علامات الساعة الصغرى
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي امتَنَّ على عباده المؤمنين ببعثة الرسول الصادق الأمين ، فأخرجهم به من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم واليقين ، وأخبرهم على لسانه بما كان وما يكون إلى يوم الدين ، وأنبأهم عن الدار الآخرة بأكمل إيضاح وأعظم تبيين ، فمن آمن به وبما جاء به فهو من المفلحين ، ومن كان في ريب مما صحَّ عنه فهو من الخاسرين ، أحمده سبحانه حمدَ أوليائه المُتَّقين ، وأشكره شكر عباده المؤمنين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي ترك أمته على المنهج الواضح المستبين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . . . أما بعد :(1/1)
فكل ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بوقوعه، فالإيمان به واجب على كل مسلم، وذلك من تحقيق الشهادة بأنه رسول الله ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم 3 ، 4 ] . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : " كلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إسناد جيد ، أقررنا به ، وإذا لم نقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ودفعناه ورددناه ، رددنا على الله أمره ، قال الله تعالى : { وَما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر 7 ] ، فيجب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصحَّ به النقل سواء أدركته عقولنا أو لم تُدركه ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال : " لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَه وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ، إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجلُ الرجلَ إذا غاب عنه فَرآه فعرفه " [ متفق عليه ] ، وعن عمر رضي الله عنه قال : " قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً ، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم ، حَفِظَ ذلك مَنْ حَفِظَهُ ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ " [ أخرجه البخاري ].
ونحن نذكر علامات الساعة الصغرى والكبرى وما يجب علينا أن نعرفه عنها ، ولا نقول هذا الكلام لكي يجزع الناس ، وتوقف عجلة الحياة ، ويترك العمل ، ويجلس الناس لينتظروا تلك الأحداث الكونية الرهيبة ، بل نقوله للاعتبار والاتعاظ به ، فإن في القصص عبر ، وطوبى لمن اتعظ وانزجر ، واتعظ بالمواعظ واعتبر ، فإن فيها ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .(1/2)
إذ أنه يجب على المسلم أن يعمل حتى قيام الساعة ، ولا يجلس وينتظر الرزق من السماء ، فإن السماء لا تمطر ذهباً ، ومما يدل على ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنْ قامَتِ السّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيْلَةٌ _ نخلة صغيرة _ فإنِ اسْتَطَاعَ أنْ لا يَقُومَ حَتّى يَغْرِسَها فَلْيَفْعَلْ " [ أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني ] .
وليس المقصود من ذكر هذه العلامات تخويف الناس ، وأن يتوقفوا عن العمل وينتظرون حدوث القيامة ، بل المقصود تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين لكي لا يفاجئوا بهذه الأمور وهم عنها غافلين .
واعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، قال تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر1 ] ، وقال الله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * { لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } [ الأنبياء1-3 } .(1/3)
إن الساعة قريبة ، لذا ينبغي التنبه إلى أن الباقي من الدنيا قليل ، بالنسبة إلى ما مضى منها ، أخرج البخاري في صحيحه عن عبداللَّه بنَ عمر رضي اللَّه عنهما قال : سمعت رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو قائمٌ على المنبر يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ، كما بين صلاةِ العصر إلى غروب الشمس ، أُعطيَ أهلُ التوراةِ التوراةَ ، فعملوا بها حتى انتصف النهارُ ، ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ، ثم أُعطِيَ أهلُ الإِنجيلِ الإِنجيلَ ، فعملوا به حتى صلاة العصر ، ثم عجزوا ، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ، ثم أُعطيتم القرآنَ ، فعملتم به حتى غروب الشمس ، فأُعطيتم قيراطين قيراطين ، قال أهل التوراةِ : ربنا هؤلاء أقَلُّ عملاً وأكثر أجراً ، وقال : هل ظلمتكم من أجرِكم من شيءٍ ؟ قالوا : لا ، فقال : فذلكَ فضلي أوتيه من أشاء " .(1/4)
الكفار والفساق والفجار ، يتمتعون بهذه الحياة الدنيا ، وهي بالنسبة لهم دار مقر ، دار حبور ، لكنها للمسلم دار ممر ، ودار عبور ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَدَوِيِّ ، قَالَ : خَطَبَنَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ، فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ ، يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لاَ زَوَالَ لَهَا ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَاماً لاَ يُدْرِكُ لَهَا قَعْراً ، وَوَاللّهِ لَتُمْلأَنَّ ، أَفَعَجِبْتُمْ ؟ وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْه يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ ، حَتَّى قَرِحَتْ أَشْدَاقُنَا ، فَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ، فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا ، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا ، فَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ أَصْبَحَ أَمِيراً عَلَى مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ ، وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيماً وَعِنْدَ اللّهِ صَغِيراً ، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلاَّ تَنَاسَخَتْ ، حَتَّى(1/5)
يَكُونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكاً ، فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الأُمَرَاءَ بَعْدَنَا " [ أخرجه مسلم ] ، قال تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [ المعارج6-7 ] .
هذه هي الدنيا أخوة الإيمان ، لا تدوم لأحد ، فهي مرتحلة ، وكل يوم تفجع الناس بموت قريب أو حبب أو صديق ، فلابد من الاتعاظ ، وأخذ العبرة والحيطة ، فهي غدارة ماكرة ، لا تترك لذي لب لبه ، ولا لذي عقل عقله ، من تبعها هلك وغوى ، ومن تركها ، فاز ونجا ، وما هي إلا أيام وسويعات ثم يغادر كل من عليها إلى حساب رب جبار شديد العقاب ، قال تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ يونس24 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف45 ] .
وكم من الناس من لازم الدنيا وخطب ودها ، ورام حطامها ، ورغب في زخرفها ، وجمع مالها ، ثم مات وتركها ، فهو يحاسب على ما جنى منها ، عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " يَدْخُلُ فُقَرَاءِ المُسْلِمِنَ الْجَنَّةَ قَبْلَ اْلأَغْنِيَاَءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ ، وَهُوَ خَمْسُمَائَةِ عَامٍ " [ أخرجه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وأخرجه غيره ] .
فوائد تعلم أشراط الساعة :(1/6)
1- تجديد الإيمان بالله ورسوله ، وذلك من اعتبارنا بدلائل النبوة الدالة على ربوبية الله من جهة ، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى .
2- المسارعة إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى , حيث أن الموت والساعة لا تأتى إلا بغتة ، قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً } [ الأعراف187 ] .
3- المبادرة بالإيمان والعمل الصالح لأنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم ، كإمارة السفاء ، وكثرة الشُرط ، والاستخفاف بالدم ، وكثرة الهرج ، وفشو الزنا والعياذ بالله تعالى ، وهى فتن تحتاج إلى الصبر والحلم والعلم ، والاعتصام بحبل الله المتين .
4- الإقامة والمصابرة على الإيمان والعلم والتعلم والعمل الصالح , والتزود بالتقوى مخافة النكوص على العقبين بعد الهداية ، وحتى لا نكون ممن يصبح مؤمناً ويمسى كافراً _ والعياذ بالله _ .
5- عدم الركون إلى الدنيا ، لاسيما وقد حان الرحيل ، ودنت الآجال ، وقد كثر موت الفجأة بسبب الحوادث ، والسرعة المفرطة ، والتهور القيادي الواضح ، والأمراض المهلكة المستعصية ، نظراً للبعد عن الله تعالى ، وعن منهجه القويم ، وصراطه المستقيم ، وعدم اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور63 ] .(1/7)
6- العلم القطعي اليقيني بأن الدنيا فانية ، ولم يبق منها إلا القليل ، وليس في العمر إلا أقل مما مضى ، فأعمار الناس في تناقص ، عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : " أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَبْعِينَ ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم ] .
لما سبق ذكره من أسباب وغيرها ، فنحن نتعلم علامات الساعة ، وندرسها ، ونعلمها للناس ، حتى يكونوا على استعداد للقاء الله تعالى ، والتصديق الجازم بأن يوم القيامة تسبقه أمارات وعلامات ، وأنه قادم لا محالة ، فنسال الله السلامة .
قرب قيام الساعة :
إن الله جلت حكمته ، قد أخفى على كل أحد وقت قيام الساعة، وجعل ذلك من خصائص علمه لم يطلع عليها أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً ، قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف 187] .
ولكنه سبحانه وتعالى ، قد أعلمنا بأماراتها ، وعلاماتها ، وأشراطها ، لنستعد لها ، فهناك كثير من أشراط الساعة ، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً لأمته ، وقد ظهرت هذه الأشراط منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وهي في ازدياد ، وقد تكثر في أماكن دون أخرى ، كالخسوفات والزلازل .
