورة المائدة: الآية (27).
(6) هذا بناء على مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر.
(7) وهذا بناء على مذهبهم في العصاة والفجار، أنهم مؤمنون كاملو الإيمان ما داموا قد نطقوا بالشهادتين.
(8) سورة الأنعام: الآية (160).
(9) سورة الجن: الآية (23).
(10) سورة النساء: الآية (48).
(11) سورة السجدة: الآية (18).(1/222)
ص -184- ... قال المرجئ: قوله في آخر الآية: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (1) دليل على أن المراد من كذب الله ورسوله، والفاسق من أهل القبلة مؤمن كامل الإيمان.
ومن وقف على المناظرة من جهال الطلبة والأعاجم ظن أنها الغاية المقصودة، وعض عليها بالنواجذ، مع أن كلا القولين لا يرتضي، ولا يحكم بإصابته أهل العلم والهدى، وما عند السلف والراسخين في العلم خلاف هذا كله (2)؛ لأن الرجوع إلى السنة المبينة للناس ما نزل إليهم. وأما أهل البدع والأهواء فيستغنون عنها بآرائهم وأذواقهم. وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (3) على بعض ما يجري من أمراء الوقت، من مكاتبة، ومصالحة، وهدنة لبعض /الرؤساء/ (4) الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية، وهو قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى}(5)،.........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة السجدة: الآية (20).
(2) إن مذهب السلف الصالح -أهل السنة والجماعة- هو التوسط بين آراء الخوارج والمرجئة في مسألة العصاة والفجار؛ فإنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بمعصية، وأنه إن عمل عملاً صالحاً، فهو مقبول عند الله، للخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي، ويحبطون أعمالهم.
كما أن السلف لا يصفون العصاة، والفساق، والفجار، بكمال الإيمان، مع عدم العمل -خلافاً للمرجئة- بل يصفونهم بأنهم مؤمنون عصاة، ناقصو الإيمان، ويخشى عليهم إن هم أصروا على ذلك.(1/223)
انظر: الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ت600هـ)، تحقيق د. أحمد عطية بن علي الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط/1، 1414هـ/193م، ص205. والحجة في بيان المحجة، 2/271.
(3) سورة محمد: الآية (26).
(4) في جميع النسخ: رؤساء الضالين.
(5) سورة محمد: الآية (25).(1/224)
ص -185- ... ولم يفقهوا المراد من الأمر /المعرف/(1) المذكور في هذه الآية.
وفي قصة صلح الحديبية (2)، وما طلبه المشركون واشترطوه (3)، وأجابهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يكفي في رد مفهومكم، ودحض أباطيلكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط من(ب).
(2) كان هذا الصلح في العام السادس الهجري، بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركين، حين منعوه من دخول مكة معتمراً.
انظر قصة الصلح: السيرة النبوية، لابن هشام، 3/321-325. البداية والنهاية، لابن كثير، 4/166-179.
(3) كان من أهم بنود الصلح:
1- وضع الحرب عن الناس عشر سنين.
2- من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه.
3- من أحب أن يدخل محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
4- أن يرجع محمد فلا يدخل مكة هذا العام، وإذا كان عام قابل، خرجت قريش من مكة، فيدخلها محمد مع أصحابه، ويقيم بها ثلاثة أيام.
انظر: السيرة النبوية، لابن هشام، 3/332. البداية والنهاية، 4/170.
{فصل و /هنا/(1) أصول:
أحدها: أن السنة والأحاديث النبوية، هي المبينة للأحكام القرآنية،
وما يراد بيان السنة لأحكام القرآن من النصوص الواردة في كتاب الله، في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والفاجر والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي، ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كذا في جميع النسخ. وفي ( أ ): (وههنا) بزيادة هاء في أوله. والمثبت أولى؛ لعدم بعد المحل المشار إليه.(1/225)
ص -186- ... بالصلاة على الوجه المراد في عددها، وأركانها، وشروطها، وواجباتها (1). وكذلك الزكاة؛ فإنه لا يظهر المراد من الآيات الموجبة(2)، ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها، من الأنعام، والثمار، والنقود، ووقت الوجوب، واشتراط الحول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب، وصفته، إلا ببيان السنة، وتفسيرها، وكذلك الصوم، والحج، جاءت السنة ببيانهما، وحدودهما، وشروطهما، ومفسداتهما، ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة. وكذلك أبواب الربا، وجنسه، ونوعه، وما يجري فيه، وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برواته الثقات العدول، عن مثلهم، إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3). فمن أهمل هذا وأضاعه، فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة التنزيل والقرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هنا بيان للعلاقة، والرابطة المتينة التي بين القرآن الكريم، والسنة والنبوية المطهرة؛ فهي علاقة تلازم، بحيث لا يمكن الاكتفاء بالإيمان بأحدهما؛ فالقرآن الكريم، في أغلب أحكامه، يأتي بها مجملة، فتقوم السنة ببيانها وتفصيلها. فالأمر بالصلاة، مثلاً جاء في القرآن مجملاً، وهو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، فأتت السنة بالبيان أن عددها خمس، وأن صلاة الفجر ركعتان، والظهر، والعصر، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، وهكذا.
(2) كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43].
(3) هنا تحديد الماهية الحديث الصحيح، وهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط، عن العدل الضابط، إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً، ولا معلاً. علوم الحديث، لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح (ت643هـ)، تحقيق نور الدين عتر، نشر المكتبة العلمية، بالمدينة المنورة،مطبعة الأصيل، حلب، 1386هـ/1966م، ص10.(1/226)
الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة،
كل شعبة فيها تسمى إيماناً، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1)، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعاً، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزواله إجماعاً، كترك إماطة الأذى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ذلك ورد قوله صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/363، الإيمان، باب (بيان عدد شعب الإيمان). سنن أبي داود 5/55-56، السنة، باب (في رد الإرجاء). سنن الترمذي, 5/12، الإيمان، باب (ما جاء في استكمال الإيمان). سنن النسائي، 8/110، الإيمان، باب (ذكر شعب الإيمان). سنن ابن ماجه، 1/12، المقدمة، باب (في الإيمان).(1/227)
ص -187- ... عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين، شعب متفاوتة، منها ما يلحق شعب الإيمان بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى عن الطريق، ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها، مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف، الأمة وأئمتها.
وكذلك الكفر أيضاً, ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان] (1)، ولا يسوّى بينها في الأسماء والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة، أو الزكاة، أو الصيام، أو أشرك بالله، أو استهان بالمصحف؛ وبين من سرق، أو زنى، أو انتهب، أو صدر منه نوع موالاة (2)، كما جرى لحاطب. فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام, أو سوى بين شعب الكفر في ذلك، فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعقوفتين نقله الشيخ من كتاب الإمام ابن القيم -رحمه الله- المسمى: "كتاب الصلاة وحكم تاركها"، ص53, بتصرف. وقد أتى بها الإمام ابن القيم، بعد سرده لأقوال العلماء في كفر تارك الصلاة، ثم قال: "فصل في الحكم بين الفريقين"، فذكر هذا التفصيل.
وانظر أيضاً: التمهيد، لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمرو يوسف بن عبد البر (ت463هـ) طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بالمملكة المغربية، 1399هـ/1979م، 9/238. مسائل الإيمان، للقاضي أبي يعلى، تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف، دار العاصمة، الرياض، النشرة الأولى، 1410هـ، ص152.
(2) أي: نوع موالاة المشركين والكفار (المحرمة).
الأصل الثالث: حقيقة الأيمان
إن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو اعتقاده، وقول اللسان, وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو(1/228)
ص -188- ... قصده، حقيقة الإيمان واختياره، ومحبته، ورضاه، وتصديقه؛ وعمل الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والحج، والجهاد، ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة (1). فإذا زال تصديق، القلب، ورضاه، ومحبته لله، وصدقه، زال الإيمان بالكلية؛ وإذا زال شيء من الأعمال، كالصلاة، والزكاة والحج، والجهاد, مع بقاء تصديق القلب وقبوله، فهذا محل خلاف: هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية، كالصلاة، والحج، والزكاة، والصيام، أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها، أو لا يفرق؟
فأهل السنة مجمعون على أنه لا بد من عمل القلب، الذي هو محبته، ورضاه، وانقياده، والمرجئة / تقول/(2): يكفي التصديق فقط، ويكون به مؤمناً.
والخلاف في أعمال الجوارح(3)، هل يكفر /أو/(4) لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عن السلف، تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا هو مجمل قول السلف الصالح في الإيمان، بأنه: اعتقاد، وقول وعمل. خلافاً لطوائف المرجئة، التي تخرج العمل عن مسمى الإيمان. وقد تقدم بيانه في ص174.
(2) ساقط في (د).
(3) أي في تركها.
(4) في جميع النسخ: (أم)، وهو خطأ؛ لأن (هل) لا يقابل بـ (أم). وفي المطبوع المثبت، وهو الصواب.
(5) هذا مذهب جمهور السلف. وقد ورد إجماع الصحابة على أن تارك الصلاة عمداً كافر. جاء ذكره في: المحلى، لابن حزم (ت456هـ)، نشر المكتب التجاري، بيروت، لبنان، 2/242. الترغيب الترهيب من الحديث الشريف، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت656هـ)، تعليق مصطفى عمارة، نشر دار إحياء التراث العربي، لبنان، ط/3، 388هـ-1968م، 1403هـ/1983م، ص259. "كتاب الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم، ص37، 65.(1/229)
وفي ذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين عزم على قتال مانعي الزكاة: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال" أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح 13/264، ومسلم في صحيحه بشرح النووي، 2/314-316، وأبو داود في سننه، 2/198، والترمذي5/14-15. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.
انظر: قوانين الأحكام الشرعية، ومسائل الفروع الشرعية، لمحمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت1340هـ)، ط/1، شركة الطباعة الفنية. ص49. الشرح الصغير على أقرب المسالك، للدرديري، دار المعارف بمصر، 1392هـ، 1/238. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، لمحمد الشربيني الخطيب، طبعة الحلبي، بيروت، 1402هـ-1982م، 1/227-228.(1/230)
ص -189- ... (والقول الثاني): أنه لا يكفر إلا من جحدها(1).
(والثالث):الفرق بين الصلاة وغيرها(2). وهذه الأقوال معروفة.
وكذلك المعاصي والذنوب، التي هي فعل المحظورات، فرقوا فيها بين ما يصادم /أصل/(3) الإسلام وينافيه(4)، وما دون ذلك(5)، وبين ما سماه الشارع كفراً(6)، وما لم يسمه.
هذا ما عليه أهل, الأثر المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا مذهب الحنفية. انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار، لمختار أمين الشهير بابن عابدين (ت1252هـ)، طبع مصطفى الحلبي، بمصر، سنة 1386هـ، 1/352.
(2) هذه رواية الإمام أحمد، أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة فقط. انظر: كتاب "الإيمان" بان تيمية، ص259.
(3) في (د): أصلاً.
(4) من ذلك: الشرك بالله، والاستهانة بالمصحف، وقتل الرسول، وسب الله ورسوله، وغير .
(5) كالسرقة، وشرب الخمر، وأكل الربا، ونحوها.
(6) كقتال المسلم لأخيه، وتكفيره، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت.(1/231)
ص -190- ... الأصل الرابع: أن الكفر نوعان،
كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله، جحوداً وعناداً، من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده، وعبادته، وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه.
وأما كفر العمل، فمنه ما يضاد الإيمان، كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه.
وأما الحكم بغير ما أنزل الله، وترك الصلاة، فهذا كفر عمل، لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله /صلى الله عليه وسلم:(1) ((لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض))(2)، وقوله: ((من أتى كاهناً فصدقه, أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد/ صلى الله عليه وسلم/(3)(4)، فهذا من الكفر العملي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب)، و (ج)، و (د)، والمطبوع.
(2) انظر: صحيح البخاري مع الفتح، 1/262، العلم، باب (الإنصات للعلماء). صحيح مسلم بشرح النووي، 2/415، الإيمان، باب (بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعد كفاراً). سنن أبي داود، 5/63، السنة، باب (الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه). سنن الترمذي، 4/421، الفتن، باب (ما جاء: "لا ترجعوا بعدي كفاراً"). سنن النسائي، 7/126-127، تحريم الدم، باب (تحريم القتل). سنن ابن ماجه، 2/366، الفتن، باب (لا ترجعوا بعدي كفاراً).
(3) زيادة في (ب)، و (ج).(1/232)
(4) أخرجه أبو داود في سننه، 4/225-226، الطب، باب (في الكاهن)، بلفظ: "فقد برئ مما أنزل على محمد". وأخرجه أصحاب السنن بلفظ آخر: ((من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا،فقد كفر بما أنزل على محمد))، أخرجه بهذا اللفظ كل من: الترمذي في سننه، 1/243، الطهارة، باب في كراهية إتيان الحائض، والدارمي (ت255هـ) في سننه، بتحقيق فواز أحمد زمرلي، وخالد السبع العلمي، نشر دار الريان، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت، ط/1، 1407هـ/1987م، 1/275-276، الطهارة، باب (من أتى امرأته في دبرها).(1/233)
ص -191- ... وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي، وسبه، وإن كان الكل يطلق عليه الكفر، وقد سمى الله /سبحانه/(1) من عمل ببعض كتابه، وترك العمل ببعضه, مؤمناً بما عمل به، /وكافراً/ (2) بما ترك العمل به. /قال/(3) تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}(4). فأخبر -سبحانه- أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخرين، وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي(5) يضاده الكفر العملي(6)، والإيمان الاعتقادي(7) يضاده الكفر الاعتقادي(8).
وفي الحديث الصحيح: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))(9) /و/(10) فرق بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب).
(2) في (د): وكافر، وهو خطأ؛ لأنه مفعول سمّي.
(3) في (أ)، و (د): وقال.
(4) سورة البقرة: الآيات (84، 85).
(5) الإيمان العملي هو كالصلاة، والزكاة، والحج، والصوم.
(6) الكفر العملي: كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وترك الصلاة.
(7) الإيمان الاعتقادي كالمحبة والرضا والتصديق والإخلاص.
(8) الكفر الاعتقادي: وهو جحود وعناد، كتكذيب ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته وأحكامه.
(9) صحيح البخاري مع الفتح، 1/135، الإيمان، خوف المؤمن أن يحبط عمله.(1/234)
صحيح مسلم بشرح النووي، 2/414، الإيمان باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق؛ سنن الترمذي، 4/311، البر ما جاء في الشتم؛ سنن النسائي، 7/121، تحريم الدم، باب قتال المسلم، سنن أبي داود 2/365-366، الفتن، باب سباب المسلم.
(10) الواو ساقط في (ب) و (ج) والمطبوع.(1/235)
ص -192- ... سبابه، وقتاله، وجعل أحدهما فسوقاً لا يكفر به، والآخر/كفراً/(1)، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي، لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية، والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني، والسارق، والشارب، من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان(2).
وهذا التفصيل هو قول الصحابة، الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله، وبالإسلام، والكفر، ولوازمها، فلا تلقى هذا المسائل إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم، فانقسموا فريقين: /فريق/(3) أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار(4)، و/فريق/(5) جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان(6). فأولئك غلوا, وهؤلاء جفوا، فهدى الله أهل السنة، للطريق المثلى، والقول الوسط (7)، الذي هو في المذهب، كالإسلام في الملل (8)، فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم. فعن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(9) ...............
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب)، و (ج)، و (د)، والمطبوع: كفر.
(2) أي حين اقترافه لإحدى هذه الأمور. انظر: كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، ص57.
(3) في (ب)، و (ج)، و (د) والمطبوع: فريقاً.
(4) وهم الخوارج والمعتزلة. غير أن المعتزلة يخرجون صاحب الكبيرة من الإيمان، ولا يدخلونه في الكفر، ويقولون إنه في منزلة ما بين المنزلتين، ويتفقون مع غيرهم في تخليده في النار؛ بناءً على أصل مذهبهم في الوعيد، بأنه يجب على الله إنفاذه.
(5) في (ب)، والمطبوع: فريقاً.
(6) وهم المرجئة الذين لا يعتبرون الأعمال من الإيمان، وعليه فأهل الكبائر مؤمنون كاملو الإيمان، كما يقول الغلاة فيهم "لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة". وقد تقدم بيان مذهبهم في ص174.
(7) تقدم قول أهل السنة في أصحاب الكبائر في ص175.(1/236)
(8) وقد ذكر وسطية الإسلام في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية، [البقرة:143].
(9) سورة المائدة: الآية (44).(1/237)
ص -193- ... قال: "ليس هو بالكفر(1) الذي تذهبون إليه" رواه عنه سفيان(2)، وعبد الرزاق(3)(4).
وفي رواية عنه أخرى: "كفر لا ينقل عن الملة"(5). وعن عطاء(6): "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق"(7).
وهذا بيّن في القرآن لمن تأمله، فإن الله -سبحانه- سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً(8)، وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافراً(9)، وليس الكافران على حد سواء. وسمى الكافر ظالماً،/كما/(10) في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الباء في قوله (بالكفر) ساقط في (ب) و (ج)، والمطبوع.
(2) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الكوفي، ولد سنة (107هـ) حدث عن كثير من التابعين (ت198هـ).
انظر ترجمته: تاريخ بغداد، 9/174. وتذكرة الحفاظ، 1/262. وتهذيب التهذيب 4/117.
(3) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع، صاحب المصنف، ولد سنة (126هـ)، حدث عن سفيان الثوري، وحدث عنه سفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهما، (ت211هـ).
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ، 1/364. وسير الأعلام، 9/563. وتهذيب التهذيب، 6/310.
(4) ونص ما رواه عنه سفيان، وعبد الرزاق، هو قوله: "إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليسس كمن كفر بالله، واليوم الآخر". انظر: جامع البيان للطبري، 6/256. كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم، ص57.
(5) جامع البيان للطبري، 6/256. وهي أيضاً رواية عن طاووس. انظر: المرجع السابق، نفس الصفحة. الجامع لأحكام القرآن، 6/124. كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم، ص57.
(6) هو عطاء بن أبي رباح، أبو محمد القرشي، ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وحدث عن عائشة، وأم سلمة، وغيرها، (ت115هـ). انظر ترجمته: طبقات ابن سعد، 5/467. سير الأعلام، 5/78. تهذيب التهذيب، 7/199.(1/238)
(7) هو عطاء بن أبي رباح، أبو محمد القرشي، ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه، وحدث عن عائشة، وأم سلمة، وغيرهما، توفي (115هـ). انظر ترجمته: طبقات ابن سعد، 5/467. سير الأعلام، 5/78. تهذيب التهذيب، 7/199.
(8) وذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:4].
(9) وذلك في قوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47].
(10) ساقظ في (ب)، و (ج)، والمطبوع.(1/239)
ص -194- ... الظَّالِمُونَ}(1). وسمى من يتعد حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً(2)، وقال {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3).
وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}(4)، وقال آدم عليه السلام {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}(5)، وقال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}(6). وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم، وسمى الكافر
فاسقاً في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ}(7) وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ}(8) وسمى العاصي فاسقاً في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}(9)، وقال في الذين يرمون المحصنات:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(10), وقال: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(11)، وليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب)، و (ج)، المطبوع.
(2) سورة البقرة: الآية (254).
(3) سُمي من يتعد حدوده في تلك الأمور ظالماً، في الآيات التالية: في الطلاق والرجعة، قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231].
(4) سورة الطلاق: الآية (1).
(5) سورة الأنبياء: الآية (87).
(6) سورة الأعراف: (23).
(7) سورة القصص: الآية (16).
(8) سورة البقرة: الآية (26).
(9) سورة البقرة: (99).
(10) سورة الحجرات: الآية (6).
(11) سورة النور: الآية (4).(1/240)
ص -195- ... الفسق كالفسوق.
وكذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر(1)، وشرك لا أنواع الشرك والنفاق ينقل عن الملة، وهو الأصغر، كشرك الرياء(2). وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}(3)، وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}(4)، وقال في شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(5). وفي الحديث: ((من حلف بغير الله فقد أشرك))(6).
ومعلوم أن حلفه بغير لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال الراغب في المفردات: "وشرك الإنسان في الدين ضربان: أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى، يقال: أشرك فلان بالله، وذلك أعظم كفر.
الثاني: الشرك الأصغر، وه مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق".
المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني (502هـ)، تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة الحلبي الأخيرة، 1381هـ-1961م، 259-260.
وقال الذهبي -رحمه الله-: "فأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى، وهو نوعان، أحدهما: أن يجعل لله نداً، ويعبد معه غيره، من حجر، أو شجر، أو قمر، أو نبي، أو شيخ، أو نجم، أو ملك أو غير ذلك، وهذا هو الشرك الأكبر ...". كتاب الكبائر، للذهبي، دار الريان للتراث، القاهرة، ط/2، 1408هـ، 1988م، ص22.
(2) وفيه ما رواه محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) قالوا: وما الشرك الأصغر يا سول الله؟ قال: ((الرياء)). مسند الإمام أحمد، 5/428-429.
(3) ورة المائدة: الآية (72).(1/241)
(4) ورة الحج: الآية (31). وقوله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} زائد في (د).
(5) ورة الكهف: (110). وقوله تعالى: { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} تكملة مني من لمصحف، لضرورة بيان الشاهد.
قال الترمذي في صحيحه: "وقد فسر أهل العلم هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}الآية، قال: "لا يرائي". سنن الترمذي، 4/94.
(6) نظر: سنن أبي داود، 3/570، الإيمان، باب (في كراهية الحلف بالآباء). مسد الإمام أحمد، 2/87-125. مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد(1/242)
ص -196- ... الكفار، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل))(1)، فانظر كيف انقسم الشرك والكفر، والفسوق والظلم، إلى ما هو كفر ينقل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط/1، 1380هـ-1961م، حديث رقم (3419). مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، دار صادر، بيروت، لبنان، ط/1، مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند، 1333هـ، 1359. سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/155. السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن حسين بن علي البيهقي (ت458هـ)، دار الفكر، 10/29.
(1) لم أجده بهذا اللفظ. وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/403، بلفظ: ((اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل)) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807هـ)، نشر دار الريان للتراث، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت، 10/223-224. وعزاه لأحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وقال:: ورجال أحمد رجال الصحيح، غير أبي علي، ووثقه ابن حبان.(1/243)
إن هذا الشرك الخفي، من أخطر ما يسري في هذه الأمة، خاصة في هذا العصر، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تخوف منه على أصحابه لخفائه، مع قوة إيمانهم، وكمال علمهم، فكيف بأهل هذا الزمان؟ الذين هم أقل علماً، وإيماناً، وإدراكاً لمخاطر الشرك الأكبر، فضلاً عن الأصغر، بل الخفي منه، فلا بد أن يكون الخوف عليهم أشد؛ إذ وقوعهم في مثل هذا أيسر، وقد لا ينجو منه إلا من رحم الله. وقد بينه ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]. قال: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صماء سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله، وشئت، وقول الرجل: لولا الله، وفلان، لا تجعلوا فلاناً، فإن هذا كله به شرك". رواه ابن أبي حاتم (327هـ) في تفسير القرآن العظيم، مسنداً عن الرسول، والصحابة، والتابعين، نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ودار طيبة، ودار ابن القيم، ط/1، 1408ه، تحقيق د. أحمد عبد الله الغماري، 1/81.
وما قاله ابن عباس، هو أكثر ما يدور على ألسنة كثير من أهل هذه الأمة؛ ولذلك حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على معرفة كيفية اتقائه، فسألوه: وكيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل، يا رسول الله؟ قال: ((اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم)). رواه أحمد في مسنده، 4/403.(1/244)
ص -197- ... عن الملة، وإلى ما لا ينقل عنها.
وكذلك النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد، ونفاق عمل (1). ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار (2)، ونفاق العمل جاء في قوله صلى الله عليه وسلم ((أربع من كن فيه كان منافقاً /خالصاً/(3)، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان))(4)، وقوله صلى الله عليه وسلم ((آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان))(5).
وقال بعض الأفاضل(6): "وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام، ولكن إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يكون النفاق اعتقادياً، إذا كان نفاقاً في اعتقاد الإيمان، فهو نفاق الكفر، الذي كان عليه المنافقون، أتباع أبي بن سلول، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فالنفاق الاعتقادي: هو إظهار الإسلام، وإبطال الكفر، وهو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار. أما النفاق العملي: هو اختلاف السر مع العلانية في الواجبات.
انظر هذا التقسيم لنوعي النفاق: كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، لابن القيم الجوزية (751هـ)، ص56-57. ونقل الترمذي نحوه، عن الحسن البصري. سنن الترمذي، 5/21.
(2) قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145]. ومن الآيات الواردة في النفاق الاعتقادي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، وقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:8،14].
(3) في (ب)،و (ج)، و (د): حقاً.(1/245)
(4) انظر: صحيح البخاري مع الفتح، 1/111، الإيمان، باب (علامة المنافق)، بتقديم الخصلة الرابعة على كل الخصال. صحيح مسلم بشرح النووي، 2/406، الإيمان، باب (بيان الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه). سنن الترمذي، 5/20-21، الإيمان، باب (ما جاء في علامة المنافق). سنن النسائي، 8/116، الإيمان، باب (علامة المنافق).
(5) انظر: المراجع السابقة: البخاري، 1/111. مسلم، 2/407. الترمذي، 5/20. النسائي، 8/117.
(6) يريد الإمام ابن قيم الجوزية؛ فهو صاحب القول المنقول هنا.(1/246)
ص -198- ... استحكم وكمل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى، وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً". انتهى(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين القوسين كلام للإمام ابن القيم، منقول من كتابه "الصلاة وحكم تاركها"، ص53-59، بتصرف.
الأصل الخامس(1): أنه /لا/(2) يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان /بالعبد/(3)، أن يسمى مؤمناً،
ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر، أن يسمى كافراً(4)، وإن كان ما قام به /كفراً/(5)، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به، أو من أجزاء الطب، أو من أجزاء الفقه، أن يسمى عالماً، أو طبيباً، أو فقيهاً. وأما الشعبة نفسها، فيطلق عليها اسم الكفر، كما في /حديث/(6): "اثنتان /بأمتي/(7) هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت"(8)، وحديث: ((من حلف بغير الله فقد كفر))(9)، لكنه لا يستحق اسم الكافر على الإطلاق. فمن عرف هذا، عرف فقه السلف، وعمق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا الأصل نقله المصنف من الكتاب السابق، ص61، بتصرف.
(2) ساقط، (د).
(3) في جميع النسخ: (لعبد). وفي المطبوع المثبت.
(4) أي قيامها بالعبد ولم يذكر العبد هنا استغناءً بما تقدم.
(5) كذا في كتاب "الصلاة"، لابن القيم. وفي جميع النسخ، والمطبوع: (كفر).
(6) في المطبوع: (الحديث).
(7) في (ب)، و (ج): (من أمتي). وفي المطبوع: (في أمتي).
(8) انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، 2/417، الإيمان، باب (إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب)، بلفظ: ((اثنتان في الناس)). مسند الإمام أحمد، 2/496. السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت458هـ)، دار الفكر، 4/63.(1/247)
(9) انظر: سنن الترمذي 493-494، النذور والأيمان، باب (ما جاء في كراهية الحلف بغير الله). مسند الإمام أحمد، 2/125. المستدرك للحاكم، 1/18، 52، 4/297 ، وصححه، وأقره الذهبي. سنن البيهقي، 10/29. شرح السنة للبغوي، 10/7، كلهم بزيادة (أو أشرك).(1/248)
ص -199- ... علومهم، وقلة تكلفهم. قال ابن مسعود /رضي الله عنه/"(1) من كان متأسياً /فليتأس/ (2) بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، / وأقلها/(3) تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم؛ فإنهم على الهدى المستقيم"(4). وقد كاد الشيطان بني آدم بمكيدتين عظيمتين، لا يبالي بأيهما ظفر:
إحداهما: الغلو، ومجاوزة, الحد, والإفراط.
والثانية هي: الإعراض، والترك، والتفريط.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما ذكر شيئاً من مكايد الشيطان: قال بعض السلف: "ما أمر الله سبحانه بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو،ولا يبالي بأيهما ظفر". وقد اقتطع أكثر الناس، إلا أقل القليل، في هذين الواديين: /واد/ (5) التقصير، /وواد/ (6) المجاوزة والتعدي، والقليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب)، و (ج)، والمطبوع.
(2) كذا في ( أ )، وفي بقية النسخ، والمطبوع: (فليأتس)
(3) في (ب)،و (ج)، و (د): (وأقلهم). وقد صححه ناسخ ( أ ) بالهامش على ما أثبته، وهو كذلك في المطبوع، وفي "جامع بيان العلم وفضله"، وغيره من المراجع التي خرجت هذا الأثر. انظر الهامش التالي.
(4) نقل المصنف كلام ابن مسعود هذا بتصرف. فقد ورد بلفظ: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، وأبرها قلوباً ...". ورد في: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر (ت463هـ)، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، 2/97. جامع الأصول من أحاديث الرسول، لابن الأثير (606هـ)، تحقيق محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/1، 1400هـ-1980م، 1/199. شرح السنة للبغوي، 1/214. مشكاة المصابيح للتبريزي، 1/67-68. مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام، 24/321-322.(1/249)
(5)في (ب)، والمطبوع (وادي) بإثبات الياء، وهكذا في إغاثة اللهفان، وهو خطأ؛ إذ يجب حذف الياء للإضافة.
(6) في (ب)، و (ج)، والمطبوع: (ووادي)، وهكذا في الإغاثة. وهو خطأ كالذي قبله.(1/250)
ص -200- ... منهم جداً، الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, -وعدّ رحمه الله- كثيراً من هذا النوع، إلى أن قال:- وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم، كإيمان جبريل وميكائيل، فضلاً عن أبي بكر وعمر، وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا (1) من الإسلام بالكبيرة الواحدة(2).
قال جامع الرسائل:
هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة، العظيمة المنافع، القاضية بالبراهين والأدلة القواطع. وصلى الله على محمد، وآله، وصحبه، وسلم [تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. 19 ذي ... 1331هـ](3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب)، و (د): خرجوا.
(2) إلى هنا نهاية كلام الإمام ابن القيم في كتابه: "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان"، لابن قيم الجوزية (ت751هـ)، تصحيح وتحقيق محمد عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ومكتبة الخاني، الرياض، ط/1، 1407هـ-1987م،1/184-186.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة في (ب).(1/251)
ص -201- ... مسألة1: فيمن يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، هل ذلك مسنون أو2 أو لا؟
الجواب:
الحمد لله، جمع الناس للطعام في العيدين وأيّام التشريق سنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين، وإعانة الفقراء بإطعامهم في شهر رمضان، هو من سنن الإسلام، فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم من فطّر صائماً فله مثل أجره"3 وإعطاء /قرّاء/4 القرآن ما يستعينون به على القرآن، عمل صالح في كل وقت، ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر.
أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية، كبعض ليلي شهر ربيع الأول، التي يقال إنّها ليلة المولد، أو بعض ليلي رجب، أو ثمان عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال، الذي يسمّيه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها5، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة زائدة في (ب).
2 أصله في (ب): أم، وهو لا يقابل بها.
3 انظر: سنن الترمذي، 3/171صوم، باب (ما جاء في فضل من فطّر صائماً). سنن ابن ماجة، 1/320، الصيام باب (ما جاء في ثواب من فطّر صائماً).
4 في أصل النص (ب): (فقراء)، بزيادة فاء في أولها.
5 وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-بدعيّة ما أُحدِث من الأعياد الزمانية، والمكانية، في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم"، لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ)، تحقيق محمد حامد الفقي، نشر دار المعرفة، بيروت، ص292، 294، 302.(1/252)
ص -202- ... فائدة:1 ذكر في اختيارات الشيخ تقي الدين، كميّة التراويح، فقال:
"التراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة، والشافعية، وأحمد، عشرين ركعة2، أو كمذهب مالك ستّاً وثلاثين، أو ثلاث عشرة، أو إحدى عشرة، فقد أحسن، كما نص عليه الإمام أحمد، لعدم التوقيف، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره. ومن صلاّها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة.
ويقرأ أول ليلة من رمضان، في العشاء الآخر سورة القلم؛ لأنها أول ما نزل، ونقله إبراهيم بن محمد الحارث، عن الإمام أحمد، وهو أحسن مما نقله غيره، أنه يبتدئ بها التراويح" أ.هـ3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الفائدة مزيدة في (ب)، وردت في لوحة (12).
2 انظر بدائع الصنائع، 2/725. روضة الطالبين، 1/334. المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح، 2/17. المغني، لابن قدامة (630هـ)، مع الشرح الكبير، لأحمد بن قدامة (ت682هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1/798.
3 الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ)، اختارها الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي (ت803هـ)، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر مكتبة السنة المحمدية، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ص64، وقد ورد كلامه هذا في "مجموع الفتاوى"، مفرقاً في الصفحات 23/112، 113، 121.
مسألة:في النوم في المسجد،
والكلام والمشي في النعال في أماكن الصلاة، هل يجوز ذلك أو4 لا؟
الجواب:
أمّا النوم للمحتاج، مثل الغريب، والفقير الذي لا مسكن له، فجائزٌ، أمّا اتخاذه مبيّتاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 أصله في (ب): أم، وقد تقدم تصحيح مثله.(1/253)
ص -203- ... ومقيلاً، فينهون عنه.
أمّا الكلام -الذي يحبه الله ورسوله- في المسجد فحسن، وأمّا المحرم، فهو في المسجد أشدُّ تحريماً، وكذلك المكروه. ويكره فيه فضول المباح.
وأمّا المشي بالنعال فجائز، كما كان الصحابة يمشون في نعالهم في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ينبغي للرجل إذا أتى المسجد، أن يفعل ما أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم،فينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب1، فإنّ التراب لهما طهور، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هنا يشير إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذراً [أو قال أذى] وقال: "إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه، وليصلّ فيهما". أخرجه أبو داود في سننه، 1/426-247، كتاب الصلاة، باب (الصلاة في النعال)، واللفظ له؛ وأحمد في مسنده، 3/92؛ والدارمي في سننه، 1/370، الصلاة، باب (الصلاة في النعلين).(1/254)
ص -204- ... الرِّسَالَةُ الثَّانِيََةُ1: قال جامع الرسائل
وله2 أيضاً -قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ إبراهيم بن عبد الملك3، جواباً عن المسائل التي ستقف عليها قريباً- /إن شاء الله تعالى/4 وترى من لطائف التعريف، ورصانة التأليف أمراً عجيباً، وترد من نمير معينها، الصافي القراح5، ما يزيح صدى الإشكال، ويبعث الانشراح، خصوصاً ما ذكره في جواب المسألة الثانية، من البيان والإيضاح، من غائلة كلام هذا الجاهل، الذي لا يعقل ما به /بذر/6 وهذر7، من أنه حصل بهم8 راحة للناس، وعدم ظلم وتعدٍّ على الحضر9، وبيان أن الحكم المقيم للتجارة والتكسب في بلاد المشركين على التحقيق، حكمه وما يقال فيه، حكم المستوطن من غير /ما/10 تفريق، إذا كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة متأخرة،في لوحة (135)، أي بعد الرسالة (61) حسب ترتيب (أ).
2 هذه المقدمة كلّها، إلى قول جامع الرسالة: "وهذا نصها" ساقطة في المطبوع.
3 تقدّم ضمن تلاميذ الشيخ ص(94).
4 ساقط في (ب) و(ج).
5 القراح: الماء الذي لا يخالطه ثفل من سويق ولا غيره، وهو الذي يشرب إثر الطعام. لسان العرب 2/516؛ مادة (قرح).
6 في جميع النسخ: (بدر)، بالدال المهملة، وهو خطأ، والصواب: بذر، يقال: "رجل هذرة، بذرة" فيمن كثر كلامه. لسان العرب 4/51، مادة (بذر).
7 هذر: أي كثر كلامه في الخطأ والباطل، والهذْر: الكلام الذي لا يعبأ به، وقيل الكثير الرديء. لسان العرب 5/259، مادة (هذر).
8 في (د): (بهذه الدولة الكافرة)، بدلاً من الضمير (هم). والمراد بهم: تلك الطائفة التي اسنولت على الإحساء حينئذ، كما سيأتي ذكره في نص رسالته.
9 في (د): الحظر، بالظاء، وهو خطأ.
10 ساقط في (د).(1/255)
ص -205- ... عاجزاً عن إظهار دينه، وكان عليه خطراً بالإقامة في يقينه، ولا تنفعه دعوى البغض والكراهة، مع التلبّس بتلك المنكرات، فإنّ ذلك لا يكفي في النجاة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن المكرم النجيب إبراهيم بن عبد الملك، سلّمه الله /تعالى/1، ورحم أباه، وزيّنه بزينة خاصته، /وأوليائه/2، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل الإنكار على من كفّر أُناساً شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم، شيء قدير. والخط وصل، وقد سَألْتَ فيه عن خمس مسائل:
أُوْلاها: قولك: إنه وقع من بعض الإخوان تكفير من أحبّ انتصار آل شامر3 على المسلمين، وفرح بذبحهم، هل له مستند في ذلك أو4 لا؟
فالجواب:
إنِّي لا أعلم مستنداً5 لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام، من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زائدة في (د).
2 في جميع النسخ: (وأولياه)، وفي المطبوع المثبت.
3 آل شامر: من العشائر النجدية التي تتجول في نجد، وتدخل العراق، تنتسب إلى مرزوق، من قبيلة العجمان، التي تقع منازلها في جوار بني خالد، اعتباراً من الطفّ إلى العقير، وتمتدُّ ديارها حتى الصمّاء، وفي الشتاء تتوغّل حتى الزُّلفى، والقصيم، والخرج، وآل شامر من يام، حيث ينتسب قبيلة العجمان، قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، ص190، 191. معجم قبائل المملكة العربية السعودية، لأحمد الجاسر، نشر دار اليمامة، الرياض، ط/1/ 1400هـ-1980م، 1/333. معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، لكحالة، 2/574-575.
4 في جميع النسخ: (أم).
5 في (د): مستند.(1/256)
ص -206- ... غير مستند شرعي، ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة، وهذه الطريقة هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عدم الخشية والتقوى فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال.
والفرح بمثل هذه القضيّة قد يكون له أسباب متعدّدة، لا سيّما /و/1 قد كثر الهرج2، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتدّ الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشى الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقلَّ المتمسك3 بالكتاب والسنة، بل قلَّ من يعرفهما، ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان4،...................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواو ساقطة في (ب).
2 الهَرْجُ: له معانٍ عدة، منها: الاختلاط، ومنها: الكثرة في المشي، والاتساع، ومنها: الفتنة في لآخر الزمان، ومنها: القتل وكثرته، وغير ذلك، وهذا الأخير هو المراد هنا. لسان العرب 2/389، مادة (هرج).
3 في (د): التمسّك.
4 يتضح الفرق بين هذين اللفظين (الإسلام والإيمان) بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد جعل الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، وأدناها الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسناً، ولا كل مسلم مؤمناً، وقد دلّ على هذا الفرق قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].(1/257)
وكذلك يدل عليه أحاديث نبوية عديدة، من بينها: حديث جبريل الطويل، وفيه: عن أبي هريرة رضي الله علنه قال: "كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بارزاً يوماً للناس، فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدّيَ الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك..." الحديث، أخرجه البخاري في صحيحه مع الفتح، 1/140، كتاب الإيمان، ومسلم في صحيحه بشرح النووي، 1/270-273، وأبو داود في سننه، 5/72؛ والترمذي في سننه 5/8، والنسائي 8/97-98؛ وابن ماجه في سننه 1/14. ولكن لفظ الإسلام يراد به تارة الدين كله، وكذلك الإيمان، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، وقوله صلّى الله عليه وسلّم "الإيمان بضع وسبعون شعبة...". وتارة يراد بالإسلام الأمور الظاهرة، وبالإيمان الأمور الباطنة، كما في حديث جبريل السابق، وانظر في الفرق بين اللفظين: كتاب "الإيمان لابن تيمية" ص8، مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام 7/6.(1/258)
ص -207- ... والكفر والشرك والنفاق، ونحوها1، وقد جاء في الحديث: "من قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما"2، فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه، دليل على جهل المكفِّر، وعدم علمه بمدارك الأحكام.
وقد تأوّل أهل العلم ما ورد من إطلاق الكفر على بعض المعاصي، كما في حديث: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"3، وحديث: "لا ترجعوا بعدي كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض"4، وحديث: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم"5، فهذا ونحوه تأوّلوه على أنّه كفر عملي، ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة، كما جزم به العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- وغيره من المحققين6،هذا مع أنه باشره عمل وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف، فكيف بمجرد الفرح!
وذكر عن الإمام أحمد –رحمه الله- /تعالى/7 أنه قال: "أمروا هذه النصوص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ) و(ب) و(د) والمطبوع: (ونحوهما).
2 تقدم تخريجه في ص 163، بلفظ: "إذا كفّر...".
3 تقدم تخريجه في ص 191.
4 تقدم تخريجه في ص190.
5 ورد هذا الحديث بهذا اللفظ في: مسند أحمد 1/47؛ التمهيد لابن عبد البر 4/246، وأخرجه البخاري ومسلم بلفظ: "لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فقد كفر"، من حديث أبي هريرة. صحيح البخاري مع الفتح 12/55، الفرائض، باب (من ادعى إلى غير أبيه). صحيح مسلم بشرح النووي 2/412، الإيمان باب (بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم).
6 انظر: كتاب "الصلاة وحكم تاركها"، للإمام ابن القيم، ص56، شرح صحيح مسلم للنووي2/414، فتح الباري 1/138.
7 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.(1/259)
ص -208- ... كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها"1.
وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى المصرية أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة2، فكيف بمجرد الفرح.
وقد قابل هذا الصنف من الإخوان، قومٌ كفّروا أهل العارض3، أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر، قوله تعالى{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}4، وعلّلوا بأشياء متعدّدة، من فرح، ومكاتبة وموالاة، وغير ذلك. والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى، ولا كتاب منير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله تعالى-:" لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها، أن يكون معه مباحث كليّة يردّ إليها الجزئيات؛ ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلاّ فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات"5، وأطال الكلام في الفريقين، بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة، وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم، وقرر مذهب علي بن أبي طالب، في عدم تكفير الخوارج، المقاتلين له، المكفّرين له، ولعثمان ولمن والاهما، رضي الله عنهما. ونقل قول علي لما سئل عن الخوارج: أكفّر هم؟ قال:"من الكفر فرّوا"6. وقوله:"إنّ لكم علينا أن لا نقاتلكم حتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا قول كثير من السلف الصالح، كالإمام الزهري، ومكحول، والأوزاعي، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، وغيرهم.
انظر: الصفات الإلهية، للجامي، ص 100،119.
2 مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية، تأليف بدر الدين محمد بن علي البعلي(ت 777هـ)، تصحيح محمد حامد الفقي، دار نشر الكتب الإسلامية، كوجرانوالة-باكستان، طبعة سنة 1397هـ-1977م، ص490.
3 تقدم بيان موقعه في ص35.
4 سورة محمد: الآية(10).
5 انظر: مجموع الفتاوى، 9/238.
6 انظر: فتح الباري، 12/314.(1/260)
ص -209- ... تبدؤونا1 بالقتال، ولا نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم حقاً هو لكم في مال الله"2. ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، ومستحلون لدمه، فكيف بمجرّد الفرح.
وقد ذكر في الزواجر: أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات. ولم يقل إنه كفر3.
ثم اعلم أنّ الفتنة في هذا الزمان بالبادية والبغاة، وبالعساكر الكفرة الطغاة، فتنة عمياء صماء، عمّ شرُّها، وطار شررها، ووصل لهيبها4 إلى العذارى في خدورهنّ، والعواتق وسط بيوتهنّ، ولم يتخلّص منها إلاّ من سبقت له الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي، والنور الأول، يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، وما أعزّ/من يعرف/5 هذا الصنف، بل ما أعز من لا يعاديهم، ويرميهم بالعظائم، وأكثر الناس-كما وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيما رواه كميل بن زياد6: " لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في(د): (تبدؤوننا).
2 انظر البداية والنهاية، 7/292-293،296.
3 الزواجر عن اقتراف الكبائر، لأبي العباس أحمد بن محمد الهيتمي (ت 973هـ)، طبعة الحلبي وبذيله: كتاب" الإعلام بقواطع الإسلام "، ط/2، 1390هـ، 2/198،123.
4 في(د): (لهبها).
5 ساقط في(أ)، و(ج).
6 هو كميل بن زياد النخعي، صاحب علي رضي الله عته، قال ابن حبان:" كان من المفرطين في علي، ممن يروي عنه المعضلات، منكر الحديث جداً، تُتَّقَى روايته، ولا يحتج به، ووثقه ابن سعد، وابن معين،(ت82هـ).
انظر ترجمته: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي (ت748هـ)، تحقيق محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي بمصر، 3/415. البداية والنهاية، لابن كثير، 9/50. تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلاني(ت852هـ)، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط/2، 1395هـ/1975م، 2/136.(1/261)
7 قول علي رضي الله عنه أوله:" الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة،وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم...". انظر: جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر،1/29. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن قيم الجوزية (751هـ) دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ج1/123؛ وعزاه لأبي نعيم في الحلية.(1/262)
ص -210- ... ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان، والتزيّي بزيّ أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي.
والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل1 الأقوام في الإصدار2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في(د): (تفاظل).
2 البيت لأبي الحسن التهامي. انظر: ديوان أبي الحسن علي بن محمد التهامي(ت416هـ)، تحقيق د.محمد عبد الرحمن الربيع، مكتبة المعارف، الرياض، ط/1، 1402هـ/1982م، ص316.
وأما المسألة الثانية:
فيمن يجيء من الإحساء -بعد استيلاء هذه الطائفة الكافرة1/على/2 أهل الإحساء- ممن يقيم فيه للتكسب أو التجارة، ولا اتخذه وطناً، وأنّ بعضهم يكره هذه الطائفة ويبغضها، يعلم منه ذلك، وبعضهم يرى ذلك ولكن يعتقد أنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على/الحضر/3 إلى آخر ما ذكرت. في حظر الإقامة حيث يهان الإسلام ويعظم الكفر. فالجواب4:
أنّ الإقامة5 ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج، ونحوهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1يراد بهذه الطائفة الكافرة: الجيوش العثمانية من الترك، وغيرهم، التي استولت على الإحساء حينذاك. وقد وصفها بالكفر، بسبب ما كانت عليه من الشرك بالله، ومحاربة التوحيد وأهله.
2 في (ب)، و(ج)، و(د):(من).
3 في(د): (الحظر).
4 في(أ)،و(ج)، و(د): (الجواب)، بالواو. والصواب بالفاء، كما في(ب)، المطبوع؛ لوقوعه جواباً لأمّا.
5 هنا بداية تحديد، وبيان للحالة التي يمنع فيها إقامة المسلم بين الكفار. وقد بين المصنف أنّ ذلك كون في الحالات الآتية:
1-إذا كان بلد الكفار يعلو فيها الشرك والكفر. 2-يظهر فيها الإلحاد، والفسق.
2-ترفع فيها شعارات الكفر. 4-يهدم فيها الإسلام.
5-يحذر فيها ويعطَّل جميع الشعائر الإسلامية. 6-يحكم فيها بغير ما أنزل الله.
7-يجاهر فيها بشتم الصحابة الكرام. 8-لا يتمكّن المقيم فيها من إظهار الإسلام.(1/263)
ص -211- ... من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعارهم، ويهدم الإسلام، والتوحيد، ويعطّل التسبيح، والتكبير، والتحميد، وتقلع قواعد الملّة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويُشتم السابقون من أهل بدر، وبيعة الرضوان، فالإقامة بين ظهرانيهم، والحالة هذه، لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام، والإيمان، والدين، وعرف ما يجب من حق الله في الإسلام على المسلمين، بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؛ فإنّ الرضا بهذه الأصول الثلاثة قطب رحى الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وذلك يتضمن من محبة الله، وإيثار مرضاته، والغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إنّ إقامة المسلم بين ظهراني الكفار في بلدهم، والحالة هذه، محرم، مهما بلغ حاجة المسلم لشيء عندهم، خاصة إن كان من أصل بلد إسلامي، أو غيره، حيث يمكنه إظهار دينه. انظر. المحلى؛ لابن حزم، 13/139.
ويجوز السفر إلى مثل تلك البلاد -من غير قصد إقامة-ولكن بشرط، هو: كون المسافر إليها، قاصداً لدعوة أهلها إلى الإسلام، وهو مؤهل لذلك، ويشعر في نفسه القدرة على تحمل المشاق، ومجاهدة النفس أمام الفتن، والمغرضات. فمتى ما تحقق ذلك في المرء، جاز له السفر، وإن كان لغير ذلك القصد، فلا يجوز السفر إليها.
أما إن كان بلد الكفار مفتوحا أمام الأديان بحيث يمكن للمرء إظهار دينه، وممارسة شعائره، والدعوة إليها، فهنا يجوز للمسلم طلب حاجته إليهم،كالتجارة ودراسة ما نحن بحاجة إليه من العلوم، مما لا يوجد عندنا، كل ذلك في فترات محدودة معينة، وكذلك الإقامة عندهم، للدعوة، ونشر الإسلام، ومن هذا الأخير تلمسنا في الآونة الأخيرة، دور المهاجرين المسلمين إلى أروبا وأمريكا، في نشر الإسلام في تلك البلدان. وهذا في مسلم أصله من بلد إسلامي.
أما إن كان من بلد غير إسلامي، فلا يخلو من الحالات التالية:(1/264)
أن يكون في بلد يتمكن فيه من إظهار دينه، وإقامة شعائره، والدعوة إلى الله. فهذا يجب عليه بقائه بينهم يدعو إلى الله تعالى.
أن يكون بلده لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فهذا أيضا لا يخلو من أمرين:
أن يكون قادرا على الهجرة، فهنا يلزمه الهجرة إلى حيث يظهر دينه، من بلد الكفار، إن لم يجد دولة إسلامية تؤويه.
أن يكون غير قادر على الهجرة، لشدة التضييق عليه، أو افتقاره لمؤونة السفر، فيجوز لهذا الاستتار بدينه بين كفار بلده. ويدخل في قوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}[النساء:99] انظر: الولاء والبراء في الإسلام، لمحمد بن سعيد القحطاني، دار طيبة مكة المكرمة، ط/6 1413هـ ص270 - 180 . وسيأتي كلام المصنف في مسألة الرجل الذي يخالط أهل بلدة، ويرجوا أن يجيبوه ص242(1/265)
ص -212- ... لدينه، والانحياز إلى أوليائه، ما يوجب البراءة، كلّ البراءة، والتباعد، كلّ التباعد، عمن تلك نحلته، وذاك دينه، بل نفس الإيمان المطلق في الكتاب والسنة، لا يجامع هذه المنكرات، كما يعلم من تقرير شيخ الإسلام في كتاب" الإيمان"(1). وفي قصة إسلام جرير بن عبد الله(2) أنّه قال: يا رسول الله، بايعني واشترط، فقال صلّى الله عليه وسلّم تعبد الله، ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتفارق المشركين(3) " خرَّجه أبو عبد الرحمن النسائي(4). وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام، ودعائمه/العظام/(5). وقد عرف من آية براءة أنّ قصد أحد/الأغراض/(6) الدنيوية، ليس بعذر شرعي، بل فاعله فاسق لا يهديه الله كما هو نص الآية(7).
والفسوق إذا أطلق ولم يقترن بغيره، فأمره شديد، ووعيده أشدّ وعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: "كتاب الإيمان" لابن تيمية، ص141-142.
(2) هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك أبو عمرو البجلي، من أعيان الصحابة، أسلم سنة عشر من الهجرة، (ت51هـ)، وقيل(54هـ). الاستيعاب،1/336-337. أسد الغابة، 1/333. تهذيب التهذيب، 2/73-75.
(3) في(د): (المشرك).
(4) سنن النسائي، 7/148، البيعة، باب(البيعة على فراق المشرك). وفيه زيادة لفظ:" وتناصح المسلمين" بعد" وتؤتي الزكاة". وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 4/365.
(5) ساقط في(ب).
(6) في(ب): (الأعراض).
(7) هي الآية: (24) من سورة التوبة، ونصها: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.(1/266)
ص -213- ... وأي خير يبقى مع مشاهدة تلك المنكرات، والسكوت عليها، وإظهار الطاعة، والانقياد، لأوامر من هذا دينه، وتلك نحلته! والتقرب إليه بالبشاشة، والزيارة، والهدايا، والتنوق(1) في المآكل، والمشارب، وإن زعم أنّ له غرضاً من الأغراض الدنيوية، فذلك لا يزيده إلا مقتاً، كما لا يخفى على من له أدنى ممارسة للعلوم الشرعية، واستئناس بالأصول الإسلامية.
وقد جاء القرآن العظيم بالوعيد الشديد، والتهديد الأكيد على مجرّد ترك الهجرة، كما في سورة النساء(2)، وقد ذكر المفسرون هناك ما به الكفاية، والشفاء، وتكلم عليها شيخنا محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله /تعالى/(3)- وأفاد وأوفى(4). ودعوى التقية لا تجدي مع القدرة على الهجرة. ولذلك لم يستثن(5) الله تعالى إلا المستضعفين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التنوُّق: المبالغة، يقال: تنوّق فلان في مطعمه، وملبسه، وأموره، إذا تجود وبالغ. لسان العرب، 10/364، مادة (نوق).
(2) وذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
فالوعيد والتهديد الموجود في هذه الآية، إنّما هو في حق الذين أسلموا من أهل مكة، ولم يهاجروا، بل أقاموا مع قومهم، وافتتنوا في دينهم، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فقتلوا. كما ذكر ذلك في سبب نزول الآية.
انظر: أسباب النزول، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي (ت468هـ)، تخريج: عصام عبد المحسن الحميدان، نشر دار الإصلاح الدمام. ط/1، 1411هـ/1991م، ص177-178. فشأن أولئك شأن كل مسلم مصرّ على الإقامة في بلاد الكفار،وهو غير قادر على إظهار دينه، وإقامة شعائره، مع استطاعته الحيل، والبحث عن أسباب التخلص بالهحرة.(1/267)
(3) ساقط في(ب).
(4) انظر: تاريخ نجد، للشيخ حسين بن غنّام، ص 663.
(5) في(د): (لم يستثني). وهو خطأ؛ لجزم الفعل بلم.(1/268)
ص -214- ... من الأصناف الثلاثة(1). وقد ذكر علماؤنا تحريم الإقامة والقدوم إلى بلد يعجز فيها عن إظهار دينه(2)، والمقيم للتجارة والتكسب، والمستوطن، حكمهم، وما يقال فيهم حكم المستوطن لا فرق. وأما دعوى البغض والكراهة، مع التلبس بتلك/الفضائح/(3)، فذلك لا يكفي في النجاة، ولله حكم، وشرع، وفرائض، وراء ذلك كله.
إذا تبين هذا، فالأقسام مشتركون في التحريم، متفاوتون في العقوبة، قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}(4). وأخبث هؤلاء وأجهلهم، من قال إنه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد على الحضر(5)، وهذا الصنف أضل القوم، وأعماهم عن الهدى، وأشدّهم محاداة لله، ورسوله، ولأهل الإيمان والتقلى، لأنه لم يعرف الراحة التي حصلت بالرسل، وبما جاءوا به في الدنيا والآخرة، ولم يؤمن بها الإيمان النافع. والمسلم يعلم أن الراحة، كل الراحة، والعدل، كل العدل، واللذة، كل اللذة، في الإيمان بالله، ورسله، والقيام بما أنزل من الكتاب، والحكمة(6)، وإخلاص الدين له، وجهاد أعدائه، وأعداء رسله، وأنه باب من أبواب الجنة، يحصل به النعيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98-99].(1/269)
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي(ت774هـ)، طبعة جديدة مصححة، نشر مكتبة المعارف، الرياض، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط/1، 1407هـ/1987م، 1/555. قال عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} الآية: "هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراماً بالإجماع".
(3) في(ب): (القبائح).
(4) سورة الأحقاف: الآية(19).
(5) في(د): (الحظر).
(6) وفي ذلك جاء قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وقال صلّى الله عليه وسلّم لبلال:" يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها". سنن أبي داود، 5/362، الأدب، باب(في صلاة العتمة). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/364، 371. وأورده الهندي في"الكنز" برقم(14986).
ففي الحديث دلالة واضحة على أنّ في القيام بما أوجبه الله من الفرائض راحة للمؤمن.(1/270)
ص -215- ... والفرح، واللّذة في الدور الثلاث، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}(1).
ولو علم هذا المتكلم أنّ الشرك أظلم الظلم(2)، وأكبر الكبائر، وأقبح الفساد، وأفحشه، لكان له مندوحة عن مثل هذا الجهل الموبق، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ}(3)، وقال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(4)، فجعل الخسار كله بحذافيره، في أهل هذه الخصال الثلاثة، كما يفيده الضمير المقحم بين المبتدأ والخبر(5)، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(6)، فهذا الفساد المشار إليه في هذه الآيات الكريمات، هو الفساد الحاصل بالكفر، والشرك، وترك الجهاد في سبيل الله، واتخاذ أعداء الله أولياء من دون المؤمنين. وبالجملة فمن عرف غور(7) هذا الكلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة: الآية(177). وقوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} زائدة في(ب)، والمطبوع.
(2) كما يفيده قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
(3) سورة الأعراف: الآية(56).
(4) سورة البقرة: الآيتان(26،27). وقوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لم يذكر في(د)، بل قال بدله: الآية.
(5) أي الضمير(هم) بين: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
(6) سورة الأنفال:الآية(73) وقوله تعالى: {تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} لم يذكر في(د).(1/271)
(7) في(ب)، و(ج)، والمطبوع: (غول) باللام، ومعناه: الهلكة، والداهية، فيكون المعنى: من عرف هلكة هذا الكلام، وداهيته. لسان العرب، 11/507، مادة: (غول).
أما(غور) بالراء، فمعناه: العمق، والبعد، والقعر، فغور كل شيء عمقه، وبعده. وهذا المعنى هو الأنسب هنا. لسان العرب، 5/33، مادة(غور).(1/272)
ص -216- ... أعني قول بعضهم إنّه حصل بهم راحة للناس، وعدم ظلم وتعد /على الحضر/(1)، تبين له ما فيه من المحادة، والمشاقة لما جاءت به الرسل، وعرف أن قائله ليس من الكفر ببعيد، والواجب على مثلك أن يجاهدهم بآيات الله، ويخوِّفهم من الله، وانتقامه، ويدعو إلى دينه، وكتابه.
والهجر مشروع إذا كان فيه مصلحة راجحة، ونكاية لأرباب الجرائم(2)،وهذا يختلف باختلاف الأحوال، والأزمان، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) زيادة في (د).
(2) إنّه لمن المعلوم أن هجر المسلم أمر محظور شرعاً، بنص قول النبي صلّى الله عليه وسلّم "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان فيصدّ هذا ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". صحيح البخاري مع الفتح 11/23، الاستئذان باب (السلام)؛ صحيح مسلم بشرح النووي، 16/353، البر والصلة، باب (تحريم الهجر فوق ثلاث ليال بلا عذر شرعي).
غير أنه قد يشرع الهجر في بعض الأحيان، إذا كان في ذلك مصلحة راجحة، كما جاء في قوله تعالى عند ذكره لمراحل تأديب المرأة الناشز: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34].
وقد هجر النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه شهراً، كما أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده، 1/235. وكما أمر صلّى الله عليه وسلّم الصحابة -رضوان الله عليهم-بهجر الذين تخلفوا عنه في تبوك، ونهاهم عن كلامهم، وعليه بوّب البخاري –رحمه الله-باب (ما يجوز من الهجر لمن عصى)؛ وذلك في كتال الأدب.
وأما المسألة الثالثة:
هل للوالد أن يتصرف في مال ولده الصغير بما ليس فيه مصلحة، أم هو أسوة غيره من الأولياء، ليس له النظر إلاّ ما فيه المصلحة؟
/فالجواب/(1):
أنّ الواجب على كل من كانت له ولاية، أن يتقي الله فيها، ويصلح ولا يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/273)
(3) في (أ)و (ج) و(د) والمطبوع: (والجواب)، بالواو، والصواب: فالجواب، بالفاء، كما في (ب) لأنه في جواب أمّا.(1/274)
ص -217- ... حكم تصرّف الولد في مال ولده الصغير. سبيل المفسدين.
وفي الحديث: "كلّكم راعٍ، وكلّكم مسئول عن رعيّته"(1)، بل يحرم على المكلف إضاعة مال نفسه، وإنفاقه في غير مصلحة(2)،وهو من الإسراف، إلاّ أنّ الوالد ليس كغيره في العزل، ورفع اليد إذا ثبت رشده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صحيح البخاري مع الفتح، 2/441، الجمعة، باب (الجمعة في القرى والمدن). صحيح مسلم بشرح النووي 12/454، الإمارة، باب (فضيلة الإمام العادل). سنن أبي داود، 3/342، الإمارة، باب (ما يلزم الإمام من حق الرعيّة). سنن الترمذي، 4/181، الجهاد، باب (في الإمارة).
(2) وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم النهي عن إضاعة المال في قوله: "إنّ الله حرّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"، صحيح البخاري مع الفتح، 5/83، الاستقراض، باب (ما ينهى من إضاعة المال)، صحيح مسلم بشرح النووي، 12/251، الأقضية، باب (النهي عن كثرة المسائل). وقد نقل الإمام ابن حجر في الفتح، قول الجمهور في قوله عليه السلام "وإضاعة المال"، قالوا: إنّ المراد به السرف في إنفاقه. وعن سعيد بن جبير: إنفاقه في الحرم. فتح الباري، 5/84.
وأما المسألة الرابعة:
هل للوالد أن يمتلك جمع مال ولده الصغير، أو بعض ماله الذي يضر به، أم حكم الصغير حكم الكبير، يعتبر للتملّك من ماله، ما يعتبر للتملك من مال الكبير؟ وهل يفرّق بين الغني والفقير، أم الحكم واحد؟ حكم تملك الوالد جميع مال ولده.
/فالجواب/(1):
أنّ للأب أن يتملّك من مال ولده ما شاء، صغيراً كان الولد أو كبيراً، غنياً كان الأب أو فقيراً(2)، بشروط ستة مقررة في محلّها، منها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د): (والجواب)، بالواو.(1/275)
(2) هذا ما قرّرته هذه الشريعة الغراء، لما للوالد من حق عظيم على ولده، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن رجلاً أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالاً وولداً، وإنّ أبي يجتاح مالي، قال: "أنت ومالك لوالدك، إنّ أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم". سنن أبي داود 3/801-802، البيوع، باب (في الرجل يأكل من مال ولده). سنن ابن ماجة 2/34، التجارات، باب (ما للرجل من مال ولده). وفي رواية عنده: (أنت ومالك لأبيك" من طريق جابر بن عبد الله. وقد قال الإمام الترمذي –رحمه الله-في سننه بعد ما أورد حديث: "إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم"، قال هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم،وغيرهم قالوا: إنّ يد الوالد مبسوطة في مال ولده، يأخذ ما يشاء، وقال بعضهم: لا يأخذ من ماله إلاّ عند الحاجة إليه؛ سنن الترمذي 3/640، الأحكام باب (ما جاء أنّ الوالد يأخذ من مال ولده).(1/276)
ص -218- ... أن لا يضرَّ بالولد ضرراً يلحقه في الحاجات الضرورية، كتملّك سريّته، ونحو ذلك.
وأن لا يكون في مرض موت أحدهما. وألا يعطيه ولداً آخر. وأن(1) يكون عيناً /موجوداً/(2).
وله الرجوع في الهبة إذا كانت عيناً باقية في ملك الابن، لم يتعلق بها حق أجنبي، ولا رغبة، كمداينة الأجنبي، وأن لا تزيد زيادة متصلة، وعنه الرجوع فيما زاد زيادة متصلة كالمنفصلة، وليس من جنس النماء –كما توهمه السائل- بل ذلك من التصرفات في الهبة(3). رجوع الوالد في هبة ولده؛ وقد نص فقهاؤنا على أن كل تصرف للابن لا يمنعه من التصرف في العين، ليس بمانع للأب من الرجوع في هبته، والتصرف فيها، والنقص الحاصل بقلع الغراس وأخذ الحلية، لا يمنع الرجوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د) والمطبوع: (وأن لا يكون..).
(2) في جميع النسخ: (موجودة).
(3) انظر: المبسوط لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ط/3، 12/83-88. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (ت587هـ)، نشر زكريا علي يوسف، مطبعة الإمام، القاهرة، 8/3798، 3701. الإقناع في فقه الإمام أحمد، لأبي النجا شرف الدين بن موسى الحجاوي (ت968هـ)، المطبعة المصرية بالأزهر، نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر، 3/36،37.(1/277)
ص -219- ... وأما المسألة الخامسة:
وهي إذا كان لرجل على آخر دين، مثل الصّقيب(1) يكون له الدين الكثير، يصطلحان /ينهما/(2)، على أن الدين يكون نجوماً(3) ... إلى آخر ما ذكرت.
/فالجواب/(4):
إنّ هذا ليس بصلح، ولا يدخل في حدّ الصلح كما نص عليه الحجاوي(5)، وغيره، بل هو وعدٌ، يستحب الوفاء به على المشهور. وكونه فيه /إرفاق/(6) فذاك لا يغيّر الحدود الشرعية، ولا يدخل في مسمّى الصلح، كما لا تدخله، الهبة والعطية.والله أعلم. /تمّت ولله/(7) الحمد والمنّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصقيب: القريب، النهاية في غريب الحديث، 2/41؛ لسان العرب، 1/525، مادة (صقب). وبهذا فسره ناسخ (ب) في الهامش.
(2) كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: (بينهم).
(3) نجوماً: من النجم، وهو الوقت المضروب، يقال: نجمت المال إذا أديته نجوماً. لسان العرب لابن منظور، مادة (نجم)، 12/570.
(4) في (د): (والجواب).
(5) هو موسى بن أحمد بن موسى بن سالم، الحجاوي المقدسي، شرف الدين أبو النجا، فقيه حنبلي من أهل دمشق. له: "الإقناع" و"زاد المستقنع في اختصار المقنع"، وغيرهما. (ت968هـ).
(6) في (ب): (رفق).
(7) بياض في (د). وقوله: (تمت ولله الحمد والمنة) ساقط في (ب).(1/278)
ص -220- ... الرِّسَالَةُ الثَّالِثََةُ (1):
قال جامع الرسائل
وله/أيضاً-رحمه الله تعالى(2)-/(3)، رسالة في تحريم السفر إلى بلاد المشركين، والفرق بين البلاد التي هجم عليها الكافر الحربي، فاستولى عليها، واجتهد في هدم قواعد الإسلام، وطمس أصوله العظام كالإحساء، وبين غيرها من بلاد المشركين، ولو مع إظهار دينه، وهذا نصها(4):
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الإبن المكرم إبراهيم بن عبد الملك، سلّمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو على نعمائه. والخط الذي سألت فيه عمّا نفتي به في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، قد وصل إلينا. والذي/كتبناه/(5) حكم السفر إلى بلاد الأعداء من الكفار. للإخوان، به(6) كفاية للطالب وبيان، ولم نخرج فيه عمّا عليه أهل الفتوى عند جماهير المتأخرين.
نعم، فيه التغليظ على من يسافر إلى بلاد هجم عليها العدو الكافر الحربي، المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وقلع أصوله، وشعائره العظام، ورفع أعلام الكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الرسالة أتت متأخرة في (ب)،في لوحة (141-149)، ووردت في الدرر السنية 7/152-159.
(2) كلمة (تعالى) ساقطة في(ج).
(3) في(ب): (وله-قدس الله روحه، ونوّر ضريحه-رسالة...).
(4) مقدمة جامع الرسائل هذه، ساقطة في المطبوع.
(5) في(أ)، و(ج)، والمطبوع: (كتبنا)، بإسفاط الهاء.
(6) في المطبوع (به فيه...)، بزيادة كلمة(فيه).(1/279)
ص -221- ... والتعطيل، وتجديد معاهد الشرك والتمثيل، وإطفاء أنوار الإسلام الظاهرة، وطمس منار أركانه الباهرة، وهو العدو الذي اشتدّت به الفتنة على الإسلام والمسلمين، وعزّ بدولته جانب الرافضة(1)، والمرتدين، ومن على سبيلهم من المنحرفين، والمنافقين فمثل هذه البلدة تخص من عمومات الرخصة، لوجوه، منها:
أنّ إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمّة متعذّر غير حاصل، كما هو مشاهد معلوم عند من خبر القوم، مع من يجالسهم، ويقدم إليهم. وقلّ أن يتمكّن ذو حاجة لديهم إلاّ بإظهار عظيم من الركون، والموالاة، والمداهنة. وهذا مشهور متواتر، لا ينكره إلاّ جاهل، أو مكابر، لا غيرة له على دين الله، وشرعه، ولا توقير لعظمته، ومجده، قد اتخذ ظواهر عبارات- لم يعرف حقيقتها، ولا يدري مراد الفقهاء منها- تُرساً يدفع به في صدور الآيات، والسنة، ويصدف به عن أهدى منهج، وسنن، فهو كحجر في الطريق بين السائرين إلى الله، والدار الآخرة، يحول بينهم وبين مرادههم، ويثبطهم عن سيرهم، وعزماتهم. وقد كثر هذا الضرب من الناس في المتصدّين للفتوى في مثل هذه المسائل، وبهم حصل الإشكال، وضلّت الأفهام، /واستبيحت/(2) مساكنة عباد الأوثان، والأصنام، وافتُتِنَ بهم جملة الرِّجال، وقصدهم الركائب، والأحمال، وسار إليهم ربَّات الخدور، والحجال، عملاً بقول رؤوس الفتنة، والضلال، ولا يصل إلى الله، ويحظى بقربه، ويرد نمير التحقيق، وعذبه، مَنْ أصغى إليهم سمعه، واتخذهم أخداناً يرجع إليهم في أمر دينه، ومهمات أمره.
وقد قال بعض السلف:" إنّ هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في جميع النسخ (الرفضة)، وفي المطبوع المثبت. وتقدم تعريف الرافضة في ص 57.
(2) في(ب)، و(ج)، والمطبوع: (واستُحِبَّت). وفي(د): (واستُحِلَّت).(1/280)
(3) هذا قول ابن سيرين. أورده الهندي في" كنز العمال" برقم(29316). وابن الجوزي في" العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور، ط/1، 1399هـ، 1/124-مرفوعاً-ولا يصح رفعه كما بين ذلك ابن الجوزي. والمباركفوري في" مرعاة المفاتيح"، شرح" مشكاة المصابيح"، لعبيد الله بن محمد المباركفوري، نشر إدارة البحوث الإسلامية والدعوة، بالجامعة السلفية، بالهند، ط/3، 1405هـ/1985م، 1/358.(1/281)
ص -222- ... ومن خاض في مثل هذه المباحث الدينيّة، من غير ملكة ولا رويّة، فما يفسد أكثر مما يصلح، وضلاله أقرب إليه من أن يفلح، وقد قيل:" يفسد الأديانَ نصف متفقّه، ويفسد اللّسان نصف نحوي، ويفسد الأبدان نصف متطبّب"(1). فعليك بمعرفة الأصول الدينيّة، والمدارك الحكميّة، ولترفع همّتك إلى استنباط الأحكام من الآيات القرآنية، والسنن الصحيحة النبويّة، ولا تقنع بالوقوف مع العادات، وما جرت به سنن الأكثرين في الديانات؛ فقد قال بعضهم:" من أخذ العلم من أصله استقر، ومن أخذه من تياره اضطرب"(2). وما أحسن ما قال في الكافية الشافية:
/لكن/(3)نجا أهل الحديث المحض أت ... باع الرسول/وتابعوا/(4) القرآنِ
عرفوا الذي قد قال مَعْ علم بما ... قال الرسول فهم أولوا العرفانِ
وسواهم في الجهل والدعوى مع ال ... كبر العظيم وكثرة الهذيانِ
مدّوا يداً نحو العلى بتكلُّفِ ... وتخلُّفِ وتكبُّرٍ /وتوانِ/(5)
أترى ينالوها وهذا شأنهم ... حاشا العلى من ذا الزبون الفانِ(6)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب /- رحمه الله تعالى-/(7)، في المواضع التي نقلها من السيرة:" إنه لا يستقيم للإنسان إسلام -ولو وحّد الله، وترك الشرك- إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء"(8).
فانظر إلى تصريح الشيخ بأنّ الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة والبغضاء، فأين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم أهتد لقائله. والمعنى: أنّ كل من أراد عمل شيء، وكان عمله به ناقصاًً، أفسده.
(2) لم أعرف قائله.
(3) كذا في الكافية الشافية. وفي جميع النسخ. والمطبوع: (فلقد).
(4) كذا في الكافية. وفي جميع النسخ: (وتابع).
(5) كذا في الكافية. وفي جميع النسخ):وهوان).
(6) الكافية الشافية، لابن القيم، 2/119.
(7) ساقط في (د).
(8) مختصر سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لمحمد بن عبد الوهاب، طبعة دار الإفتاء، الرياض، 1408هـ، ص 30.(1/282)
ص -223- ... التصريح من هؤلاء المسافرين، والأدلة، من الكتاب والسنة، ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ؟ (1) وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه(2)، ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين، وهل اشتدّت العداوة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين قريش، إلا لما كافحهم بمسبة دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم(3)؟!
وأي رجل تراه يعمل المطي جاداً في السفر إليهم، واللحوق بهم، حصل منه، ونُقِل عنه ما هو دون هذا الواجب. والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكليّة، والإعراض عنه، واستعمال التقيّة، والمداهنة(4). وشواهد هذا كثيرة شهيرة، والحسيات، والبديهيات غنيّة عن البرهان.
الوجه الثاني:
إنّ قتال من هجم على بلاد المسلمين- من أمثال هؤلاء- فرض عين، لا فرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إلى آخر السورة. فقد أمره تعالى بأن يخاطبهم بأنّهم كافرون، ويصرّح لهم بأنّهم على الشرك، وأنّه على دين الله بريء مما هم عليه. وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:104].
2" المراد بإظهار الدين هو: أن يكون المسلم قادراً على التصريح للكفار بالعداوة، والبراءة، وليس المراد أن يترك الإنسان يصلي، ولا يقال له أعبد الأوثان! انظر: النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الشرك، لحمد بن علي بن عتيق، دار القرآن الكريم، بيروت، ط/5، 1400هـ، ص 67. الدفاع عن أهل السنة والأتباع، لحمد بن علي بن عتيق، دار القرآن الكريم، بيروت، ط/2، 1400هـ، ص 17(1/283)
(3) والآيات في ذلك كثيرة جدا، منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا}
إلى آخر الآيات [الأعراف: 194-198]. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية[الأحقاف:5]
(4) وهذا أقل ما يمكن قوله في المتعاملين معهم اليوم، بل قد يكون من يكتفي بذلك أحسنهم حالاً. فإنّك تأسف لو ابتليت بسماع أحاديث بعض المتردّدين إليهم من شبابنا، وما تصدره ألسنتهم من ألفاظ نابية؛ مثل: أهل ذلك البلد(ما شاء الله)، تقدّم، حضارة، حرّية، إنسانيّة، مديّة، ونحوها، من غير شعور، وإدراك لفحوى تلك الألفاظ. فضلاٍ عن التقليد الصّارخ في العادات، من لباس، ولغات، وغيرهما، فأصبح أحسن الصديق هو ذلك المتحدث باللغة الإنجليزية، أو نحوها.
وبعض أولئك-وهو عندهم-يستحي من إقامة الصلاة أمام الملإِ، وأحياناً من أن يعرف بالإسلام، وقد علمت بمن إذا وصل عندهم غيّر اسمه، وتسمى باسم مشابه بما لديهم.
فإذا كان ذلك مما يخافه في نفسه، فكيف يتصور منه التجاسر لنطق كلمة الدعوة فيهم، فضلاٍ عن التصريح لهم بالعداوة؟! فإنا لله وإنا أليه راجعون.(1/284)
ص -224- ... كفاية، كما هو مقرر، مشهور(1). فلا يحل، ولا يسوغ- والحالة هذه- تركه، والعدول عنه لغرض دنيوي. وقواعد الإسلام، ومدارك الأحكام، ترد القول بإباحة ترك الفروض العينيّة، لأغراض دنيويّة.
ومن عرف هذا، عرف الفرق بين مسألتنا، وبين عبارة من قال بجواز السفر لمن فدر على إظهار دينه بأدلّته، وبراهينه، لا يباح السفر إليهم(2)؛ فالرخصة مخصوصة بمن عرفه بأدلّته المتواترة في الكتاب والسنة، ومثل هذا هو الذي يتأتّى منه إظهار دينه والإعلان به، وكيف يظهره من لا يدريه، ولا إلمام له بأدلّته القاطعة للخصم ومبانيه. شعر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: فتح القدير، لمحمد بن عبد الواحد بن الهمام الحنفي(ت681هـ)، مكتبة ومطبعة الحلبي بمصر، ط/1، 1389هـ/1970م، 5/429. روضة الطالبين، للنووي، 10/214، المغني مع الشرح الكبير، 10/366.
(2) وقد صرح علماء السلف بالنهي عن السياحة لغير قصد شرعي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:" والسياحة في البلاد لغير قصد شرعي-كما يفعله بعض النساك-أمر منهي عنه. قال الإمام أحمد:" ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين، ولا الصالحين". الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ص114. وتقدّم كلام ابن كثير في ص223.(1/285)
ص -225- ... فقر الجهول بلا علم إلى أدبٍ ... فقر الحمار بلا/عقل/(1) إلى رسنِ(2)
حتى ذكر جمْعٌ تحريم القدوم إلى بلد تظهر فيه عقائد المبتدعة؛ كالخوارج، والمعتزلة(3)، والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل،وعرف أدلّته، وأظهره عند الخصم.
وقد عفت -أرشدك الله- أنّ الزمن زمن فترة من أهل العلم، غلبت فيه العادات الجاهلية، والأهواء العصبية، وقلّ مَنْ يعرف الإسلام العتيق، وما حرمه الله تعالى، من موالاة أعدائه المشركين، ومعرفة أقسامها(4)، وأنّ منها ما يكفر به المسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في جميع النسخ: (بلا رأس).
(2) البيت لأبي الطيب المتنبي، انظر: ديوان أبي الطيب المتنبي، بشرح أبي البقاء العكبري المسمى" التبيان في شرح الديوان"، ضبط وتصحيح مصطفى السقا، وإبراهيم الأبياري، الطبعة الأخيرة، 1391هـ/1971م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، 4/211.
(3) المعتزلة: فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجا عقليّا متطرفاً في بحث العقائد الإسلامية. وهم أصحاب واصل بن عطاء(الغزال) الذي اعتزل مجلس الحسن البصري. وقد تقدم ذكر أصول مذهبهم في ص181. التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الجرجاني(ت816هـ)، بتحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط/2، 1413هـ، ص282. الملل والنحل، للشهرستاني، 1/52. دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، ص82.(1/286)
وقد ذكر ابن خلكان سبب تسميتهم بذلك: أن واصل بن عطاء، كان في مجلس الحسن البصري، حين سئل عن جماعة يرجئون أصحاب الكبائر، فأخذ الحسن يفكر، وقبل أن يجيب، قال واصل: أنا أقول: إنّ صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل في منزلة بين منزلتين، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن البصري، فأصغوا إليه، فاستمالهم، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل؛ فسمي هو وأصحابه " معتزلة".
انظر: وفيات الأعيان، لبن خلكان، 3/248. والفرق بين الفرق، ص20-21.
(4) يعرف أنّ للموالاة صوراً وأقساما عدة، وقد جمعها مؤلف" الولاء والبراء"، وتتلخص في الآتي:
1-الرضى بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة.
2-الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله.
3-مودّتهم، ومحبّتهم، واتخاذهم أولياء.
4-الركون إليهم.
5-مداهنتهم، ومجاملتهم على حساب الدين.
6-اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين.
7-طاعتهم فيما يأمرون.
8-مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله.
9-توليتهم أمراً من أمور المسلمين.
10-استئمانهم، وقد خوّنهم الله.
11-الرضى بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزييِّ بزيِّهم.
12-إكرامهم، وتقريبهم، والبشاشة لهم، وانشراح الصدر لهم.
13-معاونتهم على ظلمهم، ونصرتهم.
14-مناصحتهم، والثناء عليهم، ونشر فضائلهم.
15-تعظيمهم، ومدحهم، وإطلاق الألقاب عليهم.
16-السكنى معهم في ديارهم، وتكثير سوادهم.
17-التآمر معهم، وتنفيذ مخططاتهم، والدخول في أحلافهم وتنظيماتهم، والتجسس من أجلهم، ونقل عورات المسلمين وأسرارهم إليهم، والقتال في صفّهم.
18-الهروب من دار الإسلام على دار الحرب؛ بغضاً للمسلمين، وحباً للكافرين.
19-الانخراط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية؛ كالشيوعية، والاشتراكية، والقومية، والماسونية، وبذل الولاء، والحب، والنصرة لها.(1/287)
انظر: الولاء والبراء في الإسلام، للقحطاني، ص230-247.(1/288)
ص -226- ... و/منها/(1) ما /هو/(2) دونه، وكذلك المداهنة(3) والركون، وما حرم الله تعالى ورسوله، وما الذي يوجب فسق فاعله، أو رِدَّتِه. وأين القلوب التي ملئت من الغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب)، و(ج).
(2) ساقط في (ب)، و(ج)، و(د).
(3) جاء في الدرر السنيّة: المداهنة هي: ترك ما يجب لله، من الغيرة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتغافل عن ذلك؛ لغرض دنيوي، وهوى نفسي، لزعم هؤلاء أنّ المعيشة لا تحصل لهم إلاّ بذلك. فالمداهنة هي المعاشرة والاستئناس، مع وجود المنكر، والقدرة على الانكار.
الدرر السنيّة في الإجوبة النجدية، 11/85. والمداهنة نوع من أنواع الموالاة للكفار. انظر: الدرر السنية، 7/38-39.(1/289)
ص -227- ... لله، وتعظيمه، وتوقيره، عن كفر هؤلاء الملاحدة وتعطيلهم، وصار على نصيب، وحظ وافر من مصادمة(1) أعداء الله، ومحاربتهم، ونصر دين الله، ورسله، ومقاطعة من صدّ عنه، وأعرض عن نصرته، وإن كان الحبيب المواتيا، فالحكم لله العلي الكبير. وأين من يباديهم بأنّ ما هم عليه كفر، وضلال بعيد، ومسبّة لله العزيز الحميد، يمانع أصل الإيمان والتوحيد، وأنّ ما هم عليه هو الكفر الجلي البواح، وهو في ذلك على نور من ربه وبصيرة في دينه؟ فسل أهل الريب والشبهات، هل يغتفر الجهل كله، والإعراض عنه علماً وعملاً، ويكتفي بمجرد الانتساب إلى الإسلام، عند قوم ينتسبون /إليه/(2) أيضا، وهم من أشد خلق الله كفراً به، وجحداً له، ورداً لأحكامه، واستهزاء بحقائقه.
فإن قالوا: يكتفي بذلك الانتساب، وتبرأ به الذمة، فقد على ما نقلوه، وأصّلوه من دليلهم، بالردّ والهدم. ومن حقق النظر، وعرف أحوال القوم، وسبر، علم أنّ معوّلهم على اتباع أهوائهم، والميل مع شهواتهم. نسأل الله لنا ولهم العافية.
هواي مع الركب اليمانين مصعدٌ(3) ... أسير(4) وجثماني بمكة موثقُ(5)
ومن هان عليه أمره تعالى فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله، وأغفل قلبه عنه، وكان هواه آثرٌ عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم عنده من طاعة ربه، فلله الفضلة من قلبه، وقوله، وعمله، وسواه مقدّم في ذلك فما قدره حق قدره، وما عظّمه حق عظمته. وهل قدّره حق قدره من سالم أعداءه، الجاحدين له، المكذّبين لرسله! وأعرض عن جهادهم، وعيبهم، والطعن عليهم، ولاقاهم بوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في(د): مصارمة. وهي بمعنى المقاطعة. لسان العرب، 12/335، مادة(صرم).
(2) بياض في(ب).
(3) في (د): (مصعداً).
(4) الرواية المشهورة: (جنيب)، بدلاً من (أسير). وفي (ب): يسير.(1/290)
(5) البيت لجعفر بن علبة الحارثي. انظر: جواهر البلاغة في المعاني والبيان البديع، لأحمد الهاشمي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط/12، ص332.(1/291)
ص -228- ... منبسط، ولسان عذب، وصدر منشرح،ولم يراع(1) ما وجب عليه من إجلال الله، وتعظيمه، وطاعته، جراءة على ربه، وتوثباً على محض حقه، واستهانة بأمره!
خلافاً لأصحاب النبي وبدعة ... وهم عن سبيل الحق أعمى وأجهل
الوجه الرابع:
أنّه لا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين من أمن الفتنة. فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم، وسلطانهم، أو شبهات(2) زخرفهم، وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم، والمخاطرة بدينه. وقد فرّ عن الفتنة من السابقين الأولين إلى بلاد الحبشة(3) مَنْ تَعلَمُ من المهاجرين؛ كجعفر بن أبي طالب(4) وأصحابه.
وقد بلغكم ما حصل من الفتنة، على كثير ممن خالطهم، وقدم إليهم، حتى جعلوا مسبّة من نهاهم عن ذلك، وأمرهم بمجانبة المشركين، ديناً يدينون به، ويفتخرون بذكره في مجالسهم، ومجامعهم. وقد نقل نقل ذلك عن غير واحد: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}(5). وبعض من رحل إليهم من جهتكم، حمل رسائلهم، ومكاتباتهم إلى أهل الإسلام، يدعونهم إلى الدخول تحت طلعتهم، ومسالمتهم، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم وبين من كاتبوه، واستحسن ذلك(6) كثيرٌ من الملإ. والله المستعان.
وقد شاع لديكم خبر من افتتن بمدحهم، والثناء عليهم، ونسبتهم إلى العدل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في(ج)، و(د): (ولم يراعي). وهو خطأ، والصواب حذف الياء؛ لأنه مجزوم بلم.
(2) في (د): (شهادة).
(3) وكان خروجهم إلى الحبشة للهجرة الأولى، في رجب سنة خمس من البعثة. وكانت أول هجرة في الإسلام. سيرة ابن هشام، 1/321-322. البداية والنهاية، 3/64.
(4) جعفر بن أبي طالب، أبو عبد الله، السيد الشهيد، هاجر الهجرتين، وهو أخو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، استشهد في غزوة مؤتة عام(8هـ).
انظر ترجمته: أسد الغابة، 1/34. سير أعلام النبلاء، 1/206.
(5) سورة الفرقان: الآية(31).
(6) في (د): (واستحسن كون ذلك).(1/292)
ص -229- ... وحسن الرعاية، إلى ما هو أعظم من ذلك وأطم، من مشاقة الله ورسوله، واتباع غير سبيل المؤمنين. ومن لم يشاهد هذا منكم، ولم يسمعه من قائله، قد بلغه وتحققه.
فأجهل الخلق وأضلهم عن سواء السبيل، من ينازع في تحريم السفر إليهم، والحالة هذه، ويرى حله، وجوازه.
الوجه الخامس:
أنّ سدّ الذرائع، وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده(1)،وقد رتّب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينيّة-تحليلاً وتحريماً- ما لا يحصى كثرة(2)، ولا يخفى أهل العلم والخبرة. وقد ترجم شيخ الدعوة النجديّة(3)-قدس الله روحه- لهذه القاعدة في كتاب التوحيد له، فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلّى الله عليه وسلّم جناب التوحيد، وسدّه كل طريق يوصل إلى الشرك؛ وساق بعض أدلّة هذه القاعدة(4).
وقد قُرِئَت علينا في الرسالة المدنية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، أنّ اعتبار هذا من محاسن مذهب مالك. قال: ومذهب أحمد قريب منه في ذلك(5). ولو أفتينا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر قاعدة سد الذرائع، في: أصول الفقه، لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، ص287.
(2) من ذلك على سبيل المثال: النهي عن البيع بعد النداء؛ لأنه وسيلة إلى ترك السعي إليها. النهي عن الاحتكار؛ لأنه ذريعة إلى التضييق على الناس. النهي عن التصوير؛ لأنه ذريعة إلى الشرك، بعبادة تلك الصور فيما بعد، كما حدث في عهد نوح عليه السلام.
(3) هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(4) ومن تلك الأدلة: قوله صلّى الله عليه وسلّم:" لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم". سنن أبي داود، 2/534، المناسك، باب(زيارة القبور). مسند الإمام أحمد، 2/267.
فأمر صلّى الله عليه وسلّم بتحري العبادة في البيوت، وعدم تعطيلها عن العبادات، فتكون بمنزلة القبور، كما نهى عن تحري العبادة عند القبور؛ حيث إنّ ذلك قد يوصل إلى عبادتها.(1/293)
(5) لم أجد هذا الكلام في الرسالة المنية. وهي رسالة صغيرة مطبوعة في(32) صفحة بالحجم الصغير، يوجد نسخة منها في مكتبة الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة.(1/294)
ص -230- ... بتحريم السفر؛ رعاية لهذا الأصل فقط، وسداً للذرائع المفضية/إليه/(1)، لكنّا قد أخذنا بأصل أصيل، ومذهب جليل.
الوجه السادس:
أنا لا نسلم دخول هذه البلدة-التي الكلام بصددها-(2) في عبارة أهل العلم ورخصتهم؛ لأنّ صورة الأمر وحقيقته، سفر إلى معسكر العدو الحربي، الهاجم على أهل الإسلام، المستولي على بعض ديارهم، والمجتهد في هدم قواعد دينهم، وطمس أصوله وفروعه، وفي نصرة الشرك والتعطيل، وإعزاز جيوشه وجموعه. فالمسافر إليهم كالمسافر إلى معسكر هو بصدد ذلك، كمعسكر التتر(3)، ومعسكر قريش يوم الخندق، ويوم أحد، أفيقال هنا بجواز السفر، لأنّ السفر إلى بلاد المشركين يجوز لمن أظهر دينه؟!وهل لهذا القول حظ من النظر والدليل، أو سفسطة(4) وضلال عن سواء السبيل؟!
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصرِ(5)
وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، الذي قال فيه: قد جعلته(6) للناس إماماً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في(ج)، و(د).
(2) أي التي هجم عليها العدو الكافر الحربي، المتصدي لهدم قواعد الإسلام، وتقدمت الإشارة إليها في ص 220.
(3) هم التتار الذين غزو بلاد المسلمين في أوائل القرن السابع، في صحبة ملكهم جنكيزخان. وقد كانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين. عبروا نهر جيحون عام616هـ، وأحدثوا الخراب والدمار في بخارى، وأكثروا القتل في المسلمين، واجتاحوا ديار الإسلام عبر العراق والشام إلى مصر، وقتلوا خلال ذلك من المسلمين ما لا يحد ولا يوصف.
انظر حادثتهم في: البداية والنهاية، 13/90-91، 94، وما بعدها.
(4) السفسطة: أصله: قياس مُركَّب من الوهميات، يقصد منه تغليظ الخصم وإسكاته، وذلك بالإتيان بمقدمات ذهنية، وصولاً بها إلى نتيجة. التعريفات، للجرجاني، ص158.
(5) البيت لعبد الملك بن إدريس الجزيري. انظر: مجمع الحكم والأمثال، لأحمد قبِّش، مطبعة دار العروبة، ص344.(1/295)
(6) في (د): (جعلت)، وفي المطبوع: (جمعته).(1/296)
ص -231- ... من حديث أبي بكرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:" ينزل ناسٌ(1) من أمتي بغائط(2) يسمونه البصرة(3)، عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر يكثر أهلها، وتكون من أمصار المهاجرين- وفي رواية: المسلمين- فإذا كان آخر الزمان، جاء بنو قنطوراء(4)، عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى /ينزلوا/(5) على شط النهر، فيفترق أهلها ثلاث فرق، فرقة يأخذون أذناب البقر والبريّة(6) وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د): (ناساً).
(2) الغائط: هو البطن المطمئن من الأرض، يقال: غاط في الأرض يغوط و يغيط، إذا غار. ومنه أطلق على موضع قضاء الحاجة: الغائط؛ لأنّ العادة أنّ الحاجة تُقضى في المنخفض من الأرض، حيث هو أستر له. ثمَّ اتسع فيه حتى صار يطلق على النَّجو نفسه. الفائق في غريب الحديث، لجار الله محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، وعي بن محمد البجاوي، طبعة الحلبي الثانية، 3/79. النهاية في غريب الحديث والأثر،3/395.
(3) البصرة: قال الخطابي في" معالم السنن":" البصرة: الحجارة الرخو، وبها سميت البصرة".
والبصرة: بلدة معروفة، ويقال لها: البصيرة؛ لأنّ المسلمين لما قدموها نظروا إلى الحصباء، فقالوا: إنّ هذه أرض بصرة، يعني: خصيبة. بناها عتبة بن غزوان سنة سبع عشرة من الهجرة.-على المشهور-في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. معالم السنن، بهامش" سنن أبي داود"، 4/488. الفائق، للزمخشري، 1/114. معجم البلدان، 1/430.
(4) بنو قنطوراء: اسم أبي الترك. ويقال: قنطوراء: اسم جارية كانت للخليل إبراهيم عليه السلام ولدت له أولاداً، جاء من نسلهم الترك.(1/297)
انظر معالم السنن، مع" سنن أبي داود"، 4/488. عون المعبود شرح سنن أبي داود، لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط/2، 1398هـ/1969م، 11/418.
(5) في (د): نزلوا.
(6) يريد بأذناب البقر والبريّة: الإعراض عن القتال والهروب منه؛ طلباً لخلاص أنفسهم ومواشيهم؛ فيهيمون في البوادي ويهلكون فيها، أو الإعراض عن القتال، والاشتغال بالزراعة، واتباع البقر للحراثة. عون المعبود، 11/419.(1/298)
ص -232- ... و(1) هم الشهداء"(2).
والحديث وإن كان في سنده سعيد بن جهمان(3)، فقد وثقه /ابن معين(4)، وحسبك به، ووثقه/(5) أبو داود، الذي أُلين له الحديث، كما ألين لداود الحديد(6).
فقسّمهم ثلاث فرق، وأخبر أنّ من أخذ لنفسه، وألقى السلم، وترك الجهاد، فقد كفر؛ ومن أعرض عن جهادهم، وتباعد عنهم مقبلاً على إصلاح دنياه وحرثه، فقد هلك، ولم ينج إلاّ من قام بجهادهم، وانتصب لحربهم، ونصر الله ورسوله. كما يستفاد من الجملة الإسمية المعرّفة الطرفين، ومن ضمير الفصل المقحم بين المبتدأ والخبر(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في جميع النسخ والمطبوع: (وأولئك هم). ولفظ: (أولئك)، لا يوجد في سنن أبي داود ولا مسند أحمد.
(2) سنن أبي داود، 4/487-488، الملاحم، باب(في ذكر البصرة). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/44-45، مع تغيير قليل قفي اللفظ. وهذا اللفظ لأبي داود. والحديث صححه الألباني في " صحيح سنن أبي داود".
(3) سعيد بن جهمان الأسلمي، أبو حفص البصري. قال الذهبي في الميزان:" وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أبو داود: ثقة، وقوم يضعفونه، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به". انتهى. وقال ابن حجر: صدوق له أفراد، من الرابعة، مات سنة ست وثلاثين.
انظر ترجمته: ميزان الاعتدال، للذهبي، 2/131. المغني في الضعفاء، للذهبي، بتحقيق: نور الدين عتر، نشر دار المعارف، سورية، ط/2، 1391هـ-1971م. تقريب التهذيب، لبن حجر العسقلاني، 1/292.
(4) هو يحيى بن معين بن عون بن زياد، الإمام الحافظ، شيخ المحدثين، ولد سنة 158هـ، سمع من سفيان بن عيينة، ووكيع وخلق كثير، وروى عنه أحمد بن حنبل، والشيخان وغيرهم. (ت233هـ) بالمدينة، رحمه الله. انظر: تاريخ بغداد، 14/177-187. تهذيب التهذيب، 11/280. سير الأعلام، 11/71-96.
(5) ساقط في (ب)، والمطبوع.(1/299)
(6) هذه الكلمة: أعني:" الذي ألين... الحديد"، لإبراهيم الحربي بن اسحاق بن إبراهيم. انظر: تهذيب التهذيب، 4/172.، وسير الأعلام، 13/212.
(7) يريد به: جملة" اولئك هم الشهداء". وقد أشرت إلى عدم وجود لفظ" أولئك" في أصل النص، عند أبي داود، وغيره.(1/300)
ص -233- ... والحصر، وإن كان ادّعائياً، فهو يدلّ على شرف هذا الصنف وفضيلته. والحديث، وإن تأوّله بعضهم في حادثة التتر في القرن السابع(1)، فقائله لا يمنع من دخول سواها في الخبر، وأنّ له ذيولاً وبقيّة. ولا ريب أنّ /هذا/(2) الذي حصل في هذا الزمان، إن لم يكن منها /ومن ذيولها/(3)، فهو شبيه بها من كل وجه.
فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه ... أخوها غذته أمه بلبانها(4)
وقد قال شيخ الإسلام/-رحمه الله-/(5) في اختياراته: من جمز(6) إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتدّ، وحلّ مله ودمه(7). فتأمل هذا، فإنه-إن شاء الله تعالى(8) يزيل عنك إشكالات كثيرة، طالما حالت بين القوم، وبين مراد الله ورسوله، ومراد أهل العلم من نصوصهم، وصريح كلامهم.
ثم اعلم أنّ النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة بدار الشرك، والقدوم إليها، وترك القعود مع أهلها، ووجوب التباعد عن نصوص في منع الإقامة بين أظهر المشركين. عامة مطلقة(9)، وأدلة قاطعة محققة، ومن قال بالتخصيص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حادثة التتر، تقدمت الإشارة إليها في هامش ص 230.
(2) زيادة في (د).
(3) زيادة في (د).
(4) لم أعرف قائله، ولا مصدره.
(5) ساقط في (ج)، و(د).
(6) جمز: هو ضرب من السَّير، أسرع من العَنَق. الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، مادة (جمز). لسان العرب، لابن منظور، مادة (جمز)، 5/323.
(7) لم أجد قوله هذا في" الاختيارات"، وإنّما وجدت كلاماً في معناه، في" مجموع فتاواه" 28/530.
وما قاله الشيخ، هو الحكم في كل من لحق بالكفار، والمحاربين للمسلمين، وأعانهم عليهم،؛ فإنه داخل في صريح قوله تعالى{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
(8) زيادة في (ب).
(9) ومن تلك النصوص ما يلي:(1/301)
أ-ورد في وجوب الهجرة، قوله تعالى{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ب-وورد في النهي عن الإقامة بدار الشرك، قوله صلّى الله عليه وسلّم" أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". سنن أبي داود، 3/105. سنن الترمذي، 4/133.
ج-وورد في وجوب التباعد عن مساكنتهم، ومجامعتهم، قوله صلّى الله عليه وسلّم" لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فليس منا". المستدرك للحاكم، 2/141. وقال: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.(1/302)
ص -234- ... والتقييد لها، إنّما يستدلّ بقضايا عينيّة خاصة، وأدلّة جزئيّة لا عموم لها عند جماهير الأصوليين والنظار، بل هي في نفسها محتملة /للتخصيص والتقييد/(1)ن ومن قال بالرخصة، لا ينازع في عموم الأدلة الموجبة للهجرة، المانعة من المجامعة والمساكنة، غاية ما عند الخصم، أن يقيس حكماً على حكم، وفرعاً على فرعٍ، وقضيّة على قضيّةٍ. والمنازع له يتوقّف في صحة هذا القياس؛ لأنه معارض لدليل العموم والإطلاق.
وقد رأيت محمد بن علي الشوكاني(2) جزم فيما كتبه على" المنتقى"، بردّ قول الماوردي(3)، بجواز الإقامة بدار الشرك، وفضيلة ذلك لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره. قال: وهذا القول معارض لعموم النص، فلا يسلم ولا يلتفت إليه(4)، مع أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د) تقديم وتأخير بين الكلمتين.
