علم الدلالة
أصوله ومباحثه في التراث العربي
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
تصميم الغلاف للفنان : عبد الرحمن مهنا
((
منقور عبد الجليل
علم الدلالة
أصوله ومباحثه في التراث العربي
- دراسة -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء:
إلى كل من يروم أن يغتني بالبحث عن كينونته وسط تراكم معرفي زاخر ...
إلى الذين لا يسأمون أن يرفعوا اللبنة فوق اللبنة ليس لبناء جدار عازل بل لتشييد شرفة لنطل من عليائها على ماضينا السحيق ونستشرف من عليها معالم مستقبلنا ...
وأخيراً إلى من كان صدره رحباً.. لعزلتي ووحدتي مع البحث.. إلى أسرتي..
أهدي إلى أولئك جميعاً هذا العمل.
((
الباب الأول :
مدخل نظري لعلم الدلالة
مدخل عام(1/1)
إن الإسهامات اللغوية لأسلافنا المفكرين في التراث العربي، لم ينل البحث فيها ما يستحقه من عناية واهتمام، فما زالت مجالات كثيرة في التراث العربي اللغوي بكراً تحتاج إلى نظرة لغوية علمية واعية وإن وجدت هناك أبحاث لغوية ذات قيمة إلا أنها محمولة على الرصيد المعرفي للتراث العربي، وتجتر عطاءً معرفياً لأسلافنا الباحثين، ولم يخرج جهدها إذ ذاك من عملية نقل أو تصنيف دون أن يكون لروح العصر الحديث لمسات على هذا التراث ليبعث فيه التجديد. وفي غمرة الصراع بين دعاة الأصالة وأنصار المعاصرة يضيع البحث اللغوي، ويتجرد من كل خلفية علمية حضارية، فإذا نظرنا إلى المعوَّل عليه عند دعاة الأصالة، فإنه لا يعدو أن يكون جرداً سلبياً رتيباً دون أدنى جهد لخرق تلك الرتابة والولوج داخل التراث المعرفي لبحث بنيته الداخلية لكي يسهم في تحقيق النظرية اللسانية العامة، أما فئة أنصار المعاصرة فإنها أقحمت المعطيات اللسانية الغربية في دراستها للظواهر اللغوية العربية، دون أدنى اعتبار لأصالة وخصوصيات الفكر واللسان العربيين وهذا الخلل المنهجي أحدث قطيعة معرفية بين التراث العربي والاحتياجات العلمية اللغوية للإنسان المعاصر، وكان وراء التخلف في مجال البحث العلمي اللغوي المعاصر عند الدارسين العرب، بينما إذا نظرنا- على سبيل المقارنة- إلى الفكر اللغوي الغربي فإننا لا نلمس تلك القطيعة المعرفية بين تراثه العلمي واللساني، ومتطلبات العصر اللغوية ولذلك جاءت أبحاث الدارسين في الغرب، امتداداً لجهود أسلافهم اللغويين وكانت نظرياتهم تتويجاً لتراكمات معرفية في تراثهم التاريخي.(1/2)
إذا أردنا أن نؤسس فكراً عربياً معاصراً في مجال البحث اللغوي، فإننا ملزمون ضرورة بالقيام بعملية جرد للفكر اللغوي لتراثنا العربي، وتمحيصه وتحديد مجالاته وفرز عطاءاته الإيجابية وسقطاته على مستوى الأسس المعرفية في الموضوع والمنهج، وهذا لا يتم إلا بعودة تقويمية حضارية إلى الفكر العربي بشكل عام، والفكر اللغوي بشكل خاص، وتتم هذه العودة عبر تتبع المسار التطوري للدرس اللغوي عند العرب الأقدمين والبحث عن الأسس المعرفية والفلسفية التي انبنى عليها التراث الفكري العربي، وذلك بربطه بالعلوم الإنسانية المختلفة، فنحفظ أصالة تراثنا المعرفي ونقف على المنهج الفكري الذي كان يشرف على تأطير الأبحاث والدراسات في هذا التراث، وبذلك يتحقق مشروع النظرية اللسانية العربية المعاصرة، ويظهر منهجها في مجال العطاء الفكري الإنساني، وبالتالي تكون شرعية النشأة على المستوى المعرفي. هذا المشروع اللساني العربي لا يستقيم له أمر إلا إذا أخذنا بما حققته النظريات اللسانية الغربية، واستوعبنا مادتها استيعاباً واعياً، وحاولنا تكييف هذه النظريات مع خصوصيات اللسان العربي في المجالات المختلفة، وأجرينا إسقاطات منهجية على التراث اللغوي العربي بعد تقويمه وتمحيصه من أجل بعثه بعثاً جديداً وإعادة صياغته صياغة تدفعه لمواكبة التطور الحضاري للمجتمع البشري، مع ضرورة الأخذ بالمناخ الفكري الذي ساد نشأة وترعرع الفكر اللغوي العربي، "لأن فهم المنهج العربي في أي علم من العلوم العربية التراثية ينبغي أن يلتمس من داخل الحياة العقلية العربية ومن خلال المناخ العقلي العام الذي نشأ وتطور وتأصل في ظل القرآن، فمن المعلوم أن المفكرين المسلمين بدأوا بما هو عملي قبل أن يصلوا إلى وضع "منهج نظري" لكل فرع من فروع البحث، وكانت- مثلاً- قراءة القرآن عن طريق التلقي والعرض أسبق من وضع كتب تحدد منهج القراءات ... "(1).
__________
(1) د..علي سامي النشار- مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص31.(1/3)
فإذا تحققت هذه العملية في إطارها العلمي المنهجي ستؤدي حتماً إلى تفكير لساني حديث تتمخض عنه نظرية لسانية عربية قادرة على تقديم التفسير الكافي لكل مستويات الدراسة اللغوية الصوتية والتركيبية والدلالية، بهذه الطريقة نربط الفكر اللغوي العربي القديم بالفكر اللساني العالمي الحديث، لأن التحول العلمي للنظرية اللسانية في العصر الحديث أضحى يتوخى الشمولية في التعامل العلمي مع الظاهرة اللغوية، بوصفها طبيعية إنسانية. قد تغطي اهتمامات الإنسان المعاصر، إذ لم تعد تعترف بالحدود المعرفية مع انتقال العالم اللساني إلى بحث اللسان البشري بحثاً موضوعياً متخذاً اللغة الإنسانية مادة للتطبيق باعتبارها تخضع لنواميس متجانسة تسمح بوضع منهج لساني عام يشمل كل اللغات، وبمثل هذا التعامل الواعي نحمي تراثنا اللغوي بأن ننفخ فيه من روح العصرنة والحداثة فينبعث ليساير التطور الإنساني في كل مجالات الفكر العلمي، ونعيد الصلة التي انبتّت بين تطلعاتنا الفكرية اللغوية المعاصرة، والجهود النظرية المنهجية التي أغنى بها أسلافنا تراثنا المعرفي.(1/4)
وفي هذا المجال النظري البين المعالم يندرج هذا البحث كخطوة مرحلية نحو معاينة لعطاءات التراث العربي في حقل اللغة، مستحضراً الاهتمام في إسهامات عالم من علماء أصول الفقه، وربما كان ارتباط علم الدلالة- موضوع بحثنا النظري- بعلم أصول الفقه، أقوى من ارتباطه بأي علم آخر من العلوم، ذلك أن علماء الأصول قدموا نماذج متقدمة جداً في تعاملهم مع اللغة كمنظومة من العلامات اللسانية الدالة تخضع في حركيتها الخطابية إلى نواميس متحكمة في أداء وظائفها الدلالية، وساهموا منذ أوّل الآماد المبكرة في معالجة مشكلات لغوية، وما أضفى على نتاجهم المعرفي طابع الدقة والموضوعية هو اتخاذهم القرآن الكريم منطلقاً لاستنباط أحكامهم الفقهية العامة بالاستناد على الأحكام اللغوية التي من أظهر خصوصياتها الدلالة، وقد كان هؤلاء العلماء يحملون وعياً معرفياً أملى عليهم أن يتعاملوا مع القرآن الكريم باعتباره كتاب لغة محكمة يحمل شبكة من النواميس العميقة التي تتحكم في ضبط الدلالة بأدوات وقفوا عليها وحددوا على أساسها أحكاماً وقواعد أضحت فيما بعد مبادئ للتشريع. إذن، فالتناول الدلالي في التراث المعرفي العربي كان ضمن اهتمامات لغوية أخرى، امتزج البحث فيه بضروب معارف مختلفة من غير أن يحمل عنواناً مميزاً، له استقلال في موضوعاته ومعاييره الخاصة. فسعياً منا إلى تحقيق مقاربة علمية بين تراثنا الدلالي المتنوع، والمناهج الغربية الحديثة في ميدان علم السيمياء، حصرنا بحثنا في استنطاق بنية التراث اللغوي الدلالي، عند عالم أصولي يعد مفخرة القرن السادس الهجري بما توافر بين يديه من تراكم معرفي زاخر، أخرجه في كتابه الموسوم "بالإحكام في أصول الأحكام" هذا العالم هو سيف الدين الآمدي الذي نوه بعلمه المؤرخ ابن خلدون وذكره ضمن أربعة علماء متقدمين في علم أصول الفقه..(1/5)
إن منهجنا في عرض بنية التفكير الدلالي عند الآمدي يقوم على أساس تفكيكها، والاطلاع على أسسها العلمية، لنعيد تشكيلها تشكيلاً يحفظ لها طابعها المعرفي الأصيل برؤى تتطلع إلى استفادة تخدم العصر وتحرك فاعلية تلك الأصول التراثية الدلالية وتساعد على تنمية قدراتها في عصرنا، خاصة إذا علمنا أن علم الدلالة حديثاً يلقى من بالغ الاهتمام في عصرنا في كل أنحاء العالم، ما يجعله نقطة التقاء لأنواع من التفكير الإنساني يقول (ليش: Leach) (السيمانتيك نقطة التقاء لأنواع من التفكير والمناهج مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم اللغة، وإن اختلفت اهتمامات كلٍّ لاختلاف نقطة البداية(1)."
يقع هذا البحث في بابين رئيسيين: باب نظري عام يضم ثلاثة فصول، حاولت أن أبسط فيها معالم الدرس الدلالي الحديث مستهلاً بالبحث عن نشأة علم الدلالة، منذ عهد الهنود الأوائل ثم اليونان فالرومان وصولاً إلى العصر الوسيط فعصر النهضة إلى أن أعلن (بريال) عن ميلاد علم جديد يعتني بدراسة المعنى اصطلح على تسميته "بالسيمانتيك سنة 1883م. ولم يفتني أن أعاين اهتمامات اللغويين والعلماء العرب القدامى بشأن الدلالة، معاينة سريعة ما دمت خصصت لذلك فصلاً كاملاً في الباب الثاني من البحث، كما اجتهدت أن أرسم إطاراً مفهومياً لماهية الدلالة انطلاقاً من قواميس اللغة، وورودها في القرآن الكريم، وأقوال بعض العلماء العرب القدامى وبعض علماء الدلالة المحدثين من الغرب، وقدمت أهم المباحث التي تشكل موضوعات علم الدلالة الحديث، وختمت ذلك بفصل عرضت فيه لمختلف النظريات الدلالية التي أسست الفكر الدلالي الحديث.
__________
(1) Semantics، ص9.(1/6)
أما الباب الثاني فهو باب تطبيقي، استهللته بتلخيص للمناخ المعرفي العام الذي وفّر- بدون شك- للآمدي، الجو المناسب لكي يؤسس أفكاره الدلالية في كتابه "الإحكام"، واهتديت إلى أن أمثل لكل قرن معرفي تقريباً بعالم تكون لعطاءاته العلمية أكبر الأثر في عصره، وما بعد عصره، وبدأت ذلك من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري.
هذا كان في الفصل الأول أما الفصول، الثاني، الثالث والرابع، فقد عرضت فيهم ما تناوله الآمدي من مسائل تخص الدلالة محاولاً أن أبرز جهوده في ضوء ما خلصت إليه البحوث الدلالية الحديثة، وذلك خدمة للأهداف التي أومأنا إليها في المدخل، ولا أدعي أني أتيت على تحقيق تلك الأهداف كلها، فحسبي إثارتي لمسائل لا زالت لم تمتد إليها اهتمامات الباحثين المعاصرين امتداداً ترتد على إثره تلك المسائل، حية فاعلة في التفكير اللساني الحديث، مع اعتقادي أن الدرس اللغوي بمختلف فروعه هو عند غير اللغويين من علمائنا أغزر وأدق مما هو عند اللغويين في تراثنا المعرفي، وهذا ما يشجع- حقيقة- على استثمار جهود أولئك العلماء فيما يخص إرساء نظرية لغوية شاملة..
إن مسالك البحث في التراث المعرفي تكتنفها الوعور الصعبة، التي لا تقطعها دون أن تنال منك نيلاً يتبدى- دون شك- في مباحثك. فهناك تعترضك اللغة وهي في كامل عنفوانها ونضجها وسلطتها، لغة تنفق معها- ضرورة- صبراً كبيراً لتصل إلى فك شبكتها والولوج إلى نصوصها، وهذا ما عايشته مع لغة الآمدي المنطقية، العلمية، فضلاً على ذلك فإن الرجوع إلى المصادر التي أفاد منها العالم أو التي ذللت مضان كتابه أمر لا غنى عنه، خاصة وأن الآمدي مزج في كتابه "الإحكام" بين علوم العربية وعلم المنطق وعلم أصول الفقه.(1/7)
ولا يفوتني أن أشيد بصنيع جميع أساتذة معهد الأدب- بوهران- معي فلم يدخروا نصحاً أو ملاحظة دون أن يبدو لي بها، وأخص بالتنويه منهم أستاذي المحترم سليمان عشراتي الذي صاحبني مع نشأة بحثي مرحلة مرحلة، ولطالما كنت محتاجاً إلى دفع معنوي فكان يحثني على المضي قدماً في أطوار بحثي، وإني مدين كذلك للأستاذ المحترم أحمد حساني الذي لقيت عنده كل التشجيع، وكانت لملاحظاته القيمة أكبر الأثر في تدرجي في البحث، وكنت آخذ من وقته القسط الكبير ليشرف على مراجعة ما كنت أدونه من فصول ... فلأساتذتي جميعاً مني الشكر والامتنان ... والله ولي التوفيق ...
(((
الفصل الأول:
علم الدلالة: النشأة والماهية
تمهيد:
يرى فريق من الدارسين أن البحث عن المصطلح العلمي في التراث المعرفي العربي القديم، قد لا يقدم للدرس اللغوي الحديث شيئاً ذا أهمية عدا أنه يضع يد الباحث، على التاريخ الأول لميلاد المصطلح ويطلعه على الإطار العام الذي دارت حوله موضوعات "الدراسة" في طورها البدائي، وقد يحصل تطور جذري في مفهوم المصطلح، فينتقل مفهومه من حقل دلالي معين، إلى حقل دلالي آخر خاضعاً لسنن التطور الدلالي الذي يمس بنية اللغة وعناصرها عبر مسارها التاريخي المتجدد، ويخشى على الباحث أن يضيع جهده سدى في خضم البحث عن الولادة الأولية لصيغة المصطلح ودلالته.(1/8)
لكن الموضوعية العلمية في الدرس اللغوي الحديث، تملي بل تفرض على الباحثين ضرورة تأطير بحثهم تأطيراً علمياً دقيقاً، خاصة إذا كان البحث يتوخى تأصيل الدراسة، والتنقيب عن جذورها في التراث المعرفي المتنوع، سعياً منه إلى ربط الحقائق العلمية الحديثة بأصولها الأولى، وإذا كان دور التأريخ للمصطلح العلمي ينحصر في تحديد نشأة هذا المصطلح، وماهيته الأولى تحديداً دقيقاً أو يحيل على الظاهرة اللغوية التي يمكن أن يشرف عليها المصطلح العلمي الحديث، فإن ذلك يعد فضلاً علمياً في غاية الأهمية خاصة إذا صحب ذلك وعي الباحث وتمكنه من أدوات بحثه بكيفية تعينه على الغوص في التراث المعرفي بمنهجية دقيقة ووسائل ملائمة، مما يتيح فرصة التوصل إلى نتائج علمية مؤكدة قد تلقي أضواء على جوانب هامة من التراث العلمي الزاخر وبالتالي تفتح مجالات واسعة لإعادة اكتشاف هذا التراث اكتشافاً علمياً واعياً، بإدراجه ضمن حركية العلوم الحديثة، وسعياً منا إلى تأطير هذه الدراسة وضعنا منهجية واضحة تمثل قاعدة هذا البحث وهي تشمل فصلاً أولاً بعنصريه: نشأة علم الدلالة، والذي عرضنا فيه للمسار التطوري الذي تبلور من خلاله علم الدلالة الذي انفصل من جملة علوم لغوية مختلفة ليختص بجانب المعنى والدلالة، وآخر علم كان لعلم الدلالة معه وشائج متصلة وهو علم الألسنية بمختلف مباحثه. أما العنصر الثاني من هذا الفصل فقد بسطنا فيه ماهية علم الدلالة، ومختلف المفاهيم التي وردت بها كلمة "دلالة" وما يراد فيها بدءاً من نصوص القرآن الكريم باعتباره كتاب ضبط اللغة العربية وأول أسلوب بياني عجز من مجاراته فصحاء العرب وبلغائهم، وإليه انتهى الإنتاج الأدبي واللغوي الذي يمثل قمة ما أبدعته القريحة العربية الجاهلية، ثم نقلنا الشروحات التي وردت في معاجم اللغة المشهورة وتتبعنا مادة "دلّ" وما اشتق منها.(1/9)
وأنهينا هذا العنصر من الفصل الأول بتقديم تعاريف ومفاهيم كل من اللغويين والعلماء العرب الأقدمين، وعلماء الغرب المحدثين حول الدلالة ومتعلقاتها وحقول مباحثها.
أولاً- نشأة علم الدلالة
1-نشأة علم الدلالة: المسار التطوري التاريخي:
لقد استقطبت اللغة اهتمام المفكرين منذ أمد بعيد، لأن عليها مدار حياة مجتمعاتهم الفكرية والاجتماعية، وبها قوام فهم كتبهم المقدسة، كما كان شأن الهنود قديماً حيث كان كتابهم الديني (الفيدا) منبع الدراسات اللغوية والألسنية على الخصوص التي قامت حوله، ومن ثمة غدت اللسانيات الإطار العام الذي اتخذت فيه اللغة مادة للدراسة والبحث. وكان الجدل الطويل الذي دار حول نشأة اللغة قد أثار عدة قضايا تعد المحاور الرئيسية لعلم الألسنية الحديث فمن جملة الآراء التي أوردها العلماء حول نشأة اللغة قولهم: "بوجود علاقة ضرورية بين اللفظ والمعنى شبيهة بالعلاقة اللزومية بين النار والدخان."(1) إن المباحث الدلالية قد أولت اهتماماً كبيراً علاقة اللفظ بالمعنى، وارتبط هذا بفهم طبيعة المفردات والجمل من جهة وفهم طبيعة المعنى من جهة أخرى، فلقد درس الهنود مختلف الأصناف التي تشكل عالم الموجودات، وقسموا دلالات الكلمات بناء على ذلك إلى أربعة أقسام:
1-قسم يدل على مدلول عام أو شامل (مثل لفظ: رجل)
2-قسم يدل على كيفية (مثل كلمة: طويل)
3-قسم يدل على حدث (مثل الفعل: جاء)
4-قسم يدل على ذات (مثل الاسم: محمد)(2)
__________
(1) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة- ص19.
(2) المرجع السابق، ص19.(1/10)
إن دراسة المعنى في اللغة بدأ منذ أن حصل للإنسان وعي لغوي، فلقد كان هذا مع علماء اللغة الهنود، كما كان لليونان أثرهم البين في بلورة مفاهيم لها صلة وثيقة بعلم الدلالة، فلقد حاور أفلاطون أستاذه سقراط حول موضوع العلاقة بين اللفظ ومعناه، وكان أفلاطون يميل إلى القول بالعلاقة الطبيعية بين الدال ومدلوله، أما أرسطو فكان يقول باصطلاحية العلاقة، وذهب إلى أن قسم الكلام إلى كلام خارجي وكلام داخلي في النفس، فضلاً على تمييزه بين الصوت والمعنى معتبراً المعنى متطابقاً مع التصور الذي يحمله العقل عنه. وقد تبلورت هذه المباحث اللغوية عند اليونان حتى غدا لكل رأي أنصاره من المفكرين فتأسست بناء على ذلك مدارس أرست قواعد هامة في مجال دراسة اللغة كمدرسة الرواقيين.(1) ومدرسة الاسكندرية ثم كان لعلماء الرومان جهد معتبر في الدراسات اللغوية خاصة ما تعلق منها بالنحو، وإليهم يرجع الفضل في وضع الكتب المدرسية التي بقيت صالحة إلى حدود القرن السابع عشر بما حوته من النحو اللاتيني، وبلغت العلوم اللغوية من النضج والثراء مبلغاً كبيراً في العصر الوسيط مع المدرسة السكولائية (Scolastique) والتي احتدم فيها الصراع حول طبيعة العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها، وانقسم المفكرون في هذه المدرسة إلى قائل بعرفية العلاقة بين الألفاظ ودلالاتها وقائل بذاتية العلاقة.
__________
(1) الرواقيون (stoiciens) ينتسبون إلى ريتون القيسيوني (ت244ق.م) ربطوا المسائل اللغوية بالفلسفة.(1/11)
وبقي الاهتمام بالمباحث الدلالية يزداد عبر مراحل التاريخ، ولم يدخر المفكرون أي جهد من أجل تقديم التفسيرات الكافية لمجمل القضايا اللغوية التي فرضت نفسها على ساحة الفكر، ففي عصر النهضة، أين سادت "الكلاسيكية" بأنماطها في التفكير والتأليف امتازت الدراسات اللغوية في هذه المرحلة بالمنحى المنطقي العقلي، وأحسن من يمثل هذه الفترة رواد مدرسة (بوررويال) الذين رفعوا مقولة: أن اللغة ما هي إلا صورة للعقل، وأن النظام الذي يسود لغات البشر جميعاً قوامه العقل والمنطق.(1)
وفي حدود القرن التاسع عشر الميلادي، تشعبت الدراسات اللغوية، فلزم ذلك تخصص البحث في جانب معين من اللغة، فظهرت النظريات اللسانية وتعددت المناهج، فبرزت الفونولوجيا التي اهتمت بدراسة وظائف الأصوات إلى جانب علم الفونتيك الذي يهتم بدراسة الأصوات المجردة، كما برزت الأتيمولوجيا التي اعتنت بدراسة الاشتقاقات في اللغة، ثم علم الأبنية والتراكيب الذي يختص بدراسة الجانب النحوي وربطه بالجانب الدلالي في بناء الجملة.
__________
(1) زبير دراقي محاضرات في اللسانيات العامة والتاريخية، ص25.(1/12)
وفي الجانب الآخر من العالم، كان المفكرون العرب قد خصصوا للبحوث اللغوية حيزاً واسعاً في إنتاجهم الموسوعي الذي يضم إلى جانب العلوم النظرية كالمنطق والفلسفة علوماً لغوية قد مست كل جوانب الفكر عندهم، سواء تعلق الأمر بالعلوم الشرعية كالفقه والحديث، أو علوم العربية، كالنحو والصرف والبلاغة، بل إنهم كانوا يعدون علوم العربية نفسها وتعلمها من المفاتيح الضرورية للتبحر في فهم العلوم الشرعية، ولذلك "تأثرت [العلوم اللغوية] بعلوم الدين وخضعت لتوجيهاتها. وقد تفاعلت الدراسات اللغوية مع الدراسات الفقهية، وبنى اللغويون أحكامهم على أصول دراسة القرآن والحديث والقراءات، وقالوا في أمور اللغة بالسماع والقياس والإجماع والاستصلاح تماماً كما فعل الفقهاء في معالجة أمور علوم الدين".(1) ولما كانت علوم الدين تهدف إلى استنباط الأحكام الفقهية ووضع القواعد الأصولية للفقه، اهتم العلماء بدلالة الألفاظ والتراكيب وتوسعوا في فهم معاني نصوص القرآن والحديث. واحتاج ذلك منهم إلى وضع أسس نظرية، فيها من مبادئ الفلسفة والمنطق ما يدل على تأثر العرب بالمفاهيم اليونانية ولذلك يؤكد عادل الفاخوري أنه "ليس من مبالغة في القول إن الفكر العربي استطاع أن يتوصل في مرحلته المتأخرة إلى وضع نظرية مستقلة وشاملة يمكن اعتبارها أكمل النظريات التي سبقت الأبحاث المعاصرة."(2) فالأبحاث الدلالية في الفكر العربي التراثي، لا يمكن حصرها في حقل معين من الإنتاج الفكري بل هي تتوزع لتشمل مساحة شاسعة من العلوم لأنها مدينة "للتحاور بين المنطق وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير والنقد الأدبي والبيان."(3)
__________
(1) فنون التعقيد وعلوم الألسنية: ص26.
(2) علم الدلالة عند العرب، ص5.
(3) المرجع السابق، ص5..(1/13)
هذا التلاقح بين هذه العلوم النظرية واللغوية هو الذي أنتج ذلك الفكر الدلالي العربي، الذي أرسى قواعد تعد الآن المنطلقات الأساسية لعلم الدلالة وعلم السيمياء على السواء، بل إنك لا تجد كبير فرق بين علماء الدلالة في العصر الحديث وبين علماء العرب القدامى الذين ساهموا في تأسيس وعي دلالي هام، يمكن رصده في نتاج الفلاسفة واللغويين وعلماء الأصول والفقهاء والأدباء، "فالبحوث الدلالية العربية تمتد من القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية إلى سائر القرون التالية لها، وهذا التأريخ المبكر إنما يعني نضجاً أحرزته العربية وأصّله الدارسون في جوانبها."(1)
إن هذه الجهود اللغوية في التراث العربي لأسلافنا الباحثين، وتلك الأبحاث التي اضطلع بها اللغويون القدامى من الهنود واليونان واللاتين وعلماء العصر الوسيط وعصر النهضة الأوروبية، فتحت كلها منافذ كبيرة للدرس اللغوي الحديث وأرست قواعد هامة في البحث الألسني والدلالي، استفاد منها علماء اللغة المحدثون بحيث سعوا إلى تشكيل هذا التراكم اللغوي المعرفي في نمط علمي يستند إلى مناهج وأصول ومعايير، وهو ما تجسم في تقدم العالم الفرنسي (ميشال بريال M.Breal) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى وضع مصطلح يشرف من خلاله على البحث في الدلالة، واقترح دخوله اللغة العلمية، هذا المصطلح هو "السيمانتيك" يقول بريال: "إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ هي نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد، نعم، لقد اهتم معظم اللسانيين بجسم وشكل الكلمات، وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنتظم تغير المعاني، وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلادها ووفاتها، وبما أن هذه الدراسة تستحق اسماً خاصاً بها، فإننا نطلق عليها اسم "سيمانتيك" للدلالة على علم المعاني.(2)
__________
(1) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص6.
(2) Les grands courrants de la linguistique moderne. Le roy Maurice- p.46.(1/14)
إن العالم اللغوي (بريال) انطلق- دون ريب- في تحديد موضوع علم الدلالة ومصطلحه من جهود من سبقه من علماء اللغة الذين وفروا مفاهيم مختلفة تخص المنظومة اللغوية من جميع جوانبها يقول الدكتور كمال محمد بشر: "إن دراسة المعنى بوصفه فرعاً مستقلاً عن علم اللغة، قد ظهرت أول ما ظهرت سنة 1839، لكن هذه الدراسة لم تعرف بهذا الاسم (السيمانتيك) إلا بعد فترة طويلة أي سنة 1883 عندما ابتكر العالم الفرنسي (م.بريال) المصطلح الحديث."(1) إلا أن المؤرخين اللغويين لظهور علم الدلالة يجمعون على أن فضل (بريال) يكمن في تخصيصه كتاباً استقل بدراسة المعنى هو كتاب (محاولة في علم المعاني) بسط فيه القول عن ماهية علم الدلالة، وأبدع منهجاً جديداً في دراسة المعنى هو المنهج الذي ينطلق من الكلمات نفسها لمعاينة الدلالات دون ربط ذلك بالظواهر اللغوية الأخرى. ويمكن أن نرسم معالم هذا المنهج اللغوي الجديد انطلاقاً من النص الذي أورده (بريال) في سياق تعريفه بعلم الدلالة:
أولاً: إذا كانت اللسانيات تهتم بشكل الكلمات، فإن علم الدلالة (السيمانتيك) يهتم بجوهر هذه الكلمات ومضامينها.
__________
(1) تأليف ستيفن أولمن، دور الكلمة في اللغة، مقدمة، ص6.(1/15)
ثانياً: الهدف الذي ينشده علم الدلالة هو الوقوف على القوانين التي تنتظم تغيّر المعاني وتطورها، والقواعد التي تسير وفقها اللغة، وذلك بالاطلاع على النصوص اللغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي حثيث إلى التنويع في التراكيب اللغوية لأداء وظائف دلالية معينة، وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة، ولا يكون حاجزاً أمام تطورها وتجددها ويمكن في خضم البحث عن هذه النواميس "خلق" نواميس لغوية جديدة لكي تشرف على النظام الكلامي بين أهل اللغة لأن "عالم اللسان يكون همه الوعي باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلامي"!!(1)
ثالثاً: اتباع المنهج التطوري التأصيلي الذي يقف على ميلاد الكلمات ويتتبعها في مسارها التاريخي، وقد يردها إلى أصولها الأولى "لأن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس مفروضة على الأفراد، تتناقلها الأجيال بضرب من الحتمية التاريخية، إذ كل ما في اللغة- راهناً- إنما هو منقول عن أشكال سابقة هي الأخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية، وهكذا إلى الأصل الأوحد أو الأصول الأولية المتعددة"(2) فالنظام اللغوي، نظام متجدد ما دامت الكلمات لا تخضع لقانون ثابت يلزمها بمدلولاتها، فاللغة تنتظمها نواميس خفية تعود إلى اقتضاءات تعبيرية هي جزء من النظام الكلي الذي تسير وفقه اللغة، وتصرف دلالات تراكيبها.
هذه النقاط الثلاث هي الأطر الكبرى التي يندرج ضمنها منهج (ميشال بريال) في علم الدلالة ومعه تحديد لمجمل فروع البحث في هذا المجال.
2-بين علم الدلالة وعلم اللسانيات:
__________
(1) د. عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية. ص 104
(2) المرجع السابق، ص161.(1/16)
إن نشأة علم الدلالة، لم تكن نشأة مستقلة عن علوم اللغة الأخرى. إنما كان يعد هذا العلم جزءاً لصيقاً بعلم اللسانيات الذي كان يهتم بدراسة اللسان البشري، إلا أن عدم اهتمام علماء اللسانيات بدلالة الكلمات- كما أشار إلى ذلك (بريال)- هو الذي كان دافعاً لبعض العلماء اللغويين إلى البحث عن مجال علمي يضم بحثاً في جوهر الكلمات ودلالاتها، لكي يحددوا ضمنه موضوعاته ومعاييره وقواعده ومناهجه وأدواته وما كان ذلك يسيراً خاصة إذا علمنا ذلك التداخل المتشابك الذي كان يجمع بين علوم اللغة مجتمعة وعلم الألسنية الذي ذهب علماؤه إلى تفريعه إلى مباحث جمعت بين حقول مختلفة من العلوم كما هو شأن اللسانيات النفسية (psycolinguistique)، ومبحث اللسانيات العصبية neuro-linguistique وما إلى ذلك. إن العلم اللساني كان يهتم بوصف الجوانب الصورية للغة ويتجنب الخوض في استبطان جوهر الكلمات ومعانيها الذي أصبح من اهتمامات علم الدلالة (الحديث)، ثم إن ضرورة الإحاطة ببعد اللغة الاجتماعي والثقافي والنفسي وتتبع سيرورة المعنى الديناميكي كل هذه حواجز وقفت أمام علماء اللسانيات، فاستبعدوا بذلك الخوض في دراسة المعنى وركزوا بحوثهم على شكل الكلمات، إلى أن برز علم الدلالة ليسد هذا الفراغ في الدراسات اللغوية من جهة ويعمق البحث في الجانب الدلالي للغة من جهة أخرى، ويجتاز تلك الحواجز التي حالت دون أن يخوض اللسانيون في دراسة المعنى، "لأن علم الدلالة هو ميدان يتجاوز حدود اللسانيات التي يتعين عليها وصف الجوانب الصورية للغة قبل كل شيء، فالدلالة ليست ظاهرة لغوية صرفاً وإذا كان بالإمكان بناء الحقول الدلالية فإنه ينبغي آنذاك الاعتماد على المعطيات الخارجية فقط.. ( ... )
إن بعد اللغة الاجتماعي والثقافي من العوائق التي تقف أمام الدراسات الدلالية الحديثة ويمكن تحديد ذلك فيما يلي:
أ- تعدد القيم الحافة بدلالة الألفاظ المركزية.(1/17)
ب- إن دلالة اللفظ ليست ظاهرة قارة ذلك أنه يمكنها أن تعتني دوماً بحسب التجارب الجديدة (اللغوية وغيرها التي يخبرها المتكلم)"(1).
إن هذه المباحث المتشعبة التي هي من صميم اهتمامات علم الدلالة، هي التي دفعت علماء الألسنية ومنهم التوزيعيين(2) إلى إبعاد دراسة الدلالة من اللسانيات. والحقيقة التي لا مراء فيها أن دراسة المعنى لم تخل منه أي مباحث لغوية سواء أكانت قديمة أم حديثة، ذلك أنه لا يمكن تصور دراسة الكلمات وهي جوفاء خالية من الدلالات. وهذا ما عبر عنه سوسير في سياق حديثه عن الدال والمدلول وشبه اتحاد الكلمات ودلالتها بوجهي الورقة الواحدة.
إن علم الدلالة كمبحث من المباحث اللغوية حسب ماهية اللسانيات، يهتم بحلقة من حلقات علم اللسان البشري، هذه الحلقة تكمن في المظهر الإبلاغي وما يتعلق به، فالرسالة الإبلاغية هي التي تضطلع بنقل دلالة الخطاب إلى المتلقي بحيث يتم- في الحالات العادية- استيعابها استيعاباً كافياً، "فالدراسة اللسانية لا تقف عند تشخيص الحدث اللغوي في مستواه الأدائي، ولكن في سلكه الدائري إذ تهتم اللسانيات بتولد الحدث وبلوغه وظيفته ثم بتحقيقه مردوده عندما يولد رد الفعل المنشود، وهكذا يكون موضوع علم اللسان اللغة في مظهرها الأدائي ومظهرها الإبلاغي وأخيراً في مظهرها التواصلي.(3)
__________
(1) سالم شاكر، مدخل إلى علم الدلالة، ترجمة محمد يحباتين، ص28.
(2) التوزيعية: نظرية تزعمها العالم اللغوي الأمريكي بلومفيلد وهي نظرية عامة للألسنية ترى أن اللغة تتألف من إشارات معبرة تتدرج جميعاً ضمن نظام اللغة لمنطق يكون التعبير على مستويات مختلفة والجملة تحمل إلى مؤلفاتها المباشرة بواسطة قواعد التوزيع والتعويض والاستبدال.
(3) د.عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص81.(1/18)
لقد ولجت اللسانيات كل مجالات الاتصالات الإنسانية حتى غدت ملتقى لكل العلوم الإنسانية واعتمدت في الخطاب بأنواعه، ولا يمكن أن نقيم هذا الدور الرائد في مجالات الحياة للألسنية دون أن نقر بحضور الدلالة في ذلك، كفرع أساسي ومهم في فعالية الخطاب "فاللسانيات تستلهم الظاهرة اللغوية ونواميسها من مصادر لسانية وغير لسانية فتعمد إلى إجراء مقطع عمودي على كل منتجات الفكر، بمنظور مخصوص فبعد البحث عن خصائص الخطاب الإخباري والخطاب الشعري الأدبي، تعمد اللسانيات إلى دراسة نواميس الخطاب العلمي والقضائي والإشهاري والديني والمذهبي.(1)
__________
(1) المرجع السابق، ص168.(1/19)
ولم يكن للألسنية هذا الاهتمام الواسع باللغة الإنسانية، إلا بعد أن ظهرت في أوربا مدارس بنيوية عاينت الظاهرة اللغوية من كل جوانبها: الجانب الصوتي، والجانب المعجمي، والجانب التركيبي والجانب الدلالي، واستقر لديها أن "الألسنية هي دراسة اللغة بحد ذاتها دراسة علمية، وتحليل خصائصها النوعية، بغية الوصول إلى نواميس عملها"(1). وأن "اللغة تنظيم، وهذا التنظيم وظيفي، يتوسله الإنسان للتعبير عن أغراضه ولعملية التواصل" فلم تعد الألسنية تهتم بشكل الكلمات فحسب، بل أعطت لجوهر هذه الكلمات أهمية كبيرة، وذلك بعد ما تأكد لدى علماء الألسنية، أن البحث الألسني يبقى ناقصاً ما لم يهتم بجوانب اللغة جميعها، ويظل حكمه على الظواهر اللغوية يفتقد إلى طابع المعيارية التي تسم ديناميكية اللغة وفعاليتها بسمة التقعيد. ولم يحصل هذا الوعي اللغوي في البحث الألسني إلا مع العلماء اللغويين المتأخرين كالعالم الأمريكي "بلومفيلد" الذي كان يرى أن الدراسة الألسنية، لا تنحصر بدراسة الأصوات والدلالات اللغوية بذاتها، بل تشمل دراسة الارتباط القائم بين أصوات معينة ودلالات معينة ( ... )، وجدير بالذكر أن مفهوم ارتباط الصوت اللغوي بالدلالة، قد تبنته الألسنية بصورة عامة.(2)
__________
(1) ريمون طحان، دينر بيطار، فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص92.
(2) د.ميشال زكريا، انظر الألسنية (علم اللغة الحديث): ص232-233.(1/20)
وبعد هذا التزاوج الذي لزم علم الألسنية الأخذ به، تبين لعلماء اللغة المحدثين أن الجانب الدلالي في اللغة لا يزال البحث فيه هزيلاً كما كان في القديم، وأنه محتاج إلى نظرة أخرى على مستوى البحث وعلى مستوى المنهج، رغم ما قدمته العلوم المستحدثة من نظريات أنارت جوانب مهمة من علم الدلالة كنظريات الإعلام والتواصل والمعلوماتية. يقول في ذلك الكاتبان: ريمون طحان ودينر بيطار طحان: "يقترن الكلام أو الأصوات، بنظريات الدلالة العامة، وكان علم الدلالة الجزء الهزيل من النظريات الألسنية، وقد أصبح يفضل نظريات الإعلام والتواصل والمعلوماتية، مزوداً بمؤشرات سليمة منها أن المتكلمين بلغة واحدة يتبنون المعنى الواحد في الكلام الواحد أو الجملة الواحدة"(1).
__________
(1) فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص105.(1/21)
وبعد ذلك توفر لعلم الدلالة وجود مستقل، وإن بقيت تربطه بعلوم اللغة الأخرى- وخاصة الألسنية- وشائج تتجلى بصورة واضحة في مجالات البحث. حيث يبرز التقاطع بين هذه العلوم مجتمعة. ولكن ما يميز البحث الدلالي، هو عمق الدراسة في معنى الكلمات والتراكيب متخذاً في ذلك منهجاً خاصاً يتوخى المعيارية في اللغة والكلام، "والعلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية وقوام العلوم ليست فحسب مواضيع بحثها وإنما يستقيم العلم بموضوع ومنهج".(1) وتبعاً لذلك اتسع نطاق البحث الدلالي، وأحرز علماء العرب سبقاً في هذا المجال حيث برز لغويون كثيرون وضعوا نظريات مختلفة وأرسوا بذلك قواعد أضحت مدارس دلالية، تنظر إلى قضية "المعنى" بنظريات مختلفة، وداخل المنهج الأوحد للبحث الدلالي ظهرت مناهج فرعية رأى أصحابها نجاعتها في تقديم الأجوبة الكافية لمختلف المسائل التي طرحت في الدراسات الدلالية، والتي عجز عنها البحث اللغوي قبلها، ولكن ما هي القضايا الأساسية التي طرحها الدرس الدلالي الحديث؟ وما هي المباحث اللغوية التي اختص بها علم الدلالة حتى غدت مجالاً خاصة به، تعبر عن خصوصية هذا العلم واستقلاله عن بقية العلوم اللغوية الأخرى؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المباحث التالية.
ثانياً- ماهية الدلالة بين القديم والحديث
I-مصطلح "الدلالة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة:
__________
(1) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص41.(1/22)
تمهيد: الحديث عن المصطلح الدلالي- كيف نشأ وكيف تطور- يدعو إلى تحديد المفهوم اللغوي الأول لهذا المصطلح، لأن الوضع اللغوي الذي تصالح عليه أهل اللغة قديماً، يلقي بظلاله الدلالية على المعنى العلمي المجرد في الدرس اللساني الحديث "فالمصطلح يتشكل مع نمو الاهتمام في أبواب العلم وبالاحتكاك الثقافي."(1) وقد وقع اختلاف بين علماء اللغة المحدثين في تعيين المصطلح العربي الذي يقابل مصطلح "السيمانتيك" بالأجنبية الذي أطلقه العالم اللغوي "بريل" سنة 1883 على تلك الدراسة الحديثة، التي تهتم بجوهر الكلمات في حالاتها الإفرادية المعجمية وفي حالاتها التركيبية السياقية وآلياتها الداخلية التي هي أساس عملية التواصل والإبلاغ، فاهتدى بعض علماء اللغة العرب إلى مصطلح "المعنى" باعتباره ورد في متون الكتب القديمة لعلماء أشاروا إلى الدراسة اللغوية التي تهتم بالجانب المفهومي للفظ كالجرجاني الذي يعرف الدلالة الوضعية، بأنها كون اللفظ بحيث متى أطلق أو تخيل فهم منه معناه للعلم بوضعه.(2) ومن علماء العرب المحدثين الذي استعمل مصطلح "المعنى" الدكتور تمام حسان إذ يقول، في سياق حديثه عن العلاقة بين الرمز والدلالة: "ولبيان ذلك نشير إلى تقسيم السيميائيين للعلاقة بين الرمز والمعنى إلى علاقة طبيعية وعلاقة عرفية وعلاقة ذهنية."(3) وفي مقام آخر يستعمل الكاتب نفسه مصطلحي الدال والمدلول في حديثه عن العلاقة الطبيعية بين الرمز الأدبي ومعناه إذ يقول: "وهناك طريقة أخرى للكشف عن هذه الرموز الطبيعية في الأدب الطريقة هي عزل الدال عن المدلول أو الشكل عن المضمون، ثم النظر إلى تأثير الدال في النفس بعد ذلك".(4)
__________
(1) فايز الداية، علم الدلالة العربي: ص77.
(2) السيد شريف الجرجاني، التعريفات، ص215.
(3) تمام حسان، الأصول، ص318.
(4) المرجع السابق، ص321.(1/23)
وقد آثر لغويون آخرون استعمال مصطلح "الدلالة" مقابلاً للمصطلح الأجنبي: "لأنه يعين على اشتقاقات فرعية مرنة نجدها في مادة (الدلالة: - الدال- المدلول- المدلولات- الدلالات- الدلالي)"(1). ولأنه لفظ عام يرتبط بالرموز اللغوية وغير اللغوية، أما مصطلح "المعنى" فلا يعني إلا اللفظ اللغوي بحيث لا يمكن إطلاقه على الرمز غير اللغوي، فضلاً على ذلك أنه يعد أحد فروع الدرس البلاغي وهو علم المعاني.
فدرءاً للبس وتحديداً لإطار الدراسة العلمية، استقر رأي علماء اللغة المحدثين على استعمال مصطلح "علم الدلالة"، مرادفاً لمصطلح "السيمانتيك" بالأجنبية وأبعدوا مصطلح "المعنى" وحصروه في الدراسة الجمالية للألفاظ والتراكيب اللغوية وهو ما يخص "علم المعاني" في البلاغة العربية.
1-لفظ "الدلالة" في القرآن الكريم:
__________
(1) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص9.(1/24)
لقد أورد القرآن الكريم صيغة "دلّ" بمختلف مشتقاتها في مواضع سبعة تشترك في إبراز الإطار اللغوي المفهومي لهذه الصيغة، وهي تعني الإشارة إلى الشيء أو الذات سواء أكان ذلك تجريداً أم حساً ويترتب على ذلك وجود طرفين: طرف دال وطرف مدلول يقول تعالى في سورة "الأعراف" حكاية عن غواية الشيطان لآدم وزوجه: "فدلاّهما بغرور"(1). أي أرشدهما إلى الأكل من تلك الشجرة التي نهاهما الله عنها. فإشارة الشيطان دال والمفهوم الذي استقر في ذهن آدم وزوجه وسلكا وفقه هو المدلول أو محتوى الإشارة، فبالرمز ومدلوله تمت العملية الإبلاغية بين الشيطان من جهة، وآدم وزوجه من جهة ثانية، وإلى المعنى ذاته، يشير قوله تعالى حكاية عن قصة موسى عليه السلام: "وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون"(2) كما ورد قوله تعالى في سورة "طه" حكاية عن إبليس: "قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى"(3). فهاتان الآيتان تشيران بشكل بارز إلى الفعل الدلالي المرتكز على وجود باث يحمل رسالة ذات دلالة. ومتقبل يتلقى الرسالة ويستوعبها وهذا هو جوهر العملية الإبلاغية التي تنشدها اللسانيات الحديثة، فإذا تم الاتصال الإبلاغي فواضح أن القناة التواصلية سليمة بين الباث والمتقبل. وتبرز العلاقة الرمزية بين الدال والمدلول- قطبي الفعل الدلالي- في قوله تعالى من سورة الفرقان: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً".(4)
__________
(1) الآية رقم 22، انظر تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج13، ص37.
(2) سورة القصص: الآية 12، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج4، ص217.
(3) الآية: 120، انظر تفسير ابن كثير، ج4، ص542.
(4) الآية: 45، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج4، ص120..(1/25)
فلولا الشمس ما عرف الظل، فالشمس تدل على وجود الظل فهي شبيهة بعلاقة النار بالدخان الذي يورده علماء الدلالة مثالاً للعلاقة الطبيعية التي تربط الدال بمدلوله، ويمكن تمثل هذه العلاقة في أي صيغة أخرى، ولقد دلت الأرضة، التي أكلت عصا سليمان عليه السلام حتى خرّ، أنه ميت في قوله تعالى من سورة سبأ: "فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".(1) فتعيين طرفي الفعل الدلالي كما تحدده الآية، ضروري لإيضاح المعنى؛ فالدابة وأكلُها العصا دال، وهيئة سليمان وهو ميت مدلول، فلولا وجود "الأرضة" (الدال) لما كان هناك معرفة موت سليمان- عليه السلام- (دال عليه)، ومن السورة السابقة ورد قوله تعالى: "وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد."(2) فهذه الآية تؤكد على ضرورة وجود إطار للفعل الدلالي، عناصره الدال والمدلول والرسالة الدلالية التي تخضع لقواعد معينة، تشرف على حفظ خط التواصل الدلالي بين المتخاطبين، وإلى المفهوم اللغوي ذاته يشير قوله تعالى على لسان أخت موسى عليه السلام: "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن."(3)
__________
(1) الآية: 14، انظر تفسير الكشاف للإمام الزمخشري، ج5، ص62.
(2) الآية: 7، انظر تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن.
(3) سورة طه: الآية 40، انظر تفسير ابن كثير، ج4، ص506.(1/26)
هذه الآيات التي ورد ذكر لفظ "دلّ" بصيغه المختلفة، تشترك في تعيين الأصل اللغوي لهذا اللفظ، وهو لا يختلف كثيراً عن المصطلح العلمي الحديث ودلالته، فإذا كان معنى اللفظ "دلّ" وما صيغ منه في القرآن الكريم يعني الإعلام والإرشاد والإشارة والرمز، فإن المصطلح العلمي للدلالة الحديثة لا يخرج عن هذه المعاني إلا بقدر ما يضيف من تحليل عميق للفعل الدلالي، كالبحث عن البنية العميقة للتركيب اللغوي بملاحظة بنيته السطحية، أو افتراض وجود قواعد دلالية على مستوى الذهن تكفل التواصل بين أهل اللغة الواحدة، وهو يفسر توليد المتكلم لجمل جديدة لم يكن قد تعلمها من قبل. كما تنص على ذلك القواعد التوليدية التي أشار إليها (تشومسكي) ضمن نظريته التوليدية، فما يمتاز به متكلم اللغة قدرته على إنتاج وفهم جمل لم يسبق له أن أنتجها أو سمعها من قبل".(1)
2-لفظ "دل" في معاجم اللغة:
__________
(1) عبد القاهر غذامي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، ص370.(1/27)
الصورة المعجمية لأي لفظ في اللغة العربية تمثل المرجعية الأولى لهذا اللفظ في القاموس الخطابي، باعتبار دلالته الأولى "فالحالة المعجمية للألفاظ تمثل الصورة الأساسية لمحيطها الدلالي(1)". وكتاب القرآن الكريم، يمثل ذروة ما وصل إليه الخطاب اللغوي القديم من فصاحة اللغة وجودة التعبير والدلالة، فلو تتبعنا لفظ "دل"، وما صيغ منه، في معاجم اللغة المعروفة، لألفينا دلالته لا تبتعد عن ذلك المجال الذي رسمه القرآن الكريم، فيورد ابن منظور قوله حول معاني لفظ دل: "الدليل ما يستدل به، والدليل الدال. وقد دله على الطريق يدله دلالة (بفتح الدال أو كسرها أو ضمها) والفتح أعلى، وأنشد أبو عبيد: إني امرؤ بالطرق ذو دلالات. والدليل والدليلي الذي يدلك". ويسوق ابن منظور قول سيبويه وعلي- كرم الله وجهه- وقد تضمن قولهما لفظ "دل" يقول سيبويه: "والدليلي علمه بالدلالة ورسوخه فيها". وفي حديث علي- رضي الله عنه- في صفة الصحابة: "ويخرجون من عنده أدلة" وهو جمع دليل أي بما قد علموا فيدلون عليه الناس يعني: يخرجون من عنده فقهاء، فجعلهم أنفسهم أدلة، مبالغة."(2)
إن ابن منظور- بما جمع من أمثلة- يرسم الإطار المعجمي للفظ "دل" محدداً المعنى الحقيقي الذي ينحصر في دلالة الإرشاد أو العلم بالطريق الذي يدل الناس ويهديهم. وهذا التصور للدلالة، لا يختلف عن التصور الحديث مما يعني أن المصطلح العلمي (الدلالة) يستوحي معناه من تلك الصورة المعجمية التي نجدها في أساليب الخطاب اللغوي القديم.
__________
(1) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص41.
(2) ابن منظور، انظر لسان العرب، ص394-395.(1/28)
وإلى المعنى ذاته يشير الفيروز أبادي محدداً الوضع اللغوي للفظ "دل" فيقول: " ... والدالة ما تدل به على حميمك، ودله عليه دلالة (ويثلثه) ودلولة فاندل: سدده إليه (..) وقد دلت تدل والدال كالهدي(1)" ... وبهذا الشرح يؤكد الفيروز أبادي ما نص عليه ابن منظور من أن الأصل اللغوي للفظ "دل" يعني هدى وسدد وأرشد.
__________
(1) القاموس المحيط، ج3، ص377.(1/29)
ويترتب على هذا التصور المعجمي توفر عناصر الهدي والإرشاد والتسديد أي توفر: مرشِد ومرشَد ووسيلة إرشاد وأمر مرشَد إليه. وحين يتحقق الإرشاد تحصل الدلالة، وتقابل اللسانيات الحديثة هذا التصور، بتعيين الباث والمتقبل ووسيلة الإبلاغ والتواصل وشروطها، ثم المرجع المفهومي الذي تحيل عليه الرسالة الإبلاغية، وبناء على ذلك فالعمل المعجمي هو عمل دلالي وإن كان (جورج مونان) كما نقل د.فايز الداية ينبه إلى أنه من الضروري عدم الخلط بين علم الدلالة (semantique) والدراسة المعجمية (lexicographie)، هذه التي لا تهتم إلا بوصف فحوى الكلمات كما نراها- في الحالة التقليدية- حين تسجيلها في المعجم(1)". ولكن إذا كان المعجم لا يفي بالغرض في نقل دلالة اللفظ التي تشعب بها الخطاب اللغوي الحديث، فإن إيراد المعنى المركزي هو الذي يعين على مجموعة الحالات الجزئية التي تتباين وتتغاير بعدد السياقات التي تحل فيها(2)، وعلى ذلك فإن الدراسات المعجمية- كما قام بها علماء المعجم- لا يمكن إغفالها أو إسقاطها من الجهود الدلالية العربية- ويبقى السياق المحدد الرئيسي لدلالة اللفظ المتجددة، إذ ذهب بعض العلماء إلى التأكيد أن معنى الكلمة هو مجموع استعمالاتها المختلفة في السياقات المتعددة، "وعلى العموم فإن معاني (دلالات) الكلمات هي نتائج لا يتوصل إليها إلا من خلال تفاعل الإمكانيات التفسيرية لكامل الكلام كما يرى إمبسون."(3) هذا التحديد اللغوي للفظ "دل" كما جاء به الفيروز آبادي ينطوي على جملة من المعطيات اللغوية، يفسرها الدرس اللساني والدلالي الحديث ويحدد أبعادها المعرفية.
__________
(1) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص204-205.
(2) المرجع السابق، ص217.
(3) المرجع نفسه، ص223.(1/30)
أما الزبيدي في معجمه فيشرح لفظ "دل" لغوياً فيقول: " ... وامرأة ذات دل أي شكل تدل به" وينقل عن الأزهري في كتابه "التهذيب" قوله: دللت بهذا الطريق دلالة عرفته ودللت به أدل دلالة، ثم إن المراد بالتسديد إراءة الطريق، دل عليه يدله دلالة ودلولة فاندل على الطريق (سدده إليه). وأنشد ابن الأعرابي:
ما لك يا أعور لا تندل ... وكيف يندل امرؤ وعثول
ومما يستدرك عليه الدليل ما يستدل به، وأيضاً الدال وقيل هو المرشد وما به الإرشاد، الجمع أدلة وأدلاء، قول الشاعر:
شدوا المطي على دليل دائب ... من أهل كاظمة بسيف البحر
أي على دلالة دليل كأنه قال معتمدين على دليل ... قال ابن الأعرابي: دل فلان إذا هدى(1). وتجمع قواميس اللغة على أن الدلالة، تعني الهدي والإرشاد، فدله على الشيء وعليه أرشده وهداه.
3-ماهية الدلالة بين القديم والحديث:
أولاً: الدلالة في تعريفات علماء العرب القدامى
(الأسس والمبادئ النظرية):
__________
(1) الزبيدي، تاج العروس، ج7، ص324-325.(1/31)
إن الأسس النظرية التي انبنى عليها المصطلح العلمي القديم نشأت في رحاب الدرس الفقهي، الذي يتوخى فهم كتاب الله واستنباط الأحكام منه، ولذلك نجد مختلف علوم التراث المعرفي العربي تشترك- إلى حد بعيد- في أدوات البحث ومصطلحاته العلمية، ولا أدل على ذلك أن ظهر فرع من علوم العربية أطلق عليه مصطلح "فقه اللغة"(1) على غرار فقه الشرع، كما استخدم اللغويون القدامى مصطلحات هي من لوازم الفقه الشرعي نذكر منها: مصطلح القياس والسماع والإجماع واستصحاب الحال والاستحسان(2) وما إلى ذلك، ولم يشذ الدرس الدلالي في التراث العربي عن هذه الأسس النظرية باعتباره كان يدور في فلك العلوم التي كانت تهدف إلى فهم كتاب القرآن، بتذليل معانيه واستنباط دلالاته، واقتباس سننه في الإنشاء والتعبير. ويمكن أن نلمس هذا الاهتمام بالدلالة- لدى المتقدمين من العلماء العرب- في ميادين مختلفة من المعارف والعلوم كالمنطق والفلسفة، وأصول الفقه، والتاريخ، والنقد، وبناء على هذه العلوم سنبين تعريفات للدلالة عند كل من: أبي نصر الفرابي (ت 339هـ)، والإمام أبي حامد الغزالي (ت 505هـ)، وعبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ)، والشريف الجرجاني (ت816هـ)، واختيارنا لهؤلاء الأعلام ارتكز أساساً على عدة اعتبارات كان أهمها وضوح الاهتمام بالتنظير الدلالي الذي يبدو بارزاً في مؤلفات هؤلاء العلماء، وسنقتصر على تقديم ماهية الدلالة عند علماء العرب القدامى تقديماً موجزاً بالقدر الذي يبرز مفاهيمها وتعريفاتها، ذلك أن دراسة الدلالة في التراث العربي القديم بكيفية مفصلة سيشتمل عليه الفصل الأول من المدخل التطبيقي الذي يحمل عنوان: جهود العرب القدامى في الدراسة الدلالية..
__________
(1) أول مؤلف حمل عنوان فقه اللغة هو كتاب الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها لابن فارس.
(2) ريمون طحان، دينر بيطار ضحاك، فنون التقعيد وعلوم الألسنية، ص26.(1/32)
I-مفاهيم الدلالة عند الفرابي (ت 339هـ):
لقد اقترن اسم الفرابي في التراث العربي بميدانين من ميادين الثقافة الإسلامية وهما: ميدان علم المنطق وميدان علم الفلسفة، وصلة هذين الميدانين بعلوم اللغة لا تخفى على أي مطلع ودارس للتراث المعرفي العربي، فالفرابي كان يرى ضرورة الأخذ بعلوم العربية وقوانينها وسننها في التعبير والخطاب، لأنها أدوات أساسية في البحث المنطقي والفلسفي، واهتمام الفرابي بعلوم العربية يستشف من خلال مؤلفاته في المنطق والفلسفة، ولا نكاد نعثر عنده على تنظير للدلالة ومتعلقاتها، إلا بقدر ما له ارتباط بهذين العلمين، ومن جملة المسائل الدلالية التي بحثها الفرابي ما يلي:
أ-أقسام الألفاظ باعتبار دلالتها:
اهتم الفرابي اهتماماً بالغاً بالألفاظ، فصنفها إلى تصنيفات عدة، بل إنه وضع لها علماً خاصاً سماه "علم الألفاظ" الذي عده من فروع علوم اللسان التي قسمها إلى سبعة أقسام وهي: "علم الألفاظ المفردة وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة، وقوانين الشعر."(1)
ودراسة الفرابي للألفاظ لا يمكن تصورها بمعزل عن الدلالة، فلا وجود لألفاظ فارغة الدلالة في علمي المنطق والفلسفة، إنما الألفاظ ودلالاتها وجهان لعملة واحدة، مما سيسمح ذلك في القرون المتأخرة إلى إبراز جملة من العلاقات الدلالية الناتجة عن اتحاد الدال بمدلوله، وهو ما ظهر جلياً في العصر الحديث في مباحث دسوسير الذي وضع مصطلح الدليل اللساني (le signe linguistique) على اتحاد اللفظ بالمعنى، قطبي الفعل الدلالي.
__________
(1) الفرابي، إحصاء العلوم، ص159.(1/33)
إن المستوى الذي تتم فيه الدراسة الدلالية عند الفرابي هو مستوى الصيغة الإفرادية وهو يطلق عليه في الدرس الألسني الحديث بالدراسة المعجمية، التي تتناول الألفاظ بمعزل عن سياقها اللغوي، فتدرس دلالاتها وأقسامها ضمن حقول دلالية تنتظم فيها وفق قوانين حددها علماء الدلالة وذلك لإدماجها في استعمال لغوي أمثل. يقول الفرابي مشيراً إلى هذه الدراسة: "الألفاظ الدالة منها مفردة تدل على معان مفردة ومنها مركبة تدل على معان مفردة ... والألفاظ الدالة على المعاني المفردة ثلاثة أجناس: اسم وكلمة [فعل] وأداة [حرف] وهذه الأجناس الثلاثة تشترك في أن كل واحد منها دال على معنى مفرد"(1) فأقسام الألفاظ باعتبار دلالتها تنتظم في قسمين، ألفاظ مفردة ذات دلالة مفردة، ومعيار اللفظ المفرد هو ما يدل جزؤه على جزء معناه، فدلالته قابلة للتجزئة، أما قسم الألفاظ المركبة ذات الدلالة المفردة فهي على نقيض الألفاظ المفردة، إذ هي غير قابلة لأن تتجزأ دلالتها، وتعرف بأنها ما لا يدل جزؤه على جزء معناه، يقدم ابن سينا تمثيلاً لذلك بقوله: "اللفظ المفرد: هو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة أصلاً حين هو جزؤه مثل تسميتك إنساناً بعبد الله فإنك حين تدل بهذا على ذاته، لا على صفته من كونه "عبد الله" فلست تريد بقولك "عبد" شيئاً أصلاً. فكيف إذا سميته بـ"عيسى"؟ بلى، في موضع آخر تقول "عبد الله" وتعني بـ"عبد" شيئاً، وحينئذ يكون "عبد الله" نعتاً له، لا اسماً وهو مركب لا مفرد".(2) ولم يخرج تقسيم ابن سينا للألفاظ عما وضعه الفرابي قبله في كتابه "في المنطق".
ب-ما يقوم به مقام اللفظ المفرد من الأدوات الدالة:
__________
(1) الفرابي، العبارة، كتاب في المنطق، ص74.
(2) الإشارات والتنبيهات، ج1، ص191.(1/34)
لقد قسم الفرابي الألفاظ الدالة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والأداة. وإذا كانت دلالة الاسم والفعل واضحة، فإن دلالة الأداة قد يكتنفها غموض، يشرح الفرابي في كتابه "الحروف" هذه المسألة ويفيض البحث فيها، ففي مقام حصره لاستخدامات الحرف "ما" يقول: "يستعمل [ما] في السؤال عن شيء ما مفرد، وقد يقرن باللفظ المفرد والذي للدلالة عليه أولاً وهو الشيء الذي جعل ذلك اللفظ دالاً عليه".(1) فالحروف ليست لها دلالة في ذاتها إنما قيمتها الدلالية فيما تشير إليه، واللفظ لا يدل على ذاته إنما يدل على المحتوى الفكري الذي في الذهن، وفي هذا الإطار يشرح الفرابي استعمالات لفظ "موجود" فيقول: "الموجود لفظ مشترك يقال على جميع المقولات والأفضل أن يقال إنه اسم لجنس من الأجناس العالية على أنه ليست له دلالة في ذاته."(2)
ج-الدلالة محتواه في النفس:
إن العلاقة التي تربط الدال بمدلوله في علم المنطق، لا يمكن أن تترك دون قواعد أو قوانين، لأن علم المنطق يهدف إلى عقلنة الأفكار بإخضاعها إلى قوانين تنتظم في إطارها، ولهذا يطلق الفرابي على المعاني أو الدلالات مصطلح منطقي هو "المعقولات" التي يكون محلها النفس التي يتم فيها تصحيح المفاهيم برؤية منطقية، يقول الفرابي في ذلك: "وأما موضوعات المنطق وهي التي تعطي القوانين فهي المعقولات، من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات وذلك أن الرأي إنما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروّي ونقيم في أنفسنا أموراً ومعقولات شأنها أن تصحح ذلك الرأي."(3)
فالنظرية الدلالية عند الفرابي، لا تخرج عن إطار علاقة الألفاظ بالمعاني ضمن القوانين المنطقية، ويمكن أن نجمل تعريف الفرابي لعلم الدلالة بأنه الدراسة التي تنتظم وتتناول الألفاظ ومدلولاتها، وتتبع سنن الخطاب والتعبير لتقنينه وتقعيده.
__________
(1) الحروف، ص166.
(2) المصدر السابق، ص115.
(3) إحصاء العلوم، ص167.(1/35)
II-مفاهيم الدلالة عند الغزالي (ت: 505):
إن مفهوم الدلالة عند الغزالي ينبغي أن ينظر إليه من زاوية الثقافة الأصولية، ذلك أن الأحكام التي استنبطها من القرآن الكريم- خاصة- استند فيها على أسس نظرية نجدها بشكل واضح في كتابه "المستصفى من علم الأصول". وتعود هذه الأسس أصلاً إلى فهم عميق للدلالة، "وإن كانت وضعت لتطبق في فهم النصوص الشرعية، ولكنها تطبق أيضاً في معاني أي نص غير شرعي ما دام مصوغاً في لغة عربية"(1) والتفسير الدلالي الذي توصل إليه الغزالي، يدل على أن هذا العالم الفيلسوف قد تجاوز البحث عن ماهية الدلالة إلى البحث عن جوهر الدلالة وفروعها، فبنظرة مقتضبة إلى بعض نصوصه في كتابه المشار إليه آنفاً، تجده يذكر أصنافاً لمعان قد حددها علماء الدلالة المحدثون كالمعنى الإرشادي أو الإيمائي، والمعنى الاتساعي، والمعنى السياقي، وإن كان الغزالي يسميها بمصطلحات أصولية وهي على الترتيب دلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب، وكل دلالة عند الغزالي قد تنقسم إلى دلالات فرعية يقول معرفاً دلالة الاقتضاء، بأنها هي التي لا يدل عليها اللفظ ولا يكون منطوقاً بها ولكن تكون من ضرورة اللفظ.(2) وكيف تكون دلالة الاقتضاء من ضرورة اللفظ يا ترى؟ يوضح ذلك الغزالي بقوله: "أما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقاً إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعاً إلا به أو من حيث يمتنع ثبوته عقلاً إلا به".(3)
إن إدراك دلالة الاقتضاء تتم إما باعتبار طبيعة حال المتكلم فهي بناء على ذلك طبيعية لا يكون المتكلم عندها إلا صادقاً وإما باعتبار طريق العقل فالدلالة إذن عقلية منطقية.
__________
(1) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، ج1، ص156.
(2) المستصفى من علم الأصول، ص187.
(3) المصدر السابق، نفس الصفحة.(1/36)
وسيشير الغزالي إلى ما يمكن أن يصحب العملية التواصلية من حركة وإيماء وإشارة من قبل المتكلم فتنصرف الدلالة من المعنى الرئيسي، إلى المعنى الإيمائي أو ما يسمى في علم الدلالة الحديث "بالقيم الحافة"، وهي تعني جملة القيم الثقافية والاجتماعية وغيرها التي تصحب عملية التواصل أو الإبلاغ فلكي نؤدي دلالة معينة لا نعتمد فحسب على الألفاظ أو الرموز، إنما يقتضي ذلك تضافر عدة أنظمة إبلاغية "إذا كان النظام الكلامي أهمها فإن سائرها يواكبه مكملاً إياه"(1) من ذلك النظام الإشاري، والنظام النبري "فوق المقطعي"، والنظام الإيحائي، والنظام السياقي، ونظام المقام أو الحال، يقول الغزالي محدداً بعض هذه الأنظمة الدلالية في سياق تعريفه لدلالة الإشارة: "وهي [أي دلالة الإشارة] ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ( ... ) وهذا ما قد يسمى إيماء وإشارة."(2) أما النظام السياقي الذي يشرف على تحميل الصيغة دلالات إضافية، عدها الدرس الدلالي الحديث دلالات أساسية، يقدمه الغزالي بقوله أنه فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده."(3)
__________
(1) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية.
(2) المستصفى من علم الأصول، ج2، ص188.
(3) المصدر السابق، ج2، ص190.(1/37)
إن هذه التصنيفات للدلالة التي حددها الغزالي، تمثل وعياً عميقاً صحب فكر هذا العالم، ومكنه من أن يسهم في تأسيس الفكر النظري في مجال الدلالة. وهذه الإسهامات العلمية، لن تقدر حق قدرها ما لم ينظر إليها بمنظار "المعرفة" التي تأسس وفقها تراث القرن الخامس والسادس الهجريين، وقد أبان الغزالي على نحو علمي راق علاقات الألفاظ بالمعاني، ولم يخرج عن تلك المحددة قبلاً عند العلماء، وهي علاقة المطابقة وعلاقة التضامن وعلاقة الالتزام أو الاستتباع.(1) كما بحث الغزالي قسم الألفاظ من حيث إفرادها وتركيبها وأحصى في ذلك ثلاثة أقسام: ألفاظ مفردة وألفاظ مركبة ناقصة، وألفاظ مركبة تامة، فاللفظ المفرد عند الغزالي، لا يخرج عن تصور من سبقه من العلماء خاصة الفرابي وابن سينا يقول الغزالي: "المفرد وهو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة على شيء أصلاً حين هو جزؤه كقولك عيسى وإنسان، فإن جزئي عيسى وهما "عي وسا" وجزئي إنسان وهما "إن وسان" ما يراد بشيء منهما الدلالة على شيء أصلاً(2). أما المركب فهو الذي يدل كل جزء فيه على معنى، والمجموع يدل دلالة تامة بحيث يصح السكوت عليه من ذلك قولهم: زيد يمشي والناطق حيوان أما قولهم: في الدار أو الإنسان في، مركب ناقص لأنه مركب من اسم وأداة.(3) وما يلاحظ في تقسيمات الفرابي وابن سينا والغزالي للألفاظ باعتبار الإفراد والتركيب، هو إسنادهم في ذلك كله على القصد والإرادة، فإن أريد بمركب اسمي أو فعلي دلالة مفردة، كانت تلك الدلالة، وإن أريد بهما غير تلك الدلالة لم تكن.
__________
(1) معيار العلم في المنطق، ص42-43.
(2) المصدر السابق: ص49.
(3) المصدر نفسه، ص49-50.(1/38)
وإن تتبعنا تقسيمات الغزالي للألفاظ، لألفيناها تتعدد لتعطي ذلك المفهوم العام الذي استقر لدى هذا العالم حول الدلالة وفروعها ومتعلقاتها، ويمكن أن يشير في هذا المجال إلى تقسيمه للألفاظ باعتبار الكلي والجزئي، وعموم المعنى وخصوصه، كما أقام تقسيمات للألفاظ باعتبار نسبتها إلى المعاني وحدد أربعة أصناف يقول: "اعلم أن الألفاظ من المعاني على أربعة منازل: المشتركة والمتواطئة والمترادفة والمتزايلة."(1) ويشرح الغزالي على نحو تفصيلي مرتب، العلاقة بين الصور المحفوظة في الذاكرة للمدلولات المادية والمجردة، والألفاظ والكتابة التي هي أدوات دالة فيقول: "اعلم أن المراتب فيما نقصده أربع واللفظ في الرتبة الثالثة، فإن للشيء وجوداً في الأعيان ثم في الأذهان ثم في الألفاظ ثم في الكتابة، فالكتابة دالة على اللفظ، واللفظ دال على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثال الموجود في الأعيان."(2)
وعلى هذا الأساس وبحسب تقسيمات الغزالي
-فالكتابة دال فقط باعتبارها واسطة تمثيل للملفوظ فهي إشارة لإشارة كما يقول (جاك دريدا)(3).
-اللفظ دال باعتبار ومدلول باعتبار آخر.
-المعنى الذي في النفس (الصور الذهنية) مدلول فقط وليست بدال.
-الموجود في الأعيان (الأمور الخارجية) مدلول فقط وليست بدال.
__________
(1) المصدر نفسه، ص52. المشتركة: (المشترك اللفظي)، المتواطئة: أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها كدلالة اسم الحيوان على الفرس والطير والأسد، والمترادفة: (المترادف)، المتزايلة: هي الأسماء المتباينة التي ليست بينها شيء من هذه النسب.
(2) المصدر نفسه، ص46-47.
(3) الكتابة جاءت لتملأ فراغاً لتكون امتداداً للملفوظ خاصة إذا وجدت لغات لا يمكن إلا أن تكون مكتوبة ولا نستطيع تجريدها بالمنطق كما هو شأن لغة الجبر في الرياضيات، انظر ذلك في كتاب: De La Grammatologie jaque derrida (p 429)(1/39)
وعلى هذا الاعتبار وبحسب ركني العملية الدلالية (الدال- المدلول).
-الكتابة، الألفاظ: دال.
-الصور الذهنية- الأمور الخارجية: مدلول.
إن تلك الإشارات العابرة، إلى ما قدمه الإمام الغزالي في مجال التأسيس النظري للدلالة، يبرز ما مدى ثراء تراثنا المعرفي الذي اتخذ من النص القرآني كمعطى مثالي من أجل وضع أسس لنظرية معرفية شاملة خاصة إذا علمنا أن العلماء القدامى، قد امتلكوا الأدوات المختلفة اللغوية والمنطقية والفلسفية من أجل إبراز كل الجوانب الهامة في النص المقدس، وإن الحيطة التي أخذوها في التعامل مع أحكام القرآن زادت من منطقية معارفهم وصدق مفاهيمهم، والغزالي يعد المازج الحقيقي للمنطق الأرسططاليسي(1). بعلوم المسلمين، وظاهر ذلك من المقدمة المنطقية التي صدّر بها كتابه "المستصفى" وذكر فيها أن من لا يحيط بالمنطق ومعاني اللغة وأسرارها لاثقة بعلومه قطعاً.
ومنذ عهد الغزالي دأب الأصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلامية ومنهم صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" سيف الدين الآمدي، موضوع هذا البحث، وقد أظهر الغزالي قدرة عميقة في فهم تلك السنن التي ينطوي عليها نظام اللغة، وذلك استجابة للمبحث الأصولي الذي يتجاوز الفهم السطحي "النحوي" للغة، إلى استقراء دقيق لمعانيها، لا يتعرض لها اللغوي المشتغل بصناعة النحو.
III-مفاهيم الدلالة عند ابن خلدون (ت:808هـ):
لا نكاد نعثر لابن خلدون عن تعريف بيّن للدلالة، وإنما باستقراء نصوص "مقدمته" نجد دراسات في الدلالة قد تجاوزت- بلا شك- الماهية إلى البحث العميق عن جوهر الدلالة وطرق تأديتها، واضحة من غير لبس يقول موضحاً ذلك وشارحاً: "واعلم بأن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلا بد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة."(2)
__________
(1) محمود سامي النشار، منهج البحث عند مفكري الإسلام، ص90.
(2) المقدمة، ج2، ص509.(1/40)
فابن خلدون- على نهج الغزالي- يوضح العلاقة القائمة بين المعاني المحفوظة في النفس، والكتابة والألفاظ ويحصرها في ثلاثة أصناف:
أ-الكتابة الدالة على اللفظ.
ب-اللفظ الدال على المعاني التي في النفس والضمير. (الصورة الذهنية): وهذه المعاني إن لم تكن مجردة فإنها تدل على موجود في الأعيان وعلى هذا الأساس فالصنف الثالث للدلالة:
ج-المعاني الدالة على الأمور الخارجية.
ويعطي ابن خلدون للخط والكتابة أبعاداً مهمة في العملية التواصلية، باعتبارها أداتين مهمتين من أدوات التعليم والتعلّم الشيء الذي كان يشغل فكر ابن خلدون كثيراً يقول معرفاً "الخط" وأداءه للدلالة: "الخط وهو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني رتبة عن الدلالة اللغوية.(1)" فابن خلدون يصنف الخط في المرتبة الثانية- كما فعل ذلك الغزالي- وذلك في تأديته للدلالة اللغوية بعد الألفاظ، فالخط دال على الألفاظ والألفاظ دالة على المعاني.
ويوضح ابن خلدون هذه المسألة التي تخص أصناف الدوال فيقول: "إن في الكتابة انتقالاً من [صور] الحروف الخطية إلى الكلمات اللفظية في الخيال، ومن الكلمات اللفظية في الخيال إلى المعاني التي في النفس فهو ينتقل أبداً من دليل إلى دليل ما دام ملتبساً بالكتابة وتتعود النفس ذلك فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات."(2)
__________
(1) المصدر السابق، ج2، ص502.
(2) المصدر نفسه، ج2، ص518.(1/41)
بهذا التعريف للدلالة اللفظية يكون ابن خلدون قد أشار إلى ما سماه "أندري مارتيني" بالتلفظ المزدوج (double articulation) اشتهر ذلك المصطلح في الألسنية الحديثة. إن التلفظ الأول هو الطريقة التي تترتب فيها الخبرة اللغوية المشتركة بين جميع أعضاء بيئة معينة، وتقوم كل وحدة من وحدات التلفظ الأول على دلالة وعلى صورة صوتية ولا يمكن تحليلها إلى وحدات أصغر ذات معنى، أما التلفظ الثاني فهو إمكانية تحليل الصورة الصوتية إلى وحدات صوتية مميزة تحتوي هذه الوحدات على شكل صوتي ولا تحمل بذاتها أية دلالة.(1)
فصور الحروف الخطية- عند ابن خلدون- هي التي تمثل التلفظ الثاني وهو تقسيم الكلمة (المورفيم) إلى وحدات صوتية (فونيم) لا تحمل بذاتها أية دلالة، فضلاً على ذلك يرسم ابن خلدون العملية التواصلية أو الإبلاغية رسماً بيناً، فالخط يدل على الكلمات اللفظية التي في الخيال، والكلمات هذه تدل على المعاني التي في النفس، والكلمات اللفظية التي في الخيال هو اختصار للعلاقة القائمة بين اللفظ ومعناه، فابن خلدون ينظر إلى هذين الطرفين (اللفظ والمعنى) باعتبارهما طرفاً واحداً، ذلك أن اللفظ قد ارتبط بتصور في الخيال وإلى هذا أشار ابن سينا في تعريفه للدلالة بقوله: "معنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع، ارتسم في النفس معناه فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم فكلما أورده الحس على النفس التفتت النفس إلى معناه، وهو معنى الدلالة.
فاللفظ يرتسم في الخيال كصورة صوتية ذات دلالة، فترتسم في النفس مقاصد هذه الدلالة وعلى هذا الأساس يمكن تمثيل ذلك على النحو التالي:
__________
(1) ابن سينا، العبارة، من الشفاء، ص4.(1/42)
اللفظ ( قيمة صوتية( تصور في الخيال( المعاني ... الموضوع الخارجي، ثم يحصل للنفس ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلولات، فتربط بالبداهة بين الاسم ومسماه أي بين الدال والمدلول. فإذا كان المدلول شيئاً مادياً يكون الانتقال من اللفظ المسموع إلى الموضوع الخارجي وإذا كان المدلول من المجردات يكون الانتقال حينئذ من اللفظ إلى المعاني الذهنية.
إن هذه المفاهيم التي قدمها ابن خلدون للدلالة ورسم على أساسها العملية الدلالية، لا تختلف عن تلك النظرية التي توصل إليها العالم اللساني دوسوسير حول الدليل اللساني يقول في تعريفه: "فالدليل اللساني لا يجمع الشيء أو المادة والاسم وإنما المفهوم أو المعنى المجرد والصورة السمعية، وليست هذه الأخيرة الصوت المادي بعينه بقدر ما هي الأثر السيكولوجي له أو التمثيل المؤدى من طرف مدركاتنا الحسية(1)" فالكلمات ليست سوى صور سمعية حسب تعريف "دوسسير"، وأن العلامة اللسانية أو (الدليل) هي التأليف بين التصور الذهني
(concept) والصور السمعية (image accoustique). وإلى الفكرة ذاتها ذهب ابن خلدون في سياق شرحه للعملية الدلالية حين قال: "الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس" وأوضح المسألة أكثر، حيث قال: "كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني".(2) هذه التقريرات تبين عن إدراك ابن خلدون لأهمية الجانب السيكولوجي في الفعل الدلالي، وقد دأب سوسير على التركيز على هذا الجانب في كتابه المحاضرات حيث عرف الدال بكونه الإدراك النفساني للكلمة الصوتية، والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الأفكار التي تقترن بالدال.(3)
__________
(1) Cours de linguistique generale- F. de sausure, P.98.
(2) المقدمة، ابن خلدون، ج2، ص520.
(3) Cours de linguistique generale- F. de sausure.(1/43)
لقد أسهم ابن خلدون في إرساء قواعد علم التربية مؤكداً على ضرورة الإحاطة بالألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية، وحصر تحصيل تلك المعاني في طريقتين:
1-طريق القراءة والتعلّم من الكتاب.
2-طريق التعلم بالمشافهة والتلقين.
وعلى أساس هذا التنظير التعليمي، يحدد ابن خلدون مراتب الدوال بحسب أدائها للدلالات، ويشير إلى ضرورة إدراك السنن والقوانين التي تنتظم المعاني في الذهن، وهي كما نرى عملية سيكولوجية بحتة تصل الألفاظ بمحتواها الذهني، يشرح ابن خلدون هذه المسألة بقوله: "ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعليم، وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب، فأولاً دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة، ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق".(1)
هذه- بإجمال- نظرة ابن خلدون لعلم الدلالة، وأقسام المعنى باعتبار الألفاظ ودلالتها، وهي نظرة مع قدمها إلا أنها ذات قيمة علمية معتبرة في الدراسة الدلالية الحديثة.