أقسام علامات الساعة :
تنقسم علامات الساعة من حيث وقوعها إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ظهر وانقضى .
القسم الثاني : ما ظهر ولا يزال يتتابع ويكثر .
القسم الثالث : ما لم يظهر إلى الآن ، ويكون قرب قيام الساعة ، ويكون في أمور غير معتادة عند الناس .(1/8)
وحتى لا أطيل وأطنب في المقدمة ، وينسي آخر الكلام أوله ، فأكتفي بما ذكرت ، وحان أوان الشروع في المقصود ، وهو سرد أشراط الساعة ، فأقول : مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ، وهو حسبي ونعم الوكيل :
الشرط الأول :
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، عن سهل بن سَعد الساعِدِي رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " بُعثتُ أنا والساعة كَهاتين ، وقرَنَ بين السبَّابةِ والوُسطَى " [ متفق عليه ] .
وقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ فِي نَسَمِ السَّاعَةِ " [ أخرجه الحاكم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ] ، ونسم الساعة هو : من النسم ، أي أول هبوب الريح الضعيفة ، فلا نبي بعده صلى الله عليه وسلم وإنما بعده القيامة .
قال الله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [ الأحزاب40 ] .
إذن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم دليل على قرب وقوع القيامة ، وهي شرط من أشراط الساعة الصغرى ، وقد ظهرت هذه العلامة وانتهت .
وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت رحمة للعالمين ، بعد أن كانت الأمم تغط في جهل سحيق ، يتخللها الخوف والضيق ، لا تدين بدين ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وإلا فكل الشعوب تسيطر عليها الوثنية واليهودية والنصرانية المزيفة المحرفة ، انتشرت عبادة الأوثان والأصنام ، والنار والملائكة والجن ، وغير ذلك من أنواع الكفر بالله تعالى .(1/9)
فرحم الله البشرية ، حيث أرسل لها أفضل البرية ، برسالة سامية ، عادلة ، واضحة لا لبس فيها ، لتنسخ ما قبلها من الرسائل السماوية المحرفة ، فجاء الإسلام ديناً قيماً ، ديناً رضيه الله لعباده ، ولا يقبل منهم ديناً غيره ، قال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران85 ] .
وقال تعالى : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُؤلَا??ـ?ِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ البقرة 121 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ? مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ?? } [ هود 17 ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هاذِهِ الأُمَّةِ ، يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ " [ أخرجه مسلم ] .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " . . . بُعِثْتُ إِلى أَلاحْمَرِ وَأَلاسْوَدِ ، وَكانَ النّبِيُّ إنّما يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلى النّاسِ عَامّةً . . . " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين ، 22/165 . الرسالة ، وأخرجه غيره ] .
وهذا الدين العظيم ، دين الإسلام ، جاء به النبي _ صلى الله عليه وسلم _ من عند ربه ، وأُمر بتبليغه للعالمين كافة ، إنسهم وجنهم ، محمد بن عبد الله _ صلوات ربي وسلامه عليه _ وهو آخر الأنبياء وخاتمهم ، إذ لا نبي بعده ، قال تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [ الأحزاب40 ] .(1/10)
فأخرج الله بهذا النبي الكريم ، جميع الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الجهل إلى العلم ، وأخرج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، فكانت بعثته بحق نوراً أضاء قلوب البشرية جمعاء ، أنقذتهم من النار ، وسلكت لهم طرقاً إلى الجنة ، فاللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبنا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا محمد النبي الهاشمي القرشي ، فلقد كانت بعثته بحق نعمة مسداة ، ورحمة مهداة للإنس والجن كافة ، إلا من رضي بالنار قراراً ومكاناً ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " كلُّ أمتي يَدخلونَ الجنة إلا من أبى " قالوا : يا رسولَ اللَّه ومن يأبى ؟ قال : " من أطاعني دخلَ الجنة ، ومن عصاني فقد أبى " [ أخرجه البخاري ] .
الشرط الثاني :
موته صلى الله عليه وسلم ، عن عَوف بنَ مالكٍ رضي الله عنه قال : " أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبوك ـ وهوَ في قُبَّةٍ من أدم ـ فقال : " اعدُدْ ستاً بين يدَي الساعة : مَوْتي ، ثمَّ فتحُ بيتِ المَقْدِس ، ثمَّ مُوتانٌ يأخذُ فيكم كقعاصِ الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينارٍ فيظل ساخطاً ، ثمَّ فتنةٌ لا يبقى بيتٌ منَ العربِ إلا دخلَتْه ، ثمَّ هدنةٌ تكون بينكم وبينَ بَني الأصفرِ فيَغدِرون ، فيأتونَكم تحت ثمانينَ غايةً ، تحت كلِّ غايةٍ اثنا عشر ألفا " [ أخرجه البخاري ] .
فكان موته صلى الله عليه وسلم أول أمر دهم الإسلام ، كان قاصمة الظهر ، حتى اختلف الناس في تصديق موته ، لهول الخبر ، وفجأة النبأ على أصحابه رضي الله عنهم .(1/11)
وعندما حانت ساعة وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم ، دخل عليه جبريل عليه السلام وقال : " ملك الموت بالباب ، ويستأذن أن يدخل عليك ، وما استأذن من أحد قبلك " ، فقال له : " إذن له يا جبريل " ، ودخل ملك الموت وقال : " السلام عليك يا رسول الله ، أرسلني الله أخيرك بين البقاء في الدنيا ، وبين أن تلحق بالله " فقال النبي : " بل الرفيق الأعلى ، بل الرفيق الأعلى ، فوقف ملك الموت عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم _ كما سيقف عند رأس كل واحد منا _ فتقول عائشة رضي الله عنها : " فسقطت يد النبي وثقل رأسه على صدري فقد علمت أنه قد مات " ، وتقول : " ما أدري ما أفعل فما كان مني إلا أن خرجت من حجرتي إلى المسجد حيث الصحابة وقلت : مات رسول الله ، مات رسول الله ، مات رسول الله ، فأنفجر المسجد بالبكاء ، فهذا علي بن أبي طالب أُقعد من هول الخبر ، وهذا عثمان بن عفان كالصبي يأخذ بيده يميناً ويساراً ، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " إن قال أحد أنه قد مات سأقطع رأسه بسيفي ، إنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى للقاء ربه " .
وكان أثبت الناس وأربطهم جأشاً ، فهو الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أن أبا بكر دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، فوضع فمه بين عينيه ، ووضع يديه على صدغيه وقال : وانبياه ، واخليلاه ، واصفيّاه " [ أخرجه أحمد ] .(1/12)
وقالت رضي الله عنها : ثم جاء أَبو بكر فرفعت الحجاب، فنظر إليه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبّل جبهته، ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبّل جبهته ثم قال: واصفياه ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبّل جبهته وقال: واخليلاه ، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج إِلى المسجد وعمر يخطب الناس ويتكلّم ويقول: إن رسول الله لا يموت حتى يُفني الله المنافقين. فتكلّم أَبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله يقول { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر 30 ] حتى فرغ من الآية ، ثم قرأ : { وما محمّد إِلا رسول قد خلتْ من قبله الرسلُ أَفإنْ ماتَ أَو قُتل انْقلبتمُ على أعقابِكم ومَنْ ينقلبُ على عقبيه } [ آل عمران 144 ] حتى فرغ من الآية ، ثم قال : فمن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت ، ومن كان يعبد محمّداً فإن محمّداً قد مات ، فقال عمر : أَو إنها في كتاب الله ؟ ما شعرت أنها في كتاب الله ، ثم قال عمر: يا أيها الناس هذا أَبو بكر ، وهو ذو أسبقية المسلمين فبايعوه ، فبايعوه [ أخرجه الترمذي ] .
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيحٌ : إنه لم يُقبضْ نبيٌّ قط حتى يرى مَقعدَه من الجنَّة ثم يُخير ، فلما نَزَل به ورأسه على فخذي ، غُشيَ عليه ساعةً ثم أفاق ، فأشخَصَ بَصرَه إلى السَّقفِ ثم قال : " اللهم الرفيقَ الأعلى " قلتُ : إِذاً لا يَختارُنا ، وعرَفتُ أنه الحديثُ الذي كان يحدِّثنا به ، قالت : فكانت تلك آخرَ كلمةٍ تكلمَ بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم قوله : اللهم الرفيقَ الأعلى " [ متفق عليه ] .(1/13)
إن موت النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات قرب الساعة ، لقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم قاصمة الظهر ، ومن أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين ، فقد أظلمت الدنيا في عيون الصحابة رضي الله عنهم ، عندما مات عليه الصلاة والسلام ، عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال : " لَمَّا كانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ، ومَا نَفَضْنَا عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَيْدِي ، وَإنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أنْكَرْنَا قُلُوبَنَا " [ أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة ، وقال أبو عيسى : هَذَا حَدِيثٌ صحيحٌ غَريب " .