(2) هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، أبو عبد الله، مفسر، محدث، فقيه، أصولي، صاحب" البدر الطالع"، و"إرشاد الفحول" و"فتح القدير في التفسير"، وغيرها. (ت1250). انظر ترجمته: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي ابن محمد الشوكاني(ت1250)، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 2/214-215. معجم المؤلفين، 11/53، الأعلام للزركلي، 6/289.
(3) هو محمد بن الحسن بن علي بن الحسن التميمي البصري، أبو غالب الماوردي، إمام، محدث، صدوق، ولد سنة(450هـ)، حدّث عنه ابن الجوزي، وغيره(ت525هـ). انظر ترجمته: سير الأعلام، 19/589. شذرات الذهب، 4/75.
(4) ونص ما قاله الشوكاني، قال بعد إيراده لقول الماوردي:" ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب، القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر". نيل الأوطار شرح منتقىالأخبار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، طبعة الحلبي الأخيرة بمصر، 8/31.(1/303)
ص -235- ... الذي كتبناه في هذه المسألة، موافق للمشهور عند المتأخرين، لم نخرج عنه كما تقدّم ذكره.
والقصد أن المسألة من أصلها فيها بحث قوي، ومجال للنظر، فإن بقي عليك إشكال فراجعني، وإياك والسكوت على ريبة. وقد رأيت بخط الوالد- قدس الله روحه- ما نصه:
شمّر إلى طلب العلوم ذيولا ... وانهض لذلك بكرة وأصيلا
وصل السؤال وكن هديت مباحثاً ... فالعيب عندي أن تكون جهولا(5)
وأما مسألة المبايعة، فلم يسألني عنها أحد ولم يتقدّم لي فيها كلام، وقد بسط شيخ الإسلام /ابن تيمية/(6) /- رحمه الله تعالى-/(7) الكلام على مبايعة أهل الذمة، ومَنَع من بيع ما يستعينون به على كفرهم وأعيادهم(8). وأما الكافر الحربي فلا مسألة بيع الكفار ما يستعينون به على المسلمين. يُمَكَّنُ مما يعينه على حرب أهل الإسلام، ولو بالميرة(9)، والماء، ونحوه، والدواب، والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في حال الحرب، من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به(10)، فكيف /ببيعهم/(11) وإعانتهم على أهل الإسلام؟! فإن انضاف إلى ذلك ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لعل البيتين للشيخ عبد الرحمن بن حسن، والد المصنف.
(2) زائد في (د).
(3) ساقط في (ب)، و(ج)، و(د) والمطبوع.
(4) انظر كلام شيخ الإسلام في ذلك: اقتضاء الصراط المستقيم، ص227، 229، 249.
(5) الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وفي التهذيب: جلب الطعام للبيع. يقال: مار عياله وأهله، يميرهم ميراً. لسان العرب، 5/188، مادة(مور).
(6) انظر: المغني مع الشرح الكبير، 10/509.
(7) في (د)، والمطبوع: (بيعهم)، بإسقاط الباء الأول.(1/304)
ص -236- ... هو الواقع من المسافرين في هذا الزمان مما تقدم ذكره، فالأمر أغلظ وأفحش(1)، وذلك /فرد/(2) من وراء الجمع.
وأكثر الناس يخفى علي أن المرتدين من أهل تلك الديار التي استولى عليها الكافر الحربي، أغلظ كفراً، وأعظم جرماً بجميع ما تقدم من الأحكام، ولذلك تجد لهم عند القادمين إليهم من المباسطة، والمؤانسة، والإكرام، ما هو أعظم مما مرّت حكايته، من صنيعهم مع هذا الكافر الحربي، فافهم ذلك. والله المسئول المرجو الإجابة، أن ينصر دينه، وكتابه، ورسوله، وعباده المؤمنين، وأن يظهر /دينه/(3) على الدين كله، ولو كره المشركون.
وصلى الله على عبده ورسوله النبي الأمين وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا الكلام يقوله الشيخ عبد اللطيف في زمنه، فكيف لو أضفت إلى ذلك، ما يحدث في زمننا هذا –من بعض المسلمين-من السفر إليهم، لا لشيء سوى قصد السياحة والأغراض المحرمة؟! والله المستعان.
(2) كذا في المطبوع، وبه يحصل المعنى، وفي جميع النسخ)فرق).
(3) ساقط في (د).(1/305)
ص -237- ... (الرسالة الرابعة)(1):
قال جامع الرسائل
وله أيضا – قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، في مسألة السفر إلى بلاد المشركين، وقد ذكر له –أعني محمد بن علي- من جهة فتوى الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فيمن في حكم من يسافر إلى بلاد المشركين. يسافر إلى بلد المشركين، فشرح ووضح ما أفتى به والده، فكشف القناع عن محاسن معانيها، وقطع – بالوجوه الساطعة الأسارير، الراسخة مبانيها- جميع ما يتعلق به كل مبطل، وأزاح بما أبداه، غبار كل مشكل.
وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن علي آل موسى، سلّمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وسبق إليك خط مع البداة(2)، أشرت لك فيه إلى المسألة التي ذكرت لي من جهة فتوى الوالد الشيخ –قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- فيمن يسافر إلى بلاد المشركين. وفي هذه الأيام ورد علينا خط من ولد العجيري(3)، ذكر فيه أنّ لفظ الوالد في جوابه، قوله:" وأما السفر إلى بلدان المشركين للتجارة، فقد عمّت به البلوى، وهو نقص في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة 149-153؛ أي بعد الرسالة(62) حسب ترتيب(أ). وقد وردت أيضاً في " الدرر السنيّة"، 7/159-161.
(2) هكذا في جميع النسخ: (البداة).
(3) لم أعرفه. وجاء في" علماء نجد":" وأسرة العجيري تقيم في حوطة بني تميم، وليسوا منهم". انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/514.(1/306)
ص -238- ... دين من فعله(1)؛ لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين، فينبغي هجره وكراهته.
وهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سبّ ولا ضرب، ويكفي في حقه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله، ولو لم يكن حاضراً. والمعصية إذا وُجدت أُنكرت على من فعلها، أو رضيها إذا اطلع عليها". انتهى ما نقله.
وهذه العبارة -بحمد الله- ليس فيها ما يتعلق به كل مبطل؛ لوجوه؛ منها:
أنّ الذي وقع في هذه الأعصار -وكلامنا بصدده- أمر يجلّ عن الوصف، وقد اشتمل مع السفر على منكرات عظيمة، منها: موالاة المشركين، وقد عرفتم ما فيها من النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وعرفتم أنّ مسمى الموالاة، يقع على شُعَب متفاوتة، منها ما يوجب الردّة وذهاب الإسلام بالكليّة، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات. وعرفتم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}(2) أنّها نزلت فيمن كاتب المشركين بسرِّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(3)، وقد جُعل ذلك من الموالاة المحرمة، وإن اطمأنّ قلبه بالإيمان.
وكذلك من رأى أن في ولايتهم مصلحة للناس والحضر، وهذا واقع مشاهد تعرفونه من حال أكثر هؤلاء الذين يسافرون إلى تلك البلاد، وربّما نقل بعضهم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/307)
(1) إنّ هذا يكون نقصاً في الدين، بحسب المسافر إلى تلك البلدان، من حيث القوة أو الضعف في إيمانه؛ إذ قد سافر بعض الصحابة –رضوان الله عليهم-إلى بلدان المشركين للتجارة، ولم ينكر عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فمتى كان المسلم على ثقة، وقوة في إيمانه، قادراً على إظهار دينه، ومصارحة الكفار بفساد ما هم عليه، فمثل هذا يجوز له السفر إليهم للتجارة، ولا يكون ذلك نقصاً في دينه. أما من كان دونه، فهذا الذي يخشى عليه الفتنة بمخالطتهم. انظر: رسالة حكم السفر إلى بلاد الشرك، لسليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن " الجامع الفريد"، ط/3، ص 376.
(2) سورة الممتحنة: الآية(1).
(3) وهو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. انظر: أسباب النزول، للواحدي، ص421.(1/308)
ص -239- ... المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزّونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم، وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم، فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدلّ بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشر، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه.
وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة، في رسالة ابن عجلان(1)، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها، وأهل التعطيل والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكليّة، بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة، ولا صولة، ولا دخل في الرّأي(2)، مع أنها من المسائل المردودة على قائلها، كما بسط في غير موضع، وبالجملة، فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أنّ عبارة الشيخ، إذا تأمّلها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة.
وقول الشيخ "عمّت به البلوى" يبيّن أنّ الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات؛ إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض العين. وإذا هجم العدوّ، وصار الجهاد فرض عين، يحرم تركه، ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو محمد بن إبراهيم بن عجلان المطرفي العنزي، ولد بالرياض، كان كفيف البصر وقت الفتنة بين أبناء فيصل بن تركي، وكان ممن أجاز لعبد الله الاستعانة بالجنود العثمانية –مع ما هم عليه من مخالفة لخالص التوحيد-وألف في ذلك رسالة، فرد عليه الشيخ عبد اللطيف. علماء نجد خلال ستة قرون، 3/779.
(2)مسألة الاستعانة بالمشرك في الغزو:
هذه مسألة خلافية، كما أشار إليها المصنف، وقد ذهب العلماء فيها مذهبين:(1/309)
الأول: ذهبت جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين مطلقاً، وتمسكوا بحديث عائشة –رضي الله عنها-وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل المشرك الذي أدركه ليتبعه إلى بدر:"... ارجع؛ فلن أستعين بمشرك". والحديث أخرجه الإمام مسلم في صخيخه، 12/439؛ والترمذي في سننه، 4/108؛ وأبو داود في سننه، 3/172؛ وابن ماجه في سننه، 2/142. قالوا: هذا الحديث ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يعارضه لا يوازيه في الصحة والثبوت، فتعذّر ادعاء النسخ لهذا،. انظر بدائع الفوائد 3/102.
الثاني: ذهبت الشافعية وآخرون إلى جواز الاستعانة بهم، ولكن بشروط هي:
-أن يكون في المسلمين قلة، ودعت الحاجة إلى الاستعانة بهم.
-أن يكون الكافر حسن الرأي في المسلمين، وممن يوثق به.
-ألاّ يكون له دخل في الرأي ولا مشورة.
-ألاّ يكون للمشرك صولة ولا جولة يخشى منها.
انظر نيل الأوطار 8/254؛ المغني مع الشرح الكبير 10/456.
وقد استدل هؤلاء على مذهبهم بالآتي:
أ-ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعان بيهود بني قينقاع، أخرجه البيهقي في الكبرى 9/53؛ وأورده سعيد بن منصور في سننه برقم (2790).
ب-"أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم استعان بصفوان بن أميّة قبل إسلامه، فشهد حنيناً، والطائف، وهو كافر". أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/543-544، النكاح، باب (نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله). والحديث أورده الذهبي في "سير الأعلام" 2/565؛ قالوا: إن حديث عائشة –رضي الله عنها-كان يوم بدر، وفي الحديث كان استعانته صلّى الله عليه وسلّم بهؤلاء يوم حنين، فهو متأخر، ناسخ لحديث عائشة، فتعيّن المصير إليه.(1/310)
وإلى هذا الرأي الثاني ذهب الإمام ابن القيم –رحمه الله-فقد قال –حين تحدّث عن فوائد صلح الحديبية-: "... ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة، عند الحاجة، لأنّ عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذ أخبارهم"، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط/26، 1412هـ-1992م، 3/301.(1/311)
ص -240- ... وأيضاً، فكلام الشيخ يحمل على ما ذكره الفقهاء، في أن عامة الناس ليس لهم أن يفتاتوا(1) على ولي الأمر في الحدود والتعزيرات، إلاّ بإذنه. وقد عرفتم حال أكثر الولاة في عدم الاهتمام بهذا الأصل، فالافتيات علم بالحبس، والضرب، ونحو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الافتيات: من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من يؤتمر، وافتات عليه في الأمر: حكم، وكل من أحدث دونك شيئاً، فقد افتات به، وافتات بأمره: أي مضى عليه، ولم يستشر أحداً. لسان العرب 2/69، مادة (فوت).(1/312)
ص -241- ... ذلك، مفسدة تمنعها الشريعة ولا تقرها، و "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح"(1)،فهذا، يوجب للشيخ وأمثاله، مراعاة المصلحة الشرعية، في الفتاوى الجزئية، لا سيّما في مخاطبة العامة. وقول الشيخ –لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين- صريح في أن الكلام فيمن لم يفتتن بدينه، وقد عرفتم حال أكثر الناس في هذا الوقت، أقل الفتنة أن يستخف بدينه(2)، وجمهورهم يظهر الموافقة بلسان الحال، أو لسان المقال، فهذا الضرب ليس داخلاً في كلام الشيخ، رحمه الله.
وقوله: "فينبغي هجره وكراهيته"، فيه بيان ما يستطيعه كل أحدٍ، وأمّا ولاة الأمور ومن له سلطان أو قدرة، فعليه تغيير المنكر باليد، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبالقلب، وهذا نص الحديث النبوي(3)، فلا يجوز العدول عنه، وإساءة الظن بأهل العلم، بل يحمل كلامه على ما وافقه، والمصر المكابر لا ينتهي إلاّ إذا غُيِّر فعله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه قاعدة أصولية، معمول بها في الشرع. الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، (911هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1403هـ، ص87، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، طبعة عام 1400هـ-1980م، ص90. شرح القواعد الفقهية، لأحمد بن السيخ محمد الزرقا (ت1357هـ)، ط/2، دار القلم، 1409هـ، ص205.(1/313)
(2) وقد ذكر الله –سبحانه وتعالى-في كتابه، أمثال هؤلاء الناس الذين لا يثبتون عند أدنى فتنة تعترضهم، قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. قال القرطبي في معنى عبادة الله على حرف: "وحقيقته أنه على ضعف في عبادته، لضعف القائم على حرف مضطرب فيه". الجامع لأحكام القرآن، 12/13.
فهذا الذي يصل إلى درجة الاستخفاف بدينه، لا شك في كونه ضعيفاً في عبادته ويقينه، وإن لم يوصله ذلك إلى درجة الكفر بالله تعالى.
(3) هنا أورد الشيخ –رحمه الله-الحديث بالمعنى- أما نصه فهو عند مسلم، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
صحيح مسلم بشرح النووي 2/381، الإيمان، باب (كون النهي عن المنكر من الإيمان)، وأخرجه أصحاب السنن: سنن أبي داود 1/677-678، الصلاة، باب (الخطبة يوم العيد). سنن الترمذي، (4/408، الفتن باب (ما جاء في تغيير المنكر). سنن النسائي 8/111-112، الإيمان باب (تفاضل أهل الإيمان). سنن ابن ماجة 2/382، الفتن باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).(1/314)
ص -242- ... بالأدب والحبس، وهو داخل في عموم الحديث.
وقد شاهدنا من الوالد –رحمه الله- تعنيف هذا الجنس وذمّمهم، وذكر حكم الله ورسوله في تحريم مخالطة المشركين، مع عدم التمكن من إظهار الدين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التعزيزات تفعل بحسب المصلحة، وليس لها حدّ محدود، بل بحسب ما يزيل المفسدة، ويوجب المصلحة، وذكر قتل شارب الخمر في رابعة، وأنه من هذا الباب، وأشار إلى ذلك في اختياراته(1) وكذلك غيره من المحققين، ذكروا أنّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص299-300؛ مجموع الفتاوى 28/366.
مسألة قتل شارب الخمر في الرابعة:
هذه المسألة مختلف فيها عند العلماء على قولين:
القول الأول: وهو لبعض العلماء، منهم بعض أهل الظاهر، والحسن البصري، قالوا بأنّ من شرب الخمر في الرابعة يقتل. المحلى لابن حزم 13/426؛ واستندوا في ذلك على ما رواه معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" سنن أبي داود 4/623-624، الحدود باب (إذا تتابع في شرب الخمر). سنن الترمذي 4/39، الحدود باب (ما جاء في "من شرب الخمر فاجلدوه"). سنن النسائي 8/313، الأشربة. سنن ابن ماجة 2/89، الحدود، باب (من شرب الخمر مراراً). فالحديث صريح في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتل شارب الخمر في الرابعة.(1/315)
القول الثاني: ذهب جمهور العلماء –منهم الأئمة الأربعة-إلى أنه لا يقتل، ويكتفى فيه بالحد. المحلى لابن حزم 13/419. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبد الرحمن المبارك فوري (ت1353هـ)، نشر المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة، ط/2، 1385هـ، 4/724. واستدلوا على ذلك بالآتي: ما أخرجه أبو داود والترمذي، من حديث الزهري، عن قبيصة، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه" فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتى به فجلده، ثم أتى به فجلده، ورفع القتل. سنن أبي داود 4/625-626، الحدود، باب (إذا تتابع في(1/316)
ص -243- ... .....................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شرب الخمر). سنن الترمذي 4/40.
قال الترمذي بعد إيراده لهذا الحديث: "والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك، في القديم والحديث".
قال الجمهور: أحاديث القتل منسوخة بحديث: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". صحيح البخاري مع الفتح 2209، الديات باب (قولع تعالى: {}.. إلخ). صحيح مسلم بشرح النووي 11/176، القسامة باب (ما يباح به دم امرئ مسلم... إلخ). سنن النسائي 7/90، تحريم الدم باب (ذكر ما يحل به دم المسلم). سنن ابن ماجة، الحدود باب (لا يحل دم.. إلخ). وانظر: المحلى لابن حزم، 13/422-424.
فالحديث خص حلّ الدم في هؤلاء الثلاثة، ولم يذكر فيهم شارب الخمر.
قال شارح تحفة الأحوذي بعد نقله لحديث أبي صالح عن معاوية، في القتل، الذي استدل به أصحاب القول الأول قال: " وإنما كان هذا في أول الأمر، ثم نسخ بعد. تحفة الأحوذي 4/723. قال الترمذي: "إن حديث القتل غير معمول به عند أهل العلم،". تحفة الأحوذي 4724. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والقتل عند أكثر العلماء منسوخ". مجموع الفتاوى، 28/336.
الإجماع: استدلوا بإجماع العلماء على أن السكران في المرة الرابعة، لا يجب عليه القتل، نقل هذا الإجماع الإمام ابن المنذر (318هـ) في كتابه: الإجماع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1405هـ-1985م، ص71.(1/317)
قال النووي: "وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها، وإن تكرر ذلك منه. هكذا حكى الإجماع فيه الترمذي وخلائق. وحكى القاضي عياض -رحمه لله تعالى- عن طائفة شاذة، أنهم قالوا: "يقتل بعد جلده أربعه مرات، للحديث الوارد في ذلك". وهذا القول باطل،مخالف لإجماع الصحابة، فمن بعدهم، على أنه لا يقتل، وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات. وهذا حديث منسوخ، قال جماعة: "دلّ الإجماع على نسخه". شرح صحيح مسلم للنووي 11/228.
وهذا القول الثاني، هو الراجح لقوة استدلال الجمهور، وثبوت الإجماع على عدم القتل في الرابعة، ونسخ ذلك، وعليه فالشارب في الرابعة لا يقتل حداًَ.
غير أنّ العلماء قد أجازوا للإمام قتله تعزيراً، فيما لو رأى في ذلك مصلحة راجحة، وذلك لعدم وجود تقدير في التعزير على الكبائر.
انظر: الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور أحمد الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط/3، 1409هـ-1989م، 6/201.(1/318)
ص -244- ... التعزير على الكبائر والمحرمات غير مقدّر، بل هو بحسب المصلحة(1). وهذه قواعد كليّة، تدخل فيها تلك القضيّة الجزئيّة.
وقول الشيخ:" والمعصية إذا وجدت أُنكرت على من فعلها أو رضيها" /ليس/(2) فيه أنّ الانكار بمجرّد القول، بل هو بحسب المراتب الثلاث المذكورة في الحديث، /وإلا لخالف نص الحديث/(3)، بل يتعيّن حمل كلام الشيخ عليه لموافقة الحديث، لا على ما خالفه، وأسقط من النكار ركنه الأعظم، ومن شم رائحة العلم، لم يعرض هذه الفتوى لأهل هذه القباثح الشنيعة، ويجعلها وسيلة إلى مخالفة واجبات الشريعة، ومثل هذا الذي أظهر هذه الفتوى، يجعله بعض المنتسبين، منفاخاً ينفخ به ما يستتر من إظهاره وإشاعته. والواجب على مثلك النظر في أصول الشريعة، ومعرفة مقادير المصالح والمفاسد. وتأمل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية(4). وانظر ما ذكره المفسّرون، حتّى أدخل بعضهم لياقة الدواة، وبري القلم في الركون(5)؛ وذلك لأنّ ذنب الشرك أعظم ذنب عصي الله به(6)، على اختلاف /رتبه/(7)، فكيف إذا انضاف إليه ما هو أفحش منه، من الاستهزاء بآيات الله، وعزل أحكامه وأوامره، وتسمية ما خالفه وضاده بالعدالة، والله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: فتح القدير، لابن الهمام، 5/212. حاشية رد المختار، 4/60. المغني مع الشرح الكبير، 10/347. الفروق للقرافي، 4/177.
(2) في(د): (ليست).
(3) في (د): ولا مخالف لنص الحديث).
(4) سورة الإسراء: الآية (74).
(5) لم أجد من أدخل ذلك في الركون مما اطلعت عليه من كتب المفسرين.
(6) ومن أجل عظمته، كان الذنب الوحيد الذي لا يغفر الله لصاحبه، إن لم يتب منه؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. [النساء:48]
(7) في (د): (رتبته).(1/319)
ص -245- ... يعلم، ورسوله، والمؤمنون، أنّها الكفر، والجهل، والضلالة؟! ومن له أدنى أنفة، وفي قلبه نصيب من الحياة، يغار لله، ورسله، وكتابه، ودينه، ويشتدّ إنكاره، وبراءته في كل محفل وكل مجلس، وهذا من الجهاد، الذي لا يتحصل جهاد العدو إلا به، فاغتنم إظهار دين الله والمذاكرة به، وذمّ ما خالفه، والبراءة منه ومن أهله. وتأمّل الوسائل المفضية إلى هذه المفسدة الكبرى، وتأمّل نصوص الشارع في قطع الوسائل والذرائع(1).
وأكثر الناس ولو تبرأ من هذا ومن أهله فهو جند لمن تولاّهم، وأنس بهم، وأقام بحماهم، والله المستعان.
وهذا الخط اقرأه على من تحب من إخوانك. وبلّغ سلامي والدك، وخواص الإخوان، والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) والنصوص التي تأمر بقطع الروابط والوسائل بين المؤمنين وغيرهم، كثيرة جداً؛ منها: قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28] وقوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80].
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81]. وقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[هود:113].(1/320)
وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
وغير ذلك من الآيات. وقد تقدّم ذكر بعض الأحاديث في هذا الشأن، ص241. وكلها تأمر المؤمن بمجانبة الكفار، وقطع الموالاة بينه وبينهم، وعدم اتخاذهم أولياءً، إذ إنًهم -مهما كانوا-لا يرضون منه أقل من أن يروه قد ارتد عن دينه. ولا مفسدة أكبر من ذلك، فسد جميع الوسائل الموصلة إليه.(1/321)
ص -246- ... الرسالة الخامسة(1): قال جامع الرسائل
وله أيضاً –قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه- رسالة في وجوب الهجرة، وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين. وسبب ذلك، أنّ حسن بن عبد الله بن الشيخ، لما كتب إلى عبد الرحمن الوهيبي(2) يناصحه عن الإقامة بين أظهر المشركين، وبيّن له وجوب الهجرة بالدلائل والبراهين، /كتب/(3) إليه، واحتجّ بما ستقف عليه(4)، وهذا /نصها/(5).
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى ابن الأخ حسن بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: يُذكر لي مل كَتَبَ إليك عبد الرحمن الوهيبي، من الشبهة، لمّا ذكرتَ له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}(6)، ونصحتَه عن الإقامة بين أظهر العساكر التركية. وأنه احتجّ عليك بأنّ الآية فيمن قاتل المسلمين، وقال: ظلم النفس بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة " تجعلون إخوانكم مثل من قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه؟"
وهذا جهلٌ منه بمعنى الآية وصريحها، ومخالفة لإجماع المسلمين، وما يحتجّون به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متأخرة، في لوحة 35-38. وهي بعد الرسالة (11) حسب ترتيب (أ). وقد وردت هذه الرسالة في" الدرر السنيّة"، 7/162-164.
(2) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص(94).
(3) في (ب)، و(د): (فكتب).
(4) هنا زيادة جملة في المطبوع، بعد قوله:" ستقف عليه" وهي:" ضمن جواب الشيخ –رحمه الله-".
(5) في (ب): (نص الرسالة). وفي المطبوع: (نص رسالة الشيخ).
(6) سورة النساء: الآية(97).(1/322)
ص -247- ... على تحريم الإقامة بين أظهر المشركين، مع العجز عن القدرة على الانكار والتغيير(1)؛ قال ابن كثير:" هذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، /مرتكبٌ/(2) حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} أي بترك الهجرة،){قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي لمَِِ /كنتم/(3) هاهنا وتركتم الهجرة: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أي لا نقدر على الخروج /من البلد/(4) ولا الذهاب في الأرض: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}(5)(6) , وساق –رحمه الله- ما رواه أبو داود، عن سمرة بن جتدب، أما بعد، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:" من جامع المشرك، وسكن معه، فإنه مثله"(7).
قلت(8): فانظر حكاية الإجماع على تحريم ذلك، وانظر تقريره معنى الآية، /وتعليق/(9) ما فيها من الأحكام والوعيد على مجرد الإقامة بين أظهر المشركين، وأنّ هذه الآية نص في ذلك، وانظر خطاب الملائكة لهذا الصنف، وأنه على المكث والإقامة بدار الكفر، وانظر ما أجابتهم الملائكة عن قولهم: لا نقدر على الخروج، وكل ذلك ليس فيه ذكر للقتل(10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدمت هذه المسألة، أعني (الإقامة بين أظهر المشركين) في ص210-212. 220-223.
(2) في (د): (مرتكباً).
(3) في تفسير ابن كثير: (مكثتم).
(4) ساقط في جميع النسخ، مثبت عند ابن كثير في نصه.
(5) سورة النساء: الآية(97).
(6) تفسير ابن كثير، 1/555.
(7) تقدم تخريجه في ص234.
(8) الكلام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (المصنف).
(9) في (د): (وتعليقه و) ما فيها.(1/323)
(10) هذا رد على ما ذكره عبد الرحمن الوهيبي، أن الآية فيمن قاتل المسلمين.(1/324)
ص -248- ... فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها. وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله.
وكذلك ما روى ابن جرير، عن عكرمة قال:" كان الناس من أهل مكة قد أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}(1)(2).
وروى ابن جريرمن تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثمّ نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا}(3)؛ قكتبوا إليهم بذلك أنْ قد جعل الله لكم مخرجاً، فأدركهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا، وقتل من قتل(4).
وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلّفوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ضربت الملائكة وجهه ودبره(5) وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ قوماً من أهل مكّة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام، وأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، وأصيب بعضهم، وقتل بعض، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}(6) الآية(7). فهذا القول ونحوه مما فيه مِنْ ذكر مَنْ أُخرِج مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء: الآية: (97،98).
(2) جامع البيان للطبري، 5/233.
(3) سورة النحل: الآية (110).
(4) جامع البيان للطبري، 5/234.
(5) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(6) سورة النساء: الآية(97).
(7) جامع اليان للطبري، 5/234.(1/325)
ص -249- ... المشركين يوم بدر، لا يدل على أنّ الآية خاصة بهم، بل يدلّ على أنها متناولة للعموم اللفظي، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(1).
وكذلك من قال من السلف أن هذه الآية نزلت في أناس من المنافقين، تخلفوا من رسول الله صلى الله علي وسلم، وخرجوا مع المشركين(2)، فمرادهم أنّ هذه الآية تتناولهم بعمومها، ولم يريدوا أنّ هذا –أعني النفاق أو القتال مع المشركين- الذي هو أُنيط به الحكم، ورتِّب عليه الوعيد،؛ فإنّهم أجل وأعلم من أن يفهموا ذلك. والسلف يعبّرون بالنوع ويريدون الجنس العام(3)، ومن لم يمارس العلوم، ولم يتخرّج على حملة العلم وأهل الفقه عن الله، وتخبّط في العلوم برأيه، فلا عجب من خفاء هذه المباحث عليه، وعدم الاهتداء لتلك المسالك، التي لا يعرفها إلاّ من مارس الصناعة، وعرف ما في تلك البضاعة.
وهذا الرجل(4) من أجهل الناس بالضروريات، فكيف بغيرها من حقائق العلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مذكرة أصول الفقه، لمحمد الأمين الشنقيطي، طبعة الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، ص209. تخريج الأصول على الفروع، لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (ت656هـ)، تحقيق د. محمد أديب صالح، مؤسسة الرسالة، ط/5، 1404هـ-1984م، ص 361. شرح مختصر الروضة، لسليمان بن عبد القوي الطوفي (ت716هـ)، تحقيق: عبد الله ابن عبد المحسن التركي مؤسسة الرسالة، ط/1، 1408هـ، 2/501. روضة الناظر وجنّة المناظر، البن قدامة المقدسي، مكتبة المعارف، الرياض، ط/2، 1404هـ، ومعها شرحها" نزهة الخاطر"، 2/141.
(2) انظر: جامع البيان للطبري، 5/236.(1/326)
(3) المعنى أن الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وإن كان سببها في نوع الأشخاص الذين خرجوا مع المشركين في بدر، غير أنّها لا تخصّهم، فلفظها العام يشمل جميع الأجناس؛ كالمنافقين الذين تخلَّفوا نفاقاً عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذلك تتناول المقيمين مع المشركين، الساكنين معهم من غير قدرة على إقامة الدين، فهؤلاء الذين حكم عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّهم مثلهم.
ومسألة الإقامة ببلد المشركين قد تقدّمت في ص210-212، 220-223.
(4) يريد عبد الرحمن الوهيبي.(1/327)
ص -250- ... ودقائقه! وليتهم -أعني هو وأمثاله- اقتصروا على مجرد الإقامة، ولم يصدر عنهم ما اشتهر وذاع من الموالاة الصريحة، وإيثار الحياة الدنيا على محبة الله ورسوله،(1) وما أمَر به وأوجبه من توحيده، والبراءة ممن أعرض عنه، وعدل به غيره، وسوّى به سواه. وتأمل كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله- على هذه الآية، فإنّه أفاد وأجاد(2). وتأمّل ما ذكره الفقهاء في حكم العجزة، واستدلالهم بهذه الآية، على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، لمن عجز عن إظهار دينه(3)، فكيف بمن أظهر لهم الموافقة على بعض أمرهم، وعلى أنّهم مسلمون من أهل القبلة المحمّدية؟!
وصاحب هذا القول الذي شبّه عليكم، ينزل درجة درجة، أول ذلك شراؤه المراتب الشرعية، والأوقاف التي على أهل العلم، حتى صرفت له من غير استحقاق ولا أهليّة؛ ثمَّ لما جاءت هذه الفتنة، صار يتزيّن عند المسلمين-بحمد الله-على عدم حضوره بتلك البلد، ثم جمز ولحق بأهلها، ونقض غزله، وأكذب نفسه، ثم ظهر لهم في مظهر الصديق الودود، وبالغ في الكرامة، والوليمة، والتحف، والهدايا، والمجالسة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ولا شك أن هذا من أسوأ ما يصل إليه المرء في دينه، إذ إنّ الوعيد على هذا الحال شديد. فقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-41].(1/328)
(2) انظر كلامه في رسالته: شرح ستة مواضع من السيرة، ضمن" الجامع الفريد"، ص250-251. فقد قال-رحمه الله-:" إنّ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لم يهاجر-من غير شك في الدين، وتزيين دين المشركين-ولكن محبّة للأهل والمال والوطن، فلما خرجوا إلى بدر، خرجوا مع المشركين كارهين، وقتل بعضهم بالرمي، والرامي لا يعرفه، فلمّا سمع الصحابة أنّ من القتلى فلاناً وفلاناً، شقّ عليهم، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ] إلى قوله تعالى{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99]. فمن تأمّل قصتهم، وتأمّل قول الصحابة: قتلنا إخواننا، علم أنه لو بلغهم عنهم كلام في الدين، أو كلام في تزيين دين المشركين، لم يقولوا: قتلنا إخواننا، فإنّ الله تعالى قد بيّن لهم-وهم فبل الهجرة-أنّ ذلك كفر بعد الإيمان، بقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}[النحل:106].
(3) المسألة تقدمت في ص210-223.(1/329)
ص -251- ... والتردّد، وشغفاً بالجاه والرئاسة، ولو في زمرة من حاد الله ورسوله.
وأمّا نقل عنه من التحريض على أهل الإسلام، فهو-إن صحَّ-أقبح من هذا كلّه وأشنع، وحسابه على الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر /فيه/(1) مخبآت الصدور والضمائر.
وروى السدي(2) قال: لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للعباس:" أفد نفسك وابن أخيك"، قال يا رسول الله، ألم نصلّ(3) قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال:" يا عباس، إنّكم خاصمتم فخصمتم، ذم تلا عليه هذه الآية: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}(4)(5).
فتأمّل هذه القصة، وما فيها من التصريح بأن الخصومة في الهجرة، وأنّ من ادعى الإسلام والتوحيد، وهو مقيم بين ظهراني أهل الشرك بالله، والكفر بآياته، فهو مخصوم محجوج، وهذا يعرفه طلبة العلم والممارسون.
وتأمّل قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(6)، كيف حكم على أنّ من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرّم الله /أنه مشرك(7)/(8)،.................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب)، والمطبوع.
(2) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، أبو محمد، الإمام المفسر، الحجازي ثم الكوفي، الأعور السدي، حدّث عن أنس بن مالك، وابن عباس، وغيرهما، (ت127هـ).
انظر: سير الأعلام، 5/264. تهذيب التهذيب، 1/313. النجوم الزاهرة، 1/308.
(3) في (د): (نصلي).
(4) سورة النساء: الآية(97).
(5) انظر قول السدي: جامع البيان للطبري، 5/235؛ الدر المنثور في التفسير المأثور، لجلال الدين السيوطي، دار المعرفة، بيروت لبنان، 2/206.
(6) سورة الأنعام: الآية:(121).
(7) ساقط في (ب).(1/330)
(8) قال الطبري في تفسير الآية:" إنّ الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم؛ ليجادلوا المؤمنين في تحريم أكل الميتة. وروي عن عكرمة قوله:" إنّ مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم، وكاتبتهم فارس، وكتبت فارس إلى مشركي قريش: إنّ محمداً وأصحابه يزعمون أنّهم يتّبعون أمر الله، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه، ويزعمون للميتة، وأما ما ذبحوا هم يأكلون. وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد(عليه الصلاة والسلام)، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ} الآية.(1/331)
ص -252- ... وأكّد ذلك بإنّ المؤكّدة(1)، وأنّ ذلك صادر عن وحي الشيطان! فاحذر هذا الضرب من الناس، وليكن لك نهمة في طلب العلم من أصوله /ومظانه/(2)، والله تعالى أسأل أن يمنّ علينا وعليكم بالهداية إلى سبيله، ومعرفة دينه بدليله، وصلى الله على نبينا محمد، /وعلى آله وصحبه،/(3) وسلّم تسليماً كثيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بل وزاد تأكيد ذلك باللام أيضاً.
(2) في (ب): (ومضانه).
(3) بياض في (ب).(1/332)
ص -253- ... الرسالة السادسة(1): قال جامع الرسائل
وله أيضاً-قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز(2). وقد كان كتب له-أعني الشيخ حمد- رسالة ذكر له فيها أنّ الغربة اشتدّت، وأنّه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير(3) مع العسكر والزوار. فأجابه بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلّمه الله تعالى، وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين. فضل الغربة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، وإن أتى الهر بمرّ القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظّمك في سلك أنصار الملّة والدين. وقد عرفت أنّ الله ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الرسالة ساقطة في (ب). وقد وردت في: الدرر السنيّة، 7/164-170.
(2) تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ، ص92، فهو التلميذ (24).
(3) درب العقير: هو جهة ساحلية في سنجق الحسا. وفيه ميناء العقير، ويمتدّ على البحر.
انظر: دليل الخليج، القسم الجغرافي، تأليف ج.ج لورمير، ترجمة المكتب الثقافي، لحاكم قطر، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1390هـ/1970م، 5/2582.
(4) هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، والذي اتفق عليه السلف الصالح، أنّ الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وهو الذي يدل عليه قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]. شرح عقيدة الطحاوية: ص39.(1/333)
ص -254- ... وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سِرٌ وحكمة بالغة، يطلع من شاء من عباده على عنوان وأنموذج من سرّ القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة1 جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله، ثم يطلقونه، لا يدري فيما عُقل؟ ولا فيما أطلق؟
وتذكر أنّ الغربة(2) اشتدّت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت،ولكن ليكن لك على بال ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم(3). فاغتنم نصرة الإسلام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخفارة: تطلق على الحماية والوفاء، وتطلق على الغدر والخيانة، والمراد هنا الثاني.
لسان العرب، 4/253، مادة (خفر).
(2) يشير هنا إلى غربة الدين الإسلامي، التي تزداد يوماً بعد يومٍ إلى قيام الساعة، وهي ما أشار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ابن عمر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-بقوله:" إنّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأزر بين المسجدين كما تأزر الحية في جحرها". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/536، الإيمان، باب(بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً. إلخ). سنن الترمذي، 5/18، الإيمان، باب(ما جاء أنّ الإسلام بدأ غريباً).
(3) فضل الغرباء: ورد في فضل الغرباء ووصفهم، أحاديث عدّة، منها:
أ-حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/536. سنن ابن ماجة، 2/376، الفتن، باب(بدأ الإسلام غريباً).(1/334)
وقد ذكر الإمام النووي-رحمه الله-في معنى قوله."طوبى للغرباء"، عدّة أقوال؛ عن ابن عباس –رضي الله عنهما-أنّ معناه: فرح، وقرة عين؛ وقال عكرمة: نعم ما لهم؛ وقال الضحاك: غبطة لهم؛ وقال قتادة: حسنى لهم، وعنه: أصابوا خيراً؛ وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة؛ وقال ابن عجلان: دوام الخير؛ وقيل الجنة؛ وقيل: شجرة في الجنة. قال: وكلّ هذه الأقوال محتملة. شرح صحيح مسلم، للنووي، 2/534-535).
وقال ابن الأثير-رحمه الله-:" طوبى: اسم الجنة، وقيل: شجرة فيها". النهاية لابن الأثير، 3/141).
ب-أخرج الترمذي في سننه-في صفة الغرباء-عن طريق كُثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه:"...إنّ الدين بدأ غريباً، ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي". قال الترمذي: هذا حديث حسن، صحيح. سنن الترمذي، 5/19-20. قال ابن الأثير-رحمه الله-في معنى الحديث:" أي أنه كان في أول أمره، كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده؛ لقلة المسلمين يومئذٍ، وسيعود غريباً كما كان: أي يقلُّ المسلمون في آخر الزمان، فيصيرون كالغرباء. فطوبى للغرباء: الجنة لأولئك المسمين الذين كانوا في أوّل الإسلام، وإنّما خصهم بها؛ لصبرهم على أذى الكفار أولاً وآخراً، ولزومهم دين الإسلام". النهاية لابن الأثير، 3/348. وجاء عند ابن ماجة:" قيل: ومن الغرباء؟ قال:" النُّزَّاع من القبائل". سنن ابن ماجة، 2/376.
قال ابن الأثير:" (النُّزَّاع من القبائل): هم جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته، أي بَعُدَ وغاب.(1/335)
ص -255- ... والدعوة إليه، ونشره وتعريفه وتقريره؛ في كل مجلس ومجمع. فإنّ أكثر الناس قد ضلّ عنه، ولا يدري عن حقيقته ومسمّاه. وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلّته، وجاء بما يناقضه، ويقوِّي عضد الشرك، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمّها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرّح بمسبّة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}(1).
وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحلّ ما أخذ في درب العقير، من العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلاّ عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده الكبار.
وسريّة ابن الحضرمي(2)، في عهده صلّى الله عليه وسلّم، مشهورة معروفة، وهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة غافر:الآية(5).
(2) ابن الحضرمي: هو عمرو بن الحضرمي، (والحضرمي) اسمه: عبد الله بن عباد، ويقال: مالك ابن عباد، الصدف، كان من أشراف كفار قريش. رماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم، فقتله سنة(52هـ)، إذ كان في عير قريش وتجارتهم. فكان أول دم –من الكفار-أهريق في الإسلام.(1/336)
وكان قاتله (واقد بن عبد الله) أحد الثمانية من المهاجرين الذين خرجوا في سريّة عبد الله ابن جحش، الذي بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب له كتاباً، وأمره ألاّ ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلمّا سار بهم يومين، فتح الكتاب، فإذا فيه:" إذا نظرت في كتابي، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً، وتعلم لنا أخبارهم"، فقال: سمعاً وطاعة، ففعل، وتبعه أصحابه. انظر قصته: سيرة ابن هشام، 2/601-603. البداية والنهاية، 3/247-249.
أما نسبة المصنف هذه السريّة لابن الحضرمي، فلعل ذلك لكونه أول دم أهريق في الإسلام من الكفار، فاشتهرت به السَّرِيَّة التي قتل فيها. أو لأنه كان يستدلّ بهذه السَّرِيَّة على حال ما أخذ من عسكر الكفّار.(1/337)
ص -256- ... أوّل دم أهريق في الإسلام. وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت -مع كفرهم وضلالتهم- أهدى من كثير من العسكر والزوار، من الرافضة بكثير(1). فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العليّة، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنيّة، ومعرضة الشريعة المحمديّة، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمّن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادلة فيه، وفي حلّ ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطّن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم(2) في أي شيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إن كفار قريش كانوا أهدى من أولئك، بل من مشركي اليوم؛ إذ غنّهم كانوا إذا مستهم ضرّاء، لجأوا إلى ربهم بالدعوة الخالصة، إلى أن ينجيهم الله، ذم يعودون إلى شركهم، كما أخبر بذلك في كتابه العزيز؛ قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
أما المشركون اليوم، فإنّهم أثناء المصائب أشدّ بعداً عن الله تعالى، فتجدهم حينئذٍ يستغيثون بالمشايخ والأولياء، بل بأسماء الجان، ونحو ذلك، ويعطّلون الربوبية والألوهية في السرّاء والضرّاء، بتعطيلهم صفات الله تعالى، نفياً وتأويلاً.(1/338)
(1) إنّ أصل النزاع الذي كان بين الرسل وأممهم، كان في دعوتهم لهم على عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص ذلك له، وهذا هو المعروف بتوحيد الله بأفعال العباد، المعبّر عنه: بتوحيد الألوهية، أو توحيد الطلب والقصد، أو توحيد العبادة فهذا الذي أوقع الرسل في النزاع والجدال بينهم وبين أممهم حتى قالوا – كما حكى القرآن الكريم عنهم-: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. ومن أجله شرع الجهاد؛ إذ إنّهم كانوا معترفين بربوبيّة الله، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]. وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61].
ومع ذلك لم يدخلهم اعترافهم ذلك بالربّ، في الإسلام، ولم يدفع عنهم القتال، ولم يعصم لهم دماء ولا أموالاً، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله.(1/339)
ص -257- ... وبأي شيء، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}(1).
والذي أوصيك به، الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وبلّغ سلامنا من لديك من الإخوان وسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الفرقان: الآية (31).(1/340)
ص -258- ... الرسالة السابعة(1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً /-رحمه الله، وعفا عنه-/(2)، رسالة إلى الإخوان من أهل الفُرَع(3)، وهم عثمان بن مرشد(4)، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد(5)، وإبراهيم بن مرشد(6)، في قطع الوسائل والذرائع المفضية إلى محبّة من حاد الله ورسوله، /واختيار/(7) ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم(8). لأنّ اختيار /ديارهم/(9) ومساكنتهم وولايتهم، ومحبة ظهورهم والثناء عليهم، وتفضيلهم بالعدل على أهل الإسلام، وإعانتهم على المسلمين، وجرّهم على بلاد أهل الإسلام، ردّة صريحة بالاتفاق. فقطع -رحمه الله- الأسباب والوسائل المفضية إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متقدّمة، في لوحة (13-20).
(2) في (ب) والمطبوع:(قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه).
(3) الفُرَع: بضم الفاء، وفتح الراء، فعين: منطقة بين (وادي نعام) من اليمنى، و(وادي بريك) من جهة اليسار. فوادي نعام به من البلدان (الحريق، والمفيجر)، ونعام قسم من حوطة بني تميم. أما (بريك) ففيه من البلدان:(الحوطة، والحلوة)، وما بين الواديين من قرى وتوابع. فهذه المجموعة من البلدان في هذين الواديين تسمى(الفُرَع). معجم اليمامة، لعبد الله بن محمد بن خميس، 2/248.
(4) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص95.
(5) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 94.
(6) تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 94.
(7) في(ب)، و(ج): (ومن اختار). وفي المطبوع: (واختار).(1/341)
(8) فهذه بلا شك من صفات المنافقين، الذين يميلون باطناً إلى الكفار، ويتمنّون كل وقيعة بالمسلمين، وذلك قال تبارك وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. فقطع الله جميع الروابط غير الإيمانية، وأشار إلى أنّ المودّة لا بد أن تكون مبنيّة على أصل اإيمان، فما سواها فهو مردود، يبعد صاحبها عن أهل الإيمان.
(9) ساقط في (د).(1/342)
ص -259- ... ذلك بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، وهذا نصها:
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان: عثمان بن مرشد، ومحمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
الخط وصل –وصلكم الله بما يرضيه- وما /ذكرتم/(1) من طلب النصيحة، فقد تقدمت إليكم – بحمد الله- مراراً، وقامت الحجّة. ويبلغني تصميم الأكثر على رأيه الأول، وعدم الانتفاع.
ومن أكبر أسباب شرح الصدور للنصائح والمواعظ وقبولهما، ما يعلمه من حرص العبد على الخير والهدى(2)، والتجرّد من ثوب التعصب والهوى، والبعد عن الإعجاب بالنفس، وإيثار الشهوات الدنيوية. فالقلب إذا سلم من هذا، وابتهل إلى الله بالأدعية المأثورة، كدعاء الاستفتاح:" اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل" الحديث(4). لا سيّما في أوقات الإجابة(5)، فإنّ هذا لا تكاد تسقط له دعوة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في(ب)، و(د): (ذكرتوا).
(2) وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً}الآية[الأنعام:125].
(3) تمامه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:" كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنّ ك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
صحيح مسلم بشرح النووي، 6/303، صلاة المسافرين، باب(الدعاء في صلاة الليل). سنن النسائي، 3/212-213، قيام الليل، باب(بأي شيء تستفتح صلاة الليل). سنن ابن ماجة، 1/246، إقامة الصلاة، باب(ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل).
(4) أوقات إجابة الدعاء:
مما ورد من أوقات إجابة الدعاء ما يلي:(1/343)
[1]: في جوف الليل الآخر:
في ذلك روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:" ينزل ربنا –تبارك وتعالى-كلّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟". صحيح البخاري مع الفتح 3/35-36، التهجد، باب (الدعاء والصلاة من الليل).
صحيح مسلم بشرح النووي 6/283، صلاة المسافرين، باب(الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه). سنن أبي داود 5/100-102، السنة، باب (في الرد على الجهمية)؛ سنن الترمذي 2/307، الصلاة، باب (ما جاء في نزول الرب) سنن ابن ماجة 1/248، إقامة الصلاة باب (أي ساعات الليل أفضل).
[2،3،4]: عند الصوم والسفر، وعند تلقي الظلم:
جاء في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "ثلاث على الله حق أن لا يرد لهم دعوة، الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع"، مجمع الزوائد 10/151، قال: أخرجه الترمذي باختصار، وبغير هذا السياق؛ الترغيب والترهيب 4/85.
[5،6،7]: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث:
أخرج أبو داود عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اثنتان لا تردان –أو قَلَّما تُردان-الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً". قال موسى (راوي الحديث): وحدثني رزق بن سعيد بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "ووقت المطر". سنن أبي داود 3/45-46، الجهاد، باب (الدعاء عند اللقاء)؛ الحديث صححه الألباني في صحيح الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم الجوزية (751هـ)، مكتبة ابن الجوزي ط/1،1409هـ-1989م، ص184.
[8]: الساعة التي في يوم الجمعة:(1/344)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله خيراً إلا أعطاه، وقال بيده، قلنا يقللها، يزهدها". صحيح البخاري مع الفتح11/202، الدعوات باب (الدعاء في الساعة التي في يوم الجمعة)؛ صحيح مسلم بشرح النووي 6/388، الجمعة باب (في الساعة التي في يوم الجمعة)؛ سنن ابن ماجة 1/195، الإقامة، باب (في فضل الجمعة).(1/345)
ص -260- ... والتوفيق له أقرب من حبل الوريد(1)، قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ}(2)، والواجب عند ورود الشبهات هو القيام لله مثنى وفرادى، والتفكير،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لأن مجيب الدعاء سبحانه وتعالى، قد وصف نفسه بذلك؛ فقال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
(2) سورة الأنفال: الآية (23).(1/346)
ص -261- ... لا سيّما عند هذه الفتنة التي عمّت وطمّت، وأعمت وأصمّت، فإنها كما في حديث حذيفة(1)
قال: قلت يا رسول الله، إنّا كنّا في شرٍّ فذهب الله بذلك الشر،ِّ وجاء بالخير على يديك، فهل بعد الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: ما هو؟ قال"فتن كقطع الليل المظلم، يتبع بعضها بعضاً، تأتيكم مشتبهة كوجوه البقر، لا تدرون أيّاً من أيّ"(2).
فهذه الفتن الواقعة في هذا الزمان، من جنس ما أشير إليه في هذا الحديث، الذي خرّجه الإمام أحمد في مسنده، فتعيّن الاهتمام بالمخرج منها، والنجاة فيها، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ بالاعتصام بحبل الله، ومعرفة ما أوجب وندب إليه كتابه من شرائع الإيمان وحدوده، وما نهى عنه وحرّمه من شعب الكفر والنفاق وحدوده، وقد نصّ على هذا صلّى الله عليه وسلّم، لما سأله حذيفة عن الفتن؛ فعن حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير، وأسأله عن الشرِّ، وعرفت أن الخير لن يسبقني، قلت: يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: "يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه" ثلاث مرار، قال: قلت يا رسول الله، أبعد هذا الخير شر؟ قال: "فتنة وشر"، قال قلت يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير؟ قال: "يا حذيفة تعلّم كتاب الله، واتبع ما فيه" ثلاث مرار، قال قلت يا رسول الله أبعد هذا الشر من خير؟ قال: "هدنة على دَخَنٍ(3)، وجماعة على أقذاء(4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو حذيفة بن اليمان (حسل) بن جابر العبسي اليماني، من أعيان المهاجرين، صاحب سرِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، مات بالمداائن سنة (36هـ). انظر الاستيعاب 1/34؛ أسد الغابة 1/468؛ سير الأعلام 2/361.
(2) مسند الإمام أحمد 5/391.
(3) هدنة على دخن: الهدنة الصلح والموادعة بين المسلمين والكفار، وبين كل متحاربين.(1/347)
*والمعنى: أنّه سيكون هدنة وصلح –بينكم وبين الكفار-على فساد واختلاف، تشبيهاً بدخان الحطب الرطب لما بينهم من الفساد والباطن، تحت الصلاح الظاهر. انظر النهاية لابن الأثير 2/109، 5/252.
(4) وجماعة على أقذاء: الأقذاء جمع قذى، والقذى: جمع قذاة، وهو ما يقع في العين، والماء والشراب، من التراب أو الوسخ. والمعنى: أن اجتماعهم يكون على فساد في قلوبهم. انظر النهاية لابن الأثير 4/30؛ لسان العرب 15/174، مادة (قذي).(1/348)
ص -262- ... [فيها أو فيهم]"(1)، قال: قلت يا رسول الله الهدنة على دخن ما هي؟ قال: "لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه" (2)، قال:
قلت يا رسول الله أبعد هذا الخير من شر؟ [قال: "يا حذيفة تعلم كتاب الله، واتبع ما فيه" ثلاث مرار، قال: قلت يا رسول الله أبعد هذا الخير من شر؟](3)، قال: "فتنة عمياء صمّاء، عليها دعاة على أبواب النار، وإن تمت(4) يا حذيفة، وأنت عاض على جذل(5)، خير لك من أن تتبع أحداً منهم"(6).
قلت: فتأمّل ما أرشد إليه حذيفة، ووصّاه عند حدوث الفتن العظام، التي لا يبصر أهلها الحق، ولا يسمعون من الداعي والناصح، وتكريره الوصية بقراءة كتاب الله، واتباع ما فيه، لأنّ المخرج من كل فتنة موجود فيه مقرر، ولكن لا يفهمه ويفقهه إلاّ من تعلّم كتاب الله، ألفاظه ومعانيه، ووُفِّق للعمل بما فيه، فذاك جدير أن يهبه الله نوراً يمشي به في الناس، ولا يخفى عليه ما وقع فيه الأكثر من الشكّ، والريب، والالتباس، وهذا الصنف عزيز الوجود في القرّاء، ومن ينتسب إلى العلم والطلب، فكيف بغيره؟! شعر:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها(7)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعقوفتين، ساقط في جميع النسخ، وهو موجود في أصل المتن، عند أبي داود في سننه.
(2) أي لا يصفوا بعضها لبعض، ولا ينصع حبُّهُا، النهاية لابن الأثير2/109.
(3) ما بين المعقوفتين، لا يوجد في سنن أبي داود، فهي زيادة في جميع النسخ، ولم أجد من خرج الحديث بها.
(4) هكذا في متن الحديث عند أبي داود، وفي المطبوع، وأما في جميع النسخ (تموت) وهو خطأ.
(5) الجذل: ما عظم من أصول الشجر المقطع. وقيل هي أصول الحطب العظام، وجمعه الأجذال. لسان العرب، لابن منظور، مادة (جذل)، 11/106.
(6) سنن أبي داود، 4/447، الفتن والملاحم، باب (ذكر الفتن ودلائلها).
(7) لم أجد مصدر البيت، ولا قائله.(1/349)
ص -263- ... فعليكم بلزوم الوصيّة النبويّة لصاحب السرّ، حذيفة بن اليمان، وبتدبر القرآن، والتفقه في معانيه، /لعلّه بذلك/(1) يعرف العبد -إنْ عقل عن الله- أنّ أوجب واجب /فيه/(2) وأهمّه وآكده وزبدته، معرفة الله تعالى، بما تعرّف به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وبديع أفعاله، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، وكمال عزته، وعميم رحمته.
وبمعرفة ذلك يهتدي العبد إلى محبته وتعظيمه، وإسلام الوجه له، وإنابة القلب إليه، وإفراده بالقصد والطلب، وسائر العبادات، كالخشية، والرجاء، والاستعانة، والاستغاثة، والتوكل، والتقوى، ويرضى به رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، ويذوق من طعم الإيمان ما يوجب له كمال حب الله، وحب رسوله، وكمال الحب بجلاله، ويعرف الوسائل إلى هذا المطلوب الأكبر، والمقصود الأعظم، ويهتم بها غاية الاهتمام، ويطلبها منتهى الطلب، ويعرف ما يضاد هذا الأصل ويناقضه، من تعطيل وكفر وشرك، ويعرف وسائلها وذرائعها الموصلة إليها، المفضية إلى اقتحامها وارتكابها، فيهتم بتحصيل وسائل التوحيد، ويهتم بالتباعد عن وسائل الكفر والتعطيل والتنديد، كما يستفاد من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(3).
فمن عرف /هذا/(4) الأصل الأصيل، عرف ضرر الفتنة الواقعة في هذه الأزمان، بالعساكر التركية، وعرف أنها تعود على هذا الأصل الأصيل، بالهدم والهدّ والمحو بالكليّة، وتقتضي ظهور الشرك والتعطيل، ورفع أعلامه الفكريّة، وأنّ مرتبتها من الكفر، وفساد البلاد والعباد، فوق ما يتوهّم المتوهِّمون، ويظنُّه الظانُّون، وبه يعلم أن ما وقع من المسائل إلى تهوين تلك الفتنة، وتسهيل أمرها، والسكوت عن التغليظ فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) زيادة في (د)، وبها يستقيم المعنى.
(2) ساقط في (ب)، والضمير راجع إلى القرآن.
(3) سورة الفاتحة: الآية (5).
(4) زيادة في (ب) والمطبوع.(1/350)
ص -264- ... من أكبر أسباب وقوع الشر، ومحو أعلام التوحيد، والوسيلة لها حكم الغاية، فإن انضاف إلى تسهيلها إكرام من أقام بديارهم، وتلطَّخ بأوضارهم(1)، وشهد مهرجانهم(2)، وتوقيرهم، والمشي إليه، وصنع الولائم له، فعند ذلك يَنْعى الإسلامَ ويبكيه، مَنْ كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد(3)، وفي الحديث: "من وقّر صاحب بدع، فقد أعان على هدم الإسلام"(4)، فكيف بما هو أعظم وأطمّ من البدع؟! فالله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د): بأوظارهم، بالظاء، وهو خطأ، والصواب (أوضارهم) بالضاد، وهو جمع وضر، وهو وسخ الدسم واللبن، وغسالة السقاء والقصعة ونحوها.
(2) المهرجان: عيد من أعياد الفرس، يقع في السادس والعشرين من تشرين الأول، (من شهور السريان)، وفي السادس عشر من مهرماه (من شهور الفرس). وهذا أول وسط أزمان الخريف، وهو ستة أيام، يسمى اليوم السادس (المهرجان الأكبر)؛ وسبب تسميتهم لهذا اليوم بهذا الاسم: هو أنهم كانوا يسمون شهورهم بأسماء ملوكهم، وكان لهم ملك يسمى (مهر) يسير فيهم بالعنف والعسف، فمات في نصف الشهر الذي يسمونه (مهرماه) فسمي ذلك اليوم (مهرجان). نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري (677-733هـ)، نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب 1/187.
(3) هنا اقتباس من الآية الكريمة، هي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
(4) ورد الحديث في: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني (1250هـ) تحقيق عبد الرحمن المعلمي، مطبعة السنة المحمدية، ص211. قال الشوكاني: إسناده ضعيف، وذكره ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"، دار القلم بيروت، ص16.(1/351)
وفي كتاب "الموضوعات" له أيضاً، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية، بالمدينة المنورة، ط/1، 1386هـ-1966م؛ 1/271، وقال بعد إخراجه لهذا الحديث: من رواية عبد الله بن بشر، وعائشة، وعبد الملك بن جريج، قال: "هذه الأحاديث كلها باطلة موضوعة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني، (430هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 5/218، وقال: غريب من حديث خالد، تفرّد به عيسى، عن ثور، وذكره السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" في الأحاديث الموضوعة، 1/130. وذكره الهندي في "الكنز" برقم (1102). وبهذا يظهر ضعف الحديث، غير أن معناه واقعي، فتوقير أهل البدع، وإجلالهم، والسكوت عنهم، من أخطر ما يُهدم به الدين، إذ إنَّ في ذلك تشجيعاً وتأييداً لهم، على الاستمرار عليها، وإهمال السنن. وإذا كان هذا التوقير من أحد علماء الأمة، ممن يؤخذ بقوله، فالمصيبة أعظم وأطمّ.(1/352)
ص -265- ... وأعجب من هذا، أن بعض من يتولَّى خدمة من حاد الله ورسوله، ويحسِّن أمرهم، ويرغَّب في ولايتهم، ويقدح في أهل الإسلام، وربَّما أشار بحربهم، فإذا قدم بعض بلاد أهل الإسلام، تلقَّاه منافقوها وجهَّالُها، بما لا يليق إلاّ مع خواص الموحِّدين؛ فافهم أسباب الشرك ووسائله.
ومن كان في قلبه حياة، وله رغبة، وله غيرة وتوقير لرب الأرباب، يأنف ويشمئزّ مما هو دون ذلك، ولكن الأمر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليّة"(1).
وما جاء في القرآن من النهي والتغليظ والتشديد في موالاتهم وتولِّيهم، دليل على أنّ أصل الأصول، لا استقامة له ولا ثبات، إلا بمقاطعة أعداء الله، وحربهم وجهادهم، والبراءة منهم، والتقرب إلى الله بمقتهم وعيبهم؛ وقد قال تعالى - لما عقد الموالاة بين المؤمنين، وأخبر أنّ الذين كفروا بعضهم أولياء بعض-(2) قال: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}(3)، وهل الفتنة إلا الشرك، والفساد الكبير هو انتثار عقد التوحيد والإسلام، وقطع ما أحكم القرآن من الأحكام والنظام؛ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}(4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد هذا الأثر في مجموع الفتاوى، لابن تيمية 10/301. ومعناه: إنه إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، فإنه يجهل ما أزاله الإسلام من الشرك، والكفر، وغيرهما، فلا يدرك قيمة ما جاء به الإسلام، فربما يعمل –من هذا حاله-بعض أعمال الجاهلية من غير معرفة منه أنها منها، فينقض بذلك بعض عرى الإسلام على غير علم.
(2) عقد تلك الموالاة في الآيتين: (72-73) من سورة الأنفال.
(3) سورة الأنفال: الآية (73).
(4) سورة الممتحنة: الآية (1).(1/353)
ص -266- ... تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية(1).
قال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر(2).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(3).(1/354)
قلت: فليتأمل من نصح نفسه، ما يجري من هؤلاء العساكر، عند سماع الأذان، من المعارضة بالطبل والبوق والمزمار، استبدالاً به عمّا اشتمل عليه الأذان، من توحيد الله وتعظيمه، وتكبير الملك القهار، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(4). وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً (5)}(6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة المائدة: الآية (51-52).
(2) لم أعرف قائله.
(3) سورة المائدة: الآية (57-58).
(4) سورة المائدة: الآية (78-81).
(5) ساقط في: (ب)، و(ج).
(6) سورة آل عمران: الآية (28).(1/355)
ص -267- ... وقد جزم ابن جرير(1) /في تفسيره/(2) بكفر من فعل ذلك(3). قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}(4)، فليتأمّل من نصح نفسه هذه الآيات الكريمات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري، الإمام المجتهد، صاحب التصانيف، منها: "جامع البيان" في التفسير، ولد سنة (224هـ)، وتوفي سنة (310هـ). انظر ترجمته: تاريخ بغداد 2/162-169؛ تذكرة الحفاظ 2/710-716.
(2) ساقط في (د).
(3) جامع البيان للطبري، 3/228.
*وهذه الآية، هي مستند الشيعة في تأصيل عقيدة (التقية) لديهم، التي تعد في المذهب الشيعي، بمنزلة الرأس من الجسد، ويروُون في ذلك –كذباً-روايات موضوعة، منها:
ما رواه الكليني في "أصول الكافي"، 2/219، عن محمد بن خلاد، قال: سألت أبا الحسن رضي الله عنه، عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر رضي الله عنه: (التقية ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له).الأصول من الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتاب الإسلامي، طهران، إيران، ط/3، سنة 1388هـ. وانظر منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق محمد رشاد، طبعة جامعة الإمام، 1406هـ، ط/1، 2/46. وروى أيضاً في "أصول الكافي"، 2/218: عن أبي عبد الله رضي الله عنه قال: "اتقوا الله على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا تقية له".
والمعنى المراد من "التقية" لدى الشيعة، مخالف لمراد أهل السنة منها، فالشيعة يقصدون بالتقية: الكذب والخداع، والنفاق وإظهار خلاف ما يبطنونه من المعتقدات.(1/356)
وهذا خلاف المعنى المراد من التقية عند أهل السنة؛ فهي عندهم: المحافظة على النفس أو العرض أو المال، من شر الأعداء.
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-هو أن يتكلم بلسانه، وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ولا يقتل. الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 4/38.
وفد عدّ من باب التقية، مداراة الكفار والفسقة والظلمة، وإلانة الكلام، والبسم في وجوههم، وإعطائهم لكف أذاهم، وقطع ألسنتهم، وصيانة العرض منهم.
انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية، لمحمود شكري الألوسي (1342هـ)، تحقيق محب الدين الخطيب، طبعة دار الإفتاء، بالرياض، ص287-288.
(4) سورة المجادلة: الآية (22)(1/357)
ص -268- ... وليبحث عمّا /قاله/(1) المفسِّرون وأهل العلم في /تأويلها/(2)، ولينظر ما وقع من أكثر الناس اليوم، فإنّه يتبين له -إن وُفِّق وسُدِّد- أنّها تتناول من ترك جهادهم، وسكت عن عيبهم، وألقى إليهم السلم(3)، فكيف بمن أعانهم، أو جرَّهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم، أو فضَّلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحبَّ ظهورهم، فإنّ هذا رِدَّة صريحة بالاتفاق، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}(4).
وقد عرفتم ما كان عليه أسلافكم من أهل الإسلام، وما منَّ الله به عليكم من دعوة شيخنا -رحمه الله- إلى توحيد الله، والإيمان به، وإخلاص الدين له، والبراءة من أعدائه، وجهادهم، وببركة دعوته وبيانه، حصل للإسلام من الظهور والنصر وإعلاء كلمة الله، ما لم يحصل مثله في دياركم وأوطانكم منذ قرون متطاولة. فيجب شكر هذه النعمة، ورعايتها حق الرعاية، والعض عليها بالنواجذ، وأن لا تستبدل بموالاة أعداء الله ورسله، والانحياز إلى دولتهم، والرضا بطاعتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}(5). فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}(6)، ودَعوا اللجاج والمراء،وتمسّكوا بما جاء عن الله ورسوله من البينات والهدى، ولا يسهل لديكم مبارزة ربِّ السموات العلى، بما عليه غالب الناس اليوم، من الكفر والتعطيل والشرك والجدل والمراء، ولا تفتحوا أبواب الفتن، للمشاقة والتفرُّق والقدح في أهل الإسلام، فإنَّ ذلك من الصدِّ عن سبيل الله، ومن الفتنة عن دينه الذي ارتضاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ: (قال).
(2) في المطبوع: تفسيرها وتأويلها.(1/358)
(3) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 17/199.
(4) سورة المائدة: الآية (5).
(5) سورة إبراهيم: آية (28-29).
(6) سورة البقرة: الآية (281).(1/359)
ص -269- ... وقد جاء الحديث: "إنَّ هذا الحيّ من مضر، لا تدع في الأرض لله عبداً صالحاً إلاّ فتنته وأهلكته، حتى يدركها الله بجنود من عنده، فيذلُّها حتى لا تمنع ذنب تلعة (1)" (2).
وبعض من يدّعي الدين، إنّما يتعبد بما يحسن في العادة، ويُثني عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجرة في ذات الله، ومراغمة لأعدائه، فذاك ليس منه على شيء، بل ربّما ثَبَّط عنه، وقدح في فاعله. وهذا كثير في المنتسبين إلى العبادة، والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرص شيء على ذلك منهم، لأنهم لا يرونه غالباً ديناً وحسن خلق، فلا يتاب منه ولا يستغفر(3)؛ ولأن غيرهم يقتدي بهم ويسلك سبيلهم، فيكونون فتنة لغيرهم؛ ولهذا حذّر الشارع من فتنة م فسد من العلماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لا تمنع ذَنَبَ تلعةٍ: هو مثل عربي، يضرب للرجل الذليل الحقير. لسان العرب 8/36 مادة (تلع).
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/390؛ والهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/313، واللفظ له، سوى قوله "في الأرض"، وعزاه لأحمد والبزار والطبراني في "الأوسط"، وقال: وأحد أسانيد أحمد وأحد أسانيد البزار، رجاله رجال الصحيح، وذكره الهندي في الكنز برقم (43018). هو عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف الشمري الفرضي النجدي ثم المدني، نزع والده من المجمعة، وجاور المدينة وفيها ولد المترجم له، ونشأ بها وقرأ على علمائها، ثم سافر إلى دمشق، وقرأ على علمائها، من تلاميذه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الإحسائي، وابنه الشيخ إبراهيم بن عبد الله، وهو صاحب كتاب: "العذب الفائض في شرح عمدة الفرائض". توفي بالمدينة علم 1140هـ. رحمه الله. انظر ترجمته: علماء نجد خلال ستة قرون، 2/501-504.(1/360)
(3) وقد نقل عن سفيان الثوري وله: "والبدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية، فإنّ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها". حلية الأولياء 7/26؛ ونقله شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه 11/472؛ ومعنى قوله "والبدعة لا يتاب منها": أي أن أصحاب البدع، لإنما يمارسونها على أنها من الدين، ولا ينتبه إلى ذلك؛ وليس المراد أن من كان على بدعةٍ، ثم علم خطأه أنه لا يتوب منها، أو أنه لا يقبل توبته؛ فالصواب أن صاحب البدعة، يجب عليه التوبة منها، متى فطن إلى أنّ ما هو عليه باطلٌ.(1/361)
ص -270- ... والعباد، و/خافه/(1) على أمّته(2). فالمؤمن إذا حصل له، وظفر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفر والسعادة، وإن قيل ما قبل: شعر:
أقام الحي أم جدّ الرحيل(3) ... إذا رضي الحبيب فلا أبالي
وينبغي لك يا عثمان أن تقرأ هذه النصيحة على جماعتك، وتبيّن لهم معانيها، وما في الفرق والاختلاف من فتح أبواب الشر والفساد، فاحرص على ذلك واعتدّ به من صالح أعمالك، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم لعلي: "فوالله، لأن يهدي الله بك /رجلاً واحداً/(4) خيرٌ لك من حمر النَّعَم"(5). والشيطان قاعد على الصراط المستقيم، فإن عاض أحد بشبهة، فيلزمكم تبليغها وطلب كشفها، ولا يحلُّ السكوت على الشبه التي تُقع في الريب والشك، وتفضي غلى ما تقدم من المفاسد. وإن رأيتم في كلامي مجازفة أو مخالفة لما قاله أهل العلم، فاذكروه لي. وإن جاءني عنكم نصيحة أو تنبيه على شيء من الغلط، فنشهد الله على قبوله ممن كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د): (وخافهم).
(2) في ذلك أخرج الهندي في "الكنز"، قوله صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما أخاف على أمتي، الأئمة الضالون" برقم (29042)، وعزاه لأحمد عن عمر.
(3) لم أعرف قائله ولا مصدره.
(4) في (د): رجلٌ وادٌ.
(5) صحيح البخاري مع الفتح 6/130، الجهاد باب (دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس إلى الإسلام والنبوة)؛ صحيح مسلم بشرح النووي 15/187، فضائل الصحابة، باب (فضل عي)؛ سنن أبي داود 4/69، العلم باب فضل نشر العلم.
و "حمر النعم": النعم هو الإبل، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وقد كان ذلك أعز الأموال عند العرب وأنفَسِها. انظر عون المعبود 10/95.(1/362)
ص -271- ... وبلِّغوا سلامنا إخوانكم، والعيال. والإخوان ينهون إليكم السلام، والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم القيامة/(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ساقط في (ب).(1/363)
ص -272- ... (الرِّسَالَةُ الثَّامِنَةُ) (1)
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً -رحمه الله تعالى، وعفا عنه بمنّه وكرمه- نصيحة إلى كافة المسلمين، في التذكير بآيات الله، والحث على لزوم الجمعة، والقيام بأصول الدين وقواعد الإسلام، التي هي أربح تجارة وبضاعة، والحض على جهاد أعداء الله ورسوله، القائمين على هدم قواعده وأصوله،وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يراه من المسلمين، وفَّقهم الله لنصر الإسلام والدين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب هذا، هو التذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، وقد ينتفع بالنصائح من أراد الله هدايته، قال تعالى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}(2).
وأهم ما يبدأ به في التعليم، هو معرفة أصول الدين وقواعد الإسلام، التي لا يحصل بدونها، ولا يستقيم بناؤها إلا عليها، لا سيما معرفة ما دلّت عليه كلمة التوحيد شهادة ألا إله إلا الله من الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده؛ بإخلاص العبادة بأنواعها له سبحانه، والبراءة من كل معبود سواه، والقيام بذلك علماً وعملاً، فإنّ هذا هو أصل الدين وقاعدته، والحكمة التي لأجلها خلقت الخليقة(3)، وشرعت الطريقة، وأرسلت لأجلها الرسل(4)،وبها أنزلت الكتب، وجميع أحكام الأمر والنهي تدور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متأخرة،في لوحة (20-23).
(2) سورة الذاريات: الآية (55).
(3) وذلك في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
(4) ورد في إرسال الرسل إلى أممهم، لدعوتهم إلى عبادة الله آيات عدة، منها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].(1/364)
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65].
وقد ورد حو هذه الآيات في بيان إرسال العديد من الرسل، مثل نوح إلى قومه، وصالح إلى ثمود، وشعيب إلى مدين، وعيسى إلى بني إسرائيل، وإبراهيم إلى قومه.(1/365)
ص -273- ... عليها وترجع إليها.
وقد رأيتم ما حدث في هذا الأصل العظيم من الإضاعة والإهمال، والإعراض عن حقائقه وواجباته، حتى ظهر الشرك، وظهرت وسائله وذرائعه ممن ينتسب إلى الإسلام، ويزعم أنه من أهله، وذلك بأسباب، منها: الجهل بحقيقة ما أمر الله به ورضيه لعباده، من أصول التوحيد والإسلام، وعدم معرفة ما ينافيه ويناقضه(1)، أو يضاد الكمال والتّمام، من موالاة أعداء الله، على اختلاف شعبها، ومراتبها، فمنها المكفِّرات، والموبقات، ومنها ما دون ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد ذكر العلماء نواقض التوحيد، وجلوها في عدة نقاط، والإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك رسالة، عدد فيها تلك النواقض في النقاط التالية:
1. الشرك في عبادة الله تعالى.
2. اتخاذ الوسائط بين العبد وربه، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم.
3. من لم يكفِّر المشركين، أو شكَّ في كفرهم، أو صحَّح مذهبهم.
4. الاعتقاد بأن غير هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم أكمل من هديه، أو أنّ حكم غيره أحسن من حكمه.
5. إبغض شيء مما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم.
6. الاستهزاء بشيء من دين الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
7. السحر.
8. مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمن.
9. الاعتقاد بأن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
10. الإعراض عن دين الله تعالى. انظر تفاصيل هذه العشرة: الرسالة الثانية عشرة، من رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ضمن "الجامع الفريد"، ص 277-278. عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، للشيخ صالح العبود، ص 411-418.(1/366)
ص -274- ... وأكبر ذنب وأضله وأعظمه منافاةً لأصل الإسلام، نصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هو عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام، وكذلك انشراح الصدر لهم وطاعتهم والثناء عليهم، ومدح من دخل أمرهم، وانتظم في سلكهم، وكذلك ترك جهادهم ومسالمتهم، وعقد الأخوة والطاعة لهم، وما هو دون ذلك من تكثير سوادهم ومساكنتهم ومجامعتهم، ويلتحق بالقسم الأول(1): حضور المجالس المشتملة على رد أحكام الله وأحكام رسوله، والحكم بقانون الإفرنج والنصارى المعطلة، ومشاهدة الاستهزاء بأحكام الإسلام وأهله. ومن في قلبه أدنى حياة أو أدنى غيرة لله، وتعظيم له، يأنف ويشمأز من هذه القبائح، ومجامعة أهلها ومساكنتهم، ولكن "ما لجرح بميت إيلام"(2).
فليتق الله عبدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر، وليجتهد فيما يحفظ إيمانه وتوحيده، قبل أن تزل القدم، فلا ينفع حينئذ الأسف والندم، ومن أهم المقاصد الشرعية، والمطالب العليّة، جهاد أعداء الله، ومن صدف عن دينه الذي ارتضاه؛ وقد أوجب الله الجهاد في سبيله، وأكّده ورّغب فيه، ووعد أهله بما أعدّه لأوليائه وأهل طاعته من مرضاته وكرامته ومجاورته في دار النعيم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(3) إلى آخر السورة، فانظر ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة من لطافة الخطاب، والإرشاد إلى منهاج الهداية والصواب، وما رتب على ذلك من غاية الفوز ومنتهى السعادة، وما فيها من البشارة بكل فلاح ونجاح في العاجل والآجل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي قسم الموالاة المكفِّرة.
(2) هذا عجز بيت لأبي الطي المتنبي، من قصيدة يمدح بها أبا الحسين علي بن أحمد المري الخرساني، وتمامه:
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام(1/367)
انظر شرح ديوان المتنبي، لأبي العلاء المعري (ت449هـ) تحقيق د.عبد المجيد دياب، دار المعارف القاهرة، 2/222، القصيدة برقم (97).
(3) سورة الصف: الآية (10).(1/368)
ص -275- ... وانظر كيف ختم السورة بأم عباده المؤمنين أن يكونوا أنصاراً له، وأن يقتدوا بمن سلف من الصالحين، وانظر إلى ما حكم به من إيمان من نصره وقام بما أمر به، وتأمّل كفر الطائفة المعرضة عن طاعة رسوله، والجهاد في سبيله، وتأمّل ما وعد به عباده من النصر، والظهور على من خالفهم وخذلهم، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} إلى قوله: {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(2)،وقد صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "إنّ في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"(3) وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: "من مات و/لم يغز/(4) ولم يحدث نفسه /بالغزو/(5)، مات على شعبة من النفاق"(6).
فاغتنموا رحمكم الله حضور المشاهد، التي يترتب عليها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه ورسوله، ومراغمة أعدائه، فإنّ هذه المشاهد من الموجبات للرحمة، والمغفرة، والسعادة، الأبديّة: "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة: الآية (111).
(2) سورة التوبة: الآية (123).
(3) صحيح البخاري مع الفتح، 6/14، الجهاد، الباب (درجات المجاهدين في سبيل الله)؛ شرح السنة للبغوي، 10/346.
(4) في (د): (لم يغزوا).
(5) في (د): (بالغزوا).(1/369)
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 13/60، الإمارة، باب (ذم من مات ولم يغز)، سنن أبي داود 3/22، الجهاد، باب (كراهية ترك الغزو)؛ سنن النسائي 6/8، الجهاد باب (التشديد في ترك الجهاد).
(7) الحديث ذكره الشيخ هنا بالمعنى، وقد تقدم تخريجه ص179.(1/370)
ص -276- ... وإذا هجم العدو على بلاد الإسلام، صار الجهاد فرض عين، فأجمعوا أمركم على جهاد عدوكم لابتغاء مرضاة ربِّكم، وأطيعوا إذا أمركم، وأخلصوا النية وأصلحوا الطويَّة، فإنَّما لك امرئ ما نوى، واتقوا الله عباد الله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه يراه، فقد رأت ما بلغ من مكايد الشيطان، وتفريق كلمة أهل الإيمان، حتى انسلخ الأكثر من الدين، ولحق فئام من المسلمين بأعداء الملة والدين.
نسأل الله لنا ولكم العافية، والثبات على دينه الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لعباده(1)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه إشارة إلى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، وقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55].(1/371)
ص -277- ... (الرِّسَالَةُ التَّاسِعَةُ) (1):
قال جامع الرسائل
وله أيضاً - قدس الله روحه، /ونوّر ضريحه/(2) -(3)، رسالة إلى محمد بن عجلان(3).وسبب ذلك، أنه كتب رسالة أيام الفتنة، التي حدثت بين عبد الله بن فيصل(5) وأخيه سعود(6)، ذكر فيها جواز الاستنصار بالكفار على البغاة من أهل الإسلام(7)، وهي التي سمّاها الشيخ "حبالة الشيطان" فكتب عليها الشيخ عبد اللطيف، جواباً، /قطع/(8) فيه كلّ ما يتعلق به كل مبطل، وأزال بالبراهين والدلائل كلَّ مشكل، وقرّر فيها أن ما كتبه ونقله من آية أو سنة /أو أثر/(9)، فهو عليه لا له، لأنه يدل بوضعه أو تضمّنه أو التزامه على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد، والقول والعمل، وبغضهم وجهادهم حسب الطاقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متأخرة،في لوحة (28-31). وقد وردت في الدرر السنية، 7/170-172.
(2) زيادة في (ب).
(3) في المطبوع: (رحمه الله، وعفا عنه بمنّه وكرنه).
(3) تقدمت ترجمته في ص239
(5) تقدّمت ترجمته في ص45.
(6) هو سعود بن فيصل بن تركي، وقد تقدّمت ترجمته في ص45.
(7) وقد تقدّم ما ملخصه: أن عبد الله بعد هزيمته من أخيه سعود، هرب إلى مدحت باشا في بغداد، واستنصره، فأرسل معه جيشاً بقيادة نافذ باشا إلى الأحساء، فاحتلها في آخر عام 1288هـ، فجعلها تابعة للبصرة، فخسرها هو أيضاً لصالح الدولة العثمانية. انظر: قلب جزيرة العرب، ص346.
(8) كذا في (د) والمطبوع، وفي جميع النسخ: (هدم).
(9) زيادة في (ب) و(د) والمطبوع.(1/372)
ص -278- ... ثم كاتبه الشيخ محمد بن عجلان، وذكر فيما كتبه الوصية بما تضمنه سورة العصر، فكتب له الشيخ -رحمه الله- هذه الرسالة، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى جناب الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان حفظه الله من طوائف الشيطان، ورزقه الفقه في السنة والقرآن.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد الله إليك، وأُثِني بنعمه عليه، والخط وصل وما ذكرت فيه من تنبيه على ما تضمّنته السورة الكريمة (سورة العصر)، فقد سرّني، وقد عرفت ما قاله الشافعي رحمه الله: "لو فكر الناس فيها لكفتهم"(1)، قلت لأنها تتضمن الأصول الدينية، والقواعد الإيمانية، والشرائع الإسلامية، والوصايا المرضية، فتفكَّر فيها(2).
واعلم أنك نبهتني بها على إعلامك ببعض ما تضمّنته رسالتك لابن عبيكان(3)، وقد كتبتُ حين رأيتها، ما شاء الله أن أكتب، ونهيت عن إشاعتها، خوفاً منك وعليك، ولكن رأيتُ ما الناس فيه من الخوض، ونسيان العلم، وعبادة الأهواء، فخشيت من مفسدة كبيرة بردّ السنة والقرآن، والدَّفع في صدر الحجة والسلطان، وقررت فيها أنّ ما كتَبْتَه ونقلته من آية أو سنّة أو أثر، فهو عليك، لا لك؛ لأنه يدل بوضعه أو تنضمُّنه أو التزامه، على البراءة من الشرك وأهله، ومباينتهم في المعتقد والقول والعمل، وبغضه، وجهادهم، والبراءة من كل من اتخذ أولياء من دون المؤمنين، ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تفسير القاسمي 17/6250.
(2) قال الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، في تعليقه على تفسير القاسمي بعد أن أورد كلام الإمام الشافعي المتقدم قال: "إنّ المراتب أربعة، وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله، إحداها: معرفة الحق، الثانية: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربع، في هذه السورة".تفسير القاسمي، 17/6250.
(3) لم أعرفه.(1/373)
ص -279- ... يجاهدهم حسب طاقته، ولم يتقرب إلى الله بالبعد عنهم، وبغضهم ومراغمتهم، وأكثر نصوصك /التي/(1) ذكرت دالة على ذلك، كقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(2)، والآية قبلها، والآية بعدها(3)، وما ذكره لبن كثير هنا، كل هذا نصٌ فيما قلناه(4)، وقد بسط القول في ذلك.
وكذلك كل أحاديث السمع والطاعة، وأمر بلزوم الجماعة، نص فيما قلناه، عن من فقه عن الله ورسوله، وما ذكرتَ من استعانته بابن أريقط(5)، فهذا اللفظ ظاهر في مشاقة قوله في حديث عائشة: "إنا لا نستعين بمشرك"(6)، وابن أُريقط أجيرٌ مستخدم، لا معين مكرم(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (د): (الذي).
(2) سورة آل عمران الآية (103).
(3) هما: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 102، 104].
(4) نقل ابن كثير رحمه الله عن علي بن طلحة، وفي قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقال ابن كثير في قوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا}: أمرهم بالجماعة، ونهاهم عن التفرقة. وقال في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية، أي: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير، والأمير بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأولئك هم المفلحون. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير 1/396-397، 398.(1/374)
(5) هو عبد الله بن أريقط، وقيل ابن أرقد، والمشهور أُريقط، الدُّؤلي، استأجره الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند هجرته مع الصديق، ليدلهم على الطريق، ودفعا إليه راحلتهما، وكان إذ ذاك مشركاً، انظر: سيرة ابن هشام 2/488، والبداية والنهاية 3/176-187.
(6) تقدم تخريجه في ص 239.
(7) هنا يشير الشيخ إلى الفرق بين استئجار الكافر، والاستعانة به، فالمستأجَر أجيرٌ مستخدم مذلّل تحت يد مستخدمه، وهو ما فعله الرسول صلّى الله عليه وسلّم، عند هجرته؛ إذ استأجر عبد الله بن أريقط يدله على الطريق. أما المستعان به، فهو من موقف قوي، ولذلك فهو مكرم معزز عند من يستعين به.(1/375)
ص -280- ... وكذلك قولك: إنّ شيخ الإسلام استعان بأهل مصر والشام، وهم حينئذ كفار وهلة عظيمة(1)، وذلّة ذميمة، كيف إذا ذاك والإسلام يعلوا أمره(2)،ويقدّم أهله، ويهدم ما حدث من أماكن الضلال، وأوثان الجاهلية، ويظهر التوحيد، ويقرر في المساجد والمدارس، وشيخ الإسلام نفسه يسميها بلاد إسلام، وسلاطينهم سلاطين إسلام، ويستنصر بهم على التتر، وعلى /النصيرية/(3) ونحوها؟! وكل هذه مستفيض في كلامه و كلام أمثاله0 وما يحصل من بعض العامة والجهال، إذا صار الغلبة لغيرهم، لا يحكم به على البلاد وأهليها0
وكذلك ما زعمته من أنّ أكابر العسكر أهل تعبد، أو نحو هذا؛ فهذه دسيسة شيطانية وقاك الله شرها، وحماك حرّها لو سُلِّم تسليماً جدلياً، فابن عربي(4)، وابن سبعين(5)، وابن الفارض(6)، لهم عبادات وصدقات، ونوع تقشف وتزهد، وهم أكفر أهل الأرض، أو من أكفر أهل الأرض(7). وأين أنت من قوله تعالى: {وَلَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهلة: من وهِهل وهلاً: أي ضَعُفَ وفزعَ وجبن. وهلة عظيمة: أي فزعة عظيمة. ابن منظور، لسان العرب، مادة (وهل) 11/737.
(2) تقدّمت مسألة الاستعانة بالكفار، في ص 239. وما أشار الشيخ إليه هنا، هو من الشروط التي اشترطها القائلون بجاز الاستعان بهم، وهو: ألا يكون المسلمون بحالة ضعف، ورأي الكافر هو النافذ.
(3) في (د) نصرانية).
(4) هو أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن عربي، محي الدين، الصوفي، صاحب كتاب "فصوص الحكم"، قال الذهبي: "فإن كان لا يكفر فيه، فما في الدنيا كفر". شيخ سوء كذاب، (ت638هـ). سير الأعلام 23/48.
(5) هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر، أبو محمد المقدسي، اشتغل بعلم الفلسفة، فتولّد له من ذلك نوع إلحاد، (ت669هـ). انظر: البداية والنهاية 13/275-276.(1/376)
(6) هو عمر بن علي بن مرشد بن الفارض، الحموي أبو حفص، صاحب القصيدة التائية في الحلول والاتحاد، (ت632هـ). انظر البداية والنهاية 13/154؛ سير الأعلام 22/368؛ وميزان الاعتدال 3/214.
(7) لا شك في أن هؤلاء الثلاثة، من أقطاب الصوفية الملاحدة، ولو لم يكن في معتقدهم سوى عقيدة الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود، لكفى المرء تكفيراً لهم.
ومن أمثلة معتقدهم هذا: ما قاله صاحبهم أبو يزيد البسطامي (261هـ) من أئمة القوم قال عن نفسه: "رفعني مرة فأقامني بين يديه، وقال لي: يا أبى يزيد، إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيّنِّي بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا". انظر الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق، مكتبة ابن تيمية، الكويت، ط/2، ص65.(1/377)
ص -281- ... أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(2).
وأما إجازتك الانتصار بهم، فالنزاع في غير هذه المسألة، بل في توليتهم وجلبهم وتمكينهم من دار إسلامية، هدموا بها شعار الإسلام وقواعد الملّة، وأصول الدين وفروعه، وعند رؤسائهم قانون وطاغوت وضعوه للحكم بين الناس في الدماء ولأموال وغيرها(3)، مضاد ومخالف للنصوص، إذا وردت قضية نظروا فيه وحكموا به، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم(4).
وأما مسألة الاستنصار(5) /بهم/(6)، مسألة خلافية، والصحيح الذي عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأنعام: الآية (88).
(2) سورة الزمر: الآية (65).
(3) الحكم بغير ما أنزل الله، هو أحد الطواغيت الكبرى القائمة في عالمنا الحالي، يعبده ويلجأ إليه كل من هو مجرم متخوِّف من القوانين السماوية العادلة، وفيهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء: 60-61].
(4) وقد نفى الله سبحانه وتعالى كمال الإيمان عن ألئك، حيث قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65].
(5) تقدمت مسألة الاستعانة بالكفار في ص 239.
(6) زائد في المطبوع.(1/378)
ص -282- ... المحققون، منع ذلك مطلقاً، وحجّتهم حديث عائشة، وهو متفق عليه(1)، وحديث عبد الرحمن بن حبيب(2)، وهو حديث صحيح مرفوع(3)، اطلبهما تجدهما فيما عندك من النصوص، والقائل بالجواز، احتج بمرسل الزهري(4)، وقد عرفت ما في المراسيل(5) إذا عارضت كتاباً أو سنةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حديث عائشة، هو قوله صلّى الله عليه وسلّم "ارجع، فلن أستعين بمشرك"، وقد تقدم تخريجه في ص239.
(2) هو عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، ويقال حبيب بن عبد الرحمن، عن عطاء، صدوق، وله مل ينكر، من السادسة، انظر ميزان الاعتدال، 2/555؛ وتقريب التهذيب 1/476.
(3) ديثه هو: عن أبيه عن جده، قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يريد غزواً، أنا ورجل من قومي، ولم نسلم، فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم، فقال: "أسلمتما؟" فقلنا: لا؛ فقال: "إنا لا نستعين بالمشركين"، فأسلمنا وشهدنا معه، أخرجه الهيثمي، في "مجمع الزوائد" 5/303؛ وقال: أخرجه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات، وانظر: نيل الأوطار 7/253.
(4) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله، أبو بكر القرشي الزهري المدني، نزيل الشام، حافظ زمانه (124هـ)، وقيل غير ذلك.
انظر: حلية الأولياء 3/360؛ سير الأعلام 5/326-350؛ تهذيب التهذيب 9/445. وحديثه: عن الزهري: "أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعان بناس من اليهود في خيبر، فأسهم لهم". السنن الكبرى للبيهقي 9/53، نيل الأوطار 7/253، مرسلاً.
(5) الحديث المرسل هو: ما رفعه التابعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، صغيراً كان التابعي أو كبيراً، وقد قيّده بعضهم، بما رفعه التابعي الكبير فقط، لأن معظم رواياته عن الصحابة.
حكمه: يُعدُّ من الأحاديث الضعيفة، لعدم اتصال سنده.
حُجَّيّته: العلماء مختلفون في الاحتجاج به إلى أقوال، بلغت نحو عشرة، أشهرها ثلاثة:(1/379)
-جواز الاحتجاج به مطلقاً.
-لا يحتج به مطلقاً.
-يحتج به إذا اعتضد بعاضد، بأن يروى مسنداً أو مرسلاً من وجه آخر، أو يعمل به بعض الصحابة.
-ولعل هذا الأخير هو الأوجه. انظر في بسط الكلام حول المرسل: الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي (463هـ)، تقديم محمد الحافظ التيجاني، ط/1، مطبعة السعادة، نشر دار الكتب الحديثة، مصر وما بعدها؛ كتاب "النكت على ابن الصلاح"، لابن حجر العسقلاني (852هـ)، تحقيق د. ربيع بن هادي عمير، ط/1، 1404هـ-1984م، من مطبوعات الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، 2/540، ومل بعدها؛ أصول الحديث، علومه ومصطلحه، د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر ط/4، 1401هـ-1981م، ص 337-339.(1/380)
ص -283- ... ثم القائل به قد شرط أن يكون فيه نصح للمسلمين، ونفع لهم، وهذه القضية فيها هلاكهم ودمارهم، وشرط فيها ألا يكون /للمشرك/(1) صولة ودولة يخشى منها، وهذا مبطل لقولك في هذه القضية؛ واشترط مع ذلك أن لا يكون له دخل في رأي ولا مشورة(2)، بخلاف ما هنا، كل هذا ذكره الفقهاء، وشراح الحديث، ونقله في شرح المنتقى، وضعّف مرسل الزهري جداً(3)، وكل هذا في قتال المشرك للمشرك مع أهل الإسلام.
وأم استنصار المسلم بالمشرك على الباغي، فلم يقل بهذا إلا من شذّ(4)، واعتمد القياس، ولم ينظر إلى مناط الحكم، والجامع بين الأصل وفروعه، ومن هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها في نقله وفتواه، فقد تتبع الرخص، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها، /المستفاد/(5) من حديث الحسن(6) وحديث النعمان بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب) والمطبوع: (للمشركين).
(2) تقدم ذكر هذه الشروط في ص 239. انظر: نيل الأوطار: 7/257.
(3) نيل الأوطار، 7/253، 255، قال الشوكاني: "الزهري مراسيله ضعيفة"، وقال: "ولا يصلح مرسل الزهري... لما تقدم أن مرسل الزهري ضعيف".
(4) قال الشوكاني: "وتجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعاً، وعلى البغاة عندنا، لاستعانة علي عليه السلام، بالأشعث" انتهى، نيل الأوطار 7/254.
(5) كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: (للمستفاد).
(6) هو الحسن بن عُمارة البجلي مولاهم، أبو محمد الكوفي الفقيه، قاضي بغداد، قال أحمد: متروك، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، أخذ عن ابن أبي مليكة، وعمرو بن مرّة وخلق، من السابعة، مات سنة (53هـ).
انظر ترجمته: ميزان الاعتدال، 1؟513-515، تقريب التهذيب، 1/169.
وحديثه المراد هنا: هو مرسل الزهري المتقدم تخريجه في ص 282:" أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر...."الحديث.(1/381)
وروى الشافعي فقال: أخبرنا يوسف، حدثنا الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن القاسم، عن ابن عباس قال: استعان النبي صلى الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع، فرضخ لهم، ولم يسهم لهم" . قال البيهقي في "الكبرى" 9/37: لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة، وهو ضعيف. والصحيح ما أخبرنا به الحاكم أبو عبد الله، فساق بسنده إلى أبي الحميد الساعدي، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا طلع ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: "من هولاء"؟ قالوا بنو قينقاع، رهط عبد الله بن سلام، قال: "أو تسلموا" قالوا: لا، فأمرهم أن يرجعوا، أو قال: "إنا لا نستعين بالمشركين" فأسلموا" . ثم ذكر -رحمه الله- ما ذكره الشيخ عبد اللطيف هنا من اختلاف في المسألة وشروط من أجازه.(1/382)
ص -284- ... بشير(1)، وما أحسن ما قيل:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد نظراً وحسن تبصُّر(2)
وفي رسالتك مواضع أعرضنا عنها خشية الإطالة، هذا كله من التواصي بالحق، والصبر عليه، وإن لام لائم، وشنَّأ شانئ، ولولا ما تقرر في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، من تفصيل الكم في المخطئ والمتعمد، لكان الشأن غير الشأن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وبلِّغ سلامنا من لديك من الإخوان، وعيالنا وإخواننا بخير، وينهون السلام، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة، أبو عبد الله الأنصاري، الأمير العام، صحب رسول صلّى الله عليه وسلّم، وابن صاحبه، مسنده (114) حديثاً، (ت64هـ).
(2) تقدّم تخريجه في ص(230).(1/383)
ص -285- ... (الرِّسَالَةُ العَاشِرَةُ) (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً /-قدس الله روحه، ونوّر ضريحه-/:(2)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن عبد العزيز الدوسري(3)، وفقه الله لما يحبه ويرضاه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فأحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، على نعمه -جعلنا الله وإياك شاكرين. والخط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متأخرة،في لوحة (38). وتأتي فيها بعد الرسالة رقم (5) وقبل (35) حسب ترتيب نسخة (أ).
(2) ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
(3) في (أ) تعليق القتل ().
فتأمل هذا يطلعك على بطلان هذه الشبهة، وجهل مبديها، وتأمل حديث سمرة وما فيه من تعليق هذا الحكم بنفس المجامعة والسكنى، واعرف معنى كونه مثله.
وكذلك ما روى ابن جرير من تفسير ابن أبي حاتم، فزاد فيه: فكتب المسلمون إليهم بذلك، وخرجوا ويئسوا من كل خير، ثمّ نزلت فيهم: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ } [النحل: 110]؛ فكتبوا إليهم بذلك أنْ قد جعل الله لكم مخرجاً، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقتلوهم، حتى نجا من نجا، وقتل من قتل ().
وروي عن ابن عباس في الآية: هم قوم تخلّفوا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ضربت الملائكة وجهه ودبره.()
وأظن هذا الجاهل رأى ما روي عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ قوماً من أهل مكّة أسلموا، فاستخفوا بالإسلام، وأخناسخ بقوله: "الذي سكن عنيزة".(1/384)
ص -286- ... وصل بما تضمن من الوصية- وفّقنا الله وإياك لقبول الوصاية الشرعية، وأعاذنا من سيئات الأعمال الكسبيّة. وأوصيك بما أوصيتني به، وبلزوم الكتاب والسنة، والرغبة فيهما، فإنّ أكثر الناس نبذوهما ظهرا، وزهدوا فيما تضمناه من العلم والعمل، اللهم إلا أن يوافق الهوى.
واذكر قوله صلّى الله عليه وسلّم لحذيفة، لما سأله عن الفتن، قال: "اقرأ كتاب الله، واعمل بما فيه"(1) كررها ثلاثاً، والحكمة والله أعلم شدّة الحاجة وقت الفتن، وخوف الفتنة والتقلب، وأكثر الناس من أ÷ل نجد وغيرهم، ليسوا على شيء في هذه الأزمان(2).
والمؤمن من اشترى نفسه، ورغب فيما أعرض عنه الجهال والمترفون، نسأل الله لنا ولكم الثبات والعفو والعافية. ولا /تدّخر/(3) المذاكرة فيما ابتلي به الناس من فتنة العساكر ومن والاهم، فإنّ هذا من أعظم ما دهم الإسلام وأهله، ومن أسباب محو الدين والإيمان، وهد قواعده. ومن أفضل الأعمال، القيام لله /عند/(4) ذلك على بصيرة، والدعوة إلى سبيله، وبلغ سلامنا الإخوان والخواص من أهل الإسلام؛ ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه في ص262.(1/385)
(2) هكذا كان الحال في وقت المؤلف. أم اليوم فقد تغير الحال بفضل الله ومنّته، خاصة بعد أن صار فيها عاصمة هذه الدولة الكريمة، تحت أيدٍ أمينة، أبناء الملك عبد العزيز -تغمّده الله برحمته-فانتشر في ظل قيادتهم الحكيمة العلمُ، وكثر الدعاة إلى الله، وأنشئت العديد من المراكز والمؤسسات الإسلامية العالمية التي تعد رمزاً مشرِّفاً لخدمة هذا الدين، ومن ذلك مثلاً: جامعة الملك سعود، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فضلاً عن المدارس الإسلامية العديدة، وما يتبعها من مكتبات كبرى وغيرها، كمكتبة الملك عبد العزيز، ومكتبة الرياض السعودية، ومكتبة الملك فهد، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ورئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، وغير ذلك، مما غيّر حال نجد، فأصبح يحتل مركزاً متقدِّماً، من المراكز الإسلامية العالمية.
(3) وفي جميع النسخ: (تذخر). وفي المطبوع: (تدّخر) وهو الصواب؛ فهو يحثه على عدم ترك المذاكرة، لما حدث من فتنة العساكر.