IV-ماهية الدلالة عند الشريف الجرجاني (ت:816هـ):
__________
(1) المقدمة، ابن خلدون، ج2، ص698.(1/44)
إن ما يبعث على تقدير جهود الجرجاني حق قدرها في ميدان علم الدلالة، هو عمق تحليله وحسن تصنيفه لأقسام الدلالة، وقد قام عدة باحثين في العصر الحديث على إجراء مقاربة علمية بين ما توصل إليه الجرجاني في تقسيماته للدلالة وما توصل إليه علماء الدلالة في العصر الحديث، ومنهم العالم الأمريكي (بيرس). يعرف الجرجاني الدلالة من منطلق الثقافة الأصولية فيقول: "الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال والثاني هو المدلول، وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص وإشارة النص واقتضاء النص.(1)
وعلى أساس هذا التعريف للدلالة، فأقسامها عند الجرجاني اثنان:
أ- الدلالة اللفظية: إذا كان الشيء الدال لفظاً.
ب- الدلالة غير اللفظية: إذا كان الشيء الدال غير لفظ.
بتحديده لطبيعة العلاقة بين الدال والمدلول، يحصي الجرجاني ثلاثة مستويات صورية تنتج عنها ثلاث دلالات، دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء، وقد مرّ معنا تعريف الإمام الغزالي لدلالتي الإشارة والاقتضاء، أما دلالة العبارة أو النص فهي "المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من صيغة النص وهو الذي قصده الشارع من وضع النص، لأن المشرّع حين يضع النص يختار له من الألفاظ والعبارات ما يدل دلالة واضحة على غرضه ثم يصوغه بعد ذلك بحيث يتبادر المعنى المقصود من النص إلى ذهن المطلع بمجرد الاطلاع عليه."(2)
__________
(1) الشريف الجرجاني، التعريفات، ص215.
(2) عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، ج1، ص186-187.(1/45)
إن هذا الفهم العميق للدلالة ينم عن مدى النضج المعرفي الذي أحرزه علماء القرن الثامن الهجري والذي تبلور بعد تلك الدراسات الدلالية القيمة التي تطورت منذ القرن الثالث الهجري، فالجرجاني يتجاوز بتعريفه الدلالة ليشير إلى علم آخر أعم من الدلالة (semantique) وهو ما يعرف بعلم الرموز أو بالسيمياء (simiologie) وذلك عندما نص على أن "الدلالة هي كون الشيء بحاله يلزم من العلم به العلم بشيء آخر فذكره "الشيء" بدل "اللفظ" يدل على إشارته إلى هذا العلم الذي يعني بالرموز والعلامات اللغوية وغير اللغوية، وقد نلمس بعض القصور في سعي الجرجاني في بلورة مفهوم عام يخص الدلالة وأنواعها ذلك "لأن العرب المتقدمين لم يكونوا يعنون بعلم الدلالة، كما يحاول العلماء اليوم بناءه، نظراً لتعقد الحضارة وارتباطها الوثيق باستعمال العلامات (signes) بالمعارف والفنون التي لا تتحقق إلا في أنساق من العلامات."(1) هذه التصنيفات الثلاثة التي حددها الجرجاني في تعريفه تبلورت في علم الدلالة الحديث على يد علماء أمريكيين وأوروبيين اهتموا بما سمي بالدلالات الإيحائية، حيث يمير العالم الأمريكي هياكوا (S.J.Hayakwa) بين نوعين من المعاني: المعنى القصدي (Sens intentionnel) والمعنى الاتساعي (Sens extentionnel)، أو كما يسمى في الألسنية الحديثة المعنى الإيمائي، وتحت هذين الصنفين يمكن أن ندرج دلالات الجرجاني الثلاث (دلالة العبارة- دلالة الإشارة- دلالة الاقتضاء)، وإلى التقسيم ذاته نزع العالم اللغوي الأوروبي غرينبرغ (J.H.Greenberg) (حيث أقام تقسيمه باعتبار القصد والإيماء إلى: المعنى الداخلي (Sens internal) والمعنى الخارجي(2) (
__________
(1) علم الدلالة عند العرب: عاطف القاضي ص127. مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 18- 19 السنة: 1982.
(2) مدخل إلى علم الدلالة الألسني، د.موريس أبو ناضر، ص33- مجلة الفكر العربي، عدد: 18-19 السنة: 1982..(1/46)
Sens external) فالدلالة- إذن- في ضوء معالم الدرس الحديث تتضح عند الجرجاني بكونها العلاقة بين المحتوى الفكري واللفظ، وعلى هذا الأساس يخضع ظهور الدلالة أو خفاؤها إلى قرائن لغوية تحدد الدلالة المقصودة، فهناك السياق الذي يحمل دلالة لا تقبل مجازاً ولا تأويلاً، كما يسوق معنى لا يصح حمله على غير ظاهره، إذ اللفظ منصرف إلى الحقيقة باعتبار الظاهر بما هو الكلام الذي يظهر المراد منه للسامع بنفس الصيغة ويكون محتملاً للتأويل والتخصيص(1). ولقد أدرك الجرجاني العلاقة بين طرفي العملية الدلالية، الدال والمدلول، وحدد طبيعتها في وجود صلة مباشرة بين الدال والمحتوى الفكري الذي يتحدد وفقه المرجع أو الموضوع، وإن كان لا يحدِّد تحديداً بيّناً طبيعة المدلول، إلا أن تجريد عملية الإحالة المرجعية يقتضي بداهة التمييز بين المحتوى الذهني للعلامة وموضوعها الخارجي. والمهم في تعريف الجرجاني أن الدلالة تتمثل في وجهة صرف الدال إلى مدلوله، ولا يمكن أن يغفل الجرجاني عن ذلك المقام الذي ارتقى إليه التفكير الدلالي في عصره، بل نرى عالماً ناقداً قبله بقرنين وهو الكاتب حازم القرطاجيني (ت 684هـ) يحلل الدلالة بقوله: " ... قد تبيّن أن المعاني لها حقائق موجودة في الأعيان، ولها صور موجودة في الأذهان، ولها من جهة على ما يدل على تلك الصور من الألفاظ وجود في الأفهام والأذهان".(2)
__________
(1) منهاج البلغاء ومعراج الأدباء، ص19.
(2) المصدر السابق، ص25.(1/47)
هذه مفاهيم للدلالة لم توجد مبوبة مفصلة، كما هي عليه في الدراسات الحديثة، إنما كانت أساس الدراسات اللغوية في التراث المعرفي وخصت جميع العلوم بحيث وجدت في ثنايا كتب اللغة والمنطق والفقه وما إلى ذلك، وهي تبرز من جهة أخرى حضور الدرس الدلالي بأبوابه الرئيسية في شتى معارف تراثنا. كما أن ظهور التحليلات العميقة في عدة مستويات من الدلالة عند العلماء العرب المتقدمين واتساع اهتماماتهم في كل العلوم ساعدهم على تأسيس نظرة دلالية ازدادت قيمتها مع مرور الزمن وتبلورت لدى المتأخرين من علماء القرن التاسع الهجري وما بعده. فقد ألفينا الجاحظ يصنف العلامات الدالة ويعطيها التمثيلات الإجرائية في واقع المجتمع العربي، واشتغاله بالبيان والمنطق قد كرس عنده دقة التمييز مع عمق التحليل. وكذلك لمسنا عند علماء آخرين وضوح الرؤية الدلالية ضمن كتاباتهم، وحسبنا أن نقرأ بعضاً من أبواب ما كتبه سيبويه والجرجاني وابن جني، بل يكاد يجزم النقاد العرب المحدثون أن اللغة السيميائية قد مارسها شعراء أقدمون عبروا بها عن مكنوناتهم الوجدانية، وأشاحوا اهتماماتهم في مواضع كثيرة عن اللغة الطبيعية المألوفة وقد أشار إلى ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض في موضوعه حول السمة والسيميائية."(1) وإن المسار التاريخي لعلم السيمياء ليؤكد على إفادة هذا العلم من تلك الروافد التي جعلته يستقطب اهتمام المشتغلين في حقول شتى من العلوم يقول في ذلك الدكتور عبد المالك مرتاض: "وكذلك ابتدأت السيميائية طبية فلسفية، ثم لغوية خالصة ثم تشعبت إلى أدبية، مع احتفاظها بوضعها اللساني."(2)
__________
(1) عبد المالك مرتاض: السمة والسيميائية، ص19، مجلة الحداثة، عدد 2، يونيو 1993.
(2) المرجع السابق، ص18..(1/48)
وما يعضد هذا الرأي ما أجمع عليه الباحثون في نشأة الدلالة على أنها بدأت بالمحسوسات ثم تطورت إلى الدلالات المجردة بتطور العقل الإنساني ورقيه، فكلما ارتقى التفكير العقلي جنح إلى استخراج الدلالات المجردة وتوليدها والاعتماد عليها في الاستعمال.(1)
ثانياً: الدلالة في تعريفات العلماء المحدثين:
(المصطلح والأبعاد) أو (الماهية والمشروع):
لقد حدث تطور كبير في مفاهيم المصطلحات القديمة في العصر الحديث، واتخذت أبعاداً أخرجتها من تلك الدراسة "الأولية" ووسعت مجال البحث فيها، ومصطلح "الدلالة" هو من ضمن تلك المصطلحات التي تبلورت مفاهيمها في العصر الحديث وشملت الدراسة فيها ميادين عدة من حياة الناس، بل أضحت ملتقى لاهتمامات كثير من المعارف الإنسانية الحديثة، بدءاً بعلم النفس ثم علم الاجتماع والمنطق وعلوم الاتصال والإشارة. وإن هذه الصورة التي برز فيها علم الدلالة كأساس لعدة معارف حديثة هي نتاج للدراسة اللغوية المتخصصة ذلك "أن معالجة قضايا الدلالة بمفهوم العلم، وبمناهج بحثه الخاصة وعلى أيدي لغويين متخصصين إنما تعد ثمرة من ثمرات الدراسات اللغوية الحديثة."(2)
وتبعاً لاتساع مجالات البحث الدلالي الحديث، فلم تعد الدلالة حكراً على النظام اللغوي وحسب، وإنما شملتها أنظمة سيميولوجية أزاحت الهيمنة اللغوية بل صارت معها في البحث جنباً إلى جنب، ومع ذلك بقيت اللغة إحدى أنجع وسائل نظام الإبلاغ والتواصل والخطاب، وأقدرها على الإطلاق على التجديد والتطور والتكيف بل لا مندوحة من القول أن الأنظمة السيميولوجية التي تتخذ العلامة المطلقة كمدخل أساسي لأي مستوى من مستويات الدراسة الدلالية، لا تستغني في الأحوال الغالبة عن اللغة خاصة على مستوى القراءة التعليلية التبيينية.
__________
(1) إبراهيم أنيس، انظر ذلك في كتاب دلالة الألفاظ، ص158.
(2) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص22.(1/49)
ومقاربة لماهية الدلالة وحقولها الدراسية في العصر الحديث، عجنا نسائل البحث الدلالي عند لفيف من اللغويين وذلك بقصد رسم إطار بين تتضح من خلاله معالم الدرس الدلالي الحديث إن على مستوى الماهية والمصطلح وما أفرزه من تفريعات زادت من توسيع دائرة البحث الدلالي، أو على مستوى الأبعاد والمشروع الذي تأسس بناء على اختلاف الرؤى والأهداف بين مجموع المشتغلين في حقل البحث الدلالي والسيميولوجي العام." يرمي [هذا المشروع السيميولوجي] من وجهة نظر "إينو" إلى تأسيس وعي بنيوي للاستقراء الدلالي."(1) ولأن حلقة تأسيس الدرس الدلالي لم تكتمل دائرتها بعد، اقتصرنا في مساءلتنا لمعالم البحث الدلالي الحديث على بعض اللغويين الذين بدأت معهم عملية التأسيس والتشكيل والتقعيد، وبعض المشتغلين في حقول النقد والأدب حيث غدا عندهم الدرس الدلالي السيميائي أحد أهم المناهج النقدية الحديثة.
أ-ماهية الدلالة بين الوصفية والمعيارية:
__________
(1) د.فيدوج عبد القادر، دلالية النص الأدبي، ص7.(1/50)
بدأ البحث الدلالي في العصر الحديث بمنهج وصفي يعاين جزئيات الظاهرة اللغوية معاينة وصفية تعتمد طريقة الملاحظة والتحليل فالاستنتاج. وهي طريقة تعد امتداداً "لمنهج" البحث اللغوي القديم. ثم ارتقى الدرس الدلالي إلى مرحلة محاولة التنظير والتقعيد، فغدا يعتمد على المنهج المعياري وذلك لنزوع الباحثين اللغويين نحو تشكيل معالم مشروع دلالي بدءاً ببلورة جهود السابقين في ميدان البحوث اللغوية المختلفة، وارتقاء إلى "بناء هيكل نظري ينظم الركام الذي هو هيئة المعلومات السابقة، وبهذا تغدو الدراسة مقدمة لتاليات لها فيدفع العلم خطوات إلى حقول جديدة".(1) هذا الاندفاع نحو بناء وعي دلالي يساهم في تشكيله علماء محدثون تعددت رؤاهم وتكاملت جهودهم التي عكفوا من خلالها على إبراز اللغة بمفهومها العام، نظاماً لتحقيق التواصل والإبلاغ فبحثوا جزئياتها وغاصوا في عوالمها مستعينين في سبيل ذلك بعلوم أخرى، فتوسعت مجالات البحث اللغوي وغدا المبحث الدلالي ملتقى لعلوم إنسانية واجتماعية وأدى ذلك إلى تنوع الدراسات، وإذا رمنا حصر العلماء الذين ساهموا في تشكيل معالم الدرس الدلالي والسميولوجي الحديث فإنه يعجزنا ذلك.
وقصدا إلى تقديم صورة لماهية الدلالة في العصر الحديث استجمعنا آراء للفيف من اللغويين والمشتغلين في حقل الأدب والنقد.
__________
(1) فايز الداية، علم الدلالة العربي، ص99.(1/51)
لقد أعلن بريال ميلاد علم يختص بجانب المعنى في اللغة وهو علم الدلالة الذي أتى ليسد تلك الثغرة في الدراسات اللغوية التي كانت تهتم بشكل الكلمات ومادتها، أما دراسة المعنى فيها فتمثل الجانب الهزيل قال بريال: "إن الدراسة التي ندعو إليها القارئ هي من نوع حديث للغاية بحيث لم تسم بعد، نعم، لقد اهتم معظم اللسانين بجسم وشكل الكلمات وما انتبهوا قط إلى القوانين التي تنظم تغيّر المعاني وانتقاء العبارات الجديدة والوقوف على تاريخ ميلادها ووفاتها. وبما أن هذه الدراسة تستحق اسماً خاصاً بها فإننا نطلق عليها اسم (semantique) للدلالة على علم المعاني(1)" فعلم الدلالة- عند العالم بريال- يعني بتلك القوانين التي تشرف على تغير المعاني، ويُعاين الجانب التطوري للألفاظ اللغوية ودلالاتها، ويكون بريال بذلك أول من وجه الاهتمام إلى دراسة المعاني ذاتها، لكن أهمية التفاتة بريال إلى جوهر الكلمات لم تقدر حق قدرها قبل محاولة الانجليزيين أوجدن (C.K.Orgdon) وريتشاردز (I.A.Richards) اللذين أحدثا ضجة في الدراسة اللغوية بإصدار كتابهما عام 1923 تحت اسم "معنى المعنى" وفيه تساءل العالمان عن ماهية المعنى من حيث هو عمل ناتج عن اتحاد وجهي الدلالة أي الدال والمدلول(2).
__________
(1) Les grands courants de la linguistique moderne (Maurice le roy) P.45.
(2) موريس أبو ناضر، مدخل إلى علم الدلالة الألسني، مجلة الفكر المعاصر، العدد 18/19، السنة 1982، ص32.(1/52)
وأضحى علم الدلالة ابتداء من ذلك يهتم بالصورة المفهومية، باعتبار أن لا علاقة مباشرة بين الاسم ومسماه، إنما العلاقة المباشرة تربط الدال بالمحتوى الفكري الذي في الذهن يقول مازن الوعر في هذا الصدد في تقديمه لكتاب "علم الدلالة" لبيار جيرو: "إذا كانت الصوتيات واللغويات تدرسان البنى التعبيرية وإمكانية حدوثها في اللغة، فإن الدلاليات تدرس المعاني التي يمكن أن يعبر عنها من خلال البنى الصوتية والتركيبية"(1).
ويوضح سالم شاكر أكثر فيقول: "إن علم الدلالة يعني بظواهر مجردة هي الصورة المفهومية"(2). ونزع علم الدلالة في العصر الحديث إلى تمثل المنهج الوصفي في بعض مراحل الدراسة خاصة فيما يتعلق برصد تطور الدلالة وتغيرها وبناء الحقول الدلالية يقول ميشال زكريا: "أما علم الدلالات فهو مستوى من مستويات الوصف اللغوي، ويتناول كل ما يتعلق بالدلالة أو بالمعنى فيبحث مثلاً في تطور معنى الكلمة ويقارن بين الحقول الدلالية المختلفة".(3)
__________
(1) بيار جيرو، علم الدلالة، ترجمة منذر عياشي، ص72.
(2) سالم شاكر، مدخل إلى علم الدلالة، ترجمة محمد جباتين، ص4.
(3) ميشال زكريا، الألسنية: علم اللغة الحديث، ص211.(1/53)
إن المجال الواسع الذي حظيت به الدراسات الدلالية الحديثة، يرجع بالأساس إلى تلك الأطر المميزة التي رسمها العالمان أوجدن وريشاردز وبعدهما بريال، ومع تقدم الدراسة بدأت البحوث الدلالية تشهد عقبات تكمن صعوبتها في استحالة حصرها، وتحديدها من ذلك أن عكف الدرس الدلالي الحديث على البحث في ماهية الصورة المفهومية، بحيث استحال معها الإحاطة بكل ما يشكل عالم المتكلم حتى يمكن فهم وإدراك المحتوى الفكري المجرد. يقول (كولردج) محدداً مجال البحث الجديد لعلم الدلالة: "ولا يتضمن معنى اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها، بل يشمل أيضاً جميع الارتباطات التي تبعثها اللفظة في أذهاننا فطبيعة اللغة لا تمكنها من نقل الموضوع فحسب، وإنما تجعلها أيضاً تنقل شخصية المتكلم الذي يعرض الموضوع ونواياه".(1)
إن الحديث عن البنى العميقة التي تتحكم في إنتاج الدلالة من وجهة نظر مجردة، يبقى بعيد المرام، ولذلك فإن جل علماء الدلالة والسيمياء المحدثين يركزون أبحاثهم أكثر، على ما يحيط عملية تأدية الدلالة من ظواهر منطقية نفسية. يقول بيار جيرو موضحاً ذلك: "ويبقى علم الدلالة بالنسبة لبريال واتباعه متجهاً نحو السمات المنطقية، النفسية والتاريخية للظواهر أكثر من اتجاهه نحو عللها اللسانية".(2)
__________
(1) محمد مصطفى بدوي، كلوردج، ص97.
(2) بيار جيرو، علم الدلالة، ترجمة منذر عياشي، ص133.(1/54)
لقد خطا العالمان كاتر وفودر بالبحث الدلالي خطوة بعيدة إذ تناولاه من ناحية تفاعل مركبات الحدث الكلامي، بل إنهما طرحا إشكالية أساسية تتمحور حول تخصيص العلاقة التي يمكن إقامتها بين صورة الجملة ودلالتها في لغة معينة في غياب النحو، إذ قد تصل العملية التواصلية التي تضطلع بأمر نقل الدلالة إلى مستوى من التعقيد لا يمكن للنحو أن يشرح فيه ذلك، لأن السيمانتيك من وجهة نظر هذين العالمين يتناول قدرة المتكلم على إرسال وفهم الجمل الجديدة في ميدان يعجز عن شرحها النحو(1). إن الأبعاد التي اتخذها البحث الدلالي الحديث عبر دراسات معمقة، أخرجت النظريات الدلالية والفرضيات العلمية اللسانية من مجال التخمين والتقدير إلى ميدان التحقيق والتطبيق، رسمت إطاراً مفتوحاً على المستقبل لمشروع دلالي أوسع يلج من خلال الدرس السيمائي إلى كل مجال من مجالات المعرفة والبحث العلمي، ويكفي أن نتأمل كتب (أ.ج. غريماس) مثل كتاب "علم الدلالة البنيوي" 1966، "السيميوتيكا والعلوم الاجتماعية" 1976، "في المعنى" 1970، لندرك المصاف الذي بلغه علم الدلالة بعد ما كان علماً يفتقد إلى المنهج والموضوع معاً، إذ كان منشأه في إطار علم الألسنية العام.
__________
(1) Initiation aux problemes des linguistiques contemporaines, C.Fuches et P. le Goffic, P.72.(1/55)
يحتل اسم (غريماس) مكاناً علياً ضمن الباحثين في الحقل الدلالي الحديث ويرجع ذلك إلى قدرته على تحقيق الرؤية في قراءاته النقدية للخطاب الأدبي، الشعري والنثري. لقد تجاوز غريماس المعطى الدلالي، الآني مفترضاً وجود معطى ممكن تتجلى فيه العوالم الدلالية التي تتمظهر في بنى دلالية، وعلى أساس وجود هذه العوالم يتم تنظير البنيات الدلالية والكشف عن آلياتها، وقد يطرح العالم الدلالي فرضية وجود البينة الدلالية والعوالم الدلالية فيقول: "يجب أن نفهم بالبنية الدلالية ذلك الشكل العام لنظام العوالم الدلالية- المعطى، أو الممكن، ذي الطبيعة الاجتماعية والفردية (ثقافات أو أفراد) والسؤال عما إذا كانت البينة الدلالية ماثلة في عالم الدلالة أو تحضن هذا العالم"(1). إن احتواء العوالم الدلالية في بناء من صنع ألسني للتعبير عنها يفترض وجود مشاكلة بين مستوى التعبير ومكوناته ومستوى المعنى وسماته"(2). ذلك أن عالم المعنى يتمظهر في التلفظ articulation ويتموقع في البنى التعبيرية يوضح غريماس ذلك بقوله: "إن فرضية المشاكلة بين المستويين تسمح إذن بالنظر إلى بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدلالة حسب وحداته المعنوية الصغرى [أي السمات] وما يقابلها من سمات مميزة على مستوى التعبير، هذه الوحدات الدلالية مكونة بالطريقة نفسها المكونة بها سمات التعبير، من فئات سمات ثنائية"(3)
__________
(1) ج.غريماس، البنية الدلالية، ص97 من مجلة الفكر العربي المعاصر، ترجمة ميشال زكريا، العدد 18/19 السنة 1982.
(2) سمات المعنى: وحدات المعنى الصغرى.
(3) المرجع السابق، ص97.(1/56)
على الرغم من تباين آراء علماء الدلالة حول جوهر العملية الدلالية، فإن البحث الدلالي أخذ مسارات جديدة بعد وقوع التأكيد على أن اللغة هي نظام تتظافر فيه جملة من الأنظمة الفرعية كنظام البنى التركيبية، ونظام البنى المعجمية، والبنى الصوتية، والبنى الدلالية، ضمن نسق محكم أطلق عليه العلماء مصطلح النحو الكلي (Universal Grammar)، واتجه الباحثون إلى الكشف عن هذا النسق وتحديد معالمه وسماته، وهذه مرحلة مهمة ارتقى إليها البحث الدلالي حيث "يلاحظ تشومسكي أن ما طبع البحث اللغوي في السنوات الأخيرة- هو تحول من العناية باللغة إلى العناية بالنحو، وهو تحول من تجميع العينات وتنظيمها أو دراسة لغة خاصة أو الخصائص العامة لكثير من اللغات أو كل اللغات إلى دراسة الأنساق التي توجد فعلاً في الدماغ وتساهم في تفسير الظواهر الملاحظة"(1). وقد أسهمت فكرة تشومسكي في توليد جملة من الأفكار طُرحت كاستفهامات تقتضي أجوبة ولو على وجه الافتراض، من ذلك السؤال حول كيف تنتظم اللغة كجملة من البنى في شكل أنساق نظرية داخل الدماغ؟ إن وجود هذه الأنساق داخل الدماغ يترتب عليه الكشف عن المعرفة اللغوية الباطنية لمتكلم اللغة وضمنها الاهتمام بالجهاز الداخلي الذهني للمتكلمين عوض الاهتمام بسلوكهم الفعلي، وأقصى ما وصلت إليه البحوث اللغوية الدلالية هو بروز نموذج جديد للتفكير في نظام اللغة، المركب من أنساق مختلفة بحيث بزغ زمن التركيب مع نظرية تشومسكي(2)
__________
(1) عبد القادر الفاسي، الفهم في اللسانيات واللغة العربية.. ص45.
(2) المرجع السابق، ص65..(1/57)
في النحو التوليدي التي تقوم على أساس تحليل السلسلة الكلامية إلى وحدات من الرموز، لتعيد تشكيل ليس السلسلة الكلامية وحسب بل سلاسل كلامية لا متناهية، وذلك إشارة إلى أن الدماغ البشري مركب فيه قواعد إنتاج لأحداث كلامية سليمة في التركيب والدلالة معاً، وعلى الرغم من أن تشومسكي قد أغفل في بحوثه الأولى النسق الدلالي إلا أنه تدارك ذلك، خاصة بعد تلك الإسهامات التي تقدم بها العالمان كاتر وفودور، وأعاد الاعتبار إلى الوظيفة الدلالية للتركيب، وعدّل في رسمه البياني الذي تناول فيه السمات البنيوية التي تتألف منها الجملة، مضيفاً المكون الدلالي وإن كانت البنية الدلالية محتواة في ما سماه تشومسكي "بالسلاسل المعقدة" وتوضيح ذلك فيما يلي:
الرسم قبل التعديل:(1)
... ... ... قواعد مركبية
... ... ... تحولات إجبارية
مكون تركيبي ... سلاسل نووية
... ... ... تحولات اختيارية
... ... ... سلاسل معقدة
... ... ... قواعد صوتية
مكون صوتي
... ... ... تمثيل صوتي
ما يلاحظ هو غياب المكون الدلالي في الرسم البياني، إلا أن هناك مرحلة مهمة تقع بين المكون التركيبي والمكون الصوتي وهو ما سيغير فيه تشومسكي في الرسم الثاني وذلك بتحليله للسلاسل المعقدة.
الرسم بعد التعديل:(2)
مكون تركيبي ... 1- قواعد مقولية ... ... قاعد الاسقاط تمثيلات دلالية
قاعدة ... 2- معجم (قواعد معجمية) بنية عميقة
... بنية عميقة
... ... ... قواعد تحويليلة أحادية
مكوّن ... ... بنية سطحية
صوتي
... ... ... قواعد صوتية
ما يلاحظ هو بروز البنية العميقة والبنية السطحية ولعل ذلك ما خول تشومسكي إضافة الحلقة المفقودة في الرسم الأول، ونعني بها، المكون الدلالي، إذ البنية العميقة هي التي تنطوي على التمثيل الدلالي الذي يتحول إلى بنية سطحية وفق قواعد التحويل متشكلاً في تمثيل صوتي.
__________
(1) المرجع نفسه، ص66.
(2) المرجع نفسه، ص67.(1/58)
وغدا المبحث الدلالي، واسع الأرجاء بحيث انكب الدارسون يتناولون جانباً واحداً من جوانبه، فيبدو عميقاً متشعباً فمن ذلك أن اهتدوا إلى وضع قواعد سلامة التركيب، وسلامة الدلالة، مستوحين ذلك من قواعد الإسقاط التي وضعها تشومسكي، فلكي يؤدي التركيب الدلالة المعنية، وجب أن يكون سليماً في عناصره، وكذلك الشأن لسلامة الدلالة وهو ما يوضحه الرسم البياني التالي:(1)
معجم ... ... قواعد سلامة ... ... ... قواعد سلامة الدلالة
بنى تركيبية ... ... قواعد الإسقاط ... ... ... بنى دلالية
__________
(1) المرجع السابق، ص67.(1/59)
وبعد تخصيص الدلالة في التركيب اللغوي، توسعت الدلالة لتشمل ما هو لغوي وغير لغوي من الرموز والإشارات والسمات، وهو ما انبنى عنه ميلاد السيميولوجيا كمنهج جديد في دراسة الدلالة بحيث لم تعد اللغة المحتكر الوحيد في البحث، إنما برزت أنظمة إبلاغية أخرى أهمها النظام الإشاري: "فالسيميولوجية [كما تقول كريستيفا] هي لحظة التفكير في قوانين التدليل دون أن تبقى أسيرة اللغة التواصلية التي تخلو من مكان الذات"(1). إذن هناك وسائل اتصال- واللغة إحداها- تستدعي دراسة في ماهيتها وعلاقاتها وكيفية حدوثها ثم القوانين التي تنتظمها كما قال الدكتور فيدوج: "إنتاج الإعلام عبر إشارات هو الموضوع الأساسي لعلم السيميولوجية الذي هو بحث في ماهية هذه الإشارات وعلتها وكيفية حدوثها أو إنتاجها ووظيفتها والقوانين التي تتحكم بها"(2). إن الاطلاع على القواعد العامة التي تتحكم في حياة الدلائل، يسمح بوضح أسس لمشروع سيميولوجي يعنى بمعاينة إنتاج الدلالة ويحدد طرق وقواعد ذلك كما يبيّنه الكاتب فيدوج بقوله: "والسيميولوجية منهج يهتم بدراسة حياة الدلائل داخل الحياة الاجتماعية ويحيلنا إلى معرفة كنه هذه الدلائل وعلتها وكينونتها ومجمل القوانين التي تحكمها، ويعمل من جهة على دراستها بكل أبعادها واستعمالاتها وتعقيداتها دراسة شاملة وعامة لكل مظاهرها العلامية لأن ذلك يشكل جوهر ما يندرج ضمن أهدافها وغاياتها ومطامحها في تحقيق المشروع السيميولوجي.(3)
إن هذا التحديد المسهب لعلم السيمياء جعله يحتل مكانه المؤثر ضمن المنظومة الاجتماعية، إذ أضحى يشمل الإشارات الدالة اللغوية وغير اللغوية وتشترك جميعها في أدائها للقيمة الدلالية وفق شروط عامة.
في بحوثه حول فعالية الكلام والكتابة، ميّز (رومان جاكبسون) بين عدة نظم تواصلية تتوزع في إطارين:
__________
(1) د.فيدوج، دلائلية النص الأدبي، ص9.
(2) المرجع السابق، ص9-10.
(3) المرجع نفسه، ص6-7.(1/60)
الإطار الأول: نظم لسانية تستخدم التراكيب اللغوية للتواصل والإبلاغ.
والإطار الثاني: نظم سيمولوجية مستقلة نسبياً، عن النظام الألسني.
ثم ميز في النظم اللسانية بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، والذي يوضحها ذلك التمايز التاريخي الذي أشار إليه اللغويون في بحوثهم حول الصوت والحرف وتمييزهم بين السامع والقارئ وبالتالي بين فعالية الكلام وفعالية الكتابة، وخلص إلى أن الكتابة تبقى الأداة الأكثر فعالية في الخطاب التواصلي والإبلاغي كونها تضمن استمرارية ومنفذ إلى المتلقي مهما تباعد المكان والزمان.(1)
لقد تطور البحث الدلالي تطوراً سريعاً منذ عهد بريال ودسوسير، حتى غدا فيه التنوع والاختلاف بين العلماء سمة مميزة وذلك لإغراقه في بحث المجرد، ولاتساع مساحة الدرس وظهور نظم جديدة زاحمت النظام اللغوي "إذ لم تعد اللغة إلا مجرد نقطة في فضاء رحيب تهيمن عليه امبراطورية السمات"(2). وأضحى النموذج السيميولوجي أحد النماذج الأكثر حضوراً في القراءات النقدية الأدبية باعتبار النص شبكة من العلامات الدالة، وإن أهم مظهر تطوري بدا عليه علم الدلالة ضمن السيميولوجية الحديثة هو اقترانه بالتفكير الفلسفي "ويعتبر موريس من الذين قدموا نموذجاً سيميولوجياً فلسفياً بحيث استطاع أن يميز بين الأبعاد الدلالية والأبعاد التركيبية والأبعاد الوظيفية للإشارة. فطبقاً لرأيه فإن العلاقة بين الإشارة والمجموعة الاجتماعية هي علاقة دلالية، والعلاقة بين الإشارة والإشارات الأخرى هي علاقة تركيبية أما العلاقة بين الإشارة ومستعمليها فهي علاقة وظيفية"(3)
__________
(1) Essais de linguistique generale Roman Jakobson, P.101-102.
(2) د.عبد المالك مرتاض، بين السمة والسيميائية، ص9 مجلة الحداثة، العدد الثاني، 1993.
(3) دلائلية النص الأدبي، فيدوج، ص15.(1/61)
إن العامل النفسي في إدراك القيمة الدلالية للعلامة ذو أهمية بالغة، فافتراض وجود الكفاية اللغوية عند المتكلم يتوق إلى تحليل نفسي (للمتكلم) لضبط هذه الكفاية مروراً بتحليل التركيب اللساني، ولذلك فالتحليل موحد بين اللسانيات النفسية، أوعلم النفس اللساني (psycholinguistiques) دون إغفال المركب الدلالي في العملية التي تتناول السلوك الكلامي بقصد الوقوف على البنى الذهنية المشكلة لدلالته، فالإحاطة بالجانب التصوري في العملية التواصلية يساهم بقسط وفير في اكتمال حلقات الفعل الدلالي ...
إن ماهية علم الدلالة- كما أوضحناها- تنأى عن كل تأطير وحصر، كما أن المباحث اللغوية الحديثة لاتخاذها طابع الشمولية في التناول والطرح، لا زال معها الدرس الدلالي يراوح مكانه ضمن المبحث السيميولوجي العام بين تحديد الماهية العامة، وتحقيق الأبعاد في إطار النظرية السيميولوجية الشاملة التي تحاول وضع المفاهيم الدلالية رهن التحقيق في المنظومة الاجتماعية الحديثة التي عجت فيها المعارف والعلوم، واحتيج في سبيل استثمارها لأنساق لسانية دقيقة قد تضاف إلى النظم السيميائية غير اللغوية لأحداث وعي سيميولوجية، تتحقق معه النهضة المبتغاة.
الفصل الثاني:
مباحث علم الدلالة الحديث
تمهيد:(1/62)
إن المجال الذي يندرج في إطاره البحث الدلالي، يمكن حصره في دراسة طرفي الفعل الدلالي- الدال والمدلول- وما يتفرع عن ذلك من أبحاث تخص الدال من جهة والمدلول من جهة أخرى والعلاقة التي تجمع بينهما، وبناء على هذه الدراسة حدد موضوع علم الدلالة الذي يضم مباحث لغوية مختلفة ومتباينة لكنها مترابطة ومتكاملة، فبحث موضوع اللغة من جوانب مختلفة، كما تناول الدلاليون مسألة التطور الدلالي فدرسوا أشكاله وأسبابه، ونشأت عن مبحث علاقة الدال بالمدلول مواضيع أخرى كموضوع أنواع الدلالة وأقسامها ومبحث الحقول الدلالية وما توصل إليه اللغويون في هذا المجال من نظريات وآراء علمية، كما برز موضوع المجاز بمفهومه العام وعلاقته بالتعبير الدلالي، وفي هذا السياق سنحدد مباحث علم الدلالة في العصر الحديث لنشاكل بها المباحث الدلالية التي تناولها الأمدي في مجال الدرس الأصولي وهذا من أجل مقاربة علمية بين جانب من مباحث التراث المعرفي والمضامين الدلالية الحديثة لأن المنهج المتوخى في المعارف اللغوية الحديثة يتراوح بين تقديم المضامين اللسانية والبحث عن الأصول الأولية لها من دعائم ذهنية،وضوابط منهجية، ومصادرات استدلالية واستثمارات نفعية.(1).
المبحث الأول: اللغة
__________
(1) عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية. ص7(1/63)
لقد بحث موضوع اللغة في بداية نشأة علم الدلالة وعلوم الألسنية بوجه عام، من الجانب التاريخي، حيث اتسع مجال البحث في نشأة اللغة، وهي مسألة شغلت اهتمام العلماء قديماً وحديثاً، أما في المرحلة الثانية فقد بحث موضوع اللغة بمنهج وصفي آني وهو منهج يأخذ دراسة اللغة من جانب بنيتها الداخلية باعتبار اللغة نظاماً من الرموز اللسانية أو مجموعة من الأصوات الدالة. كما تناول علماء الدلالة وظائف اللغة والنواميس الخفية التي تتحكم في نظام بنيتها وحركيتها(1) التي وسموها بالتعقيد. يظهر ذلك من اختلافهم في تعريفها. فيعرفها أحدهم بأنها نظام من الرموز والإشارات ويعرفها آخر بأنها مجموعة الأصوات الدالة أو أداة للفكر، بينما يحددها أنيس فريحة بقوله: "الواقع أن اللغة أكثر من مجموعة أصوات، وأكثر من أن تكون أداة للفكر أو تعبيراً عن عاطفة اللغة جزء من كياننا البسيكولوجي الروحي وهي عملية فيزيائية اجتماعية بسيكولوجية على غاية من التعقيد(2).
__________
(1) أطلق عليها سوسير مصطلح "ميكانيزم" محاضرات في اللسانيات العامة ص177.
(2) أنيس فريحة نظريات في اللغة ص11(1/64)
إن البحث في أصل اللغة من المسائل الفكرية الصعبة التي بقي معها فكر العلماء يدور في حلقة مفرغة، بحيث انقسمت آراؤهم حول تحديد نشأة اللغة، وبرزت في ثلاثة اتجاهات: اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية، واتجاه يذهب إلى أن اللغة عرفية اصطلاحية واتجاه ثالث يجمع بين الرأيين. وكان جل العلماء اللغويين يأملون التوصل إلى تفسير شامل لهذه المسألة، ولكنه لم يتمكنوا من ذلك وأضحت أبحاثهم لا تقدم لمسألة نشأة اللغة أي حل مقنع قد يفتح المجال أمام جهود الباحثين في هذا الميدان، بل إن المسألة ازدادت تعقيداً، بكثرة الآراء والنظريات التي نشأت حولها مما حدا بالجمعية اللغوية الفرنسية (la societe de linguistique) إلى إصدار قانون يمنع إلقاء محاضرات في موضوع نشأة اللغة. إن اعتماد النظريات اللغوية الحديثة على معطيات مبنية على الحدس والافتراض، هو الذي أبعدها من التوصل إلى نتائج علمية دقيقة، ولقيت بعض هذه النظريات اعترافاً علمياً، لأنها استندت في تعليلها لنشأة اللغة على معطيات لغوية ملموسة من ذلك نظرية (bow waw) التي تذهب إلى أن أصل اللغة هو محاكاة لأصوات استقاها الإنسان من الطبيعة، تدعم رأيها بوجود ألفاظ مأخوذة من أصوات تصدرها عناصر من الطبيعة كالزقزقة والخرير، والحفيف، والخشخشة، والعواء، والمواء وما إلى ذلك، رأي مماثل تذهب إليه نظرية الأصوات التعجبية العاطفية، وتفيد أن الكلمات الأولى التي نطق بها الإنسان، كانت أصوات تعجبية عاطفية تعبر عن ألم أو دهشة أو فرح من تلك الكلمات "أف" وي "أنين" وغير ذلك(1).
__________
(1) أنيس فريحة نظريات في اللغة ص17-18(1/65)
إن المنهج الوصفي الآني، يرمي إلى تحليل البنية الداخلية للغة، وذلك باستنباط الشبكة التنظيمية التي تبدو كنواميس خفية تنتظم في إطارها اللغة. يرى جان بياجي أن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس خفية مفروضة على الأفراد، تتناولها الأجيال بضرب من الحتمية التاريخية إذ كل ماضي اللغة –راهنا- إنما هو منقول عن أشكال سابقة، هي الأخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية، وهكذا إلى الأصل الأوحد أو الأصول الأولية المتعددة(1).
هذه القوانين الخفية التي تنتظم في إطارها اللغة، تعود إلى الأصول الأولية للغة الخطاب وهي تشكل النظام اللغوي، وبذلك سعى اللغويون وعلماء الدلالة بوجه خاص، إلى تفكيك بنية هذا النظام لاكتشاف اللغة اكتشافاً علمياً، قد يقدم تفسيراً مقبولاً لمشكلات لغوية، في عالم أصبح يعتمد على اللغة في الاتصال والإعلام في مستويات رفيعة وهامة يقول بيار جيرو: "إنّ اللغة نظام من الإشارات وهي تخدمنا في إيصال الأفكار واستدعاء صور مفاهيم الأشياء التي تكونت في أذهاننا إلى ذهن الآخرين(2).
__________
(1) عبد السلام المسدي اللسانيات وأسسها المعرفية، ص161.
(2) بيار جيرو، ترجمة د. منذر عياشي علم الدلالة – ص51(1/66)
إن الدرس الدلالي الحديث يهدف أساساً إلى التعرف على القوانين التي تشرف على النظام اللغوي، وذلك بتحليل نصوص لغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي إلى تنويع التراكيب اللغوية لأداء وظائف دلالية معينة، وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة ولا يكون حاجزاً أمام تطورها وتجددها، ويمكن في خضم هذا البحث على النواميس الخفية "خلق" نواميس لغوية جديدة لتشرف على النظام الكلامي والخطابي بين أفراد المجتمع الواحد، يقول عبد السلام المسدي شارحاً ذلك بتعريفه لدور النحوي: "أما النحوي – نعني فقيه اللغة بالاصطلاح المطرد- فمرامه أن يعي وجود اللسان من خلال وجود الكلام، ويأتي عالم اللسان ليكون همه الوعي باللغة عبر إدراك نواميس السلوك الكلامي(1) وأشارت البحوث الدلالية، في خضم بحثها في موضوع اللغة، إلى أن اكتساب التراكيب اللغوية يخضع إلى التلقائية والعفوية أثناء الحدث الكلامي، غير أن هذه التلقائية تحمل في جوهرها تلك القواعد التي تحدد للغة الخطاب والتواصل إطارها، ويتعرف المجتمع اللغوي على سننها ويتمرس في توظيفها، يوضح عبد السلام المسدي ذلك قائلاً: "إن الحدث الكلامي يكتسب تلقائياً عن طريق التحصيل بالأمومة، غير أن هذا الاكتساب الأمومي، سرعان ما يتحول إلى ضرب من الإدراك الخفي بقوانين تلك اللغة ذلك أن الظاهرة اللسانية من شروطها الأولية، أنها عقد جماعي يلتزم به الفرد ضمنياً بعد أن يحذق استخدام ما تنص عليه بنوده الصوتية والنحوية والمعجمية والدلالية"(2). وإلى هذه السنن اللغوية ذاتها أشار نوام تشومسكي في سياق حديثه عن البنية السطحية والبنية العميقة للغة، محدداً مسألة الأداء الكلامي والكفاية اللغوية التي تتيح للفرد التوصل إلى نسج جمل كثيرة وجديدة، بواسطة ما يحمل ذهنه من قواعد وسنن لغوية.
__________
(1) عبد السلام المسدي: اللسانيات وأسسها المعرفية، ص104.
(2) المرجع السابق ص31.(1/67)
يشرح ريمون طحان هذه العملية اللغوية بكيفية مفصلة فيقول: "إن البنى السطحية نتيجة آلية وميكانيكية لبني كانت في الأعماق ودفعتها اللغة إلى السطح، ويبدو أن البنى العميقة هي أسس التفكير وهي التي تستوعب المفاهيم، وأن البنى السطحية تقوم فقط بصوغ المفهوم على شكل جملة أصولية، ويبدو أن هناك تماثل بين هياكل اللغة وهياكل الذهن، وتصبح البنى الفكرية الخفية، قوالب لغوية بارزة واللسان مرآة صادقة تعكس صورة الفكر"(1).
إن تعميق البحث العلمي في اللغة، مكن من تجاوز البنى السطحية لهذه اللغة إلى بنى عميقة تكشف عن الشبكة الداخلية التي تصنف الأداءات اللغوية وتستمر معها عملية التواصل والإبلاغ إذ، "ليس للساني من مهمة في خاتمة المطاف، سوى استنباط الشبكة التصنيفية التي تقوم عليها الظاهرة اللغوية مما يتيح له استطلاع مقومات الانتظام الداخلي عبر اكتشاف النواميس المحددة لبنية اللغة والمحركة لوظيفتها في آن معاً"(2).
إن اللغة تشكل مجموعة الخبرات اللغوية للمجتمع والتي تراكمت عبر مراحل التاريخ، وهي لهذا نظام كامل لا يمكن أن يوجد لدى فرد واحد. وقد عبر أفلاطون عن ذلك بقوله: "إن الإنسان لن يجرؤ على أن يعبر باللغة على كل ما يدور بخلده من أفكار وأشياء"(3) ولذلك تقف اللغة عاجزة عن الإلمام بكل ما يريد أن يفصح عنه الإنسان، من أفكار ومشاعر، ومع ذلك تبقى اللغة الأداة الأساسية للتعبير ولتمييز اللغة كنظام واستخدام الإنسان لهذا النظام قسم سوسير دراسة اللغة إلى قسمين:
1- دراسة جوهرية موضوعها اللغة المعنية التي هي اجتماعية في جوهرها ومتكاملة في نظامها.
__________
(1) ريمون طحان : الألسنية العربية ص144.
(2) عبد السلام المسدي: اللسانيات وأسسها المعرفية، ص30.
(3) ستيفن أولمان ترجمة ك مسلم كمال بشر: دور الكلمة في اللغة ص6.(1/68)
2- دراسة تتناول الاستخدام الفردي للغة باعتباره تطبيقاً علمياً لنظام اللغة المتكامل الذي هو عبارة عن مجموعة من العلامات المختزنة في العقل الجمعي، ولا تنطق لأنها ليست فردية(1). يشرح سوسير بكيفية مفصلة التقابل الذي تشكله اللغة بنظامها، والأداء الفردي لهذا النظام مشبها اللغة بالقاموس الذي توجد فيه الكلمات صامتة غير منطوقة، صالحة للنطق والاستعمال، وإنما يستخرج منه الفرد بحسب الحاجة إليها وبحسب الاختيار وهي القاسم المشترك بين أفراد المجتمع اللغوي وتوجد في حاصل جمع عقولهم جميعاً وإذا استطعنا أن نستخرج الصور الكلامية المختزنة في عقول جميع الأفراد في مجتمع لغوي واحد، فإننا سنلمس تلك الرابطة الاجتماعية التي تربطهم جميعاً وهي ما يسمى "باللغة المعينة" وهي لا تمكن أن تكون كاملة في ذهن أي فرد بعينه، بل لا تكتمل إلا في الوعي الجمعي وتمثلها هذه المعادلة الحسابية: (2) 1+1+1+1+1=1
وما يلاحظ على المناهج التي تناولت اللغة كمادة للبحث، أنها تختلف من مرحلة لأخرى لاختلاف النمط الفكري والعلمي السائدين في العصر، فيمكن أن نذكر المنهج السلوكي، الذي يعتبر اللغة مجموعة عادات صوتية يكيفها حافز البيئة، ويفترض أصحاب هذا المنهج حصول الاستجابة الكلامية للحافز على نحو شبيه في الواقع إلى حد كبير بما يحصل عند الحيوان. وهناك المنهج العقلي المستمد أساساً من فلسفة ديكارت، وينظر هذا المنهج إلى الأداء الكلامي، كونه يخفي وراءه معرفة ضمنية بقواعد معينة، ويحرص العقلانيون على تبيان السنن القاعدية في النظام اللغوي، بغية التوصل إلى إدراك الآلية العقلية المحركة لعمل اللغة(3).
__________
(1) 38-37: p cours de linguistique generale f. de saussure
(2) المرجع السابق ص37-38 .
(3) د. ميشال زكريا: الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام ص73-74.(1/69)
هذا التناول اللغوي الموسوم بالتحليل العميق لبنية اللغة الداخلية، يبين المدى الذين توصلت إليه الدراسات اللسانية والدلالية في العصر الحديث، فلم تعد الدراسة تكتفي بالوصف السطحي للظاهرة اللغوية فحسب، وإنما تلاقح العلوم الحديثة من فلسفية ونفسية واجتماعية، أثرى المنهج اللغوي المعتمد في استنباطات سنن اللغة وقواعد نظامها، وتمكن العلماء معه إلى تحديد وظائف اللغة حسب العملية التواصلية، حيث يميز رومان جاكسون في الحديث اللساني ست وظائف هي(1)
1- الوظيفة المرجعية (referentielle): وهي تعني إشارة اللغة إلى محتوى معين لإيصاله إلى أذهان الآخرين وتبادل الرأي معهم.
2- الوظيفة التعبيرية أو الانفعالية (emotive): وهي التي تشير فيها اللغة إلى موقف المرسل من مختلف القضايا التي يتحدث عنها.
3- الوظيفة الإنشائية (conative): تظهر في اللغة التي يتوجه بها إلى المخاطب قصد لفت انتباهه إلى أمر أو طلب منه القيام بعمل معين.
4- الوظيفة الورألسنية (Metalinguistique): وهي تعكس شعور المعبّر بنظام التواصل وتتمحور حول اللغة نفسها.
5- وظيفة الاتصال (phatique): وهي تقوم على تعابير تتيح للمرسل إقامة الاتصال أو قطعه .
6- الوظيفة الشعرية (poetique): وهي تتمحور حول اللغة باعتبارها تحمل ظلالاً من المعاني والقيم الدلالية.
__________
(1) انظر المرجع السابق ص54 وكتاب intiation aux problemes des lingustiques contemporaires c. fuchs et p. le goffi c. p. 115-116(1/70)
هذه الوظائف الست هي التي تتمحور في إطارها العملية الإبلاغية التي تتخذ اللغة كخطاب يؤدي الدلالات المقصودة في الأحوال العادية، وهي تشير إلى مدى العمق العلمي التحليلي الذي سارت عليه الدراسات اللغوية الحديثة، من أجل إبراز القيم الجوهرية في اللغة باعتبارها أهم نظام للتواصل. يقول سوسير: "إن اللغة هي نظام من العلامات المعبرة عن أفكار، وبهذا ومقارنة بالأنظمة التواصلية الأخرى كنظام لغة الصم البكم أو نظام الطقوس والشعائر أو الإشارات العسكرية، وما إلى ذلك تبقى اللغة الأهم من هذه الأنظمة"(1).
ويدعم هذه الفكرة الدكتور أحمد مختار عمر بقوله: "ورغم اهتمام علم الدلالة بدراسة الرموز وأنظمتها حتى ما كان منها خارج نطاق اللغة، فإنه يركز على اللغة من بين أنظمة الرموز باعتبارها ذات أهمية خاصة بالنسبة للإنسان.(2).
هذه الجوانب من مبحث اللغة كما تناولته الدراسات الألسنية والدلالية الحديثة، والتي كانت ترمي إلى تأسيس رؤية علمية شاملة، تبرز الدور الوظيفة الأساسي للغة، وذلك بتفكيك بنيتها الداخلية للتعرف على الشبكة التنظيمية التي تشرف على عملية التواصل والإبلاغ، وهو ما دأب عليه علماء اللسانيات والدلالة في دراسات مستفيضة، استعانت بمناهج علمية مختلفة أحدثت في مبحث اللغة نقلة نوعية، وأنتجت نظريات – رغم قدمها- ما زالت تعتمد كمراجع في البحث اللغوي المعاصر.
المبحث الثاني: الدال والمدلول:
__________
(1) cours de linguistiques generale f .de sausure
(2) علم الدلالة ص12.(1/71)
من أهم القضايا الدلالية التي تناولها علماء الألسنية والدلالة، مسألة الدال والمدلول والعلاقة بينهما، كانت القضية في بداية طرحها في الدرس اللغوي، تقتصر على اللفظ والمعنى وباتساع مجال علم الدلالة أضحت المسألة تتعلق بالدال والمدلول سواء أكان الدال لفظاً أو غير لفظ، واللغة في الأخير ما هي إلا علاقات تربط دالا بمدلوله، ضمن شبكة تنظيمية، ذلك أن الدال لا يحمل دلالته في ذاته إنما منبع الدلالة هي تلك التقابلات الثنائية التي تتم على مستوى الرصيد اللغوي، يقول في ذلك د. عبد السلام المسدي: "اللغة هي مجموعة من العلاقات الثنائية القائمة بين جملة العلامات المكونة لرصيد اللغة ذاتها، وعندئذ نستسيغ أيضاً ما دأب عليه اللسانيون من تعريف العلامة بأنها تشكل لا يستمد قيمته ولا دلالته من ذاته، وإنما يستمدهما من طبيعة العلاقات القائمة بينه وبين سائر العلامات الأخرى"(1).
وقد خصص سوسير حيزاً واسعاً لدراسة مسألة الدال والمدلول، وأطلق مصطلح الدليل اللساني على وجهي العملية الدلالية (الدال والمدلول) فالدال هو القيمة الصوتية أو الصورة الأكوستيكية، أما المدلول فهو المحتوى الذهني أو الفكري(2).
إن علم الدلالة، يقوم على أساس تحديد العلاقة بين الدال والمدلول وهي علاقة لا يمكن ضبطها إلا إذا تعرفنا على طبيعة كل من الدال والمدلول وخواصهما، وفي هذا الإطار فإن الدال اللغوي لا يمكن بحال من الأحوال أن يحيلنا على الشيء الذي يعنيه في العالم الخارجي مباشرة، وإنما مرورا بالمدلول أو المحتوى الذهني الذي يرجعنا إلى الشيء الذي تشير إليه العلامة اللسانية، فالعلامات اللسانية حسب النموذج السوسيري تقتضي توفر ثلاثة شروط:
أ-أن تكون العلامة اللسانية دالة على المعنى.
ب-أن تكون مستعملة في مجتمع لساني يفهمها.
__________
(1) عبد السلام المسدي: اللسانيات وأسسها المعرفية، ص30.
(2) cours de linguistiques generale f. de saussure p. 99(1/72)
ج-أن تنتمي إلى نظام من العلامات اللغوية.
ويمكن تقديم علاقة العلامة اللسانية بالمدلول والموجود في الأعيان على النحو التالي:
... ... ... Signfieالمدلول
Signe
الدليل (الرمز)
Referent (المرجع)
فالمرجع يعني الشيء الخارجي الذي يحيلنا عليه الدليل اللساني، وهو عالم غير لغوي، وهو لا يحدد فقط بالأشياء المادية المحسوسة، فكثير من المراجع لا توجد إلا في إطار الخطاب اللغوي فمثلاً "حب" أو "صداقة" تسجل في الخطاب اللساني، ولكن لا نجد قيمتها الدلالية الحقيقية إلا داخل المجتمع اللغوي. وهذا المثلث، الذي يوضح العلاقات التي يقيمها الرمز اللغوي مع الدال والمدلول والمرجع، يبرز أن العلاقة بين الدال والمرجع هي منقطه وذلك للدلالة على أن استحضار المرجع يمر غالباً عبر المدلول، وتترك حالات قليلة يمكن أن يستحضر فيها المرجع بواسطة الدال وذلك مثلاً في الأسماء الأعلام(1).
واتخذ منحى دراسة الدليل اللساني في المباحث الدلالية، عدة أبعاد ترمي إلى تعميق الدراسة لرصد العلاقة التي تجمع الدال بالمدلول، وأخذ علم الدلالة بالمبادئ اللسانية التي كتب لها النجاح في علم الأصوات الوظيفي، ورسم العلماء منهجاً لدراسة طرفي الفعل الدلالي، أو الدليل اللساني بمصطلح سوسير وحددوا جانبين رئيسيين لهذه الدراسة:
1-التحليل الداخلي للدليل وذلك بتحليل المدلول بأساليب مختلفة برده واختزاله إلى صفاته الدلالية.
__________
(1) linguistique francaises, intiation a la problematique structurale tomel j. L. chiss. J. filliolet, d p. 118-119 maigueneau(1/73)
2-التحليل الخارجي للدليل، أي تحليل علاقات الدليل ببقية المعجم في إطار الحقول الدلالية(1) وتفرعت المباحث الدلالية في العصر الحديث لتشمل عناصر الدلالة الثلاث: الدال والمدلول والمرجع، وحرص العلماء على التأكيد أن علم الدلالة يختص بدراسة المدلول محدداً في سبيل ذلك معايير علمية "فالمدلول يتحدد بواسطة الوحدات المجاورة له، وكل تغير يصيب وحدة ما من وحدات النظام يمكن أن ينعكس على مجموع أو جزء من هذا النظام( ... ) فقيمة وحدة ما هي ذات طبيعية علائقية (relationnel) وهذا لا ينفي على كل حال الوجود الإيجابي للمدلول كوحدة معجمية"(2).
ويمكن أن تجمع عناصر الدلالة، في دراسة متكاملة تدخل ضمن مباحث الحقول الدلالية، التي تنتظم وفقاً للمنهج التصنيفي التنظيمي في دراسة الأدلة ومحتوياتها، لأن الدراسة التي تناولها الدال تنسحب بالضرورة لتتناول المدلول ومن ثم المرجع. فتقسيم الدراسة العلمية لمؤلفات الدلالة الثلاثة ليس سوى تيسير منهجي، يعتمد في تفكيك البنية الواحدة ذات المكونات المتحدة ليعيد تركيبها مرة أخرى لتكون الدراسة ذات طابع شمولي متكامل.
إذا كانت اللسانيات تركز اهتمامها على دراسة "الدال" من جوانبه المختلفة، فإن علم الدلالة- كما أسلفنا- يعني، بالأخص، بالجانب المفهومي "للدال" فيتناول ضمن مباحثه العلاقة التي يقيمها "المدلول" مع الأشياء، وعلاقته ببقية المدلولات داخل السياق اللغوي، يوضح موريس أبو ناضر ذلك بقوله: "يعرف علم المعاني أو علم الدلالة بأنه العلم الذي يعنى بدراسة الدلالات الألسنية، وعلى الأخص الجانب المعنوي من هذه الدلالات، أي المدلول، والمدلول يدرس على ضوء هذا العلم من عدة جوانب:
__________
(1) سالم شاكر ترجمة محمد يحياتين مدخل إلىعلم الدلالة، ص21
(2) المرجع السابق ص18.(1/74)
أ-الجانب الأول: يتمثل في العلاقات التي يقيمها المدلول مع الأشياء التي يومئ إليها أو يعبر عنها (المفاهيم – العواطف- معطيات العالم الخارجي).
ب-الجانب الثاني: يتمثل في العلاقات التي يقيمها المدلول مع غيره من المدلولات.
ج-الجانب الثالث: يتمثل في العلاقات التي تنشأ بين السمات الأساسية التي تتكون منها المدلولات(1)
فقد يكون للدال أكثر من مدلول يتحدد وفق السياق اللغوي، ومن ثم قد يكون المعنى أساسياً أو ثانوياً تصريحياً أو إيمائياً، وقد يحمل الدال قيماً دلالية تسمى القيم التعبيرية أو الأسلوبية يذهب بيار جيرو إلى التأكيد أن للكلمة أكثر من معنى تصريحي وآخر إيمائي، نظراً للتداعيات التي يمكن أن تحدثها أثناء الاستعمال، فأي كلمة قد تستدعي قيماً اجتماعية أو ثقافية أو حتى قيماً انفعالية، تعكس صورة قائلها وتحدد بعض ملامح الجانب النفسي فيه (2).
وتوصل علماء الدلالة في العصر الحديث، إلى تصنيف للمدلولات بالاعتماد على عدة طرق، حددها الدكتور موريس أبو ناضر منها.
1-الطريقة الشكلية: وهي تعني تصنيف المدلولات وفقاً للشكل الذي يجمعها في بنية واحدة بتفرعها عن أصل واحد يبرز القرابة بينها مثل: علم- يعلم- تعليم- معلم..
2-الطريقة السياقية: وتفيد أن المدلولات تصنف باعتبار المعنى الذي ترد من خلاله في السياقات المختلفة.
3-الطريقة الموضعية: وهي تعني أن المدلول يتحدد من خلال الموضع والموقف الذي يكون فيهما المتكلم.
4-الحقول الدلالية: وهي تكشف عن القرابة المعنوية بين المدلولات.
__________
(1) انظر مقال: مدخل إلى علم الدلالة الألسني د. موريس أبو ناضر، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 18-19، السنة 1982، ص34.
(2) بيار جيرو، انظر علم الدلالة، ترجمة د. منذر عياشي ص61-62-63.(1/75)
5-التحليل المؤلفاتي: وهو يفيد أن المدلول يعيّن انطلاقاً من مؤلفات الكلمة الأساسية أو ما يطلق عليه باللكسيم "مثل لكسيم" امرأة يحوي المؤلفات التالية: أنثى +بالغ +بشر(1).
أما دراسة (المرجع) عند علماء الدلالة فإنها لم تحسم ذلك الجدل الدائر حول تحديد الموجودات في عالم الأعيان، بحيث أن المرجع الذي يحدّد في السياق اللغوي أو في الصيغة المعجمية لا يمكنه أن يحيل إلى الشيء المعين في العالم الخارجي إحالة دقيقة، ذلك أن الموجودات في العالم الخارجي، تتميز بالتصنيف المتعدد والمتداخل حتى داخل الحقل الواحد الذي يضم موجودات متماثلة، ذلك "أن التحديد المرجعي يقع في الخطأ اعتبار علاقة: دال- مدلول علاقة تسمية ( ... ) في حين يتعين علينا أولا عند إقدامنا على وصف المدلول، استنباط الصفات المشتركة التي تلازم (المراجع) التي قد ينطبق عليها (دليل) ما فكوننا قد شاهدنا كرسياً واحداً، لا يخبرنا بالخصائص (الفيزيائية والوظيفية) اللصيقة بمجموعة لا متناهية من الأشياء التي تكوّن جنس الكرسي"(2) وإلى الفكرة ذاتها يشير كولردج بقوله: "ولا يتضمن" معنى "اللفظة في رأيي مجرد الموضوع الذي يقابلها بل يشمل أيضاً جميع الارتباطات التي تبعثها اللفظة في أذهاننا"(3).
ويبقى تحديد الشيء الخارجي في عالم الموجودات بكيفية لا تعيق عملية الإبلاغ والتواصل، من المسائل التي ما زالت تشغل اهتمام علماء الدلالة في العصر الحديث، خاصة وأنهم توصلوا إلى تنظيم دلالي في هذا المجال مفاده أن معرفة شيء من الأشياء، ينبغي فيه اعتباره جميع مستلزمات هذا الشيء بحيث يتميز عن غيره ولا يلتبس في تحديده أو تعيينه.
__________
(1) مقال: مدخل إلى علم الدلالة الأنسي. موريس أو ناضر: مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 18/19، السنة 1982، ص34-35.
(2) سالم شاكر: ترجمة محمد جباني، مدخل إلى علم الدلالة، ص23. يحياتين.
(3) محمد مضطفى: بدوي كولردج ص97(1/76)
أما المسألة الأخرى في المبحث الدلالي والتي كانت مدار الدارس اللغوي في التراث المعرفي إحدى أسس الدرس اللساني الحديث، فهي العلاقة بين الدال والمدلول أهي عرفية اصطلاحية أم اعتباطية لا تخضع لأية معيارية قسرية تخلو من العلل؟ وأثارت قضية اعتباطية الدليل اللساني أو عرفيته – منذ سوسير –كثيرا من الجدل، وكان دوسوسير أول من وضع نظرية لسانية تنم عن فهم عميق لطبيعة العلاقة بين العلامة اللسانية ومدلولها، حيث يقول توليودومورو (tullio de mauro) وهو يعاين هذه المسألة في كتاب سوسير "محاضرات في اللسانيات العامة": "إن سوسير وجد في مبدأ اعتباطية العلامة اللساني، ما كان يصبو إليه من أجل إرساء نظرية لسانية، إضافة إلى أن سوسير في سياق حديثه عن اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول – في بدء إلقاء دروسه على تلاميذه- لم ينته سوى من الخطوة الأولى في طريق الفهم العميق لمبدأ الاعتباطية. هذا يعني أن المفهوم العميق لهذا المبدأ عند سوسير، لا ينبغي تحديده انطلاقاً من الصفحتين 101-102 من الكتاب لكن من قراءته كله"(1).
__________
(1) notes bio – graphiques et critiques de cours de hnguistique generale p. 343(1/77)
إن الاعتباطية في الاقتران العرضي بين الدال والمدلول، تعتبر الخلية الحيوية التي تشرف على عملية التوالد الداخلي في اللغة، إذ يتم استحداث تراكيب وصيغ لغوية جديدة في صلب اللغة وابتكار مدلولات لها ذلك أن الألفاظ تمتلك من المرونة ما يمكنها من عبور المجالات الدلالية باعتماد معيار النقل الدلالي، أو تغيير مجال الاستعمال، وإن المدلولات تستطيع كذلك أن تجتاز سلسلة من الأدلة مرتدية بعضها مكان البعض الآخر، وذلك إذا اعتمدت في سياقات معينة يحددها الموقف المعين. يشرح ذلك الدكتور عبد السلام المسدي بقوله: "إن التوالد المستمر في رصيد اللغة سببه سمة العرضية في حصول الألفاظ دوال على المعاني، وبهذا يتسنى الجرم بطواعية الألفاظ على عبور المجالات الدلالية واحداً بعد آخر وبطواعية المدلولات على ارتداء الألفاظ بعضها مكان بعض، كما تسنى البت- بحكم علاقة الإنسان باللغة وموقعه الفاعل منها – في أمر استحداث المركبات الدلالية أصلاً بابتكار المدلول الذي لم يكن، ثم صناعة دال له فيلتحمان، ومن التحامهما يتكون مثلث دلالي جديد"(1).
__________
(1) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص95.(1/78)
ولا تتوفر للغة هذه الحركية المتجددة في بنيتها، إذا لم تخضع علاقة الدال بالمدلول إلى (معيار) الاعتباطية الذي لا يقيد دالا بمدلوله، وإنما يكسب اللغة مرونة وقدرة على تجديدها كلها بابتكار مكونات أخرى. وتعميق البحث اللغوي في مسألة العلاقة بين طرفي الفعل الدلالي، أدى إلى الاعتقاد بأن اتصال الدال بمدلوله لم يبن على(معيار) الاعتباطية إنما الذي يوحي بوجود هذا المبدأ، هو قدم العلة التي ربطت الدال بمدلوله، حتى ليخال إلينا أنه لا وجود لعلة تجمع بينهما. يوضح بيار جيرو ذلك بقوله: "إن كل الكلمات تحتوي على العلة في البداية وتحتفظ غالبيتها بها زمناً طويلاً إلى حد ما. وعلى هذا فإن العلة تكون إذن إحدى السمات الرئيسية للإشارة اللسانية"(1).
إن (معيار) الاعتباطية في العلاقة الدلالية المعتمد في النظام اللغوي، تتحدد على أساسه العملية الإبلاغية والتواصلية، ذلك أنه كلما تحققت العلاقة الاعتباطية بكثافة في لغة الخطاب، كلما بلغ النظام التواصلي مداه وانتهى الجهاز الإبلاغي إلى حده الأوفى. ويدل ذلك على الطاقة التعبيرية الكبيرة التي تتوفر عليها اللغة المبينة علاقتها الدلالية على أساس الاقتران العرضي أو التعسفي، يبيّن المسدي ذلك بقوله: "إن مقبولية العلاقة بين الدال والمدلول في كل نظام تواصلي على أساس الاقتران المنطقي، تتناسب تناسباً عكسياً مع طاقة ذلك النظام المعتمد في الإبلاغ( ... ) فكلما ثقلت كثافة التعسف الاقتراني في أي نظام إخباري، نزع نسقه الدلالي إلى طاقته القصوى. فالشحنة الاعتباطية في كل واقعة تواصلية هي المولد الدائم لسعة القدرة الإبلاغية التي تلتئم فيها"(2).
__________
(1) بيار جيرو علم الدلالة – ترجمة د. منذر عياشي ص46.
(2) اللسانيات وأسسها المعرفية: ص74(1/79)
فالدلالة تكون قابلة للاتساع، كلما كانت العلة مختفية غير معروفة ذلك أن الارتباط القسري الذي جمع الدال بمدلوله، كان في البدء عن طريق علة جوهرية هي التي أعطت لهذا الارتباط مرونته، بحيث يحدث امتداد في المجال الدلالي للفظ، "فيجب على العلة أن تختفي إذن لمصلحة المعنى أما إذا حدث العكس فإنها ستقلص المعنى وتهدمه" (1).
هذه – مجملة- هي المباحث الدلالية التي تناولت في مجالها الدراسي مسألة الدال والمدلول، وما تفرع عنها من مسائل أخرى، أضحت مواد الدرس الدلالي الحديث الذي اعتمد منهج التحليل والتفكيك لبنية النظام اللغوي، وإظهار مكوناته الأساسية قصد بحثها، وإيجاد العلائق التي تجمع بينها.
المبحث الثالث: أقسام الدلالة
من المباحث اللغوية التي أثارها الدرس الدلالي، بناء على العلاقات التي تجمع الدال بمدلوله، مبحث أقسام الدلالة وأنواع المعنى. فإذا كان تحديد معنى الكلمة يتم بالرجوع إلى القاموس اللغوي، فإن ذلك لا يمكن أن ينسحب على جميع الكلمات التي ترد مفردة أو في السياق، ولذلك ميز اللغويون بين معان كثيرة أهمها:
1-المعنى الأساسي أو التصوري: وهو المعنى الذي تحمله الوحدة المعجمية حينما ترد مفردة .
2-المعنى الإضافي أو الثانوي: وهو معنى زائد على المعنى الأساسي يدرك من خلال سياق الجملة .
3-المعنى الأسلوبي: وهو الذي يحدد قيم تعبيرية تخص الثقافة أو الاجتماع.
4-المعنى النفسي: وهو الذي يعكس الدلالات النفسية للفرد المتكلم.
5-المعنى الإيحائي: وهو ذلك النوع من المعنى الذي يتصل بالكلمات ذات القدرة على الإيحاء نظراً لشفافيتها(2).
__________
(1) بيار جيرو علم الدلالة – ترجمة د. منذر عياشي، ص50
(2) د.أحمد مختار عمر: علم الدلالة، ص 36-37-38-39.(1/80)
وتقسيم المعنى في علم الدلالة يخضع لمبدأ عام ملخصه أن القيمة الدلالية للوحدة المعجمية لا يمكن اعتبارها دلالة قارة، إنما يخضع تحديد تلك القيمة لمجموع استعمالات هذه الصيغة في السياقات المختلفة، ولقد قسم العلماء الدلالات اعتمادا على معايير أخرى ترتكز على الإدراك لطبيعة العلاقة بين قطبي الفعل الدلالي، وهو لا يخرج عن ثلاث: اعتبار العرف، أو اعتبار الطبيعة أو اعتبار العقل، وعلى ذلك فالدلالة إما عرفية أو طبيعية أو عقلية. وأخضع علماء الدلالة تصنيف الدلالات بناء على أداء السياق للمعنى، "فالكلام إما أن يساق ليدل على تمام معناه، وإما أن يساق ليدل على بعض معناه، وإما أن يساق ليدل على معنى آخر خارج عن معناه إلا أنه لازم له عقلا أو عرفا"(1) واستناداً إلى ذلك فالدلالات ثلاثة أصناف.
دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام، وهذه الدلالات الثلاثة تندرج ضمن دلالة عامة هي الدلالة الوضعية التي هي قسم من الأقسام الدلالة اللفظية، وبناء على ذلك فأقسام الدلالة في العصر الحديث تتفرع إلى ستة أصناف يمكن تمثيلها في الترسيمة التالية:
الدلالة
لفظية ... ... ... ... غير لفظية
وضعية عقلية طبيعية ... ... وضعية ... عقلية ... طبيعية
مطابقة ... تضمن ... التزام
__________
(1) عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة ص27(1/81)
ويمكن تحديد مفاهيم هذه الأصناف الدلالية، كما درج على تعريفها علماء الدلالة. فالدلالة اللفظية العرفية لا تنعقد إلا بتوفر ثلاثة أركان: "اللفظ، وهو نوع من الكيفيات المسموعة، والمعنى الذي جعل اللفظ بإزائه، وإضافة عارضة بينهما هي الوضع، أي جعل اللفظ بإزاء المعنى، على أن المخترع قال: إذا أطلق هذا اللفظ فافهموا هذا المعنى"(1) فالدلالة الوضعية، هي الدلالة العرفية أو الاصطلاحية، حيث يتواضع الناس في اصطلاحهم على دلالة شيء ما، وبعد ذلك فالدلالة الوضعية يقتضي لإدراكها العلم المسبق بطبيعة الارتباط بين الدال ومدلوله، ففي الدلالة العرفية يقول المسدي: "لا يتسنى للعقل البشري من تلقاء مكوناته الفطرية ولا الثقافية أن يهتدي إلى إدراك فعل الدلالة إلا إذا ألم سلفاً بمفاتيح الربط بين ما هو دال وما هو مدلول، وهذا الإلمام ليس بفعل الطبيعة ولا هو من مقومات العقل الخالص ولكنه من المواضعات التي يصطنعها المجتمع"(2).
أما الدلالة العقلية وتسمى كذلك الدلالة المنطقية، فهي التي يكون فيها العقل أمر إدراك طبيعة العلاقة التي تربط الدال بمدلوله، ويمثل لتعريفها عادة بدلالة الدخان على النار إذ يتم استحضار الدلالة الغائبة بحقيقة حاضرة والذي يربط بين الأمرين هو العقل وعلى هذا سميت الدلالة المستحضرة بالدلالة العقلية، يحدد المسدي هذه الدلالة وطرق إدراكها بقوله: "وفيها (أي الدلالة العقلية) يتحول الفكر من الحقائق الحاضرة إلى حقيقة غائبة عن طريق المسالك العقلية بمختلف أنواعها"(3) هذه المسالك المعتمد عليها في رصد الدلالة المنطقية تتحدد في ثلاثة:
__________
(1) شرح مطالع الأنوار: التحتاطي ص28. نقلة عادل الفاخوري في كتابه علم الدلالة عند العرب، ص16.
(2) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص52.
(3) المرجع السابق، ص47(1/82)
1-مسلك البرهان القاطع: وهو الذي يتقيد بقيود المنطق العقلي، فإذا سألت عن جنس الحاضرين فأجبت بأن بعضهم ذكور عرفت أن بينهم إناث.
2-مسلك القرائن الراجحة: وهو الذي يفضي إلى تسليم ظني يأخذ في البدء بمعطيات هي في منزلة "العلامات الدالة" وبواسطة القرائن المنطقية يستكشف "مدلول" تلك العلامات.
3-مسلك الاستدلال الرياضي: وهو يعني الانتقال من المعلوم فرضاً إلى المجهول تقديراً(1)
أما الدلالة الثالثة فهي الدلالة الطبيعية، التي يعتمد في إدراكها على علاقة طبيعية يتم على أساسها الانتقال من الدال إلى المدلول، يقول عادل الفاخوري في تعريفها: "هي الدلالة، يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة طبيعية ينتقل لأجلها منه إليه، كدلالة الحمرة على الخجل والصفرة على الوجل"(2).
__________
(1) المرجع نفسه، ص50-51
(2) عادل الفاخوري علم الدلالة، ص42(1/83)
فالدلالة الطبيعية – إذن- فيها ربط بين حقيقة ظاهرة وحقيقة غائبة يتم على أساسها اقتران الدال بمدلوله اقتراناً طبيعياً وهذا الاقتران الطبيعي "يتمثل في الرابطة التي تكوّن ما يقع عليه الحس الإنساني وبين تفسير الإنسان لهذا المحسوس، فأعراض الأمراض محسوسات يفسرها الطبيب تغيرات تربط بين كل منها وبين مرض معين" (1) ويعزى وجود هذا الإرتباط بين الدال والمدلول إلى السنن الكونية التي تسير وفقها الطبيعة، فالحدث الطبيعي إذا تكرر أمكن للعقل المدرك أن يعقد بينه وبين الشيء الذي أحدثه، وبناء على ذلك "فالدلالة الطبيعية هي التي ليس بين الملزوم واللازم فيها ارتباط عقلي، إلا أن النظام الذي وضعه الله في الطبيعة قد أوجد هذا الترابط فإذا سألنا العقل المجرد عن ملاحظة النظام الموجود في الطبيعة لم يجد تعليلاً عقلياً له غير أن الإختيار المتكرر للأحداث الطبيعية، قد نبه على وجود هذا الترابط في الواقع" (2).
__________
(1) د. تمام حسان- الأصول- دراسة إبستيمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، ص319.
(2) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة وأصول المناظرة والاستدلال، ص26(1/84)
أما الدلالة من حيث المفهوم فإنها تصنف كذلك إلى ثلاثة أصناف –أشرنا إليها سابقاً- هي التي تمثل الأقسام الثلاثة للدلالة الوضعية اللفظية وهي: دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام "فدلالة اللفظ على تمام معناه الحقيقي والمجازي هي دلالة المطابقة ودلالة اللفظ على بعض معناه الحقيقي أو المجازي هي دلالة التضمن، ودلالة اللفظ على معنى آخر خارج عن معناه لازم له عقلا أو عرفا هي دلالة الالتزام، واللفظ الدال يحمل مقومات تمثل مؤلفاته التمييزية فلكسيم "إنسان" يحمل المقومات التمييزية التالية: "الجسم الحي، الحساس، الناطق". وعليه تكون دلالة المطابقة، دلالة اللفظ الكلّي على مجموع هذه المقومات التي تؤلف الذات أو الكنه، وتكون دلالة التضمن دلالته على بعض هذه المقومات لا كلّها. فهكذا كلمة "إنسان" تدل بالمطابقة على الحيوان الناطق، وبالتضمن على الجسم مثلاً أو على الناطق أو على الجسم الحي"(1) أما دلالة الالتزام فإنها تكون خارج اللكسيم ذاته بشيء يلزمه، وعلى ذلك" فدلالة الالتزام تكون دلالة جزء على الجزء المجاور له ضمن مجموعة مرتبة من الأجزاء كدلالة الحاجب على العين"(2).
__________
(1) عادل الفاخوري علم الدلالة عند الغرب – دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة –ص43
(2) المرجع السابق، ص43(1/85)
وبما أن العلاقة بين الدال والمدلول تخضع أساساً لفعل الإدراك لطبيعة هذه العلاقة، وبناء على ذلك تتحدد الأنساق الدلالية، فإن للسياق اللغوي إضافات نوعية على مستوى تحديد الأصناف الدلالية، فتتميز بذلك الدلالة العامة من الدلالة الخاصة، والدلالة الظاهرة من الدلالة الخفية اللتان يتحكم فيهما التصريف المزدوج لاستعمال اللغة وهو ما يمكن أن يدرج تحت ما يسمى بالدلالة الأصلية والدلالة المحولة، فالتراكيب السياقية هي التي تشرف أساساً على تحديد الدلالة المعينة للصيغة "فإذا استطاع اسم من الأسماء أن تكون له معان عديدة فيجب أن نعلم أنها معان محتملة وأن أحد هذه المعاني يتحدد ضمن سياق معين"(1) إن الدلالة السياقية، تشير إلى ذلك الترابط العضوي بين عناصر الجملة وهو ما يشكل بنية اللغة، بل إن مفهوم الدلالة السياقية يتسع ليشمل مجموع الجمل التي تكون النص يوضح ستيفن أولمان ذلك قائلاً: "إن السياق، ينبغي أن يشمل – لا الكلمات والجمل الحقيقية السابقة والملاحقة –فحسب- بل والقطعة كلها والكتاب كله – كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف وملابسات"(2).
__________
(1) بيار جيرو علم الدلالة، ترجمة د. منذر عياشي، ص56
(2) ترجمة دور الكلمة في اللغة ستيفن أولمان د. كمال محمد بشر، ص62(1/86)
إن الجملة التي تؤدي قيما دلالية، يفترض أن تكون ذات وحدة بنيوية ووظائفية، وهو ما يكرّس مبدأ التركيب السياقي ودوره الأدائي، وقد تستقل الجملة بدلالتها داخل النسيج الدلالي للخطاب وهذا لا يعني نفي أية صلة بينها وبين السياق العام للنص بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدلالي للجمل الأخرى داخل النص الواحد. يبيّن عبد السلام المسدي ذلك بقوله: "إن استقلال التركيب لا يعزل وجود ارتباط معنوي، فالنص بأكمله مجال دلالي واحد، والجمل من النص تقوم على تسلسل معنوي عام بحكم انتمائها إلى نفس المجال الدلالي"(1).