قال ابن حجر رحمه الله : " يريد أنهم وجدوها _ قلوبهم _ تغيّرت عمّا عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة ، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب " .
بموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء ، وكما قال القرطبي رحمه الله : " أول أمر دهم الإسلام ، وفاة النبوة ، وكان أول ظهور الشر ، بارتداد العرب ، وكان موته أول انقطاع الخير وأول نقصانه " .
الشرط الثالث :
فتح بيت المقدس ، عن عَوف بنَ مالكٍ رضي الله عنه قال : " أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تَبوك ـ وهوَ في قُبَّةٍ من أدم ـ فقال : " اعدُدْ ستاً بين يدَي الساعة : مَوْتي ، ثمَّ فتحُ بيتِ المَقْدِس ، ثمَّ مُوتانٌ يأخذُ فيكم كقعاصِ الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينارٍ فيظل ساخطاً ، ثمَّ فتنةٌ لا يبقى بيتٌ منَ العربِ إلا دخلَتْه ، ثمَّ هدنةٌ تكون بينكم وبينَ بَني الأصفرِ فيَغدِرون ، فيأتونَكم تحت ثمانينَ غايةً ، تحت كلِّ غايةٍ اثنا عشر ألفا " [ أخرجه البخاري ] ، وهذا الشرط قد حدث في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 36هـ .(1/14)
لما أدرك المسلمون الأوائل أهمية بيت المقدس ، وأنه أولى القبلتين ، وثالث المساجد التي تُشد إليها الرحال ، ولما أيقنوا بأهمية بيت المقدس ، وأنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه ، ومنه عُرج به إلى السماء ، وفيه أمَّ النبي عليه الصلاة والسلام الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام ، ولما يتميز به بيت المقدس من موقع جغرافي هام ، لما أدركوا ذلك عزموا على تطهيره من قوى الشرك التي سيطرت عليه إبان ذاك ، فتم فتح بيت المقدس في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وتم الفتح بدون قتال ، حيث قبل الصليبيون بالصلح على أن يحضر الخليفة عمر هذا الصلح ، فسار حتى وصل بيت المقدس ، فصالح النصارى على إخراج الروم خلال ثلاثة أيام ثم دخل المسجد من حيث دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإسراء ، وصلى فيه مع المسلمين .
وهكذا بقي بيت المقدس تحت الحكم الإسلامي إلى العهد العباسي ، فلما دب الضعف في تلك الدولة بسبب التفكك والفتن السياسية ، مما جعل الفاطميين يثنون رقابهم للصليبين ، وتعاونوا معهم للقضاء على السلاجقة والدولة العباسية ، لأنهم كانوا يعتبرونهم أعداءً لهم ، ولكن غدر بهم الصليبيون ، فسيطروا على القدس ، وقاموا بعمليات ومذابح ومجازر بشعة في كل المدن التي فتحوها ، ولم يفرقوا بين أحد ، وقد بلغت تلك المجازر أوجها وذروتها في القدس نفسها ، حيث قتلوا المسلمين وقطعوا أطرافهم ، وألقوهم على الأسوار ، وتم سقوط القدس في يد الصليبين عام 492هـ وبقي حتى عام 583هـ .(1/15)
واستمر الصليبيون على عزل مصر والشام حتى لا تجتمع قوى الإسلام ضدها ، حتى هيأ الله للأمة رجلاً بطلاً مغواراً عمل على توحيد الجيوش الإسلامية تحت راية واحدة ، ألا وهو البطل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، حيث انطلق لعملية الفتح الإسلامي ، وبعد معركة حطين توجه نحو عسقلان ، ومنها إلى القدس وفرض عليها حصاراً قوياً ، اضطر معه الصليبيون إلى الاستسلام وذلك في عام 853هـ ، فتم فتح بيت المقدس على يد ذلك البطل الشجاع ، ولكن بعد موته دب الخلاف والفرقة بين المسلمين حتى سلمت القدس للصليبين مرتين دون قتال ، دامت المرة الأولى عشر سنوات ، ودامت المرة الثانية سنة واحدة .
ثم وقعت القدس تحت طائلة الحكم البريطاني عقب الحرب العالمية الأولى ، وهكذا وقعت فلسطين تحت الحكم اليهودي منذ عام 1367هـ ، وحتى يومنا هذا ، فنسأل الله تعالى أن يهيأ للأمة رجلاً يقودها لاستعادة مجدها التليد ، وعزها المجيد ، وليس ذلك على الله ببعيد .
الشرط الرابع :(1/16)
طاعون _عمواس _ وهي بلدة في فلسطين ، قَالَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ : " اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ : مَوْتِي ، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا " [ أخرجه البخاري وغيره ] ، قال ابن حجر رحمه الله : " يقال : إن هذه الآية ظهرت في طاعون عمواس في خلافة عمر ، وكان ذلك بعد فتح بيت المقدس " [ فتح الباري 6 / 334 ] . وكان ذلك عام 18هـ وبلغ عدد من مات فيه من المسلمين خمسة وعشرين ألفاً .(1/17)
ومن مات بالطاعون فهو شهيد ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعلى المؤمن إذا علم بوجود الطاعون في بلده أن لا يخرج منها خوفاً منه ، فلا يدري فلربما يصاب به في بلدة أخرى ، أو قد يصاب بغيره من الأمراض ، فعليه أن يتوكل على الله تعالى ، وأن يصبر محتسباً ، وألا يخرج وليس ذلك من باب إلقاء اليد إلى التهلكة ، بل ذلك من قبيل طاعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك إذا علم المسلم أن هناك بلداً بها مرضاً خطيراً ، فيجب عليه أن لا يقدم إليها فراراً من أن يصيبه ، فإن تعمد وقدم وأصيب به ، فهذا من قبيل إلقاء النفس إلى التهلكة والانتحار ، لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، عَنْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] . فما أعظم أن يستسلم العبد لقضاء ربه تبارك وتعالى ، فيصبر متوكلاً على الله تعالى ، في مقابلة هذا البلاء الخطير ، والداء الكبير ، وألا يجزع ، لأن الأمر كله لله ، فالله قضى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، بأن لا يخرج أحد من أرض أصابها الوباء خوفاً منه ، والوباء والمرض يدخل فيه الطاعون وغيره من الأمراض ، لأن الطاعون كان معروفاً آنذاك ، وهو مرض خطير ومعد ، يقتل آلاف البشر ويفتك بهم ، فمن أيقن أن ذلك قضاء من الله ، وجب عليه الصبر والاحتساب في ذلك ، وله أجر شهيد كما جاء ذلك مصرحاً به في حديث عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا(1/18)
حيث قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الطَّاعُونِ ؟ فَأَخْبَرَنِي : " أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ " [ أخرجه البخاري ] .(1/19)
ولما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخول الشام وعلم أن بها الطاعون ، توقف فلم يدخلها ، لأنه أذعن لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ ـ مكان بقرب تبوك يبعد عن المدينة ثلاث عشرة مرحلة وهي مسيرة ستة أيام بلياليها على الإبل ـ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ : أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقَالَ عُمَرُ : ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، فَدَعَاهُمْ ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ ، فَاخْتَلَفُوا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي ، ثُمَّ قَالَ : ادْعُ لِي الْأَنْصَارَ ، فَدَعَوْتُهُمْ ، فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ ، فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي ، ثُمَّ قَالَ : ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ ، مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ ، فَدَعَوْتُهُمْ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ ، فَقَالُوا : نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ ، وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ : إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ غَيْرُكَ(1/20)
قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ؟ نَعَمْ , نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ، إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ ، إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ ، وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، قَالَ : فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ " ، قَالَ : فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] . ولم يدخل رضي الله عنه على أرض الوباء خوفاً من فتكه بالمسلمين ، وهكذا يجب على كل مسلم إذا عرف بوجود مرض خطير في بلد ما ، ألا يقدم عليها لئلا يلقي بنفسه ومن معه إلى التهلكة .
قال ابن حجر رحمه الله : " وليس ذاك من باب الطيرة أو التشاؤم ، بل من باب عدم إلقاء النفس إلى التهلكة " [ الفتح 10 / 230 ] .