(4) في (د): (على).(1/386)
ص -287- ... لدينا العيال والإخوان بخير، وينهون السلام [وأنت سالم والسلام](1). وصلى الله على محمد /وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين/(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعقوفتين زيادة في (ب)، وهو ما ختم به الرسالة. وما بعده ساقط فيها.
(2) ساقط في (ب) و(ج) و(د).(1/387)
ص -288- ... (الرِّسَالَةُ الحَادِيَةُ عَشَرَةَ) (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونوّر صريحه- رسالة إلى أهل عنيزة(2)، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من أهل عنيزة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
يجري عنكم أمور، يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون، ولا بد من النصيحة، معذرة إلى الله تعالى، وطلباً لرضاه، وإلاّ فالحجة قد قامت، وجمهوركم يتجشّم(3) ما يأتي لأسباب لا تخفى، من ذلك: المشاقة والمعاندة، بإكرام داود العراقي(4)، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين(5)، والحثُّ عليه، وغير ذلك مما يطول عدّه.
ولا بد من تقديم مقدّمة ينتفع بها الواقف على هذا، فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة ما أخبر به نبيُّها صلّى الله عليه وسلّم، من اتباع سنن من كان قبلها من أهل الكتاب، وفارس والروم(6)، وتزايدت تلك السنن، حتى وقع الغلو في الدين، وعُبِدَت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): جاءت هذه الرسالة متأخرة،في لوحة (153-157).وهي في (ب) تأتي بعد الرسالة رقم (4) حسب ترتيب نسخة (أ).
(2) تقدم موضعها ف ص30.
(3) أي يتكلّف على مشقة. لسان العرب 12/100، مادة (جشم).
(4) تقدمت ترجمته في ص58.
(5) أي التصريح بإباحة أن يُدعى الصالحون فيما لا يُطلب إلاّ من الله.
(6) أخبر بذلك صلّى الله عليه وسلّم في قوله: "لتتبعنّ سَنن من كان قبلكم، شبراً بشرٍ، وذراعاً بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضبٍّ لسلكتموه". قلنا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟". وفي رواية عند الشيخين: "حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ تبعتموهم". صحيح البخاري مع الفتح 6/571، 13/313؛ صحيح مسلم بشرح النووي 16/460؛ سنن ابن ماجة 2/377، الفتن، باب (افتراق الأمم)؛ مسند الإمام أحمد 2/327.(1/388)
ص -289- ... قبور الأولياء والصالحين، وجُعِلَت أوثاناً تُقصَد من دون الله رب العالمين(1)، عظَّمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من رائحة النبوّة، ولم يفقهوا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم(2)، ومنتهى نحلتهم، ونهاية طريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه(3)، وتلطّف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين توسلاً ونداءً، وحُسن اعتقاد في الأولياء، وتشّفُعاً بهم(4)، واستظهاراً بأرواحهم الشريفة، فاستجاب لهم صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق، فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد عقد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في ذلك باباً في كتاب التوحيد، سمّاه: باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين، يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله.
(2) هذا تنبيه لعباد قبور الصالحين ومعظِّميها، إلى أن عملهم ذلك شبيه بعمل أناس من قوم نوح، الذين عظّموا الصالحين، وغلوا فيهم، واتخذوا لهم تماثيل بعد موتهم، وكانت سبباً في بدء الشرك بالله، كما أخرج ذلك الإمام البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23]، قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنَّسخ العلم عبدت". صحيح البخاري مع الفتح 8/535.
(3) فقد عاب القرآن على المشركين، في كثير من الآيات منها:
قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة:76].(1/389)
وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67].
(4) هذه هي حجة المشركين الواهية على مرِّ الدهور، في عبادتهم الأوثان؛ إذ يزعمون أنّ عبادتهم لها إن هي إلا تقرُّباً وتشّفعاً بها إلى الله، وقد حكى الله عنهم فيقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].(1/390)
ص -290- ... وفي زمان الفترة(1)، حذو النعل بالنعل، وحذو القذّة بالقذّة، وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد(2)، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد حتى عمَّ ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد، ففي كل إقليم ومدينة وقرية ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج(3) يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، ويفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون به في النوائب والحاجات،وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم(4) بباله دعاء الله تعالى في شيء من ذلك، لاستشعاره حصول مقصوده، ونجاح مطلوبه من جهة الأولياء والأنداد. وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيرة.
إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله تعالى أطلع شمس الإيمان به وتوحيده، في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) زمان الفترة: هي زمن ليس فيه نبي ولا رسول.(1/391)
قال ابن كثير رحمه الله: " كانت الفترة، بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق". ثم استدل على هذا بما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي". تفسير ابن كثير 2/37. والحديث ورد في صحيح البخاري مع الفتح، 6/550، الأنبياء، باب (واذكر في الكتاب مريم). وقد اختلف العلماء في مدة الفترة، على أقوال عدّة، منها: عن قتادة: أنها ستمئة سنة، وعنه أيضاً أنها، خمسمائة وستون، وعن معمّر، عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون، وعن الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون، وقد أورد ابن كثير تلك الأقوال ثم قال: والمشهور هو القول الأول، أنها ستمائة سنة" ثم قال: "والمقصود أن الله بعث محمداً صلّى الله عليه وسلّم على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغيير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان". تفسير ابن كثير 2/37. وانظر: الجامع لأحكام القرآن، 6/81.
(2) انظر فتح المجيد، ص278؛ ومنهاج التأسيس والتقديس، ص8.
(3) الولائج: جمع وليجة، وهي البطانة، وليجة الرجل: بطانته وخاصته ودخلاؤه. لسان العرب، 2/400، مادة (ولج).
(4) يلم: يقرب، ومعنى: لا يلم بباله دعاء الله: أي لا يقرب بباله دعاءالله. لسان العرب 12/551، مادة (لمم).(1/392)
ص -291- ... آخر هذه الأزمان، على يد من أقامه الله في هذه البلاد النجدية، داعياً إليه على بصيرة(1)، فذَكر به، آمراً بتوحيده، وإخلاص الدين له، وردِّ العباد إلى فاطرهم وباريهم وإلههم الحق، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، يَنْهى عن الشرك به، وصرفِ شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به، لا سلطان ولا حجة على مشروعيته. واستدلَّ على ذلك، وألّف وقرّر، وصنّف وحرّر(2)، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين، فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان قصده، فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين، وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين(3)، وآخرون قلوا: هو يكفِّر أهل الإسلام، وصِنْف نسبوه إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.
(2) وقد ذكر القحطاني في "الدرر السنية"، 12/18-19، معظم مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وذكر منها:
-كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد -كتاب أحكام الطهارة.
-مختصر الإنصاف والشرح الكبير. -مختصر الصواعق.
-كتاب كشف الشبهات في التوحيد. -مختصر فتح الباري.
-كتاب أصول الإيمان. -مختصر الهدى.
-كتاب فضائل الإسلام. مختصر العقل والنقل.
-كتاب فضائل القرآن. مختصر المنهاج.
-كتاب السيرة المختصرة. -مختصر الإيمان.
-كتاب السير المطولة. -كتاب آداب المشي إلى الصلاة.
-كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه.(1/393)
وله عدّة رسائل نفيسة في التوحيد وغيره منها: مسائل الجاهلية. معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه. تفسير كلمة التوحيد. الأصل الجامع لعبادة الله وحده. رسالة في الرد على الرافضة. نولقض الإسلام. أربع قواعد من الدين، تميُّز بين المؤمنين والمشركين. رسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها. تلقين أصول الدين للعامة. أنظر: محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه، ص167-173؛ عقيدة السيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ص118-128.
(3) وهذا قول أكثر المبتدعين اليوم، يطلقون على دعوته بأنها مذهب (الوهابية)، ويسمّون المناصرين له وهابيين، وأنّه دين جديد خاج عن الإسلام، وقد تقدّم التعريف الوهابية ص36.(1/394)
ص -292- ... استحلال الدماء والأموال الحرام، ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دارمسيلمة الكذاب(1).
وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قومٌ عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و{قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَشَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}(2)؛ فهم من شأنه من أمر مريج؛ وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوّة فقصدها، وظهرت له حقائق الوحي والتنزيل، فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأه
واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها ... في السَّعد ما يغنيك عن دبران(3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وكل ذلك يطلقه الطغاة كذباً وزوراً، لا يستند شيءٌ منها إلى دليل، وإنّما يروجونها حقداً وحسداً على نجاح هذه الدعوة، والقبول التي تلقته في جميع ربوع العالم؛ وتشويهاً للمناضلين من أجل نشره.
ومن لطائف السيخ عبد اللطيف، ما ذكر أنه حين قيامه بمصر، قال له أحد المصرين: مسيلمة الكذاب من خير نجدكم، فقال مجيباً له: وفرعون اللعين رئيس مصركم، فبهت القائل، تذكرة ألي النهى 1/222، بنحو هذا الجواب، ورد قصيدة الملا عمران بن علي بن رضوان، في رده عمّن عيّر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، بأنه من دار مسيلمة، قال:
قد عيّروه بأنه قد كان في ... وادي حنيفة دار من لم يسعد
قلنا لهم ما ضرّ مصر فإنها ... كانت لفرعون الشقي الأطرد
إنّ النماردة الفراعنة ا,لى ... كانوا بأرض الله أهل ترددي
ذا قال أنا رب وذا متنبئ ... هم في بلاد الله أهل تردد
فبموتهم طابت وطار غبارها ... وزهت بتوحيد الإله المفرد
إنّ الأماكن لا تقدس أهلها ... إن لم يكونوا قائمين على الهدى
انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، 1/36
(2) سورة المائدة: الآية (104).(1/395)
(3) الدبران: نجم بين الثريا والجوزاء. لسان العرب، 4/271، مادة (دبر). البيت للإمام ابن القيم. الكافية الشافية، 2/382.(1/396)
ص -293- ... وقد صنّف بعض علماء المشركين في الرد عليه(1)، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات الله معاجزين، وقد بدّد الله شملهم "فتمزّقوا أيدي سبا"(2)، وذهبت أباطيلهم وأراجيفهم، حتى صارت هباءً، نعم بقيت لتلك الشبهة بقية أيدي قومٍ، ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشبه الشركية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم، والكتب السحرية، حتى أتي لهم هذا الرجل من أهل العراق(3)، فألقيت إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مثل داود بن جرجيس العراقي؛ حيث ألّف في الرد والتضليل لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاباً سماه: "صلح الإخوان أهل الإيمان، وبيان الدين القيم، في تبرئة ابن تيمية وابن القيم". وهو كتاب مطبوع يوجد نسخة منه في مكتبة الجامعة الإسلامية، المركزية، وقد تقدم ذكر الكتب التي ردت على هذا الكتاب في –ص ولا شك أن من اطلع على عنوانه، قد يظنه من الكتب المناصرة لأئمة الدعوة؛ والحقيقة أنه يبدو على ظاهره الرحمة، بينما في باطنه سم وضلالٌ، فيشمل الكتاب على مقدمة وبابين وخاتمة.
فالمقدمة: في التحذير مت تكفير المسلمين، وأنه يوقع في الكفر، وأنه من شأن الخوارج والرافضة، (وقصده في ذلك، النهي عن المشركين وعباد القبور ونحوهم).(1/397)
وجعل الباب الأول: في نقل عبارات ابن تيمية وابن القيم –رحمهما الله-ومن تابعهم، في تبرئتهم-كما يزعم- (من تكفير أو تشريك أحد من المسلمين أو تأثيمه) بفعل شيء من نداء أهل القبور، والاستغاثة بهم والنذر لهم أو لغيرهم، والحلف بغير الله تعالى، وما أشبه ذلك، ويسلك في النقل، مسلك تأويل عباراتهم وتحريفها، وجعل الباب الثاني: في نقل أدلة المجيزين لذلك –من غير ابن تيمية وابن القيم-من جمهور علماء المذاهب الأربع، على أن هذه الأمور ليست بشرك، وسرد الأدلة من الكتاب والسنة، وفعل السلف، مما زعمها مؤيدة لأباطيله، أما الخاتمة: فقد جعلها في مناقشة مع المانعين، وردِّ ما يسمّيه (شبه المانعين لعبادة القبور).
(2) تمزّقوا أيدي سبأ: هذا مثل عربي، يضرب لقوم يتمزقون، فيقال: ذهبوا أيدي سبأ، أي متفرقين، تشبيهاً بأهل سبأ، لما مزّقهم الله في الأرض كلَّ ممزق، فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة واليد هنا: الطريق، والعرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع، لأنه كثير في كلامه، فاستثقلوا فيه الهمزة، وإن كان أصله مهمزاً، مجمع الأمثال، للميداني 1/384.تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت370هـ)، تحقيق أحمد بن عبد العليم البردوني، الدار المصرية، القاهرة مصر، 13/105. لسان العرب 1/94. والجامع لأحكام القرآن، 14/186.
(3) هو داود بن جرجيس، تقدمت ترجمته ص58.(1/398)
ص -294- ... تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله وتسطير إلحاده وأساطيره، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات، بل زعم أن للأولياء تدبيراً وتصريفاًً مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله(1)، وشبّه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة، كقوله: إنّ دعاء الموتى ونحوه لا يسمى دعاءً، إنّما هو نداء(2)، وإنّ العبادات التي هي لأهل القبور لا تسمّى عبادة ولا شركاً، إلاّ إذا اعتقد التأثير بأربابها من دون الله(3).
وقوله: من قال لا إله إلا الله، واستقبل القبلة، فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملّة عُبَّد القبور الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة، وغيرهم، ويزعم أنّهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلّى الله عليه وسلّم (4) ويلحد في آيات الله، وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونصوص أهل العلم، ويعتمد الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى العلماء، يَعرِف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يروِّج باطله، إلاّ على قومه لا شعور له بشيءٍ من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور، وتقليد أهلها.
ومن شبهاته، قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن عبد الأصنام(5)، هذه نزلت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد جمع كل ذلك في "صلح الإخوان"، المتقدم ذكره في ص 61. وذكرنا هناك ردود العلماء على هذا الكتاب.
(2) صلح الإخوان، ص49، 119.
(3) المصدر السابق، ص21، 52.
(4) صلح الإخوان، ص 18، 43، 47، 54، 123.(1/399)
(5) كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44]، قال هذه الآية واردة في الأصنام من أحجار وأخشاب، يعتقد الكفار أنها أرباب، فهي رد على الكفار، لا على المسلمين الذين يتشفّعون بالأنبياء والصالحين. صلح الإخوان ص136.(1/400)
ص -295- ... في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان(1)، يريد –قاتله الله- تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم، ممن يعبد غير الله، ويعدل بريه، ويزعم أن قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}(2)، دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله(3)، ويظن إن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمجُّ سماعه، ويستوحش منه عوام المسلمين بمجرد الفطرة، فسبحان من أضله وأعماه: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}(4).
وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله مَلَئِها(5) وأكابرها من يعظِّمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشبه أمثالها، ولذلك أسباب؛ منها: البغضاء ومتابعة الهوى، وعد قبول ما منّ الله به من النور والهدى، حيث عرف من جهة العارض.
وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر المرجع السابق، ص 125، 141، 142، 148.
(2) سورة المائدة: الآية (35).
(3) صلح الإخوان، ص 45.(1/401)
وهذا بلا شك، مخالف لما فهمه السلف الصالح من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن بعدهم، إذ إنه شرك واضح لا ريب فيه، فابتغاء الوسيلة إلى الله تعلى –كما جاء في الآية9 إنّما يكون بالتوسل إليه سبحانه وتعالى بالإيمان بنبيه صلّى الله عليه وسلّم، ومتابعته ظاهراً وباطناً، في حياته وبعد موته في مشهده ومغيبه، فهذا هو سبيل الله ودينه، وقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم-يتوسلون إلى الله بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته في حياته، فمن دعا له وشفع له نفعه ذلك، أما بعد موته فلم يكونوا يطلبون منه الدعاء ولا الشفاعة، ولم يكونوا يدعونه كما فعل المشركون بالصالحين، وبقبور الأنبياء –عليهم السلام-. انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، تحقيق عبد القدر الأرنؤوط، مكتبة دار البيان، دمشق/ ط/1، 1405هـ-1985م، م5-6.
(4) سورة يونس: الآية (33).
(5) كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: (ملاءها).(1/402)
ص -296- ... تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}(1).
وقد أجمع العلماء أن النعمة المقصودة هنا، هي بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالهدى ودين الحق(2)، اللذين أصلهما وأساسهما عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الآلهة والأنداد، والكفر بهذه النعمة هو ردها وجحدها، واختيار دعاء الصالحين، والتعلق على الأولياء والمقربين، فرحم الله امرءاً تفكَّر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم انه ملاقٍ ربّه الذي عنده الجنة والنار.
ثم فيما أجرى الله عليكم من العبر والعظات، ما ينبه من كان له قلب، أو فيه أدنى حياة، قال الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}(3). وجماعتكم أعيا المسلمين داؤهم، وعزَّ عما هم عليه انتقالهم، وما أحسن ما قال أخو بني قريظة(4) لقومه: "أفي كل موطن لا تعقلون"(5)، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}(6).
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة إبراهيم: الآية (28-30).
(2) قال الطبري –رحمه الله-: "وكان تبديلهم نعمة الله كفراً في نبي الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، أنعم الله به على قريش، فأخرجه منهم، وابتعثه فيهم رسولاً، رحمة لهم، ونعمة منه عليهم، فكفروا به، وكّبوه، فبدّلوا نعمة الله عليهم به كفراً". جامع البيان للطبري، 13/219. وانظر الجامع لأحكام القرآن، 9/239؛ وتفسير ابن كثير 2/557. وتفسير القاسمي 10/3729.
(3) سورة إبراهيم: الآية (5).
(4) في (أ) و(ج) و(د): (قريظة).(1/403)
(5) هو قول لكعب بن أسد، رئيس بني قريظة وكان قومه قد قالوا له –وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسالاً، بعد حكم سعد رضي الله عنه فيهم بالقتل-: يا كعب، ما تراه يصنع بنا؟ قال أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل!. سيرة ابن هشام، 3/252؛ والبداية والنهاية 4/126.
(6) سورة الأحزاب: الآية (4).(1/404)
ص -297- ... (الرِّسَالَةُ الثَانِيَةُ عَشَرَةَ) (1)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً –قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، /وعفا عنه/(2)- رسالة تكلم فيها على سبيل الإيجاز والاختصار، جواباً لمسائل سأله عنها علي بن حمد/(3) بن /سلمان/(4)، لما تقدم إلى /بلدة/(5) فارس وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن علي بن حمد بن سلمان –سلّمه الله تعالى، وزيّنه بزينة الإيمان- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل وما ذكرت صار معلوماً(6)، فأما رغبتك عن البلدة التي فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرجع قول العلماء في الجهمية والرد عليهم، فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنت فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين، نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين.
وأما وصولك إلى بلدة فارس، فالذي(7) رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد –رحمة الله عليه- فهم كما ذكرت في خطك، لكن فيهم جهال لا يعرفون ما كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في (ب): وردت هذه الرسالة في ص157-167.
(2) ساقط في المطبوع.
(3) زيادة في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
(4) في المطبوع: (سليمان) وهو خطأ، إذ أنه في بداية النص، أثبت سلمان كغيره,
(5) في (ب) و(د): (بلاد). قال ناسخ (ب) بالهامش: "وهذه البلدة في الإحساء" وهو خطأ، إذ فارس معروف، وهو إيران حالياً.
(6) في (د): (صار معلوم).
(7) في (أ) و(ب): (فالذي) وهو خطأ.(1/405)
ص -298- ... الشيخ عليه وأمثاله من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة(1) والخوارج(2)، ولا معرفة لهم بالعقائد والنحل واختلاف الناس، والزمام زمان فترة، يشبه زمن الجاهلية، وإن كانت لكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام من عالم ربّاني، كما قيل:
الجهل داء قاتل ودواؤه ... أمران في التركيب متفقان
نص من الرآن أومن سنة ... وطبيب ذالك العالم الربّاني(3)
والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب(4)، وقد صار منهم ما صار(5)،وأساب الجهل والهلاك قد توافرت جداً، وقد قال بعض الأفاضل منذ أزمان: "ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ ولكن العجب ممن نجا كيف نجا؟"(6). وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس، وذكرت عنهم تلك العقائد الخبيثة، ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية، والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سن، وإنما هو تقليد لم يحسنون به الظن، من غير فهم ولا بصيرة.
قال الحسن البصري –في أمثالهم من المعتزلة من العجم-: إنّ عجمتهم قصرت بهم عن إدراك المعاني الشرعية، والحقائق الإيمانية(7).
وكذلك لما ناظر أبو عمرو بن العلاء، عمرَو بن عبيد(8)، من رؤوس المعتزلة، وجده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم التعريف بهم في ص225.
(2) تقدم التعريف بهم ص169.
(3) البيتان للإمام ابن القيم في نونيته. الكافية الشافية 2/383.
(4) وهي: توراة موسى لليهود، وزبور داود، وإنجيل عيسى للنصارى.
(5) يشير الشيخ إلى ما صار من اليهود والنصارى حيال تلك الكتب، من تحريف وتغيير وحذف، حسب ما يتناسب مع رغباتهم وأهوائهم.
(6) لم اعرف قائله.
(7) تقدّم نحو قوله هذا فيهم في ص181.
(8) تقدمت ترجمته في ص181.(1/406)
ص -299- ... لا يفرق بين الوعد والوعيد، فقال له: من العجمة أوتيت.
وأما عبد الرحمن البهمن(1)،فهو على ما نقلت عنه، في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريقة غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نحلة الخوارج نصيب، وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم في الجهمية والمعتزلة والخوارج(2). فأما جهم بن صفوان(3) فطريقته في التعطيل، ونفي العلو والاستواء، والكلام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لم أعثر على ترجمته.
(2) تقدم كلام العلماء في الخوارج ص167، وفي المعتزلة ص 225-226..
أما الجهمية: فهي فرقة تنتسب إلى جهم بن صفوان، تقول: الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة باللسان، ولا إقرار بالنبوة، والكفر عندهم هو: الجهل بالله فقط، وأن الجنة والنار تفنيان، وأنه لا يجوز وصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلق، وأنه تعالى لا يعلم بشيء قبل خلقه، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، والإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة، ونسبة الفعل إليه على المجاز، وأن القرآن مخلوق، فذلك هو مجمل معتقدهم، وقد نص على تكفيرهم كثير من أئمة السلف:
1-فأخرج اللآلكائي وغيره في "شرح أصول الاعتقاد" 2/321، عن سلام بن أبي مطيع قوله: "الجهمية كفار، لا يصلى خلفهم".
2-وقال الإمام أحمد: من قال القرآن مخلوق، فهو عندنا كافر". أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 1/107.(1/407)
3-وقال بتكفيرهم أيضاً: عبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وغيرهم، حتى أن الإمام الدارمي أورد في كتابه "الرد على الجهمية" باباً خاصاً بتكفيرهم، ترجم له بقوله: باب (الاحتجاج في إكفار الجهمية)، ص9، 93 وما بعدها، مجموع الفتاوى، لسيخ الإسلام ابن تيمية 12/485. شرح القصيدة النونية، 1/115. والإبانة عن شريعة الفرقة، ومجانبة الفرق المذمومة، لعبد الله بن محمد بن بطة (ت387هـ)، تحقيق رضا بن نعسان معطى، دار الراية، الرياض، "/1، 1409هـ-1988م، 1/379-380. كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد (ت290هـ)، تحقيق محمد ابن سعيد بن سالم القحطاني، دار ابن القيم، ط/1، 1406هـ-1986م، 1/105-106. مقالات الإسلاميين، 1/338. الفرق بين الفرق، ص211. الحجة في بيان المحجة، 2/479. الملل والنحل، 1/86.
(3) هو جهم بن صفوان، أبو محرز الراسبي، الضال المبتدع، رأس الجهمية، كان ينكر الصفات، ويزعم أنه ينزه الباري عنها، قتله سلم بن أحوز المازني، بمرو سنة 128هـ.
انظر ميزان الاعتدال 1/426؛ وسير الأعلام 6/26.(1/408)
ص -300- ... وسائر الصفات، وقد أخذها عن الجعد بن درهم1،والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم2 اليهودي، الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم3 وكانوا يخفون مقالتهم، ومن أظهر شيئاً من ذلك قتل، كما صنع خالد بن عبد الله القسري4 أمير واسط، بالجعد بن درهم، فإنه ضحى به يوم العيد، وقال على المنبر: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم -فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم الله تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه5.
والجهم قتل أيضاً لما ظهرت مقالته6، ثم في زمن الخليفة المأمون العباسي7،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1هو الجعد بن درهم، مؤدب مروان الحمار، مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وقتل على ذلك بالعراق، يوم النحر عام (118هـ)، وقيل غير ذلك.
انظر ترجمته وقصته: البداية والنهاية، 9/364؛ وسير الأعلام، 5/364؛ وميزان الاعتدال، 1/399.
2 لبيد بن الأعصم اليهودي، من يهود بني زريق، وهو الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم انظر: البداية والنهاية، 9/364.
3 انظر: قصته في البداية النهاية، 9/ 364.
4 هو خالد بن عبد الله بن يزيد أبو الهيثم القسري، أمير العراقيين، لهشام، وجده يزيد له صحبة، كان جواداً ممدوحاً معظماً، قتل المغيرة بن سعيد وأصحابه، كان يريهم أنه يحيي الموتى، وكان ساحراً. كما قتل الجعد بن درهم. وهذه من حسناته. (ت126هـ).
انظر: سير الأعلام، 5/425؛ وتهذيب التهذيب، 3/101.
5 كان ذلك نحو سنة (118هـ).
انظر: البداية والنهاية، 9/ 364- 365؛ وسير الأعلام، 5/432؛ والأعلام، 2/120.
6 قتله سلم بن أحوز المازني سنة (128هـ)؛ لإنكاره أن الله كلم موسى.
انظر: سير الأعلام، 6/27.(1/409)
7 هو المأمون بن عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي العباسي، ولد سنة (170هـ)، دعا إلى القول بخلق القرآن، وبالغ، وحمل الناس على هذا الرأي الباطل، بالقوة والإكراه، وامتحن عليه علماء الأمصار، بينهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- (ت218هـ).
انظر: تاريخ بغداد، 10/183؛ وسير الأعلام، 10/272.(1/410)
ص -301- ... ظهرت في الناس تلك المقالات بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثر الخوض، فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية، وبدعوهم وفسقوهم وكفروهم.1
قال ابن المبارك2 الإمام الجليل من أكابر أهل السنة: "من لم يعرف أن الله فوق عرشه، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر أهل الذمة؛ لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى" 3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان من بين العلماء الذين تصدوا لمحاربة تلك المقالات: الإمام أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد بن معين، وأبو حسان الزيادي، والقواريري، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن إسرائيل، وعلي بن أبي مقاتل، وقتيبة بن سعيد، ومحمد بن سعد، وأبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وابن نوح، وغيرهم انظر: سير الأعلام، 10/288.
2 هو عبد الله بن المبارك بن واضح، الإمام، شيخ الإسلام، علام زمانه، أبو عبد الرحمن الحنظلي، الحافظ أحد الأعلام، ولد (118هـ)، وتوفي (181هـ). انظر: تاريخ بغداد، 10/ 152؛ وسير الأعلام، 8/378- 421؛ وتهذيب التهذيب، 5/ 382.
3 لم أجد كلام ابن المبارك هذا، بل قد روي ما هو قريب منه عن أبي بكر محمد بن إٍسحاق بن خزيمة -رحمه الله- أنه قال: "من لم يقر بأن الله على عرشه، قد استوى فوق سبع سماواته، فهو كافر به، يستتاب، فإن تاب وإلا ضرب عنقه، وألقي على بعض المزابل؛ حيث لا يتأذى المسلمون، ولا المعاهدون بنتن ريح جيفته؛ وكان ماله فيئاً، ولا يرثه أحد من المسلمين؛ إذا المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
انظر: إثبات صفة العلو، لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت620هـ)، تحقيق د. أحمد بن عطية الغامدي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة ط/1، 1409هـ - 1988م، ص185.(1/411)
أما ما نقل عن عبد الله بن المبارك، فهو أن الحسن بن شقيق سأله: كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا؟ قال: "على السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه ههنا في الأرض".
وقال الحسن أيضاً: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: "إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية".
ونقل البخاري في "خلق أفعال العباد" قول ابن المبارك: "كل قوم يعرفون ما يعبدون إلا الجهمية".
انظر سير الأعلام، 18/401- 403؛ إثبات صفة العلو، ص 171؛ وخلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل، للإمام البخاري (ت256هـ)، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط/1، 1389هـ، ص12.(1/412)
ص -302- ... وقال الفضيل بن عياض1 ويوسف بن أسباط2: الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت إليها هذه الأمة3. يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة.
وقد صنفت التصانيف، وجمعت النصوص والآثار في الرد عليهم4 وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يثبتون رباً يعبد، ولا إلهاً يصلى له ويسجد، إنما هو تعطيل محض، وكذلك كفرهم5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فضيل بن عياض بن مسعود بن بشر، الإمام القدوة، الثبت، شيخ الإسلام، أبو علي التميمي الخراساني، ثقة، سكن مكة (ت187هـ).
انظر: تذكرة الحفاظ، 1/245؛ وسير الأعلام 8/421؛ وحلية الأولياء، 8/84.
2 يوسف بن أسباط الزاهد، من سادات المشايخ، له مواعظ وحكم، روى عن الثوري، وزائدة بن قدامة، وغيرهما، قال أبو حاتم: لا يحتج به.
أنظر: حلية الأولياء، 8/237؛ وميزان الاعتدال 4/462؛ وسير الأعلام، 9/169.
3 ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"، 3/350. وجاء كلام يوسف بن أسباط في "السنة"، للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك (287)، المكتب الإسلامي، ط/1، 1400هـ - 1980، ج 2/463، رقم (953)؛ والشريعة للآجري، ص15.
4 ومما صنف في الرد على الجهمية:
1. الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، لعبد الله بن قتيبة الدينوري (ت276هـ).
2. الرد على الجهمية، للإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي، (ت280هـ).
3. الرد على الجهمية، للحافظ ابن منده (ت395هـ).
4. كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن القيم (751هـ).
5. اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم.
6. الرد على الجهمية والزنادقة، كتاب ينسب للإمام أحمد، وقد بين محققه صحة نسبته إليه، بالأدلة، يرجع إليها في ص72- 78. تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، طبعة دار اللواء، الرياض، 1397هـ.
5 أي كذلك كفرهم كفر محض أيضاً.(1/413)
ص -303- ... قال ابن القيم في الكافية الشافية:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان1
يعني أن خمسمائة عالم أئمة مشاهير، جزموا بكفرهم، ونصوا عليه. وحججهم وشبهاتهم واهية داحضة، ولا تروج على من شم رائحة الإسلام.
قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يدلون بها، قد اشتبه عليهم معناها، ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية، فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. انتهى2. والقرآن والسنة كلها رد عليهم.
قال بعض أصحاب الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش3. وذكر ابن القيم -رحمه الله- طرفاً صالحاً في نونيته من ذلك4.
وأما نصوص السنة وكلام أهل العلم، فلا يحصيها ويحيط بها إلا الله. ويكفي المؤمن أن يعلم أن كل من عرف الله بصفات جلاله، ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله، يعلم ويتيقن أنه هو العلي الأعلى، الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض5. ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكافية الشافية، لابن القيم، 1/290.
2 المصدر السابق، نفس الصفحة. وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى"، 5/122، وفي كتاب "النبوات"، ص130.
3 ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "المجموع"، 5/121. ونصه: "... حتى قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل وأزيد تدل على أن الله عال على خلقه وأنه فوق عباده".
4 انظر: الكافية الشافية، 1/397، 399، 402، 405، 408، 412، 415، 417، 420، 422، 424، 425، 429، 432، 439، 483، 486، 492، 500، 510، 514. تحدث الإمام في تلك المواضع وغيرها عن الأدلة على علو الله تعالى على خلقه.(1/414)
5 هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي توافرت النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على إثباتها؛ من ذلك: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].(1/415)
ص -304- ... يشك في ذلك إلا من اجتاله1 الشيطان عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها2.والكلام يستدعي بسطاً طويلاً، فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة؛ فإنهم قد سودوها بالشبهات والجهالات، التي تلقوها عن أسلافهم وشيعهم.
وأما دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فإن أراد الحياة الدنيوية، فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه3. قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 4...............................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير}[الأنعام:18].
وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. وغير ذلك من الآيات الكريمات، وكلها تثبت علوه تعالى، واستوائه على عرشه.
1 أي استخفه، يقال: جال واجتال، إذا ذهب وجاء، واجتال الشيء إذا ذهب به وساقه. لسان العرب، 11/131، مادة (جول).
2 كما هو الحال لدى الجهمية، الذين يقولون: إنه تعالى ها هنا في الأرض. [إثبات صفة العلو ص171]. وقول بعض الغلاة: "الله لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا أمام ولا خلف، لا داخل العالم ولا خارجه". وبعض فلاسفتهم يزيد: "لا متصلاً بالعالم، ولا منفصلاً عنه" !! وحقيقة هذا النفي: أن الله غير موجود. وهو تعطيل مطلق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. مختصر العلو للعلي الغفار، للحافظ الذهبي، اختصره محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط/1، 1401هـ - 1981م، ص54.
3 وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله- حين قال في رده على مدعي ذلك:
لو كان حياً في الضريح حياته ... قبل الممات بغير ما فرقانِ
ما كان تحت الأرض بل من فوقها ... والله هذه سنة الرحمن(1/416)
أتراه تحت الأرض حياً ثم لا ... يفتيهم بشرائع الإيمان
ويريح أمته من الآراء والـ ... ـخلف العظيم وسائر البهتان
أم كان حياً عاجزاً عن نطقه ... وعن الجواب لسائل لهفان
وعن الحراك فما الحياة اللات قد ... أثبتموها أوضحوا ببيان؟
الكافية الشافية، 2/154- 155.
4 سورة الزمر: الآية (30).(1/417)
ص -305- ... وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية1. وقد قام أبو بكر في الناس يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أما بعد: فمن كان يعبد /محمداً/2 فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"3، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}4.
أما إن أراد الحياة البرزخية، كحياة الشهداء5، فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها، الحظ الوافر، والنصيب الأكمل، لكنها لا تنفي الموت، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد.
وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى، الذي خلقه وقدره. والواجب علينا الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم، والحياة الأخروية بعد البعث والنشور، أكمل مما قبلها وأتم، للسعداء والأشقياء.
وأما دعواه أن العبادة6 هي السجود فقط، فهذا الجهل ليس بغريب عن مثل هذا الملحد. والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قد فصلت أنواع العبادة تفصيلاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء: الآية (34).
2 في (د): (محمدٌ).
3 سيرة ابن هشام، 4/306؛ والبداية والنهاية، 5/212.
4 سورة آل عمران: الآية (144).
5 وهي الحياة التي أفادها قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]. قال ابن كثير -رحمه الله- (يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون). تفسير ابن كثير، 1/203.(1/418)
6عرف العلماء العبادة في الاصطلاح الشرعي، بتعريفات عدة، ويدور لفظ "العبادة" فيها حول معنى الذل التام والخشوع والخضوع الكامل لله تعالى، والالتزام بما شرعه، والانتهاء عما نهى عنه تعالى، والتمسك بكل ما يرضى الله تعالى، قولاً وعملاً وتركاً.
وقد جاء تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مقدمة تلك التعريفات، فهو أجمعها وأشملها، وهو قوله -رحمه الله-: "العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"، ثم استرسل الشيخ في بيان بعض أنواع العبادة بقوله: "فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة. وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة".
مجموع الفتاوى، 10/149- 150. وانظر: تعريفات العلماء الأخر للعبادة في: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 1/101. تفسير ابن كثير، 1/27. تفسير البغوي "معالم التنزيل"، لحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ)، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيوت، لبنان، ط/2، 1407هـ، 1/41. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لمحمد بن عمر الزمخشري (538هـ)، الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1385هـ، 1/62. مجموعة التوحيد النجدية، لابن تيمية (728هـ)، ومحمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ)، مطبعة الحكومة، مكة المكرمة، 1391هـ، ص213.(1/419)
ص -306- ... وقسمتها تقسيماًَ، ونوعتها تنويعاً1، قال تعالى: {الم (البقرة:1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}. إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تنقسم العبادات إلى أنواع؛ هي:
الأول: العبادات الاعتقادية: وهي "العبادات القلبية" المشتملة على الاعتقاد بانفراد الله تعالى بالربوبية، والألوهية، والأسماء، والصفات، وكل ما ينطوي عليه القلب من الإيمان، وكذلك الخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، والخضوع لله تعالى، وغير ذلك.
الثاني: العبادات اللفظية: وتعرف بالقولية، وهي كل ما يختص باللسان، تعبيراً عما في القلب من الاعتقاد؛ وذلك كالنطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك
الثالث: العبادات العملية: وتعرف بالبدنية، وهي أعمال الجوارح؛ كالصلاة وما يتعلق بها من أعمال، والصيام، والذبح، والجهاد، ونحو ذلك.
الرابع: العبادات المالية: وهي ما تختص بالأموال؛ كالزكاة، والصدقات، وجميع الإنفاق في الحج، والجهاد، وعلى الأيتام، والأرامل، ونحو ذلك. انظر هذه الأنواع: مدارج السالكين،1/113، 114، 124، 128، 129. ومجموعة التوحيد النجدية، ص123. الجامع الفريد لكتب رسائل أئمة الدعوة، ص498. كيف السبيل إلى الله، لخير الدين الطلفاح، مطبعة العبابجي، بغداد، 4/45، 47، 48، 51.(1/420)
ص -307- ... المُفْلِحُونَ}1، وهل المهتدون والمفلحون إلا خواص عباد الله؛ وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}2، فخصهم بالصدق والتقوى، وحصرها فيهم؛ لأن ما ذكر، رأس العبادة، والإيمان متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر. وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله {وَآتُوا الزَّكَاةَ}3. فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد تنبيهاً على الاهتمام، وأنها من أصول الدين؛ ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تختص بنوع دون ما ذكر في قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}4. ومعلوم أن إقامة الصلاة داخل فيما قبله؛ لأنه آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين، وكذلك قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}5، والاستعانة عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها، اهتماماً بالوسيلة، وتنبيهاً على التوكل6. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}7.
والعدل تدخل فيه الواجبات كلها، والإحسان تدخل فيه نوافل الطاعات وإيتاء ذي القربى /يدخل/8 فيه حق الأرحام، ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر يدخل /فيه/9، ما نهى الله عنه من ظاهر الإثم وباطنه، وتركه من أجل العبادات، والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات، فهذا كله داخل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة: الآية (1-5).(1/421)
2 سورة البقرة: الآية (177). وقوله (وَالْكِتَابِ) ساقط في (د).
3 سورة البقرة: الآية (83).
4 سورة الأعراف: الآية (170).
5 سورة الفاتحة: الآية (5).
6 انظر: الكشاف، للزمخشري، 1/65.
7 سورة النحل: الآية (90).
8 ساقط في (د).
9 كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ (فيها).(1/422)
ص -308- ... في العبادة بالإجماع. و /قد/1 قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}2.
فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، وعطف /بقية/3 العبادات4 المذكورة؛ اهتماماً بها وتنويهاً بشأنها. ولا قائل إن ما ذكر ليس بعبادة، بل أهل اللغة، وأهل الشرع، من المفسرين، وغيرهم، مجمعون على أن ما أمر به في هذه الآيات، من أفضل ما يتقرب /العبد/5 به من القرب والعبادات.
وما علمت أحداً من أهل العلم واللغة يتنازع في ذلك، ولكن القوم كما تقدم6 عجم أو مولدون. قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}7، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند الإطلاق، تنبيهاً على ما تقدم من الاهتمام، /والحض/8 على ما ذكر في حديث جبريل، المشهور في الكتب الستة وغيرها، "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، وهو جالس في أصحابه فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت. قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (ب)، و(ج) والمطبوع.
2 سورة الإسراء: الآية(23، 39).
3 في (أ): (باقي).
4 في جميع النسخ: (العبادة).
5 ساقط في (ب)، و(ج)، و(د). وبدونه تصح العبارة أيضاً على بناء ما قبله على المجهول.
6 تقدم ذلك في ص181.
7 سورة البينة: الآية (5).
8 في جميع النسخ: (والحظ).(1/423)
ص -309- ... الموت، وبالقدر، خيره وشره، قال: صدقت، قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"1، فجعل ذلك كله هو الدين، بمعنى العبادة، بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}2، فجعل عبادة الله هي دين القيمة3. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه/4 قال: "الإيمان بضع وستون، أو بضع وسبعون، شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلى الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"5، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من شر6 الدواب، وأجهل الحيوان.
وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: "الدعاء هو العبادة"7،............................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح البخاري مع الفتح، 1/140، الإيمان، باب (سؤال جبريل عن الإيمان). صحيح مسلم بشرح النووي، 1/268- 274، الإيمان، باب (بيان الإيمان والإسلام والإحسان). سنن أبي داود، 5/72، السنة، باب (في القدر). سنن الترمذي، 5/8، الإيمان، باب (ما جاء في وصف جبريل). سنن النسائي، 8/97- 101، الإيمان، باب (نعت الإسلام). سنن ابن ماجه، 1/14، المقدمة، باب (الإيمان). مسند الإمام أحمد، 1/ 27.
2 سورة البينة: الآية(5).
3 انظر: جامع البيان للطبري، 30/264. وبهذه الآية استدل كثير من الأئمة؛ كالزهري، والشافعي على أن الأعمال داخلة في الإيمان. تفسير ابن كثير 4/574.
4 زيادة في (ب)، والمطبوع.
5 تقدم تخريجه ص186.(1/424)
6 في جميع النسخ: (أشر). ولا يقال ذلك عند إرادة التفضيل من (شر) بل يحذف الهمزة انظر: كتاب "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل"، لمحمد محي الدين عبد الحميد، -بحاشية- شرح ابن عقيل (ت 769هـ) على ألفية ابن مالك (ت 672هـ) ط/14، 1385هـ - 1965م، 2/174.
7 سنن أبي داود، 2/161، الصلاة، باب الدعاء، سنن الترمذي، 5/426، الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". سنن ابن ماجه، 2/341، الدعاء، باب (ما جاء في فضل الدعاء)، مسند الإمام أحمد، 4/267، 271.(1/425)
ص -310- ... وفي حديث أنس: "الدعاء مخ العبادة"1. وكقوله: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين"2.
وكل ما ورد من فضائل أعمال وأنواع الذكر، دخل في مسمى العبادة. وقد جمع ابن السني3 والنسائي4، في "عمل اليوم والليلة"، من ذلك طرفاً، يبين أن العبادة في أصل اللغة، بمعنى الذل والخضوع5. كما قال بعضهم6:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن الترمذي، 5/425-426، الدعوات، باب (ما جاء في فضل الدعاء)، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة وذكره ابن حجر في الفتح، 11/97، وضعفه الألباني في "ضعيف سنن الترمذي"، للألباني، المكتبة الإسلامية، بيروت، ط/1، 1411هـ- 1991م، ص441.
2 المستدرك للحاكم، 1/492، وقال: صحيح، فإن محمد بن حسن هذا، هو التل، وهو صدوق في الكوفيين ووافقه الذهبي، وأخرجه الهيثمي في "المجمع"، 10/147، وقال: راوه أبو يعلى، وفيه محمد بن حسن بن أبي يزيد، وهو متروك. وذكره الهندي في "الكنز" (3117). وضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة"، للألباني، المكتبة الإسلامية، بيروت، 1/81. قال الألباني: موضوع، وخطأ الحاكم في تصحيحه، وعلل الحديث بالانقطاع، كما ذكره الذهبي في "الميزان"، وأن محمد بن الحسن هذا ليس هو التل إنما هو: أبو يزيد الهمداني.
انظر: السلسة الضعيفة، 1/81- 82.
3 هو أحمد بن محمد بن إسحاق، الإمام الحافظ الثقة، أبو بكر الدينوري، المشهور بابن السني. صنف كتاب "عمل يوم وليلة" وهو مطبوع، واختصر سنن النسائي، وسماه "المجتبى". (ت364هـ). انظر: طبقات الشافعي الكبرى، للسبكي، 3/39. تذكرة الحافظ 3/939. سير الأعلام، 16/255.
4 هو أحمد بن شعيب بن علي النسائي، صاحب "السنن" وكتاب "عمل اليوم والليلة" وهو مطبوع. (ت 303هـ).(1/426)
5 انظر هذا المعنى اللغوي للعبادة في: الصحيح للجوهري، 1399هـ، 2/503؛ وتهذيب اللغة للأزهري، 2/234؛ ولسان العرب، 3/272، وترتيب القاموس المحيط، لأحمد الزاوي، 3/135، مادة (عبد).
6 هو طرفة بن العبد بن سفيان البكري، أبو عمرو، شاعر جاهلي، ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد وكان نديماً لعمرو بن هند. (ت 60) قبل الهجرة.
انظر معجم المؤلفين، 5/40؛ والأعلام للزركلي، 3/324.(1/427)
ص -311- ... تباري عتاقاً ناجيات1 وأتبعت ... وظيفاً وظيفاً2 فوق مور3 معبد4.
أي طريق مذلل، قد ذللته الأقدام5. والدين مأخوذ من معنى الذل والخضوع، يقال: أدنته فدان، أي ذللته فذل6.
وفي الاصطلاح الشرعي: يدخل فيه كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الظاهرة والباطنة7، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية.
وكذلك عرفها الفقهاء بأنها: ما أمر به شرعاً من غير اضطراد عرفي ولا إقتضاء عقلي8، إذا عرفت هذا، فالتقوى والعبادة والدين، إذا أفردت ولم تقترن بغيرها، دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها فسر كل واحد بما يخصه؛ كالإيمان، والعمل الصالح9، .................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تباري: تعارض. الناجيات: السريعات. انظر: لسان العرب، 5/186.
2 في جميع النسخ: وضيفاً وضيفاً، بالضاد، وهو في المعلقة بالظاء، كما أثبته. والوظيف: عظم الساق. لسان العرب، 5/186.
3 المور: الطريق. المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة.
4 ديوان طرفة بن العبد، دارصادر، بيوت، لبنان، ص22. وذكره ابن منظور في اللسان 5/186.
5 الصحاح للجوهري، 2/503؛ ولسان العرب، 3/273؛ وترتيب القاموس المحيط، 3/137.
6 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ابن تيمية، 10/152.
7 هذا تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية، للعبادة، وقد تقدم في ص306، وانظر: المرجع السابق، 10/149؛ والعبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728)، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهر، ط/2، 1396هـ - 1976م.
8 ورد هذا التعريف في: الهداية السنية؛ والتحفة الوهابية النجدية، ص6؛ ومجموعة التوحيد النجدي، ص212؛ والانتصار لحزب الله الموحدين، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين (ت 1282هـ)، مكتبة الصحابة الإسلامية، السالمية، الكويت ط/3، ص9؛ ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 5/501.(1/428)
9 وهو كما في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3].
وقرن بين الأعمال والتقوى والعمل الصالح، في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة:93].(1/429)
ص -312- ... والإسلام1، والإيمان، وصدق الحديث2، وكالإيمان، والصبر3، وكالعبادة /والإستعانة4/5، وكالتقوى، وابتغاء الوسيلة6؛ فيفسر كل بما يناسبه ويخصه، كما في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ}7 فسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران.
وإذا أطلق اسم العبادة كما في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}8، واسم الأبرار واسم الإيمان واسم الإسلام في مقام المدح والثناء دخل فيه الدين كله9. فمن عرف هذا، تبين له اصطلاح القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة، من أجهل الناس بحدود ما أنزل الله على رسوله.
والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين10، والقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقرن الإيمان بالإسلام في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
2 وقرن الإيمان وصدق الحديث في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
3 وقرن الإيمان والصبر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
4 في (أ)، و(ج)، و(د): (وكالاستعانة).(1/430)
5 وقرن بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
6 وقرن بين التقوى وابتغاء الوسيلة، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35].
7 سورة الأحزاب: الآية (35).
8 سورة الفرقان: الآية (63).
9 تقدم ذلك في ص171.
10 لم يزل الشيخ يرد على من حصر العبادة في السجود.(1/431)
ص -313- ... والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة، والتسليم عبادة.1
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الجامع الفريد، ص498.
أما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود؛ فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال. فالحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه1. تفضيل القبوريين للقبور على الكعبة. قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}2.
ولم يرد في قبور الأولياء ما يدل على مثل ذلك، فضلاً عن أن تكون أفضل منه، والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، /والركن/3 الذي فيه الحجر الأسود، أفضل أركان البيت، والطواف به /من أفضل العبادات/4 وأوجبها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصل هذا الكلام، حديث يرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث ضعيف مروي عن محمد بن المكندر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض، يصافح به عباده". ذكره الهندي في "الكنز" (34744)؛ والخطيب البغدادي 6/328؛ وابن الجوزي في"العلل المتناهية"، 2/85، وقال: "هذا حديث لا يصح، وإسحاق بن بشر قد كذبه ابن أبي شيبة".(1/432)
وورد في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس"، لإسماعيل بن محمد العجلوني (ت 1162هـ)، مكتبة التراث الإسلامي، دار التراث، القاهرة 1/417. وفي "سلسلة الأحاديث الضعيفة"، 1/27 (223)، قال الألباني: "ضعيف". وذكره شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى"، 6/397، ورده مرفوعاً، وارتضاه موقوفاً على ابن عباس فقال: "فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم" بإسناد لا يثبت، وإنما هو عن ابن عباس". وقال في "التدمرية"، ص70: "مع أن هذا الحديث إنما يعرف عن ابن عباس"، وإلى هذا الموقوف أشار الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله-. انظر تفاصيل الكلام حول هذا الحديث: التدمرية: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد بن عودة السعوي، ط/1، 1405هـ -1985م، ص70.
2 سورة آل عمران: الآية (96، 97).
3 في (د): (والأركان).
4 في (د): (أفضل من العبادات).(1/433)
ص -314- ... والطواف بالقبور واستلامها من أوضاع المشركين والجاهلية، وفيها مضاهاة لما يفعله اليهود والنصارى عند قبور أحبارهم ورهبانهم.
وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع، بل ولا يشرع الدعاء عنده، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب.
وبالجملة، فهذا القول شنيع لا مستند له ولا دليل عليه. وتقبيل الحجر الأسود مشروع1، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود واستلمه بمحجن كان في يده2.
وأما قوله: إنكم تعتقدون العلو، فنعم، نعتقده ونشهد الله عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته، يعتقد أنه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، على الملك احتوى3.
هذا نص القرآن، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}4 وأول من أنكر العلو فرعون، إذ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً}5. كذب موسى فيما جاء به من أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده، مستو على عرشه. وأما الآية التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يدر المراد منها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ورد ذلك في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قبل الحجر ثم قال: "أما والله لقد علمت أنك حجر -لا تضر ولا تنفع- ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". صحيح مسلم بشرح النووي، 9/20.
2 روى ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بالمحجن". صحيح مسلم بشرح النووي، 9/22؛ صحيح البخاري مع الفتح، 3/552.
3 تقدمت هذه المسألة.(1/434)
4 سورة هود: الآية (17).
5 سورة غافر: الآيتان (36، 37).(1/435)
ص -315- ... وأهل التفسير متفقون على أن المراد بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}1 أنه معبود في السماء ومعبود في الأرض2 لأنه الإله المعبود3، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}4، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}5.
والحلولية من غلاة الجهمية، يرون أنه حال بذاته في كل مكان6، لم ينزهوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأما حديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"7، فهو حديث صحيح جليل، مثل قوله تعالى:8 {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}9 فالقرب في هذا ونحوه أضيف إلى العبد. والقلب إذا أناب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف: الآية (84).
2 انظر: جامع البيان، للطبري، 25/104؛ والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 16/81؛ وتفسير ابن كثير، 4/147؛ وتفسير القاسمي؛ 14/5289.
3 وأصل "الإله" من أله يأله إلهةً، أي عبد يعبد عبادة. تقول: أله الرجل: إذا تعبد؛ وتأله: إذا تنسك. انظر: الجامع لأحكام القرآن، 1/73.
4 سورة الأنعام: الآية (3).
5 سورة مريم: الآية (93).
6 الفرق بين الفرق، ص226.
7 صحيح مسلم، بشرح النووي، 4/446، الصلاة، باب (ما يقال في الركوع والسجود)؛ سنن أبي داود، 1/545، الصلاة، باب (في الدعاء في الركوع والسجود). سنن النسائي، 2/226، الافتتاح، باب (أقرب ما يكون العبد من الله)؛ مسند الإمام أحمد، 2/241؛ شرح السنة للبغوي، 3/151-152. قال البغوي بعد ذكره للحديث: هذا حديث صحيح. وقال النووي في معنى الحديث: أقرب ما يكون من رحمة ربه وفضله. شرح صحيح مسلم، 4/445-446.
8 زيادة مني.
9 سورة الإسراء: الآية (57).(1/436)
ص -316- ... إلى الله، وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه ورتبته من الإيمان. فترتفع عنه حجب الشهوات والشبهات، وينقشع عنه ليلها وظلامها1؛ وهذا المعنى حق لا شك فيه.
ويضاف القرب إلى الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}2 فهذا قرب خاص للسائلين والداعين، وقد يقرب من عباده، ومن القلوب الطيبة كيف ما شاء لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهمي من أن ذاته تحل في المخلوقات3، فهو -سبحانه- ليس كمثله شيء في صفاته وكمال عظمته وقدرته4، وينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر5، وهو مستو على عرشه6، عال فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو7 عشية عرفة فيباهي ملائكته بأهل الموقف8، ومع ذلك فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه9، ولا نعلم قدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): (وضلامها).
2 سورة البقرة: الآية (186).
3 انظر: الفرق بين الفرق، ص226.
4 قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
5 تقدم تخريج حديث النزول ص259.
6 وذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}. [طه: 5].
7 في (د): (ويدنوا).
8 ورد في ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء؟". صحيح مسلم بشرح النووي، 9/125، الحج، باب (فضل الحج والعمرة ويوم عرفة)؛ سنن النسائي 5/251ـ 252، الحج، باب(ما ذكر في يوم عرفة)، سنن ابن ماجة، 2/180، المناسك، باب (الدعاء بالعرفة).(1/437)
9 هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في استواء الله تعالى على عرشه، ونزوله، وعدم خلو العرش منه عند نزوله. فقد اتفقوا على إثبات تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، فهو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بذلك، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، استواء يليق بجلاله تعالى، كما أن نزوله لا يشبه نزول المخلوق، بل ينزل نزولاً يليق بعظمته، لا نعلم كيفيته، ولا ندرك كنهه، وهو عند ذلك لا يخلو منه العرش.
وقد اشتهر جواب أئمة الأمة، لمن سأل عن كيفية الاستواء، وهو قولهم: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة". يروى هذا الجواب، عن الإمام مالك، وعن شيخه ربيعة، وعن أم سلمة. انظر: شرح حديث النزول، لابن تيمية(ت 728هـ)، تحقيق محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، الرياض، ط/1، 1414هـ، ص 132ـ 136، 204. الاقتصاد في العقيدة، للمقدسي، ص 102ـ 104. شرح أصول الاعتقاد، للآلكائي، 3/398. مختصر العلو، للألباني، ص 132. مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 5/ 365.(1/438)
ص -317- ... عظمته إلا هو -جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه.
وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه من هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، /كما/1جرى لموس وفرعون. فالقرب الذي وردت به الأحاديث2، وصرحت به النصوص3، حجة على الجهمي المعطل للعلو، القائل بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس. فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قصرت عقولهم وأفهامهم عن إدراك معناه، وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1كذا في (ب)، والمطبوع. وفي بقية النسخ: (وكما).
2 من الأحاديث الواردة في قرب الرب سبحانه وتعالى:
أ- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". صحيح البخاري مع الفتح، 13/ 395، التوحيد، باب قوله تعالى: {ويحذركم الله نفسه}. صحيح مسلم بشرح النووي، 17/ 5، الذكر والدعاء، باب (الحث على ذكر الله)، سنن الترمذي، 5/ 542، الدعوات، باب (في حسن الظن بالله). سنن ابن ماجة، 2/ 339، الأدب، باب (فضل العمل). كلهم عن طريق أبي صالح، عن أبي هريرة.
ب- وقد تقدم حديث دنو الرب -تبارك وتعالى- من عبادة يوم عرفة في حاشية (؟؟؟) من هذه الصفحة.
3 أما ما ورد في قرب الله تعالى من عبادة، من الآيات القرآنية، فمنها:
أ- قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة: 186].
ب- وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[قّ: 16].
ج- وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:85].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وقربه من العباد بتقربهم إليه، مما يقربه جميع من يقول: إنه فوق العرش". شرح حديث النزول، ص 316.(1/439)
ص -318- ... غرقى، لا يعرفون لهم رباً، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه /من ربه/1 قراءة على الناس، وأكثره في معرفة الرب وصفاته وربوبيته وتوحيده، سمعه منه قرويهم وبدويهم، وخاصهم وعامهم، وعجمهم، ولم يشكل على أحد منهم ذلك، ولم يشك فيه2؛ بل آمنوا به وعرفوا المراد منه. ومضت القرون الثلاثة3 على إثبات ذلك، والإيمان به، وتلقى معناه عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}4. وإن جحد بعض المنافقين، فهو مدحور مقهور. حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث5 وما بعده.
وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامة كبرى، وردة صريحة، وتكذيب لجميع الكتب السماوية، ورد على كل رسول، ومخالفة لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية، فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق6، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (ب)، و(ج). وفي (د): (ما أنزل الله إليه قراءة).
2 يريد أن المؤمنين، لم يوجد منهم من يشك فيما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم
3 وهي القرون التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية؛ وذلك في قوله: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم أن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن". صحيح البخاري مع الفتح، 7/ 5، فضائل الصحابة.
4 سورة النجم: الآية (4).
5 في (د): (قرون).(1/440)
*يلاحظ أن مسألة إنكار العلو، التي هي مقالة الجهمية، ظهرت في آواخر عصر التابعين؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "ثم ظهرت مقالة التعطيل التي هي مقالة الجهمية، وذلك في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية". مجموع الفتاوى، 13/277. منهاج السنة، 1/309. وانظر: الصواعق المرسلة، لابن القيم، 3/1069، 1070.
6 في (د): (مخلوقاً). ولا وجه للنصب هنا.(1/441)
ص -319- ... خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}1، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}2، وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}3، ولو كان لغير الله شركة في الخلق والتأثير، لكان له شركة في الربوبية والإلهية. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية4. فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السموات والأرض ولو قل، كمثقال ذرة، ونفى الشركة أيضاً في القليل والكثير، ونفي أن يكون له ظهير وعوين يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته /عما/5 سواه.
والخلق بأسرهم فقراء إليه6. ثم نفي الشفاعة إلا لمن أذن له. قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر: الآية (3). وما بين المعقوفتين تكملة من المصحف. وفي المطبوع زاد خطأً كلمة (قل) في بداية الآية.
2 سورة الأنعام: الآية(102).
3 سورة الأعراف: الآية (191).
4 سورة سبأ: الآية (22- 23).
5 في (ج)، و(د): (عن كل ما).
6 قال تعالى في بيان افتقار العبيد إليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].(1/442)
7 وردت هذه العبارة في تسير العزيز الحميد، طبعة المكتب الإسلامي، دمشق، ط/1، ص245، حيث قال: "هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها". ورد نحو هذه العبارة في كلام ابن القيم في "الصواعق المرسلة"، 2/461، حيث قال: "أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه".(1/443)
ص -320- ... ومعلوم أن من يخلق، له ملك ما خلقه، فلو كان ثم خالق غير الله، تعددت الأرباب والآلهة، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}1، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}2، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}3، فعيسى داخل في عموم هذه الآيات، لم يخالف في ذلك إلى من ضل من النصارى4؛ قال تعالى في خصوص عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}5، فكان عيسى بكن كما كان آدم. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}6 فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده. فكفى بهذه النصوص /رداً/7 على من أشرك بالله، وجعل معه خالقاً آخر.
وما احتج به الملحد من قوله تعالى حاكياً عن جبريل أنه قال لمريم: {قَالَ إِنَّمَا8
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء: الآية(22).
2 سورة آل عمران: الآية(6).
3 سورة البقرة: الآية(21).(1/444)
4 يعلم أن النصارى الضالين، قد قالوا في عيسى عليه السلام قولاً عظيماً، فقد سموه ابناً لله، وسموه إلهاً، وسموه ثالث ثلاث، وزعموا أنه إله الحق من إله الحق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، الرب المحي المنبثق من الأب، الذي هو مع الابن يسجد له. انظر: محاضرات في النصرانية، لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ص99. والأسفار المقدسة قبل الإسلام، للدكتور صابر طعيمة، عالم الكتب، بيروت، ط/1، 1406هـ، 1985م، ص226.
5 سورة آل عمران: الآية (59).
6 سورة المائدة: الآية (116- 117).
7 في جميع النسخ: (رد)، عدا المطبوع.
8 ما بين المعقوفتين، تكملة من المصحف.(1/445)
ص -321- ... أَنَا1 رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً}2. فيقال: قراءة البصريين: "ليهب لك"، بالياء3، وهي تفسير للقراءة الأخرى. وعلى القراءة الأخرى نسب الهبة إليه لأنه سبب نفخ الروح في درعها، والسبب يضاف إليه الفعل، كما جزم به البيضاوي4 وغيرها في هذه الآية5. والله -سبحانه وتعالى- ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته. وربما نسب الفعل إليهم، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}6، وقال في موضع آخر: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ}7، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}8، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ: إني
2 سورة مريم: الآية(19).
3 هكذا قرأ ورش، عن نافع، وأبو عمرو بن العلاء، على معنى: إنما أنا رسول ربك، أرسلني إليك ليهب الله لك غلاماً زكياً. وقد صوب الطبري القراءة الأولى بالألف " لأهب". انظر: التذكرة في القراءات الثمان، لأبي الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون (ت399هـ) تحقيق: أيمن رشيد سويد، ط/1، 1412هـ - 1991م، 2/424؛ والحجة في القراءات السبع، لابن خالويه، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، ط/ 2، 1397هـ - 1977م، ص236؛ وجامع البيان، للطبري، 16/61؛ والجامع لأحكام القرآن؛ 11/62؛ وتفسير ابن كثير، 3/121.
4 هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الشافعي، ناصر الدين أبو الخير، عالم بالفقه والتفسير، صاحب "مناهج الوصول إلى علم الأصول"؛ و"أنوار التنزيل"، و "شرح مصباح السنة". (ت691هـ)، وقيل (685هـ؛ 696هـ). انظر طبقات الشافعي الكبرى، للسبكي، 8/57- 158؛ ومعجم المؤلفين، 6/97.(1/446)
5 أنوار التنزيل وأسرار التأويل، لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي (ت 791هـ)، ومعه "تفسير الجلالين"، ط/2، 1388هـ - 1968م، طبعة الحلبي بمصر، 2/31؛ وتفسير القاسمي؛ 11/4132.
6 سورة الزمر، الآية(42).
7 سورة الأنفال: الآية(50).
8 سورة الأنعام: الآية(61).(1/447)
ص -322- ... الأرواح1. ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى. فقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}2 وأبلغ من هذا، أنه نسب إليهم التدبير في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً}3؛ لأنهم رسل بأمره الكوني، وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار، في غير آية من كتاب الله، كقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}4، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}5، إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ}6؛ إلى غير ذلك من الآيات الدالات على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد. وفي الحديث القدسي: "ومن أظلم ممن يذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو يخلقوا شعيرة" 7،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 7/7؛ وتفسير ابن كثير، 2/143؛ وتفسير القاسمي، 6/2349.
2 سورة الزمر: الآية(42).
3 سورة النازعات: الآية(5).
4 سورة السجدة: الآية(5).
5 سورة يونس: الآية(3).
6 سورة يونس: الآية (31).
7 ورد هذا الحديث بألفاظ عدة، وهذا اللفظ قريب من لفظ البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: ومن أظلم ... أو ليخلقوا حبة أو شعيرة". صحيح البخاري مع الفتح 13/536، التوحيد، باب قوله الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}.(1/448)
*وفي الحديث إشارة إلى تحريم التصوير؛ إذ أن في مضاهاة لخلق الله تعالى. وقد تفرد الله سبحانه وتعالى بالخلق والأمر {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7]. فمن صور صورة على شكل ما خلقه الله من إنسان أو بهيمة، كان مضاهئا لخلق الله؛ لذلك يكلف يوم القيامة بنفخ الروح فيها، وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذاباً، كما جاء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم من صور صورة، فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبداً". صحيح البخاري مع الفتح 4/466، البيوع، باب (بيع التصاوير). صحيح مسلم بشرح النووي، 14/339، اللباس، باب (تحريم تصوير صورة الحيوان).(1/449)
ص -323- ... ......................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما الصورة الفوتغرافية، فإن أحداً من العلماء لا يجادل في تحريم الصور المجسمة، والمنحوتة، والمفصل باليد من ذوات الأرواح.
فالصورة الفوتغرافية، اختلف في حكمها العلماء المتأخرون؛ لكونها نوعاً جديداً لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهبوا فيها مذهبين:
الأول: أنها محرمة؛ لعموم لفظ التصوير، وشموله لها عرفاً. وقد تقدم آنفاً أحاديث النهي.
الثاني: أنها مباحة.
والقول الأول هو الصواب. وقد بين فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -حفظه الله- في فتاواه، عندما سئل عن حكم التصوير، فقال: "اختلف فيه العلماء المتأخرون؛ فمنهم من منعه؛ لعموم اللفظ له عرفاً، ومنهم من أحله نظراً للمعنى؛ فإن التصوير بالكاميرا، لم يحصل فيه من المصور أي عمل يشابه به خلق الله تعالى، وإنما انطبع بالصورة خلق الله تعالى، على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها.(1/450)
ونظير ذلك تصوير الصكوك والوثائق وغيرها بالفوتغراف، "فإن هذه الصورة التي تخرج ليست هي من فعل الذي أدار الآلة وحركها، فإن الذي حرك الآلة، ربما يكون لا يعرف الكتابة أصلاً، والناس يعرفون أن هذه كتابة الأول. والثاني ليس له أي فعل فيها... "بل زعم أصحاب هذا القول، أن التصوير بالكاميرا، لا يتناوله لفظ الحديث، كما لا يتناوله معناه. فقد قال في القاموس: الصورة: الشكل. قال وصور الشيء: قطعه وفصله. قالوا: وليس في التصوير بالكاميرا تشكيل ولا تفصيل، وإنما هو نقل شكل وتفصيل، شكله وفصله الله تعالى. والقول بتحريم التصوير بالكاميرا أحوط، والقول بحله أقعد، لكن القول بالحل مشروط، بأن لا يتضمن أمراً محرماً، فإن تضمن أمراً محرماً -كتصوير امرأة أجنبية، أو شخص ليعلقه في حجرته تذكاراً له، أو يحفظه فيما يسمونه (ألبوم) ليتمتع بالنظر إليه وذكراه- كان ذلك محرماً"
وقال في محل آخر: "ولكن إذا صور هذا التصوير الفوتوغرافي لغرض محرم، فإنه يكون حراماً تحريم الوسائل".
المجموع الثمين من فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين، جمع وترتيب: فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن للنشر، الرياض، ط/ 3، 1411هـ. 2/ 254-256، و 1/ 201. أما الصورة الفوتغرافية الضرورية: كما هو الشأن في الوثائق؛ كالجواز، وحفيظة النفوس، والإقامة، ونحوها، فالعلماء متفقون على جوازها، من باب الضروة.
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، لعبد العزيز بن باز، بجمع الدكتور/محمد بن سعد الشويعر، طبعة دار الإفتاء، ط/ 2، 1411هـ - 1990م، 1/ 441.(1/451)
ص -324- ... وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}الآية1، وأكابر الخلق؛ كالملائكة والأنبياء، لم يدع أحد منهم أنه إله، وأنه يخلق. قال تعالى في حق الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}2. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}الآية3، فأخبر أن اتخاذهم أرباباً كفر بعد الإسلام. وأيضاً، فآخر الآية، وهو قوله: {قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}4، فكونه هيناً عليه تعالى، وهو الذي جعله آية/5، وهو الذي قدره وقضاه، كل هذا يرد على المبطل. فتفطن-هداك الله- للأدلة على تفرده بالخلق والإيجاد والتدبير، لا يحيط بها إلا الله سبحانه.
/وفي كل شيء له/6 آية ... تدل على أنه واحد7.
أما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون ولا يردون السلام، فهم بذلك مخالفون لأهل السنة والجماعة، من سلف الأمة وأئمتها. ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء، إذا تعذرت الجمعة والجماعة خلف غيرهم8؛ وإن كانوا يرون كفر من لا يوافقهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج: الآية (73).
2 سورة الأنبياء: الآية (26- 27).
3 سورة آل عمران: الآية (79).
4 سورة مريم: الآية (21).
5 ساقط في (د)، والمطبوع.
6 في (ب)، و (ج) و (د): (وله في كل شيء).
7 البيت لأبي العتاهية. انظر: ديوان أبي العتاهية، دار صادر، ودار بيروت، للطباعة والنشر، بيروت، 1384هـ - 1964م، ص 122.
8 انظر: شرح عقيدة الطحاوية، ص 361، 362، 363.(1/452)
ص -325- ... على /أهوائهم/1، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة، بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية2، وأنهم كلاب أهل النار3.
وصلى الله وسلم4 على سيد ولد آدم، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده آمين. والحمد لله على /التمام وحسن الختام/5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): (هوائهم).
2 تقدم تخريج حديث مروقهم من الدين في ص 169- 170.
3 ورد في كونهم كلاب أهل النار: حديث أبي أمامة قال: شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، فقد كانوا هؤلاء مسلمين، فصاروا كفاراً، قلت: يا أبا أمامة! هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنن ابن ماجة، ا/ 34، المقدمة، باب في ذكر الخوارج. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5/ 250، 253، مطولاً. والحديث حسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجة"، ط/ 3، 1408هـ، نشر مكتب التربية العربي، لدول الخليج، الرياض، 1/ 35. وفي "مشكاة المصابيح" بتحقيقه 2/ 286(3554).
4 زيادة مني؛ إذ يوجد في جميع النسخ صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، دون السلام عليه.
5 ساقط في (د).(1/453)
ص -326- ... (الرسالة الثالثة عشرة)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -رحمه الله تعالى- رسالة إلى زيد بن محمد 2 وهذا نصها.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم زيد بن محمد -زاده الله علماً، ووهب لنا وله حكماً3- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فالخط الذي فيه المسائل وصل، وحصل من الاشتغال والموانع، ما اقتضى تأخر الجواب، ونسأل الله لنا الإعانة على ما يقرب إليه من العلم والعمل.
فأما المسألة الأولى4: عن قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}5.
وقول السائل: إن الرب تبارك وتعالى لا يخفى عليه شيء وقد قال تعالى في سورة العنكبوت: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}6
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 167- 179.
2 تقدمت ترجمته ص 93.
3 يريد بالحكم هنا: العلم والفهم، وذلك كما في قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء:83]. قال الشوكاني: (المراد بالحكم: العلم والفهم). فتح القدير للشوكاني 3/105.
4 وردت المسألة في الدرر السنية 10/93- 95.
5 سورة يونس: الآية (18).
6 سورة العنكبوت: الآية (42).(1/454)
ص -327- ... فالجواب وبالله التوفيق:
إن كلا الآيتين الكريمتين على عمومهما وإطلاقها، يصدق بعضها بعضاً.
فأما آية يونس، ففيها الإخبار بنفي ما ادعاه المشركون، وزعموه من وجود شفيع، يشفع وينفع بدون إذنه تبارك وتعالى1؛ وأن هذا لا يعلم الله وجوده، لا في السموات ولا في الأرض، بل هو مجرد زعم وافتراء2، وما لا يعلم وجوده، مستحيل الوجود، منفي غاية النفي.
فالآية رد على المشركين الذين تعلقوا على الشركاء والأنداد، بقصد الشفاعة عند الله والتقرب إليه.
وأما آية العنكبوت، ففيها إثبات علمه سبحانه وتعالى بكل مدعو أو معبود من أي شيء كان، لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة3. ففي الآية الأولى نفي العلم بوجود ما لا وجود له بحال؛ والآية الثانية فيها إثبات العلم بوجود ما عبدوه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعلوم أن مثل تلك الشفاعة، غير مقبولة عند الله، إذ أن للشفاعة التامة المقبولة شروطاً وضعها الشارع الحكيم وهي:
إذنه سبحانه وتعالى للشافع بالشفاعة له:
قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [لنجم:26]. وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
(ب) إذنه تعالى للمشفوع له بأن يشفع له:
قال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23].
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109].
(جـ) رضاؤه تعالى للمشفوع له:(1/455)
قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء: 28]. فهذه الآيات تبين أن الشفاعة لن تكن إلا من شافع مأذون له بها، ولن تنفع إلا المشفوع المأذون له، والمرضي عنه، كما تبطل جميع ما يزعمه المشركون، من وجود شفيع يشفع بدون إذنه تبارك وتعالى.
2 وقد فسر الآية بهذا المعنى، من المفسرين، كل من: الطبري في جامع البيان 11/ 98، والقرطبي 8/ 205.
3 انظر جامع البيان للطبري 20/ 153.(1/456)
ص -328- ... ودعوه مع الله، من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع.
قال ابن جرير-رحمه الله تعالى- في الكلام على آية يونس: يقول تعالى[ذكره]1: ويعبد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك صفتهم، الذين لا يضرهم شيء ولا ينفعهم في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها، رجاء/شفاعتها/2عند الله. قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَه وتعالى عما يشركون}3. يقول: (أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض، وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته، بل يعلم أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تضر ولا تنفع) انتهى4.
وحاصلة أن النفي واقع على ما اعتقدوه وظنوه من وجود شفيع يشفع وينفع ويقرب إلى الله، وذلك الظن والاعتقاد وهم وخيال باطل لا وجود له. وبنحو ذلك قال ابن كثير5، حيث يقول: (ينكر تعالى على المشركون الذين عبدوا مع الله غيره، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله، وأخبر أنها لا تنفع ولا تضرو لا تملك شيئاً ولا يقع شيء 6 مما يزعمون فيها، ولا يكون هذا أبداً، ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين، زائد في جميع النسخ والمطبوع. لم يرد في (أ).
2 في جميع النسخ: (شفاعتهم). وفي تفسير الطبري ما أثبتناه.
3 سورة يونس الآية (18).
4 جامع البيان للطبري 11/98. نقله المصنف بتصرف يسير.(1/457)
5 هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير البصري ثم الدمشقي الشافعي، عماد الدين أبو الفداء. محدث مفسر فقيه، له مصنفات منها: تفسير القرآن العظيم، البداية والنهاية، جامع المسانيد، وغيرها (ت 5774). الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني (852هـ)، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهر 1/ 399؛ معجم المؤلفين 2/ 283.
6 في (ج) و (د): شيئاً.(1/458)
ص -329- ... قال تعالى: {قلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}1انتهى2.
وقال /أبو السعود/3 الرومي في قوله /تعالى/ 4: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}5 أي وتخبرونه بما لا وجود له أصلاً، وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله، إذ لو كان ذلك لعلمه علام الغيوب. وفيه تقريع لهم وتهكم بهم وبما يدعون من المحال، الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان، وقوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} حال من العائد6 المحذوف في "يعلم" مؤكدة للنفي، لأن ما لا يوجد فيها فهو منتف عادة)7 انتهى.
وقال العلامة ابن القيم8 في الكلام على هذه الآية: هذا نفي لما ادعاه المشركون من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس الآية (18).
2 تفسير ابن كثير 2/ 426، بتصرف يسير.
3 في جميع النسخ: ابن مسعود، وهو خطأ. والصواب ما أثبته كما في المطبوع. وأبو السعود هو: محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي أبو السعود، فقيه أصولي مفسر، من موالي الروم، له تصانيف منها: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم "في التفسير"، وتهافت الأمجاد "في فروع الفقه الحنفي" وغيرهما. (ت 982هـ) وقيل (951). البدر الطالع 1/ 261، معجم المؤلفين 11/ 301- 302.
4 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
5 سورة يونس الآية (18).
6 وذلك أن الموصول في قوله (بما لا يعلم) بحاجة إلى صلة، ولا بد في الصلة من عائد، وهو هنا محذوف في يعلم، ويقدر ب (يعلمه).
7 تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، للإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي (ت 951هـ) دار إحياء التراث العربي، بيروت 4/ 132، بتصرف.
*وروي عن الضحاك في تفسيره لهذه الآية قال: (أتخبرون الله أن له شريكاً، ولا يعلم لنفسه شريكاً في السموات ولا في الأرض.(1/459)
انظر: زاد الميسر في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، الجوزي القرشي البغدادي (ت 597هـ)، المكتب الإسلامي بيروت، ط/ 1، 1385هـ- 1965م 4/ 16
8 هو محمد بن أبي بكر بن أيوب، أبو عبد الله ابن قيم الجوزية، تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وسجن معه في قلعة دمشق. يأأبي له تصانيف عدة منها: روضة المحبين، زاد المعاد، إعلام الموقعين، اجتماع الجيوش الإسلامية ... وغيرها. (ت 751هـ). الدرر الكامنة 4/21، معجم المؤلفين 9/106.(1/460)
ص -330- ... الشفعاء، كنفي علم الرب تعالى بهم، المستلزم لنفي المعلوم، ولا يمكن أعداء الله المكابرة، وأن يقولوا قد علم الله جود ذلك، لأنه تعالى، إنما يعلم وجود ما أوجده وكونه، ويعلم أنه سيوجد ما يريد إيجاده، فهو يعلم نفسه وصفاته ومخلوقاته التي لم توجد بعد.
وأما وجود شيء آخر غير /مخلوق/1 له ولا مربوب، فالرب تعالى لا يعلمه، لأنه يستحيل2 في نفسه، فهو سبحانه يعلمه مستحيلاً، /فكذلك/3 حجج الرب تبارك وتعالى، على بطلان ما نسبه إليه أعداؤه المفترون4 التي هي كالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من رجوع. فإذا وازنت بينهما ظهرت لك المفاضلة، إن كنت بصيراً. {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}5، انتهى6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ساقط في (ج) و(د).
2 في أصل النص عند ابن القيم في بدائع الفوائد: مستحيل.
3 في الأصل (بدائع الفوائد): فهذه.
4 هنا أسقط المصنف عبارة:. (عليه، فوازن بينهما وبين حجج المتكلمين الطويلة العريضة) التي ... وهي عبارة ينبني عليها قوله بعدها: فإذا وازنت بينهما ... .
5 سورة الإسراء الآية (72).
6 بدائع الفوائد، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت 751هـ)، تقريظ وتقديم د. وهبة الزحيلي تحقيق وتعليق: معروف محمد هبي سليمان، وعلي عبد الحميد بلطه جي، توزيع دار الخاني، الرياض، دار الخير بيروت، ط/1، 1414هـ 1994م 4/130- 131.
وأما المسألة الثانية1: عن قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} الآية2؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وردت هذه المسألة في الدرر السنية 10/95.
2 سورة يونس الآية (66).(1/461)
ص -331- ... فقد أشكل معناها على كثير من المفسرين، فزعموا أن المعنى: نفي أتباعهم شركاء، فجعلوا "ما" نافية، و"شركاء" مفعول يتبع، أي لم يتبعوا في الحقيقة شركاء، بل هم عباد مخلوقون مربوبون، والله هو الإله الحق لا شريك له1.
وأما ابن جرير -رحمه الله- فقرر أن "ما" في هذا المحل استفهامية، لا نافيه. قال -رحمه الله-: (ومعنى الكلام: أي شيء يتبع من يقول: لله شركاء في سلطانه وملكه كاذباً والله المتفرد بملك كل شيء في سماء كان أو في أرض، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ}2 يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك [ودعواهم]3 (إلا الظن) يقول: إلا الشك، لا اليقين. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون}4 انتهى5.
وقال شيخ الإسلام6 -رحمه الله- ظن طائفة أن "ما" هاهنا نافية، وقالوا: ما يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة، بل هم غير شركاء، وهذا خطأ، ولكن "ما" هاهنا حرف استفهام، والمعنى: وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، فشركاء مفعول يدعون، لا مفعول يتبع؛ فإن المشركين يدعون من دون الله شركاء، كما أخبر عنهم بذلك في غير موضع7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وممن فسر الآية بذلك: الزمخشري في الكشاف 2/244، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 8/230 والشوكاني في فتح القدير 2/460، وانظر تفسير القاسمي 9/3377.
2 سورة يونس الآية (66).
3 ما بين المقوفتين ساقط في جميع النسخ، وهو موجود في أصل النص في تفسير الطبري.
4 سورة يونس (66).
5 جامع البيان للطبري 11/139.
6 هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام أبو العباس تقي الدين، شيخ الإسلام ابن تيمية، ولد عام (661هـ) وتوفي عام (728هـ).
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ 4/1496، البدر الطالع 1/63، الأعلام للزركلي 1/144.
7 من المواضع التي أخبر الله تعالى عنهم بذلك:(1/462)
أ- قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[فاطر: من الآية40].
ب- وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}[النحل: من الآية86].(1/463)
ص -332- ... فالشركاء موصوفون في القرآن بأنّهم يُدعَون من دون الله، ولم يوصوفوا بأنّهم يُتَّعون، فإنَّما يُتَّبع الأئمة الذين كانوا يدعون هذه الآلهة1، ولهذا قال بعد هذا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ}2. ولو أراد أنهم ما يتبعون في الحقيقة شركاء، لقال: إن يتبعون إلاّ من ليسوا بشركاء، بل هو استفهام، يبيّن أنّ المشركين الذين دَعَوا من دون الله شركاء، ما اتبعوا إلاّ الظنّ، ما اتبعوا علماً، فإنّ المشرك لا يكون معه علم مطابق، وهو فيه ما يتبع إلاّ الظنّ، وهو الخرص والحرز، وهو كذب وافتراء، كقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}3.4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهؤلاء أئمة سوء، الذين يدعون إلى النار، كما أخبر الله تعالى عن فرعون وجنوده، لما طغى وقال لقومه: ما علمت لكم من إله غيري، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41].
2 سورة يونس الآية (66).
3 سورة الذاريات الآية (10).
4 إلى هنا نهاية كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، في المجموع 15/61، وفي التفسير الكبير، له أيضاً، تحقيق: د.عبد الرحمن عميرة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1408 هـ 1988م 4/393 وقد أورده المصنف بألفاظه، يتخللها زيادات من المصنف بقصد الشرح والإيضاح.
وأما المسألة الثالثة: عن قولك: أسألك/بمعاقد/1 العز من عرشك2.
فكره أبو حنيفة3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ والمطبوع: بعقد. والتصحيح من النهاية لابن الأثير. وقال في معنى (بمعاقد العز) أي: (بالخصال التي استحق بها العرشُ العزَّ، أو بمواضع انعقادها منه وحقيقة معناها: بعز عرشك. وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء). النهاية لابن الأثير 3/270-271.(1/464)
2 أورده ابن الأثير في النهاية 3/270. وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ص 407. قال السيوطي في الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير، له، مطبوع في الصلب معه النهاية، وبهامشه مفردات الراغب ط/1، المطبعة الخيرية القاهرة، (3/192) قال بعد ذكره لمعنى الحديث: قلت: وحديثه موضوع).
3 هو النعمان بن ثابت، صاحب المذهب الحنفي (ت 150 هـ). تاريخ بغداد 13/323، سير الأعلام 6/390.(1/465)
ص -333- ... -رحمه الله- المسألة بعقد العز1، وأجازها2 صاحبه أبو يوسف3 لأنه قد يراد بهذه الكلمة المحل، أي محل العقد وزمانه، كمذهب، يطلق على محل الذهاب وزمانه. وربّما أريد به المفعول، كمركب بمعنى المركوب، ويكون هنا اسم مصدر من عقد يعقد عقداً؛ والاسم معقد، ويكون صفة ذات، ولهذا قال أبو يوسف: معقد العز هو الله4.
وأما أبو حنيفة فنظر إلى أن اللفظ محتمل لمعاني متعدّدة، فلذلك كره المسألة به، وبهذا يتبيّن المعنى5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر النهاية لابن الأثير 3/271، وإغاثة اللهثان في مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية 1/335.
2 في (أ) و (د): (فأجازها).
3 هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، أبو يوسف القاضي، الإمام المجتهد، صاحب أبي حنيفة، ولد (113هـ) (ت182هـ). انظر: تاريخ 14/242، سير الأعلام 8/535.
وانظر قوله بإجازة الدعاء بذلك: إغاثة اللهفان لابن القيم 1/335.
4 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 407، وإغاثة اللهفان لابن القيم1/335، وغاية الأماني في الرد على النبهاني، لأبي المعالي محمود شكري الألوسي (1342هـ)، مطابع نجد التجارية، الرياض 2/329.
5 المرجع السابق: الاقتضاء ص 407-408، غاية الأماني 2/329.
وأما المسألة الرابعة: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "إلى من تكلني إليه، إلى بعيد يتجهمني"6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/466)
6 هذا جزء من دعاء توجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعيد ما أهانته ثقيف في الطائف، وتمامه: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي؛ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
انظر كنز العمال (3613، 3756) وعزاه للطبراني عن عبد الله بن جعفر، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/35 بعد ذكر الحديث: (رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات). وأخرجه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزياداته، له، المكتب الإسلامي بيروت لبنان، ط/2، 2،1408هـ - 1988م، 1/358- 359 (1280). وذكره ابن هشام في سيرته 2/420.(1/467)
ص -334- ... فاعلم أن التجهم الغلظة والعبوس والاستقبال بالوجه الكريه، والجهم الغليظ المجتمع. وجَهُمَ ككَرُمَ جِهَامَةً وجَهُوْمَةً: استقبله بوجه كريه كتجهُّمِه1.
والجهمة آخر الليل أو بقية السواد من آخره2، وأجهم: دخل فيه انتهى. وبه يظهر أن التجهم /يقع/3 على الاستقبال بوجه مظلم عبوس؛ ومن صفات الجهم4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر لسان العرب 12/110-111، وترتيب القاموس المحيط 1/549 مادة (جهم).
2 المرجعان السابقان، نفس الصفحات.
3 في (ب): يبقى.
4 في المطبوع ذكر الناسخ أن هاهنا سقط، وترك له بياضاً، ليضعه من يجد ذلك السقط.
والذي يظهر لي، أن الكلام تام -كما هو في جميع النسخ- لا يوجد سقط. وقد أراد الشيخ تأكيد ما تقدم من كلامه، وهو أن التجهم: الاستقبال بوجه كريه، وأنه من صفات الجهم (الذي هو الغليظ).
وأما المسألة الخامسة1: عن قوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بنور وجهك "2
وقوله في حديث أبي موسى3: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه4 /ما انتهى إليه بصره من خلقه/5 6،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وردت هذه المسألة في الدرر السنية 3/343-345.
2 تقدم تخريجه في هامش رقم (6) من ص 333.
3 تقدم ترجمته ص 167.
4 سبحات وجهه: نوره وجلاله وعظمته وبهاؤه. النهاية لابن الأثير 2/332، شرح صحيح مسلم للنووي 3/17.
5 ساقط في (ج) و (د). وفي (ب) سقط كلمة (من خلقه).
6 صحيح مسلم بشرح النووي 3/16-17، الإيمان باب إنّ الله لا ينام، من طريق أبي معاوية، سنن ابن ماجة 1/38، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، مسند الإمام أحمد 4/401.
وأول الحديث: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يحفظ القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور...).(1/468)
ص -335- ... وقول السائل: هل يفسر بهذا النور /أو/1 لا"؟
فالجواب:
إنّ النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم –رحمه الله- في نونيته2. وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مخرجه من الطائف، من الأول بلا ريب3، فهو صفة ذات، ولذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنفس.
وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السبحات المضافة إلى وجه الله، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، على ما يأتي تفسيره.
وأما قوله: (حجابه النور)، فقد ذكر السيوطي4 وغيره في الحجب آثاراً عن السلف، تدل على أن الله سبحانه احتجب بحجب من نور، مخلوقة له.5
وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إلى إليه، لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): أم.
2 انظر الكافية الشافية 2/237.
3 أي قوله صلى الله عليه وسلم (نور وجهك) من إضافة الصفة لموصوفها.
4 هو عبد الرحمن ابن بكر ابن محمد، جلال الدين أبو الفضل السيوطي الشافعي، مشارك في أنواع من العلوم، من مؤلفاته: الدر المنثور (في التفسير) المزهر (في اللغة) حسن المحاضرة وغيرها. (ت 911هـ).
البدر الطالع 1/328؛ شذرات الذهب 8/51؛ معجم المؤلفين 5/128.
5 انظر: الهيئة السَّنيَّة في الهيئة السُّنيّة، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911هـ) مخطوط بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، برقم (1196) خطي ص 5-6، ومن بين ما ذكره السيوطي في الهيئة قال:
أ - أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد عن ابن عمر، ومن طريق آخر عن مجاهد قال: (إنّ بين العرش وبين الملائكة سبعين ألف حجاب، حجاب من نار وحجاب من ظلمة وحجاب من نور وحجاب من ظلمة).(1/469)
ب - وأخرج أبو الشيخ عن زرارة بن أبي أوفى، (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: هل رأيت ربّك، فانتفض وقال: إنَّ بيني وبينه سبعين ألف حجاباً من نور، لو دنوت من أدناها لأحرقت) الهيئة السنية ص5.(1/470)
ص -336- ... أوصاف الذات1. والأصل في العطف أن يكون في المغايرة2.
وقال3 في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله صلى الله عليه وسلم نوراً، ودينه نوراً، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نوراً، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية4، وقد فسِّر بكونه مُنَوِّرُ السموات والأرض5. وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه، قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى. فالنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصفها، وإضافة فعل6 إلى فاعله. فالأول كقوله: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}7، إذا جاء لفصل القضاء.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: "أعوذ بنور وجهك الكريم أن /تضلَّني/8 لا إله إلا أنت"9.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكافية الشافية 2/237-238، 240.
2 وهذا ما يعبر عنه النحاة بقولهم: العطف يقتضي المغايرة.
3 أي الإمام ابن القيم.
4 سورة النور الآية (35).
5 قد فسّره بذلك الإمام الشوكاني في فتح القدير 4/32، قال: ويدل على هذا المعنى قراءة زيد ابن علي، وأبي جعفر وعبد العزيز المكي (الله نوّر السموات والأرض) على صيغة الفعل الماضي، أي صيّرهما منيرتين باستقامة أحوالها أهلها وكمال تدبيره عزّ وجلّ لمن فيهما.
6 هكذا في جميع النسخ، وفي أصل النص –في اجتماع الجيوش-: (إضافة مفعول...) والأول أولى.
7 سورة الزمر الآية (69).
8 في (د): تظلني، وهو خطأ.
9 لم أجد هذا الحديث بهذا اللفظ، وإنما وجدت عند البخاري ومسلم والإمام أحمد لفظ: "أعوذ بعزتك أن تضلّني لا إله إلا أنت" فلعل الإمام ابن القيم –رحمه الله- أراد هذه الرواية.(1/471)
صحيح البخاري مع الفتح 13/381، التوحيد باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}؛ وصحيح مسلم بشرح النووي 17/43، الذكر باب التعوّذ من شر ما عمل...؛ وجامع الأصول في أحاديث الرسول، لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير (ت606هـ)، تحقيق عبد القادر أرنؤوط، مكتبة الحلبوني وغيره، طبعة عام 1390هـ-1970م 4/362. مسند الإمام أحمد 1/302.(1/472)
ص -337- ... وفي الأثر الآخر: "أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات"1 فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجه الله؛ كما أخبر تعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره2.
وفي معجم الطبراني3 والسنة له، وكتاب عثمان بن سعيد الدارمي4 /وغيرها/5 عن ابن مسعود6 رضي الله عنه: ليس عند ربكم ليلٌ ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه)7.
وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه ص 334.
2 وذلك في قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69].
3 الطبراني هو: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير، أبو القاسم الطبراني، له مصنفات، منها: المعاجم الثلاثة (الكبير والأوسط والصغير) (ت360هـ).
النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ليوسف بن تغر الأتابكي (ت874هـ)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، طبعة دار الكتب المصرية 4/59؛ تذكرة الحفاظ 3/912-917.
4 هو عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي السجستاني (أبو سعيد) محدث هراة، له تصانيف في الرد على الجهمية، ومسند كبير، (ت280هـ).
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ 2/621؛ كتاب الثقات، للحافظ محمد بن حبان بن أحمد بن حاتم (ت965هـ) نشر مؤسسة الكتب الثقافية، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر أباد،الدكن، الهند، ط/1، 1402هـ- 1982م، 8/455.
5 في جميع النسخ: (وغيرهما). وفي اجتماع الجيوش الإسلامية –أصلهذا الكلام- (وغيرها) وهو الصواب.
6 هو عبد الله بن مسعود، صحابي (ت32هـ) بالمدينة ودفن بالبقيع.
أسد الغابة 3/384. سير الأعلام 1/461.(1/473)
7 رواه الطبراني في المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مطبعة الوطن العربي، ط/1،1400 هـ-1980م، 9/200 رقم (8886). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/85 (وفيه عبد السلام، قال أبو حاتم: مجهول. وقد ذكره ابن حبان في الثقاة، وعبد الله بن مكرز أو عبيد الله –على الشك لم أره). والحديث ورد في مجموع الفتاوى 2/189، و 6/391، بلفظ: (إن ربكم ليس عنده...).(1/474)
ص -338- ... فسرها أنه هادي أهل السموات والأرض1. وأما من فسّرها بأنه منوِّر السموات والأرض، فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود. والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلِّها. وفي صحيح مسلم2 وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام"3 فذكرها. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر4 رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال: "/نورٌ/5 أنّى أراه"6.
قال شيخ الإسلام: معناه: كان ثَمَّ /نورٌ/7، وحال دون رؤيته نورٌ، /و/8 أنّى أراه. قال: ويدل عليه أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك عزّ وجلّ قال: (رأيت نوراً)9.
وذكر الكلام في الرؤية ثم قال: ويدل على صحة10 ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فسّرها بذلك ابن عباس، انظر جامع البيان للطبري 18/135، وتفسير ابن كثير 3/300.
2 هو مسلم بن الحجاج الحافظ، صاحب الصحيح. تاريخ بغداد 13/100، تذكرة الحفاظ 2/588.
3 تقدم تخريجه ص 334.
4 هو جندب بن جنادة، أبو ذر الغفاري، وقيل في اسمه غير ذلك، أحد السابقين الأولين، من نجباء الصحابة، (ت32هـ) بالربذة. الاستيعاب 1/169؛ أسد الغابة 1/357.
5 في (أ) و (ج): نوراً.
6 صحيح مسلم بشرح النووي 3/15، الإيمان باب قوله صلى الله عليه وسلم "نورٌ أنى أراه"؛ سنن الترمذي 5/369، التفسير، باب من سورة النجم. قال الترمذي: هذا حديث حسن، مسند الإمام أحمد 5/171.
7 في جميع النسخ نوراً، عدا المطبوع.
8 في (د): أو. وفي أصل النص –في اجتماع الجيوش -: (فأنى) بدل (وأنى).
9 صحيح مسلم بشرح النووي 3/15، الإيمان، باب قوله صلى الله عليه وسلم "نور أنى أراه".
10 في (أ) و(د): (صحته).(1/475)
ص -339- ... "حجابه نور"1. فهذا النور هو -والله أعلم- النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه2 رأيت نوراً" 3.4
أمّا السبحات: فهو نور الذات المقدسة العليّة، وهو النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم وكلامه فيه إيماء إلى أنه تعالى احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية الباري تعالى وتقدس، وهو النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر "رأيت نوراً"5. وقد احتجب سبحانه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في ص338، أوله (إنّ الله عزّ وجلّ لا ينام...).
2 الترضي ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
3 تقدم تخريجه هامش (9) من الصفحة السابقة.
4 إلى هنا انتهى كلام الإمام ابن القيم –رحمه الله- في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية ص 11-13، بتصرف.
5 تقدم تخريجه في الصفحة السابقة (338).
*مسألة: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج:
ذهب أهل السنة في هذه المسألة مذهبان:
أولهما: مذهب جمهور أهل السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ذهبوا إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربّه ليلة المعراج. ونقل عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه "الرد على الجهمية" صفحة 54، إجماع الصحابة على ذلك.
ومن أدلتهم على ذلك:(1/476)
أ - حديث مسروق قال: كنت متكئاً عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهنّ، فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هنّ، قالت: من زعم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجلي، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء سادّاً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أولم تسمع أنّ الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، أولم تسمع أنّ الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الحديث. [صحيح مسلم بشرح النووي 3/10-11، الإيمان باب معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}، البخاري مع الفتح 8/472، التفسير، باب حدثنا يحيى].
والحديث يدل على عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج.
وثانيهما: وهو لجماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة بن الزبير، والزهري وغيرهم، ذهبوا إلى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج.(1/477)
وعمدة هذا القول: رواية ابن عباس قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد" [ذكره النووي في شرح مسلم 3/8، وورد في فتح الباري 8/472-473] وهذه الرواية مطلقة في الرؤية، وتدل على رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه. ولكن يعارضها النافون للرؤية برواية أخرى عن ابن عباس، وهو ما أخرجه مسلم في صحيحه ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } قال رآه بفؤاده مرتين) [صحيح مسلم بشرح النووي 3/8].
فهذه رواية مقيدة للرؤية التي كانت من النبي صلى الله عليه وسلم لربِّه جل وعلا، فهنا يجب حمل المطلق على المقيد بالفؤاد، وعلى هذا فرأي ابن عباس في الرؤية، إنما هي بالقلب لا بالبصر، وبه يكون قوله مشابهاً بقول الجمهور، وهو الراجح، والله أعلم.
انظر المسألة في: فتح الباري 8/474، شرح صحيح مسلم للنووي 3/7، تفسير ابن كثير 4/267، زاد المعاد لابن القيم 2/48، والإسراء والمعراج، لمحمد ابن أبي شهبة، مكتبة دار الثقافة للنشر، ط/2، 1408هـ القاهرة، ص 65-68، والحجة في بيان المحجة 1/506-510.(1/478)
ص -340- ... وتعالى بحجب عن خلقه من نور ومن غيره، كما ذَكَرَ في آثار مرويّة عن السلف جمعٌ كثيرٌ، منهم السيوطي في كتاب الهيئة السنيّة1. وإذا فُسِّرَت السبحات بأنوار وجهه الكريم، جازت الاستعاذة بها لأنها وصف ذات2. ويؤيد ما أومأ إليه ابن القيم –رحمه الله- قول ابن الأثير3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو كتاب مخطوط، وقد تقدم ذكره، وذكر بعض ما ورد فيه في هامش ص 335.
2 ولذلك استعاذ بها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه "أعوذ بنور وجهك..." المتقدم ص (334) عند عودته من الطائف.
3 هو المبارك بن محمد بن عبد الكريم، أبو السعادات الجزري، المعروف بابن الأثير، هو مع والده من أهل جزيرة ابن عمر، وهناك ولد عام 544هـ، له تصانيف منها: جامع الأصول، والنهاية في غريب الحديث والأثر، وغيرها. (ت606هـ).
معجم الأدباء 17/71؛ طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/366؛ سير الأعلام 21/289.(1/479)
ص -341- ... /سُبُحات1 الله: جلاله وعظمته/2، وهي في الأصل جمع سُبحة؛ وقيل: /أضواء/3 وجهه. وقيل سُبحات الوجه: محاسنه، وقيل معناه: تنزيه له، أي /سبحان/4 وجهه، وقيل إنَّ سبحات /وجهه/5 كلام معترض بين الفعل والمفعول، أي لو كشفها لأحرقت كل شيء /أبصرت6/.7
قلت: يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به، ولذلك قال: لو كشفها.
قال: وأقرب من هذا، أنّ المعنى: لو انكشف من أنوار الله تعالى التي تحجب العباد شيءٌ، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خرّ موسى عليه السلام صعقاً، وتقطّع الجبل دكاً8 لمّا تجلّى الله تعالى9.