وإضافة إلى الدلالة السياقية، يشير الدرس الدلالي الحديث إلى دلالة أخرى تتحدد وفق موقع الصيغة من السياق، ووفق تركيب عناصر الجملة وترتيبها، وهو ما اصطلح على تسميتها بالدلالة الموقعية، فقد تتكون الجملتان من نفس الوحدات لكن ترتيبها في كل جملة يختلف فتتميز الدلالة تبعاً لذلك، إن السياق اللغوي قد يحيل إلى دلالات مختلفة تتحدد بضوابط خاصة من ذلك المعاني الحافة الاجتماعية والفردية، وهي عبارة عن قيم عاطفية إضافية تسمى القيم التعبيرية أو الأسلوبية والتي أضحت من مباحث علم الأسلوب الذي يهدف إلى الإجابة على التساؤل التالي: "ما الذي يجعل الخطاب الأدبي الفني مزدوج الوظيفة والغاية يؤدي ما يؤديه الكلام عادة وهو إبلاغ الرسالة الدلالية، ويسلط مع ذلك على المتقبل تأثيراً ضاغطاً به ينفعل للرسالة المبلغة انفعالاً ما" (2).
__________
(1) الدكتور عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية: ص153
(2) د.محيي الدين صبحي، نظرية النقد العربي وتطورها إلى عصرنا، ص194(1/87)
وشبيهة بالقيم الأسلوبية، تلك الدلالة التي أطلق عليها مصطلح الدلالة النحوية وهي تجمع بين المعنى الموقعي والمعنى فوق الدلالي أو التعبيري، فالكلمة في سياق الجملة وفي موقع إعرابي معين تشير إلى دلالة معينة. يشرح ذلك فايز الداية بقوله: "وأما الإضافة الثانية فهي الدلالة النحوية أي أن الكلمة تكتسب تحديداً وتبرز جزءاً من الحياة الاجتماعية والفكرية، عندما تحل في موقع نحوي معين في التركيب الاسنادي وعلاقاته الوظيفية: الفاعلية، المفعولية، النعتية، الإضافة، التمييز، الطرفية، فمثلاً: "خاطبت الطحان في شأن تحسين عمله وزيادة مقدار إنتاجه فكلمة "طحان" في موقع المفعول به تبرز في جهة من العلاقة الاجتماعية هي موقع المحاسبة والمسؤولية وهناك من يحاسبها أو يسألها"(1).
هذه هي مختلف الأبحاث الدلالية التي دارت حول محور دراسة طرفي الدلالة- الدال والمدلول- تناولت طبيعة كل منهما كما عاينت العلائق المختلفة التي تنشأ من اتحاد الدال بمدلوله والتي أنتجت أقساماً وأنواعاً للدلالة.
المبحث الرابع: التطور الدلالي
__________
(1) فايز الداية علم الدلالة العربي- النظرية والتطبيق- ص21.(1/88)
لقد كان اهتمام علماء الدلالة بمسألة التطور الدلالي، منذ أوائل القرن التاسع عشر، حاولوا خلاله تأطير تغير المعنى بقواعد وقوانين، فبحثوا في هذا المجال أسباب تغير الدلالة وأشكاله وصوره، وقد أدركوا أن التطور الدلالي، هو تغيير الألفاظ لمعانيها، ذلك أن الألفاظ ترتبط بدلالتها ضمن علاقة متبادلة فيحدث التطور الدلالي كلما حدث تغير في هذه العلاقة، ولا يكون التطور في مفهوم علم الدلالة في اتجاه متصاعد دائماً إنما قد يحدث وأن يضيف المعنى أو يخصص، كما يتسع أو يعمم، فيكون الانتقال من المعنى الضيق أو الخاص إلى المعنى الاتساعي أو العام وقد يحدث العكس، ولذلك يفضل بعض علماء اللغة المحدثين مصطلح تغير المعنى عوض مصطلح التطور الدلالي يقول المسدي في ذلك: "إن الحقيقة العلمية التي لامراء فيها اليوم هي أن كل الألسنة البشرية ما دامت تتداول فإنها تتطور، ومفهوم التطور هنا لا يحمل شحنة معيارية لا إيجاباً ولا سلباً وإنما هو مأخوذ في معنى أنها تتغير إذ يطرأ على بعض أجزائها تبدل نسبي في الأصوات والتركيب من جهة ثم في الدلالة على وجه الخصوص ولكن هذا التغير هو من البطء بحيث يخفى عن الحس الفردي المباشر"(1).
__________
(1) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص38.(1/89)
إن التغير الدلالي ظاهرة طبيعية، يمكن رصدها بوعي لغوي لحركية النظام اللغوي المرن، إذ تنتقل العلامة اللغوية من مجال دلالي معين إلى مجال دلالي آخر، وهو ما يمكن أن يدرس في مباحث المجاز، وفي حركية اللغة الدائبة قد تتخلف الدلالة الأساسية للكلمة فاسحة مكانها للدلالة السياقية أو لقيمة تعبيرية أو أسلوبية، وبذلك تغدو الكلمة ذات مفهوم أساسي جديد وقد يحدث أن ينزاح هذا المفهوم بدوره ليحل مكانه مفهوم آخر، وهكذا يستمر التطور الدلالي في حركة لا متناهية تتميز بالبطء والخفاء. يشرح بيار جيرو ذلك بقوله: "يتغير المعنى لأننا نعطي اسماً عن عمد لمفهوم ما من أجل غايات ادراكية أو تعبيرية، إننا نسمي الأشياء ويتغير المعنى لأن إحدى المشتركات الثانوية (معنى سياقي، قيمة تعبيرية، قيمة اجتماعية) تنزلق تدريجياً إلى المعنى الأساسي وتحل محله فيتطور المعنى"(1)
إن التغيير الذي يطرأ على بنية اللغة، لا يحدث إلا إذا توفرت عوامل موضوعية وأخرى ذاتية تدفع العناصر اللغوية إلى تغيير دلالاتها، وقد حصر علماء الدلالة هذه العوامل في ثلاثة: عوامل اجتماعية ثقافية، عوامل نفسية، وعوامل لغوية، وقد توجد غير هذه العوامل تتحكم في التطور الدلالي. يوضح ذلك ستيفن أولمن بقوله: "هذه الأنواع الثلاثة مجتمعة تستطيع فيما بينها أن توضح حالات كثيرة من تغير المعنى، ولكنها مع ذلك ليست جامعة بحال من الأحوال"(2) وأهم عوامل التطور الدلالي:
1-العامل الاجتماعي الثقافي:
__________
(1) علم الدلالة: ترجمة منذر عياشي، ص99.
(2) دور الكلمة في اللغة: ترجمة كمال محمد بشر، ص157.(1/90)
حيث يتم الانتقال من الدلالة الحسية إلى الدلالة التجريدية، نتيجة لرقي العقل الإنساني ويكون ذلك تدريجياً، ثم قد تندثر الدلالة الحسية فاسحة مجالها للدلالة التجريدية، وقد تظل مستعملة جنباً إلى جنب مع الدلالة التجريدية لفترة من الزمن(1) فالنمو اللغوي لدى الإنسان الأول، عرف في بداية تسمية العالم الخارجي الدلالة الحسية فحسب، ومع تطور العقل الإنساني إنزوت تلك الدلالات الحسية وحلت محلها الدلالات التجريدية.
وقد يحدث أن تضيق الدلالة بعد أن كانت متسعة أو عامة، ويمكن تمثل ذلك في الدلالات التي كانت مستعملة قبل الإسلام مثل الصلاة والزكاة والحج، ثم بعد الإسلام مالت دلالات هذه الصيغ اللغوية نحو التخصيص وهذه سنن لغوية تنسحب على كل عناصر النظام اللغوي، وقد تتسع الدلالة بعد أن كانت ضيقة مثال ذلك يذكر اللغويون ألفاظاً مثل: "الدلو، و"القصعة" و"السفينة" وغيرها إذ كانت تدل هذه الكلمات على أشياء مصنوعة من مادة الخشب أو الطين ولكن رغم التغير الذي حصل في شكل ومادة هذه الأشياء في العصر الحديث، إلا أن هذه الألفاظ ما زالت دلالاتها القديمة تشملها ضمن مجالها الدلالي.
2-العامل النفسي:
قد تعدل اللغة بإشراف المجتمع عن استعمال بعض الكلمات لما لها من دلالات مكروهة، أو يمجها الذوق الإنساني وهو ما يعرف باللامساس، ويخضع ذلك لثقافة المجتمع ونمط تفكيره وحسه التربوي، فيلجأ المجتمع اللغوي إلى تغيير ذلك اللفظ ذي الدلالة المكروهة والممجوجة بلفظ آخر ذي دلالة يستحسنها الذوق، فكأن اللامساس يؤدي إلى تحايل في التعبير أو ما يسمى بالتلطف، وهو في حقيقته إبدال الكلمة الحادة بالكلمة الأقل حدة، وهذا النزوع نحو التماس التلطف في استعمال الدلالات اللغوية هو السبب في تغير المعنى(2).
3-العامل اللغوي:
__________
(1) د. إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص161-162.
(2) د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص240.(1/91)
قد يحدث في صلب اللغة فجوات معجمية لا تجد معها اللفظ الذي يعبر عن الدلالة الجديدة فيلجأ اللغويون إلى سدها عن طريق الاقتراض اللغوي أو الاشتقاق، وقد يتجه المجتمع اللغوي نحو المجاز فيتم ابتداع دلالة جديدة أو يحصل نقل لدلالة من حقل دلالي إلى آخر، وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة العربية كقولنا: أسنان المشط فدلالة "الأسنان" تم نقلها من مجال دلالي يخص الكائن الحي بوجه عام إلى مجال آخر يبدو بعيداً ويخص "المشط" ومثل ذلك قولنا: "أرجل الكرسي" و"ظهر السيف" و"كبد السماء" وغيرها من التراكيب اللغوية. إن الكلمة قد تقترض معنى جديدا ضمن الخطاب اللغوي فنصبح ذات دلالة إضافية متداولة مع مجموع المتخاطبين يشرح ذلك بيارجيرو بقوله: "إني لا أرى بأساً من التكرار فأقول مجدداً إني أعتقد –مع سوسير- بضرورة وجود مفهومين للقيمة البنيوية والمضمون الدلالي، ولا تنفي هاتان القيمتان بعضها بعضا بل تتكاملان، فالكلمة من جهة أولى منفتحة على إمكانات من العلاقة تعدها بنية النظام اللساني، ولكن من جهة أخرى كلما تحققت العلاقات الافتراضية ضمن الخطاب وعرفها المتكلمون، نجد أن أثر المعنى الناتج عنها يتخزن في الذاكرة وانطلاقاً من هذه اللحظة يتعلق المعنى بالإشارة ويعطيها مضمونا(1).
هذه الأسباب تعد أهم العوامل التي تتحكم في التطور الدلالي أو تغيّر المعنى وقد عقد إبراهيم أنيس فصلاً في كتابه "دلالة الألفاظ" وضح فيه أسباب تغيّر المعنى ومظاهره، والتي شبهها بمظاهر وأعراض المرض وحصرها في خمس مظاهر هي: تخصيص الدلالة، تعميم الدلالة، انحطاط الدلالة، رقي الدلالة، وتغيير مجال الاستعمال (المجاز)(2).
__________
(1) علم الدلالة، ترجمة منذر عياش، ص43.
(2) إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، ص152- إلى ص167.(1/92)
وتخصيص الدلالة، يعني تحويل الدلالة من المعنى الكلي، إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجال استعمالها، أما تعميم الدلالة فمعناها أن يصبح عدد ما تشير إليه الكلمة أكثر من السابق، أو يصبح مجال استعمالها أوسع من قبل. أما رقي الدلالة وانحطاطها فيدرجه علماء الدلالة تحت مصطلح "نقل المعنى" إذ قد تتردد الكلمة بين الرقي والانحطاط في سلم الاستعمال الاجتماعي، بل قد تصعد الكلمة الواحدة إلى القمة وتهبط إلى الحضيض في وقت قصير، فكانت دلالة طول اليد كناية عن السخاء والكرم وهي قيمة عليا لكنها أضحت وصفاً للسارق إذ يقال له: هو طويل اليد، أما تغيير مجال الاستعمال بنقل الدلالة من مجالها الحقيقي إلى مجال المجاز فيمثلون لها بكلمة "رسول" التي كانت تطلق على الشخص الذي يرسل لأداء مهمة ما.
فحوّل مجال استعمالها الدلالي فأضحت تطلق على شخص "النبي" بحيث تتبادر إلى الذهن كلما استعملت ضمن الخطاب اللغوي العادي(1).
هذه التبدلات التي تحدثت في صلب النظام اللغوي هي من التعقيد والبطء بحيث لا يمكن رصد ذلك إلا بوعي علمي، متمكن صاحبه من أدوات رصد التطور أو التغير الدلالي، ثم إن اللغة ما دامت تخضع علاقتها الدلالية لمعيار الاعتباطية، فإنها تتطور وتتغير وتنزع نحو احتواء التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تحدث في المجتمع اللغوي، فما اللغة إلا انعكاس للمجتمع بكل مكوناته وعناصره وإن المجتمع يؤثر في اللغة سلباً وإيجاباً وعلى ذلك فمسألة التطور أو التغير الدلالي تأخذ في مجالها كل هذه الاعتبارات الاجتماعية والفكرية واللغوية والنفسية التي تخص المجتمع اللغوي.
المبحث الخامس: الحقيقة والمجاز:
__________
(1) د. أحمد مختار عمر، انظر علم الدلالة، ص243-245-248.(1/93)
يوصف الرصيد اللغوي باللامتناهي بناء على تداخل البنى التعبيرية بين حقوله الدلالية وتتراوح هذه البنى عند الاستعمال في مد وجزر بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، ذلك أن مرونة النظام اللغوي تسمح بوجود هذا التداخل المستمر حتى لتغدو الدلالة المجازية بالاستعمال المتداول دلالة حقيقة تعايش الدلالة الأصلية القديمة فتخرج من مجالها "الاستثنائي" إلى مجال الاستعمال الحقيقي يوضح الدكتور عبد السلام المسدي ذلك بقوله: "فاستعمال اللغة يقتضي تصريفا مزدوجاً للألفاظ بين دلالة بالوضع الأول وهي الدلالة الحقيقية ودلالة بالوضع الطارئ وهي الدلالة المجازية التي تعتبر دلالة منقولة ومحوّلة، فكلمات اللغة في وظيفتها الدلالية متعددة الأبعاد تبعاً لموقعها من البنى التركيبية ومن وراء ذلك الموقع موقف يتخذه المتكلم من أدواته التعبيرية وهو ما يجعل رصيد اللغة لا متناهياً في دلالته بحكم حركة المد والجزر الواقعة بين حقولها المعنوية طبقاً لما تستوعبه الدوال"(1).
__________
(1) اللسانيات وأسسها المعرفية: ص96.(1/94)
إن هذا المد والجزر الواقع بين الحقول الدلالية تقتضيه بنية اللغة التي تنزع إلى التجدد والتطور "والعبارات كلما كثر دورانها على الألسن بدأت مفهوماتها المحددة تتسع وقد تنحرف إلى مدلولات مغايرة من بعض الوجوه لمدلولها القديم"(1) إن صورة الدلالة الجديدة، تحمل سمات الدلالة القديمة بحكم أنها كانت دلالة أصلية حلت مكانها الدلالة المجازية التي قد تنزاح أمام حكم الاستعمال اللغوي لتنقل إلى مجال دلالي آخر، وقد تعود تلك الدلالة الأصلية القديمة إلى مكانها الأول يقول السيد أحمد خليل في سياق حديثه عن هذا التداخل بين الحقيقة والمجاز: "وحتى ذلك اللفظ المجاز لا يظل مجازاً على طول الزمن وإنما يعرض له أن يكون حقيقة متعارفاً عليها في بيئة من البيئات أو لهجة من اللهجات، ومتى استقر في البيئة مدلوله وتحدد معناه إلى ما كان عليه أولاً من تسميته بالحقيقة مقيدة بعرف هذه البيئة وتواضعها"(2).
تملك اللغة –إذن القدرة على وضع أنظمة إبلاغية جديدة داخل النظام اللغوي العام، وذلك بوصفها نظاماً من العلائق الدلالية وتبقى الصلة – مع ذلك- قائمة بين مختلف أنظمتها اللغوية، فدلالة المجاز لا يمكن أن نتصورها على أنها دلالة جديدة تنفصم كلياً عن الدلالة الأصلية، وإنما يبقى المجال الدلالي للفظ المجاز يحتفظ بخيط- مهما دقّ- يربطه بالمجال الدلالي للفظ الحقيقي "فكل التحولات داخل نظام اللغة تبقى معقودة بنمط تواصلي يفسر ما إذا كان المجاز يراد به المستعار بعد أن تجوز عن وضعه أم يراد به ما يقتضي الحقيقة"(3).
__________
(1) د. عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، ص378
(2) دراسات في القرآن: ص31.
(3) د. عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص97.(1/95)
إن العلاقة التي تربط الدلالة الحقيقية بالدلالة المجازية، لا تخرج عن تلك الأنساق الدلالية العامة التي تربط الدال بمدلوله، فالبحث في دلالة المجاز هو بحث في معنى المعنى. إذ أن مدلولاً أولاً (وهو الدلالة الحقيقية) يقود إلى مدلول ثان (وهو الدلالة المجازية) والأنساق الدلالية التي حددها علماء الدلالة ثلاثة: دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام. ويمكن أن نلمس هذه الأصناف من الدلالات في المجاز بأنواعه وهو يشمل كل لفظ أو تركيب حوّل عن معناه الأصلي وبقيت تربطه معه علاقات تحدد عن طريق قرائن ذكرها علماء البيان والبلاغة، فالمعنى الذي تفيده "الكناية" كصورة بيانية يمكن أن يؤخذ بدلالته الأصلية أو دلالته المجازية فالمدلول الأول الأصلي مقصود مع المدلول الثاني المجازي، فالدلالة بناء على ذلك دلالة مطابقة، فالكناية في عرف البلاغيين هي استعمال اللفظ والتركيب اللغوي في غير ما وضعا له أصلاً مع إمكان إيراد المعنى الحقيقي.
أما دلالة المجاز، ذي العلاقة الجزئية حيث يذكر المعنى الجزئي ويراد به المعنى الكلي، فهو يعبر عن دلالة التضمن الذي يكون فيها المدلول الأول وهو الدلالة الأصلية المذكورة في السياق – محتوى ومتضمن في المدلول الثاني- وهو الدلالة المجازية المرادة من السياق مثال ذلك قوله تعالى: "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير"(1) فاستعمل لفظ "رقبة" وأريد به "العبد الذي يعيش الرق" والرقبة هي جزء من الجسم وعلى ذلك فدلالتها متضمنة في دلالة الجسم. وإذا كان المجاز ذا علاقة كلية بحيث يعبر بالكل ويراد به الجزء فهو إشارة كذلك إلى دلالة التضمن ولكن في اتجاه عكسي ذلك أن المدلول الثاني –الدلالة المجازية المرادة- تكون محتواة ومتضمنة في المدلول الأول – الدلالة الحقيقية المذكورة.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 3.(1/96)
وإذا كان بين الدلالة الأصلية والدلالة المجازية علاقة تشابه وهي ما تفيده "الاستعارة"، إذ تشير هذه الصورة البيانية إلى اشتراك في صفة أو أكثر بين مدلول أول ومدلول ثان، فعلاقة المدلول الأول بالصفة أو الصفات التي تجمعه بالمدلول الثاني هي علاقة تضمن. أما علاقة الصفة ذاتها أو الصفات بالمدلول الثاني فهي علاقة التزام ومثال ذلك قولنا: "رأيت أسداً في المعركة "فعلاقة الأسد" "بالشجاعة"- وهي الدلالة المرادة- هي علاقة تضمن من جهة، وهي علاقة إلتزام من جهة أخرى إذ اعتبرت الشجاعة أحد المقومات الأساسية "للأسد" أما علاقة "الشجاعة بالرجل المشبه بالأسد فهي علاقة التزام أيضاً باعتبار "الشجاعة" ليست صفة ثابتة في الرجل ومقوم أساسي له إنما هي صفة عرضية. يشرح عادل الفاخوري علاقة الدلالة المجازية بالدلالة الحقيقة بمنهج نظري فيقول: "بما أن مدلول الألفاظ عامة يؤلف مجموعة من الصفات من حيث المفهوم أو مجموعة من الأجزاء من جهة كونه أمراً خارجياً، كان من البديهي لتعيين العلاقة بين المدلول الأصلي والمدلول المجازي أن ينطلق علم البيان من النسب القائمة بين أية مجموعتين من الصفات أو من الأجزاء"(1).
إن المجاز يعد مبحثا خصبا لعلم الدلالة، إذ فيه تتجلى مرونة النظام اللغوي وانفتاحه على كل تغير للمعنى، وهو يؤكد من جانب آخر على مطاوعة اللغة لأساليب التعبير التي يفرضها الموقف ويتم في صلب النظام اللغوي استحداث أنظمة إبلاغية جديدة تحافظ على نقل الرسالة الإبلاغية، وهي غاية ما يرمي إليه أي نظام لغوي.
المبحث السادس: الحقول الدلالية:
__________
(1) علم الدلالة عند العرب- دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة – ص53.(1/97)
يعد مبحث الحقول الدلالية من المباحث التي لم تتبلور فيها نظرية دلالية جامعة رغم الجهود اللغوية لعلماء الألسنية والدلالة، والتي أنتجت رؤى مختلفة حول تصور للحقول الدلالية، فقد أشار سوسير في مجال حديثه عن اللسانيات الوصفية في باب العلاقات الترابطية (les rapports associatifs) أن الدليل اللساني بإمكانه أن يخضع إلى نوعين من العلاقات:
1-علاقة مبنية على معايير صورية مثل كلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى مشتقة منها وتنتمي إلى نفس المجال الدلالي مثل: علم، نعلم.
2-علاقة مبنية على المعايير الدلالية فكلمة "تعليم" توحي بكلمات أخرى مثل: تربية، تعلم، تكوين.(1) وبذلك وضع سوسير الإطار العام الذي يمكن أن تدرس فيه الأدلة اللغوية، وذلك ببحث العلاقات التي تجمعها وتصنفها ضمن حقول دلالية، وبرزت بعد نظرية سوسير عدة نظريات رائدة في مجال استنباط العلاقات الأساسية بين الأدلة واضعة معايير مختلفة من ذلك:
أ-بناء حقول دلالية باعتبار العلاقات التراتبية بين الأدلة اللغوية كنسبة الفرد إلى الجنس، خضوع الجزء للكل، خضوع الخاص للعام من أمثلة ذلك: رأس /جسم، جسم/ يد، زيد/ رجال.
ب-وضع حقول دلالية بناء على علاقة التقابل أو التضاد مثال ذلك: نهار /ليل، موت/ حياة.
ج-وضع حقول دلالية بناء على علاقة البدء بالعاقبة مثال ذلك: تعلم /معرفة، علاج/ شفاء، سافر/ وصول.
د-حقول دلالية باعتبار علاقة التدرج أو التعاقب مثال ذلك: غال –دافئ- مائل للبرودة –بارد –قارس- متجمد(2).
هـ-وضع حقول دلالية بناء على علاقة الترادف: يتحقق الترادف حين يوجد تضمن من الجانبين يكون (أ) و(ب) مترادفين إذا كان (أ) يتضمن (ب) ، و(ب) يتضمن (أ) كما في كلمة "أم" و"والدة(3).
__________
(1) Cours linguistiques generale f. de saussure p. 173-174
(2) سالم شاكر، انظر مدخل إلى علم الدلالة، ترجمة محمد يحياتين ص44.
(3) د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص98.(1/98)
و-وضع حقول دلالية بناء على علاقة الاشتمال: تختلف هذه العلاقة عن علاقة الترادف في أنه تضمن من طرف واحد يكون (أ) مشتملاً على (ب) حين يكون (ب) أعلى في التقسيم التصنيفي أو التفريعي (Taxonomic) مثل "فرس" الذي ينتمي إلى فصيلة أعلى "حيوان" وعلى هذا فمعنى "فرس" يتضمن معنى "حيوان"(1)
فالحقول الدلالية بناءً على ذلك هي –مجموعة من الكلمات ترتبط دلالتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها"(2)
وانتهى علم الدلالة إلى تصنيف للحقول الدلالية باعتبار ما تتضمن من الأدلة اللغوية، وما تحيله عليه في عالم الأعيان والأذهان، وهو لا يخرج عن جنسين من المدلولات: مدلولات محسوسة ومدلولات تجريدية.
والمدلولات المحسوسة تتفرع إلى قسمين: محسوسات متصلة ومحسوسات منفصلة وبناءً على ذلك توصل أولمان إلى تقسيم الحقول الدلالية إلى أنواع ثلاثة هي:
1-الحقول المحسوسة المتصلة مثل التي تشتمل على الألوان.
2-الحقول المحسوسة المنفصلة مثل التي تشتمل على الأُسر
3-الحقول التجريدية وهي تضم عالم الأفكار المجردة(3).
__________
(1) المرجع السابق ص99.
(2) المرجع نفسه ص79.
(3) s. ullman meaming and style p. 27-31(1/99)
إن نظرية الحقول الدلالية، قد أسهمت بشكل بارز في إيجاد حلول لمشكلات لغوية كانت تعتبر إلى زمن قريب- مستعصية، وتتسم بالتعقيد ومن جملة تلك الحلول الكشف عن الفجوات المعجمية التي توجد داخل الحقل الدلالي، وتسمى هذه بالفجوة الوظيفية أي عدم وجود الكلمات المناسبة لشرح فكرة معينة أو التعبير عن شيء ما، كذلك إيجاد التقابلات وأوجه الشبه والاختلاف بين الأدلة اللغوية داخل الحقل الدلالي الواحد، وعلاقتها باللفظ الأعم الذي يجمعها ويمكن بناء على ذلك إيجاد تقارب بين عدة حقول معجمية. كما تتمثل أهمية الحقول الدلالية في تجميع المفردات اللغوية بحسب السمات التمييزية لكل صيغة لغوية، مما يرفع ذلك اللبس الذي كان يعيق المتكلم أو الكاتب في استعمال المفردات التي تبدو مترادفة أو متقاربة في المعنى، وتوفر له معجماً من الألفاظ الدقيقة الدلالة التي تقوم بالدور الأساسي في أداء الرسالة الإبلاغية أحسن الأداء(1).
هذه التفريعات التي بحثها العلماء، تعتبر أسس الدراسة في مبحث الحقول الدلالية الذي برز في شكله الأولي في صورة المعاجم اللغوية التي صنفت الأشياء الموجودة في عالم الأعيان، ونتيجة لتقدم العلوم وتشعب المعارف، احتاج الإنسان إلى تصنيف علمي جديد يؤطر معارفه ويمنع عنه اللبس المصاحب لاستعمال اللغة التي هي أداة المعرفة والعلم، فتوصل إلى وضع معاجم لغوية جامعة ومصنفة لمفردات اللغة بشكل دقيق، اصطلح على تسميتها –نظراً لسيادة النظرة الطبيعية العلمية في ذلك العصر- بالحقول الدلالية.
الخلاصة:
__________
(1) د. أحمد مختار عمر، انظر في ذلك علم الأدلة، ص110-111-112(1/100)
هذه المباحث التي أجملناها، تمثل مجال الدراسة الدلالية التي تهتم بالمعنى وما يتعلق به، فهي تتناوله في صيغته الافرادية كما تتناوله في صيغته التركيبية. وأوّل ما بحث الدرس الدلالي، مسألة اللغة باعتبارها نظام من الرموز اللغوية، فتناولها –في البدء- من الجانب التاريخي كما تناولها الأقدمون من العلماء، وبقيت النتائج التي أحرزها العلماء في هذا المجال مجرد افتراضات تفتقد إلى الدقة العلمية لأنها تكشف عن عالم للغة لا تتوفر حوله معطيات كثيرة إنما هو أشبه بالبحث في مسألة ميتافزقية، ولذلك تعددت النظريات حول نشأة اللغة وإن كانت تعود إلى أحد الاتجاهين التاليين:
-اتجاه يقول بعرفية اللغة ومواضعة الناس حول تسمية عالم الأشياء .
-اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية في الإنسان.
وداخل كل اتجاه، توجد آراء مختلفة ومتباينة مما حدا ببعض الهيئات العلمية إلى منع إلقاء محاضرات، أو إجراء بحوث تخص النشأة التاريخية للغة.
وتناول البحث الدلالي والأنسني بصفة عامة جوهر العملية الدلالية باعتبارها أساس التواصل والإبلاغ، وبما أن موضوع علم الدلالة المعنى، فإنه كان لزاماً على الباحثين الدلاليين أن يتناولوا طبيعة الدال، كما تناولوا طبيعة المدلول. ولقد أطلق سوسير- اختصارا- على الدال والمدلول باعتبارهما وجهين لعملة واحدة مصطلح الدليل اللساني، وفي مجال هذا التناول الدلالي اهتم علماء الدلالة بالعلاقة التي تربط طرفي العملية الدلالية- الدال والمدلول – وبرزت على أساس ذلك، نظريات أرادت تأسيس رؤية موحدة تُظهر من خلالها القوانين اللغوية التي تنتظم الدليل اللساني، فظهر في هذا المجال مبحث العلاقات الدلالية والتي قسمها العلماء إلى ثلاثة أقسام رئيسية هي: العلاقة الوضعية، والعلاقة الطبيعية، والعلاقة العقلية.(1/101)
إن دراسة طبيعة المدلول، أوحى للعلماء تقسيما آخر للدلالة بالاعتماد على معايير معينة فإذا كان الدال في صيغته الإفرادية فالدلالة –إذن- دلالة معجمية وسماها علماء الدلالة المعنى المركزي أو التصوري أو المفهومي أو الإدراكي، أما إذا كان الدال في صيغته التركيبية فالدلالة سياقية، وقد أكد كثير من علماء الدلالة أن معنى الكلمة هو حصيلة مجموع استعمالاتها في السياقات اللغوية، وعلى هذا الأساس فتكون الدلالة موحية لمعان نفسية أو اجتماعية، أو ثقافية، وقد يفيد السياق معانياً فوق دلالية اصطلح على تسميتها بالقيم تمييزاً لها عن الدلالة وهي القيم الأسلوبية أو التعبيرية، وقد اعتمدت معايير أخرى في تقسيم الدلالة على أساس المفهوم من جهة، وعلى أساس المجزوء من جهة أخرى، وبناء على ذلك، فالدلالة تتوزع إلى ثلاثة أقسام: دلالة مطابقة ودلالة تضمن ودلالة التزام.(1/102)
ودرس علم الدلالة في جملة مباحثه، مسألة التطور الدلالي وهو مبحث اتخذ المنهج التاريخي الوصفي أسلوباً في الدراسة والتحليل، يتتبع الصيغة في مراحلها المختلفة دارساً تغيرها الدلالي واقفاً في هذا المجال على أسباب هذا التغير وأشكاله وانحصرت هذه العوامل في: العامل الاجتماعي الثقافي، العامل اللغوي، والعامل النفسي كما بين الدرس الدلالي الحديث، مظاهر هذا التغير في المعنى منها: التخصيص والتعميم، وانحطاط ورقي المعنى، وتغير مجال الاستعمال وهو ما يسمى بمبحث المجاز الذي يعد مبحثاً خاصاً من مباحث علم الدلالة، وذلك لاعتماده في التخاطب والتواصل اللغوي، فالتعبير اللغوي إما أن يكون ذا دلالة أصلية أو دلالة مجازية، وعلى هذا الأساس فدرس المجاز والحقيقة تنتظم فيه معظم مباحث علم الدلالة، ففيه تبرز طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول، وانتقال المدلول لأن يكون دالاً لمدلول آخر وبناء على ذلك فمبحث المجاز هو دراسة لمعنى المعنى، ويمكن أن نلمس في هذا المبحث مختلف الأنساق الدلالية من دلالة المطابقة والتضمن والالتزام، ومن الدلالة العرفية والطبيعية والعقلية، كما يتناول درس المجاز مسألة التطور الدلالي باعتبار أن وظيفة المجاز تتمثل في توسيع المعنى أو تضييقه، أو نقله من مجال دلالي إلى مجال دلالي آخر.(1/103)
وتمثل نظرية الحقول الدلالية "الطريقة الأكثر حداثة في علم الدلالة فهي لا تسعى إلى تحديد البنية الداخلية لمدلول المونمات [الكلمات] فحسب، وإنما إلى الكشف عن بنية أخرى تسمح لنا بالتأكيد أن هناك قرابة دلالية بين مدلولات عدد معين من المونمات،(1). فتصنيف المدلولات إلى قوائم تشكل كل قائمة حقلاً دلالياً يتيح استعمال أمثل لمفردات اللغة، وفي سبيل ذلك اتخذت معايير معينة منها استنباط العلاقات الأساسية بين الأدلة اللغوية، فقد تكون هذه العلاقة مبنية على أساس التضاد أو التقابل، أو على أساس التماثل أو الترادف أو على أساس التدرج أو التعاقب، أو غير ذلك من العلاقات التي يتشكل على أساسها الحقل الدلالي وميّز علماء الدلالة بين ثلاثة أنواع من الحقول الدلالية.
الحقول الدلالية المحسوسة المنفصلة، والحقول الدلالية المحسوسة المتصلة، والحقول الدلالية التجريدية.
وجملة القول، فإن هذه المباحث –مجتمعة- تشكل مادة لعلم الدلالة، ومن أجل تأسيس نظرة علمية شاملة تؤطر هذه المادة، وضع علماء الدلالة نظريات مختلفة تباينت نظرتها إلى المعنى لتباين المناهج المعتمدة في البحث والدراسة، إذ تأثرت هذه النظريات بالمنحى العلمي والعقلي السائد في العصر، فأخذ بعضها بالمنهج النفسي السلوكي في تفسير الظاهرة الدلالية وأخذ البعض الآخر بالمنهج العقلي التصوري، كما انبنت نظريات أخرى على أسس فكرية وفلسفية مختلفة.
والفصل التالي فيه عرض لمختلف هذه النظريات التي تناولت مسألة الدلالة من جوانبها المتعددة، إذ سنبرز فيه أهم النظريات الأوربية من جهة والنظريات الأمريكية من جهة أخرى. وسنرسم الأسس العامة التي ارتكزت عليها هذه النظريات بما فيها المنهج العلمي المعتمد في التحليل والدراسة الدلالية.
(((
الفصل الثالث:
__________
(1) د. موريس أبو ناصر. مدخل إلى علم الدلالة الألسني، ص35. مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 18/19 السنة 1982.(1/104)
النظريات الدلالية الحديثة
توطئة:
إن النزوع نحو تأسيس نظري للمبحث الدلالي العام، كان ولا يزال دأب الدراسات التي تناولت مسألة ”المعنى"، ورمت إلى بلورة أفكارها ضمن رؤى تنظيرية تتوخى الشمولية في الدراسة والعالمية في الأهداف. وإن التراكم الفكري اللغوي منذ مدرسة "براغ" التي ركزت اهتمامها على الصوت والدلالة، ومدرسة "كوبنهاجن" التي اهتمت بدراسة العلامة اللغوية، قد رسم للغويين المحدثين اتجاهاً يكاد يكون واضحاً نحو إرساء علمي لنظرية الدلالة، ولا يمكن في هذا الوضع إغفال الجهد المضني الذي قدمه العالم اللغوي دي سوسير، إذ كانت لأفكاره وآرائه ومنهجه في الدراسة الألسنية، أكبر الأثر في مسار علم الدلالة الحديث.
إن مصطلح "النظرية اللغوية" يدل على اكتمال في الرؤية وحصول النتيجة العلمية، غاية البحث وإطراد في السنن اللغوية، لكن المبحث الدلالي الحديث لم تكتمل حلقاته بعد، فلا زالت توجد الإضافات العلمية التي تقدم تأويلات جديدة لظاهرة لغوية تخص الدلالة، ومع ذلك تأسست نظريات تناولت مسألة "المعنى" من كل جوانبها، مما أدّى إلى تشعب البحث في متعلقات المعنى اللغوية وغير اللغوية، وحاولت تقديم معايير موضوعية تنحسم معها كل قضايا الدلالة موضوع الخلاف بين اللغويين، غير أنها فتحت عوالم أخرى جديدة لتتسع معها رقعة البحث الذي تباينت فيه آراء العلماء في التناول وطرائقه، والتأويل ومعاييره، ووجدت بين ذلك أفكار رغم أهميتها إلا أنها لم ترتق إلى مصاف النظرية العلمية، وذلك لافتقارها لصفة الشمولية في التناول ووقوعها أسيرة لمناخ فكري –أيديولوجي- ساد العصر.(1/105)
الاختلاف في الرؤية التنظيرية بين العلماء يرجع إلى اختلاف في المنهج أو الطريقة المعتمدة في الدراسة، وإذا تأملنا مختلف النظريات الغربية الحديثة التي عكفت على البحث في الدلالة، نلقى أغلبها يتوزع على خمسة حقول تخضع لخمسة مناهج تبناها اللغويون في التنظير: أما المنهج الأول فهو المنهج الشكلي الصوري الذي يصف المدلولات بالنظر إلى الشكل الذي يجمعها في بنية واحدة وهو تفرعها عن أصل واحد. أما المنهج الثاني فهو المنهج السياقي الذي يتم من خلاله تصنيف المدلولات لاعتبارات تركيبة وتعبيرية وأسلوبية. أما المنهج الموضوعي المقامي النفسي فهو المنهج الثالث الذي يحدد معه مدلول اللفظ والخطاب اللغوي، باعتبار حال المتكلم ومقامه وموقفه، أما المنهج الرابع فهو منهج الحقول الدلالية المهتم بتحديد البنية الداخلية للمدلول، واعتبار القرابة الدلالية والعلائقية بين المدلولات (المفاهيم)، أما المنهج الخامس فهو منهج التحليل المؤلفاتي الذي تنكشف معه البنية العميقة للخطاب بتحليل اللفظ إلى مؤلفاته وعناصره.(1/106)
وتجدر الإشارة إلى أن النظريات العربية في أي حقل من حقول العلم والمعرفة، ومنها حقل الدراسة الدلالية، لها مرجعيتها التاريخية والفكرية، وتخضع لتصورات اجتماعية معينة لا يمكن اسقاطها من أي مقاربة علمية، وهو ما حدا ببعض علماء العرب المحدثين إلى الدعوة لضرورة تجديد التراث من داخله دون إغفال "المفاتيح" العلمية الحديثة، ولا بد معها من احتياطات منهجية على النتائج التي نصل إليها. ومع ذلك لا يثنينا شيء عن إجراء اسقاطات منهجية ونظرية واعية على المنظومة المعرفية التراثية، وكون النظريات الغربية استمدت معالم قواعدها وتطبيقاتها من لغات أجنبية غير اللغة العربية، لا يعد مانعا من الاستفادة من أفكارها في تعاملنا مع التراث العربي، ذلك أن "اللغة العربية بصفتها "لغة" تنتمي إلى مجموعة اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبة والدلالية) وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات"(1).
وتحديدا للإطار النظري العام لعلم الدلالة، سنعرض لبعض النظريات التي قدمت معايير أولية لمسألة المعنى وما تفرع عنها وسنقتصر في عرضنا على أهم معالم النظرية وقواعدها وذلك بما يخدم غايات البحث وأهدافه.
1-النظرية الإشارية:
__________
(1) عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، ص56.(1/107)
تشكل هذه النظرية في مسار علم الدلالة الحديث أولى مراحل النظر العلمي في نظام اللغة، بل إلى أصحابها يرجع الفضل في تمييز أركان المعنى وعناصره، معتمدين في ذلك على النتائج التي توصل إليها فردينالد دي سوسير في أبحاثه اللسانية التي خص بها الإشارة اللغوية باعتبارها "الوحدة اللغوية المتكونة من دال ومدلول، الدال هو الإدراك النفساني للكلمة الصوتية والمدلول هو الفكرة أو مجموعة الأفكار التي تقترن بالدال"(1) . ورغم أن أصحاب هذه النظرية لا يكادون يجمعون على رأي واحد فإن أغلبهم أطلق على هذه النظرية مصطلح "النظرية الاسمية في المعنى (theory of meanings naming) التي تنظر إلى الدلالة على أنها هي مسماها ذاته.
إن الذي منح لهذه النظرية الصبغة العلمية هما العالمان الإنجليزيان أوجدن وريتشاردز اللذان اشتهرا بمثلثهما الذي يميز عناصر الدلالة بدءا بالفكرة أو المحتوى الذهني ثم الرمز أو الدال، وانتهاء إلى المشار إليه أو الشيء الخارجي.
الفكرة- المحتوى الذهني
الشيء الخارجي- المشار إليه ... ... ... ... الرمز - الكلمة
إن هذا التقسيم المتميز للمعنى يعد خطوة جريئة في عصره، وأعطى للمبحث الدلالي نفساً جديداً سوف يتولد عنه نظريات جديدة وأفكار مهمة، إن الدراسات الدلالية التي اضطلع بها العلماء المتأخرون تدور كلها في فلك مثلث أوجدن وريتشاردز ذلك أنها تناولت في مباحثها أحد عناصر المثلث بتحليل عميق أو عنصرين اثنين، ومنها ما تناولت العناصر الثلاثة كلها استناداً على أن "معنى الكلمة هو إشارتها إلى شيء غير نفسها وهنا يوجد رأيان:
أ-رأي يرى أن معنى الكلمة هو ما تشير إليه.
ب-رأي يرى أن معنى الكلمة هو العلاقة بين التعبير وما يشير إليه.
__________
(1) ميشال زكريا، الألسنية. علم اللغة الحديث، ص178-180.(1/108)
فدراسة المعنى على الرأي الأول تقتضي الاكتفاء بدراسة جانبين من المثلث وهما جانبا الرمز والمشار إليه. وعلى الرأي الثاني تتطلب دراسة الجوانب الثلاثة لأن الوصول إلى المشار إليه يكون عن طريق الفكرة أو الصورة الذهنية"(1).
وعلى أساس هذا التقسيم نشأت نظريات المدلول التي تناولت أنواع الدلالة وأقسامها، كما برزت نظريات عكفت على دراسة الإشارة اللغوية وأحصت أقسامها، وفي إطارها نشأت فكرة العلامة أو السمة مما ساهم في ميلاد علم جديد هو علم العلامية أو السيميولوجية. وأهم مبحث شكل عقبة كأداء أمام علم الدلالة هو دراسة الصورة الذهنية التي تتميز بالتجريد، مما فتح المجال واسعا أمام الباحثين في اكتناه عوالم خفية أطلق عليها بعضهم "عالم المفاهيم" وسماها البعض الآخر "العوالم الدلالية"، التي تمثل إحدى الدعامات الرئيسية في نظرية الأوضاع التي تشكل الامتداد الطبيعي للنظرية الإشارية، إن مصدر الدلالة كما ترمي إلى ذلك نظرية الأوضاع –يكمن بالأساس في المراجع الموجودة في العالم الخارجي وتبرز دلالة ما لصيغة معينة بواسطة مجموع العلائق المتشابكة بين جملة الأوضاع يقول الدكتور الفاسي: "المكان الطبيعي للمعنى هو العالم الخارجي لأن المعنى يبرز في العلائق المطردة بين الأوضاع، والمعنى اللغوي يجب أن ينظر إليه في إطار هذه الصورة العامة للعالم، عالم مليء بالمعلومات وأجسام موفقة لالتقاط جزء من هذه المعلومات"(2). وحقيقة أن الدلالة لا يتم التعرف عليها معجمياً وإنما مروراً برصد جملة العلائق التي تحددها الأوضاع في العالم الخارجي، إذن "الفكرة الرائدة في دلالة الأوضاع هي أن معنى جملة يتحدد بعلاقة الكلام والوضع الموصوف"(3).
__________
(1) د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص55.
(2) عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، ص386.
(3) المرجع السابق ص386.(1/109)
وتدعيماً للنظرية الإشارية التي حصل توسع في مفهومها لاحظ العالم اللغوي (بوتمن) putman أن عالم المفاهيم المودع في العالم الخارجي أضخم بكثير مما هو في الرأس فالمفاهيم هي الأساس الذي انبنت عليه نظرية الأوضاع التي تنظر إلى المعنى أنه علاقة بين الكلام المنتج والأوضاع الموصوفة، وهذه النظرية ترتكز كذلك على الدلالة الخارجية للغة وانصهار المعلومات اللغوية ضمن التيار المعلوماتي، وما دفع إلى القول بذلك، أن المعنى لا يتموضع في العالم الخارجي ولا في النفس وإنما يتموضع في عالم المفاهيم كما ذهب إلى ذلك العالم اللغوي (فريجة) الذي اعتبر المفاهيم هي الوسيط الذي يربط العناصر الثلاثة: الأذهان تمسك بالمفاهيم، والكلمات تعبر عنها، والأشياء يحل عليها بواسطتها(1).
2-النظرية التصورية:
إن هذه النظرية تمثل مستوى آخر من مستويات الدراسة الدلالية، فإذا كانت النظرية الإشارية قد عكفت على دراسة الإشارة كأساس للولوج إلى دراسة ما يتعلق بها من عناصر المعنى، فإن النظرية التصورية ترتكز على مبدأ التصور الذي يمثله المعنى الموجود في الذهن، وإذا أردنا أن نقف على جذور هذه النظرية فإننا نلفيها تعود إلى الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك) (القرن السابع عشر) الذي سماها النظرية العقلية ونادى فيها بأن استعمال الكلمات يجب أن يكون الإشارة الحساسة إلى الأفكار. والأفكار التي تمثلها تعد مغزاها المباشر الخاص"(2).
__________
(1) المرجع نفسه ص381.
(2) د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص57.(1/110)
وقد أطلق بعض الباحثين على هذه النظرية اسم النظرية الفكرية لأن "الكلمة تشير إلى فكرة في الذهن وأن هذه الفكرة هي معنى الكلمة"(1) ونتيجة للطابع التجريدي الذي وسم النظرية التصورية، فإن العلماء المتأخرين أسسوا أفكارهم على معطيات حسية تقع تحت الملاحظة والمشاهدة، وأرجعوا الدلالات كلها إلى تلك التصورات التي تحقق الأثر العلمي، وهذه الفكرة قريبة من فكرة النظرية السلوكية التي تنبني على مبدأ المنبه والاستجابة، إلا أن تحديد مرجعية الآثار إلى التصورات الذهنية، تلحق تلك الفكرة بالنظرية التصورية. لقد أسس (تشارلز بيرس) نظريته البراجماتية واعتبرت امتداداً للنظرية التصورية: "رأى بيرس أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لآثاره العملية، فالتيار الكهربي مثلا لا يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما، وإنما يعني مجموعة من الوقائع مثل إمكان شحن مولد كهربي أو أن يدق جرس، وأن تدور الآلة، وإذن فمعنى كهرباء هو ما تفعله، وإذن فالتصورات المختلفة التي تحقق نتيجة عملية واحدة إنما هي تصور واحد أو معنى واحد، والتصورات التي لا ينتج عنها آثار لا معنى لها"(2).
إن عالم الأفكار عالم مستقل بذاته فالدلالات واحدة في جميع اللغات وإنما الاختلاف أتى من تباين الألسنة، وذهب علماء الألسنية المحدثون إلى افتراض وجود عوالم دلالية يجب البحث عن معالمها وسننها بناء على البنية الدلالية حتى أن اللغويين المتأخرين اعتبروا، أن التصورات والأفكار هي كيان مستقل قد يستغني عن اللغة إذا أراد الأفراد ذلك يقول د. أحمد مختار عمر: "الأفكار التي تدور في أذهاننا تملك وجودا مستقلا. ووظيفة مستقلة عن اللغة وإذا قنع كل منا بالاحتفاظ بأفكاره لنفسه كان من الممكن الاستغناء عن اللغة"(3).
__________
(1) د. محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة، ص96.
(2) المرجع السابق، ص97.
(3) علم الدلالة، ص57.(1/111)
وما دام أن النظرية التصويرية تعتبر أن المعنى هو التصور الذي يحمله المتكلم ويحصل للسامع حتى يتم التواصل والإبلاغ، فإن عالم الأشياء غير متجانس، كما أن التصورات متباينة من فرد لآخر، فتصور "شجرة" مثلاً، يحمل جملة من الدلالات المختلفة اختلافاً قد يكثر أو يقل بحسب وجود هذا التصور داخل عالم الأشياء، كما أن هناك كلمات لا تحمل تصوراً باعتبارها لا تنتمي لعالم الأشياء كالأدوات والحروف وما إلى ذلك. "وقد كان رفض النظرية التصورية، للمآخذ التي ذكرنا، وغيرها، هو المنطلق لمعظم المناهج الحديثة التي ظهرت خلال هذا القرن"(1). وهو ما سيتبلور في نظريات أكثر موضوعية وعلمية.
3-النظرية السلوكية:
__________
(1) المرجع السابق، ص58.(1/112)
إن التجديد الذي طبع النظرية التصورية أدى إلى نشأة اتجاه آخر في البحث الدلالي، يستبعد الأفكار المجردة، وتمثل في النظرية السلوكية، وقد خضع أصحاب هذه النظرية للمنحى العلمي الذي طغى على ساحة البحث وقتذاك. وهو منحى يرتكز على الملاحظة والمشاهدة، فقد ولى عهد العلوم التجريدية النظرية، وأعطت هذه النظرية السلوكية اهتماماً للجانب الممكن ملاحظته علانية وهي بهذا تخالف النظرية التصورية التي تركز على الفكرة أو التصور(1). إن البحث عن ماهية الدلالة وآلية حصونها أدى بالعالم اللغوي الأمريكي (بلو مفيلد) إلى هجر الاتجاه العقلي والبحث عن الدلالة في السلوك اللغوي الظاهر، وبعد تحقق الأفكار التي مال إليها (بلومفيلد) تجلى الاتجاه السلوكي لدى هذا العالم وقد "عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه، والاستجابة التي تستدعيها من السامع فعن طريق نطق صيغة لغوية يحث المتكلم سامعه على الاستجابة لموقف. هذا الموقف وتلك الاستجابة هما المعنى اللغوي للصيغة"(2). والقول بمبدأ المثير والاستجابة يستدعي الأخذ كذلك بالمقام الذي حصل فيه الحدث الكلامي، ولكي يتم تحديد دلالة صيغة لغوية تحديداً دقيقاً وجب حصر جميع المقامات التي صاحبت استعمال الصيغة في الحدث الكلامي، ومعرفة شاملة لكل ما يشكل عالم المتكلم: "فدلالة صيغة لغوية ما إنما هي المقام الذي يفصح فيه المتكلم عن هذه الدلالة والرد اللغوي أو السلوكي الذي يصدر عن المخاطب"..(3)
__________
(1) المرجع نفسه ص59
(2) المرجع نفسه، ص 61.
(3) سالم شاكر، مدخل إلى علم الدلالة، ص 26..(1/113)
لأن المقام هو المميّز بين الإمكانيات المتعددة للدلالة خاصة وإن الصيغة اللغوية قد أخذت أبعاداً اجتماعية وثقافية، وتعلقت بها قيم أسلوبية وتعبيرية مما يعيق التواصل والإبلاغ، وتداخل المعنى الرئيسي والهامشي، ولذا فالأخذ بالعلاقة المتينة بين القول والمقام سوف يزيل كثيراً من اللبس في الأحداث الكلامية "إذ أن اللجوء إلى المقام أو حال الخطاب يساعد على الخصوص في:
1 ـ استكشاف مرجع الصيغ اللغوية للقول.
2 ـ اختيار وإيثار تأويل بعينه في حالة الكلام الملبس أو المبهم.
3 ـ استكشاف قيمة القول (تهديد، وعد، وعيد ( ... ) ... ).
4 ـ تحديد خاصة القول (هل هو موسوم أو غير موسوم) صيغ لغوية خاصة بالفلاحين مثلاً"(1)..
__________
(1) المرجع السابق، ص 28.(1/114)
والحقيقة أن النظرية السلوكية بقدر ما كشفت عن عوالم خفية ودفعت بالبحث الدلالي خطوات نحو الأمام، بقدر ما فتحت أبواباً عن عوالم أخرى بقيت خفية، ذلك أن الأخذ بمبدأ دراسة الأفعال الكلامية القابلة للملاحظة والمشاهدة، لم يقدم الأجوبة الكافية عن تلك التساؤلات حول ضبط دلالة الصيغة اللغوية ضبطاً يخضع لمعايير علمية دقيقة تنسحب على كل الصيغ والتراكيب اللغوية، فوجود القيم الحافة وتكوّن المعنى الديناميكي الذي لا يأخذ صورة قارة ثابتة، شكّل أهم العوائق أمام نظرية (بلو مفيلد) السلوكية، وقد تطورت هذه النظرية على يد الفيلسوف الأمريكي (شارل موريس )ـ (Charles Morris) الذي لاحظ أنه قد تتعدد الاستجابات لمثير واحد، يعني اشتراك دلالات في صيغة لغوية واحدة، وذلك أن المنطوق قد يحمل قيماً أسلوبية ومعان حافة يتولد عنها استجابات متنوعة، وقد أخرج (موريس) من معنى الصيغة، الاستجابة أو رد الفعل، واكتفى بمجرد الميل أو الرغبة"، ويعني ذلك أنه إذا وجد ميل أو رغبة صريحة للقيام باستجابة معينة لمثير (منطوق لغوي) فدلالة على وجود ارتباط يجعل الاستجابة تكون لذلك المثير، وهذا الارتباط بمثابة الاشتراط وقد مثل ذلك بالعلاقة: "إذا كانت ط حينئذٍ تكون س"، حيث ط = اشتراط.(1)
ورغم هذا التطور الحاصل في النظرية السلوكية، بلجوء موريس إلى فكرة الميل أو المزاج، فإنه وجدت تراكيب وعبارات لغوية لا تخضع لمعايير هذه النظرية. وبالتالي وجدت فجوات علمية واضحة لم تستطع النظرية السلوكية سدها، مما عجل بميلاد اتجاه آخر في الدرس الدلالي حاول الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول تحديد علمي موضوعي دقيق للدلالة وطرق ضبطها..
4 ـ النظرية السياقية:
__________
(1) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص 65.(1/115)
إن نظام اللغة نظام متشابك العلاقات بين وحداته، ومفتوح دوماً على التجديد والتغيير في بنياته المعجمية والتركيبية، حتى غدا تحديد دلالة الكلمة يحتاج إلى تحديد مجموع السياقات التي ترد فيها، وهذا ما نادت به النظرية السياقية التي نفت عن الصيغة اللغوية دلالتها المعجمية، يقول مارتيني: "خارج السياق لا تتوفر الكلمة على المعنى"(1). إن منهج النظرية السياقية يعد من المناهج الأكثر موضوعية ومقاربة للدلالة، ذلك أنه يقدم نموذجاً فعلياً لتحديد دلالة الصيغ اللغوية، وقد تبنى كثير من علماء اللغة هذا المنهج منهم العالم (وتغنشتين) ـ (Wittgenstein) الذي صرح قائلاً: "لا تفتش عن معنى الكلمة وإنما عن الطريقة التي تستعمل فيها"(2) إن هذه الطريقة التي تستعمل فيها الكلمة هي التي تصنف دلالة هذه الكلمة ضمن الدلالة الرئيسية أو القيم الحافة التي تتحدد معها الصور الأسلوبية، لأن السياق يحمل حقائق إضافية تشارك الدلالة المعجمية للكلمة في تحديد الدلالة العامة التي قصدها الباث يقول ستيفن أولمن: "السياق وحده هو الذي يوضح لنا ما إذا كانت الكلمة ينبغي أن تؤخذ على أنها تعبير موضوعي صرف أو أنها قصد بها أساساً؛ التعبير عن العواطف والانفعالات"(3).
__________
(1) سالم شاكر، مدخل إلى علم الدلالة، ص 31.
(2) د.موريس أبو ناضر ، مدخل إلى علم الدلالة الألسني، ص 33، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددج رقم 18/19،السنة 1982.
(3) دور الكلمة في اللغة: ستيفن أولمن، ترجمة محمد كمال بشير، ص 63.(1/116)
لقد حصل تطور هام في مفهوم السياق إذ لم يعد يقتصر على الجانب اللغوي في إيضاح دلالة الصيغة اللغوية، وإنما وجدت جوانب أخرى قد تنحسم معها الدلالة المقصودة للكلمة، كالوضع والمقام الذي يحدث فيه التواصل أو الملامح الفيزيولوجية النفسية للمتكلم التي تصاحبه يقول الدكتور عبد القادر الفهري الفاسي في ذلك: "اختيار مفهوم ملائم من بين لائحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ المشترك يتطلب مجهوداً معرفياً خاصاً ويتسبب أحياناً في أخطاء ويقع رفع الالتباس عن طريق السياق اللغوي المباشر، أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس"(1). إن تعدد المفاهيم التي يدل عليها اللفظ تعني أن هذا اللفظ له معنى مركزي هو "النواة"، ومعان هامشية ثانوية اكتسبها بفعل دورانه المتجدد في أنساق كلامية مختلفة، حتى أضحى المعنى المركزي يدور في فلك المعاني الثانوية التي لا تفاضل بينهما وأصبح طريق رفع اللبس في الدلالة يمر عبر السياق اللغوي أو الخطابي أو معاينة المقام الذي يتمثل في المعطيات الخارجية والنفسية. ويتضح في ذلك خاصة عند استعمال المشترك اللفظي (polysemie) وتبعاً لذلك فإن دلالة الكلمة تتعدد بتعدد السياقات وتنوعها أي تبعاً لتوزعها اللغوي وقد توصل العلماء إلى تمييز بين أربعة أنواع من السياق:(2).
1 ـ السياق اللغوي.
2 ـ السياق العاطفي الانفعالي.
3 ـ سياق الموقف أو المقام.
4 ـ السياق الثقافي أو الاجتماعي.
1 ـ السياق اللغوي:
__________
(1) اللسانيات واللغة العربية، ص 372.
(2) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص 69.(1/117)
فالسياق اللغوي يشرف على تغيير دلالة الكلمة تبعاً لتغيير يمس التركيب اللغوي، كالتقديم والتأخير في عناصر الجملة فقولنا: "زيد أتم قراءة الكتاب"، تختلف دلالتها اللغوية عن جملة:"قراءة الكتاب أتمها زيد"(1)..
2 ـ السياق العاطفي الانفعالي.
أما السياق العاطفي الانفعالي فهو يحدد دلالة الصيغة أو التركيب من معيار قوة أو ضعف الانفعال، فبالرغم من اشتراك وحدتين لغويتين في أصل المعنى إلا أن دلالتها تختلف، مثل ذلك الفرق بين دلالة الكلمتين: (اغتال) و(قتل)، بالإضافة إلى القيم الاجتماعية التي تحددها الكلمتان فهناك إشارة إلى درجة العاطفة والانفعال الذي تصاحب الفعل، فإذا كان الأول يدل على أن المغتال ذو مكانة اجتماعية عالية، وأن الاغتيال كان لدوافع سياسية، فإن الفعل الثاني يحمل دلالات مختلفة عن الأول وهي دلالات تشير إلى أن القتل قد يكون بوحشية وأن آلة القتل قد تختلف عن آلة الاغتيال فضلاً على أن المقتول لا يتمتع بمكانة اجتماعية عالية..
3 ـ سياق الموقف أو المقام:
وهو يعني الموقف الخارجي الذي يمكن أن تقع فيه الكلمة فتتغير دلالتها تبعاً لتغير الموقف أو المقام وقد أطلق اللغويون على هذه الدلالة مصطلح "الدلالة المقامية"..
4 ـ السياق الثقافي:
وهي القيم الثقافية والاجتماعية التي تحيط بالكلمة، إذ تأخذ ضمنه دلالة معينة. وقد أشار علماء اللغة إلى ضرورة وجود هذه المرجعية الثقافية عند أهل اللغة الواحدة لكي يتم التواصل والإبلاغ، وتخضع القيم الثقافية للطابع الخصوصي الذي يلون كل نظام لغوي بسمة ثقافية معينة وهو ما يكون أحد العوائق الموضوعية في تعلم اللغات ...
__________
(1) التقديم والتأخير في الكلام يخضع لمقاصد دلالية، حددها البلاغيون في مبحثهم حول تخصيص الدلالة، وقد تبلور ذلك ضمن مفاهيم لسانية منهامصطلح "التبئير" الذي يعني الاهتمام ببؤرة خاصة في الجملة...(1/118)
وتعتبر النظرية السياقية بنموذجها النظري التطبيقي من النظريات العملية الأكثر تعلقاً بالنظام اللغوي، بل إنها بطريقتها الإجرائية في تحديد جملة السياقات وما يصاحبها من العوامل الخارجية كالمقام والحال تعد بذلك مرحلة تمهيدية مهمة بالنسبة للنظرية التحليلية حيث "يرى أولمن أنه بعد أن يجمع المعجمي عدداً من السياقات المتمثلة التي ترد فيها كلمة معينة، وحينما يتوقف أي جمع آخر للسياقات عن إعطاء أي معلومات جديدة، يأتي الجانب العملي إلى نهايته، ويصبح المجال مفتوحاً أمام المنهج التحليلي".(1)
كان آخر ما توصل إليه علماء اللغة في إطار النظرية السياقية هو فكرة "الرصف"، وهو يعني مراعاة وقوع الكلمات مجاورة لبعضها حيث يعد هذا الوقوع أحد معايير تحديد دلالة الكلمة، إن تسييق الصيغة اللغوية يعد المنفذ المهم لتحديد مجالها الدلالي، فلا يمكن أن ترد الصيغة اللغوية بمعزل عن السياق النفسي أو الاجتماعي الثقافي، بل يحصل التجاور بين مجموع الصيغ اللغوية داخل التركيب وهو ما يمكن التعبير عنه بمصطلح "النظم"، كما سماه قديماً عبد القاهر الجرجاني في كتابه: "دلائل الإعجاز".. وقد اعتبر فيرث *(Firht) أن قائمة الكلمات المتراصفة مع كل كلمة تعد جزءاً من معناها(2)، بحيث يستدعي حضور كلمة ما حضور سلسلة من الكلمات التي تتراصف معها سياقياً وتتوافق معها في الوقوع.
5 ـ النظرية التحليلية:
__________
(1) د.أحمد مختار عمر،. علم الدلالة، ص 72.
(2) المرجع السابق، ص 77.(1/119)
تهتم هذه النظرية بتحليل الكلمات إلى مكونات وعناصر، وقد قدم كاتزو فورد "تحليلاً مميزاً للكلمات ودلالاتها وأحصيا في ذلك ثلاثة عناصر اتخذت كمفاتيح للتحليل وتحديد المؤلفات التي تشكل الكلمة وذلك لتعيين دلالتها وهذه العناصر هي: المحدِّد النحوي والمحدِّد الدلالي والمميز وأهمية هذه النظرية تكمن في طابعها الوظيفي إذ تستخدم في كثير من مجالات اللغة كالمجاز والترادف والمشترك اللفظي ولأن نظرية الحقول الدلالية تهتم بالنمط التصنيفي ودلالاتها بناء على تحليل تفريعي للصيغة، فإنها تلتقي مع النظرية التحليلية التي تعنى بتحديد مؤلفات الكلمة عبر خصائصها ومميزاتها الداخلية، فالمحدد الدلالي يقوم بتخصيص معنى شامل لكل تركيب، انطلاقاً من الدلالات الفردية للمورفامات التي تؤلفه وتبعاً للطريقة التي تتألف بها هذه المورفمات(1) والمميز يشرف على تلك الوظيفة التمييزية ويقتضي ذلك وجود تضاد بين الوحدات المميزة من ذلك التضاد الصوتي القادر على التمييز بين كلمتين من حيث المعنى كالتمييز بين الكلمتين: (تاب) و(ناب) فوجود التاء في (تاب) مكان النون في (ناب) قد ميز بين دلالة هاتين الكلمتين.(2) ويقوم المحدِّد النحوي بوظيفة التمييز بين دلالتين لصيغة واحدة تأخذ إحداها في التركيب وظيفة "الفعلية" والأخرى وظيفة "الفاعلية"، كما هو الشأن في كلمة "يريد" إن تحديد دلالات الصيغة اللغوية يتم بمقاربة هذه الصيغ بصيغ أخرى داخل الحقل المعجمي كما ذهب إلى ذلك العالم دي سوسير بحيث نظر إلى المعنى على أساس أنه مجموع تقابلات الصيغة المنتجَة مع بقية الصيغ الأخرى "فكل لغة تنتظم في حقول دلالية، وكل حقل دلالي له جانبان: حقل معجمي وحقل تصوري.
__________
(1) د.ميشال زكريا، الألسنية (علم اللغة الحديث)، المبادئ والأعلام، ص 213.
(2) المرجع السابق، ص 238.(1/120)
ومدلول الكلمة مرتبط بالكيفية التي تعمل بها مع كلمات أخرى في نفس الحقل المعجمي لتغطية أو تمثيل الحقل الدلالي، وتكون كلمتان في نفس الحقل الدلالي إذا أدى تحليلها إلى عناصر تصورية مشتركة وبقدر ما يكثر عدد العناصر المشتركة بقدر ما يصغر الحقل الدلالي"(1) إن المكون التركيبي يقوم "بخلق" دلالات إضافية للصيغة وذلك لاحتوائه على المكون الأساسي الذي هو جملة من القواعد (إعادة الكتابة) والمكون التحويلي الذي تحدد معه المداخل المعجمية، وبكتابة التركيب ببنيته العميقة تتم عملية الاستبدال بتحويل القواعد إلى جمل وتراكيب (سطحية)، ثم إن تحليل الصيغة إلى مكوناتها هو الذي يحدد مجالها الدلالي بتطابقها مع صيغ أخرى لها المكونات نفسها، ويكون للصيغة المعجمية دلالتها المميزة إذا حوت على مكونات تمييزية يوضح ذلك أحمد مختار فيقول: "إن معنى الكلمة طبقاً للنظرية التحليلية هو "طاقم الملامح أو الخصائص التمييزية"، وكلما زادت الملامح لشيء ما قل عدد أفراده، والعكس صحيح كذلك، وعلى هذا يمكن تضييق المعنى وتوسيعه عن طريق إضافة ملامح أو حذف ملامح".(2)
لقد أحصى أصحاب نظرية الحقول الدلالية علاقات يتم بموجبها تعيين قيمة الصيغة اللغوية داخل الحقل المعجمي، فقد أكد ستيفن أولمان ذلك بقوله: "الكلمة هي مكانها في نظام من العلاقات التي تربطها بكلمات أخرى في المادة اللغوية(3)، هذه العلاقات التي تم إحصاؤها هي كالتالي:
1 ـ علاقة الترادف:
__________
(1) د.عبد القادر الفاسي ، اللسانيات واللغة العربية، ص 370.
(2) د.أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص 126.
(3) 201 Meaning and style, p31..(1/121)
وهي تعني أن الكلمتين أو أكثر بمنطق النظرية التحليلية تتضمن نفس المكونات ولديها عناصر تصورية متماثلة، ويكون الترادف إذا كان هناك تضمن من جانبين فـ(أ) و(ب) مترادفان إذا كان (أ) يتضمن (ب) و(ب) يتضمن (أ) مثل (أب) و(والد). وعليه تصنف الوحدات المعجمية ضمن حقول بمعيار الترادف.
2 ـ علاقة الاشتمال:
هي تشبه علاقة الترادف إلا أنها تضمن من جانب واحد يكون (أ) مشتملاً على (ب) حين يكون (ب) أعلى في التقسيم أو التفريعي مثل: (الإنسان) و(خالد).
3 ـ علاقة الجزء بالكل:
مثل علاقة اليد بالجسم والعجلة بالسيارة، والفرق بين هذه العلاقة وعلاقة الاشتمال أو التضمن واضح، فاليد ليست نوعاً من الجسم ولكنها جزء منه بخلاف (خالد) الذي هو نوع أو جنس من الإنسان وليس جزءاً منه.
والسؤال الذي طرحه اللغويون في هذا المجال هو هل يتعدى جزء الجزء فيصبح جزءاً للكل؟ ...
والجواب أنه قد يتعدى جزء الجزء فينتج جزء كل وقد لا يتعدى..
فبالنسبة للحالة الأولى مثل (أظافر ـ أصابع) وعلاقة جزئية. (أصابع -يد) علاقة جزئية، أما علاقة الجزء بالكل فهي (أظافر ـ يد ).(1)
أما الحالة الثانية مثل: (مقبض ـ باب) علاقة جزئية، (باب ـ دار)، علاقة جزئية ولكن لا علاقة جزئية بين (مقبض ـ دار) وينسحب هذا المثال على أنواع كثيرة من العلاقات.
4 ـ التضاد: وهو أنواع:
أ. التضاد الحاد: ويسمى التضاد غير المتدرج مثل (حي ـ ميت) فهما كلمتان متقابلتان في الدلالة ونفي أحد طرفي التقابل يعني الاعتراف بالآخر.
ب. التضاد المتدرج: ويصفه المناطقة بأن الحدين فيه لا يستنفدان كل عالم المقال، ولذا فإنهما قد يكذبان معاً، بمعنى أن شيئاً قد لا ينطبق عليه أحدهما، إذ بينهما وسط، فقولنا: الحساء ليس ساخناً لا يعني الاعتراف ضمنياً بأنه بارد فربما يكون فاتراً أو دافئاً أو ما إلى ذلك..
__________
(1) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص 98-99-101.(1/122)
جـ. تضاد التضايف: ويسميه المناطقة "الإضافة"، وهي نسبة بين معنيين كل منهم مرتبط بإدراك الآخر كإدراك الأبوة والبنوة، فإن أحدهما لا يدرك إلا مع إدراك الآخر..
د.علاقة التنافر: أو ما يطلق عليه في علم المنطق بعلاقة التخالف وهي النسبة بين معنى ومعنى آخر من جهة إمكان اجتماعهما وإمكان ارتفاعهما، مع اتحاد المكان والزمان أي: يمكن اجتماعهما معاً في شيء واحد في زمان واحد، ويمكن ارتفاعهما معاً عن شيء واحد في زمان واحد مثل (أكل ـ باع)، و(الطول ـ البياض) (1).
إن الاعتقاد بضرورة إحداث تقابلات بين مجموع الألفاظ المتماثلة أو المتباينة، يعكس حقيقة العملية الدلالية التي تتم في مستوى ذهني معقد، إذ التقاطُ دلالة صيغة ما يتم بعد سلسلة من التقابلات الذهنية التي يقوم بها السامع، ولذلك ذهب سوسير إلى القول بأن إنتاج دلالة صيغة ما يتم بواسطة عملية التقابل بينهما وبين صيغ أخرى بإحدى العلاقات التي حددها اللغويون والتي أشرنا إليها سابقاً ... .
6 ـ النظرية التوليدية:
__________
(1) عبد الرحمان حسن حبنكة الميداني، انظر في ذلك:ضوابط المعرفة: ص 53-56. ود.أحمد مختار عمر، علم الدلالة ، ص 102-103-105.(1/123)
تعتبر النظرية التوليدية من أشهر النظريات اللغوية حالياً، ويعد (نوام تشومسكي) رائد هذه النظرية، وبالرغم من أن تشومسكي عاد بالبحث الدلالي إلى الطابع العقلاني الذهني إلا أن نظريته استطاعت أن تقدم تفسيرات علمية لظواهر لغوية تخص الدلالة، وتستند هذه النظرية على آلية توليد جمل صحيحة اعتماداً على كفاية المتكلم (الكاتب) اللغوي ويعني ذلك توفر قواعد تنظيمية ذهنية في عقل متكلم اللغة تتيح له ما شاء من الجمل، وقد انطلق (تشومسكي) للتدليل على وجود هذه الكفاية، من تعلم اللغة عند الطفل، بحيث ألفى الطفل ينتج جملاً لم يسبق له أن سمعها من قبل بناء على القواعد الكائنة ضمن كفايته اللغوية، والنظرية التوليدية "تتخذ شكل قاعدة "إعادة كتابة" أي أنها تعيد كتابة رمز يشير إلى عنصر معين من عناصر الكلام برمز آخر أو بعدة رموز"(1). وتكون هذه الكتابة بالنسبة للجملة المشتملة على ركن فعلي (مؤلف من فعل وفاعل ومفعول به وشبه جملة عائدة للفعل)، وعلى شبه جملة. على النحو التالي:
ج ( رف + شج (حيث ج: ترمز إلى الجملة)، وعليه يمكن كتابة الركن الفعلي بمؤلفاته على النحو التالي:
رف( ف + رأ + رأ + شج (حيث ف ترمز إلى الفعل، ورأ ترمز إلى الركن الاسمي ويتم اشتقاق الجملة:
ج( رف شج.
... ... رف( ف + رأ + رأ + شج.
رأ( تعر + رأ (تعر ترمز إلى تعريف).
... ... ... شج( ج + رأ .
... ... ... تعر( ... ال.
ف (كتب ، ذهب، سأل، ...
أ( رجل، رسالة، أستاذ، أمس..
وباستبدال الرموز بعناصر الكلام في نظام اللغة تحصل جمل كثيرة من بينها الجملة:
كتب الرجل الرسالة إلى الأستاذ بالأمس. ويمكن رسم تلك الرموز التي تدل على القواعد التنظيمية ضمن كفاية المتكلم اللغوية" بالمشجر(2) "arbre".
__________
(1) د. ميشال زكريا، الألسنية، علم اللغة الحديث، ص 203.
(2) د. ميشال زكريا، انظر الألسنية، علم اللغة الحديث، ص 202 إلى 205.(1/124)
ويبدو أن اعتماد هذه القواعد من شأنه أن يعقد عملية التواصل والإبلاغ، ولذلك تشترط القاعدة التوليدية وجود متكلم ومتقبل مثاليين، لأن عملية التحام المعنى بالبنى اللغوية هي ليست بالعملية السهلة ذلك أنها تقتضي علماً كافياً بقواعد الإسقاط وبناء على ذلك "يحتوي المكون الدلالي إذاً على المعجم أو اللائحة بمفردات اللغة وعلى القواعد الإسقاطية التي تشكل قدرة المتكلم على استدلال معنى الجمل من خلال معنى المفردات"(1)..
__________
(1) د.ميشال زكريا، المكون الدلالي في القواعد التوليدية والتحويلية، مجلة الفكر العربي المعاصر، رقم 18/19، لسنة 1982.(1/125)
لقد تحدث (تشومسكي) على وجهي الظاهرة اللغوية السطحي والعميق، أو كما سماه الظاهر والخفي وعليه حدد مصطلح "الكفاية اللغوية" و"الأداء اللغوي" وقد أرجع العلماء هذه الفكرة إلى أصول فلسفية تعود إلى نظرية أفلاطون حول العالم. " تقول نظرية أفلاطون أن للعالم وجه ظاهري نعتمد في إدراكه على شهادة الحواس وقد تكون هذه الحواس خادعة لا موضوعية فيها ووجه خفي حقيقي يدرك بالعقل.. أو كما يقول كانط أن العالم الظاهري يخفي عالماً حقيقياً(1)، فالأداء اللغوي يمثل ظاهرة الخطاب في النظرية التوليدية، والكفاية اللغوية تمثل حقيقة الخطاب، وعلى اللغوي ـ كما يقول (تشومسكي)ـ أن لا يبني أحكامه على بنية اللغة السطحية، وإنما عليه أن يصل إلى البنية التحتية العميقة، ليطلع على القواعد الذهنية التي تنتظم اللغة. وقد توصل (تشومسكي) إلى أن العقل الإنساني يحوي آلية مكونة من مجموعة قواعد متناهية بمقدورها تحليل الجمل ومساعدة متكلم اللغة على إنتاج جمل لا متناهية بمعجم لغوي متناه فضلاً على فهم الجمل التي لم يسبق له أن سمعها، ورصد الالتباس الحاصل في الجملة، وقد أضاف (تشومسكي) فكرة جريئة لا زالت موضع بحث وجدل بين علماء اللغة وهو ما سمي بالعموميات اللغوية، وتعني أن جميع اللغات متشابهة في بنياتها الداخلية وهو ما يفسر خضوع التركيب في أي لغة لتلك المدخلات العميقة، وما يشد من عضد هذه الفكرة هو أن المعاني كما تنص نظرية الأوضاع ـ لا تتموقل في عالم اللغة إنما توجد في عالم الأوضاع وقد تمخض عن هذه الفكرة، البحث عن العلاقة بين البنية الدلالية والعوالم الدلالية "فإن كانت الكلمة على مستوى الدال عبارة عن صرّة من الأصوات"، وإذا كانت كذلك فلم لا تكون على مستوى المعنى "صرّة من الوحدات البدائية للمعنى"(2).
__________
(1) د.محمد فهمي زيدان. في فلسفة اللغة، ص 142.
(2) علم الدلالة، بيار جيرو ترجمة: د.منذر عياش ، ص 187.(1/126)
وعوّض التحليل المفهومي في النظرية التوليدية التحليل التوزيعي، الذي اتبعته النظريات السابقة في اللغة، فما الدلالة إلا مجموعة سمات تتحدد بواسطة المشير الدلالي وذلك "في تعيين العلاقات الدلالية بين الكلمات المترادفة والمتزايلة أو المتضمنة الواحدة الأخرى"(1)..
__________
(1) د.ميشال زكريا، المكون الدلالي في القواعد التوليدية والتحويلية، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد رقم 18/19 السنة 1982.(1/127)
إن الهدف الأسمى الذي رسمته النظرية التوليدية هو معرفة الطاقة الكامنة في اللغة على مستوى التعبير ولذلك تأثراً بآراء المدرسة الفلسفية العقلانية التي سادت القرن السابع عشر، اتخذ ( تشومسكي) منهجاً عميقاً لا يعتمد الوصف، وإنما التحليل والتفسير للوصول إلى وضع معايير تحدد قدرة اللغة على الخلق والإبداع والابتكار بإعادة بناء "نسق المعاني" عن طريق قواعد التوليد والتحويل، ولذلك عُدّت النظرية التحويلية التوليدية من أحدث النظريات التي قدمت تفسيراً علمياً موضوعياً لنظام اللغة ووضعت قواعد مرنة تصلح لأي لغة، لأنها قواعد تتسم بالشمولية والعالمية، وهذه المرونة في التقعيد النظري ضرورية للنظام اللغوي الذي ينزع نحو التجدد والتكيف والتطور فضلاً على شمولية التناول والدراسة، وغدا (تشومسكي) يرسم المنهج القويم في الدرس اللغوي مميزاً بين الميتودولوجيا والنظرية، فقد كان اشتغال البنيويين ـ قبل تشومسكي ـ منحصراً على وصف الاتجاه ووضع نظريات تقوم بتطبيق مجموعة عمليات وإجراءات على العينات اللغوية، مهمتها معاينة الوحدات الدالة الصغرى، فأشار (تشومسكي) في كتابه (البنى التركيبية) إلى ضرورة الاهتمام بالمنهج الذي يكمن في الطرق التي تمكن من بناء الأنحاء، وغدا المبحث اللساني مع (تشومسكي) يهتم بالجهاز الداخلي الذهني للمتكلمين بدلاً من الاهتمام بسلوكهم الفعلي، فلم يعد الإنتاج الكلامي الذي هو عبارة عن سلاسل فيزيائية بمفهوم الفونولوجيا قادراً على تقديم تفسير كاف لآليات حدوث التركيب اللغوي، ولذلك اتجه الدرس اللساني، لا إلى تحديد ما هو موجود من السلاسل اللغوية السليمة فحسب، بل أيضاً إلى ما يمكن أن يوجد من التراكيب اللغوية غير اللاحنة بواسطة مجموعة من القواعد التوليدية.(1/128)
يكون بذلك موقف (تشومسكي) قد انحرف بالدرس اللغوي إلى وجهة جديدة تختلف عن وجهة البنيويين الذين لم يميزوا بين صورة النحو، والوسيلة التي تقود إلى اكتشافه، وهو ما عكف تشومسكي على اتخاذه مبدأ للدراسة اللغوية بحيث فرق بين المنهج والنظرية وولج بذلك إلى كل ما يشكل العالم الداخلي الذهني للمتكلم، وشأن كل نظرية دلالية فإن النظرية التوليدية، وصلت إلى الباب المسدود، وإن نجحت في الكشف عن البنية العميقة لعدد لا متناه من الجمل إلا أنها عجزت عن تفسير عدم التوافق بين معاني المفردات المنتظمة في جملة واحدة، وهو ما فسح المجال لنظرية كاتز وفودر التي تعتبر مكملاً لقواعد (تشومسكي) التوليدية التي ارتكزت على ما يسمى بالمؤلفات الأساسية لمعاني الكلمات وهي مؤلفات تتجاوز الرموز التي اعتمدها (تشومسكي) في القواعد التوليدية، وعلى ضوء نظرية كاتزوفودر يمكن مثلاً تحليل كلمة "رجل" على النحو التالي:
اسم + محسوس + معدود + حي + بشري + ذكر + بالغ..