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه ندم على عودته من أرض الشام إلى المدينة ، وكان يقول : " اللهم اغفر لي رجوعي من سَرْغ " [ أخرجه ابن أبي شيبة بسند جيد ] ، وقد أجاب العلماء عن قول عمر هذا بأقوال :
الأول : أن النهي في الحديث عن القدوم على أرض الوباء نهي تنزيه ، وأن القدوم جائزاً لمن غلب عليه التوكل ، كما حكاه البغوي في شرح السنة ، لكن يُجاب عن ذلك بأن النهي في الحديث للتحريم ولا صارف له عنه .(1/21)
الثاني : أن سبب ندمه أنه خرج بالمسلمين وحصلت لهم المشقة ، فلو عسكر بهم خارج أرض الوباء ، فلما ارتفع دخلها ، وفعلاً فقد ارتفع الطاعون من أرض الشام بعد مدة قصيرة ، فندم عمر رضي الله عنه لأجل ذلك ، فكأنه رأى لو أنه انتظر قليلاً لكان أولى من رجوعه إلى المدينة بالجيش ، خصوصاً وأن الحديث ورد بالنهي عن القدوم على أرض الطاعون ، وليس بالرجوع ، وقد ورد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال عمر : " اللهم إن الناس قد نحلوني ثلاثاً ، أنا أبرأ إليك منهن : زعموا أني فررت من الطاعون ، وأنا أبرأ إليك من ذلك " [ أخرجه الطحاوي وصحح سنده الحافظ بن حجر في الفتح 10 / 231 ] .
وقد جاء الوعيد لمن خرج من أرض الطاعون بعد علمه بذلك ، ففي حديث لعائشة رضي الله عنها وفيه : " . . . قلت : يا رسول الله ! فما الطاعون ؟ قال : " غدة كغدة الإبل ، المقيم فيها كالشهيد ، والفار منها كالفار من الزحف " [ أخرجه أحمد بسند حسن . الفتح 10 / 231 ] .
وينقسم الخروج من أرض المرض والوباء إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول / الخروج لقصد الفرار منه : وهذا منهي عنه للحديث السابق .
القسم الثاني / الخروج بدون علم وجود المرض : كمن كان على أهبة الانتقال من بلد إلى بلد آخر ، ولم يسمع بوجود المرض ، فلما سمع به استمر على الانتقال لا فراراً منه ، فهذا يجوز له أن ينتقل .
القسم الثالث / من كان له حاجة وهو يعلم بوجود الطاعون : فخرج من أجل الحاجة وفراراً من الطاعون ، فهذا فيه خلاف بين العلماء ، والصحيح : أنه لا يخرج .
واتفق العلماء على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار [ الموسوعة الفقهية 28 / 332 ] .
وقد ذكر النووي رحمه الله تعالى أن الطاعون قد أصاب المسلمين في أزمنة متعددة ، منها :
1- طاعون شيرويه بالمدائن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة .(1/22)
2- طاعون عمواس بالشام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومات فيه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه ، وخلق كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وكان عدد الموتى خمسة وعشرين ألفاً .
3- الطاعون الذي وقع في زمن ابن الزبير في شوال سنة تسع وستين ، ومات في خلال ثلاثة أيام في كل يوم منها سبعون ألفاً ، ومات فيه لأنس بن مالك رضي الله عنه ثلاثة وثمانون ابناً ، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابناً .
4- طاعون الفتيات ، وسمي بذلك لأنه بدأ بالعذارى ، ويقال له : طاعون الأشراف : لكثرة من مات فيه من الأشراف ، وكان ذلك الطاعون سنة سبع وثمانين ، ووقع بالبصرة والكوفة والشام وواسط ، ومات فيه خلق كثير .
5- طاعون الكوفة ، سنة خمسين للهجرة ، ومات فيه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .
6- طاعون سنة مائة وإحدى وثلاثين ، وبدأ في رجب واشتد في رمضان ، وكان يحصى في سكك المَرْبَد كل يوم ألف جنازة ، ثم خف في شوال . [ الأذكار 224 ] .
وهناك بشرى لسكان مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخلها مرض خطير ، فهي محروسة بملائكة الرحمن جل وعلا ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاء الله أن ينقل حُمَّاها إلى الجحفة ، فنقلها الله تعالى إلى الجحفة ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ ، فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ ، وَاشْتَكَى بِلاَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ قَالَ : " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ ، كَمَا حَبَّبْتَ إلينا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ ، وَصَحِّحْهَا ، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا ، وَحَوِّلُ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ " [ متفق عليه ] .(1/23)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الطاعون لا يدخل المدينة النبوية ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ ، وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وربما سأل سائل : هل مكة مثل المدينة أم لا ؟
والجواب : هناك حديث لأبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، ورجاله رجال الصحيح ، كما قال ابن حجر رحمه الله ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " المَدِينَةُ ومَكَّةُ مَحْفُوفَتَانِ بالملاَئِكَةِ ، على كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَكٌ ، لا يَدْخُلُها الدَّجَّالُ ولا الطَّاعُونُ " [ أخرجه أحمد ورجاله ثقات " [ الفتح 10 / 235 ] ، ولو لم يصح الأثر ، فمكة أفضل البقاع إلى الله تعالى ، وهي من باب أولى أن لا يدخلها الدجال ولا الطاعون .
المقصود أن طاعون عمواس من أشراط الساعة ، وقد وقع هذا الشرط وانقضى ، فهو دليل على قرب وقوع الساعة .
الشرط الخامس :
استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ ، فَيَفِيضَ ، حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ _ يهتم _ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقَتَهُ ، وَحَتَّى يَعْرِضَهُ فَيَقُولَ الَّذِي يَعْرِضُهُ عَلَيْهِ : لَا أَرَبَ لِي فِيهِ _ لا حاجة لي به _ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .(1/24)
عن أبي موسى رضيَ اللّهُ عنهُ ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " لَيأتِيَنَّ على الناسِ زمانٌ ، يَطوفُ الرجُلُ فيهِ بالصَّدقةِ منَ الذَّهَبِ ، ثمَّ لا يَجِدُ أحداً يأخُذُها منه ، ويُرَى الرَّجلُ الواحدُ ، يَتبعُهُ أرْبَعُونَ امرأةً يَلُذْنَ به ، من قِلَّةِ الرِّجَالِ وكَثْرَةِ النساءِ " [ متفق عليه ] .
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى سيعطي هذه الأمة ، ويفتح عليها من كنوز الأرض ، وأن مُلك أمته سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها ، عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ ـ جمع وطوى ـ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ ـ الذهب والفضة ـ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ يَا مُحَمَّدُ : إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً ، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ ، أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا ، أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا ، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا ، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا " [ أخرجه مسلم ] .(1/25)
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ ، فَقَالَ يَا عَدِيُّ : " هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ " ، قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا ، قَالَ : " فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ " قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ـ يعني قطاع الطرق ـ ؟ " وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى " قُلْتُ : كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ؟ قَالَ : " كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى ، فَيَقُولُ : أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى ، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ " قَالَ عَدِيٌّ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ " ، قَالَ عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ(1/26)
، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ " [ أخرجه البخاري ] .
ولقد تحقق كثير مما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثر المال في عهد الصحابة رضي الله عنهم بسبب الفتوحات الإسلامية، وبسبب الجهاد في سبيل الله، واقتسموا أموال الفرس والروم، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، بسبب بركة عدله، فكان الرجل يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله، لأن عمراً قد أغنى الناس عن السؤال .
وسيكثر المال في آخر الزمان حتى يعرض الرجل ماله فيقول الذي يعرض عليه : لا حاجة لي به ، وهذا والله أعلم سيكون في زمن المهدي وعيسى عليه السلام ، حيث ستخرج الأرض كنوزها فيكثر المال ، وينتشر الأمن ، ويعم الخير .
وربما تخلل بين هذه الفترات ، بعض فترات يسود الفقر والمجاعة بعض الأمة ، كما هو حاصل الآن ، من وجود شعوب ومجتمعات من هذه الأمة تموت فقراً وجوعاً ، ولا يكاد يسلم بلد ، من وجود فقراء ومساكين ، لا يعلم بحالهم إلا الله ، ولو أن المسلمين أخرجوا زكاة أموالهم ، وتصدقوا بما زاد عن حاجتهم ، ورفقوا بالفقراء من أمتهم ، ولو أدت الجمعيات والمؤسسات الخيرية دورها بكل صدق وأمانة لما بقي فقير على وجه الأرض ، بل ربما استفاض المال حتى لا يوجد من يقبله ، لكن لما لم يحصل ذلك وبخل أهل الأموال بأموالهم ، وشح التجار بتجاراتهم ، ومنع بعض الناس زكواتهم ، واقتصر دور أهل الخير في أماكنهم ، حصلت فاقة وحاجة كبيرة في أماكن أخرى لم تطلها الأيدي لعدم معرفة أهلها ، والمحتاجين فيها .