ففي كلام ابن الأثير ما يدل على أنّ الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمّله10، وذكر ابن الأثير وغيره أن جبريل عليه السلام قال: لله دون العرش سبعون حجاباً، لو دنونا من /أحدها/11 لأحرقت سبحات وجهه12. انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): السبحات.
2 في جميع النسخ: (سبحات الله جل جلاله: عظمته). بزيادة لفظ (جلَّ) وحذف الواو العاطفة العظمة على الجلال. وما أثبتُّه هو الذي في الأصل عند ابن الأثير في النهاية، 2/332.
3 هكذا في الأصل عند ابن الأثير. وفي جميع النسخ: (ضوء).
4 هكذا في النهاية والمطبوع (سبحان وجهه) وهو الصواب، إذ المراد بيان التنزيه، وفي جميع النسخ (سبحات وجهه).
5 في (ب) و (ج) والمطبوع: الوجه.
6 في الأصل عند ابن الأثير في النهاية: (أدركه بصره).
7 النهاية لابن الأثير 2/332.
8 أخبر سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً}[لأعراف:143.
9 النهاية لابن الأثير 2/332.
10 وهذا ما تفيده الآثار المروية عن السلف، كما تقدم ذكر بعضها فيما نقلناه عن السيوطي في الهيئة السَّنيّة، وذلك في ص 335.
11 في (د): أحدهما. وهو خطأ والصواب ما أثبته، كما هو عند ابن الثير في النهاية.(1/480)
12 النهاية لابن الأثير 2/332، واللفظ عنده: (... لو دنونا من أحدها لأحرقنا سبحات وجه ربنا".وورد هذا الأثر في الهيئة السَّنيَّة للسيوطي ص5. وقد تقدم ذكره في ص335.(1/481)
ص -342- ... ومقتضى ما قال القرطبي في حديث أبي موسى (حجابه النور أو النار)1: وأن هذا حجاب منفصل عن نور الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريقة المتكلمين فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال ونعوت الجلال2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه ص334.
2 انظر مقتضى كلام القرطبي هذا في التذكرة بأحوال الموتى والآخرة ص590، حيث قال: (فيكشف الحجاب) فمعناه: فيرفع الموانع من الإدراك عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه). التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي (671هـ) تحقيق د.أحمد حجازي السقا، نشر مكتبة الكليات الأزهرية، طبعة مصر 1400هـ، 1980م، ج2/590.
وأما المسألة السادسة 3: عن قوله تعالى في قصة شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}4، وقال السائل. "وهم لم يدخلوا فيها فاعلم أنّ المسألة شاعت وذاعت واشتهرت وانتشرت، والخلاف فيها قديم بين أهل السنة والمعتزلة5، وبين أهل السنة بعضهم لبعض، والذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 وردت هذه المسألة في الدرر السنية 10/86-90.
4 سورة الأعراف الآية (88).
5 الخلاف المشار إليه هنا، الواقع بين أهل السنة والمعتزلة، هو معنى (العودة) لنبي الله شعيب عليه السلام وقومه إلى ملة الكفر، وهم لم يدخلوا فيها. أي كيف جاز القول بعودته إلى الكفر، وهو أصلاً لم يكن كافراً؟
فهذه المسألة مبنية على مسألة عصمة الأنبياء، فالجميع متفقون على أن الأنبياء معصومون من الكفر والذنوب والمعاصي بعد النبوة. ويختلفون في: هل يجوز كون النبي في ملة قومه وعلى مذهبهم قبل البعثة؟(1/482)
فمذهب أهل السنة والجماعة: هو ما ذكره الشيخ عبد اللطيف هنا، وساق عليه أقوال العلماء. وهو: أن علماء السنة يفرقون بين حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبين غيره من الأنبياء، فهو عليه الصلاة والسلام قد عصم قبل النبوة حيث يغض إليه ما كان عليه قومه من الشرك بالله تعالى. أما غيره من الأنبياء فإنه لا يستحيل كون أحدهم في ملّة قومه قبل النبوة، وأنه لا يلزم من ذلك كونهم عبدوا الأصنام، بل يظلون على السكوت وعدم التعرض لقومهم قبل النبوة. وعلى هذا يكون معنى العودة في الآية {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}: عود إلى ما كانوا عليه من السكوت وعدم التعرض لهم قبل البعثة. [انظر:تفسير القاسمي 7/2815 وعصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د.محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمان بمصر 1399هـ 1979م، ص66].
أما عند المعتزلة: فإن كون النبي في ملة الكفر قبل النبوة، أمر مستحيل وفاسد.
قال الزمخشري في الكشاف: (والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها، عن الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع، وكفا بالنبي نقيصة عند الكفار أن يسبق له الكفر) الكشاف للزمخشري 4/265. وعلى قول المعتزلة، يكون معنى العود في الآية {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} على أحد معنيين:
أولهما: أن يكون العود بمعنى الصيرورة، أي لتصيرنّ كفّاراً مثلنا، فيكون عود على معنى الابتداء.(1/483)
ثانيهما: أن يكون نسبة العود إلى النبي على التغليب، أي المراد عود قوم شعيب إلى ملتهم، فقد كانوا قبل إيمانهم كفاراً، فلما خوطبوا بالعود وفيهم شعيب، غلب الجماعة على الواحد، فجعلوا عائدين جميعاً، إجراءً للكلام على حكم التغليب. انظر المعنيين في: الكشاف للزمخشري 2/95-96، 370، تفسير النسفي، لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، دار إحياء الكتب العربية، الحلبي بمصر 2/257. عصمة الأنبياء للإمام فخر الدين الرازي (ت543) نشر المكتبة الإسلامية بحمص –سوريا، ص3، 43. عصمة الأنبياء للحديدي ص 66وقد أشار فخر الدين الرازي إلى مذهب المعتزلة هذا بقوله: (إنّ قولهم {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان على ملّتهم التي هي الكفر، فهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم كان كافراً قبل ذلك، وذلك في غاية الفساد). (التفسير الكبير للإمام فخر الدين الرازي ط/3، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، 14/177) وانظر أيضاً 19/100.(1/484)
ص -343- ... روى ابن أبي حاتم1 عن عطية2 عن ابن عباس3 كانت الرسل والمؤمنون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، أبو محمد بن أبي حاتم الحافظ، ولد عام (240هـ) له مصنفات منها: المسند، والجرح والتعديل وتفسير، والرد على الجهمية، وغيرهما (ت327هـ).
انظر تذكرة الحفاظ 3/829؛ طبقات السبكي 3/324؛ سير الأعلام 12/263.
2 عطيّة بن بقية بن الوليد الحمصي، مكثر عن والده، قال الذهبي: حدث عنه: أبو عوانة وابن أبي حاتم، وعبد الله بين أحمد بن حنبل وغيرهم. (ت256هـ).
انظر: سير الأعلام 12/521.
3 هو عبد الله بن عباس حبر الأمة، صحب النبي صلى الله عليه وسلم (ت68هـ). أسد الغابة 3/290، تذكرة الحفاظ 1/40.(1/485)
ص -344- ... تستضعفهم قومهم ويقهرونهم ويدعونهم إلى العودة إلى ملّتهم، فأبى الله لرسله والمؤمنين أن يعودوا في ملّتهم وفي ملّة الكفر، وأمرهم أن يتوكلوا عليه"1. وقد رواه السدي2 عن أشياخه، وتأوله عطية على أنه العود إلى السكوت3 كما كان الرسل قبل الرسالة؛ وأنهم كانوا أغفالاً قبلُ، أي لا علم بما جاءهم من عند اله، قال: وذلك عند الكفار عود في ملتهم.4
وهذا الذي رأيته منصوصاً عن أئمة السلف، وأما من بعدهم كابن الأنباري5 والزجاج6 وابن الجوزي7 والثعلبي8 والبغوي9، فهؤلاء يُؤَّوِّلون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الدر المنثور للسيوطي 4/72.
2 تقدمت ترجمته في ص251.
3 المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت546هـ).
4 انظر المحرر الوجيز 7/111، 10/71.
5 هو محمد بن القاسم بن بشار أبو بكر، ابن الأنباري المقرئ، الحافظ اللغوي، ولد عام (272هـ)، له تصانيف منها: كتاب الوقف والابتداء، وكتاب المشكل، وشرح المفضليات وغيرها. (ت304هـ).
انظر تاريخ بغداد 3/181؛ وتذكرة الحفاظ 3/842؛ وسير الأعلام 15/274.
6 إبراهيم بن محمد بن السري الزجاج، نحوي زمانه، أبو إسحاق البغدادي، صاحب كتاب "معاني القرآن" (ن311هـ).
انظر تاريخ بغداد 6/89؛ وسير الأعلام 14/360؛ ومعجم الأدباء 1/130.
7 هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، أبو الفرج القرشي البغدادي، الحافظ المفسر، صاحب المصنفات منها: زاد المسير، وجامع المسانيد، وتلبيس إبليس، وغيرها (597هـ).
انظر: تذكرة الحفاظ 4/1342، وسير الأعلام 21/365.
8 هو أحمد بن حيى بن يزيد الشيباني، أبو العباس، المحدث، إمام النحو، صاحب الفصيح، وتصانيف أخرى، (ت291هـ).
انظر تاريخ بغداد 5/204؛ وتذكرة الحفاظ 2/666؛ وسير الأعلام 14/5.(1/486)
9 هو الحسين بن مسعود بن محمد، أبو محمد البغوي، الشافعي المفسر، صاحب التصانيف، منها: شرح السنة، ومعالم التنزيل، والمصابيح وغيرها. (ت516هـ).
انظر: تذكرة الحفاظ 4/1259، وسير الأعلام 19/439، طبقات السبكي 7/75.(1/487)
ص -345- ... ذلك على معنى: لتصيرنّ ولتدخلنّ، وجعلوه بمعنى الابتداء1 لا بمعنى الرجوع إلى شيءٍ قد كان؛ وأنشدوا على ذلك ما اشتهر عنهم في تفاسيرهم كقول الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسنَّ مرَّة ... إليَّ لقد عادت لهنّ ذنوب2
وكقوله:
وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه ... يحور رماداً بعد ما كان ساطعاً3
وقول أُميَّة4:
تلك المكارم لا قعبان5 ... .......................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد فسره بذلك أيضاَ القرطبي في تفسيره 7/159، وقال الرازي: (العود في كلام العرب يستعمل كثيراً بمعنى الصيرورة، يقولون: عاد فلان يكلمني، عاد لفلان مال). مسائل الرازي من غرائب آي التنزيل، لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق إبراهيم عطوه عوض، مطبعة الحلبي بمصر، ط/1،1381 هـ،1961م، ص159. وانظر تفسير الخازن المسمى (لباب التأويل في معاني التنزيل) لعلاء الدين على بن محمد بن إبراهيم البغدادي، الشهير بالخازن (ت725هـ) وبهامشه تفسير البغوي ط/2، 1375هـ، 1955م، طبعة الحلبي 2/263.
2 البيت لكعب بن سعد الغنويّ، ضمن قصيدة قالها في رثاء أخيه. وهي من جمهرة أشعار العرب لأبي زيد محمد بن الخطاب القرشي (170هـ)، دار صادر بيروت، لبنان ص251. وورد البيت في أمالي المرتضى غرر الفوائد ودرر القلائد، للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي (355-436) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ط/1، 1373هـ -1954م؛ 1/375. وفيه: "وإن تكن" بدل "فإن"؛ و "فقد" بدل "لقد".
3 البيت للبيد بن أبي ربيعة، قاله يرثي أخاه أربد.
انظر ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار صادر، بيروت، ص88. وفيه:
وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه ... يحُور رماداً بعد إذ هو ساطع4(1/488)
أميّة بن عبد العزيز الصلت الداني الطبيب الشاعر الجاهلي المجوّد، صاحب الكتب ولد سنة (460 هـ)، سكن الإسكندرية. (ت528هـ). سير الأعلام 19/634، شذرات الذهب 4/83-85.
5 قعبان: تثنية قعب، وهو القدح الضخم،الغليظ، وقيل: قدح من خشب مقعّر. لسان العرب 1/683 مادة (قعب).(1/489)
ص -346- ... ............من لبن /شيبت/1 ... بماء /فعادت/2 بعد أبوالا3
وأمثال ذلك مما يدل على الابتداء4. وبعضهم أبقاه على معناه، وقال: هو التغليب، لأنّ قومهم كانوا في ملّة الكفر فغلب الجمع على الواحد.5
لكن تعب ذلك شيخ الإسلام /ابن تيمية/6 -رحمه الله تعالى- فقال: وأما التغليب فلا يأتي في سورة إبراهيم.7
وأما جعلها بمعنى الابتداء والصيرورة، فالذي في الآيات الكريمة، عود مقيد بالعود في ملّتهم؛ فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم "العائد في هبته كالعائد في قيئه"8........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخ (شيباً) والتصويب من الديوان.
2 في جميع النسخ (فعادا) والتصويب من الديوان.
3 البيت لأمية بن أبي الصلت، ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع وتحقيق ودراسة عبد الحفيظ السلطي، ط/2، 1977م ص459.
4 انظر: معاني القرآن وإعرابه، لأبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج (311هـ) تحقيق د.عبد الجليل عبد، عالم الكتب بيروت ط/ 1،1988م، 2/355. معاني القرآن لأبي جعفر النحاس (ت338هـ) تحقيق الشيخ محمد علي الصابوني، شركة مكة للطباعة، ط/1، 1409هـ، 1988م 3/54. الجواهر الحسان في تفسير القرآن، لعبد الرحمن الثعالبي تحقيق د. عمار الطالبي، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1985م، 2/48؛ تفسير البغوي 2/181؛ زاد المسير 3/231؛ التفسير الكبير للرازي 14/177، المحرر الوجيز لابن عطية 7/110؛ الكشاف للزمخشري 2/95.
5 زاد المسير 3/230، وتفسير أبي السعود 3/248، والكشاف للزمخشري 2/96. تفسير الخازن 2/262.
6 ساقط في (د).
7 مجموع الفتاوى 15/29. ويريد بما في سورة إبراهيم، قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ } [إبراهيم: 13].(1/490)
8 صحيح البخاري مع الفتح 5/277، الهبة، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته، صحيح مسلم بشرح النووي 11/72، الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة، سنن أبي داود 3/808، البيوع، باب الرجوع في الهبة، سنن النسائي 6/266، الهبة، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده، سنن ابن ماجة 2/52، الأحكام، باب الرجوع في الهبة.(1/491)
ص -347- ... وقوله: "... ومن /يكره/1 أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه".2 وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ}3 فالعود في مثل هذا الموضوع عود مقيد، صريح بالعود إلى أمر كان عليه الرسل وأتباعهم، لا يحتمل غير ذلك، ولا يقال إنّ العود في مثل هذا يكون عوداّ مبتدأ، وما ذكر من الشواهد أفعال مطلقة ليس فيها: /إن عاد لكذا/4 ولا عاد فيه. قال: ولهذا سُمِّي المرتدُّ عن الإسلام مرتداًَ /و إن كان عاد على الإسلام/5 ولم يكن كافراً عند عامة العلماء.
قال:وأما قولهم إن شعيباً و الرسل ما كانوا في ملتهم قط، وهي ملة الكفر؛ فهذا فيه نزاع مشهور، وبكل حال فهو خبر يحتاج إلى دليل عقلي، وليسس في أدلة الكتاب والسنة والإجماع ما يخبر بذلك. وأما العقل ففيه نزاع والذي تظاهر عليه أهل السنة أنه ليس في العقل ما يمنع ذلك.
وقال أبو بكر الخطيب البغدادي6: (وقال كثير منهم ومن أصحابنا وأهل الحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ –عدا المطبوع- زيادة لفظ (كان) في: (ومن كان يكره...) ولم أجده في جميع الروايات التي اطلعت عليها.
2 صحيح البخاري 1/19، الإيمان، باب من كره أن يعود في الكفر. ولفظه: (ثلاث من كان فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله، كما يكره أن يلقى في النار).
وصحيح مسلم بشرح النووي 2/373، الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهنّ وجد حلاوة الإيمان؛ مسند الإمام أحمد 3/103. قال النووي وابن حجر: إن العود هنا يحمل على معنى الصيرورة. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 2/373، وفتح الباري 1/79.
3 سورة المجادلة الآية (8).
4 كذا في (أ) و (ج). وفي (ب) و (د): (إذ عاد لكذا) وفي المطبوع: (أنه عاد لكذا).(1/492)
5 كذا في(أ) و(ج). وفي (ب) و(د): (و إن كان ولو كان على الإسلام).في المطبوع وفي(ج) و(د) (وان كان ولو على الإسلام)
6 هو أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي،أبو بكر،الإمام الحافظ المحدث،له تصانيف منها: تاريخ بغداد، شرف أصحاب الحديث وغيرهما،قيل يبلغ عددها (65) مصنفاً(ت463هـ)سير الأعلام 18/270 المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن النجار(643هـ)تحقيق قيصر أبو فرح،دار الكتب العلمية بيروت،وهو مطبوع مع الذيل،الجزء19/54-61.(1/493)
ص -348- ... إنه لا يمتنع بعثة من كان كافراً، أو مصيباً للكبائر قبل البعثة1.
قال: ولا شيء عندنا يمنع ذلك على ما تبين القول فيه. ثم ذكر الخطيب الخلاف في إصابته الذنوب بعد البعثة، وأطال الكلام ثم قال: (فصل في جواز بعثة من كان مصيباً للكفر والكبائر قبل الرسالة) قال: والذي يدل على ذلك أمور:
أحدها: أن إرسال الرسول وظهور الأعلام عليه، اقتضى ودل -لا محال- على إيمانه وصدقه وطهارة سريرته، وكمال علمه ومعرفته بالله؛ وأنه مُؤَدٍ عنه دون غيره، لأنه إنما يظهر الأعلام ليستدل به على صدقه فيما يدعيه من الرسالة.
فإذا كان بدلالة ظهورها عليه إلى هذه الحال من الطهارة والنزاهة، والإقلاع عما كان عليه، لا يمنع بعثته2، وإلزام توقيره وتعظيمه، وإن وجد منه ضد ذلك قبل الرسالة، وأطال الكلام.3
ثم قال شيخ الإسلام: تحقيق القول في ذلك (أن الله سبحانه إنما يصطفي لرسالته من كان خيار قومه)4، كما قال /الله تعالى/5: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}6 وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}7 وقال: من نشأ بين قوم مشركين جهال، لم يكن عليه نقص ولا غضاضة إذا كان على مثل دينهم، إذا كان عندهم معروفاً8 بالصدق والأمانة، وفِعْلِ ما يعرفون وجوبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر:منهاج السنة النبوية8/284.
2 في (ج) و(د): بعثة.
3 لم أجد مصدر كلام الخطيب هذا.
4 مجموع الفتاوى 15/30، التفسير الكبير لابن تيمية 4/315.
5 ساقط في (ج) و(د)
6 سورة الأنعام الآية (124).
7 سورة الحج الآية (75).
8 في (أ) و(ب): معروف.(1/494)
ص -349- ... واجتناب ما يعرفون قبحه؛ وقد قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}1 ولم يكن هؤلاء مستوجبين العذاب قبل الرسالة2.
وإذا كان لا هو ولا هم يعلمون ما أرسل به، وفرق بين من يرتكب ما يعلم قبحه، وبين من يفعل ما لا يعرف، فإن هذا الثاني لا يذمُّونه ولا يعيبونه عليه، ولا يكون ما فعله مما هم عليه منفراً عنه بخلاف الأول، ولهذا لم يكن في أنبياء بني إسرائيل من كان معروفاً بشرك، فإنهم نشئوا على شريعة التوراة، وإنما ذكر هذا فيمن كان قبلهم.
وأما ما ذكره سبحانه وتعالى في قصة شعيب والأنبياء، فليس في هذا ما ينفر أحد عن القبول منهم وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد جاهليته، وكان فيهم من كان محمود الطريقة قبل الإسلام، كأبي بكر الصديق، فإنه لم يزل معروفا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لم يكن فيه قبل الإسلام ما يعيبونه فيه، والجاهلية كانت مشتركة فيهم كلهم.
وقد تبيّن أنّ ما أخبر به عنهم قبل النبوّة في القرآن من أمر الأنبياء، ليس فيه ما ينفر /أحداً/3 عن تصديقهم، ولا يوجب طعن قومهم، ولهذا لم يذكر أحد من المشركين هذا، قادحاً في نبوته، ولو كانوا يرونه عيباً لعابوه، ولقالوا: كنتم أنتم أيضاً على الحالة المذمومة، ولو ذكروا للرسل هذا لقالوا: كنا كغيرنا لم نعرف ما أوحي إلينا؛ ولكنهم قالوا: إن أنتم إلاّ بشر مثلنا، فقالت الرسلُ: إن نحن إلاّ بشرٌ مثلكم، ولكن الله يمنُّ على من يشاء من عباده.
قال: وقد اتفقوا كلهم على جواز بعثة رسولٍ، لم يعرف ما جاءت به الرسل قبله من أمور النبوة والشرائع، ومن لم يقر بهذا الرسول بعد الرسالة فهو كافر، والرسل قبل الوحي قد كانت لا تعلم هذا، فضلاً عن أن تقرَّ به4. فعلم أن عدم العلم والإيمان لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء الآية (15).(1/495)
2 مجموع الفتاوى 15/30 بتصرف؛ التفسير الكبير لابن تيمية 4/315.
3 في (ج) و(د): أحد.
4 مجموع فتاوى ابن تيمية 15/30-31، التفسير الكبير لابن تيمية 4/315-316.(1/496)
ص -350- ... يقدح في نبوته، بل الله إذا نبّأهم علَّمهم ما لم يكونوا يعلمون.
قلت: وقوله: وقد اتفقوا كلّهم، يعني أهل السنة والمعتزلة.
ثم قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ1}2، [وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ3 أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}4. فجعل إنذارهم بعبادته وحده كإنذار يوم التلاق، وكلاهما عرفوه بالوحي5. واستدل على هذا بآيات، إلى أن قال: وقد تنازع الناس في نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة6، وفي معاني بعض هذه الآيات، في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}7وفي قوله:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين المعقوفتين كمّلته من المصحف، لضرورة ذكر محل الشاهد، كما شيذكره بعد.
2 سورة غافر الآية (15).
3 ما بين المعقوفتين زيادة في (ب) و (ج) والمطبوع. أما في (أ) و(د): قد جعل ناسخ كل منهما الآيتين (هذه والتي قبلها) كآية واحدة بدون هذا الجزء الساقط.
4 سورة النحل الآية (2).
5 إلى هنا انتهى ما نقله المصنف عن شيخ الإسلام، مما جاء في التفسير الكبير4/313-316،وفي مجموع الفتاوى15/30-31.
6 تنازعوا في مسألة: هل كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم متعبداً بدين قبل الوحي أو لا؟ قد تنازع الناس في هذه المسألة على أقوال: فمنهم من منع ذلك مطلقاً وأحاله عقلاً.
ومنهم من قال بأنه كان متعبداً بشرع من قبله. وهؤلاء اختلفوا في: شرع من كان متبعاً؟
1-فقال بعضهم: على دين عيسى.
2-وقال البعض: على دين موسى.
3- وقال آخرون: على دين إبراهيم.
وذهبت طائفة إلى التوقف في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين من غير تعيينه.(1/497)
انظر المسألة في: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي16/38.
7 سورة يوسف الآية(3). قال الطبري في معناه: (يقول تعالى ذكره: وإن كنت يا محمد من قبل أن نوحيه إليك، لمن الغافلين عن ذلك،لا تعلمه ولا شيئا" منه). جامع البيان للطبري12/150.(1/498)
ص -351- ... {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ}1، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}2وما تنازعوا في معنى آية الأعراف،وآية إبراهيم.
فقال قوم3 لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه4، ولا كان يأكل ذبائحهم. وهذا هو المنقول عن أحمد، قال: من زعم أنه على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب. ثم قال الشيخ: ولعلّ أحمد قال: أليس كان لا يعبد الأصنام فغلط الناقل عنه. فإن هذا قد جاء في الآثار أنه كان لا يعبد الأصنام5. وأما كونه لا يأكل من ذبائحهم، فهذا لا يعلم أنه جاء به أثر6، وأحمد من أعلم الناس بالآثار.
قال: والشرك حرم من حين أرسل الرسول، وأما تحريم ما ذبح على النصب، فإنه ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى الآية(52). واختلف في معنى هذه الآية؛ فقال جماعة: معنى الإيمان في هذه الآية: شرائع الإيمان ومعالمه. وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كان غافلا" عن هذه التفاصيل. وقيل غير ذلك. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي16/39.
2 سورة الضحى الآية(7).
قال النسفي-رحمه الله-في معنى الآية:(لا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في غيٍّ، فقد كان عليه الصلاة والسلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان).تفسير النسفي4/364.
وقال القرطبي: -رحمه الله-: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} أي: غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك). الجامع لأحكام القرآن 20/65.
3 هنا بداية القول الأول في مسألة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة على دين قومه، والتي تقدمت الإشارة إليها ص 242-243.
4 الكشاف للزمخشري 4/265.
5 ومما جاء في ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم "لما نشأت بُغِّضَت إليَّ الأوثان". ذكره القرطبي في تفسيره 16/38.(1/499)
6 أورد أبو نعيم في الدلائل، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب أكل ما ذبح لغير الله، فما ذقت شيئاً ذبح على النصب حتى أكرمني الله عز وجلّ بما أكرمني به من رسالته".
دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني (430هـ) مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، الدكن الهند، ط/3، 1397هـ -1977م ص146.(1/500)
ص -352- ... ذكر في سورة المائدة1 وقد ذكر في السور المكيّة، كالأنعام تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله2، وتحريم هذا إنما يعرف في القرآن، وتحريم هذا إنما يعرف في القرآن، وقبل القرآن لم يكن يعرف تحريم هذا، بخلاف الشرك. ثم ذكر الفرق بين ما /ذَبَحوا/3 لِلَّحم وبين ما ذبحوه للنصب /على/4 جهة القربة والأوثان؛ قال فهذا من جنس الشرك، لا يقال قطّ في شريعة بحلها. كما كانوا يتزوّجون المشركات أوّلاً.
قال: والقول الثاني: إطلاق القول بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه وفسِّر ذلك بما كان عليه من بقايا دين إبراهيم، لا بالموافقة لهم على شركهم5. وذكر أشياء مما كانوا عليه من بقايا الحنيفية كالحج والختان وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات.
قال الشيخ: وهؤلاء إن أرادوا أن هذا الجنس مختص بالحنفاء، لا يحج يهودي ولا نصراني، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فهو من لوازم الحنيفية، كما أنه لم يكن مسلماً إلاّ من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما قبل محمد /فكان بنو/6 إسرائيل على ملّة إبراهيم، /و/7 كان الحج مستحباً قبل محمد صلى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك في قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة: 3].
2 ذكر تحريم ما أهلّ لغير الله به في الأنعام، في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145].
وفي سورة النحل، قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:115].(2/1)
3 في (ب) والمطبوع: ذبحوه.
4 ساقط في (ب) و(ج) و(د).
5 وممن قال بذلك: الكلبي والسدّي. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/38، 20/67.
6 في جميع النسخ عدا المطبوع: فكانوا بني.
7 الواو ساقط في (د).(2/2)
ص -353- ... عليه وسلم1 لم يكن مفروضاً؛ ولهذا حج موسى ويونس وغيرهما من الأنبياء.
ثم قال: ولكن تحريم المحرمات ما يشاركهم فيه أهل الكتاب، والختان يشاركهم فيه اليهود. وأطال الرد والنقل عن ابن قتيبة2 /رحمه الله/3، وذكر كلام ابن عطية4 في قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}5 أنه أعانه وأقامه على غير الطريق التي كان عليها، هذا قول الحسن والضحاك6. قال: والضلال يختلف، فمنه القريب ومنه البعيد. وكونه الإنسان /واقفاً/7 لا يميّز بين المهيع8 /9/، ضلال قريب، لأنه لم يتمسك بطريقة10 ضالة، بل كان يرتاد وينظر11.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
2 هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبو محمد، صاحب التصانيف، ولد سنة (213هـ)، ونزل بغداد كان فاضلاً ثقة. من تصانيفه: غريب القرآن، غريب الحديث، مشكل القرآن، تأويل مختلف الحديث وغيرها، (ت276هـ).
انظر: تذكرة الحفاظ: 2/633؛ وسير الأعلام 13/296، والنجوم الزاهرة 3/75.
3 ساقط في (ب) و (ج) و(د) والمطبوع.
4 هو عبد الحق بن غالب (الحافظ أبي بكر) بن عطية المحاربي الغرناطي، أبو محمد، شيخ المفسرين، كان إماماً في الفقه والتفسير والعربية، ولد سنة (408هـ) (ت541هـ).
سير الأعلام 19/587-588. شجرة النور الزكية 1/129.
5 سورة الضحى الآية (7).
6 هو الضحاك بن قيس بن خالد، أبو أمية، من صغار الصحابة، وله أحاديث، خرّج له النسائي، قيل توفي في عهد مروان.
انظر: أسد الغابة 3/37؛ والاستيعاب 2/744، وسير الأعلام 3/241.
7 في جميع النسخ عدا المطبوع: واقفٌ.
8 المهْيَعُ: مَفْعَل من هاع يهيع، وهو الواضح والواسع، تقول: طريق مهيع، أي واسع بيّن، وبلد مهيع، أي واسع. والجمع: مهايع. لسان العرب 8/378-379 مادة: (هيع).
9 هنا بياض في جميع النسخ. ولعله تكملة للمقارنة: (... بين المهيع وبين غيره).
10 في (أ): بطريقة.
11 المحرر الوجيز لابن عطية 16/321-322.(2/3)
وقد فسّر ابن قتيبة الضلال في آية الضحى، بأنه الحيرة والعدول عن الحق والطريق. تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (ت276هـ) شرح السيد أحمد صقر، دار التراث القاهرة، ط/2، 1393هـ -1973م. ص457.(2/4)
ص -354- ... قال: والمنقول أنه عليه السلام كان قبل النبوّة يبغض عبادة الأصنام1، ولكن لم يكن ينهى عنها نهياً عاماً، وإنما كان ينهى خواصه. وساق ما رواه أبو يعلى الموصلي2 وفيه: "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وين الصفا والمروة، وكان3 عند الصفا والمروة صنمان من نحاس، أحدهما إساف /وألآخر/4 نائلة، وكان المشركون إذا طافوا تمسحون بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد /5: لا تمسحهما فإنهما رجس".
فقلت في نفسي: لأمسهما حتى أنظر ما يقول، فمسستهما، فقال: (يا زيد ألم /تُنْهَ/6)7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم ذكر الحديث الوارد في ذلك في هامش ص351، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "لما نشأت بُغِّضَت إِليَّ الأوثان".
2 هو أحمد بن علي بن المثنى بن يحيى التميمي، الإمام الحافظ أبو يعلى الموصلي، محدث الموصل وصاحب المسند والمعجم، ولد عام (210هـ) (ت307هـ). سير الأعلام 14/174، والنجوم الزاهرة 3/179.
3 في (ب) و(ج) و(د): وكانت.
4 في (أ): والأخرى.
5 ساقط في (ج). وزيد المقصود هنا هو: زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى، الأمير الشهيد، المسمى في سورة الأحزاب، أبو أسامة حبّ الرسول صلى الله عليه وسلم ومولاه. (8هـ) في مؤتة.
انظر: الاستيعاب 4/47؛ أسد الغابة 2/281؛ سير الأعلام 1/220.
6 في (أ) و(ب) و(ج) والمطبوع: (تنهه). وما أثبتُّه هو ما ورد في البداية والنهاية 2/267، وفي دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت458هـ) توثيق د.عبد المعطي قلعجي، دار الكتاب العلمية بيروت، ط/1، 1405هـ. 1985م، 2/34.(2/5)
7 مسند أبي يعلى الموصلي، للحافظ أحمد بن علي بن المثنى (307هـ)، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، بيروت، ط/1408هـ 1988م، 13/172. وأورده ابن كثير في البداية 2/267. وفي السيرة النبوية له أيضاً، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1976م، 1/357. وورد في: الرصيف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل والوصف، لمحمد بن محمد بن عبد الله العاقولي (ت797هـ)، مكتبة الفارابي دمشق، 1393هـ- 1973م 1/27-28.(2/6)
ص -355- ... وقال أبو عبد الله المقدسي1: (هذا حديث حسن له شاهد في الصحيح). والحديث معروف، وقد اختصره البيهقي2، وزاد فيه: قال زيد بن حارثة3:والذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنماً قط، حتى أكرمه الله بالذي أكرمه4.
وفي قصة بحيرى5 الراهب، حين حلف باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تسالنّ باللات والعزى، فهو الله ما أبغضت بغضهما شيئاً قطّ"6.
وكان الله قد نزّهه عن أعمال الجاهلية، فلم يكن يشهد مجامع لَهْوِهِم، وكان إذا همُّوا بشيءٍ من ذلك ضرب الله على أذنه فأنامه، وقد روى البيهقي وغيره في ذلك آثاراً 7 وكانت قريش يكشفون عوراتهم لشيل حجر ونحوه، فنزّهه الله عن ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي أبو عبد الله، الحافظ، الضياء المقدسي، ثم الدمشقي الحنبلي. له تصانيف منها: الأحاديث المختارة، فضائل الأعمال، صفة الجنة، وغيرهما (ت643هـ).
انظر ترجمته: تذكرة الحفاظ 4/1404، سير الأعلام 23/126.
2 هو أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، صاحب السنن الكبرى، ودلائل النبوة، (ت458هـ). انظر ترجمته: سير الأعلام 18/163-170، والطبقات الكبرى للسبكي 4/8-16.
3 ف (أ): (زيد بن حارث) وفي (ب) و(ج) و(د): (زيد بن ثابت) وقد قال ناسخ كل منهما بالهامش: لعله (زيد بن حارثة)، وهو الصواب، إذ إنّ زيد بن ثابت: مدني أنصاري، أسلم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهو حينئذ ابن إحدى عشر سنة، فلم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل البعثة.
4 دلائل النبوة للبيهقي 2/34، وذكره ابن كثير في البداية،2/267.
5 في جميع النسخ (بحير) واسمه جرجيس، كان حبراً من أحبار اليهود، قيل: كان من يهود تيماء، وقيل: إنه كان نصرانياً من عبد القيس.
انظر: البداية والنهاية 2/266، والإصابة لابن حجر 1/144.(2/7)
6 دلائل النبوة للبيهقي 2/28-35، والبداية والنهاية 2/264.
7 من ذلك: ما رواه البيهقي من حديث علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بشيءً مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلاّ ليلتين كلتاهما عصمني الله تعالى فيهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة –ونحن في رعاية غنم أهلنا- فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر فيها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، قال: فدخلتُ إذا أول دار من دور مكة، سمعت عزفاً بالغرابيل والمزامير، فقلت: ما هذا فقيل: فلانٌ فلانة، فجلست أنظره، وضرب الله تعالى على أذنيّ، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً. ثم أخبرته بالذي رأيت، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة، سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت، فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أُذنيّ، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء. ثم أخبرته الخبر، فو الله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء من ذلك، حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته".
دلائل النبوة للبيهقي 2/33-34، ودلائل النبوة لأبي نعيم ص143؛ والسيرة النبوية لابن كثير 1/252؛ والبداية والنهاية لابن كثير 2/267، وسبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد، لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (ت942هـ)، تحقيق د.مصطفى عبد الواحد، القاهرة، 1394هـ، 1974م، 2/199-200 قال: قال الحافظ ابن حجر: 0إسناده حسن متصل). وقال ابن كثير للحديث: (وهذا حديث غريب جداً، وقد يكون عن علي نفسه، وهو قوله في آخره "حتى أكرمني الله عز وجل بنبوته" مقحماً، والله أعلم). البداية والنهاية 2/267.(2/8)
ص -356- ... كما في الصحيين من قول جابر.1
وفي مسند أحمد زيادة: (فنودي: لا تكشف عورتك، فألقى الحجر ولبس ثوبه)2. وكانوا يسمونه: الصادق الأمين3. وكان الله عز وجل قد صانه عن قبائحهم، ولم يعرف منه قط كذبة ولا خيانة ولا فاحشة ولا ظلم قبل النبوة4، بل شهد مع عمومته حِلفَ المطيبين5 على نصر المظلومين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الصحيحين عن جابر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة، وعليه إزاره، فقال له العباس (عمه) يابن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة. قال: فحلّه، فجعله على منكبيه فسقط مغشياً عليه، فما رؤي بعد ذلك عرياناً صلى الله عليه وسلم، صحيح البخاري مع الفتح 1/565، الصلاة باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، صحيح مسلم بشرح النووي 4/274، باب الاعتناء بحفظ العورة.
2 مسند الإمام أحمد 5/454.
3 البداية والنهاية لابن كثير2/266.
4 انظر: دلائل النبوة 2/30-41. والرصف للعاقولي 1/25.
5 حلف المطيبين: هو ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شهوده إياه، وثنائه عليه في قوله: "شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أنّ لي حمر النعم وأني أنكثه" أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/190-193 والحاكم في المستدرك 2/219-220 وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/524 وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/367.(2/9)
وكان هذا الحلف بين بني هاشم وبني أميّة، وبني زهرة وبني مخزوم، وكان في دار عبد الله بن جدعان، وهو تحالف على التناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، ورد الفضول على أهلها، وقد سمي الحلف بحلف الفضول، وإنما ورد في الحديث باسم حلف المطيبين، لأن العشائر التي عَقَدت حلف المطيبين، هي التي عَقَدت حلف الفضول، وحلف المطيبين جرى قديماً بعد وفاة قصي، وتنازع بني عبد مناف مع بني عبد الدار على ارفادة والسقاية بمكة، وقيل لهم مطيبين: لأنهم غمسوا أيدهم في طيب يوم تحالفوا.
البيهقي في السنن الكبرى 6/366-367. السيرة النبوية لابن هشام 1/130-132. البداية والنهاية 2/270. وانظر تفاصيل حلف المطيبين في: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي، نشر دار العلم للملايين، بيروت، ومكتبة النهضة ببغداد، ط/3، 1980م، 4/62-63، وسيرة ابن كثير 1/258.(2/10)
ص -357- ... وأما الإقرار بالصانع وعبادته، والإقرار بأن السماوات والأرض مخلوقة له، محدثة بعد أن لم تكن، وأنه لا خالق غيره، فهذا كان عامتهم يعرفونه ويقرون به1، فكيف لا يعرفه هو ولا يقر به وذكر الشيخ بعض علامات النبوّة، وتغيّر العالم بمولده، ثم قال: لكن هذا لا يجب /أنه/2 يكون مثله لكل نبي، فإنه أفضل الأنبياء، وهو سيد ولد آدم3، والله سبحانه إذا أهّلَ /عبداً/4 لأعلى المنازل والمراتب، ربّاه على قدر تلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا ما حكاه عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61].
2 في المطبوع: أن.
3 جاء في ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأوّل مشفَّع". صحيح مسلم بشرح النووي 15/42-43. الفضائل، باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق، سنن أبي داود 5/54، السنة، باب التخيير بين الأنبياء.
4 في (د): عبدٌ.(2/11)
ص -358- ... المرتبة، فلا يلزم إذا عصم نبياً، أن يكون معصوماً قبل النبوة من كبائر الإثم والفواحش، صغيرها وكبيرها، ولا يكون كل نبي كذلك. ولا يلزم إذا كان الله بغّض إليه شرك قومه قبل النبوة، أن يكون كل نبي كذلك، كما عُرف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم، وفضائله لا تناقض ما روي من أخبار غيره، إذا كان كذلك، ولا يمتنع كونه نبياً، لأن الله تعالى فضّل بعض النبيين على بعض1 كما فضّلهم بالشرائع والكتب والأمم، وهذا أصل يجب اعتباره.
وقد أخبر الله أن لوطاً كان من أمة إبراهيم، وممن آمن له2 وأن الله أرسله.
والرسول الذي نشأ بين أهل الكفر الذين لا نبوة لهم، ثم يبعثه الله فيهم يكون أكمل وأعظم ممن كان من قوم لا يعرفونه، فإنه يكون بتأييد الله له أعظم من جهة تأييده بالعلم والهدى، ومن جهة تأييده بالنصر والقهر3.
قلت: وبهذا يظهر اختلاف درجات الأنبياء والرسل، وعدم الاحتياج إلى التكليف في الجواب عن مثل آية إبراهيم4 ونحوها، وإن قصارى ما يقال في مثل قوله /تعالى/5 لنبينا: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى}6 وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ}7..............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال تعالى في تفضيل بعض الأنبياء على بعض: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [البقرة: 253].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [الإسراء: 55].
2 قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 16-26](2/12)
3 إلى هنا ما نقله المصنف عن شيخ الإسلام رحمه الله.
4 وهو قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13].
5 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
6 سورة الضحى الآية (7).
7 سورة الشورى الآية (52).(2/13)
ص -359- ... /هو/1 عدم العلم بما جاء /به/2 من النبوة والرسالة، وتفاصيل ما تضمن ذلك من الأحكام الشرعية والأصولية الإيمانية، وهذا غاية ما تيسّر لنا في هذا المقام الضنك، الذي أحجم عنه فحول الرجال، وأهل الفضائل والكمال، ونستغفر الله من التجاسر والوثوب على الكلام في مثل هذا المبحث3 الذي زلّت فيه أقدام وضلّت فيه أفهام، واضطربت فيه أقوال الأئمة الأعلام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ج) و(د): و. وهو ساقط في (ب).
2 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
3 في (د): البحث.(2/14)
ص -360- ... (الرِّسَالَةُ الرابعَةُ عَشَرَةِ)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون، نزيل عمان، وسبب ذلك: أوراق ألقيت إلى حضرة الشيخ الإمام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ عبد اللطيف -رحمه الله- حاصلها التلبيس والتشويش على عوام المسلمين. فأجابه -رحمه الله تعالى- بما كشف عن قناع هذه الشبهة الباطلة، /والتمويهات التي هي عن الصراط السوي مائلة/2 مع أنَّ صاحبها من الجهلة الطغام، ومن جملة سائمة الأنعام.3 وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهَّم، أو نافق، أو ارتدَّ، من أهل دهره، وعصره؛ سلام عليكم ورحمة الله،و بركاته.
وبعد:
فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو على ما منّ به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه.
والخط وصل، وصلك الله ما يرضيه، وسرّنا سلامتكم وعاقيتكم.
وما ذكرت صار معلوماً، والواجب على المكلفين، في كل زمان ومكان، الأخذ بما صح وثبت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 179-183. وررد هذه الرسالة في الدرر السنية 3/322-326.
2 زائد في جميع النسخ.
3 وصف جامع الكتاب صاحبَ الأوراق بذلك، لأن أهل الضلال كالأنعام، بل هم أضلّ، كما وصفهم اتلله بذلك في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].(2/15)
ص -361- ... ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه، فعليه بما كان عليه السلف الصالح، والصدر الأول، فإن لم يدر شيئاً من ذلك، وصح عنده عن أحد من الأئمة الأربعة المقلَّدين، الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغٌ حينئذٍ.
فإن كان المكلَّف أنزل قدراً، وأقل علماً، وأنقص فهماً، من أن يعرف شيئاً من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصاً من عُرِف بمتابعة السًنَّة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع؛ فهؤلاء أحرى الناس، وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم؛ فاعرف هذا، فإنه مهم جداً.
ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين، ليُلبِّس ويُشَوِّش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم /يعط/1، من معرفة الإيمان والدين.
وبالوقوف على أوراقهم، يَعرف المؤمن حقيقة حالهم، وبعيد ضلالهم، وكثافة أفهامهم؛ وأنّهم ملبوس عليهم، لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوّروه، فضلاً عن أن يدينوا به ويلتزموه. وأسئلتهم وقعت لا لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك، والتمويه، والتحلي بالرسم، والوهم.
ومن السنن المأثورة، عن سلف الأمة وأئمتها، وعن إمام السنة أبي عبد الله، أحمد ابن محمد بن حنبل -قدس الله روحه- التشديد في هجرهم، وإهمالهم، وترك جدالهم، وإطراح كلامهم، والتباعد عنهم /حسب/2 الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم، وذمهم، وعيبهم. وقد ذكر الأئمة من ذلك، جملة في كتب السنة، مثل: كتاب السنة لعبد الله3 بن الإمام أحمد والسنة للخلاّل4،.......................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): يعطى.
2في (د): بحسب.
3 عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، الإمام الحافظ، محدث بغداد، أبو عبد الرحمن، روى عن أبيه شيئاً كثيراً من جملته: المسند والزهد. وله كتاب السنة وغيره (ت290هـ).(2/16)
تاريخ بغداد 9/375، سير الأعلام 13/516، تهذيب التهذيب 5/141.
4 هو أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد، أبو بكر الخلال البغدادي، شيخ الحنابلة، صاحب كتاب "الجامع في الفقه" و "العلل" و"السنة"، وغيرها (ت311هـ).
تاريخ بغداد 5/112، سير الأعلام 14/297.(2/17)
ص -362- ... والسنة لأبي بكر الأثرم1، والسنة لأبي القاسم اللالكائي2، وأمثالهم.
فالواجب:نهي أهل الإسلام، عن سماع كلامهم، ومجادلتهم؛ لاسيما وقد اقفرَّ ربعُ العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه.
قال في الكافية الشافية -/رحمه الله تعالى/3 -:
فانظر ترى لكن نرى لك تركها ... حذراً عليك مصائد الشيطان
فشباكها والله لم يعلق بها ... من ذي جناح قاصر الطيران
إلا رأيت الطير في /شبك/4 الردى ... يبكي له نوحٌ على الأغصان5
وإذا عُرِف هذا، فأحد الورقتين، المشار إليهما، ابتدأها الملحد الجاهل، بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته.
وهو قوله: الرؤية الثابتة، عند أهل السنة والجماعة في الجنة6، هل هي بصفات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد بن محمد بن هانئ، أبو بكر الأثرم الطائي، الإمام الحافظ، تلميذ الإمام أحمد، صاحب "السنن"، توفي في حدود الستين ومائتين، تذكرة الحفاظ 2/570-572،سير الأعلام 12/623، تهذيب التهذيب 1/78.
2 هبة الله بن الحسن بن منصور، الطبري الرازي، الشافعي للالكائي، الإمام الحافظ أبو القاسم، له كتاب في السنن، وفي معرفة أسماء من في الصحيحين وغيرهما. (ت 418هـ).
تاريخ بغداد 14/70، سير الأعلام17/419.
3 زائدة في (د).
4 في أصل القصيدة: (في قفص).
5 الكافية الشافية 2/72.
6 وهو معتقد أهل السنة والجماعة، في الرؤية. وهو أن الله تبارك وتعالى يكرم عباده المؤمنين بالنظر إلى وجهه الكريم، بعد دخولهم الجنة، كما تواترت النصوص بذلك. قال تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22،23]. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم.
[جامع البيان 11/104،29/193؛ الجامع لأحكام القرآن 8/210-211].(2/18)
وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: (إنّكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته) [صحيح البخاري مع الفتح 2/40 كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر؛ وفي 13/429، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}. صحيح مسلم بشرح النووي 5/138-139، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
انظر تفاصيل المسألة في: شرح العقيدة الطحاوية ص207-220. الاقتصاد في الاعتقاد، لعبد الغني المقدسي ص225. وشرح صحيح مسلم للنووي 5/139-140. وفتح الباري 13/429-431. والحجة في بيان المحجة 2/246-251. ومجموع الفتاوى 16/85-86، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/70.(2/19)
ص -363- ... الجلال، أو الجمال، أو الكمال؟!
ولم يشعر هذا الجاهل الضال، أنّ الرُّؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف، يليق بعظمته، وإلهيّته، وربوبيّته، من جلال، وجمال، وكمال؛ وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك، والمجد، والسلطان، والعزة. والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك، والكمال /حاصل بكل/1 صفة من صفاته العُلى، فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد، والعزة والسلطان التي لا تُضاهى ولا تماثل؛ فهذه أوصاف ذاتية، لا تنفك عنه في حال من الأحوال، وإنما يقال: تجلّى بالجلال، والمجد، والعزة، والسلطان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات؛ كما يقال: تجلّى بالرحمة، والكرم، والعفو، والإحسان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم؛ ويستحيل أن يرى تعالى، وقد تخلف عن صفة جلال و جمال و كمال.
ولو وقف هذا الغبي، على ما جاء في الكتاب والسنة، من إثبات الرؤية، وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك، إلى تخليط، صَدَرَ عن من لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه شيءٌ من عظمة الربّ الكبير الجليل، لكان أقرب إلى إيمانه، وإسلامه.
وأما قوله: وما الفرق ين صفات المعاني، والمعنوية2؟
فهذه الكلمة، لو فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدلّ أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ المخطوطة (حاصلة لكل)
2 صفات المعاني: هو ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، وهذه الصفات سبعة: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام فهذه السبعة هي التي تسميها الأشاعرة صفات المعاني.
أما الصفات المعنوية: هي الأحكام الثابنة للموصوف بها معللة بعلل قائمة بالموصوف وهي كونه عليما قديرا مريدا سميعا بصيرا متكلما. وهي واسطة ثبوتية لا موجودة ولا معدومة.(2/20)
ص -364- ... من صفات الله ما هو من المعاني، وما هو من الصفات المعنوية؛ وهذا التقسيم: يطالب به الأشعرية1، والكرامية2، ونحوهم؛ فلسنا منهم في شيء.
والعلم: آية محكمة؛ أو فريضة عادلة؛ أو /سنة متبعة/3؛ هكذا سبيله، /وما سوى ذلك/4 فالواجب: إطراحه وتركه؛ والعلم كل العلم، في الوقوف /مع ألفاظ الرسول/5، وترك ما أحدثه الناس، من /العبارات/6 المبتدعة.
ومن الأصول المعتبرة، والقواعد المقررة، عند أهل السنة والجماعة، أن الله تعالى، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلَّفون علمَ ما لم يصف الربّ تبارك وتعالى /به نفسه/7، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله أكبر، وأجل، وأعظم، في صدور أوليائه وعباده المؤمنين، من أن يتكلّموا في صفاته، بمجرّد /آرائهم/8، واصطلاحاتهم، وعبارات متكلّميهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم التعريف بهم في ص 57.
2 قول المصنف هنا (هذا التقسيم يطالب بها الأشعرية والكرامية) يظهر أنه وهم من الناسخ، والصواب (الأشعرية الكلابية)، لأن هذا التقسيم أحدثه الأشاعرة، أما الكرامية فلا تقول به.
والكرامية: طائفة من أهل الكلام، أصحاب أبي عبد الله محمد بن كراّم المتوفي سنة (255هـ).
انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 215-225، والملل والنحل للشهرستاني 1/108-113.
3 في (د): سنة قائمة متبعة).
4 ساقط في (ب) و(ج) و(د)، وفي المطبوع: (... متبعة، وما سوى ذلك هكذا سبيله).
5 بياض في (ب) و(د)، وفي المطبوع: (مع السنة).
6 في (ج) و(د) والمطبوع: العبادات، والمثبت هو الصواب، لأن الشيخ في صدد ردّ ألفاظ صاحب الأوراق في الفرق بين (صفات المعاني والمعنوية).
7 في جميع النسخ: من نفسه.
8 في (د): رأيهم.(2/21)
ص -365- ... وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟
فهذه عبارة نبطيّة1 أعجمية، لأنه /إنْ/2 أريد بالإضافة، إضافة الدال /على المدلول/3، فكل صفاته تعالى، لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفكّ /عن هذا/4، لو كانوا يعلمون.
وإن أريد بالإضافة، إضافة الصفة للموصوف، أي المعاني الموصوفة، فالمعاني الموصوفة، منها صفات أفعال، وصفات ذات.
و أما قوله: وما الاعتبارات الأربع؟
فهذه كلمة ملحونة، أعجمية؛ والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع؛ والحكم معروف في باب العدد5؛ وأما معناها، فهو إلى الألغاز، والأحاجي، أقرب منه إلى الكشف، والإيضاح في السؤال؛ فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة، من جهة لفظه، وإفراده، وجمعه، وتصحيحه؛ وكسر، وضربه، وطرحه؛ وتجري الاعتبارات الأربعة، فما فوق في أبواب الفقه، من كتب الفروع، من كتاب الطهارة، إلى أبواب العتق، والإِقرار.
وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها، باختلاف عباراتها، وكذلك المقدّمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنيّة، والضروريات الحسيّة، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب، ودرجات، يطلق عليها لفظ الاعتبارات.
وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟
عبارة ملحونة أعجمية، فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان، والأذهان، واللسان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النبطيّة: نسبة إلى الأنباط،جمع نبط، وهم قوم ينزلون سواد العراق، يقال رجل نبطيٌّ ونَبَاط، وعبارة نبطيّة. الصحاح للجوهري 3/1162، لسان العرب 7/411، مادة (نبط).
2 ساقط في (د).
3 بياض في (ب).
4 بياض في (ب).
5 وهو أن العدد من [3 إلى 10] يخالف المعدود تذكيراً وتأنيثاً وإذا كان المعدود جميعاً، ينظر إلى مفرده، فالمعدود هنا جمع اعتبار، وهو لفظ مذكر، فيُؤْنَّث وصفه، وفيه قال ابن مالك:
[ثلاثة بالتاء قل للعشرة * في عدّ ما آحاده مذكرة. في الضدد جرِّد...] انظر شرح ابن عقيل: 2/345.(2/22)
ص -366- ... والبنان1.
وقد يراد بها غير ذلك، من مراتب وجود العلم2، أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم، باعتبار إدخال الإِلهام في مسمى الوحي3.
وكذلك الجهل، له مراتب أربع، فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكلاً منهما، إما في السمعيات، أو العقليات؛ وكذلك الأخبار قطعية وظنية.
وبالجملة: فالاِعتبارات الأربعة، والوجود، ونحو ذلك، تقع على كل ما تناله العبارة، ويصدق عليه اللفظ في أي فن، وأي حكم، فإن قال: المراد بالاعتبارات، والوجود، باعتبار صفاته تعالى، قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود، يختلف باختلاف المقاصد، والإِصطلاح؛ وليس في كلام السلف، ما يجيز الخوض، في اصطلاحات المتكلمين، والأشاعرة.
وأما الفرق: بين الدليل، والبرهان:
فالدليل: في اصطلاح الأصوليين، والفقهاء، ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته؛ والبرهان: ذكر الحجة بدليلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: الوجود الأربعة: من مصطلحات المتكلمين، فهم قد جعلوا لكل شيءٍ أربع وجودات، هي:
أ - وجود عيني: وهو كل موجود في الأعيان، أي وجود الموجودات في أنفسها.
ب - وجود علمي: وهو كل موجود في الأذهان، أي العلم بالموجودات التي في القلوب.
ت - وجود لفظي: وهو كل موجود في اللسان، أي التعبير عن تلك الموجودات.
ث - وجود رسمي: وهو كل موجود بالرسم بالبنان.أي كتابة ذلك، هو الوجود البناني.
انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام 12/112.
2 مراتب وجود العلم ثلاث: (1) علم بالجنان، (2) عبارة باللسان. (3) خط بالبنان. مجموع الفتاوى 12/111-112.
3 وذلك كما هو كلام المفسرين في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] قالوا الوحي هنا بمعنى الإلهام.
انظر جامع البيان للطبري 14/139، والجامع لأحكام القرآن 10/88، وتفسير ابن كثير 2/596.(2/23)
ص -367- ... وأما الفرق بين العهد والميثاق:
فهو اعتباري، والمفهوم واحد1، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ}2 وقال تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}4 وقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ}5 وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}6 وطالع عبارات المفسرين7.
وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها، إذ لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}8، وكل رسولٍ يؤخذ عليه، وعلى قومه العهد؛ فكيف يسأل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب؛ نعم: ما ذكر في القرآن، من أخذ العهد على الأنبياء، وعلى الأمم، كبني إسرائيل، وعلى بني آدم كافة، كما في آية يَس، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف محصور.
وأما قوله: وما العهود التي عاهدها معهم؟
فهذه عبارة: أعجمية، جاهلية؛ فالله عهد إليهم، ولم /يعاهدهم/9 هو، بل هم
ــــــــــــــــــــــــ
1 قال الجرجاني: العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، هذا أصله، ثم استعمل في الموثق الذي تلزم مراعاته، التعريفات للجرجاني ص204.
2 سورة البقرة الآية (83).
3 سورة المائدة الآية (70). في (ب) و(ج): (ولقد أخذ الله)، وفي (د): (وإذ أخذنا) والصواب ما أثبته.
4 سورة يَس الآية (60).
5 سورة النحل الآية (91).
6 سورة آل عمران الآية (81).
7 قال القرطبي –رحمه الله-: الميثاق: العهد المؤكد باليمين، مِفْعال من الوثاقة والمعاهدة، وهي الشدّة، في العقد والربط نحوه. الجامع لأحكام القرآن 1/181.
8 سورة النساء الآية (164).
9 كذا في (أ)، وفي بقية النسخ: يعاهد.(2/24)
ص -368- ... عاهدوه، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه}1، ولم يقل عاهدهم الله أبداً، فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم /يعاهدهم/2 هو؛ فاعرف جهل السائل، وعجميّته.
وأما قوله: وكم من تعلقات للقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؟
فاللفظ: أعوج، ملحون،لا تأتي: (من) بعد (كم) الاستفهامية أبداً؛ والرجل غلبت عليه العجمة في الفهم،والتعبير.
فإن أريد بالتعليق، كون الأشياء، بالقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؛ فأي فرد من أفراد الكائنات، يخرج عن هذا؟ ولا يتعلق به؟!.
وأما قوله: وما علة نفي الحروف السبعة، من فاتحة الكتاب3؟
فهذا: عدم، لا نفي، والعدم لا يعلل؛ فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء، من سورة الإخلاص مثلاً، أو من بسم الله الرحمن الرحيم؟ لأن المعنى المراد، حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة، والعدم لا يعلّل، وإن عُلّل، فعلَّته عدمية.
والسائل رأى كلمات مسطورة، فظنّها داخلة في مسمَّى العلّة، وإنما هي: جهالات، /وضلالات/4، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.5
آخر ما /وجد/6 من هذه الرسالة، /والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آمين/7.
ــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة الآية (75).
2 كذا في (أ) والمطبوع، وفي بقية النسخ: يعاهد.
3 يريد الحروف التي لم ترد في سورة الفاتحة، وهي [ث ج خ ز ش ظ ف]، وهذه الحروف على الرغم من عدم وجودها في سورة الفاتحة، فليس ثمّ كبير فائدة في معرفتها وعدمها، كما أن السورة مكتملة بدونها، فلا داعي في البحث عن سبب عدم ورودها.
4 في (د) و المطبوع: وخيالات.
5 هذا اقتباس من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39].(2/25)
6 في (د): وجدنا، والجملة من قوله: آخر ما وجد...إلخ، من كلام جامع الرسائل.
7 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.(2/26)
ص -369- ... (الرِّسَالَةُ الخَامِسَةُ عَشَرَةِ) 1
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً -قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى صالح بن محمد الشثري2 جواباً على سؤاله عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟
فأجابه رحمه الله تعالى بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم صالح بن محمد الشثري،-سدده الله فيما يعيد ويبدي- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله، الذي لا إلَه إلا هو، على سوابغ نعمه،والخط وصل –وصلك الله ما يرضيه، وتقبل دعوتك، وتجاوز عن سيئاتي وسيئاتك،- وسرنا بالإخبار عن عافيتك وسلامتك، ونهنئك بما هنأتنا به، جعلنا الله وإياك، من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومنّ علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين3، اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات.
وتسأل –رحمك الله- عن تفسير السبحات بالنور4، هل هو من التأويل المردود، أو لا؟ فلا يخفاك أنّ التأويل بالمعنى الأعم، يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمعٌ من أهل الإِثبات؛ وأما التأويل بالمعنى الأخص، عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس؛ لأنهم أولوا النور الذي هو اسمه وصفته، بما يرجع إلى فعله وخلقه5؛ وليس
ــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 183-184. ورردت هذه الرسالة في الدرر السنية 3/326-327.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ ص 89.
3 يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ". صحيح البخاري مع الفتح 11/233، الرقاق، باب ما جاء في الرقاق.
4 تقدم تفسير السبحات بهذا المعنى في ص 334،341.
5 إن طريقة الجهمية في الصفات هي: التأويل المفضي إلى تعطيلها جميعاً. فهم ينفون عن(2/27)
ص -370- ... هذا1 منه؛ وقد فسرت السّبحات بالعظم، لأن أصل السبحة، من التنزيه والتقديس؛ وفسّرت: بضوء الوجه المقدّس؛ وفسرت بمحاسينه، لأن من رأى الشيء الحسن، والوجه الحسن، سبَّح باريه وخالقه؛ وقيل هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التزيه. وقيل سبحات وجهه في الحديث2، جملة معترضة. يريد قائل هذا إسناد الفعل إلى الوجه المنزه، حكاه ابن الأثير؛ وقال: الأقرب أن المعنى، لو انكشف من أنواره التي تحجب العباد شيءٌ، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خرَّ موسى صعقا، وتقطَّع الجبل، لمّا تجلَّى سبحانه وتعالى3؛ وهذا لا يبعد، إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي.
وبلّغ سلامنا الشيخ عبد الملك4، والأخ حمد وعيالكم، ولا تنسانا من صالح الدعاء في هذه الليال المباركات. والعيال بخير وينهون السلام. /وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين/.5
ــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله جميع الصفات، باعتبار قيامها بالذات، فيقولون: إن الله لا يقوم به شيء من الصفات لا حياة ولا علم ولا قدرة، فعندهم أن الله لا يقوم به وصف ولا فعل، فقد فصلوا بين ذات الله وصفاته في الوجود العياني؛ حيث قالوا بإثبات ذات مجردة عن الصفات، وصفات مجردة عن الذات، فيقولون مثلاً في صفة الكلام: إن الله لا يتكلم بكلام يقوم بذاته، وإن كلامه مخلوق، خلقه كما خلق السماوات والأرض خارجاً عن ذاته. وكذلك معنى النزول والاستواء، وغير ذلك: أفعال يفعلها الرب في المخلوقات خارجاً عن ذاته.
[مجموع الفتاوى 5/1-4 وقد تقدم ذكر أهم معتقداتهم في ص 299.
أما بالنسبة للأشاعرة والماتريدية: فهم فيما ينفون من الصفات، منهم من يرجع ذلك إلى كونها أفعال محضة في المخلوقات، مثل قولهم في الاستواء: إنه فعل يفعله الرب في العرش بمعنى أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم بالله فعل اختياري.(2/28)
1 أي تأويل السبحات بالنور، لا يدخل في تأويل الجهمية.
2 هو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى: "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" [تقدم تخريجه في ص 334].
3 النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير 2/332، نقله الشيخ بتصرف.
4 لم أقف على ترجمته فيما اطلعت.
5 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.(2/29)
ص -371- ... (الرِّسَالَةُ السَادِِسَةُ عَشَرَةِ)1
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً /-قدس الله روحه ونوّر ضريحه-/2 رسالة، جواباً لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري.
الأولى: فيمن آمن بلفظ الاستواء ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه /هو/3 الاستيلاء.
الثانية: عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة.
الثالثة: عن الفطرة عن صوم رمضان.
الرابعة: عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلَّما أراد تلاوة القرآن.
الخامسة: عن الرجل الذي يخالط أهل بلدته ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوا إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش.
السادسة: البداءة بالسلام على الكافر.
فأجاب /-رحمه الله-/4 بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن راشد الجابري –سلّمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 184-191. وررد هذه الرسالة في الدرر السنية 3/327-332.
2 في (د): رحمه الله تعالى وعفى عنه.
3 ضمير الغائب ساقط في (ب) و(د).
4 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.(2/30)
ص -372- ... فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير. والسؤالات وصلت.
فأما السؤال الأول: فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه الاستيلاء:
فهذا جهميّ1 معطّلٌ، ضالٌ، مخالفٌ لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ وهذا القول هو المعروف عند السلف، عن جهم وشيعته الجهمية؛ فإنهم لم يصرحوا بردّ ألفاظ القرآن، كالاستواء، وغيره، من الصفات؛ وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد.
وقولهم هذا، لا يعرف في المسلمين، إلاّ عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم؛ وكان الجعد قد سكن حرّان، مخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفِّرة، ما أنكره عليه كافة أهل الإِسلام، وكفَّروه بذلك، حتى إنّ خالد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو قول الجهمية والأشاعرة والماتريدية في الاستواء، يفسّرونه بالاستيلاء والملك والقهر والغلبة.
ويستشهدون على هذا المعنى، بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ولا دم مهراق
وقد أبطل العلماء هذا التأويل، ورد شيخ الإسلام بن تيمية –رحمه الله تعالى- على استدلالهم بهذا البيت، فنفى كون الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقال: (لم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا: إنه بيت مصنوع، لا يعرف في اللغة، وقد علم لو أنه احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده، وقد طعن فيه أئمة اللغة). مجموع الفتاوى 5/146.(2/31)
وانظر في الرد على هذا التأويل: الرد على الجهمية للدارمي ص14، الرد على الجهمية لابن مندة ص19، الرد على الجهمية للإمام أحمد بن حنبل ص15، كتاب الأسماء والصفات لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ)، تحقيق عبد القادر عطا دار الكتب العلمية بيروت، ط/1، 1408هـ -1988م، 2/76. الكافية الشافية 1/442، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم 1/88.
وقد أبطل الإمام ابن القيم هذا التأويل في مواضع كثيرة. وفي كتابه (الصواعق المرسلة) بيّن بطلانه من (42) وجها.(2/32)
ص -373- ... ابن عبد الله القسري -أمير واسط في خلافة بني أمية- قتل الجعد، وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: (أيُّها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإنِّي مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلّم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً) ثم نزل فذبحه1، وشكره على هذا الفعل، وصوّبه أهل السنة.
وإنما قال الجعد هذه المقالة، لاعتقاده أن الخلّة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك، من الصفات، لا تكون إلاّ من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله تعالى، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته، ثم أخذوا في نفيها، وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإِلحاد في أسمائه، ولو عرفوا أنّ ما يثبت لله من الصفات، لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب عظمة الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات،فكذلك نثبت له صفات، لا تشبه صفات المخلوقات2؛ لو عرفوا هذا، لسلموا من التعطيل.
وعلى قولهم، ومذهبهم الخبيث: لا يعبدون رباً موصوفاً بصفات الكمال،وصفات العظمة والجلال؛ وإنما يعبدون ذاتاً موصوفاً مجرّدة عن الصفات، فهم -كما قال بعض العلماء: لا يعبدون واحداً، أحداً، فرداً صمداً، وإنما يعبدون خيالاً عدمًا3.
وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم، عن تلميذه جهم بن صفوان؛ ولذلك يسمى أهل هذا المذهب، عند السلف، وأئمة الأمة: جهميّة، نسبة إلى جهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم قصته في ص 300.
2 وهذا ما رد به الإمام ابن القيم –رحمه الله- على الجهمية، في كتابه: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، تحقيق علي محمد دخيل الله، دار العاصمة، الرياض، النشرة الأولى 1408هـ 1/222، وانظر الصفات الإلهية للجامي ص 130.(2/33)
3 وقال بعض العلماء: 0المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً، والممثل أعشى). مجموع الفتاوى 5/196،261.(2/34)
ص -374- ... ثمّ أعلن به وأظهره بشر المريسي1، وأصحابه، في أوائل المائة الثالثة، لأنهم تمكّنوا من بعض ملوك بني العباس2، وصار لهم عنده جاه ومنزله، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرُّهم، وعظم على الإِسلام وأهله كيدهم، وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم وضلالتهم، فشرّدوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب3.
وجرى على إمام السنة، الإِمام المبجّل أحمد بن حنبل من ذلك أشدّ امتحان وأعظم بليّة، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، فإذا جادله منهم مجادل، قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله، حتى أجيبكم إليه4، فيأبون ويرجعون إلى شبه الفلاسفة، واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبّين بطلانها، بأدلّة الكتاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة البغدادي المريسي، أبو عبد الرحمن، من موالي آل زيد بن الخطاب –رضي الله عنه- متكلم مناظر أخذ عن القاضي أبي يوسف وسفيان بن عيينة وغيرهما، نظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرّد القول بخلق القرآن ودعا إليه، (ت218هـ). انظر تاريخ بغداد 7/56،سير الأعلام10/199.
*وقد ناظره الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي (ت240هـ)، في مسألة خلق القرآن، فألزمه الحجة، وتغلب عليه، حتى أن بشر كان يحيد عن أسئلة الإمام عبد العزيز في المناظرة، وقد ذكر قصة مناظرته بشراً في كتابه (الحيدة)، وهو مطبوع متداول.
2 المأمون والمعتصم والواثق، انظر البداية والنهاية لابن كثير 10/345.
3 ومن الذين امتحنوا وثبتوا أمام الفتنة ولم يجيبوا إلى القول بخلق القرآن:
*الإمام أحمد بن حنبل *محمد بن نوح ابن ميمون
*نعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن *أحمد بن نصر الخزاعي، وقد قتل.
*أبو يعقوب البويطي، وقد مات هو أيضاً في السجن. انظر البداية والنهاية 10/249.(2/35)
وكان ممن شرّد عن أوطانهم: فضل الأنماطي، وأبي صالح، اللّذين فرِّق بينهما وبين زوجتيهما. سير الأعلام 11/263.
4 انظر البداية والنهاية 10/347، وسير الأعلام 11/426-427؛ وأحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا، لأحمد عبد الجواد الرومي، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، ص133.(2/36)
ص -375- ... والسنة، وإجماع الأمة، والأدلة العقلية الصريحة1.
وصنّف في ذلك كتابه المعروف، في الرد على الزناقة، والجهمية2، وهو كتاب جليل، لا يستغنى عنه طالب العلم.
والمقصود أن علماء الأمة، أنكروا مذهب الجهمية، أشدّ الإِنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضلاّل والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد جمع الإِمام اللالكائي3، جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم؛ في كتابه الذي سماه: "كاشف الغمة، عن معتقد أهل السنة"4 ومختصر كتابه، موجود عندكم في الساحل، قدم به: عبد الله بن معيذر5، عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف.
إذا عرف هذا، فأهل السنّة متفقون، في كل مصر، وعصر، على أن الله موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي جاء بها الكتاب، والسنة؛ يثبتون لله، ما أثبته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر محنته في: البداية والنهاية لابن كثير 10/345-349، سير الأعلام 11/232-265؛ كتاب ذكر محنة الإمام أحمد، جمع إبي عبد الله حنبل بن إسحاق بن حنبل، تحقيق محمد نغش، ط/1، 1397هـ- 1977 م. أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، للأستاذ عبد الحليم الجندي، إصدار محمد توفيق عويضة، 1390هـ- 1970م. ص 373، 379، 400؛ الصفات الإلهية في الكتاب والسنة، لمحمد أمان الجامي ص 99-102.
2 وهو كتاب مطبوع باسم: (الرد على الجهمية والزنادقة)، وقد تقدم النقل منه ص 303 وانظر ردّه عليهم في: مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لابن الجوزي، مكتبة الخانجي بمصر، ط/1، 308-319.
3 تقدم في ص 362.(2/37)
4 هذا الكتاب هو اختصار لكتاب شرح أصول أهل السنة والجماعة للالكائي، ومختصره مجهول، ويوجد له نسختان مخطوطتان الأولى في مكتبة جامعة أم القرى، والثانية بالمكتبة العلمية ببريدة، ذكر ذلك فضلية الشيخ الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي في تحقيقه لشرح أصول الإعتقاد في (1/128-129). وقد نقل اللالكائي كلام السلف في تكفير الجهمية، في كتابه: شرح أصول اعتقاد أهلال سنة والجماعة 2/313-322.
5 تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 95.(2/38)
ص -376- ... لنفسه المقدّسة، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تشبيه؛ لا يبتدعون لله وصفاً، لم يرد به كتاب ولا سنة1، فإن الله تعالى: أعظم، وأجل، وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين، من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته، بمجرد عقولهم، وآرائهم، وخيالات أوهامهم؛ بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة، على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطلون ما ورد /في/2 الكتاب والسنة، من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الإِستواء، وتفسيره بالاستيلاء؛ ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطّل الصفات، من الجهمية وأتباعهم؛ وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري3؛ وظنّه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة؛ وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات، والمذاهب، وما كان عليه السلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر عقيدة أهل السنة في صفات الله: الحجة في بيان المحجة1/91-92-174؛ والصفات الإلهية في الكتاب والسنة للجامي ص 57 وما بعدها.
2 في(د):به.
3 هو علي ابن اسماعيلبن أبي بشر اسحاق بن سالم،أبو الحسن الأشعري، اليماني البصري، إمام المتكلمين، ولد سنة(260هـ)، برع في معرفة الاعتزال، ثم تبرّأ منه إلى الأشعرية، ثم تركه وصار من جماعة أهل السنة، وألّف مقالات الإسلاميين، والإبانة عن أصول الديانة وغيرهما. (ت 324هـ).
انظر: تاريخ بغداد 11/346، طبقات الشافعية 3/347، سير الأعلام 15/85.
*ويلاحظ أن مذهب أبي الحسن هو مذهب أهل السنة والجماعة وقد مر في أطوار ثلاثة:
الطور الأول: الإعتزال الذي رجع عنه.
الطور الثاني: طور الأشعرية، في إثبات-ما يسمونه- الصفات العقلية السبعة: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وكذلك تأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحوها.(2/39)
الطور الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل جرياً على طريقة أهل السنة وهي طريقته في الإبانة، الذي صنفه آخراً.
انظر: مجموع الفتاوى 4/72، 5/556؛ الخطط للمقريزي 2/358، غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/480.(2/40)
ص -377- ... قال حذيفة رضي الله عنه:(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، /وكنت/1 أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه)2.
فالواجب على من له نهمة في الخير، وطلب العلم أن يبحث عن مذاهب السلف، وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإِنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك؛ وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة قال الله تعالى: {آلمص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}3 وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}4.فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السلف، وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلّماً، من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة. وإن كان نظر العبد وميله، إلى كلام اليونان، وأهل المنطق، والكلام، ومشائخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت/به/5 وحلت قريباً من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه.
ومن عدم العلم، فليبتهل إلى معلّم إبراهيم، في أن يهديه إلى صراطه المستقيم، وليتفطّن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته.
وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به، فهو أيضاً كافر؛ وكفره أغلظ وأفحش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في(د): وأنا.
2 أخرجه البخاري في صحيحه 6/712، المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، وفي آخره بلفظ: (... مخافة أن يدركني). وكذا عند مسلم في صحيحه بشرح النووي 12/478-479، الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال.(2/41)
3 سورة الأعراف الآية (1-3)
4 سورة الأنعام الآية (155).
5 زيادة في(د).(2/42)
ص -378- ... من كفر من قبله،1 وهو كمن كفر بالقرآن كله؛ ولا نعلم أحداً قال هذا القول، ممن يدعي الإِسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ والجهمي يوافق على كفر هذا، ولا يُشكِلُ كفر هذا على من عرف شيئاً من الإِسلام. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}2 أي: بالقرآن3.
وأما قول الرجل: استوى، من غير مماسة للعرش4؛ فقد قدّمنا أن مذهب السلف، وأئمة الإِسلام، عدم الزيادة، والمجاوزة، لما في الكتاب والسنة، وأنهم يقفون وينتهون، حيث وقف الكتاب، والسنة، وحيث انتهيا.
قال الإِمام أحمد -رحمة الله عليه-: (لا يوصف الله تعالى، إلاّ بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله)5 انتهى. وذلك لعلمهم بالله وعظمته في صدورهم، وشدّة هيبتهم له، وعظيم إجلاله.
ولفظ المماسة لفظ مخترع، مبتدع، لم يقله أحدٌ ممن يقتدى به، ويتّبع، وإن أريد به نفي ما دلّت عليه النصوص من الاستواء، والعلوّ، أو الارتفاع، والفوقيّة، فهو قول باطل، ضالٌ، قائله مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، مكابر للعقول الصحيحة، والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب، من جنس من قبله؛ وإن لم يرد هذا المعنى، بل أثبت العلو والفوقية، والارتفاع الذي دلَّ عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه هو مبتدع ضالٌ، قال في الصفات قولاً مشتبهاً موهماً، فهذا اللفظ لا يجوز نفيه، ولا إثباته6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أوَّله بالاستيلاء.
2 سورة هود الآية (17).
3 جامع البيان للطبري 12/18.
4 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/112؛ وأورده الذهبي في سير الأعلام 19/344؛ عند ذكره لعقيدة أبي حامد الغزالي.
5 أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، لعبد الغني الدقر، دار القلم، دمشق، بيروت، ط/1، 1399هـ -1979م، ص126، 128.(2/43)
6 أي قول القائل: (استوى من غير مماسة العرش)؛ لا يجوز نفيه ولا إثباته، لأن نفيه قد يستلزم نفي ما هو ثابت بالنصوص القطعية، وذلك لو قصد به قائله إثبات العلو والفوقية الذي دل عليه لفظ الاستواء، وكذلك إثباته باطل لفظاً، إذ إنه لم يرد في السنة المطهرة، ولا في أقول السلف الصالح، فهو لفظ مبتدع.(2/44)
ص -379- ... والواجب في هذا الباب: متابعة الكتاب والسنة، والتعبير بالعبارات السلفية السنيَّة الإيمانية، وترك المتشابه.
و أما من يقول: إذا قلتم إنّ الله على العرش استوى، فأخبروني قبل أن يخلق العرش، كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟!
وجوابه: أن يقال، أما كيف كان فقد أجاب عنه إمام دار الهجرة، الذي تضرب إليه أكباد الإِبل، في طلب العلم النبوي، والميراث المحمدي، قال له السائل، يا أبا عبد الله1: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2 كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة؛ وأمر بالسائل فأخرج عنه3، فأخبر -رحمه الله- أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلاّ بعلم كيفية الذات، وقد حجب العباد عن معرفة ذلك، لكمال عظمته، وعظيم جلاله، وعقول العباد، لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر، والتفكُّر، فيما خلق وقدر؛ وإنما يقال: "كيف /هو/"4 لمن لم يكن ثم كان؛ فأمَّا الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل، وليس له /نظير ولا/5 مثل، فإنه لا يعلم كيف هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولم يمت، ولا يبلى. "وكيف" يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى، يعرفه عارف، أو يحدّ قدره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ) و(ب) و(ج) والمطبوع: يا أبا عبد الرحمن، والمشهور من كنيته ما أثبته.
2 سورة طه الآية (5).
3 ذكره ابن مندة في ردّه على الجهمية ص 14، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/398 رقم(664) وشيخ الاسلام ابن تيمية في المجموع 5/144، 365. وقال: (ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه). وقد ذكر اللالكائي قول ربيعة في شرح أصول الاعتقاد برقم(665).
4ساقط في(ب) و(ج) و(د).
5 ساقط في(ب)و(ج)و(د).(2/45)
ص -380- ... واصف لأنّه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه؛ والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه، كالبعوضة، وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}1.
وقال بعضهم2 مخاطباً للزمخشري3، منكراً عليه نفي الصفات: شعر:
قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول
أنت لا تفهم إياك لا ... من أنت ولا كيف الوصول
لا ولا تدري خفايا رُكَّبت ... بك حارت في خباياها العقول
أنت آكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول تبولتبول
أين منك الروح في جوهرها ... كيف تسري فيك أم كيف تحول
فإذا كانت طواياك التي ... بين جنبيك /كذا فيها ضلول/4
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول5
وبالجملة: فهذا السؤال، سؤال مبتدع، جاهل بربه؛ وكيف يقول: إذا قلتم، إنّ الله على العرش استوى، وهو يسمع: إثبات الاِستواء، في سبعة مواضع من القرآن6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى الآية (11)
2 في هامش المطبوع: (المشهور أنه أبو حامد الغزالي رحمه الله).
3 هو محمود بن عمرو بن محمد الزمخشري، أبو القاسم جار الله الخوارزمي، كبير المعتزلة، صاحب الكشاف في التفسير والمفصّل في النحو والفائق في غريب الحديث وغيرها.(ت538هـ).انظر ترجمته: سير الأعلام 20/150، والنجوم الزاهرة 5/274.
4 في هامش المطبوع: الرواية التي نحفظها: (بها أنت جهول).
5 لم أعرف مصدر الأبيات.
6 المواضع السبعة التي ورد فيها ذكر الاستواء هي:
1-قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54].(2/46)
2-قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3].
3-قوله تعلى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2].
4-قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
5-قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59].
6-قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4].
7-قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4].(2/47)
ص -381- ... و أما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟
فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها، مرفوعاً، من حديث: أبي رزين العقيلي1، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا، قيل أن يخلق الخلق؟ قال: (/كان/2 في عماءٍ، ما فوقه هواء، وما تحته هواء)3 انتهى الحديث4.
فهذا جواب، مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصحّحوه.
والعماء: هو السحاب الكثيف5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو لقيط بن عامر، أبو رزين العقيلي، صحابي جليل، ويقال: لقيط بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق، ويقال إنهما اثنان. انظر: الاستيعاب 3/1340، وأسد 4/523-525.
2 ساقط في جميع النسخ.
3 في رواية الترمذي وابن ماجة وأحمد، تقديم وتأخير هكذا: (ما تحته هواء وما فوقه هواء).
4 سنن الترمذي 5/269، التفسير، باب من سورة هود، سنن ابن ماجة 1/35، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، قال الترمذي: وهذا حديث حسن. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/11، من طريق يزيد بن هارون.
5 العماء بالمد: هو السحاب الرقيق، وقيل الكثيف والمطبق. ويروه بعض المحدثين: "في عمى" بالقصر، قال الخطابي: معناه أنه كان في عمى عن الخلق. وقال ابن الأثير: معناه ليس معه شيء، ورجّح الخطابي كونه ممدوداً.
غريب الحديث للخطابي (ت388هـ)، تحيق عبد الكريم العزباوي، ط 1403هـ-1983م 3/243؛ النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/304؛ الفائق للزمخشري 3/26.(2/48)
ص -382- ... قال يزيد بن هارون1، إمام أهل اليمن، من أكابر الطبقة الثالثة، من طبقات التابعين، ومن ساداتهم، معناه: ليس معه شيء2.
وأما قول السائل: [وفي أي مكان؟]3، وفي زعم هذا القائل: إنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش.
فيقال: ليس في إثبات الاِستواء على العرش، ما يوجب الحاجة إليه، أو فقر الرب تعالى وتقدس، إلى شيء من خلقه؛ فإنه سبحانه هو الغني بذاته عما سواه4، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها – العرش فما دونه – فقيرة محتاجة إليه تعالى، في إيجادها، وفي قيامها، لأنه لا قيام لها إلاّ بأمره، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}5 والسماء: اسم لما علا وارتفع؛ فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى: {ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}6 الآية؛ وبحوله وقوّته حمل العرش، و/حمل/7 حملة العرش؛ وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ}8 الآية؛ وجميع المخلوقات: مشتركون في الفقر، والحاجة، إلى بارئهم، وفاطرهم. وقد قرّر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو يزيد بن هارون بن وادي، ويقال زاذان بن ثابت السلمي، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، ثقة، توفي في خلافة المأمون سنة (206هـ). انظر: سير الأعلام 9/358، وتهذيب التهذيب 11/366،368.
2 وهو ما ذكره ابن الأثير.
3 ما بين المعقوفين ساقط في جميع النسخ، وهو مقول قول السائل، أسقطه الناسخ، إذ تتمة الأسئلة التي تقدمت في ص 363. وقد انتهى الشيخ من الجواب على السؤالين (كيف كان؟ وأين كان قبل أن يخلق خلقه؟) والذي يأتي هنا هو جواب بهذا القول المُسقَط هنا.
4 فهو سبحانه وتعالى مستغن عن العرش وما دونه، وهذا مجمل معتقد أهل السنة والجماعة. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص253.
5 سورة الروم الآية (25).
6 سورة الملك الآية (16).
7 في (أ) و(ب) و(ج): (وحملت). وفي (د): (وحملته العرش).(2/49)
8 سورة فاطر الآية (41).. وتمامها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.(2/50)
ص -383- ... سبحانه كمال غناه، وفقر عباده إليه، في مواضع من كتابه1، واستدّل بكمال غناه، المستلزم لأحديّته، في الردّ على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإِفك العظيم، والشرك الوخيم، قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ}2 الآية؛ وكمال غناه يستلزم نفي الصحبة، والولد3، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات، ولا يظنّ أحدٌ يعرف ربّه، أو شيئاً من عظمته وغناه ومجده، أنه محتاج إلى العرش، أو غيره؛ وإنّما يتوّهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، و من لم يعرف شيئاً من آثار النبوة والرسالة؛ و من فسدت فطرته، ومسخ عقله، بنظره في كلام الجهمية، وأشباههم، حتى اجتالته الشياطين، فلم يبق معه أثارة من علم، ولا نصيب من فهم.
بل استواؤه على عرشه، صفة كمال، وعز، وسلطان4؛ وهو من معنى اسمه (الظاهر) ومعناه: الذي ليس فوقه شيء؛ والعلو، علو الذات، وعلوّ القهر،وعلوّ السلطان، كلّها ثابتة لله، وهي صفات كمال، تدلّ على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا: ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}5، وأكثر المعطلة، يزعمون أن تعطيلهم، تنزيه للربّ عما لا يليق به، فساء ظنّهم، وغلظ حجابهم، حتى توهّموا: أنّ إثبات ما في الكتاب والسنّة، على ما فهمه سلف الأمة مما ينزّه الرّب، تبارك وتعالى عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من تلك المواضع التي ذكر فيها كمال غناه وفقر عباده:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38].
2 سورة يونس الآية(68).(2/51)
3 ومما ورد من الآيات في نفيه تعالى ذلك عن نفسه، قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:3].
4 وهي صفة فعليّة للربّ سبحانه وتعالى، تتعلّق بمشيئته وقدرته.
5 سورة الأنعام الآية (68).(2/52)
ص -384- ... المسألة الثانية:
وأما مسألة رفع اليدين /بالدعاء/1 في الصلاة، فالذي /يثبت/2 عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقع يديه إذا اجتهد في الدعاء3 وليس ذلك من السنن المتعلّقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): في الدعاء.
2 في المطبوع: ثبت.
3 هذا كما كان يفعل في الاستسقاء، فكان يرفعها حتى يرى بياض أبطيه، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه). [البخاري مع الفتح 2/601، الاستسقاء، باب رفع الإمام يده في الاستسقاء].
قال الإمام ابن حجر –رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: (ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء). [فتح الباري 2/601].
*ومن تلك الأحاديث المثبتة لرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء، ما يلي:
1-ما أخرجه البخاري في صحيحيه من حديث أبي موسى الأشعري، في قصة مقتل عمه أبي عامر الأشعري في أوطاس، قال ابو موسى:... وبعثني مع أبي عامر، فرُمِيَ أبو عامر في ركبته،... قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزل منه الماء، قال: يا ابن أخي، أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبا عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته،... فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قال له استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر،. ورأيت بياض أبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس) الحديث [صحيح البخاري مع الفتح 7/637، المغازي، باب غزوة أوطاس].(2/53)
2-أخرج البخاري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذِيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولا: أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر... حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين). [صحيح البخاري مع الفتح 7/654، المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد إلى بني جذيمة]. قال ابن حجر –رحمه الله-: (في الحديثين ردٌّ على من قال: لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء. [فتح الباري 11/146].(2/54)
ص -385- ... بالصلاة كما يظنّه بعض من لم يعرف السنّة، فإنّه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 3- وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ ربكم تبارك وتعالى حييّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفراً، أو قال خائبتين. [سنن أبي داود 2/165، الصلاة باب الدعاء، سنن الترمذي 5/520، الدعوات، سنن ابن ماجة 2/349، الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء].
قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال ابن حجر في الفتح 11/147: (وسنده جيّد) وصححه الألباني في صحيح أبي داود حديث رقم (1337)، وصحيح ابن ماجة رقم (3117) وفي المشكاة –التصحيح الثاني_ برقم (2244). وفي شرح العقيدة الطحاوية ص260، وفي مختصر العلو ص97.
فكل هذه الأحاديث تثبت مشروعية رفع اليدين في الدعاء عامة، وتعارض حديث أنس الذي يفيد تخصيص الرفع في الاستسقاء، وهو حديث صحيح.
لذا فقد عمد العلماء إلى الجمع بينه وبين الأحاديث المثبتة للرفع في غير الاستسقاء، كالآتي:
-ذهب بعضهم على تأويل حديث أنس: أن النفي واقع على صفة خاصة في الرفع، لا أصل الرفع، كما يدل عليه قوله: (حتى يرى بياض أبطيه).
قال ابن حجر: (ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء، إنما المراد به: مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، إنما المراد به: مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء. وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهة حتى حادتاه) [فتح الباري 2/601].
-وذهب آخرون إلى حمل حديث أنس على نفي رؤيته وهو غير الاستسقاء، وأن ذلك لا يستلزم نفي رؤيته غيره، وعليه فالعمل بأحاديث الرفع أولى. [فتح الباري 2/601].(2/55)
-وقال الإمام النووي –رحمه الله-: (قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه، أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله، جعل بطن كفيه إلى السماء، واحتجوا بهذا الحديث). يعني حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء).
[صحيح مسلم بشرح النووي 6/441-442، الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء].
مواقف لا بشرع فيها رفع اليدين في الدعاء: وقد ذكر العلماء من تلك المواقف ما يلي:
1-عقب الصلوات المفروضة، وقد أشار إلى ذلك الشيخ عبد اللطيف هنا.
2-في حال جلوس الإمام بين الخطبتين.
3-لا يشرع للخطيب على المنبر حال الخطبة، وتبعه في ذلك المستمعون للخطبة. (والسنة للخطيب رفع إصبع).
انظر فتح الباري 11/147، ومجموع الرسائل والمسائل النجدية 2/164.(2/56)
ص -386- ... ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة.
المسألة الثالثة:
وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي /إلا صاع كاملٌ/1 من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد2 وابن عمر وغيرهما3، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب.4
وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد5، أي قوتٍ كان، كالذرة والأرز ونحوها.
وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام (وهو البر) يجزي عن صاع من غيره. وهذا القول قاله معاوية ورآه رأياً له، وليس بمرفوع6، وقد خالفه أبو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): إلاّ صاعاً كاملاً.
2 هو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة، أبو سعيد الخدري، من مشاهير الصحابة. (ت74هـ).
انظر الاستيعاب 2/602؛ وأسد الغابة 2/289، و5/211؛ وسير الأعلام 3/168.
3 حديث أبي سعيد الخدري هو ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي سعيد قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب). صحيح البخاري مع الفتح 3/434، الزكاة، باب صدقة الفطر صاعاً من طعام؛ صحيح مسلم بشرح النووي 7/65، الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
4 ذهب الحنابلة إلى أن الواجب: الإخراج من هذه اللأصناف المنصوص عليها في الحديث. المغني مع الشرح الكبير 2/658-659، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح 2/392-394.(2/57)
5 هذا مذهب المالكية والشافعية، انظر: المدوّنة الكبرى، للإمام مالك، دار صادر، بيروت لبنان، 1/357. الشرح الصغير للدردير 1/675. الخرشي على مختصر سيدي الخليل، بهامشه حاشية العدوي، دار صادر، بيروت 2/228. الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ)، خرّج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط/1، 1431هـ -1993م، توزيع مكتبة دار الباز 2/88-89. مختصر المزني على الأم، (مطبوع مع الأم) الطبعة السابقة 9/62. روضة الطالبين 2/301-302.
6 وقد أخرج ذلك البخاري من حديث أبي سعيد قال: (كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله(2/58)
ص -387- ... سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه1، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك وقليل ما هم2.
المسألة الرابعة:
وأما الابتداء بفاتحة الكتاب /كلّما/3 أراد تلاوة القرآن؛ فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح، من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}4، في كل ركعة، يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "سلوه لم فعل ذلك" فقال: إنِّي أحبها، لأن فيها صفة الرحمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه"5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب. فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدّا من هذا يعدل مدّين). البخاري مع الفتح 3/436، الزكاة، باب صاع من زبيب، وذكر ذلك الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة الفطر صاع من شعير أو صاع من تمر، قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر، بصاع من شعير". المسند للحميدي (ت219هـ)، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، عالم الكتب، بيروت، مكتبة المتنبي القاهرة 2/307.
1 انظر فتح الباري 3/438.
2 وقد وافقه على ذلك الحنفية، انظر: فتح القدير لابن الهمام 2/290؛ وبدائع الصنائع 2/967؛ وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي، دار المعرفة بيروت، ط/2، 1/308.
3 في (أ): كل من.
4 سورة الإخلاص.
5 وتمام الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك"، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبره أن الله يحبه".(2/59)
البخاري مع الفتح 13/360؛ التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله؛ صحيح مسلم بشرح النووي 6/343، المسافرون، باب فضل قراءة(2/60)
ص -388- ... فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا ويشابهه، فلا حرج عليه، وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقداً أن الله أمر بذلك، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنَّه، فهذا يعرّف بالسنة ويُخْبر بها، وأنها إنما يبتدأ بها القراءة في الصلاة1 لا في سائر أحوال التلاوة.
(المسألة الخامسة):
وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا2 ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش.
فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والاعتزال. ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يكن تحصيل المصالح الدينية إلاّ بذلك، فلا حرج عليه، بل ربما تأكد واستحب3.
وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى حول دمشق، ويجتمع بأميرهم ويأمره وينهاه4. ويرى في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ سنن النسائي 2/170، الافتتاح، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
1 كما ورد بذلك الأحاديث، ومنها: حديث أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يستفتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. سنن النسائي 2/133، الافتتاح، باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة؛ مسن أحمد 3/203. وعنه رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. صحيح مسلم بشرح النووي 4/354، الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.
2 في (ب) و(ج) و(د): ويترك.
3 وهذا هو حال العلماء والدعاة المتواجدون في دول الأقليات الإسلامية.(2/61)
4 انظر: الدرر الكامنة 1/164، والبداية والنهاية 14/8-13، 56. والإمام ابن تيمية لعبد السلام هاشم حافظ الحلبي، ط/1، 1389هـ-1969م، ص 24-25.(2/62)
ص -389- ... خروجه عندهم شيئاً من المنكرات. وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في /إحدى/1 تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم، ما رآه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل، إنهم لو تركوا هذا زاد شرهم على أموال المسلمين وحرمهم2.
(المسألة السادسة):
وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يُبدأ الكافر بالسلام3، بل هو تحية أهل البداءة بالسلام على الكافر الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة أو فوات مصلحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ) و(ج): أحد.
2 لم أجد مكان ورود هذا القصة.
*لا شك أن في هذا من الحكمة البالغة في الدعوة، والتي يجب أن يتصف بها الدعاة، كما يستفاد من فعل شيخ الإسلام هذا، وجوب مراعاة الأحوال والظروف لدى المدعوِّين، وتقديم الأهم فالأهم في الدعوة، والأخذ بقاعدة: مراعاة أعظم الضررين بارتكاب أخفهما.
[انظر القاعدة في الأشباه والنظائر لابن نجيم ص89].
3 مسألة: السلام على الكفار والرد عليهم:
إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ابتداء الكفار بالسلام، وذلك في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام". صحيح مسلم بشرح النووي14/397، السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام؛ سنن الترمذي 4/132، السير، باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب.
*والنهي عن ابتدائهم بالسلام يفيد جواز الردّ عليهم فيما إذا هم ابتدؤوها.(2/63)
وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، روي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيرز وبهذا قال سفيان بن عيينة وعمر بن عبد العزيز، نقل الإمام ابن حجر –رحمه الله- في [الفتح 11/42] ما أخرجه الطبري من طريق ابن عيينة قال: (يجوز ابتداء الكفار بالسلام لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]. وقيد جماعة جواز ابتدائهم به بالضرورة والحاجة أو سبب، وهو قول علقمة والنخعي. وهو ما ذهب إليه الشيخ عبد اللطيف هنا عند رجحان المصلحة في ذلك، والخوف من فواتها، حيث قال: (... لكن إن خاف مفسدة راجحة أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة). [وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي 14/396].
ومعتمد هذا الوجه: هو ما سيورده قريباً من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم وهو: عن عروة بن الزبير قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله(2/64)
ص -390- ... ............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عليه وسلم ركب حمارً عليه إكافٌ تحته قطيفة فدكيّة، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث من الخزرج –وذلك قبل وقعة بدر- حتى مرّ في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا. فسلّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن...) الحديث. [صحيح البخاري مع الفتح 11/41، الاستئذان، باب التسليم في مجلس فيه أخلاط. صحيح مسلم بشرح النووي 12/399-400، الجهاد، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/203].
قال النووي: (إذا مرَّ على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفار، فالسنّة أن يسلم عليهم (بلفظ التعميم) ويقصد المسلمين أو المسلم) مستدلاً بهذا الحديث. [الأذكار للنووي، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ، تحقيق سبيع حمزة حاكمي، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ومؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط/1، 1412هـ- 1991م. ص353. وانظر فتح الباري 11/41-42].
وقد نقل ابن حجر ما جمع به الطبري بين القولين، قال: (وقال الطبري: لا مخالفة بين حديث أسامة في سلام النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار حيث كانوا مع المسلمين، وبين حديث أبي هريرة في النهي عن السلام على الكفار، لأن حديث أبي هريرة عام، وحديث أسامة خاص. فيختص من حديث أبي هريرة ما إذا كان الابتداء لغير سبب ولا حاجة، من حق صحبة أو مجاورة أو مكافأة أو نحو ذلك). [فتح الباري 11/42]. وهذا جمع حسن يرجح به بين القولين.(2/65)
*أما إذا سلَموا علينا ابتداءً: فإننا نرد عليهم بمثل ما سلّموا علينا به، لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].
فإن قالوا السلام عليكم فلنا أن نقول: عليكم السلام أو وعليكم.
وإن قالوا السام عليكم بحذف اللام، قلنا: وعليكم وذلك أن اليهود كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلِّمون عليه بقولهم: "السام عليكم" يريدون بذلك الدعاء عليه بالموت، وكان صلى الله عليه وسلم يردُّ عليهم بقوله "وعليكم" وبه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا؛ كما جاء ذلك في السنة المطهّرة. منها:
حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "السام عليكم" فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل أمر. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت وعليكم" أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه 14/393،395 السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام.(2/66)
ص -391- ... كذلك، فلا بأس بالبداءة1 لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيءٌ من أصوله وحقوه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم2، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا لا إله إلا الله، ويتلوا عليهم القرآن، ويبلِّغهم ما أُمر بتبليغه؛ مع ما هم عليه من الشرك والكفر والردّ القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد، والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمّل السيرة النبوية والآثار السلفيّة يعرف ذلك ويتحققه.
وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية3، وقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}4.
والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان.
وقد مرَّ صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله ابن أُبيّ5 رأس المنافقين، فسلّم صلى الله عليه وسلم ونزل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاد المعاد، لابن القيم 2/425.
2 انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/422-423.
3 سورة يوسف الآية (108).
4 سورة الحج الآية (78).
5 هو عبد الله بن أُبيّ بن سلول العوفي، رأس المنافقين، ورئيس الخزرج والأوسي. وهو القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل. فنزلت سورة المنافقين بأسرها. (ت9هـ). انظر البداية والنهاية 3/238؛ والسيرة النبوية لابن هشام 2/526-584.(2/67)
ص -392- ... عن دابته ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة1 يعوده في منزله2، والقصّة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، لكنَّه يكون مباركاً أينما كان، داعياً إلى الله، مذكراً به، هادياً إليه، كما قال /تعالى/3 عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ}4، أي داعياً إلى الله مذكراً به معلماً بحقوقه، فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره، وساعاته وخلطته ومجالسته.
نسأل الله العظيم لنا ولكم علماً نافعاً، يكون لنا يوم القيامة شافعاً.
وبلِّغ سلامنا من لديك من الإخوان في الدين من أهل السنة، وإن أشكل عليكم شيء مما كتبته فراجعوني فيه، ولا تنسوني من صالح الدعاء5.