وتختلف عنها كلمة "امرأة" بمؤلف "الجنس" فقط(1) وهكذا بالنسبة للكلمات الأخرى..
7 ـ نظرية الوضعية المنطقية في المعنى: (2)
__________
(1) موريس أبو ناضر، مدخل إلى علم الدلالة الألسني: ص 26، مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 18/19، السنة 1982.
(2) د. محمد فهمي زيدان. في فلسفة اللغة، ص125 إلى 128.(1/129)
تصور معنى الكلمة أو الجملة عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية، ينبني على نظرات متباينة، وإن كانت كل نظرة من هذه النظرات هي عبارة عن امتداد معرفي لأفكار سبقتها وتأسست فلسفتها على جملة من الانتقادات التي وجهها لها علماء اللغة عامة وأهل المنطق والفلسفة خاصة، من رواد هذه النظرية "مورتس شليك (M.Chilik)" المؤسس الأول. والعالم "أتونيراث" (A/ NEURATH) ، وهمبل (Hempel)، و"كارنب (1) (Carnap)"، و"الفرد جولر أير (A.J.Ayer)"، و"فردريك وايزمان (F. Waisman)"، ذهب "شليك" (1936-1882) إلى أن معنى قضية ما، هو طريقة تحقيقها وذلك بتوفر شروط للتحقيق تكون على إثرها القضية صادقة، من ذلك الواقع التجريبي للمعنى وهو ما وسم نظريته "بالنظرية التجريبية في المعنى"، وقد وضع "شليك" معايير ثلاثة لتحديد معنى الكلمة: إما بالإشارة إلى مسماها المعيّن (الشيء في العالم الخارجي)، أو بالتكافؤ والترادف ويخص ذلك الكلمات التي تعتبر محمولات تجريبية مثل:مربع، شجرة، ... أو بالاستخدام في السياق اللغوي وذلك خاص بالكلمات التي لا تعتبر محمولات تجريبية مثل:إذا، الآن، ... وغيرها من الصيغ التي لا معنى لها إلا داخل السياق. ماذا يعني "شليك" بمصطلح "التحقيق"؟.. التحقيق عند "شليك" يعني مطابقة المعنى للواقع ممايدل على صدق القضية في الواقع التجريبي، ولا يشترط أن يكون التحقيق بالمعنى القوي فتلك غاية بعيدة الحصول وإنما يعني "شليك" التحقيق بالمعنى الضعيف، أو ما سماه بإمكان التحقيق.
__________
(1) إن إسهام "كارنب" في مجال السيميولوجيا الحديثة قد عد عملاً في غاية الأهمية، خاصة وأن سعي هذا العالم الفيلسوف كان يتجه إلى بناء لغة مثالية، (علم الإشارة ـ بيار جيرو ـ الوعي) المقدمة مازن الوعر، ص 15.(1/130)
والإمكان كما يوضح "شليك" نوعان: إمكان تجريبي: وهو المعنى الذي يتسق وقوانين الواقع والطبيعة، وإمكان منطقي: وهو ما يطابق قواعد التركيب والنحو واستخدامنا المألوف للكلمات وفق نسق صحيح، والحقيقة أن نظرية "شليك" توقفت عن العطاء العلمي وتقديم التفسيرات الكافية لتمثيلات من المعنى لم تخضع لقواعد هذه النظرية ومعاييرها، وذلك لانحصار نظرية "شليك" في تفسير الكلمات ذات الواقع الحسي بينما وجدت قضايا وصيغ لا يشملها الإدراك الحسي المباشر لكنها محققة المعنى مثال ذلك تركيب الذرة الذي قال عنه "شليك" أن لا معنى له.
ويأتي بعد "شليك" العالمان "أوتونيراث" (1882-1945)، و"همبل" (1905-)، اللذان دعيا إلى معيار جديد يعتمد في رصد المعنى لا يرتد إلى الواقع التجريبي كما كان يقول "شليك" وإنما يرتد إلى قضية "بروتوكول" وتعني تسجيل دقيق لما عاناه المتكلم في خبرته، ويشترط في هذه القضية أن تصدر بضمير المتكلم وتلحق كل جملة بحسب اتساقها مع جمل بروتوكول سبق وأن قبلناها وذلك للحكم بصدقها، وإن تنافرت معها كان الحكم بكذبها وعدم تحققها، فالمعيار الذي اعتمده "نيراث وهمبل"، هاهنا هو معيار الاتساق (consistance).
أما كارنب (1891-1975) بعد جملة أفكار قدمها حول تصوره لمعنى الجملة أو القضية، انتهى إلى رد ذلك إلى الواقع التجريبي وذلك بعد إدراكه أن اللغة هي حاملة لواقع ومعبرة عنه وليس عبارة فقط عن تراكيب وأنساق لغوية.(1/131)
وبالرغم مما وجهت لنظرية الوضعية المنطقية من انتقادات، إلا أنها قدمت للدرس الدلالي الحديث طرقاً أخرى للبحث عن المعنى تتسم بالعمق في التحليل، وإن كان أصحاب هذه النظرية قد وقعوا تحت سلطة النظرة الحسية للأشياء وهو ما جعلهم يخلطون بين البحث في المعنى وبين صدق الجملة. وذلك ما سوف يعرض نظريتهم إلى مآخذ شديدة أدت إلى تعديل في مواقفهم بحيث عزفوا عن القول بمبدأ التحقيق التجريبي بالمعنى القوي، إلى القول بمبدأ التحقيق التجريبي بالمعنى الضعيف، ويعني ذلك نسبية تحقيق معنى الجمل والكلمات والقضايا واستحالة تحقيقها تحقيقاً مطلقاً تاماً بينما ظل موقف القائلين بالاتساق في الحكم بصدق ومعنى الجملة ثابتاً، بالرغم من الملاحظات الكثيرة التي وجهت إليهم وهو ما جعل موقفهم يضعف مما أدى إلى إجراء تعديل في المصطلح "تحقيق" الذي استبدل بمصطلح تدعيم (confrmation) وسوف ينشأ اتجاه آخر على يد "ألفريد جولزير (Ayer)" و(فردريك وايزمان) (F. waisman)..(1/132)
يذهب "أير" إلى أنه لا يكون للجملة معنى إلا إذا أمكن تدعيمها إلى درجة كبيرة بإشارتها إلى واقع يمكن ملاحظته. ولا يعد هذا تحديداً تاماً لمعنى الجملة وإنما مجرد تدعيم لها، بحيث يكون لها احتمال كبير في المعنى المحدد بواسطة التدعيم، خاصة وأن الجملة مسندة إلى ضمير المتكلم وبالتالي فهي تعبر عن إحساسات وإدراكات ذاتية وقد وصل "أير" إلى قناعة علمية تتلخص في الامتناع عن اعتماد معيار عام لمعنى الجملة، وربط ذلك المعنى بمجموعة الخبرات التي تحققت بفعل الملاحظة المباشرة عن طريق التحقيق التجريبي الذي يصدقه الواقع وحتى في هذه الحالة تصدق الجملة صدقاً احتمالياً لا صدقاً تاماً.(1)
__________
(1) إن الإشارة إلى الأسس الفلسفية التي أرسيت عليها قواعد النظرية المنطقية في المعنى، تقدم الصورة الحقيقية لوظيفة اللغة التي لا تقتصر على الإيصال والإبلاغ فحسب أو تسمية الواقع الفيزيائي للإنسان وإنما في فهم هذا الواقع وخلقه باستمرار، وتستأثر هذه النظرية بالاهتمام المتزايد لكونها تتناول اللغة في شكلها السياقي المتعدد...(1/133)
أما (وايزمان) فقد سار على نهج "أير" ولكن بأسلوب مختلف وذلك بدعوته إلى أن البحث عن مكافئ تام يشرح معنى الجملة سيبقى مفتوحاً لأنه ناقص، ذلك أن الجملة المطلوب رصد معناها تحوي على حالات جزئية يصعب حصرها وتحديدها، كما أن التركيب المعد لإقامة تحقيق القضية لن يكون هو التركيب الأخير المناسب، وإنما قد نحصل على تركيب جديد يشرح أو يحلل أو يضيف إلى معنى الجملة الأصلية. معان جديدة وبالرغم من الجهود المضنية في البحث عن تصور ثابت للمعنى بقي البحث بين دور وآخر يفاجأ، بمسائل جديدة مرتبطة بمسألة "المعنى"، فيخوض من أجل تفسيرها وتحليلها ودراسات مستفيضة، فالقول باعتماد معيار الترادف لتحديد معنى القضية أدى إلى البحث حول، ماهية الترادف، وهل الترادف خال من المعنى؟.. بالطبع لا يقدم الترادف تفسيراً لمعنى الجملة حتى يكون للجملة المرادفة معنى كذلك، وهو يحتاج إلى إيجاد مكافئ له في المعنى، وهكذا يقع الدرس في هذا المجال، في حلقة مفرغة..
8 ـ النظرية البراجماتية:(1)
__________
(1) د.محمود فهمي زيدان ، في فلسفة اللغة، ص 97.(1/134)
قريبة هي نظرية (تشارلز بيرس ـ (CH. Pierce)) من نظرية أصحاب الوضعية المنطقية وذلك في اعتمادها على الملاحظة الحسية المباشرة، وتحقق المعنى في الواقع التجريبي، وقد أشار (أير) إلى نظرية (بيرس) لأنها تعد تدعيماً لرأيه وموقفه، يرى (بيرس) أن تصورنا لشيء ما يتألف من تصورنا لآثاره العملية فالطابع الوظيفي للشيء هو الذي يحدد تصورنا حوله فالتيار الكهربي مثلاً لا يعني مرور موجة غير مرئية في مادة ما وإنما يعني مجموعة من الوقائع مثل: إمكان شحن مولد كهربي أو أن يدق جرس أو أن تدور آلة، وإذن فمعنى لفظ "كهرباء" هو ما تفعله، ويبقى همّ نظرية "بيرس" هو إثبات المعادل المادي للشيء، حتى يتحقق معناه، فمع أن الكهرباء غير مرئية فلا يمكن أن ننفي وجودها وإنما ننظر إلى آثارها العملية ولذلك رأى "بيرس" أن التصورات التي لا تنتج عنها آثار، لا معنى لها، وقد أوضحنا في نظرية (بلومفيلد) السلوكية(1)،
__________
(1) انظر: "النظرية السلوكية" ص 63، للعالم الأمريكي بلومفيلد..(1/135)
التي تقترب منها نظرية (بيرس)، من حيث المبدأ، كيف عجزت معاييرها عن تقديم تفسير كاف لجمل وعبارات لا يبدي أمامها المتلقي أية استجابة، هل يعني ذلك حسب (بيرس) أنها لا تشتمل على معنى، ومع ذلك يبقى (بيرس) أهم فيلسوف مؤسس لعلم الإشارات لم تقدر جهوده حق قدرها إلا بعد موته سنة 1914، حيث استثمر العالمان رومان جاكسون وشارل موريس جهوده في علم الإشارات فحاولا تطبيق نظرياته على علم اللغة العام، ولا يمكن أن نغفل تلك التصانيف التي وضعها (بيرس) حول الإشارات محدداً في ذلك نظاماً سيميائياً يضم العلامات اللغوية وغير اللغوية، وما يلفت الانتباه في حديث (بيرس) عن الإشارات هو ربطه للإشارة مع مدلولها من جهة والمرسل إليه من جهة ثانية إذ قد تكون الإشارة رمزاً (symbole) أو إيقونة (Icone) أو قرينة (Indice)، وأثناء عملية التواصل قد تستعمل الإشارة نفسها تارة رمزاً وتارة أخرى أيقونة أو قرينة، يتوقف استعمال الإشارة للتواصل والإبلاغ على معرفة مسبقة بدلالتها الاصطلاحية فرمز "الدخان" على سبيل المثال هو إشارة طبيعية أو قرينة قد تدل على النار أو علامة تدل على الخطر أو رمز الاتصال كما عند بعض قبائل الهنود الحمر"(1)..
9 ـ نظرية :"مور ـ كواين" :(2)
__________
(1) انظر: ذلك في مقال "الإشارة، الجذور الفلسفية والنظرية اللسانية"، بسام بركة، ص 50-51، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد رقم 30-31، سنة 1984.
(2) د.محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة: ص 99-100-103-105.(1/136)
يرى جورج مور (G.Moore) أن تصور معنى كلمة أو جملة يمر عبر إجراءات تحليل صحيح يقوم على خطوتين: التقسيم والتمييز وعلى معايير ثلاث هي: التكافؤ المنطقي والترجمة والترادف. ويقصد (مور) بالتقسيم، تحليل تصور معنى ما إلى مؤلفاته ويعني ذلك أن تصور المعنى مركب من جملة تصوراته الجزئية، وشبيه تقسيم (مور) بتصنيفات أصحاب النظرية التحليلية الذين قسموا معنى الكلمات إلى ما يؤلفها، من سمات دلالية(1). أما التمييز فله ارتباط عند (جورج مور) باستخدام الكلمة في السياق اللغوي وذلك بإحصاء جملة الاستخدامات الممكنة للكلمة الحاملة لتصور المعنى موضوع البحث، ومحاولة جمع الخصائص المشتركة التي تجمعها وتميزها عن المعنى الذي نحن بصدد البحث عنه، وإذا تحقق ذلك تميز تصور المعنى عما عداه من التصورات الأخرى..
أما معايير التحليل الصحيح فهي تهدف إلى إيجاد معادل دلالي للمعنى، فمعيار التكافؤ المنطقي عند "مور" يعني تحليل مقارب لتصور المعنى (موضوع البحث) إلى جملة تصورات أخرى تكافئه وتساويه وذلك من أجل التحقق من المعنى..
أما معيار الترجمة فليس يعني نقل كلمة من لغة إلى أخرى وإنما يعني ترجمة التصور إلى تصورات تصل معه إلى حد التكافؤ وينتج عن ذلك تساو في المعنى بين التحليل وموضوعه، وهو ما يسمى بـ"الترادف". فالترجمة تفضي إلى التكافؤ الذي يفضي بدوره إلى الترادف.
__________
(1) انظر "النظرية التحليلية"، ص 72.(1/137)
وبالرغم مما سجلته نظرية (مور) من تقدم في البحث حول المعنى إلا أنها تعرضت لمآخذ وانتقادات كثيرة كانت وراء نشوء نظريات أخرى قدمت البديل لنظرية (مور) ومن تلك النظريات نظرية (كواين (W.V.Quine 1908)) الذي تتلمذ على (كارنب (Carnap))، بدأ (كواين) من حيث انتهى عنده (مور) الذي قال: أن تصور معنى الكلمة هو الإتيان بتصورات أخرى تكافئه منطقياً ويسمى المعنى الناتج ترادفاً، ولكنه يجد نفسه قد وقع في حلقة مفرغة أشرنا إليها من قبل عند أصحاب نظرية الوضعية المنطقية وهو أن المعنى يعتمد على الإتيان بترادف، لكن الترادف غير ممكن إلا إذا كان المعنى قد استقر في ذهننا من قبل، فخاض كواين بحثه الأول في مسألة الترادف كأساس للبحث عن المعنى، فاستعان في بادئ الأمر بالنظرية السلوكية التي تنبني على مبدأي المنبه والاستجابة؛ أي أن معنى جملة ما بالنسبة لشخص ما تحدده مجموعة المنبهات التي تفضي إلى تقبل الشخص للجملة، ويعني (كواين)، بذلك أن القول بأن جملة ما أو كلمات تعتبر مترادفة إذ حققت استجابة واحدة، ولكن هذه النظرية لا تشتمل كل الجمل أو الكلمات، كما أوضحنا ذلك في النظرية البراجماتية (لبيرس) ذلك أن أساس تصور المعنى ـ عند هذه النظرية ـ نفسي، وبالتالي، يختلف من شخص لآخر، فعدّل (كواين) من نظريته واعتمد على معيار (الصدق). نقول عن جملتين أو كلمتين أنهما مترادفتان إذا كانتا لهما قيمة صدق واحدة، وكانتا تشترك في المصادقات. و(كواين) يربط تصوره حول المعنى بتحققه في الواقع، ويرتد(كواين) إلى ما آلت إليه نظرية المعنى التجريبي عند (شليك) ويقر بصعوبة البحث عن المعنى باعتماد معيار الترادف..
ـ دلالة العوالم الممكنة عند (فريجة (1) (Frege) -).
لم يرتق (فريجة) بأفكاره حول تصور المعنى إلى مستوى النظرية، وإنما لأهمية ما طرحه في هذا المجال ارتأينا الإشارة إليه.
__________
(1) د.محمود فهمي زيدان، في فلسفة اللغة: الصفحة 115-116-117.(1/138)
ما يميز فكر (فريجة) في بحثه حول المعنى هو افتراضه لوجود عالم دلالي مستقل. كيف وصل (فريجة) إلى ذلك؟.. لقد تبلورت فكرته هذه منذ أن أثبت التمييز بين معنى اسم العلم وإشارته، بحيث فرق بين الاسم ومسماه من جهة ودلالته من جهة ثانية، وخلص إلى أن المسمى ليس هو المعنى، وهو ما استقر لدى علماء الألسنية والدلالة المحدثين فيما يخص الأسماء كلها الدالة على معنى أو على ذات، ارتقى (فريجة) إلى التمييز بين الصورة الحسية التي تنشأ عن إدراك ضمني سابق لشيء ما أوتوهم هذا الإدراك، وهذه الصورة تختلط بالمشاعر والانطباعات الذاتية، ولذلك يختلف الإدراك الحسي من شخص لآخر فكانت عندئذٍ الصورة الحسية ذاتية، أما المعنى فله موضوعيته واستقلاله ومن هنا تأتي فكرة (فريجة) من افتراض عالم المعاني(1)
بحيث يكون السعي لاكتشافه لا لخلقه، وهو ما طرحه العالم الفرنسي (غريماس) في موضوعه "البنية الدلالية"(2)، وقد ميز (فريجة) في العالم الدلالي ثلاثة عوالم هي:
__________
(1) أخذت السيميولوجيا الحديثة أبعادها الفلسفية على يد الفيلسوف (فريجة) خاصة، انظر علم الإشارة، السيميولوجيا، بيار جيرو، ص 15.
(2) انظر مقالة "البنية الدلالية" في مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 18/19، سنة 1982، ص 97.(1/139)
العالم المادي (عالم الأشياء) والعالم الذاتي (عالم التصورات والأفكار)، وعالم المعاني. إلا أن افتراض (فريجة) بوجود دلالة العوالم الممكنة (possible world semantics) (1) قد قوبل بالانتقاد وذلك لاستحالة الحديث عن عالم غامض لا نعرف كيف نكتشفه. وقد كان (فريجة) نفسه قد أعلن أن المعاني ليست في حاجة إلى البحث عن معيار بفضله نستطيع تحديد معنى كلمة أو جملة ما، ولكن يجب أن ننطلق من مبدأ أن فكرة معنى كلمة هي فكرة معروفة لدى كل من يتكلم اللغة، وبالتالي فهي متروكة لاعتبارات أخرى تتضح بفعل الاستخدام لعناصر اللغة والتعامل في مجال الإبلاغ والتواصل.
وجملة القول، أن البحث عن ماله معنى في اللغة وما لا معنى له، قد أخذ من فكر العلماء المحدثين كثيراً وما استقر لديهم هو صعوبة المسلك نحو تحديد معنى الجملة، تحديداً تاماً، واستحالة إقامة معيار صارم ثابت يمكن بواسطته رصد دلالة الجملة، وما يمكن تسجيله:
أ ـ إن البحث في دلالة الجمل أو القضايا، بحث يتسم بالخطورة وذلك لطبيعة اللغة التي تنزع نحو التطور والتجدد وترفض أبداً منطق "المعيارية"..
ب ـ إن ما توصل إليه العلماء في مجال بحثهم عن المعنى، يفتقر إلى طابع الشمولية والعموم ولذلك وجدت ثغرات في نظرياتهم التي ضعفت على إثرها وزال تأثيرها..
ج ـ إن اعتماد معيار التحقيق أو مطابقة الواقع أو معيار الاتّساق أو معيار التدعيم كما نادى بذلك العلماء ـ الذين استعرضنا أفكارهم ـ يربط اللغة بالتحقيق المادي للدلالة، والملاحظة المباشرة للمعنى وهو ما فتح المجال لاعتماد معيار "الصدق والكذب"، بالنسبة للقضايا أو الجمل..
__________
(1) د.عبد القادر الفاسي الفهري، انظر اللسانيات واللغة العربية، ص 351..(1/140)
د ـ إن النزوع نحو هدف إثبات معنى محدد للكلمة أو الجملة، كان دأب علماء اللغة والفلسفة والمنطق، آخذين في سبيل ذلك، بمستويين اثنين هما: مستوى التركيب ومستوى المضمون وهما معياران أساسيان ولكنهما لا يكفيان لتحديد شامل كامل لدلالة الجملة أو الكلمة، وإنما وجب تظافر عدة أنظمة تأخذ في اعتبارها عالم المتكلم وعالم المتلقي وطبيعة الخطاب وعناصره، والمقام الذي يجمع ذلك كله ...
(((
الباب الثاني :
الدلالة عند الآمدي
الفصل الأول: جهود العرب القدامى في الدراسات الدلالية.
الفصل الثاني: العلامة اللسانية عند الآمدي.
الفصل الثالث: الخطاب البلاغي عند الآمدي.
الفصل الرابع: الحقيقة والمجاز عند الآمدي.
الفصل الأول:
جهود العرب القدامى في الدراسات الدلالية
الشافعي ـ الجاحظ ـ ابن جني ـ ابن سينا ـ الجرجاني
تمهيد:(1/141)
مما يكاد يجمع حوله جل علماء اللغة والأدب المحدثين أنه لا يمكن عزل النص عن سياقه الحيوي الذي نشأ في أجوائه وتأثر بمناخه المعرفي، بل لولوج فضاء النص العام وتفكيك بنيتة تفكيكاً يبرز الأصول التي تتحكم في نتاج العصر المعرفي والإضافات التي جاء النص بها وأبعادها الفلسفية، وجب مراعاة الروافد المعرفية التي أفاد النص منها أو اتخذ موقفاً إزاءها يقول مطاع الصفدي: "لا يمكن تأويل نص إلا باسترجاع السياق اللغوي والبيئي والانثربولوجي العام الذي نما وترعرع النص فيه"(1)، ثم إن مفهوم التراث المعرفي لا ينحصر زمانياً في الماضي، وإنما المفهوم الحديث الذي بلوره غادامير (Hans – Gorg Gadamer) هو امتزاج التراث مع ذاتية الباحث عنه والملتمس لأسس بنائه، وهذا التراث الحاصل كل مشكل من جدلية الحاضر مع الماضي، فلا وجود لتراث ساكن لأنه لا جدوى منه وإنما الفهم المعاصر المتوافق وكينونتنا الراهنة هو الذي يعطي للتراث أبعاده وذلك بما يتحدد على أساسه من رواسب ثقافية محمولة في وعاء لغوي، ومعنى ذلك أن مساءلتنا للتراث العربي تقوم على أساس من الحوار العادل إذ يتحول التراث إلى ذات محاورة تمتلك رواسبها الثقافية ذات أبعاد معرفية وفلسفية، وتقوم ذاتنا المحملة بمعارف مسبقة تشتمل كل خصائص الوجود الثقافي العلمي الراهن وبذلك ينتفي أي تسلط من أي طرف، وتتغير نظرتنا إلى اللغة الحاملة للفكر التراثي عن كونها كومة رموز خالية من أي عمق دلالي ذلك: "إن إرجاع النص إلى مجرد كومة رموز لاعمق دلالي وراءها هو منهج مادي ساذج، يريد أن يناقض المنهج التجريدي الساذج كذلك الذي يجرد عالم الدلالات بمعزل عن النص وسياقه الحيوي الذي قيل أو خط ضمن إطاره(2)،
__________
(1) استراتيجية التسمية، التأويل وسؤال التراث ـ مجلة الفكر العربي المعاصر ص 4 ـ عدد 30/31ـ 1984.
(2) مطاع الصفدي، المرجع السابق، ص 4-5..(1/142)
وفي هذا الإطار النظري العام تأتي ضرورة تحديد المناخ المعرفي الذي أنتج فيه الآمدي كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"، بما اشتمل عليه من مفاهيم دلالية ولسانية تستند ـ بالطبع ـ إلى منهج يملك رؤية معينة في التعامل مع النصوص اللغوية وتأويل دلالتها بما يتوافق والوعي بعمق الحدث اللغوي مكتوباً أو منطوقاً أو مسموعاً، خاصة إذا علمنا أن الآمدي عاش في عصر الملخصات للنتاج التراثي المتقدم الذي تأثر بحركة النقل في القرنين الثاني والثالث الهجريين واللذين شهدا ترجمة لعلوم وآداب اليونان والفرس وغيرهما من الأقوام، وظهر جلياً أثر الفلسفة اليونانية عامة والمنطق الأرسطوطاليسي خاصة في مؤلفات علماء الأصول من المتكلمين(1).
__________
(1) سنعرض لهذه الفكرة في مبحثنا حول الشافعي ، وطرق الاستدلال عنده، والآمدي في كتابه "الأحكام في أصول الأحكام".(1/143)
فضلاً عن الفلاسفة المسلمين الذين اتخذوا مواقف متباينة من المنطق اليوناني، فحرصاً منا لمقاربة المنهج المعرفي الذي اعتمده الآمدي في تقديم قراءاته التأويلية لبنية الخطاب اللغوي في القرآن الكريم، عجنا نسائل مجموعة من العلماء الذين افتخر بهم عصرهم، وذلك بما قدموه من عطاءات أسهمت بشكل بارز وواضح في بلورة العلوم الإنسانية في شتى مجالاتها في العصر الحديث، وقد اعتمدنا في سبيل ذلك التدرج الزمني بدءاً بالقرن الثاني الهجري وانتهاءً إلى القرن الذي سبق الآمدي، وحددنا مجالات معرفية تتباين من قرن لآخر، ففي مجال علم أصول الفقه اخترنا الشافعي ـ رضي الله عنه ـ لكونه أول من سن قواعد عامة لاستنباط الأحكام والدلالات من القرآن الكريم، معتمداً أساساً على القياس والفهم العميق لمعاني اللغة العربية، وقد كان اعتمادنا لإبراز إسهامات الشافعي في مجال الدلالة على كتابه "الرسالة" خاصة، وملخصه كتاب: "أحكام القرآن" وبما أن البلاغة وفن النظم لها صلة أساسية بعلاقة اللفظ بالمعنى والتركيب بالدلالة السياقية، أبرزنا إسهامات علماء البلاغة ملخصة في كتابي الجاحظ "البيان والتبيين"، خاصة وكتاب "الحيوان" إلا أن القرن الخامس الهجري قد شهد بروز عالم فذ له حس لغوي نافذ في مجال النظم وهو عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"، ولم نكتف بالجاحظ كمسهم في إرساء نظرية بلاغية ذات أهمية بالغة لكون عبد القاهر قد تخطى المفاهيم الأولية التي كانت معروفة بها البلاغة العربية إلى مفاهيم جديدة لا زالت أحكامها نافذة إلى يومنا هذا رغم تقادم الأزمان وبعد المسافة بيننا وبين صاحبها ـ الجرجاني ـ ... وقبل الجرجاني توقفنا عند صاحب كتاب "الخصائص" لنجليَ فيه بعض الأحكام اللغوية التي أضحت سنناً مطردة في فن الإنشاء والتعبير اللغويين، ولا تخفى على أي مطلع على التراث اللغوي العربي مكانة ابن جني في التأسيس لبنية الخطاب اللغوي، بما أرساه من نظريات(1/144)
في اللغة انبنت بطول المعاينة لآلياتها في التشكيل الحرفي واللفظي والسياقي، تنم عن امتلاك حقيقي لأدوات المساءلة اللغوية لسنن العرب في كلامها، وآخر ما ختمنا به رسم الأجواء المعرفية التي ولا شك أفاد منها الآمدي ـ هو الشيخ الرئيس ابن سينا فرصدنا عطاءاته التي تخص الدلالة في كتبه: "منطق المشرقين"، وكتابه "العبارة"، و"الشفاء" ثم كتابه "الإشارات والتنبيهات"..(1/145)
وقد حاولنا في كل ذلك أن نقدم مجمل الإسهامات في مجال الدرس اللغوي عامة والدلالي على وجه الخصوص التي يكون علي بن محمد الآمدي قد أفاد منها إفادة تدل على النضج المنهجي الذي وسم أبحاثه في كتابه الإحكام، وقد اكتفينا عند بعض المتقدمين ـ ممن وقع عليهم اختيارنا كنماذج لقرن معرفي معين ـ ببعض كتبهم عن البعض الآخر وذلك خاضع للبرنامج الذي سطرناه حيث لا ينبغي أن نخوض في مباحث الدلالة عند عالم من هؤلاء المتقدمين خوضاً شاملاً وعميقاً وكأنه موضوع البحث الذي عكفنا فيه على تجلية جهود الآمدي اللسانية والدلالية، واضعين مقاربة علمية نحاول من خلالها ممارسة فعل الحفر والبناء في عطاءات الآمدي اللغوية بناء لا يسلب التراث اللغوي خصائصه وسماته وأبعاده المعرفية، كما لا يقدم تقديماً مشوهاً ومزيفاً نتيجة لتلك الأدوات النظرية الحديثة التي عقدنا من خلالها جدلاً معرفياً لغوياً نراعي فيه شروط المثاقفة التي تتنافى وشروط المشاكلة، فيغدو كتاب الآمدي مشروعاً ثقافياً متجدد الفعالية يطلب قراءة لغوية تتماشى وسنن الكلام والكتابة آنذاك وبذلك نكون قد وصلنا بين حلقات المعرفة اللغوية، وإن لم نعرض لكل فعاليات التراث اللغوي قبل عصر الآمدي، ولكن حسبنا أن نثير مسائل تخص حقل الدلالة المعرفي عند بعض العلماء، الذين اعتبروا كمقدمات مهمة لم تتضح معالم نتائجها إلا في القرون التالية لها، وخاصة مع الآمدي الذي تعد أبحاثه وأفكاره حلقة مهمة لا يمكن إسقاطها في عطاءات القرنين السادس والسابع الهجريين ...
1 ـ الجهود الدلالية عند الشافعي (150 هـ 204هـ):
من خلال كتابه "الرسالة".(1/146)
يعد الإمام الشافعي أول من وضع الأبواب الأولى لعلم أصول الفقه، بحيث بيّن العام من الألفاظ والخاص، كما أشار إلى طرق تخصيص الدلالة وتعميمها باعتماد القرائن اللفظية والعقلية، وكيفية استنباط الأحكام بالاعتماد على التحليل المستند على النقل، يقول الشافعي: و"رسول الله عربي اللسان والدار، فقد يقول القول عاماً يريد به العام، وعاماً يريد به الخاص".(1)
__________
(1) الرسالة ـ ص 213.(1/147)
وأقدم ما وصلنا مكتوباً في علم أصول الفقه هو كتاب "الرسالة" للشافعي يُجمع على ذلك العلماء المحدثون والأقدمون على السواء، وكان الكتاب محاولة لوضع قواعد لفهم النصوص القرآنية وتحديد الدلالة المقصودة وفق منهج أظهر مافيه هو القياس الفقهي. يقول الدكتور علي سامي النشار:"يجمع مؤرخو "علم الأصول" على أن أول محاولة لوضع مباحث الأصول كعلم نجدها عند الشافعي، وأنه لم يكن قبل هذا العهد ثمة محاولات لوضع منهج أصولي عام يحدد للفقيه الطرائق التي يجب أن يسلكها في استنباط الأحكام" ولم ينفرد المحدثون من باحثي المسلمين أو من المستشرقين بهذا القول وحدهم. بل إن علماء المسلمين الأقدمين شاركوا فيه بحيث نرى إماماً عظيماً كابن حنبل (214 هـ ـ 285هـ)، يقول: "لم نكن نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي"، كما يقول الجويني (شارح ممتاز من شراح الرسالة): "أنه لم يسبق الشافعي أحد في تصنيف الأصول ومعرفتها"، كما يقول ابن رشد: "النظر في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الأول(1)
__________
(1) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ـ ص 15..(1/148)
تلك المصطلحات التي أعطاها الشافعي أبعاده الدلالية، وأضحت معروفة الحدود في علم أصول الفقه إلى يومنا هذا، لا يمكن أن نعطيها قدرها من الإبداع العلمي، إلا إذا أخذناها في عصرنا الأول الذي ظهرت فيه، ذلك أنه ليس من اليسير أن يتوصل عالم إلى حصر أدوات علمه النظرية في بداية تشكل بنية العقل العربي، وخاصة وأن فقه القرآن وتأويل معانيه الراجحة، كانت آنذاك تعتمد على النقل والأثر لقرب عهدها بعصر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد طرح هذا النضج المبكر لدى الشافعي بمعرفته طرق تحديد الدلالات عدة أسئلة تحاول إيجاد التحليل الكافي لذلك النضج المعرفي المبكر، وتقف على أصول منهج الشافعي وروافده المعرفية، فمن المحققين من رد تلك القواعد الفقهية التي استنبطها الشافعي إلى تلك الإرهاصات الأولية التي تمظهرت في تعامل جمهور الصحابة العلماء مع المسائل المستجدة بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يقول ابن خلدون:"ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقايسون الأشباه منها بالأشباه، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم ( ... )، فإن كثيراً من الواقعات بعده ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ لم تندرج في النصوص الثابتة فقايسوه بما ثبت وألحقوها بما نص عليه، بشروط في ذلك الإلحاق، تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين ( ... ) واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي "أصول الأدلة"(1)
__________
(1) المقدمة ـ ص 551..(1/149)
ويكاد يجمع المؤرخون أن مناهج العلماء المسلمين مدينة بشكل بارز إلى منهج الشافعين بل إن من تلا الشافعي ما وسعه إلا أن يقتفي أثر منهجه ويسير على سنن القواعد الأصولية، التي أرساها والتي يكون قد أخذها، أو استوحاها ممن سبقه من العلماء الأحناف ومن جمهور الصحابة الفقهاء، يقول الدكتور سامي النشار:" ... وفي الحقيقة إن تاريخ وضع المنهج الأصولي يذهب إلى حد أبعد من عصر الشافعي بكثير، بحيث لا يجب أن نلتمسه فقط عند العلماء الأحناف في السنوات التي تسبق عصر الشافعي، بل في عصر الصحابة أنفسهم ولدى الكثير من فقهائهم، وعن هؤلاء الفقهاء أخذت معظم القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام"(1) ونشير في هذا المجال إلى تلك الأبحاث التي أثارها المتكلمون معتمدين على المنهج العقلاني في تحليل الأحكام وتأويل النصوص، ولاشك أن علماء الأصول بدءاً من الشافعي قد أفادوا من طرق المتكلمين في استنباط الأحكام ومقايسة الأشباه وإلحاق الأمثال ببعضها لتشكيل القانون المنطقي المطرد، وقد أخذ العلماء الأحناف بالقياس العقلي حيث كانوا يلحقون الأصول بالفروع على نقيض الشافعي الذي سوف يطلع فيما بعد بمنهج يقيم فيه الفروع على الأصول(2) ويتجاوز القياس الحنفي إلى نظرية للمعرفة تعتمد أساساً على النصوص المنقولة وعلى علاقة الألفاظ بالمعاني يقول فخر الدين الرازي: "كان الناس قبل الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون، ولكن ماكان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضتها وترجيحها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع في معرفة مراتب أدلة الشرع إليه.(3)
__________
(1) منهج البحث عند مفكري الإسلام ـ ص 81.
(2) المرجع السابق ـ ص 82.
(3) مناقب الشافعي ـ ص 98-102 ـ نقله د. سامي النشار في كتابه منهج البحث عند مفكري الإسلام ـ ص 83.(1/150)
بينما يذهب بعض المؤرخين إلى إلحاق فكر الشافعي في استنباط الأحكام وتحديد القواعد الأصولية، بفكر اليونان ويسوقون لذلك عللا وأدلة ترجح ذلك، منها أن كتب اليونان في المنطق والفلسفة كانت قد نقلت إلى اللغة العربية قبل الشافعي، فضلاً على ذلك كان الإمام ـ كما يذكر هؤلاء المؤرخون ـ على معرفة باللغة اليونانية. كما ذهب ابن القيم إلى أن الشافعي في قوله بالقياس الأصولي يشارك أرسطو في قوله بالتمثيل ظنياً(1)، أي كلا من قياس الشافعي وتمثيل أرسطو لا يفضيان إلى اليقين. غير أن هذه العلل والأدلة وغيرها مما ذكره المتقدمون أو المتأخرون من المؤرخين لا تثبت إثباتاً قطعياً تأثر الشافعي بالمنطق الأرسطي خاصة إذا علمنا أن الشافعي في طرق الاستدلال لا يعتمد على العقل إلا لمما، بل إن اعتماده يكاد يقتصر كلياً على النقل، ومقارنة النصوص ببعضها، وإسناد بعضها ببعض في إثبات الدلالة يقول مصطفى عبد الرازق وهو يصف منهج الشافعي في كتابه "الرسالة": "الاتجاه المنطقي إلى وضع الحدود والتعاريف أولاً ثم الأخذ في التقسيم مع التمثيل والاستشهاد لكل قسم، وقد يعرض الشافعي لسرد التعاريف المختلفة ليقارن بينها، وينتهي به التمحيص إلى تخيير ما يقتضيه منها ـ ومنها أسلوبه في الحوار الجدلي المشبع بصور المنطق ومعانيه، حتى لتكاد تحسبه لما فيه من دقة البحث ولطف الفهم وحسن التصرف في الاستدلال والنقض ومراعاة النظام المنطقي حواراً فلسفياً على رغم اعتماده على النقل أولاً وبالذات واتصاله بأمور شرعية خالصة".(2)
__________
(1) مفتاح السعادة ـ ج 2 ـ ص 232.
(2) تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ـ ص 245..(1/151)
وما هو ثابت لدى المحققين في حياة الشافعي العلمية، أنه كان يدعو إلى ضرورة الإلمام الشامل بفنون اللغة العربية، لأن فهم النصوص لا يتأتى بغير ذلك، فأصحاب العربية أخلق بتأويل وفهم معاني القرآن والسنة، ينقل معروف الدواليبي إشادة الشافعي بأهل العربية فيقول: "أصحاب العربية جن الإنس يبصرون ما لا يبصر غيرهم"(1).. ومصطلح "العربية" كان يطلق عصرئذٍ على علوم العربية كالنحو والبلاغة، ويعني ذلك أن الشافعي كان ذا اطلاع واسع بعلم العربية، وطرق تأدية المعاني من غير لبس، وظاهر ذلك من المباحث اللسانية والدلالية التي أثارها في كتابه "الرسالة"، وملخصه كتاب:"أحكام القرآن"، لقد عقد الإمام الشافعي باباً عن الاختلاف بين الأحاديث في رسالته مثبتاً أن اتفاق العبارات لا يعني اتفاق المدلولات. يقول الشافعي موضحاً وكاشفاً أسرار بلاغة الحديث الشريف: "ويسن بلفظ مخرجه عام جملة بتحريم شيء أو بتحليله ويسن في غيره خلاف الجملة فيستدل على أنه لم يرد بما حرم ما أحل ولا بما أحل ما حرم"(2).. إن هذا الفهم العميق لمقاصد الكلام ينم عن امتلاك الشافعي لحس لغوي، مطّلع على سنن القول ودلالاته، ومراس طويل للفصيح من لسان العرب، بل إن رصف الألفاظ وحسن وقوعها في سياق الجملة، مما يبين عن دلالة اللفظ الذي كان مبهماً في صيغته المعجمية، وهي إشارة إلى فضل تسييق اللفظ من أجل تحديد دلالته، وهو ما نادت به النظرية السياقية (Theorie Contextuelle) حيث استقر لدى أصحابها من علماء الدلالة، أنْ ليس للفظ من دلالة إلا دلالته السياقية، يقول الشافعي في إشارته إلى معنى اللفظ السياقي عند العرب في كلامها: "وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله(3)،
__________
(1) المدخل وإلى علم أصول الفقه ـ ص 76.
(2) كتاب الرسالة ـ ص 214.
(3) المصدر السابق، ص 52..(1/152)
وتأكيداً لذلك يضع الإمام عنواناً لباب سماه:"الصنف الذي يبين سياقه معناه"(1).. ويمكن أن نلمس نظرية الشافعي المعرفية بعرض السبل التي يدرك بها الإنسان معنى السياق وقد حصرها الإمام في النصوص الدينية وفي اللغة العربية وسنن العرب في كلامها فضلاً عن الحس السليم في تمييز الخاص والعام والظاهر والخفي الدلالة ونظرية المعرفة تعني الطرق المنطقية التي توصلنا إلى إدراك ماهية الأمور المعقولة والمحسوسة وهي نظرية أسقطت من تناولها البحث في ذات الله تعالى، وفي الفضاء والقدر (الجبر والاختيار)، وفي الخلود (بعد الموت) كما قال بذلك كبار الفلاسفة(2)، ومن تمام المعرفة اللغوية التي ينص عليها الشافعي، هو العلم بمعاني اللغة واتساع لسانها، وهي الإشارة إلى وجود المجاز الذي عدّ عند أهل العربية القدامى من طرق توسيع المعنى، وكذلك ينبه الشافعي إلا أن الكلام قد يخرج عن ظاهره كما يخرج عن عمومه وطريق معرفة ذلك هي القرينة اللفظية، يقول موضحاً ذلك كله، ومحدداً طرق المعرفة والاستدلال: "فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاماً ظاهراً يراد به العام الظاهر ويستغني بأول هذا منه عن آخره، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه وعاماً ظاهراً يراد به الخاص، وظاهراً يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهرة(3)،
__________
(1) المصدر نفسه، ص 62.
(2) بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في الإسلام، ص 107.
(3) كتاب "الرسالة"، ص 52..(1/153)
إن هذا التعيين الدقيق لمنافذ المعرفة، وهذا التقسيم الواضح لأصناف اللفظ والدلالة، يؤكد أن الشافعي في الصدر الأول كان ذا وعي لغوي كبير بمستويات الكلام، وهو ما جعله حقيقة في طليعة العلماء الذين وضعوا منهجاً بيّنا في استنباط الأحكام، وحصر الدلالات المختلفة، بالنظر الدقيق لظاهر الخطاب اللغوي وباطنه، ثم إن المادة اللغوية التي كان الشافعي يرتكز عليها أساساً لإصدار السنن الدلالية المطردة هو نصوص القرآن الكريم وما صح من الحديث الشريف، وهذا ما يعطي لتلك الأحكام مكانتها من الدقة وصيرورتها لأن تكون شاملة لكلام العرب، وسننها في فن القول والكتابة، ويكفي أن نعرض لعناوين بعض الأبواب التي بحثها الشافعي لنستشف عمق التقسيم لمستويات الكلام عنده، يقول:"باب بيان ما أنزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخله الخصوص"، "باب ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص"،"باب مانزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص(1)، وغيرها من الأبواب، إن أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي أدنى مستوى من الفصاحة وحسن التأليف من القرآن الكريم تكتسي عند الشافعي مقاماً رفيعاً وهي أقرب إلى كلام العرب الفصحاء، مستوى من القرآن الكريم الذي يبقى من أعلى مستويات الكلام على الإطلاق. وفي ذلك مايجيز سحب تلك القوانين التي خصها الشافعي أحاديث النبي على كلام العرب.
__________
(1) المصدر السابق، ص 53-56-58.(1/154)
والقصد من ذلك تبيين معالم المشروع اللساني الذي يهدف اللغويون إلى وضعه في العصر الحديث، بحيث تكتسب تلك القواعد الأصولية التي شملت نصوص القرآن والحديث الشريف طابع الشمولية لكل أقسام الكلام في اللغة العربية، وقد ربط الشافعي تحليله لبنية الخطاب على أساس موقعه من المتلقي الذي يتخذ منه موقفاً من محموله، وذلك ظاهر في أن الخطاب يحمل تأليفاً لمدلولاته ليس غريباً عما اعتاد سماعه المتلقي الذي يقوم بعملية تفكيك لبنية الخطاب بعد حصر مدلولاته، والوقوف على مقاصد صاحب الخطاب. ويقول الشافعي مبيناً موقف المسلمين الفقهاء من الحديث النبوي الذي التبست دلالاته فلم يعرف أظاهر عام هو أم باطن خاص: " ... . وهكذا غير هذا من حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو على الظاهر من العام حتى تأتي الدلالة عنه كما وصفت [بطرق تحديد الدلالة لفظياً] أو بإجماع المسلمين: أنه على باطن دون ظاهر، وخاص دون عام، فيجعلونه بما جاءت عليه الدلالة ويطيعونه في الأمرين جميعاً".(1)
__________
(1) المصدر نفسه، ص 322.(1/155)
كما كان للشافعي رؤية دلائلية للعلامة غير اللغوية إذ في معرض تفسيره للفظ "العلامات" الوارد في القرآن الكريم. استند في تحديد مدلولها على العقل، يقول الله تعالى: "وعلامات وبالنجم هم يهتدون"(1) قال الشافعي: "فخلق الله لهم (أي للمسلمين) علامات ونصب لهم المسجد الحرام، وأمرهم أن يتوجهوا إليه. إنما توجههم إليه بالعلامات التي خلق لهم، والعقول التي ركبها فيهم التي استدلوا بها على معرفة العلامات(2) وأثار الشافعي مسألة الترادف في اللغة وقد أثبته في معرض بحثه عن دلالة لفظ "شطر" الوارد ذكره في قوله تعالى مخاطباً نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام"(3)، لقد أحصى الشافعي ألفاظاً تناظر لفظ "شطر" في الدلالة منها: وجهة ـ قصد ـ تلقاء.
ثم قال: "وكلها بمعنى واحد وإن كانت بألفاظ مختلفة"(4) وقد أُدرج موضوع "الترادف" ضمن مباحث الدلالة في العصر الحديث، لكونه له ارتباط بتأدية المعنى بأشكال لغوية مختلفة وهي مسألة أضحت مدار جدل كبير بين علماء اللغة المحدثين أثبتها البعض وأنكرها البعض الآخر، كما ناقشها الأقدمون وانقسموا إلى قسمين: مثبت للترادف ومنكر لوجوده في اللغة، وقد ألف هؤلاء كتباً عديدة للتدليل على صحة زعمهم، نذكر من بينهم الرّماني صاحب كتاب "الألفاظ المترادفة"، وكراع النمل صاحب كتاب "المنتخب" والفيروز آبادي الذي ألف كتاباً أسماه "الروض المسلوف فيما له اسمان إلى ألوف". أما المنكرون لوجود الترادف من الأقدمين فنذكر منهم: ابن فارس في كتابه "الصاحبي" وأبو هلال العسكري في كتابه "الفروق في اللغة"..
__________
(1) سورة النحل، الآية 16.
(2) كتاب "أحكام القرآن"، ص 70.
(3) سورة البقرة، الآية 150.
(4) كتاب الأحكام، ص 68-69.(1/156)
أما المحدثون فقد وسعوا من دائرة الجدل اللغوي حول مسألة الترادف، وساق كل فريق دلائل تثبت أو تنكر وجود الترادف في اللغة الإنسانية كلها، فقال المثبتون أنه لا خلاف في وجود الترادف بأقسامه: (المتقارب دلالياً ـ شبه الترادف ـ الترجمة ـ التفسير)(1) وإنما الخلاف في وجود الترادف الكامل بين لفظين أو أكثر ذلك أن هذا النوع يقتضي التطابق التام بين المكونات الأساسية لجميع الألفاظ التي تبدو مترادفة فضلاً عن التناظر التام بين سماتها الدلالية، أما المنكرون فقد استندوا على نفي الترادف، لكون الاختلاف الفونولوجي بين الألفاظ يقتضي اختلافاً في المعنى(2) ويبدو أن ما قدمه المثبتون من العلل ومن التقسيم لأصناف الترادف في اللغة، هو أرجح وأقوى مما قدمه المنكرون، وذلك هو ما مال إليه الشافعي بعد معاينته لتلك العلاقات التي تربط الألفاظ ببعضها في القرآن الكريم، ولا يفوتنا أن نسجل كذلك إثارة الشافعي لمسألة المشترك اللفظي في لسان العرب ففي تفسيره لقوله تعالى في حق نبيه الكريم: "وأزواجه أمهاتهم"(3) حيث يقول: "مثل ما وصفت: من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معان مختلفة"(4) وبذلك غدا الشافعي بما خطه من القواعد ووضعه من السنن، مصدر إلهام لجميع علماء الأصول، بحيث اتخذت "رسالته" كأساس لأي استنباط دلالي من القرآن الكريم، والحديث الشريف، وغدت أبوابها معروفة لدى علماء الدين الذين عكفوا عليها شرحاً وتمحيصاً. يقول الدكتور سامي النشار: "واستمرت رسالة الشافعي سنوات طويلة تسيطر على المناهج الأصولية في العالم الإسلامي. ولم يبدأ التحقيق والتمحيص فيها إلا بعد أكثر من قرن حين بدأ الإمام محمد بن عبد الله أبو بكر الصيرفي (320هـ ـ 932) يضع شرحه عليها.
__________
(1) د.أحمد مختار عمر، انظر علم الدلالة، ص 220-221-223.
(2) المرجع السابق، ص 224.
(3) سورة الأحزاب، الآية 06.
(4) أحكام القرآن، ص 167.(1/157)
وقد حفظ لنا التاريخ أسماء تسعة(1) من شراح الرسالة"(2)، وكما أثبت المؤرخون إفادة الشافعي من تلك الحركة العلمية التي قام بها المتكلمون، فقد أعطى الشافعي دفعاً قوياً لعلم الكلام، وذلك أن أضحى بفضله صنف من الأصوليين يمزجون بين طريقة المتكلمين وطريقة الفقهاء في الاستدلال آخذين بالمنهج الذي أرسى أطره الشافعي، من ذلك تجريد القواعد العامة من المسائل الفقهية، كما صنع صاحب الإحكام في أصول الأحكام.
2 ـ الجهود الدلالية عند الجاحظ (160 هـ ـ 255هـ):
من خلال كتابيه (البيان والتبيين والحيوان):
__________
(1) هؤلاء التسعة هم: الصيرفي : النيسابوري. حسان بن محمد. القفال محمد بن علي، الحافظ أبو بكر الجورفي، أبو زيد الجروي، يوسف بن عمر . جمال الدين الفهمسي أو ابن الفاكهاني وأبو قاسم عيسى بن ناجي.
(2) منهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 87.(1/158)
إن الجاحظ في علم البلاغة والجمال، يضاهي مكانة الشافعي في علم أصول الفقه، فهو أول من فتق أبواب البيان، وأبان عن مكامن اللغة العربية الجمالية، آخذاً في ذلك جمع الصور اللفظية وغير اللفظية التي تحتضن الفكر و تعبر عن الدلالات والمعاني المختلفة. كما عكف على الدراسة الصوتية للحرف واللفظ لكون ذلك يفضي إلى استقامة البيان وحصول الإبلاغ، بحيث يراعي فيه حسن التأليف بين الحرف والكلمة، وقد أشار الجاحظ في هذا المجال إلى تلك الأمراض النطقية التي تؤدي إلى اختلال في آلة التعبير خاصة في مخارج الأصوات وعدّ منها الكثير(1). وقد أضحى ذلك في العصر الحديث فرعاً من اللسانيات وقد التمس له العلماء أسباباً فوجدوها عصبية نفسية تؤدي إلى اضطراب أساسي في بنى اللغة وأطلقوا على ذلك المبحث العصب السني (Neurolinguistique)(2) تناول الجاحظ في كتابيه: "البيان والتبيين" وكتاب "الحيوان". مباحث لها ارتباط وثيق بموضوع الدلالة، وعلاقتها بطرق تأديتها فلقد قسم العلاقة إلى أصناف، كما وقف على وظائف الكلام، لأن ذلك هو جوهر البيان وفي إطاره تناول الدلالة السياقية، واختيار المكان والمقام الملائمين لموقع اللفظ والمعنى، كما خاض الجاحظ في ذلك الجدل الذي دار حول نشأة اللغة: أتوفيقية هي أم اصطلاحية توفيقية؟ ... تلك بعض الأبحاث التي تناولها الجاحظ ضمن مباحث البيان، نحاول أن نعبر إليها بغية اقتناص ما نستطيع أن نعثر عليه من مفاهيم لسانية، ودلالية ...
أ ـ حسن التأليف بين الحروف والألفاظ:
إن دراسة أصوات اللغة في الدرس اللساني الحديث تتم ضمن نمطين اثنين..
__________
(1) من هذه الآفات التي تصيب النطق: التعتع، التمتمة ـ الحبسة ـ العقدة ـ العقلة ... انظر البيان والتبيين باب عيوب البيان، ص 27.
(2) د.ميشال زكريا، انظر ذلك في كتاب: "الألسنة، علم اللغة الحديث ـ ص 70.(1/159)
1 ـ الدراسة الصوتية النطقية Articulation التي تتوخى وصف كيفية إنتاج أصوات الكلام، ووصف مخارج الحروف التي تشكل الصوت اللغوي الصحيح بحيث لا تتنافر الحروف مراعاة ليسر النطق وثبات الصوت في الاستعمال إذ تأكد لدى علماء اللغة أن الكلمات المندثرة كان أغلبها مؤلفاً من حروف صعبة التجاور.
2 ـ أما النمط الثاني فهي الدراسة الصوتية السمعية Acoustique التي تدرس الخصائص الفيزيائية للصوت اللغوي المنطوق، يقول الجاحظ وهو يعرض صفات الحروف التي تتوافق لتشكل لفظاً صحيحاً والحروف المتنافرة التي تجتمع ليس في لسان العرب فحسب، بل وفي ألسنة العجم من الفرس والأجناس غير العربية(1): "فأما في اقتران الحروف فإن الجيم لا تقارن الظاء ولا القاف ولا الطاء ولا الغين، بتقديم ولا بتأخير، والزاي لا تقارن الظاء ولا السين ولا الضاد ولا الذال بتقديم ولا بتأخير"(2). إن الجاحظ بهذا التحليل لطبيعة الحروف يحاول وضع أسس للصوت بحسب قوته من الجهر أو الهمس، فالحروف التي تختلف في السمات الصوتية تكون أقرب إلى المجاورة من الحروف التي تتفق في ذلك، فالجيم صوت مجهور لا يقع مجاوراً لصوت الظاء أو القاف أو الطاء ولا الغين لكون هذه الحروف لها سمات الجهر كذلك، وهو ما استخلصته الألسنية الحديثة التي صنفت الحروف إلى مخارج وتأكد استحالة تأليف لفظ من حروف تنتمي لذات المخرج النطقي وإنما اللفظ الذي تتوفر فيه سمات النطق الصحيح هو المؤلف من حروف متباعدة المخارج مختلفة السمات الصوتية..
والبيان ـ عند الجاحظ ـ يقتضي عدم التنافر بين مجموع الألفاظ التي تؤلف الجملة حتى أنه ينقل قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر.
__________
(1) البيان والتبيين، ج1، ص 51.
(2) المصدر السابق، ج1، ص 77.(1/160)
ولصعوبة إنشاده ثلاث مرات متتالية ظن البعض من اللغويين أنه من أشعار الجن، وذلك لما بين كلماته من تنافر يعسر نطقها مجتمعة في سياق واحد، ولما في إنشادها من الاستكراه والنبو، والبلاغة عند الجاحظ ليس إلا أن تؤلف في نسق صحيح بين كلمات أو بين حروف اللفظ ثم تراعي حسن موقع المعنى من ذلك لتقذفه إلى سمع المتكلم فإذا هو يعيَه ويستوعبه يقول الجاحظ: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"(1)، ثم إن القدر المساوي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن يصرف المتكلم كلامه على وجه لا إطناب فيه، ولا حشو لأن تآليف الكلام سليمة واقتضاؤها للمعنى صحيح يقول الجاحظ: "وإنما الألفاظ على أقدار المعاني فكثيرها لكثيرها وقليلها لقليلها، وشريفها لشريفها، وسخيفها لسخيفها، والمعاني المصغرة البائنة بصورها وجهاتها تحتاج من الألفاظ إلى أقل ما تحتاج إليه المعاني المشتركة والجهات الملتبسة"(2) فعلى قدر المعاني تأتي الألفاظ، فقد تكفي الإشارة الحقيقية للمعنى الظاهر البعيد عن اللبس وقد تتطلب المعاني الخفية التي تحتمل دلالات كثيرة إلى ألفاظ كثيرة قصد إجلاء الدلالات المشتركة والإبانة عن المعنى المراد. وإن إدراك الجاحظ إلى أن اللفظ هو عبارة عن مقاطع صوتية تنتج عنها حروف وأصوات، ليعبر عن القدرة التي أوتيها في معاينة اللغة يضاهي في ذلك ما أشار إليه أندري مارتينه في قوله بالتلفظ المزدوج Double articulation يقول الجاحظ: "الصوت وهو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع وبه يوجد التأليف ... ولا تكون الحروف كلاماً إلا بالتقطيع والتأليف"(3)
ب ـ أصناف العلامة عند الجاحظ:
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 81.
(2) الحيوان، ج6، ص 08.
(3) البيان والتبيين، ج1 ص، 84.(1/161)
إن الدلالة كامنة مستترة لا ظهور لها دون العلامة التي تجسدها وتحققها في الواقع اللغوي، هذه العلامة عند الجاحظ تشمل كل الوسائل التعبيرية الممكنة، اللغوية وغير اللغوية، وبذلك يكون قد أوضح المسألة الدلالية في بعدها الكلي وهو ما أضحى يعرف بعلم الرموز (semiologie)، فقد عدَّ الجاحظ خمسة أصناف من العلامة هي: اللفظ والإشارة والعقد والخط والحال أو النصبة. يقول الجاحظ موضحاً أدوات البيان الخمس: "وجميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ. خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال، التي تسمى نصبة( ... .)، ولكل واحد من هذه الخمسة صورة بائنة من صورة صاحبتها، وحيلة مخالفة لحيلة أختها، وهي التي تكشف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثم عن حقائقها في التفسير ... "(1) وكان الجاحظ قد أشار إلى أن هذه التقسيم لأدوات البيان كان من الأحسن أن يكون في أول الكتاب،(2)، وذلك لشمولية تلك الأدوات لكل مرامي البيان، ومستويات الكلام البليغ.
__________
(1) المصدر السابق، ج1، ص 82.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 82.(1/162)
إن الأداة الأولى للبيان هو اللفظ اللغوي ـ كما ينص على ذلك الجاحظ ـ وذلك لأن اللغة تبقى في إمبراطورية العلامات، تهيمن على كل الأنظمة الإبلاغية، وقد خصَّ الجاحظ اللفظ الدال بجملة سمات تعني بنيته الدلالية وبنيته الصورية يقول الجاحظ: "ثم إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة"(1). إن تصوراً لإنفصالية العلاقة بين اللفظ والمعنى يكرسه تعريف الجاحظ للفظ أو للمعنى فهما ـ كما أشار إلى ذلك دو سوسوسير ـ أشبه بوجهي الورقة الواحدة أو العملة الواحدة، فنرى الجاحظ في كتبه يبرزهما دائماً في شكل ثنائية تقابلية، إن الألفاظ ـ على نقيض المعاني ـ متناهية، محدودة، لأنها مشكلة من أصوات، والصوت محدود معدود، ولذلك كانت المعاني مما يتوصل إليها بأشكال مختلفة من الألفاظ، فاللغة قاصرة على أن تحيط بعالم المتكلم أو بالعوالم الدلالية كما سماها "غريماس".
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 81.(1/163)
أما الإشارة فهي علامة غير لغوية تشمل التعبير عن حالات نفسية وبيولوجية مختلفة، وتكون بأعضاء الإنسان كاليد والرأس أو بأشياء أخرى خارجة عن أعضائه كالثوب والسيف. والحقيقة أن الجاحظ قد استطاع أن يحصر الإشارة غير اللفظية حصراً يتجاوز به عصره الذي نشأ فيه إلى عصر انبثاق علم الرموز. يقول الجاحظ: "فأما الإشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب والمنكب إذا تباعد الشخصان وبالثوب وبالسيف، وقد يتهدد رافع السيف أو السوط فيكون ذلك زاجراً ومانعاً رادعاً ويكون وعيداً وتحذيراً".(1) أما علاقة الإشارة باللفظ فهي تفصح عن مدلوله وقد تنوب عنه في الدلالة عليه، كما تعتبر الإشارة إيجازاً أو حذفاً أستغني فيه اللفظ في موضع لا يختل فيه البيان بالإشارة. يقول الجاحظ: "والإشارة واللفظ شريكان. ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط ... ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص:(2) إن للإشارة مجالها الوظيفي قد لا يلجه اللفظ، وهو الدلالة على "معنى خاص الخاص"، ويقصد به الجاحظ المعنى الموجز إيجازاً، لا يكون إلا بالإشارة دون غيرها من أدوات البيان الخمس، وقد يكون اللفظ ناقصاً في الدلالة على المعنى لا يرفع عنه النقص إلا بمصاحبة الإشارة له. يوضح الجاحظ ذلك بقوله: "وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان"(3)، أما الدلالة بالعقد أو الحساب فهي كذلك من شمول أصناف البيان الخمس، فالرقم الحسابي الذي تضمنته آيات القرآن الكريم يحمل دلالات ومنافع جليلة، بل إن دلالة الرقم الرياضي هي من الدلالات المنطقية، فسواء كانت مفردة أو أضيفت لبعضها البعض فإنما هي دوال تهدي إلى مدلولات، إذ تُتخذ مدرجاً يُرتقى به من المعلوم فرضاً إلى المجهول تقديراً.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 83.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 83.
(3) المصدر نفسه، ج1، ص 84.(1/164)
يقول الجاحظ، مؤكداً على قيمة دلالة العقد ضمن أنظمة الإبلاغ الأخرى: ".. والحساب يشمل على معانٍ كثيرة، ومنافع جليلة، ولولا معرفة العباد بمعنى الحساب في الدنيا لما فهموا عن الله ـ عز وجلَّ ـ معنى الحساب في الآخرة، وفي عدم اللفظ وفساد الخط، والجهل بالعقد فساد جل النعم وفقدان جمهور المنافع واختلال كل ما جعله الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لنا قواماً ومصلحة ونظاماً"(1)..
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 85.(1/165)
أما الدلالة بالنصبة أو الحال، فهي في حقيقتها امتداد للدلالة بالإشارة لأنها دلالة كل صامت أو ماكان في حكمه من جماد أو إنسان أو حيوان، فصورته المرئية أو المسموعة تحمل مدلولات ترتبط بشكل علائقي مع دوالها. وبذلك يكون الجاحظ قد نظر إلى عالم الإشارة نظرة شاملة وهو في ذلك يستلهم أحكامه من القرآن الكريم، الذي جعل الله فيه كل شيء هو آية أو علامة من علامات الكون الفسيح ودليل من دلائلية ألوهيته وربوبيته ـ عزَّ وجلَّ ـ يقول الجاحظ: "وأما النصبة فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد ونام ومقيم، وظاعن وزائد وناقص. فالدلالة التي في الموت الجامد. كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان"(1). إن البلاغة عند الجاحظ ـ إذن ـ تهدف إلى تحقيق غاية من الكلام البشري تتلخص في حسن الإبلاغ بوسائل مختلفة ذات نسق تنظيمي محكم، وهو بذلك يؤسس لمفاهيم لسانية ودلالية تتوخى الشمولية في التناول، منطلقاتها شروط توصيل الدلالة كما يقصد إليها المتكلم مع وعي دقيق بأوضاع المستمع المتلقي، وأجوائه النفسية والحالية العامة. يقول الجاحظ ملخصاً ذلك كله: "وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة وحسن الاختصار ودقة المدخل يكون إطار المعنى"(2).. ويحصل ثمة الإبلاغ بتوافر سمات تعود إلى الإشارة وإلى طريق تأديتها من دقة الاختيار وتناسبها مع المعنى المؤدي، دون النظر إلى أداة ذلك من أدوات البيان الخمس.
__________
(1) المصدر نفسه، ص 86.
(2) المصدر نفسه، ص 89.(1/166)
وقد أورد الجاحظ تلخيص هذه الأدوات في كتاب الحيوان إلا أنه لم يشر صراحة إلى أداة النصبة أو الحال وذلك لكون الكتاب كان قد ألفه قبل كتاب البيان والتبيين الذي وردت فيه الأدوات خمساً مفصلة ومحددة، يقول الجاحظ: "وجعل [الله] آلة البيان التي بها يتعارفون (الناس) معانيهم والترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء، وفي خصلة خامسة وإن نقصت عن بلوغ هذه الأربعة في جهاتها، فقد نزل بجنسها الذي وضعت له، وصرفت إليه. وهذه الخصال هي: اللفظ والخط والإشارة والعقد، والخصلة الخامسة ما أوجد من صحة الدلالة، وصدق الشهادة ووضوح البرهان، في الأجرام الجامدة والصامتة والساكنة"(1)..
ج ـ وظائف الكلام عند الجاحظ:
__________
(1) الحيوان، ج1، ص 40.(1/167)
لقد أوضح "رومان جاكبسون (R.Jackobson)" الوظائف التي يؤديها الخطاب اللغوي انطلاقاً من فحوى مضمونه الذي يحدد قصد المتكلم، وغايته من إعلام السامع، الذي بدوره يتخذ أشكالاً عدة من ردود الفعل تجاه الخطاب اللغوي الذي استفزَّه وأثاره، هذه الوظائف هي : الوظيفة المرجعية، والوظيفة الانفعالية، أو التعبيرية، والوظيفة الإنشائية، ووظيفة إقامة الاتصال، والوظيفة الشعرية، والوظيفة ما بعد الألسنية ... .(1) بعض هذه الوظائف يمكن مقاربتها بوظائف أشار إليها الجاحظ في معرض حديثه عن البيان. يقول: "لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه ولا معنى شريكه المعاون له على أموره وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره، وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها"(2) ... وذلك أن المعاني كامنة مستترة لا يمكن أن يعلمها (الآخر) إلا إذا تمظهرت في أنماط مقولية، بها يطلع على ما في ضمير مخاطبه، ولا ينعقد الاتصال الإعلامي بينهما حتى يفصح أحدهما عما في نفسه من الحاجات للآخر، فكأن تلك المعاني كانت ميتة فأحييت بالذكر والأخبار والاستعمال، وهذا مايكاد (جاكبسون) يعنيه من الوظيفتين المرجعية (referentielle) والوظيفة التعبيرية أو الانفعالية (emotive) إذ الأولى تعني التخاطب بهدف الإشارة إلى محتوى معين نرغب في إيصاله إلى الآخرين وتبادل الآراء معهم، أما الثانية فهي تتمحور حول إبراز موقف المتكلم ـ خاصة ـ من مختلف القضايا موضوع حديثه.(3)
__________
(1) Essais de linguistique generale. p. 98. ـ وانظر شرح ذلك في الباب الأول: مبحث اللغة، ص 37.
(2) البيان والتبيين، ج1، ص 81.
(3) د.ميشال زكريا : "الألسنية، علم اللغة الحديث" ص 54.(1/168)
وكان الجاحظ في كتابه "البيان والتبيين " يسوق نصوصاً وأخباراً تخص بعض البلغاء وبعض الذين استشهد بكلامهم، قصد تعليل رؤيته اللغوية حول قضية من قضايا اللغة، ويمكن أن نلتمس وظيفة الاتصال (Phatique) في حوار أقامه مع صديق له يقول الجاحظ: "فقلت له ـ أي للعتابي ـ قد عرفت الإعادة والحبسة [وهما من عيوب النطق] فما الاستعانة؟ قال: أما تراه إذا تحدث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه، ويا هذا ويه هيه، واسمع مني واستمع إليَّ، وافهم عني أو لست تفهم أو لست تعقل ... ".(1) فالجاحظ يرصد هاهنا بعض "المداخل" اللغوية التي كانت توظف لإعادة إقامة الاتصال الذي قد يتعرض لاضطراب في قناته. فتأتي هذه "المداخل" لتضمن وتؤمن للاتصال استمراريته. هذه بعض الوظائف التي رصدناها من خلال معاينة ما أورده الجاحظ في كتابه، وهي تعبر بصدق عن امتلاك قوي وكبير لناصية اللغة وآلياتها في الإبلاغ والتواصل..
د ـ أصل اللغة عند الجاحظ :
__________
(1) البيان والتبيين، ج1، ص 112.(1/169)
يذهب الجاحظ في البحث عن أصل اللغة مذهب القائلين بالتوقيف لا التوفيق، ويقدم لصحة مذهبه أدلة وحجج منها كلام عيسى ـ عليه السلام ـ بالحكمة وهو صبي، كما أن آدم وحواء كانا محتاجين للغة، للتفاهم والتحاور والتشاور فأخذ الله بأيديهم وألهمهم لغة، وحياً من عنده، ثم إن القرآن الكريم قد أتى بألفاظ لم يعرفها العرب في جاهليتهم وذكر الجاحظ بعضاً منها كتسمية كتاب الله قرآن، والتيمم مسح على التراب، والقذف فسق، إن ذلك كله لم يكن في لغة أهل الجاهلية.(1) ومع ذلك أقر الجاحظ بوجود ألفاظ جديدة كانت ثمرة للتواضع والاصطلاح بين أهل اللغة استدعتها ظروف مستجدة، وعلوم فرضت مصطلحات جديدة حتى غدا لجمهور الفقهاء وعلماء أصول الفقه وأهل اللغة والأدب، لكل معجمه الخاص، فكان ذلك اصطلاح على نظام علامي داخل نظام علامي عام. فالجاحظ كان يميل إلى القول بأن اللغة إلهام في الأصل إلا أنه يقول بالاصطلاح كذلك لأن المعاني غير متناهية، والعالم الدلالي غير محصور ولذلك قد يلجأ المتكلم إلى الاحتيال على نفسه وعلى اللغة، وذلك ليغطي عن قصوره وقصورها، لأنه لا يستطيع أن يحيط بعالم المعنى كما أن اللغة لا يمكنها أن تعبر عن كل ما يشكل عالمه الدلالي، فيلجأ عندئذٍ إلى اختراع أنظمة جديدة للتواصل يكون للاصطلاح فيها المحل الأول ولكنها ـ هذه الأنظمة الجديدة ـ تعيش داخل نظام كلي عام هو اللغة الأصلية الأولى.
هـ ـ الدلالة السياقية عند الجاحظ :
__________
(1) انظر الحيوان، ج1، ص 280-281.(1/170)
إن مفهوم الجاحظ للمعنى ينبني على رصد موقعه من جملة المعاني ومقابلته باللفظ، فيحدد المعنى بأنه مدلول الكلمة من الأشياء والأفكار والمشاعر(1)، كما أن طبيعة المعنى تخالف طبيعة اللفظ، فالمعنى مستتر خفي واللفظ هو المستخدم لبيانه وظهوره وعلى ذلك فالمعاني محلها النفس وصورتها في الذهن، كما أن الفكر هو الذي يشكلها ويحدثها. يقول الجاحظ : "قال بعض جهابذة الألفاظ ونقاد المعاني: المعاني القائمة في صدور الناس المتصورة في أذهانهم والمختلجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم والحادثة عن فكرهم"(2) هذه هي مواصفات المعنى عند الجاحظ يضاف إليها لا محدوديتها ولا نهائيتها مقابل لمحدودية الألفاظ ونهائيتها. يقول الجاحظ في ذلك:"ثم إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة وممتدة إلى غير نهاية وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة"(3).
__________
(1) د.ميشال عاصي، مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ، ص 166.
(2) البيان والتبيين، ج1، ص 81.
(3) المصدر نفسه، ج1، ص 131.(1/171)
وبعد أن أوضح الجاحظ مقام المعاني بالنسبة للألفاظ ومقامها في ذهن المتكلم إذ هي أقدار وأحوال وليست على درجة واحدة من الاستعمال، فما يصلح لهذا المقام والحال قد لا يصلح لمقام وحال آخرين، وهذا ما عنته النظرية المقامية، يقول الجاحظ كاشفاً عن الدلالة المقامية أنه ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وحالاتهم، فيجعل لكل طبقة منهم كلاماً يخصهم به حتى يقسم بالتساوي أقدار الكلام على أقدار المعاني ويقسم المعاني على أقدار المقامات التي هم عليها المستمعون وحالاتهم(1). فالمعاني إذن تصنف وترتب بحسب أصناف الناس في المجتمع وتباين مقاماتهم وأحوالهم. وتلك رؤية علمية في غاية الدِّقة لطبيعة وجوهر العملية الإبلاغية، التي يراعى فيها الشروط الموضوعية (الخارجية) والشروط الذاتية التي يتصف بها الخطاب وصاحبه وهو ما تنادي به بعض المدارس اللسانية الحديثة التي تدعو إلى ضرورة الإحاطة بوضع المتلقي النفسي والاجتماعي حتى لا يقع المعنى في انسداد دلالي. وتلك إشارة إلى وجوب التوفيق عند المتكلم بين خطابه ومقام المستمع المتلقي، ويعني ذلك أن المتكلم كان قد قام بمطابقات تركيبية تشمل المطابقة النحوية (التأليف على سمت كلام العرب)، والمطابقة البلاغية (معرفية الفصل من الوصل) فضلاً على المطابقة بين اللفظ والمعنى وحسن موقع الكلمة من السياق، وهو ما تشير إليه نظرية الوقوع أو الرصف (collocational theory) حيث يعرف ستيفن أولمان الوقوع أو الرصف بقوله: "هو الارتباط الاعتيادي لكلمة ما في لغة ما بكلمات أخرى معينة".(2)
__________
(1) المرجع السابق، ج1، ص81.
(2) Meaning and style ... p...10(1/172)
ثم إن عرض الجاحظ لموضوع التنافر الحادث بين الكلمات يقدم التقدير الكافي لمنع الوقوع أو الرصف في بعض السياقات، وقد أكدت دراسات دلالية تالية في النظرية السياقية، أن الجملة لا تعتبر كاملة المعنى إلا إذا صيغت طبقاً لقواعد النحو، وراعت توافق الوقوع بين مفردات الجملة وتقبلها أبناء اللغة بحيث يعطونها تفسيراً ملائماً وهو ما سمي باسم التقبلية(1) (Acceptability)، كما اتضح في الدرس الدلالي الحديث أنه كلما كان المتلقي على علم مسبق بفحوى الخطاب، كلما كان استيعابه للدلالة أكثر، واتخذ الخطاب نمط الإيجاز والاقتصاد، أما إذا كان المتلقي ممن لا يستوعب الخطاب إلا إذا كان كاملاً مفصلاً لاعتبارات شتى، فإنّ ذلك يقتضي التبسيط في بنيته ولذلك يقول الجاحظ: "رأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب، أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطاً وزاد في الكلام"(2). وقد يبلغ الحذف تمامه في الإضراب حيث يزول كل شيء وتبقى المعاني عارية "غفلاً غير موسومة"(3).
__________
(1) انظر علم الدلالة،د.احمد مختار عمر، ص77.
(2) الحيوان،ج1،ص94.
(3) محمد الصغير بناني، النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ –من خلال البيان والتبيين، ص270.(1/173)
إن المقام ومحدودية الدراسة، لا تسمح لنا أن نفيض في المباحث اللغوية التي أثارها الجاحظ، ولو استرسلنا في عرض عطاءات الجاحظ اللسانية والدلالية لضاق بنا المجال ولاحتاج ذلك لدراسة مستقلة، تحاول أن تقارب بين ما أبدعه الجاحظ وما قررته الدراسات اللغوية الحديثة. وحسب الجاحظ –من خلال ما قدمناه من عرض مقتضب- أنه كرّس رؤية علمية شاملة، إذ نظر إلى بنية اللغة نظرة كلية آخذاً في ذلك بمبدأ أن الدلالة لا تتحقق إلا بتفاعل الأنساق اللغوية المختلفة، منها ما يخص المرسل ومنها ما يخص المتلقي من أهل اللغة، كما لم يغفل نسق المحتوى والمضمون فضلاً على قناة الإرسال وعنى بها التركيب وسماته الصورية من تآلف الكلم وفق قواعد التركيب والنحو، وما أظهره الجاحظ هو مرونة النظام اللغوي، وقابلية الشكل والمحتوى إلى التغيير في ظل معطيات الإبلاغ والتواصل، وأقرب تمثيل لذلك هو الانزياح الدلالي المعبر عنه بالمجاز.
3-الجهود الدلالية عند ابن جني: (320هـ-392هـ)
من خلال كتابه "الخصائص":(1/174)
في القرن الرابع الهجري، ينهض ابن جني عالماً لغوياً، قدم دراسات كانت ولازالت لها فاعليتها في الثقافة اللغوية، والنشاط الفكري، إنْ على المستوى النظري المنهجي أو على المستوى الإجرائي التطبيقي. ولذلك يعد ابن جني من أعظم العلماء الذين قدموا نموذجاً مشرقاً لمباحث اللغة في التراث العربي المعرفي، فبدت اللغة العربية في "خصائصه" لغة لا تدانيها لغة لما اشتملت عليه من سمات حسن تصريف الكلام، والإبانة عن المعاني بأحسن وجوه الأداء، كما فتح أبواباً بديعة في العربية لا عهد للناس بها قبله كوضعه لأصول الاشتقاق بأقسامه، ومناسبة الألفاظ للمعاني(1) ومنها "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، كما ناقش ابن جني مسألة نشأة اللغة التي كانت تشغل مكاناً مهماً في البحوث اللغوية آنذاك، وأوضح بتعليل منطقي أن اللغة أكثرها مجاز صار في حكم الحقيقة، وما يبرز قدرة ابن جني على رصد الظواهر اللغوية وتحليلها بمنطق علمي، هو ما قدمه حول التفريع الدلالي للفعل في "خصائصه". وفيما يلي سنعرض لبعض تلك المسائل عرضاً نحاول من خلاله إبراز جهود ابن جني في ميدان "الدلالة".
أ-اللفظ والمعنى:
__________
(1) الخصائص، ج1، ص27-28. كان لأستاذه أبي علي الفارسي تقسيمات في الاشتقاق ولكن ليست كتقسيماته خاصة في الاشتقاق الكبير،انظر كذلك ج2- ص133.(1/175)
تناول ابن جني في كتابه الخصائص عرض ثلاث علائق متصلة هي: العلاقة بين اللفظ والمعنى، والعلاقة بين اللفظ واللفظ، ثم العلاقة بين الحروف ببعضها. وأفرد لذلك أبواباً من ذلك "باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني" حيث عرض فيه لاشتراك الأسماء في المعنى الواحد ورده لوجود تقارب دلالي بين تلك الأسماء، يقول في مستهل هذا الباب: "هذا فصل من العربية حسن كثير المنفعة، قوي الدلالة على شرف هذه اللغة، وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحث عن أصل كل اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه "وفي ذلك إشارة إلى وقوع الترادف في اللغة الذي كان ينكره بعض علماء اللغة في عصر ابن جني ومنهم أستاذه أبو علي الفارسي. وما اشتهر به صاحب الخصائص هو إبراز لظاهرة لغوية تتمثل في تقارب الدلالات لتقارب حروف الألفاظ، وهو ما سماه "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني" سجل فيه أن مخارج حروف اللفظ التي تقترب من مخارج حروف لفظ آخر، هما متقاربان دلالياً لتقاربهما فنولوجياً وتلك خاصية من خصائص اللغة العربية. وهذه الملاحظة تنم عن دقة وعمق رؤية ابن جني لنظام اللغة ففي شرحه للفظ "أزا" الوارد ذكره في قوله تعالى: "ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً"(1) يقول ابن جني في قوله تعالى: "تأزهم أزاً": أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزاً والهمزة أخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز، لأنك قد تهز مالا بال له، كالجذع وساق الشجرة، ونحو ذلك"(2). كما قدم ابن جني تطبيقات أخرى مست ألفاظاً وجد بين حروفها اشتراكاً في الصفات الفنولوجية، فأفضى ذلك إلى تقاربها في الدلالة من ذلك المقابلة بين فعل (ج ع د) والفعل (ش ح ط).
__________
(1) سورة مريم، الآية 83.