المقصود أن من علامات الساعة استفاضة المال ، ولربما كان ذلك في علامات الساعة الصغرى والكبرى ، كما سيأتي معنا في شرطي الساعة الكبرى : المهدي ، ونزول عيسى عليه السلام .(1/27)
ففي زمنهما سيستفيض المال ، ويكثر ويزداد ، حتى لا تجد من يقبل منك صدقتك وزكاة مالك .
الشرط السادس :
ظهور الفتن ، عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ الله صَلَّى الله عليهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ بينَ يَدَي الساعةِ ، فِتَناً كَقِطَعِ الليلِ المظلمِ ، يُصْبِحُ الرجلُ فِيْهَا مؤمناً ، ويُمْسِي كافراً ، ويُمْسِي مؤمناً ، ويُصْبِحُ كافراً ، القاعدُ فِيهَا خيرٌ من القائمِ ، والماشِي فِيهَا خيرٌ من السَّاعِي ، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ وقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ ، واضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بالحِجَارَةِ ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَى أَحدٍ مِنْكُمْ ، فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ " [ أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع ] .
وقد حدث كثير من الفتن من عهد الصحابة رضي الله عنهم حتى الآن وأعظم الفتن جاءت من المشرق كما في حديث عبد الله ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ يَقُولُ : " أَلاَ إِنَّ الْفِتْنَةَ هاهُنَا ، أَلاَ إِنَّ الْفِتْنَةَ هاهُنَا ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ " [ متفق عليه ] .
استحباب العزلة عند الفتن وخوف المسلم على دينه :(1/28)
روى البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها ( كتاب الفتن ) ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن " . وروى مسلم في صحيحه نحوه ، عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي الله عنه الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ. قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ " .
قوله : (شَعَفَ الْجِبَالِ ) أي : رؤوس الجبال . وَأَمَّا ( الشِّعْب ) : فَهُوَ مَا انْفَرج بَيْن جَبَلَيْنِ . قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ( 13/34) : وَلَيْسَ الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا ; بَلْ الْمُرَاد الانْفِرَاد وَالاعْتِزَال , وَذَكَرَ الشِّعْب مِثَالا لأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا اهـ.
والحديث يدل على أفضلية العزلة عن الناس وترك الاختلاط بهم ، في حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن ، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه ، أو يزيغ عن الحق ، أو يقع في الشرك ، أو يترك مباني الإسلام وأركانه ، ونحو ذلك .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/42) : وَالْخَبَر دَالّ عَلَى فَضِيلَة الْعُزْلَة لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينه . اهـ .
وقال السندي في حاشيته على النسائي (8/124) : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوز الْعُزْلَة بَلْ هِيَ أَفْضلُ أَيَّام الْفِتَن اهـ .(1/29)
وفي الحديث الثاني المذكور آنفاً جعل النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم المؤمنَ المعتزلَ يتلو المجاهد في سبيل الله في الفضيلة ، قال الحافظ في الفتح : " وَإِنَّمَا كَانَ الْمُؤْمِن الْمُعْتَزِل يَتْلُوهُ فِي الْفَضِيلَة لأَنَّ الَّذِي يُخَالِط النَّاس لا يَسْلَم مِنْ ارْتِكَاب الآثَام ، وَقَدْ تكون هذه الآثام أكثر من الحسنات التي يحصلها بسبب اختلاطه بالناس . ولكن تفضيل الاعتزال خاص بحالة وقوع الفتن " اهـ بمعناه .
وأما العزلة في غير وقت الفتن وخوف المسلم على دينه فاختلف العلماء في حكمها ، وذهب الجمهور إلى أن الاختلاط بالناس أفضل من العزلة واستدلوا على ذلك بعدة أدلة ، منها :
1- أن ذلك هو حال النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ، والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم ، وجماهير الصحابة رضي الله عنهم . شرح مسلم للنووي ( 13/34) .
2- ما رواه الترمذي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ " [ صححه الألباني في صحيح الترمذي 2035 ] .
قال السندي في حاشيته على ابن ماجة ( 2 / 493 ) : " الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِطَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِل " اهـ .
وقال الصنعاني في سبل السلام ( 4/416 ) : " فيه أفضلية من يخالط الناس ، مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويحسن معاملتهم ، فإنه أفضل من الذي يعتزلهم ، ولا يصبر على المخالطة " اهـ .(1/30)
3- ما أخرجه الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا . فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " لا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا ، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ ؟ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ . مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " [ وحسنه الألباني في صحيح الترمذي 1348] .
4- ما يحصله المسلم في المخالطة ، من المصالح الشرعية ، من مَنَافِع الاخْتِلاط بالناس ، كَالْقِيَامِ بِشَعَائِر الإِسْلام ، وَتَكْثِير سَوَاد الْمُسْلِمِينَ ، وَإِيصَال أَنْوَاع الْخَيْر إِلَيْهِمْ ، مِنْ إِعَانَة وَإِغَاثَة ونَحْو ذَلِكَ ، وشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجَنَائِز ، وَعِيَادَة الْمَرْضَى ، وَحِلَق الذِّكْر . . . وَغَيْر ذَلِكَ [ فتح الباري 13/43 ، شرح مسلم للنووي 13/34 ] .(1/31)
ولقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يبتلي الأمم والأفراد بالفتن والمحن ، والمصائب ، حتى يتبين الصابر والجزع ، وحتى يميز الله الخبيث من الطيب ، كي يعود الناس إلى دينهم ويراجعوا أنفسهم ، فالفتن : إما اختبار من أجل الصبر والاحتساب ، وبيان الصادق من الكاذب ، قال تعالى : { ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت 1-3 ] .
وقد تكون الفتن نذير من أجل العودة لدين الله تعالى ، قال تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال 25 ] .(1/32)
وما يحصل في هذه الأزمنة من الفتن ما هو إلا بيان لحكمة الله تعالى في خلقه ، فهو يبتلي الجميع بصنوف البلايا ، ويختبرهم بأنواع الفتن ، فهذه الحروب اليوم ، وما تخلفه من دمار ، وإزهاق للأنفس ، وتحطيم لمقدرات الدول ، واستيلاء على ثرواتها ، وتلك الأعمال الهوجائية من إرهاب للآمنين من مسلمين وغيرهم ، لهي أعظم دليل على أن هناك خلل يجب أن يُسد ، وخرق يجب أن يرقع ، وجحر لا بد أن يدفن ، فعلى الأمة أن تراجع نفسها ، وتقف صفاً واحداً ضد أعدائها ، فالأعداء قد كشروا عن أنيابهم ، وأبانوا عن مخططاتهم ، فمنهم من عرفناه ، ومنهم من يلبس لباسنا ، ويرتدي زينا ، ويتكلم بلساننا ، من أبناء جلدتنا ، لكنه لا يدين بديننا ، ولا يعترف بعقيدتنا ، ولا يرضى بواقعنا ، فواجبنا التمسك بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، ويسوءهم ذلك ، فليموتوا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، والعاقل الحصيف يدرك مدى خطورة أولئك الخفافيش التي تعمل ليلاً ، وتختبئ نهاراً ، فاللهم أصلهم نارً ، لأنهم ما رجوا لك وقاراً ، فبسبب تلك الفئة الباغية الظالمة الآثمة حصلت النكبات والملمات والمدلهمات .
وهناك عنصر آخر من عناصر هذه الفتن التي تعصف بالأمة وتريد إغراقها ، وخرق وحدتها ، ألا وهي الفئة التي نكبت عن الطريق القويم ، التي كَفَّرت ودمرت وأزهقت ، فهذه الأخرى عليها أن تعود إلى ربها ، وتلتزم بكتابه سبحانه ، وتعيد الأمور إلى نصابها ، فترد الخلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالخلاف شر ، والفرقة مر ، ولا أعظم ولا أجمل من يلتئم صف الأمة ، وتجتمع كلمتها ، وتوحد صفوفها ، حتى تسير سفينتها إلى بر الأمان ، بحمد من الله المنان .(1/33)
وقد ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم الكثير من الفتن التي ستمر بها هذه الأمة المحمدية ، ليعدوا لها العدة ، ويأخذوا لها الأهبة ، ويستعدوا لها ولو طالت المدة ، فهي قادمة لا محالة ، وواقعة لا ريب فيها ، وهذه بعض الأحاديث الصحيحة التي تدل على وقوع الفتن والابتلاءات في هذه الأمة :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا " [ أخرجه مسلم ] .