أسأل الله العظيم أن يغفر زلّتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي. /والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته/6. /وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً كثيراً/7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي، صحابي مشهور (ت16هـ). الاستيعاب 4/152، أسد الغابة 2/356، سير الأعلام 1/270.
2 والحديث تقدم تخريجه بنصه في هامش ص389.
3 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
4 سورة مريم الآية (31).
5 هذا من باب طلب الدعاء من الصالحين، وهو أمر جائز، كما يرشد إليه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك. قال رضي الله عنه: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن وقال: "لا تنسانا يا أخيَّ من دعائك". سنن أبي داود 2/169، الصلاة باب الدعاء، سنن الترمذي 5/523، الدعوات باب 110، بلفظ: "أي أَخِي أشركنا في دعائك ولا تنْسنَا" وقال: (حديث حسن صحيح). سنن ابن ماجة 2/155، الحج، باب فضل دعاء الحاج، بلفظ: "يا أُخيَّ أشركنا في شيءٍ من دعائك، ولا تَنْسَنا".
6 ساقط في المطبوع.(2/68)
7 ساقط في (ب) و(ج) و(د). وفي المطبوع سقط قوله (وسلم تسليماً كثيراً كثيراً).(2/69)
ص -393- ... (الرِّسَالَةُ السَابِعَةُ عَشَرَةِ) 1
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، رسالة إلى عبد الله بن معيذر2،وقد كان بلغ الشيخ أنه كان يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي3، ويقرأ فيه عند العامة، وكان كتاب الإحياء مشتملاً على ما يمجُّ سماعه من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، وإن كان فيه بعض المباحث المستحسنة، لكن فيه من الداء الدفين والفلسفة في أصل الدين، ما تنفر عنه طباع الموحدين، ويخاف منه على ضعفاء البصائر من العامة والجاهلين، /فأجابه رحمه الله تعالى/4 بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، المَلِك الحق المبين؛ وأشهد أنّ /محمداً/5 عبده ورسوله، الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، صلاة دائمةً مستمرةً، إلى يوم الدين، أما بعد:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 191-200. وررد هذه الرسالة في الدرر السنية 3/345-353.
2 تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 95.
3 هم محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، أبو حامد الغزالي، صاحب التصانيف في الأصول والفقه والحكمة، أدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام ومزال الأقدام، ونقم عليه آراءه الاعتزالية، لكنه عكف بعد ذلك على البخاري ومسلم، ومات على ذلك سنة (505هـ).
انظر طبقات السبكي 6/191، سير الأعلام 19/322، والنجوم الزاهرة 5/203.
4 ساقط في المطبوع، وسقط كلمة (تعالى) في (د).
5 في (د): محمد.(2/70)
ص -394- ... فإنِّي رأيت بعض أهل وقتنا، يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهليّة، في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذاك البارق، من ريح عاتية، أو صيب.
فكتبت إليه نصيحة، وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية، المشتملة على الأحاديث النبوية، والسير السلفية، والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمرّ على رأيه، واعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له.
فكتبت إليه كتاباً، فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة؛ وأبدى من هـ، جهله الأعاجيب الكثيرة؛ فأحببت أن أذكر للطلبة، والمستفيدين، بعض ما قاله أئمة الإسلام /والدين/1، في هذا الكتاب، المسمى بالإحياء ليكون الطالب،على بصيرة من أمره؛ ولئلاّ يلتبس عليه ما تحت عباراته، من زخرف القول.
وصورة ما كتبت أولاً: من2 عبد اللطيف، بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله3؛ سلام عليكم ورحمة الله، وبركاته؛ وبعد:
فقد بلغني عنك، ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينيّة، على الملّة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي؛ وجمعت عليه من لديك من الضعفاء، والعامة، الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة؛ وأسمعتهم ما في الإحياء، من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقائق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين.
وقد أمر الله تعالى، وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ): والذين.
2 هذه الرسالة نقلها من هنا، العلامة أبي المعالي محمود شكري الألوسي (ت1342هـ) في كتابه: غاية الأماني في الرد على النبهاني 2/369-373.
3 هو عبد الله بن معيذر، وقد تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 95.(2/71)
ص -395- ... وحرم اتخاذ الولائج، من دون الله ورسوله، ومن دون المؤمنين1؛ وهذا الأصل المحكم، لا قِوَام للإسلام إلا به؛ وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة، والمتكلمين، في كثير من مباحث الإلهيات، وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنّها الأغمار، والجهال، بالحقائق، من دين الله، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام؛ وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولوا الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كآفة، في القرى والأمصار.
وقد حذر أهل العلم، والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها، وباديها؛ بل أفتى بتحريقها علماء المغرب2، ممن عُرِف بالسنة، وسمّاها كثيرٌ منهم إماتة علوم الدين3 وقام ابن عقيل4 أعظم قيام في الذم والتشنيع؛ وزيَّف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأنّ كثيراً من مباحثه زندقة خالصة، لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال تعالى في تحريم الولائج من المشركين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16] قال ابن كثير –رحمه الله-: (يقول تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ} أيها المؤمنين أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب. {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي بطانة ودخيلة، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله) تفسير ابن كثير 2/353.(2/72)
2 (السبعينية) مطبوع تحت اسم (بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية وأهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد) لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق موسى سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكم، ط/1، 1408هـ، 1988م ص280. ومطبوع أيضاً ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر سير الأعلام 19/327.
3 وممن سماه بذلك: محمد بن الوليد الطرطوشي، انظر سير الأعلام 19/495.
4 هو علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي الظفري المقرئ، أبو الوفاء، شيخ الحنابلة، صاحب التصانيف منها كتاب: "الفنون"، الذي يزيد على أربعمائة مجلد، كان كثير العلوم خارق الذكاء، ولد علم 431 و(ت513هـ). لسان الميزان 4/243؛ الأعلام للزركلي 5/129؛ ذيل طبقات الحنابلة 1/142؛ سير الأعلام 19/443؛ النجوم الزاهرة 5/219؛ وشذرات الذهب 4/35.
5 لم أجد مصدر كلام ابن عقيل هذا.(2/73)
ص -396- ... قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ولكن أبو حامد، دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة؛ وقد ردّ عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة).
وردّ عليه شيخ الإسلام في السبعينيّة 1، وذكر قوله، في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد؛ وردّ عليه غيره من علماء الدين2، وقال فيه تلميذه ابن العربي المالكي3: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج فلم يحسن.4 وكلام أهل العلم معروف في هذا، لا يشكل إلاّ على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة.
ومشائخنا تغمدهم الله برحمته مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقة والفلسفة والفتن، وأدَّبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك، وشكرهم على ذلك كل صاحب سُنَّة، وممارسة للعلم النبوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السبعينية (بغية المرتاد) انظر رد شيخ الإسلام على قول الغزالي في العقول من صفحة 185 فما بعدها. ردَّ فيه على كلامه في كتبه: "معيار العلم" و"التفرقة بين الإيمان والزندقة" و"مشكاة الأنوار" و"جواهر القرآن.
2 وممن ردّ عليه من العلماء: أبو عبد الله محمد بن علي المازري (ت536هـ) ومحمد بن الوليد الطرطوشي (520هـ)، والإمام ابن الجوزي (597هـ)، في تلبيس إبليس، وأغلب نقده على إيراد الغزالي للأحاديث الضعيفة، ومحمد بن خلفبن موسى الأرس، من أهل البيره بالأندلس (ت537هـ)، في:النكت والأمالي في الرد على الغزالي، ومحمد بن محمد بن عبد الستار العمادي الكردي، في: الرد على الغزالي والجويني؛ كُتِبَ سنة 884هـ، وعماد الدين مسعود بن شيبة بن الحسين السندي الحنفي، في: الرد على الغزالي والتصوف، انظر كتاب: الإمام الغزالي وعلاقة اليقين بالعقل، د.محمد إبراهيم الفيومي، ط/1، 1976م، مكتبة أنجلو المصرية، الملحق: من خصوم الغزالي.(2/74)
3 هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، أبو بكر بن العربي الأندلسي المالكي، صاحب التصانيف تفقه بأبي حامد الغزالي وغيره، من كتبه: عارضة الأحوذي لشرح صحيح الترمذي، والمحصول والإنصاف في الفقه وغيرها. (ت543هـ).
سير الأعلام 20/197، النجوم الزاهرة 5/302، وشذرات الذهب 4/141.
4 لم أجد محل ذكره لهذا الكلام.(2/75)
ص -397- ... وأنت قد خالفت سبيلهم، وخرجت عن منهاجهم، وضللت المحجّة؛ وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم، المنتسبين إلى السنة؛ ما أقبح الحور بعد الكور، وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم!
إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة، قلت: كيف ينهانا عن هذا فلانٌ، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشأن؟ كأنك سقطت على الدرّة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك، وهزّ أعطافك، وحرّكك فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أُخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفيّة، فرحم الله عبداً عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه.
و ينبغي للإمام -أيده الله- أن ينزع هذا الكتاب، من أيديكم؛ ويلزمكم بكتب السنة، من الأمهات الست، وغيرها، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}1 انتهى2.
ثم جمعت أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب، والمسترشد. فمن ذلك: قول الذهبي3 في ترجمته للغزالي: (وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة، وأدخل سيلان ذهنه، في مضايق الكلام، ومزال الأقدام؛ ولله سرٌّ في خلقه. وساق الكلام إلى أن قال: ذكر هذا عبد الغافر4، إلى أن قال: ثمّ حكي أنّه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدّة، وفتح عليه بابٌ من الخوف، بحيث شغله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب الآية (4).
2 هنا انتهت رسالة الشيخ الأولى التي أرسلها إلى عبد الله بن معيذر.
3 هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز، شمس الدين، أبو عبد الله التركماني، الذهبي، محدث عصره، صاحب التصانيف، منها: تذكرة الحفاظ، وسير الأعلام، والتاريخ الكبير، وغيره، (ت748هـ).
طبقات السبكي 9/100-123، البدر الطالع 2/110-112، والدرر الكامنة 3/426.(2/76)
4 هو عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر بن محمد، أبو الحسن الفارسي ثم النيسابوري، مصنف كتاب مجمع الغرائب، والمفهم لشرح مسلم، (ت529هـ).
وفيات الأعيان 3/225، سير الأعلام 20/16.(2/77)
ص -398- ... عن كل شيء. إلى أن قال: ومما كان يعترض به عليه، وقوع خلل من جهة النحو، في أثناء كلامه، ورُوجِع فيه، فأنصف واعترف بأنه ما مارسه.
ومما نقم عليه، ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في "كيمياء السعادة والعلوم"، وشرح بعض الصور والمسائل، بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة؛ وكان الأولى به والحق أحق ما يقال ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له؛ فإنّ العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئاً من ذلك، تخيّلوا منه ما هو أضرّ بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل)1.
قال الذهبي: (ما /نقمه/2 عبد الغافر، على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي شيخنا أبو حامد، بلع /الفلاسفة/3، وأراد أن يتقيّأهم فما استطاع) انتهى4.
ومن معجم أبي علي الصدفي5، /في/6 /تأليف/7 القاضي عياض8 له، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سير الأعلام 19/325-326، نقل كلامه مختصراً.
2 في جميع النسخ: نقله، وهو خطأ، وما أثبتُّه هو الموجود في أصل النص عند الذهبي في السير.
3 في (أ): الفلسفة، وهو خطأ.
4 سير الأعلام 19/327.
5 هو الحسين بن محمد بن فيره بن حيّون بن سكّرة، القاضي أبو علي الصدفي الأندلسي السرقسطي، برع في الحديث متناً وإسناداً. (ت514هـ).
سير الأعلام 19/376، شذرات الذهب 4/43.
6 (في) زائدة في المطبوع.
7 هكذا في جميع النسخ (تأليف)، ولعلّ صوابه (تعريف).
8 هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو، القاضي أبو الفضل، شيخ الإسلام اليحصبي، الأندلسي ثم البستي المالكي صاحب التصانيف، منها: الشفا في شرف المصطفى، وترتيب المدارك، والعقيدة، وغيرها (ت504هـ).
تذكرة الحفاظ 4/1304-1307، النجوم الزاهرة 5/285، شذرات الذهب 4/138.(2/78)
ص -399- ... الشيخ أبو حامد، ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريق التصوّف، وتجرّد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألّف فيه تواليفه المشهورة1، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسرِّه، ونُفِّذَ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها، فامتثل ذلك.2 انتهى.
ونقل أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي3، المتهم بالتشيّع، في كتابه: "رياض الأفهام" قال: "ذكر أبو حامد في كتابه: "سرُّ العالمين، وكشف ما في الدارين"، وقال في حديث: "من كنت مولاه فعلي مولاه"4 أن عمر قال لعلي: "بخ بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة"5؛ قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضا. ثم بعد هذا غلب عليه الهوى، حبّاً للرئاسة، /وعقداً لبنود، أمر الخلافة/6، ونهيها فحملهم على الخلاف {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}7،8 وسرد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن ذلك: رسالة الأقطاب، وإحياء علوم الدين، ومشكاة الأنوار وغيرها.
انظر مؤلفاته في: طبقات السبكي الكبرى 6/224-227.
2 انظر: سير الأعلام 19/327، نقلاً عن معجم أبي علي الصدفي.
3 هو يوسف بن قزغلي بن عبد الله، أبو المظفر التركي الحنفي، سبط الإمام أبي الفرج ابن الجوزي، سمع من جده وغيره، صنف تاريخ مرآة الزمان وغيره (ت654هـ).
انظر: سير الأعلام 23/296-297، النجوم الزاهرة 7/39، شذرات الذهب 5/266.(2/79)
4 سنن الترمذي 5/591، المناقب، باب مناقب علي بن ابي طالب، قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) سنن ابن ماجة 1/24-25، المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسند الإمام أحمد 1/152، 4/281؛ المستدرك للحاكم 3/110، وقال: (صحيح على شرط مسلم)، ووافقه الذهبي والحديث صححه الألباني، وقال بعد ذكره لرواية الترمذي والحاكم: (إسناده صحيح على شرط الشيخين). سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4/331-332، 336.
*وهذا الحديث من أقوى ما يستشهد به الشيعة الإمامية على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه.
5 أثر عمر هذا لم أجد مصدره.
6 كذا في الأصل (أ). وفي بقية النسخ وسير الأعلام: (وعَقْدِ البنود، وأمرِ الخلافةِ).
7 سورة آل عمران الآية (187).
8 إلى هنا نقل الكلام من كتاب "سرّ العالمين" للغزالي. ولم أطلع عليه.(2/80)
ص -400- ... كثيراً من هذا الكلام /الفسل/1 الذي تزعُمُه الإمامية"2.
قال الذهبي: (وما أدري ما عذره في هذا؟ /والظاهر/3 /أنه/4 رجع عنه، وتبع الحق)5.
قلت6: هذا إن لم يكن هذا [من]7 وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلاياً، لا /تستطاب/8.
قلت9: ما ذكره الذهبي ممكن10، والغرض أنّ ما ينسب إلى هذا الرجل، لا يُغترُّ به، ويجب هجره، واطرحاه، لما في كتبه من الدَّاء العضال، والعثرات التي لا تُقَال.
قال الذهبي: (قد ألّف الرجل، في ذمّ الفلاسفة كتاب "التهافت" وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع، ظناً منه أن ذلك حقّ، أو موافق للملّة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية، القاضية على العقل، وحُبِّب إليه إدمان النظر في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في سير الأعلام والمطبوع، وفي بقية النسخ (الفشل)، والأول (الفسل) بالسين هو الصواب، ومعناه: الرَّذْل النَّذْل الرَّديئ الذي لا مروءة فيه. لسان العرب 11/519 مادة (فسل).
2 انظر سير الأعلام 19/328. نقلاً عن "رياض الأفهام"، لأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي.
3 في جميع النسخ: (الظاهر) بإسقاط الواو، وهو موجود في النص، في سير الأعلام.
4 في (د): إن هو.
5 سير الأعلام 19/328.
6 الكلام هنا مستمر للذهبي، وضعه المصنف تصرفاً منه، إذ لا وجود له في نص الذهبي في السير.
7 لفظ (من) لا وجود له في سير الأعلام.
8 كذا في المطبوع، وفي (أ) و(ج) و(د): (تستطب) وفي (ب): (تستطيب)، وفي سير الأعلام (تتطيب).
9 الكلام هنا للشيخ عبد اللطيف رحمه الله.
10 أي ما ذكره في رجوع الغزالي عما عليه من فساد في العقيدة، ويرجى له ذلك، ويأتي التعليق عليه قريباً.(2/81)
ص -401- ... كتاب "رسائل إخوان الصفا"1 وهو داء عضالٌ، وجربٌ /مردٍ/2، وسمٌّ /قتَّال/3، ولولا أنّ أبا حامد من [كبار]4 الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إخوان الصفا: جماعة من الشيعة الباطنية عامة، ومن الإسماعيلية خاصة، أحاطت نفسها بسياج متين من الكتمان حتى عام 334هـ، لهم رسائل محتوية على مبادئهم، لم يذكروا فيها ما ينمُّ على أسمائهم أو أعمالهم. [إخوان الصفا، لعمر الدسوقي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط/3، ص5].
قال القفطي: (وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافحت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهباً، زعموا أنهم قرَّبوا الطريق إلى الفوز برضوان الله، وهذ المذهب هو مزج الفلسفة بالدين.
[تاريخ الحكماء، من كتاب أخبار العلماء بأخبار الحكماء، لجمال الدين علي بن يوسف القفطي، مكتبة المثنى، بغداد ص 83-84].
أما موضوع هذه الرسائل:
فهي موسوعة ضمّت بين دفّتيها مبادئ العلوم التي كانت معروفة في البلاد العربية حتى القرن الرابع الهجري، وقد نقل من بداية رسائلهم قولهم: (هذه فهرست رسائل إخوان الصفا... وهي إحدى وخمسون رسالة، في فنون العلم، وغرائب الحكم، وطرائف الآداب، وحقائق المعاني عن كلام خلصاء الصوفية -صان الله قدرهم، وحرسهم حيث كانوا في البلاد- وهي مقسومة على أربع أقسام، فمنها رياضة تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية). [رسائل إخوان الصفا وخلاصة الوفاء، تصحيح خير الدين الزركلي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، المطبعة العربية بمصر، 1347هـ- 1928م، ص1، ونقلها عمر الدسوقي في كتابه "إخوان الصفا" ص152-153 عن رسائلهم 4/98-101].
والخلاصة:(2/82)
إنّ رسائلهم قائمة على فلسفة، خلطوها بكثير من الخرافات والأساطير؛ وحاولوا مزج الدين بالفلسفة، واستشهدوا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، على نظريات أفلاطون، وأرسطو وفيثاغورس وغيرهم، إخوان الصفا ص155. فهؤلاء كانوا أصحاب فلسفة باطنية إسماعيلية.
2 في جميع النسخ: مردي، عدا المطبوع.
3 كذا في أصل نص عند الذهبي في سير الأعلام، وفي جميع النسخ (قاتل).
4 ما بين المعقوفتين ساقط في جميع النسخ، وهو موجود في أصل النص في السير.(2/83)
ص -402- ... /فالحذر، الحذر/1، من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شُبَه الأوائل، وإلاّ وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، /فليلتزم/2 العبودية، /وليكثر/3 الاستغاثة /بالله/4، وليبتهل إلى مولاه، في الثبات على الإسلام، وأن يتوفَّ على إيمان الصحابة، /وسادة/5 التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم، يغفر له، وينجو إن شاء الله تعالى)6.
وقال أبو عمر بن الصلاح7:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في جميع النسخ، وفي أصل النص (فالحذار الحذار)، وفي (ب): (فالحذر الحذار).
2 في أصل النص (فليلزم).
3 في أصل النص: (وليدمن). وقد ذكره الشيخ هنا بالمعنى.
4 لفظ الجلالة ساقط في (د).
5 في (أ): سادات، وفي بقية النسخ المثبت، وكذا في أصل النص.
6 سير الأعلام 19/328-329.
7 هو عثمان بن عبد الرحمن (صلاح الدين) عثمان بن موسى، تقي الدين أبو عمرو الكردي الموصلي الشافعي، صاحب "علوم الحديث" (ت643هـ).
تذكرة الحفاظ4/1430؛ طبقات السبكي 8/326؛ سير الأعلام 23/140.
[فصل] في بيان أشياء مهمة، أنكرت على أبي حامد:
ففي تأليفه أشياء /لم يرتضها/8 أهل مذهبه، من الشذوذ؛ منها قوله في المنطق: (هو مقدّمة العلوم كلِّها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلاً)9.
قال10: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن، منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأساً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
8 في جميع النسخ: (لم يرتضيها)، عدا المطبوع.
9 قال ذلك في المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، ومعه كتاب فواتح الرحموت، لمحمد بن نظام الدين، ط/11، المطبعة الأميرية ببولاق مصر، 1322هـ، 1/10.
10 أي ابن الصلاح.(2/84)
ص -403- ... فأما كتاب (المضنون به على غير أهله)1 فمعاذ الله أن يكون له، شاهدت على نسخة منه، بخط القاضي كمال الدين، محمد بن عبد الله الشهرزوري2، أنه موضوعٌ على الغزالي، وأنه مخترعٌ من كتاب (مقاصد الفلاسفة)3 وقد نقضه الرجل، بكتاب (التهافت)4.
وقال أحمد بن صالح الجيلي5 في "تاريخه": (وقد رأيت كتاب "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء" للمازَرِي6، /أوّله/7: الحمد لله الذي أنار الحق، وأداله، وأباد الباطل وأزاله؛ ثم أورد المازري أشياء مما /نقده/8 على أبي حامد، يقول: ولقد أَعْجَبُ من قول مالكية، يرون /مالكاً/9 الإمام، يهرب من التحديد، و/يجانب/10 أن يَرْسُم رسماً، وإن كان /فيه/11 أثرٌ مَّا، أو قياسٌ مَّا، تورُّعاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتاب ينسب إلى الغزالي، وهنا ينفي أبو عمرو هذه النسبة.
2 هو محمد بن عبد الله بن القاسم بن مظفر بن علي الشهرزوري، كمال الدين أبو الفضل الموصلي الشافعي، (ت572هـ). سير الأعلام 21/57؛ طبقات السبكي 6/117، النجوم الزاهرة 6/80.
3 مطبوعٌ، ويوجد عدة نسخ منه في مكتبة الجامعة الإسلامية المركزية.
4 انظر سير الأعلام 19/329. وسيرة الغزالي وأقوال المتقدمين فيه، لعبد الكريم العثمان، دار الفكر بدمشق ص72.
5 أحمد بن صالح بن شافع بن صالح، أبو الفضل الجيلي ثم البغدادي، محدث بغداد، ذيّل على تاريخ الخطيب فذكر الحوادث والوفيات. (ت565هـ). سير الأعلام 20/572؛ شذرات الذهب 4/215.
6 محمد بن علي بن عمر بن محمد، أبو عبد الله التميمي المازري المالكي، مصنف كتاب "المعلِم بفوائد شرح مسلم" و "إيضاح المحصول" و "كشف الإنباء عن كتاب الإحياء" وغيرها، (536هـ). سير الأعلام 20/104، النجوم الزاهرة 5/269.
7 ساقط في جميع النسخ، وهو موجود في أصل النص. سير الأعلام 19/330.
8 كذا في سير الأعلام، وفي جميع النسخ: تنقده
9 في (أ) و(د): مالك، وفي المطبوع: (يرون الإمام مالك).(2/85)
10 كذا في سير الأعلام 19/330، وفي جميع النسخ: وإيجاب.
11 في (ب) والمطبوع: فيها.(2/86)
ص -404- ... و/تحفظاً/1 من الفتوى، فيما يحمِل الناسَ عليه، ثم يستحسنون من الرجل2 فتاوى، مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثيرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم لفّق /فيه/3 الثابت، بغير الثابت4.
وكذا ما /أورد/5 عن السلف، لا يمكن ثبوتُه كلُّه، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجلُّ موقعه، ولكن مزج فيه النافع بالضار؛ كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أُخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز لقدح6 الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق، إلاّ بتعسُّفٍ، على أن اللفظ مما لا يتكلّف العلماء مثله، إلاّ في كلام صاحب الشرع، الذي اضطرّت المعجزاتُ -الدالة على صدقه، المانعة من جهله وكذبه- إلى طلب التأويل7، كقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): تحفيظ.
2 أي الغزالي.
3 في (أ) والمطبوع: منه، وفي السير وبقية النسخ ما أثبتّه.
4 وقد جمع السبكي في طبقاته 6/287-389، جميع الأحاديث الواقعة في كتاب الإحياء، التي لم يجد لها إسناداً وعدّتها (943) حديثاً.
كما قام الحافظ الالعراقي بتخريج أحاديث كتاب الإحياء في مؤلّفه: "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار"، وهو مطبوع بحاشة الإحياء، عزا فيه كل حديث إلى مصدره، وأبان عن درجة كلٍّ منها، وحكم على كثير منها بالضعف أو الوضع أو أنه لا أصل له.
وعليه... فليحذر كلُّ مطلّع على كتاب الإحياء، بالاستشهاد بما فيه من الأحاديث، قبل التبُّت من صحتها.
5 في (د): ما ورد.
6 في أصل النص: (إلى قدح). سير الأعلام 19/330.(2/87)
7 قال الشيخ سليمان بن سحمان –جامع الرسائل- معلِّقاً على هذا الكلام، قال: (قوله: إلى طلب التأويل إلخ، كلام باطل مستدرك مردود على قائله. فالذي درج عليه السلف الصالح، وأهل التحقيق من أهل العلم، أن هذه الأحاديث تجرى على ظواهرها، ولا يعترض لها بتأويل. فمن تأوَّلها فقد سلك غير سبيل المؤمنين، ونحا طريقة المتكلمين المتكلفين، الحيارى المفتونين، فعليك بما كان عليه السلف الصالح، والصدر الأول، والله أعلم). انتهى، من حاشية (د). وهو كما قال.(2/88)
ص -405- ... (إن القلوب بين أُصْبُعَيْنِ من أصابع الرَّحمن)1 و (إنّ السَّموات على إِصَبع)2، وكقوله: (لأحرقت سبحات وجهه)3 وكقوله: (يضحك الله...)4 إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة، ظاهرها بما أحاله العقل5، إلى أن قال: فإذا كانت العصمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وتمامه: عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فقلت يا رسول الله، آمنّا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال نعم، إنَّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء". صحيح مسلم بشرح النووي 16/446، القدر باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، سنن الترمذي 4/390-391، القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن؛ سنن ابن ماجة 2/342، الدعاء باب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مسند الإمام أحمد 3/112.
2 وتمامه: عن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. صحيح البخاري مع الفتح 8/412-413، التفسير، باب (وما قدرو الله حق قدره)؛ صحيح مسلم بشرح النووي 17/135-136، صفات المنافقين، باب صفة القيامة؛ سنن الترمذي 5/345-346، التفسير، باب سورة الزمر.
*هذه الأحاديث ونخحوها من الأحاديث المثبِتَة لهذه الصفة الخبرية (صفة الأصبع) لله سبحانه وتعالى.
3 تقد تخريجه ص334.(2/89)
4 وتمام الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتَل ثم يتوب الله على القاتل فيُستَشَهد". صحيح البخاري مع الفتح 6/47، الجهاد، باب الكافر يقتل المسلم، ثم يسلم يعد فيقتل؛ صحيح مسلم بشرح النووي 13/39-40، الإمارة، باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة؛ سنن النسائي 6/39، الجهاد، باب اجتماع القاتل والمقتول في سبيل الله في الجنة.
5 قال الشيخ ابن سحمان –جامع الرسائل-: (هذه الأحاديث وأشباهها، لا تحيلها العقول السليمة، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في أسمائه وصفاته، وهو على كل شيء قدير، بل نقطع على أنها حق على حقيقتها، ولا نتعرض لها بكيف ولا تأويل؛ بل(2/90)
ص -406- ... غير مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه، إلاّ أن يَثبُت، وتدعو ضرورةٌ إلى نقله، فيتأول؛ إلى أن قال: ألا ترى لو أنّ منصفاً، أخذ يحكي عن بعض الحشويّة1، مذهبه في قدم الصوت والحرف2، وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين، إنّ القارىء، إذا قرأ كتاب الله، عاد القارىء في نفسه قديماً، بعد أن كان محدثاً؛ /أو قال/3 بعض الحذاق: إنّ الله محلّ للحوادث، إذا أَخَذَ في حكاية مذاهب الكرَّامية 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=نصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم،لا نتجاوز القرآن والسنة. والله أعلم). انتهى كلامه من هامش المطبوع، 3/135.
*وهذا الذي قاله السيخ ابن سليمان، هو خلاصة معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الله تعالى وصفاته.
1 الحشويّة (السكسكي) في البرهان الحشويّة: هم المجسمة الذين قالوا بأن الله –تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- على صورة شاب أمرد، له شعر قطط، في رجله نعل من ذهب ينزل يوم عرفة على جمل أحمر... إلى غير ذلك من أقوالهم الشنيعة التي لا يصدقها عاقل. [البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان للسكسكي (ت683هـ) تحقيق د.بسام علي سلامة العموشي، مكتبة المنار، الأردن، ط/1،1408هـ- 1988م، ص38].(2/91)
ويلاحظ أن هذه التسمية تطلقها المبتدعة على أهل السنة وكل من يقول بمقالات السلف في الاعتقاد، زعماً أنهم يجرون النصوص على ظواهرها بدون فهم لمعانيها. وهذا قول باطل مفترى على أهل السنة؛ والواقع أنهم يحملون النصوص على ما جاءت عليه من المعاني المعروفة والثابتة لها، من غير لجوء إلى تأويلات المشبهة والمعطلة المذمومة؛ ويكلون معرفة كيفية معانيها وحقيقتها إلى الله تعالى، لا أ،ّهم لا يفهمون معناها، فإنّها معلومة لديهم؛ كما ثبت عن الإمام مالك وغيره –رحمهم الله- قولهم في معنى الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. انظر مجموع الفتاوى 5/144 وما بعدها.
2 انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/96.
3 في جميع النسخ: (وقال). وفي أص النص ما أثبتُّه والمعنى: (لا يحسن أيقول: قال... أو قال...). سير الأعلام 19/332.
4 تقدّم التعريف بهم، وذكر مذهبهم في ص 364.
وإلى هنا نهاية ما نقل من كلام أحمد بن صالح الجيلي في تاريخه، نقلاً عن كتاب: "الكشف الإنباء عن كتاب الإحياء" للمازَري. كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في ص403.. وقد نقله الذهبي في سير الأعلام 19/330-332.(2/92)
ص -407- ... وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله بن /أحمد/1 القرطبي2: إنّ بعض من يَعِظُ، ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثمّ تبرّأ منه شغفاً بالشريعة الغزاليَّة، والنِّحلة الصُّوفَّية، أنشأ كُراسة تشتمل على معنى التعصب، لكتاب أبي حامد، إمام بدعتهم؛ فأين هو من تشنيع مناكيره، وتضليل أساطيره المباينة للدين؟ وزعم أنّ هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة3، الواقع بهم على سرِّ الرُّبوبيّة، الذي لا يُسفر عن قناعه، ولا يفوز بإطلاعه، إلاّ من تمطَّى /إلى/4 شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامَها، وشَرَعَ أحكامَها 5.
قال أبو حامد: وأدنى [النصيب]6 من هذا العلم التصديق به، وأقلّ عقوبته أن لا يرزق المنكرُ منه شيئاً، فأعرض /من/7 قوله، على قوله، ولا تشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأنّ ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كمِّ جيبه، والتدثُّر بكسائه، فيسمع نداء الحق؛ فهو يقول:ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما آمركم به8، ثم إنّ القاضي أقذع9، وسبَّ، وكفَّر10.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ: (حمد) والتصحيح من هامش (أ).
2 هو محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، قاضي الجماعة، أبو الوليد القرطبي المالكي، كان فقيهاً عالماً، من كتبه: المقدمات والممهدات، والبيان والتحصيل وغيرهما (ت520هـ). سير الأعلام 19/501، شذرات الذهب 4/62.
3 ذكر الغزالي ما يشير على ذلك في الإحياء، طبعة دار القلم بيروت، تصيح عبد العزيز عز الدين السيردان ومعه بالهمش: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار للعراقي (ت806هـ) ط،3، 1/11، 20، و4/229-230.
4 في (أ): إليه.
5 انظر سير الأعلام 19/332، وسيرة الغزالي ص73.
6 ما بين المعقوفتين بياض في جميع النسخ، والتكملة من سير الأعلام 19/332.
7 حرف الجر لا يوجد في أصل النص.
8 الإحياء 3/19/20.(2/93)
9 أقذع: من القذع: وهو الفحش من الكلام الذي يقبح ذكره. يقال: قذعه يقذعه قذعاً، وأقذع له إقذاعاً: أي رماه بالفحش، وأساء القول فيه. لسان العرب 8/1262 مادة (قذع).
10 سير الأعلام 19/332.(2/94)
ص -408- ... قال أبو حامد: (وصدور الأحرار، قبور الأسرار، ومن أفشى سرَّ الربوبية كفر)1.
ورأى مثل قتل الحلاج2 /خيراً/3 من إحياء عشرة، لإطلاقه ألفاظاً.
ونقل عن بعضهم،4 قال: (للرُّبوبيّة سرٌّ5 لو ظهر، لبطلت النبوَّة؛ وللنبُّوّة سرّ لو كُشِفَ، لبطل العلم؛ وللعلم سرٌّ لو كُشِفَ لبطلت الأحكام)6.
قلت7: سرُّ العلم قد كُشف /لصوفة/8 أشقياء، فانحلَّ النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام.
قال ابن أحمد9: ثم قال الغزالي، القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوّة في حقّ الضعفاء، فما قال ليس بحقٍّ؛ فإنَّ الصحيح لا يتناقض؛ وإنَّ الكامل لا يطفىء نورُ معرفته نورَ ورعه10.
وقال الغزالي: (العارف يتجلّى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة، المحجوبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إحياء علوم الدين 1/94. الإملاء على إشكالات الإحياء (ملحق بالإحياء 5/34. وانظر كلامه في الرسالة القشيرية، لعبد الكريم القشيري، تحقيق: د.عبد الحليم محمود، ومحمود بن الشريف، دار الكتب الحديثية، مصر 1/274.
2 هو الحسين بن منصور بن محمي، أبو عبد الله، ويقال أبو مغيث، الحلاّج الفارسي البيضاوي الصوفي، نسب إلى الحلول والزندقة وغير ذلك، (ت390هـ). وفيات الأعيان 3/45. سير الأعلام 14/313.
3 في (أ) و(د): خير.
4 نسبه الغزالي –في الإملاء عن إشكالات الإحياء 5/42- إلى سهل؛ ولعله سهل بن عبد الله ابن يونس ابن عيسى، أبو محمد التستري الصوفي، أحد أئمتهم وعلمائهم. (ت283هـ). طبقات الصوفية، لأبي عبد الله السلمي، مطبعة الكتاب العربي مصر، ص206.
5 في (أ) و(د): سراً.
6 الإحياء 1/94، والإملاء عن إشكالات الإحياء (بذيل الإحياء) 5/42.
7 القائل هنا: الذهبي.
8 في جميع النسخ: بصوفة، والتصحيح من سير الأعلام. 19/333.
9 هو محمد بن أحمد القرطبي أبو عبد الله (قاضي الجماعة) تقدمت ترجمته في ص407.
10 الإحياء 1/94، والإملاء عن إشكالات الإحياء 5/42.(2/95)
ص -409- ... عن الخلق؛ فيعرف معنى النبوَّة، وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة، التي نحن منها على ظاهرها)1.
قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت: صديقاً؛ فإذا رأيته في النهاية قلت: زنديقاً. ثم فسَّر الغزالي، فقال: إذا اسم الزنديق لا يُلصق إلاّ بمعطِّل الفرائض، لا بمعطِّل النوافل. وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية، دون التعليمية؛ فيجلس فارغَ القلب، مجموع الهم، فيقول: الله، الله، الله،2 على الدوام؛ فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث؛ فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة ببيت مظلم، ويتدثَّر بكسائه، فحينئذٍ: يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}3، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}4.5
قلتُ6: إنما سمع شيطاناً، أو سمع شيئاً لا حقيقة له، من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالكتاب، والسنة، والإجماع.
قال أبو بكر الطرطوشي7: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسط الأرض أكثر كذباً منه، شبكه بمذاهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في جميع النسخ، وفي السير 19/333: (على ظاهرٍ لا على حقيقة).
2 إنّ الذكر بالاسم المفرد لم يرد به السنة المطهرة، وإنما وردتا بما هو أفضل من ذلك،هو ذكر كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له). الموطأ للإمام مالك بن أنس ص214-215، كتاب القرآن باب ما جاء في الدعاء؛ سنن الترمذي 5/534، الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة.
3 سورة المدّثر الآية (1).
4 سورة المزمل الآية (1).
5 الإحياء 3/21، سيرة الغزالي ص74-75، وذكره الذهبي في السير 19/333-334.
6 القائل هنا هو: الذهبي.(2/96)
7 هو محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان، أبو بكر الأندلسي الطرطوشي، الفقيه، له كتاب: سراج الملوك، والبدع والحوادث وغيرهما. (ت520هـ). سير الأعلام 19/490؛ شذرات الذهب 4/62.(2/97)
ص -410- ... الفلاسفة؛ ومعاني رسائل إخوان الصفا1؛ وهم قوم يرون النبوّة مكتسبة؛ وزعموا أنَّ المعجزات، حيل ومخاريق2؛ قال ابن عساكر3: (حجَّ أبو حامد، وأقام بالشام نحواً من عشرين سنة، وصنّف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق، في المنارة الغربية من الجامع، سمع (صحيح البخاري)، من أبي سهل /الحمصي/4، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين)5.
وقال ابن /خَلِّكَان/6: (بعثه النِّظَام7 على مدرسته ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحجَّ، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية، ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبّد، ثم قصد مصر، وأقام مدّة بالإسكندرية، فقيل: عزم على المضيّ إلى يوسف بن تاشفين8، سلطان مراكش، فبلغه نعيه ثم عاد إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم التعريف بهم في ص401.
2 ذكره الذهبي في السير 19/495، بتمامه، ونقله السيخ (المصنف) هنا بتصرف واختار شديدين.
3 هو علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين، أبو القاسم الدمشقي الشافعي، الحافظ الكبير، محدث الشام، صاحب "تاريخ دمشق" (ت571هـ). تذكرة الحفاظ 4/1328، سير الأعلام 20/554، النجوم الزاهرة 6/77.
4 في (ب): (الحمصي). وفي سير الأعلام19/334: (الحفصي).
5 لم أجد كلام ابن عساكر هذا في تاريخه، وقد نقل الذهبي كلامه في سير الأعلام 19/334؛ والسبكي في طبقاته 6/197، وعزاه إلى الذهبي، وقال: "كذا نقل شيخنا الذهبي، ولم أجد ذلك في كلام ابن عساكر، لا في (تاريخ دمشق) ولا في (التبيين).
6 في (د): حذكان، وهو خطأ. والصواب المثبت، وهو: أحمد بن محمد بن أبي بكر إبراهيم بن خلّكان، شمس الدين أبو العباس البرمكي الشافعي، صاحب وفيات الأعيان، (ت681هـ)، وفيات الأعيان 1/5، طبقات السبكي 5/14؛ والنجوم الزاهرة 7/353.(2/98)
7 هو الحسين بن علي بن إسحاق، أبو علي الطوسي، نظام الملك، أنشأ المدرسة الكبرى ببغداد، وأخرى بنيسابور، وأخرى بطوس، (ت480هـ)؛ سير الأعلام 19/94، طبقات السبكي 4/309.
8 هو يوسف بن تاشفين اللَّيموني البدري الملثَّم، أمير المرابطين، صاحب الغرب، (ت500هـ). سير الأعلام 19/252؛ شذرات الذهب 3/412.(2/99)
ص -411- ... الطوس، وصنَّف (البسيط)، و(الوسيط)، و(الوجيز)، و(الخلاصة)، و(الإحياء)، وألف(المستصفى)، في أصول الفقه، و(المنخول)، و(اللباب)، و(المنتحل في الجدل)، و(تهافت الفلاسفة)، و(محك النظر)، و(معيار العلم)، و(شرح الأسماء الحسنى)، و(مشكاة الأنوار)، و(المنقذ1 من الضلال)، و(حقيقة القولين)، وأشياء2، انتهى.
قال عبد الله بن علي الأشيري3: سمعت عبد المؤمن4 بن علي /القيسي/5، سمعت /أبا/6 عبد الله بن تومرت7، يقول: أبو حامد الغزالي، قرع الباب، وفتح لنا.8
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ: (والمنتقذ) وهو خطأ. وقد أورده السبكي في الطبقات 6/225 بما أثبته عليه.
2 ذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان 4/217-218؛ وذكره الذهبي في السير 19/334-335.
*ذكر السبكي في الطبقات 6/224-227، معظم مصنفاته، وكذلك ذكرها عبد الكربم عثمان في سيرة الغزالي ص87،202-205. وذكر آثاره المحفوظة في ص215.
3 هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي الصِّنهاجي الأشيري، أبو محمد، من كبار المالكية، حدّث عن القاضي عياض وغيره. (ت561هـ). سير الأعلام 20/466؛ شذرات الذهب 4/198.
وفي جميع النسخ: (الأثيري) وهو خطأ، والصواب (الأشيري) كما وردت في كتب التراجم.
4 هو عبد المؤمن بن علي بن علوي، الكوفي القيسي المغربي، سلطان المغرب الذي يلقب بأمير المؤمنين. ولد عام487هـ؛ وتوفي (558هـ). وفيات الأعيان 3/237، سير الأعلام 20/366.
5 في (أ) و(ب) و(ج): (الفنسي). وفي (د): (الفن) والتصحيح من المطبوع وسير الأعلام 20/366.
6 ساقط في جميع النسخ؛ والتكملة من سير الأعلام 19/366.
7 هو محمد بن عبد الله بن تومرت البربري، أبو عبد الله المصمودي، المدعي أنه حسني، وأنه الإمام المعصوم المهدي، (ت524هـ). وفيات الأعيان 5/45-55، سير الأعلام 19/539.
8 انظر سير الأعلام 19/336.(2/100)
ص -412- ... قال: أبو محمد العثماني1، وغيره، سمعنا محمد بن يحيي العذري2، المؤدِّب يقول: رأيت بالإسكندرية، سنة خمسمائة، كأنّ الشمس طلعت من مغربها، فعبّرها لي عابرٌ، ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام3 وصل الخبر، بإحراق كتب الغزالي من المّرِيَّة4.5
قال أبو بكر بن العربي، (في شرح الأسماء الحسنى): قال شيخنا أبو حامد قولاً عظيماً، انتقده6 عليه العلماء، /قال/7: وليس في قدرة الله تعالى، أبدع من هذا العالم، في الإِتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع، أو أحكم منه، ولم يفعله، لكان ذلك منه قضاءً للجور، وذلك محال8.
ثم قال9: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة، ونفي النهاية، عن تقدير المقدورات المتعلقة بها، ولكن /في تفصيل هذا العلم/10 المخلوق، لا في سواه؛ وهذا رأي فلسفي، قَصَدَت به الفلاسفة قلبَ الحقائق، ونسبة الإِتقان إلى الحياة مثلاً؛ والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيلٌ إلى الصواب.
وأجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إنّ المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الله بن عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل، أبو محمد العثماني، القاضي المحدث الثقة، (ت572هـ). سير الأعلام 230/597، النجوم الزاهرة 6/80، شذرات الذهب 4/241.
2 هكذا في جميع النسخ؛ وعند الذهبي في السير: (العبدري) ولم أقف على ترجمته.
3 في (د): بأيام.
4 المريّة: قرية بالأندلس.
5 انظر سير الأعلام 19/336.
6 الهاء في انتقده ساقط في (د).
7 في جميع النسخ: (وقال) بزيادة واو العطف، وليس ثمّة معطوف عليه.
8 الإملاء عن إشكالات الإحياء 5/38.
9 أي أبو بكر بن العربي.
10 في جميع النسخ: (في تفصيل هذا العلم). وفي نص سير الأعلام 19/337 –نقلاً عن شرح الأسماء الحسنى- ما أثبتُّه.(2/101)
ص -413- ... ثم قال: هذه وهلةٌ لا لعاً بها1، و/مزلةٌ/2 لا /تماسك/3 فيها، ونحن وإن كنَّا نقطةً من بحره، فإنا لا نردُّ عليه إلا بقوله4.
ومما أُخذ عليه: قوله: إنَّ للقدر سراً /نُهينا/5 عن إفشائه6.
فأي سرًّ للقدر؟ فإن كان مدركاً بالخبر، فما ثبت فيه شيءٌ، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان، فهذه دعوى محضة، فلعله عنى بإفشائه: أن تعمَّق في القدر، وبحث فيه7.
قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم8، أنبأنا أبو الحسن السخاوي9، أنبأنا حطاب بن قمريّة الصوفي10، أنبأنا سعد بن أحمد الاسفرائيني11 بقراءتي، أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الطوسي12، قال: اعلم أنّ الدين شطران، أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات، وترك المناهي هو الأشد، والطاعات يقدر عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال أبو عبيد: من دعائهم: لا لعاً لفلان، أي: لا أقامه الله! والعرب تدعو على العاثر من الدواب إذا كان جواداً بالتعس، فتقول تعساً له! وإن كان بليداً كان دعائهم له إذا عثر، لعاً لك. لسان العرب 15/250، مادة (لعا).
2 في جميع النسخ (منزلة). والتصحيح من السير 19/337.
3 في المطبوع: (تمسك).
4 سير الأعلام 19/337.
5 في (د): نهياً.
6 الإحياء 1/95؛ والإملاء عن إشكالات الإحياء 5/34.
7 سير الأعلام 19/337-338.
8 هو محمد بن عبد الكريم بن علي بن أحمد المقرئ المعمر، نظام الدين، أبو عبد الله التبريزي ثم الدمشقي الشافعي، ولد في حدود سنة 610هـ، وكان خيِّراً متواضعاً. (ت704هـ) سير الأعلام 19/338 هامش (أ).
9 هو علي بن محمد بن عبد الصمد بن عطاس، أبو الحسن الهمداني، المصري، السخاوي، الشافعي، نزيل دمشق. شرح "الشاطبية" و المفصل" وله "جمال القراء" وغيرها. (ت643هـ). وفيات الأعيان 3/340؛ سير الأعلام 23/122.
10 في سير الأعلام 19/338: (حطلبا). ولم أقف على ترجمته.
11 لم أقف على ترجمته.(2/102)
12 هو الغزالي. وقد تقدمت ترجمته في ص393.(2/103)
ص -414- ... كل أحد، وترك الشَّهوات لا يقدر عليه إلاّ الصدِّيقون1.
وكذلك قال أبو عامر العبدري2: سمعت أبا نصر، أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي3، يحلف بالله أنه أبصر في نومه، كأنّه ينظر في كتب الغزالي، فإذا هي كلِّها تصاوير4.
وقال /محمد بن الوليد/5 الطرطوشي6، في رسالته إلى ابن المظفر7، فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته وكلمته، فرأيته8 جليلاً من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غُمار العُمَّال، ثم تصوَّف، وهجر العلوم، وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاِّج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل "الإحياء" عمد أن يتكلّم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا بمعرفتها، فسقط على أم رأسه،وشحن كتابه بالموضوعات9.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سير الأعلام 19/339.
2 هو محمد بن سعدون بن مرجَّى بن سعدون القرشي، أبو عامر العبدري، المغربي الظاهري، نزيل بغداد. قيل: كان مجسِّماً. (ت524هـ). تذكرة الحفاظ 4/1272، سير الأعلام 19/579، شذرات الذهب 4/70.
3 هو أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي أبو بصير الخطيب (ت525هـ). سير الأعلام 19/543.
4 سير الأعلام 19/339.
5 في جميع النسخ: (أبو الوليد) وهو خطأ، والصحيح من سير الأعلام 19/339.
6 تقدّمت ترجمته في ص409.
7 هو عبد الله بن المظفر بن عبد الله بن محمد الباهلي، المعروف بالمغربي، أبو الحكم، حكيم أديب، أصله من المريّة بالأندلس، سكن دمشق وتوفي بها عام (549هـ). وفيات الأعيان 3/123-125، معجم المؤلفين 6/153-154، وشذرات الذهب 4/153.
8 في جميع النسخ: (ورأيته). والتصحيح من سير الأعلام 19/339، وطبقات السبكي 6/243.(2/104)
9 أورده الذهبي في السير 9/339. والسبكي في طبقاته 6/243.(2/105)
ص -415- ... قال الذهبي بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي: قلت: (أما "الإِحياء" فقيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خيرٌ كثيرٌ، لولا ما فيه من الآداب ورسوم، وزهد من طريق الحكماء، ومنحرفي الصوفيّة؛نسأل الله علماً نافعاً؛ تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القران، وفسّره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً، وفعلاً، ولم يأت نهي عنه؛ قال عليه السلام: (من رغب عن سنتي فليس منِّي)1 فعليك يا أخي بتدبُّر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي2، ورياض النووي3، وأذكاره، تفلح وتنجح، وإيَّاك وآراء عبَّاد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات4، وجوعَ الرهبان، وطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات؛ فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فوا غوثاه بالله؛ /اللَّهُمَّ اهدنا إلى صراطك المستقيم/5)6، انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جزء من حديث طويل، وتمامه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا ةكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي" صحيح البخاري مع الفتح 9/5-6، النكاح، باب الترغيب في النكاح. صحيح مسلم بشرح مسلم 10/185، النكاح، باب استحباب النكاح.
2 تقدّمت ترجمته في ص 310.(2/106)
3 هو يحيى بن شرف بن مرى بن حسن، أبو زكريا، محي الدين النووي، الحوراني الشافعي؛ صاحب التصانيف، منها: المجموع شرح المهذب، شرح صحيح مسلم، والأذكار، وتهذيب الأسماء واللغات وغيرها؛ (ت676هـ). تذكرة الحفاظ 4/1407؛ النجوم الزاهرة 7/278؛ الأعلام للزركلي 8/149.
4 يعني الصوفية.
5 هكذا في سير الأعلام 19/340-أصل النص-، وفي جميع النسخ: اهدنا الصراط المستقيم.
6 سير الأعلام 19/339-340.(2/107)
ص -416- ... ولمحمد بن علي /المازَرِي/1 /الصّقيلِّي/2، كلامٌ على (الإِحياء)، قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا، في الكتاب المترجم بـ(إحياء علوم الدين)، وذكرتم أنّ آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت، وتعصّبت لإِشهاره، وطائفة حذّرت منه، ونفّرت، وطائفة لكُتُبِه أحرقت.و/كاتَبَني/3 أهل المشرق أيضاً /يسألونني/4، ولم يتقدّم لي قراءةُ هذا الكتاب، سوى نبذة منه، فإن نفَّس الله في العمر، مددتُ /فيه/5 الأنفاس، وأزلتُ عن القلوب الالتباس.
اعلموا أنّ هذا6 [الرَّجل،وإن لم أكن قد قرأت كتابه، فقد]7 رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعاً من حاله، ما قام مَقام العِيَانِ، فأنا أقتصر على ذكرِ حاله، وحال كتابه، و/ذكرِ جُمَلٍ/8 من مذاهب الموحِّدين، والمتصوِّفة، وأصحاب الإِشارات، والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين /هذه/9 الطرائق.
ثم قال10: وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين11، فإنه صنّف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فَطِنْتُ لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة، قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ: (المازني) وهو خطأ. والتصحيح من سير الأعلام 19/340، وهو كذلك في طبقات السبكي 6/240؛ وقد تقدّمت ترجمته في ص 396.
2 في جميع النسخ: (الصقيلي). وقد ضبطه الذهبي في السير 19/340، بما أثبته عليه.
3 في المطبوع: وكاتبوني.
4 في جميع النسخ: يسألوني. بدون نون الوقاية.
5 كذا في (ب) وفي سير الأعلام 19/341، وفي بقية النسخ: (منه).
6 الإشارة إلى الغزالي.
7 ما بين المعقوفين ساقط في جميع النسخ، حتى في سير الأعلام. والتكملة من الطبقات الكبرى للسبكي 6/240.
8 في (أ): وذكر جملاً، وهو الخطأ. وفي المطبوع: (وأذكر جملاً).
9 في (د): هذا.
10 أي المازَري.(2/108)
11 قوله: (أما علم الكلام الذي هو أصول الدين): فعلم الكلام ليس هو أصل الدين، ولم يكن كذلك في يوم من الأيام، وإنما المتكلمون أنفسهم هم الذين أدخلوه وجعلوه أصلاً فيه. ومن المعلوم أن علم الكلام والجدل مذموم في فروع الدين، فما بالك بأصوله!(2/109)
ص -417- ... استبحاره في فنّ الأصول، فأكسبته الفلسفة جراءةً على المعاني، وتسهيلاً للهجوم على الحقائق، لأنّ الفلاسفة تمرُّ مع خواطرها، لا يزعها شرعٌ.
وعرَّفني صاحب له، أنه كان له عكوف على (رسائل إخوان الصفا)؛ وهي إحدى وخمسون رسالة؛ ألَّفها من قد خاض في علم الشرع، والنقل، وفي الحكمة؛ فمزج بين العلمين، وقد كان رجلٌ يُعَرفُ بابن سينا1، ملأ الدنيا تصانيفَ، أدَّته قوَّته في الفلسفة، إلى أن حاول ردّ أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطَّف جُهْدَه، حتى تمَّ له ما لم يتم لغيره2.
ورأيت هذا آخر /الموجود/3 من هذه الرسالة، /وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، أبو علي البلخي، ثم البخاري، العلاّمة الشهير الفيلسوف، صاحب التصانيف في الطب والفلسفة والمنطق، (ت428هـ). عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة (ت618هـ). تحقيق د.نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت 1965 م، ص437-459. سير الأعلام 17/531-536.
2 لعل كلام المازري هذا من كتابه "الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء" المشار إليه ص386. وقد نقل الذهبي كلامه هذا في سير الأعلام 17/340-341؛ والسبكي في طبقاته 6/240-241.
3 في (د): ما وُجِدَ.
4 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
*كلمة حول الغزالي وكتابه "الإحياء":
ما ذكره المصنِّف هنا، هو بعض ما قاله كثيرٌ من العلماء في الغزالي ومصنفاته، خاصة كتابه (إحياء علوم الدين)؛ فقد تنازعوا فيه ولم يزالوا إلى اليوم، وذلك بين ناقد ومدافع، يخالفون بعضهم بعضاً، ويردُّ هذا على هذا، وهنا يمكن اختصار القول فنقول:(2/110)
إنّ الغزالي يمكن الحكم عليه من خلال ما تركه من تراث علمي هائل؛ فقد كانت بدايته بالفقه وأصوله، ثم بالمعقولات (علم الكلام وما يتعلق به من المنطق والفلسفة)، ثم بالتصوف علماً عملاً ورياضةً، وفي هذه المرحلة ألّف الإحياء، ويكون النظر في مؤلفاته على النحو(2/111)
ص -418- ... ...................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=الآتي:
أولاً: مؤلفاته في جانب الإلهيات والعقائد:
ونحن بالنظر إلى مؤلفاته في الإلهيات والعقائد، نجده قد أدخل نفسه في مضايق الفلاسفة، فزلّت قدماه كثيراً، وانحرف عن عقيدة السلف الصالح إلى آراء فلسفيّة، واعتزاليّة وأشعريّة وصوفيّة؛ ويبدو ذلك جليّاً في كتبه كالإحياء، والاقتصاد في الاعتقاد وغيرهما. وفي هذا الجانب، يصح قول النقاد فيه وفي مؤلّفاته. ولا يحتاج ذلك إلى جدل.
ثانياً: ما ألفه في جانب الفنون الأخرى:
أما بالنظر إلى ما ألفه في الفنون الأخرى كالفقه والأصول والزهد ونحوها، فإنّ الرجل قد كان له قدم ثابت في تلك المجالات، وقدّم للناس فيها ما يفيد.
ثالثاً: مؤلفاته في الردود:
ثمّ إنّ له مجهوداً جباراً في الردِّ على الفلاسفة والباطنية، بما لم يسبق إليه –كما ذكر ذلك العلماء- وله في ذلك عدّة مؤلفات منها:
[1-كتاب الرد على الباطنيّة 2-قواصم الباطنية 3-المستظهري (في الرد على الباطنية) 4-كتاب تهافت الفلاسفة 5-المقاصد في بيان اعتقاد الأوائل؛ ويعرف بـ (مقاصد الفلاسفة) 6-كتاب بيان فضائح الإمامية 7-الرد على من طغى. وغير ذلك].
قال الذهبي –رحمه الله في سير الأعلام 19/328: (قد ألّف الرجل في ذم الفلاسفة، كتاب (التهافت) وكشف عوراتهم). وقد تقدّم للمصنّف إيراد هذا القول في صفحة 403؛ وقال الشيخ محمد رشيد رضا، في تعليقه على كلام المصنف في مجموع الرسائل والمسائل النجدية 3/141: (وأما أبو حامد فقد ردّ على الفلاسفة ردّاً لم يسبقه مسلم إلى مثله، ورسائل إخوان الصفا يعزوها شيخ الإسلام إلى الباطنية، وقد أّلف أبو حامد عدّة كتب في الردّ عليهم، لم يسبق إلى مثله مسابق، ولم يلحقه لاحق).
رابعاً: كتب أخرى ألفها في آخر عهده:(2/112)
أمّا بالنظر إلى ما ألّفه في آخر عهده بالتأليف، فإننا نلمس فيها عودة الرجل واعتداله على الطريق السليم –كما حدث لغيره من أئمة السلف الأجلاء-، كأبي الحسن الأشعري، ومما كتبه في ذلك:
1-كتاب: (إلجام العوام عن علم الكلام) فنجد الغزالي قد أشاد فيه بمذهب السلف، وتحدّث عن حقيقته، مبيّناً أنّه من خالف السلف فهو مبتدع، لأنه مذهب الصحابة والتابعين، وقد أُخِذَ من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، فكل خير في اتباعهم، وكل(2/113)
ص -419- ... .......................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرٍّ في الابتداع بعدهم.
وقد أشار شيخ الإسلام في المجموع 4/74، إلى هذا الكتاب في معرض حديثه عن الغزالي، فقال: (... وبعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنّف "إلجام العوام عن علم الكلام"). وكذلك تحدث عنه الشيخ محمد أمان الجامي في الصفات الإلهية في الكتاب والسنة صفحة166.
2-بغية المريد في الرسائل التوحيد: قال عنه الشيخ محمد أمان في الصفات الإلهية ص166-167: (هي جملة رسائل مفيدة وجليلة ومشتملة على كثير من المعاني اللطيفة، وما يجب على المخلوق للخالق جلّ شأنه، وعلى ما يجب معرفته على كل إنسان من علم التوحيد، وقد تحدث فيها عن تنزيه الخالق، وأنه لا يشبهه شيءٌ ولا يشبه شيئاً، وكل ما خطر بالبال والوهم والخيال من التكييف والتمثيل فإنه سبحانه منزه عن ذلك). ونقل الشيخ الجامي –رحمه الله- من تلك الرسائل، قولَ الغزالي: (وليس العرش بحامل له، بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، وأنّه تقدّس عن الحاجة إلى مكان قبل خلق العرش وبعد خلقه، وأنّه يتصف بالصفات التي كان عليها في الأزل).(2/114)
فإذا كان هذا هو المسلك الأخير الذي سلكه الشيخ في آخر حياته، فإنه لن يكون أمامنا سوى القول بأن الأعمال بالخواتيم، مع إحسان الظنّ في الرجل، إذ أنه بذلك تكون خاتمته خاتمة السعادة، خاصة أنها كانت –إضافة إلى ذلك- بالرجوع إلى كتب السنة، والعكوف على الصحيحين (البخاري ومسلم). قال الذهبي –رحمه الله- في سير الأعلام 19/325-326: (وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفنّ). ونقل ذلك السبكي في طبقاته 6/210. ورغم كل ذلك، يجب علينا اتخاذ الحذر والحيطة في تعاملنا مع مصنّفاته، والتنبيه على ما فيها من مغالطات وانحرافات، خاصة ما يكثر تداولها وتواجدها في مكتباتنا الإسلامية "كالإحياء"، وبالأخص ما يتعلق بالجانب العقدي.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: (والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام فلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوّة والمعاد،... وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفيّة وترهاتهم، وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفيّة العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه). مجموع الفتاوى 10/551-552.(2/115)
ص -420- ... ........................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال المازري عند كلامه على الإحياء: (من لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب، فإنَّ قراءته لا تجوز له، وإن كان فيه ما ينتفع به). انظر: شرح العقيدة الأصفهانية، لابن تيمية، دار الكتب الحديثة، مصر ص134.(2/116)
ص -421- ... (الرِّسَالَةُ الثَامِنَةُ عَشَرَةِ)
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً –قدس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى صالح بن عثمان ابن عقيل1، [سأله2 عن السّمْتِ والهدي والاقتصاد، وعن التؤدة، وعن الرؤيا التي ذُكرت في الأحاديث ما معناها، وهل هذه الخصال جزء من أربع وعشرين جزء من النبوّة فأجابه –رحمه الله وعفا عنه-]3 /بما نصه/4:5
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم صالح بن عثمان بن عقيل –سلّمه الله تعالى- وتولاّنا وإيّاه في الدنيا والآخرة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما أنعم به من سوابغ نعمه، وألبس من ملابس فضله وكرمه، جعلنا الله وإيّاكم ممن عرف نعمة الله عليه، فاستعان بها فيما يقرِّبه إليه.
والوصية الجامعة العظمى، ما أوصى الله به سبحانه من التقوى، وتفاصيلها على القلوب والجوارح بحسب الأحوال والأوقات، لا يخفى على من له /به/6 اهتمام، وله إليه التفات، والأحاديث التي سألت عن معناها7، قد تكلم عليها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أطلع على ترجمته.
2 هنا زيادة كلمة (فيها) وهي غير صالحة هنا، لأنه بذلك يقتضي كون الرسالة من الشيخ وليس كذلك.
3 ما بين المعكوفين زيادة في (ب).
4 في (أ) و(ج) والمطبوع: وهذا نصها.
5 هذه المقدمة كلها ساقطة في (د).
6 ساقط في (د).
7 الظاهر أنّ من بين الأحاديث التي سأل عن معناها:(2/117)
ص -422- ... بعض العلماء بما حاصله: أنَّ السَّمْت1 والهدي، في حالة الرجل ومذهبه وخلقه، وأصل السمت في اللغة: الطريق المنقاد2، ثم نقل لحالة الرجل وطريقته في المذهب والخلق.
والاقتصاد: سلوك القصد في الأمر، والدخول فيه برفق، وعلى سبيل يمكن الدوام عليه3، وأمّا التؤدة: فهي التأنِّي والتمهُّل، وترك العجلة وسبق الفكر والرؤية للتلبس في الأمور.
وأما كون هذه الخصال /جزءاً/4 من أربع وعشرين /جزءاً/5 من النبوة، فقد قيل: إنّ هذه الخلال من شمائل الأنبياء عليهم السَّلام، ومن الخصال المعدودة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=(أ) حديث حذيفة:عن عبد الرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السَّمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه، فقال: ما أعرف أحداً أقرب سمتاً وهدياً من النبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عَبد. يعني ابن مسعود. صحيح البخاري مع الفتح 7/128، فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال ابن حجر –رحمه الله- في معنى الحديث: (سمتاً) أي خشوعاً، (وهدياً) أي طريقة، (ودلالة) أي سيرة وحالة وهيئة. فتح الباري 7/128.
(ب) عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد، جزء من خمس وعشرين جزءاً من النبوة). سنن أبي داود 5/136، الأدب باب في الوقار؛ سنن الترمذي 4/321-322، البر والصلة، باب ما جاء في التأني والعجلة، وقال الترمذي: (حديث حسن غريب) وفي إسناده: قابوس بن أبي ظبيان، لا يحتج بحديثه. انظر التعليق بهامش سنن أبي داود 5/137.
1 السَّمت: حسن النحو في مذهب الدين، يقال: إنه لحسن السمت، أي: حسن القصد والمذهب في دينه ودنياه. لسان العرب 2/46، مادة (سمت).
2 المرجع السابق، نفس الصفحة.(2/118)
3 هذه المعاني يذكرها المصنف هنا، هي ما فسّر بها الخطابي لحديث ابن عباس المتقدم ذكره آنفاً. انظر معالم السنن المطبوع مع سنن أبي داود 5/136.
4 في (ج) و(د): جزء.
5 في (ج) و(د): جزء.(2/119)
ص -423- ... خصالهم، /وأنها/1 جزء من أجزاء فضائلهم، فاقتدوا بهم فيها، وتابعوهم عليها قالوا: وليس معنى الحديث أن النبوّة تتجزّأ، ولا أنَّ من جمع هذه الخلال كان فيه جزء من النبوّة؛ فإنَّ النبوة غير مكتسبة، ولا مجتلبة بالأسباب2، وإنما هي كرامة من الله تعالى، وخصوصيّة لمن أراد الله إكرامه من عباده، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}3، فقد انقطعت النبوّة بمحمد صلى الله عليه وسلم.4
وفيه وجه آخر وهو: أن يكون معنى النبوة ها هنا، ما جاءت به النبوّة، ودعت إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (د).
2 كما يقوله الباطنية والفلاسفة. انظر: الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام، ليحيى بن حمزة العلوي (745هـ)، تحقيق: فيصل بدير عون، نشر منشأ المعارف بالإسكندرية، مصر ص20-21؛ الحركات الباطنية في العالم الإسلامي، عقائدها وحكم الإسلام فيها، د. محمد أحمد الخطيب، مكتبة الأقصى، الأردن ط/2، 1406هـ- 1986م، ص96.
3 سورة الأنعام الآية (124).
4 معالم السنن بحاشية سنن أبي داود 5/136-137.
*هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ويدل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40]. وقد خالف هذا المعتقد السليم، فرقة القاديانية (الأحمدية) التي تدّعي لنفسها نبياً بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو "غلام أحمد القادياني" المولود في قرية قاديان، من إحدى قرى البنجاب في باكستان، عام 1839م، وقد توفي هذا المتنبي سنة 1908م، [القاديانية دراسات وتحليل، للأستاذ إحسان إلهي ظهير، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، ط/1، 1387هـ- 1967م، ص268-22؛ وما هي القاديانية، لأبي الأعلى المودودي، طبعة عام 1389هـ- 1969م، ص9،19،175].(2/120)
ولا شك أنّ خروج مثل هذا النبي إن هو إلا تصديقاً لقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، الذي لا ينطق عن الهوى؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأنه سيكون كذّابون يدَّعون النبوة بعده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجَّالون كذّابون قريب من ثلاثين، كلُّهم يزعم أنه رسول الله". صحيح البخاري مع الفتح 13/88، الفتن، باب (25) حدّثنا مسدّد؛ صحيح مسلم بشرح النووي 18/260، الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر رجل فيتمنّى أن يكون مكان الميت من البلاء، (84). فغلام أحمد القادياني أحد ألئك الكذّابين الثلاثين.(2/121)
ص -424- ... الأنبياء عليهم السلام؛ يعني أن هذه الخلال من خمسة وعشرين جزءاً مما جاءت به النبوّات، ودعت إليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أُمرنا بإتباعهم في قوله عز وجل: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}1.
قالوا: وقد يحتمل وجهاً آخر وهو: أن من اجتمعت له هذه الخصال، لقيه الناس بالتعظيم والتوقير، وألبسه الله لباس التقوى، الذي يلبسه أنبياءه، فكأنّها جزءٌ من النبوّة2.
قلت: وما قبل هذا أليق بمعنى الحديث.
وأما حديث الرُّؤيا3، فقيل4، معناه: تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده، وهو جزء من أجزاء النبوّة في الأنبياء صلوات الله عليهم دون غيرهم، لأنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ. قال عمرو بن دينار5 عن عبيد بن عمير6: (رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحيٌ، وقرأ قوله عز وجل: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}7).8
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام الآية (90).
2 إلى هنا انتهى كلام الخطابي الذي حكاه المصنف ابتداءاّ من أول جوابه: (والأحاديث التي سألت عن معناها قد تكلم عليها بعض العلماء...) ص422. انظر: معالم السنن بحاشية أبي داود 5/136-137.
3 هو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة". وفي رواية أبي سعيد الخدري: (الرُّؤيا الصالحة...) الحديث؛ صحيح البخاري مع الفتح 12/389-390، التعبير باب الرؤيا الصالحة.
4 القائل هو الإمام الخطابي –رحمه الله- في معالم السنن، المطبوع مع سنن أبي داود 5/281.
5 هو عمرو بن دينار أبو محمد الجمحي مولاهم، المكي الأثرم، الإمام الحافظ، أحد الأعلام، سمع من الصحابة. سير الأعلام 5/300؛ تهذيب التهذيب 8/28.(2/122)
6 هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي الجنُدعي المكي الواعظ المفسر، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان من ثقات التابعين وأئمّتهم بمكة. (ت74هـ). أسد الغابة 3/353، تذكرة الحفاظ 1/50، سير الأعلام 4/156.
7 سورة الصافات الآية (102).
8 صحيح البخاري مع الفتح 1/287-288، الوضوء، باب التخفيف في الوضوء.(2/123)
ص -425- ... وأما تحديد الأجزاء بالعدد المذكور في الحديث، فقد قال فيه بعض أهل العلم: إنه أوحي إليه صلى الله عليه وسلم بمكة ستة أشهر في منامه، ثم توالى الوحي يقظةً إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم وكانت مدة الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، منها نصف سنة في أول الأمر، يوحى إليه في منامه، ونسبة الستة الأشهر لبقيّة مدة الوحي، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
وسئل بعض أهل العلم عن هذا الحديث قال: معناه أنّ الرؤيا تجيء على موافقة النبوّة لأنها جزء من باق النبوّة.
وقال بعضهم: إنها جزء من أجزاء علم النبوّة، /وعلم النبوّة/1 باقٍ، والنبوّة غير باقية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. "ذهبت النبوّة وبقيت المبشِّرات، الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له"2،.3
وعندي أن النبوة التي هي الوحي بشرائع الأنبياء، عبارة عن نبأ أو شأن عظيم في القوة، وإفادة اليقين، والرؤيا الصالحة التي هي من أقسام الوحي جزء باعتبار القوة، وإفادة العلم من ستة وأربعين جزءاً، ولا يقتضي هذا تجزؤ النبوة، وأنها مكتسبة، ولا إطلاق اسم النبوة على هذا الجزء، لأن المسمى هو الكل المستجمع لجميع الأجزاء فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في المطبوع.(2/124)
2 الجزء الأول من الحديث: "ذهبت النبوة وبقيت المبشرات" أخرجه الإمام أحمد في مسنده 6/381، وابن ماجة في سننه 2/355، التعبير، باب الرؤيا الصالحة. والدارمي في سننه 2/166، الرؤيا، باب ذهبت النبوّة، قال الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت 3/158: (صحيح). وورد الجزء الآخر، في رواية مسلم: "لم يبق من مبشرات النبوّة إلاّ الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له". صحيح مسلم بشرح النووي 4/442، الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود. وأخرجه النسائي في سننه 2/189-190، الافتتاح، باب تعظيم الرب في الركوع. وابن ماجة في سننه 2/356، الرؤيا، باب الرؤيا الصالحة.
3 إلى هنا ينتهي كلام الخطابي في معالم السنن بحاشية سنن أبي داود 5/281.(2/125)
ص -426- ... محذور. ويمكن أن يقال هذا فيما تقدم من قوله: "الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمس وعشرين جزءاً1 من النبوة"2. هذا ما ظهر لي، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم /تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. تحريراً في 29 صفر 1319هـ/3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ج) و(د): جزء.
2 تقدم تخريجه في ص 422.
3 ساقط في جميع النسخ. مثبت في (أ).(2/126)
ص -427- ... (الرِّسَالَةُ التَّاسِعَةُ عَشَرَةِ)1
قال جامع الرسائل:
وله أيضاً -قدس الله روحه ونوَّر ضريحه- رسالة إلى الإمام فيصل2 -رحمه الله-، نصحه فيها، وذكّره نعمة الله على خلقه ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أكمل الله به الدين، وبلَّغ البلاغ المبين، وترك الناس على المحجة، حتّى /لم يبق/3 لأحد على الله حجَّة4. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم مع ما أيّده الله به من الآيات، والأدلّة القاطعة، والبراهين الساطعة الدالة على صدقه، وثبوت رسالته؛ كابر مَن كابر وعاند مَن عاند، حتى ظهر الإسلام ظهوراً ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك؛ ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات، والاتساع في فعل المحرَّمات، فضعُفت القوَّةُ الإسلامية، وغَلِظَتْ الحجب الشهوانيّة، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن؛ فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيِّئات. وذكر له -رحمه الله- أنّ الله يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها أمر دينها، ولكن لا بد له من معارض معاند.
ثمّ ذكّره -رحمه الله- ما منَّ الله به عليهم واختصّهم به من بين الأمم بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -أجزل الله له الأجر والثواب، وأدخله الجنة بغير حساب ولا عذاب- وما حصل /بها/5 من ظهور الإسلام، وتبين الدين والأحكام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 206-211.
2 تقدّمت ترجمته في ص39.
3 في (د): لم يبق.
4 كما جاء في ذلك قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:165].
5 في (د): به.(2/127)
ص -428- ... إلى أن حصل ممن بعده من فتنة الشهوات، والسلوك إلى مفاوز المهالك، نظير ما وقع بعد الصدر الأول من ذلك، ثم ردَّ الله لهم الكرّة بعد تلك العساكر الطاغية، وأشرار الحاضرة والبادية، فظهر الإسلام وانتشر في البلاد، وسمت أحكام الشريعة، وانتشرت في العباد. ولكن حصل في /خلال/1 ذلك، من أظهر الطعن في العقائد، /وتكلَّم كلُّ كاره للحق و2 معاند/3، وصار أمر العلم والعقائد لعباً لكل منافق وحاسدٍ.
فكتب –رحمه الله- /له/4هذه النصيحة، وحذّره من الوقوع في أسباب النقم والفضيحة، ولم أجد تصديرها باسمه، وإنما وجدت: كتب بعضهم إلى الإمام صورته وهي بقلم كاتبه، وهذا نصُّها:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الإمام المكرم فيصل -وفّقه الله لقبول النصائح، وجنّبه أسباب الندم والفضائح- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فلا يخفى عليك أن الله تعالى ما أنعم على خلقه نعمةً أجلُّ وأعظم من نعمته ببعثة عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فإنّ الله بعثه وأهل الأرض عربهم وعجمهم، كتابيّهم وأميّهم، قرويّهم، وبدويّهم، جهَّال ضلاّل، على غير هدى ولا دين يُرتضى5، إلاّ من شاء الله من غبرَ أهل الكتاب6، فصدع بما أُحِيَ إليه، وأُمِر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ عدا المطبوع: خلل.
2 الواو في (ومعاند) زائد في (ب).
3 في المطبوع: (وتكلّم كل من كان للحق معاند).
4 زائد في (ج) و(د) والمطبوع.
5 وفي هذا قال صلوات الله وسلامه عليه، مذّكراً للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرِّقين فألَّفكم الله بي..." الحديث. صحيح البخاري مع الفتح 7/644، المغازي، باب غزوة الطائف.
6 من أمثال: ورقة بن نوفل بن أسد، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعثمان بن الحويرث بن أسد، وعبد الله بن جحش. انظر: البداية والنهاية 2/221.(2/128)
ص -429- ... بتبليغه1. وبلّغ رسالة ربه، وأنكر ما الناس عليه من الدِّيانات المتفرِّقة، والملل المتباينة المتنوِّعة، ودعاهم إلى صراط مستقيم2، ومنهج واضح كريم، يصل سالكه إلى جنات النعيم، ويتطّهر من كلِّ خلق ذميم، وجاءهم من الآيات والأدلة القاطعة [الدالة]3 على صدقه وثبوت رسالته، ما أعجزهم وأفحمهم عن معارضته، ولم يبق لأحد على الله حجّة، ومع ذلك كابر من كابر وعاند من عاند، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}4، ورأوا أنّ الانقياد له صلى الله عليه وسلم وترك ما هم عليه من النحل وملل، يجرُّ عليهم من مسبَّة لآبائهم وتسفيه أحلامهم، أو نقص رئاستهم، أو ذهاب مآكلهم، ما يحول بينهم وبين مقاصدهم ومآربهم، فكذلك عدلوا إلى ما اختاروه من الردّ والمكابرة والتعصُّب على باطلهم والمثابرة؛ وأكثرهم يعلمون أنه محقٌ، وأنه جاءهم بالهدى ودعا إليه، لكن في النفوس موانع، وهناك إرادات ومؤاخات ورئاسات، لا يقوم ناموسها، ولا يحصل مقصودها إلاّ بمخالفته، وترك الاستجابة له وموافقته. وهذا هو المانع في كل زمان ومكان، من متابعة الرسل وتقديم ما جاءوا به؛ ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإسلام الوجه له خصمان.
وما زال حاله صلى الله عليه وسلم مع الناس كذلك حتى أيّد الله دينه، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم بصفوة أهل الأرض وخيرهم ممن سبقت له من الله السعادة، وتأهل بسلامة صدره لمراتب الفضل والسيادة، فأسلم منهم الواحد بعد الواحد، وصار بهم على إبلاغ الرسالة معاون ومساعد، حتّى منّ الله على ذلك الحيِّ من الأنصار بما سبقت لهم به من الحسنى والسيادةِ الأقدارُ، فاستجاب لله ورسله منهم عصابة، حصل بهم من العزِّ والمنعة، ما هو عنوان التوفيق والإصابة، وصارت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/129)
1 وذلك كما أمره الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].
2 في (د): صراط مستقيم.
3 زيادة في جميع النسخ، لا وجود لها في (أ).
4 سورة غافر الآية (5).(2/130)
ص -430- ... بلدتهم بلدة الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون، حتى إذا عزّ جانبهم، وقويت شوكتهم، أُذن لهم في الجهاد بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}1.
ثمّ لما اشتدّ ساعدهم، وكثر عددهم، أُنزلت آية السيف2، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجرّدوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}3.
فلمّا علم الله منهم الصِّدق في معاملته وإيثار مرضاته ومحبّته، أيّدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه، فأذلَّ بهم أنوفاً شامخة عاتية، وردَّ بهم إليه قلوباًً شاردة لاهية، فجاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحو آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة، وظهر الإسلام في الأرض ظهوراً ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك، واستبان لذوي الألباب والعلوم من أعلام نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرَّر معلوم، ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعَلَمُ الإسلام في كلِّ جهة من الجهات مرفوعٌ منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات والاتساع والتمادي في فعل المحرمات، ملا لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، فضعفت القوى الإسلامية، وغلِظَت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيِّئات، وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتّبعنّ سنن من كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج الآية (39).(2/131)
2 وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
3 سورة المائدة الآية (24).
4 وتمامها: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69].(2/132)
ص -431- ... قبلكم"1.
ولكن لله في خلقه عناية وأسرار، لا يعلم كنهها إلاّ العليم الغفار؛ من ذلك: أنَّ الله تعالى يبعث لهذه الأمة في كل قرن، من يجدّد أمر دينها2 /ويدعو/3 إلى واضح السبيل ومستبينها، كي لا تبطل حجج الله وبيناته، ويضمحلّ وجود ذلك وتعدم آياته؛ فكل عصر يمتاز فيه عالم بذلك، يدعو إلى تلك المناهج والمسالك، وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوماً في كل ما يقول، فإنّ هذا لم يثبت لأحد دون الرَّسول4 /صلى الله عليه وسلم/5.
ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوَّسِّمون، وينكرها المبطلون؛ أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها: محبَّة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل وأسُّها الأكبر الجليل؛ معرفة الله تعالى بصفات كماله، ونعوت جلاله، وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، من غير زيادة ولا تحريف، ومن غير تمثيل ولا تكييف؛ وأن يعبدوه وحده لا شريك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في ص 288.
2 هنا يشير المصنف إلى قوله صلى الله عليه وسلم إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). سنن أبي داود 4/480، الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة؛ والمستدرك للحاكم 4/522، وسكت عليه الذهبي، قال أبو داود عقب الحديث: "رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندري، لم يَجُزْ به شراحيل". والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/150-151، وقال: (ولا يعلِّلُ الحديث قول أبي داود عقبه: "رواه عبد الحميد..." وذلك لأن سعيد بن أبي أيوب ثقة ثبت –كما في التقريب، وقد وصله وأسنده، فهي زيادة من ثقة، يجب قبولها).
3 في (ج) و(د): ويدعوا.
4 وقد تقدّم الكلام حول عصمة الأنبياء في ص342-343.
5 زائد في (د).(2/133)
ص -432- ... له، /ويكفروا/1 بما سواه من الأنداد والآلهة.
هذا أصل أديان الرسل كافة، وأوّل دعوتهم وآخرها، ولبُّ شرائعهم وحقيقة ملّتهم وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه، وصرف الوجوه إليه مالا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرّع عنه2. ومن طاف البلاد، وخبر أحوال الناس منذ أزمان متطاولة، عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل، وبُعْدِهم عمّا جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل؛ فكل بلد وكل قطر وكل جهة –فيما نعلم- فيها من الآلهة التي عُبدت مع الله بخاص العبادات، وقُصِدت من دونه في الرغبات والرهبات، ما هو معروف مشهور، لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل بعضهم إلى أن ادّعى لمعبوده مشاركةً في الربوبية، بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم، فهو خارجيٌّ ينكر الكرامات3، وكذلك هم في باب الأسماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ) و(ج): يكفر.
2 أصل الأديان السماوية كلّها هو الدعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وإلى إثبات وحدانيته تعالى، والنهي عن الإشراك معه غيره في عبادته. بذلك اخبر سبحانه وتعالى عباده في كتابه الكريم، وأخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. ففي الآيتين دلالة واضحة على وحدة الأديان السماوية ووحدة أهدافها.(2/134)
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، وأمهاتهم شتّى ودينهم واحد). صحيح البخاري مع الفتح 6/550-551، الأنبياء، باب قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}؛ وفي الحديث تصريح بأنَّ دين الأنبياء واحد.
وقوله: (إخوة لعلاّت): قال ابن حجر: "أصله أن من تزوج امرأة ثم تزّوج أخرى كأنّه علَّ منها، والعلل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلاّت: الإخوة من الأب وأمهاتهم شتّى). فتح الباري 6/564.
3 هكذا حال المشركين عبدة الأوثان من القبوريين وغيرهم، إنهم ينسبون الضلال لكل من عارضهم، ويرون الحق الحقيقي فيما هم عليه. فيا سبحان الله {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].(2/135)
ص -433- ... والصفات، ورؤساؤهم وأحبارهم معطلة كذلك، يدينون بالإلحاد والتحريفات وهم يظنون أنّهم من أهل التنزيه1، والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وسيرتهم في باب فروع العبادات، رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوّات.
هذا وصف من يدّعي الإسلام منهم في سائر الجهات. وأما من كذب بأصل الرسالة أو أعرض عنها، ولم يرفع بذلك رأساً، فهؤلاء نوع آخر وجنس ثانٍ، ليسوا مما جاءت به الرُّسل في شيء، بل هم –كما قال تعالى-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ/2}3، فمن عرف هذا حق المعرفة وتبيّن له الأمر على وجهه، عرف حينئذٍ قدر نعمة الله عليه، وما اختصه به، إن كان من أهل العلم والإيمان، لا من ذوي الغفلة عن هذا الشأن.
وقد اختصَّكم الله تعالى من نعمة الإيمان والتوحيد بخالصه، ومنَّ عليكم بمنَّةٍ عظيمة صالحة من بين سائر الأمم، وأصناف الناس في هذه الأزمان. فأتاح لكم من أحبار الأمة وعلمائها حبراً جليلاً4، وعلَماً نبيلا" فقيها"، عارفا" بما كان عليه الصدر الأول، خبيرا" بما انحل من عرى الإسلام، وتحول فتجرد إلى الدعوة إلى الله، /وردّ الناس/5 إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم والإيمان، وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار والعيون والمغار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/136)
1 في مثل هذا المكان يجد الشرك والخرافات مقرَّة، إذ أنه –كما اشتهر على ألسنة الناس- الناس على دين ملوكهم. فإذا كانوا كذلك، فحريٌ لهم أن يناصروا أتباعهم على مذهبهم، ويشجعونهم على نشره.
2 هذا الجزء من الآية لم ترد في (أ) و(ج).
3 سورة الأعراف الآية (179).
4 يشير إلى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب.
5 هكذا في المطبوع. وفي جميع النسخ: (ورد هذا الناس) بزيادة (هذا).(2/137)
ص -434- ... عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار.
فجادل في الله وقرر حججه وبياناته، وبذل نفسه لله، وأنكر على أصناف بني آدم الخارجين عما جاءت به الرسل، المعرضين عنه التاركين له. وصنّف في الرد على من عاند أو جادل، وما حلَّ وجرى بينهم من الخصومات والمحاربات ما يطول عدّه1، وكثير منكم يعرف بعضه. ووازره على ذلك من سبقت له من الله سابقة السعادة، وأقبل على معرفة ما عنده من العلم. وأراده من أسلافك الماضين وآبائك المتقدمين-رحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عن الإسلام خيرا"- فما زالوا من ذلك على آثارٍ حميدة، ونعم عديدة، يصنع لهم /تعالى/2 من عظيم صنعه، وخفي لطفه، ما هداهم به إلى دينه الّذي ارتضاه لنفسه، واختص به من شاء كرامته وسعادته من خلقه، وأظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، فلم يزل الأمر في مزيدٍ حتّى توفّى الله شيخ هذه الدعوة، ووزيره العبد الصالح /رحمهما/3 الله /تعالى/4.
ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات، ما أفسد على الناس الأعمال والإرادات، وجرى من العقوبة والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير.ثم أدرككم من رحمته تعالى وألطافه، ما ردّ لكم به الكرّة، ونصركم ببركته المرة بعد المرّة5، ولله تعالى عليك خاصةً نعم لا يستقصيها العدّ والإحصاء، ولا يحيط بها إلا عالم السرّ والنجوى؛ فكم أنقذك من هول وشدّة، وكم أظهرك على من ناوأك مع كثرة العدد منهم والعدة! ولم تزل نعمته تترى، وحوله وقوّته يرفعك إلى ما ترى، حتى آلت إليك سياسة هذه الشريعة المطهرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد تقدم ذكر مصنفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ص 291.
2 ساقط في (د).
3 في (د): رحمهم.
4 ساقط في المطبوع.
5 وقد تقدم في قسم الدراسة ص 44 ذكر ما وقع به من إسقاطه عن الحكم، واقتياده إلى مصر أسيراً، ثم رجوعه واستيلاؤه على نجد للمرة الثانية.انظر ص 42.(2/138)
ص -435- ... وآل إليك ما كان إلى أسلافك ومن قبلهم، ممن قام بنصرة الدين وأظهره. وقد عرفت ما حدث من الخلوف في الأصول والفروع، وما آل إليه الحال في عدم1 الأخذ بأحكام المنهج المشروع، حتى ظهر الطعن في العقائد، وتكلَّم كل كاره للحق معاند، وصار أمر العلم والعقائد لعبا" لكل منافق حاسد.وكُتِبَت في الطعن على أهل هذه الملّة الرسائل والأوراق2. وتكلم في /عيبهم وذمِّهم/3 أهل البغي والشقاق، وصار أمر العلم والدين ممتهنا" عند الأكثر من العامة والمتقدّمين؛ وإقبالهم إنما هو على نيل /الحظوظ/4 الدنيويّة، والشهوات النفسانيّة، وعدم الالتفات والنظر للمصالح الدينيَّة، والواجبات الإسلامية. وتفصيل ذلك يعرفه من حاسب نفسه قبل أن يحاسب، والمؤمن يعلم أنّ لهذه الأمور غائلةٌ، وعاقبة ذميمة وخيمة، آخرها الأجل المقدور، وإلى الله عاقبة الأمور.
فالسعيد من بادر إلى الإقلاع والمتاب، وخاف سوء الحساب، وعمل بطاعة الله قبل أن يغلق الباب، ويسبل الحجاب.
وفقنا الله وإياكم لقبول أوامره، وترك مناهيه، وخوف زواجره. وصلى الله على /نبينا/5 محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما" كثيرا" إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع: ترك.
2 انظر ما كتبه الشيخ في رده على بعض تلك الرسائل ص 97-98.
3 كذا في جميع النسخ، وفي (أ) تقديم وتأخير بين الكلمتين.
4 في (ج) و(د): الخضوض.
5 زائدة قي (د).(2/139)
ص -436- ... (الرسالة العشرون)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان1. وسببها التحذير عما انهمك الناس فيه، وشاع عنهم من الخوض والمراء والاضطراب، والإعراض عن منهج السنة والكتاب، وميل الأكثرين إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهور الكفرة الطغام، والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم. وكذلك الانتصار للشيخ حمد بن عتيق2-رحمه الله- لما اعترض عليه من اعترض، فيما كتبه إلى بعض الإخوان بأن ما كتبه ابن عجلان3ردة صريحة؛ فصرح المعترض بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد.
فبين الشيخ -رحمه الله- ما في كلام ابن عتيق من الخطأ في التعبير، وأن ذلك من الغيرة لله وشدة النكير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله ولكتابه، وذب عن دينه وأغلظ في أمر الشرك والمشركين ولا يلتفت إلى زلاته، والاعتراض على عباراته. فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مرتبة علية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب. وقد أبلج4الشيخ في هذه الرسالة الحق، وأوضحه، وأثلج5به الصدور، فانكشف عنها الغطاء، فما أنصحه، واستبان الصواب لذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ، في ص 93.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ، في ص 92.
3 هو محمد بن إبراهيم بن عجلان، تقدمت ترجمته في ص 239.
4 أبلج: أي ظهر. يقال: أبلج الحق، أي ظهر. وهذا أمر أبلج، أي واضح.
لسان العرب 2/ 216، مادة (بلج).
5 أثلج: أي أشفى. يقال: أثلج صدري خبر وارد: أي شفاني وسكنني. وثلج صدري: انشرح ونقع. لسان العرب 2/ 222- 223. مادة (ثلج).(2/140)
ص -437- ... الألباب، فما أصرحه. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب المكرم زيد بن محمد آل سليمان، حفظه الله من طوائف الشيطان، وحماه من طوارق المحن والافتتان، جعله من عسكر السنة والقرآن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمائه، ولطفه عند قدره وقضائه. والخط وصل -وصلك الله ما يرضيه، ووفقك لجهاد من يناويه ويعاديه- وما ذكرت من حال الأخ صالح1، فهو عند الإمام مكين، يحسن الدخول في الأمر والخروج.
وما ذكرت من جهة ما يلقى إليك من الخطوط، فلا بأس بإرسالها إلي. وأما ما كتب في هذه المحنة من الشبه، فقد عرفت أن الفتنة بالمشركين فتنة عظيمة2، وداهية عمياء ذميمة، لا تبقى من الإسلام ولا تذر، لاسيما في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، وقبض فيه العلم، وتوفرت أسباب الفتن، وغلب الهوى، وانطمست أعلام السنن، وابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً3، وعند ذلك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}4. وقد شاع ما الناس فيه من الخوض والمراء والاضطراب والإعراض عن منهج السنة والكتاب، ومال الأكثرون إلى موالاة عباد الأصنام، والفرح بظهورهم والانحياز إلى حماهم، وتفضيل من يتولاهم5، ..................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أعرفه.
2 ولعظمتها أمرنا الله سبحانه وتعالى بقابلتهم حتى تزول الفتنة، فقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [لأنفال:39].
3 هذا اقتباس من قوله تعالى {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11]
4 سورة إبراهيم الآية (27).(2/141)
5 تقدم الكلام حول مسألة موالاة الكفار والإقامة بين أظهرهم، مع ذكر أقسام المولاة، في ص210- 216. 225- 226.(2/142)
ص -438- ... و (حبك الشيء يعمي ويصم)1.
وقد صدر من الشيخ محمد بن عجلان2، رسالة ما ظننتها تصدر عن ذي عقل وفهم، فضلاً عن /ذي فقه وعلم/3 وقد نبهت على ما فيها من الخطأ الواضح، والجهل الفاضح، وكتمت عن الناس أول نسخة وردت علينا، حذراً من إفشائها وإشاعتها بين العامة والغوغاء، ولكنها فشت في الخرج والفرع، وجاءت منها نسخت إلى بلدتنا؛ وافتتن بها من غلب عليه الهوى، وضل عن سبيل الرشاد والهدى، والله غلاب على أمره.
وأخبرت من يجالسني أن جميع ما فيها من النقول صحيحة والآثار، حجة على منشيها، تهدم ما بناه مبديها، وأنه وضع النصوص في غير مواضعها، ولم يعط القوس باريها. وبلغني عن الشيخ حمد4 أنه أنكر واشتد نكيره، ورأيت له خطاً أرسله إلى بعض الإخوان، بأن ما كتبه ابن عجلان ردة صريحة؛ وبلغني أن بعضهم دخل من هذا الباب واعترض على ابن عتيق، وصرح بجهله، ونال من عرضه، وتعاظم هذه العبارة، وزعم أنه غلا وتجاوز الحد، فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى.
والرجل وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير في أمر الشرك والمشركين، على من تهاون أو رخص وأباح بعض شعبه، وفتح باب وسائله وذرائعه القريبة، المفضية إلى ظهوره وعلوه، ورفض التوحيد، ونكس أعلامه، ومحو آثاره، وقلع أصوله وفروعه، ومسبة من جاء به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث أخرجه أبو داود في سننه 5/346- 347، الأدب، باب في الهوى، من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأحمد في مسنده5/194، 6/650 وغيرهما. وقد ضعفه الشيخ الألباني في السلسة الضعيفة 4/348- 349، (1868) وفي ضعيف سنن أبي داود ص507 (1097).
2 تقدمت ترجمته في ص239.
3 في (ب) (ج) و(د): ذوي الفقه والعلم. وفي المطبوع: ذي الفقه والعلم.
4 هو حمد بن عتيق، وقد تقدمت ترجمته في ص92.(2/143)
ص -439- ... لقولة رآها، وعبارة نقلها وما درآها، من إباحة الاستغاثة بالمشركين1، مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر والحقيقة2، وأنه أعظم وأطم من مسألة الاستعانة والانتصار، بل هو تولية وتخلية بينهم وبين أهل الإسلام والتوحيد، وقلع قواعده وأصوله، وسفك دماء أهله، واستباحة حرماتهم وأموالهم.
هذا هو حقيقة الجاري والواقع، وبذلك ظهر في تلك البلاد من الشرك الصريح والكفر البواح مالا يبقى من الإسلام رسماً يرجع إليه، ويعول في النجاة إليه. كيف وقد هدمت قواعد التوحيد والإيمان، وعطلت أحكام السنة والقرآن، وصرح بمسبة السابقين الأولين من أهل بدر وبيعة الرضوان3 وظهر الشرك والكفر والرفض جهراً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم البحث في مسألة الاستعانة بالمشركين ص239- 240.
2 يريد ما كتبه محمد بن عجلان، ورد عليه حمد بن عتيق رداً صارماً، وسماه رد صريحة.
ولم أطلع عليه.
3 هذا مع النهي الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
صحيح البخاري مع الفتح 7/25 فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذاً خليلاً". ومسلم في صحيحه 16/326، فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة، سنن أبي داود 5/45، السنة باب النهي عن سب أصحاب رسول الله، سنن الترمذي 5/653، المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقال هذا حديث حسن صحيح.(2/144)
ومعلوم أن سب الصحابة أحد مبادئ المعتقد الشيعي بل من أهمها. فإنهم يكنون للصحابة البغض والكراهية، والسب والشتم بل والتكفير، ويقولون أن الصحابة ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول الكليني (أكبر محدثيهم): (كان الناس أهل ردة بعد النبي إلا ثلاثة: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي).
الشيعة وأهل البيت، لإحسان إلهي ظهير ص450، نقلاً عن كتاب الروضة من الكافي 8/245. فيا سبحان الله ماذا كان مصير أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بمن فيهم علي والحسنان رضي الله عنهم وهذه ملخص مكانة الصحابة في المعتقد الشيعي، عليهم من الله ما يستحقون.(2/145)
ص -440- ... في تلك الأماكن والبلدان.
ومن قصر الواقع على الاستعانة بهم، فما فهم القضية، وما عرف المصيبة والرزية. فيجب حماية عرض من قام لله، وسعى في نصرة دينه الذي شرعه وارتضاه، وترك الالتفات إلى زلاته، والاعتراض على عباراته، فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله، مرتبة علية محبوبة، لله مرضية، يغتفر فيها العظيم من الذنوب، ولا ينظر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية، والمناقشات التي تفت في عضد الداعي إلى الله، والمتلمس لرضاه. وهبة كما قيل، فالأمر سهل في جنب تلك الحسنات، "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"1. شعر:
فليضع الركب ما شاءوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج2
ولما قال المتوكل3 لابن الزيات4، يا ابن الفاعلة، وقذف أمه، قال الإمام أحمد: أرجو أن يغفر له، نظراً إلى حسن قصده في نصرة السنة وقمع البدعة.5
ولما قال عمر لحاطب ما قال، ونسبه إلى النفاق6لم يعنفه النبي صلى الله عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في ص 179.
* ويريد المصنف-رحمه الله- بهذا الحديث هنا، أن يمثل حال هذا الشيخ الذي يدافع عنه، بحال حاطب بن أبي بلتعة، للتشابه الموجود بين المسألتين في أن الحسنات يذهبن السيئات.
2 لم أعرف قائله، ولا مصدره.
3 هو جعفر بن محمد (المعتصم بالله) بن الرشيد هارون بن المهدي، المتوكل على الله، القرشي العباسي البغدادي، الخليفة. ولد سنة (205هـ) و (ت 247هـ).
تاريخ بغداد 7/ 165، سير الأعلام 12/ 30.
4 هو محمد بن عبد الملك بن أبان بن الزيات، أبو جعفر الوزير الأديب، كان أبوه زياتاً سوقياً، وزر للمعتصم وللواثق، كان معادياً لابن أبي دواد، فأغرى ابن أبي دواد المتوكل حتى عذبه. وكان يقول بخلق القرآن. (ت 233هـ).
تاريخ بغداد 2/ 342، وفيات الأعيان 4/ 182، سير الأعلام 11/ 172.(2/146)
5 قال الخليفة بن خياط: استخلف المتوكل، فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفات برفع المحنة، وبسط السنة ونصر أهلها. انظر سير الأعلام 12/ 31.
6 ذلك عندما قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني اضرب عنق هذا المنافق. وقد تقدمت قصة حاطب في ص 179.(2/147)
ص -441- ... وسلم، وإنما أخبره /أن/1 هناك مانعاً. والتساهل في رد الحق، وقمع الداعي إليه، يترتب عليه قلع أصول الدين، وتمكين أعداء الله المشركين من الملة والدين.
ثم أن القول قد يكون ردة وكفراً ويطلق عليه ذلك، وإن كان ثم مانع من إطلاقه على القائل2.
وصريح عبارة الشيخ حمد التي رأينا، ليست في الاستعانة خاصة، بل في تسليم بلاد المسلمين إلى المشركين، وظهور عبادة الأصنام والأوثان3. ومن المعلوم أن من تصور هذا الواقع ورضي به، وصوب فاعله، وذب عنه، وقال بحله، فهو من أبعد الناس عن الإسلام والإيمان، إذا قام الدليل عليه. وأما من أخطأ، في عدم الفرق، ولم يدر الحقيقة، واغتر بمسألة خلافية، فحكمه حكم أمثاله من أهل الخطأ، إذا اتقى الله ما استطاع، ولم يغلب جانب الهوى.
والمقصود أن الاعتراض والمراء من الأسباب في منع الحق والهدى. ومن عرف القواعد الشرعية والمقاصد الدينية، والوسائل الكفرية، عرف ما قلناه. والمعترضون على الشيخ، ليس لهم في الحقيقة أهلية لإقامة الحجج الشرعية، والبراهين المرضية على ما يدعونه من غلطه وخطئه، إنما هي اعتراضات مشوبة بأغراض فاسدة؛ وما أحسن ماقيل:
أقلوا عليه لا أباً لأبيكمو ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سداً4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): إنما.