(2) الخصائص، ج2، ص146.(1/176)
يقول ابن جني: "فالجيم أخت الشين والعين أخت الحاء والدال أخت الطاء". كما كان يرى أن هناك مناسبة طبيعية بين الصيغة المعجمية ودلالتها، وذلك فيما يخص أصوات الطبيعة. وهي مسألة لم تكن محل خلاف بين العلماء في عصره، إلا أن ابن جني قدم تعليلاً بديعاً، للخليل بن أحمد ولسيبويه، يفسر العلاقة الطبيعية بين الصوت ودلالته، فيقول الخليل: "كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر". ويقول سيبويه في المصادر التي جاءت على وزن فعلان أنها تأتي للاضطراب والحركة نحو القفزان والغليان، والغثيان فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال"(1). وهذا ما أدرجه ابن جني في باب "إمساس الألفاظ أشباه المعاني"، إذ التأليف الصوري للفظ يرسم القيمة الدلالية للمعنى الذي يقابله، وإن كان ذلك صعباً تطبيقه على كل عناصر النظام اللغوي إلا أن ذلك يبقى طرحاً جريئاً من قبل ابن جني له قيمته العلمية وسبقه المعرفي في عصره، وهي محاولات كانت تنتظر من يعطيها طابع النظرية الشاملة بعد ابن جني، ولكن وجد أتباع لم يكملوا ما بدأه أبو الفتح ابن جني وإنما انتحلوا بحوثه ونسبوها إلى أنفسهم كابن سيده صاحب كتاب "المحكم" المتوفى سنة 458هـ(2).
__________
(1) المصدر السابق،ج2، ص152 وانظر الكتاب لسيبويه، ج4، ص14.
(2) المصدر نفسه –ج1- ص29 (كلام المحقق محمد علي النجار).(1/177)
وقد قام ابن جني بذات الصنيع في باب الاشتقاق، خاصة في تلك التقلبات المورفولوجية الستة التي تنتج عن الصيغة المعجمية الثلاثية، إلا أنه بعد أن ربط تلك الصيغ دلالياً بالصيغة الأم، وجد صيغاً مهملة لا واقع لغوي لها، وكان في بعض الأحيان يلحق الأمثلة قسراً بالقاعدة وتلك ملاحظة أخذه عنها علماء اللغة، بل إن ابن جني نفسه قد أقر بصعوبة المسلك في إجراء التقلبات الستة وربطها بدلالة الأصل الثلاثي فقال: "وهذا أعوص مذهباً، وأحزن مضطرباً وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلام الستة على القوة والشدة ... "(1) إن علاقة الرمز اللغوي بدلالته لا يمكن –كما قرر الدرس اللساني الحديث- أن تكون قسرية ولا طبيعية، لأن ذلك سيبقى النظام اللغوي في حالة من الجمود ولكن القول بالعلاقة الاعتباطية أو الكيفية (arbitraire) بين اللفظ ودلالته، يعطي للغة، المرونة اللازمة خلال التغيّر الذي يطرأ على البنية اللغوية من جراء الأحداث الناجمة عن الاستعمال اللغوي وعن تطور بعض المدلولات، ما كان التغير ليحصل لو لم تكن الإشارة بالحقيقة "كيفية" أي اعتباطية"(2).
__________
(1) المصدر نفسه –ج2- ص134-135.
(2) د.ميشال زكريا، الألسنية (علم اللغة الحديث) –ص183.(1/178)
ب-التفريع الدلالي للفعل: يعقد ابن جني تفريعاً دلالياً للفعل يضبط سماته الذاتية والانتقائية، فأبرز معايير تنتظم وفقها العلامة اللسانية الدالة، وقد خصّ ابن جني الفعل وكان يسميه اللفظ. بهذا التوزيع لكونه "يعد القطب الرئيسي في العملية الإبلاغية إذ أنه النواة الدافعة للحركة المتجددة المتوخاة من الأحداث المحققة في الواقع اللغوي، ولذلك فإن الأفعال كما قال آدم سميث (A.smith) نطفة اللغات(1). فالفعل يحمل دلالة بنيته المورفولوجية، كما يقدم لنا سمات الفاعل ومكوناته الأساسية، إضافة إلى الدلالة الزمانية التي تعين على تحديد قيمة الدلالة العامة للصيغة المعجمية. يقسم ابن جني الدلالة إلى ثلاثة أقسام: الدلالة اللفظية والدلالة الصناعية والدلالة المعنوية، ويفاضل بينها جاعلاً الدلالة اللفظية على رأس الدلالات الثلاثة ثم تليها الدلالة الصناعية فالمعنوية. يقول ابن جني: "فمنه جميع الأفعال، ففي كل واحد منها الأدلة الثلاثة. ألا ترى إلى قام و(دلالة لفظه على مصدره) ودلالة بنائه على زمانه، ودلالة معناه على فاعله فهذه ثلاث دلائل من لفظه وصيغته ومعناه"(2) ويمكن توضيح ذلك بالرسم التالي:
... ... ... ... ... الدلالة اللفظية (المعنى).
الدلالة التفريعية للفعل ... ... الدلالة الصناعية (الزمن).
... ... ... ... ... الدلالة المعنوية (الفاعل).
__________
(1) المكون الدلالي للفعل في اللسان العربي –ص33.
(2) الخصائص –ج3-ص98.(1/179)
1-الدلالة اللفظية: وهي الدلالة المعجمية ودلالة البنية المورفولوجية على الحدث، وقد عدّها ابن جني على رأس الدلالات الثلاثة لأنها "دلالة أساسية تعد جوهر المادة اللّغوية المشترك في كل ما يستعمل من اشتقاقاتها وأبنيتها الصرفية"(1) ففعل "قعد" مثلاً يدل بصيغته المعجمية على حدث خاص ذي دلالة معينة وهو المصدر "القعود"، وإنه متعلق بفاعل تعلقاً معنوياً، ومنه اشتقت صيغ أخرى لها ارتباط بالدلالة الأساسية للفعل منها: مقعد –متقاعد- قاعدة وما إلى ذلك من الصيغ. وما يجدر ذكره أن قيمة الدلالة الأساسية للصيغة الصرفية، تعتبر المركز الذي يستقطب كل الدلالات المتفرعة عنه، بحيث تدْخل في علائق وظيفية مختلفة وتبقى مشدودة إلى الدلالة اللفظية للفعل.
2-الدلالة الصناعية: وهي دلالة بنية (اللفظ) المورفولوجية على الزمن، وهي تلي الدلالة اللفظية لأن اللفظ يحمل صورة الحدث الدلالي المستغرق لحيز زماني يقول ابن جني "وإنما كانت الدلالة الصناعية أقوى من المعنوية من قبل إنها وإن لم تكن لفظاً فإنها صورة يحملها اللفظ، ويخرج عليها ويستقر على المثال المعتزم بها، فلما كانت كذلك لحقت بحكمه وجرت مجرى اللفظ المنطوق به فدخلا بذلك في باب المعلوم بالمشاهدة"(2). فكانت الدلالة الصناعية مع أنها دلالة غير لفظية وإنما يستلزمها اللفظ في حكم الدلالة اللفظية، التي هي صورة تلازم الفعل، فأين كان هو مشاهداً معلوماً كان الزمن المقترن به معلوماً بالمشاهدة أيضاً، من مسموع اللفظ، وينظر ابن جني في هذا المجال إلى المصدر على أنه مجال مفتوح على الأزمنة الثلاثة فيقول: "وكذلك الضرب والقتل: نفس اللفظ يفيد الحدث فيهما، ونفس الصيغة تفيد فيهما صلاحهما للأزمنة الثلاثة على ما نقوله في المصادر"(3).
__________
(1) د.فايز الداية علم الدلالة العربي، ص20.
(2) الخصائص –ج3 ، ص98.
(3) المصدر السابق، ج3، ص101.(1/180)
3-الدلالة المعنوية: إن الفعل يحدّد سمات فاعله الذاتية والانتقائية، الأساسية والعرضية، وذلك من جهة دلالته، ويعرف ذلك بطريق الاستدلال، فيتحدد جنس الفاعل، وعدده، وحاله، ليس من الصيغة الفونولوجية للفعل بل من مؤشرات خارجة عن الفعل. ففعل (قعد) يدل على حادث مقترن بزمن ماض، وقد يتعرض مجاله الزمني إلى الاتّساع ليشمل زمن الحاضر أو المضارع المستقبل في سياق لغوي يحمل خصائص تركيبية ودلالية ومقامية معينة، أما دلالته على (الفاعل) فهي دلالة إلزام، يقول ابن جني "ألا تراك حين تسمع (ضَرَب) قد عرفت حدثه وزمانه، ثم تنظر فيما بعد، فتقول: هذا فعل ولابدّ له من فاعل، فليث شعري من هو؟ وماهو؟ فتبحث حينئذ إلى أن تعلم الفاعل من هو وما حاله، من موضع آخر لا من وضع مسموع ضرب، ألا ترى أنه يصلح أن يكون فاعله كلّ مذكر يصحّ منه الفعل مجملاً غير مفصّل"(1). إن السمات المعنوية التي رصدها ابن جني في هذا المقام يمكن على ضوئها وضع نسق تفريعي لفئة (الفاعل) تخصّ كل فعل من اللسان العربي وتوضيحه كالآتي:
فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والانتقائية
... ... ... ... ... ... ... حاله
... ... ... ... ... ... جنسه
فعل يلزم فاعل مكوناته الذاتية والانتقالية
... ... ... ... ... ... ... عدده
... ... ... ... ... ... ... ... تعيينه
ويورد ابن جني تفريعاً دلالياً لصيغ مختلفة من الألفاظ (الأفعال)، يحدّد على ضوئها سمات عامّة تخصّ الفعل وصاحبه فيقول: "وكذلك (قطّع) و(كسّر)، فنفس اللفظ ها هنا يفيد معنى الحدث، وصورته تفيد شيئين: أحدهما الماضي، والآخر تكثير الفعل، كما أن (ضارب) يفيد بلفظه الحدث، وببنائه الماضي، وكون الفعل من اثنين، وبمعناه أنّ له فاعلاً فتلك أربعة معان ... "(2) فالتفريع الدلالي الإضافي الذي يكمل به ابن جني تفريعه الأول يمكن توضيحه كالتالي:
الدلالة اللفظية (دلالة الحدث)
الدلالة الصناعية (دلالة الزمن)
يدلّ –(فعّل) (مضعف العين) على
__________
(1) المصدر نفسه، ج3، ص89-99.
(2) الخصائص، ص101.(1/181)
الدلالة اللفظية (دلالة إضافية (تكبير الفعل))
الدلالة المعنوية (مكونات الفاعل الجوهرية والعرضية)
إن هذه السمات الدلالية للفعل وما ينضوي تحتها من سمات فرعية محدّدة، هي في جورها سمات مميزة للفعل (كسّر)، الذي له توارد خاص في سياق معيّن، ويستلزم فاعلاً يحمل مكونات تمييزية جوهرية وعرضية، فضلاً عمّا يوحيه (الفعل) فيما يخص (المفعول به)، وذلك بحسب قواعد الوقوع أو الرصف التي تتحكم في بنية التركيب الصحيح، حيث يستدعي الفعل، فاعلاً معيّناً، ومفعولاً معيّناً أيضاً ...
أمّا فعل (ضَارَب) وهو ذو لصيغة مورفولوجية مختلفة عن (كسّر) يمكن توضيح سماته على النحو التالي:
الدلالة اللفظية (الحدث)
الدلالة الصناعية (زمن الماضي)
ضاربَ –(فاعل) على
الدلالة المعنوية (مكونات الفاعل خاصة (العدد))
الدلالة المعنوية (دلالة إضافية (المشاركة في الحدث))
إن جملة التفريعات التي أوردها ابن جني للركن الفعلي تؤكد على أهمية (الفعل) في الموروث اللساني إذ غدا حقلاً ألسنياً يغطي مفاهيم مختلفة، تخصّ كلّ متعلقاته، التي يحدّد معها توارداً سياقياً صحيحاً، ويمكن أن يتخذ ذلك كتصنيف مهم في حصر السمات الدلالية وضبطها ضبطاً محكماً لتغتدي فيصلاً فارزاً للمداخل المعجمية، وهي المداخل التي تكتسب مجالها الدلالي من خلال توافقها، أو عدم توافقها مع السمة المميزة(1) وإنّ تلك الأنماط التي عقدها ابن جني مع كل بنية مورفولوجية لا تختلف كبير اختلاف، مع تلك السمات المميزة المعتمدة في الدرس الدلالي الحديث(2). حيث تلعب الملامح المشتركة بين وحدات السياق اللغوي دوراً مهمّاً في تأمين التوارد الصحيح.
ج-الحقيقة والمجاز: في مبحث الحقيقة والمجاز يعقد ابن جني بابين أولهما في:
__________
(1) الأستاذ أحمد حسّاني، المكون الدلالي للفعل في اللسان العربي –32.
(2) انظر الباب الأول من البحث –الفصل الثالث: النظرية التحليلية –ص72.(1/182)
الفرق بين الحقيقة والمجاز، وثانيهما في: أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة.
في الباب الأوّل تناول أبو الفتح بن جني تعريف الحقيقة والمجاز على أساس الوضع الأوّل الذي يحدّد الاستعمال الأصلي للصيغة، أمّا دواعي انتقال اللفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالة المجاز فقد حصرها ابن جني في ثلاث: الاتساع والتوكيد والتشبيه. فانتقاء هذه الدواعي يبقي اللفظ على دلالته الحقيقية، يعرّف ابن جني الحقيقة والمجاز فيقول: "الحقيقة: ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة. والمجاز: ما كان ضدّ ذلك"(1). ثم يحدد دواعي التجوز فيقول: "وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة، وهي: الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة"(2). فالمجاز في أصله هو إضافة معنى جديد إلى المعنى القديم (الحقيقة)، وفي ذلك توكيد للمعنى وتشبيه المعنيين الأوّل بالثاني.
أمّا الاتساع فلأن في لائحة الملامح الحقيقية للدال يُضاف ملمح جديد على سبيل المجاز، يقرّر ابن جني بتطبيق إجرائي فيقول" ... وكذلك قول الله سبحانه: (وأدخلناه في رحمتنا) هذا هو مجاز، وفيه الأوصاف الثلاثة، أمّا السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحالّ اسماً هو الرحمة، وأمّا التشبيه فلأنه شبّه الرحمة - وإن لم يصح دخولها –بما يجوز دخوله فلذلك وضعها موضعه. وأمّا التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر. وهذا تعال بالعرض، وتفخيم منه إذ صيّر إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين"(3). وإنّ تحقق هذه المعاني مرتبط بوجود قرينة صارفة من إتيان المعنى الحقيقي لفظية في المجاز اللغوي وعقلية في المجاز المرسل.
__________
(1) الخصائص ج2، ص442.
(2) المصدر السابق، ج2، ص442.
(3) المصدر السابق، ج2، ص443.(1/183)
أمّا في الباب الثاني فبعد طول معاينة للغة، يرى ابن جني أنّ أكثر كلام العرب إنّما هو مجاز وذلك ناتج عن كثرة دوران اللفظ على الألسنة، بدلالته المجازية اكتسب سمة الدلالة الحقيقية، وإنّ تلك التراكيب اللغوية التي تخالها ذات دلالة حقيقية هي في الأصل ذات دلالة مجازية محققة لتلك المعاني الثلاثة التي ذكرنا، ويسوق ابن جني في سبيل أمثلة كثيرة، يقول: "إعلم أن أكثر اللغة مع تأملّه مجاز لا حقيقة، وذلك عامّة الأفعال، نحو قام زيد، وقعد عمرو ( ... .) وجاء الصيف، وانهزم الشتاء ... "(1) ويلمس ابن جني البحث في الزمن الطويل الغابر، عن الأصل الذي وظّفت لسببه الكلمة وهو محاولة الجمع بين التكوين اللغوي للكلمة ودلالتها المتداولة آنياً، ففي بحثه عن أصل فعل (ع ق ر) ودلالته على الصوت في قولنا: (رفع عقيرته) يقول ابن جني: "أنّ رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها، ووضعها على الأخرى ثم صرخ بأعلى صوته فقال الناس (رفع عقيرته)(2). فكان الأصل في استعمال (ع ق ر) للدلالة على الصوت المرتفع كالصراخ ولكن خفيت أسباب التسمية لبعدها الزمني فأضحت تدل على من رفع رجله دلالة حقيقية مع أنها في أصل وضعها كانت تدل على الصوت. فحصل نقل لدلالة اللفظ من مجال إلى مجال، انتقلت عبره المجازات إلى الاستعمال العادي الحقيقي. ويلجأ ابن جني إلى تقديم العلل المنطقية الفلسفية(3) على صحة ما ذهب إليه. وإن كنّا نرى أن رؤيته هذه في علاقة الدلالة بالحقيقة والمجاز أن فيها بعض التعسف لأنه إذا قلنا أن أكثر اللغة مجاز وحاولنا أن نردّ كل صيغة إلى دلالتها الأصلية لألفينا صيغاً قد تعرّضت لحركة نقل متتالية فنردّها إلى أصل هو بذاته مجاز، ولظللنا نتبع الأصول فلا نعثر إلاّ على الفروع.
__________
(1) انظر المصدر نفسه، ج2 من، ص442 إلى ص458.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص66.
(3) المصدر نفسه، ج2، ص488: انظر التعليل الذي قدمه للتركيب (قام زيد) على اعتباره تعبيراً مجازياً.(1/184)
وهذا حقيقة ماهو سمة في اللغة التي من مميزاتها المرونة والتغيير ورفض كل قاعدة تريد أن تبقيها متحجرة جامدة.
5-نشأة اللغة: يناقش ابن جني قضية نشأة اللغة التي نجد لها حضوراً مكثّفاً في مؤلفات الأقدمين ولعلّ ذلك راجع إلى ارتباط هذه القضية بمشكلة كانت نقطة خلاف كبيرة بين العلماء، بل تعدّ سبب الاصطدام الذي حصل بين السياسي والديني ونعني بها مشكلة "خلق القرآن" يعرض ابن جني لآراء علماء عصره في مسألة نشأة اللغة فيصرح في باب القول على أصل اللغة أنها إلهام أم اصطلاح: "هذا موضع محوج إلى فصل تأمّل، غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف. إلا أن أبا علي رحمه الله –قال لي يوماً: هي من عند الله، واحتج بقوله سبحانه: "وعلّم آدم الأسماء كلها"(1) وهذا لا يتناول موضع الخلاف. وذلك أنّه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة"(2). وبهذا التعليق الأخير على قول أبي علي الفارسي يكون ابن جني قد أفصح عن مذهبه فكان أميل إلى القول بعرفية الدلالة اللغوية مقدّماً تأويلاً للآية الكريمة السابقة الذكر. يكاد يجمع عليه أغلب العلماء الذين قالوا بالاصطلاح، يعني، أن الإنسان قد ركّبت فيه استعدادات فطرية، وقواعد ذهنية بها يستطيع أن يسمّي الأشياء، ويضع نظاماً علامياً مطرداً مع كل الأشياء الجديدة على غرار وضعه للرموز التي تخصّ نظام المرور أو تلك المستعملة في نظام الملاحة البحرية (الإشارات الضوئية) فهذا كلّه من باب التواضع والتوفيق، والحقيقة أن ابن جني لا يكاد يستقّر على رأي حيث ذكر مذهب الذين قالوا بطبيعية اللغة، المستلهمة من أصوات الطبيعة، واستحسنه وقبله.
__________
(1) سورة البقرة الآية: 31.
(2) الخصائص ج1، ص40-41.(1/185)
يقول في ذلك: "وذهب بعضهم (أي بعض العلماء) إلى أن أصل اللغات كلها إنّما هو من الأصوات المسموعات كدويّ الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء. وشحيح الحمار، ونعيق الغراب وصهيل الفرس وتريب الظبي، ونحو ذلك، ثم وُلدت اللغات عن ذلك بينما بعد. وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل"(1). ولكن ابن جني ما يلبث أن يقوي في نفسه شعور يجذبه إلى الاعتقاد بكون اللغة توقيفاً من عند الله تعالى، وذلك ظاهر من تناسق أجزائها وموافقتها لكل حال ومقام، ثمّ ما اجتمع لديه من أقوال العلماء من أساتذته من أنّ اللغة وحي وإلهام من عند الله. كل ذلك دفع ابن جني إلى ترجيح المذهب القائل بتوقيفية اللغة يقول في ذلك: "إنّني إذا ما تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة، وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقّة ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة(2)السحر، فمن ذلك ما نبّه عليه أصحابنا –رحمهم الله-، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده وبعد مراميه وأماده صحّة ما وفّقوا لتقديمه منه"(3).
__________
(1) الخصائص، ج1، ص46.
(2) غلوة السحر: الغاية في سباق الخيل، يريد أنه يدنو من غاية السحر.
(3) المصدر السابق، ج1، ص47.(1/186)
وخلاصة موقف ابن جني من نشأة اللغة أنه وقف موقفاً وسطاً فقال بالإلهام والاصطلاح معاً، يوضّح ذلك ما ختم به هذا الباب حيث افترض أن يكون الله تعالى قد خلق قبلنا أقواماً كانت لهم القدرة التي مكنتهم على الاصطلاح والتواضع في تسمية الأشياء، يقول أبو الفتح موضحاً موقفه ومعبّراً في ذات الوقت عن حيرته بين القول بعرفية اللغة أو القول بالإلهام: "فأقف بين تين الخلتين (الإلهام والعرف) حسيراً، وأكاثرهما فأنكفئ مكثوراً وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلّق الكف بإحدى الجهتين ويكفها (أو يفكها) عن صاحبتها قلنا به"(1). وما يجدر ملاحظته هو أن موضوع نشأة اللغة كان من ضمن المواضيع التي أسهب البحث فيه علماء اللغة المحدثون، وجدّوا في تقديم العلل الراجحة لذلك، تهدف إلى تأسيس رؤية موضوعية تأخذ الظواهر اللغوية النموذجية (القرآن الكريم –الأحاديث الشريفة –كلام العرب الفصيح) كمعطى لوضع معايير مطردة تتناول اللغة في بعدها الشامل وفي جميع مستوياتها المعجمية والتركيبية، وإنّ ذلك من شأنه أن ينقل البحث في أصل اللغة –الذي عدّه بعض اللغويين بحثا ميتافيزيقياً –إلى البحث في آلياتها التي تشرف على ضبط الدلالات المختلفة، خاصة إذا علمنا أن الدلالة قد ولجت كل مجالات المعرفة والثقافة في العصر الحديث بل وكل ميادين الحياة.
4-الجهود الدلالية عند ابن سينا (373هـ-427هـ):
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص47، وانظر باب في اللغة: أفي باب واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط –ج2- ص28-29-30.(1/187)
إنّ ما يميز التحليل الدلالي عند ابن سينا هو وقوفه على البعد النفسي والذهني اللذين يصاحبان العملية الدلالية، وهو ما يعطي لتحليله طابع الدقة والعمق اللازمين خاصة إذا استحضرنا دراية ابن سينا بعلم النفس واعتماده منهج التشريح، وذلك ما يتطابق مع نشاطه كطبيب وفيلسوف في آن واحد(1)، فهو يكثر من ذكر الوجود الذهني للعلامات اللغوية وارتسامها في النفس والخيال في رصده لمراحل العملية الدلالية، حيث يتم نقل المفاهيم المودعة في الذهن لمدلولات في العالم الخارجي إلى أدوات دالة كالألفاظ والكتابة، وبما أنّ اللفظ اللغوي يعدّ أساس العملية الدلالية أقام له ابن سينا تقسيماً بحسب الإفراد والتركيب والتأليف، وبحسب الكلي والجزئي ثم أبان عن اللفظ الخاص واللفظ المشترك والجامع بين الصفتين، أما الدلالة فقد صنفها ابن سينا إلى أصناف لم تخرج عن تلك التي كانت متداولة بين معاصريه، من العلماء وممن سبقه من الفلاسفة كالفارابي(2) (ت 339هـ)، وفيما يلي عرض لهذه المسائل التي أثارها ابن سينا وجمعناها في ثلاثة عناوين وهي: أقسام اللفظ –أقسام الدلالة-العملية الدلالية.
__________
(1) د.فايز الداية، علم الدلالة العربي –ص13.
(2) انظر مبحث: مفاهيم الدلالة عند الفارابي- الفصل الأول: ماهية علم الدلالة كما عرفها الأقدمون، ص16.(1/188)
أ-أقسام اللفظ: يحدّد ابن سينا ماهية اللفظ المفرد بالنظر إلى دلالته، فما كانت دلالته واحدة لا تتجرأ فهو اللفظ المفرد، ثم بحيث إذا تجزأت دلالته لم تفصح عنه وإنما تتحول إلى دال غيره، ومعنى ذلك أن اللفظ المفرد قد يكون لفظاً مركباً فقولنا "عبد شمس" فإنّه وإن جاز فيه أن يجزأ إلى "عبد" و "شمس" ولكن لا تكون دلالته من حيث يراد أن يقال "عبد شمس" يعرف ابن سينا اللفظ المفرد فيقول: اللفظ الدّال المفرد هو اللفظ الذي لا يريد الدال به على معناه أن يدل بجزء منه البتة على شيء"(1). وقريبة ماهية دلالة اللفظ المفرد عند ابن سينا بماهية المعنى التعييني (Sens denotatif) عند الألسنيين المحدثين ومنهم العالم الدلالي جون ليونز (John Lyons) وهو لا يختلف كثيراً عن معنى الإرجاع الذي تتحدد معه العلاقة القائمة بين الوحدة المعجمية وماهو خارج من النظام اللغوي من أشخاص وأماكن وأشياء. إلاّ أنّ (ليونز) يميّز بين التعيين والإرجاع في أنّ الأول يحدّد مدلول الوحدة المعجمية خارج السياق اللغوي أما الثاني فيحدّد مدلولها داخل العبارات المرتبطة بالسياق(2). يبرز ابن سينا المعنى التعييني للفظ المفرد فيقول: "والمعنى المفرد –هو المعنى من حيث يلتفت إليه الذهن كما هو، ولا يلتفت إلى شيء منه يتقوم أو معه يحصل، وإن كان للذهن أن يلتفت وقتاً آخر إلى معان أخرى فيه ومعه أو لم يكن"(3).
__________
(1) منطق المشرقيين –ص31.
(2) انظر الفصل: التعيين (denotation) من كتابه (Element de semantique) وانظر مقال التعيين والتضمين في علم الدلالة –الدكتور جوزيف شاريم عدد 18/17 سنة 1982 مجلة الفكر العربي المعاصر.
(3) منطق المشرقيين –ص32.(1/189)
وكإشارة إلى صعوبة تعيين دلالة اللفظ المفرد يرى ابن سينا أنه لكي تحصل الدلالة المعينة وجب أن يرجع إلى معنى اللفظ المفرد دون متعلقاته، وإن كان ذلك يبقى مجرد شرط نظري بحيث أن الذهن يُضمّن الصورة المفهومية للفظ متعلقات أخرى وهو ما يشكل إحدى العقبات القائمة أمام التحديد التام لإرجاع دلالة اللفظ في العالم الخارجي، وقد طرح (ليونز) الإشكالية ذاتها في حديثه عن التعيين ووصل إلى حدّ القول بوقوع الإبهام في البحث عن تعيين بعض العبارات والجمل، بل ووجد بعض الصيغ التي تخلو من التعيين مثل الصفات والنعوت منها: جميل، قبيح، زكي، شريف وغيرها..(1)
وما نلاحظه في تعريف ابن سينا للفظ المفرد أنه تعريف يختلف عن التعريف الذي أورده في كتابه "الإشارات والتنبيهات" حيث يقول: "اللفظ المفرد هو الذي لا يراد بالجزء منه دلالة أصلاً، حين هو جزؤه مثل تسميتك إنساناً بعبد الله فإنك حين تدل بهذا على ذاته لا على صفته من كونه "عبد الله" فلست تريد بقولك "عبد" شيئاً أصلاً، فكيف إذ سميته بـ"عيسى"؟ بلى، في موضع آخر قد تقول "عبد الله" وتعني بـ"عبد" شيئاً، وحينئذ يكون "عبد الله" نعتاً له، لا اسماً، وهو مركب لا مفرد"(2).
__________
(1) انظر. فصل "التعيين" في كتابه: (Element desemantique) ص85.
(2) ص 192 (الإشارات والتنبيهات).(1/190)
ومدار الدلالة عند ابن سينا هو القصد والإرادة، لأنها "دلالة وضعية متعلقة بإرادة المتلفظ الجارية على قانون الوضع فما يتلفظ به ويراد به معنى ما، ويفهم منه ذلك المعنى، يقال له: إنه دال على ذلك المعنى، وما سوى ذلك المعنى، مما لا تتعلق به إرادة التلفظ، وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه –بحسب تلك اللغة، أو لغة أخرى أو بإرادة أخرى- يصلح لأن يدل به عليه فلا يقال له: إنه دال عليه- أو لا يراد"(1). ولذلك قد يقال أن جزء "عبد الله" يحمل دلالة في نفسه ولكن ليست دلالة مقصودة يقول ابن سينا موضحاً ذلك: "إذا لم يرد باللفظ دلالة لم يكن دالاً. لأن معنى قولنا: "لفظ دال" هو أنه يراد به الدلالة لا أن له نفسه حقاً من الدلالة"(2). والواقع اللغوي يؤكد على أهمية التحقق من بنية الكلمة لرصد دلالتها وضرورة الوقوف على قصد المتكلم من الصيغ المتشابهة، خاصّة ما يشكل عالمه الدلالي وهو مرمى مستحيل التحقيق، لأن اللغة وجدت للمحاورة والمشاركة لوجود المجاورة كما قال ابن سينا ولو احتفظ كل إنسان بعالمه الدلالي لما احتجنا إلى اللغة، فالتواصل والإبلاغ يقتضي أن يكون قدر من الاشتراك في سنن اللغة بين جمهور المتكلمين من أهلها لأنها ثمرة لتواضع بينهم، ولذلك نجد من يعترض على تعريف ابن سينا للفظ المفرد، وما سبب ذلك إلا سوء في الفهم وقلة الاعتبار لما ينبغي أن يفهم ويعتبر(3). وقد شرح العالم الأمريكي هياكوا (S.J.Hayakwa) كيف تحمل الكلمات المعاني الإيحائية التي لها إسقاطات نفسية تخص المتكلم وقد لا يتنبه المتلقي لها وميّز بين نوعين من المعنى: المعنى التصريحي (Sens intentionnel) والمعنى الثانوي أو الإيحائي (Sens extensionnel) أو كما سمى ذلك غرينيبزغ (J.H.
__________
(1) الصفحة نفسها. والمصدر نفسه.
(2) منطق المشرقيين، ص32.
(3) انظر تعليق الشارح: من كتاب الإشارات والتنبيهات، ج1، ص192.(1/191)
Greeberg) المعنى الداخلي مقابل المعنى الخارجي وقد "علّق الشارح على التعديل الذي أدْخله ابن سينا على تعريفه الأول للفظ المفرد بقوله قد: "زاد في الرسم القديم ذكر (الإرادة) تنبيهاً على أن المرجع في دلالة اللفظ هو إرادة المتلفظ"(1).
ويورد ابن سينا تفريعاً آخر للفظ الدال بحسب ما يغطيه من الدوال الفرعية فكأنه لكسيم رئيسي يشرف على حقل من الألفاظ، قد يضم هذا الحقل دالاً واحداً لا غير وهنا يحصل التطابق التام بين اللفظ الأعم وما يضمه، يسمي ابن سينا ذلك النوع من الألفاظ:
بالخاص المطلق، يقول في ذلك: "إعلم أن أصناف الدال على ما هو من غير تغيير العرف (وفي نسخة "مفهوم العرف") ثلاثة:
أحدها: بالخصوصية المطلقة مثل دالة الحد على ماهية الاسم مثل دلالة الحيوان الناطق على الإنسان"(2). فالمثال الذي قدمه ابن سينا يخصّ الحدود والتعاريف وينسحب على الوحدات المعجمية، كما تقوم به نظرية الحقول الدلالية فالتعريف: "الحيوان الناطق" يعد لكسيما رئيسياً يغطي أو يتضمن الدلالة على ماهية لفظ الإنسان. معنى ذلك أن النوع يشتمل على الجنس من حيث المفهوم، لأن النوع يحتوي صفات الجنس كلها مضافاً إليها الفصول النوعية في حين يكون الجنس أشمل من النوع من حيث الماصدق كما يقول المناطقة(3).
أما النوع الثاني من الألفاظ فهي تلك التي تغطي ألفاظاً فرعية غير متجانسة، وهي ذات حقل من الأفراد تشترك في أن اللفظ العام يتحقق فيها مفهومه الذهني، يقول ابن سينا موضحاً ذلك: "والثاني: بالشركة المطلقة مثل ما يجب أن يقال –حين يسأل عن جماعة مختلفة فيها مثلاً: فرس وثور وإنسان: ماهي؟ وهناك لا يجب ولا يحسن إلا الحيوان"(4).
__________
(1) الإشارات والتنبيهات، ج1، ص193.
(2) المصدر السابق، ج1، ص244.
(3) انظر الهامش في كتاب: علم الدلالة ص99. أحمد مختار عمر.
(4) انظر المرجع السابق، ص111.(1/192)
إن تحديد العلاقات التقابلية داخل الحقل المعجمي بناء على معجم المفاهيم، يوضح مجالات الاستعمال أكثر مما يوضحه المعجم التقليدي، ويسمح ذلك بمعرفة أن هذا اللفظ يدرس ضمن مجموعة مترابطة مع ألفاظ أخرى لأنها تنتمي إلى حقل مفهومي مشترك.
أما النوع الثالث من أنواع اللفظ المفرد، فيقيم على أساسه ابن سينا حقلاً أوسع مما خص به النوعين الأوليين، وذلك لأن هذا النوع يحمل سمات الخصوصية المطلقة والشركة وهما صفتا النوعين السابقين. يقول ابن سينا في تحديد هذا النوع من اللفظ المفرد: "وأما الثالث فهو ما يكون بشركة وخصوصية معاً، مثل ما إنّه إذا سئل عن جماعة هم: زيد وعمرو وخالد، ماهم؟ كان الذي يصلح أن يجاب به على الشرط المذكور أنّهم أناس"(1). ومن ضمن العلاقات التي حددها علماء الدلالة داخل الحقل المعجمي، علاقة الجزء بالكل، ذلك أن مجموع السمات التي يحملها الكل تنطبق على جزئياته ولا يمكن أن تخصّ جزءاً واحداً فقط، ويشرح المناطقة هذه العلاقة بكون الكل يضم تحته أجزاء لا جزئيات وهذه الأجزاء مجتمعة في هيئتها التركيبية يطلق عليها اسم الكل ولا يصح إطلاق الكل على جزء من أجزائه(2) فلفظ "أناس" لفظ كلّ يضم تحته أجزاء من الألفاظ، لا يطلق عليها إلا وهي مجتمعة لا مفردة.
__________
(1) الإشارات والتنبيهات –ج1، ص227.
(2) ضوابط المعرفة ص32. حسن حبنكة الميداني.(1/193)
وعلى أساس هذه الأصناف الثلاثة للفظ المفرد يمكن بناء العلاقات الدلالية بين جملة الحقول التي يؤسسها وبين الدلالة التي يحملها. فالنوع الأول يشير إلى علاقة المطابقة بين الإنسان والحيوان الناطق، أما النوع الثاني والثالث فهو يحقق علاقة التضمن، وما هو حريّ بالملاحظة في هذا المقام هو أن ابن سينا يسعى إلى وضع قواعد كلية تنتظم الألفاظ، وهذا هو "دأب المناطقة، بل إنه لينادي بأن تكون تلك القواعد عامّة لجميع اللغات ينتفع بها كل الأقوام خاصة فيما تعلق بالجانب الدلالي الذي يسعى المنطقي إلى تحقيقه بضبطه للألفاظ في حالتها الإفرادية والتركيبية يقول ابن سينا: "يلزم المنطقي أيضاً أن يراعي جانب اللفظ المطلق من حيث ذلك غير مقيد بلغة قوم دون قوم. إلا فيما يقل"(1). فابن سينا بخبرته في التحليل يدرك أن بين اللغات قدراً من الاشتراك وتبقى كل لغة تتميّز بخصوصيتها الموفورلوجية، والفونولوجية بحيث تتفاوت في ذلك اللغات، وتختلف.
ب-أقسام الدلالة: إنّ تعيين العلاقة بين اللفظ والمعنى، تناوله ابن سينا من جوانب ثلاثة: -دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الإلتزام، فإذا كان الانتقال بواسطة العقل من الدال إلى مدلوله، لعلمه بعلاقة الوضع وأنّه كلّما تحقق مسموع اسم ارتسم في الخيال مدلوله، فإن الدلالة عندئذ دلالة وضعية تمنع من وقوع الالتباس بين الدلالات الثلاث. لأنّه قد يطلق اللفظ ولا يعني به مدلوله المطابق له كما إذا أطلقنا لفظ "الشمس" وعنينا به "الجرم" كانت الدلالة بينهما مطابقة وإذا عنينا به "الضوء" كانت العلاقة بينهما تضمن".
__________
(1) الإشارات والتنبيهات –ج1، ص181.(1/194)
ولكن بتدخل الوضع وتوسط العرف الأصلي يمنع انتقاض الدلالات بعضها ببعض يورد ابن سينا أمثلة يوضح فيها كل قسم من أقسام الدلالة الثلاث فدلالة المطابقة هي التطابق الحاصل بين اللفظ وما يدل عليه كالإنسان فإنه يدل على الحيوان الناطق، أمّا دلالة التضمن فهو ما يتضمنه اللفظ من معان جزئية تدخل في ماهيته كقولهم الإنسان فإنه يتضمن الحيوان. أما دلالة الالتزام فهي تحتاج إلى أمر خارجي لعقد الصلة بين الدال ولازمه، فقولنا الأب يلتزم الابن يقول ابن سينا معرفاً ذلك: "أصناف دلالة اللفظ على المعنى ثلاثة:(1/195)
دلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام"(1). وهي دلالات تجمع الأنساق كلّها. ويشرح علاقة الالتزام فيقول: "ودلالة الالتزام مثل دلالة المخلوق على الخلق والأب على الابن والسقف على الحائط والإنسان على الضاحك، وذلك أن يدل أولاً دلالة المطابقة على المعنى الذي يدّل عليه أولاً، ويكون ذلك المعنى يصحبه معنى آخر، فينتقل الذهن أيضاً إلى ذلك المعنى الثاني الذي يوافق المعنى الأول ويصحبه. وتشترك دلالة المطابقة ودلالة التضمن في أن كل منها ليس دلالة على أمر خارج عن الشيء"(2). وينصّ ابن سينا هاهنا على أمر مهم يخصّ العلاقة بين دلالة المطابقة ودلالة الالتزام إذ الوصول إلى دلالة اللفظ على معناه بطريق الالتزام يمرّ عبر إجراء دلالة المطابقة بين اللفظ وما يطابقه من مدلولات بتوسط الذهن الذي ينجز هاتين المرحلتين (بشكل سريع جداً) فدلالة الأب على الابن دلالة التزام ولكن هذه الدلالة لم تنعقد حتى وجد العقل أن بين الأب ومدلوله (أنه والد له أبناء) هناك علاقة مطابقة، ثمّ تختلف دلالة الالتزام عن دلالتي التضمن والمطابقة في أنها تستدعي مدلولاً خارجاً عن اللفظ، أما دلالتا التضمن والمطابقة فإنهما تستدعيان مدلولهما من لفظيهما. لأن دلالة اللفظ على كل أجزائه هي دلالة مطابقة، أما علاقته بجزء من هذه الأجزاء فهي علاقة تضمن، ولذلك نجد ابن سينا في حصره للعلاقة القائمة نظرياً بين اللفظ والمعنى لا يقيّدها فيقول في ذلك: "ولأن بين اللفظ والمعنى علاقة ما"(3).
__________
(1) منطق المشرقيين –ص37.
(2) الإشارات والتنبيهات –ج1، ص189.
(3) الإشارات والتنبيهات –ج1، ص189.(1/196)
ثم لتعيين العلاقة بين الدال والدلول يستدعي إدراك العلاقة بين المدلول والشيء الخارجي وذلك ما أشارت إليه المباحث اللسانية الحديثة التي أكدت أنْ لا علاقة مباشرة بين الدال والمدلول وإنما العلاقة الحقيقية هي بين الرمز اللغوي ومحتواه الذهني (concept)، إلا أن وعي الإنسان اعتاد على ربط الدال بالشيء الخارجي ربطاً مباشراً دون وعي بالمحتوى الذهني في العلاقة الدلالية بين الدال والمدلول، ولذلك يرى ابن سينا أن العلاقة الدلالية تنعقد بين المعنى (المدلول) والشيء في العالم الخارجي تأكيداً أن لا علاقة مباشرة بين الدال والمدلول يقول موضحاً ذلك: "فما يخرج بالصوت يدل على ما في النفس وهي التي تسمى آثاراً والتي في النفس تدل على الأمور وهي التي تسمى معاني"(1). ويمكن توضيح ذلك بالمثلث التالي:
ما في النفس (المحتوى الذهني)
الأمور الخارجية (المعاني) الصوت (الرمز اللغوي)
ولا تكفينا المقارنة لنقارب مثلث ابن سينا الدلالي بمثلث ريشتاردز وأوجدن، بل إن ابن سينا كان أعمق في إدراك جوهر الدلالة من المحدثين، فسمى الرمز اللغوي (صوتاً) وذلك إشارة كذلك إلى الرمز غير اللغوي، فما كل صوت، لفظ لغوي، ثم سمّى ما في النفس آثاراً وذلك لأنّ ارتسام صورة الرمز في النفس يشكل آثاراً تتحول إلى تراكمات للمعاني الذهنية في الذاكرة فكلما تحقق مسموع صوت ارتسمت في الخيال صورته.
__________
(1) العبارة من الشفاء، ص2-4.(1/197)
إنّ أهمية مباحث ابن سينا في الدلالة لا تكمن في عمق تصورّها لجوهر الفعل الدلالي فحسب، وإنما في بعدها الشمولي للسان البشري، وهو هدف يعكف عليه علماء الدلالة المحدثين وعلى رأسهم (نوام تشومسكي) في بحثه عن القواسم المشتركة بين اللغات يحاول وضع قواعد أو نحو كلي (Universal Grammar) ينتظم اللسان البشري. إن ما يجمع بين اللغات هو اشتراكها في التصورات الذهنية اشتراكاً عاماً أما ما يفرقها فهي الأنساق الدلالية وكيفية تحقيقها في واقع اللغة، مع أنّ العالم الدلالي واحد في كل اللغات، يعني ذلك –حسب تشومسكي- أن البنية العميقة مشتركة بين جميع اللغات أما الاختلاف فيكمن في البنية السطحية، ودليله في ذلك أن الطفل في طور تعرّفه الأول على الأشياء المحيطة به تتحكم في منطقه البنية العميقة أو الكفاية اللغوية وهذا ما يفسّر اشتراك الأطفال من مختلف الأجناس في ترميزهم للمدلولات في العالم الخارجي، والتعبير عن أحوالهم السيكولوجية يقول ابن سينا شارحاً ذلك: "وأمّا دلالة ما في النفس على الأمور فدلالة طبيعية لا يختلف الدال ولا المدلول عليه، كما في الدلالة بين اللفظ والأثر النفساني، فإن المدلول عليه وإن كان غير مختلف، فإن الدال مختلف ولا كما في الدلالة بين اللفظ والكتابة، فإن الدال والمدلول عليه جميعاً قد يختلفان"(1).
__________
(1) المصدر السابق، ص5.(1/198)
ثم إن الصورة السمعية (Image acoustique)هي التي تعكس مفهوم المدلول في النفس فيكون المعنى، ويرتسم في الذهن، ضمن الذاكرة اللغوية ارتباط اللفظ بمعناه، فكلما تمّ ارتسام مسموع الاسم في الخيال توارد إلى النفس معناه، وذلك تأكيد على ما سجلناه عند ابن سينا من أن العلاقة الحقيقية الدلالية هي بين الدال والصورة والذهنية يقول ابن سينا مبرزاً ذلك: "فمعنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم، ارتسم في النفس معنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، ص4.(1/199)
ج-العملية الدلالية: يشير ابن سينا، في رصده لآليات الفعل الدلالي، إلى تلك القدرة التي أوتيها الإنسان المتكلم، بحيث مكنته من نقل المفاهيم التي التقطها من العالم الخارجي إلى نفسه وقد انتقل معها من الحس إلى التجريد ويطالعنا في هذا الموضوع الدرس الدلالي بأبحاث مستفيضة حول معاينة وجود العوالم الدلالية، ومن ضمن المواضع التي أظهرها العلماء مواضع أربع وهي: الأفكار و الأحداث و الأوضاع و المفاهيم. (ففريجه) Frege ذهب إلى أن تموضع العوالم الدلالية هو عالم المفاهيم لأنها الوسيط الذي يربط الأفكار والأحداث والأوضاع: الأذهان تمسك بالمفاهيم والكلمات تعبّر عنها والأشياء يحال عليها بواسطتها"(1). فأين يرى ابن سينا تموضع العوالم الدلالية؟ يقول في ذلك: "إن الإنسان قد أوتي قوة حسية ترتسم فيها صور الأمور الخارجية وتتأدى عنها إلى النفس فترتسم فيها ارتساماً ثانياً ثابتاً، وإن غاب عن الحس. فللأمور وجود في الأعيان ووجود في النفس يكوّن آثاراً في النفس. ولمّا كانت الطبيعة الإنسانية محتاجة إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورة انبعثت إلى اختراع شيء يتوصل به إلى ذلك ( ... ) فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت ووفقت من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معاً، ليدل بها على ما في النفس من أثر. ثم وقع اضطرار ثان إلى إعلام الغائبين من الموجودين في الزمان أو من المستقبلين إعلاماً بتدوين ما علم ... فاحتيج إلى ضرب آخر من الإعلام غير النطق، فاخترعت أشكال الكتابة"(2). إن هذا النص يحمل دلالة علمية عميقة، يقف فيه ابن سينا على تاريخ وجود الدلالة وأشكالها المقولية صوتاً وكتابة..
__________
(1) اللسانيات واللغة العربية –ص381. د.عبد القادر الفاسي الفهري.
(2) الشفاء (العبارة)، ص6.(1/200)
فقد جعل الإنسان ذاته، مستودع للبنيات الدلالية التي عكست صوراً من العالم الخارجي إلى النفس، ولكنها ليست نفس الصور وإنّما أخذَت شكلاً ثانياً ليس هو شكلها الأوّل ولكنّه شكل ثابت لا يتغيّر من هنا تنسج العمليات الدلالية –بحسب ابن سينا- حيث تأخذ الطابع التجريدي البحث في غياب صور عالم الأعيان. وتحتاج عندئذ لأنماط مقولية بعد المواضعة عليها وهنا يشير ابن سينا إلى الطابع الاجتماعي للغة فلولا الحاجة الاجتماعية للمحاورة التي اقتضاها المجتمع البشري لاستغنى عن اللغة، فاللغة حاملة للقيم الاجتماعية وهي وعاء لكلّ ما يبقي الصلات الاجتماعية راسخة. ولكن ابن سينا يميل إلى القول بأن اللغة إلهام من عند الله تعالى الذي وهب الإنسان (آلات) لإنتاج تقاطيع صوتية اصطلح عليها، وحمّلها مدلولات متعلقة بها، وكان الصوت اللغوي يقوم بالعملية الدلالية، التي هي جوهر فعل الإبلاغ والتواصل، في حيّز زماني ومكان ضيّق، ولما احتاج الإنسان إلى نقل معارفه إلى الغائبين من الموجودين، أو ما كان في حكمهم من الآتين مستقبلاً، كانت الكتابة شكلاً متطوراً. وقد ميّز في الدرس اللساني الحديث العالم اللغوي (رومان جاكسون) بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة وفي إطار ذلك قابل بين الصوت والحرف، والمستمع والقارئ ووقف على فعالية الكلام وفعالية الكتابة وخلص إلى أن الكتابة ستبقى الأداة الأكثر فعالية في الخطاب التواصلي والإبلاغي كونها تضمن له استمرارية كبرى ومنفذاً إلى المتلقين مهما تباعد المكان والزمان. وأن الكتابة تفضل الكلام المنطوق، في أن المستمع بعد أن يقوم بتركيب ثان لسلسلة الكلام المنطوق قد يحصل له بعض المعنى لأنه ستكون عندئذ عناصر الكلام قد تلاشت(1).
__________
(1) P.101-102 Essais de linguistique generale(1/201)
ويكون ابن سينا بما أوتي من سبر عميق لبنية اللغة، وتحليل علمي لفعاليات الدلالة قد وضع أسس نظرية لغوية ذات رؤية متميزة في التراث العربي، ظهر فيها بوضوح أهمية العامل النفسي والذهني في تقديم التفسيرات الكافية للفعل الدلالي الموصوف بالتعقيد، وإنّ الذي أعان الشيخ الرئيس في استنباط تلك القواعد، التي تنتظم العالم الدلالي، هو امتلاكه للمنهج المنطقي القائم على الاستدلال والتعليل الذي يسوّغ رسم الأصول بأكبر قدر من التفصيل والتدقيق، وقد كان للبحث الدلالي الحظ الأوفر في أنه تُنُوّل ضمن اهتمامات لغوية أخرى اتخذت الموضوع الدلالي كمنفذ أساسي لبسط مصنفاتها خاصة تلك العلوم التي ورثت منهجاً علمياً في غاية الدقة كعلم المنطق، الذي اشتغل به ابن سينا، وكان يهدف معه إلى وضع قوانين المعنى بكشف أسراره وإيضاح أنماطه وتمظهراته في الواقع اللغوي وذلك حتى يغدو أداة عاصمة من الوقوع في اللحن بإحداث اضطراب في سنن النظام اللغوي، ويتماشى مع علم المنطق الذي يسعى أهله من العلماء إلى تبيّن معالمه ليَعصِم من الوقوع في الزلل والغلط.
5-الجهود الدلالية عند عبد القاهر الجرجاني (ت 421هـ):(1/202)
من خلال كتابه: "دلائل الإعجاز". لا يمكن بحال أن نغلق حلقات البحث البلاغي من وجهة نظر دلالية وأسلوبية، بما قدّمه الجاحظ في هذا المجال، رغم قيمته العلمية، دون أن نضيف إليها حلقة مهمّة وأساسية تتلخص في جهود عبد القاهر الجرجاني في إرساء نظرية النظم. ويمكن أن نجزم بأن البحث في (المعاني) باعتبارها جوهر عملية تأليف الكلام وإتقان نظمه، بدأت بإسهامات الجاحظ وتعريفه، بأدوات البيان ومصطلحات (النظم) وتأسست على يد عبد القاهر الجرجاني من خلال كتابه "دلائل الإعجاز" الذي لم يرد من وراء تأليفه إثبات إعجاز القرآن على سمت المتكلمين والمناطقة، وإنّما رام به الكشف عن إعجاز القرآن من زاوية نظرة لسانية وأسلوبية، فتناول ضمنها مباحث تتمحور كلها حول قيمة اللفظ في حالتيه الإفرادية والتركيبية، وعلاقته بالمعنى وما تفرع عنهما من مباحث أخر، وسنبسط ها هنا الكلام عن بعض هذه المباحث بما يجلّي إسهامات الجرجاني في الحقل الدلالي، وقيمة ذلك بالنظر إلى التطور الحاصل في ميدان علم اللغة بشكل عام.(1/203)
أ-العلامة اللسانية (علاقة اللفظ بالمعنى): هناك –كما تشير إليه الأسلوبية- عمليتان تتمان مع كل تلفظ أو إنشاء كلامي، إحداهما سابقة على الأخرى فأما الأولى فتتمثل في انتظام المعاني في الذهن ويصحبها حسن اختيار الدلالات المناسبة للموقف الكلامي، أمّا الثانية فتتمثل في انتظام المعاني في ألفاظ وتراكيب بأنساق مختلفة يحدّد الجرجاني بصورة دقيقة كيفية اختيار المتكلم للمعاني والألفاظ أثناء الموقف الكلامي. فيقول: "إن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها، فإذا وجب لمعنى أن يكون أولاً في النفس وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله أولاً في النطق"(1) وما يلاحظ أن الجرجاني يعطي الأسبقية للمعاني في الوجود النفسي والألفاظ تابعة لها في الواقع الكلامي، وهذا ما يفسّر لا نهائية المعاني التي أقرّها علماء الدلالة المحدثون مقابلة نهائية الألفاظ، واستخلصوا أن المتكلم يلجأ، لذلك –في غالب الأحيان- إلى توظيف الانزياح الدلالي لسدّ ثغرة دلالية لا يستطيع المعجم ملأها وهو "احتيال من الإنسان على اللغة وعلى نفسه لسدّ قصوره وقصورها معاً، لأن الإنسان عاجز عن الإحاطة باللغة وطرائقها، مثلما هي عاجزة عن نقل كل ما في نفسه"(2). ويضع الجرجاني تعليلاً منطقياً لأسبقية المعاني على الألفاظ مستنداً على معيار التغيّر الذي يطرأ على المعنى دون اللفظ وهذا ما يؤكد على اعتباطية الدليل اللساني الذي يعطي للغة مرونتها في ملاءمة الأوضاع المختلفة ومسايرة الأحوال المتغيرة، فلو كان اللفظ له ارتباط طبيعي بدلالته لما وسع اللغة أن تتميّز بطابعها الاجتماعي حيث تماشِي المجتمع في تطوراته النفسية والعلمية.
__________
(1) دلائل الإعجاز،ص68.
(2) نظرية النقد العربي، وتطورها إلى عصرنا –ص202، د.محي الدين صبحي.(1/204)
يقول الجرجاني في ذلك: "لو كانت المعاني تكون تبعاً للألفاظ في ترتيبها لكان محالاً أن تتغيّر المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغيّر من غير أن تتغيّر الألفاظ وتزول عن أماكنها علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة"(1). كما أن الدرس الدلالي الحديث يقرّ أن الصيغة المعجمية تكتسب دلالة ثانية عندما تدخل في تجاور سياقي مع وحدات كلامية أخرى يُراعىَ في ذلك حسن التناسق بين المعاني وحسن الموقع للألفاظ فلا تبدو نابية ولا مستكرهة وبذلك تكتسب الصيغة المعجمية داخل التركيب (الفضيلة) وفي ذلك تأكيد على أهمية التلازم بين مكونات الجملة بالنظر إلى الوظيفة الدلالية لهذه المكونات يشرح ذلك الجرجاني بقوله: "فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة ولا من حيث هي كلم مفردة، وإنما الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ"(2). إنّ تلك المزايا التي كان يخص بها أهل الشعر ومحترفو صناعة النقد في التراث الأدبي العربي للفظ دون المعنى يعطيه الجرجاني تأويلاً آخر، إذ ينظر إلى اللفظ والمعنى كطرفين لا ينفكان يشكلان ما سمّاه علماء الألسنة المحدثون بالعلامة اللسانية أو الدليل اللساني (Signe linguistique) ومنهم العالم دوسوسير الذي يقيمه على الدال والمدلول ويغضّ الطرف على مفهوم المدلول في عالم الماديات وتعيينه كطرف ثالث في العملية الدلالية(3). فأولئك النقاد الذين عناهم الجرجاني لا يبنون انطباعهم الجمالي على الصورة الصوتية للكلمة بمعزل عمّا توحيه من دلالة بديعة بل ينظرون إلى اشتراك اللفظ والمعنى معاً في إحداث صورة دلالية.
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص338.
(2) المصدر السابق، ص60.
(3) Cour de linguistique generale p.100(1/205)
فالجرجاني يضيف طرفاً ثالثاً في معادلة الفعل الدلالي ويجدر التنبيه ها هنا أن طبيعة المعنى عند اللغويين القدامى لا تختلف عن الشيء الخارجي الذي يومئ إليه اللفظ وهو المدلول، فيحصل أن الصورة الخاصة التي حدثت في المعنى إنّما يعني بها الجرجاني ما عناه علماء الدلالة والألسنية المحدثون بالمحتوى الذهني للإشارة اللغوية. يفصّل ذلك الجرجاني بقوله: "فيعلموا (أي محترفو الشعر والنقد) أنّهم لم يوجبوا ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصّة التي حدثت فيه"(1).
ويمكن على أساس هذا النص مقاربة رؤية الجرجاني للدليل اللساني برؤية المحدثين من العلماء الذين أوضحوا المكونات الثلاثة للعلامة اللغوية وهي: الدال والمدلول والمحتوى الذهني على الشكل الذي بيّناه بمثلث ابن سينا في هذا المجال والذي قاربنا به مثلث أوجدن وريتشاردز(2). فالجرجاني يحدّد ثلاثة مكونات تنشأ عن علاقة اللفظ بالمعنى وهي: اللفظ –المعنى (الشيء الخارجي)- الصورة الذهنية، والمثلث التالي يوضّح توزيع هذه المكونات.
الصورة الذهنية (محتوى الدال الفكري)
المعنى (الشيء الخارجي) –المدلول ... ... اللفظ (الدال)
__________
(1) دلائل الإعجاز ص425.
(2) انظر ذلك في مبحث أقسام الدلالة عند ابن سينا، ص112.(1/206)
إنّ اللغة عند الجرجاني تتمظهر في تقابلات ثنائية قطباها اللفظ والمعنى، وهي أعمق ممّا قيّدها به بعض البلاغيين الذين وضعوا معايير منطقية ونحوية (قواعدية) تمكن كل من قدر على النطق بها مراعياً أدواتها، من أن يبلغ الغاية من البيان في اللغة، وكأن النقص في بلوغ البيان يكمن فقط في النقص من جهة العلم باللغة، ومعرفة الإشارة بالعين وبالرأس ودلالتهما والخط والعقد والحال واتصالهم بتحقيق البيان. إن الذي يعطي المزية لخطاب لغوي هو مراعاته للأسرار والدقائق التي تتعلق بجوهر اللغة لا بمظهرها، آخذاً من أجل بلوغ الغاية التي لا مبلغ بعدها تلك الارتباطات الدلالية التي يلتحم فيها الدال بمدلوله ضمن شبكة من العلاقات، تقتضي معرفة بالأصول القواعدية، ووعي بأسرارها، حيث لا تقف عند حدود المنطق والنحو إنّما تأخذ فضلاً عن ذلك العلاقة اللغوية كتجسيد لدلالة هي عبارة عن نسيج حي متشعب الصور. يقول الجرجاني في ذلك متجاوزاً نظرة الجاحظ إلى البيان المؤسّس على معايير هي أشبه بالقواعد النحوية: "ترى كثيراً منهم لا يرى له (أي للنحو) معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين وما تجده للخط والعقد يقول: إنّما هو خبر واستخبار وأمر ونهي. ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلاً عليه فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات عربية كانت أو فرنسية وعَرَف المغزى من ذلك من كل لفظة ثم ساعده اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها فهو بيّن في تلك اللغة كامل الأداة، بالغ عن البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه. مُنتهٍ إلى الغاية التي لا مذهب بعدها (..) وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة، لا يعلم أن هاهنا دقائق وأسرار، طريق العلم بها الرواية والفكر ولطائف مستقاها العقل..."(1).
__________
(1) دلائل الإعجاز ، ص20-21.(1/207)
وبذلك يكون الجرجاني قد أعطى للنحو قيمته في اللغة، فهو ليس جملة من القواعد الجافة التي تعتني بضبط أواخر الكلمات وتعيين المبني منها والمعرب، إنّما النحو هو النظم الذي يكشف عن المعاني ويعطي للألفاظ البعد المطلوب من أجل الإفصاح عن الدلالة، وتوليد المواقف المطلوبة المناسبة للتعبير فهو بذلك يساير اللغة في تجدّدها وتطورها لتحتضن المواقف الجديدة عبر الزمان والمكان ونلاحظ أن الجرجاني ناقم على تلك الاتجاهات التي كانت تنظر إلى النحو نظرة تفضي إلى أن تجمد اللغة، وتبقى عاجزة عن احتواء المواقف، وذلك بتكبيل تراكيبها بقيود النحو والقواعد، كما أنّ النقاد الذين سبقوا الجرجاني كانوا يسرفون في الاهتمام باللفظ (الشكل) ويعطون له شرف إصابة الغرض وبلوغ البيان دون أن يكون للمعنى أثر في ذلك، ولذلك نرى ردّ فعل الجرجاني معاكساً لهذا الاتجاه فهو يقيم نظريته في النظم على المعاني(1) وليس على الألفاظ يقول معبّراً عن هذا الاتجاه: "أتتصوّر أن تكون معتبراً مفكراً في حال اللفظ مع اللفظ حتى تضعه بجنبه أو قبله، وأن تقول هذه اللفظة إنما صلحت هاهنا لكونها على صفة كذا؟ أم لا يعقل إلا أن تقول: صلحت هاهنا لأن معناها كذا، ولدلالتها على كذا، ولأن معنى الكلام والغرض فيه يوجب كذا، ولأن معنى ما قبلها يقتضي معناها؟ فإن تصوّرت الأول فقل ما شئت، واعلم أن ما ذكرناه باطل. وإن لم تتصوّر إلا الثاني فلا تخدعن نفسك بالأضاليل ودع النظر إلى ظواهر الأمور، واعلم أن ما ترى أنه لابدّ منه من ترتيب الألفاظ وتواليها على النظام الخاص ليس هو الذي طلبته بالفكر، ولكنه شيء يقع بسبب الأول ضرورة من حيث أن الألفاظ إذا كانت أوعية للمعاني فإنها لا محالة تتبع المعاني في مواضيعها"(2).
__________
(1) قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث: ص 291 –د.محمد زكي العشماوي.
(2) دلائل الإعجاز، ص 67-68.(1/208)
إن احتفاء الجرجاني بالمعنى وإعطائه القيمة العليا في العملية الدلالية، وإحلاله المحل الأول في الإنشاء لكونه يعبر عن المقاصد والأغراض، يمكن أن نجد له تعليلاً في أن اللفظ قد خصّ باهتمام كبير لدى النقاد الذين سبقوا الجرجاني في تقديمهم للشكل على المضمون، هذا الاهتمام المفرط باللفظ على حساب المعنى سعى الجرجاني إلى الحدّ منه وذلك بالنظر إلى أن اللغة تذوب فيها ثنائية اللفظ والمعنى، وهذا ما كرّسه في نظرية النظم التي أقامها على النحو (العلم بالتركيب) وعلم المعاني (العلم بالدلالة).(1/209)
2-دلالة الحدث الكلامي: تأكد بما لا يدع للشك مجالاً، أنّه كلّما كان المخاطب على علم بمحتوى الخطاب اللغوي، كلما كانت الدلالة أسرع إلى فهمه وإدراكه، وكلما كان جهله بمحتوى الخطاب كلما صعب عليه إدراك الدلالة، ووسعه الأخذ بجملة من المعطيات الموضوعية والذاتية في سبيل ذلك، يعني أن هناك تناسباً عكسياً بين طاقة التصريح في الكلام وعلم السامع بمضمون الرسالة يقول الدكتور عبد السلام المسدي: "ويتعين علينا –ونحن على مسار تحديد الطاقة الإستيعابية في اللغة- استنباط قانون من التناسب بين طاقة التصريح في الكلام وعلم السامع بمضمون الرسالة الدلالية إذ بموجبه تكون الطاقة الاختزالية ممكنة بقدر ما يكون السامع مستطلعاً على مضمونها الخبري"(1). ويشرح الجرجاني هذه الطاقة التي يتضمنها الخطاب والتي يكون على إثرها قابلاً للامتداد أو التقلص فيقول: "لا يخلو السامع من أن يكون عالماً باللغة وبمعاني الألفاظ التي يسمعها أو يكون جاهلاً بذلك، فإن كان عالماً لم يتصوّر أن يتفاوت حال الألفاظ معه فيكون معنى اللفظ أسرع إلى قلبه من معنى لفظ آخر وإن كان جاهلاً كان ذلك في وصفه أبعد"(2). وحتى على مستوى الخطاب الذي يكون للسامع علم بمحتواه، تتفاوت الألفاظ فيه والمعاني من حيث وقوعها من إدراك المتلقي فبعضها يكون أسرع إلى الفهم من بعضها الآخر، وهذا يتوقف أساساً على بنية الخطاب وموقعها من التعقيد والبساطة، وعلى قدرة المتلقي في تفكيك الخطاب بحسب ما توفر له ذاكرته اللغوية.
__________
(1) اللسانيات رأسها المعرفية: ص767.
(2) دلائل الإعجاز، ص254.(1/210)
كما يردّ الجرجاني وضوح دلالة الخطاب إلى حسن التأليف بين أجزائه ونظم كلماته، وإلى توخي معاني النحو وأحكامه فيقول: "إذا كان النظم سوياً والتأليف مستقيماً، كان وصول المعنى إلى قلبك تلو وصول اللفظ إلى سمعك وإذا كان على خلاف ما ينبغي وصل اللفظ إلى السمع وبقيت في المعنى تطلب وتتعب فيه وإذا أفرط الأمر في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا إنه يستهلك المعنى"(1). إن ما أوضحه الجرجاني في مقام سلامة الدلالة في الحدث الكلامي قد بحثه علماء الدلالة في العصر الحديث حيث وضعوا قواعد تضمن وضوح الدلالة تخصّ مادّة الحدث الكلامي ومحتواه معاً، أطلقوا على الأولى قواعد سلامة التركيب وعلى الثانية قواعد سلامة الدلالة وهي قواعد تنهض بعملية توصيل الدلالة، وكل واحدة من هاتين القاعدتين تتوفر على وجود مستقل وإنّما يتم التعالق بينهما بقواعد الإسقاط، ويجدر التنبيه أن الباث للحدث الكلامي والمتلقي، وجب أن يكونا على وعي بهذه القواعد المنتجة للتمثيلات الدلالية والتمثيلات التركيبية في الحدث الكلامي الرامي إلى الإبلاغ ويمكن توضيح ذلك بما يلي:
قواعد حسن النظم واستقامة التأليف قواعد سلامة الدلالة.
بنى تركيبية سليمة ( قواعد الإسقاط ( بنى دلالية سليمة
إن هذه القواعد لا تحقق الغاية من التواصل والإبلاغ إلا في وجود باث ومتلق واعيين بآليات الحدث الكلامي، ذلك أنّ الحفاظ على خط التواصل سليماً ليس بالأمر الهيّن، فقد يتعرض قانون التخاطب إلى تعديل فيحصل بين المتخاطبين تواضع جديد واصطلاح غير مطرد وهنا يتعرض الحدث الكلامي إلى موجة من الشحن التعبيري يتحول بواسطته المدلول إلى دال على ملول ثان على النحو الآتي:
دال مدلول 1
مدلول مدلول 2
__________
(1) المصدر السابق، ص257.(1/211)
يحلّل ذلك الجرجاني بقوله: "ومن الصفات التي تجدهم يجرونها على اللفظ ثم لا تعترضك شبهة ولا يكون منك توقف في أنّها ليست له ولكن لمعناه قولهم: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتّى يسابق معناه لفظة معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك وقولهم: يدخل في الأذن بلا إذن فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى وأنّه لا يتصوّر أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة"(1). فالجرجاني بتحليله هذا يعطي تأويلاً لقول الجاحظ: "لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتّى يسابق معناه لفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك"(2). ويرسم به ما يعرف في علم الدلالة الحديث بتعالق البنية الدلالية والبنية التصورية فالمعجم الذهني التصوّري يحمل بنى دلالية تتعالق مع مجموعة من المفاهيم التي ترتبط بها.
__________
(1) المصدر نفسه، ص253.
(2) البيان والتبيين، ج1، ص81.(1/212)
وعند إنتاج الحدث الكلامي في عملية التواصل يتم إحضار كل هذه التصوّرات والمفاهيم مما يؤدّي إلى التوالد الدلالي. فالمعنى التصوّري –باعتبار أن الذاكرة المعجمية للفرد تعلّق كل كلمة بتصور دلالي واحد- يتولّد عنه معنى مفهومي أو معان مفهومية وجدت نتيجة لتعالق البنية الدلالية بالبنية التصوّرية، ولذلك نرى الجرجاني يميّز بين الصنفين فيقول: "أن تقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(1). ويكفي الجرجاني بما قدّمه من جهود أنّه أثار قضية البحث في معنى المعنى، وهي قضية أحدث بها العالمان ريتشاردز وأوجدن ضجّة بإصدار كتابيهما: "معنى المعنى" (The meaning of meaning) 1923 وفيه يتساءل العالمان ليس عن تطور المعنى كما كان سائداً آنذاك في الدرس الألسني التاريخي، وإنما عن ماهية المعنى(2). وتشعّب البحث الدلالي في قضية "المعنى".
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص251.
(2) مدخل إلى علم الدلالة. د.موريس أبو ناضر. مجلة الفكر العربي المعاصر- عدد 18-19. ص31. سنة 1982.(1/213)
فأثيرت مسألة تموضع الدّلالة فخاض العلماء اللغويون غمار ذلك وانطلقوا من معطيات منطقية إذ أدركوا أن المعاني موجودة قبل الألفاظ، بل قبل الرموز التي اتّخذها الإنسان القديم للتواصل والإبلاغ ودليلهم على ذلك أن العوالم الدلالية غير محدّدة و لا تقبل التحديد بينما الأدوات الدالة على بعض هذه العوالم معلومة محدّدة سواء اللغوية منها أو غير اللغوية، فالمعاني غير متناهية ولازال الإنسان يضع للمعاني، التي توّصل إلى إدراكها، حديثاً الألفاظ التي تدلّ عليها، إذن أين تتموضع المعاني؟ لقد افترض "غريماس" وجود عالم دلالي معطى وذلك ليقابل به البنيات الدلالية في تقسيمها إلى سمات صوتية صغرى (Phemes) فشرع في تقسيم العالم الدلالي المفترض إلى سمات (Semes)، والحقيقة أنّ عمل غريماس، لم يرق إلى مستوى العمل الإجرائي الذي يخرج الفرضيات والنظريات إلى الواقع اللغوي، فإذا كان قد استطاع تحليل البنية الدلالية إلى سماتها الصوتية فإن تحليل الدلالة إلى سمات قد لا يقدّم للبحث اللغوي –الدلالي شيئاً عدا الوقوف على السمات الدلالية (Semantic markers) التي تعتبر –إضافة إلى المميزات- الأبجدية الدلالية التي تؤلف منها القراءات، إذ المميز يمثل ماهو خاص في معنى وحدة معجمية. وتمثل السمة الدلالية ماهو نسقي أو علائقي في المعنى، أي ما يربط بين المفردة ومفردات أخرى(1).
__________
(1) اللسانيات واللغة العربية –ص363- د.عبد القادر الفاسي الفهري.(1/214)
بينما موضع علماء آخرون المعنى في عالم المفاهيم ومنهم العالم (Frdge)، لكنّ علماء التُراث المعرفي العربي كانوا يربطون إنتاج الحدث الكلامي بتشكل المعنى في النفس ومنهم الجاحظ وابن سينا، والجرجاني الذي يقول محدّداً تموضع المعنى: "إنّ الخبر وجميع الكلام معان ينشئها الإنسان في نفسه ويصرفها في فكره ويناجي بها قلبه، ويراجع فيها عقله، وتوصف بأنّها مقاصد وأغراض، وأعظمها شأناً الخبر الذي يتصوّر بالصور الكثيرة"(1).
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص460.(1/215)
ج-النظام الإسنادي والدلالة: يضع الجرجاني للدلالة التي يؤديها الخطاب اللغوي أثناء عملية التواصل "معيار الإعلام المقصود" إما عن طريق نفي الخبر أو إثباته، فليس كل ما يحمله الخطاب يوصف بأنّه (دلالة) إنّما الدلالة كما يقول الجرجاني – "هو الحكم بوجود المخبر به من المخبر عنه أو فيه إذا كان الخبر إثباتاً، والحكم بعدمه إذا كان نفياً"(1)، فالدلالة تتوقف على أمر خارجي غير لغوي يرجعه الجرجاني إلى قصد المتكلم من إعلام السامع، إذ يدلّ صدقاً على وجود المعنى المخبر به من المخبر عنه أو فيه، أمّا إن نقل المتكلم الخبر ليعلم السامع على وجود المخبر به من المخبر عنه، دون إثبات أو نفي فكأنه أخلى اللفظ من معناه والخطاب من محتواه، وجلّ الدراسات الدلالية والألسنية الحديثة أضحت تركّز في رصدها للعملية الإبلاغية والتواصلية على "الباث" أو ما سمّاه الجرجاني "المُخبر" حتى صارت طبيعة الدلالة المحمولة في الكلام موقوفة على قصد المتكلم في إعلامه المتلقي بالخبر، وذلك أمام صعوبة تحديد المعنى تحديداً كاملاً من خلال سلسلة الكلام وحدها، خاصّة أنّه تأكد على يد علماء الدلالة المحدثون ومنهم العالم (بيرس) (Pierce) أن المعنى ليس ما تحمله الوحدة المعجمية في نظام علائقي مع وحدات معجمية أخرى، وإنما المعنى عبارة عن علاقة معقدة بين أحداث كلامية وأوجه أخرى للواقع الموضوعي. ويذهب العالم اللغوي بيار جيرو (Piere Giraud) إلى الاعتقاد بأن للكلمة أكثر من معنى تصريحي وآخر إيمائي نظراً للتداعيات التي يمكن أن تحدثها أثناء الاستعمال"(2).
__________
(1) المصدر السابق، ص463.
(2) علم الدلالة، ص63. ترجمة د.منذر عياشي.(1/216)
يقول الجرجاني محدّداً أهمية إسناد الخبر إلى المخبر والأخذ بقصده في الخبر: "الدلالة على شيء هي لا محالة إعلامك السامع إياه، وليس بدليل ما أنت لا تعلم به مدلولاً عليه، وإذا كان كذلك وكان مما يعلم ببداءة المعقول أن الناس إنما يكلم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن ينظر إلى مقصود المخبر من خبره وماهو؟ أهو أن يعلم السامع وجود المخبِر به من المخبَر عنه؟ أم أن يعلمه إثبات المعنى المخبِر به للمخبَر عنه؟(1). فالجرجاني يرتكز هاهنا في تحديد الدلالة على:
أ-إثباتُ الخبر للمخبر عنه= علاقة المسند بالمسند إليه.
ب-إثبات الخبر من المخبر عنه= علاقة المسند بناقل الإسناد.
ولذلك فإن الجرجاني يقيم دلالة الخطاب اللغوي على قاعدة الإسناد التي توفر لنا النظر إلى ثلاثة أطراف في عملية الإبلاغ وهي:
-المسنَد –والمسنَد إليه- وناقل الإسناد.
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص642.(1/217)
فالمسنَد هو محتوى الخطاب الإبلاغي (الإعلامي) وهو يقتضي جملة من القواعد الدلالية المعيارية التي توفّق بين المفهوم المجرّد للمعنى والماصدق الذي يغطيه الخطاب، ويتحقق فيه المفهوم المجرّد لمحتواه الدلالي، فالجملة الخبرية (كوحدة اتصال) يجب أن تخبر السامع ما يعتبر بالنسبة إليه جديداً في الموقف الكلامي الراهن(1). وهو ما يحققه (المسنَد) الذي يظهر محمولاً في: البنية الشكلية للجملة. أمّا المسنَد إليه (المخبَر عنه) فعليه يتوّقف حقيقة (الخبَر) وذلك بناء على الحكم بوجود المعنى أو عدمه وهو مرتبط بحصول الفائدة للسامع من الكلام الإبلاغي، والجرجاني بذلك لا يهتم إلاّ بالتراكيب الإسنادية أمّا التراكيب غير الإسنادية فإنّها جمل غير وظيفية لأنها لا تضطلع بمهمة الإبلاغ، فالفائدة الدلالية من الكلام متلازمة ونظام الإسناد، وأيّ تغيير في البنية الشكلية للتركيب يترتب عليه تغيير في المعنى، فالسياق الكلامي عند الجرجاني يتميّز بمستويين:
أ-مستوى البنية النحوية الساكنة التي تتحدد بتحقّق الإسناد.
ب-مستوى البنية الإبلاغية المتغيرة حسب المقام والتي تتحدد بتحقق الفائدة من الخبر(2).
__________
(1) التراكيب النحوية وسياقاتها المختلفة ،عند عبد القاهر الجرجاني، ص96، صالح بلعيد.
(2) المرجع السابق.(1/218)
أما ناقل الإسناد أو المخبِر -بمصطلح الجرجاني- أو الباث- بمصطلح الألسنية الحديثة، فهو الذي يثبت وجود المعنى للمخبَر عنه (المسند إليه) وقبل ذلك يكون (ناقل الإسناد) قد قام بترتيب الخطاب في نفسه قبل أن يصرفه إلى المتلقي، وقد أخذ في ذلك مقام (المتلقي) وحاله. يعيب الجرجاني على الذين جعلوا اللفظ أساس النظم والإبلاغ فيقول: "فترى الرجل منهم يرى ويعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يجيء بالألفاظ مرتبة إلا من بعد أن يفكر في المعاني ويرتبها في نفسه على ما أعلمناك، ثم تفتشه فتراه لا يعرف الأمر بحقيقته، وتراه ينظر إلى حال السامع فإذا رأى المعاني لا تقع مرتبة في نفسه، إلا من بعد أن تقع الألفاظ مرتبة في سمعه نسي حال نفسه واعتبر حال من يسمع منه. وسبب ذلك قصر الهمة وضعف العناية وترك النظر والأنس بالتقليد، وما يغني وضوح الدلالة مع من لا ينظر فيها، وإنّ الصبح ليملأ الأفق ثم يراه النائم ومن قد أطبق جفنه"(1). أمّا ما يجب اعتباره أثناء عملية الإبلاغ فيراه الجرجاني في النظر إلى حال المتكلم وكيف يصرف المعاني ويرتبها فيقول: "فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلف له، والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع"(2).
نلمح من هذا كله أن الجرجاني الذي اهتم بطرق صرف الدلالة على وجهها الصحيح، اتخذ من النظر إلى لغة إعجاز القرآن مطية إلى رصد القواعد النمطية التي تزخر بها اللغة العربية، وبعرضه لتعالق النظام النحوي (النظام الإسنادي) بالنظام السياقي العام في تحديد دلالة الخبر يكون الجرجاني قد سَبق إلى وضع نظرية في الاتّصال والإبلاغ.
__________
(1) دلائل الإعجاز، ص466.