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَاضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بِالْحِجَارَةِ فَإِنْ دُخِلَ يَعْنِي عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلْيَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ " [ أخرجه أبو داود وأحمد ] ، يعني ليكن مقتولاً لا قاتلاً .(1/34)
وعن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قُلْتُ : وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ : " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ " قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ : " قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ " ، قُلْتُ : فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ دُعَاةٌ علَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ؟ فَقَالَ : " هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا " قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ " ، قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ ؟ قَالَ : " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعند مسلم في صحيحه ، قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : " إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ ، فَجَاءَ اللَّهُ بِخَيْرٍ ، فَنَحْنُ فِيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ " ، قُلْتُ : هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قُلْتُ : كَيْفَ ؟ قَالَ : " يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ ،(1/35)
وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي ، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ ، قَالَ : قُلْتُ : كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ " .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ : دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا ، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ جَامِعَةً ، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي ، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا ، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا ، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ مُهْلِكَتِي ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : هَذِهِ ، هَذِهِ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ(1/36)
يُؤْتَى إِلَيْهِ ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ ، آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ ، وَقَالَ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ ، وَوَعَاهُ قَلْبِي ، فَقُلْتُ لَهُ : هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا ، وَاللَّهُ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ، قَالَ : فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ : أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " [ أخرجه مسلم ] .
فهذه الأدلة وغيرها تبين وقوع الفتن ، وتحذر منها ، وعلى المسلم حيال ذلك أن يلزم جماعة المسلمين ويلتف حول علمائها وحكامها ، ويحذر الفرقة ، لأن من شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك ، وعلى المسلم أن يبتعد عن الأهواء والشبهات والشهوات التي يلقيها كثير من الحاقدين في كل زمان ومكان ، وهانحن في زمن قد أظلتنا فيه الفتن ، فعلينا بجماعة المسلمين في بلادنا ، وأن نلتف حول علمائنا المخلصين ، وحكامنا المجتهدين ، وألا نسمح لكائن من كان ، أن يخرم جدار الألفة والمحبة ، الذي يجمع أفراد مجتمعنا المسلم في بلاد الحرمين الشريفين ، وأن لا نمكن ضعاف الدين والنفوس من أن يخرقوا سفينة الحياة ، فهي تسير على هدى من الله بإذن الله .(1/37)
وقد وقعت عدة فتن ذكرتها كتب السير عبر التأريخ ، تبين صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو كره المجرمون ، وزمجر المغرضون ، ونهق الناهقون ، ونبح النابحون ، لأن الله تعالى أيده بالآيات البينات ، والمعجزات الواضحات ، فمن تلك الفتن :
1- ظهور الفتن من المشرق : عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ يَقُولُ : " أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ " [ أخرجه مسلم ] ، وقرن الشيطان : قيل قوة الشيطان وأتباعه ، وقيل : أنه على حقيقته فللشيطان قرن ، وقيل : إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس حال طلوعها فيسجد له عبدتها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دعا النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم بارك لنا في صاعنا ، ومدنا ، وبارك لنا في شامنا ويمننا " فقال رجل من القوم : يا نبي الله وفي عراقنا ؟ قال : " إن بها قرن الشيطان ، وتهيج الفتن ، وإن الجفاء بالمشرق " [ أخرجه الطبراني ] . فبداية الفتن ومنشؤها من العراق ، فمنها ظهر الخوارج ، والشيعة الروافض ، والباطنية ، والقدرية ، والجهمية ، والمعتزلة ، وغيرها من فرق الضلالة .
وظهر التتار في القرن السابع الهجري من المشرق ، وحدث على أيديهم من الدمار والقتل والشر العظيم الشيء الكثير .
فكل البدع والخرافات والفتن والإلحاد منبعها من المشرق ، فالشيوعية الملحدة مقرها روسيا والصين الشيوعية ، وهما في المشرق ، وسيكون ظهور الدجال ، ويأجوج ومأجوج من جهة المشرق .(1/38)
2- مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه : عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه : أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفِتْنَةِ ؟ قَالَ قُلْتُ : أَنَا أَحْفَظُهُ كَمَا قَالَ ؟ قَالَ : إِنَّكَ عَلَيْهِ لَجَرِيءٌ ، فَكَيْفَ ؟ قَالَ قُلْتُ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، قَالَ : لَيْسَ هَذِهِ أُرِيدُ ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ ؟ قَالَ قُلْتُ : لَيْسَ عَلَيْكَ بِهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَأْسٌ ، بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ ، قَالَ : فَيُكْسَرُ الْبَابُ أَوْ يُفْتَحُ ، قَالَ : قُلْتُ : لَا ، بَلْ يُكْسَرُ ، قَالَ : فَإِنَّهُ إِذَا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أَبَدًا ، قَالَ : قُلْتُ : أَجَلْ ، فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَهُ مَنِ الْبَابُ ، فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ : سَلْهُ ، قَالَ : فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه ، قَالَ : قُلْنَا : فَعَلِمَ عُمَرُ مَنْ تَعْنِي ؟ قَالَ : نَعَمْ ، كَمَا أَنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً ، وَذَلِكَ أَنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] .(1/39)
فالحديث يدل على أن الفتن خامدة نائمة في عهد عمر رضي الله عنه ، وبعد قتله ، تبدأ الفتن ، وإذا بدأت لا تموت حتى قيام الساعة ، فالأمة تعيش في الفتن وتموج فيها ، فأول فتنة وقعت بعد موت عمر رضي الله عنه ، مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ، حيث تسلط عليه القوم من العراق ومصر وتكالبوا عليه ، يريدونه أن ينخلع من الخلافة ، بسبب ما نسبوه إليه من الظلم والجور وهو منه براء ، ولكنها دسيسة ومكيدة ، وقع ضحيتها ذو النورين رضي الله عنه ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتنة عثمان رضي الله عنه في حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال : " خرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى حائطٍ من حَوائط المدينةِ لحاجتِهِ وخرجتُ في إثره ، فلما دَخَلَ الحائطَ ، جَلَستُ على بابِهِ وقلتُ : لأكوننَّ اليومَ بَوّابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يأمرْني ، فذهبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقَضىَ حاجته ، وجلسَ على قُفِّ البئر فكشفَ عن ساقَيه ودلاّهما في البئر ، فجاءَ أبو بكر يستأذِنُ عليه لِيدْخُلَ فقلتُ : كما أنتَ حتى أستأذِنَ لك ، فوقفَ ، فجئتُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ : يا نبيَّ ! أبو بكر يستأذِنُ عليك ، قال : ائذَن له وَبَشِّرْه بالجنَّة ، فدخلَ عن يمين النبيِّ صلى الله عليه وسلم فكشفَ عن ساقَيهِ ودَلاهما في البئر ، فجاء عمرُ فقلتُ : كما أنتَ حتى أستأذِنَ لك ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ائذَن له وبَشرْه بالجنة ، فجاء عن يَسار النبي صلى الله عليه وسلم فكَشَفَ عن ساقيه فدلاَّهما في البئر ، فامتَلأ القُفُّ فلم يَكنْ فيه مجلسٌ ، ثمَّ جاء عثمانُ فقلت : كما أنتَ حتى أستأذِنَ لك ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " ائذَنْ له وَبَشّرْهُ بالجنة معها بَلاءٌ يُصِيبه " ، فدَخَلَ فلم يجدَ معهم مجلِساً ، فتحوَّلَ حتى جاء مقابلَهم على شَفةِ البئرِ ، فكشفَ عن ساقَيهِ ثمَّ دَلاّها في البئرِ ، فجعلتُ(1/40)