2 تقدم الكلام حول مسألة تكفير المعين في ص 159.
3 هذا من باب عطف العام على الخاص.
4 البيت للحطيئة. انظر ديوان حطيئة من رواية ابن حبيب عن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، شرح أبي سعيد السكري، دار صادر بيروت لبنان 1387هـ- 1967م ص 40
وفيه أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم ... من اللوم أوسدوا المكان الذي سدوا(2/148)
ص -442- ... وأكثرهم يرى السكوت عن كشف اللبس في هذه المسألة، التي اغتر بها الجاهلون، وضل فيها الأكثرون. وطريقة الكتاب والسنة وعلماء الأمة تخالف ما استحله هذا الصنف من السكوت والإعراض في هذه الفتنة العظيمة1، وإعمال ألسنتهم في الاعتراض على من غار لله ولكتابه ولدينه. فليكن لك يا أخي طريقة شرعية وسيرة مرضية في رد ما ورد من الشبه، وكشف اللبس، من فتنة العساكر، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم2. وهذا لا يحصل مع السكوت وتسليك الحال على أي حال، فاغتنم الفرصة، وأكثر من القول في ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إن السنة صريحة في مثل هذه الأحوال، عند ظهور المنكرات في الأمة. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،....." الحديث. تقدم تخريجه في ص 241.
فأي منكر يحدث بين الناس يجب على كل فرد إزالته، الكل حسب الإمكان، أما السكوت والإعراض على من يقوم بتغيره، فهذه مخالفة لما عليه تعاليم ديننا الحنيف
2 هذا ما علمه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه لأتباعه، كما رواه تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة. قلنا لمن قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 397، الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة. وهذا لفظه. وأخرجه البخاري تعليقاً في صحيحه 1/ 166، الإيمان باب قول النبي الدين النصيحة؛ سنن أبي داود 5/ 233- 234، الأدب، باب في النصيحة، سنن الترمذي 4/ 286، البر والصلة، باب ما جاء في النصيحة، سنن النسائي 7/ 157، البيعة، باب النصيحة للإمام.
قال الخطابي رحمه الله:
النصيحة لله سبحانه وتعالى: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته.
والنصيحة لكتاب الله: الإيمان به والعمل بما فيه.(2/149)
والنصيحة للأئمة المسلمين: أن يطيعهم في الحق، وأن لا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا.
والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم.
معالم السنن بحاشية سنن أبي داود 5/ 233.(2/150)
ص -443- ... واغتنم أيام حياتك، فعس الله أن يحشرنا وإياك في زمرة عسكر السنة والقرآن، والسابقين الأولين من أهل الصدق والإيمان.
والشبهة التي تمسك بها من قال بجواز الاستعانة، هي ما ذكرها بعض الفقهاء، من جواز الاستعانة بالمشرك عند الضرورة. وهو قول ضعيف مردود، مبني على آثار مرسلة1، تردها النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة الصريحة النبوية. ثم القول بها- على ضعفه- مشروط بشروط نبه عليها شراح الحديث2، ونقل الشوكاني منها طرفاً في شرح المنتقى، منها: أمن الضرر والمفسدة، وأن لا يكون لهم شوكة وصولة، وأن لا يدخلوا في الرأي والمشورة3.
وأيضاً ففرضها في الانتصار بالمشرك على المشرك. وأما الانتصار بالمشرك على الباغي عند الضرورة، فهو قول فاسد، لا أثر فيه ولا دليل عليه، إلا أن يكون محض القياس4، وبطلانه أظهر شيء في الفرق بين الأصل والفرع، وعدم الاجتماع في مناط الحكم. شعر:
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظر5
والمقصود المذاكرة في دين الله، والتواصي بما شرعه من دينه وهداه.
بلغ سلامنا العيال، والشيخ حسين6ومن عز عليك. ومن لدينا العيال والإخوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كمرسل الزهري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر، في حربه فأسهم لهم). سنن الترمذي 4/ 108- 109، السير، باب في أهل الذمة يسهم لهم؛ نيل الأوطار 8/ 253.
2 وقد تقدم ذلك في ص 239.
3 نيل الأوطار 7/ 254.
4 يريد: قياس الاستعانة بالمشرك على الباغي، على جواز الاستعانة به على مشرك مثله. ثم يذكر أن هذا القياس واضح البطلان، نظراً للفرق الظاهر بين الحالتين. ففي الأصل استعانة بمشرك على مشرك، وفي الفرع استعانة بمشرك على مسلم باغي.
5 لم أعرف قائله، ولا مصدره.
6 لعله الشيخ حسين قاضي الحريق.(2/151)
ص -444- ... بخير وينهون السلام. وصلى الله على محمد و /على/1 آله وصحبه وسلم/ تسليماً كثيراً2.
تتمة: غلط صاحب الرسالة3 في معرفة الضرورة فظنها عائدة إلى مصلحة ولي الأمر في رئاسته وسلطانه، وليس الأمر كما زعم ظنه، بل هي ضرورة الدين، وحاجته إلى من يعين عليه وتصلح به مصلحته، كما صرح به من قال بالجواز، وقد تقدم ما فيه. والله أعلم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (ب) و (ج).
2 ساقط في (ب) والمطبوع.
3 يعني ابن عجلان في رسالته(2/152)
ص -445- ... (الرسالة الحادية والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة أرسلها إلى زيد بن محمد آل سليمان2؛ يعاتبه /فيها/3 على ترك المساعدة، وعدم المعاضدة له على إظهار دين الله والمجاهدة، بعد مراسلات بذلك عديدة، ومناصحات ومذاكرات مفيدة، وتحريض وتغليظ في سد وسائل الشرك وذرائعه، والمساعدة على قطع أسبابه وتوابعه. وكأنه –رحمه الله- وجد منه عند تلك الحوادث والكوارث فتوراً، ورأى منه في حق من تجانف أو تساهل في ذلك تقصيراً أو قصوراً.
وقد وضح له في ذلك الحق واستبان، وكان من ذوي المعرفة والإتقان، وخاصة خلاصة الإخوان. فعاتبه بهذه المعتابة الرصينة المباني، وأفصح له بهذه المخاطبة البليغة المعاني، التي يحار في يهماء4 مطاوح معانيها، البليغ المصقع، ويتلكأ عن درك غويص عويصها اللوذعي5 البليغ، فلله دره من إمام فاضل فصيح، مجاهد جاهد محب نصيح، فلقد أبلغ في هذه الرسالة، مع الإيجاز وعدم الإطالة، وقد جاهد في الله حق جهاده، وما رده ولا صده عن النصح لعباده قلة المعاون والمساعد، ولا كثرة المكابر والمعاند.
فتدبر –رحمك الله- ما تضمنته هذه الرسالة من الرصانة، لتعرف قدر منشيها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 354- 360، وهي الرسالة رقم (72). وجاءت في (ب) في ص 215- 218.
2 تقدمت ترجمته في ضمن تلاميذ الشيخ في ص 93.
3 زائد في جميع النسخ. ولا يوجد في (أ).
4 اليهماء: مفازة لا ماء فيها، ولا يسمع فيها صوت. لسان العرب 12/648، مادة (يهم).
5 اللوذعي: الحديد الفؤاد واللسان، الظريف، كأنه يلذع من ذكائه، أي يتوكد.
لسان العرب 8/317، مادة (لذع).(2/153)
ص -446- ... العلم وكانه.
معاني مبانيها الطوامح في العلى ... لآلئ أصداف البحور الزواجر
ويحتار في يهما مطاوح ما انطوى ... عليه من الترصين قس /المحاضر/1
وأبدى بديعاً غويص عويصه ... تسام المعاني المحكمات لسابر
لقد جد في نصر الشريعة والهدى ... وسد ينابيع الغواة الأخاسر
وإعلاء دين الله جل ثناؤه ... وتأسيس أصل الدين سامي الشعائر
وإحيائه بعد الدروس ونشره ... وقمع لمن نوأه من كل غادر
وإبعاد أعداء الهدى وجهادهم ... وتحذيره عنهم بكل الزواجر
وقد رد بل قد سد كل ذريعة ... تؤول إلى رفض الهدى من مقامر
قفا إثر آباء كرام أئمة ... أولى العلم والحلم الهداة الأكابر
ببذلهمو للجد والجهد في الدعا ... إلى الله من قد ند من كل نافر
همو أظهروا الإسلام من بعد ما عفا ... من الأرض فاستعلى به كل ناصر
فكم فتحوا بالعلم والدين والهدى ... قلوباً لعمري مقفلات البصائر
وكم شيدوا ركناً من الدين قد وهى ... وأقوى ففازوا بالهنا والبشائر
وكم هدموا بنيان شرك قد اعتلى ... وشادوا من الإسلام كل شعائر
وكم كشفوا من شبهة وتصدروا ... لحل عويص المشكلات البوادر
وكم سنن أحيوا وكم بدع نفوا ... وكم أرشدوا نحو الهدى كل حائر
لقد أطدوا الإسلام بالعلم والهدى ... بالسمر2 والبيض المواضي البواتر
تغمدهم رب العباد بفضله ... ورحمته والله أقدار قادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): المحاظري.
2 السمر: مصدر سمر يسمر تسمير: وهو إرسال السهم بالعجلة. يقال: سمر سهمه: أي أرسله بعجلة. ويقال أيضاً بالشين (شمرت السهم).
لسان العرب 4/378، 428. مادة (سمر وشمر)(2/154)
ص -447- ... وهذا نص الموجود منها، ولم أجدها تامة، وكأنها مسودة، وقد ضاع أولها:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ زيد بن محمد، وبعد: فقد بلغني عنك من نوادر الكوارث، كوارث الحوادث /1/. (لم أجد إلا تلكؤاً2 وشماساً، وتهمهماً ونفاساً3) [إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طرقة صائبة،]4 وكرهت أن يتمادى بك الأمر، وتبدو العورة، فتنفرج ذات البين، ويصير ذلك دربة5 لجاهل مغرور، أو عاقل ذي دهاء وفجور، أو صاحب سلامة ضعيف العنان، خوار الجنان. [وكنت فيما مضى ظهيراً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل، وهو بقدر ثلاثة أسطر في (ب) و(ج) وسطرين في (د).
2 في جميع النسخ: (لم أجد إلا تلكئ وشماس، وتهمهم ونفاس).
*هذه الرسالة مقبس من [رسالة السقيفة] المنسوبة إلى أبي بكر الصديق، منه إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، في شأن تباطئه عن المبايعة. والرسالة في الأصل من وضع أبي الحيان التوحيدي. وقد اعترف نفسه بوضعها فقال: (هذه الرسالة عملتها رداً على الرافضة، وسبه أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء، وكانوا يغلون في حال علي، فعملت هذه الرسالة). انظر: [سير الأعلام 17/119؛ ميزان الاعتدال 4/518؛ لسان الميزان، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط/2، 1390هـ -1971م 7/38].
والرسالة أورها التوحيدي ضمن ثلاث رسائل في كتابه: (ثلاث رسائل، لأبي حيان التوحيدي، تحقيق د. إبراهيم الكيلاني، دمشق 1951م). ورسالة السقيفة هذه هي الأولى فيه، من صفحة 5- 25.
وقد أكثر الشيخ عبد اللطيف من الأخذ والتضمين من تلك الرسالة، لذا استحسنت المقابلة بينهما، مع إثبات الفوارق في الهامش.
3 أصل هذه الجملة: قول أبي عبيدة بن الجراح (حامل الرسالة): "بلغ أبا بكر الصديق عن علي تلكؤ وشماس وتهمهم ونفاس".(2/155)
والتلكؤ: التأخير. والشماس: عداوة وعناد. والهمهمة: الكلام الخفي. والنفاس: الضن، يقال نفس عليه الشيء: ضن به ولم يره يستأهله. انظر: لسان العرب 1/153 مادة (لكأ). و6/114 مادة (شمس). و12/622 مادة (همم). و6/238 مادة: (نفس)
4 ما بين المعقوفتين من كلام الشيخ عبد اللطيف.
5 دربة: عادة وجرأة على كل أمر. لسان العرب 1/374 مادة (درب).(2/156)
ص -448- ... لي على رفع ركضة الشيطان، وتفنيد رسالة ابن عجلان]1 "وكنت أتيا من ناصيتك، واستبين الخير بين عارضيك، وقد كنت من العوم والمذاكرة بالمكان المحوط، والمحل المغبوط"2، "ولم تزل –بحمد الله- للمؤمنين أخاً، ولإخوانك ردءاً"3 [وهذا الحدثان العظيم]4، له ما بعده، من خطر مخوف أو صلاح معروف، ولا أظن جرحه يندمل /بسبرك/5 ولا أخال /حيته/6 تموت برقيتك7، فقد وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج إلى النظر فيما يصلح نفسك وخاصتك، وتفوز بإرشاد جنانك، والأخذ بناصيتك، والله أسأل تمام ذلك لي ولك، /ويطلعه/8 على يدي ويديك، والله كالئٍ9 وناصر وهاد ومبصر لكل من لاذ بجنابه، ووقف سائلاً ببابه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من كلام الشيخ.
كالئ: حافظ: فهو اسم فاعل من كلأ. يقال: كلأك الله كلاءة: أي حفظك وحرسك لسان العرب 1/145- 146 مادة (كلأ).
2 قوله: "وكنت أتيا من ناصيتك ... إلى قوله: والمحل المغبوط "أصله من الكلام المنسوب إلى أبي بكر، قاله لأبي عبيدة هكذا: (ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير من عارضيك، ولقد كنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان المحوط والمحل المغبوط".
3 من قوله: "ولم تزل للمؤمنين أخاً ... إلى قوله: ردءاً، أصله: (لم تزل للدين ملجأ، وللمؤمنين روحاً، ولأهلك ركناً، ولإخوانك ردءاً).
4 وما بين المعقوفتين من زيادة الشيخ. وأصل الجملة: (وقد أردتك لأمر له ما بعده، خطره مخوف، وصلاحه معروف).
5 في (أ) و(ج) و(د) (المسارك) وفي (ب): (لمسارك) وفي المطبوع (بمسبرك). وفي أصل النص: (لئن لم يندمل الجرح بيسارك). قال محقق الرسالة: (في نسخة أخرى: "بسبرك"). وهو ما أثبته هنا لكونه أكثر ملاءمة لاندمال الجرح. ومعنى السبر: مصدر سبر الجرح بسبره سبراً، أي نظر مقداره وقاسه ليعرف غوره.
والمسبار: ما سبر به وقدر به غور الجراحات. لسان العرب4/340 مادة (سبر).
6 في (د): حية.(2/157)
7 أصل الجملة: (ولم تجب ححيته برقيتك، فقد وقع اليأس وأعضل البأس، واحتج بعدك إلى ما هو أمر من ذلك وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك ... إلى أن قال: والله كالئك وناصرك وهاديك، وبه الحول والتوفيق). وقد تصرف الشيخ في هذا التضمين بما يناسب حال المرسل إليه.
8 في (أ) و(ب) و(ج) والمطبوع: تطلعه.
9 كالئ: حافظ: فهو اسم فاعل من كلأ. يقال: كلأك الله كلاءة: أي حفظك وحرسك. لسان العرب 1/145- 146 مادة (كلأ).(2/158)
ص -449- ... وبه الحول والتوفيق.
اعلم1 أن البحر مفرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف2، والليل أغلف3، والسماء جلواء4، والأرض صلعاء5، والصعود متعذر والهبوط متعسر والحق عطوف6، والباطل شنوف عنوف7، والعجب قادحة الشر8، والضغن9 رائد البوار10، والتعريض سجار11 الفتنة "والفرقة تعرف العداوة"12، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، "فاتح حصنه لأهله"13 ينتظر بهم الشتات والفرقة، ويدب14 بين الأمة بالشحناء والعداوة، عناد لله ولرسوله ولدينه، تأليباً وتأنيباً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من قوله: اعلم .. هذا أول بلاغ أبي بكر الذي عهد إلى أبي عبيدة بحمله إلى علي رضي الله عنهم. وأصله: (وقل له: البحر مغرقة .. الخ
هكذا في أصل الرسالة "يدب"، وفي جميع النسخ: "ويدب".
2 أكلف: من الكلف، وهو: لون بين السواد إلى الحمرة. يقال: كلف الشيء يكلف كلفاً وهو أكلف: أي تغير إلى السواد مشوب بحمرة. انظر: لسان العرب 9/307 مادة (كلف).
3 الليل أغلف: أي في غلاف، كأنه غشي يغلاف السواد. انظر: لسان العرب 14/151 مادة (جلا).
4 السماء جلواء: أي مصحية. لسان العرب 14/151.
5 صلعاء: أي لا نبات فيها. لسان العرب 8/151، مادة (صلع).
6 في الأصل: (الحق رءوف عطوف). فأسقط الشيخ هنا كلمة رءوف.
7 في جميع النسخ: عيوف. وفي المطبوع: عنوف، وهو الأنسب لمقابلة ما قبله، إذ قال: (الحق عطوف والباطل عنوف). أي ضد الرفق.
8 في (د): الشرار.
9 في (د): الضعن: ومعنى الضعن: الحقد، وجمعه أضغان. لسان العرب 13/255 مادة (ضغن).
10 البوار: الهلاك. لسان العرب 4/86. مادة (بور).
11 سجار: أي موقد، من السجر، وهو الإيقاد في التنور. والسجور: ما أوقد به. لسان العرب4/346 مادة (سجر).
12 في أصل الرسالة: (والقحة ثقوب العداوة).
13 هكذا في جميع النسخ. وفي الأصل: (نافخ حضينيه لأهله). وهو تصرف من الشيخ.(2/159)
14 هكذا في أصل الرسالة "يدب"، وفي جميع النسخ: "ويدب".(2/160)
ص -450- ... يوسوس بالفجور ويدلي بالغرور، [ويزين بالزور]1 ويمني أهل الشرور، /و/2 يوحي إلى أوليائه بالباطل، دأباً له منذ كان3، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سابق الأزمان، لا ينجو منه إلا من آثر الآجل، وغض الطرف عن العاجل، وقط4 هامة عدو الله وعدو الدين، بالأشد فالأشد، والأجد فالأجد، وقد أرشدك والله من آوى5 ضالتك، وصافك من أحيا مودتك بعتابك، وأراد الخير /بك/6 من آثر البقيا معك. ما هذا الذي تسول لك نفسك، /ويلتوي عليه/7 رأيك، /ويتخاوص/8 له طرفك، ويتردد9 معه نفسك، [ويكثر عنده حلك وترحالك، ويتلون به رأيك ومقالك، ولم تبح به لإخوانك ونصحائك وخاصتك وأعوانك، ولم تنبذ إليهم على سواء، ولم تملك ما تجده من الغيظ والجوى]10؛ أعجمة بعد إفصاح، أدين غير دين الله، أخلق غير خلق الله11، أهدى غير هدى /محمد/12/ أمثلك يمشي لإخوته الضراء/13،/................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من زيادة الشيخ.
2 ساقط في (أ) و(ب) و(ج).
3 وهذا ما بينه سبحانه وتعالى من حال الشياطين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام: من الآية112].
4 القط: القطع عامة، وقيل: هو قطع الشيء الصلب.
لسان العرب7/380 مادة (قطط) وفي الأصل: ووطء هامة ... ".
5 في الأصل: أفاء.
6 ساقط في جميع النسخ والتكملة من الأصل، لضرورة استقامة المعنى المراد.
7 في الأصل: (ويلتوي به عليك).
8 في (د): يتخاوض. وهو خطأ. والصواب "بالصاد المهملة، ومعناه: يغض من بصره عند نظره إلأى عين الشمس، أو كمن يقوم سهماً.
لسان العرب 7/31، مادة (خوص).
9 في رواية الأصل: ويتراد.
10 ما بين المعقوفتين من كلام الشيخ عبد اللطيف.
11 وفي رواية: (خلق القرآن).
12 في أصل: (رسول الله).(2/161)
13 في أصل النص: (أمثلي تمشي له الضراء).(2/162)
ص -451- ... وتدب إليهم منه الحمراء /1، /أمثلك يضيق به الفضاء/2، /وتنكشف/3 في عينيه القمراء ما هذه القعقعة بالشنان، وما هذه الوعوعة باللسان /أما أنك عارف/4 بأن الرأي الذي امتطينا صهوته، وركبنا غاربه، هو الرأي الأرشد، والمنج الأسعد بكل دليل ورد، ممن لا يحيط به الحزر والعدد، مع أننا في زمن ووقت أنت منه في ركن العافية وظلها، غافلاً عما نحن فيه، /لا تدري/5 ما يراد بنا ويشاد، ولا تحصل على /علم/6، ما يساق منا ويقاد، نعاني أحوالاً تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالاً تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع من صابها7، ونكرع في عبابها، ونحكم /مراسها/8 ونبرم أمراسها9، /و/10 العيون تحدج11 إلينا بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر12 بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار13 تشخذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، فلا تنتظر عند الصباح مساءً، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في أصل النص: (أو يدب إليه الخمر).
الشفار: جمع شفرة، والشفرة من الحديد: ما عرض وحدد. والشفرة أيضاً: السكين العريضة. لسان العرب. 4/420، مادة (شفر).
2 في أصل النص: (أما مثلك يغص عليه الفضاء).
3 في أصل النص: (أو يخسف).
4 في أصل النص: (إنك جد عارف). والكلام الذي بعده إلى قوله: (غافلاً عما نحن فيه) أخذه الشيخ من الكلام المعزو إلى الصديق رضي الله عنه بالمعنى دون اللفظ.
5 في أصل النص: (لا تعي). ومن هنا وما بعده أخذه الشيخ بلفظه، مع حذف بعض الجمل، وتقديم بعضها وتأخير أخرى.
6 زائد في جميع النسخ، عدا (د)، ولا يوجد في أصل النص.
7 الصاب: عصارة شجرة مرة أو الشجر ذاته. لسان العرب 1/537 مادة (صوب).
8 في أصل النص: (أساسها).
9 الأمراس: جمع المرسة. وهو الحبل، لتمرس أيد به. لسان العرب 6/216، مادة (مرس).
10 في (د): فالعيون.(2/163)
11 في جميع النسخ: تجدح. وفي المطبوع (تحدج) وهو الصواب، والحدج: شدة النظر وحدته إلى الشيء، لسان العرب 2/231، مادة: (حدج).
12 تستعر: أي تتوقد وتتهيج. لسان العرب 4/365، مادة (سعر).
13 الشفار: جمع شفرة، والشفرة من الحديد: ما عرض وحدد. والشفرة أيضاً: السكين العريضة. لسان العرب. 4/420، مادة (شفر).(2/164)
ص -452- ... عند المساء صباحاً1. وأنت2 لا تدري سوى ما أنت عليه من غايتك التي إلأيها غدي بك، وعندها حط رحلك، بل ونحن في كل يوم وكل ساعة /تغدو/3 علينا الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق فيما بيننا وتلوح، وعندنا من يقود المشركين ويأزهم أزاً، إلأى عباد الله الموحدين، من لا تدرري خبره، ولم تعرف نبأه، وسوء طويته بالإسلام وأهله، /ونحن ندافعهم عن الإسلام/4 بالمال والآل، والعم والخال، والنشب5 والسبد واللبد6، بطيب نفس، وقرة عين، ورحب أعطان7، وثبات عزائم، وطلاقة أوجه، وذلاقة لسان، هذا إلى أسرار /ومكنونات/8 أنت غافل عنها، [وعن الخوض في غمارها، والدفع في صدرها معرض متجاهل؛]9.
والآن10 قد بلغ فيك الأمر، ونهض لك الخير، وجعل مرادك بين يديك، وعقلك بين عينيك، عن علم أقول ما تسمع، فاستقبل زمانك، وقلص أردانك، ودع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (د): صباح. والصواب نصبه على المفعولية.
2 قوله: "وأنت لا تدري ... إلى قوله: طويته بالإسلام وأهله" من كلام الشيخ عبد اللطيف
3 في جميع النسخ: تغدوا. وفي المطبوع: المثبت.
4 قوله: (ونحن ندافعهم عن الإسلام ...)، أصله: (فأدين في كل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم والخال والعم ...).
5 النشب: المال الأصيل من الناطق والصامت. لسان العرب 1/757، مادة (نشب).
6 السبد: الوبر، وقيل: الشعر. والعرب تقول: ما له سبد ولا لبد، أي ماله ذو وبر ولا صوف فتلبد. يكنى بهما عن الإبل والغنم. فالوبر للإبل، والشعر للمعز.
لسان العرب 3/202 مادة (سبد).
7 أعطان: جمع عطن، وهو للإبل، كالوطن للناس، وقد غلب على مبركها حول الحوض لسان العرب 13/286، مادة (عطن).
8 في أصل النص: ومكونات أخبار.
9 ما بين المقوفتين من كلام الشيخ.(2/165)
10 قوله: والآن قد بلغ فيك الأمر ... إلة قوله: إذا أعطى. فيه تصرف شديد من قبل الشيخ. فالرواية في أصل النص هكذا: (والآن قد بلغ الله بك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع، فارتقب زمانك، وقلص إليه أردانك، ودع التحبس والتعبس، لمن لا يظلع إليك إذا أخطا، ولا يتزحزح إذا عطا).(2/166)
ص -453- ... التحبس1 والتعبس مع من لا يهرع2 لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا أعطى، وأنت3 -ولله الحمد- من مفاتي هذه الأمة في عصرك، يشار إليك ويقتدى بك بين ألأهل دهرك؛ وقد عرفت4 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في هذا الأمر: (هو لمن يقول هو لك، لا لمن يقول هو لي، ومن رغب عنه، لا لمن تجاشع5 عليه)6 والآثار7 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه مضبوطة مسطورة محررة، في دواوين الإسلام مشهورة. فهلم، فالحكم والحق مطاع.
فيا سادتنا8 هاتوا لنا من جوابكم ... ففيكم لعمري ذو أفانين مقول
أهل الكتاب نحن فيه وأنتمو ... على ملة نقضي بها ثم نعدل
أم الوحي منبوذ وراء ظهورنا ... ويحكم فينا المرزبان المزفل
أتظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الأمر سدى بدداً، مباهل مباهل9
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ) و(ب): التجسس. ومعنى الحبس: المبالغة في حبس النفس على الشيء. لسان العرب 6/44، مادة (حبس).
2 في أصل النص: يظلع. ومعنى يهرع: يسرع. لسان العرب 8/369، مادة (هرع).
3 قوله: (وأنت ولله الحمد ... إلى قوله: أهل دهرك). من كلام الشيخ. وهو في قول الصديق لعلي رضي الله عنهما: (وإنك أديم هذه الأمة، فلا تحلم لجاجاً، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، ماؤها العذب فلا تحل أجاجا).
4 قوله: وقد عرفت ... إلخ أصله: (ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر، فقال لي: (هو لمن قيل له: هو لك، لا لمن يقول هو لي ...)
5 في (ب) و(ج) و(د): تجتحش. ومعنى التجاشع: من الجشع، وهو شدة الحرص على الشيء لسان العرب 8/49، مادة (جشع).
6 لم أجد مصدر هذا الأثر.
7 من قوله: والآثار ... إلأى آخر الأبيات من كلام الشيخ، سوى قوله: (فالحكم مرضي والحق مطاع).
8 في (أ) و(ب) و(ج): فيا ساستا. والتصحيح من هامش (د) والمطبوع.(2/167)
9 مباهل: من التبهل، وهو الإهمال. يقال: أبهل الرجل ناقته، أي تركها وأهملها باهلاً، فهي مبهلة ومباهل. من عبهل الإبل، أي أهملها مثل أبهلها. لسان العرب 11/71، مادة (بهل)(2/168)
ص -454- ... طلاحي1، مفتونة الباطل، مغبونة الحق، لا رائد2 ولا قائد، ولا ضابط ولا حافظ، ولا شافي ولا وافي، ولا هادي ولا حادي، كلا والله، ما توفي3 رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سأل ربه المصير إليه، إلأا وهو قد ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك4، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر منه للأمة علماً5
/هذا أخر ما وجد من هذه الرسالة/6. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طلاحي: من الطلح. يقال: إبل طلاحي: أي تشتكي بطونها من أكل الطلح. لسان العرب 2/533، مادة (طلح). يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك الدين مهملاً، ولا محتوياً ومشوباً بالباطل.
2 في أصل النص: ذائد.
3 من قوله: ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ من قول الشيخ.
4 هذا مأخوذ من أصل حديث عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلأينا قال: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً. فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد).
سنن ابن ماجة 1/10، المقدمة، باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين، مسند الإمام أحمد 4/126
5 وقد روي ذلك أبو ذر الغفاري –رضي الله عنه- قال: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتقلب في السماء طائر إلا ذكرنا منه علماً. مسند الإمام أحمد 5/153، 162.
6 ساقط من (د)
7 ساقط في (ج) و(د). وفي (ب) قال بدله: (والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات).(2/169)
ص -455- ... (الرسالة الثانية والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً –رحمه الله تعالى، وصب عليه من شآبيب2 بره ووالى- رسالة إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد؛ وقد ذكروا له ما وقع الناس فيه من مداهنة المشركين والإعراض عن دين المرسلين.
وقد تقدم نظير هذه الرسالة في المغني3، ولكن لمسيس الحاجة والسبب الباعث ما اكتفى بما سبق ولا استغنى، بل نصح ووضح، وكشف قناع الإشكال، وما /أبقى/4 /لمشتبه/5 حجة ولا مقال، وكذلك بسبب ما حدث من تسهيل /أمر/6 السفر إلى بلاد المشركين، وأن غاية ما يفعل مع المسافر، الهجر وترك السلام، من غير تعنيف ولا تخشين.
/والمشتبه/7 يزعم أن الشيخ عبد الرحمن8 أفتى بذلك إن صح الخبر. فإن ثبت فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود والقصد، أو بما ستقف عليه من /المحمول/9 التي لا يعرفها كل /مشتبه/10 جاهل، والوجوه /التي/11 ذكرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص175- 278، وهي الرسالة رقم (27) وجاءت في (ب) في ص224-227.
2 الشآبيب: جمع شأبوب، وهو الدفعة من المطر وغيره، لسان العرب 1/480، مادة(شأب).
3 تقدم في رسالة رقم (3) ص220، ورقم (7) ص258.
4 في (أ): بقي.
5كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: لمشبه.
6 لا يوجد في (أ) فهو زائد في جميع النسخ.
7 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: والمشبه.
8 عبد الرحمن بن حسن، والد المصنف.
9 كذا في جميع النسخ، وفي (أ): المحال.
10 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: مشبه.
11 لا توجد في (أ).(2/170)
ص -456- ... الشيخ. فتأملها أيها المنصف، وتعقلها بشراشر1 قلبك، لعلك عن الشبهات2 أن تعرف، وللحق الواضح والباطل الفاضح تفرق وتعرف. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين: محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، سلمهم الله تعالى وتولاهم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط وصل –وصلكم الله ما يرضيه. وسرنا سلامة من نحب ونشفق عليه. وما ذكرتم مما وقع فيه الناس من مداهنة المشركين، والإعراض عن دين المرسلين، فالأمر كما ذكرتم، أو فوق ما إليه أشرتم.
وقد سبق مني لكم جواب، وأخبرتكم أن هذا من أكبر الوسائل وأعظم الذرائع إلى ظهور الشرك، ونسيان التوحيد. وأن من أعظم ذلك وأفحشه ما يصدر من بعض من يظنه العامة من أهل اعلم، وحملة الدين، وما يصدر منهم من التشبيه، والعبارات التي لم يتصل سندها، ولم يعصم قائلها، وبهذا ونحوه اتسع الخرق.
وفي حديث ثوبان: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"3. وهو يتناول من له إمامة، ممن ينتسب إلى العلم والدين، وكذلك الأمراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشراشر: النفس والمحبة جميعاً. يقال: ألقى عليه شرارة أي أحبه حتى استهلك في حبه. لسان العرب 4/402، مادة (شرر).
2 في (د): عن المشبه والشبهات.
3 هذا جزء من حديث طويل أخرجه أبو داود في سننه 4/450- 451، الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها. والترمذي في سننه 4/437، الفتن، باب ما جاء في الأئمة المضلين. والإمام أحمد في مسنده 6/441. والدارمي في سننه 2/401، الرقاق، باب في الأئمة المضلين.(2/171)
ص -457- ... وأبيات عبد الله بن المبارك1 معلومة لديكم في هذين الصنفين، أعني قوله:
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها2
وفي مثل هؤلاء قال قتادة: فوالله ما آسي عليهم، ولكن آسي على من هلكوا.
أو كما نقلتم عن بعضهم، أنه زعم أن الشيخ الوالد –قدس الله روحه ونور ضريحه أفتى فيمن يسافر إلى بلاد المشركين، بأن غاية ما يفعل معه، هو الهجر وترك السلام بلا تعنيف ولا ضرب. وهذه غلطة من ناقلها، لم يفهم مراد الشيخ إن صح نقله، ولم /يدر/3 مايراد بها. وهذا النقل يطالب بصحته أولاً، فإن ثبت بنقل عدل ضابط، فيحمل على قضية خاصة، يحصل بها المقصود بمجرد الهجر، وهي فيمن ليس له ولاية، ولا سلطان له على الأمراء والنواب، ويترتب على تعزيزه الهجر مفسدة الافتيات على ولي الأمر والنواب، ونحو هذه المحامل.
ويتعين هذا إن صحت، لأن هذا /ذنب/4 قد تقرر أنه من الكبائر المتوعد صاحبها بالوعيد الشديد، بنص القرآن وإجماع أهل العلم، إلا لمن أظهر دينه، وهو العارف به، القادر على الاستدلال عليه، وعلى إظهاره، فإنه مستثنى من العموم. وأما غيره، فالآية تتناوله بنصها، لأن الإقامة تصدق على القليل والكثير. فالكبائر التي ليس فيها حد، يرجع فيه إلأى ما تقتضيه المصلحة، من التعزير كالهجر والضرب، وقد يقع التعزير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في ص301.
2 الأبيات لعبد الله بن المبارك. وأولها:
رأيت الذنوب تميت القلو ... ب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلو ... ب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها
انظر ديوان عبد الله بن المبارك ص66.
3 في (د): يدري.
4 في (ج) و(د): لذنب.(2/172)
ص -458- ... بالقتل، كما في حديث شارب الخمر، (... فإن شربها في الرابعة فاقتلوه)1.
وقد أفتى شيخ الإسلام بقتل من شرب الخمر في نهار رمضان2، /إذا/3 لم يندفع شره إلا بذلك4. وأفتى بحل دم من جمز5 إلى بلاد التتار، وكثر سوادهم، وأخذ ماله6. وكل هذا من التعازير التي يرجع فيها إلى ما يحصل به درء المفسدة، وحصول المصلحة، وأفتى في التعزير في أخذ المال إذا كان فيه مصلحة7.
وقد عرفتم أن أكبر المصالح، منع هذا الضرب بأي طريق، وأنه لا يستقيم حال وإسلام لمن ينتسب إلى الإسلام، مع المخالطة والمقارفة الشركية، لوجوه، (منها): عدم معرفة أصول الدين وأحكام الله في هذا ونحوه. (ومنها): العجز عن إظهاره لو عرفوه (ومنها): أن العدو محارب، قد سار إلى بلاد المسلمين، واستولى على بعضها، فليس حكمه كحكم غيره، بل هذا، جهاده يجب على كل أحد فيض عين، لا فرض كفاية، كما هو منصوص عليه8. (ومنها) أن تلك البلاد ملئت بالمشبهين والصادين عن سبيل الله ممن ينتسب إلى العلم، ويسمون أهل التوحيد الغلاة، كما سماهم إخوانهم خوارج.
والهجرة لها /مقصودان/9: الفرار من الفتنة وخوف المفسدة الشركية. والثاني: مجتهدة أعداء الله، والتحيز إلى أهل الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه، وكلام العلماء عليه ص242.
2 لم أجد قوله بقتله مقيداً بالشراب في نهار رمضان، بل فيمن لم ينته عن شربه، للمفسدة.
مجموع الفتاوى 28/109، 347.
3 في (د): إذ.
4 مجموع الفتاوى 28/ 108- 109.
5 تقدم بيان معناه في ص 233.
6 المرجع السابق 28/ 530. وقد تقدم كلامه هذا في ص 241.
7 المرج السابق 28/ 110، 113.
8 وسيأتي ذكر الشيخ لذلك في ص 791.
9 في المطبوع: مقصود أن.(2/173)
ص -459- ... وقد كانت شرطاً في أول الإسلام مع ضعف المسلمين، وخوف المشركين، وشدة بأسهم، وكثرة الأسباب الداعية إلى الفتنة، والسر فيها لا يهدر ولا يطرح في كل مقام، لا سيما والمقارف لهذا الفعل /وغيره/1 من الأفعال الموجبة للردة كثير جداً.
فالنجا النجا2 والوحى الوحى3 قبل أن يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً4، ولعل الله أن يمن بخط مبسوط يأتيكم بعد هذا، فيه التعريج على كل شيء من نصوص أهل العلم، وبيان كذب هذا المفتري على الشيخ. وأهل المذهب لا يختلفون في أن حكم الإقامة، يمنع منه من عجز عن إظهار دينه.
/و/5 في الحديث: "ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه، إلا أعطوا الجدل"6، [ومنعوا العمل]7
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (د).
2 النجا: مقصور من "النجاء" وهو السرعة في السير. يقال: نجا نجاءً، وينجو في السرعة نجاءً، وهو ناج، أي سريع. وقالوا: "النجاء النجاء، والنجا النجا" فمدوا وقصروا ومنه قول الشاعر: إذا أخذت النهب فالنجا النجا ...
لسان العرب 15/305- 306 مادة (نجا).
3 في جميع النسخ: الوحا الوحا، بالألف الممدودة، وهو خطأ إملائي ما لم يثبت معه همزة يقال: "الوحى الوحى، والوحاء الوحاء" بالقصر والمد. ومعناه: العجلة والإسراع.
لسان العرب 15/381- 382 مادة (وحى).
4 هذا اقتباس من قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان: 27].
5 ساقط في (أ).
6 سنن الترمذي 5/353، التفسير، من سورة الزخرف، قال الترمذي: (حديث حسن صحيح). سنن ابن ماجة 1/11، المقدمة، باب اجتناب البدع. مسند الإمام أحمد 5/252، 256. المستدرك للحاكم 2/448- 449، وقال: (حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
7 هذا اللفظ بين المقوفتين أدخله المؤلف في الحديث، ولم أجده فيما اطلعت عليه.(2/174)
ص -460- ... وما وقع فيه الناس، وابتلي به أكثر من ثلب1 بعض مشايخكم، فقد علمتم ما يؤثر عن السلف، أن علامة أهل البدع، الوقوع في أهل الأثر؛ وهؤلاء إذا قيل لهم هاتوا، حققوا، واكتبوا لنا ما تنقمون، وقروا الحجة بما تدعون، أحجموا عند ذلك، وعجزوا عم مقاومة الخصوم، ومتى يدرك الظالع2 شأو3 الضليع4 شعر:
أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر
وحسابنا وحسابهم على الله، الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبئات الصدور والضمائر.
/وبلغوا سلامنا إخوانكم/5 الذين جردوا متابعة الرسول، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}6، ولم ينتسبوا إلى قيس ويمن، كما وقع عندكم فيمن فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. حمانا الله وإياكم، وثبتنا على دينه. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً /كثيراً/7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الثلب: شدة اللوم والأخذ باللسان. يقال: ثلبه يثلبه ثلباً، لامه وعابه وصرح بالعيب.
لسان العرب 18/241، مادة (ثلب).
2 في (ب) و(ج) و(د): (الضالع) بالضاد. وهو خطأ. إذ هو بمعنى الجائر. و(الظالع) بالظاء، هو العرجاء، يقال: ظلع الرجل والدابة في مشيه، يظلع ظلعاً، أي عرج وغمز في مشيه. لسان العرب 8/243- 244 مادة (ظلع).
3 تقدم ذكر معناه في ص156.
4 في (أ): (الظليع) بالظاء والصواب: (الضليع) بالضاد، وهو الطويل الأضلاع، الواسع الجنبين، العظيم الصدر. لسان العرب 8/226، مادة (ضلع).
5 في المطبوع: (جعلنا الله وإياكم من ...)
6 سورة التوبة الآية (16). وأول الآية: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا} الآية.
7 زيادة في (ب) و(د) والمطبوع.(2/175)
ص -461- ... (الرسالة الثالثة والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الإخوان محمد بن علي2 وإبراهيم بن راشد3 وإخوانهم. يحرضهم فيها ويذكرهم ما سبق إليهم من المكاتبات4 في شأن هذه الحوادث العمي العظام، التي قلعت أصول الإسلام، والتبس الأمر بسببها على من ينتسب إلى العلم، وخفي عليه المخرج والحكم، واتبعهم في ذلك جمهور أهل الأهواء، ولم يلتفتوا إلا /إلى منهجه/5 الإهلاك والإغواء، وتركوا طريق من يدعوهم إلى الحق والهدى، ويبصرهم بنور الله أسباب النجاة والتقى، حتى أعضل فادح تلك الحوادث، وطغى على القلوب ما طغى من تلك الكوارث، فما ارعوى إلى الحق أكثرهم وما استرشد، فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد.
وقد سأله الإخوان عن حكم من يسافر إلى بلاد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب من التوحيد والدين6، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم ولا يجالسهم، ولا /يبحثون/7 عن سره. إلى غير ذلك من تعليل الجاهلية.
فأجاب -رحمه الله-8 يما ستقف عليه من التحقيق والسلوك إلى أٌقوم منهج وطريق، وهذا نص الرسالة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص181- 183، وهي الرسالة رقم (29). وجاءت في (ب) في ص228- 230.
2 تقدم في ص 258.
3 تقدم في ص94- 258.
4 وقد تقدم ذلك في رسالة رقم (7) ص263، وسيأتي في رسالة رقم (86) ص905.
5 في (أ): إلى منهج.
6 تقدمت هذه المسألة مطولاً في ص220-227.
7 كذا في المطبوع: وفي جميع النسخ: يبحثونه.
8 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.(2/176)
ص -462- ... بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأولاد المكرمين محمد بن علي، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد، وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، كثير الخير دائم المعروف. والخط وصل بما اشتمل عليه من الوصية، جعلنا وإياكم ممن يقبل النصائح، ويدرأ المقت والفضائح
وجاءكم /مني/1 مكتبات في /هذه/2 الحوادث العمي، ولم يبلغني /عنكم ما يسر/3 من القبول والقيام لله. والحق على طالب العلم، والمنتسب إلى الدين والفهم، أكبر منه على غيره، والواجب عليه آكد. والعاقل لا يرضى على نفسه سبيل أهل المداهنة والبطالة.
وقد دهم الإسلام من الحوادث ما تعجز عن حمله الجبال الراسيات، وتصغر في جنبه كل المحن والمصيبات،4 فما مضت فتنة إلا ما هو أكبر من الشرك والكفريات. ومع ذلك، فكثير من الناس قد التبس عليه الأمر، وخفي عليه المخرج والحكم، وكثر الخوض والاعتراض من بعض من ينتسب إلى القراء، ويدعي الفهم والطلب، واتبع جمهور أولئك ما يهواه، من غير بينة ولا سلطان. ولم يتهم أحد رأيه، ولم يرجع إلى المحاقة5 والفكر، حتى انهدم بنيان الإسلام، ولم يستوحش الأكثرون من ولاية عباد الأوثان والأصنام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (أ): منا. وفي بقية النسخ المثبت.
2 في (ب) و(ج) و(د): ها.
3 في المطبوع: ما يسرني عنكم.
4 هكذا في جميع النسخ "مصيبات" على أنه جمع "مصيبة". ولم أجد في المعاجم التي اطلعت عليها، من جمعها على هذا. وذكروا أن القياس في جمعه: "مصاوب"، وأن "مصائب: بالهمز شاذ. لسان العرب 1/535 مادة (صوب).
5 سيأتي ذكر معناه في ص896.(2/177)
ص -463- ... وما أحسن ما قال سهل بن حنيف1 -فيما رواه البخاري- قال: حدثنا الحسن بن إسحاق2 ثنا محمد بن سابق3 حدثنا مالك بن مغول4 قال: سمعت أبا حصين5 قال: قال /أبو وائل/6: لما قدم سهل بن حنيف من صفين، أتيناه نستخبره، فقال اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل7، ولو استطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم /أمراً أمره/8 لرددت، والله ورسوله أعلم. وما وضعنا أسيافنا /على/9 عواتقنا /لأمر يفظعنا/10 .........................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، أبو ثابت الأنصاري، الأوسي العوفي، شهد بدراً وأحداً. (ت38هـ). الاستيعاب 2/662، أسد الغابة 2/364، وسير الأعلام 2/325.
2 هو الحسن بن إسحاق بن زيد الليثي مولاهم المروزي، المعروف بحسنويه، أبو علي، وثقه النسائي، (ت241هـ) وليس له في البخاري سوى هذا الحديث.
انظر تقريب التهذيب 1/163.
3 هو محمد بن سابق التميمي، أبو جعفر –وقيل أبو سعيد- البزار، الكوفي نزيل بغداد، مولى بني تميم، من أصل فارس، من شيوخ البخاري، وقد يروي عنه بوساطة، كما هنا. (ت214هـ) .. تاريخ بغداد 5/338 تقريب التهذيب 2/163.
4 هو مالك بن مغول بن عاصم بن غزية بن خرشة، أبو عبد الله البجلي الكوفي، الإمام الثقة المحدث (ت159هـ)
سير الأعلام 7/174، تهذيب التهذيب 10/22، شذرات الذهب 1/247.
5 هو عثمان بن عاصم بن حصين –وقيل بدل حصين: زيد بن كثير أبو حصين، الإمام الحافظ الأسدي الكوفي، (ت128هـ). سير الأعلام 5/412، تهذيب التهذيب 7/126.
6 في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع: "ابن وائل" وهو خطأ. والصواب: (أبو وائل) وهو: شقيق بن سلمة، أبو وائل الأسدي الكوفي محضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وما رآه. روى عن عمر وعثمان وعلي وغيره من الصحابة. (ت82هـ). تاريخ بغداد 9/268، سير الأعلام 4/161.(2/178)
7 (يوم أبو جندل) يريد به يوم الحديبية. فتح الباري 6/325.
8 ساقط في جميع النسخ، والتكملة من البخاري.
9 في جميع النسخ (عن) والتصحيح من البخاري.
10 ساقط في جميع النسخ والتكملة من صحيح البخاري.(2/179)
ص -464- ... إلا /أسهلن/1 بنا إلى /أمر نعرفه/2 قبل هذا الأمر، ما نسد منها خصماً إلا /تفجر علينا خصم/3 ما ندري كيف نأتي له)4.
وأما السؤال عمن سافر إلى بلد المشركين التي يعجز فيها عن إظهار ما وجب الله من التوحيد والدين، ويعلل بأنه لا يسلم عليهم، ولا يجالسهم، ولا يبحثونه عن سره، أو أنه يقصد التوصل إلى غير بلاد المشركين، نحو ذلك من /تعاليل/5 الجاهلين. /فاعلموا/6 أن تحريم ذلك السفر قد اشتهر بين الأمة، وافتى به جماهيرهم، وما ورد من ا لرخصة، محمول على من يقدر على إظهار دينه، أو على ما كان قبل الهجرة. ثم إن المنع قد أنيط بالمجامعة والمساكنة، وإن لم يحصل سلام ولا مجالسة، ولا بحث عن سره، كما في حديث سمرة: "من جامع المشرك /و/7 سكن معه فإنه مثله"8.
/فانظروا/9 ما علق به الحكم من المساكنة والاجتماع، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة؛ فإن وقع من ذلك سلام ومجالسة، أو فتنة بالبحث عن عقيدته وسره، عظم الأمر واشتد البلاء.
وهذه محرمات مستقلة، يسضاعف بها الإثم والعذاب، فكيف تروج عليكم هذه الشبهات، ولكم في طلب العلم سنوات، وخوف الفتنة أحد مقاصد الهجرة، وهو غير منتف مع هذه التعاليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ (أسهل). والتصحيح من البخاري.
2 في جميع النسخ (أمر لا نعرفه) بزيادة (لا) النافية. وهو غير موجود البخاري.
3 في جميع النسخ: (انفجر خصم). والتصحيح من البخاري.
4 صحيح البخاري مع الفتح 7/ 522- 523، المغازي، باب غزوة الحديبية.
صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 383- 384، الجهاد، باب صلح الحديبية.
5 كذا في (أ) والمطبوع، وفي بقية النسخ: تعليل.
6 كذا في (أ)، وفي بقية النسخ: فاعلم.
7 في جميع النسخ- عدا المطبوع-: أو. وفي النص المثبت.
8 تقدم تخريجه في ص 234.
9 كذا في (أ)، وفي بقية النسخ: فانظر.(2/180)
ص -465- ... ومن مقاصد الهجرة، الانحياز إلأى الله بعبادته، والإنابة إليه، والجهاد في سبيله، ومراغمة أعدائه؛ وإلى رسوله بطاعته وتعزيره ونصره ولزوم جماعة المسلمين، ولذلك يقرن الهجرة والإيمان في غير موضع من كتاب الله1، وكل هذا غير حاصل؛ وإن فرض صدق القائل فيما علل به –والغالب كذب هذا الجنس- فإن الأعمال الظاهرة تنشأ عما في القلوب من الصدق والإخلاص أو عدمها. وقد عرفتم أن العامي الذي لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولم يلتفت إلى العلم، تسرع إليه الفتنة أسرع من السيل في منحدره، ولذلك غلب على كثير من الناس عدم النفرة، فرحل إليهم من رحل، وقبلوا رسائلهم وأفشوها في الناس، وأعانهم بعض المفتونين عن دينهم، وجالسوهم وأرسلوهم. /وبعضهم/2 يقول: الدين في القلوب3 ولم يلتفتوا إلى الأعمال الإسلامية والشرائع الإيمانية، ولو صدق ما زعموه في قلوبهم، لأطاعوا الله ورسوله واعتصموا به، أعاذنا الله وإياكم من معضلات الفتن.
وحماية جناب التوحيد، وسد الذرائع الشركية من أكبر المقاصد الإسلامية، وقد ترجم شيخنا4 في كتاب التوحيد لهذه القاعدة5. فرحمه الله من إمام ما أفقهه في دين الله، وما أعظم غيرته لربه، وتعظيمه لحرماته، وما أحسن أثره على الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن المواضع التي اقترن فيها الهجرة والإيمان في كتاب الله:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [لأنفال: 72].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20].
2 في المطبوع: بعض من.(2/181)
3 هذا قول كثير من المفتونين اليوم، في حالة تكاسلهم عن الفرائض، فيشرون إلى صدورهم بأن "التقوى ههنا"، نعم، إنه لكذلك، وإنما يجب أن يترجم ذلك بالأعمال الصالحة، حتى يعرف صدق ذلك القول. وإلا فيعلم أيضاً أن الكفر ههنا، عند من يكون ظاهره وأعماله معادية للإسلام، نابذاً لأركانه وشرائعه. فيجب فهم هذه الكلمة على حقيقتها.
4 يعنى الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
5 فقد ترجم لذلك فقال: (باب حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك).(2/182)
ص -466- ... وبلغوا سلامنا إبراهيم بن الشيخ وصالح بن محمد وخاص الأخوان، ومن لدينا العيال ينهون إليكم السلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(2/183)
ص -467- ... (الرسالة الرابعة والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى من تقدم ذكرهم من الإخوان، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، على الإخوان المكرمين محمد بن على وإبراهيم بن مرشد، وإبراهيم بن راشد وعثمان بن مرشد، سلمهم الله وعافاهم وأصلح بالهم وتولاهم. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، وعلى أقداره وحكمه. والخط وصل، وصلكم الله ما يرضيه. وما /ذكرتم/2صار معلوماً، والله المسئول أن يمن علينا وعليكم عند الوحشة بذكره، والأنس بمجالسته، وعند ذهاب الإخوان بروح منه وسلطان.
والذي أوصيكم به تقوى الله، ومعرفة تفاصيل ذلك على القلوب والجوارح، ومعرفة الأحكام الشرعية الدينية، عند تغير الزمان، وكثرة الفتن وظهور الهرج وقد ورد: "أن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الراجح عند منازعة الشهوات)3. وذكر أبو داود من أهل السنن ما ينبغي مراجعته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 184- 185، وهي الرسالة رقم (30). وجاءت في (ب) في ص 230- 231.
2 كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ: ذكرتوا.
3 ذكره العراقي في المغنى عن حمل الأسفار 4/ 388، وقال: (رواه أبو نعيم في الحلية من حديث عمران بن حصين، وفيه حفص بن عمر العدني، ضعفه الجمهور). وورد الحديث في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، لمحمد بن محمد الحسيني الزبيدي، المرتضى،(2/184)
ص -468- ... واستحضاره عند ذكر الفتن والملاحم1.
وذكر ابن رجب2في رسالته: (كشف الكربة في فضل الغربة)3ما يسلي المؤمن ويعزيه.
وذكر ابن القيم 4في المدارج، جملة صالحة. وفي الأثر: "العبادة في الهرج كهجرة إلي)5. وفي حديث الغرباء: للعامل منهم أجر خمسين من أصحاب رسول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=دار الفكر 10/105. وذكره الفتني في تذكرة الموضوعات لمحمد طاهر بن علي الهندي الفتني (ت 986هـ) وفي ذيلها: قانون الموضوعات والضعفاء (له أيضاً)، نشر أمين دمج، بيروت، والشيخ عبد الوكيل، دمشق، جامع الدرويشة. ص 188. بلفظ: (إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات) وقال: "ضعيف". وذكره أبو عبد الله في: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، للعراقي (725- 806هـ)، وابن السبكي (727- 771هـ) والزبيدي 1145- 1205هـ)، استخراج أبي عبد الله محمود بن محمد الحداد (1374هـ) دار العاصمة للنشر بالرياض، ط/ 1، 1408هـ - 1987م، 6/ 2438، حديث رقم (3858). قال: (... وكذلك رواه البيهقي في الزهد، وأبو المطيع في أماليه، والحافظ أبو مسعود سليمان بن إبراهيم في كتاب الأربعين بلفظ: (عند مجييء الشبهات وعند نزول الشهوات).
1 انظر كتاب الفتن والملاحم في سنن أبي داود 5/ 441- 516.
2 هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب – عبد الرحمن- بن الحسن بن محمد، البغدادي الدمشقي الحنبلي، المحدث الحافظ، ولد عام 706هـ، (ت 795.
الدرر الكامنة لابن حجر 2/ 428- 429، الأعلام للزركلي 3/ 295.
3 [كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة] وهو مطبوع بتحقيق يسرى عبد الغني البشرى، نشر مكتبة الساعي الرياض.
4 تقدمت ترجمته في ص 329.
5 الحديث أخرجه مسلم في صحيحه 18/ 299- 300، الفتن، باب فضل العبادة في الهرج. والترمذي في سننه 4/ 424، الفتن، باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه. وقال: هذا حديث صحيح غريب. وابن ماجة في سننه 2/ 376، الفتن، باب الوقوف عند الشبهات.(2/185)
ومعنى الهرج هنا: قال ابن حجر: الاختلاط والاختلاف. فتح الباري 13/ 21.
وقال كمال يوسف الحوت- في تعليقه على سنن الترمذي، بعد ذكره للحديث – قال: (فيها معنى الهجرة، لأن العابد حينئذ يفر بدينه، ويهجر الفتنة إلى الطاعة، ويترك الذين كثر فيهم الهرج، كما يترك المؤمن دار الكفر).(2/186)
ص -469- ... الله صلى الله عليه وسلم1والذي أرى لكم في هذه الخلطة، الصبر على مقام الدعوة، والتلطف بالإبلاغ عن نبيكم. وهذا -مع القدرة وأمن الفتنة- أفضل من العزلة؛ والإقلال من مخالطة الناس لمن أمكنه- أسلم.
وإني /لأود/2 أن أكون مثل أحدكم في هذا الزمان، ولكنني ابتليت بالناس، وحيل بيتي وبين ذلك. والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
/وبلغوا سلامنا خواص الإخوان، ولدينا العيال والإخوان يسلمون عليكم وأنتم سالمين، والسلام./3 وصلى الله على /عبده ورسوله/4 محمد وآله وصحبه /البررة الكرام/5 وسلم /تسليماً/6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا حديث أبي أمية الشعباني، ولفظه أنه قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، قال: أما والله لقد سالت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل إئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً وديناً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم" قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة، قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم".
أخرجه أبو داود 4/ 512. الملاحم، باب الأمر والنهي. والترمذي في سننه 5/ 240، التفسير، باب من سورة المائدة، واللفظ له. وقال: هذا حديث حسن غريب.
2 في (د): (لاأود). وهو خطأ.
3 ساقط في المطبوع.
4 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
5 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
6 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.(2/187)
ص -470- ... (الرسالة الخامسة والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى من تقدم ذكرهم إلا محمد ابن علي، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الإخوان المكرمين إبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد وعثمان بن مرشد، سلمهم الله تعالى، وتولاهم في الدنيا والآخرة.سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليكم الله على سوابغ إنعامه، ومزيد إحسانه وإكرامه، جعلنا الله وإياكم ممن عرف نعمة الله عليه، واستعملها فيما يقربه إليه.
والخط وصل، وصلكم الله بالرضا، العذر مقبول، نسأل الله لنا ولكم العفو والقبول ونوصيكم بما أوصيتمونا به، ونزيدكم الوصية بميراث نبيكم والرغبة فيه، والمذاكرة في كل أوقاتكم، فإنكم في زمان قبض فيه العلم وفشي الجهل، وعدمت الحقائق الدينية، وإنما هي عادات ورسوم ينتحلها أكثر الخلق أما الخيام فإنها كخيامهم ورأى نساء الحي غير نسائها2وبلغوا سلامنا إخوانكم، /ولا تغفلوا /3 بصالح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1تقدم البيت في ص 262.
2 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 185، وهي الرسالة رقم (31). وجاءت في (ب) في ص 231
3 في (د): (ولا تغفلون).(2/188)
ص -471- ... الدعوات في هذه الليالي المباركات، جعلنا الله وإياكم من الفائزين بالقبول والرضا. والعيال يسلمون عليكم والسلام وصلى الله وسلم على/عبده ورسوله/1 محمد وعلى آله وصحبه /أجمعين/2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في (ب) والمطبوع.
2 في (ب) والمطبوع: وسلم.(2/189)
ص -472- ... (الرسالة السادسة والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق2رحمه الله، وقد راسله –أعني الشيخ حمد- برسالة، كأنه أساء فيها الأدب،/ولم يراع/3حق من يتزاحم العلماء عنده بالركب، بل جرى على عادته في المراسلات والمكاتبة، ولم يمعن النظر فيما /أوعر/4 به من المخاطبة، وكأنه في رسالته يحرص على التغليظ في الدعوة إلى الله، من غير نظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.
فبين له الشيخ -رحمه الله- الخلق العظيم، والرأي/الرشيد/5الحليم الذي كان لسيد المرسلين، وإمام المتقين، أنه /بدأ/6 أولاً بالتلطف واللين، ثم آخراً بالغلظة. وذلك مع قوة الإسلام والمسلمين، وأن الغلظة ليست ديدانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه في الدعوة إلى الله.
ويا لله! كم في هذه الرسالة من الأصول، والمباحث المفيدة الجليلة، التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها؛ وأن له في الميراث النبوي الحظ الوافر، وأن ينابيع علومه تنفجر من ذلك البحر الزاخر. وهذا نص الرسالة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 186- 188، وهي الرسالة رقم (32). وجاءت في (ب) في 231- 233.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ في ص 92.
3 في (ب) و (ج) و (د): لم يراعي.
4 كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: (أوعز).
ومعنى أوعر: من وعر، وهو المكان الحزن ذو وعورة، ضد السهل. يقال: أوعر به الطريق: أي وعر عليه، أو أفضى به إلى وعر من الأرض. لسان العرب 5/ 285، مادة (وعر).
5 في (ب) و (ج) و (د): الراشد.
6 كذا في المطبوع، ساقط في جميع النسخ.(2/190)
ص -473- ... بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى /منهج/1وطريق، ومنحنا بمنه حسن الدعوة إليه بالتحقيق.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأني أحمد إليك الله /الذي لا إله إلا هو/2سبحانه على نعمه. والخط وصل- وصلك الله بما يقربك إليه. وما أشرت إليه صار لدينا معلوماً، لا سيما الإشارة الخفية والنكت الأدبية التي منها تشبيه أخيك بالطير المبرقع3؛ وإيراد /الوعظ/4وأنت بمكان علو أرفع. وكنت حال وصوله قد قرأته بمرأى من أهل الأدب ومسمع؛ فمن قائل عند سماعه: هل الرجل طبعه الغلظة والجمود؟ وآخر يقول: كأنه لا يحسن الدعوة على ربنا المعبود! فقلت: كلا، غنه ابن جلا5، وله السبق في مضمار الديانة والعلا، ولكن من عادته أنه يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأتربه، والمحب له الدلال، والمرء يشرق بالزلال.
فاعلم -هديت الطريق، وفزت بحظ من النظر والتحقيق-، أن الله لما ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي، /لم/ 6يكن /أحد/7 من أهل الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع: نهج.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ في ص 92.
3 الذي لف رأسه وغطيت عيناه وجهه بالبرقع حتى لا يرى.
4 في المطبوع: المواعظ.
5 جاء في حاشية المخطوط (د): (ابن جلا، يقال للرجل المشهور الواضح الأمر، ومن يكون عالى الشرف، لا يخفى مكانه، هو ابن جلا.
قال سحيم بن وثيل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا* متى أضع العمامة تعرفوني.
*وهذا الكلام نقله المعلق من: لسان العرب 14/ 152، مادة (جلا).
6 في جميع النسخ: ولم. والظاهر أن الواو زائدة من النساخ. إذ إن الجملة من هنا جواب (لما) المتقدم، فلا يصلح معها واو.
7 في (د): أحداً.(2/191)
ص -474- ... عربيهم وعجميهم، قرويهم وبدويهم، يعرف الحق ويعمل به، إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون، فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الناس عليها1.فأيد الله نبيه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر من أسلم /سبباً/2ووقاية. وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم. فمكث على ذلك يدعو ويذكر ويعظ وينذر مع غاية في اللطف واللين، فتارة يكنى المخاطبين 3، وطوراً يأتي نادي المتقدمين والمترأسين، وحيناً يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وناهيك بخلق مدحه القرآن4، وأثنى عليه حلمه في الدعوة والبيان، ولا يرد على هذا المعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية5. كما ظنه بعض المتطوعة، ديداناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يصار إليه إذا تعينت الغلظة، /ولم يجد6، اللين كما هو ظاهر مستبين، كما قيل: آخر الطب الكي7. وهو أيضاً مع القدرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذه الفطرة هي: دين الله الحنيف، الذي خلق الناس له، كما يفيده قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم: 30].
انظر جامع البيان للطبري 21/ 40، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 17.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". صحيح البخاري مع الفتح 3/ 260، الجنائز، باب اللحد والشق في القبر.
صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 446، القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.
2 في (د): سبب.(2/192)
3 فكان يقول أحياناً: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا...
4 وقد مدحه القرآن بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4].
5 سورة التوبة الآية(73).
6 في (ب) و (ج) و (د): ولم يجدي.
7 مثل عربي، ذكره ابن منظور في اللسان. والكي: إحراق الجلد بحديدة، وهو من علاج المعروف في كثير من الأمراض. لسان العرب 15/ 235، مادة (كوي).
وفي حديث، عن جابر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاد من رميته).(2/193)
ص -475- ... ويشترط أن لا يكون عليه مفسدة، كما قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}1. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن "درء المفاسد يقدم على جلب المصالح"2كما هو مقرر في علم الأصول.
ثم إن الآية -آية الغلظة- مدنية3، بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد باليد، وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم. فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين، وأسعد الناس بوراثة الرسول /صلى الله عليه وسلم/4 في دعوة الخلق، أكملهم متابعة له في هذا.
وكان الصديق /رضي الله عنه/5 أكمل الناس، ولذلك أسلم على يديه وانتفع به أمم كثيرة، بخلاف غيره؛ فقد قيل لبعضهم "إن منكم منفرين"6.
والقصد من التشريع والأمر، تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام الآية (108).
2 تقدم تخريج هذه القاعد الأصولية في ص 241.
3 هي مدينة كبقية الآيات في سورة التوبة، فكلها مدنية، سوى الآيتين الأخيرتين.
انظر الجامع لأحكام القرآن 8/ 40، وفتح القدير للشوكاني 2/ 331.
4 ساقط في (ب) و (ج) و (د).
5 ساقط في (ب) و (ج) و (د).
6 هذا جزء من حديث أبي مسعود قال: قال رجل يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئد. ثم قال: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة".
صحيح البخاري مع الفتح 2/ 234، الأذان، باب من شكا إمامه إذا طول. صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 428- 429، الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام. سنن ابن ماجة 1/ 177، إقامة الصلاة، باب من أم قوماً فليخفف.(2/194)
ص -476- ... لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين1، أو تفويت أدنى المصلحتين. واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه، على الشرع وعلى الناس، أعظم جناية، وقد قرر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصلوا الآداب الشرعيات. فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولاً وليزاحم ركب العلماء قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصناعة لا يعرفها إلى من يعاينها، والعلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها، وصحب راويها.
ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولاً2
هذا وقد كنت أظن أنكم تحبون من هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، وكأن العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه، غير معتبر لدى الجمهور. بل قصدهم المناصب والظهور. /و/3 قال الشيخ، وحدثنا، وجلس الأستاذ وأنبأنا، هو غاية قصد الأكثرين،إلا عباد الله المخلصين.
والسلام عليكم وعلى من حضر من المسلمين، وما بسطت لك الكلام إلى محبة /وإعلاماً/4. وصلى الله على محمد وآله وصحبه /وسلم/5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ذكر هذه القاعدة في ص218.
2 البيت للمتنبي في ديوانه 3/245.
3 ساقط في (ب) و(ج) و(د) والمطبوع.
4 في المطبوع: وإعلام.
5 في (أ(: أجمعين. والمثبت أولى إذ به يكمل الصلاة والتسليم على محمد صلى الله عليه وسلم.(2/195)
ص -477- ... (الرسالة السابعة والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -تغمده الله بإحسانه، وصب عليه من شآبيب بره وامتنانه، ونفعنا بعلومه الداعية إلى الرشاد، ورسائله المرشدة إلى هدي خير العباد، ونصائحه المؤذنة بحسن الدعوة إلى الله، ورد العباد إلى عبادة من لا نعبد إلا إياه، ولا رب لنا سواه- رسالة إلى من وصلت إليه من المسلمين، يحرضهم فيها إلى الجهاد في سبيل الله، والتزام أصول الدين، والاعتصام بحبل الله المتين.
ويذكرهم نعمة الله ا لتي امتن بها عليهم، على يد شيخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ إذ كانوا قبله على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا يعرفون من الإسلام إلى اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، لا شعور لهم بدين الله الذي بعث به رسوله، ولا يعرفون منه التحقيق، لا فروعه ولا أصوله، فأنقذهم الله بدعوته من الغواية، وسلك بهم طريق أهل السعادة والهداية، وكثرهم الله بها بعد القلة، وأعزهم الله بها بعد الذلة2، وصار بهذا الدين للعباد قادة، وانتهت إليهم به الرئاسة والسيادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص194- 199 وهي الرسالة رقم (34). وجاءت في (ب) متقدمة، في ص38- 42. وهي الرسالة رقم (9) فيها.
2 ذلك أن العزة ليست إلى لله ولرسوله وللمؤمنين المتبعين لشرعه؛ كما ذكر سبحانه وتعالى وقال في كتابه العزيز: {الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
فلا عزة إلا بالإسلام، ويزداد عزة الإنسان كلما اشتد تمسكه بالإسلام؛ ويذل كلما نأى بنفسه عن هذا الدين. وفي ذلك قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنا الله أعزنا بهذا الدين. فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".(2/196)
ص -478- ... ثم سار أبناؤه بعده على مناهجه، الدعوة إلى الله، و/الحض/1 على الجهاد في سبيل الله، ورد العباد إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وبوءهم -بفضله ورحمته- الدرجات العلى.
وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من وصل إليه من المسلمين وفقهم الله للبر والتقوى، وسلك بهم سبيل الرشاد والهدى. سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد سبق إليكم من النصائح والتذكير بآيات الله، والحث على لزوم جماعة المسلمين، ما فيه كفاية وهداية، لمن أحيا الله قلبه، وأراد الله هدايته، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة،قالها ثلاثاً، قالوا: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)2.
فجعل الدين محصوراً في النصيحة، لأنها تتضمن أصوله وفروعه وقواعده المهمة، فيدخل فيها الإيمان بالله ومحبته وخشيته والخضوع له وتعظيمه وتعظيم أمره ونهيه، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وعظمته، من تعطيل وإلحاد، وشرك وتكذيب؛ لأن النصيحة خلوص الباطن والسر، من الغش والريب والحقد والتكذيب، وكل ما يضاد كمال الإيمان ويعارضه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهكذا أهل البلاد السعودية، لم يصلوا إلى ما صاروا إليه من العزة والكرامة والشرف ونعمة الأمن، إلأا بفضل الله تعالى، ثم بفضل تمسكهم بالإسلام والدعوة إليه. حفظهم الله عليه، ووفقنا جميعاً لما فيه صلاح ديننا ودنيانا.
1 في جميع النسخ: والحظ. وهو خطأ. والصواب المثبت، لأنه من التحضيض.
2 تقدم تخريجه في ص442.(2/197)
ص -479- ... وكذلك النصيحة لكتابه: تتضمن العمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والاعتبار بأمثاله، والوقوف عند عجائبه، ورد مسائل النزاع إليه، وترك الإلحاد في ألفاظه وعانيه.
والنصح لرسوله: يقتضي الإيمان به وتصديقه ومحبته وتوقيره وتعزيره ومتابعته والانقياد لحكمه، والتسليم لأمره، وتقديمه على كل ما عارضه وخالفه من هوى أو بدعة أو قول.
والنصح لأئمة المسلمين: أمرهم بطاعة الله ورسوله، وطاعتهم في المعروف، ومعاونتهم على القيام بأمر الله وبترك مشاقتهم ومنازعتهم1.
والنصح لعامة المسلمين: هو تعليمهم وإرشادهم لما فيه صلاحهم وفلاحهم، والرفق بهم، وكفهم عما فيه هلاكهم وشقاؤهم، وذهاب دينهم ودنياهم، /من/2 معصية الله ورسوله، ومخالفة أمره، ومشابهة الجاهلين، فيما كانوا عليه من التفرق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ورد في الأمر بطاعة ولاة الأمور، والنهي عن منازعتهم، نصوص عدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. [النساء: 59].
أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني" الحديث.
الحديث يدل على وجوب طاعة ولاة الأمور فيما يشق، وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية، فإن كانت لمعصية فلا سمع ولا طاعة.
انظر: شرح النووي لصحيح مسلم 12/465. وسيأتي في وجوب طاعة الأمراء أحاديث في ص875.
2 في (د): وعن.(2/198)
ص -480- ... والاختلاف، وترك ا لحقوق الإسلامية.1
وفي الحديث: "ثلاث لا يغل2 عليهن قلب رجل مسلم، إخلاص الدين لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"3
فأفاد أن هذه الثلاثة لا يدعها المسلم، إلا لغل في قلبه، بل المسلم الصادق في إسلامه، لا يكون إلأى مخلصاً دينه لله، مناصحاً لإمامه، ملازماً لجماعة المسلمين وقد دل القرآن على هذا في غير موضع، كقوله /تعالى/4: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}5.
فابتدأ الآية بأن يتقى حق التقاة، وأمر بالتزام الإسلام، والعض عليه بالنواجذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد تقدم ذكر تأويل الخطابي لمعنى (الدين النصيحة) في ص442.
2 يغل: بضم الياء: من الأغلال، وهو ا لخيانة؛ وبفتحه من الغل، وهو الحقد والشحناء؛ أي: يدخله حقد
3 سن الترمذي 5/34، العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وفيه: (...فإن الدعوة ...).
سنن ابن ماجة 2/188، المناسك، باب الخطبة يوم النحر، وفي 1/49، المقدمة، باب من بلغ علماً، دون اللفظ الأخير: (فإن دعوتهم ...).
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/225، بلفظ: "ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم، إخلاص العمل لله ..."، الخ، وفي 4/80، 82 وفي 5/183؛ والدارمي في سننه 1/86، المقدمة، باب الاقتداء بالعلماء. وعند الجميع: (إخلاص العمل لله) ولم أجد من روى" (إخلاص الدين لله) كما هو عند المؤلف.(2/199)
والحديث صحيح. انظر تخريجه: صحيح الجامع للألباني 6/30.
4 ساقط في(ج) و(د).
5 سورة آل عمران الآية (102- 103).(2/200)
ص -481- ... حتى الممات، لأن قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1، تحضيض وحث على التزامه في جميع أوقات العمر والساعات، ومن عاش على شيء، مات عليه.
وقد أمر باعتصام بحبله، وهو دينه وكتابه2، أمراً عاماً لجميع المكلفين، وسائر المخاطبين، لأن التقوى والتزام الإسلام، يتوقف على ذلك، ولا يحصل المقصود منه إلى باعتصام بحبل الله، وترك التفرق والاختلاف، لما /فيهما/3 من فساد الدين، وهدم أصوله وقواعده.
ثم ذكرهم بنعمته عليهم بتأليف قلوبهم واجتماعها بعد العداوة والبغضاء، فإن التفرق والاختلاف عذاب وهلاك وشقوة في العاجل والآجل؛ والجماعة والائتلاف
رحمة وسعادة،ونعيم في العاجل والآجل، وأخبرهم أنهم كانوا على شفا حفرة من النار، بما كانوا عليه من الضلالة والجاهلية، فامتن عليهم وأنقذهم واجتباهم وهداهم وجمع قلوبهم، وشملهم بعد الفرقة الشتات، وأعزهم وأغناهم بعد الفقر والحاجات، فيا لها من نعم، ما أجلها، ومواهب ما أعظمها وأبرها، لمن عقلها وشكرها. ولذلك ختم الآية بقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}4. فيه بيان الحكمة /المقتضية/5 لبيان الآيات، والتذكر بالنعم، وأن المراد بها حصول الاهتداء، وترك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران الآية (102).
2 فسره بذلك ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم.
انظر: جامع البيان للطبري 4/31، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/102.
وقد أخرج الإمام مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني تارك فيكم ثقلين، أحدهما: كتاب الله عز وجل، هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة). صحيح مسلم بشرح النووي 15/190، فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب.
3 في (د): فيها.
4 سورة آل عمران الآية (103).
5 في (أ): المقتظية. وهو خطأ.(2/201)
ص -482- ... أسباب /الشقاء/1 والردى.
وقد عرفتم ما كنتم عليه قبل هذه الدعوة الإسلامية، التي امتن الله بها على يد شيخنا رحمه الله. كنتم على جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وبدعة صماء، لا شعور لكم بدينه الذي ارتضاه لنفسه، ولا دراية لكم بما يجب له من صفات كماله، وجلال قدسه، ولا معرفة لديكم بما شرعه من أمره ونهيه، كما كنتم على غاية من التفرق والاختلاف /فبصركم/2 الله بهذه الدعوة المباركة من العمى، وسلك بكم سبيل السعادة والهدى، وعلمكم من دينه وشرعه ما اصطفاكم به، واختاركم على من ضل وغوى، وجمعكم بعد الفرقة، وألف بين قلوبكم بعد العداوة والمشقة، وأعزكم على من عاداكم بعد المسكنة والذلة. فاشكروه على هذه النعم العظيمة، بالتزام طاعته، والمسارعة إلى مرضاته وغفرته، ولا تكونوا كالذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار3، واشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا السعادة بالشقاء، وتركوا البصيرة واختاروا العمى.
وقد عرفتم أن الله افترض عليكم الجهاد في سبيله، وابتلاكم /بأعداء دينه/4 ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين5، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}6 7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1كذا في المطبوع. وفي جميع النسخ: الشقي.
2 في جميع النسخ: بصركم. والمقام يقتضي زيادة فاء في أوله كما في المطبوع.
3 هذا اقتباس من قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28].
4 في (د): بأعدائه.
5 هذا مصداق قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].
6 في جميع النسخ جاء كلمة (يَشَاءُ) في الآية (شاء) بإسقاط الياء، وهو خطأ.
7 سورة محمد الآية: (4).(2/202)
ص -483- ... وما أجرى الله وابتلى به من الزعازع1 والمحن، من أكبر وأعظم موجباته، مخالفة الأمر الشرعي، وترك طاعة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، ولهذا يسلط /العدو/2، وتنزع المهابة من صدور أعدائكم، وتضربون بسوط الذل والمهانة، كما جاءت به الآثار3، وصحت به الأخبار، وشهد له النظر والاعتبار4.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الصف:10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ5 ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الصف:11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ6 وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (الصف:12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (الصف:13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الزعازع: الشدائد. يقال: كيف أنت في هذه الزعازع، إذا أصابته شدائد الدهر. لسان العرب 8/ 142، مادة (زعع)
2 في (د): العدوا.
3 ومما جاء في ذلك من الآثار: حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوسك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليننرعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يارسول الله: وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت".(2/203)
سنن أبي داود 4/ 483- 484، الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، مسند الإمام أحمد 5/ 278، 2/ 359 وأخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/ 683 برقم: (958)
4 إن من ينظر إلى حال المسلمين اليوم، يكاد يغلب على ظنه أن زماننا هذا هو المشار إليه في حديث ثوبان المتقدم، فجميع القضايا التي تشغل العالم حالياً، ويلتهب فيها نيران المدافع، ويراق فيها دماء الآلاف، إن أغلبها- إن لم تكن جميعها- قضايا إسلامية، كما هو على سبيل المثال: قضية البوسنة والهرسك، الكشمير، الشيشان، أذربيجان، وفلسطين ونحوها. فكل تلك المذابح تتم تحت غطاء هيئة تعرف باسم (الأمم المتحدة) كما لا يخفى على أحد وجهتها. وكل ذلك نظراً لتمكن الصفتين فينا، "حب الدنيا، وكراهية الموت".
5 إلى هنا توقف ناسخ (د) وقال إلى آخر السورة.
6 في (أ) زاد الناسخ هنا كلمة (خالدين فيها) بعد الأنهار وهو خطأ.(2/204)
ص -484- ... اللَّهِ1 فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}2.
وفي الحديث: "من /مات و/3 لم /يغز/4 ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق"5. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"6.
فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}7. جعلنا الله وإياكم ممن يقبل المواعظ والنصائح، ويدرأ أسباب المقت والفضائح. وأنتم في أمان الله وحفظه، والسلام. /وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم/8.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلى هنا توقف النساخ في (أ) و (ب) و (ج) والمطبوع وقالوا: إلى آخر ظاهرين.
والتكملة من المصحف.
2 سورة الصف الآيات: (10- 14).
3 ساقط في جميع النسخ عدا المطبوع.
4 في (د): يغزو.
5 تقدم تخريجه في ص 275.
6 تقدم تخريجه في ص 275.
7 سورة البقرة الآية (281).
8 زيادة في المطبوع.(2/205)
ص -485- ... (الرسالة الثامنة والعشرون)1
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير2 وقد ذكر له الشيخ عبد الله في رسالته، كلام أبي بكر بن العربي المالكي3 في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}4.
فأجابه -رحمه الله- بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى ذلك المهيع والطريق، وبين له –رحمه الله- غلط أبي بكر بن العربي، فيما زعمه وقرره من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره، بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية، هو كلام القدرية المجبرة5. فأما أن يكون جهلاً منه، بأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 199- 206. وهي الرسالة رقم (35). وجاءت في (ب) متقدمة، في ص 42- 48. وهي الرسالة رقم(10) فيها.
2 هو عبد الله بن نصير المطرفي، من المطارفة، أحد بطون قبيلة عنزة الشهيرة، رحل إلى الرياض، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعينه الإمام تركي بن عبد الله قاضياً على مدينة الرياض، ثم ضرما. وكان كفيف البصر. توفي في أيام الإمام تركي. علماء نجد خلال ستة قرون 2/ 646.
3 تقدمت ترجمته في ص 396.
4 سورة الذاريات الآية (56).
5 القدرية المجبرة: ويسمون ب "الجبرية" وهم الذين ينفون الفعل حقيقة عن العبد، ويضيفونه إلى الرب تبارك وتعالى. أي أن العبد ليس له أدنى اختيار فيما يعمله من عمل.
ومذهبهم هذا قائم على أن العبد مجبور على أفعاله، وأنه لا فعل له البتة، وليس بقادر أصلاً، فليس له قدرة ولا اختيار، وإنما هو كالريشة في الهواء، فالله وحده هو الفاعل القادر.(2/206)
انظر: الملل والنحل 1/ 85، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 460، 13/ 37، 16/ 235. وهذا القول يقابله قول "القدرية النفاة" فهما متقابلان تقابل التضاد، وعلى طرفي نقيض من إرادة الإنسان. فبينما ينفي الجبري القدرة والاختيار عن العبد، يأتي القدري فيثبتهما له، وأنه ليس لله فيما يعمله العبد دخل.(2/207)
ص -486- ... مخالف لقول أهل السنة، أو تقليداً منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقاً لهم في أصل الجبر، والقول به؛ فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره ويأخذ به.
وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط الذي ذكرت /فيه/1 كلام أبي بكر بن العربي المالكي، في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}2 قد وصل. وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية، على القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة.
وابن العربي إن لم يكن موافقاً لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره؛ إما جهلاً منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليداً لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخرى، وليس هذا خاصاً به، بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى أهل السنة.
فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}3 أي إلا لتجري أفعالهم على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر: الملل والنحل 1/ 43، والفرق بين الفرق ص [116].
أما أهل السنة، فهم وسط بين الفريقين، يقولون: إن للإنسان إرادة واستطاعة واختيار لما يقوم به من عمل، لكنها لا تتم إلا بتوفيق الله تعالى للطائعين، والخذلان للعاصين. فهو سبحانه وتعالى خالق لأفعالهم وهم الفاعلون باختيارهم.
[انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/ 20].
1 في (د): في.
2 سورة الذاريات الآية (56).
3 سورة الذاريات الآية (56).(2/208)
ص -487- ... مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوباً، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده1 انتهى.
وهذا الكلام بعينه هو كلام القدرية المجبرة فيما حكاه عنهم غير واحد2؛ وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه. وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، وليفجر ليفجر والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جار بذلك كله، والقدرية المجبرة، دعاهم لهذا -فيما يزعمون- إبطال قول القدرية النفاة3، ومصادمتهم في قولهم: أن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، [فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء /عصوه/4 بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم]5. .......................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أجد محل ذكر ابن العربي لهذا الكلام.
2 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 37، والملل والنحل 1/ 87.
3 القدرية النفاة: هم الذين نفوا القضاء والقدر السابق من الله تعالى، وأن الإنسان حر بفعل ما يشاء، فالأمر أنف لم يقدر الله من عمله شيئاً، فليس لله في كفر العباد ومعاص العباد صنع. وأنه لم يخلق شيئاً من أفعال العباد.
انظر الحجة في بيان المحجة 2/ 479؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 37، و 17/ 173، 8/ 340 450.
ومن استدلالهم على مذهبهم، يقولون: (قد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف، أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح؛ ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ويكره الفسوق والعصيان. فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي، واقعاً بدون مشيئته وإرادته، كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه. وقالوا: إن محبته ورضاه لأعمال عباده، هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها)
[انظر استدلالهم هذا: مجموع الفتاوى 8/340].(2/209)
وأهل السنة يقولون: (إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى به؛ كما لا يأمر ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه؛ كما لا يأمر به وإن كان قد شاءه).
[مجموع الفتاوى 8/475].
4 في (أ): عصوا.
5 ما بين المعقوفتين نص مطابق لما في مجمع فتاوى شيخ الإسلام 8/43.(2/210)
ص -488- ... وحاصل قولهم إنكار القدر، وأن الأمر أنف1 فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظراً منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره [وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى خالق كل شيء وريه ومليكه، ولا يكون في مليكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته]2. كما قلا تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}3، و{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}4، و{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}5، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}6؛ ونحو ذلك من الآيات.
ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان. وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لابد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية7 التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلت عليها النصوص النبوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أنف: بضم الهمزة والنون: أي أن كل شيء يخلقه الله، فهو مستأنف جديد، لم يكن مقدراً ولا مكتوباً.
2 ما بين المعقوفتين، نص موافق تماماً لما في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/43، 99.
وهذا مذهب أهلالسنة. فلا يخرج شيء من الكائنات عن قدرته ومشيئته وخلقه. وعليه فجميع أفعال العباد مخلوقة له سبحانه وتعالى، فالعبد فاعل لفعله حقيقة، والله هو الخالق لهذا الفاعل ولفعله. وهو الذي جعله فاعلاً حقيقة.
انظر: مجوع فتاوى شيخ الإسلام 16/237، 8/466، 468 وخلق أفعال العباد للبخاري ص18، 48 وفتح الباري 13/537، 538.
3 سورة القمر الآية (49).
4 سورة الأنعام الآية (111).
5 سورة الأنعام الآية (112).
6 سورة الإنسان الآية (30).
7 الإرادة الشرعية الدينية: هي المتضمنة للمحبة والرضى.
أما الإرادة الكونية القدرية: فهي المشيئةالشاملة لجميع الحوادث، وعليه قول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. شرح العقيدة الطحاوية ص79.(2/211)
ومما ورد في كتاب اللهمن ا لإرادة الشرعية:
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].(2/212)
ص -489- ... وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما1، وآمنوا بكل الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة؛ والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}2 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}3 {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}4
والثانية: في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26].
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
ومما ورد في كتاب الله من الإرادة الكونية:
قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125].
و قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
و قوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34].(2/213)
1 أثبت المسلمون أهل السنة، الإرادتين الكونية والشرعية. فيقول: إن الله يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ويريد المعاصي من العاصي ويشاؤه كوناً وقدراً. لكنه تعالى لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل ويبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وقد أراد العبادة كوناً وأرادها شرعاً، وأحبها وأمر بها، ورضي أن يفعلوها. وإذا لم يفعلوها، لم يكن قد شاء أن تكون، إذ لو شاء وأ{ادها كوناً لكان.
انظر شرح العقيدة الطحاوية ص80-81، 324؛ ومجموع الفتاوى 8/55.
2 سورة الذاريات الآية (56). واللام في (ليعبدون) للتعليل. انظر: إعراب ا لقرآن الكريم وبيانه، لمحي الدين درويش، طبعة اليمامة، ودار ابن كثير، بيوت، نشر دار الإرشاد، حمص، سوريا، 1408هـ 1988م، 9/323.
3 سورة النساء الآية (64).
4 سورة البقرة الآية (185). واللام في (لتكملوا) و(لتكبروا) للتعليل، انظر: الكشاف للزمخشري 1/337، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/55- 56.
5 سورةالقصص الآية (8). واللام في (ليكون)، للعاقبة والصيرورة. انظر: جامع البيان(2/214)
ص -490- ... {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}1 {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}2، على أحد ا لقولين.
فمن نفى الإرادة الشرعية الأمرية، فهو جبري ضال مبتدع. ومن نفى الإرادة الكونية القدرية، فهو قدري ضال مبتدع؛ ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}3 بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية4 فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، في هذه العبادة، وجعل /عابد/5 الأصنام والشيطان والأوثان /عابداً/6 للرحمن قائماً بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول7 .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود الآية (179).
إن القول في اللام هنا بأنه للعاقبة، لا يتوجه، لأن ذلك يكون بمعنى: أن عاقبة هؤلاء، جهنم؛ وعاقبة المؤمنين العبادة؛ من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا، ولكن أراد خلق كل ما خلقه لا لشيء آخر. وهذا قول نفاة الحكمة، كالأشاعرة وأتباعهم.
انظر: ومجموع فتاوي شيخ الإسلام 8/44.
2 سورة هود الآية (119).
3 سورة الذاريات الآية (56).
4 أي كما قال ابم العربي في القول المنقول عنه سابقاً ص486.
5 ساقط في (أ).
6 في (د): عابد. بدون نصب.
7 الحلول والاتحاد: يريد أصحاب هذا القول، حلول الخالق في المخلوق أو اتحادهما فيكونا كالشيء الواحد. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد حصرهما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أربعة أقسام:
الأول: الحلول الخاص: وهو قول النسطورية من النصارى: إن ا للاهوت حل في الناسوت، وتدرع به كحلول الماء في الإناء. ونحوه قول غلاة الرافضة، أنه تعالى حل بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثاني: الاتحاد الخاص: وهو قول يعقوبية النصارى: أن ا للاهوت والناسوت احتلطا وامتزجا، كاختلاط اللبن بالماء.(2/215)
الثالث: الحلول العام: وهو ما ذكر لطائفة الجهمية المتقدين: أن الله بذاته في كل مكان.
الرابع: الاتحاد العام: وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أنمه تعالى عين وجود الكائنات، كابن عربي وابين سبعين وابن الفارض والتلمساني وأتباعهم. وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى.
[مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/171، 172، 112، 115، 124؛].
والمقصود هنا هو القسم الرابع (الاتحاد العام) أي أن من فسر الآية بمعنى لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي، إنما أدخل البر والفاجر ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا على معنى الاتحاد العام الذي لا يفرق أصحابه بين وجود الخالق ووجود المخلوق، فيكون الخالق عين المخلوقات، بحيث أن من عبد الأصنام والأشجار فقد عبد الله على قولهم الفاسد. ويريد المصنف: أن من فسر الآية يبمعنى (لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي) فقد جعل عابد الأصنام والشيطان عباداً للرحمن. وإنما أدخلهم ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا بمعنى أن الله بذاته في كل مكان.(2/216)
ص -491- ... الذي قاله صاحب الفصوص1وطائفة الاتحاد الكفار2.
وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا من غيرهم.
والعبادة- /وإن كانت/3 أقصى غاية الذل والخضوع مطلقاً4كما في كقوله:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=الثالث: الحلول العام: وهو ما ذكر لطائفة الجهمية المتقدين: أن الله بذاته في كل مكان.
الرابع: الاتحاد العام: وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أنمه تعالى عين وجود الكائنات، كابن عربي وابين سبعين وابن الفارض والتلمساني وأتباعهم. وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى.
[مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/171، 172، 112، 115، 124؛].
والمقصود هنا هو القسم الرابع (الاتحاد العام) أي أن من فسر الآية بمعنى لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي، إنما أدخل البر والفاجر ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا على معنى الاتحاد العام الذي لا يفرق أصحابه بين وجود الخالق ووجود المخلوق، فيكون الخالق عين المخلوقات، بحيث أن من عبد الأصنام والأشجار فقد عبد الله على قولهم الفاسد. ويريد المصنف: أن من فسر الآية يبمعنى (لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي) فقد جعل عابد الأصنام والشيطان عباداً للرحمن. وإنما أدخلهم ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا بمعنى أن الله بذاته في كل مكان.
1 الفصوص: هو كتاب "فصوص الحكم" لمحي الدين، أبي بكر محمد بن علي بن محمد، بن عربي الصوفي. وقد تقدم ذكر نوع الحلول والاتحاد الذي أورده في هذا الكتاب. ومما قاله في ذلك:
فأنت عبد وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد
وقال أيضاً:
فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن ... فما ثم موصول وما ثم بائن(2/217)
انظر: شرح الشيخ عبد الرزاق التلمساني على "فصوص الحكم" لمحيي الدين أبو بكر ابن عربي الصوفي، ط/2، 1386هـ - 1966م، شركة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر. ص118، 119. وانظر أبياته في الحلول أيضاً الصفحات: 11، 14، 33، 114، 122.
2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 2/123- 124.
3 في المطبوع (وإن كانت لغة: أقصى).
4 الصحاح للجوهري 2/503، تهذيب اللغة للأزهري 2/234، لسان العرب 3/272، مادة (عبد).(2/218)
ص -492- ... تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعت ... وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد1
فهي في الشرع، أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية، التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية. كما فسر ابن عباس رضي الله عنه- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}2بتوحيده وإخلاص العبادة له3نظراً منه إلى الحقيقة الشرعية، لا إلى أصل الأوضاع اللغوية.
وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة4. والحق ما قاله ابن عباس، خلافاً لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 5وتعليلهم ما قالوه بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى مغلوباً، والله تعالى هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه؛ لأن الله تعالى لا يعصى عنوة، بل علمه وقدرته وعزته وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر6، مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة. فإن الصحابة قاطبة وسائر أهل السنة والجماعة، متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يكن،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه في ص311.
2 سورة البقرة الآية (21).
3 ذكره الطبري في تفسيره 1/160.
4 المرجع السابق نفس الصفحة.
5 سورة الكافرون الآية (3).(2/219)
6 هذه إشارة إلى حديث يحيى بن سعيد، أنه قال: اسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، فقال له جبريل: أفلا أعلمك كلمات تقولهن، إذ قتلهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال جبريل: فقل: أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من ا لسماء ومن شر ما يعرج فيها ...) الحديث. أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/950- 951، باب ما يؤمر به من التعوذ.(2/220)
ص -493- ... ويؤمنون بأن الله تبارك وتعالى عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون، كيف تكون1. وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم2فكفرهم بذلك الأئمة، أحمد وغيره3وأما من قال بإثبات القدر خيره وشره، /حلوه/4 ومره، فلا يلزمه، ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة، من لزوم خروج العبد على فعل المولى.
وإن قال: أن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية، إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفاً للأوامر الشرعية، وإن كان داخلاً تحت المشيئة الكونية القدرية؛ فالخروج عن القدر والمشيئة نوع آخر.
فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات، لجريان الأقدار عليهم طوعاً وكرهاً. وأما الثاني فيقع من الأكثر، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}5. ولله سبحانه وتعالى في خروج الأكثر عن أمره حكمة يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته، وعدله وربوبيته، يستحق أن يحمد عليها.
وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- كلاماً حسناً في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}6ذكر فيه ستة أقوال7:
أحدها: قول نفاة الحكم، كالأشاعرة8.............................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/440، 459؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص125- 126، 1333.
2 تذهب غلاة القدرية إلى أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/440، 459؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص126.
3 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/485.
4 في (د): وحلوه. بزيادة واو في الأول.
5 سورة يوسف الآية (103).
6 سورة الذاريات الآية (56).
7 وردت هذه الأقوال الستة في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/37- 55.
8 تقدم التعريف بهم في ص57.(2/221)
ص -494- ... ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى1، وابن الزاغوني2 والجويني3 والباجي4 وهو وقول جهم بن صفوان5 ومن اتبعه من المجبرة، /القائلين/6 بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة، وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة7.
الثاني: قول المعتزلة8 ومن وافقهم: وهو أنه تعالى يخلق ويأمر، لحكمة تعود إلى العبادة وهي نفعهم، والإحسان إليهم، فلم بخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، القاضي أبو يعلى، شيخ الحنابلة، البغدادي، صاحب التعليقة الكبرى، وأحكام القرآن، والعدة في أصول الفقه وغيرها. (ت458هـ).
انظر: تاريخ بغداد 2/ 256، وسير الأعلام 18/ 89.
2 هو على بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله، بن الحسن بن الزاغوني، البغدادي، صاحب التصانيف. (ت 458هـ).
سير الأعلام 19/ 605، وشذرات الذهب 4/ 80.
3 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله، إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني، الشافعي، صاحب التصانيف. كان فيه اعتزال. قال الذهبي: إنه جاور مكة وتعبد وتاب منها. وأنه في الآخر رجح مذهب السلف في الصفات. (ت 478هـ).
المستفاد من ذيل تاريخ بغداد 19/ 174، سير الأعلام 18/ 468، طبقات السبكي 5/ 165.
4 هو أحمد بن سليمان أبو القاسم الباجي، روى عن أبيه، وحدث عن حاتم بن محمد، ومحمد ابن عتاب وغيرهم. وأجاز للقاضي عياض، اتفق موته بجدة بعد الحج (493هـ).
سير الأعلام 18/ 545، والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لإبراهيم بن على بن فرحون المالكي، وبهامشه نيل الابتهاج، لأحمد بن أحمد التنبكتي، ط/ 1، 1351،الفحامين، بمصر، 1/ 183.
5 تقدمت ترجمته في ص 299.
6 في (ج) و (د): قائلين.(2/222)
7 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 37- 38.
8 تقدم التعريف بهم في ص 225.(2/223)
ص -495- ... منهم من أنكر القدر، ووضع لربه شرعاً بالتجوير والتعديل، وهذا هو قول القدرية.
ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته خفيت علينا. وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر. فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر1.
الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه، فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له، وهم المؤمنون. ومن لم يوجد منه ذلك، فليس بمخلوق له، قالوا: وهذه /حكمة/2 مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي: نفع العباد. ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم؛ ونحن أثبتنا حكمة /علم/3 أنها تقع فوقعت4. وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد، وإن تضررالبعض.
قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم. وهذا اختيار القاضي أبي خازم5 ابن القاضي أبي يعلى6، قالوا: فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}7 وهو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف8. وهو قول الكرامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 38- 39.
2 في (أ): الحكمة.
3 في (أ) على.
4 أي وقعت تلك الحكمة بمعرفة عباده المؤمنين، وحمدهم له، وثناؤهم عليه وتمجيدهم له.
5 هو محمد بن محمد بن الحسين بن محمد، أبو يعلى الصغير، القاضي أبي خازم، ابن القاضي الكبير أبي يعلى ابن الفراء البغدادي، شيخ الحنابلة، تفقه بأبيه وبعمه أبي الحسين محمد (ت560هـ). سير الأعلام 20/ 353، والنجوم الزاهرة 5/ 370، وشذرات الذهب 4/ 190.
6 تقدمت ترجمته ص 494.
7 سورة الذاريات الآية (56).
8 أي القول بالتخصيص في الآية، قال به الكلبي والضحاك وسفيان الثوري.(2/224)
ص -496- ... وعن سعيد بن المسيب1 في معنى الآية قال: (ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك2 والفراء3 وابن قتيبة4 هذا خاص بأهل طاعته5. قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى –هذا بمعنى الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين، لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار6....................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر: تفسير البغوي 7/ 380، والجامع لأحكام القرآن 17/ 37.
1 هو سعيد بن المسيب بن حزن، أبو محمد القرشي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، سمع من عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة، (ت 93هـ).
انظر: سير الأعلام 4/ 217- 246؛ تهذيب التهذيب 4/ 84.
2 تقدمت ترجمته في ص 353.
3 هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور، أبو زكريا الكوفي النحوي، له: معاني القرآن. (ت 207هـ). تاريخ بغداد 14/ 146، سير الأعلام 10/ 118.
4 تقدمت ترجمته في ص 353.
5 انظر زاد المسير لابن الجوزي 8/ 42. وتفسير البغوي 7/ 380.
6 مسألة: هل الكفار مخاطبون بالشرع هذه مسألة مختلف فيها عند الأصوليين، هل الكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعه.
فأجمعوا على تكليف الكفار بأصول الشريعة، كالإيمان وتصديق الرسل.
[انظر: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، للتفتزاني (792هـ) وبهامشه شرح التوضيح، مكتبة محمد على الصبيح وأولاده بمصر، 1 213- 214].
واختلفوا في توجه الخطاب الشرعي إلى الكفار في تكليفهم بفروع الشريعة (كجميع أنواع العبادات) إلى أقوال عدة، أوصلها البعض إلى تسعة، أهمها ما يلي:
القول الأول: أنهم مخاطبون بالفروع مطلقاً، بشرط تقدم الإيمان. بدليل قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (المدثر:42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (المدثر:43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}(2/225)
(المدثر الآيات: 42، 43، 44). فدل على أن مؤاخذاتهم على هذه الأعمال، ولولا تكليفهم بها، لما عوقبوا عليها. وهذا مذهب المالكية والشافعية.
انظر: بيان المختصر شرح مختصر ابن حاجب، لشمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني (ت 749هـ) تحقيق د. محمد مظهر بقا، ط/ 1، 51406- 1986م، دار المنار جدة 1/ 424]. فواتح الرحموت، بهامش المستصفى 1/ 128. التلويح على التوضيح.(2/226)
ص -497- ... بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ}1 الآية، فمن خلق للشقاء ولجهنم، لم يخلق للعبادة)2.