(2) المصدر السابق، ص375.(1/219)
الخلاصة: وجملة القول عن ذلك المناخ المعرفي الذي سبق علي بن محمد الآمدي، أن الدرس اللغوي بدءاً من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس قد تحدّدت مسائله، ووضُحت أسسه وطرائقه، فقد أرسى الشافعي قواعد للفهم والتأويل وإن كانت خاصّة بالنص الديني إلا أنّها تنسحب على كلّ تأليف كلامي انتظمت ألفاظه ومعانيه باللغة التي أحكمت بها دلالات النص الديني، كما أثار الشافعي مسألتين دار حولهما حديث كثير وهما: الترادف والمشترك اللفظي وذهب إلى القول بوقوعهما في اللغة، كما أبان عن دور السياق في تحديد دلالة اللفظ القابلة للاتساع وهي إشارة إلى قضية "المجاز". وما يجدر ذكره عند الشافعي هو قدرته على وضع منهج بيّن في استنباط الأحكام، يعتمد التقسيم والتمثيل وحسن التصرف في الاستدلال والنقض، ومراعاة النظام المنطقي إلا أنّ أظهر ما يميّز الشافعي هو بسطه للقياس الفقهي الذي ذهب بعض المؤرخين لإلحاقه بالتمثيل عند أرسطو، لكن وُجد أن القياس الفقهي يفضي إلى اليقين على نقيض التمثيل الأرسطي المبني على الظن ولا يفضي إلى اليقين. وقد استفاد علماء الأصول من جهود الشافعي خاصّة في اقتباسه لبعض طرائق علماء الكلام، وكان من نتائج ذلك ظهور علماء أصول الفقه الذين مزجوا بين طرائق الاستدلال الفقهي، والاعتماد أساساً على النقل، وبين طرائق المتكلمين في الاستدلال العقلي، وقياس الغائب على الشاهد، وأطلق على هؤلاء، المصطلح: "الأصوليون المتكلمون" ومنهم: علي بن محمد الآمدي.(1/220)
وفي القرن الهجري ذاته الذي عاش فيه الشافعي يبرز في حقل معرفي آخر عمرو بن بحر الجاحظ، علَم من أعلام البلاغة والبيان، ومؤسس مهمّ لمباحث لغوية لازالت مرجعاً لدراسات لسانية ودلالية معاصرة، فلقد عكف الجاحظ على الدراسة الصورية لعناصر اللغة موضحاً قيمتها الصوتية وأهمية ذلك في حسن التأليف بين الحروف قصد تشكيل الوحدات الكلامية، أدوات البيان، وفي ذلك يفصح الجاحظ عن الوظائف التي يضطلع بها الخطاب الإبلاغي، وبحسّ لغوي كبير أظهر صاحب "البيان والتبيين" أبعاد العلامة في التُراث المعرفي مقسماً إياها إلى العلامة اللسانية والعلامة غير اللسانية وجمع ذلك فيما سماه "أدوات البيان" الخمس، كما أثار الجاحظ قضية نشأة اللغة وأبان عن موقفه من ذلك، وقد استمر في إرساء قواعد البيان والكشف عن قوانين اللغة إلى منتصف القرن الثالث الهجري. أمّا ابن جني "بخصائصه" فقد مثل فعاليات القرن الرابع الهجري ولا يمكن أن نقدّر ما قدّمه هذا العالم حقّ قدره إلاّ إذا نظرنا إلى جرأته في وضع قواعد تنتظم اللغة على الرغم مما آخذه عليها علماء عصره ومن تأخّر منهم، كقوله بالتقلبات الستة للوحدة المعجمية وربطها بدلالة أصلية واحدة، وذلك التفريع الدلالي الذي خصّ به الفعل محدّداً دلالاته الثلاث، كما أثار قضية نشأة اللغة ومبحث الحقيقة والمجاز.(1/221)
أمّا ابن سينا فيمثّل حقلاً معرفياً أفاد منه الدرس الدلالي كثيراً، خاصّة وأنّ الدلالة هي بحث في المعنى وطرق تشكله وتمظهره في أنماط مقولية مختلفة، فابن سينا العالم النفساني الخبير بمكامن وأسرار النفس، والمشرّح البارع الممتلك لأدواته الإجرائية في التشريح، قد استطاع أن يلج إلى عالم الدلالة ليرصد لنا آليات الفعل الدلالي وأقسام الدلالة والعلاقة بين هذه الأقسام، فضلاً عن أقسام اللفظ باعتبار الشركة والخصوصية، وعلى أساس ذلك يمكن بناء حقول دلالية تخصّ الأسماء، وما يمكن إبرازه هاهنا هو العلاقة التي عقدها ابن سينا بين اللفظ والمعنى "والآثار" التي في النفس، وهي تقارب ما وضعه الألسنيون المحدثون في ذلك ممثلاً إياه بالمثلث –كمثلث (ogden et richards) المعروف، والذي ينص أن لا علاقة مباشرة بين اللفظ والمعنى، أو ما يصطلح عليه بالدال والمدلول وهو ما يوضحه الخط المنقط في قاعدة المثلث. وما ختمنا به جهود العرب القدامى في ميدان الدلالة هو جهود العالم اللغوي عبد القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم، التي ولدت مع الجاحظ وتبلورت مع ابن جني، وتأسست على يد الجرجاني قاعدة بيّنة المعالم واضحة الأهداف تأخذ (النحو) بمفهومه الواسع أساساً لضبط قواعد سلامة التركيب، والنظام الدلالي العام. وما يميّز جهود الجرجاني هو تحديده بشكل دقيق لآليات الفعل الإبلاغي، واضعاً في سبيل ذلك أسساً تتلخص في ضرورة الاهتمام بالسياق العام لكل عناصر الإبلاغ بدءاً بالمخبر ومروراً بالخبر وانتهاءً إلى المستمع المتلقي للخبر، ثم هناك علاقة مهمة بين المخبِر والخبَر من جهة والخَبر والمتلقي من جهة ثانية وعليها تتحدد دلالة الحدث الكلامي المتضمن للخبر. فإدراك الجرجاني هذه العناصر كلها في عملية الإبلاغ، جعله يتبوأ مكانة كبيرة في عطاءات الدرس اللساني الحديث عامّة والدلالي خاصّة.(1/222)
ويكفيه جهداً أنّه أعاد للمعنى مكانته في الدرس اللغوي، وعدّل الكفّة بينه وبين اللفظ لأنهما معاً جوهر العملية الدلالية، وبذلك يأتي الجرجاني في قسم البلاغة ليضع حدّاً لذلك الإفراط في الإعلاء من شرف اللفظ وقداسة الشكل عند من سبقه من نقاد الشعر.
في هذه الأجواء المفعمة بالنشاط اللغوي الدؤوب والمتنوع، وبعد وضع أسس لنظرية معرفية تعطي السلطة الكبرى لفهم معاني اللغة، والإلمام بطرقها في التعبير، ووضوح منهج البحث الذي استفاد من روافد معرفية وافدة يأتي العالم الأصولي المتكلم سيف الدين الآمدي في منتصف القرن السادس لتتضح على يده معالم ذلك المشروع المعرفي الشامل الذي بدأه الشافعي وتبلور على يد من تعاقب من العلماء ليتأسس على يد الآمدي علماً أصولياً واضح الأبواب بيّن المسائل طيّع الأدوات وهذا ما سوف نلمسه في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام".
الفصل الثاني:
العلامة اللسانية عند الآمدي
1-مدخل عام
1- علم أصول الفقه والدلالة:(1/223)
لمّا كان عهد النبوة وإشعاعه المعرفي لا يزال يؤثر في مجرى المعارف والعلوم، لم يحتج العرب إلى علوم يبسطون فيها قواعد النظر والاستنباط. ولكن ما إن تقادم عهد النبوة، ودخلت أجناس مختلفة إلى الأمصار الإسلامية وبدأت تتفشى العجمة في اللغة العربية، وتبدت مناهج الفلسفة والمنطق الوافدة من علوم الفرس واليونان، رأيت نزوع العلماء نحو الاشتغال العقلي، ومزج فنون النقل بعلوم العقل فكان لزاماً عصرئذ من وضع طرق للاستنباط والنظر خاصّة ما تعلّق منها بنصوص مقدّسة كالقرآن الكريم وأحاديث الرسول الشريفة، فاهتدى العلماء إلى وضع علم أصول الفقه. وكان أوّل من فتق قواعد هذا العلم وأجراه مجرى التطبيق هو صاحب أول مصنّف في هذا المجال الإمام الشافعي –رضي الله عنه- في كتابه "الرسالة". وموقع أصول الفقه بالنسبة للفقه هو كموقع المنطق بالنسبة للفلسفة، إذ به تبرز الطرق الموصلة إلى إدراك ماهية المعاني والأحكام المستنبطة من مظانها، كذلك المنطق به بعضهم الذهن من الوقوع في الخطأ، يقول الدكتور علي سامي النشار: "وأول مسألة ينبغي توضيحها: هي اعتبار علم الأصول بالنسبة إلى الفقه كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسلفة ( ... ) وفي الواقع أن اعتبار الأصول بالنسبة إلى الفقه، كاعتبار المنطق بالنسبة إلى الفلسفة، يبدو واضحاً تماماً إذا ما بحثنا في علم الأصول نفسه"(1) وحقيقة إن علم أصول الفقه يضع أدوات الاستنباط هي أشبه بأدوات المنطق في ضبط القضايا. يقول الإمام الزركشي في كتابه "البحر المحيط" معرفاً أصول الفقه: "فأصول الفقه هو مجموع طرق الفقه من حيث أنها على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها وحالة المستدل بها"(2)
__________
(1) منهاج البحث عند مفكري الإسلام. ص79.
(2) البحر المحيط، ج1- ص19..(1/224)
ويتقدم الآمدي قبل الزركشي في تعريف علم أصول الفقه فيقول: "فأصول الفقه هي أدلة الفقه وجهات دلالتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(1). ثمّ احتاج علم أصول الفقه في مرحلة من مراحل تشكله إلى ضوابط لغوية أخذها من تقسيمات المناطقة للألفاظ من حيث دلالتها على المعاني ومن حيث عمومها وخصوصها ومن حيث إفرادها وتركيبها. وإنّ نظرة عجلى إلى استهلالات كتب الأصوليين وتلك التي في كتب المنطق لتؤكد ما مدى صلة علم أصول الفقه بالمنطق، خاصّة، يقول الدكتور علي سامي النشار وهو يتحدث عن تلك المداخل اللغوية في كتب الأصوليين: "وتبدأ هذه الأبحاث اللفظية كما تبدأ كتب المنطق الأخرى بالبحث المشهور "دلالة الألفاظ على المعاني"(2) ومنذ عهد الغزالي دأب الأصوليون المتكلمون يستهلون كتبهم بمقدمات كلامية كمظهر من مظاهر تأثرهم بالمنطق اليوناني ومنهم الآمدي صاحب كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" وقد عدّت المباحث اللغوية في تلك الكتب من مسائل المنطق لأن الأصوليين المتكلمين خاصّة، نصّوا على قواعد نظرية المعرفة وذكروا من ضمنها المبحث اللغوي الذي يتناول اللفظ والمعنى وما يتفرع عنه من مسائل، وقد أطلقوا على تلك المقدمات اللغوية المنطقية بشكل عام اسم الكلامية وذلك لاعتبارهم أن المنطق جزء من علم الكلام، إلا أنّ ما يجدر ذكره هو عمق النظرة اللغوية عند الأصوليين بلجوئهم إلى طرق وأدلة خاصّة في تعاملهم مع اللغة، لا يتوفر عليها اللغويون أنفسهم يقول الدكتور علي سامي النشار: "إن المباحث الأصولية اللغوية ليست من نوع علوم اللغة أو النحو العادية. فقد دقق الأصوليون نظرهم في فهم أشياء من كلام العرب لم يتوصل إليها اللغويون أو النحاة.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج1- ص7.
(2) منهاج البحث عند مفكري الإسلام. ص45.(1/225)
إن كلام العرب متسع وطرق البحث فيه متشعبة، فكتب اللغة تضبط الألفاظ والمعاني الظاهرة دون المعاني الدقيقة التي يتوصل إليها الأصولي باستقراء يزيد على استقراء اللغوي. فهناك دقائق لا يتعرض لها اللغوي ولا تقتضيها صناعة النحو"(1). إن المباحث اللغوية ومنها الدلالية على الخصوص، في كتب الأصوليين تتسم بعمق ودقّة الاستقراء، فتخريج الدلالة يتم عبر تفكيك لبنية الخطاب بتحليل عناصره وربط ذلك بالمقام العام الذي يقتضي تلك الدلالة دون غيرها. إن اللغة منظومة لسانية وسيمائية بأنماطها المختلفة في التعبير وأسرار البيان تبدو بارزة بشكل ناضج في بحوث غير اللغويين، كالأصوليين الذين أسقطوا منهج الاستقراء والتدقيق في الجزئيات على اللغة، ذلك لاعتقادهم أن من الأسس الرئيسة لنظرية المعرفة هي اللغة فخاضوا في أقسام الألفاظ والدلالات، فبحثوا الاشتراك والترادف وأفاضوا الجدل حولهما وقسّموا الدلالات بحسب المنطوق والمفهوم من الخطاب، كما أبانوا عن قدرة لغوية في تحديد أدوات ضبط الدلالة المعيّنة فبحثوا الاستغراق والعموم والشرط والاستثناء والتقديم والتأخير والإطلاق والتقييد وغير ذلك مما سيرد ذكره في مباحث الآمدي في هذا المجال، وفضلاً على وضوح المنهج الأصولي الذي يبدأ بما هو عملي وإجرائي قبل مناقشة المسائل النظرية المجردة فقد أكّد الأصوليون على ضرورة الإلمام الشامل بحيثيات الخطاب وظروفه وتجاوز البنية اللسانية للخطاب إلى رصد المعالم الدلالية العميقة، وذلك من أجل الفهم الكلي لفحوى الخطاب، وهو ما أشار إليه علماء الدلالة المحدثون ومنهم (تشومسكي) الذي ذهب إلى أنّه لفهم جملة ما يجب أن يكون لدينا معارف أخرى تتجاوز التحليل اللساني لهذه الجملة في كل مستوى لساني، ويجب كذلك أن نعرف مرجع ومعنى المورفامات أو الكلمات التي تؤلفها"(2).
__________
(1) المرجع السابق، ص91.
(2) ص 117 Structures syntaxique ,N. chomsky ترجمه إلى الفرنسية..ميشال برودو (Michel Braudeau).(1/226)
2-لمحة عن حياة الآمدي وكتابه الإحكام في أصول الأحكام:
إن الركام المعرفي الذي اجتمع في القرن السادس الهجري، كان له أكبر الأثر في بروز أعلام سخّروا حياتهم لإعادة ترتيب ذلك الركام المعرفي وتمحيصه وتذليله حتى يدخل في تفاعل جدلي مع عطاءات القرن، وحاجات أهله من المعرفة والعلم. لقد وقر في الأذهان أن فكر الإنسان لا يمكن أن يعزل عن مجرى عصره وحوادث زمانه ونتوءات أيامه البارزة، فالإطار التاريخي الحضاري الذي نشأ في أجوائه الآمدي جعله يتبوأ مكانة عليّة في عصره، خاصّة وأنّه أتى بعد أولئك الأعلام الذين رسموا المنهاج القويم في العلوم وتركوا آثاراً بقيت على مرّ الزمن، معالم بارزة ومنارات نيّرة يهتدي بها كل عالم متأخر. فقد سبق الآمدي –كما أوضحنا في الفصل السابق- الشافعي- رضي الله عنه- والجاحظ وابن جني وابن سينا وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم.(1/227)
الآمدي هو سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي. كانت ولادته في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ففيه أصولي مقدّم في زمانه، اعجب علماء عصره بحسن كلامه وقوّة حجته في الجدل والمناظرة يقول عنه معاصره بن أبي أصيبعة، الذي كانت تجمع أباه والآمدي مودة أكيدة: "كان أذكى أهل زمانه وأكثرهم معرفة بالعلوم الحكمية، والمذاهب الشرعية والمبادئ الطبية ( ... ) فصيح الكلام جيّد التصنيف"(1). بدأ الآمدي يشتغل بالمذهب الحنبلي مدّة من الزمن ثم ما لبث أن انتقل إلى المذهب الشافعي، وقد عدّه ابن السبكي فيما عدّ من علماء الشافعية في كتابه "طبقات الشافعية"، كَثُر ترحال الآمدي كما كَثُر حسّاده من العلماء الذين ألّبوا عليه الأمراء والحكام بحجة الاشتغال بالمنطق والفلسفة حتّى وصل بهم الأمر، إلى استحلال دمه، وأمضوا في عارضة قدموها إلى حاكم مصر فخرج متخفياً إلى الشام يقول عنه ابن خلكان: "كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب ( ... ) وبقي على ذلك مدّة ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. ثم انتقل إلى الشام واشتغل بفنون المعقول وحفظ منه الكثير وتمهر فيه وحصّل منه شيئاً كثيراً ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم"(2). لمّا قدم إلى دمشق أكرمه الملك المعظم شرف الدّين بن أيوب وأنعم عليه وولاّه التدريس. وكان نابغة في الشام، لم يرق إلى مقامه أحد من العلماء يقول ابن أبي أصيبعة في ذلك: "وكان إذا نزل وجلس في المدرسة وألقى الدرس والفقهاء عنده يتعجب الناس من حسن كلامه في المناظرة والبحث، ولم يكن أحد يماثله في سائر العلوم"(3).
__________
(1) عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج3- ص285.
(2) وفيات الأعيان، ج3، ص293.
(3) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج3، ص285.(1/228)
للآمدي منهاج فريد في التصنيف والمحاجة إلى درجة تبعث على الاندهاش، وذلك لتمكنه الشديد من أدوات الجدل والكلام، ومنها اللغة وعلومها والمنطق ومسائله ولذلك "كان (الآمدي) قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال، كثير التشقيقات في تفصيل المسائل، والترديد والسبر والتقسيم في الأدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحياناً إلى الحيرة"(1).
وقد نقل الذهبي في كتابه "الميزان" أموراً هي محل ريبة وشك تخصّ عقيدة الآمدي وهي أنّه كان مستهتراً تاركاً للصلاة، وقد لوحظ ذلك بأن وضعت علامة من الحبر في أسفل قدمه بينما هو نائم ثم تبين أنّ تلك العلامة لم تَزُل من تحت قدمه بعد ذلك اليوم، وقد ردّ ابن كثير هذه الشكوك في كتابه "البداية والنهاية" خاصّة وأنّ هناك من العلماء من لا يرى الدّلك في الوضوء من فرائض الطهارة بل إنّ الحبر قد يبقى أياماً ولا يزول بفعل الوضوء، ومهما يكن فإنّ المصنفات التي تركها الآمدي وخاصّة كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" يدل على احترام ظاهر وتقدير عالم ورع لآيات الله وأحاديث رسوله الكريم وقد نقل عنه ولده جمال الدين محمد بعض ممّا أنشده أبوه لنفسه(2) من ذلك قوله:
فلا فضيلة إلاّ من فضائله ... ولا غريبة إلا وهو منشأها
حاز الفخار بفضل العلم وارتفعت ... به الممالك لما أن تولاها
فهو الوسيلة في الدنيا لطالبها ... وهو الطريق إلى الزلفى بأخراها
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام (المقدمة) الشيخ عبد الرزاق عفيفي.
(2) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ج3 ، ص285.(1/229)
لقد ترك الآمدي مصنّفات تربو على العشرين مصنّفاً اختصر بعضها في كتاب جامع، من ذلك كتاب "أبكار الأفكار" في علم الكلام اختصره في كتاب، سمّاه "منائح القرائح" وله كتاب "رموز الكنوز" و "دقائق الحقائق" ولباب الألباب" و "كتاب منتهى السؤل في علم الأصول" و "كتاب كشف التمويهات في شرح التنبيهات" و كتاب "غاية الأمل في علم الجدل" وغير ذلك من الكتب فضلاً على كتاب "الإحكام في أصول الأحكام".
وأقام الآمدي في آخر حياته بدمشق مدرساً بالمدرسة العزيزية ثم ما لبث أن عزل منها وأقام بطالاً في بيته وتوفي على تلك الحال في رابع صفر يوم الثلاثاء سنة إحدى وثلاثين وستمائة ودفن بسفح جبل قاسيون بدمشق(1) -رحمه الله-.
-كتاب "الإحكام في أصول الأحكام": موضوعه وخطته:
__________
(1) وفيات الأعيان –ابن خلكان، ج3، ص294.(1/230)
أهم دافع يحفّز على قراءة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" قراءة دلالية، هو وضوح منهجه ودقة موضوعاته، وبسطه لقواعد لغوية وسنن كلامية وتعبيرية، تبدو فيه اللغة العربية منظومة دلالية في حاجة إلى الإحاطة بأسرارها ومعانيها وقدراتها على تحديد المعاني، تحديداً يتجاوز النص المكتوب إلى رؤية تأويلية تعطي لفحوى النص أبعاده الدلالية الخاصّة. وقد أشاد علماء كثيرون بقيمة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" وعدّوه أحد الأعمدة الأساسية التي أقامت علم أصول الفقه، علماً له قواعده وأصوله وطرائقه ومناهجه، فقد اعتبر ابن خلدون علم أصول الفقه من العلوم المستحدثة في الملّة وذكر علماء هذا الفن السابقين فقال: "وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون، كتاب البرهان لإمام الحرمين(1)، والمستصفى للغزالي وهما من أشعرية، وكتب (العمد) لعبد الجبّار وشرحه "المعتمد" لأبي الحسين البصري وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه ثمّ لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول، وسيف الدين الآمدي في كتاب الإحكام"(2).
__________
(1) المقدمة، ج2، ص554.
(2) إمام الحرمين هو عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي.(1/231)
كان مشروعنا الأول، هو دراسة أفكار الآمدي الدلالية من خلال كتبه أو على الأقل من خلال أهم كتبه التي بسط فيها هذه الأفكار، لكننا ما إن قطعنا بعض الخطوات في دراسة كتاب "الإحكام في أصول الأحكام" حتّى تبيّن لنا استحالة ذلك، وأدركنا أن ما جاء في هذا الكتاب وحده لا يمكن أن نفيَ بدراسته في هذا المقام فعدلنا عن الهدف الأوّل واقتصرنا على دراسة جهود الآمدي الدلالية من خلال كتابه الإحكام معتمدين على الطريقة الاستقرائية التي استندنا فيها على ما قررته الدراسات الدلالية والسيميائية الحديثة، وحاولنا إعادة قراءة ما كتبه الآمدي في الإحكام قراءة جديدة آخذين بعين الحذر صعوبة إجراء إسقاطات علمية منهجية لها مرجعيتها التاريخية والإبستيمولوجية، على فترة معرفية من فترات التراث العربي، واحتطنا على ذلك بإجراء مقاربات بين ما أرساه الآمدي من قواعد وسنن لغوية وضوابط دلالية وسيميائية تخصّ الخطاب اللغوي بتجلياته المختلفة، وبين ما تأسّس حديثاً من أفكار ونظريات سيميائية لدى بعض علماء السيمياء المحدثين.
لقد اعتمدنا في دراستنا حول جهود الآمدي الدلالية على كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" بتحقيق وشرح العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، ونسخة ذات طبعة ثانية بسنة 1402هـ الموافق لـ 1981م، هذه الطبعة التي نشرت في دار "المكتب الإسلامي" في أربعة أجزاء يضمّها مجلّدان، لكننا كنّا نرجع بين الفينة والأخرى إلى طبعتين أخريين هما: طبعة دار الكتب العلمية بشرح وتعليق الشيخ إبراهيم العجوز، وهي طبعة أولى بسنة 1402هـ الموافق 1985م. أما النسخة الثانية التي كنت أرجع إليها هي طبعة دار الكتاب العربي، بشرح وتحقيق الدكتور سيّد الجميلي في طبعة ثانية سنة 1406هـ الموافق
لـ 1986م.(1/232)
لقد رسم الآمدي في كتابه "الإحكام" المنهج والخطة الواضحة لبحثه بحيث يتخذ طرق النظر والملاحظة العميقة مع الجمع بين البحث في المبنى والمعنى كليهما، وفي ذلك تحديد مسبق لإطار الدراسة التي تهدف إلى الكشف عن أفكار الموضوع مادة البحث. ولا عجب في ذلك إذا علمنا أنّ الآمدي قد برع في السبر والتقسيم وتفريع المسائل، وكان أستاذاً يلقن قواعد البحث للمتعلمين وصاحب منهج في التدريس لم يعرف أحسن منه في عصره، بعد تبيانه لمكانة الأحكام الشرعية، والقضايا الفقهية وفضلها على مصالح العباد في الدنيا والدين وضّح الآمدي السبيل إلى استثمار ذلك فقال: "وحيث كان لا سبيل لاستثمارها دون النظر في مسالكها ولا مطمع في اقتناصها من غير التفات إلى مداركها. كان من اللازمات والقضايا الواجبات البحث في أغوارها والكشف عن أسرارها والإحاطة بمعانيها والمعرفة بمبانيها حتى تذلل طرق الاستثمار وينقاد جموع غامض الأفكار"(1). ثمّ إنّ تحديد الدلالات اللفظية يمرّ عبر معرفة الأحكام اللغوية في علم العربية كالحقيقة والمجاز وموضوعاتهما الفرعية، والتعميم والتخصيص وأدواتهما والإضمار والتنبيه والإطلاق والتقييد والمفهوم والمنطوق وغير ذلك ممّا يعد مدخلاً مهمّاً لاستنباط الأحكام وقاعدة ينطلق منها الأصولي من أجل إثبات حكم أو نفيه أو تأويله، يحدّد الآمدي أدوات البحث الأصولي فيحصرها في ثلاث: علم الكلام، وعلم العربية، والأحكام الشرعية فيشرح علم العربية فيقول: "أما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة، على معرفة موضوعاتها لغة، من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحذف والإضمار والمنطوق والمفهوم والاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وغيره ممّا لا يعرف في غير علم العربية"(2).
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ص3.
(2) المصدر السابق، ص8.(1/233)
إن المباحث اللغوية التي ذكرها الآمدي تعدّ مفاتيح ضرورية للولوج إلى المسالك المتعلقة بأصول الفقه الذي يتناول القرآن الكريم والسنة الصحيحة، كمادتين للبحث عن قواعد علمية موضوعية، لضبط دلالة نصوصهما ضبطاً لا يحتمل تأويلات قد تفقد النص دلالته التي تقف وراءها مصالح أمّة بأسرها، أو ضرورة من الضرورات الشرعية. ولذلك كان لزاماً التحقق من الأدلة الفقهية ودلالاتها وموقع المستدل بها، يقول الآمدي شارحاً ذلك: "فأصول الفقه هي أدلة الفقه وجهات دلالاتها على الأحكام الشرعية وكيفية حال المستدل بها"(1). وهو بذلك كأنه يشير إلى علم الدلالة الحديث الذي يقتضي وجود أدلة لغوية وغير لغوية ودلالات الأدلة ثم مراعاة حال المتكلم ومقامه وحال المخاطب وموقعه.
لقد نصّ الآمدي في مقدمة كتابه على دواعي تأليفه "للإحكام" بحيث جعله خاصاً بالملك المعظم شرف الدين بن أيوب ملك دمشق وأهداه إليه وجعل كتابه هذا "حاوياً لجميع مقاصد قواعد الأصول، مشتملاً على حل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول، متجنباً للإسهاب وغث الأطناب مميطاً للقشر عن اللباب ... "(2) وقد حدّد الآمدي مسائل هذا الكتاب وقسمها إلى أربع:
- المسألة الأولى: في مفهوم أصول الفقه ومبادئه وموضوعه وغاياته تناول فيه المبادئ الكلامية واللغوية، وأقسام اللفظ ودلالاته، كما بحث موضوع الحقيقة والمجاز والفعل وأقسامه والحرف وأصنافه وعرض لنشأة اللغة وأصلها.
- المسألة الثانية: في مفهوم الدليل الشرعي وأقسامه وما يتعلق به من أحكام، فبحث مسائل شرعية مختلفة تخصّ الكتاب الكريم والسنة المطهرة بالخصوص فبحث الخبر، والخطاب وأقسامه فعرض للأمر والنهي وبسط القول فيهما، كما تناول موضوع العموم والخصوص وأدلة التعميم والتخصيص، كما أسهب القول في الإطلاق والتقييد والإجمال والإضمار والتأويل.
__________
(1) المصدر نفسه، ص7.
(2) المصدر نفسه، ص4.(1/234)
- المسألة الثالثة: في أحكام المجتهدين وأحوال المفتين والمستفتين.
- المسألة الرابعة: في الترجيحات الواقعة بين الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصوّرية والحدود الموصلة إلى التصديقات، تحدث فيها كذلك عن القياس والاجتهاد.
2-العلامة اللسانية أنماطها وأنساقها الدلالية عند الآمدي:
لقد خصص الآمدي في كتابه "الإحكام" مجالاً واسعاً، تناول من خلاله ما يصطلح على تسميته في الدرس الدلالي الحديث بأنماط العلامة اللسانية من خلال البناء الصوري منها وبنائها المفهومي فبحث الأشكال التي تتمظهر فيها العلامة اللسانية ضمن نمطية تخضع لإطراد مفهومي تحدده معايير لغوية من ذلك تناوله للفظ المطلق واللفظ المقيد واللفظ المجمل وما إلى ذلك مما سيرد الكلام عنه، كما قدم الآمدي تحليلاً مستوفياً لقضية أثارها الدرس اللساني الحديث على يد العالم اللغوي دي سوسير، ونعني بها اعتباطية العلامة اللسانية، وقد تناول ذلك الآمدي في إطار بحثه حول نشأة اللغة، وقد أبان فيه عن قدرة كبيرة على التصنيف والتحليل خاصة في تحديده للأنساق الدلالية أو العلاقات الدلالية التي تربط الدال بمدلوله، أو الدول ببعضها البعض أو المدلولات مما يعرف بالحقول الدلالية.
أنماط العلامة اللسانية:(1/235)
يتخذ الآمدي في تحديده لأنواع العلامة اللسانية مسلكين اثنين: مسلك صوري ومسلك مفهومي يقول في تعيين اللفظ المطلق: "أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"(1). إن اللفظ المطلق الذي يغطي حقلاً من الألفاظ تتحدد صورته نحوياً، فهو نكرة في سياق الإثبات من ذلك قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة). هذا من ناحية القيود الشكلية، أما من ناحية القيود المفهومية فاللفظ المطلق يدل على اشتراك غير محدد في الدلالة بينه وبين حقل من المدلولات، فالآمدي يأخذ في الاعتبار مظهرين متكاملين لكل مدلول في الحقل المفهومي، المظهر الأول يظهر من خلال العلاقة الحتمية التي تربطه بالدال وهذه العلاقة تسجل مكان الدال إلا أنها لا تسمح لنا بتحديده بكيفية إيجابية. والمظهر الثاني يقوم على علاقة هذا المدلول بكل المدلولات الأخرى داخل منظومة العلامات، فكل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور تغطيها صورة اللفظ المطلق، وموقعه من حقل مدلولاته هو موقع اللكسيم الرئيسي في الحقول الدلالية كما صنفها علماء الدلالة المحدثون، ويمكن أن نجد تقاسيم مشتركة بين اللفظ المطلق وبين اللفظ العام واللفظ الكلي، بحيث يكمن الإلتقاء بينها في اتساع مجال إرجاع كل منها، وفي مقابل اللفظ المطلق يأتي اللفظ المقيد وفيه تتحقق الوظيفة الإرجاعية بحيث يعين اللفظ مرجعاً محدداً في عالم الأعيان والأذهان، وهذا التعيين يرتكز على أساسين اثنين: أولهما تعيين أسماء العلم(2) التي لها مرجع واحد محدد لا أكثر وقد تقوم (السابقة) (prefixe) بالدور الحاسم في تحديد المرجع تحديداً لها يترك معه مجالاً للبس مثل قولنا: هذا الرجل، وهذه المرأة، وذلك المكان وما إلى ذلك.
__________
(1) المصدر نفسه- ج3. ص3.
(2) انظر فعل مباحث علم الدلالة الحديث: الدال والمدلول: ص42.(1/236)
وثاني الأساسين هو التعيين بالصفة وهذا ما بحثه العالم اللساني (pierre leriat) في كتابه(1) حيث يقول: التعيين "هو عملية مرتبطة بالكلام ترتكز على تعيين أشياء (خارج النظام اللغوي، قد تكون حسية أو مجردة، مادية أو تحليلية)، نسمي الإرجاع الوظيفة التعيينية والمرجع الشيء المعين الذي قد يكون شيئاً مادياً أو مفهوماً مجرداً. وقد أحصى الآمدي طرق تقييد المطلق فذكر منها التعيين باسم العلم والتعيين بصفة زائدة يقول موضحاً ذلك: "وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين:
الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو، وهذا الرجل ونحوه.
الثاني: ما كان من الألفاظ دالاً على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي، وهذا النوع من المقيد. وإن كان مطلقاً في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي.
غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه"(2). وفي هذا الموضع يجري الآمدي تقاطعاً تمييزياً بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد، فالمطلق قد تضيق دلالاته فيضحي مقيداً إلا أن اللفظ المقيد قد يقع بين الإطلاق والتقييد كما بين ذلك الآمدي من الأمثلة التي ساقها آنفاً، ولا يأخذ صاحب الإحكام مفهوم الإطلاق أو التقييد قاصراً إياه على الصيغة المعجمية فحسب، بل ويتناوله في سياقات التركيب المختلفة ولذلك يطرح إشكالات نوعية منها إذا وجدت جملتان قد ورد في إحداهما لفظ مطلق وفي الثانية لفظ مقيد من جنس واحد، هل يجوز إلحاق المطلق بالمقيد أو العكس؟.
يستند الآمدي في حل هذا الإشكال على اتحاد السبب واختلافه بين جملة الإطلاق وجملة التقييد، فإذا اتحد السبب كان الإلحاق وإذا اختلف السبب فالنظر إلى العلة الموجبة للإلحاق وإلا لا يلحق مطلق بمقيد.
__________
(1) Semantique descriptive, p65-66.
(2) الإحكام في أصول الأحكام. ج3. ص4.(1/237)
يشرح ذلك في قوله: "العهدة على اتحاد السبب واختلافه فإذا اتحد السبب فلا خلاف في إلحاق المطلق بالمقيد كما لو جاء في الظهار: "اعتقوا رقبة" ثم جاء "اعتقوا رقبة مؤمنة". أما إذا اختلف السبب فالنظر حينئذٍ إلى العلة الموجبة للإلحاق وإلا فلا ينزل المطلق منزلة المقيد كما لو جاء في الإظهار قولهم: "فتحرير رقبة" وفي القتل الخطأ: "فتحرير رقبة مؤمنة(1). إن ما أثاره الآمدي في موضوع اللفظ المطلق يمكن فهمه على ضوء ما حدده (ليونز) (j. Lyons) في مناقشة العلاقة بين التعيين denotation والإرجاع Reference(2).
فإذا كان اللفظ المطلق يحدد حقلاً معجمياً مفتوحاً وغير محصور، فإن التعيين هو العلاقة القائمة بين وحدة معجمية وما تعينه خارج النظام اللغوي من أشياء أو أشخاص أو غير ذلك، ولنسق لذلك مثل كلمة (رجل) فإنها تشرف على حقل غير محصور من جنس معين له سمات ومميزات مخصوصة وإذا كان لكل كلمة تعيينها فإن ذلك يحدد إرجاعها، إلا أن الإرجاع مرتبط أساساً بتسييق الوحدة المعجمية وهذا ما يكاد يكون سمة عامة عند الآمدي الذي يأخذ الصيغة المعجمية غالباً، داخل سياقات مختلفة لأن ذلك هو التعيين الأساسي لدلالتها.
__________
(1) المصدر السابق. ج3.ص5.
(2) انظر –التعيين والتضمين في علم الدلالة- (د. جوزيف شريم)- مجلة الفكر المعاصر، عدد 18/19 سنة 1982. ص72-73.(1/238)
إذا ورد لفظ دال على معنيين أو أكثر ويتعين كلاهما عند إطلاقه، فهو اللفظ المشترك ويدخل في باب المشترك اللفظي، أو ما سماه الآمدي باللفظ المجمل، يقول في تعريفه: "المجمل ماله دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"(1). وهذا التصنيف للدوال، يرتكز أساساً على المدلول المتعدد كقولهم: العين: للذهب وللشمس ولمورد الماء، وإذا ورد هذا اللفظ في سياق عام لم يتعين أحد هذه المدلولات مثل قولنا: "رأيت العين". فلفظ "العين" يطرح في هذا السياق إشكالاً دلالياً وهو ما رصده الآمدي في تسجيل ذلك التردد في إنزال اللفظ على أحد المدلولين بسبب التردد في عود الضمير، أو بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء، وجمع الصفات أو بسبب الوقف والابتداء أو بسبب تردد الصفة أو تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته فقولك: "كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه "فإن الضمير (هو) متردد بين العود إلى الفقيه أو ما علمه الفقيه، وتعدد هذه القضايا اللغوية من المسائل التي أثارها علماء الدلالة المحدثون، يسجل ذلك الدكتور الفاسي الفهري فيقول: "إختيار مفهوم ملائم من بين لائحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ المشترك يتطلب مجهوداً معرفياً خاصاً ويتسبب أحياناً في أخطاء(2) ولكن كيف يرفع اللبس الدلالي ويتعين مفهوم واحد من جملة المفاهيم التي يحتوي عليها المعجم الذهني، حول لفظ (العين) في المثال السابق يقول الآمدي: "والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال: والإجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الإجمال منتفياً عند قول القائل: "رأيت دابة" لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال وإن كان على خلاف الوضع الأصلي"(3)
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص10.
(2) اللسانيات واللغة العربية. ج. ص372.
(3) الإحكام في أصول الأحكام..(1/239)
فالآمدي يحدد منفذين لتعيين مفهوم ملائم من جملة لائحة من المدلولات يختزنها المعجم الذهني وهما: الوضع الأصلي وحقيقة اللفظ أما الثاني هو عرف الاستعمال، إذ اللفظ قد اكتسب عبر السياق اللغوي وقوعاً خاصاً، لأنه أضحى بؤرة لتجميع كل حيثيات المقام الذي يستعمل فيه.
يقول الدكتور الفاسي الفهري محدداً طرق رفع اللبس عن اللفظ المجمل وتعيين مدلول واحد له: "ويقع رفع الإلتباس عن طريق السياق اللغوي المباشر أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس"(1). ولكن رغم تسييق الصيغة المعجمية، أو بالنظر إلى إطارها التواصلي، فإن اللبس قد لا يرفع وهذا ما كان يشكل نقطة الخلاف بين جمهور علماء الأصول في تأويل النصوص القرآنية المتشابهة التي يحمل فيها اللفظ أكثر من مدلول واحد، ولذلك دأب علماء الدلالة المحدثون يبلورون مشروعاً يقضي بأن يكون لكل لفظ معنى نواة، وذلك بالرجوع إلى حقيقة الوضع الأصلي الذي أنتج فيه تعدد المدلولات حول الدال الواحد، ولذلك نرى الآمدي يسوق الشاهد ويردفه بتأويل اللفظ المشترك، ففي قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء). يقول العلماء: القرء هو الحيض أو الطهر، وقد ترتب عن ذلك الاختلاف في تحديد مدلول واحد للفظ (القرء) اختلاف بين علماء الأصول محل تحديد مدة مكوث المرأة المطلقة معتّدة.
__________
(1) اللسانيات واللغة العربية، ص372.(1/240)
ومع ذلك عَدّ بعض اللغويين المحدثين تعدد مفاهيم اللفظ الواحد دليلاً على حيوية اللغة، لأن اللفظ أحادي المدلول قد يرهق الجهد الذاكري، يقول الدكتور الفاسي في ذلك: "وعليه يكون تعدد المعاني دليلاً على حيوية اللغة ورواجها فكيف يمكن أن ننادي بتركه لفائدة أحادية المعنى؟ علماً بأن أحادية المعنى لا يمكن أن تقوم إلا بتحجير اللغة والقضاء على حركيتها، أي قتلها، وعلماً كذلك بأن المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم"(1). وعموماً فإن لتعيين المدلول الرئيسي للفظ المجمل أو المشترك، هو في حاجة إلى مزيد من الوعي اللغوي بحيث لا يلزم من تحديد مدلوله النواة، تعطيل لمطاطية الألفاظ داخل النظام اللغوي التي هي طبيعة كل عناصر اللغات التي تنزع نحو التجدد والتغير والتكيف مع الأوضاع المستجدة، وإن كان الغالب من العناصر اللغوية هي المفيدة لمدلول واحد نواة. ومن جهة ثانية فإن محاولة إثارة قضايا تخص الدلالة من قبل الآمدي، تؤخذ على أنها وعي لغوي بأهمية الآليات الذاتية للجملة العربية، معتمداً في ذلك سبيل تفكيك عناصرها، والوقوف على بؤرة الفعل الدلالي فيها، وذلك قصد استنباط قواعد عامة تصلح لأن تكون قوانين مطردة، لفهم كل الجمل وإمكانية إعادة الكتابة.
إن الإشكال الدلالي الذي يكتنف السياق اللغوي يمكن حله بصيغ التوضيح والتأويل، تلك الصيغ أطلق عليها الآمدي مصطلح "البيان". وهو لا يخرج في مفهومه عن الدليل الذي يفضي إلى العلم أو الظن.
__________
(1) المرجع السابق، ص374.(1/241)
يقول الآمدي معرفاً "البيان": أما البيان فاعلم أنه لما كان متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم، وكان ذلك مما يتوقف على الدليل، والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل ولم يخرج البيان عن التعريف، والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل"(1). ورغم أن الدليل لا يوصل إلى العلم اليقيني بل إلى الظن، يبقى في عرف الآمدي بياناً، لأنه يعتقد أن الظن هو في حد ذاته مطلوب خبري يترتب عليه دلالة خاصة ليست هي بالتأكيد دلالة القطع واليقين، وللبيان صيغ متعددة قد تكون حسية أو عقلية أو شرعية أو عرفية، بل إن السكوت يعد بياناً إذ يقول الآمدي: "فحد البيان ما هو حد الدليل( ... ) ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل "إلى غير ذلك".(2) فإذا اتضح مفهوم البيان وصيغته التي قد تكون صيغاً لغوية أو غير لغوية، فهل كل سياق لغوي في حاجة إلى بيان أم أن هناك سياقات مخصوصة لذلك؟ إن السياق اللغوي لا يخلو إما أن يكون واضح الدلالة، أو حد المعنى، معين المدلول، فهو في طبيعته التركيبية والدلالية مبيَّن، أو يكون السياق اللغوي مجمل المعنى، عام اللفظ، مطلق الدلالة فهو يحتاج لإظهار دلالته وتعيينها إلى صيغ البيان، وقد بُحث موضوع "البيان" في الدرس اللغوي الحديث تحت مصطلح التأويل الذي عُدّ البحث في لغة اللغات، أي فيما يجعل منظومات الرموز مؤسسة بالنسبة للمتكلم والمخاطب، للكاتب والقارئ، والتأسيس هنا يعني إقامة الروابط الطبيعية والبيئية بين الخطاب وسياقه الحيوي من اجتماعي وانثربولوجي وذاتي"(3).
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص25.
(2) المصدر السابق ج3، ص26.
(3) استراتيجية التسمية، التأويل وسؤال التراث، مطاع الصفدي، ص4، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30-31 سنة 1984.(1/242)
إن ذلك النص الذي يحتاج إلى بيان أو تأويل لمنظومات رموزه، وكشف القناع عن سياقه الحيوي سماه الآمدي "المبيَّن" الذي يحتوي على بؤرة فاعلة في تركيبه تعطّل مفهوم دلالته الكلية يقول الآمدي شارحاً ذلك: "وأما المبيَّن فقد يطلق. ويراد به ما كان من الخطاب المبتدئ المستغني بنفسه عن بيان، وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه، وذلك كاللفظ المجمل إذا بيّن المراد منه، والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترنت به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك"(1) ولعل أهم كاتب خص البيان بشرح مستوف لجوانبه هو بلا ريب "الجاحظ" الذي عاش في حدود القرن الثاني الهجري، يقول الجاحظ معرفاً البيان: "والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت على المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(2).
__________
(1) الإحكام، ج3، ص26.
(2) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص82.(1/243)
والظاهر أن الآمدي قد حصل مفهوم البيان من تعريف الجاحظ ذلك أنه ليس هناك كبير اختلاف بين التعريفين، إلا أن الآمدي كان أعمق بيان من الجاحظ ذلك لربطه بين البيان كأداة لتأويل الدلالة، ووضوح المدلول وتعيينه، وعموم مصطلح البيان لدلالتي العلم والظن معاً، لأن حاصل البيان قد يكون علماً وقد يكون ظناً، أما الجاحظ فالغاية عنده من البيان هو الفهم والإفهام بأي شيء حصل ذلك، ولعل مرد التباين بين العالمين إلى مادة تطبيق كل منهما، فالآمدي إذا كان قد اتخذ من نصوص القرآن والأحاديث الشريفة مادة لتطبيقاته اللغوية ولاستنباط القواعد والسنن المطردة في كل خطاب لغوي عربي، فإن الجاحظ يكاد يقصر مفاهيمه اللغوية على كلام العرب وما فيه من عيّ وفصيح، وضرورة تحقيق غاية الفهم والإفهام من الخطاب اللغوي، على نقيض الآمدي، والأصوليين بصفة عامة، الذين تعارفوا على وجود دلالات مختلفة منها: الدلالة القطعية والدلالة الظنية.(1/244)
إن المبيَّن يتفاوت إجماله وإيهامه، فهو ليس على درجة واحدة، وتبعاً لذلك فإن البيان وجب أن يجانس المبيَّن ولقد أوضح الآمدي هذه المسألة وأظهر أن البيان لا يخلو من أحد المظهرين: إما أن يكون أقوى دلالة من المبيَّن أو أدنى دلالة منه، إما أن يتساويا في ذلك فهو ممتنع يقول في ذلك: "إن كان المبيَّن مجملاً، كفى في تعيين أحد احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو مطلقاً، فلابد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص ودلالة المطلق على صورة التقييد"(1). فالبيان يكون أدنى من المبيّن إذا كان المبيّن مجملاً وذلك في تحديد أحد مدلولاته من ضمن لائحة قد تطول من المدلولات، أما إذا كان المبيّن مطلقاً فالبيان يكون أقوى منه في الدلالة على التقييد وإذا كان المبيّن عاماً كذلك في دلالة البيان عن التخصيص. إن هذا التدقيق في رفع العموم المطلق أو الإجمال القائم في دلالة الخطاب اللغوي يدل على عمق التحليل الذي وسم تفكير الآمدي بسعيه إلى تأسيس قواعد شاملة بناء على ملاحظات تشمل البنية اللسانية وعلاقتها بالبنية الدلالية، وما يجب التنبيه عليه هو أن الآمدي يجعل غايته دائماً في أي تحليل لساني لبنية الجملة أو النص، هو طبيعة وهيئة الدلالة لأنها مدار الأمر كله في منظومة الاتصال والإبلاغ.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص31.(1/245)
إن حاجة "اللغة" إلى بيان حاجة لا تعود إلى ذات المتكلم فحسب بل إلى قدرة المتلقي على تفكيك رسالة الخطاب. ولذلك عد الآمدي الخطاب المجمل غير صالح للتواصل والإبلاغ لأنه بمثابة لغة تخص المتكلم أنشأها بنفسه. يقول الآمدي في ذلك: "إنه لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان"(1). ثم إن غاية الخطاب هو إيصال دلالة الرسالة إلى المتلقي وبذلك تحصل الفائدة من الإبلاغ، أما وأن يترك الخطاب المجمل دون بيان فسماه الآمدي لغواً، لأنه قصور عن نقل المدركات الذهنية إلى من نريد إبلاغهم بذلك، وقد حدّد العلماء القول الشارح لغاية إفادة المخاطب بتصور مفرد أو لتمييز متشابه، حملوا الباث تبعة الشرح والتعريف.(2)
إن حصول الفائدة من الخطاب متعلقة بتحقيق الفهم من خلال المضمون الدلالي المحمول في سياق الخطاب، أما إذا تعذر الفهم لم تحصل الفائدة وكان الخطاب لغواً يقول الآمدي مبيناً ذلك: "إنما المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم، والمجمل الذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم، فلا يكون مفيداً ومالا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به لكونه لغواً.(3).
__________
(1) المصدر السابق: ج3 ص45.
(2) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ضوابط المعرفة وأصول الإستدلال والمناظرة. ص62.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص52(1/246)
إن من تقسيمات الآمدي للألفاظ، قسماً سماه "اللفظ الظاهر" وهو اللفظ الواضح المعنى المنكشف الدلالة وهو الدال دلالة حقيقية أصلية، أو جعلَه العرف اللغوي ذا دلالة أصلية راجحة يقول الآمدي في تعريفه لهذا اللفظ: "اللفظ الظاهر ما دل على المعنى بالوضع الأصلي أو العرفي، ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً(1). إن دلالة اللفظ الظاهر مفتوحة على التأويل المرجوح بدليل، وبالنظر إلى دلالة الظاهر الأصلية أو العرفية، يتأرجح اللفظ بينهما مع احتماله الدلالة على معنى آخر يسنده دليل، ويتمصرف اللفظ إلى مدلوله غير الظاهر بتأويل مقبول، يتراوح بين القوة والضعف بحسب طبيعة اللفظ، ويضطلع بالتأويل متلق مثالي له القدرة على تفكيك بنية الخطاب، والوقوف على بنية الدلالة العميقة متمكناً من تحديد طبيعة الظاهر من الألفاظ، وما يناسبه من التأويل قوة أو ضعفاً وما يوافقه من الدليل الكاشف عن مدلوله الراجح. ففي قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فلفظ "الفقراء" لفظ ظاهر، وتأويله هو الاقتصار على البعض من الفقراء دون الكل، لأن الهدف هو رفع حاجة هؤلاء البعض في توفير الصدقة لهم وكذلك الأمر بالنسبة للفظ "المساكين". إن اللفظ الظاهر لا يحوّل من مدلوله بوجود قرينة صارفة إلا إذا كان في سياق لغوي، ويعني ذلك أن اللفظ قد اكتسب دلالات هامشية إضافية عن مدلوله، وهو ما تنص عليه المباحث اللسانية الحديثة التي تجمع أن لا معنى للكلمة خارج سياقها اللغوي(2).
__________
(1) المصدر السابق، ج3. ص52.
(2) Element de linguistique generale, Andre Martine, P.65..(1/247)
فاللفظ الظاهر على أساس ذلك، لا يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي وإنما الدلالة المقصودة تأتي من سياقه، ويبقى في أمر استجابة المتلقي للخطاب المتضمن لصيغ من اللفظ الظاهر أن يكون على وعي أن الأصل في اللفظ عدم صرفه عن ظاهر إلا إذا اقتضى ذلك دليل راجع باحتماله التأويل وإرادة معناه غير الحقيقي، من ذلك إذا كان اللفظ الظاهر حقيقة يحتمل أن يراد به المعنى المجازي، وإذا كان عاماً يحتمل التخصيص، وإذا كان مطلقاً يحتمل التقييد وغير ذلك من وجوه التأويل في حقل أصول الفقه.(1/248)
إنما هو حري بأن يشار إليه بعد هذه التفريعات لحقل الأدلة اللغوية، أن هذا الإنجاز يعد كسباً مرحلياً في مسار التحوّل المنهجي للنظرية الدلالية، إذ بلغ الآمدي الغاية في وضع الحدود وحصر المفارقات الدلالية القائمة على أساس سبر عميق لبنية الخطاب لاسكتناه حقيقة البنية الدلالية، إذ الوصول إلى حصر سمات تمييزية بين خطاب وآخر يدل على أنه ثمة إمكانية منهجية، لإرساء قواعد علمية تغدو نموذجاً متكاملاً لضبط آليات الأحداث الكلامية بالوقوف على ما يشكل نسقها السياقي العام الذي ينتظم العناصر اللسانية في الخطاب الإبلاغي على وجه التحديد. إن ما أنهى الآمدي به كتابه "الإحكام" هو مبحثه في المفاضلة بين التعاريف الموصلة إلى كشف المعنى عن المبيَّن باعتماد معايير موضوعية، ضمن المقاييس التي تعطي للحد المعرف صفة الشمولية المقرونة بالعمق في التعريف أن يكون الحد: "مشتملاً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعارة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة،" بل أن يكون الحد مشاكلاً للمعرف بطريق المطابقة أو التضمن ( ... ) فهو أولى لكونه أقرب من الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب، ولتحقيقه لغاية الإبلاغ وهو حصول الإفهام بلا زيادة ولا نقصان(1). إن القيمة التفسيرية للتعريف، تستمد بعدها الدلالي من الحد المعرف حتى يغدو التعريف والمعرف، ثنائية ترسم مجالاً دلالياً يحصل فيه امتداد المعنى، لكنه امتداد يحتفظ بنفس متصورات الخطاب الذاتية مع تحول حتمي في النسق البنيوي للمداخل المعجمية، التي تشكل الخطاب المطلوب تفسيره وتأويله.
__________
(1) انظر الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص282(1/249)
إن الغرض المتوخى من إدراج الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية ضمن الاهتمام الدلالي عند الآمدي، هو محاولة تأسيس رؤية نظرية قادرة على إيجاد كل التفسيرات لمستويات الخطاب، فيغدو بذلك الآمدي بمرتكزاته المعرفية حول اللسان العربي، أحد المؤسسين لنظرية لسانية تخص اللغة العربية التي تأخذ في ثنائية متلازمة، كل حيثيات الإنتاج اللغوي بدءاً بماهية الحدث الدلالي، وانتقالاً إلى فاعل الدلالة وقدراته الذاتية الكامنة وانتهاء عند متلقي الرسالة الإبلاغية وموقعه النفسي والاجتماعي والثقافي، هذه الثنائية المتلازمة التي نلخصها في مباحث الآمدي، طرفها الجانب المعرفي النظري الذي يؤسس لنظرية لغوية منطلقاتها- غالبه النص القرآني بأنظمته الخطابية وسننه في الإبلاغ، وطرفها الآخر التطبيق الإجرائي الذي يسعى إلى إخراج القاعدة اللغوية من حيز التنظيم والتجريد إلى حيز التطبيق والتمثيل، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل. ومن هنا تتبدى أهمية الضوابط الحاصرة لانتظام العناصر اللسانية الدالة في الخطاب، فنلقى السياق اللغوي ليس على درجة واحدة من وضوح الإحالة المرجعية، إّذ قد يتعطل الإرجاع لوجود خلل في متن الخطاب فتتحدد الدلالات ببروز المجال المرجعي وذلك بانتقاء عناصر استبدال تلغي عناصر الخطاب الآخر، أو تقوم بكتابتها بنمط مغاير لأنها قصُرت عن إيصال الدلالة، وذلك ما أفاض الآمدي الحديث حوله في مجال البيان والتأويل والتعريف ...
3-اعتباطية الدليل اللساني:(1/250)
في مبحث "مبدأ اللغات وطرق معرفتها" يتناول الآمدي قضية لغوية كانت مدار جدل كبير بين العلماء في عصره، بل وفي تاريخ البشرية الطويل، وقد أعيد تناول هذه القضية مع اللغوي فرديناند دي سوسير في العصر الحديث، وهي قضية علاقة الدال بمدلوله، أو الاسم بمسماه هل تعود إلى مناسبة طبيعية أم هي غير معلَّلة؟ انبثقت عن هذا الموضوع مواضيع فرعية أبرزت من خلالها جوانب مهمة في اللغة، وقد ذهب دي سوسير إلى اعتبار العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية، كيفية، لأن الدال لا يستمد معناه وقيمته الدلالية من بنيته الصوتية. وقد جمع سويسر الدال والمدلول في مصطلح واحد سماه "الدليل اللساني. (Le signe l,inguistique)(1).
__________
(1) انظر فصل الدال والمدلول في المباحث الدلالية الحديثة. ص42.(1/251)
أما الآمدي فقد سار على منهج علمي، عرض في /أوله لآراء/ العلماء حول مسألة العلاقة بين الدال والمدلول، وسَاق أدلتهم في ذلك، منهم المعتزلة الذين اعتبروا العلاقة بين الدال والمدلول علاقة طبيعية أي ليست اعتباطية، فالمدلول في رأيهم يستدعي دالاً يناسبه ويشاكله ولا يستدعي دالاً آخر. يقول الآمدي عارضاً هذا الرأي: "ذهب أرباب علم التكسير وبعض المعتزلة إلى ذلك، مصيراً منهم إلى أنه لو لم يكن بين اللفظ ومعناه مناسبة طبيعية، لما كان اختصاص ذلك المعنى بذلك اللفظ أولى من غيره. ويرى الآمدي غير ما رآه المعتزلة، ومن ذهب مذهبهم من العلماء، إذ لا يعتبر العلة التي استند عليها المعتزلة وغيرهم في القول باعتباطية الدليل اللساني قوية، ذلك أن الوضع الأول لما ربط اللفظ بمعناه كان يمكن أن يختار لفظاً آخر أو نقيضه، بدليل وجود المشترك اللفظي في اللغة كلفظ الجون الذي يدل على اللون الأبيض والأسود، ولفظ القرء الذي يعني الحيض والطهر وغيرها من الألفاظ، فلا مناسبة طبيعة بين طرفي الدليل اللساني، وإنما اتصل الدال بمدلوله لغرض من الأغراض المخصوصة وليست لعلة ذاتية. يقول الآمدي موضحاً ذلك: "فإننا نعلم أن الواضع في ابتداء الوضع، لو وضع لفظ الوجود على العدم والعدم على الوجود، واسم كل ضد على مقابله لما كان ممتنعاً كيف وقد وضع ذلك كما في اسم الجون والقرء، ونحوه، والإسم الواحد لا يكون مناسباً لطبيعة الشيء ولعدمه، وحيث خصص الواضع بعض الألفاظ ببعض المدلولات إنما كان ذلك نظراً إلى الإرادة المخصصة"(1). وإذا ثبت عند الآمدي أن القول باعتباطية الدليل اللساني متمتع بالتعليل الذي تقدم به، فالقول بالوضع الاختياري يبدو مناسباً لوصف العلاقة غير المعللة بين وجهي "الإشارة اللغوية"، وذلك بما يتوفر من الشواهد النقلية خاصة التي استند عليها أصحاب هذا المذهب.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام ج1. ص73.(1/252)
يقول الآمدي: "وإذا بطلت المناسبة الطبيعية وظهر أن مستند تخصيص بعض الألفاظ ببعض المعاني إنما هو الوضع الاختياري فقد يختلف الأصوليون فيه"(1). فإذا لم يكن الوضع اللغوي قد أخضع اللفظ لمعناه لمناسبة طبيعية بينهما، فمن أين جاءت العلاقة بين الدال والمدلول؟ وكيف ارتبط الدال بمدلوله ولم يرتبط بمدلول آخر؟ هذه الأسئلة تعتبر إشكالات أساسية طرحها الدرس التراثي الذي حاول فيه العلماء تخصيص العلاقة بين الدال ومدلوله، أو بين صورة اللفظ ومعناه. فالرأي الأول يمثله الأشاعرة والظاهرية وجماعة من الفقهاء الذين أرجعوا طبيعة العلاقة الدلالية بين اللفظ ومعناه إلى التوقيف الإلهي الذي كان بالوحي المباشر، مع تضمين الكتاب المنزل ألفاظاً ذات دلالات، أو بأن يخلق في الناس الاستعداد الذاتي لمعرفة أن هذه الأصوات والحروف خلقت للدلالة على تلك المعاني، واستند أصحاب هذا الرأي على آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا. إنك أنت العليم الحكيم). قالوا: "دل على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم الله، ومنها قوله تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم)(2)
__________
(1) المصدر السابق ج1 ص74- 75.
(2) المصدر نفسه ج1 ص74..(1/253)
بينما يمثل الرأي الثاني فرقة البهشمية وبعض المتكلمين الذين اعتبروا أن لا علاقة دلالية قائمة بين طرفي الدليل اللساني وإنما العلاقة حدثت لاصطلاح بين أهل اللغة ولأغراض ودواع ثم حصل توسيع في الاستعمال، يقدم الآمدي رأي البهشمية ولبعض المتكلمين الذين اعتبروا اللغة إحدى أهم وسائل التواصل، مشيرين إلى وجود أدوات أخرى للتواصل والإبلاغ وهي الإشارات والرموز، ومؤكدين أن القول بالتوقيف اللغوي غير صحيح، لأن اللغة سابقة على الوحي يقول الآمدي: "وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم، وأن واحد أو جماعة انبعثت داعيته أو دواعيهم، إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها ثم حصل تعريف الباحثين بالإشارة والتكرار، كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة والتكرار مرة بعد أخرى، محتجين على ذلك بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) وهذا دليل على تقدم اللغة على البعثة والوحي.(1).
__________
(1) المصدر نفسه ج1 ص75.(1/254)
ويعرض الآمدي لرأي القاضي أبي بكر ليجمع بين القول بوجود علاقة طبيعية بين الدال والمدلول وبعدم وجود تلك العلاقة، ذلك أن تعيين الاصطلاح دون التوقيف أو العكس، لا يسنده دليل قاطع قوي فيقول الآمدي باسطاً رأي أبي بكر القاضي: "وذهب القاضي أبو بكر وغيره من أهل التحقيق إلى أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن، بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته وأما وقوع البعض دون البعض فليس عليه دليل قاطع، والظنون فمتعارضة يمتنع معها المصير إلى التعيين"(1). وقد يرجح الآمدي بعض هذه المذاهب لقوة حجتها بالنسبة للمذاهب الأخرى، كما ذهب إلى الميل إلى رأي الأشعري القائل بالتوقيف بينما نراه يعلن عن رجاحة مذهب القاضي أبي بكر حيث يقول: "والحق أن يقال إن كان المطلوب في هذه المسألة يقين الوقوع لبعض هذه المذاهب، فالحق ما قاله القاضي أبو بكر إذ لا يقين من شيء منها"(2). ويدحض الآمدي آراء من قالوا بالتوقيف، مؤوّلاً النصوص القرآنية التي استندوا عليها من ذلك تأويله (العلم) الوارد في قوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها"(3). بالإلهام. يقول شارحاً ذلك: "وليس تأويلها بالحمل على اللغات أولى من تأويلها بالحمل على الإقدار على اللغات، كيف وإن التوقيف يتوقف على معرفة كون تلك الألفاظ دالة على تلك المعاني وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك الألفاظ"(4).
__________
(1) المصدر نفسه ج1 ص75.
(2) المصدر نفسه الصفحة نفسها.
(3) فقد تعرض الجاحظ لتأويل هذه الآية حيث ساق أقوال العلماء في القول بعرفية العلاقة الدلالية انظر ذلك من المبحث ص98.
(4) المصدر نفسه ج1 ص76.(1/255)
فالآمدي ينص صراحة على وجود كفاية في ذات الإنسان، ذلك أن متكلم اللغة، أي لغة، مزود مسبقاً بقواعد ذهنية تحدد له عوالم دلالية وتخول له إنتاج جمل وتراكيب لم يتعلمها من قبل، وهو ما جعله تشومسكي دعامة لنظريته في النحو التوليدي(1). في حديث عن الأداء اللغوي (competence) والكفاية اللغوية (Perfomance) التي عبر عنها الآمدي (بالإقدار على اللغات) ونظراً لقوة نزوح العلماء إلى الدليل القرآني، نرى الآمدي في نهاية باب البحث في أصل اللغات، يميل إلى القول بالعلاقة الطبيعية بين الدال والمدلول وذلك لاعتبار اللغة توقيفية معلوم توقيفها إما بالوحي أو بخلق اللغات بخلق الاستعداد الفطري. لمعرفة أن ذلك اللفظ وضع لذلك المعنى. يقول الآمدي: "بل جاز أن يكون أصل التوقيف معلوماً، إما بالوحي من غير واسطة، وإما بخلق اللغات، وخلق العلم الضروري للسامعين بأن واضعاً وضعها لتلك المعاني"(2).
4-الأنساق الدلالية (أنواع العلاقات وأقسامها):
لقد بحث الدرس الدلالي الحديث، أنواع الدلالات واعتمد في سبيل تصنيفها على معايير تخضع لمقياس الطبيعة أو لمقياس العقل أو لمقياس العرف، فأحصوا بناء على ذلك أنواعاً من الدلالات كالدلالة الطبيعية، والدلالة المنطقية العقلية، والدلالة العرفية الوضعية. كما تناول علماء الدلالة الدلالات الهامشية التي يكتسبها اللفظ داخل السياق اللغوي وسموا ذلك قيماً أسلوبية أو تعبيرية، أما دلالة المطابقة ودلالة التضمن والإلتزام، فقد اعتمد في تصنيفها على معيار الانتماء والاحتواء والاستلزام. وإن كان العلماء يجمعون ذلك كله تحت الدلالة الوضعية.
__________
(1) انظر ذلك في مبحث النظريات الدلالية الحديثة- النظرية التوليدية ص75.
(2) المصدر نفسه ج1 ص78.(1/256)
إن الآمدي قد أفاض في تقسيم الدلالات متخذاً معايير لفظية لغوية ومعايير عقلية منطقية، مستنداً في ذلك على قصد المتكلم من خطابه، وطبيعة السياق اللغوي، يقول محدداً الإنزياح الدلالي الذي تنشأ عنه دلالة إيحائية ومعرفاً مصطلح دلالة غير المنظوم "وهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه"(1). فاللفظ قد ينزاح عن دلالته الأصلية ويخرج من نطاق الوضع والتعارف، يكيفه قصد المتكلم الذي يتمظهر في بنية الكلام، فالدلالة التي ينتجها السياق النفسي المقامي للمتكلم- كما يوضح الآمدي- هي دلالة إيمائية إيحائية غير وضعية(2).
إن اللفظ الذي يضمر مدلوله ويوصل إلى فهمه، إما لصدق المتكلم أو لتطابق مفهومه مع الملفوظ به سمى الآمدي دلالته دلالة اقتضاء، وهي دلالة منطقية لكون السياق الخطابي يقتضيها اقتضاء، فإذا ما دل الخطاب اللغوي على سياق مضموني فإنه يمكن أن نقف على ما ينضوي تحت هذا السياق من مدلولات لا تخرج عن صدق الخطاب ولا عن بنية اللغوية، أي بناء على شكله المعجمي التعبيري، ومحتواه التصوري المفهومي. يقول الآمدي موضحاً ذلك ومشيراً إلى اللفظ غير المنظوم (الدلالة القصدية): "إما أن يكون مدلوله مقصوداً للمتكلم، أو غير مقصود فإن كان مقصوداً، فلا يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه، أو لا يتوقف، فإن توقف، فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإقتضاء، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". فالمدلول المضمر الذي يقتضيه سياق الحديث هو العقاب فكانت دلالة الخطاب النبوي على مدلول العقاب دلالة اقتضاء(3).
__________
(1) المصدر نفسه ج3 ص64.
(2) أحمد مختار عمر- انظر علم الدلالات ص36-37.
(3) الإحكام، ج3 ص254.(1/257)
أما الدلالات التي يحملها سياق الخطاب وتضطلع بإبرازها عناصر لغوية، فقد أحصى فيها الآمدي ثلاث دلالات، دلالة التنبيه والإيماء، ودلالة المفهوم ودلالة الإشارة، وهي دلالات تتوقف على شيئين اثنين: صدق المتكلم وهو أمر نفسي خارج عن النظام اللغوي، وصحة الملفوظ به في نصه على المدلول، وأمر لغوي يتمظهر في الخطاب والسياق. يقول الآمدي موضحاً دلالة التنبيه والإيماء: "وذلك بأن يكون التعليل لازماً من مدلول النفط وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه على التعليل"(1). فالخطاب اللغوي الذي يحمل دلالة الإيماء والتنبيه لا يشير صراحة إلى علة الحكم التي تومئ إليها عناصره، وإنما هي محتواه في سياقها المضموني (فإذا قلنا "عظم العالم" فدلالة الإيماء (الدلالة الخفية) هي كون التعظيم كان للعالم لعلمه، وهي قريبة إلى المعنى الإيحائي الذي يتصل بكلمات ذات قدرة على الإيماء، والإيحاء نظراً لشفافيتها(2).
وأما الدلالة الثانية فهي دلالة المفهوم وهي تقابل دلالة المنطوق، من حيث أن المنطوق هو محمول اللفظ الظاهر في محل النطق، فدلالته دلالة ظاهرة، لا يختلف في إدراكها اثنان ولذلك لم يبحث فيها علماء الأصول. يقول الآمدي في تعريف دلالة المفهوم: "هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق"(3).
__________
(1) المصدر السابق ج3 ص25. 253
(2) أحمد مختار عمر. علم الدلالة، ص.31.
(3) الإحكام ج3 ص66.(1/258)
ويميز في دلالة المفهوم نوعين: دلالة الموافقة ودلالة المخالفة، وهي في الواقع اللغوي امتداد لدلالة الاقتضاء لكونها تتأسس ليس على بنية اللفظ وإنما على ما يحمله مدلوله من دلالة تشاكل دلالة مدلول آخر أو تخالفه، فهو إذن بحث في معنى المعنى أو في مدلول المدلول إما موافقة أو مخالفة فقوله تعالى في حق الوالدين: "ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما" فلفظ "أف" في هذا السياق قد تحول مدلوله إلى دال على معنى الضرب والإهانة وغير ذلك مما هو أشنع من إبداء التذمر والتضجر بلفظ أف. وقد كان انطلاق البحث الدلالي في العصر الحديث وانفصاله عن اللسانيات عندما بدأ يبحث في المدلول، الذي كان يمثل الجانب الهزيل في دراسات الألسنيين القدامى(1). إن هذا الاتصال العلائقي بين دلالتين إحداهما ظاهرة وأخرى خفية، يشير إلى قدرة النظام اللغوي على اختزال المعاني غير المتناهية في عناصره اللغوية المتناهية، وهي إشارة كذلك إلى قدرة الذهن البشري على إجراء تقابلات دلالية تقوم على السلب أو الإيجاب، والإلحاق أو العزل وهي عملية تتم عبر كل إصدار لغوي أو تلق لسلسلة من الرسائل الخطابية.
إن دلالة المفهوم، لا تخلو إما أن تكون أدنى من دلالة المنطوق أو أعلى منها، كما تكون دلالتها أسبق في الحكم من دلالة المنطوق، فإذا قال الله تعالى في حق الوالدين "ولا تقل لهما أف" كانت دلالة المسكوت عنه (دلالة المفهوم) أقوى وأسبق في الحكم من دلالة المنطوق. يقول الآمدي شارحاً ذلك: "والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج عن قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى وبالأعلى على الأدنى، ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق"(2).
__________
(1) أصدر أوجدن وريشاردز لكاتبها "معنى المعنى" سنة 1932 وأحدثوا به ضجة في عالم اللغة.
(2) المصدر السابق ج3 ص67(1/259)
أما القسم الثاني، من دلالة المفهوم فهو ما سماه الآمدي دلالة المخالفة وهو نقيض لدلالة الموافقة، إذ المسكوت عنه (دلالة المفهوم) لا يكون امتداداً في الدلالة للمنطوق، وإنما المسكوت عنه يخالف دلالة المنطوق. يشرح ذلك الآمدي فيقول: "وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلولـ ه في محل النطق ويسمى دليل الخطاب أيضاً"(1). إن الربط بين دلالة حاضرة ودلالة غائبة يجد العقل بينهما علاقة طبيعية ينتقل من إحداها إلى الأخرى، قد أشار إليه علماء الدلالة المحدثون في حديثهم عن الدلالة الطبيعية، وإن كانوا قد حصروا ذلك بالظواهر الطبيعية، والأعراض المرضية وما إلى ذلك(2) وإن لتحديد دلالة المخالفة-وهي دلالة غائبة- نص الآمدي على جملة من الطرق اتخذت معايير لإخراج الدلالة الغائبة من حكم الدلالة الحاضرة فإذا قلت: "اليوم قمت باكراً" دل السياق أنك بالأمس لم تقم باكراً وهو مفهوم مخالفة. ومن ضمن ما ذكر الآمدي من معايير تخصيص الدلالة الغائبة (دلالة المخالفة) التخصيص بالصفة كقولنا: "الرجل العالم أكرمه" يقتضي أن غير العالم لا يستحق الإكرام.
والتخصيص بالشرط والجزاء كقولنا: "إن دخلت داري أكرمتك"، والتخصيص بالغاية وبالاستثناء والعدد، وحصر المبتدأ في الخبر.(3)
__________
(1) المصدر نفسه ج3 ص69
(2) انظر ذلك في "مبحث أقسام الدلالة" الدلالة الطبيعية ص47
(3) انظر الإحكام ج3 ص70.(1/260)
ويبرز الاهتمام السيمولوجي عند الآمدي في تعريفه لدلالة الإشارة وهي دلالة إضافية تدرك من خلال السياق الخطاب اللغوي، لا يقصد إليها المتكلم قصداً، وإنما مدلول اللفظ في السياق استدعى مدلولاً آخر أو عدة مدلولات وقد قال في تعريفه الغزالي، هو "ما يؤخذ من إشارة اللفظ، لا من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه مالا يدل عليه نفس اللفظ فسمي إشارة، فكذلك قد يتبع اللفظ، ما لم يقصد به ويبني عليه"(1).
فدلالة الإشارة تتصل أساساً بقدرة اللفظ على استحضار جملة المعاني الإضافية التي هي امتداد لمدلول منطوقه، ويترتب على ذلك أن بنية الخطاب اللغوي تكون ذات واقع نفسي، بحيث تكون الأفكار المحمولة في الخطاب منسجمة ومتكاملة مع مدلوله السطحي الظاهر من ملفوظه، ويورد الآمدي أمثلة إجرائية لدلالة الإشارة من ذلك "دلالة مجموع قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) وقوله تعالى: (وفصاله في عامين) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن لم يكن ذلك مقصوداً من اللفظ"(2).
__________
(1) المستصفى ج2 ص128.
(2) الإحكام ج3 ص65.(1/261)
ويبقى انجلاء هذه الدلالات أو خفاؤها، قائماً على معرفة المقصود من الحكم في مستوى النطق من سياق الكلام، أما إذا انتفت هذه المعرفة فليس لنا إلى إدراك حقيقة الدلالة من سبيل إلا التأويل الذي قد يخطئ وقد يصيب، إن الأخذ بهذه الأنساق الدلالية التي كانت مادتها المنظومة اللغوية العربية في تجلياتها المختلفة على مستوى النص المقدس أو على مستوى كلام العرب، يفضي إلى النظر إلى ظاهرة الدلالة على أنها ظاهرة مركبة من فعل الإدلاء وآلياته وأنحائه، وفاعل ذلك الفعل وأجوائه النفسية ومقصوده وغايته، كما تشمل متلقي ذلك الفعل واستعداداته المعرفية ووعيه بين الخطاب ومضامينه ومسالك العبور من المنطوق إلى المفهوم، عبور تحكمه مقاييس دقيقة تقضي إلى متصورات دلالية منطقية.
في مقام نصه على ماهية الاجتهاد، وحقيقة المجتهد فيه، أثبت الآمدي شروط العالم المجتهد من ضمنها المعرفة اللغوية بطرق إثبات الدلالة واختلاف مراتبها وأقسامها من دلالة المطابقة والتضمن والإلتزام، وهي دلالات بحثها علماء اللغة المحدثون والقدماء على السواء وأفاضوا في الحديث حولها، وقد عدها الآمدي أرضية أساسية لأي استنطاق لبنية الخطاب الشرعي واستنباط الحكم منه، وهي إشارة إلى البعد اللغوي بمستوياته التركيبية والمعجمية والدلالية الذي ينطوي عليه التراث العربي المعرفي ومنه على الخصوص التراث الديني، والأصولي بصفة أخص.(1/262)
يحدد الآمدي معيار بيان العلاقات الدلالية على أساس خصائص الاحتواء والانتماء أو الاستلزام-كما أوضحنا سابقاً-، وفي دلالات تندرج ضمن الدلالة الوضعية التي هي قسم من أقسام الدلالة اللفظية(1). يقول الآمدي في اللفظ المفرد: "إما أن تكون دلالته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة لكمال المعنى الموضوع له اللفظ وإلى بعضه. فالأول دلالة المطابقة، كدلالة لفظ الإنسان على معناه. والثاني دلالة التضمن كدلالة لفظ الإنسان على ما في معناه من الحيوان أو الناطق، والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول بسيطاً لا جزء له(2) ويمكن توضيح ذلك بالرسم الآتي:
الدلالة
منطقية (غير لفظية) ... ... ... ... ... لفظية
إلتزام ... ... ... ... ... مطابقة ... ... تضمن
إن دلالة الإلتزام يعتبرها الآمدي غير لفظية كون اللازم هو خارج عن مدلول اللفظ، إذ لا يعتبر اللازم جزءاً من مدلول اللفظ بخلاف دلالة التضمن التي يعتبر فيها الجزء داخلاً في مدلول اللفظ ولذلك عدت دلالة التضمن دلالة لفظية. وبين علاقة المطابقة والتضمن هناك مساواة بشرط انتفاء وجود لازم لمدلول اللفظ المطابق. يوضح ذلك الآمدي في قوله "ودلالة الإلتزام وإن شاركت دلالة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللازم في الإلتزام، والجزء في دلالة التضمن، غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلاً في مدلول اللفظ لتعريف كونه خارجاً عن مدلول اللفظ، فلذلك كانت دلالة التضمن لفظية بخلاف دلالة الإلتزام، ودلالة الإلتزام مساوية لدلالة المطابقة ضرورة امتناع خلو مدلول اللفظ المطابق عن لازم، وأعم من دلالة التضمن، بجواز أن يكون اللازم لما لا جزء له"(3) ويمكن تمثيل ذلك بالرسم التالي:
__________
(1) انظر ذلك في الترسيمية في "مبحث أقسام الدلالة" ص47.
(2) المصدر السابق ج1 ص51
(3) المصدر نفسه ج1 ص52(1/263)
وقد كانت النسب بين الدلالات محل خلاف كبير بين جمهور العلماء، والآمدي يخالف بتصنيفه لأقسام الدلالة تقسيم العلماء المحدثين الذين أدرجوا دلالة الإلتزام ضمن الدلالة اللفظية. إن دلالة الإلتزام تحدَّد على مستوى ذهني، فبين معنى اللفظ ومدلوله الخارجي اللازم له تلازم ذهني ولذلك كانت الدلالة، دلالة عقلية بحيث يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتية ينتقل لأجلها منه إليه كما قال التهاوني(1).
ولأن معنى اللفظ لا يرتبط بأي معنى خارجي، احتيج لتحديد علاقة اللزوم إلى آلية ضبط هو الإنتقال الذهني بحيث يكون الأمر الخارجي لازماً لمسمى اللفظ بحيث يلزم من تصور المسمى تصوره، بحيث إذا انتفى وجود الانتقال الذهني لاستحال تحديد اللازم لدلالة اللفظ، ولما كانت الدلالة الإلتزامية يعتمد في إدراكها المسلك العقلي، كانت إذن دلالة عقلية وبما أن دلالة الإلتزام بتعبير المناطقة هي شاهد على غائب عدّها بعض اللغويين دلالة منطقية لأن الفكر ينتقل انتقالاً منطقياً من الحقائق الحاضرة إلى حقائق غائبة..
__________
(1) عادل الفاخوري، انظر ذلك في كتاب علم الدلالة عند العرب: ص16.(1/264)
إن ما حققه الآمدي في رحاب التفريع لعالم الدلالة، كان له أثر التحول المنهجي لمسار المقاربة العلمية للظاهرة اللغوية، مما يعين على التفكير في إيجاد نسق تفريعي دلالي للخطاب اللغوي في كامل مستوياته، والمعتمد في التواصل والإبلاغ، وقد يعوّل عليه كثيراً في حصر السمات الدلالية الدقيقة وضبطها ضبطاً محكماً لتغدو مداخل مهمة في التعامل مع الظواهر اللغوية المتجددة، لأن اللغة العربية علمية في سننها التعبيرية، ذهنية في انتظام قواعدها، وتخضع لنظام علامي متكامل الأجزاء، دقيق العناصر، وإن تجلياتها على مستوى النص القرآني خاصة وسعي العلماء نحو اكتشاف القوالب المقولية والنظم الخطابية وتأسيسها تأسيساً علمياً، سيفتح المجال الواسع لإدخال المنظومة اللغوية في تفاعل خصب قصد تفجير طاقاتها الكامنة، موازاة مع المستجدات الحاصلة على المستوى المفهومي لعالم الدلالة أو عالم الأعيان والأشياء ...
5-أسس الحقول الدلالية:
لقد نص الدرس الدلالي الحديث، على أن علم الدلالة لا يهتم فقط بإطلاق الأسماء، فالأهم من ذلك طريقة تصنيف الأشياء التي سنعطيها الأسماء(1) كما قسم أولمن الحقول الدلالية إلى أنواع ثلاثة:
1-حقول محسوسة متصلة: كحقل الألوان، والعناصر التي تشكل حقلاً متلاحماً.
2-حقول محسوسة منفصلة: كحقل القرابة والأسر..
3-حقول تجريبية مفهومية (عالم الأفكار)(2)
أما الآمدي فقد أسس نظرة لغوية حول مفهوم الحقل المعجمي بناء على علاقات متعددة، منها علاقة العموم، وعلاقة الاشتراك والترادف، وعلاقة الكل بالجزء.
__________
(1) أحمد مختار عمر: علم الدلالة. ص86.
(2) Meaming and style P27-31.(1/265)
في معرض حديثه عن الخبر، يناقش الآمدي مسألة كانت موضع خلاف في عصره بين جمهور العلماء، هذه المسألة لها علاقة بما أضحى يسمى في العصر الحديث بمبحث الحقول الدلالية التي تخضع عناصرها لعلاقات مختلفة نصنف على أساسها إلى "عائلات لغوية تحت غطاء لفظ أعم، يكون مفهومه موضع اشتراك بين جميع العناصر التي تحته. يقول الآمدي في تعريفه للفظ الأعم، وهو في مقام الرد على من اعتبر أن اللفظ الأعم مدلوله جزء من مدلولات أجزائه. "فإنه لا معنى لكون الأعم مشتركاً فيه أنه موجود في الأنواع أو الأشخاص التي هي أخص منه: بل بمعنى أن حد الطبيعة التي عرض لها إن كانت كلية مطلقة مطابق لحد طبائع الأمور الخاصة تحتها"(1). فالأساس الأول الذي يبني عليه الآمدي نظريته في الأعم والأخص هو وجود سمات متطابقة موجودة في الأنواع التي تقع تحت اللفظ الأعم، وهذا التحديد النوعي للعلاقة بين الأعم والأخص يعد سبقاً علمياً للآمدي، إذ تصنيف المدلولات إلى حقول لا يتوقف على القرابة اللغوية الموجودة بينهما وبين اللفظ الأعم وإنما تتعداها إلى إحداث قرابة مبنية على أساس المفهوم أو الترادف والتماثل والسببية وما إلى ذلك مما فصل فيه علماء الدلالة المحدثون(2). فأشار الآمدي إلى تلك الأسس بقاعدة عامة شاملة لكل الضروب بقوله (مطابق لحد طبائع الأمور الخاصة) يعد ذلك كله وعياً ناضجاً بأبعاد الدلالة الوظيفية في تجميع المفردات اللغوية بحسب سماتها التمييزية(3)،
__________
(1) الأحكام في أصول الأحكام ج3 ص5.