أتمنى أخاً لي ، وأَدُعُو اللَّهَ أن يأتيَ " قال ابنُ المسيَّب : فتأوَّلتُ ذلك قُبورَهمْ ، اجتَمَعَتْ ها هنا ، وانفرَدَ عثمانُ " [ أخرجه البخاري ] ، ووقع ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم ، فكان مقتل عثمان رضي الله عنه في 18 من ذي الحجة عام 35 هـ . وبعد موته توالت الفتن بين المسلمين ، وكانت بدايتها بموقعة الجمل ، وسبب قتله رضي الله عنه ، أن مروان بن الحكم كتب كتاباً على لسان عثمان وهو بريء منه ، بقتل بعض أهل مصر والشام نظراً لمؤامرتهم على عثمان ، فلما علم القوم بالخبر أخذوا العدة لقتله ، وقد زوروا كتباً على علي رضي الله عنه بأنه يأمر بقتال عثمان ، وكذلك زوروا كُتباً على طلحة والزبير بتأليب الخوارج على عثمان ، فلما حصلت تلك الخيانات والدسائس والتزوير ، قدم القوم على عثمان فقتلوه وهو يقرأ القرآن ، ولم يكن هناك تدخل من أحد من أبناء الصحابة لأن عثمان رضي الله عنه أمرهم بأن لا يتدخلوا في هذا الأمر حتى لا تقع فتنة بين المسلمين ، فتحامل عليه الخوارج حتى قتلوه ولطخوا جسده بالدماء ، فوقع رأسه على المصحف ملطخاً بدمائه بريئاً جريحاً ميتاً مظلوماً ، فألقت زوجته نائلة بن الفرافصة الكلبية نفسها على عثمان ، وقالت : أيقتل أمير المؤمنين وأخذت السيف ، فقطع رجل أصابع يدها ، وانتهبوا كل ما في الدار ، ولم يبقوا فيه شيئاً ، وهكذا قُتل رضي الله عنه مظلوماً ، بسبب خيانات الشيعة واليهود ، عليهم من الله ما يستحقون " [ البداية والنهاية 5 / 401-423 ] .(1/41)
3- موقعة الجمل : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الواقعة ، والتي حصلت بين فئتين من المسلمين بلا قصد ، ولا عمد ، ولكن قدر الله وما شاء فعل ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : " إِنَّهُ سَيَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَائِشَةَ أَمْرٌ " ، قَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قَالَ : أَنَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، قَالَ : فَأَنَا أَشْقَاهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " لَا وَلَكِنْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْدُدْهَا إِلَى مَأْمَنِهَا " [ أخرجه أحمد وغيره وحسنه ابن حجر رحمه الله ] .(1/42)
فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، امتنع علي رضي الله عنه أن يقبل بالخلافة ، ولكن نتيجة للضغط المتزايد عليه من قبل الصحابة رضوان عليهم ، ولماً لشعثهم ، وإطفاءً لنار الفتنة ، قبل بذلك ، ثم اجتمع طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم وهم في خروج لهم إلى مكة لأداء العمرة ، اجتمعوا بشأن مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وتسليم القتلة للقصاص منهم ، فذهبوا إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في البصرة ، وطلبوا منه أن يُسلمهم من قتلوا عثمان رضي الله عنه ، فلم يجبهم إلى طلبهم ذاك ، لأنه كان ينتظر من أولياء عثمان أن يتقدموا بطلب التحاكم إليه ، وتقديم جناة معينين ، فإن ثبت عليهم القتل أخذ بحق عثمان ـ ولا شك أن ذلك كان من العدل والإنصاف ، أن لا يُؤخذ أحد بجريرة غيره ، حتى يثبت عليه الحد ، قال تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ فاطر 18 ] ، فعندما أيقن قتلة عثمان رضي الله عنه ، أنه قد يُقتص منهم ، ويُقام عليهم الحد ، أنشبوا فتنة الحرب بين الفئتين المسلمتين ، فلما خافوا من توحيد الكلمة بين علي من جهة ، وعائشة وطلحة والزبير من جهة أخرى ، حمل الظلمة السلاح على عسكر طلحة والزبير ، فظنوا أن علياً حمل عليهم السلاح ، وحملوا على عسكر علي فظن أن طلحة والزبير قد حملوا عليه ، فحصلت المقتلة بين الفئتين المؤمنتين بسبب خيانة من خرجوا على عثمان رضي الله عنه وإشعالهم لفتيل الحرب ، ولم تكن هذه الموقعة مقصودة ، بل كانت بغير اختيار الصحابة رضوان الله عليهم ، وهكذا نجد أن حصول القتال حصل بغير اختيارهم ، فوقعت تلك الفتنة العظيمة ، ومات فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقوعها ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ ،(1/43)
وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ " [ متفق عليه ] ، فكانت تلك الموقعة فاجعة أليمة ذهب ضحيتها عدد كبير من المسلمين بلا قصد لهم ولا اختيار في القتال ، ولكنه النفاق والخروج على ولاة الأمر ، الذي بسببه تراق الدماء البريئة ، وتحصل الفرقة بين المسلمين ، بل بين الاخوة في البيت الواحد .
ولا بد أن نقف عند هذه الوقعة عدة مواقف :
الأول : الإمساك عما حصل بينهم ، فالقتال حصل بغير رغبة منهم ، وكل منهم يرى أن الحق معه ، فلا نخطِّئ فئة عن فئة ، بل نمسك عن ذلك ، لأن دعواهما واحدة ، وهي الأخذ بثأر عثمان رضي الله عنه .
الثاني : لم يكن لعلي رضي الله عنه يد في مقتل عثمان رضي الله عنه ، وقد قال ذلك بلسانه حالفاً بالله ، وهو الصادق البار ، فقد قال : " والله ما قتلت عثمان ، ولا مالأت على قتله " .(1/44)
الثالث : أن عائشة رضي الله عنها ، لم تأت لقتال ، بل أتت للصلح مع علي والأخذ بثأر عثمان رضي الله عنه ، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة : " فوقعت الفتنة بغير اختيارهم ، وعائشة راكبة ، لا قاتلت ، ولا أمرت بقتال " ، وذكر أهل المعرفة والأخبار ، وتناقلت كتب السنة أن عائشة رضي الله عنها أتت للصلح فقط ، ولم تأت للقتال ، ومما يدل على ذلك حديث قيس ابن أبي حازم قال : " لما بلغت عائشة رضي الله عنها بعض ديار بني عامر ، نبحت عليها الكلاب ، فقالت : أي ماء هذا ؟ قالوا : الحوأب ـ موضع قريب من البصرة ـ قالت : ما أظنني إلا راجعة ، فقال لها الزبير : لا بعد ، تقدَّمي فيراك الناس ، فيصلح الله ذات بينهم . فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب " [ أخرجه الحاكم والبزار وأبو يعلى وأحمد ، وقال ابن حجر : سنده على شرط الصحيح ] ، وفي رواية البزار : " أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ـ كثير وبر الوجه ـ تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثيرة ، وتنجو من بعد أن كادت " [ صححه الألباني في الصحيحة برقم 475 ] . فخرجت رضي الله عنها بقصد الإصلاح ، لأنها ظنت أن خروجها فيه مصلحة للمسلمين من حيث توحيد الكلمة والإصلاح فيما بينهم ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها .
الرابع : ندم كل من قاتل في ذلك القتال ، فندم طلحة والزبير وعلي رضي الله عنهم ، ولكن كما قلت : فالقتال لم يكن باختيارهم ، بل كان مكيدة ومصيدة لهم .(1/45)
الخامس : الالتفاف حول العلماء الصادقين ، والثبات على الدين ولو كلف ذلك الغالي والنفيس ، والحذر من الخروج على ولاة الأمر ولو صدر منهم ما صدر ، ما لم يكن كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان ظاهر ، وإلا فالخروج عليهم سبب لزعزعة الأمن ، وعدم الاستقرار ، وسبب للقتال الدامي بين المسلمين ، في البلد الواحد ، فلا فائدة منه ، ولا رجاء من ورائه ، فيجب الوقوف مع ولاة الأمر فأبوابهم مفتوحة ، وقلوبهم قبل ذلك ، خصوصاً ونحن في بلد القرآن ، بلد الحرمين الشريفين ، بلد تطبق كتاب الله تعالى ، وتحكم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، في زمن قل فيه من يعرف بعض أحكام الكتاب والسنة من الدول والشعوب والأمم ، فبلادنا مهبط الوحي ، ومنبع الرسالة ، فيها عرفات ومنى ومزدلفة ، وفيها بيت الله الحرام ، ومسجد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفيها مسجد قباء ، وفيها زمزم والحطيم ، وفيها آثار ومشاعر مقدسة ، فهي بلاد الأمن والأمان ، ولا يجوز لأحد أن يرعب الساكنين فيها ، أو يخيف الآمنين بها .(1/46)
السادس : أن نحذر من تلك الأقلام المسمومة في الصحف والمجلات ، والتي لا تريد تطبيق شريعة الله تعالى في أرضه ، فتراهم يكيدون للعلماء والدعاة والمخلصين من أبناء هذا الوطن الغالي ، يريدون الوقيعة بين أهل العلم النبلاء ، والحكام الفضلاء ، فتارة ينعقون ، وأخرى ينهقون ، وثالثة يكتبون ، ورابعة يلوحون ، فأخرس الله ألسنتهم ، وكسر أقلامهم ، وأفسد عقولهم ، وأيبس أركانهم ، فلا خير يريدون ، ولا لإصلاح يسعون ، بل الفساد يبغون ، والحرية يدعون ، والحضارة يزعمون ، والحقيقة يخفون ، وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فأولئك هم الغاوون ، فعليهم من ربهم ما يستحقون ، ولربما انخدع بهم من لا حظ له بالعلم وكشف الحقائق ، ومعرفة دوافع القوم ، فانغر بدعوى تحرير المرأة ، وتغريب الدين ، وما إلى ذلك من دعواهم الباطلة ، فأظهر حبه وولاءه لهم ، وهم أعداء الله والملة والدين ، والأنبياء والصالحين ، فلا نامت أعين الجبناء : { هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ آل عمران 119 ] ، فعلينا أن نحذر من المنافقين العلمانيين ، وأهل البدع والأهواء ، المنتسبين للإسلام وهو منهم براء ، الذين لا هم لهم إلا الحصول على مآربهم الدنيئة ، وأغراضهم الهدامة ، من بث للفرقة بين المؤمنين ، والإيقاع بهم ، والتربص بهم الدوائر ، والدخول من الثغرات لإثارة النعرات ، فلهم رب البريات ، وعالم الخفيات ، قال سبحانه : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال 30 ] .(1/47)
4- موقعة صفين : كان معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام ، ولم يبايع لعلي بالخلافة ، فأرسل إليه علي للبيعة فتأخر ولم يقدم على ذلك ، فلما رأى علي ذلك عبأ الجيش وتقدم نحو الشام لأخذ البيعة ، وقبل ذلك قام بعزل معاوية ، واستبدله بسهل بن حنيف ، ولكنه لم يستطع دخول الشام ، فتقدم جيش علي رضي الله عنه ، وجهز معاوية جيش الشام ، والتقى الفريقان في موقع يسمى ( صفين ) وهو موضع قريب من شاطئ الفرات آخر أرض العراق وأول أرض الشام ، ولم يكن يدر بخلد علي ولا معاوية قتال البتة ، لأن الأمر لا يستدعي ذلك ، فالمطلوب الإذعان للخليفة فقط ، وقد كانت هناك دسائس بين الفريقين ، فمعاوية تأخر بالبيعة لأنه ظن أن الأمر لم يستقر لعلي بعد ، خصوصاً بعد موقعة الجمل ، مما أغضب الخليفة ، فلما التقى الجمعان كانت هناك مناوشات بسيطة ، حتى بدأت المعركة بسبب الخوارج والمنافقين الذين لا يريدون علياً ولا معاوية ، بل يريدون إثارة الفتن ، وقتل في تلك المعركة نحواً من سبعين ألفاً من الفريقين ، واستمر القتال ثلاثة أيام ، فظهرت بوادر النصر لعلي ومن معه ، فرفع أهل الشام المصاحف ، فتوقف القتال ، لعله يكون هناك صلح بين الفئتين المتقاتلتين ، ولم يتفق الجميع على شيء وافترقوا بدون قتال .