قلت: قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني /القول/3 بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث.
ثم قال شيخ الإسلام: قلت: (قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة -لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف- فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور4.
والقول الرابع: أنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهرهم ونفوذ قدرته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1/213- 214، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني (ت 1255هـ)، دار المعرفة بيروت ص 10.
القول الثاني: أنهم غير مخاطبين بالفروع مطلقاً. لأن العبادة لنيل الثواب، والكافر ليس أهلاً له، فلا يؤمر بها. وهذا قول جمهور الحنيفة. [التلويح على التوضيح 1/ 213، فواتح الرحموت 1/ 130، بيان المختصر 1/ 425].
القول الثالث: أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر. [فواتح الرحموت 1/ 128، وإرشاد الفحول ص 10].
وذكر غير ذلك من الأقوال.
وقد رجح العلماء القول الأول، بأنهم مخاطبون ومكلفون بالفروع مطلقاً، إلا أن الآداء لا يصح منهم حال كفرهم. انظر هذا الترجيح: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، د. التكليفي في الشريعة الإسلامية، د. محمد أبو الفتح البيانوني، دار القلم، دمشق، ط/ 1، 1409هـ- 1988م، ص 283. وقد استوفي هذه المسألة من ص 278- 285.
1 سورة الأعراف الآية (179).
2 إلى هنا نقل نصاً من (زاد المسير) لابن الجوزي، 8/42 ابتداءً من قول سعيد بن المسيب.
وهو مجموع الفتاوى 8/40، والجامع لأحكام القرآن 17/37.
3 في جميع النسخ: بالقول. بزيادة باء في الأول. والكلمة ساقطة في المطبوع.
4 من بداية القول الثالث، إلى هنا، انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/39- 40.(2/227)
ص -498- ... ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة1.
وفسروا العبادة بالتعبيد القدري. وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى2 فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلى كله طاعات3
وأما هؤلاء فجعلوا عباد الله، كون العباد تحت المشيئة.
وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر، فقد أطاع القدر والمشيئة4.
وما رواه ابن حاتم5 عن زيد بن أسلم6 في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}7 قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة8.
وقال وهب9: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على معصية10، وقد روي أيضاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من بداية القول الرابع إلى هنا: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/47.
3 لم أعرف مصدره ولا قائله.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/47.
5 تقدمت ترجمته في ص343.
6 هو زيد بن أسلم أبو عبد الله العدوي، العمري المدني الفقيه، حدث عن والده أسلم مولى عمر، وعن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعدد من الصحابة. (ت136هـ).
7 سورة الذاريات الآية(56).
8 انظر: جامع البيان للطبري 27/11، وتفسير البغوي 7/380، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
9 هو وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار، العلامة الأخباري القصصي، أبو عبد الله الأبناوي اليماني الصنعاني. ولد في زمن عثمان (34هـ)، وأخذ عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة. (ت110هـ) وقيل (114هـ).
سير الأعلام 4/544، تهذيب التهذيب 11/166.
10 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.(2/228)
ص -499- ... عن طائفة نحوه1.
وهؤلاء وإن وافقوه من قبلهم في معنى الآية، فهم –أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس تعظيماً للأمر والنهي والوعد والوعيد2.
وأما من قبلهم، فهم إباحية، يسقطون الأمر والنهي.
والقول الخامس: قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي. قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق له3.
وقد ذكر أبو الفرج4 عن ابن عباس: إلا لتقروا بالعبادة طوعاً وكرهاً. قال5: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}6، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني، كما سيأتي.
وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرهاً، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرهاً، وأما نفس الإقرار، فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعاً7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روي نحو ذلك عن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وذلك في تفسير قول ا لنبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد علة الفطرة". أي: على ما كتب له من سعادة وشقاوة. انظر: فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
*وقصد هؤلاء الرد على المكذبين بالقدر، القائلين بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء.
انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
2 المرجع السابق نفس الصفحة.
3 زاد المسير لابن الجوزي 8/43، وتفسير البغوي 7/381. مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 8/49.
4 هو عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. تقدم ترجمته في ص344.
5 زاد المسير لابن الجوزي 8/42.
6 سورة لقمان الآية (25).
7 زاد المسير 8/42، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/49.(2/229)
ص -500- ... وقال السدي1: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}2 قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة لا تنفع؛ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}3، هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع شركهم4.
وهذا المعنى صحيح، ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع، لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال: كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}5 6.
هذا آخر ما وجت من هذه الرسالة7. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدمت ترجمته في ص 251.
2 سورة الذاريات الآية (56).
3 سورة لقمان الآية (25). والزمر الآية (38).
4 إلى هنا انتهى قول السدي. انظر: تفسير ابن كثير 4/255.
5 سورة يوسف الآية (106).
6 مجمع فتاوى شيخ الإسلام 8/50.
7 وقد تقدم للمصنف في ص493 قوله: إنه رأى لشيخ الإسلام ابن تيمية ستة أقوال، في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقد وجد منها في هذه الرسالة خمسة.
أما السادس: فقد ذكره شيخ الإسلام في مجموع فتاواه 8/51- 52، وهو قول جمهور المسلمين: أن الله خلقهم لعبادته، وهو فعل ما أمروا به. قالوا: يؤيده قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة: 31].(2/230)
عنوان الكتاب:
عيون الرسائل والأجوبة على المسائل – الجزء الثاني
تأليف:
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
1293 هـ
دراسة وتحقيق:
حسين محمد بوا
الناشر:
مكتبة الرشد - الرياض
الطبعة الأولى(3/1)
ص -501- ... الرسالة التاسعة والعشرون1
قال جامع الرسائل
وله أيضا-قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى عبد الله بن عمير، صاحب الإحساء، لما بلغه مسبة مشايخ المسلمين، والوقوع في أعراضهم، ليتوصل هو وإخوانه بذلك إلى أغراضهم، ومن القدح فيما عليه المشايخ من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين، مع ما هو قائم به وأخدانه من أهل الإحساء من سوء العقيدة، وسلوك طريق أهل البدع والأهواء، ممن ينتسب في العقيدة إلى الأشعرية2 من تلامذة الجهمية 3 الجاحدين لعلوه /سبحانه/4 على خلقه، واستوائه على عرشه، خلاف العقيدة المرضية، والطريقة السلفية.
/وقد اتهم بإلقاء ورقة فيها الطعن/في/5 عقيدة من دعا الناس إلى عبادة الله، وترك عبادة ما سواه/6 وكذلك/الطعن/7على الشيخ العلامة، والإمام الفاضل الفهامة، الشيخ عبد الرحمن بن حسن8 بأنه قبل جوائز ابن ثنيان9 وأنه بنى بيته من أموال محرمة، وحاشا لله، فقد برءا الله الشيخ من ذلك وكرمه، فإنه لو فرض وجود ذلك في بيت مال المسلمين فلا يقتضي تحريمه على من خفي عليه عين ذلك، ولا تمييز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 219-237، وهي الرسالة رقم"39" وجاءت في "ب" في ص 56-72.
2 تقدم التعريف بهم في ص 57.
3 تقدم التعريف بهم في ص 299.
4 زيادة في المطبوع.
5 في "أ": على.
6 ساقط في "ح".
7 في "ح": طعنه.
8 تقدمت ترجمته ضمن مشايخ المصنف، ص65.
9 في المطبوع: بنيان. ولم أعرفه.(3/2)
ص -502- ... لديه بما اغتصبه أولئك، والمسئول عن التخليط ولي الأمر من الأئمة، لا من أخذه ولم يعلم عينه، /بل/1 من قصد ذلك وأمّه، كما ستقف عليه من كلام الأئمة الفحول، الذين لهم دراية بالفروع والأصول. وهذا نص الرسالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن/بن حسن/2 ، إلى عبد الله بن عمير. سلام على عباد الله الصالحين. وبعد:
فقد بلغنا ما أنت عليه، -أنت ومن غرك وأغواك- من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هو عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين. وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين/ ومائتين وألف 1264هـ/3، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية، الذين جحدوا علوه تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم الذي نزل به جبريل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري 4 لا أنه تكلم به حقيقة، وسمع كلامه الروح/ الأمين/5 ، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
ونُقِل عنك ما كنت تنتحله من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات 6؛
ــــــــــــ
1 كذا في "أ". وفي بقية النسخ: دع.
2 زيادة في "د".
3 زيادة في "د". وأشار إليه ناسخ "أ" في الحاشية.
4 انظر: رسالة السجزي إلى أهل زبيد، في الرد على من أنكر الحرف والصوت، للإمام أبي نصر عبيد الله بن سعيد السجزي "ت444هـ"، تحقيق د. محمد يا كريم يا عبد الله، ط/1، 1413هـ. مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص 105. مقالات الإسلاميين 2/456 الشريعة للآجري ص 89-90 الملل والنحل للشهرستاني 1/96.
5 ممسوح في "ج".
6 في "أ": في الإجارة.(3/3)
ص -503- ... وشافهتك في البحث عن بعض ذلك فاعتذرت وتنصلت، وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك. فجربت معك بالسيرة الشرعية، في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وتركنا السرائر إلى الله، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور1.
وقد بلغنا عنك بعد ذلك أنك أبديت لإخوانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك ويعتقد فيك، من أسافل الناس وسقطهم، الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله ومعرفة دينه وحقه، ما شرع من حقوق عباده المؤمنين. وقد عرفت يا عبد الله، أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام، وأصول الإيمان؛ فدمه هدر، وقتله حتم.
وقد حكى ابن القيم2 -رحمه الله تعالى- عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام ومفاتيه العظام، أنهم كفّروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء3؛ ومن جملتهم، إمامك الشافعي –رحمه الله- وجملة من أشياخه كمالك وعبد الرحمن بن مهدي4 والسفيانين5؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 اقتباس من قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} "غافر:19".
2 تقدمت ترجمته في ص 329.
3 وهؤلاء الجهمية. وقد تقدم ذكر تأويلهم ذلك في ص 373-377. وردود العلماء عليهم.
4 هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن، أبو سعيد العنبري، سيد الحفاظ، سمع من معاوية بن صالح الحضرمي، وإسماعيل بن مسلم العبدي، وغيرهما. "ت 198هـ". تاريخ بغداد 10/240، سير الأعلام 9/192.
5 هما: سفيان بن عيينة، وقد تقدمت ترجمته في ص 303، وسفيان الثوري هو سفيان بن سعد بن مسروق بن حبيب، أبو عبد الله الثوري الكوفي، إمام الحفاظ المجتهد. ولد سنة "97هـ" من صغار التابعين. "ت 161م". تاريخ بغداد 9/151، سير الأعلام، 7/229-279.(3/4)
ص -504- ... ومن أصحابه: أبو يعقوب البوطي1 والمزني2 وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة3 الشافعي، وابن سريج4 وخلق كثير 5.
وقولنا إمامك الشافعي –رحمه الله- مجاراة للنسبة ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنكم بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة التامة.
وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله، في قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم؛ فكلامهم فيه وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به أو يحصر6.
وقد حكى الإجماع عليه غير واحد، ممن يقتدى به ويرجع إليه، من مشايخ الإسلام/ والأئمة/7 الكرام،
ــــــــــــــــــــــــــ
1 هو يوسف بن يحيى، أبو يعقوب المصري البوطي، سيد الفقهاء، صاحب الإمام الشافعي، لازمه مدة، وتخرج به، وفاق أقرانه، وحدث عنه. "ت321هـ".
سير الأعلام 12/58، طبقات السبكي 2/162.
2 هو إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني المصري، أو إبراهيم تلميذ الشافعي، وحدث عنه، وعن علي بن معبد ونعيم بن حماد وغيرهم؛ وحدث عنه ابن خزيمة، وأبو جعفر الطحاوي وغيرهما "ت264هـ".
سير الأعلام 12/492، طبقات السبكي 2/93.
3 محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح الشافعي صاحب التصانيف، حدث عنه البخاري ومسلم وغيرهما. "ت311هـ".
سير الأعلام 14/365، طبقات السبكي 3/109.
4 هو أحمد بن عمرو بن سريج، أبو العباس البغدادي، فقيه العراقيين، القاضي الشافعي، صاحب المصنفات، وهو صاحب المزني، وبه انتشر مذهب الشافعية ببغداد. "ت306هـ". تاريخ بغداد 4/287، سير الأعلام 14/201، طبقات السبكي 3/21.
5 ذكر ابن القيم أولئك الأئمة في كتابه: اجتماع الجيوس الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ص 118-310 وذكرهم في نونيته 1/290.
6 انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 167.(3/5)
7 في "ب" و "ج" و "د": وأئمته.(3/6)
ص -505- ... ونحن قد جرينا على سننهم في ذلك، وسلكنا /منهجهم/1 فيما هنالك؛ لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره /كمن/2 أشرك بالله وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله3 تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقد رأيت ورقة فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص، من الإيمان به، والكفر/بالطواغيت/4 وبعبادة سواه تعالى، وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل علي والحسين5 والعباس6 وعبد القادر7 وغيرهم، ممن يدعي مع الله، هو الشرك الأكبر البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة والتزام الإسلام، وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب في عبادتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان والإسلام.
وفي ورقة المشبه المبطل، أنكم كَفَّرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ب" و"ح" و"د": منهاجهم والمطبوع.
2 في "ب" "ج" و"د" والمطبوع: ممن.
3 كما تزعم الصوفية في الأقطاب وأرواح الأولياء. انظر: هذه هي الصوفية، لعبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، بيروت ط/1، 1984م، ص 132-133- الفكر الصوفي، لعبد الرحمن عبد الخالق ص 38.
4 في "ج" و"د" والمطبوع: بالطاغوت.
5 وقد جاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق لمكان وجود رأس الحسين بن علي رضي الله عنه، -الذي زعم أهل البدع، أنه في إحدى المشاهد التي ينتابونها- وبين أن تلك الأماكن والمشاهد كلها مكذوبة. فيراجع الفتاوى 27/480-490.
6 هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7 هو عبد القادر بن موسى بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست، أو محمد الجيلي، الإمام العالم الزاهد، ولد بجيلان سنة "471هـ". وقدم بغدادا شابا، وإليه تنسب طريقة القادرية "الصوفية". "ت561هـ".(3/7)
سير الأعلام 20/439، النجوم الزاهرة 5/371، وشذرات الذهب الذهب 4/1198.(3/8)
ص -506- ... المشركون وزعم أنهم هم الأمة الوسط1 وأنهم صفوف أهل الجنة2 ، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفرهم فقد كفر أمة محمد لأنهم يتكلمون بالشهادتين وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبدية، وسفاهة ملقية، وأنه أضل من إطلاق لفظ الأمة الأنعام، ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي برده وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن قائله عدو للنصوص والفطر والعقل والنظر؛ ولا يبعد أنه تلقاه عن مثلك ووصل إليه من أبناء جنسك. /وما أظن/3 اجتماعك بهذا الضرب من الناس، إلا على هذا، وجنسه من الشهادات والجهالات التي حاصلها القدح في أصول الإيمان وعيب أهله وذمهم. {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}4 وهذه الشبه يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة من العلم، وإن قلت؛ فإن لفظ الأمة مفردا ومضافا، يقع على المستجيب المهتدي، ويقع أيضا على المكذب المعاند، فالأول كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}5، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}6، وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}7 وفي الحديث: "أنتم توفون سبعين أمة وأنتم خيرها وأكرمها على الله" 8 وفيه: "إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه
ــــــــــــ
1 أي الأمة التي وصفها الله تعالى لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} "البقرة: 143".
2 هذه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صنف.." وسيأتي الحديث بتمامه عند المصنف في الصفحة التالية، وكذلك تخريجه.
3 في "د": وما ظن.
4 سورة الأنعام الآية "67".
5 سورة آل عمران الآية "110".
6 سورة البقرة الآية "143".
7 سورة الأعراف الآية "181".(3/9)
8 مسند الإمام أحمد 5/3، بلفظ: "ألا إنكم توفون.." و5/5، بلفظ: "إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم أخرها.." سنن ابن ماجه 2/446، الزهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بلفظ: "إنكم وفيتم..". سنن الدارمي 2/404، الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم خير الأمم" بمثل لفظ أحمد الثاني.(3/10)
ص -507- ... الأمة منها ثمانون"1. فهذا ونحوه يطلق ويراد به المؤمنون والمسلمون.
وقد يطلق هذا اللفظ يتناول المكذبين الضالين، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ}2، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها الحزبين، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ}3 وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه. وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}4 فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة. وقد نص على أن منهم من كفر وعصى /الرسول/5. وكذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}6 وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ}7 وقوله /تعالى/8 {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث أخرجه أصحاب السنن بلفظ: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم". سنن الترمذي 4/589/ صفة الجنة، باب ما جاء في صف أهل الجنة، قال الترمذي: حديث حسن. سنن ابن ماجه 2/446، الزهد، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. سنن الدارمي 2/434، الرقاق، باب في صفوف أهل الجنة. مسند الإمام أحمد 5/347، 355. المستدرك للحاكم 1/82. والحديث صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي وابن ماجه.
2 سورة النحل الآية "36".
3 سورة فاطر الآية "24".(3/11)
4 سورة النساء الآية "41، 42".
5 ساقط في "ب" و"ج" و"د".
6 سورة النحل الآية "84".
7 سورة النحل الآية "89".
8 ساقط في "أ".(3/12)
ص -508- ... تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيتين1.
فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم.
وفي الحديث: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.."2، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة. يهودي ولا نصراني. ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"3، وفيه: " القدرية مجوس هذه الأمة"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجاثية الآية "28".
2 سنن أبي داود 5/4، السنة، باب شر ح وفيه: ".. على إحدى أو اثنتين.. عند ذكر فرق اليهود والنصارى. سنن الترمذي 5/25، الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، قال الترمذي: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح" سنن ابن ماجه 2/377، الفتن، باب افتراق الأمم. من حديث أبي هريرة ولم يذكر فيه اختلاف النصارى وذكرهم في رواية عوف بن مالك بعده، مسند الإمام أحمد 2/332، دون ذكر النصارى.
3 صحيح مسلم بشرح النووي 2/546، الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته من حديث أبي هريرة. وأخرجه الألباني في سلسلته الصحيحة 1/241 "157".
44 هذا جزء من حديث ابن عمر، وثمامه: "... إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم". سنن أبي داود 5/66-67، السنة، باب في القدر؛ سنن ابن ماجه 1/20، المقدمة، باب في القدر بلفط: "إن مجوس هذه الأمة المكذبين بأقدار الله..".
قال الخطابي: "هذا حديث منقطع، أبو حازم لم يسمع من ابن عمر" معالم السنن بهامش سنن أبي داود 5/67.(3/13)
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/205: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح وغيره، وضعفه جماعة". وفيه ذكر حديث أنس بن مالك: "القدرية والمرجئة.." الحديث، قال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح، غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة".
قال ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/144-145 "وهذا الحديث لا يصح".
وقال الألباني في صحيح ابن ماجه 1/22: "حسن، دون جملة التسليم".(3/14)
ص -509- ... وخرج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر: "صنفان من أمتي ليس /لهما/1 في الإسلام نصيب، المرجئة والقدرية"2.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن نفس الآية التي يوردها المبطل، وهي قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}3 /فيها/4 الدليل الكافي، والبرهان الشافي، على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته؛ فإن5 الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان6 ، الذي اصله ورأسه معرفة الله وتوحيده وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، ومن عدا هؤلاء ليس بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداء، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه.
الثاني: أنه ذكر العلة والمقتضي بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}7 وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلية 8.
وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة، وقرر أن دعاء عبد القادر 9 وأمثاله، هو الشرك الكبر، الذي يحول
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": لهم.
2 سنن الترمذي 4/395، القدر، باب ما جاء في القدرية، قال الترمذي: "حديث غريب حسن صحيح". سنن ابن ماجه 1/13، المقدمة، باب في الإيمان.
والحديث ضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/144، وقال:"لا يصح".
وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 245.
3 سورة آل عمران الآية "110".
4 في "أ" و"ج" و"د": وفيها.
5 هنا بداية ذكر البراهين على بطلان قول المرتاب عبد الله بن عمير. وهذا هو البرهان الأول.
6 أي: الخطاب بقوله تعالى: {كُنْتُمْ}. انظر جامع البيان للطبري 4/45، والجامع لأحكام القرآن 4/109.
7 سورة آل عمران الآية "110".
8 فهذا مسلك من مسالك العلة، وهو من قبيل ثبوت العلة بالإيماء والتنبيه، حيث ذكر الحكم وقارنه بأوصاف مناسبة، صالحة للتعليل بها. انظر: روضة الناظر وجنة المناظر 2/264.
9 تقدمت ترجمته في ص 505.(3/15)
ص -510- ... بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوى برب العالمين؛ بل قد وصلوا في عبادتهم المشايخ والأولياء إلى غاية ما وصل إليه مشركوا العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت /عليه/1 / الجاهلية/2 قبل ظهوره.
فمقت هؤلاء المشركين وعيبهم وذمهم وتكفيرهم والبراءة منهم، هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين؛ ولا طيب لحياة المسلم وعيشه، إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم وتكفيرهم والتقرب إلى الله بذلك، واحتسابه لديه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}3 فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف 4 هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم، وإلى الله نمضي جميعا، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبئات /الضمائر/5 /والصدور/6 ، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه 7 /وأعداءه/8 . ماذا جنى على نفسه، وأي الفريقين أولى به، وأي الدارين أليق به؛ فالمرء مع من أحب 9 ونصر ووالى، شاء أم أبى. وهل حدث الشرك في الأرض إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين، الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء، وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": عليها.
2 ساقط في "أ".
3 سورة الشعراء الآية "88-89".
4 المنيف: أي العال المشرف. يقال: ناف الشيء على غيره: أي ارتفع وأشرف.
لسان العرب 9/342، مادة "نوف".
5 كذا في "ب" والمطبوع، وفي النسخ: الظمائر، بالظاء، وهو خطأ.
6 زائد في "ب".
7 حربه: أي محاربه، يقال: فلان حرب فلان، أي محاربه وعدوه. لسان العرب 1/303 مادة "حرب".
8 في "أ": "وأعداه". وما أثبته هو المثبت في بقية النسخ، وهو الأولى، لتجانسه مع ما قبل.(3/16)
9 هذا اقتباس لجزء من حديث أنس رضي الله عنه: "... المرء مع من أحب.." صحيح البخاري مع الفتح 10/557 الأدب، باب علامة حب الله عز وجل. صحيح مسلم بشرح النووي 16/428، البر والصلة، باب المرء مع من أحب. سنن الترمذي 4/513، الزهد، باب ما جاء أن المرء مع من أحب. سنن الدارمي 2/414، الرقاق، باب المرء مع من أحب.(3/17)
ص -511- ... الرسل من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله، بل هم جند محضرون للقباب وعابديها، /فقد/1 عقدوا الهدنة والمؤاخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشائخ، وأوهموهم أنهم إذا أتوا بلفظ الشهادتين واستقبلوا القبلة، لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل 2 وأنهم هم المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة، فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف والتدبير، من دون الله رب العالمين.
فهل ترى يا ذا العقل السليم. أصل وأجهل ممن هذا شأنه، وطريقته وعقيدته وإن كان في /هذه/3 المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة /معدودا/4 من أهل العلم بالشرع والإسلام. فهذا والله أضل من سائمة الأنعام.
وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان من يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان 5، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما. وهذا لا يخفى /على/6 صغار الطلبة، وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض7، الذي تزعم /أنك/8 تقرأه/9 وتدري ما فيه. ولكن الأمر كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ب" و"ج": "قد"، وفي "د" والمطبوع: "وقد".
2 وهذا قول المرجئة الخالصة. وقد تقدم في ص 186.
3 ساقط في "ب" و"ج" و"د".
4 في "أ": معدود.
5 وقد تقدم بيان منهج السلف في الحكم بالكفر، في ص 173-174.
6 ساقط في "ب" و"ج" و"د".
7 يقصد الروض المربع، شرح زاد المستقنع. انظر 7/400، 402، 409، 411، 412.
8 ساقط في "د".
9 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: تقربه.(3/18)
ص -512- ... فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}الآية1. بل وقد ذكروا أن من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث البنت والجد2 أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس، وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم. فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ودان بمحض الشرك والتنديد فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله.
الثالث3: قوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}4 وأصل الإيمان بالله، هو عبادته لا شريك له، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث وفد عبد القيس5. هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون وجحده المشركون، وفيه وقع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة الآية "41".
2 لعله يقصد مسألة توريث الإخوة مع الجد، فهي التي لم يرد فيها نص، وإنما ثبتت بالإجماع. أما مسألة "البنت مع الجد" ففيها قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} "النساء: 11" انظر: مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقاد، لابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 106. موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي، لسعدي أبو جيب، دار الفكر دمشق، ط/2، 404هـ 1984م، 2/987-988.
3 هذا ذكر للبرهان الثالث في الرد على قول المشبه، عبد الله بن عمير، المخاطب بالرسالة، وقد تقدم الأولان في ص 509.
4 سورة آل عمران الآية "110".
5 كان وفد عبد القيس في سنة تسعة من الهجرة، عام الوفود. البداية والنهاية 5/43.(3/19)
والحديث المقصود هنا هو حديث أبي جمرة، قال: "قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مرحبا بالقوم غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله: إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرم، حدثنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعو به من ورائنا. قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس. وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ من الدباء، والنقير، والخنتم، والمزفت".
صحيح البخاري مع الفتح 7/676، المغازي، باب وفد عبد القيس؛ صحيح مسلم بشرح النووي 1/294-299، الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى؛ سنن أبي داود 5/57، السنة، باب في رد الإرجاء، سنن الترمذي 5/9-10، الإيمان، باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان؛ سنن النسائي 8/120، الإيمان باب أداء الخمس.
هذا الحديث صريح في دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وهو رد على أهل الإرجاء الذين يرجئون "يؤخرون" الأعمال، ولا يدخلونها في الإيمان.(3/20)
ص -513- ... النزاع، وله شرع الجهاد، وانقسم العباد 1 .
وقد ابتليت أنت بأمور أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده ومبانيه العظام، ومن ذلك:
أنك /اتبعت/2 مشائخ الطوائف الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين؛ وأكثرهم يقرر أن معناها: إثبات قدرته/ تعلى/ 3 على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله. والإله عندهم هو القادر على الاختراع 4.
وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية، هو الغاية التي شمر إليها السالكون 5؛ وبعضهم قرر أن معناها/ أنه تعالى هو/6 / القادر/7 الغني عما سواه المفتقر إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي انقسموا إلى مؤمن وكافر.
2 في المطبوع: تبعث.
3 ساقط من المطبوع.
4 هذا قول الأشاعرة ومن نحا نحوهم من المتكلمين. انظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 2/85،86، من رسائل الشيخ عبد الرحمن بن آل الشيخ. فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 22.
5 وهذه هي غاية أهل التصوف. انظر: التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية، تأليف: فالح بن مهدي آل مهدي، ط /2، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. 2/126. الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة، لعبد الرحمن عبد الخالق ص 39، 65.
6 زيادة في "ب" و"ج" و"د".
7 ساقط في "ب" و"ج" و"2" والطبوع. وهو مثبت في هامش "أ"، ذكره الناسخ بدلا من كلمة "القاهر" في الأصل، وقال: لعله "القادر9. وهو الأصح.(3/21)
ص -514- ... كل ما عداه1، كما يذكر عن السنوسي2 صاحب الكبرى عن العقائد المبتدعة.
وهذه المعالي ليست هي المقصودة بالوضع والأصالة من هذه الكلمة الشريفة التي هي الفارق بين المسلم والكافر.
وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه، وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية واستحقاق العبادة عن غيره، وإثباتها له تعالى على أكمل الوجوه وأتمها3؛ كما يعلم من كتب اللغة والتفسير وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن.
والمعنى الأول لازم للمعنى المراد لا ينفك عنه؛ لا أنه المقصود بالوضع والأصالة.
فإن المستحق لأن يعبد ويعظم ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه/ فقيراً محتاجاً/4 لا قدرة له.
فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف، لاتضح الحكم لديك، ولم يخف أمره عليك.
ومنها5: أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والمحجة الواضحة السوية، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة 6 وعبادة مخترعة لا أصل لها في شريعة محمد
ــــــــــــ
1 انظر رسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 2/86.
2 هو محمد بن يوسف بن عمر بن شعيب السنوسي؛ ولد سنة "832هـ" بتلمسان وتوفي سنة "895هـ" من مؤلفاته "عقيدة أهل التوحيد" وتسمى بالعقيدة الكبرى، وهو مطبوع؛ وأم البراهين، ويسمى بالعقيدة الصغرى.
انظر ترجمته في الأعلام للزركلي 7/154.
3 انظر: تفسير أسماء الله الحسنى لأبي إسحاق بن السري الزجاج "ت 311هـ" تحقيق أحمد يوسف الدقاق، مطبعة مخمد هاشم الكتبي 1395هـ. 1975م، ص 26. وفتح المجيد ص 22.
4 في "ب" و"ج" و"د": فقير محتاج. وكلمة "محتاج" مطموس في "ب".
5 يستمر في سرد الأمور التي ابتلي بها المرسل إليه، مما أوجبت جهله بأصل الدين.
6 وهي طريقة النقشبندية. وهي من طرق الصوفية، تنسب إلى زعيمها الخواجة بهاء الدين محمد النقشبندي البخاري.(3/22)
الصلة بين التصوف والتشيع ص 441. التيجانية؛ دراسة لأهم عقائد التيجانية على ضوء الكتاب والسنة، لعلي بن محمد دخيل الله، دار طيبة، الرياض ص 35.(3/23)
ص -515- ... صلى الله عليه وسلم. وأنت /ظننتها/1 الغاية المقصودة، والدرة المفقودة، وهي من البدع المضلة الخارجة عن المنهاج والملة.
وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية 2، وحديث ابن مسعود 3 وحديث حذيفة 4 وغيرهم.
وقد اشتملت هذه الطريقة، على خلوات ورياضات مخالفة لواضح الأخبار والآيات، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
ــــــــــــ
1 كذا في "ب" والمطبوع، وفي بقية النسخ: فظننتها.
2 هو العرباض بن سارية السلمي، صحابي من أعيان أهل الصفة، سكن حمص، وروى أحاديث. "ت 75هـ". أسد الغابة 4/19، تهذيب التهذيب 7/174.
وحديثه المشار إليه هنا، هو أنه قال: صلى الله عليه وسلم: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة.." سنن أبي داود 5/13، السنة، باب في لزوم السنة، سنن الترمذي 5/43، العلم، باب في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، وقال: "حسن صحيح". سنن ابن ماجه 1/10، المقدمة، باب إتباع سنة الخلفاء.
وقد تقدم تخريج حديث العرباض هذا في 454، بلفظ آخر.
والمراد بالبدعة: ما أحدث في الدين،مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه. وفيه تدخل طريقة الصوفية المبتدعة، التي تمسك بها المخاطب بهذه الرسالة.(3/24)
3 حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقم لهم سبعين عاماً". سنن أبي داود 4/453. 454، الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها.
4 هو حديث حذيفة في الفتنة، وقد تقدم تخريجه في ص 261-262.(3/25)
ص -516- ... اللَّهُ}1 وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}2.
ومن المعروف عند أهل العلم والتجربة، أن المعتني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطان 3، وبعضهم تطير به الشياطين من مكان إلى مكان ومن بلد إلى بلد4. ومن طلب التنزل الرحماني الإلهي الرباني من غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنزل الشيطاني.
وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة "لا إله إلا الله" وذكر الخاصة "الله الله" وذكر خاصة الخاصة "هو هو"5. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر"6. والاسم المفرد مظهرا أو مضمرا، ليس بذكر ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته.
وعمدتهم في ذلك طلب/ تفريغ/7 الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينزل عليها 8. وقد خفي على هؤلاء المبتدعة، أن الوارد الشرعي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى الآية "21".
2 سورة الأعراف الآية "3".
3 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1/174، 6/181.
4 وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "يوجد كثير من الناس يطير في الهواء، وتكون الشياطين هي التي تحمله". قال: "ومن هؤلاء: من يحمله الشيطان إلى عرفات فيقف مع الناس، ثم يحمله فيرده إلى مدينته تلك الليلة". مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 1/83، 174.
5 انظر: هذه هي الصوفية ص 145.
6 صحيح البخاري مع الفتح 11/575، الأيمان، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى. وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/20، واللفظ له. مع زيادة: ".. لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان..".
7 في "د": تفريغه.
8 وقد تقدمت الإشارة إلى كلام الغزالي في المعارف: "أنه يجلس فارغ القلب، مجموع الهم =(3/26)
ص -517- ... الديني ممنوع ومحظور على من /لم/1 يأت من الباب النبوي والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية2 وفي حديث يحيى بن زكريا: ".. وأمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه، فآوى إلى حصن حصين"3. وبعضهم آل الأمر به إلى القول بأن النبوة مكتسبة4، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء وأعظم5.
وهذه الكفريات، سببها الخروج عما شرعه الله. ومن ابتلي بشيء منها، فاته من العلم والهدى بحسب ما فيه. ولولا الامتحان /والابتلاء/6 لما سارعت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد ألا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى؛ فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلا بلسانه "الله الله" على الدوام مع حضور القلب؛ ينتهي إلى حالة بترك تحريك اللسان، ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه.... ويبقى معنى الكلمة مجرداً في قلبه، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق".
إحياء علوم الدين للغزالي 3/21-22؛ سيرة الغزالي ص 74-75. وقد تقدم نحو هذا الكلام في ص 4110412.
1 في "أ": لا.
2 سورة الزخرف الآية "36".
3 هذا جزء من حديث طويل عن الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات، أن يعمل بهن..." الحديث. أخرجه الترمذي 5/136-137، كتاب الأمثال باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة؛ قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". السنن الكبرى للبيهقي 2/282؛ المستدرك للحاكم 1/421؛ ومسند الإمام أحمد 4/130، 202.(3/27)
4 تقدم هذا الكلام في ص 425.
5 قال النووي في الروضة: "إن قائل ذلك يكفر". روضة الطالبين 10/70.
6 في "د" البلوى.(3/28)
ص -518- ... وهرولت إلى /هذا/1 النقشبندي مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام.
ثم ابتليت بسميه2 مع ما هو عليه من الريب في هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد وغربة الدين. والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة.
وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم الذين هم ما بين جهمي أو رافضي أو من عباد القبور، وغرك ما يعده ويمنيه من نيل رتبة القضاء. ودون عليان القتادة3 والخرط 4"5.
المسلمون في خرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس؛ فكيف بالقضاء ونحوه؛ يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن منَّاك به الجهلة المبطلون.
واعلم أن إمامنا. وفقه الله تعالى. على طريق أسلافه وأعمامه في الدعوة الإسلامية وحماية هذا الدين، وأخشى. إن كثر فيك القول وظهر له منك ما أشرنا إليه، من الجنف والعول –أن يسلك بك مسلك من سلف من أشرار الأحساء الذين لم يقبلوا ما من الله به من نور الهدى، فأوقع بهم الإمام سعود من بأسه6 ما خمدت به نار الفتنة والجحود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في "د".
2 سميّه: أي قرينه. والضمير فيه عائد للنقشبندي.
3 شجرة صلب، ذات شوك أمثال الإبر، وله وريقة غبراء، وثمرة تنبن معها غبرا، كأنها عجمة النوى، ينبت بنجد وتهامة؛ وجمعها: قتاد. لسان العرب 3/342، ماد "قتد".
4 الخرط: قشرك الورق عن الشجر اجتذابا بكفك. لسان العرب 7/284، مادة "خرط".
5 هذا مثل عربي يروى بلفظ: "دون ذلك خرط القتاد" ؛ يضرب للأمر دونه مانع.
مجمع الأمثال للميداني 1/369. وقد أورده ابن منظور في اللسان 3/342، و7/284.(3/29)
6 كان أهل الأحساء قد نقضوا العهد والبيعة للإمام سعود "الكبير" ابن عبد العزيز بن محمد وقتلوا الأمير محمد الحملي ومدير بيت المال حسين سبيت، وعثوا في الأرض فسادا وملكوا على أنفسهم زيد بن عريعر. فسار إليهم الإمام سعود لتأديبهم. وكان ذلك عام 1208هـ.
تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد لمحمد الأنصاري ص 133-134.(3/30)
ص -519- ... كأني بكم واللَّيت آخر قولهم ألا ليتنا إذ الليت لا يغني 1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أعرف قائله.
"فصل"
وأما طعنكم على الشيخ المكرم بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه /بنى بيته –رحمه الله./2 من أموال محرمة؛ فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة، من الطعن في العقيدة، وأنهم كفروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا أموال السلطان وجوائز الأمراء دماءهم وأموالهم، وجعلوها 3 بيت مال، بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون.
هذه عقيدتكم التي أنتم عليها في أمر هذه الدعوة الإسلامية. وقد أظهرها الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم. قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 4. وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل، والإمام وغيره من ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، وأن تخصيص ابن ثنيان تستر /وخوف/5 من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة.
فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة ... فبح /لان/6 منها بالذي أنت بائح7
ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره، وإذا عرف هذا، فلو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 في "ب" و"ج" و"د" والمطبوع: بُني بيت الشيخ. على بناء للمجهول.
3 هذا يقتضي السياق زيادة حرف "في" بعد "وجعلولها".
4 سورة محمد الآية "30".
5 في "أ": وخوفاً.
6 في "د": "الآن"، والصواب "لان" مخففة من "الآن" لضرورة الوزن، كما هو مثبت في بقية النسخ.
7 لم أعرف قائله.(3/31)
ص -520- ... سلم/ تسليما/1 صناعيا، أن قدكم الأموال المغصوبة؛ فوجدوها في بيت المال، لا يقتضي التحريم على من /لم/2 يعلم عين ذلك، ولم يتميز لديه، والمسئول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب. وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية وغيرهم من أهل العلم؛ بل ذكر ابن عبد البر3 إمام المالكية في وقته، أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يعتد به من أهل العلم. وقال في رسالته/لمن/4 أنكر عليه ذلك:
قل لمن ينكر أكلي/ لطعام/5 الأمراء ... أنت من جهلك/ عندي/6 بمحل السفهاء7
فإن الإقتداء بالسلف الماضيين، هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه أنه تركها كأحمد وابن المبارك8 وسفيان9 وأمثالهم؛ فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات/إلا/10 /الاعتقاد/11 التحريم. إلى أن قال: وقد قال عثمان –رضي الله عنه-: جوائز السلطان لحم ضبي/ شَرَكي/12؛ وقال ابن مسعود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في "د".
2 في "أ": لا.
3 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، أو عمر، الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التمهيد والاستذكار وغيرهما، "ت463هـ".
وفيات الأعيات 7/66-72، سير الأعلام 18/153.
4 في "د": لما.
5 في "أ" طعام. بدون لام.
6 زائد في المطبوعة.
7 لم أحد محل ذكره لهذا فيما اطلعت عليه.
8 تقدمت ترجمته في ص 301.
9 هو ابن عيينة. وتقدمت ترجمته في ص 193.
10 ساقط في "د".
11 مطموس في "ب".
12 في المطبوع: ذكي. وطمس في "ب".(3/32)
ص -521- ... لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه/ قال: 1 لك المهنأ وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما. وحُكي عن/ الإمام/2 أحمد –رحمه الله/تعالى/3-: جوائز السلطان أحب إلينا من/صلة/4 الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن. قال 5: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار6 وكان مختار غير مختار7، حكى/ هذا/8 عنه شيخ الإسلام ابن تيمية/ -رحمه الله-/9 وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث: "إذا دخل أحدكم بيت أخيه فأطعمه من طعامه، وأسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه، ولا يسأل عنه" 10 والحديث معروف في السنن.
قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم 11: ما كان معاش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في "ب"، "ج" و"د".
2 زائد في "د".
3 زائد في "د".
4 في "د": صلات.
5 أي ابن عبد البر.
6 هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، استعمله عمر بن الخطاب على جيش فغزا العراق.
كان يدعي أن الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب. وكان معظما لابن عمر، ينفذ إليه بالأموال. وكان ابن عمر تحت صفية أخت الختار. "ت67هـ".
الاستيعاب 4/1465، أسد الغابة 5/122؛ سير الأعلام 3/528.
7 وذلك لادعائه النبوة وعلم الغيب، كما تحي عنه فيما تقدم في تعريفه.
8 ساقط في "د".
9 في "أ": قدس الله روحه.
10 مسند الإمام أحمد 2/399، المستدرك 4/126.
قال الهيتمي: رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 8/180.
11 في "د" المطبوع: "خيثم"، وقد ضبطه الذهبي في الميزان ب "خثيم". وهو: عبد الله بن عثمان بن خثيم المكي، أبو عثمان. قال ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية. وقال ابن حجر: صدوق، من الخامسة. "ت132هـ". ميزان الاعتدال 2/459، تقريب التهذيب 1/432.(3/33)
ص -522- ... عطاء1 قال: صلة الإخوان، ونيل السلطان 2. وهذا مشهور بين أهل العلم.
وقد قال صالح بن/الإمام/3 أحمد4 لأبيه، لما ترك الأكل مما/ بيد/5 ولده من أموال الخلفاء: أحرام هي يا/أبت/6 قال: متى بلغك أن أباك حرمها؟.
وأما إذا علم الإنسان عين المال المحرم لغصب أو غيره، فلا يحل له الكل بالاتفاق. والمشتبه الذي ندب إلى تركه هو: ما لم يعلم حله ولا تحريمه. وأما إذا امتاز/ بحال/7 وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين/لا/8 الاشتباه.
وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته. والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه. وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس9، وصاحب دومة الجندل10
ــــــــــــ
1 هو عطاء بن أبي رباح، وقد تقدمت ترجمته في ص 193.
2 سير الأعلام 8/84.
3 ساقط في "ب" و"ج" و"د" والمطبوع.
4 هو صالح بن أحمد بن حنبل بن هلال، الإمام المحدث الحافظ، الفقيه القاضي، أبو الفضل، سمع أباه، وتفقه عليه، وعلى ابن المديني وغيرهم. "ت266هـ". سير الأعلام 12/529، شذرات الذهب 2/149.
5 في "د": بيدي.
6 في "أ": أبتي.
7 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ: الحال.
8 ساقط في "أ" و"ب" و"ج".
9 هو ملك مصر والإسكندرية "عظيم القبط".
وقد أهدى المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارية، أم ولده، وسيرين التي وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لحسان، وبغلة شهباء وحمارا، زاد المعاد لابن القيم 5/78.
10 دومة الجندل: بضم أوله وفتحه، سميت بدوم بن إسماعيل بن إبراهيم، وهي على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت به بني كنانة من كلب. معجم اللبلدان 2/487.(3/34)
ص -523- ... وغيرهما1، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا 2ولا يأكل إلا طيبا.
وأموال الكفار لا يبيحها الغصب/ لمثل/3 المقوقس؛ وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين.
وهذا كله منا على سبيل التنزل والمجارة، وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا، إلا على سبيل العيب والمذمة والغيبة، لا عن ورع فيكم ولا/تحر/4 للصواب/لا/5 طلب للفقه/ لدينكم/6؛ بل أنتم كما قال تعالى في أهل الكتاب: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}7.
وقد اشتهر أنكم في الزاحمة على الأموال المحرمة، أحمق من نعجة على
ــــــــــــ
1 وممن أهدى إليه صلى الله عليه وسلم: فروة بن نفاثة الجذامي، أهدى إليه بغلة بيضاء ركبها يوم حنين. ملك أيلة أهدى له بغلة بيضاء. صحيح مسلم بشرح النووي 12/356، الجهاد باب في غزوة حنين. البخاري مع الفتح 3/402، الزكاة، باب خرص التمر. زاد المعاد لابن القيم 5/78.
2 يشير الشيخ هنا إلى حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك". صحيح مسلم بشرح النووي 7/104-105، الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب مسند الإمام أحمد 2/328.
3 في "ب": كمثل.
4 في "د": تحري.
5 ساقط في "ب" و"ج" و"د".(3/35)
6 في "[ب" و"ج" و"د": لديكم.
7 سورة المائدة الآية "62-63".(3/36)
ص -524- ... /حوض/1 ، وغالب ما في أيديكم من الأوقاف والريع والمآكل، إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الإحساء قبل المسلمين من آل حميد2 والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأموال المسلمين وهذا حالكم، وهذه مأكلكم وما فرض/ من ذلك على/3 الوجه الشرعي، فهو لا يباح إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، وتهيبهم عن الشرك، واتخاذ الأنداد معه،/ وقرر/4 ما تعرف الرب به إلى عباده، من صفات كماله، ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وأحد5 فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله/ صلى الله
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": حوظ.
2 آل حميد: فخذ من قبيلة خالد، التي تمتد منازلها على ساحل الخليج العربي، ما بين وادي المقطع في الشمال، ومقاطعة البياض في الجنوب، وتتوغل حتى منطقة الصمان في الغرب، وكان منهم أمراء الإحساء، فتغلب عليهم ابن مسعود، وأخذ منهم الإحساء.
معجم قبائل العرب، لعمر رضا 1/303. قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة ص 154-155.
تاريخ تجد لمحمود شكري الألوسي، تحقيق محمد بهجة الأثري، المكتبة العربية بغداد المطبعة السلفية، القاهرة بمصر 1343هـ ص 89.
3 في "أ": على ذلك من.
4 في "أ": وقدر.
5 الإلحاد في أسماء الله تعالى، ويكحون بإحدى الأمور الآتية:
الأول: جحدها وإنكارها بالكلية.
الثانية: تعطيلها وجحد معانيها وحقائقها، كقول الجهمية: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني، فيطلقون عليه: السميع بلا سمع، البصير لا بصر، الحي بلا حياة ونحو ذلك.
الثالث: تسميته تعالى بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبا، وتسمية الفلاسفة له موجبا أو علة فاعلة.(3/37)
الرابع: تحريفها عن الصواب وإخراجها عن معانيها الحق، بالتأويلات الفاسدة، كجعلها أسماء لبعض المبتدعات، كتسمية اللآت من الإله والعزى من العزيز، ونحو ذلك انظر معني الإلحاد:=(3/38)
ص -525- ... عليه وسلم/1، ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة، ومن لم يكن هكذا فهو غاش للمسلمين، غير ناصح لهم، متشبع بما لم/ يعط/2 كلابس ثوبي زور 3، في/ انتصابه/4 في المدارس والمساجد. والعلم معرفة الندى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر ليس إلا. وأما التزيي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما/ ذاك/5 إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخلاق بالخسيس الفاني، وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شرح العقيدة الواسطية "لشيخ الإسلام ابن تيمية"، شرحه محمد خليل هراس، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. ط/7، 1413هـ، ص 23. التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية، لعبد العزيز بن ناصر الرشيد، ط/2، 2 29 قال ابن القيم -رحمه الله- "والإلحاد في أسمائه هو: العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها". وقال في نونيته:
أسماؤه أوصاف مدح كلها ... مشتقة قد حملت لمعان
إياك والإلحاد فيها إنه ... كفر معاذ الله من كفران
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالـ ... إشراك والتعطيل والنكران
الكافية الشافية 2/251-252.
1 زيادة في "د" والمطبوع.
2 في "د": يعطى.
3 أصل هذا الكلام، حديث أسماء: "أن امرأة قالت: يا رسول الله إن لي ضرة، فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور" صحيح البخاري مع الفتح 9/228، النكاح، باب المتشبع بما لم ينل، وما نهى من افتخار الضرة. صحيح مسلم بشرح النووي 14/258، اللباس، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره، التشبع بما لم يعط. سنن الترمذي 4/332، البر، باب ما جاء في المتشبع بما لم يعط. مسند الإمام أحمد 6/167، 345.(3/39)
4 في "د": أنصابه.
5 في "د": ذلك 3.(3/40)
ص -526- ... عن كونه عالما، فلا يباح والحالة هذه لمن كان/ هكذا،1 أن يجوز أوقافا فصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله، ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له وما لا يستحقه. وهذا يستفاد من قول الفقهاء: "يشترط أن يكون الوقف على جهة الر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة".
وفي الحديث: "إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه، بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق، ليس له يوم القيامة إلا النار"2.
والأوقاف من مال الله/ عز وجل/3؛ ولهذا عزل الخليفة المتوكل4 كل من بيتهم بشيء من بدعة الجهمية، عن المساجد والقضاء، وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد –رحمه الله/ تعالى/5 . فإنه –رحمه الله- توجه إليه الفتح بن خاقان 6 -وزير المتوكل- بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، ققرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به/ فعزل خلق كثير/7 وهو عند المسلمين في ذلك بار راشد متبع لأمر الله ورسوله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": هذه حاله.
2 سنن الترمذي 4/507، الزهد، باب ما جاء في أخذ المال. وقال: "حديث حسن صحيح" مسند الإمام أحمد 6/378. باختلاف يسير في اللفظ عندهما، عما هو في المتن هنا. فعنندهما: "خضرة حلوة" بتقديم الخضرة وزيادة قوله: "... فيما شاءت به نفسه" بعد قوله: "متخوص".
3 ساقط في "ب" و"ج" و"د" والمطبوع.
4 تقدمت ترجمته في ص 440.
5 ساقط في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع.
6 هو الفتح بن خاقان أبو محمد التركي، الأمير الكبير، الوزير، شاعر مترسل، بليغ مفوه كان المتوكل لا يكاد يصبر عنه، وقتل معه سنة "247هـ".
تاريخ بغداد 12/389، سير الأعلام 12/82.(3/41)
7 في "أ": فعزل خلقا كثيرا. والمثبت أولى. كما في بقية النسخ. وذلك أن العزل لم يقم به الإمام نفسه، بل أشار به عل الخليفة المتوكل، الذي قام به كما تقدم.(3/42)
ص -527- ... "فصل"
فيما جاء في رؤيا الطفيل1 ، أنه مر على نفر من اليهود فقال هلم: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله؛ فقالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ومر على ملأ من النصارى فقال: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله؛ فقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون /والله/2 والكعبة. فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
فنهى الناس عن هذه الأقوال 4، وقرر حكم هذه الرؤيا5.
والغرض منها هنا، ذكر المشابهة بينكم وبينهم في /إدراك/6 الخفي مما زعمتموه
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو الطفيل بن عبد الله بن الحارث بن سخبرة. أخو عائشة لأمها. صحابي له حديث.
انظر ترجمته: تهذيب التهذيب 5/14، تقريب التهذيب 1/378.
2 ساقط في "ج" و"د".
3 الحديث ذكره الشيخ بالمعنى. ولفظه: عن الطفيل. أخي عائشة لأمها. قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: و إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنم تقولون: المسيح ابن الله؛ قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحدا قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحد".
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/72، والطبراني في الكبير 8/389. والسيوطي في الدر المنثور 1/35، وعنده: "كان يمنعني الحياء منكم".
4 أي نهاهم عن قولهم: ما شاء الله وشاء محمد؛ وقولهم: والكعبة، ونحوه.(3/43)
5 انظر: فتح المجيد كتاب التوحيد ص 381. باب قوله: ما شاء الله وشئت.
6 في "د": الدراك.(3/44)
ص -528- ... عيبا، مع العمى والجهل بما أنتم عليه، فأعجب لها من نادرة.
قال حسان1:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد
صدودكمو عن مسجد الله أهله ... وإخراجكم من كان لله ساجد 2
تنبيه: طول المعاشرة، وكثرة المخالطة، لها تأثير ظاهر، وفعل بين في الأخلاق والطباع، والشيم والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى عن الإنسان قد يسري إليه/من/3 ما جُبل بعض الحيوانات عليه. كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الغلظة في الفدّادين4 أهل الوبر والشعر، والسكينة في أهل الغنم"5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام، أبو الوليد، سيد الشعراء المؤمنين، الأنصاري الخزرجي، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم "ت54هـ".
الاستيعاب 1/341، سير الأعلام 2/215.
2 البيتان نسبهما الشيخ إلى حسان، ولم أجدهما في ديوانه، ولعل النسبة خاطئة. وقد نسبهما ابن إسحاق إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونسبهما ابن هشام إلى عبد الله بن جحش، انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/506.
وجاء في حاشية نسخة "د": ويروى:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد لله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد
وهذه هي رواية ابن هشام في السيرة النبوية 2/506.
3 ساقط في "ج" و"د" والمطبوع.
4 قال الخطابي: "فالفدادون بالتشديد "في الدال الأول"، الذين تعلوا أصواتهم في حروثهم ومواشيهم. واحدهم فداد. وقيل: "فدادين" مخففا، واحدها فدان، وهي البقر التي يحرث بها، وأهلها أهل جفاء وغلظة" النهاية لابن الأثير 3/419. انظر معناه أيضا في: فتح الباري 6/405، وشرح صحيح مسلم للنووي 2/392.(3/45)
5 صحيح البخاري مع الفتح 6/403، بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال. صحيح مسلم بشرح النووي 2/391، الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان. سنن الترمذي 4/446، فتن، باب ما جاء في الدجال لا يدخل المدينة. =(3/46)
ص -529- ... ولا يخفى ما أنتم عليه من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى.
من ذكره، وكثرت ثنائهم وموالاتهم للزنادقة والكفار من أعداء هذه الملة ولعل ما/جاء عنكم/1 من الذم والقيل هو من ذلك القبيل. شعر:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت ... كان الخراب لها أعدى من الحرب2
/وما أعمى/3 بصائركم عما من الله به على هذا الشيخ4 من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصب نفسه. بحمد الله ومنته. لحماية/ دين الله/5 والذب عنه، ومراغمة أعدائه فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه والتوكل على غيره؛ وذم من حسن حالهم، وذب عنهم، وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله؛ وقام في وجوه أهل البدع المنكرة كالجهمية6 والأشاعرة7 والسالمية8
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كلهم بلفظ مختلف عما في المتن هنا. فعتد البخاري: "... ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل..." وفي رواية لمسلم والترمذي: "...الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل، والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم". ولعل الشيخ ذكر الحديث بالمعنى.
1 في "د": ما جاءكم.
2 البيت لأبي تمام ضمن قصيدته المشهورة التي مطلعها: السيف أصدق أنباء من الكتب....
انظر ديوان أبي التمام، الخطيب التبريزي، تقديم راجي جاسر الأسمر، دار الكتاب العربي بيروت، ط/1، 1413هـ 1992م 1/38.
3 كذا في "أ" وفي بقية النسخ: "وأما عمي".
4 أي عبد الرحمن، الذي طعن فيه عبد الله بن عمير -المرسل إليه- بأنه قبل جوائز ابن ثنيان وغيره مما تقدم.
5 في "د": هذا الدين.
6 تقدم التعريف بهم في ص 299.
7 تقدم التعريف بهم في ص 57.(3/47)
8 السالمية: فرقة من المتكلمين ذوي النزعات الصوفية، تكونت في البصرة في القرنين الثالث والرابع للهجرة، أسسها التستري "ت283هـ". فهي تسمى باسم أكبر تلاميذه عبد الله =(3/48)
ص -530- ... والكرامية1؛ وقمعهم الله/تعالى/2 به، وصاروا في/ بلدكم/3 يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه وقرره من عيبهم وتضليلهم.
وقد من الله عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به، بعد ما كاد أن يعدم في البلاد النجدية4، بعد المحنة المصرية5، فجدد الله به آثار سلفه الصالح. وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل، من أهل هذه البلاد النجدية، إنما تخرج عليه، وسمع منه، وتربى بين يديه6. ومن لم يحظ بهذا، فهو دون غيره،كما لا يخفى على عارف. والمنصف من الأعداء يعترف بهذا. وقد عرف العامة والخاصة مناصحته، لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم
ــــــــــــــــــــــــــــ
= محمد بن سالم "297هـ" وباسم ابنه أبي الحسن أحمد بن سالم "350هـ". وهما اللذان خلفا مؤسس الفرقة. من أصولهم: أن فعل الله قديم، وأن إبليس أطاع الله آخر الأمر، وأن الله يُرى يوم القيامة في صورة آدمي محمدي، وأنه يتجلى لسائر الخلق يوم القيامة من الجن والإنس والحيوانات. الغنية، لطالبي طريق الحق، في الأخلاق والتصوف والآداب الإسلامية، للشيخ عبد القادر الجيلاني "561هـ" مطبعة الحلبي بمصر، ط/3، 1375هـ 1956م، 1/94. دائرة المعارف الإسلامية 11/69-71-
1 تقدم التعريف بهم في ص 364.
2 ساقط في "ب" و"ج" و"د" والمطبوع
3 في "د": بلدتكم.
4 نجد: معناها الأرض المرتفعة. و هو اسم يطلق على ذلك الأرض العريضة، الواقعة في المنطقة الوسطى من شبه الجزيرة العربية، بين اليمن والشام والعراق. ويختلف الجغرافيون في تحديده وحدوده التقريبية: جبال الشمر شمالا، والربع الخالي جنوبا، والدهناء والإحساء شرقا والحجاز غربا. معجم البلدان 5/262؛ قلب جزيرة العرب ص 22/23؛ تاريخ الجزيرة العربية في عصر محمد بن عبد الوهاب، لحسين خلف الشيخ خزعل، مطابع دار الكتب، بيروت نشر مكتبة الهلال، ص 13.(3/49)
5 المحنة المصرية: وكانت بدايتها في عام 1226هـ، وقد تقدم ذكر ما كانت من فتنها في ص 30-31 وما بعدها.
6 وكان ممن انتفع بعلم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وتفقه عليه، وتخرج على يديه: ابنه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن.(3/50)
ص -531- ... كتاب الله، والجهاد/ لإعلاء/1 كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك، في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه فهو قد نصح ولاة /الأمور/2 عنهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا، وهو قائم على قضاء تلك البلاد في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي/والمنهاج/3 المرعي، وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر. شعر:
وما ضره عين الشمس إن كان ناظرا ... إليها عيون لم تزل دهرها عميا 4
وقد عرف من كان له فضلوعلم، أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم، مما يدل على فضله وجلالته وهيبته/وفطانته/5 ، وأن ذلك مما يزيده الله به/إن شاء الله/6 رفعة وشرفا في الدنيا والآخرة، ويوجب –إن شاء الله- حسن العاقبة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
= الشيخ عبد الرحمن بن القاضي حسين بن محمد بن عبد الوهاب، وكان قاضيا في ناحية الخرج.
الشيخ الفقيه حسن بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب، قاضي الإمام تركي في الرياض.
الشيخ عبد الملك بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب، القاضي في حوطة بني تميم.
الشيخ حسين بن حمد بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القاضي في الحريق للإمام فيصل.
حسين بن علي بن حسين بن محمد بن عبد الوهاب.
وتخرج عليه خلق كثير، انظر بعض أولئك: كتب التراجم له، مثل: عنوان المجد 2/20-21؛ الدرر السنية 12/60-66، علماء نجد 1/56-62، علماء الدعوة ص 48.
1 في "د": لأعداء.
2 في "د": الأمر.
3 في "د": والمنهج.
4 لم أعرف قائله.
5 في "د": وفطنته.
6 ساقط في "ب" و "ج" و"د".(3/51)
ص -532- ... اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}1، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}2.
ومما يستحسن لشيخ الإسلام/قدس الله روحه/3 ونور ضريحه/4 قوله: شعر:
لو لم تكن لي في القلوب مهابة ... لم تكثر الأعداء في وتقدح
كالليث لما هيب خط له الزبى5 ... وعوت لهيبته الكلاب النبح
يرمونني شرر العيون لأنني ... غلست في طلب العلى وتصبحو6
وقال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصي ... فهي الشهادة لي بأني/كامل 7/8
وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم،/ ويجيب له دعوتهم/9 ويقيل عثرته وعثرتهم. الله اغفر لنا ما لا يعلمون، واجلعنا خيرا مما يظنون. والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور الآية "11".
2 سورة آل عمران الآية "186".
3 في "ب" و"ج": رحمه الله.
4 ساقط في "ب"و "ج" و"د".
5 الزبى: جمع زيبة، وهي الراية التي لا يعلوها الماء. ويراد به هنا: الحفرة التي تحفر للأسد، ولا تحفر إلا في مكان عال من الأرض، لئلا يبلغها السيل فتنطم. لسان العرب 14/353، مادة "زبى".
6 لم أجد محل ذكر الشيخ لهذه الأبيات.
7 في جميع النسخ فاضل، والتصويب من الديوان.
8 ديوان أبو الطيب المتنبي 3/260.
9 ساقط في "د".(3/52)
ص -533- ... حقيقة مأمنه وما لديه، لكن الغرض تعريفك أن كلامكم زاده الله به/ شرفا ورفعة 1.
شعر:
كم كان في نكث أسباب العهود2 بها ... إلى المخدرة العذراء من سبب3
وأما من/بهته/4، فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال، كقبر أبي رغال 5 مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا/ زمرة/6 أهل الغي والضلال.
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه7
عجيبة عبتم على الشيخ حرثه وطلبه الرزق، باتخاذه النخيل/والزروع/8، مع أن هذا/هو/9 حرفة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث. ولما/فتح الله/10/خيبرا/11 اقتسموها، وعاملوا عليها، وصار، وذم الكل بالدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف، ولما أجلى/ عمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ب" و"ج" و"د": تقديم وتأخير بن الكلمتين.
2 في ديوان أبي تمام "الرقاب" بدلا من "العهود". ولعل هذه رواية.
3 البيت لأبي تمام في ديوانه 1/48.
4 في "أ": "بهت" بحذف العائد من صلة الموصول.
5 أبو رغال: اسمه: زيد بن مخلف. وأبو رغال كنيته، قيل: كان رجلا عشارا في الزمن الأول، جائرا، كان عبدا لشعيب، وقيل لصالح، عليهما السلام. يقال: إنه كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى مكة. فمات في الطريق، فقبره يرجم، وهو بين مكة والطائف. وفيه قال جرير:
إذا مات الفرزدق فارجموه
كما ترمون قبر أبي رغال
لسان العرب 11/291، مادة "رغل". والبيت في: شرح ديوان جرير لمحمد بن إسماعيل عبد الله الصاوي، مطبعة الصاوي، نشر المكتبة التجارية بمصر ص 426.
6 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ: زمر.
7 البيت لصالح بن عدبوس. انظر ديوان صالح بن عبدوس ص 142.
8 في "أ": والزرع.
9 ساقط في "د".
10 في المطبوع: فتحوا.
11 في جميع النسخ: "خيبر". بإسقاط الألف. وهو منطقة على ثمانية برد من المدينة، لمن =(3/53)
ص -534- ... رضي الله عنه اليهود 1/2 تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم. ولم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى ومن شابههم، من هذه الأمة من الأكل بدينهم، وجعله ألة يكتسب/بها/3 الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب، ونصوصهم موجودة عندكم، ولكن الهوى والعداوة أدَّياكم إلى أن جعلتم المناقب/مثالياً/4؛ ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا ويوجبه، لم يحل بينكم وبين مآكلكم،و/لا/5 رئاستكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة عن تقليد الأشياخ الماضيين. شعر:
أصبحت بين معشار هجروا الهدى
وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول رشدهم وكأنما
حاولت نتف الشعر من آنافهم6
ــــــــــــــــــــــــــــــ
= يريد الشام. تقع حاليا على ما يعرف بطريق تبوك، على بعد مائة وخمسين كيلو متر. فتح النبي صلى الله عليه وسلم حصونها سنة سبع من الهجرة. معجم البلدان 2/409.
1 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ المخطوطة: "لما أجلى اليهود عمر رضي الله عنه".
2 أجلاهم عمر رضي الله عنه سنة عشرين من الهجرة. واعتمد في ذلك على قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". السنن الكبرى للبيهقي 9/208.
وانظر في إجلاء عمر رضي الله عنه لهم: البداية والنهاية لابن كثير 7/103. سيرة عمر بن الخطاب، لعلي الطنطاوي وناجي الطنطاوي، مطبعة الترقي بدمشق، نشر المكتبة العربية، دمشق 1/308. أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر، لعي الطنطاوي وناجي الطنطاوي، دار الفكر بدمشق، ط/1، 1379، 1959م ص209.
3 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ المخطوط: به.
4 في "أ" والطبوع: مثالب.
5 ساقط في "ب" و"ج" و"د".
6 لم أعرف قائله.
"فصل"
بلغنا عن خدنك ومن يلوذ بك، أنهم أنكروا على الإمام بناء المسجد الجامع، فقيل لهم: إنه قد بناه سعود –رحمه الله- أولا؛ فقالوا: هذا من باب قوله تعالى:(3/54)
ص -535- ... {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}1؛ وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بُني من مال كيت وكيت.
وهذا يدل على ما قلناه، أن اعتقادكم في الإمام 2 مثل اعتقادكم في ابن ثنيان سواء بسواء.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم3
وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد، وأهل الأحساء، وإنكاره مكابرة/وردّ/4 للواضحات.
وقد علم أن الإقتداء بأهل الدين في البر والخير والعمل الصالح، كبناء المساجد رفع شأنها، من آكد ما شرع. ومن أفضل ما سُعي فيه، وصنع. والاستدلال عليه بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}5، أقرب للصواب.
والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين. إنه ولي ذلك كله،/وهو/6/ على كل شيء قدير/7.
وصل اللهم على نبينا محمد، سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا/ إلى يوم الدين/8.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف الآية "23".
2 أي الإمام سعود.
3 هذا بيت لزهير بن أبي سلمى، ضمن قصيدة طويلة يمدح فيها هرم بن سنان والحارث بن عوف. ديوان زهير بن أبي سلمى، دار صادر، ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت 1384هـ1964م، ص 88.
4 في "د": ورود.
5 سورة الأنعام الآية "90".
6 في "أ": إنه.
7 في "ج" و"د": القادر على كل شيء.
8 ساقط في "ب" و"ج" والمطبوع.(3/55)
ص -536- ... "الرسالة الثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه- رسالة إلى محمد بن عون –رجل من أهل عمان- قد ألقيت إليه شبهات وضلالات من أضاليل الجهمية النفاة. فبعث بها إلى الشيخ الإمام، وقدوة العلماء الأعلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن. فأجابه عليها بأدل دليل، وأوضح برهان. وقد سأل هذا الجهمي2 الكافر/محمدا/3 عن هذه الأسئلة.
فمنها: هل لكلمة التوحيد لا إله إلا الله شروط وأركان وآداب؟.
ومنها: قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}4 ما معناه استواؤه مختص بالعرش، أو به/و/5 بغيره لأنه تعالى ما نفى استواءه من غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك وهل أتى سبحانه بحرف الحصر وحروف الاختصاص وهل تعرف حروف الاختصاص وحروف الحصر أم لا وما هي؟
فإذا قلت مثلا: زيد استوى على الماء، فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل.
ومنها قوله: وإذا أقررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}6
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه رسالة ساقطة في "د". وجاءت في المطبوع في ص 238. 255، وهي الرسالة رقم "40". وجاءت في "ب" في ص 72-87. ووردت في الدرر السنية 3/333-341.
2 صاحب الأسئلة الملقاة إلى محمد بن عون.
3 في "أ" و"ج": "محمد" والصواب المثبت، إذ إنه هو المسئول. وهو ساقط في المطبوع.
4 سورة طه الآية "5".
5 في "أ": أو.
6 سورة البقرة الآية "115".(3/56)
ص -537- ... وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}1 وقد قال إنه قريب2. وقال صلى الله عليه وسلم: "حيثما كنتم فإنه معكم"3 ؛ فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع، وتعارض الآيات والأحاديث. أما/ الآيات/4 الأخيرة. فقد قيل في الأول5 أنها ليست من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وما نفى الاستواء عن غير العرش.
هذا كلامه بحروفه، نقله الشيخ على ما فيه من التحريف واللحن ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت، حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى.
وقد أجاب –رحمه الله- إفادة لمحمد بن عون، إذ كان من أهل التوحيد والإثبات، وممن جاهد الجهمية في تلك الجهات؛ وإلا فليس هذا الجهمي الكافر كفا للجواب، لأنه من العجم الطغام، بل هو أضل من سائمة الأنعام، إذ لا فكرة ثاقبة، ولا روية كاسبة، ولا طريقة صائبة يتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيّى بزي أهل الذكاء والفهم، وليس له في ذلك ملكة ولا روية، ولا معرفة للعلوم ولا دراية، ولا يعرف من الإسلام أصلا ولا فرعا، بل هو ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ــــــــــــ
1 سورة ق الآية "16".
2 هذه إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة/186].
3 لم أجد هذا الحديث فيما اطلعت عليه. ولعل السائل ذكره بالمعنى.
وقد وجدت حديثا بهذا المعنى، عن عبادة من الصامت رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل إيمان المرء، أن يعلم أن الله تعالى معه حيث كان". كتاب المصنف في الأحاديث والآثار لأبي بكر بن أبي شيبة، الدار السلفية بالهند، تحقيق مختار أحمد الندوي، ط/1، 1400هـ 1980م، 12/195، 15/165. الدر المنثور 6/171. كنز العمال "1339".
4 في "أ" و"ج": آيات.
5 يريد قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].(3/57)
ص -538- ... وقد موه هذا الجهمي الكافر بهذه السفسطة1 والجعجعة2، وهرقع بهذه المحرقة والقعقعة3، وظن أن ليس في حمى التوحيد من أهله ضيارم، ولا لتلك الشبه المتهافتة من عالم مصارم4؛ كلا والله، إن الليث مفترش على براثنه، لحماية حمى التوحيد وقاطنه؛ فلا يأتي صاحب بدعة ليقلع من التوحيد الأواسي5، ويهد الرعان6 الشامخات الرواسي، إلا ودفع في صدره بالدلائل القاطعة، والبراهين المنيرة الساطعة، فرحمه الله من إمام جهبذ ألمعي، ومقول بارع لوذعي7، أحكم وأبرم من الشريعة المطهرة أمراسها 8 فضاء –بحمد الله- للورى نبراسها، وسقى عللا بعد نهل غراسها، فأورقت وبسقت أشجارها؛ وأينعت –بحمد الله- ثمارها، فجنى من ثمارها كل طالب مسترشد، وورد من معينها الصافي كل موحد.
إمام هدى فاضت ينابيع علمه ... فأم الأوام الواردون معينها
فبلوا الصدى من صفوها وتضلعوا ... وصعصع9 تيار لهن معينها10
كهذا الذي أبدى معرة جهله ... وكان يرى أن قد أجاد رصينها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 السفسطة: تقدم معناه في ص 230.
2 الجعجعة: صوت الرحى ونحوها. أصوات الجمال إذا اجتمعت.
تهذيب اللغة 1/69، لسان العرب 8/51، مادة "جمع".
3 القعقعة: حكاية أصواب السلاح، والترسنة والجلود الياسبة والحجارة والرعد والبكرة والحلي ونحوها. لسان العرب 8/286. مادة "قعع".
4 مصارم: اسم فاعل من صارم، فهو صارم ومصارم، أي: ماض في كل أمر، وقاطع. والصيرم: الرأي المحكم. تهذيب اللغة للأزهري 12/184 مادة "صرم".
5 الأواسي: جمع الآسي، وهي: شجرة ورقها عطر. لسان العرب 6/19، مادة "أوس".
6 الرعان: جمع الرعن، وهو الأنف العظيم من الجبل، تراه متقدما. تهذيب اللغة للأزهري 2/340، لسان العرب 13/182، معجم متن اللغة 2/610، مادة "رعن".
7 تقدم معناه في ص 445.
8 تقدم معناه في ص 451.
9 الصعصع: المتفرق. والصعصعة: الحركة والاضطراب.(3/58)
تهذيب اللغة للأزهري 1/77، لسان العرب 8/200 مادة "صعع".
10 في "د": مهينها.(3/59)
ص -539- ... فضعضعها بالرد والهد جهبذ ... وأبدى عوارا قد رأى أن يزينها
وما هو إلا كالسراب بقيعة ... يلوح لظمآن فلاقى متونها
فإن كنت مشتاقا إلى كشف زهوها ... فإن الإمام الشيخ أبدى كمينها
وجلى ظلام الجهل بالعلم مدحضا ... ضلالات كفر غثها وسمينها
وأطلع شمس الحق للخلق جهرة ... وشاد لعمر للبرية دينها
وقد سمقت أنوار برهان علمه ... وقد بلغت غرب البلاد رصينها
ورد على من رد سنة أحمد ... ورام سقاها بالهوى أن يشينها
زمن ند من أتباع جهم ونحوهم ... وقد رام جهلا أن يهد مكينها
بنفي استواء الرب جل جلاله ... على عرشه إذ رام أن يستهينها
وقد أوضحت بل صرحت بعلوه ... وقرر أعلام الهدى مستبينها
وفي سبع آيات ثبوت استوائه ... على العرش فاقرأ يا مهين رصينها1
وهذا جواب إحدى الورقتين/ اللتين أرسلهما/2 محمد بن عون، وقد تقدم جواب الورقة الثانية فيما سبق3، ولم أجدها تامة، ولكن لمسيس الحاجة إليها أثبتناها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الأبيات لجامع الرسائل، الشيخ سلميان بن سحمان رحمه الله.
2 في "أ" و"ب" و"ج": التي أرسلها.
3 تقدم ذلك الجواب، في رسالة رقم "14". إلى محمد بن عون ص260.(3/60)
ص -540- ... جهادك أهل البدع، والإغلاظ في الإنكار على الجهمية والمعطلة ومن والاهم، وهذا من أجل النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية؛ فإن الجهاد بالعلم والحجة، مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعار السنة وآكدها. وإنما هو تختص به في كل عصر ومصير، أهل السنة وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان.
فعليك بالجد والاجتهاد به، من أفضل الزاد للمعاد، قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}1.
هذا وقد ألقي إلي ورقة جاءت من نحوكم، سوَّدها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، كما هو رأي جهم وأشياعه، محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة؛ تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم العلم والإيمان، والمعرفة والحقيقة، وأنه ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعا 2.
وقد أبداه قائله ليتشبع بما لم يعط من العلم 3 ويتزيى/ بغير زي العلماء/4؛ فكشف الله سوءته، وأبدى خزيه، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه.
فأول ما رسم في هذه الورقة المشار إليها، قوله –وفقك الله إلى أقوم الطريق: هل لكلمة التوحيد- وهي لا إله إلا الله- شروط وأركان وآداب فإن قلت نعم، فما هي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة غافر الآية "51، 52".
2 هذا اقتباس من قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].
3 وقد تقدم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "المتشيع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" في ص 525.
4 في المطبوع: بغير زيه.(3/61)
ص -541- ... هذا لفظه. وقد عرفت أن الرجل لبس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك.
والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية، حقيقة1 تعطيل الأسماء والصفات؛ لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف، والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك، فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة غير موصوفة ثبوتية2 ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام.
وهذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين، الذين ينكرون العلو والاستواء، ويزعمون أنه بذاته مستوٍ في كل مكان، فما نزهوه عن شيء من الأماكن القذرة التي يتنزه عنها آحاد خلقه. فما أجرأهم وما أكفرهم وما أضلهم عن سواء السبيل.
ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه. وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهذا أجنبي عنه، لا يدريه، وكيف يدري ذلك كمن أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة التوحيد، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية والكمال المطلق، فما للجهمية وهذا، وهم إنما يعيدون عدما وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعيد إلها واحدا فردا صمدا.
وشرط كلمة الإخلاص، يعرفها –بحمد الله- صغار الطلبة من المسلمين أهل الإثبات. ويتبين ذلك بتعريف الشرط: وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته3. وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم، والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم؛ هذه شروط الصحة4.
وأما شروط القبول: فالالتزام والإيثار والرضا. وإذا اجتمعت هذه الشروط، حصل
ــــــــــــ
1 كذا في جميع النسخ، ولعل الأولى أن يقال: حقيقته.
2 تقدم ذكر معتقد الجهمية في ص 299.
3 روضة الناظر 1/162. وأصول الفقه لمحمد أبي زهرة ص 59.
4 أي: العقل والتمييز والعلم.(3/62)
ص -542- ... القول المنجي، والشهادة النافعة1. ومصدر هذه الشروط عن علم وعمله، وهناك يصدر التلفظ بها عن يقين وصدق. والجهمية لم يتصفوا بشروط من هذه الشروط، وقد صرح أهل السنة بذلك.
وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات، كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن. قال أبو الطيب:
فقر الجهول بلا علم إلى أدب ... فقر الحمار بلا/ عقل/2 إلى رسن3
وله أيضا شروط:
منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله، ونعوت جلاله، التي علوه وارتفاعه واستواؤه على عرشه من أظهرها وأوحيها. /وكذلك/4 معرفة أمره ونهيه ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله وحدوده. ومنها: كون الطبيعة لينة منقادة/ سلسة/5 قابلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد أوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن هذه الشروط، عند بيانه لمعنى لا إله إلا الله، وقال وهي كلمة الإخلاص، المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة:
الأول: العلم بمعناها، نفيا وإثباتا.
الثاني: واليقين، وهو كمال العلم بها، المنافي للشرك والريب.
الثالث: والإخلاص، المنافي للشرك.
الرابع: والصدق، المانع من النفاق.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه، والسرور بذلك.
السادس: القبول المنافي للرد، فقد بقولها من يعرفها لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها، تعصبا وتكبرا، كما هو قد وقع من كثير.
السابع: الانقياد بحقوقها، وهي الأعمال الواجبة، إخلاصا لله، وطلبا لمرضاته. رسائل وفتاوى الشيخ عبد الرحمن، ضمن مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 2/87-88.
2 في جميع النسخ "رأس" والتصويب من ديوان المتنبي.
3 البيت تقدم في ص 225.
4 في "أ": وكذا.
5 في المطبوع: سلسلة.(3/63)
ص -543- ... وهذه الشروط معدومة في الرسائل، قد اتصف بضدها ومعبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه ولا يأتمرون بأمره؛ والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية يسمونها: قواطع عقلية، ومقدمات يقينية. ونصوص الكتاب والسنة عندهم، ظواهر لفظية، وأدلة ظنية.
وأما طبائعهم فأقسى الخلق وأعتاهم وأعظمهم ردا على الرسل، واعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة وأمثالهم من شيوخ القوم، الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا، فضلا عن معرفته وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص.
وأما الأركان: فركناها: النفي والإثبات. نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده على وجه الكمال.
وأما الآداب: فالدين كله يدخل في مدلولها وآدابها. وأرفع مراتب الآداب وأعلاها، مرتبة الإحسان، وهي أعلى مقامات الدين، وبَسْطُها يعلم من معرفة شعب الإيمان وواجباته ومستحباته. وعندهم أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان، في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر. هذا رأي الجهمية الجبرية، فالأعمال ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص/ليسا/1 من أركانه2. وهذا يعرفه صغار الطلبة؛ فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه ولا من علمه وفي المثل: ليس هذا بعشك فادرجي 3. والمقصود إفادة مثلك. وأما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": ليس.
2 هذه هي عقيدة المرجئة في الإيمان، وقد تقدم ذكرها في ص 174.
3 في "أ" و"ج": "ليس عشك ادرجي". وفي جمهرة الأمثال: "ليس بعشك فادرجي"، والمثبت من مجمع الأمثال. هو مثل يضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره. مجمع الأمثال للميداني 2/170؛ جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري 2/613، مثل رقم "1726". وقد أورده صاحب اللسان في مادة "درج".(3/64)
ص -544- ... السائل فليس كفا للرشاد والهدى. ثم قال الجهمي في ورقته قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 ما معناه2؟ استواؤه مختص بالعرش أو به/و/3 بغيره لأنه تعالى ما نفى استواءه/عن/4 غيره، فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك وهل أتى سبحانه بحروف الحصر وحروف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص وحروف الحصر أم/لا/5 وما هي فإذا قلت مثلا: زيد استوى على الدار، فهل علم منه أنه لا يستوي على غيره والعاقل يعلم ذلك بأدنى تأمل.
وجوابه أن يقال: قد ثبت من غير طريق عن مالك بن أنس/ رحمه الله/6 وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن7 بل ويروى عن أم المؤمنين أم سلمة –رضي الله عنها- أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول8. وفي بعض طرقه: والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة 9. وزاد مالك: فقال للسائل: وما أدراك إلا رجل سوء. وأمر به فأخرج10.
وعلى هذا درج أهل السنة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة، الجهمية وأشياخهم من غلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه الآية "5".
2 في "أ": ما معنى.
3 في "أ": أو.
4 في "أ" و"ج": من.
5 في "أ": لي.
6 ساقط في "أ".
7 هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، أبو عثمان القرشي التيمي، مولاهم، المشهور بربيعة الرأي، مفتي المدينة. روى عن أنس بن مالك "، وعنه تفقه الإمام مالك بن أنس، ت 130هـ". تاريخ بغداد 8/420، سير الأعلام 6/89، تهذيب التهذيب 2/258.
8 تقدم تخريج هذا الكلام في ص 317.
9 إثبات صفة العلو، لابن قدامة ص 172-173، الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي ص 85. ومجموع فتاوى فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/181.
10 المراجع السابقة: صفة العلو ص 173، والفتاوى 5/365.(3/65)
ص -545- ... الاتحادية والحلولية.
وأما أهل السنة، فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية والهيبة والإجلال والتعظيم، من الحوض والمراء والجدل والكلام الذي لم يؤثر ولم ينقل. وقد عرفوا المراد من الاستواء وصرح به أكابر المفسرين وأهل اللغة، فثبت عنهم تفسيره بالعلو والارتفاع1 وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد2. ولكنهم أحجموا عن مجادلة السفهاء الجهمية، تعظيما لله، وتنزيها لرب البرية.
وإذا أخبر جل ذكره أنه استوى على العرش، وعلا و ارتفع، وكل المخلوقات وسائر الكائنات تحت عرشه، وهو بذاته فوق/ذلك/3.
وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء"4. وإذا عرف هذا عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة مختصة بالعرش. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شرح حديث النزول لابن تيمية ص 389.
2 وهو قول أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري "ت211هـ".
انظر المرجع السابق ص 392.
3 في "ج": "ذاته".(3/66)
4 هذا جزء من حديث أبي صالح، قال سهيل: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام، أن يضطحع على شقه الأيمن ثم يقول: رب السموات ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك الشيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر. وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. صحيح مسلم بشرح النووي 17/39، الذكر والدعاء، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضطجع. سنن أبي داود 5/310، الأدب، باب ما يقول عند النوم، سنن الترمذي 5/440، الدعوات، باب ما جاء في الدعاء إذا أوى إلى فراشه. سنن ابن ماجه 2/341، الدعاء، باب دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم و2/351، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/67)
ص -546- ... عليك قال: "الله أكبر، إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله، إنه على عرشه. وأشار بيده كالقبة، وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه"1. وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله وقدسه من سائر مخلوقاته.
ومن أصول أهل السنة والجماعة، أنه سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه2. ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش. وكذلك رسله وأنبياؤه وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به نسفه. فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بن آدم، من التوجه إلى جهة العلو وطلب معبودهم وإلههم فوق سائر الكائنات3. {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}4.
وتخصيص العرش بالاستواء نص، لأنه/لا يستوي/5 على غيره. والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام ودلالته. قال الحسن في مثل هؤلاء: "دهتهم العجمة"6. ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث ذكره الشيخ بالمعنى، ولفظه عند أبي داود:"أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسقي الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله، إن عرشه على سماواته لهكذا. وقال بأصبعه مثل القبة عليه: وإنه ليئظ به أطيط الرحل بالراكب". سنن أبي داود 5/94-95، السنة، باب في الجهمية.(3/68)
2 شرح حديث النزول لابن تيمية ص 72، 388.
3 ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه 7/187.
4 سورة المؤمنون الآية "41".
5 كذا في "أ". وفي بقية النسخ: لم يستو.
6 تقدم قوله في المعتزلة ص 181. 298.(3/69)
ص -547- ... والإجماع والفطرة كذلك، ودلالة الأسماء الحسنى كالعلي والأعلى، والظاهر ونحو ذلك.
ولفظ العلو والارتفاع والصعود يشعر بذلك، ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق، والفوقية المطلقة.
وأما قوله: وهل أتى سبحانه بحرف الحصر والاختصاص:
فدلالة الكلام على الحصر والاختصاص تارة تكون بالحروف1 وتارة تكون بالتقديم والتأخير2، وتارة تكون من السباق وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف. قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}3 وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم/ والتأخير/4. وتارة يستفاد من الحروف كقوله: "إنما الأعمال بالنيات"5، وكقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}6، وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي، كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}7 {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ}8. ونحو ذلك. والسائل حصرها يظنها مختصرة في الحروف، وهذا من جهله.
ثم يسأل عنا عن أقسام الحصر، كم هي وما الفرق بين حصر الأفراد وحصر القلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كحرف "إن" و "ما" مجموعتين في "إنما".
2 كتقديم المعمول على عامله، كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
3 سورة الفاتحة الآية "5".
4 زائد في "ب" و "ج" و "د" والمطبوع.
5 سيأتي تخريجه في ص 782.
6 سورة فصلت الآية "6" أولها {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
7 سورة الأنبياء الآية "107".
8 سورة آل عمران الآية "144".(3/70)
ص -548- ... والحصر الإدعائي ومقابله، ويسأل هل دلالة الحصر نصية أو ظاهرية وهل هي لفظية لغوية أو عقلية وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر تعالى أنه استوى على العرش، فلا يجوز أن يقال: أنه استوى على غيره، لوجوه:-
منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه؛ والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه، وزيادة/نعت/1 لم تعرف عنه ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في/عظم/2 الذنب والإثم، وأكذب الخلق من كذب على الله. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}3 الآية.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يستحق من الصفات أعلاها وأشرفها وأجلها. والعرش أعظم المخلوقات، هو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله تعالى بالعظم، فقال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}4.
وقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}5؛ ووصفه بالسعة فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}6 فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح وأثنى على نفسه بالاستواء عليه ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته.
الوجه الثالث: أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها:
فهذا جهل عظيم، والكلام يختلف باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": لغة.
2 في "أ": تعظيم.
3 سورة الأعراف الآية "33".
4 سورة التوبة الآية "129"، وتمامها: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
5 سورة البروج الآية "15".
6 سورة البقرة الآية "255".(3/71)
ص -549- ... الصفات. وأصل ضلال هذه الطائفة، أنهم فهموا من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة، ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد والتعطيل، شبهوا أولا وعطوا ثانياً.
الوجه الرابع: أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل، قد نص القرآن على إبطاله، قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}1 وأصل الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل الآية "74".
"فصل"
قال الجهمي في ورقته: وإذا قررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}2 وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}3 وقال: إنه قريب 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "حيثما كنتم فأنه معكم"5 فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع وتعارض الآيات والأحاديث. أما الآيات الأخيرة، فقد قيل في الأولى 6 إنها من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول؛ وما نفي الاستواء/عن/7 غير العرش.
هذا كلامه بحروفه، نقلناه على ما فيه من التحريف واللحن ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت حال هؤلاء الجهال الضلال الحيارى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 سورة البقرة الآية "115".
3 سورة ق الآية "16".
4 ذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
5 تقدم تخريجه في ص 537.
6 أي قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
7 في "أ": من.(3/72)
ص -550- ... فأما قوله: فإذا قررت لله مكانا معينا: فاعلم أن أهل السنة والجماعة، ورثة الرسل وأعلام الهدى لا يصفون الله إلا بما وصف به نسفه، وأو وصفه به رسوله، من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم، تعظيما للموصوف وخشية وهيبة وإجلالا.
وأما أهل البدع، فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يتحاشون من الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف.
وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بما لم يأتهم عنه ولا عن رسوله. وذكر الله عن أصحاب النار أنهم لما قيل لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}1؛ فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته، بقوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}2، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}3، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه بقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}4. وهذا حال أهل البدع والضلالات الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل.
وإذا عرفت ذلك فلفظ المكان لم يرد لا نفيا ولا إثباتا، وقد يراد به معنى/ صحيح/5 كالعلو والاستواء والظهور، وقد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة. فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة، فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية، ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المدثر الآيات "42، 44، 45".
2 سورة المدثر الآية "43".
3 سورة المدثر الآية "44".
4 سورة المدثر الآية "45".
5 في "أ" و"ج": صحيحاً.(3/73)
ص -551- ... وأما قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}1 فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة. قال ابن عباس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة وصلوا وتحروا القبلة، فلما ذهب الضباب، استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية2.
وقال ابن عمر: نزلت في المسافر يصلي التطوع حيثما توجهت به راحلته3. وقال عكرمة4: نزلت في تحويل القبلة5.
وقال أبو العالية 6: عيرت اليهود المؤمنين لما صُرفت القبلة، فنزلت هذه الآية 7، وقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة الآية "115".
2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/164، قال ابن كثير بعد سرده لعدة روايات في سبب نزول الآية، قال: هذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضا. وأخرج الترمذي نحوه في سننه 2/176، عن طريق عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه.قال الترمذي: "هذا الحديث ليس إسناده بذاك. وأخرجه الطبري في تفسيره 1/503؛ والواحدي في أسباب النزول ص 37، عن طريق جابر بن عبدالله.
3 أسباب النزول للواحدي ص 38؛ جامع البيان للطبري 1/503؛ الجامع لأحكام القرآن 2/55.
4 هو عكرمة، أبو عبد الله القرشي، مولاهم، المدني البربري الأصل، العلامة الحافظ المفسر. حدث عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة وابن عمر وعلي رضي الله عنهم. وعن غيرهم. "ب105هـ".
وفيات الأعيان 3/265، سير الأعلام 5/12، تهذيب التهذيب 7/263.
5 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/162.
6 هو رفيع بن مهران، الإمام المقرئ الحافظ المفسر، أبو العالية الرياحي البصري، أحد الأعلام. أسلم في خلافة أبي بكر، ودخل عليه وسمع من عمر وعلي وغيرهم من الصحابة "ت 90هـ".
سير الأعلام 4/207، تهذيب التهذيب 3/284، شذرات الذهب 1/102.
7 جامع البيان للطبري 1/502.(3/74)
ص -552- ... مجاهد 1 والحسن 2: نزلت في الداعي يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}3 أين ندعوه 4.
قال الكلبي 5: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}6، فثمن الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}7، أي إلا هو 8.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان 9: فثم قبلة الله. والوجه والوجهة والجهة القبلة 10.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، شيخ القراء والمفسرين، مولى السائب بن أبي السائب، روى عن ابن عباس، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، وعن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. "ت104هـ".
سير الأعلام 4/449، تهذيب التهذيب 10/42، شذرات الذهب 1/125.
2 هو الحسن البصري. وقد تقدمت ترجمته في ص 181.
3 سورة غافر الآية "60".
4 الجامع لأحكام القرآن للرطبي 2/57، تفسر القرآن العظيم 1/165.
5 هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليماني، أبو ثور الكلبي البغدادي، الحافظ الحجة المجتهد، مفتي العراق، سمع من ابن عيينة ووكيع وأبي عبد الله الشافعي. "ت 240هـ".
تاريخ بغداد 6/65، 69. سير الأعلام 12/72، طبقات السبكي 2/74.
6 سورة البقرة الآية "115".
7 سورة القصص الآية "88".
8 الجامع لأحكام القرآ، 2/58.
9 هو مقاتل بن حيان بن دوال دور، الإمام العالم المحدث الثقة، أبو بسطامي النبطي البلخي، الخراز، حدث عن الشعبي ومجاهد والضحاك وعكرمة. توفي في حدود "150هـ".
سير الأعلام 6/340، تهذيب التهذيب 10/277.
10 الجامع لأحكام القرآ، 2/58.
وإطلاق الوجه هنا بمعنى القبلة، لعل المراد به، بيان المعنى المقصود من الآية، أنه التوجه في الصلاة يكون إلى جهة القبلة. أما كون "وجه الله" هو المفسَّر بالقبلة تفسيرا لغويا. كما يشعر اللفظ هنا. فهذا لا يصح.(3/75)
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله-: "والوجه لا يعرف في اللغة بمعنى القبلة، ولكل منهما معناه الخاص به، لا يشاركه فيه غيره". اجتماع الجيوش الإسلامية ص 94.(3/76)
ص -553- ... وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}1 ختم هذه الآية بهذين الاسمين الشريفين، يشعر بما قاله الكلبي، من أنه يعلم ويرى. ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله، عرف صغر المخلوقات بأجمعها في جنب ما له تعالى من الصفات المقدسة، ولم يخلتج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته، وعظمت أن يحاط بشيمنها.
وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}2 فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه واستواءه على عرشه 3.
وفي الحديث: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء"4، ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
ومن أسمائه العلى الأعلى؛ ومن أسمائه القريب المجيب؛ ومن أسمائه الظاهر الباطن. وكذلك قوله/تعالى/5: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}6 وقد حرف السائل هذه الآية، وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص/بداعيه/7.
وفي الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 8 حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه. وهذا مما يبن لك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة الآية "115".
2 سورة ق الآية "16".
3 شرح حديث النزول لابن تيمية ص 314؛ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/143، 5/103.
4 تقدم تخريجه في ص 545.
5 ساقط في "أ" "ب".
6 سورة البقرة الآية "186".
7 في "ج" و"د" والمطبوع: يدعيه. وهو خطأ.
8 تقدم تخريجه في ص 315.(3/77)
ص -554- ... بطلان قول الجهمي: إنه بذاته في كل مكان1 ولو كان المر كما قال الظالم، لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب،/ولكان/2 المصلي وعابد الصنم سواء في القرب إليه؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
قال العلامة ابن القيم –رحمه الله-: المعية نوعان3:
عامة وهي معية العلم والإحاطة 4، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}5 وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}6.
وخاصة: وهي معية القرب كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}7، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}8، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}9. فهذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما أشار إلى قولهم شيخ الإسلام في مجموع فتاواه 5/166، 187.
2 في "أ": ومكان.
3 ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذين النوعين في مجموع الفتاوى 11/249-250. ويأتي ذكر مصدر ابن القيم –رحمه الله- عند نهاية كلامه إن شاء الله.
4 ذكره أيضا النووي في شرح صحيح مسلم 17/29.
5 سورة الحديد الآية "4".
6 سورة المجادلة الآية "7".
فالمعية في الآيتين معية علم وإحاطة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه. وقد ذكر ابن عبد البر أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله. وهو مأثور عن ابن عباس، والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم". شرح حديث النزول ص 356. وانظر التمهيد لابن عبد البر 7/138. وإثبات صفة العلو للمقدسي ص 166.
7 سورة النحل الآية "128".
8 سورة البقرة الآية "153".
9 سورة العنكبوت الآية "69".(3/78)
ص -555- ... معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ. وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة إطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة 1.
ف"مع" في لغة العرب للصحبة اللائقة، لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا محايثة، فمن ظن شيئا من هذا، فمن سوء فهمه أتي.
وأما القرب: فلم يقع في القرآن إلا خاصا2 وهو نوعان: قربه من داعيه بالإجابة، وقربه من عابديه بالإثابة3.
فالأول كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}4 ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:/أ/5 قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية6.
والثاني: كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"7، "أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل"8، فهذا قربه من أهل طاعته9.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/249-250.
2 المرجع السابق 5/240.
3 مدارج السالكين 2/265.
4 سورة البقرة الآية "186". فالقرب في الآية قرب إجابة. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/247.
5 ساقط في "أ" و"ج".
6 جامع البيان للطبري 2/158، الجامع لأحكام القرآن 2/206.
7 تقدم تخريجه في ص 315.
8 سنن الترمذي 5/532، الدعوات، باب حدثنا محمود بن غيلان. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. سنن النسائي 1/179، المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر؛ الترغيب والترهيب للمنذري 1/434. مشكاه المصابيح 1/387، قال الألباني: "سنده صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي" كنز العمال 1/416، وعزاه إلى النسائي والنرمذي والمستدرك. وفي 7/419.
9 وهو أقرب إثابة لعابديه. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/247.(3/79)
ص -556- ... وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: "يا أيها الناس، اربعوا1 أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته"2. فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد.
وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه واستوائه على عرشه3، بل يجامعه ويلازمه، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض4؛ تعالى الله علوا كبيرا. ولكنه نوع آخر، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب وبينه وبينه مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده أقرب إليه من جليسه، كما قيل:
ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب5
وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه، الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم، وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة6 والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، وهذا مع عدم تأتي القرب منها، فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء هو مستو على عرشه.
وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة المبطل بعيد من الله، خلي من محبته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اربعوا: أي ارفقوا. النهاية لابن الأثير 2/187، شرح النووي لصحيح مسلم 17/29، فتح الباري 11/509.
2 صحيح البخاري مع الفتح 6/157، الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت في التبكبير.
صحيح مسلم بشرح النووي 17/29، الذكر، باب استحباب خفض الصوت، سنن أبي داود 2/182، الصلاة باب الاستغفار. مسند الإمام أحمد 4/402، واللفظ له.
3 مجموع فتاوى ابن تيمية 3/143.
4 المرجع السابق 5/487-488.
5 لم أقف على مصدره فيما اطلعت عليه.
6 مجموع فتاوى ابن تيمية 6/30.(3/80)
ص -557- ... ومعرفته1.
والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا، فالمحبة بين قربين: قرب قبلها وقرب بعدها. وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها؛ ومعرفة بعدها من نتائجها وآثارها.
وأما مسألة الاشتقاق: فينبغي أولا أن يسأل هذا: ما معنى الاشتقاق، وما يراد به عند المحققين فإن زعم أنه أخذ الأسماء من مصادرها، وأن المصادر متقدمة، فهذا يلزم عليه سبق مادة أخذ منها الاسم، ومجرد القول بهذا، ولا يرتضي عند المحققين من أئمة الهدى.
فإن عرف ذلك وأجابك عن معنى الاشتقاق على الوجه الذي أشرنا إليه، فأخبره أن البصريين والكوفيين اختلفوا في الاسم من حيث هو، هل هو مشتق من السمو أو من السّمة ذهب البصريون إلى الأول2؛ والكوفيون إلى الثاني3.
وأصله عند البصريين: "سمو" على وزن فعل، فحذفت لام الكلمة وهي الواو، ثم سكن أوله تخفيفا، ثم أتى بهمزة الوصل توصيلا بالنطق بالساكن، فصار "اسم"، وعليه فوزنه "افع" /ففيه/4 إعلالات ثلاثة، وهي الحذف ثم الإسكان والإتيان بهمزة الوصل.
وأما على مذهب الكوفيين، فأصله: "وسم" على وزن "فُعَل"، حذفت فاء الكلمة وهي الواو اعتباطا5 ثم عوض عنها بهمزة الوصل، وعلى هذا فوزنه
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلى هنا انتهى ما نقله المصنف من كلام الإمام ابن القيم في مدارج السالكين 2/265-267. وقد بدأ كلامه في ص 531.
2 الإيضاح في شرح المفصل، للشيخ عثمان بن عمر، ابن الحاجب "5646"، تحقيق د. موسى بناي العليلي مكتبة العاني. بغداد 1/63. وانظر لسان العرب 14/401.
3 المرجع السابق نفس الصفحة.
4 في "أ": فيه.(3/81)
5 أي بدون علة ولا سبب، تشبيها بالذبيحة التي تنحر عن غير داء ولا كسر، وهي سمينة فتية، يقال فيها: عبط اعتباطا، وكما في حديث: "من اعتبط مؤمنا قتلا فإنه قود" أي قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله. لسان العرب 7/347-348 مادة "عبط". والحديث بهذا اللفظ أخرجه الهندي في كنز العمال برقم "39833" و"39835".(3/82)
ص -558- ... "إعل"1.
ويسأل عن معنى الإعلال وما يقابله، وعن الاشتقاق الأكبر والأصغر والكبير 2، وعن معنى الاشتقاق في الأكبر مع المباينة في أكثر الحروف، ما معناه.
فإن أجابك عن هذا، فأجبه عن سؤاله؛ وإلا فكيف يسأل عن التفاصيل من أضاع القواعد والجمل.
وأما سؤاله عن الفرق بين القدر والقضاء.