(2) أحمد مختار. علم الدلالة: ص99 وانظر مدخل إلى علم الدلالة- بسام شاكر ص44.
(3) هذا ما اعتمدته النظرية التحليلية في نضريتها نظرتها للحقول الدلالية انظر ذلك ص72 من المبحث..(1/266)
التي يتخذها الآمدي معايير تعتمد في تصنيف الدوال في شكل حقول دلالية يشرف عليها لفظ غطاء، فليس إلا السمات الأساسية الجوهرية التي تقوم برسم الحدود بين حقل وآخر أما الأغراض العامة فلا تعد فيصلاً دقيقاً في تمييز الحقول، يقول الآمدي في ذلك: "ليس كل عام يكون جزءاً من معنى الخاص، ومقوماً له بجواز أن يكون من الأغراض العامة الخارجة عن مفهوم المعنى الخاص، كالأسود والأبيض بالنسبة إلى ما تحتهما من معنى الإنسان والفرس ونحوه"(1). فلا تقابل إذن يبقى بين لفظ الأبيض ككلمة غطاء وبين الإنسان والفرس كعناصر في الحقل الدلالي، ذلك أن اللون المذكور لا يعد سمة تمييزية للفظ الإنسان أو الفرس، إنما هناك تصنيف آخر لمثل هذه العناصر يقال على أساس علاقة التنافر. لأن الدرس الدلالي الحديث أفاد أنه إذا كان الحقل المعجمي يتضمن بيان العلاقة بين الكلمات التي تتقابل بردجماتيا، فكذلك تحليله يتضمن بيان العلاقة بين الكلمات التي تتقابل سنتجماتيا(2).
__________
(1) الأحكام ج1، ص5.
(2) أحمد مختار عمر: علم الدلالة، ص80.(1/267)
والحقل عند الآمدي قد يضيق حتى أنه ليحتوي عنصرين اثنين وقد يتسع ليشمل عناصر كثيرة، وقد يبقى مجالاً مفتوحاً لا نهائياً، كما قد يكون هناك تقاطع بين حقل وآخر إّذ ينتمي لفظ غطاء، يعامل على أنه لكسيم رئيسي، ويوجد مع ذلك كعنصر فرعي داخل حقل أعم يقول الآمدي محدداً ذلك: "العام هو اللفظ الواحد الدال على مسمين فصاعداً مطلقاً معاً"(1). فالحد الأدنى لحجم الحقل عند الآمدي هو احتواؤه على عنصرين فصاعداً مطلقاً، كما أن هناك ألفاظاً خاصة بالنسبة لما هو أعم منها وأخرى خاصة لا أخص منها، ولذلك لم يفت الآمدي ذكر هذا القسم فقال: "ما خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه وحده أنه اللفظ الذي يقال عن مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة كلفظ الإنسان فإنه خاص ويقال مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار. لفظ الحيوان من جهة واحدة"(2) فلفظ الحيوان لفظ عام يضم تحته ألفاظاً خاصة منها: الإنسان والفرس والحمار ... فهذا البناء للحقول الدلالية قد أشار إليه الدرس الدلالي، فقد حددت هذه الحقول على أنها مجموعة من الكلمات ترتبط دلالاتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها(3). تقوم على أساس علائق ترابطية تعود إلى مقياس التدرج أو التقابل أو الاشتقاق أو الترتيب وما إلى ذلك، وقد سعت جل الأبحاث الدلالية إلى تمثل منهج خصب لبناء نظم مغلقة، ومع ذلك توصلت إلى بناء أنظمة حقولية تفتقر إلى الشمولية والتحديد العلمي الدقيق، ويمكن في خضم ما توصلت إليه هذه الأبحاث من نتائج إدراج محاولة الآمدي في بناء حقول دلالية مؤسسة على أمارات صورية تعتمد معيار الجزء والكل والخصوص والعموم وهو ما اصطلح على تسميته في الدرس الدلالي الحديث في مبحث الحقول الدلالية، بالعلاقات التراتبية.(4)
__________
(1) الأحكام ج2 ص196
(2) المصدر السابق ج2 ص197
(3) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص79.
(4) سالم شاكر، انظر مدخل إلى علم الدلالة: ص44.(1/268)
إن المشاكلة بين مستويي اللغة، مستوى التعبير ومستوى الدلالة، التي طرحها سوسير تعد مدخلاً مهماً لفهم ما سماه غريماس بالبنية الدلالية أو العوالم الدلالية، إذ كما تحلل الكلمة إلى أصوات وفونامات يحلل المعنى إلى سمات معنوية صغرى، إن فرضية المشاكلة هذه تجعل بنية المعنى وكأنها تلفظ لعالم الدلالة بحسب وحداته الدلالية الصغرى، هذه الوحدات مشكلة بالنمط الذي تتشكل به وحدات التعبير(1). وفي هذا السياق النظري يبحث الآمدي مسألة لفظ العموم الذي يعد لكسيما رئيسياً تنطوي تحته جملة من الألفاظ الجزئية أو الخاصة، فهل العموم في اللفظ يستلزم عموماً في المعنى؟ يجيب الآمدي على هذا الطرح بأن اللفظ الكلي يكون، معناه عاماً يضم تحته عناصر من المعاني تشكل حقلاً من المدلولات الخاصة على غرار حقل الدوال الخاصة. يوضح ذلك الآمدي فيقول: "إنه وإن تعذر عروض العموم للمعاني الجزئية الواقعة في امتداد الإشارة إليها حقيقة، فليس في ذلك ما يدل على امتناع عروضه للمعاني الكلية المتصورة في الأذهان، كالمتصورة من معنى الإنسان المجرد من الأمور الموجبة لتشخيصه وتعيينه، فإنه مع اتحاده مطابق لمعناه وطبيعته لمعاني الجزئيات الداخلة تحته من زيد وعمر ومن جهة واحدة كمطابقة اللفظ الواحد العام لمدلولاته"(2). وفي ذلك إشارة صريحة إلى أن اللفظ العام له تصور ذهني يجب أن يتخذ كمعطى لفهم ما يحتوي من معاني جزئية متحدة، ولا يمكن أن يتضح ذلك إلا إذا جردنا هذا اللفظ العام من التعيين في العالم الخارجي أو عالم الأعيان.
__________
(1) غريماس. انظر-البنية الدلالية- ص97- مجلة للفكر العربي المعاصر- عدد 18/9/ سنة 1982.
(2) الإحكام ج2 ص199.(1/269)
ويذكر الآمدي في نهاية مبحثه حول العموم والخصوص القيود الشكلية التي تعمل على تعميم الدلالة فيقول: "وعلى هذا يكون الكلام في جميع الظروف المستعملة للشرط والإستفهام مثل: ما، وأي، ومتى، وأين، وكم، وكيف، ونحوه، ومؤكداتها مثل: كل وجميع فإنها للعموم( ... ) والجمع المعرف من غير العهد والنكرة المنفية نفي جنس..(1)
إن أهمية معرفة العلاقات بين العناصر اللغوية وبين مدلولاتها تكمن في الحاجة الشديدة لتوظيف سليم للغة التخاطب، فقد يؤدي اللبس الحاصل في تعيين اللفظ العام أو الخاص إلى انقطاع التواصل والإبلاغ نتيجة لوجود خلل في الفهم، إذ المتلقي لرسالة الخطاب لا يملك القدرة على رد اللفظ إلى مدلول واحد على وجه الحقيقة، فهو غير متمكن من معرفة القرينة التي تفيد أن صيغة ما وردت دالة على العموم لا على الخصوص أو العكس.
6-بناء الحقول الدلالية:
__________
(1) المصدر السابق ج2 ص204.(1/270)
يتناول الآمدي ضمن مبحث الحقول الدلالية، موضوع المشترك اللفظي والترادف باعتبار معيار الاشتراك والترادف من المعايير المعتمدة في وضع الحقول الدلالية، وقد اعتبر المشترك اللفظي من العلاقات المهمة في تصنيف المدلولات إلى حقول، ذلك لارتباط اللفظ بمجموعة من العناصر التي تشكل معه حقلاً دلالياً بالاعتماد فيها على العلاقات الترابطية التي تكون نظاماً من المدلولات اللغوية ففي باب التفريع الدلالي للإسم يذكر الآمدي المشترك اللفظي حيث يقول: "وأما إن كان الإسم واحداً والمسمى مختلفاً، فإما أن يكون موضعاً على الكل حقيقة بالوضع الأول أو هو مستعار في بعضها، فإن كان الأول فهو المشترك، وسواء كانت المسميات متباينة كالجون للسواد والبياض أو غير متباينة"(1). وفي هذا إشارة إلى اللفظ الذي اشتمل على حقل من المدلولات المتقابلة والمتضادة هو كذلك من المشترك اللفظي، فإذا كان التضاد هو وقوع اللفظ غطاء لمعنيين مختلفين فأكثر، فكذلك المشترك اللفظي هو وقوع اللفظ غطاء لمعنيين مترادفين فأكثر.
__________
(1) المصدر نفسه ج1 ص18.(1/271)
لقد أثارت مسألة المشترك اللفظي ووقوعه في اللغة، جدلاً كبيراً بين اللغويين العرب فنفاه البعض وأثبت وقوعه آخرون وهم الأكثر(1)، وحجج النافين لوقوع المشترك مستندة أساساً على غرض الإفهام، إذ المشترك اللفظي في عرفهم يوقع السامع في لبس وإبهام لاختيار الدلالة المرادة من السياق، وأن الله تعالى لا يضع الألفاظ قصد الإبهام واللبس ولكن قصد تحديد الدلالة تحديداً كاملاً، أما حجج المثبتين لوقوع المشترك فهي حجج تستند على العقل، فلا يمنع أن يضع الواحد من أهل اللغة لفظاً على معنيين مختلفين على طريق البدل ثم يتواضع عليه الباقون من أهل اللغة الواحدة، وقد تضع القبيلة لفظاً بإزاء معنى وتضعه أخرى بإزاء معنى آخر من غير شعور ثم يشتهر الوضعان.(2)وهو دليل ثابت في تاريخ اللغة إذ صح وضع كلمة"سرحان" التي تعني الأسد في لهجة هذيل وهو مشهور الدلالة على"الذئب". وهناك دواع أخرى أدت إلى وقوع المشترك من ذلك أن وضع اللفظ يخضع لغرض الواضع حيث قد يعرفه لغيره مفصلاً أو مجملاً ويكون ذلك علة لوقوع المشترك اللفظي. يقول في ذلك الآمدي: "وأن وضع اللفظ تابع لغرض الواضع، والوضع كما أنه قد يقصد تعريف الشيء لغيره مفصلاً، فقد يقصد تعريفه مجملاً غير مفصل، إما لأنه علمه كذلك ولم يعلمه مفصلاً أو لمحذور يتعلق بالتفصيل دون الإجمال فلا يبعد لهذه الفائدة منهم وضع لفظ يدل عليه من غير تفصيل"(3).
__________
(1) انظر المزهر لسبوني ج1 (ص369-386) فيه حديث مستفيض حول اهتمام بالمشترك اللفظي واختلافهم في إثباته ونفيه ...
(2) الإحكام ج1 ص19.
(3) المصدر السابق ج1 ص19.(1/272)
ويردف الآمدي دليلاً آخر لوقوع المشترك اللفظي، يتمثل في أنه لو انتفى المشترك اللفظي لقصرت الأسماء على تغطية المسميات وهي غير متناهية، ومع ذلك لا يميل الآمدي إلى هذا الدليل كثيراً لكون وضع الاسم إزاء مسماه عائداً إلى قصر الواضع، والقول بتناهي الأسماء قول غير سديد وإنما العمدة على الغرض من وضع الألفاظ، فلا يعقل أن تغطي المسميات كلها بأن يوضع إزاءها الأسماء ولذلك وجدت معان كثيرة لم تضع العرب إزاءها أسماء، لأن الإنسان لن يجرؤ أن يعبر عن كل ما يدور بخلده من أفكار وأشياء، كما قال أفلاطون(1). لأن اللغة متناهية على خلاف عالم الأشياء فهو غير متناهٍ ولا محدود. يوضح الآمدي هذه المسألة بقوله: "فقد قال قوم أنه لو لم تكن الألفاظ المشتركة واقعة في اللغة مع أن المسميات غير متناهية والأسماء متناهية ضرورة تركبها من الحروف المتناهية، لخلت أكثر المسميات عن الألفاظ الدالة عليها مع دعوى الحاجة إليها، غير أن وضع الأسماء على مسمياتها مشروط بكون واحد من المسميات مقصوداً بالوضع، وما لا نهاية له مما يستحيل فيه ذلك، ولئن سلمنا أنه غير ممتنع ولكن لا يلزم من ذلك الوضع، ولهذا فإن كثيراً من المعاني لم تضع العرب بإزائها ألفاظاً تدل عليها إلا بطريق الاشتراك ولا التفصيل كأنواع الروائح، وكثير من الصفات"(2).
__________
(1) كمال بشر دور الكلمة في الضفة العربية ستيفن أولمن، ص6
(2) الإحكام ج1 ص20.(1/273)
وينبري الآمدي يذود عن فكرته القائلة بوجود المشترك اللفظي في اللغة، بل وفي القرآن الكريم ذلك أنه إذا انتفى الإفهام من الصيغة اللغوية الواقعة مشتركاً لفظياًً، فإن سياق الجملة يقوم كقرينة لتحديد دلالة الصيغة، ثم إن التفصيل ليس سمة قارة في اللغة بدليل وجود أسماء مجملة، ووقوع اللفظ المشترك مفيداً لعموم الدلالة في كلام الله تعالى، وانتفاء ذلك عنه في مواضع أخرى لدليل على حصول الإفهام في المشترك اللفظي، ولقد أكد علماء الدلالة المحدثون على صعوبة تخصيص العلاقة التي يمكن إقامتها بين صورة الجملة ومعناها في لغة معينة، إذ هي أحد الإشكالات المطروحة في النظرية الدلالية الحديثة(1)، وحصول حد أدنى من الفهم أثناء الإبلاغ والتواصل وليس بلوغ فهم التفصيلات هو ما يطلب في علاقة المحمول بالموضوع، وإلا كانت العلاقة ضرباً من لغو الكلام. يقول الآمدي مشيراً إلى هذه المسألة: "قلنا وإن اختل فهم التفصيل على ما ذكروه، فلا يختل معه الفهم من جهة الجملة، وليس فهم التفصيل لغة، من الضروريات بدليل وضع أسماء الأجناس فإنها تفاصيل مع تحتها( ... ) وإذا عرف وقوع الاشتراك لغة، فهو أيضاً واقع في
كلام الله تعالى. والدليل عليه قوله تعالى: (والليل إذا عسعس) فإنه مشترك بين إقبال الليل وإدباره، وهما ضدان، هكذا ذكره صاحب الصحاح"(2).
ولوجود المشترك اللفظي في كلام الله، أثبته الأصوليون كنوع من أنواع العموم يدل على ثبوت اللفظ ذي الدلالة العامة. إن العلاقة الترابطية بين الألفاظ ودلالاتها، تتحكم فيها نسب تراعى لتحديد جنس العلاقة، وقد تتعدد هذه النسب كما أوضحها البحث اللغوي الحديث (بنى موزاييكية- بنى على شكل متدرج- بنى على شكل متناقض- بنى اشتقاقية)(3)،
__________
(1) د. الفاسي الفهري اللسانيات واللغة العربية، ص81.
(2) الإحكام ج1 ص21-22.
(3) ريمون طحان، بيطار طحان، فنون التقعيد وعلوم الألسنية. ص206-207.
موازييكية: تنوع في الحقل المعجمي وانقسامه إلى مكعبات صغيرة لا تلبث أن تتفرع هي الأخرى إلى مكعبات أصغر وهكذا.(1/274)
إلى درجة أن يصعب علينا وضع الحدود بين الحقول التي انقسمت إلى حقول أصغر بفعل الإضافات المتكررة إلى المعجم اللغوي، وفي هذا المجال نرى الآمدي يضبط علاقتين قد يظن أنهما علاقة واحدة وهما علاقة الاشتراك وعلاقة التواطؤ بينما هما علاقتان مختلفتان. يشرح ذلك الآمدي فيقول: "قد ظن في أشياء أنها مشتركة [اشتراكاً لفظياً] وهي متواطئة [مشتركة اشتراكاً معنوياً] وفي أشياء أنها متواطئة وهي مشتركة"(1). أما المشترك اللفظي فقد عرفناه، أما التواطؤ وهو مصطلح يتداوله أهل المنطق ويعني "نسبة وجود معنى كلي في أفراده، ذلك حينما يكون وجوده في الأفراد متوافقاً غير متفاوت نظراً إلى المفهوم الذي وضع له اللفظ الكلي"(2).
مثل ذلك لفظ "نقطة" لفظ كلي موضوع لما ليس له طول ولا عرض ولا عمق ولا بعد، ووجود هذا المعنى في جميع أفراده وجود متوافق لا تفاوت فيه، إذ كل نقطة فيها تمام هذا المعنى دون تفاوت، إن هذه الرؤية تسمح ببناء حقول مفهومية على أساس نسبة التواطؤ تختص بالمدلولات المشتركة في الدلالة، على نقيض الاشتراك الذي يسمح ببناء حقول معجمية في اتجاه معاكس لاتجاه التواطؤ، وهو ما يمهد لعلاقة الترادف التي تشكل حقلاً مفهومياً، يتألف من مجموعة من المفردات المرتبطة بمعناها، وإن المفردة تشبه حجرة الفسيفساء الصغيرة والمكعبة التي تنضم إلى باقي المكعبات لتؤلف صورة كاملة ذات دلالة عامة، أي أن الكلمات التي تعود إلى حقل معين تشبه لوحة الفسيفساء التي تقع فيها الكلمات المكعبة الواحدة بجانب الأخرى التي تنظم مجتمعة، لتغطي حقلاً مفهومياً معيناً"(3).
__________
(1) الإحكام ج1 ص22.
(2) حبنكة الميداني ضوابط المعرفة ص51.
(3) ريمون طحان، بيطار طحان، فنون التقعيد وعلوم والألسنية ص203-204.(1/275)
لقد وقف القدماء من مسألة الترادف في اللغة موقفهم من مسألة المشترك اللفظي، بل هناك من اللغويين من ربط المسألتين وأجرى عليهما نفس الحكم، من ذلك قول بعضهم أنه كما لا يجوز أن يدل اللفظ الواحد على معنيين فكذلك لا يجوز أن يكون اللفظان يدلان على معنى واحد، لأن ذلك تكثير لقاموس اللغة دون فائدة، بل ومن العلماء من ألف كتاباً ينفي فيه وجود الترادف في اللغة كأبي هلال العسكري في كتابه "الفروق في اللغة" حيث جهد نفسه في أن يثبت لكل صيغة معجمية مدلولها الخاص.(1) إنّ الأصل عند الآمدي هو وقوع الترادف في اللغة، وذلك بما ذهب إليه السواد الأعظم من العلماء. ينعت الآمدي الذين خالفوا هذا الأصل بالشذوذ إذ يقول: ذهب شذوذ من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة مصيراً منهم إلى أنّ الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات، واختصاص كل إسم بمسمى غير مسمى الآخر".(2)
__________
(1) بدأ أبو هلال كتابه- الفروق في اللغة- بعنوان: "باب في الإبانة عن كون اختلاف العبارات والأسماء موجباً لاختلاف المعاني في كل لغة".
(2) اإأحكام- ج1، ص23..(1/276)
ويستند هؤلاء الشذوذ من العلماء على حجج يعرضها الآمدي ثم ينقضها، من ذلك قولهم أن الترادف يلزم منه تعطيل فائدة اللفظ لإمكاننا على الإستغناء بلفظ آخر لكونهما يؤديان مدلولاً واحداً، ثمّ إن تعدد المسميات وكثرتها أمام الأسماء تدل على أن كل إسم مقصود بالوضع مما ينفي وقوع ظاهرة الترادف في اللغة، فالغاية من وجود الترادف تعرقل تيسير التخاطب، وتخفيف المشقة في الحفظ ولذلك ليس هناك مدعاة لتكثير الدوال أمام محدودية المدلولات (المسميات) فذلك أقرب إلى حدوث التواصل بين أهل اللغة على نقيض لو كثرت الدوال أدى ذلك إلى أن يحفظ كل فرد مجموع هذه الدوال فيشق عليه ذلك، يبسط ذلك الآمدي فيقول مستنداً على أدّلة وقوع المشترك اللفظي في إثبات وجود الترادف: "إنّه لا يمتنع عقلاً أن يضع واحد لفظين على مسمى واحد، ثم يتفق الكل عليه. أو أن تضع إحدى القبيلتين أحد الإسمين على مسمى، وتضع الأخرى له إسماً آخر من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى، ثم يشيع الوضعان بعد ذلك".(1) إنّ هذا المعيار الذي استند عليه الآمدي يقارب ما اعتمدته أغلب النظريات الدلالية الحديثة في تناولها لقضية الترادف، فأصحاب النظرية التصورية يرون الترادف إذا كان التعبيران يدلان على نفس الفكرة العقلية، أمّا النظرية الإشارية فيرى أصحابها أن تحقق الترادف يقتضي أن يستعمل التعبيران للإشارة إلى نفس الشيء بنفس الكيفية، بينما تنظر النظرية السلوكية إلى تحقق الترادف إذا كان التعبيران يخضعان لنفس المثير والاستجابة، أمّا النظرية التحليلية فالترادف عندها يكمن في خضوع التعبيرين إلى نفس التفريع بحيث ينتج عنه سمات تمييزية متماثلة.(2)
__________
(1) المصدر السابق1 ص24.
(2) انظر علم الدلالة، د. أحمد مختار عمر، ص223-224.(1/277)
إن القول بأن اشتراك اسمين في مدلول واحد، ينفي إمكانية وجود أحدهما لإمكانية الإستغناء عنه يراه الآمدي تضييقاً للمنظومة اللغوية، حيث تقتضي تكثير إمكانيات الاختيار بين عناصر قصد التخاطب والتواصل، وذلك دلالة على وجود الحرية الكاملة في اختيار طرق الخطاب بخلاف لو كان هناك طريق واحد لا غير. يشرح ذلك الآمدي بقوله: فإنه (أي الترادف) يلزم منه التوسعة في اللغة وتكثير الطرق المفيدة للمطلوب، فيكون أقرب إلى الوصول إليه، حيث أنه لا يلزم من تعذر حصول أحد الطريقين تعذر الآخر، بخلاف ما إذا اتحد الطريق.(1)
وهذه إشارة مهمة من الآمدي بحيث يوقف مسألة وقوع الترادف على فائدتها في اللغة الوظيفية التي ترمي إلى أداء مهمة الإبلاغ والتخاطب، وذلك بخلق قنوات عدة تسمح للمتخاطبين اختيار الملائم منها للظروف النفسية والاجتماعية، والمقامية بصفة عامة، وتبدو اللغة مع الترادف فضفاضة مرنة توسع المعاني المختلفة وتوائم المقامات المتباينة المتعددة، فأهل الشعر يجدون ضالتهم في البحث عن اللفظ الملائم في حقل الترادف قصد التنويع في الدلالات، وأهل النثر، بميلهم إلى ترصيع الخطاب والمشاكلة بين أجزائه، يميلون إلى حقل الترادف كذلك. يوضح الآمدي، تلك الفوائد من الترادف بقوله: "وقد يتعلق به فوائد أخر في النظم والنثر بمساعدة أحد اللفظين في الحرف الروي، ووزن البيت، والجناس، والمطابقة، والخفة في النطق به، إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة لأرباب الأدب وأهل الفصاحة.(2)
__________
(1) الإحكام، ج1، ص24.
(2) المصدر السابق، ج1، ص24.(1/278)
إن اللغة الرحبة التي يجد فيها أهلها سعة في إختيار الكلام المناسب وخاصة المشتغلين في حقل الإبداع والتأليف، يكون ذلك عاملاً لتجويد وإغناء قاموسها المعجمي بالتجديد في عناصره وإبداع طرق أخرى، تبقى اللغة معها محافظة على مرونتها وسعة نظامها مما ينجر عنه حدوث تقسيمات في بنية الحقل المفهومي، بحيث تبرز المدلولات المتطابقة لتطابق دوانها، والمدلولات الأقل تطابقاً، والمدلولات المتقاربة دلالياً، وتلك سنن يخضع لها النظام اللغوي الذي ينزع دائماً نحو التجدد والتغير وهذا ما حدا بالعلماء المحدثين في علم الدلالة، إلى إحصاء أنواع مختلفة من الترادف منها: الترادف الكامل أو التام، والترادف المتقارب، والترادف الإستلزامي وما إلى ذلك من الأنواع،(1) وإلى ذات القضية يشير الآمدي في آخر مبحثه حول الترادف، ويميز بين مصطلحات قد يشكل في إلحاق دوانها بحقل مفهومي معين كالتباين ومصطلح المؤكد، فالتباين كما عرفه أهل المنطق هو النسبة بين معنى ومعنى آخر له في المفهوم ولا ينطبق أي واحد منهما على أي فرد مما ينطبق عليه الآخر، فهما بحسب تعبير أهل هذا الفن مختلفان مفهوما مختلفان مصداقاً.(2)
__________
(1) أحمد مختار عمر. علم الدلالة، ص220-222.
(2) حبنكة الميداني، ضوابط المعرفة ص47..(1/279)
يقول الآمدي مميزاً بين الترادف والتباين والتأكيد: "وقد ظن بأسماء مترادفة وهي متباينة، وذلك عندما إذا كانت الأسماء لموضوع واحد باعتبار صفاته المختلفة، كالسيف، والصارم، والهندي، أو باعتبار صفته وصفة صفته كالناطق والفصيح، وليس كذلك، ويفارق المرادف المؤكد من جهة أن اللفظ المرادف لا يريد مرادفه إيضاحاً، ولا يشترط تقدم أحدهما على الآخر، ولا يرادف الشيء بنفسه بخلاف المؤكد، والتابع في اللفظ، فمخالف لهما فإنه لابد وأن يكون على وزن المتبوع، وأنه قد لا يفيد معنى أصلاً، كقولهم: حسن بسن، وشيطان ليطان ولهذا، قال ابن دريد سألت أبا حاتم عن معنى قولهمُ بسنُ فقال: ما أدري ما هو.(1)
إن معيار الاشتراك والترادف من المعايير التي اعتمدت حديثاً في بناء الحقول الدلالية،(2) ولذلك يعد الآمدي من أوائل العلماء الذين أسسوا أفكاراً لبناء حقول دلالية، وإن لم يشر إلى ذلك صراحة إلا أن ما أرساه من قواعد وقيود تنظيمية في هذا المجال يمكن اعتماده لوضع حقول مفهومية تصور لنا بشكل عملي وواضح الوشائج التي تقوم بين مفردتين أو أكثر، خاصة وأن الآمدي لم يكتف بوضع معايير لبناءات صورية فحسب، بل وقد تعداها إلى وضع معايير لبناءات مفهومية تقوم على تجميع وحدات من المدلولات المشتركة التي يغطيها لفظ، يوضع كمدخل للحقل الدلالي، ويمكن تلخيص معايير الآمدي التي تدخل في بناء الحقول الدلالية فيما يأتي:
1-معيار المشترك اللفظي: دلالات كثيرة مشتركة في لفظ واحد يجمعها.
2-معيار العموم والخصوص: لفظ عام يضم تحته ألفاظاً خاصة تشكل حقلاً دلالياً.
3-معيار الكل والجزء: لفظ كلي يتضمن ويستلزم ألفاظاً جزئية.
4-معيار التنافر أو التباين: كعموم الألفاظ العربية التي لا علاقة بينها لا مفهوماً ولا مصداقاً.
__________
(1) الإحكام ج1، ص25.
(2) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، ص80. A Jolles أول عام اعتبر ألفاظ الترادف والتضاد من الحقول الدلالية.(1/280)
5-معيار الترادف: مدلول كلي يشرف على حقل من الألفاظ عكس المشترك اللفظي.
6-معيار التواطؤ: وهو نسبة وجود معنى كلي في أفراده يشكل معها حقلاً دلالياً.
7-معيار التوكيد: استلزام ألفاظ مخصوصة لمؤكداتها وفق علاقة لزومية.
8-معيار الإتباع: طلب الألفاظ وفق وزنها الصرفي ألفاظاً تجانسها وزناً قد ترادفها وقد لا يكون لها معنى، والمعيار هذا معيار صرفي.
هذه مجملة هي النسب التي استنبطناها من بحث الآمدي في موضوع العلاقات بين الأدلة اللغوية، فيما يخص تفريعه للركن الإسمي وبحثه حول الترادف والمشترك اللفظي.
(((
الفصل الثالث:
الخطاب الإبلاغي
وحداته ومقوماته عند الآمدي
1-وحدات الخطاب اللغوي:
إن الثنائية التقابلية التي وضعها سوسير، اللغة/الكلام، كانت الأرضية التي تأسست عليها رؤى مختلفة حول مفهوم الخطاب (le discoure) وما يقابله وهو المنطوق (Penonce) وقد أفضى ذلك إلى التمييز بين ما هو أساسي، وما هو عرضي. يشرح ذلك العالم اللساني جسبن (L. Guespin) معرفاً الخطاب بقوله: "هو تعبير يخضع لآليات وشروط متحكمة، فإذا ما رمنا الدراسة اللسانية لشروط إنتاج نص ما كنا بصدد دراسة خطابه، وإذا ما ألقينا نظرة على ذلك النص من وجهة نظر تركيبه أو بنائه اللغوي كنا بصدد دراسة منطوقة".(1) وقد عرض الآمدي لوحدات الخطاب اللغوي وهي: الحرف والفعل والإسم.
أ-الحرف:
__________
(1) Initiation aux methodes de l,analyse du discours D. Maingueneau P.11(1/281)
فالخطاب اللغوي عند الآمدي يضطلع بتوفير الآليات التعبيرية التي تبدأ من أدنى صيغة إلى أكبر تركيب، فالتفريع الدلالي للحرف يمثل إحدى أهم الأدوات في الخطاب الشرعي لدى الآمدي فضلاً عن الركن الإسمي والركن الفعلي. ولذلك نجد الآمدي في كتابه الإحكام يقيم للحروف جدولاً تفريعياً من زاوية وظيفته الدلالية، فالحرف ما دل على معنى في غيره وهو أصناف منها حرف الإضافة، وهو ما يفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء وهو ثلاثة أقسام، لكل منها دلالات معينة مقيدة بضوابط محكمة، فمن الحروف مالا يكون إلا حرفاً (كمِنْ) التي تؤدي دلالة التبعيض ودلالة بيان الجنس وبداية الغاية وما إلى ذلك، ومنها مالا يكون حرفاً وإسماً معاً (كعَنْ) التي تؤدي دلالة المباعدة، وقد تكون إسماً مجروراً بإحدى أدوات الجر، ومن الحروف ما يكون حرفاً وفعلاً (-كخلا وحاشا-) اللتين تفيدان الإستثناء،(1) ويمكن توضح ذلك الرسم التفريعي الآتي
... ... ... ... ... الدلالة الحرفية
التفريغ الدلالي للحرف ... ... الدلالة الإسمية
... ... ... ... ... الدلالة الفعلية
ويقف الآمدي وقفة طويلة في مبحث حروف العطف، ويعرض لآراء العلماء في ذلك ثم ينقضها. وقد حصل الاختلاف في دلالة (الواو) أهي للجمع المطلق، أم للترتيب فيشترك إذن مع (الفاء) و(ثم). فهناك من العلماء- ممن عارض الآمدي رأيهم- يذهب إلى حمل (الواو) على دلالة الترتيب مجازاً لأنه يتعذر حملها على ذلك في بعض التراكيب الخالية من القرائن، ففي قول السيد في خطابه لعبده: (أيت بزيد وعمرو) أنه كان يجب على العب الترتيب، يرد الآمدي على هذا الرأي قائلاً: "أنه لم يجب على العبد الترتيب نظراً إلى قرينة الحال المقتضية لإرادة جهة التجوز، حتى لو أنه فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجباً للترتيب.(2)
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص61.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص64.(1/282)
فالسند الذي اعتمده الآمدي في تصريف دلالة ذلك الخطاب من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، هو "قرينة الحال" وذلك ما درسه البحث الدلالي واللساني الحديث فيما سمي بالدلالة المقامية، ويقابل الآمدي مقابلة علائقية بين (الواو) التي تدل على الجمع المطلق أصلاً، وبين (الفاء) و(ثم) اللتين تدلان على الترتيب، فتكون دلالة مطابقة بين (الواو) وبين دلالة الجمع المطلق، ودلالة تضمن والتزام بين (الواو) وبين دلالة الترتيب المشترك، وتبعاً لذلك كانت (الواو) دالة حقيقة وأصلاً على معنى الجمع المطلق بحيث يشترك المعطوف والمعطوف عليه في القضية والحكم.
وتدل (الواو) كذلك من جهة التجوز فتقيد الترتيب، يشرح ذلك الآمدي فيقول: فنحن إنما نجعل (الواو) في الترتيب المطلق المشترك بين (الفاء) و(ثم) وذلك مما تدل عليه (الفاء) و(ثم) دلالة مطابقة، بل أما بجهة التضمن أو الإلتزام، وكما أنها تدل على الترتيب المشترك بدلالة التضمن أو الإلتزام، فتدل على الجمع المطلق هذه الدلالة، وعند ذلك فليس إخلاء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من إخلاء الجمع المطلق.(1)
ويورد الآمدي أمثلة تطبيقية تميز بين حروف العطف (ثم، الفاء، حتى) التي تشترك في الدلالة على الترتيب، ولكنها تحدها دلالات هامشية ضرورية لمقتضى الحال وسياق الخطاب، وإن مرد ذلك إلى الدلالة الزمانية التي تكون محل اختلاف وتفاوت بين كل حدث وآخر مما تشرف عليه هذه الحروف الثلاثة، وتسهم في تحديده وتأويل مدلوله، يقول الآمدي في ذلك.
"وأما الفاء وثم وحتى، فإنها تقتضي الترتيب وتختلف من جهات أخرى، فأما الفاء، فمقتضاها إيجاب الثاني بعد الأول من غير مهلة( ... ) وأما ثم، فإنها توجب الثاني بعد الأول بمهلة ...
__________
(1) المصدر السابق، ج1، ص56-66.(1/283)
وقيل أنها ترد بمعنى الواو، وأما حتى، فموجبه لكون المعطوف جزءاً من المعطوف عليه نحو قولك: مات الناس حتى الأنبياء ... . وثلاثة منها تشترك في تعليق الحكم بأحد المذكورين وهي: أو، إما، وأم ... وثلاثة منها تشترك في أن المعطوف مخالف للمعطوف عليه في حكمه وهي: لا، بل، ولكن،(1) ويربط الآمدي التفريع الدلالي للحروف بما يتعلق به من سمات تمييزية في الجملة، فالحرف (حتى) يؤدي دلالة تميز بين المعطوف والمعطوف عليه بكون المعطوف جزءاً من المعطوف عليه، ويكون عادة المعطوف مقدم في الأفضلية على المعطوف عليه بناء على عملية الإسناد. أما الحروف (أو، أما، أم) وإن كانت
تشترك في أداء دلالة التخيير إلا أنها تتمايز بسمات ذاتية تتمثل في تلك الهوامش الدلالية التي تتحدد مع نسق الخطاب ونوعه فـ(أما) و (أو)، مع نسق الخطاب الخبري فتفيد دلالة الشك في أحد الأمرين أما مع نسق خطاب الأمر، فإنهما يفيدان التخيير مطلقاً والإباحة، أما (أم)، فتفيد دلالة الشك في تعيين الأمرين معاً مع اليقين في وجود أحدهما(2).
إن هذا التفريع المتميز للحروف ينبني عن وعي معرفي متقدم، وسبر عميق لجوهر حقيقة البنية الدلالية وذلك من أجل حصر الخصائص والسمات التي أُخذت كمعايير دلالية تنتظم وفقها الحروف التي غدت في تراثنا المعرفي حقلاً ألسنياً يغطي مجالات شتى من المفاهيم تتعلق بصيغة الحدث وبزمانه وهيأته، كما تتعلق بالمسند إليه وبدلالة الخطاب بحسب نسقه.
ولذلك انبرى نفر غير قليل إلى تخصيص مؤلفات تتناول حقل الحروف، ومنهم من ساقها في مدخل كتابه كوحدات أساسية في بناء الخطاب اللغوي إذ تأخذ مع الفعل والاسم مسارها الإبلاغي وفق النمط التأليفي، الذي يستمد أصوله من النظام القواعدي للسان ما(3).
__________
(1) المصدر نفسه ج1 ص69.
(2) المصدر نفسه ج1 ص 69.
(3) الأستاذ أحمد حساني، المكون الدلالي للفعل في لسان العربي ص 124.(1/284)
وقد شهد العلماء والأدباء قديماً وحديثاً، اختلافات قد امتدت عبر الزمان والمكان حول تأويل آية أو حديث أو بيت شعر أو جملة نثر، وذلك لاختلافهم في تحديد القيمة الدلالية المرجعية لحرف أو لقصورهم عن إدراك الانزياح الدلالي الحاصل للحرف لضرورة إبلاغية اقتضاها السياق الخطابي فخرج بدلالة الحرف عن المألوف.
إن إقرار الأمدي بوجود قواعد كلية مشتركة بين الوحدات التعبيرية للخطاب، ليعطي للحرف قيمته التأسيسية في بنية الخطاب اللغوي في رحاب عملية التشكل المتجدد لمكوناته الدلالية.
ب-الفعل:
إن التفريع الدلالي للفعل له وجود متميز في كتاب الآمدي، فبعد تمييزه بين الماضي والمضارع والأمر تمييزاً صورياً وزمانياً، يقف الآمدي على التمييز بين رؤية النحاة ورؤية المناطقة للفعل، فالبنية الشكلية لصيغة الفعل لها دلالتها التمييزية ضمن المقولات النحوية، فالنحاة يرون أن الفعل كلمة مفردة سواء أكان هذا الفعل ماضياً أو مضارعاً أو أمراً، أما المناطقة فيرون أن الفعل المفرد هو الماضي دون المضارع، فالمفرد هو الذي يدل على شيء مخصوص ولا جزء له يدل على شيء أصلاً، بخلاف غير المفرد وهو الذي يدل على شيء مخصوص، وله جزء يدل على شيء مخصوص كذلك. يقول الآمدي: "والفعل وإن كان كلمة مفردة عند النحاة مطلقاً فعند الحكماء، المفرد منه إنما هو الماضي دون المضارع وذلك لأن حرف المضارعة في المضارع هو الدال على الموضوع، معيناً كان أو غير معين، والمفرد هو الدال الذي لا جزء له يدل على شيء أصلاً ( ... ) وهو بخلاف الماضي، فإنه وإن دل على الفعل وعلى موضوعه. فليس فيه حرف يدل على الموضوع فكان مفرداً"(1).
__________
(1) الإحكام في أصول، الأحكام ج1، ص 60-61.(1/285)
لقد بحث يمسلف (Hjelmslev) الدلالة التي قد تؤديها أجزاء من الكلمة، فكل لغة تكمن في نظام من العلامات يعني ذلك نظام من الوحدات التعبيرية التي تتصل بمحتوى (المعنى)، فالكلمات هي بالطبع علامات لكن أجزاء من الكلمات قد تكون علامات كذلك(1)، فاللغة تفرض سننها في التركيب والبناء، تظل مطردة مع كل تشكيل متجدد لبنيتها، تنتظم معها عملية الوقوع أو الرصف بين عناصر الكلمة الواحدة، أو عناصر التركيب، قد يكون للكلمات المركبة دلالة لعناصرها وقد لا تكون لها دلالة، وهو ما سماه (يمسلاف) بالعلامات الدالة (les signes) والمقاطع غير الدالة (les syllabes) يقول يشرح ذلك: "هناك في بنية اللغة قواعد خاصة لانتظام المقاطع(2).
فالفعل الماضي عند الآمدي كلمة مفردة باعتبارها لا جزء لها، أما الفعل المضارع فأجزاؤه حروف المضارعة كضمير الغائب وضمير المتكلم، فإنها تدل على صاحب الحدث فضلاً عن دلالة الفعل على الحدث المقترن بزمن الحال أو المستقبل، وقد أفضى التفريع الدلالي للفعل عند الآمدي أن عدّ المضارع الذي لا يدل حرفه على شيء مخصوص، مفرداً كالماضي الذي لا جزء له ولكن الاختلاف بيّن كما يوضح ذلك قوله: "وقد ألحق بعضهم ما كان من المضارع الذي في أوله الياء بالماضي في الإفراد دون غيره لاشتراكهما في الدلالة على الفعل، وعلى موضوع له غير معيّن، وليس بحق، فإنهما وإن اشتركا في هذا المعنى، فمفترقان من جهة دلالة الياء على الموضوع الذي ليس معيّناً، بخلاف الماضي حيث أنه لم يوجد منه حرف يدل على الموضوع كما سبق"(3).
وقد يتوضح السبيل أكثر إذا ما اعتمدنا الشكل التالي لتوضيح ما نحن بشأنه.
دلالة على الحدث
(بحسب السمات الدلالية المميزة له).
-الدلالة التفريعية للفعل الماضي ... ... ... دلالة على الزمن.
فاعله غير معيّن.
-دلالة على الحدث
(
__________
(1) Louis Hjelmslev P. 55 Le language.
(2) المرجع السابق، ص 58.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 61.(1/286)
بحسب السمات الدلالية المميزة له)
-الدلالة التفريعية للفعل المضارع ... ... -دلالة على الزمن.
فاعله معيّن في إطار حقل مفهومي.
إن الفعل الماضي (مرّ) على سبيل المثال وإن كان يدل على حدث المرور في زمن معين فإنه لا يدل على السمات الانتقائية لفاعله الذي يبقى مجهولاً في دائرة من الأسماء قد لا تقع تحت حصر، خاصة في ظل الانزياح الدلالي مع بروز الدلالات المجازية، وإذا صغنا من هذا الفعل (مر) فعلاً مضارعاً (يمر) أو (نمر)، فإن الفعل عندئذ يستدعي سمات انتقائية لفاعله يمكن إبرازها في: +مفرد، + جمع، +حركة + لازم+ حالة عارضة.
إن البنية المورفولوجية للفعل المضارع في النظام الألسني العربي، وما توفره من سمات انتقائية إضافية تعد البنية التأسيسية الرئيسية التي تنشئ تلك العلائق التي ينتظم وفقها الخطاب، فهو يحدث إحالة مرجعية يقتضيها موضوع الفعل اقتضاء، تقوم على أساس الفرز الاستبدالي لفئات الكلم، كما يسميه الأستاذ أحمد حساني الذي حدد أهمية التفريع الدلالي للفعل وحصر سماته الانتقائية إذ يخوّل لنا ذلك بقياس توارد الفعل في اللسان العربي توارداً يمنع اللبس والإبهام(1) وإن كانت السمات الانتقائية في الخطاب اللغوي الحديث قد تعرضت لنوع من (التشتيت) فغدت في بعض الأحيان غير قادرة على ضبط محكم لفئات الكلم التي ترد في رصف مع الفعل بحسب سماته الدلالية وذلك راجع لحركية العلامة اللغوية في محيط سيميائي، قد شكل فيه الانزياح الدلالي أنماطاً تعبيرية جديدة، أعادت النظر في تلك العلائق الدلالية التي ترتد إلى العرف اللغوي، الذي لم يعد يلائم الخريطة الجديدة للنظام العلائقي للعلامات اللغوية.
ج-الاسم:
__________
(1) الأستاذ أحمد حساني، المكون الدلالي للفعل في اللسان العربي، ص 135.(1/287)
يقيم الآمدي تقسيمات المفرد على تفريع دلالي يأخذ كمعيار دلالته الإخبارية أو عدم حمله لهذه الدلالة. فالاسم هو الذي يصلح لبناء الجمل الخبرية من جنسه خلافاً للفعل الذي لا يصح منه ذلك. يقول الآمدي في ماهية الاسم المفرد "هو إما أن يصح جعله أحد جزئي القضية الخبرية التي هي ذات جزءين فقط أو لا يصح فإن كان الأول فإما أن يصبح تركيب القضية الخبرية من جنسه أو لا يصبح، فإن كان الأول فهو الاسم وإن كان الثاني فهو الفعل، وأما قسيم القسم الأول فهو الحرف"،(1) وقد احتاط الآمدي في الحد الذي عرف به الاسم، وذلك بأن أخرج منه الأسماء الناقصة والمضمرة التي لا تدل على معين معلوم في عالم الدلالة، بحيث يتعذر بناء قضية خبرية ذات محتوى دلالي من أسماء مبهمة أو ناقصة يقول شارحاً ذلك: "ولا يلزم على ما ذكرناه (في الاسم)، الأسماء النواقص كالذي والتي، والمضمرات كهو وهي، حيث إنه لا يمكن جعلها أحد جزْءَي القضية الخبرية عند تجردها ولا تركب القضية الخبرية منها"(2).
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 16.
(2) المصدر السابق ج1 ص 16.(1/288)
فالاسم عنصر أساسي في أي سياق لغوي، تقتضي دلالته إرجاعاً في عالم الأعيان أو الأذهان بوصفه شيئاً له مميزات خاصة، ينقل (بيار لورة (Pierre Lerat) تعريف أرسطو: "الذي أجمل مدونة أجزاء الخطاب وعرف الاسم كالآتي: هو مقطع صوتي يقصد به دلالة متعارف عليها، خال من أي مرجع إلى الزمن ولا يدل كل جزء منه على دلالة عندما يؤخذ مستقلاً"(1) إن ماهية الاسم عند الآمدي تكاد تنحصر في اسم العلم، إذ يحيل اسم العلم مباشرة على مفهومه الذهني بحيث إذا سمع اسم تبادر إلى الذهن مسماه، على خلاف الأسماء العادية التي لا يخضع حقلها المفهومي إلى حصر أو تعيين. وفي معرض تفريع الاسم تفريعاً، يعتمد معيار الإفراد والتركيب في إحداث أنساق من الحقول المفهومية، يقول الآمدي: "ثم لا يخلو إما أن يكون الاسم واحداً، أو متعدداً، فإن كان واحداً فمسماه إما أن يكون واحداً، أو متعدداً، فإن كان واحداً فمفهومه منقسم على وجوه: القسمة الأولى: أنه إما أن يكون بحيث يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون، أو لا يصح فإن كان الأول فهو كلي، وسواء وقعت فيه الشركة بالفعل، ما بين أشخاص متناهية كاسم الكوكب أو غير متناهية كاسم الإنسان أو لم تقع إما لمانع من خارج كاسم العالم (بفتح اللام) والشمس والقمر أو بحكم الاتفاق كاسم عنقاء مغرب، أو جبل من ذهب"(2).
بهذا التحديد المتناهي، يرسم الآمدي معالم تصلح لأن تتخذ لبناء حقول دلالية ينتظم وفقها اللسان العربي، وهو ينم عن كسب منهجي أحرزه الدرس التراثي العربي.
__________
(1) Semantique descriptive P. 40.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص16.(1/289)
فالحقل المفهومي العام يحدد في الاسم قسمين اثنين: الاسم المفرد والاسم المركب أو المؤلف(1)، فالمفرد قد يدل دلالة مفردة، أو قد يدل دلالات متعددة، وهو ما يندرج تحت مصطلح المشترك اللفظي، فالاسم ذو الدلالة المفردة أو المتعددة يضم قسمين بارزين هما اللفظ الكلي واللفظ الجزئي وهما يتفرعان إلى أصناف. إن اللفظ الكلي كما حدده الآمدي، هو ما يسمى في السيمائتيك الحديث بالكلمة الغطاء التي تشرف على حقل دلالي، معلومة عناصره أو غير محددة من ذلك كلمة (إنسان) فهي تضم مجموعة من العناصر البشرية تصح أن يطلق على كل منها لفظ (إنسان) وهي عناصر، غير متناهية، فحقلها الدلالي ذو مجال مغلق من جهة ومفتوح من جهة ثانية على الشكل التالي: إنسان [عدد لا متناه من البشر ... ] وقد يكون الحقل الدلالي محدد العناصر متناهي الأجزاء كأيام الأسبوع أو شهور السنة أو رتب الترقية عند الجند وما إلى ذلك، فكلمة أسبوع على سبيل المثال لفظ كلي يغطي حقلاً معينة عناصره ومغلق مجاله من الجهتين على الشكل التالي: أسبوع [السبت-الأحد – الإثنين- الثلاثاء- الأربعاء- الخميس- الجمعة].
__________
(1) لقد وضع الفارابي (ت 339هـ) علماً خاصاً سماه علم الألفاظ بحثَ فيه بإسهاب تفريعات الألفاظ المفردة والمركبة- انظر الفصل الخاص بجهود الفارابي في تحديد ماهية الدلالة في القديم، ص 16.(1/290)
لقد أحصى الآمدي أصنافاً للفظ الكلي بناء على مجالها الإجرائي أو مجالها النظري، إذ الكلمة الغطاء تحوي أسماء مشكلة حقلاً دلالياً لا شركة بينها بالفعل إنما بالفعل كاسم العالم أو الكون، وأسماء واقعة موقع اللفظ الكلي بفعل التواضع والاصطلاح كاسم العنقاء فرغم أنه اسم وهمي إلا أن له عناصر تنضوي تحته ليس بالفعل والإجراء وإنما بالعقل والنظر، إن هذا التحديد الدقيق لحقول الأدلة يعد ضرورة لغوية ملحة ترسم لعالم اللغة إطاراً واضحاً للتعامل بوعي مع حقيقة المصطلح، وذلك من أجل الولوج إلى مقاربة وظيفية لاستنباط الأحكام من النص، فلا عجب إذن أن نرى الآمدي يخوض في تقسيمات الاسم فيذكر الاسم المتواطئ والاسم المشكك(1) وهما يقابلان على التوالي اسم الذات واسم المعنى، فالمتواطئ ما تواضع حول دلالته المجتمع اللغوي بحيث لا اختلاف في تعيين إرجاعه في عالم الأعيان، أما المشكك فهو على نقيض المتواطئ بحيث لم يقع حوله تواضع عام بين أهل اللغة فمدلوله غير موحد الدلالة كلفظ الوجود والأبيض وما إلى ذلك، وهو إشارة إلى ضرورة أخذ الحيطة العلمية في التعامل مع الاسم بتفريعاته، خاصة إذا تعلق الأمر باستنباط دلالات الأحكام من نصوص القرآن الكريم.
أما القسم الثاني المفرد فهو الاسم المركب أو المؤلف، ويدرج تحت الاسم المفرد الجزئي وهو يشكل أحد عناصر الاسم المفرد الكلي الذي سبق الحديث عنه. يقول الآمدي في ذلك: "وإما أن يكون مفهوم (الاسم) غير صالح لاشتراك كثيرين فيه فهو الجزئي وهو إما أن لا يكون فيه تأليف أو فيه"(2).
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 17.
(2) المصدر السابق، ج 1، ص18.(1/291)
إن اللفظ الجزئي في عرف المناطقة يثير في الذهن الصورة التي يعرفها محددة في عالم الأعيان وهو قد يكون مشتقاً من اسم أو فعل أو صوت وهو المسمى الاسم المنقول، أو لا يكون كذلك فهو الاسم المرتجل الذي ليس بينه وبين ما نقل عنه مناسبة، وهو ما يقابله في الدرس النحوي الاسم المشتق والاسم الجامد على التوالي، كما أشار الآمدي في الاسم إلى المؤلف الجزئي يقول في ذلك، وإن كان (الاسم الجزئي) مؤلفاً فإما من اسمين مضافين كعبد الله أو غير مضافين، وأحدهما عامل في الآخر أو غير عامل والأول كتسمية بعض الناس زيد منطلق، والثاني كبعلبك وحضرموت وإما من فعلين كقام وقعد وإما من حرفين كتسميته إنما، وإما من اسم وفعل نحو تأبط شراً، وإما من حرف واسم كتسميته بزيد وإما من فعل وحرف كتسميته قام على وبهذ يكون الآمدي بحث فيه حصر عام لاسماء في مركبات اسمية وفعلية وحرفية، على النحو الآتي:
الاسم
مفرد ... مؤلف (مركب)
كلي ... ... ... جزئي
... متواطئ مشكك ... ... ... مرتجل منقول
اسم ذات ... اسم معنى ... ... اسم جامد ... اسم مشتق
إن الآمدي كما نلاحظ، لا يؤسس أحكامه اللغوية النظرية انطلاقاً من الواقع اللغوي الإجرائي فحسب، بل إنه يرسم قواعد كلية تتموضع فيها تراكيب اللغة وعناصرها المعجمية في إطار مشروع لغوي لا يتفاعل بالواقع فحسب بل ويفعل في الواقع، وهو ما نكاد نلمسه في المباحث اللغوية في التراث المعرفي عند علماء اللغة كسيبويه والمبّرد والفّراء وغيرهم فقد يتعاملون مع تركيب (زيد منطلق) كركن اسمي مع انتفاء هذا الاسم في واقع اللغة ويبنون عليه قواعد نظرية تخص أنحاء اللغة.
2-مقومات الخطاب الإبلاغي:(1/292)
هذه الوحدات أو عناصر الخطاب(1)، سوف تضطلع بمهمة تمثيل البنية الدلالية على مستوى التركيب اللغوي، إذ يقول الآمدي "ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية حدثت الدلائل الكلامية والعبارات اللغوية"(2)، فاللغة بناء على هذا المفهوم تقوم على أساسين أو مستويين: المستوى الأول هو المستوى الفونولوجي، بحيث يحدث التلفظ الأول لمقاطع صوتية تكون ذات دلالة إذا ما كان تركيبها مختلفة أصواته، أما المستوى الثاني فهو المستوى التركيبي حيث يتم إنشاء دلائل كلامية وعبارات لغوية، إن هذا التفصيل في تشكيل الصوت العربي الذي يدخل مع أصوات أخرى مختلفة ليحدُث المقطع، ينم حقيقة عن إلمام عميق بآليات الكلام في اللغة العربية، فهي تتشكل من مقاطع كلامية سميت في الدرس اللساني بالمورفامات المشكَّلة هي الأخرى من أصوات مفردة سميت بالفونامات، وإلى ذات التقسيم اهتدى أندريه مارتينه إلى ما سماه بالتلفظ المزدوج (Double articulation) وهو تحليل يسير باتجاه معاكس لتحليل الآمدي، إذ يقرر مارتينه أن "كلاً من الوحدات الكلامية الحاصلة وفق تلفظ أول هي بدورها ملفوظة بواسطة وحدات من نوع آخر"(3)، فمارتينه ينطلق في نظريته من المستوى التركيبي (التلفظ الأول) لينتقل إلى المستوى الفونولوجي (التلفظ الثاني) بينما يرى الآمدي أن المقاطع الصوتية واختلاف تركيبات أصواتها تحدث عنه الدلائل الكلامية (المورفامات) والعبارات الصوتية (التركيب اللغوي).
أ-الخبر وأبعاده الدلالية:
__________
(1) يعني: الاسم والفعل والحرف.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 19.
(3) ميشان زكريا، الألسنية، علم اللغة الحديث، ص 32.(1/293)
إن التركيب اللغوي لا يشكل خطاباً لغوياً إلا ضمن لائحة من الشروط الذاتية والموضوعية وضعها الآمدي في إطار معيارية لقياس محمول الخطاب اللغوي وهو الخبر، ففي باب حقيقة الخبر وأقسامه "يطرح الآمدي قضية القراءة العميقة لبنية الخبر، يقول في ذلك: "أما حقيقة الخبر، فاعلم أولاً أن اسم الخبر يطلق على الإشارات الحالية والدلائل المعنوية، كما في قولهم: عيناك تخبرني بكذا، والغراب يخبر بكذا"(1).
إن الآمدي لا يكتفي بالقراءة المورفولوجية للجملة بل يعرضها عرضاً سيميائياً ظاهراً، فجملة (عيناك تخبرني بكذا) يقع فيها الركن الأسمي (عيناك) كرمز سيميولوجي لدلالة خفية تقوم بدلالة الخبر وقد سمي الآمدي ذلك "إشارة حالية" أو "دليل معنوي" وهو بذلك ينص على أنّ تلك الإشارة السيميولوجية تعد الملمح الأساس الذي يتمظهر فيه انفعال المتكلم.
وقد اعتمد "كاسيير (Kassirer) الرمز السيميولوجي لاستبطان دواخل الإنسان المتكلم حيث ذهب إلى أن الإنسان حيوان رامز، يتمظهر واقعه الدلالي في لائحة من الرموز والدوال"(2)، وقد زحفت (إمبراطورية) الرموز والعلامات شيئاً فشيئاً باسطة سلطتها على عالم الأشياء، فأضحينا نحمل في أذهاننا أشياء كثيرة من العالم الخارجي في شكل علامات لغوية، وقد اعتبر "روبنز (R.H. Robins) ، اللغة الموهبة الأكثر نوعية التي مُنِحَها الإنسان الذي سعى باحثاً عبر تاريخه الفكري الطويل عن بلوغ أفضل معرفة بذاته(3) بواسطة اللغة.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 3.
(2) د. عبد القادر الفاسي القهري، اللسانيات واللغة العربية، ص 381.
(3) Breve histoire de la linguistique de platon a chomsky P. 249-250.(1/294)
يميز الآمدي في تحديده لمفهوم الخطاب بين التركيب الخبري والتركيب الكلامي، فالخبر متعلق بالعملية الإسنادية سلباً أو إيجاباً، أما الكلام فمتعلق بقيمة الإفادة ذلك لارتباطه بالإبلاغ، يقول الآمدي معرفاً الخبر: "الخبر عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى إتمام، مع قصد المتكلم به الدلالة على النسبة أو سلبها"(1)، فالمسألة التي كانت مدار خلاف بين العلماء في عصر الآمدي هي حول تحديد مفهوم الخبر، فكان شائعاً عصرئذ التعريف القائل: الخبر ما احتمل الصدق أو الكذب ولكن بعض العلماء ومنهم الآمدي خالف هذا التعريف لوجود جمل خبرية ولكن لا يمكن أن توصف بالصدق أو الكذب كقول أحدهم: "محمد ومسيلمة صادقان في دعوة النبوة" فلا يدخله الصدق وإلا كان مسيلمة صادقاً(2) كذلك الناقل للجملة الخبرية في حاجة إلى تصديق لأن ذلك متوقف على الصدق في الإسناد (إسناد المسند إليه)، فالخبر عند الآمدي إذن تواضع مؤسَّس على النسبة وقصد المتكلم في إثباتها أو سلبها.
إن الاحتكام إلى معيار الصدق والكذب في تحديد قيمة الخبر لا يمكن أن نفصل في جدواه إذا لم نتبين واضحاً مفهوم الصدق والكذب، ولذلك يخصص الآمدي حيزاً مهماً في سبيل تعيين مفهومها يقول في ذلك" إن الخبر ينقسم إلى صادق وكاذب لأنه لا يخلو إما أن يكون مطابقاً للمخبر به أو غير مطابق فإن كان الأول، فهو الصادق وإن كان الثاني فهو الكاذب"(3)، ويعترض الآمدي بناء على ذلك على الجاحظ في تقسيمه الخبر إلى ثلاثة أقسام: صادق وكاذب وما ليس بصادق ولا كاذب، ويؤسس الآمدي اعتراضه على عنصر "القصد" في الخبر".
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 9.
(2) المصدر السابق، ج2، ص 6.
(3) المصدر نفسه، ج2، ص10.(1/295)
فإذا انتفى هذا العنصر لا يمكن أن نسمي سياقاً ما خبراً، أما إذا وجد القصد واعتقد المتلقي كذب محتوى الخبر، كان الخبر كاذباً(1) ولذلك لا يخرج السياق الخبري من أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون الخبر صادقاً أو كاذباً بناء على معايير موضوعية تخضع للواقع اللغوي، أو لا يكون السياق خبراً لافتقاده لمقومات وخصائص السياق الخبري منها وعي المتكلم بفحوى الخبر، وقصده من ورائه.
وبذلك يكون الآمدي قد أدرك أهمية سلامة البنية التركيبية وعلاقتها بالكفاية الذاتية التي يمتلكها المتكلم، بحيث يموقع فيها وعيه الكامل بمضمون الخبر الذي ينقله، إذ لا معنى لعدم وضوح الدلالة في بنية الخبر أنه يصح وصفه بالكذب، إذ الخبر قد يخرج من دلالته الحقيقية إلى دلالة مجازية، كما هو عليه بعض آيات القرآن الكريم، فمتعلق ذلك بقصد المتكلم. يشرح ذلك الآمدي بقوله: "وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كاذباً، وسواء كان ذلك اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو المجازية ولهذا: فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولاته دون البعض كما قال (رأيت عيناً) وأراد به العين الجارية دون الباصرة والعكس فإنه لا يعد كاذباً، وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء وأراد جهة المجاز دون الحقيقة، فإنه لا يعد كاذباً وذلك كما لو قال (رأيت أسداً) وأراد به المجمل المجازي دون الحقيقي وهو الإنسان"(2).
__________
(1) انظر نظرية الوضعية المنطقية ومذهب (شليك) في الحكم على صدق القضية (الجملة) وربطه بالتحقيق التجريبي في فصل (النظريات الدلالية الحديثة) ص 78.
(2) المصدر السابق، ج2، ص11-12.(1/296)
إلاّ أن ثنائية الصدق والكذب كمعيارية للحكم على فحوى الخبر، لا تلبث عند الآمدي أن تتحول إلى ثلاثية كان قد انتقضها وعارضها عند الجاحظ، وإن كان ذلك مرتبط بالخبر الشرعي ولكن ينسحب على كل خبر لغوي توافرت فيه شروط تعود إلى متنه ومضمونه وإلى ناقله بالخصوص ومتلقيه والمقام العام الذي يصرف فيه ويبث، يطلعنا الآمدي بتقسيم جديد للخبر فيقول: "إن الخبر ينقسم إلى ما يعلم صدقه وإلى ما يعلم كذبه وإلى ما لا يعلم صدقه ولا كذبه"(1)، والشيء الذي يعتمد في تعيين إثبات أو سلب المضمون الخبري هو طبيعة ناقل الخبر أساساً، والحقيقة أن الإحاطة بعالم ناقل الخبر أو المتكلم أمر لا زال محل بحث عند علماء الدلالة المحدثين، لأن قيمة دلالة التركيب الخبري تضطلع بتحصيلها عدة عوامل تخص التركيب نفسه من سلامة بُناه، وحسن رصف عناصره، وتوظيف متمكن لقواعد سلامة الإسقاط، ثم، وهو أمر مهم، موقع المرسل والمرسل إليه، فناقل الخبر هو المنتج أو المركب للخبر مبنى ومعنى مع وعي ملازم أثناء عملية الإبلاغ.
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص 12.(1/297)
إن أهم ما قررته الدراسات اللسانية الحديثة في مبحث قيمة الرسالة الإبلاغية، هو وجود مستمع أو متلق مثالي مستعد لاستقبال الرسالة الإبلاغية خال ذهنه من فحواها مسبقاً، وإلى ذات الفكرة يشير الآمدي في حديثه عن الخبر فيقول: "وأما ما يرجع إلى المستمعين، فأن يكون المستمع متأهلاً لقبول العلم بما أخبر به، غير عالم به قبل ذلك وإلا كان فيه تحصيل الحاصل"(1)، وقد نصت النظرية السياقية والمقامية إلى ذلك التطور الحاصل في مفهوم السياق(2)إذ لم يعد الاقتصار على الجانب اللغوي في إيضاح الدلالة وإنما وجدت جوانب أخرى تنحسم معها الدلالة المقصودة كالوضع والمقام الذي يحيط بالتواصل والحالات السيكولوجية التي تطبع وضع المتلقي خاصة، لقد ذهب بعض العلماء في عصر الآمدي وقبله إلى تحديد معيار العلم بالخبر، إلى تساوي المستمعين في فهم دلالته، إلا أن الآمدي يعترض على ذلك مؤكداً على ضرورة الأخذ بمقام المتلقي وأحواله النفسية، إذ الفعل الدلالي لا ينتج بمعزل عن محيطه النفسي والاجتماعي، إذ لا بد من مراعاة كل ذلك. يقول الآمدي: "ذهب القاضي أبو بكر وأبو الحسين البصري إلى أن كل عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص، لا بد أن يكون مفيداً للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه، وهذا إنما يصح على إطلاقه إذا كان العلم قد حصل من نفس خبر ذلك العدد مجرداً كما صنف به من القرائن العائدة إلى أخبار المخبرين، وأحوالهم واستقراء السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمداوله مع فرض التساوي في القرائن"(3)،
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص 25.
(2) انظر النظرية السياقية في مبحث النظريات الدلالية الحديثة، ص 70.
(3) المصدر نفسه، ج2، ص 30-31..(1/298)
ولكن ذلك غير ممكن فالاستعدادات الذاتية بين جمهور المتلقين متفاوتة وغير متجانسة، يشرح الآمدي ذلك بقوله: "كما اختص به من القرائن التي لا وجود لها في غيره وبتقدير اتحاد الواقعة وقرائنها لا يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر"(1).
ومرد ذلك الاختلاف، إلى مقام كل مستمع النفسي والاجتماعي والثقافي، فالخبر تحيط بهم قيم حافة هامشية ترتد إلى الفرد أو المجتمع وثقافته، وهو ما سمي في النظرية السياقية بالقيم الأسلوبية أو التعبيرية، فالتفاوت الحاصل بين الأشخاص على فهم الخبر يرجع إلى قوة الإدراك والفهم للقرائن، إذ التفاوت فيما بين الناس في ذلك ظاهر جداً، حتى إن منهم من له قوة فهم أدق المعاني وأغمضها في أدنى دقيقة من غير كدّ أو تعب، ومنهم من انتهى في البلادة إلى حد لا قدرة له على فهم أظهر ما يكون من المعاني مع الجد والاجتهاد في ذلك، ومنهم من حاله متوسطة بين الدرجتين وهذا أمر واضح لا مراء فيه"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص32.
(2) المصدر نفسه والصفحة نفسها.(1/299)
وما الفهم المتمكن من دلالة الخطاب الخبري إلا تعبير من المتلقي على قوة إدراكه لمختلف القرائن المصاحبة للخبر، ووقوع ذلك موقعاً مجانساً لواقعه النفسي والثقافي والاجتماعي، أما الذي تلكأ في إدراك دلالة ذلك الخطاب مع وضوح قرائنه، فلوجود هوامش في الخطاب لم تكن للمتلقي المرجعية الكافية لفك رموزها والتقاط دلالتها، وبذلك نفسر ميل الآمدي إلى الأخذ بتأويلات الصحابي الراوي لحديث نبوي فيه ألفاظ مجملة وذلك لعلمه أنه ممن أطلعوا على المقام الذي أنتج فيه ذلك الحديث النبوي والقيم الهامشية التي حفت به، يبين الآمدي هذه المسألة فيقول: "فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه، لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الأحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام، والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره"(1).
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص 115.(1/300)
وفي معرض تحديده ماهية الخطاب الشرعي، يومئ الآمدي إلى وجوب تكييف الخطاب اللغوي بما يجعل المتلقي يتهيأ لفهم دلالته، ولا يرى الآمدي التعريف القائل بأن الخطاب "هو الكلام الذي يفهم المستمع منه شيئاً"(1) تعريفاً صائباً لكونه أهمل موقع المستمع من هذا الخطاب فهو بذلك يفتقر إلى الإحاطة الشمولية بماهية الخبر الذي يتمظهر في شكل "محمول" يتموقع في بنية الخطاب الدلالية، فنحن إذن إزاء عملية تواصل وإبلاغ وجب توفير كل آلياتها حتى يتم فيها نقل الدلالة إلى السامع من غير لبس في المعنى ولا إبهام، وليحيط السامع بحيثيات الخبر المنقول إليه وما يتصل بناقله لأن ذلك مشمول في احتواء الدلالة الكاملة. يقول عبد السلام المسدي في ذلك: "على أن السامع إذ يقارن بين نظامه الخاص ونظام محدثه يتسنى له الاستدلال على أصل مخاطبه وعلى درجة ثقافته وعلى انتمائه الاجتماعي، كما أن مميزات صوته الطبيعية تعرفه على جنسه وسنه وفصيلته على المستوى الفيزيولوجي النفساني"(2).
وإلى ذات الفكرة يذهب الآمدي مستنداً على أساسين هما قوام كل خطاب موضوع لخبر، ويعني بهما: القصد عند الباث، والاستعداد والتهيؤ عند المتلقي وإذا انتفى أحد هذين الأساسين فقد الخبر قيمته الإبلاغية. يقول الآمدي موضحاً ماهية الخطاب: "والحق أنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه، (فاللفظ) احتراز عما وقعت المواضعة عليه من الحركات والإشارات المفهمة (والمتواضع عليه) احتراز عن الألفاظ المهملة، (والمقصود بها الإفهام) احتراز عما ورد على الحد الأول"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، ج 2، ص 95.
(2) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 75-76.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 95.(1/301)
إن هذا التعريف بماهية الخطاب اللغوي عند الآمدي ينسجم مع الأداء الوظيفي الذي يقوم به من الفهم والإفهام، وإن أهم وسيلة لتحقيق ذلك هي الألفاظ المنتظمة في سياقات لغوية سليمة، ثم إن إشارة الآمدي إلى اللغة السيميولوجية (وهي الإشارة والرموز والحركات ذات دلالات) دليل قوي على الاهتمام بالمنحى السيميائي العام، والرؤية الشمولية التي كانت تطبع الدرس التراثي عند الآمدي ومعاصريه، إذ تناولوا "اللغة" تناولاً كلياً تحدده قنوات التواصل المتعددة.
ب-الكلام وقيمته الإبلاغية:
لقد ميز البحث الدلالي الحديث بين مفاهيم ثلاثة عدت أسساً في الدراسة المنهجية الحديثة، على نقيض الدرس اللغوي التراثي الذي كان غالباً ما يخلط بينها في الاستعمال وهذه المفاهيم الثلاثة هي: اللغة واللسان والكلام، فاللغة مفهوم كلي عام واللسان مفهوم نمطي نوعي أما الكلام فمفهوم فردي إجرائي، أو كما يشرح ذلك المسدي بقوله: "فمتصور اللغة يجسم صورة القانون ولسان الجماعة يشكل نموذج العرف أما كلام الأفراد فيشخص مثال السلوك(1)، وهو التمثيل الفردي للغة وقد شرح ذلك دي سوسير في كتابه "دروس في اللسانيات العامة" ضمن تلك الثنائيات التي عقدها بين مجموعة من المفاهيم منها: اللغة والكلام، أما نظرة الآمدي إلى الكلام فتتمثل في كونه مركب من الألفاظ وله مظهران: مظهر لساني ومظهر نفسي يقول مبيناً ذلك تحت عنوان: "في تحقيق مفهوم المركب من مفردات الألفاظ، وهو الكلام: اعلم أن اسم الكلام قد يطلق على العبارات الدالة بالوضع تارة، وعلى مدلولها القائم بالنفس تارة، والمقصود ها هنا إنما هو معنى الكلام اللساني دون النفساني"(2).
__________
(1) اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 86.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 71.(1/302)
وظاهر أن الآمدي يميز، ها هنا بين الصيغة في حالتها الإفرادية والصيغة في حالتها التركيبية والتي تتشكل في "الكلام" وبذلك تتضح لدى الآمدي رؤية لسانية متقدمة، في نصّه على القيمة الدلالية التي تكتسبها الألفاظ ضمن "الكلام" وهو ما تؤكده الدراسات الدلالية الحديثة واللسانية بصفة عامة، حيث أشار سوسير إلى أن القيمة اللغوية للكلمة تكمن في صلتها ببقية الكلمات الأخرى باعتبار السياق الكلامي نسيج متشعب من العناصر والصور، كما يتبدى تمييز الآمدي بين الصورة السمعية والأثر السيكولوجي لها، وذلك بإشارته إلى المدلول القائم بالنفس وعلى أساس ذلك يكون الآمدي قد أشار ضمنياً إلى المثلث اللساني لريشاردز وأوجدن الذي يحدد الجوانب الثلاثة بما سماه دي سوسير "الدليل اللساني (Le signe linguistigue) وهي: الدال (الصورة السمعية)- المدلول (الشيء الخارجي) – الأثر السيكولوجي المحتوى الفكري).
إن الكلام النفساني عند الآمدي، ينحصر في تلك المعاني المترددة في النفس، فهي تشكل عوامل دلالية تتمظهر في أشكال لغوية متعددة لسانية وغير لسانية، وإن المقاطع الصوتية التي تدخل في تشكيلها الحروف هي التي تكوّن الكلام اللساني، وإذا انتظمت هذه المقاطع بحيث كانت لها ولأصواتها دلالة كان للكلام قيمة وظيفية أما إذا لم تخضع تلك المقاطع إلى نظام تتشكل وفقه أصواتها كان الكلام تركيباً خالياً من الدلالة، "فالكلام اللساني قد يطلق تارة على ما ألف من الحروف والأصوات من غير دلالة على شيء يسمى مهملاً وإلى ما يدل"(1).
__________
(1) المصدر السابق،. ج1، ص 71.(1/303)
إن مصطلح "الكلام" في التراث المعرفي العربي، كان قد حدد بصورة علمية قد لا تختلف عن تلك التي حددها علماء اللسانيات المحدثون، وظاهر ذلك من خلال تلك الآراء والأفكار التي عرضها الآمدي لعلماء عصره الذين اختلفوا في حصر دقيق لماهية الكلام، فمنهم من عد الكلمة الواحدة المؤلفة من حرفين فصاعداً كلاماً، كما اعتبر بعضهم الكلام هو الأصوات المسموعة الدالة وذلك احتراز من حروف الكتابة فإنها ليست كلاماً، كما تباينت الآراء في اعتبار التركيب غير المنتظم العناصر، كلام، فذهب بعض العلماء إلى أنه كلام لأن عناصره في حالتها الإفرادية ذات دلالة بينما رفض البعض الآخر أن تعد كلاماً لأن السياق العام لا يؤدي دلالة، يقدم الآمدي رأي الأصوليين في ذلك فيقول: "فذهب أكثر الأصوليين إلى أن الكلمة الواحدة، إذا كانت مركبة من حرفين فصاعداً كلام، ولا جرم، قالوا في حده: هو ما انتظم من الحروف المسموعة المميزة المتواضع على استعمالها الصادرة عن مختار واحد"(1).
وفي مقام تصويبه للتراكيب الكلامية، يعتمد الآمدي معيارية الإفادة في ضرورة وجود قواعد ضابطة تجعل الكلام مفيداً، وهو في ذلك يسوق تعريف الزمخشري للكلام حيث يقول: "الكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى"(2).
وعلى أساس ذلك يقتضي السياق الكلامي مستويين:
* المستوى الأول: مستوى البنية النحوية التي تتمثل في وجود عملية الإسناد.
* المستوى الثاني: هو مستوى البنية الإبلاغية والتي تتحدد بتوافر عنصر الفائدة في الكلام.
فنلاحظ إذا من خلال قول الآمدي تقاطع علاقتين في إنشاء الكلام:
- ... علاقة ذهنية عقلية في ترتيب عناصر العملية الإسنادية بحسب التأليف بين طرفي الإسناد ومراعاة قواعد السلامة النحوية.
- ... وعلاقة منطقية في محمول عملية الإسناد، إذ الفائدة الدلالية شرط في عملية الإبلاغ التي يضطلع بها الكلام.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 72.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 72.(1/304)
فالآمدي يؤسس نظريته حول الكلام على عنصري الإفادة وحسن الإسناد، فإذا انتفت الإفادة مع وجود الإسناد لا يسمى التركيب كلاماً، وهو ما يؤكد شمولية الاهتمام –عند الآمدي- بالوظيفة الأساسية للكلام وهي الإبلاغ، فالنظم الحسن ينشئ الكلام(1) المفيد، يقول الآمدي: "الكلام ما تألف من كلمتين تأليفاً يحسن السكوت عليه"(2).
إن معيار الكلام المؤلف تأليفاً سليماً يتمظهر في القناة السليمة، التي يتم عبرها نقل الرسالة الدلالية ليحصل الإبلاغ، ويتحقق التواصل حيث يكون مقياس ذلك هو سكوت المتخاطبين عن لغة الرسالة، وقواعدها، وآلياتها، تعبيراً منهم أن التأليف صحيح في تركيبه واتساق عناصره.
ج- الخطاب الإبلاغي وأنماطه:
لم يتناول الآمدي الخطاب اللغوي من زاوية دلالته الآنية عندما يوظف للاتصال والإبلاغ، وإنما كذلك من زاوية دلالته الزمانية. وإن ذلك متعلق بالكلام المكتوب وفي هذا السياق قدم الآمدي خطاب النهي على أنه لا يفيد التكرار والدوام وإنما يفيد الدلالة على المرة الواحدة في حالته العادية أما إذا دل على الدوام كان ذلك لوجود قرينة يقول في ذلك: "النهي حيث ورد غير مراد به الدوام، يجب أن يكون ذلك لقرينه"(3).
__________
(1) انظر في ذلك في الفصل السابق، نظرية النظم عند الجرجاني، ص 119.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 73.
(3) المصدر نفسه، ج 2، ص 194.(1/305)
وقد تدخل الخطاب اللغوي عناصر تعدل في دلالته العامة التي تتعرض للتخصيص بفعل أدوات لفظية، كالاستثناء والشرط والصفة، وقد دار جدال بين جمهور العلماء في مسائل تتعلق بتخصيص الخطاب بإحدى أدوات التخصيص، هل يكون العموم في المخصص حقيقة أو مجازاً؟ بمعنى هل اللفظ العام المستغرق للجنس يجوز حمله على البعض؟ بعدما يعرض الآمدي آراء العلماء في هذه المسألة يتقدم برأيه فيقول: "والمختار تفريعاً على القول بالعموم أنه يكون مجازاً في المستبقى واحداً كان أو جماعة، وسواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً، عقلياً أو لفظياً، باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة"(1)، إن فعل "التخصيص" لا يتحقق إلا في خطاب يتصور فيه العموم أما الخطاب الخالي من العموم فلا يمكن تخصيصه" لأن التخصيص على ما عرف، صرف اللفظ عن جهة العموم إلى جهة الخصوص وما لا عموم فيه لا يتصور فيه هذا الصرف وأما ما يتصور فيه الشمول والعموم فيتصور فيه التخصيص"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص 228.
(2) المصدر نفسه، ج2، ص 287.(1/306)
وقد خصص علماء اللغة المحدثون مباحث هامة تناولوا من خلالها موضوع تغير الدلالة وعاينوا مظاهرها كالانحطاط والرقي، والتضييق والتوسيع وغير ذلك من المظاهر(1)، إلا أن علماء الأصول كانوا أعمق في تناول تغير الدلالة، ذلك أن من مظاهر الخطاب اللغوي الأكثر وروداً في التوظيف اللغوي العام هو الوعي بالآليات المحددة لشمولية الدلالة أو لخصوصيتها، فإذا كان حمل اللفظ على جميع محامله في الخطاب اللغوي يستند إلى خلو الخطاب من أدوات التخصيص، فإن تعيين محمول مخصوص يرجع إلى وجود إحدى هذه الأدوات، ولذلك انبرى الآمدي يعرف هذه الأدوات مستنداً في ذلك على تقديم الأمثلة ومناقشتها فيقول في الاستثناء: "الاستثناء، عبارة عن لفظ متصل بجملة لا يستقل بنفسه دال بحرف (إلا) أو أخواتها، على أن مدلوله غير مراد مما اتصل به ليس بشرط ولا صفة ولا غاية"(2)، فالاستثناء طريق من طرق التخصيص في اللفظ العام، ونحوياً يعرف بأنه إخراج حكم ما بعد إلا وأخواتها عن حكم ما قبلها، وبذلك تتضح دلالة الخطاب اللغوي اعتماداً على هذا الوعي ببنية التركيب، ومن طرق تضييق الدلالة كذلك الشرط وله طرائق ثلاث: الشرط العقلي والشرط الشرعي والشرط اللغوي، فتحقيق دلالة التركيب الشرطي مرتبط بدلالة التزام بين الشرط والمشروط يقول الآمدي محدداً أقسام الشرط: "وهو منقسم (أي الشرط) إلى شرط عقلي كالحياة للعلم والإرادة وإلى شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم وإلى لغوي وصيغه كثيرة وهي: إن الخفيفة وإذا ومن وما ومهما وحيثما وأينما وإذما"(3).