فإن القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استعمل في التقدير الذي هو التفصيل والتبيين 3، واستعمل أيضا بعد الغلبة، في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها 4.
وأما القضاء، فقد يستعمل في الحكم الكوني، بجريان الأقدار، وما كتب في الكتب الأولى 5؛ وقد يطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتمييز. ويطلق
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد خطأ الأزهري هذا الاشتقاق في التهذيب، وقال: "ومن قال إن اسما مأخوذ من وسمت، فهو غلط؛ لأنه لو كان اسم من سمته لكان تصغيره: وسيما، مثل تصغير عدة وصلة. تهذيب اللغة 13/117.
2 الاشتقاق الأوسط الخاص: هو الاشتراك في الحروف وترتيبها، وهو المشهور، كقولك: علم يعلم فهو عالم.
والاشتقاق الأوسط: أن يشتركا في الحروف لا في ترتيبها، كقول الكوفيين: الاسم مشتق من السمية.
والاشتقاق الأكبر: إذا اشتركا في أكثر الحروف وتفاوتا في بعضها، وقيل أحدهما مشتق من الآخر. منهاج السنة 5/192.
3 لسان العرب 5/74، مادة "قدر".
4 المرجع السابق 15/186.
5 نفس المرجع ونفس الصفحة.(3/83)
ص -559- ... القدر أيضا على القضاء الذي هو الحكم1 الكوني بوقوع المقدرات، ويطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ}2.
ويطلق القضاء على الفراغ والتمام3 قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ}4 ، ويطلق على نفس الفعل5 كقوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}6؛ ويطلق على الإعلام7 والتقدم بالخبر كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ}8 ، ويطلق على الموت، ومنه قولهم: قضى فلان، أي مات9، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}10. ويطق على وجود العذاب، كقوله تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ}11. ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه، كقوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}12، ويطلق على الفصل والحكم، كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ}13، ويطلق
ـــــــــــــــــــــــــ
1 لسان العرب 5/74، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1].
2 سورة النساء الآية "65".
3 لسان العرب 15/187.
4 سورة الجمعة الآية "10". والمعنى: إذا فرغتم من الصلاة. جامع البيان للطبري، 24/103.
5 لسان العرب 15/187.
6 سورة طه الآية "72". ومعنى الآية: فاصنع ما أنت صانع، واعمل بنا ما بدا لك. جامع البيان للطبري 16/189.
7 لسان العرب 15/177، مادة "قضيى".
8 سورة الإسراء الآية "4". ومعنى قضينا "أي: أعلمناهم. جامع البيان للطبري 15/21.
9 لسان العرب 15/187. مادة "قضى".
10 سورة الزخرف الآية "77"، والمعنى: أي ليمتنا ربك. جامع البيان للطبري 25/98.
11 سورة هود الآية "44". والمعنى: أي مضى بهلاك قوم نوح. جامع البيان للطبري 12/46.
12 سورة طه الآية "114".
13 سورة الزمر الآية "75". ومعنى "قضى" أي فصل بين أهل الجنة والنار. الجامع لأحكام القرآن 15/187.(3/84)
ص -560- ... على الخلق، قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}1، ويطلق على الحتم كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}2، ويطلق على الأمر الديني، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}3، ويطلق على بلوغ الحاجة، ومنه: قضيت وطري. ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم، ويطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}4 والقضاء في الكل مصدر5. واقتضى الأمر الوجوب، دل عليه. والاقتضاء هو العلم بكيفية نظم الصيغة.
وقولهم/لا أقضي/6 منه العجب، قال الأصمعي7: يبقى ولا ينقضي.
وقال السائل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"8، وأي شيء حقيقة البدعة، وهل/ يؤول/9 الكلام أم لا فإذا قلت لا، فأكثر ما تستعملونه في شرب القهوة، وليس المحارم وغيرها بدعة، لا تثبت من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا ممن يعتبر بهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت الآية "12". أي ففرغ من خلقهن. جامع البيان 24/99.
2 سورة مريم الآية "21". ومعنى مقضيا "أي قضاه الله ومضى في حكمه وسابق علمه أنه كائن منك. جامع البيان 16/62.
3 سورة الإسراء الآية "23". ومعنى "قضى ربك" أي أمر. جامع البيان للطبري 15/62، 63؛ تفسير القاسمي10/3918.
4 سورة البقرة الآية "200". ومعنى "قضيتم هنا" أديتم أفرغتم. الجامع لأحكام القرآن، 2/285.
5 لسان العرب 15/186، مادة "قضى".
6 في "أ" و"ج" لأقضي.
7 هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي، أبو سعيد الأصمعي، الإمام الحافظ، حجة الأدب، حدث عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي وغيرهما. "ت215هـ". تاريخ بغداد 10/410، سير الأعلام 10/175.
8 أخرج الجزء الأول من الحديث: مسلم في صحيخه 6/403، الجمعة، باب تخفيف الصلاة. وقد تقدم الحديث بتمامه في ص 8. والجزء الثاني "وكل ضلالة في النار" أخرجه النسائي في سننه 3/188-189، العيدين، باب كيف الخطبة.(3/85)
9 في "أ" و"ب" و"ج": يؤل.(3/86)
ص -561- ... فجوابها1 أن يقال: هذا السؤال/دليل/2 على جهل السائل بالرواية والدراية، وباللسان العربي، فكلام هذا الضرب من الناس، يكفي من هداه الله في بيان جهلهم وضلالهم.
أما جهله بالدراية فمن وجوه:
أحدها: قوله: "هل يؤول الكلام أم لا؟.
والتأويل في عرف هؤلاء صرف الكلام عن ظاهره وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح3، ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير مراد4، لن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله.
وكذلك قوله: "أكثر ما تستعملونه من شرب القهوة وليس المحارم بدعة" وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية، فإن الكلام في العبادات لا في العادات؛ والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر. فما اقتضته العادة من أكل وشرب ولبس ومركب ونحو ذلك، ليس الكلام فيه. والبدعة ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه5.
أما ما له أصل، كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع: فجوابه.
2 في "أ": يدل.
3 هذا هو معنى التأويل عند الجهمية. مجموع فتاوى ابن تيمية 5/35.
4 انظر المرجع السابق 4/161، 162، 163.
5 اقتضاء الصراط المستقيم ص 276. مجموع فتاوى شيخ الإسلام 21/317-318، 319. التعريفات للجرجاني ص 62.(3/87)
ص -562- ... وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه دليل شرعي1.
وبهذا التعريف تنحل إشكالات طالما عرضت في المقام.
وأما ما فيه من جهة اللسان العربي:
فإن "هل" لا تقابل ب"أم" لأن ما يقابل بأم همزة الاستفهام، كما يعلم من محله.
ومنها قوله: "لا تثبت من الرسول": فإن الإثبات يتعدى ب"عن" لا ب"من".
وكذلك قوله: "لا ممن يعتبر بهم"، فإن الاعتبار نوع والاعتداد نوع آخر، فيعتد بالصالحين وأهل العلم؛ والاعتبار لا يختص بهم، بل لما ذكر تعالى فعل.
بني نضير2 بأنفسهم وديارهم قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}3.
وذكر السائل سؤالا عن الترشيح4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 21/318.
2 بنو النضير: جماعة من اليهود كانوا في المدينة، من خلفاء الخزرج، وهم وبنو قريظة أخوان، من أولاد هارون النبي عليه السلام. سكنا قلعتين. فنزل أولاد النضير قلعة على منازل من المدينة. حاضر النبي صلى الله عليه وسلم أهلها، وقطع نخلها، وحرق شحرها، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5].
الأنساب، لأبي سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني "562هـ" تعليق عبد الله عمر البارودي. دار الجنان ط/1، 1404هـ. 1988م، 5/503.
3 سورة الحشرة الآية "2".(3/88)
4 الترشيح هو: أن يريد المتكلم ضربا من ضروب البديع فلا يأتي له الإتيان به مجردا حتى يأتي بشيء في الكلام ليرشحه لمجيء ذلك الضرب. مثل قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] فهنا لفظة [ربك] رشحت لفظة [ربه] إذ يحتمل أن يراد بها الله تعالى، وأن يراد بها الملك. ولو وقع الاقتصار على قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} دون {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} لم تدل لفظة [ربه] إلا على الله فحسب. معجم البلاغة العربية للدكتور بدوي طبانه، دار المنار جدة، ودار الرفاعي الرياض، ط/3، 1408هـ. 1988م، ص 252، 253.(3/89)
ص -563- ... والإطلاق1، أيها أبلغ وكذلك الإطلاق والتجريد2. فينبغي أن يسأل عن الترشيح والإطلاق والتجريد، ما يراد بهن عند أهل الفن فإن عبارته تفيد عدم معرفته؛ إذ لا مقابلة بين الترشيح والإطلاق.
والتجريد في الأبلغية3، فسؤاله نص ظاهر في جهله.
فإن الترشيح: يراد به تقوية الشبه بين المشبه والمشبه به، بأن يذكر ما هو من خواص المشبه به، كقولك: أنشبت المنية أظفارها، فإن هذا فيه ذكر التقوية، بما هو من خواص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإطلاق هو: الاقتصار في الجملة على ذكر جزأيها "المسند إليه والمسند"، فالحكم مطلق غير مقيد بوجه من الوجوه يمكن للسماع أن يذهب فيه كل مذهب ممكن. كقولك "ظمئي إلى رؤية أبي شديد". معجم البلاغة العربية ص 382.
2 التجريد نوع من أنواع البديع، وهو: أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثله في تلك الصفة على سبيل المبالغة في كمال الصفة فيه؛ مثل قولك: رأيت أسدا يتكلم.
شروح التلخيص: عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح "للخطيب القزويني"، لبهاء الدين السبكي، ومعه: مختصر العلامة سعد الدين التفتزاني، ومواهب الفتاح للمغربي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر 348-349. المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، لمحمد بن القاسم السجلماسي، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباض المغرب ط/1، 1401هـ-1980م، 378.
فهذه الألفاظ الثلاثة هي أقسام للاستعارة باعتبار ملائمتها، فتنقسم باعتبار ذلك إلى ثلاثة أقسام هي:
الاستعارة المشرحة: هي التي اقترنت بما يلائم المستعار منه "المشبه به" وسميت بذلك لتقويتها به. معجم البلاغة ص 253.
الاستعارة المجردة: هي التي تقترن بما يلائم المستعار له "المشبه". نحو: رأيت أسدا يتكلم. معجم البلاغة العربية ص 126.
الاستعارة المطلقة: هي التي لم تقترن بما يلائم المستعار له أو المستعار منه. كقولك: ظمئي إلى لقاء من أحب شديد. معجم البلاغة العربية ص 383.(3/90)
3 قال الدكتور بدوي طبانة في معجم البلاغة: "والترشيح أبلغ من التجريد والإطلاق، لما فيه من قوة توكيد المبالغة التي تؤديها الاستعارة". معجم البلاغة العربية ص 253.(3/91)
ص -564- ... المشبه به، وهي الأظفار، فالترشيح قوى المعنى المراد.
وأما الإطلاق في الاستعارة، فيقابله/ التقييد/1. والتجريد معناه:أن يجرد المتكلم من نفسه مخاطبا2 كقول الشاعر: /... 3... /.
وأيضا فالبلاغة تختلف باختلاف الأحوال، فتوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم 4.
وحقيقتها: مطابقة الكلام مقتضى الحال5؛ فإن كان الحال يقتضي الترشيح، فهو أبلغ، وإلا فلكل مقام مقال.
وأما الإخبار عن الاسم بـ"الذي" فهو كثير في القرآن وغيره، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}6، فأخبر بالذي عن اسمه الشريف، الذي هو أعرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في المطبوع، وفي "أ" و"ج": التعبير.
2 هذا تعريف لأحد فسمى التجريد، وهما:
التجريد المحض وهو أن تأتي بكلام يكون ظاهره خطابا لغيرك، وأنت تريد خطابا لنفسك ومثاله قول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
التجريد غير المحض: وهو أن تجعل الخطاب لنفسك على الخصوص دون غيرها، "وهذا النوع هو الذي عليه تعريف الشيخ". ومثاله قول عمرو بن الإطنابة:
أقول لها وقد جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
معجم البلاغة العربية ص 124، 125.
3 هنا سقط بين الشعر. وعلماء البيان يمثلون هنا بقول عمرو بن الإطنابة المتقدم في هامش "3".
4 قال أحمد الهاشمي في جواهر البلاغة: "وتقع البلاغة في الاصطلاح: وصفا للكلام، والمتكلم فقط. ولا توصف "الكلمة" بالبلاغة: لقصورها عن الوصول بالمتكلم إلى غرضه ولعدم السماع بذلك" جواهر البلاغة للهاشمي ص 32.
5 المرجع السابق، نفس الصفحة.
6 سورة إبراهيم الآية "32".(3/92)
ص -565- ... المعارف. و"الذي" اسم أيضا بخلاف ما يفيه السؤال.
وأما الإخبار عن اسم بـ"أل" فكقول الشاعر:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته 1.
وكذا كل فعل مضارع دخل عليه "أل".
وأما الإخبار عن اسم من الأسماء بـ"الذي" فكقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}2.
وأما الإخبار بـ"اللذين" فكقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ}3، وقال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}4.
وأما الكل والكليِّ، فالكل يراد به الجميع، كقوله: كل المؤمنين يدخلون الجنة. والكليِّ: ما يقع على الأكثر والغالب، كقولك:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البيت للفرزدق، قاله في هجاء رجل من بني عذرة، كان هجاء بحضرة الخليفة عبد الملك بن مروان. فقال افرزدق:
يا أرغم الله أنفاً أنت حامله ... يا ذا الخنى ومقال الزور والخطل
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
لم أجد البيت في ديوان الفرزدق. وقد ذكره شراح الألفية في الشواهد.
انظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لأبي محمد عبد الله جمال الدين بن يسوف ابن هشام "761هـ"، ومعه كتاب عدة السالك إلى تحقيق المسالك، محمد محيي الدين عبد الحميد، ط/1605هـ. 1967م، مطبعة السعادة بمصر، نشر المكتبة التجارية الكبرى 1/20.
ضياء السالك إلى أوضح المسالك لمحمد بن عبد العزيز النجار، مصر الجديدة، 1401هـ. 1981م، 1/38.
2 سورة آل عمران الآية "172".
3 سورة فصلت الآية "29".
4 سورة النساء الآية "16".(3/93)
ص -566- ... كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة 1.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال جامع الرسائل في هامش "أ": "هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم".
وهي ساقطة في "د" كما أشرت إليه عند بدايتها في ص 536.(3/94)
ص -567- ... "الرسالة الحادية والثلاثون"
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه ونور ضريحه- منظومة فيما جرى من مفاسد العساكر والبوادي، وما حصل قبل ذلك من ظهور الإسلام، وسوابغ الأيادي، بدعوة شيخ محمد بن عبدالوهاب –أجزل الله له الأجر والثواب، الإسلام ونشرت أعلام الجهاد، وانمحت آثار الضلالة والفساد.
ولما كانت هذه المنظومة من جملة الرسائل والأجوبة على المسائل، وكانت من غرر القصائد وبدائع الفوائد، وأشد ما يكون على الأعداء وثباتها.
وقد أنشأها –رحمه الله- وهو إذ ذاك في شدة مقاسات أهوال تلك الفتن، ومعانات أثقال تلك الحوادث والمحن، وقلة من المساعد، وكثرة من المعاند والمكابد، تغدو عليه الأراجيف وتروح، وتظهر أنياب النفاق إذا ذاك وتلوح، وثم من يقود المشركين ويؤزهم إلى عباد الله الموحدين.
وقد ابتلى الناس مع ذلك بجور الأئمة والولاة، واستباح الأموال والدماء، طغاة الحضر والبوادي العتاة، وأصبح أهل الحق ما بين معاقب مكبل في الحديد، وما بين شريد في القبائل طريد، فاشتد البلاء، وأعضل البأس، وكثر الجهل وعظم الالتباس، وقلة الديانة في كثير من الناس، وساروا إلى البلاد التي هجمت عليها العساكر، وظهرت بها أنواع الفسوق والمناكر، وصار لأهل الرفض والشرك بها الصولة، وكان لهم في تلك الجهات الغلبة والدولة، وضيعت بها أحكام الشريعة المطهرة، وظهرت بها أحكام الكفرة الفجرة. فبذل الجد والاجتهاد بإرسال الرسائل والنصائح، وحذرهم أسباب الندم والفضائح كما قد مر عليك. ويأتي إن شاء الله من الرسائل/في/1
ــــــــــــ
1 كذا في المطبوع. وفي بقية النسخ: من.(3/95)
ص -568- ... التغليظ/في السفر/1 والركون إليه/ بأوضح البراهين والدلائل.
والمنظومة جواب أبيات وردت عليه نحوا من عشرين بيتا. فقال رحمه الله تعالى وعفا عنه: ورد من بعض الأدباء2 ما صورته:
رسائل شوق دائم متواتر ... إلى فرع شمس الدين بد ر المنابر3
سلالة مجد من كرام عشائر ... يعيد بديعا من كنوز المحابر
ويبدي لك التوحيد شمسا منيرة ... ولكن أهل الزيغ عمي البصائر
سقيا لعهدكمو عهد الشريعة والتقى ... وتعظيم دين الله أزكى الشعائر
مدارس وحي شرفت بأكابر ... على ملة بيضاء تبدو لسائر
فيا راكبا سلامي وتحفة ... تعزية فيما قدم مضى والعشائر
وأعظم من ذا يا خليلي كتائب ... تهدم من ريع الهدى كل عامر
ويبدو بها التعطيل والكفر ... والزنا ويعلو من التأذين صوت المزامر
فقد سامنا الأعداء في كل خطة ... وأصل من الإسلام سوم المقامر
أناخ لدينا للضلالة شيعة ... أباحوا حمى التوحيد من كل فاجر
وقابلهم بالسهل والرحب عصبة ... على ملة التوحيد أخبث ثائر
يقولون لكنا رضينا تقية ... تعود على أموالنا والذخائر
فضحك ولهو واهتزاز وفرحة ... وألوان مأكول/ ونشوة/4 ساكر
مجالس كفر لا يعاد مريضها ... يراح إليها في المسا والبواكر
ويرمون أهل الحق بالزيغ ويحهم ... أما رهبوا سيفا لسطوة قاهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": في عدم السفر.
2 هذه الأبيات، وردت على الشيخ من أحد المتمسكين بالدين، يشكو فيها ما آل غليه الحال في المناطق التي استولت عليها عساكر الترك.
3 وردت هذه القصيدة أيضا في مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 114-115.
4 كذا في المطبوع، وفي بقية النسخ: نشأة.(3/96)
ص -569- ... وأما رباع1 العلم فهي دوارس ... تحن إلى أربابها والمذاكر
مصاب يكاد المستجن2 بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت هل من مثابر
فجد لي بِرَدّ منك تبرد لوعتي ... ويحدي به في كل ركب وسامر
وتنصر خلا في هواك مباعدا ... ولولاك لم تبعث له أم عامر
فأكثر وأقل ما لها الدهر صاحب ... سواك فقابل بالمعنى والبشائر
فأجاب –رحمه الله- بما يثلج الصدور، ويبعث الانشراح والسرور، ويبلي القلوب الصوادي، ويحدى به في كل ركب ونادي، وهذا نصه:
رسائل إخوان الصفا والعشائر ... أتتك فقابل بالثنا والبشائر 3
تذكرني أيام وصل تقادمت ... وعهدا مضى للطيبين الأكابر
ليالي كانت للسعود مطالعا ... وطائرها في الدهر أيمن طائر
وكان بها ربع المسرة آهلا ... نُمتَّع في روض من العلم زاهر
وفيها الهداة العارفون بربهم ... ذوو العلم والتحقيق أهل البصائر
محابرهم تعلو بها كل سنَّة ... مطهرة أنعم بها من محابر
مناقبهم في كل مصر شهيرة ... رسائلهم يغدو بها كل ماهر
/وفيها/4 من الطلاب للعمل عصبة ... إذا قيل من للمشكلات البوادر
وفيها الحماة الناصرون لربهم ... معاقلهم شهب القنا والخناجر
وهندية قد أحسن القين 5 صقلها ... جَُرَّبة يوم الوغى والتشاجر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرباع: جمع الربع، وهو الممنزل، والدار بيعنها. وريع القوم محلتهم. لسان العرب 8/102، مادة "ربع".
2 المستحق: المستتر. تقول، استجن فلان، إذا استتر بشيء. لسان العرب 13/93، مادة "جنن".
3 وردت هذه القصيدة أيضا في مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 115-119.
4 في "ب"، "ج", و"د" والمطبوع: وفيهم.
5 القين: الحداد، ويطلق على كل صانع، والجمع: قيون وأقيان. لسان العرب 13/350 مادة "قين".(3/97)
ص -570- ... ورمية خضراء قد ضم جوفها ... من الجمر ما يفري صميم الضمائر
وكانت بهم تلك الديار منيعة ... محصنة من كل خصم مقامر
عدت بهمو تلك الفتون وشُتتوا ... فلست ترى إلا رسوما لزائر
وحل بهم ما حل بالناس قبلهم ... أكابر عرب أو ملوك الأكاسر
وبدَّلت منهم أوجها لا تسرني ... قبائل يام1 أو شعوب الدواسر
يذكرنيهم كل وقت وساعة ... عصائب هلكى من وليد وكابر
وأرملة تبكي بشجو /حنينها/2 ... لها رنة بين الربى والمحاجر
وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... تفوز بها يوم اختلاف المصادر
"فصل"
فيا جرى من مفاسد العساكر والبوادي:
ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسُلت سيوف البغي من كل غادر
وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصر
وأضحى بنوا الإسلام في كل مأزق ... تزورهمو غرث3 السباع الضوامر
وهُتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدي غواة من بواد وحاضر
وجاءوا من الفحشاء ما لا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر
وبات الأيامى في الشتاء سواغبا ... يُبكين أزواجا وخير العشائر
وجاءت غواش بشهد النص إنها ... بما كسبت أيدي الغواة الغوادر
وجر زعيم القوم للشرك دولة ... على ملة الإسلام فعل المكابر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يام: إحدى القبائل المهمة في نجران والجوف. وفي الغالب حيما يقال في نجد: قبيلة يام، ويقصد بها العجمان وآل مرة. وإلى الجنوب والجنوب الغربي ما بين نجد وعسير واليمن فروع كثيرة ليام. قلب جزيرة العرب ص 211-212.
2 في "د": جنينها.
3 الغرث: أيسر الجوع: وقيل: شدّته. لسان العرب 2/172، مادة "غرث".(3/98)
ص -571- ... ووازره في رأيه كل جاهل ... يروح ويغدو آثما غير شاكر
وآخر يبتاع الضلالة بالهدى ... ويختال في ثوب من الكبر وافر
وثالثهم لا يعبأ الدهر بالتي ... تبيد من الإسلام عزم المذاكر
ولكنه يهوى ويعمل للهوى ... ويصبح في بحر من الريب غامر
وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح ... إمام هدى يبني رفيع المفاخر
وينقذهم من قعر ظلما مضلة ... لسالكها حر اللظى والمساعر 1
ويخبرهم أن السلامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكر
فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنز اللهى والذخائر
سعوا جهدهم في هدم ما قد بنى لهم ... مشائخهم واستنصحوا كل/دامر/2
وساروا لأهل الشرك واستسلموا لهم ... وجاءوا بهم مع كل إفك وساحر
ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامر
وباءوا من الخسران/بالصفقة/3 التي ... يبوء بها من دهره كل خاسر
وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكر
وعاد لديهم للواط وللخنا ... معاهد يغدوا نحوها كل فاجر
وشُتَّت شمل الدين وانْبِتَّ حيلة ... وصار مضاعا بين شر العساكر
وأذن بالناقوس والطبل أهلها ... ولم/يرض/4 بالتوحيد حزب المزامر
وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريد في القبائل صائر
فقل للغوي المستجير بضلهم ... ستحشر يوم الدين بين الأصاغر
ويكشف للمرتاب أي بضاعة ... أضاع، وهل ينجو مجير أم عامر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المساعر: جمع مِسْعر، وما ما تسعر به النار، أو ما تحرك به النار من حديد أو خشب.
لسان العرب 4/365 مادة "سعر".
2 في المطبوع: داغر.
3 في المطبوع: بالصفة.
4 في "أ" و"د": لم يرضى.(3/99)
ص -572- ... ويعلم يوم الجمع أي جناية ... جناها وما يلقاه من مكر ماكر
فيا أمة ضلت سبيل نبيها ... وآثاره يوم اقتحام الكبائر
يعز بكم دين الصليب وآله ... وأنتم بهم ما بين راض وآمر
وتهجر آيات الهدى ومصاحف ... ويحكم بالقانون وسط الدساكر
هوت بكمو نحو الجحيم هوادة ... ولذات عيش ناعم غير شاكر
سيبدو لكم من مالك الملك غير ما ... تظنون أن لاقي مزير 1 المقابر
يقول لكم ماذا فعلتم بأمة ... على ناهج مثل النجوم والزواهر
سللتم سيوف البغي فيهم وعطلت ... مساجدهم من كل داع وذاكر
...
وواليتموا أهل الجحيم سفاهة ... وكنتم بدين الله أول كافر
نستيم لنا عهدا أتاكم رسولنا ... به صارخا فوق الذرى والمنابر
فسل ساكن الأحساء هل أنت مؤمن ... بهذا وما يحوى صحيح الدفاتر
وهل نافع للمجرمين اعتذارهم ... إذا دار يوم الجمع سوء الدوائر
وقال الشقي المفتري كنت كارها ... ضعيفا مضاعا بين تلك العساكر
أماني تلقاها لكل متبر ... حقيقتها نبذ الهدى والشعائر
تعود سرابا بعد ما كان لامعا ... لكل جهول في المهامه حائر
فإن شئت أن تحظى بكل فضيلة ... وتظهر في ثوب من المجد باهر
وتدنو من الجبار جل جلاله ... إلى غاية فوق العلى والمظاهر
فهاجر إلى رب البرية طالبا ... رضاه وراغم بالهدى كل جائر
وجانب سبيل العادلين بربهم ... ذوي الشرك والتعطيل مع كل غادر
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المزير: الشديد القلب، القوي النافذ. يقال: أسد مزير: أي قوي شديد. لسان العرب 3/173 مادة "مزر".(3/100)
ص -573- ... وبادر إلى رفع الشكاية ضارعا ... إلى كاشف البلوى عليم السرائر
وكابد إلى أن تبلغ النفس عذرها ... وترفل في ثوب من العفو ساتر
ولا تيأسن من صنع ربك إنه ... مجيب وأن الله أقرب ناصر
ألم تر أن الله يبدي بلطفه ... ويعقب بعد العسر يسرا لصابر
وأن الديار الهامدات يمدها ... بوبل من الوسمي1 هام2 وماطر
فتصبح في رغد من العيش ناعم ... وتهتز في ثوب من الحسن فاخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوسمي: مطر أول الربيع، لأنه يسم الأرض بالنبات، فيصير فيها أثرا في أول السنة.
لسان العرب 12/636، مادة "وسم".
2 كذا في المطبوع. في جميع النسخ: "يهمي".(3/101)
ص -574- ... "الرسالة الثانية والثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الرحمن بن محمد بن جربوع، وقد راسله عبد الرحمن وسأله عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وعن كيفية طلب العلم للمبتدئ، وما يكون سببا لتحصيله.
فأجابه – رحمه الله - على سؤاله على طريق الإيجاز والإجمال، إذ التفصيل يستدعي طولا. فبين له –رحمه الله تعالى- الأصول والقواعد، وأرشده إلى تلك المعارف والمقاصد التي تندرج فيها كل عبادة، وينال بها من رام أسباب نجاته ما أمله وأراده. وبين له حقيقة الموالاة والمعاداة، التي هي على العباد من أوجب الواجبات، مع أنها قد سفت2 عليها السوافي، فانمحت آثارها، وهجم/ عليها/3 ليل الأهواء بكلاكله4، لما أفلت أقمارها.
فيا له من جواب، ما أجزله على إيجازه واختصاره، وما أعظم فائدته لمن ألقى السمع وأصغى بقلبه وأفكاره. وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ المكرم عبد الرحمن بن محمد بن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 288-290، وهي الرسالة رقم "52". وجاءت في "ب" في ص 115-118.
2 أي "ذرت"، تقولك سفت الريح التراب تسفيه سفيا، أي ذرته. وقيل: حملته فهو سفي. جمعه السوافي، أي الرياح اللواتي يسفين التراب. لسان العرب 14/389، مادة "سفا".
3 ساقطة في "ب" و"ج" و"د" والمطبوع.
4 الكلاكل: بفتح الكاف الأول: الجماعات. لسان العرب 11/597، مادة "كلل".(3/102)
ص -575- ... جربوع – سلمه الله تعالى، وسلك بن السبيل المشروع- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته/وبعد/1:
فالخط وصل، وصلك الله ما يرضيه. وتغتبط في خطك بنعمة الإسلام ومعرفة التوحيد في هذا الزمان، زادك الله اغتباطا، وأوزعك شكر هذه النعم التي أنعم بها علينا وعليكم، ووفقنا للعمل الصالح الذي يرضاه.
وتسأل عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه من المعاداة والموالاة، وكيفية طلب العلم للمبتدئ، وما يكون سببا لتحصيله.
فمعرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة، وأن تعبده مخلصا له الدين. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة 2؛ فيدخل في ذلك قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح. وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة. ولذلك فسر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}3 بالتوحيد في العبادة؛ لأن الخصومة فيه. وهو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما 4.
إذا عرفت هذا، عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله، وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره، فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه والعدل/به/5 وتضمن مسبَّة، الله 6 فإن الشرك الأصغر يتضمنها؛ ولهذا ينزه الرب وتقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة من "أ".
2 هذا هو تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- للعبادة. مجموع الفتاوى 10/149.
3 سورة البقرة الآية "21".
4 انظر: جامع البيان للطبري 1/160، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/157.
5 في "أ": بربه.(3/103)
6 إلى هنا نهاية الكلام في لوحة "88/5" وبعده بياض بقدر لوحة كاملة تقريبا وهذا البياض يكمله لوحة "74، 75/ د" المتقدمة، وبها تكمل هذه الرسالة.(3/104)
ص -576- ... من كتابه، كقوله/تعالى/1 {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}2 {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}3، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}4. ومحل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية وواجباتها ومستحباتها، سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، وعملها وسيرها.
فالأول/علم/5 العقائد وهو التوحيد العلمي. وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات؛ من أحسنها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأما الثاني: وهو علم أعمال القلوب وسيرها، المسمى علم السلوك./فقد/6 بسط القول فيه ابن القيم –رحمه الله تعالى- في شرح المنازل7، وفي سفر الهجرتين8.
وأما أعمال الجوارح الظاهرة: فالمصنفات فيها أكثر من أن تحصر. وبالجملة فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر، إذ ما من/عالم/9 إلا وفوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله.
وأما الموالاة والمعاداة: فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"10. وأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة
ــــــــــــ
= يكمله لوحة "74، 75/ د" المتقدمة، وبها تكمل هذه الرسالة.
1 ساقطة في "ج" و"د". وفي المطبوع: "كقوله سبحانه".
2 سورة القصص الآية "68".
3 سورة الصافات الآية "180".
4 سورة يوسف الآية "108".
5 ساقط في "أ" والمطبوع.
6 في "د": وقد.
7 يشير إلى كتاب: مدارج السالكين بين منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لابن القيم "751هـ".
8 وهو كتاب: طريق الهجرتين. لابن القيم.
9 في "ج" و "د": ذي علم.
10 مصنف ابن أبي شيبة 11/48، 13/229، من حديث البراء بن عازب؛ مسند الإمام أحمد 4/286. وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/480، بزيادة: "الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب.." وقال: صحيح الإسناد. ولم يوافقه الذهبي، بل رده بقوله: "قلت: ليس بصحيح، فإن الصعق وإن كان موثقا، فإن شيخه منكر الحديث، قاله البخاري".(3/105)
ص -577- ... البغض1،/ وينشأ/2 عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال. والولي ضد العدو.
وأما كيفية طلب العلم: ففي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا3 إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب..." الحديث4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 9.
ومجموع الفتاوى 11/160-161.
2 في "د" ونشأ.
3 هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الخزرجي، صحابي معروف بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن سنة عشر، ولم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها "17، وقيل 18هـ". أسد الغابة 5/194.
4 وتمامه: "... فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فغن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
صحيح البخاري مع الفتح 3/307، الزكاة، باب وجوب الزكاة. صحيح مسلم بشرح النووي 1/310، الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، واللفظ له. سنن أبي داود 2/242، 243، الزكاة باب في زكاة السائمة. سنن الترمذي 3/21، الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة. سنن النسائي 15/302، الزكاة، باب وجوب الزكاة. سنن ابن ماجه 1/327، الزكاة، باب فرض الزكاة.(3/106)
ص -578- ... ففيه بيان: كيفية/1 والبداءة/ بأصول الدين، وما تضمنته الشهادتان من الأصول الدينية، وبعد ذلك يبدأ/2 بالأهم فالأهم من واجبات الإيمان وأركان الإسلام، وينتقل درجة درجة من الأعلى إلى ما دونه، ثم بعد/ ذلك/3 يتعلم ما يجب/لله/4 من الحقوق في الإسلام، بخلاف ما يفعله بعض الطلبة من الاشتغال بالفروع والذيول. وفي كلام شيخ الإسلام –قدس الله روحه-5: من ضيع الأصول حرم الوصول ومن ترك الدليل ضل السبيل 6.
وأما السبب في تحصيله:
فلا أعلم سببا أعظم وأنفع وأقرب في تحصيل المقصود من التقوى. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}7 وفي الأثر: من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم8.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ب" و"ج" و"د": الكيفية.
2 ساقط في "أ".
3 ساقط في "د".
4 ساقط في "أ".
5 ساقط في "ج" و"د".
6 لم أقف على مصدر كلامه فيما اطلعت عليه.
7 سورة النساء الآية "66".
8 حلية الأولياء لأبي نعيم 10/15. قال أبو نعيم: "ذكر أحمد بن حنبل هذا الكلام عن بعض التابعون، عن عيسى بن مريم، فوهم بعض الرواة أنه ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشار العراقي في المغني عن جمل الأسفار بحاشية الإحياء 1/69، إلى تضعيف أبي نعيم للأثر. الأٍسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة لعلي بن محمد الملا القاري "ت1014هـ"، تحقيق محمد الصباغ، دار الأمانة بيروت، 1391هـ. 1971م، ص 325. كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني، 2/365، وعزاه لأبي نعيم. تذكرة الموضعات لمحمد طاهر بن علي الفتني ص 20. وعزاه لأبي نعيم وضعفه. الدر المنثور للسوطي 1/372. الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد علي الشوكاني "ت250هـ" تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى اليماني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص 286. قال الشوكاني: "رواه أبو نعيم وهو ضعيف".(3/107)
ص -579- ... قال الشافعي –رحمه الله تعالى-:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
/وأخبرني/1 بأن العلم نور ... ونور الله/ لا يهدى/2 لعاصي3
ومن الأسباب الموجبة لتحصيله: الحرص والاجتهاد، قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ}4. ومنها: إصلاح النية وإرادة وجه الله والدار الآخرة فإن النية عليها مدار الأعمال ولا يتم أمر ولا/ تحصل بركته/5 إلا بصلاح القصد والنية6.
وهناك أسباب أخرى تذكر في الكتب المؤلفة في آداب العلم والتعلم 7 ليس هذا محل بسطها.
/وبلغ سلامنا الأخوين المحمدين وسائر الطلبة. ولدينا الشيخ الوالد المكرم، والأخوان والولاد ومحمد آل عثمان بخيير، وينهون السلام، والسلام/8./وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/9.
ــــــــــــ
1 في جميع النسخ: وقال: اعلم. وفي ديوان الشافعي ما أثبته.
2 في جميع النسخ: لا يؤتاه. وفي الديوان ما أثبته. ولعله رواية أخرى للبيت.
3 ديوان الشافعي، تعليق الدكتور محمد زهدي يكن، دار يكن للنشر، ص 88.
4 سورة الأنفال الآية "23".
5 في "د" تحصيل بركة.
6 في "د": تقديم "النية" على "القصد".
وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ...". وسيأتي تخرجه في ص 782.
7 وبعض ما كتب في ذلك: جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله، لابن عبد البر "ت63هـ" ترجم فيه: باب جامع في آداب العالم والمتعلم، 1/125-131. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، لأحمد بن علي الخطيب البغدادي "ت463هـ". كتاب تذكرة السامع والمتكلم، في آداب العالم والمتعلم، لسعد الله بن جماعة الكناني "ت733هـ". وأدب الطلب ومنتهى الأرب، لمحمد بن علي الشوكاني "1250هـ". وغيرها من الكتب المؤلفة في ذلك.
8 زائد في "ب" و"ج" و "د".
9 ساقط في "ب" و"ج" و"د".(3/108)
ص -580- ... "الرسالة الثالثة والثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى علماء الحرمين الشريفين، زادهما الله تشريفا وتعظيما إلى يوم الدين. وسبب ذلك/أنه/2 لما ورد أمر السلطان بأن يعطل الآذان في الحرمين الشريفين، وأن يكشف النساء عن وجوههن/للفجرة والفاسقين/3؛ فحملته الحمية الإسلامية، والغيرة الحنيفية، والأنفة العربية، إلى مكاتبتهم في شأن هذا الفادح العظيم، والحدثان المفضع الذميم، ودفع مفاسد ما أراده أعداء الملة والدين/ من إظهار/4 شعار عباد الصليب وإخوانهم من الكفرة المشركين/5 وتغيير شعائر الإسلام، وهدم معالمه العظام.
واعلم أن الشيخ/ قدس الله روحه، ونور ضريحه/ من أعظم الناس في الغلظة في شأن الشرك والمشركين، ومجاهدة من والاهم أو ركن إليهم، ممن ينتسب إلى الإسلام والمسلمين؛ لكنه تلطف بهذه الرسالة، لعل الله أن يبطل ما قصدوه من الضلالة، وأن/يمحو/6 بذلك ما راموا أهل الغواية والجهالة.
وانظر إلى ما أعطاه الله تعالى من حسن التخلص برسم التحية، لمن نكب عن الطريقة المرضية حيث قال بعد إهداء التحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، ولم يعين إنسانا بعينه، من العلماء المترئسين والمتصدرين للتدريس في حرم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 291-294، وهي الرسالة رقم "53". وجاءت في "ب" في ص 122-125.
2 ساقط في "أ".
3 في "ب" و "ج": لأهل الفسق والمين.
4 في "أ": وإظهار.
5 إلى هنا من قوله "من إظهار" ساقط في المطبوع.
6 في "د": يمحوا.(3/109)
ص -581- ... الرسول والبلد الأمين.
وبهذا يندفع توهم إرادة السهولة واللين مع أولئك المغرضين عن ملة سيد المرسلين، وأن هذه مخالفة لما تقدم من الرسائل، من الغلظة والتخشين. فرحمه الله/وعفا عنه/1 ما أعظم غيرته، وما أحرصه على/إعلاء/2 كلمة الله ولزوم كتابه وسنة رسوله. وهذا نص الرسالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وجعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم، يجددون من اندرس من أعلام الملة والدين تجديدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأكبره تكبيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذير، وداعيا إلى الله فإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله/وأصحابه/3 والذين آمنوا به وعزروه ونصروه، وسلم تسليما كثيرا.
إلى جناب المفضل والشيخ المبجل شيخ المدرسين والمتصدرين بحرم الرسول ومن لديه من العلماء الأفاضل/الفحول/4. بعد إهداء السلام والتحية لأنصار الملة الحنيفية، وحماة الشريعة المحمدية، صدرت هذه الرسالة، وسودت هذه العجالة، لما شاع في البلاد العربية اليمنية منها والعراقية/و/5 التهامية والنجدية، ما دهم الإسلام وعراه، وأناخ بحرمه وحماه، من الخطب العظيم، والهول الجسيم والكفر الواضح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زائد في "ب" و"ج" و"د". وفي المطبوع: "فرحمه الله من إمام".
2 ساقطة في "أ".
3 ساقطة في "أ".
4 في "ج" و"د": والفحول.
5 الواو ساقط في "ب" و"د".(3/110)
ص -582- ... المستبين، والأمر بهدم/أظهر/1 شعار/2 الملة والدين، وأن لا ينادى بالصلوات الخمس في أوقاتها بالتأذين، والأمر بهتك ستر حرم المسلمين وكشف وجوههن للفجرة والفاسقين، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}3 وتطير قلوب أهل الإسلام إعظاماً لشناعته وكفره وردا؛ كيف تهدم قواعد الملة والإسلام، وتظهر شعار الكفر وعبادة الأصنام، وترفع راياتها بين الأنام بالحرم والبلدة الحرام؛ {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}4. أما في الزوايا خبايا، أما للعلم والرجال بقايا، وقد صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم 5 لما وفد عليه بعد أن فر على الشام هاربا: "ما يُفرُّك؟/ أتفرُّ من أن يقال لا إله إلا الله هل تعلم من إله غير الله؟ ما يفرك؟/6 أتفر من أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟"7,.
فتعسا لها من حادثة وقضية، جاءت بهدم الإيمان، والأركان الإسلامية وقلع القواعد النبوية.
يكاد لهذا المستجن بطيبة ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
وقد بلغنا عنكم ما تسر به نفوس المسلمين من رد ذلك الإفك المبين، والواجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة في "أ".
2 في المطبوع: شعائر.
3 سورة مريم الآية "90".
4 سورة هود الآية "116".
5 هو عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد، الأمير الشريف، أبو وهب الطائي، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في وسط سنة سبع، فأكرمه واحترمه. "ت67هـ". أسد الغابة 3/392، تاريخ بغداد 1/189، سير الأعلام 3/163.
6 ساقط في "أ" وفي المطبوع.
7 سنن الترمذي 5/186، التفسير، باب من سورة فاتحة الكتاب. مسند الإمام أحمد 4/378.(3/111)
ص -583- ... علينا وعليكم أعظم من ذلك، من الجد والاجتهاد في رفع أ‘لام أوضح الشرائع والمسالك. وقد تواترت عندنا –بحمد الله- الأخبار عن كافة العرب من جميع الأقطار بإنكار ذلك ورده، والحكم بأنه من أظهر شعار الكفار، ومن فعله وجب معاجلته/بالحرب/1 والدمار. والكل منهم يعاهد على أنه السابق في ذلك الحلبة والمضمار، فاستعينوا بالله واصبروا، واعلموا أن أنصاركم ومددكم جميع أهل الإسلام، وذوو البصائر من أهل النخوة والإقدام، فإياكم إياكم والمداهنة والتساهل في الجهاد والإنكار، فتزل قدم بعد ثبوتها، وتهوى إلى الدرك الأٍسفل من النار.
كفى حزنا بالدين أن حماته ... إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر2
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}3 فتدبروا هذه الآية الكريمة، وتفطنوا لما دلت عليه أداة الشرط، من نفي الإيمان عن من ترك التقوى ولم يأتمر بما أمر به، ولم ينته عما نهي عنه من موالاة أهل الكفر والردى والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب 4، كما هو مقرر عند أهل العلم والهدى.
ونحن نعلم أن الله سينصر دينه، ويُعلي كلمته وأنه لا يصلح عمل المفسدين، ولكن نحب لكم الاعتصام بحبل الله، و الدخول في جملة أنصاره، {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}5.
/والمعهود/6 عن الدولة العثمانية، من عهد السلطان سليم بن السلطان با يزيد،
ــــــــــــ
1 في "أ": في الحرب.
2 لم أعرف قائله.
3 سورة المائدة الآية "57، 58".
4 تقدمت هذه القاعدة في ص 249.
5 سورة الأنفال الآية "10".
6 في "د": والعهود.(3/112)
ص -584- ... من وقت ولايتهم على الحرمين الشريفين، من أوائل القرن العاشر إلى وقتنا، وأوائل عصرنا، هو المبالغة في تعظيم الحرمين الشريفين –زادهما الله تشريفا وتكريما ومهابة وتعظيما- فلعل هذه الحوادث عن بعض النواب والوزراء، الذين لا خبرة لهم بسبيل الرشد والهدى، ولا علم لهم أسباب السعادة والشقاء. و صلى الله على إمام المتقين، و على آله وأصحابه والتابعين آمين.(3/113)
ص -585- ... "الرسالة الرابعة والثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا /-رحمه الله-/2 رسالة إلى الشيخ أبي بكر بن محمد3 آل الملا، المعروفين ببلد الإحساء، وكان أبو بكر هذا وأشياعه متهمين بطريقة الأشاعرة4 وكانوا في حال ظهور أهل الإسلام يخفون ذلك. فكتب هذا الشيخ 5 رسالة إلى بعض إخوانه/ بخطه/6. وكانت مشتملة على ما يمج سماعه من الزور والبهتان، والدفع لصريح السنة والقرآن، كقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه7 ، وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه.
فكتب عليها الشيخ المبجل والإمام الجليل المفضل، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، جوابا بين فيه ما فيها من الزيغ والتعطيل، وأقام على ذلك البرهان والدليل؛ فزعم أنها ليست له، بل لبعض علماء الإحساء. وكان أشعري الاعتقاد، فحكم الشيخ بخط أبي بكر عليه، وأشار برد أباطيله إليه، لأن من اعتنى واشتغل بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، وأقره ما فيها من نفي إثبات الصفات المؤدي إلى التعطيل، وصمم بل زعم أنه لم يظهر له ما فهمه أهل الإثبات للصفات، على ما يليق بعظمة الله
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في 2 294-301، وهي الرسالة رقم "54". وجاءت في "ب" في ص 125-130.
2 في "ج" و"د": قدس الله روحه، ونور ضريحه.
3 لم أعرفه.
4 في المطبوع: بطريق التأويل والتعطيل الكلامية.
5 أي الشيخ أبو بكر.
6 في "أ" والمطبوع: "يحضه"، وفي بقية النسخ ما أثبته، وهو الصواب، لما سيأتي من حكم الشيخ عبد الرحمن بالرسالة لصاحبها بخطه، عند إنكاره لها.
7 الكتاب والسنة يثبتان بأن الله سبحانه وتعالى مستوي على عرشه عال على خلقه. وذلك متواتر فيهما، وليس فيهما وصف له بما ذكره صاحب هذا القول.
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/49.(3/114)
ص -586- ... وجلاله، ونعوت صفاته وكماله، ويدعي مع ذلك أنه لا يعتقد ما فيها، لكنه ما رد ولا أنكر ما اشتملت عليه من البدع والأهواء، ولم يسلك مناه أهل الحق والهدى؛ فدعواه دعوى باطلة جدلية، وسفسطة ظاهرة جلية. ثم إنه كتب يتظلم من تلك الرسالة، وأنها مخالفة لمعتقده 1 ومقاله. فكتب إليه الشيخ عبد اللطيف –قدس الله روحه- هذا الجواب، وأبان ما في كلامه من الزيغ والارتياب، وأن الأدلة والقرائن القوية تدل على استحسانه لتلك الاعتقادات الوبية. فنعوذ بالله من الخذلان ومخالفة السنة والقرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان الجنان2وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان3 وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان.
من الفقير إلى الله سبحانه عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة، وجنبنا سبل الفتنة والشناعة.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد وصلت إليَّ رسالتك إلى شيخنا الوالد –حفظه الله- ومتعنا والمسلمين بحياته. وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت/ فيها/4، بكلام أئمة
ــــــــــــ
1 كذا في المطبوع، وفي جميع النسخ: "معتقد" بإسقاط اللام.
2 هذه إشارة إلى حديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.." الحديث وقد تقدم تخريجه في 241.
3 وفي ذلك قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:8-9].
4 في جميع النسخ: فيه.(3/115)
ص -587- ... الدين، كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين. وهذا القصد منكم.
وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا، إذ/ بذكرك/1 معتقدك وتقريره، والتبري من أهل البدع كالجهمية2 والمعتزلة3 والأشعرية4 والكرامية5 والماتريدية6 يحصل لنا نحن وإياك اتفاق الكلمة، وصلاح الطوية. نسأل الله أن يمن بذلك.
لكنك أسأت بذكر أمور، يحصل منها تفور واشمئزاز، وهذه معاكسة ظاهرة لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني.
من ذلك: أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك، بل لبعض أسلافك من علماء الإحساء، وأنه كان أشعري الاعتقاد؛ اعترفت وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك، وهذا فيه ما لا يخفى من التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، /والدفع لصريح السنة والقرآن، كقولك فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه/7 وأن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، وما نمق من غلطاته ووهلاته.
وأنت مع ذلك لم تتحاش من نقلها وإهدائها إلى الإخوان. وكذلك سميت هذا الرجل وعددته –مع ما ارتكبه- من علماء المسلمين. وما هكذا المعروف من هدي أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده ودفعه في نفس ذلك المزبور، وأنت قد خالفت هديهم، وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم فلا يلومنَّ من أساء به الظن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "ب" و"ج" و "د": بذكر.
2 تقدم التعريف بهم في ص 299.
3 تقدم التعريف بهم في ص 225.
4 تقدم التعريف بهم في ص 57.
5 تقدم التعريف بهم في ص 364.
6 تقدم التعريف بهم في ص 57.
7 ساقط في "أ" والمطبوع.(3/116)
ص -588- ... ثم إن خط الرجل حجة عليه، ودعواه أنه ناقل، دعوى تفتقر إلى إثبات ودليل؛ فلا غرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك.
وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك. وعلى تسليمه، كيف ساغ لك أن تكتب ضدها ولا تبين ما فيه ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان المذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}1 لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن: عرضت نفسك للبلاء فاستهدف.
ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام حتى خرجنا عن المقام، تنبيها لأولي الأفهام ودفعا لكثير من الأوهام.
وهذا تصريح منك بأن أخذك بخطك من باب الوهم، ومن المعلوم أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنزيلا، أن يكون من باب الفراسة، والحكم بالقرائن القوية. ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام،/فسفسطته وجدله/2 مما لا يحتاج برهانه وتقريره لبسط كلام. ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل، أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل والتجهم، مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل، ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها.
هذا لو سلمنا له هذه الدعوى، وتركنا الأدلة والقرائن على استحسانها واعتقادها, وأدهى من هذا وأمر وأوضح/ عند/3 من نظر في خطك واعتبر أنك تقول أنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة، من نفي إثبات الصفات، المؤدي إلى التعطيل، ما فهمه شيخنا الوالد حفظه الله، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان الآية "72".
2 في "أ" و "ب": فسفسطة وجدلة.
3 في "أ" والمطبوع: منه.(3/117)
ص -589- ... لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه، وأن ما دل عليه حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، معدود عند السلف من المتشابه، ونحو هذا من كلامه؛ فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا، فلتبك عقلك النوائح. أين أولو البصائر والأفهام أين المناضلون عن ملة الإسلام ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدلية، فإن صبيان المكاتب –فضلا عن أولي العلوم والمراتب يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل.
وقد كنت أظن بك دوهن هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقة والمخابرة، لا سيما بعد إطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وإنك لا ترضى سبل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدفنك عن سنن الرسول، لكن كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه
ووافقها قطع من الليل مظلم
جوابه: إن الاتفاق والاختلاف، إنما يقع عند ذوي البصائر والعقول والإفهام السليمة في غير صرائح العبارات ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقية. ولا يمتري عاقل –فضلا عن العالم- الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه، يرد زعمك وينافيه.
ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم. وهذا حسن جيد، لكن يعكر عليه ويناقضه قولك بعد: لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء، ينافي بعض ما فيها، فملت إليه، وعولَّتُ لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدي أهل الاستقامة.
وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول، حيث زعمت أنك كنت في حال نقلك متأسيا بما(3/118)
ص -590- ... في الفقه الأكبر، ثم يا هذا، قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في/ المشرَّكة/1 وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها، والرجوع إلى الحق أولى وأحق، ولكن لا يخفي أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد، بخلاف من رجع/عن/2 ذنب يأثم به ولا يؤجر، بل غايته بعد التوبة أن يغفر، ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول، /إذا قضى به أو حكم به، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد 3. كما ذهب إليه عمر ومن تبعه من النقاد؛ بخلاف قضيتك
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع: "المشتركة" وهي أيضا تسمية صحيحة لهذه المسألة؛ وتسمى أيضا بالحمارية وبالحجرية وباليميَّة.
والمشركة: مسألة فرضية، ضابطها: أن يوجد في المسألة:
1- زوج. 2- وذات السدس من أم أو جدة.
3- وإخوة لأم اثنان فأكثر. 4- وأخ شقيق فأكثر، سواء كانوا ذكورا أم إناثا.
ولا بد لهذه المسألة من هذه الأركان الأربعة: فإن اختل واحد منها لم تكن مشرَّكة.
أما قضية عمر رضي الله عنه في المشركة: أنه رضي الله عنه عُرضت عليه هذه المسألة مرتين، فكان رايه فيهما رأيين، أخذ بكل واحد منهما طائفة من العلماء:
الأول: أنه رضي الله عنه قضى فيها أولا بسقوط الشقيق، جريا على الأصل، وهو سقوط العاصب، إذا استغرق الفروض التركة. وهذا مروي أيضا عن علي وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأحمد.
الثاني: أنه في المرة الثانية قضى بالتشريك بين الإخوة من الأم والإخوة الأشقاء في الثلث. ووافقه على هذا جماعة من الصحابة، منهم عثمان، وإحدى الروايتين عن زيد وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، وهو قول شريح وابن المسيب وعمر بن عبد العزيز وابن سيرين ومسروق وطاووس والثوري ومالك والشافعي رحمهم الله.(3/119)
العذب الفائض شرح عمدة الفارض، للشيخ إبراهيم بن عبد الله الفرضي، دار الفكر، ط/2، 1394هـ 1974م، 1/101-102. التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية، للشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله بن فوزان، ط/3، 1407هـ، ص 127-129. حاشية ابن عابدين 5/501، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4/415، الأم للشافعي 4/117، المغني مع الشرح الكبير 7/21-22.
2 في "أ" والمطبوع: من.
3 هذا بالإجماع. انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 105؛ وشرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا ص 155، القاعدة رقم "15".(3/120)
ص -591- ... فإن الأخير مبطل للأول/1. فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه، بل من حيث الرجوع إلى الحق؛ قلت: لأي شيء عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}2 والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه، يقدح في فهم ا لرجل و تأليفه.
ثم إنك تقول: اعلم أني –بحمد الله- غير مستنكف عن قبول الحق، ولا متسكبر ولا مستحقر.
وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعي إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي/قد/3 شاع، ونسخ جهارا، ويعد هو خطاياه وذنوبه، من باب الاجتهاد، وقد اعرضنا عن غير ذلك من علامات بطر الحق.
وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض، فهو منه/اهتمام/4 بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيحتنب، وتهجر مواقع التهم والريب. ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن التهم بشيء يقدح فيه، أو يحط من رتبة ما يحدث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ/محمود/5 قولا وسببا.
ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام. وفي هذا من تزكية نفسك والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول أنا عالم. وقد قال عمر رضي الله عنه: من قال: أنا عالم، فهو جاهل؛ ومن قال: أنا مؤمن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في المطبوع.
2 سورة الزمر الآية "53".
3 ساقطة في "ب" و"ج" "د".
4 كذا في المطبوع. وفي بقية النسخ: اهتماما.
5 في "ج" و "د": "محمودا" وهو خطأ لأن خبر أن.(3/121)
ص -592- ... فهو كافر؛ ومن قال: أنا في الجنة، فهو في النار، انتهى1.
والعالم من يخشى اله، وهذا مأخوذ من قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}2 فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية، كما تقتضي حصر الخشية في العلماء؛ وحقيقة العلم هو ما جاءت به الرسل من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وإثباتا لا تعطيلا، وتنزيها لا تمثيلا، وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له، حبا وإجلالا وتعظيما وذلا وإخلاصا وانقيادا؛ وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل، طاعة لهم وتكريما، وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية، لأن الجاهل لا يحسن السير.
ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم3 من دليله. وأما غير ذلك من أنواع العلوم التي أحدثت بعد خير القرون، في العقائد والعبادة بما لم يشرعن كما عليه كثير ممن يدعي العلم في باب معرفة الله سبحانه/وتعالى/4 فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب عن أهل القوانين الكلامية كالجهمية وغيرهم ممن خرج عن العقائد السلفية. وكما عليه كثير من أهل الطريق والتصوف، فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والعقول، ما لم ترد به هذه الشريعة، وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام؛ فهذا ونحوه-وإن جاز لهم التقليد- فليسوا من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه الحافظ ابن عبد البر5 رحمه الله.
وبالجملة، لو عرفت حقيقة العلم، لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أقف على مصدره.
2 سورة فاطر الآية "28".
3 من هنا "أي من كلمة: من دليله" إلى نهاية هذه الرسالة، بياض في: "أ" و "ج" و"د". وهو مثبت في "أ" والمطبوع. وهو بقدر صفحتين في المطبوع.
4 زائدة في المطبوع.
5 تقدمت ترجمته في ص 520.(3/122)
ص -593- ... من ابتغى معرفة الله سبحانه/ وتعالى/1 مما نصبه مشايخ اليونان والفلاسفة، من الأدلة العقلية، والموازين الكلامية وأخذ عن تلامذتهم الذين نشأوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما/ جاء به الوحي/2 من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، زاعما/منه/3 بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب، وأخبرت به الرسل من صفات الله، معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقة عند ذوي البصائر والأفهام، فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأصاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسل العلم المتبوع.
فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين، وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العباد، الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله/أربابا/4 فأحبهم كحب الله، وذل وخضع واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، وجراء أن يكون الند له شفيعا وعونا.
فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل:
نزلوا بمكة من قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل5
والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر. والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك بمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لمي يعط! نعوذ بالله من الخذلان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زائد في المطبوع.
2 كذا في المطبوع. وفي "أ": جاءت به الوحيان.
3 ساقطة في المطبوع.
4 في "أ": ربه.
5 لم أعرف قائله.(3/123)
ص -594- ... هذا، وفي رسالتك شيء من الهمز والتصنع والمداهنة، والغش والحقد وعدم التثبت. وأن الأولى الإسرار إليك وترك ما كتبته. وكذلك في تسمية من خاض في هذا –أعوام 1 أهل لغو- بالفضول ما لا يخفى على أرباب العقول، ولو شئت أن أبين لك من الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على انك متصف به لفعلت، وسجلت وقررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر. ولو صرحت بما في نفسك من الرد، وسجلت وناضلت، لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه، حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل:
فلست أرى إلا عدوا محاربا ... /و/2 آخر خيرا منه عندي المحارب3
وكان قصدي منك أيها الشيخ أن تكتب ما تعتقده، وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فغن ذلك أجمع للقلوب وأقرب للاتفاق، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}4. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع: عواما.
2 في المطبوع: أو.
3 لم أقف على مصدره.
4 سورة الأحزاب الآية "4".(3/124)
ص -595- ... "الرسالة الخامسة والثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا/ -قدس الله روحه، ونور ضريحه-/2 رسالة؛ وهذا صورة ما وجدته مرسوما، ووضع ما ألفيته مرقوما،/كتبه/3 شيخنا عبد اللطيف بن عبد الرحمن –أدام الله إفادته –إلى بعض الولاة بسبب أنه توسم فيه محبة الخير.
وقبولا للنصيحة: ما صورته4 حفظه الله من طوائف الشيطان، ووفقه للعلم والإيمان:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على ما أسبغ علينا من جزيل نعمائه./واعلم أنه ما حملني على مكاتبتك وابتدائك بالخطاب إلا/5 ما بلغني عنك من الميل إلى الإسلام والسنة، ومحبة أهله ونصرتهم، وهذا من أجل النعم وأفضل العطايا الإلهية، والمنح الربانية، وأنت في مكان وزمان قل خيره، وكثر شره وقبض فيه العلم وفشا الجهل، وكثر الجدال والمراء وتطاولت أهل البدع والأهواء، فإن منَّ الله عليك بقبول الإسلام والسنة ونصرتهما، ومحبة أهلها والقيام بما أمر الله به من أداء الواجبات، وترك الفواحش والمنكرات؛ رجوت لك الظهور والنصر، والإقبال في الدنيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 302-303، وهي الرسالة رقم "55" وجاءت في "ب" في ص 133، وهي ساقطة في "ج".
2 ساقط في "أ".
3 كذا في "د"، وفي "أ" والمطبوع: كتب.
4 هذه المقدمة إلى هنا عند قوله "صورته" فيها تقديم وتأخير في العبارات بين النسختين "أ" و"ب" والمثبت من "أ".
5 في "د" والمطبوع: "واعلم أنه إنما حملني... ما بلغني" بزيادة إنما وإسقاط إلا، وهي عبارة صحيحة أيضا.(3/125)
ص -596- ... والآخرة. وربما كثر لديك/محبوا/1 الدين، والقائم به، واستأنس بك أهل الخير، وصرت حصنا ومعقلا يرجع إليه في نصرة الدين.
ولعمر الله إن هذا من أفضل شعب الإيمان الواجبة، وأعلاها وأحبها إلى الله وأسناها، بل هو أفضل من نوافل العبادة القاصرة. وأين تقع النوافل، ومتى ينتفع بها من أهل نصرة الإسلام والسنة، مع القدرة على ذلك؟ وهل يرجى الخير من رجل يرى حرمات الله تنتهك، ودينه يمتهن، وسنة نبيه تترك وتطرح، ولا يجد من نفسه حمية ولا غيرة، ولا أُنفة من ترك دين الله، ومن معصيته، وهجر ما جاء به رسوله من توحيد الله تعالى والإيمان به؟! هذا الصنف لا يرجى خيره، وإن زعم أنه من عباده المؤمنين الأفراد، فتأمل هذا وليكن منك على بال، قول الشاعر:
قد/رشحوك/2 لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل 3
/هذا، وشيخنا الوالد المكرم، والإمام ينهيان السلام والسلام/4 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د" والمطبوع: محب.
2 في "د": هيوك.
3 البيت لأبي إسماعيل الحسن بن على الطغراني "ت515هـ" في ديوانه تحقيق د. علي جواد الطاهر ود. يحيى الجبوري ص 309.
4 زيادة في "د".(3/126)
ص -597- ... "الرسالة السادسة والثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا – قدس الله روحه، ونور ضريحه - رسالة إلى عبد الله بن علي بن جريس2، وقد راسله عبد الله يسأله عما يورده بعض الملحدين، أن شيخ الإسلام ابن تيمية –قدس الله روحه ونور ضريحه- ذكر أن الإمام أحمد –رحمه الله- كان يصلي خلف الجهمية 3.
فأجاب –رحمه الله- بما يكفي ويشفي، وأن الصلاة خلفهم –لا سيما صلاة الجمعة- لا تنافي القول بتكفيرهم، حيث لا يمكن الصلاة خلف غيرهم. وأما مع إمكان الصلاة خلف غيرهم، فلا لكن إن صلى خلفهم فعليه الإعادة. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله بن علي بن جريس، ألهمه الله الرشد في أمره والكيس.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرسائل من هنا إلى الآخر، جاءت في "أ" و "د" والمطبوع فقط. حيث انتهت نسخة "ب" و"ج". في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 306-309، وهي الرسالة رقم "58" –انظر كتاب: كشف الشبهتين، للشيخ سلمان بن سحمان.
2 تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 97.
3 انظر كلام شيخ الإسلام هذا: مجموع الفتاوى 7/507، 508: ونصه: "مع أن الإمام أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صل خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله".(3/127)
ص -598- ... /والخط/1 وصل، وسرنا عافيتكم. وحال أهل عمان ما تخفاكم، قل/ العلم/2 وفشا الجهل، وتجاسر المبتدعة. والواجب التجرد للدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله حسب الطاقة، ولا سيما بالحجة والبيان. وأحق خلق الله بالجهاد، من يليكم من الجهمية الضلال، ونشر العلم وبيان السنة من أوجب الواجبات. ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين. وهو أنه: /نُسب إلى/3 شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أنه ذكر عن الإمام أحمد –رحمه الله- أنه كان يصلي خلف الجهمية.
وجواب هذا لم سُلم، من /أوضح/4 الواضحات عند طلبة العلم/ وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم/5 والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة6. وقد ذكر من صنف في السنة، تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر 7 وعدَّ اللالكائي –رحمه الله تعالى- منهم عددا يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة 8 وكذا ابن الإمام أحمد عبد الله في كتاب السنة9 والخلال /في كتاب السنة/10 /وابن أبي مليكة 11
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": وخطك.
2 في "د": المعلم.
3 كذا في المطبوع. وفي "أ" و"د": نسب عن.
4 في "أ": "من أصح". وهو خطأ.
5 ساقط في "د".
6 وللإمام أحمد –رحمه الله- كتاب في الجهمية باسم: الرد على الزنادقة والجهمية.
7 وقد تقدم ذكر بعضهم في هامش ص 299.
8 انظر: شرح أصول الاعتقاد للالكائي 2/321 وما بعدها.
9 انظر: كتاب السنة لعبد الله بن أحمد 1/107.
10 ساقط في المطبوع.
11 هو عبد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، زهير بن عبد الله، الإمام الحافظ أبو بكر وأبو محمد القرشي المكي القاضي، ولد في خلافة علي رضي الله عنه "ت117هـ".
سير الأعلام 5/88، تهذيب التهذيب 5/306.(3/128)
ص -599- ... في كتاب السنة/1 وإمام الأئمة ابن خزيمة2 قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم3.
والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة4 لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة5 حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم6. والرواية المشهورة عن الإمام
ــــــــــــ
1 ساقط في "د". وقد ذكر بدله: "ابن أبي شيبة".
2 تقدمت ترجمته في ص 504.
3 تقدم ذكر ذلك في ص 302-3-303، وقد ذكر الإمام ابن القيم ذلك في كافيته 1/290.
4 الجمع والأعياد تصلى خلف كل بر وفاجر، ولا إعادة على من صلى خلفهم. وكان الإمام أحمد – رحمه الله - يشهدها مع المعتزلة، وكذلك غيره من العلماء في عصره.
انظر: المغني مع الشرح الكبير 23/352-353، وهنا صرح شيخ الإسلام رحمه الله بعدم الإعادة قال: "والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها..".
5 مسألة إعادة الجمعة لمن صلى خلف الفاجر، مسألة مختلف فيها؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية "اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع". مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 3/286. ونهى العض عن الصلاة خلف بعض أهل البدع وتصريح بعضهم بوجوب الإعادة، يحمل على من حكم بكفره من الجهمية والقدرية.
انظر: المدونة الكبرى 1/84، شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة 2/732، 733، طبقات الحنابلة 1/168.(3/129)
ويلاحظ أنه لا يحكم ببطلان الصلاة خلف كل قدري وجهمي ورافضي، حتى يثبت كفر ذلك الإمام بعينه، وتثبت الحجة عليه. وعليه يحمل صلاة الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- خلف بعض الجهمية، لأنه لم يكفر هؤلاء الأعيان انظر تفاصيل هذه المسألة، كتاب: موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع، للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، ط/1، 1415هـ ج1/343-372.
6 انظر: المراجع السابقة: المغني 2/21، 22، 24، المبدع 2/65، والفتاوى 23/243، 344، 345.(3/130)
ص -600- ... أحمد هي: المنع من الصلاة خلفهم1.
وقد يُفرق2 بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس3. وعلى هذا القول، فالجهمية في هذه الأزمنة قد بغلتهم الحجة، وظهر الدليل وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد؛ وهذا حقيقة الكفر والإلحاد كيف لا وقولهم يقتضي/من/4 تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده5؛ ويعتمدون من الخيالات
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المراجع السابقة: المغني 2/21، 23؛ المبدع 2/65، والفتاوى 23/341.
وتلك رواية كما ذكره الشيخ المصنف –رحمه الله- وله أيضا رواية أخرى ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية، حين قال: "ولو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكن الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين والإمام في الصلاة بالحج وعرفة ونحو ذلك، فإن المأمون يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، وهذا مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. ولهذا قالوا في العقائد: إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام برا كان أو فاجرا، وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد، فإنها تصلى خلفه الجماعات، فإن الصلاة في الجماعة خير من صلاة الرجل وحده، وإن كان الإمام فاسقا، هذا مذهب جماهير العلماء، أحمد بن حنبل، والشافعي، وغيرهما؛ بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع".
مجموع فتاوى 23/352-353.(3/131)
2 التفريق هنا: أي المنع من الصلاة خلف من قامت عليه الحجة، وأصر على بدعته، وعلى إعلانها والدعوة إليها والدفاع عنها بالحجج. فمن صلى خلفه أعاد، إذ لا عذر له.
أما المبتدع المقلد الذي لا شعور له بوجهة بدعته، غير المعلن لها، فلا إعادة على من صلى خلفه، لأنه يعذر بعدم معرفة حال الإمام. المغني مع الشرح الكبير 2/21.
3 مجموع الفتاوى لابن تيمية 23/342.
4 ساقطة في المطبوع.
5 تقدم الكلام حول هذا في ص 373.(3/132)
ص -601- ... والشبه ما لا يعلم فساده بضرورة العقل، /وبالضرورة/1 من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات، ولبشر المريسي2 /وأمثاله/3 من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين؛ بل/كلامه/4 أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره؛ وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره.
وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره، أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها5. وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم إلى أماكنها ومظانها6.
وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم. ورسالتك وصلت، وسرنا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقطة في المطبوع.
2 تقدمت ترجمته في ص 374.
3 في "د": وأمثالهم.
4 في "د" كامه.
5 انظر مسائل الإمام أحمد، برواية ابنه عبد الله، تحقيق المهنا 2/370، 371 وبرواية أبي داود 42، 43؛ ومختصر الخرقي 1/413، والمغني مع الشرح الكبير 2/148؛ والإنصاف للمرداوي 2/252.(3/133)
6 ومن ذلك: قول الإمام أحمد: "وأرى الصلاة خلف كل بر وفاجر، وقد صلى ابن عمر رضي الله عنهما خلف الحجاج –يعني الجمعة والعيدين" طبقات الحنابلة، لأبي الحسين محمد بن أبي ليلى "526هـ" دار المعرفة بيروت 2/304، 305 وقال ابن قدامة المقدسي: "ونرى الحج والجهاد ماضيا مع طاعة كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة –لمعة الاعتقاد إلى سبيل الرشاد، لموفق الدين عبد الله بن ؛مد بن محمد بن قدامة المقدسي "620"، المكتب الإسلامي ط/4، 1395هـ، ص 39. وانظر قول ابن حزم في جواز ذلك: الفصل في الملل والأهواء والنحل للإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي "ت456هـ" ومعه الملل والنحل للشهرستاني "ت548هـ". مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 5/16-17. وقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 23/333-335.(3/134)
ص -602- ... حسن جوابكم وما فيها من النقول عن أهل العلم،/ونرجو/1 أن الله يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. /بلغ سلامنا الإخوان والأعيان من أهل السنة، وشيخنا الوالد –حفظه الله –والإمام عبد الله بخير وينهيان السلام./2 / وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم/3 .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ"، "د": ونرجوا.
2 زيادة في "د".
3 ساقط في "د".(3/135)
ص -603- ... {الرسالة السابعة والثلاثون}1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –قدس الله روحه، ونور ضريحه- رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد اشتكى إليه منيف، غربة الإسلام- وذكر في رسالته ونظمه معتقده، وما هو عليه من الدعوة إلى دين الله، ومكابدة أعداء الله.
فأجابه الشيخ –رحمه الله/تعالى/2 يحرضه ويحضه على الاستقامة على هذا المعتقد السليم، ومجانبة أصحاب الجحيم، وعلى الاجتهاد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، وأن ما ذكره في شأن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع عند أهل العلم، يعني أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله، وأن الحضر لا يعرفون إلا حكم المواريث، وأن ما هم عليه من السوالف 3 والعادات هو الحق، فمن اعتقد هذا فهو كافر.
وأما من لا يستحل هذا، ويرى أن حكم الطاغوت باطل، وأن حكم الله ورسوله هو الحق، فهذا لا يكفر، ولا يخرج من الإسلام. {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}4. وهذا نص الجواب:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الرسالة تقدمت في "أ" لوحة "111"، ناقصة بدون مقدمة، وقد أتت هناك بعد رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن "والد المصنف" التي زادها الناسخ. ولم يكن ذلك محلها حسب ترتيب جميع النسخ، لذلك أوردتها هنا حيث هي كاملة، وموافقة لجميع النسخ. في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 309-311، وهي الرسالة رقم "59". وقد وردت في الدرر السنية 1/246-247.
2 ساقطة في "د".
3 السوالف: جمع سالفة، وهي الأمور الماضية، والسلف: المتقدم –ابن منظور/ لسان العرب مادة "سلف" 9/158.
4 سورة الأنعام الآية "132".(3/136)
ص -604- ... بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم منيف بن نشاط سلمه الله تعالى وشد حبله بالعروة الوثقى، وأناط ومنّ عليه بالتزام التوحيد والفرح به والاغتباط.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، واسأله اللطيف بي وبكم، في تيسير كل عسير مما جرت به الأقضية الربانية والمقادير. وأحوالنا على ما تعهد من الصحة والسلامة وترادف النعم، لولا غلبة الإعراض عن شكر تلك النعم والتقصير، نشكو إلى الله قلوبنا القاسية، ونفوسنا الظالمة، فنعم المشتكى ونعم المولى ونعم النصير.
وكتابك وصل إلينا مع النظم اللطيف، الصادر عن الأخ منيف، فسرنا بإفصاحه إعلامه بصحتكم وسلامتكم وحسن معتقدكم وطويتكم، فالحمد لله على اللطف والتسديد ومعرفة حقه سبحانه، وما يجب عله على العبيد. فاجتهد في طلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى دين الله وسبيله، فإنك في زمان قبض فيه العلم وفشا الجهل، وبُدل الدين وغُيرت السنن، لا سيما أصول الدين وعمدة أهل الإسلام واليقين في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقد ألحد في هذا من ألحد وأعرض عن الحق فيه من أعرض وجحد، حتى عطلوا صفات الله تعالى، والتي وصف بها نفسه، وتعرف بها إلى عباده، كعلوه على خلقه، واستوائه على عرشه، وكلامه وتكليمه، ومحبته وخلقه ورضاه وغضبه ومجيئه ونزوله، فسلطوا التأويل على ذلك ونحوه، حتى عطلوا الصفات عن حقائقها، وحرفوها عن موضوعها، وصرفوها عن دلالتها، وكذلك الحال في /باب/1 عبادته/ وتوحيده/2 ومعرفة حقه على عبيده، فأكثر الناس
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زائدة في "د".
2 وفي المطبوع: "وحده".(3/137)
ص -605- ... والمنتسبين إلى الإسلام ضلوا في هذا الباب، فصرفوا للأولياء والصالحين والقبور والأنصاب والشياطين، خالص العبادة، ومحض حق رب العالمين،/ كالحب/1 والدعاء والاستغاثة والتوكل، والإجلال والتعظيم، والذل والخضوع، بل غلاتهم صرحوا بإثبات التدبير والتصريف لمعبوداتهم مع الله، فجمعوا بين الشرك في الإلهية، والشرك في الربوبية. وهذا أمر لا يتحاشون عنه بل يصرحون به ويفتخرون، ويدّعون أنهم من أهل الإسلام {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}2 وهذا الشرك لم يصل إليه شرك جاهلية العرب، وقد حرى كما ترى من أناس يقرؤون في القرآن، ويدعون أنهم من أتباع الرسول، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد. وكذلك باب تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع، قد ترك وشد /عند/3 أكثر من يدعي العلم والدين. والعمدة والمرجع إلى أقوال من/يعتقدون/4 علمه، من المنتسبين والمدعين. ولو تكلم أحد بإنكار ذلك، لعد عندهم من البُله والمجانين. هذه أحوال جمهور المتشرعين والمتدينين، فهل ترى فوق هذا/غاية/5 في غربة الحق والدين فعليك بالجد والاجتهاد في معرفة الإيمان، وقبوله وإيثاره، والتواصي به، لعلك أن تنجو من شرك هذا الشرك والتعطيل، الذي طبق الأرض وهلك به أكثر الخلق، جيلا بعد جيل. وأما ما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومن لم يستحل، فهذا هو الذي عليه العمل، وإليه المرجع عند أهل العلم، ولعل الكلام يقع شفاهة إذا وصلت إلينا.
/بلغ سلامنا من لديك من الإيمان في دين الله وأنت بحفظ الله. والسلام/6
ــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د": فالحب.
2 سورة المجادلة الآية "18".
3 في "د" والمطبوع: عن.
4 في "أ" والطبوع: يعتقدونه.
5 ساقطة في "د".
6 زائد في "د".(3/138)
ص -606- ... وصلى الله على محمد/ وآله وصحبه وسلم /1.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساقط في "د".(3/139)
ص -607- ... "الرسالة الثامنة والثلاثون"1
قال جامع الرسائل:
وله أيضا –رحمه الله تعالى وعفا عنه-/2 رسالة إلى منيف بن نشاط، وقد سأله عن قول من يستدل على حل ذبيحة الوثني والمرتد بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}3؛ وعن من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم، ولا فارق أوطانهم 4.
فأجاب –رحمه الله-، وصب عليه من شآيب بره ووالى، وبين له في جواب المسألة الثانية، الفرق بين من عجز عن إظهار عداوة المشركين لأجل الخوف، وأنه يعذر بذلك، وبين وجود العداوة، لأنها لا بد منها، فإن من لم تود العداوة من قلبه، لم يعاد المشركين، بخلاف الأول، فإنها موجودة في قلبه لكن عجز عن إظهارها. فالواجب عليه مفارقة أوطانهم، والبعد عنهم، فإن من لم يهاجر فإنه عاص لله بإقامته بين أظهر المشركين.
وكذلك سأله عمن كان في دار الإسلام ولم يتعلم أصل الدين، ولأجل الجهل بالإسلام يعزر ويوقر أعداء الدين.
فبين له في الجواب أن الناس بتفاوتون تفاوتا عظيما بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات.
فتدبر كلامه –رحمه الله- فإنه قد يتكلم في هذه المسألة من لا علم عنده، ولا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 312-315، وهي الرسالة رقم "60".
2 في "د" والمطبوع: قدس الله روحه.
3 سورة الأنعام الآية "118".
4 تقدمت مسألة الهجرة من بلاد الكفار ف ص 210-216-233-234-246-247.(3/140)
ص -608- ... معرفة بمدارك الأحكام، ويظن أن من لم يعرف الواجبات والمستحبات والمسنونات من الأقوال والأفعال على التفصيل، أنه ممن أعرض عن تعلم هذا الدين. وخلع ربقة الإسلام من عنقه، وفارق المسلمين. وهذا نص الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ/ المكرم/1 منيف بن نشاط، لا زال بين اسمه واسم أبيه ارتباط.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل وصلك والله/ما/2 يرضيه. وتذكر حديث أبي سعيد 3، فقول الرسول مقبول، وعلى العين والرأس محمول. وما دل عليه يحصل إن شاء الله، ولكن أنتم أبيتم إلا/ الخروج/4 والتعلم عند ابن عتيق، وهذا إن شاء الله به كفاية.
فأما مسألة الذبائح ومن استدل على ذبيحة الوثني والمرتد بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}5: فهو من أجهل الناس بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهو كمن يستدل على لبس الحرير بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}6 والجهل بالتأويل وأسباب النزول، ضرورة وصل كبار العمائم، فكيف الحال بالجفاة والعوام!.
واعلم أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}7 فُسِّر بحل
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زائدة في "د".
2 في المطبوع: لما.
3 هو سعد بن مالك بن سنان، أبو سعيد الخدري. تقدم في ص 386. ولم أعرف فيما كان حديثه، فالشيخ لم يشر إلى مضمونه هنا.
4 كذا في المطبوع. وفي "أ" و"د": الخرج.
5 سورة الأنعام الآية "118".
6 سورة الأعراف الآية "32".
7 سورة المائدة الآية "5".(3/141)
ص -609- ... الذبائح1، وأنها هي الطعام. ومفهوم الآية تحريم ذبائح غير أهل الكتاب، من الكفار والمشركين 2، واحتج بهذا أهل العلم. ومفاهيم كلام الله وكلام رسوله/حجج/3 شرعية.
وفسروا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}4 بأن المراد به، ذبيحة المسلم والكتابي، إذا ذكر اسم الله عليه 5، أخذا من مفهوم آية المائدة6، وهذا هو المشهور المقرر، وفي ذلك كلام وأبحاث لا يحتاج إليها في مثل هذا المقام، ولكن من أهمها، أن بعض المحققين ذكر أن الحكمة في تخصيص ذبائح أهل الكتاب، بأنهم يذكرون اسم الله، ولا يذكرون اسم من عبدوه عند الذبائح للأكل واللحم7. وأما ما ذبحوه تقربا إلى غير الله فهو حرام، وإن ذكرت التسمية عليه8. والمقصود ما ذبح للحم.
وذكروا أن تحريم ذبيحة المشرك غير الكتابي، لأنه لا يأتي بالتسمية، ويستحل الميتة9. وهذا نظر منهم لأصل من غلق الحكم بالمظنة، كما علق الحدث بوجود النوم، لأنه مظنة، فقول القائل: إن ذبيحة المشرك تباح إذا ذكر اسم الله، جهل بهذا، وخروج عن سبيل المؤمنين.
ــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: جامع البيان للطبري 6/100، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/51، وتفسير ابن كثير 2/21، وتفسير القاسمي 6/1859.
2 انظر: تفسير ابن كثير 2/22، وتفسير القاسمي 6/1864.
3 في "د": حجة.
4 سورة الأنعام الآية "118".
5 انظر: جامع البيان للطبري 7/11، وتفسير ابن كثير 2/174.
6 أي قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]. وقد تقدم آنفا ذكر مفهومها في كلام المصنف.
7 انظر: تفسير ابن كثير 2/21، وتفسير القاسمي 6/1858-1859.
8 انظر: تفسير ابن كثير 2/21.
9 المرجع السابق نفس الصفحة.(3/142)
ص -610- ... وقول السائل: هل التسمية كلا إله غلا الله فليست مثلها من كل الوجوه. ولا ينظر في ذلك إلى هذا البحث1.
أما المسألة الثانية: وهي قولك: من كان في سلطان المشركين، وعرف التوحيد وعمل به، ولكن ما عاداهم ولا فارق أوطانهم.
فالجواب: إن هذا السؤال صدر عن عدم التعقل لصورة الأمر، والمعنى المقصود من التوحيد، والعمل به، لأنه لا يتصور أنه يعرف التوحيد ويعمل به، ولا يعادي المشركين، ومن لم يعادهم، لا يقال له عرف التوحيد وعمل به، والسؤال متناقض.
وحسن السؤال مفتاح العلم.
وأظن مقصودك: من لم يُظهر العداوة ولم يفارق. ومسألة إظهار العداوة، غير مسألة وجود/ العداوة/2.
فالأول: يعذر به مع العجز والخوف، لقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}3.
والثاني 4: لا بد منه، لأنه يدخل في الكفر بالطاغوت، وبينه وبين حب الله ورسوله تلازم كلي، لا ينفك عنه المؤمن.
فمن عصى الله بترك إظهار العداوة، فهو عاص لله فإذا كان أصل العداوة في قلبه فله حكم أمثاله من العصاة؛ فإذا انضاف إلى ذلك ترك الهجرة، فله نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}الآية5، لكنه لا يكفر، لأن الآية فيها وعيد لا تكفير.
وأما الثاني الذي لا يوجد في قلبه شيء من العداوة، فيصدق عليه قول السائل: لم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ": المبحث.
2 ساقطة في "د".
3 سورة آل عمران الآية "28".
4 في "د": والثانية.
5 في "د": والثانية.سورة النساء الآية "97".(3/143)
ص -611- ... يعاد المشركين، فهذا هو الأمر العظيم، والذنب الجسيم، وأي خير يبقى مع عدم عداوة المشركين، والخوف على النخل والمساكن، ليس بعذر يوجب ترك الهجرة.
قال تعالى:1 {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}2.
وأما المسألة الثالثة: وهو من كان في دار الإسلام، ولا تعلم أصل الدين، ولا قاعدته، ولأجل الجهل بها صار يعزر ويوقر أعداء الدين:
فالجواب: أن يقال: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات، وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ} الآية3 وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً}الآية4 ولكن /عليك/5 أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة،/وإن اختلف التعبير واللفظ، فإن كثيرا يعرف القصد والقاعدة/6 ويعبر بغير التعبير المشهور.
وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضا، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام ومبانيه، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات، ودونه مراتب من التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه.
وأما قوله لأبي شريح7 فليس فيه ما يدل على تحسين الباطل والحكم به، بل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "أ" و "د": زيادة لفظ: "قل" في بداية الآية هنا، وهو خطأ.
2 سورة العنكبوت الآية "56".
3 سورة الأعراف الآية "179".
4 سور طه الآية "124".
5 ساقطة في "د".
6 ساقطة في المطبوع.
7 اختلف في اسمه، فقيل: هو خويلد بن عمرو، أو عكسه، وقيل عبد الرحمن بن عمرو، وقيل =(3/144)
ص -612- ... ذكر وجوها متعددة في معنى ذلك، كلها تفيد البعد والتحريم/ لمثل/1 فعل البوادي.
ومن أحسن ما قيل: إن هذا تحسين لفعل صدر في الجاهلية2 قيل ظهور الشرائع الإسلامية فلما جاء الشرع أبطل ذلك، وإذا جاء نهر الله3 يطل نهر معقل4 "5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هاني وقيل كعب؛ أو شريح الخزاعي الكعبي، صحابي، أسلم يوم الفتح، ونزل بالمدينة. مات سنة "68هـ"، الكنى والأسماء، للإمام مسلم1/429، والإصابة لابن احجر 11/192-193،وتقريب التهذيب 2/434.
أما القول المشار إليه: هو ما جاء في حديث أبي شريح: أنه كان يُكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح". سنن أبي داود 5/240، الدب، باب في تغيير الاسم القبيح. سنن النسائي 8/226، القضاء، باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم. وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، نشر مكتبة التربية العربي لدول الخليج ط/1، 1409هـ -1988م، المكتب الإسلامي بيروت 3/1091.
1 في "د": كمثل.
2 أي أن تحسينه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما أحسن هذا" كان للفعل الذي علمه من أبي شريح، وهو ما كان يصدر منه من حكم مرضي للمتخاصمين. فإنه لا يكون دائما على هذا الوجه إلا إذا كان عدلا. انظر: حاشية السندي على سنن النسائي 8/227. وفتح المجد ص 450، باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك.
3 المراد بنهر الله: المطر والسيل، فإنه يغلب سائر المياه، ويطم على الأنهار كلها.(3/145)
انطر: ريحانة الألبا وزهر الحياة الدنيا لشهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي "977-1069" تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، مطبعة عيسى الحلبي وشركاه، ط/1/1386هـ 1967م 2/232.
4 المراد بنهر معقل: نهر معروف بالبصرة منسوب إلى معقل بن يسار رضي الله عنه: نسب إليه هذا النهر لأنه أجرى على يديه معجم البلدان 5/323-324. وانظر ريحانة الألبا 2/232. ومعقل هو: معقل بن يسار بن عبد الله المزني البصري، أبو علي، من أهل بيعة الرضوان صحابي رضي الله عنه، مات بالبصرة في آخر خلافة معاوية. سير الأعلام 2/576.
5 هذا مثل عربي انظر: ريحانة الألبا 2/232؛. والتمثيل والمحاضرة ص 13.(3/146)
ص -613- ... / بلغ سلامي سعود وإخوانك والسلام/1 ./ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم2.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 زياد في "د".
2 ساقط في "د".(3/147)
ص -614- ... "الرسالة التاسعة والثلاثون"1
قال مجمع الرسائل:
وله أيضا -/قدس الله روحه ونور ضريحه/-2 في توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العبادة كلام، أبلغ فيه غاية البلاغة، وأفصح في ترصينه وترصيعه بأوضح عبارة. فحقيق لمن نصح نفسه، ولها عنده قدر، وأحب سعادتها، وسعى في نجاتها تخليصها، وأراد إفادتها؛ أن يتحقق بما اشتملت عليه من الحقائق والمعارف، ويسيم ثاقب فكره في مروج معانيه، وما احتوى عليه من العلوم النافعة واللطائف، لأن ما اشتمل عليه هو أهم الأشياء وأجل العلوم، وعليه المدار، وعنه السؤال يوم القيامة.
وأمر هذا شأنه، حقيق بأن تنثي عليه/ الخناصر/3 ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض/فيه/4 على الجمر. فتدبره تجده قد أودعه من الكنوز ما لا تجده في المطولات. بأتم عبارة، وأوضح بيان، لأهل العقول المستنيرات،/ وأجلى/5 عن محاسن معانيها غياهب الشكوك والضلالات، وأوهام أرباب الشبه والجهالات، فصارت قرة عيون الموحدين، وقذى في عيون المشركين.
فيا حي يا قيوم يا من له الثنا ... ويا من على العرش استوى فهو بائن
أنله الرضا والعفو فضلا ورحمة ... فإن الفتى يجزى بما هو دائن
وقد بذل المجهود في نصرة الهدى ... وإعلائه حتى علا لا يداهن
وأبدى كنوزاً للعبادة للورى ... لكي يستبين الرشد من هو مائن
ــــــــــــ
1 في المطبوع جاءت هذه الرسالة في ص 319-325، وهي الرسالة رقم "62".
2 بياض في "أ".
3 في "أ": بالخناصر.
4 في "د" والمطبوع: ويقبض عليه.
5 في "د": وجلى.(3/148)
ص -615- ... /أماط/1 القذى عنها وصفى/ معينها/2 ... /لواردها/3 الصادي وماهو شائن
فرد مبتهلا عذبا زلالا فإنه ... يزيل الصدى والحق كالشمس بائن 4
وهذه نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم/ أرشدك الله/5 أن الله/ تعالى/6 خلق الخلق لعبادته 7 الجامعة لمعرفته ومحبته والخضوع له وتعظيمه، والإنابة إليه والتوكل عليه، وإسلام الوجه له. وهذا هو الإيمان المطلق، المأمور به في جميع الكتب السماوية، وسائر الرسالات النبوية.
ويدخل في باب معرفة الله/ تعالى/8 توحيد الأسماء والصفات. فيوصف سبحانه بما وصف به نفسه، من صفات الكمال ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ذلك. ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة.
وجميع ما في الكتاب والسنة، يجب الإيمان به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل9، قال/ الله/10 تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}11؛ فأسماؤه كلها حسنى، لأنها تدل على الكمال المطل، والجلال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في المطبوع. وفي "أ" و "د": وماط.
2 في "أ": معانيها.
3 في "د": لواردتها.
4 الأبيات لجامع الرسائل، الشيخ سليمان بن سحمان.
5 في "د": رحمك الله.
6 ساقطة في "د".
7 وهذا مدلول قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
8 زائدة في "د".
9 هذا مجمل معتقد أهل السنة في الصفات عامة، وقد تقدم في ص 543.
10 لفظ الجلالة ساقط في "د".
11 سورة طه الآية "8".(3/149)
ص -616- ... المطلق، والصفات الجميلة 1؛ فثبت ما /أثبته/2 الرب لنفسه و/ما/3 أثبته رسوله، لا نعطله ولا نلحد4 فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق؛ فإن تعطيل الصفات عما دلت عليه، كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر.
وقد قال مالك بن أنس –رحمه الله- لما سأله رجل فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}5 [كيف استوى]6، فاشتد ذلك على مالك، حتى علته الرحضاء7، إجلالا لله وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال –رحمه الله-: الاستواء معلومن، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة 8 -يريد –رحمه الله- السؤال عن الكيفية.
وهذا الجواب يقال في جميع الصفات، لأنه يجمع الإثبات والتنزيه. ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان بربوبيته العامة، الشاملة لجميع الخلق والتكوين؛ وقيوميتة العامة الشاملة/ لجميع/9 التدبير والتيسير والتمكين.
فالمخلوقات بأسرها مفتقرة/ إلى الله في قيامها وبقائها، وحركاتها وسكناتها، وأرزاقها وأفعالها؛ كما هي مفتقرة/10 إليه في خلقها وإنشائها وأيداعها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: شرح الأسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، لسعيد بن علي القحطاني، ط/1، 1409هـ ص 30-31. وبدائع الفوائد 1/163.
2 في "د": ما أثبت.
3 في "د": وأما.
4 تقدم بيان معنى الإلحاد في أسماء الله تعالى في ص 524.
5 سورة طه الآية "5".
6 ما بين المعقوفتين زيادة مني، لاقتضاء السياق له، ولكون جميع الذين رووا القصة يذكرونه. فلعل سقوطه كان من قبل جامع الرسائل، فتناقله النساخ على ذلك.
7 الرحضاء: العرق، قيل: عرق يغسل الجلد لكثرته. لسان العرب 7/154 مادة "رحض".
8 تقدم تخريج قول الإمام مالك في ص 317.
9 كذا في المطبوع. وفي "أ" و "د": بجميع.
10 ساقطة في "أ" والمطبوع.(3/150)
ص -617- ... قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}1 .
ويدخل في الإيمان، إيمان العبد بتوحيد الإلهية، الذي تضمنته شهادة الإخلاص، لا إله إلا الله؛ فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة بجميع أنواعها، عما سواه تعالى، من مخلوق ومربوب؛ وأثبتت ذلك على وجه الكمال الواجب، والمستحب لله تعالى. فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة، إذ هو الإله الحق، المستقل بالربوبية والملك والعز والغنى والبقاء، وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضر.
فعبادة سواه تعالى، أظلم الظلم2 وأسفه السفه. والقرآن كله/راد/3 على من أشرك بالله في هذا التوحيد،مبطل لمذهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمرا ومرغبا في إسلام الوجه لله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته.
والعبادة في أصل اللغة مطلق الذل والخضوع4. ومنه طريق معبد إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر:
تبارى عناقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبد5
واستعملها/ الشارع/6 في العبادة الجامعة لكمال المحبة، وكمال الذل والخضوع7.
وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ
ــــــــــــ
1 سورة فاطر الآية "15، 16، 17".
2 وذلك أن الشرك بالله أعظم الظلم، وقد وعظ لقمان ابنه بترك الشرك، وأخبره بأنه ظلم عظيم، ذكر الله سبحانه عنه ذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
3 في "د" والمطبوع: رد.
4 تقدم تعريف العبادة اللغوي في ص 310، والاصطلاحي في ص 305.
5 البيت تقدم تخريجه في ص 311، وتقدم أيضا في ص 492.(3/151)
6 ف] "أ": "الشاعر". وهو خطأ.
7 تقدم التعريف الاصطلاحي للعبادة في ص 305.(3/152)
ص -618- ... اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}1.
وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك، أفسدها وأبطلها، ولا تسمى عبادة إلا مع ا لتوحيد. قال ابن عباس: ما جاء في القرآن من الأمر بعبادة الله، إنما يراد به التوحيد2. انتهى.
ويدخل في العبادة الشرعية كل ما شرعه الله ورضيه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كمحبة الله وتعظيمه وإجلاله وطاعته والتوكل والإنابة إليه ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار واليتيم والمملوك والمسكين وابن السبيل.
وكذا النحر والنذر، فإنهما من أجل العبادات، وأفضل الطاعات3. وكذا الطواف ببيته تعالى، وحلق الرأس تعظيما وعبودية؛ وكذا سائر الواجبات والمتسحبات.
فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا 4. والشرك في العبادة ينافي
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر الآية "2، 3".
2 توير المقباس من تفسير ابن عباس، لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، صاحب القاموس "ت817هـ" نشر المكتبة الشعبية 5، 70.
وانظر: جامع البيان للطبري 1/160.
3 كل هذه الأمور ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ضمن العبادة، عند تعريفه للعبادة الشرعية، في مجموع فتواه 10/149-150.(3/153)
4 هذا ما جاء في أقوال المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه لمعاذ رضي الله عنه قال: "يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلت: يا رسول الله افلا ابشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا". صحيح البخاري مع الفتح 6/69، الجهاد، باب اسم الفرس والحمار. صحيح مسلم بشرح النووي، 1/345، 346، الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة. سنن الترمذي 5/27، الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. سنن ابن ماجه 2/447، الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة.(3/154)
ص -619- ... هذا التوحيد ويبطله، كما قال تعالى -لما ذكر خواص أوليائه ومقربي رسله-: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1.
والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم يتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود/ رضي الله عنه/2 أنه قال: يا رسول الله، أي الذنب أعظم قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك"3. والند المثل والشبيه، فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله، فقد أشرك به شركا يبطل التوحيد وينافيه؛ لأنه شيه المخلوق بالخالق، وجعله في مرتبته، ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به تعالى. كما قال الخيل عليه السلام: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}4.
قال الإمام ابن القيم –رحمه الله- "فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره5 وما ظنكم، بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره، فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قديرب، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام الآية "88".
2 زائدة في "د".
3 صحيح البخاري مع الفتح 13/500 التوحيد، باب قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} و13/512. صحيح مسلم بشرح النووي 2/439-440، الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب. سنن أبي داود 2/732، الطلاق، باب في تعظيم الزنا. سنن الترمذي 5/314، التفسير، باب تفسير سورة الفرقان. سنن النسائي 7/89، تحريم الدم، باب ذكر أعظم الذنوب.
4 سورة الصافات الآية "86، 87".(3/155)
5 هذا الجزء "من كلام ابن القيم رحمه الله" إلى هنا ورد في ص 25، من كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم الجوزية "691-751هـ" دار الكتب العلمية، بيروت لبنان. ط/1407هـ 1987م. وذكر قريبا بهذا المعنى: القاسمي في تفسيره 14/46-50، والشوكاني في فتح القدير 4/401. وسيأتي تخريج هذا الجزء نفسه مع بقية كلامه عند نهايته.(3/156)
ص -620- ... /المفرد/1 بتدبير خلقه،/لا يشرك/2 فيه غيره،والعالم بتفاصيل الأمور، فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته على من يستعطفه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم،/والذي/3 يعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط، ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم، وقصور علمهم، فأما القادر على كل شيء،/ الغني بذاته عن كل شيء، العالم4 بكل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء/5 فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه، تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء.و هذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبح، انتهى6.
وإذا عرفت هذا، فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها. وأصلها كمال المحبة، وكمال الذل والخضوع كما تقدم.
هذا سر العبادات وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب، وكمال الخضوع؛ فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة 7 والعبودية، وأثنى عليه سبحانه بذكر أوصافه العلى. فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في "د" والمطبوع: "المتفرد".
2 كذا في الجواب الكافي. وفي "أ" و "د" والمطبوع: لا يشرك.
3 الواو زائد في المطبوع. وكلمة "الذي" كلها لا ودود لها في أصل "الجواب الكافي"
4 في "أ". "العالم له بكل...".
5 ساقط في "د".
6 الجواب الكافي لابن القيم ص 162-163، بتصرف بسيط في النص.
7 محبته سبحانه هو أصل دين الإسلام، الذي يدور عليه قطب رجاه، فكبمالها يكمل إسلام المرء وتوحيده، وبنقصها ينقص.(3/157)
ص -621- ... إليه، لأنه ينقص هذه المحبة1 والخضوع والإنابة والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به، والله لا يغفر أن يشرك به، لأنه يتضمن التسوية بينه تعالى وبين غيره في المحبة والتعظيم. وغير ذلك من أنواع العبادة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}2 أخبر سبحانه وتعالى أن من أحب شيئا دون الله، كما يحب الله، فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}3 بهذه تسوية في المحبة والتأله4 لا في الذات والأفعال والصفات، فمن صرف ذلك لغير إلهه الحق، فقد أعرض عنه وأَبِقَ عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه.
والمحبة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء وغير ذلك؛ وهذا لا يستلزم التعظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذلك أن من جمع بين اثنين، وأشركهما في محبته، لا يكون كمن أخلص حبه لفرد واحد، وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
فنجد في الآية وصف المؤمنين بأنهم أشد حبا لله، م حب المشركين له سبحانه، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله وحده بينما المشركون شاركوا في حبهم بين الله وأندادهم فكان حبهم ناقصا في الجانبين.
وقيل المغنى: أن أصحاب الأنداد يحبونها كحب المؤمنين لله، غير أن المؤمنين أشد حبا لله، من أصحاب الأنداد لأندادهم. وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لربهم.(3/158)