__________
(1) إبراهيم أنيس، انظر ذلك في كتاب دلالة الألفاظ، ص 152 إلى 167.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 287.
(3) المصدر السابق، ج 2، ص 309.(1/307)
إن السياق الذي يتضمن التركيب الشرطي يحمل دلالات إضافية لا يكون المتلقي على علم بها، لولا وجود الشرط، ولذلك يسوق الآمدي مثالاً ينص على أن التخصيص بالشرط قد أخرج من الدلالة العامة دلالة خاصة، ولولاه لأدى الخطاب دلالة الشمول والتعميم، يقول الآمدي في ذلك: "إنه (أي الشرط) يخرج منه ما لا يعلم خروجه دونه كقوله: (أكرم بَنِي تميم إن دخلوا الدار) فإنه يخرج منه حالة عدم دخول الدار، ولولا الشرط لعم الإكرام جميع الأحوال، ولم يكن العلم بعدم الإكراه حالة عدم دخول الدار حاصلاً لنا فكان مخصصاً للعموم"(1).
ومثل الشرط هناك طريق التخصيص بالصفة وهي تأتي بعد اللفظ العام فتخصصه، وتخرج الدلالة الخاصة من الدلالة العامة، كما تعد (الغاية) إحدى أدوات التخصيص وتضييق دلالة الخطاب العامة وصيغها معلومة في اللغة وهي: إلى وحتى وما كان في معناهما من الحروف والأدوات، وأثر الغاية في دلالة التركيب أنها تحد الحكم ولا تتركه مطلقاً، والغاية نوعان: غاية زمانية وغاية مكانية يقول الآمدي:
"قوله" أكرم ببني تميم أبداً إلى أن يدخلوا الدار"، فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الإكرام بما قيل الدخول وإخراج ما بعد الدخول عن عموم اللفظ ولولا ذلك لعم الإكرام حالة ما بعد الدخول"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص 10.
(2) المصدر نفسه، ج2، ص 313.(1/308)
بهذا الوعي العميق لآليات تضييق الخطاب يحلل الآمدي مفهوم الحدث الإبلاغي الذي تتحكم فيه شبكة شديدة التركيب من العناصر والأدوات والصيغ والقواعد. إن أدوات التخصيص الأربعة (الاستثناء – الشرط- الصفة- الغاية) تعد إحدى الطرق المنهجية الدقيقة التي وظفها الآمدي في تعامله مع النص القرآني، ومن ثمة أضحى الخطاب اللغوي يخضع لقيود شكلية تتحكم في سياقه المضموني فبدت تلك القيود معايير تعتمد لاستنباط الحكم الصحيح، ولا يمكن أن نسعى إلى تأسيس وعي دلالي ما لم نكن على دراية عميقة بمقتضيات التواصل والإبلاغ، ومع كل إنتاج كلامي للباث توضع قواعد للتركيب وأخرى للدلالة، لا تخلق خلقاً بل تنقل من حيز القوة إلى حيز الفعل، إن المشكِّل للخطاب اللغوي (الباث) يعد المركز الذي تجمع إليه كل فعاليات الحدث الإبلاغي، فله القدرة على "استفزاز" المتلقي أو السامع، وحمله على الدخول في عالمه الدلالي الذي هو مصدر تشكل الخطاب بأنساقه وأنماطه وصيغه، يقول ميشال فوكو، إن المؤلف ليس هو الذي يتحدث أو ينطق أو يكتب نصاً بل المؤلف كمبدأ تجميع الخطاب، كوحدة وأصل لدلالات الخطاب، وكبؤرة لتناسقها"(1).
إن تشكيل الخطاب اللغوي بمراعاة تشابك عناصره الداخلية والخارجية، يقتضي أن يقوم الباث أو المؤلف باختيار ألفاظه ثم يركبها وفق معيار النحو والبيان آخذاً لحظة إبداعه للخطاب، مقتضى حال المخاطب وقدرته ليس على فهم الرسالة الإبلاغية فحسب، بل وعلى تبني مضمونها بفك أنماطها الذاتية وسننها العلامية، وقد أشار الآمدي في مبحث تخصيص الخطاب، إلى أدوات التخصيص غير اللفظية وعنى بها الدليل العقلي والدليل الحسي وهي من الأدلة المنفصلة كونها أدلة خارجة عن بنية الخطاب وترتد إلى استعداد المتلقي المثالي، على إخراج بعض الدلالات الخاصة من دلالات الخطاب العامة بقدرته العقلية والحسية ... (2).
__________
(1) ميشال فوكو، نظام الخطاب، ص 19.
(2) انظر الإحكام، ج2، ص 315.(1/309)
ومن ضمن أنماط الخطاب الإبلاغي يشير الآمدي إلى خطاب "الأمر" وهو يتعلق بالدلالة التركيبية التي يشرف على تعيينها السياق، وعدّ قسماً من أقسام الكلام سواء في نمطه الفونولوجي أو نمطه الخطي، إن صيغة الأمر لا تنعقد دلالتها إلا بتوافر قرائن منها ما يعود للآمر وهي تشمل القصد في إحداث الأمر، ومنها ما يعود إلى المأمور(1) وهو الامتثال للأمر إلا أن الآمدي لا يرى شرط الامتثال للأمر قرينة محددة لصيغه، فالمأمور قد يتخذ من خطاب الأمر موقفاً إيجابياً وقد يكون موقفه سلبياً، بعدم الامتثال، وتحديد الآمدي لهذه المسألة ينم عن وعي كبير بجوهر العملية الإبلاغية والتواصلية يقول شارحاً ذلك: "إن الأمر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير الصيغة، فإن كان هو نفس الصيغة، كان الكلام متهافتاً من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة، والدال غير المدلول، وإن كان هو غير الصيغة، فيمتنع أن يكون الأمر هو الصيغة"(2).
__________
(1) انظر في ذلك النظرية السياقية التي أعطت للمتلقي دوراً في ربط الخطاب بالمقام، فالقول البحث عن مقامه غالباً ما يستعصي عن التأويل، ص 70.
(2) المصدر السابق، ج2، ص 140.(1/310)
إن الآمدي يحصر الأمر في الطلب على جهة الاستعلاء، ويعترض على تفسيره بالصيغة والإرادة لأن ذلك أدخل في تعريف الأمر، بما هو أخفى منه، ومع ذلك لم يحسم الآمدي الخلاف حول حد الأمر واكتفى بحصر ما اتفق العلماء بشأنه من كون الأمر قسماً من كلام العرب، أما ما بقي فهو محل نزاع لفظي، وقد ارتأى الآمدي إنهاء هذا الخلاف العلمي بهذا الشكل، لأن الأمر إذا أدى دلالته من غير لبس أو غموض بناء على توافر عناصره، فقد استوفى حده. يقول مبيناً هذا الأمر: "إجماع العقلاء منعقد على أن الأمر قسم من أقسام الكلام وأنه واقع موجود لا ريب فيه، وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والإرادة بما سبق. فما وراء ذلك هو المعنى بالطلب، والنزاع في تسميته بالطلب بعد الموافقة على وجوده، فأيل إلى خلاف لفظي(1)، وواضح أن الآمدي وظيفي في تحليله، فهو يعتمد أساساً على معيار الاستعمال الوظيفي(2) ولا يكتفي بالتنظير المجرد، فهو يرى أن الأمر يدل دلالة الحقيقة على الطلب حتى ولو كان مجرداً من القرائن الدالة على ذلك، وقد يتعلل البعض على صرف دلالته من الحقيقة إلى وجود عرف لغوي (استثنائي) من هذا الانزلاق الدلالي للأمر من الطلب إلى دلالات أخرى كالإباحة والتعجيز والتهديد وما إلى ذلك مما هو ميسر في كتب البلاغة العربية، فبعد أن بين الآمدي أن صيغة (افعل) إذا وردت في الخطاب وجاءت قرائن تدل على أنها للطلب، كانت كذلك، ولا يمكن أن نصرفها إلى دلالات أخرى، يرد على العلماء الذين ذهبوا إلى أن الأمر قد يخرج لدلالات أخرى لعرف طارئ فيقول: "فإن قيل: يحتمل أن يكون ذلك بناء على عرف طارئ على الوضع اللغوي، كما في لفظ الدابة والغائط قلنا جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ، وبقاء الوضع الأصلي على حاله"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، ج2، ص 145.
(2) وهذا ما يؤكده رائد المدرسة التجريدية "إدوارد ساميير" في كتابه –اللغة- ص 34-37.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 144..(1/311)
إن خطاب الأمر هو شكل من أشكال العقد الواعي بين الباث والمتلقي، فالباث للرسالة الدلالية التي يحملها خطاب الأمر يستجيب لمنبهات تحمله إلى صوغ أسلوب إبلاغي يحاول من خلاله أن يدفع المتلقي لا إلى فهم الرسالة الإبلاغية، بل وإلى تقمص مضمونها والاستجابة لخطابها بكيفية إيجابية، هذا ما تقرَّر في الدرس الدلالي الحديث حول نظام الإبلاغ في الخطاب، وفي هذا المجال يربط الآمدي دلالة الأمر بالاستجابة لصيغتها فتلك هي مفهومها مطلقاً أما الدلالة على الترك واتخاذ الموقف السلبي من فحواها فله أسلوبه الخاص وهو خطاب النهي، كما لا يمكن أن نتصور أن المتلقي سيرضخ لسلطة الخطاب الأمري وإنما سيتحرك في مساحة من الاختيار فيها الندب والواجب، إذ قد يماشي المتلقي الباث للخطاب في أمره وقد يخالفه. يشرح ذلك الآمدي بقوله: "إن المكلف إذا نظر فظهر له أن الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر"، إن تحقق مضمون خطاب الأمر يستدعي معرفة عميقة بآليات صياغته، خاصة وأن المتلقي مدعو إلى إحداث نقلة نوعية لهذا الخطاب تدل على استيعاب سليم لدلالته بعد تحليل لنظامه العلامي، ولذلك طرحت قديماً مسألة وجود القرائن التي تعيّن الدلالة في أسلوب الأمر، وبالتالي اقتضاء الأمر التكرار والدوام أو المرة الواحدة، فالآمدي يميل إلى دلالة الأمر على المرة الواحدة إذا كان الأسلوب عرياً من القرائن الصارفة واحتمال التكرار في وجود القرائن. يقول موضحاً ذلك: "والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً، والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه، وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافياً"(1)،
__________
(1) المصدر نفسه، ج 2، ص 155..(1/312)
كما يذهب الآمدي إلى أن سياق خطاب الأمر ينبغي أن يراعى فيه الاستغراق الزمني، لأن عليه يتوقف تحديد دلالة الأمر على التكرار أو المرة الواحدة، معنى ذلك أن الاستغراق في الأمر مجاله الزمني لا متناهٍ بينما المرة الواحدة مجالها الزمني ضيق محدد بفترة معينة، ويقابل ذلك الآمدي بين دلالة الفور ودلالة التراخي في خطاب الأمر، وهي مسألة من الأهمية بمكان خاصّة وأنها ذات صلة بالتعامل اللغوي الإنساني(1)، إن دلالة الأمر على الفور والتحقيق الآني لمضمونها متعلق بوجود قرينة أو أكثر دالة على ذلك في الخطاب، أما دلالة التراخي فلا تحتاج إلى قرينة. يحدد ذلك الآمدي بقوله: "فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر، لأن مقتضى الأمر المطلق عند تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت، ومن قال بالفور فلا بد له من دليل ثاني الحال"(2).
إن أهم ما انصب حوله اهتمام علماء اللغة المحدثون، هو البحث في كل مستويات الحدث اللغوي من مرحلة ميلاده إلى مرحلة بلوغه وظيفته ثم بتحقيق مردوده عندما يولّد رد الفعل المنشود وبذلك تناولوا اللغة في مظاهرها الثلاثة: المظهر الأدائي والمظهر الإبلاغي ثم المظهر التواصلي، وفي إطار ذلك بحثوا طواعية الرمز اللغوي لكي يكون له معادل موضوعي في واقع الاستعمال اللغوي، وأكدوا أن لا انفصال في الزمن بين قيام الرمز وحصول دلالته عند متقبله(3).
__________
(1) د. كمال محمد بشر، انظر دور الكلمة في اللغة في المقدمة، ص 6 من كتاب (ستيفن أولمن).
(2) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 159.
(3) د. عبد السلام المسدي، انظر في ذلك اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 64، ص 81.(1/313)
إلا أن الآمدي كان أعمق تحليلاً في نصه على عامل الزمن، في تحقيق دلالة خطاب الأمر الذي هو نمط من أنماط المنظومة اللسانية، التي تتكون من رموز لغوية دالة، ومن ذلك فإن خفيت القرينة المحددة للدلالة الزمنية لخطاب الأمر وألبس على المتلقي تحديد الغاية، كان مخيراً بين الفور والتراخي. يشير إلى ذلك الآمدي فيقول: "قولهم بالتعجيل أحوط للمكلف (يعني القول بالفور) قلنا الاحتياط إنما هو بإتباع المكلف ما أوجبه ظنه، فإن ظن الفور، وجب عليه إتباعه، وإن ظن التراخي وجب عليه إتباعه"(1).
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج2، ص 169.(1/314)
إن اللفظ الغطاء الذي يشرف على مدلولات جزئية تشكل حقلاً دلالياً يخضع لروابط علائقية تشترك في الدلالة الكلية التي لا تتموقع في عالم الأعيان وإنما محلها عالم الأذهان، فمثلاً لفظ (البيع) هو لفظ ينضوي تحته حقل من المدلولات الجزئية كالبيع بالتقسيط، والبيع الغرر وما إلى ذلك من أشكال البيوع المشروعة أو المحرمة، فإذا نص خطاب الأمر على اللفظ الكلي فهل إتيان المأمور لمعنى جزئي منه هو تحقيق للخطاب أم لا؟ لقد أسس الآمدي بناء على هذه الرؤية نظرته للتدليل على أن طلب وقوع فعل الأمر لا يكون إلا بالجزئيات، الواقعة في عالم الأعيان، ولا يكون بالدلالة الكلية لأنه لا وجود لها إلا في عالم الأذهان، فإذا ورد سياق الأمر مجرداً من قرينة صارفة لدلالته وكان فهم المتلقي لدلالته المطلقة، صح الفهم وصدق الموقف وهي رؤية تبناها بعض علماء الدلالة المحدثين وتفرعت عندهم إلى مسائل مختلفة من ذلك افتراض وجود دلالة العوالم الممكنة عند فريجة (Possible world semantics) وإن كان قد قوبل بالانتقاد الشديد من قبل علماء عصره(1)، وهذه الفكرة تبلورت عند غريمارس في ذلك التشاكل الحاصل بين السمات المعنوية الصغرى (Semes) والسمات الصوتية الصغرى(2) (Phemes) في هذا النحو يقدم الآمدي مثالاً توضيحياً حول اقتضاء الأمر للدلالة الجزئية، فيقول: "وإن سلم أن الأمر متعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع، فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش، فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به الموكل فيه، فوجب أن يصح نظر إلى مقتضى صيغة الأمر المطلق بالبيع، وإن قيل بالبطلان، فلا يكون ذلك لعدم دلالة الأمر به، بل لدليل معارض"(3).
__________
(1) انظر اللسانيات واللغة العربية د. الفاسي، ص 381.
(2) انظر فصل ماهية الدلالة عند المحدثين (غريمارس)، ص 30.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 184.(1/315)
والحقيقة أن هذه الرؤية الآمدية تعد ذات أهمية بالغة لمستوى التواصل بين باث ينتظم الخطاب في ذهنه قبل انتظامه في ألفاظه وبين متلقٍ له مرجعيته الذاتية يستطيع وفقها تفكيك الخطاب وإدراك دلالته، إلا أن الآمدي- كما هو شأن معظم علماء الدلالة واللسانيات المحدثين- يركز على ناقل الخطاب (الباث) الذي يملك وعياً لغوياً يجعله يكيف خطابه الإبلاغي حسب أصناف الناس المتلقين للخطاب، ومع ذلك يتحمل نسبة كبيرة مما قد تتعرض له رسالته الإبلاغية من تحويل أو تحوير في فهم مضمونها الدلالي.
إن الحدث الإبلاغي بتجلياته على مستوى التركيب والتنسيق وعلى مستوى النمط التنظيمي لعناصره شكل في كتاب "الإحكام" المحور الأساسي الذي انتظمت في دائرته تلك الأحكام اللغوية التي أجراها الآمدي مجرى السنن والقوانين المتحكمة في أي إنتاج كلامي، وقد أبان ذلك التحليل المستوفي لجوانب الخطاب قدرة النظام اللغوي العربي على احتواء التنظيمات الخاصة بصرف الدلالات إلى أوجهها الصحيحة. كما أوضح الآمدي أن لا مناص لعالم الأصول المشتغل في حقل الفقه من أدوات لغوية دقيقة تقع من حقله هذا، موقع المنطق من الفلسفة.. ونحن على يقين أن دراسة النظام الإبلاغي كما حدده الآمدي بكل آلياته ومتعلقاته، يستحق مجالاً خاصاً تستجلى من خلاله تلك القواعد العميقة المجردة التي تقف وراء هذا التناسق المعياري الدقيق لمنظومة الخطاب.
(((
الفصل الرابع:
الحقيقة والمجاز عند الآمدي
تمهيد:
إن المنظومة اللغوية تنزع نحو التمدد والتغير اللازمين لتغطية مجمل الحاجات اللغوية التي يقتضيها الخطاب الإبلاغي في الأحوال المختلفة، ولذلك استقر في أذهان اللغويين المحدثين أن محاولة الإبقاء على معنى قار دون أن يخضع لعوامل التغيير الدلالي هو ضرب من النمطية التي يرفضها النظام اللغوي المتجدد.(1/316)
ولعل أبرز العوامل التي تنتظم التغيّر الدلالي هو الطابع الاجتماعي للغة، الذي يلقي بتأثيره على الطابع الذهني والفكري لدى أهل هذه اللغة إذ تغدو المنظومة اللغوية حاملة للقيم الاجتماعية والفكرية المستجدة. وفي ضوء ذلك نفسر مذهب "رونالد بارت (Roland Barthes) ،" واتباع نظرية سيمولوجية الدلالة الذين اعتبروا المعنى المعجمي معنى مشوشاً دائماً لأنه معرض للتغيير والتطور بفعل الاستعمال الاجتماعي للرمز الدلالي(1) إذ يفتح أمامه إمكانية تغيير المجال الدلالي وهو ما بحث مظاهره اللغويون محددين مستويات مختلفة منها: مستوى النقل ومستوى التغيير الانحطاطي أو المتسامي، وذلك بتخصيص الدلالة أو تعميمها(2)،
__________
(1) Introduction à la sémiologie, P 21. Dalila Morsly, Francois chevaldonne et autres ...
(2) انظر ذلك في كتاب: دور الكلمة في اللغة: ستيفن أولمن، ترجمة كمال بشر، ص 161. وكتاب: علم اللغة: د. محمود السعران ص 388-401. وكتاب: دلالة الألفاظ. إبراهيم أنيس، ص 148-155..(1/317)
ثم مستوى الحذف والتعويض وذلك بملء الفجوة الدلالية التي تركها اللفظ المندثر بدلالة جديدة تستدعيها الظروف اللغوية، وقد يحدث أن يعاد اللفظ القديم (المندثر) ليحمل دلالة جديدة تلائم الحاجة اللغوية المستجدة، هذه الحركية أو الدينامية التي تميز العناصر اللغوية داخل النظام اللساني، يمكن حصرها في تقاطع حقلين رئيسيين على جميع مستويات التغيير الدلالي هما: حقل الحقيقة وحقل المجاز، حقل الدلالة الأصلية، وحقل الدلالة المحوّلة ولما كان المجاز يعد الجسر اللغوي الذي تنتقل عبره الدوال إلى المدلولات الجديدة أو العكس، كان ذلك مظهراً على قوة الطاقة التعبيرية في اللغة ولا أدل على ذلك أن ظاهرة المجاز ظاهرة عامة لكل الألسنة يلجأ إليها المجتمع اللغوي لتوليد المعاني الضرورية خاصة في إغناء الرصيد المصطلحاتي الخاص بالتواصل العلمي المعرفي، فهو إذن ضرب من العقلنة في باطن منظومة أساسها ومنطلقها الاعتباط المحض، لأن مبعثه هو الاقتران العرفي الذي لا يلبث أن يتحول إلى إطراد معقول يأخذ اللغة من الحاجة إلى الكفاف ومن التوحد الدلالي إلى طواعية التكاثر فيصبح هذا التولّد المستمر ينبوعاً في اللغة لا ينضب(1). إذن فمهمة المجاز تقوم على أساس التحديد المفهومي للحقل الدلالي إذ تستوعب اللغة المدلولات المستحدثة بتفجير طاقاتها التعبيرية الكامنة القادرة على موازاة ما طرأ من جديد في عالم المفاهيم أو عالم الأشياء.
__________
(1) د. عبد السلام المسدي، اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 96-97.(1/318)
يقول عبد السلام المسدي في ذلك: "[المجاز] هو محرك الطاقة التعبيرية في ازدواجها بين تصريحية وإيحائية، بين طاقة موضوعة جدولية، وطاقة سياقية جافة فمكمن المجاز استعداد اللغة لإنجاز تحولات دلالية بين أجزائها، يتحرك الدال فينزاح عن مدلوله ليلابس مدلولاً قائماً أو مستحدثاً، وهكذا يصبح المجاز جسر العبور تمتطيه الدوال بين الحقول المفهومية"(1). بهذا التنظير العلمي تنكشف طبيعة النظام اللغوي وتتضح حركيته التي تغدو بعد حين تلقائية مطردة.
لقد كان هذا الوعي المعرفي الذي بلورته الأبحاث اللغوية الحديثة، أس تعامل علمائنا القدامى مع جميع صنوف البحث الذي يتخذ اللغة العربية مادة أو وسيلة للدراسة، , ولا عجب أن يطالعنا ابن رشد بمصطلح "التأويل" شارحاً أبعاده بقوله: "ومعنى التأويل، هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي"(2).
__________
(1) عبد السلام المسدي: النواميس اللغوية والظاهرة الإصطلاحية، ص 23، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30-31، سنة 1984.
(2) فصل المقام فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال: ص 19-20.(1/319)
ويزداد اهتمام العلماء بدقة البحث مع اهتمام بحسن التأويل كما شرحه ابن رشد، كلما تعلق الأمر بالقرآن الكريم واستنباط أحكامه وذلك لكمال نظامه اللغوي وانطوائه على النواميس المصرفة للكلام، وفي هذا المجال يبرز جمهور الأصوليين وقد امتلكوا وعياً معرفياً لغوياً يحدوهم لأن يتعاملوا مع نصوص القرآن الكريم تعاملاً حذراً، آخذين في سبيل تأويل دلالاته كل الأدوات المناسبة وفي مقدمتها اللغة وطاقاتها التعبيرية. وسننها في الإنشاء والقول، وتصانيف الكلام التي من ضمنها: الحقيقة والمجاز وما يتعلق بهما من أقسام، ومعايير ضابطة لطبيعتها. وعلاقة كل منهما بالآخر وغير ذلك مما هو مبسوط الكلام حوله في مداخل كتب الأصوليين وفي ثناياها ومنها كتاب "الإحكام" للآمدي، إذ فصل فيه القول حول ماهية الحقيقة والمجاز، وأقسامها، والمعايير المميزة لكل قسم وقد جر ذلك الآمدي إلى الحديث عن بداءة الأسماء الشرعية هل هي حقيقة أم مجاز؟. وعلاقة الجزء بالكل وهل تكون الدلالة الشرعية، عندئذ، شاملة؟ وغير ذلك مما سنبرزه في موضعه من هذا المبحث.
1-ماهية الحقيقة وأقسامها:(1/320)
يؤسس الآمدي تعريفه للحقيقة باعتبار مفهومها اللغوي، ذلك أنه بين المفهوم اللغوي لها والمفهوم الإصطلاحي علاقة ظاهرة، إذ الحقيقة في المفهوم العام تعني الصورة الثابتة للشيء في أذهان الناس، يجمع كلهم أو السواد الأعظم منهم على أنها الحقيقة وهي نقيض الباطل أو الزيف وقولنا عن اللفظ أنه حقيقة يعني دلالته أصلية فيه، ثابتة بالوضع اللغوي الأول يوضح الآمدي هذه المسألة بقوله: (أما الحقيقة) فهي في اللغة مأخوذة من الحق، والحق هو الثابت اللازم، وهو نقيض الباطل، ومنه يقال حق الشيء حقه، ويقال حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللازمة ومنه قوله تعالى: (ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين) أي وجبت، وكذلك قوله تعالى: (حقيق علي أن لا أقول) أي واجب عليّ"(1). أما مفهوم "الحقيقة" الاصطلاحي فيؤسسه الآمدي على اعتبار الوضع أو الاقتران العرفي بين الدال والمدلول، ولذلك فالحقيقة كمبحث في اللغة هي من عوارض الألفاظ التي تخضع دلالاتها لتواضع عام "أوّلي" يخرج من حيز القوة إلى حيز الفعل. يشرح ذلك الآمدي بقوله: "والحق في ذلك أن يقال: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً في اللغة، كالأسد المستعمل في الحيوان الشجاع العريض الأعالي، والإنسان في الحيوان الناطق"(2). وواضح أن الآمدي قد وقف من تعريفات الأصوليين واللغويين للحقيقة في عصره، موقف المتحفظ متخذاً بناء على ذلك تقسيمات للحقيقة الوضعية إلى ثلاثة أنواع وهي موضّحة فيما يأتي:
الحقيقة الوضعية
الحقيقة اللغوية ... ... الحقيقة العرفية ... الحقيقة الشرعية
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص 26.
(2) المصدر السابق،. ج1،. ص 27.(1/321)
ويخضع كل قسم حسب رأي الآمدي إلى طبيعة الواضع، فإذا كان صاحب الوضع هو اللغوي كانت الحقيقة لغوية وإذا تعارف الناس واصطلحوا حول اقتران دال بمدلول كانت الحقيقة عرفية أما إذا كان الواضع هو الشارع فإن الحقيقة هي حقيقة شرعية، وقد يخضع كل قسم إلى تفريع داخلي من ذلك تخصيص الحقيقة العرفية العامة ويتم بتحويل دلالة اللفظ من العموم إلى الخصوص، مثل ذلك لفظ (الدابة) كان في وضعه الأول يدل على كل ما يدب على الأرض فحصل تخصيص محل دلالته بأن أضحى يدل على ذوات الأربع عرفاً. يقول الآمدي معرفاً ذلك: "أن يكون الاسم قد وضع لمعنى عام ثم يخصص بعرف استعمال أهل اللغة ببعض مسمياته، كاختصاص لفظ الدابة بذوات الأربع عرفاً وإن كان في أصل اللغة لكل ما دب وذلك إما لسرعة دبيبه أو كثرة مشاهدته أو كثرة استعماله أو غير ذلك"(1). وأطلق على هذا النوع من التغيّر الدلالي "بتضيق المعنى" وذلك بتحويل اللفظ من الدلالة الكلية إلى الدلالة الجزئية، أو من العموم إلى الخصوص، ثم هناك التحول في الدلالة الناشئ عن ظاهرة اللا مساس أو التلطف في التعبير (Taboo) فيحصل انزياح دلالي للمعنى إذ يخضع إلى تعبير في مجاله مراعاة لمقتضى العرف الاجتماعي. يوضح الآمدي ذلك فيقول: "أن يكون الاسم في أصل اللغة بمعنى، ثم يشتهر في عرف استعمالهم بالمجاز الخارج عن الموضوع اللغوي، بحيث أنه لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره، كاسم الغائط، فإنه وإن كان في أصل اللغة للموضع المطمئن من الأرض، غير أنه قد اشتهر في عرفهم بالخارج المستقذر من الإنسان، حتى أنه لا يفهم من ذلك اللفظ عند اطلاقه غيره، ويمكن أن يكون شهرة استعمال لفظ الغائط في الخارج المستقذر من الإنسان، لكثرة مباشرته وغلبة التخاطب به مع الاستنكاف من ذكر الاسم الخاص به، لنفرة الطباع عنه، فكنوا عنه بلازمه أو بمعنى آخر"(2).
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 27.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 27.(1/322)
إن التغير الدلالي الذي يمس اللفظ بنقل دلالته من مجال دلالي إلى آخر أو بتقييدها، هل ذلك يخص اللفظ أم الدلالة أم العلاقة بينهما؟ إن ذلك التغير الذي تنقل معه الدلالة أو تضيق أو توسع، يمس أساساً البنية الدلالية وتبقى البنية اللسانية الصوتية تحتفظ بنمطها الصوري مع حصول تعديل في ماهية الدليل، ذلك أن العلاقة بين الدال والمدلول تخضع لنمطية أخرى تناظر التحول الناشئ في ماهية المرجع، فينشأ متكلم اللغة على نمطية جديدة في تصريف الخطاب اللغوي وفق معايير قد تكون خفية فيبدو النظام اللغوي أصيلاً في عناصره، وإن كان قد اعتراه تغيير في عوالمه الدلالية مع بقاء معجم الأدلة دون تغيير.
هذه الحركية المستمرة التي تتسم بها المنظومة اللغوية، تنم عن الطابع الوظيفي الاجتماعي للغة حيث يبقى المتحكم في آليات الاستعمال للمعجم اللغوي هو العرف الاجتماعي الذي هو خلاصة لتراكمات نفسية وثقافية متشابكة، وهذا ما يتضح من تأكيد الآمدي على الصلة الوثيقة بين النظام اللغوي والعرف الاجتماعي وذلك في تحديد ماهية الدلالة الحقيقية العرفية.(1/323)
ويصل الآمدي إلى تعيين الدلالة الشرعية بالاعتماد على معيار التحول الدلالي الناشئ عن نقل دلالة اللفظ من المجال اللغوي إلى المجال الشرعي، وتعني دلالة الاسم التي وضعت أولاً في الشرع وقد خصها الشارع بمحتوى دلالي أضحى يشكل صيغتها المعجمية إن سمعت أو قرأت تبادر إلى الذهن تلك الدلالة الشرعية دون سواها يقول الآمدي: "وأما الحقيقة الشرعية فهي استعمال الاسم الشرعي فيما كان موضوعاً له أو لا في الشرع"(1). وإشارة الآمدي إلى الدلالة الشرعية يقود إلى الاهتمام بالتطور الدلالي الحاصل في بنية النظام اللغوي، إذ الحقيقة الشرعية ما هي إلا تكريس لعرف لغوي سائد أو خلاصة لتراكمات لغوية دلالية استقرت الصيغة اللغوية بعدها على دلالة خاصة، فلا يمكن إذن أن نسلم بالوضع اللغوي الأول للحقيقة الشرعية ولذلك يستطرد الآمدي ليقف على تحديد دقيق لماهية الوضع الشرعي الأول، خاصة وأنه استقر لدى كثير من أهل اللغة أن الدلالة الشرعية ما هي إلا امتداد محور لدلالة سابقة وليست دلالة بالوضع الأول، يفصل الآمدي الكلام في ذلك بقوله: "وسواء كان الاسم الشرعي ومسماه لا يعرفهما أهل اللغة، أو هما معروفان لهم، غير أنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى، أو عرفوا المعنى ولم يعرفوا الاسم أو عرفوا الاسم ولم يعرفوا ذلك المعنى، كاسم الصلاة ... "(2) هذه حالة أولى ذكرها الآمدي معللاً نشأة الحقيقة الشرعية، فقد يكون الدال ومدلوله مجهولين لدى أهل اللغة أصلاً، أو يكون الدال مشهوراً بمدلول فيأتي الشارع ليقيد له مدلولاً جديداً أو يكون المدلول معروفاً بدون دال أو العكس، وبهذا الوصف تكون الدلالة الحقيقية الشرعية دلالة أصلية بالوضع الأول، فالاقتران بين الدال ومدلوله كان باعتبار الواضع وهو الشارع ...
__________
(1) المصدر نفسه ج1، ص 27.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 27.(1/324)
أما الحالة الثانية التي يحدّدها الأصوليون لنشأة الحقيقة الشرعية، فتبدو الدلالة فيها محوّلة منقولة عن وضع لغوي أول، وذلك على اعتبار أن يكون أهل اللغة قد عرفوا الحقيقة الشرعية بمعرفة اللفظ والمعنى إلا أنهم عرفوا اللفظ بمفرده دون معناه الشرعي، أو عرفوا المعنى الشرعي دون لفظه الأصلي، وتعد الحقيقة الشرعية بهذا الوصف من قسم المنقول الذي قال عنه العلماء الأصول أنه المعنى اللغوي الذي نقل إلى المعنى الشرعي أو العرفي. وبعد هذه التفريعات التي أقام على أساسها الآمدي تقسيم "الحقيقة" يخلص إلى تعريف جامع مانع للدلالة الحقيقية ويربطها بالفعل الإجرائي المتمثل في الاستعمال لقصد التخاطب فيقول: "وإن شئت أن تجد الحقيقة على وجه يعم جميع هذه الاعتبارات قلت: "الحقيقة هي اللفظة المستعملة فيما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به التخاطب". فإنه جامع مانع"(1).
2-ماهية المجاز
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 28.(1/325)
يستهل الآمدي مبحثه حول المجاز بالتعريف اللغوي الذي يعنى الانتقال من حال إلى حال، أي تجوز اللفظ لدلالته الأصلية إلى دلالة جديدة، فالدلالة الأولى هي الدلالة الحقيقية والدلالة الثانية هي الدلالة المجازية. فيقول الآمدي: "وأما المجاز فمأخوذ في اللغة من الجواز، وهو الانتقال من حال إلى حال ومنه يقال جاز فلان من جهة إلى جهة كذا"(1). ولما كان المجاز تابعاً للحقيقة وكانت الحقيقة تقسّم إلى لغوية وعرفية ووضعية وشرعية، كان المجاز في التقسيم تابعاً كذلك للحقيقة، ولا تنفصم عرى الاتصال بين دلالة اللفظ الحقيقية ودلالته المجازية بل يبقى رباط خفي دقيق يصل الدلالتين ولذلك لا يتسنى لمتكلم أن يستعير لفظاً هو جار مجرى المجاز، في الحقل الذي يريد اقتراضه منه فمستعار المستعار متعذر ولا سبب لتعذره إلا كونه فاصماً لذلك السلك المعقود الضامن لوصول الرسالة الدلالية من طرف باث إلى طرق متقبل(2)، فالتعلق كما يسميه الآمدي أساس الاستعمال اللغوي السليم للمجاز وهو الجسر الصلب الذي يتم عبره النقل الدلالي، دونما لبس أو تعقيد. يشرح الآمدي هذه المسألة فيقول: "وعند هذا نقول: من اعتقد كون المجاز وضعياً، قال في حد المجاز في اللغة الوضعية: "هو اللفظ المتواضع على استعماله من غير ما وضع له أولاً في اللغة، لما بينهما من التعلق، ومن لم يعتقد كونه وضعياً، أبقى الحد بحاله وأبدل المتواضع عليه بالمستعمل"(3). ثم يحدد الآمدي وضعين مختلفين للمجاز، أولهما أن اللفظ المجاز يتواضع على استعماله أهل اللغة فيجرونه بينهم ويدخلونه في نظام تعاملهم اللغوي، وثاني الوضعين هو استعمال اللفظ في مجال دلالي جديد بمعنى نقل دلالة اللفظ الأصلية إلى دلالة مجازية إما بالعرف العام أو بالعرف الخاص.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 28.
(2) د. عبد السلام المسدي ... اللسانيات وأسسها المعرفية، ص 97.
(3) الإحكام في أصول الأحكام ج1. ص 28.(1/326)
ويؤكد الآمدي على الوظيفة الدلالية التي يناط بها اللفظ المجاز وهي وظيفة التواصل والإبلاغ فيقول في تعريف المجاز: "هو اللفظ المتواضع على استعماله أو المستعمل في غير ما وضع له أولاً في الاصطلاح الذي به المخاطبة لما بينهما من التعلق"(1). فالمجاز من وجهة نظر الآمدي طريق من طرق التوليد في النظام اللغوي، فما دام اللفظ الحقيقة لا يمكنه التعبير عن كل أغراض المجتمع احتيج إلى هذا التوليد المتمثل في الدلالة المجازية، ثم إن نظام اللغة يتمدد عبر المكان (المقام) والزمان (الحال) ليوائم كل التحولات والتغيرات التي تطرأ على بنية المجتمع فيعبر عن حاجاته اللغوية أو النفسية أو الاجتماعية الثقافية، وذلك بخلق أنظمة إبلاغية جديدة ما تلبث أن تصبح محل تعارف واصطلاح بين أفراد المجتمع اللغوي.
وقد تقادم الاستعمال المجازي حتى ينسى أصل دلالته الحقيقية ويعامل معاملة اللفظ الحقيقة، ولذلك قد يلتبس في أمر دلالة اللفظ أمجازية هي أم حقيقية؟ فينبري الآمدي أمام انتقاص مخالفيه للحد الذي عرف به المجاز، ويحاول أن يعطي لتعريفه طابع الشمولية، إذ اعتبر بعض اللغويين ألفاظاً مجازاً عدها الآمدي حقيقة أو العكس من ذلك ما قال به أهل اللغة في لفظ (الدابة) الذي حصل في دلالته تضييق حيث خصص للدلالة على ذوات الأربع فعد مجازاً مع أنه مستعمل في ما وضع له أولاً –كما قال الآمدي- لدخول ذوات الأربع في الدلالة الأصلية، فيردّ الآمدي على هذا الزّعم بتمييزه بين الدلالة المطلقة للفظ والدلالة المقيدة فيقول: "فإن كان لفظ الدابة حقيقة في مطلق دابة، فاستعماله في الدابة المقيدة على الخصوص يكون استعمالاً له في غير ما وضع له أولاً"(2).
3-معايير الحقيقة والمجاز
__________
(1) المصدر نفسه، ج1 ص 28.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 29.(1/327)
يتخذ الآمدي، من مؤاخذات العلماء له، في حدّه المجاز لإرساء معايير تمييزية بين الدلالة الحقيقية للفظ والدلالة المجازية، فما لا يمكن نفيه من الاسم فهو حقيقة فيه أما ما يمكن نفيه فهو مجاز يقول الآمدي: "والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فلا تخرج عن كونها مجازاً بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، ولا تناقض، وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز، فمهما ورد لفظ المعنى، وتردد بين القسمين، فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر ويعرف حقيقة بعدم ذلك"(1). وتلك إشارة إلى الصعوبة اللغوية التي تكتنف عملية التخاطب على مستوى الصوت أو مستوى الكتابة، بحيث قد يتواضع أهل اللغة على الدلالة الحقيقية للفظ ثم يستعمل هذا اللفظ للدلالة على غير ما وضع له أولاً، إما توسيعاً في الدلالة الأصلية، أو تضييقاً فيها، أو نقلاً لدلالة مجازية لها صلة بالدلالة الأصلية. ويمثل الآمدي لذلك بقوله: "ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن يسمى من الناس حماراً لبلاذته أنه ليس بحمار. ولا يصح أن يقال ليس بإنسان في نفس الأمر لما كان حقيقة فيه"(2). إن التعلق بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية للفظ، تحفظ دوماً طبيعة الوضع (الاستثنائي) الذي اتخذته اللغة، لأن قيمة الدلالة المجازية في كل الأحوال ليست في نفس مرتبة قيمة الدلالة الحقيقية خاصة ما تعلق منها بنصوص مقدسة كنصوص القرآن الكريم. وإذا ما حدث أن أنبتت الصلة بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية، كان وضع الدلالة المجازية ابتداءً أي وضعاً مستحدثاً يلحق بالمشترك اللفظي.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 30.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 30.(1/328)
يقول الآمدي شارحاً ذلك: "وبقولنا: "لما بينهما من التعلق" لأنه لو لم يكن كذلك. كان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر، وكان اللفظ مشتركاً لا مجازاً"(1). إن سيرورة الحركة الجدلية في استعمال اللغة تجعل المجاز يعرف تحولات على مستوى الحقل المفهومي وعلى مستوى البنية العامة فيتم تحويل اللفظ المجاز مع تعاقب الاستعمال إلى لفظ ذي دلالة حقيقية، قابل لأن يدخل هو الآخر في مفاعلات اللغة بقصد إفراز وتوليد دلالات مجازية، وقد اشتهر ابن جني بقوله في شأن المجاز أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، يقول عبد السلام المسدي: "فالمجاز يتفاعل مع الاستعمال على مر الزمن فيؤول إلى تواتر بحيث إذا اقترن المجاز مع عامل الزمن اضمحلت الصيغة المجازية منه وحلت محلها الصيغة المصطلحية"(2).
فضلاً على معيار الإثبات والنفي الذي اعتمد عليه الآمدي في تفسير الإشكال الناشئ من صعوبة التمييز بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية، يضيف الآمدي معايير أخرى منها، معيار الانتشار لدلالة اللفظ الحقيقية، بحيث إذا ما أطلق اللفظ تبادرت إلى الفهم دلالته وأبعدت الدلالة المجازية، يوضح الآمدي ذلك بقوله: "ومنها أن يكون المدلول مما يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ من غير قرينة مع عدم العلم بكونه مجازاً، بخلاف غيره من المولدات، فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة، وغيره هو المجاز(3)". ويفهم من قول الآمدي أن اللفظ المجاز قد يأخذ حكم الحقيقة إذا شاع استعماله، وجرى في الألسنة، لأن النظام اللغوي نظام متجدد متغير لا تثبت فيه إلا النواميس والمعايير الخفية أما المادة اللغوية ودلالاتها فهي آيلة مع مرور الزمن للتغيير والتطور وهذه سمة في كل اللغات.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 29.
(2) النواميس الشعرية والظاهرة الاصطلاحية، ص 23، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30-31/ 1984.
(3) الإحكام في أصول الأحكام، ج 1، ص 30.(1/329)
ويورد الآمدي معياراً آخر للتمييز بين دلالة اللفظ الحقيقية ودلالته المجازية، ويحصره في "عدم الإطراد في مدلول اللفظ" وانحصاره في دائرة ضيقة من الاستعمال يقول في ذلك: "ومنها أن يكون اللفظ مطرداً في مدلوله، مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الإطراد، وذلك كتسمية الطويل نخلة إذ هو غير مطرد في كل طويل"(1).
والآمدي لا يرى أن الإطراد في دلالة اللفظ هو بالضرورة مدلول حقيقي بل إن عدم الإطراد هو الملمح على أن مدلول اللفظ مجازي، ولقد انبرى الآمدي يفند بعض الإشكالات التي أثارها بعض اللغويين مدعين أن حد الآمدي لمعيار الإطراد ليس شاملاً لكل الصيغ التعبيرية في اللغة العربية، فقد وجد أن اسم (السخي) حقيقة في القرآن الكريم وهذا المدلول موجود في حق الله تعالى ولا يقال له سخي، كما أن القارورة سميت كذلك لاستقرار المائعات فيها ومع أن الجرة والكوز تستعمل لذلك ولكن لا تسمى قارورة. ولكن الآمدي كان قد وضع ضوابط في كلامه عن "الإطراد" الذي هو ملمح الدلالة الحقيقية للفظ وأشار إليها بقوله: "مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الإطراد(2)".
__________
(1) المصدر السابق، ج1، ص31.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص32.(1/330)
أما المعيار الرابع الذي اعتمده الآمدي لتمييز الحقيقة من المجاز في دلالة اللفظ هو معيار صوري يستند على البنية الصرفية للفظ، فاللفظ المجاز جمعه مخالف لجمع اللفظ الحقيقية مع حصول تعارف بين أهل اللغة يفضي إلى كون اللفظ حقيقة في غير المدلول المذكور. يقول الآمدي: "ومنها أن يكون الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور. يقول الآمدي: "ومنها أن يكون الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه مخالف لجمع المسمى المذكور فنعلم أنه مجاز فيه". من ذلك لفظ (أمر فإن جمعه على جهة الحقيقة (أوامر) ومن جهة الفعل (المجاز) (أمور)، لكن هذا القيد قد يكون سبباً لإشكالات تعبيرية خاصة وأن اللغة مفتوحة دوماً على أنظمة إبلاغية جديدة، قد تأسست على ظاهر لغوية مختلفة كالنقل والحذف والتعويض والاختصار وما إلى ذلك، فكان اعتماد معيار (الجمع) عند الآمدي للتفريق بين الدلالة الحقيقية للفظ ودلالته المجازية، لا يرتقي إلى الأداة العلمية الدقيقة التي لا تتعطل معها حركية اللغة بتفاعلها مع المقام والحال. أما المعيار الخامس فيؤسسه الآمدي على اعتبار وجود القرينة المانعة من إيراد الدلالة الحقيقية، فالأصل في اللفظ الإطلاق وهو ملمح على دلالته الحقيقية. يشرح الآمدي هذا الأمر بقوله: "ومنها أن يكون قد ألِف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظاً بإزاء معنى أطلقوه إطلاقاً، وإذا استعمله بإزاء غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازاً في الغير(1).
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 33.(1/331)
ومن مظاهر الحيوية والحركية في النظام اللغوي، القدرة على الاختزال في الطاقة التعبيرية دون إخلال بالوظيفة الإبلاغية، وينشأ ذلك من إقصاء بعض عناصر التعبير مع الإبقاء على أدائهم الإسنادي وهذا ما يدخل في (الاقتصاد اللغوي) الذي يرمي إليه كل نظام لغوي، والمجاز يؤدي وظيفة أساسية في تكريس مبدأ الاختزال اللغوي، إذ تُعرف الدلالة المجازية للفظ إذا أسندت إليه الصفة أو الحكم إسناداً، يفهم من خلاله أنه لمتعلق آخر علاقته بالصفة أو الحكم علاقة حقيقية من ذلك قولنا (الرحمة تغمر أهل الجنة) فللرحمة متعلق آخر هو الله تعالى، الرحمن، فكانت دلالة الرحمة ها هنا دلالة مجازية يقول الآمدي موضحاً هذه الفكرة، ومشيراً إلى معيار آخر لتمييز الدلالة الحقيقية من الدلالة المجازية: "ومنها أنه كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق، فإطلاقه بإزاء ما ليس له ذلك المتعلق يدل على كونه مجازاً فيه، كإطلاق اسم القدرة على الصفة المؤثرة في الإيجاد. فإن لها مقدور"(1).
وإذا عدنا إلى أصل الوضع الأول لنقف على مبدأ تطور اللفظ مع دلالته، أيمكن أن نسمي ذلك اللفظ حقيقة أو مجازاً؟ يرسي الآمدي في تفسير هذا الإشكال اللغوي قاعدة عامة في مبحث الحقيقة والمجاز، وذلك بالوقوف على ماهية اللفظ قبل الوضع حيث تنتفي عنه صفة الحقيقة وبالتالي صفة المجاز، ويعني ذلك أن اللفظ لا يزال (خاماً) ولم يدخل في تفاعل حركي مع النظام اللغوي المفتوح على حاجات أهل اللغة المتجددة، فأسماء الأعلام، وآلات أرباب الحرف المخترعة، وأدوات أهل الصناعة والزراعة المستحدثة وغيرها، لا يمكن أن تكون ذات دلالات حقيقية لأنها لم تَلِج بعد مجال الاستعمال اللغوي.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 33.(1/332)
يوضح الآمدي هذه المسألة بقوله: "فالألفاظ الموضوعة أولاً في ابتداء الوضع في اللغة لا توصف بكونها حقيقة ولا مجازاً، وإلا كانت موضوعة قبل الوضع وهو خلاف العرض وكذلك كل وضع ابتدائي حتى الأسماء المخترعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم وإنما تصير حقيقة ومجازاً باستعمالها بعد ذلك"(1). ويلحق بذلك أسماء الأعلام، لأن الحقيقة هي استعمال اللفظ في ما وضع له أولاً، والمجاز في غير ما وضع له أولاً، ويقتضي ذلك أن الألفاظ قبل التواضع ليست حقيقة ولا مجازاً، يقول الآمدي في ذلك: "وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف أسماء الأعلام بها: كزيد وعمرو"(2). إذن فأساس التصنيف الذي يقوم عليه بناء الحقل المفهومي للحقيقة من جهة وللمجاز من جهة ثانية، هو الاستعمال الذي هو نقطة تقاطع القدرة الإبلاغية مع القدرة الإنشائية الإبداعية في اللغة لتحصل معهما الوظيفة التوليدية، ومع تواتر الدلالة (الوليدة) مع عرف الاستعمال اللغوي تكتسب صفة الحقيقي التي تكون مؤهلة هي الأخرى للتوليد مع مراعاة شروط التواضع والاصطلاح، فلا تكفي العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في إطلاق الاسم على جهة المجاز، وإنما يؤكد الآمدي على ضرورة حصول تعارف أهل اللغة على صحة نقل الدلالة من مجال الحقيقة إلى مجال المجاز، وتكون حينئذ دلالة المجاز عرفية، يقول الآمدي في وجوب حدوث تواضع لنقل الدلالة: "وهو أن تنص العرب نصاً كلياً على جواز إطلاق الاسم الحقيقي على كل ما كان بينه وبينه علاقة منصوص عليها من قبلهم، كما بيناه، ولا معنى للمجاز إلا هذا، وهو غير خارج عن لغتهم"(3).
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص34.
(2) المصدر نفسه ج1، ص 33.
(3) المصدر نفسه، ج1، ص 53.(1/333)
ويعطي الآمدي لمبدأ التواضع اللغوي، صفة المعيار الذي يسمح عن طريقه انتقال اللفظ إلى المعجم العربي، ذلك أن اللفظ قبل أن يتواضع عليه أهل اللغة العربية لم يكن عربياً وإنما أضحى كذلك بحصول التواضع فألصقت به دلالات عربية. يوضح ذلك الآمدي فيقول: "وذلك لأن كون اللفظ عربياً ليس لذاته وصورته بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة بإزائه. وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع"(1). فاللفظ إذن لا يكتسب عربيته بالنظر إلى بنيته المعجمية فحسب وإنما كذلك بالنظر إلى دلالته، وتلك إشارة من الآمدي إلى أن النظام اللغوي نظام قوامه الدلالة التي تصرف بحسب تواضع أهل اللغة، وهي إشارة لها قيمتها المعرفية خاصة إذا عرفنا أن الاهتمام بشأن الدلالة في اللغة لم ينشأ إلا حديثاً، ذلك أن المشتغلين في الحقل اللساني أعطوا جل اهتمامهم للجانب الفونولوجي والمورفولوجي للغة وكانت الدلالة في أبحاثهم تمثل الجانب الهزيل، وقد يستبد ببعض اللغويين رأيهم وهم عاجزون على تصريف أنماط الكلام العربي تصريفاً لا يلغي بعضه البعض، فقد يذهبون إلى الدعوة إلى الاستغناء عن المجاز ويستصغرون قيمته لأنه لا يفيد معنى إلا مع وجود قرينة صارفة.
وهم لا يريدون أنهم بدعوتهم تلك يسعون إلى أن تكون اللغة العربية عقيماً عاجزة عن الإبداع والتوليد الدلالي، يغضون الطرف عن الفوائد الكثيرة التي يحققها المجاز يوضح الآمدي تلك الفوائد فيقول:
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 36.(1/334)
"إن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقي، قد تكون لاختصاصه بالخفة على اللّسان، أو لمساعدته في وزن الكلام نظماً ونثراً، والمطابقة، والمجانسة والسجع، وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقير إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام"(1). ويمكن إيجاز تلك الفوائد التي نص عليها الآمدي في: الفوائد الصوتية، والفوائد الجمالية، والفوائد الدلالية. ومن تلك الفوائد التي تتحقق مع المجاز اللغوي هو الإيجاز في الكلام فقد يعبر بالجزء ويراد به الكل، أو العكس صحيح أيضاً، ومدار الجمع بين الكل والجزء في الكلام مع إضمار أحدهما في التعبير أساسه المشاركة في المعنى، أما إذا انتفت المشاركة انتفت العلاقة بين الدلالة الحقيقية للفظ والدلالة المجازية، وكان كل وضع للفظ ابتداء. يشرح ذلك الآمدي فيقول: "فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشارك له في اسمه، ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء، لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك الاسم، وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك الاسم، ولهذا لا يقال: بعض العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض الرغيف رغيف، وبعض الدار دار إلى غير ذلك"(2). وهذه المسألة ذات أهمية كبيرة إذا نظرنا إليها من زاوية إجراء الحكم على جميع عناصر اللفظ الكلي، كما إذا أطلقنا على القرآن الكريم صفة "العربي" كما سماه الله تعالى مع أنه تضمن ألفاظاً غير عربية فسمى ذلك الآمدي "تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة" وقال بأن إطلاق الاسم العربي على القرآن الكريم مجازاً لا حقيقة، وإن كان بعض اللغويين والفقهاء قد خالفوا الآمدي في رأيه معتبرين أن القرآن الكريم قد أجرى الصيغ الدخيلة مجرى الصيغ العربية فكانت بذلك عربية، وأزال أعجميتها.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 46.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 37.(1/335)
وبنظرية عامة يفصح الآمدي عن الإمكانية المطلقة لإثراء الرصيد اللغوي، ذلك أن اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول، تنسحب على ظاهرة المجاز، لأن ذلك يعد اصطلاحاً داخل اصطلاح كما أنه اعتباط داخل اعتباط وهو ما يسمح عن طواعية، بالاقتران العرفي بين اللفظ ودلالته المجازية فضلاً عن دلالته الحقيقية، يقول الآمدي في ذلك: "فإن دلالات الأسماء على المعاني ليس لذواتها، ولا الاسم واجب للمعنى، بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية، وجواز إبدال اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع، وكما في أسماء الأعلام، والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم"(1). فالدال لا يستمد معناه وقيمته الدلالية من بنيته الصوتية، وإنما العوالم الدلالية مفتوحة على العوالم اللسانية، مما يفسر إمكانية تحريك الطاقة التعبيرية في اللغة، لإنشاء أنماط كلامية تكون مبنية على أساس الاقتران التعسفي، وهو أمر جار في المجاز باعتباره امتداداً في الدلالة لحقل الحقيقة. يقول عبد السلام المسدي: "يمد المجاز أمام ألفاظ اللغة جسوراً وقتية تتحول عليها من دلالة الوضع الأول، إلى دلالة الوضع الطارئ، ولكن الذهاب والإياب قد يبلغان حداً من التواتر يستقر به اللفظ في الحقل الجديد فيقطع عليه طريق الرجوع"(2).
ويدخل اللفظ بعد ذلك في حقل الحقيقة وبواسطة تواتر الاستعمال يتقادم ذلك الخيط الذي كان يصله بوضعه الأول ويمد هو جسراً ليعقد علاقة تنتقل عبرها دلالته إلى حقل المجاز، ليبرز من خلال هذا التشكل المستمر، الطابع الوظائفي للغة في تزاوج نظامها التواصلي وطبيعة مكوناتها الدلالية القائمة على مبدأ الاستيعاب والتماثل لصنوف الأنساق الكلامية التي يقتضيها الموقف الخطابي.
__________
(1) المصدر نفسه، ج1، ص 39.
(2) النواميس اللغوية والظاهرة الاصطلاحية، ص 23، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30/31 سنة 1984.(1/336)
إن الاقتران التعسفي بين الدال والمدلول كما قررته الأبحاث اللسانية الحديثة –وأشار إليه الآمدي قبل ذلك-، يعطي للنظام اللغوي طابع المرونة والتمدد قصد احتواء ما جدّ من أنساق دلالية، وفي الوقت ذاته يجعل من حصول الاقتران العرفي الذي يشرف عليه أهل اللغة يمتد عبر زمن ليحصل التواتر اللازم، وفي ضوء هذه الفكرة يرد الآمدي على الذين أنكروا حداثة الأسماء الشرعية وبذاءة دلالتها، متعللين بعدم حصول الفهم من قبل المكلفين، ذلك لأن الشارع لم يطلعهم على حيثيات النقل الذي تم به تغيير في دلالة الأسماء الشرعية. يقول الآمدي: "قوله التفهيم، إنما يكون بالنقل لا نسلم، وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير، والأخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالإشارة"(1). وفي ذلك اهتمام من الآمدي بخصوص استحداث الألفاظ وتعليقها بدلالة قديمة أو العكس، أو توليد صيغ جديدة بدلالاتها، فالاقتران العرفي يتخذ أشكالاً من التواضع منها التكرار وهو ما اصطلح على تسميته بتواتر الاستعمال، إذ يقذف اللفظ الجديد ليدخل في تفاعل مع عناصر النظام اللغوي حتى يشيع استعماله وتثبت دلالته في الأذهان. ثم هناك القرائن المتضافرة التي تأخذ تعليم اللفظ الجديد وتوسيع دائرة استعماله عن طريق المشابهة والمجاورة والمشاكلة والتمثيل، وهي أساليب تُعتمد في تلقين الأطفال الأصول الأولى للكلام القائم على التدريج والتدريب. والأمر الذي يجدر بيانه في هذا المقام هو طبيعة القناة الإبلاغية التي يتخذها الأخرس قصد تواصله مع المجتمع اللغوي، وقد اختصرت لغته في نظام علامي يقوم على أساس الرمز والإشارة.
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص36.(1/337)
ويكون الآمدي قد تجاوز في اهتماماته اللغوية المنحى الدلالي الذي يخص العلامة اللسانية إلى منحى أشمل يعنى بالعلامة في مفهومها الواسع، لسانية كانت أم غير لسانية وهو ما أضحى يعرف في الدراسات اللغوية الحديثة" بالسيمياء (la semiologie) ، وإذا أردنا أن نعطي لحديث الآمدي عن لغة الأخرس أبعاداً لسانية لألفيناها تصب في مبحث لساني حديث تناول ضمنه الألسنيون الإعاقات الكلامية التي تحول دون تشكيل المقول الدلالي في بنى كلامية، والتي ترجع بسبب ذلك إلى أمراض عصبية ذات تأثير لساني اصطلح على تسميتها (بالعصب- ألسني) (Neurolinguistique)، والخلل يكمن في الأداء الكلامي مع وجود الكفاية اللغوية وهي المعرفة الضمنية بقواعد ونظام اللغة، وهو ما يجعل الأخرس أو الذي يعاني أمراضاً في النطق يهتدي إلى أنساق دلالية يبلغها عن طريق الكتابة أو الإشارة، قد لا يهتدي إليها من أوتي نطقاً صحيحاً وقادراً على الأداء الكلامي السليم.(1/338)
وجملة القول أن مبحث الحقيقة والمجاز عند الآمدي، يمثل جانباً خصباً في جهوده الدلالية، وقد أبان من خلاله عن منهج مكتمل في بلورة مفاهيمه النظرية في تشكل أنماط إجرائية تبرز المنظومة اللغوية من خلاله ذات طاقة تعبيرية لا متناهية قادرة على التوليد لتشاكل الأنساق الدلالية المستحدثة. وبوضعه للمعايير المميزة للحقل المفهومي لكل من الحقيقة والمجاز يكون الآمدي من اللغويين النوادر الذين حاولوا أن يؤطروا التحولات الحاصلة في صلب النظام اللغوي حتى يبقى مظهراً على سلامة البنى النسقية التي تتمثل في سعة الكفاية الضمنية في اللغة وطاقاتها الاستيعابية لمجمل الحاجات اللغوية، وبقدر ما يؤدي المجاز من وظائف هامة في المنظومة اللغوية، له من الفوائد كذلك ما يجعله يقترن باستحداث سمات نوعية على مستوى الكلام، لخصها الآمدي في الوظيفة الجمالية الفنية التي عندها يصبح المجاز أداة بيد الإنسان في خلق البنية الفنية انطلاقاً من بنية لغوية مشاعة بين أهل اللغة، ثم هناك الوظيفة الصوتية المتمثلة في النزوع نحو خفة النطق مع البحث عن الاقتصاد في الكلام، أما الوظيفة الدلالية فهي أساس ما يضطلع به المجاز وهو صنو الوظيفة الإبلاغية التواصلية مع زيادة في السمة النوعية على مستوى الخطاب اللغوي.
إن أهمية ما تقدم به الآمدي في هذا المبحث، يكمن في إرساء قواعد علمية تخص مبدأ التولد الدلالي، ويمكن استثمار ذلك في وضع المصطلحات العلمية، وفي تلقين ما استحدث في نظام اللغة من عناصر وعلامات لسانية لأهل اللغة، توسيعاً لنطاق التخاطب وإذاعة للمفاهيم الجديدة.
خاتمة البحث:(1/339)
ليس من المبالغة في شيء، إذا جزمنا أن الآمدي في كتابه "الإحكام" قد أرسى نظرية علمية بينة المعالم، واضحة المقاصد، تتناول اللغة في شموليتها وأبعاد دلالاتها. وقد ساهمت آراؤه في بلورة مفاهيم دلالية لم نطلع عليها إلا في المدارس اللسانية الغربية، مع أنها وردت بارزة في مضان تراثنا المعرفي، تحمل طابع الشمولية في التنظير للسان البشري، ويكفي أن نقارب حديث الآمدي في مبدأ اعتباطية الدليل اللساني وما انتهى إليه علماء الألسنية المحدثون وفي مقدمتهم العالم دوسوسير، وما استقر لدى نوام تشومسكي في بحثه الدؤوب حول القواعد التوليدية والتحويلية ليخلص إلى وجود ما سماه "بالكفاية اللغوية"، ويتمظهر في البنية اللغوية العميقة للجملة أو التركيب، وما تقدم به الآمدي في تفسيره للآية الكريمة: "وعلم آدم الأسماء كلها". ليستخلص أن "التعليم" الوارد في الآية له بعد "الإقدار على اللغات" بحيث ركبت في الإنسان القدرة على توليد الصيغ التعبيرية والتواضع عليها بين أهل اللغة. وما هو قمين بالإشارة إليه هو نص الآمدي في مقومات الخطاب الإبلاغي على وجوب توافر عنصر "القصد" في الإبلاغ والتواصل لدى الباث، وعنصر الاستعداد والتهيؤ لدى المتلقي، وهما عنصران كانا مدار علم الألسنية الحديث في تناوله لوظائف الخطاب اللغوي، كما أقام الآمدي تفريعات لعناصر الكلام الصغرى، وأفاض البحث فيها، وقدم الدلالة في أنساق مختلفة تتأسس بالنظر إلى طبيعة الخطاب وعناصره المشكلة له، وبالنظر كذلك لقصد المتكلم، وهي أنساق دلالية شاملة لمختلف أنماط الكلام، لم يضف إليها البحث الدلالي الحديث إضافات ذات قيمة، عدا عمق التحليل الذي أرفق به تلك الأنساق في سياق تناول مسائل الإرجاع والتعيين والتضمين، في تحديده لدلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة الالتزام، والنسب الموجودة بينها.(1/340)
وما يثير الباحث في كتاب الإحكام للآمدي، هو إحساسه بعمق المنتهى المعرفي الذي سعى إلى تحقيقه هذا العالم الأًصولي، فقد ينقل آراء مخالفيه حول مسألة من المسائل الأصولية أو اللغوية، ليس ليفندها، ويظهر جوانب النقص فيها، وإنما ليعمق البحث في تلك المسألة أو يزيد التعريف الذي حد به مصطلحاً أصولياً أو لغوياً أو منطقياً، شمولاً أكثر وإحاطة أعم.
إذن فمجمل المباحث التي أثارها الدرس الدلالي الحديث لها وجود في كتاب الآمدي بدءاً بالعلامة اللسانية وغير اللسانية، وما تعلق بها من مباحث كطبيعة العلاقة الدلالية وبين وجهي العلامة، وأنماط تلك العلامة وأصنافها، وكذلك بالنسبة لأقسام الدلالة وأنواعها، كما نجد الآمدي يضع نموذجاً لبناء الحقول الدلالية، قائماً على نسب مختلفة كالاشتراك اللفظي، والعموم والخصوص والتنافر والتباين، والترادف والتواطؤ وغير ذلك، مما يسمح بوضع رؤية علمية لغوية تفضي إلى تعميق البحث في ما تقدم به الآمدي في مجال الحقول الدلالية، وبالقيمة ذاتها تؤخذ آراء الآمدي في إرسائه لقواعد تخص الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية، وبيانه بصفة دقيقة المعايير الموضوعية التي تعتمد في التمييز بين الدلالتين في سياق الخطاب اللغوي ذي النسيج المتشعب من العناصر والصور. ونرى مبحث المجاز يغدو عند الآمدي مجالاً خصباً في تنمية قدرات اللغة الكامنة، في التعبير وتشكيل صور مختلفة من الصيغ الكلامية، لها فوائدها البينة على مستوى التخاطب والتواصل بل وحتى على المستوى الجمالي الفني وعلى المستوى الفونولوجي كما يؤكد ذلك الآمدي.(1/341)
إن كتاباً واحداً يشع بهذه المعارف اللسانية والدلالية وهو كتاب "الإحكام" للآمدي، ينم على غزارة التفكير المعرفي لدى هذا العالم، فما بالنا بجميع كتبه التي طبعت والتي لم تطبع بعد، بل إن دراسة واحدة لا تكفي حتى كتاب "الإحكام" من أجل بلورة كل أفكاره ومسائله، وقراءتها قراءة عصرية جديدة تأخذ في اعتبارها المنطلقات الفكرية للاهتمام اللساني والدلالي الحديث. فلا يزال الكتاب المذكور يحتفظ بثراء معرفي ذي قيمة كبيرة يغتني به الدارسون والباحثون الذين يسعون إلى إحداث وثبة فكرية راقية، تحرك فاعلية الأصول التراثية لتدخل في جدل معرفي مع المتطلبات اللغوية والعلمية والفكرية للإنسان المعاصر، لتربط الماضي بالحاضر في توأمة منهجية دقيقة.
(((
1-المصادر والمراجع العربية
1-الآمدي (سيف الدين محمد بن علي):
-الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق عبد الرازق عفيفي، المكتب الإسلامي بيروت
ط1 1981.
-الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت ط2 1986.
-الإحكام في أصول الأحكام، كتب هوامشه الشيخ إبراهيم العجوز، دار العلمية بيروت ط1 1985.
2-د. إبراهيم أنيس:
-دلالة الألفاظ، مكتبة أنجلو المصرية- ط2 1972.
3-ابن أبي أصيبعة (موفق الدين أبو العباس أحمد بن القاسم):
-عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت ط3 1981.
4-ابن جني (أبو الفتح عثمان):
-الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب العربي بيروت ط 1955.
5-ابن خلدون (عبد الرحمان):
-المقدمة، الدار التونسية للنشر، أبريل 1984.
6-ابن خلكان (أبو العباس أحمد بن محمد):
-وفيات الأعيان وأبناء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس دار الثقافة، بيروت 1970.
7-أحمد حساني:
-المكون الدلالي للفعل في اللسان العربي .
8-د. أحمد خليل –دراسات في القرآن، ديوان المطبوعات الجامعية ط1 1993.
9-د. أحمد مختار عمر:
-علم الدلالة، عالم الكتب، بيروت ط2 1988.(1/342)
10-ابن رشد (أبو الوليد محمد بن أحمد):
-فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دار الآفاق الجديدة، بيورت ط 2 1979.
11-ابن سينا (أبو علي الحسن بن عبد الله):
-الإشارات والتنبيهات، شرح نصر الدين الطوسي، تحقيق د. سليمان دينا. دار المعارف، مصر ط 2 1960.
-منطق المشرقيين، دار الحداثة، بيروت، ط1 1982.
-العبارة (الشفاء)، تحقيق محمود الحضري، الهيئة المصرية العامة القاهرة 1970.
12-ابن القيم الجوزية (محمد بن أبي بكر الزرعي):
-مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، دار نجد للنشر والتوزيع الرياض ط 1982.
13-ابن كثير (الحافظ عماد الدين):
-تفسير ابن كثير، دار الأندلس، بيروت، ط6، 1984.
14-ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين):
-لسان العرب، علق عليه علي شيري، دار إحياء التراث العربي ط1، 1988.
15-أبو هلال العسكري:
-الفروق في اللغة، منشورات دار الآفاق بيروت، 1970.
16-أنيس فريحة:
-نظريات في اللغة، دار الكتاب اللبناني، ط2 1981.
17-بيار جيرو:
-علم الإشارة، السميولوجيا، ترجمة د. منذر عياشي، دار طلاس، دمشق ط1 1988.
-علم الدلالة، ترجمة د. منذر عياشي، دار طلاس، دمشق ط1 1988.
18-تمام حسان:
-الأصول، دراسة أبستمولوجية للفكر اللغوي عند العرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.
19-الجاحظ (عمرو بن بحر):
-البيان والتبيين، دار مكتبة الهلال، بيروت، ط1 1988.
-الحيوان، تحقيق محمد عبد السلام هارون، القاهرة 1969.
20-الجرجاني (الشريف علي محمد):
-كتاب التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت 1985.
21-الجرجاني (عبد القاهر):
-دلائل الإعجاز، مرقم للنشر 1991.
22-حازم القرطاجني:
-منهاج البقاء وسراج الأدباء، دار الكتب المصرية، 1966.
23-ريمون طحان:
-الألسنية العربية، ج1، ج2، دار الكتاب اللبناني ط2، 1981.
24-ريمون طحان، دنيز بيطار طحان:
-فنون التقعيد وعلوم الألسنية، دار الكتاب اللبناني، ط1، 1983.
25-الزبيدي (محمد مرتضى):(1/343)
-تاج العروس من جواهر القاموس، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط3، 1968.
26- زبير دراقي – محاضرات في اللسانيات العامة والتاريخية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1990.
27-الزمخشري (أبو القاسم محمود بن عمر):
-الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل تحقيق وتعليق محمد مرسي عامر، دار المصحف، القاهرة، ط3 1977.
28-سالم شاكر:
-مدخل إلى علم الدلالة، ترجمة محمد يحياتن، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر سنة 1992.
29-سيبويه (أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر):
-الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مطبعة الخانجي، القاهرة، ط3 1988.
30-ستيفن أولمن:
-دور الكلمة في اللغة، ترجمة د. كمال محمد بشر، مكتبة الشباب 1988.
31-السيوطي (جلال الدين):
-المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرح محمد أحمد جاد المولى وغيره ط4، دار إحياء الكتب العربية، مصر 1958.
32-الشافعي (محمد بن إدريس):
-أحكام القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت ط، 1980.
-الرسالة، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار النشر أنجاد، بدون تاريخ الطبعة.
33-صالح عيد:
-التراكيب النحوية وسياقاتها المختلفة عند عبد القاهر الجرجاني، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ط 1994.
34-عادل الفاخوري:
-علم الدلالة عند العرب، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1985.
35-عبد الرحمان حسن حبنكة الميداني:
-ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة، دار القلم، دمشق ط3 1988.
36-د. عبد السلام المسدي:
-اللسانيات وأسسها المعرفية، المطبعة العربية، تونس ط، 1986.
37-عبد القادر عودة:
-التشريع الجنائي الإسلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط4. سنة 1985.
38-د. عبد القادر الفاسي الفهري:
-اللسانيات واللغة العربية، منشورات عويدات، بيروت، ط1. 1986.
39-د. عبد القادر فيدوح:
-دلائلية النص الأدبي، ديوان المطبوعات الجامعية، وهران، ط1 1993.
40-د. عز الدين إسماعيل:(1/344)
-الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر، بيروت ط 1955.
41-د. عمر فروخ:
-بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في الإسلام، دار الطليعة، بيروت، ط 2 1986.
42-الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد):
-المستصفى من علم الأصول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 1943.
-معيار العلم في فن المنطق تحقيق د. سليمان دنيا، دار المعارف، مصر 1969.
43-الفارابي:
-العبارة (كتاب في المنطق) تحقيق محمد سليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب العرب سنة 1976.
-كتاب الحروف، تحقيق وتعليق وتقديم محسن مهدي، دار المشرق بيروت سنة 1970.
-إحصاء العلوم، تحقيق وتعليق وتقدم د. عثمان أمين، دار الفكر العربي القاهرة ط2 سنة 1949
44-د. فايز الداية:
-علم الدلالة العربي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1985.
45-الفيروز آبادي (مجد الدين محمد بن يعقوب):
-القاموس المحيط، دار العلم للجميع، بيروت، بدون تاريخ الطبعة.
46-القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد):
-الجامع لأحكام القرآن دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1985.
47-د. محمد زكي العشماوي:
-قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث، دار النهضة العربية، بيروت 1984.
48-محمد الصغير بناني:
-النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1983.
49-د. علي سامي النشار:
-مناهج البحث عند مفكري الإسلامي، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.
50-د. محمود السعران:
-علم اللغة، دار المعارف، مصر 1962.
51-د. محمود فهمي زيدان:
-في فلسفة اللغة، دار النهضة العربية، بيروت، 1985.
52-د. محيي الدين صبحي – نظرية النقد وتطورها إلى عصرنا- دار ط
53-د. مصطفى بدوي:
-كولردج، دار المعارف، مصر، 1957.
54-د. مصطفى عبد الرازق:
-تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة، 1944.
55-معروف الدواليبي:
-المدخل إلى علم أصول الفقه، مطبعة جامعة دمشق، ط3 1959.
56-د. ميشال زكريا:(1/345)
-الألسنية، علم اللغة الحديث، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت ط2، 1983.
57-د. ميشال عاصي:
-مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ، مؤسسة نوفل، بيروت ط2 1981.
58-د. ميشال فوكو:
-نظام الخطاب، ترجمة د. محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، ط1 1984.
-الدوريات:
-مجلة تجليات الحداثة، معهد اللغة العربية وآدابها، جامعة وهران عدد 2، سنة 1993.
-مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 18/19 سنة 1982، وعدد 30-31 سنة 1984، بيروت –لبنان.
المراجع الأجنبية:
1-CHISS (J-L) FILLIOLET, D. Maingeneau:
-Initiation à la problematique structurale, tome 1 librairie Hachette, Paris 1977.
2-DERRIDE (Jacques);
De la grammatologie, les éditions de minuit, paris 1967.
3-Fuchs –Le GOFFIC (P)
-initiation aux problémes des linguistiques contemporaines, librairie Hachette, Paris 1975.
4-Hj ELMESLEV (L):
-Le langlage, traduit du danois par Michel Oslen préface de Algirdas Julien GREIMAS les editions de minuit 1966.
5-JADOBSON (R):
-Essais de linguistique générale. ةditions de minuit, Paris 1973.
6-Leech (G):
-SEMANTICS, penguin BOOks 1974.
7-Lerlat (p):
-Semantique descriptive, Hachette, paris 1983.
8-Leroy (M):
-Les grands courants de la linguistique moderne, université de Bruxelles. 1971.
9-Lyons (John):
-Eléments de semantique, Larousse. Paris. 1978.
10-Malgueneau (D):
-Initiation aux méthodes de l’analyse du discours, Hachette université, Paris. 1976.
11-Martinet (A):
-Eléments de linguistique générale. ARM and colin, paris 1980.
12-Morsly (D), Chevaldonne (F), BUFFAC (M), Mollet (J):
-introduction à la semiologie (Texte-Image). O. P. U. Alger 1980.
13-Robins (R-H):(1/346)
-Bréve histoire de la linguistique de Platon à Chomsky, traduit de l’anglais par Maurise Borel editions du seuil, Paris, 1976.
14-Sapir (E):
-Le langage, traduit par Guillemin (S.M) Payot, Paris 1967.
15-Saussure (F. De):
-Cours de linguistique generale Payot. Paris 1986.
16-Shomsky (N):
-Structure syntaxique. Traduit par Michel Braudeau, éditions du seuil 1969.
17-Ullman (S):
-Meaning and style. Oxford. London 1973.
(((
الفهرس
الإهداء: ... 7
الباب الأول : مدخل نظري لعلم الدلالة ... 9
مدخل عام ... 11
الفصل الأول: علم الدلالة: النشأة والماهية ... 12
تمهيد: ... 12
أولاً- نشأة علم الدلالة ... 12
ثانياً- ماهية الدلالة بين القديم والحديث ... 12
I-مصطلح "الدلالة" في القرآن الكريم ومعجمات اللغة: ... 12
أولاً: الدلالة في تعريفات علماء العرب القدامى (الأسس والمبادئ النظرية): ... 12
I-مفاهيم الدلالة عند الفرابي (ت 339هـ): ... 12
II-مفاهيم الدلالة عند الغزالي (ت: 505): ... 12
III-مفاهيم الدلالة عند ابن خلدون (ت:808هـ): ... 12
IV-ماهية الدلالة عند الشريف الجرجاني (ت:816هـ): ... 12
ثانياً: الدلالة في تعريفات العلماء المحدثين: (المصطلح والأبعاد) أو (الماهية والمشروع): ... 12
أ-ماهية الدلالة بين الوصفية والمعيارية: ... 12
الفصل الثاني: مباحث علم الدلالة الحديث ... 12
تمهيد: ... 12
المبحث الأول: اللغة ... 12
المبحث الثاني: الدال والمدلول: ... 12
المبحث الثالث: أقسام الدلالة ... 12
المبحث الرابع: التطور الدلالي ... 12
المبحث الخامس: الحقيقة والمجاز: ... 12
المبحث السادس: الحقول الدلالية: ... 12
الخلاصة: ... 12
الفصل الثالث: النظريات الدلالية الحديثة ... 12
توطئة: ... 12
1-النظرية الإشارية: ... 12
2-النظرية التصورية: ... 12
3-النظرية السلوكية: ... 12
4 ـ النظرية السياقية: ... 12
5 ـ النظرية التحليلية: ... 12
6 ـ النظرية التوليدية: ... 12
7 ـ نظرية الوضعية المنطقية في المعنى: ... 12
8 ـ النظرية البراجماتية: ... 12(1/347)
9 ـ نظرية :"مور ـ كواين" : ... 12
الباب الثاني : الدلالة عند الآمدي ... 12
الفصل الأول: جهود العرب القدامى في الدراسات الدلالية ... 12
تمهيد: ... 12
1 ـ الجهود الدلالية عند الشافعي (150 هـ 204هـ): ... 12
2 ـ الجهود الدلالية عند الجاحظ (160 هـ ـ 255هـ): ... 12
3-الجهود الدلالية عند ابن جني: (320هـ-392هـ) ... 12
4-الجهود الدلالية عند ابن سينا (373هـ-427هـ): ... 12
5-الجهود الدلالية عند عبد القاهر الجرجاني (ت 421هـ): ... 12
الفصل الثاني: العلامة اللسانية عند الآمدي ... 12
1-مدخل عام ... 12
2-العلامة اللسانية أنماطها وأنساقها الدلالية عند الآمدي: ... 12
أنماط العلامة اللسانية: ... 12
3-اعتباطية الدليل اللساني: ... 12
4-الأنساق الدلالية (أنواع العلاقات وأقسامها): ... 12
5-أسس الحقول الدلالية: ... 12
6-بناء الحقول الدلالية: ... 12
الفصل الثالث: الخطاب الإبلاغي وحداته ومقوماته عند الآمدي ... 12
1-وحدات الخطاب اللغوي: ... 12
أ-الحرف: ... 12
ب-الفعل: ... 12
ج-الاسم: ... 12
2-مقومات الخطاب الإبلاغي: ... 12
أ-الخبر وأبعاده الدلالية: ... 12
ب-الكلام وقيمته الإبلاغية: ... 12
ج- الخطاب الإبلاغي وأنماطه: ... 12
الفصل الرابع: الحقيقة والمجاز عند الآمدي ... 12
تمهيد: ... 12
1-ماهية الحقيقة وأقسامها: ... 12
2-ماهية المجاز ... 12
3-معايير الحقيقة والمجاز ... 12
خاتمة البحث: ... 12
المصادر والمراجع العربية ... 12
الفهرس ... 12
(((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
علم الدلالة: أصوله ومباحثه في التراث العربي: دراسة/ منقور عبد الجليل– دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 – 251 ص؛
24سم.
1- 412 ع ب د ع ... ... ... ... 2- العنوان
3- عبد الجليل
ع- 2287/11/ 2001 ... ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/348)