5- ظهور الخوارج : وهذه من الفتن التي ظهرت في عهد علي رضي الله عنه ، حيث كان الخوارج ضمن جيش علي رضي الله عنه ، وبعد انتهاء معركة صفين ، ونزول الفريقين على التحاكم إلى كتاب الله ، وأثناء رجوع علي رضي الله عنه إلى الكوفة فارقه الخوارج ونزلوا مكاناً يسمى ( حروراء ) وكان عددهم ستة عشر ألفاً ، فأرسل علي إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين ليناظرهم ، فناظرهم مناظرة قوية حكيمة عقلية ، فرجع معه بعضهم .(1/48)
وخروجهم على علي لأنه حكم كتاب الله تعالى فأبرد نار الفتنة وأخمد جذوتها ، وهم يريدون القتال ، فلما رأوا ذلك اتهموا علياً رضي الله عنه بأنه أشرك لأنه حكَّم الرجال بدل القرآن ، وكذبوا في ذلك ، بل لهم مآرب أخرى ، فقالوا : لا حكم إلا لله ، فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ، ثم خطبهم في مسجد الكوفة وقال لهم : لكم علينا ثلاث : أن لا نمنعكم من المساجد ، ولا من رزقكم من الفيء ، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تُحدثوا فساداً . ولهم أفكار كفرية ضالة ، فمن أبرز أفكارهم :(1/49)
قولهم بانحراف عثمان رضي الله عنه ، ووجوب قتله ، وتكفير مرتكب الكبيرة ما لم يتب منها ، واستباحوا دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، وتركوا أهل الذمة وأموالهم ولم يتعرضوا لهم مطلقاً ، ولووا أعناق النصوص ورموا بها المسلمين بدل الكافرين ، فكل آية يُراد بها الكفار قالوا هذه في المؤمنين ، وأبطلوا رجم المحصن ، وقطعوا يد السارق من الإبط ، وأوجبوا الصلاة على الحائض ، فأحدثوا دماراً في الإسلام وبلاءً عظيماً ، ومع ذلك فهم يدعون العلم ، ويجتهدون في العبادة ، ولهذا جاء الحديث بالتحذير من خطرهم على الأمة والأفراد ، حيث قَالَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّه عَنْه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ أخرجه البخاري ] ، قال البخاري رحمه الله : بَاب قَتْلِ الْخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ ، وَقَالَ : " إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " .(1/50)
ومن ضلال الخوارج أنهم كانوا يقتلون من مر بهم من المسلمين ، بينما يتركون الكفرة والمشركين ، فمر بهم الصحابي الجليل عبد الله بن خباب بن الأرت رضي الله عنه وزوجته ، فقتلوه وبقروا بطن زوجته عن ولدها ، ولما علم أمير المؤمنين علي بذلك سألهم عمن قتله ، فقالوا : كلنا قتله ، فتجهز لقتالهم ، والتقى بهم في موقعة النهروان ، فهزمهم شر هزيمة ولم ينج منهم إلا القليل .
ولا يزال الخوارج يظهرون حتى يدرك آخرهم الدجال ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ " ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ ـ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً ـ حَتَّى يَخْرُجَ فِي عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ " [ أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8027 ] .(1/51)
وإنه لمن المؤسف أن نجد اليوم من جاء ليجدد أفكار تلك الفئة الضالة المندثرة ، ويعيد مأساة التكفير ، ويقوم بأعمال التخريب والتفجير في بلاد المسلمين ، ولا شك أن ذلك العمل محرمٌ شرعاً ، ممنوعٌ عرفاً ، ممقوتٌ عقلاً ، لأن المسلم معصوم الدم والمال والعرض ، ويحرم التعرض للمسلم بأي نوع من أنواع الأذى ، ما لم يكن مستحقاً لذلك ، وإن كان مستحقاً للعقوبة جراء ظلم أو تعد وقع منه ، فولي أمر المسلمين هو من يقوم بإقامة الحد عليه ، وليس عامة الناس ، حتى لا تصبح الحياة ، حياة غابة وبراري ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ ، دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ " [ أخرجه مسلم وغيره ] ، فكل المسلم على المسلم حرام ، حرام قتل مسلم بلا ذنب اقترفه ، حرام أكل ماله بغير رضاه ، حرام انتهاك عرضه ، حرام إخافته ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ(1/52)
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ قَالَ : " فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ هَاهُنَا مَرَّةً وَهَاهُنَا مَرَّةً عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ ثُمَّ قَالَ : " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا قَالَ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ غَيْرَ اسْمِهِ قَالَ أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قَالَ قُلْنَا : بَلَى ثُمَّ قَالَ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالَ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ غَيْرَ اسْمِهِ ، قَالَ : أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ؟ قَالَ قُلْنَا : بَلَى ، ثُمَّ قَالَ : " أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالَ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ غَيْرَ اسْمِهِ ، قَالَ : " أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ " قَالَ قُلْنَا : بَلَى ، قَالَ : " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ تَعَالَى ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا " ثُمَّ قَالَ : " لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ ، فَلَعَلَّ الْغَائِبَ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنَ الشَّاهِدِ " [ أخرجه مسلم واحمد واللفظ له ، ورواه غيرهما ] ، وكذلك حرام رفع السلاح على المسلم ، فكيف بمن يقتله بريئاً ، فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا " [ متفق عليه ] ، وَعَنِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهَا ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ " [ أخرجه مسلم وغيره ] ، وهذا لِعِظَم حرمة المسلم عند الله تعالى وخطورة سفك دمه ، وكذلك(1/53)
يحرم التحريض على المسلم ليقتل ، قال أَبُو الْحَكَمِ الْبَجَلِيُّ قَال سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ " [ أخرجه أحمد والترمذي ] ، وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عند اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رجل مسلم " [ أخرجه الترمذي وابن ماجة والنسائي واللفظ له ، وصححه الألباني رحمه الله ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [ النساء 93 ] ، وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَن قَتلَ مُعاهِداً لم يرحْ رائحةَ الجنة ، وإِنَّ ريحَها توجَدُ من مَسيرةِ أربعين عاماً " [ أخرجه البخاري ] ، فهذه الأدلة القاطعة الجامعة المانعة تدل على تحريم إخافة الآمنين والمستأمنين في بلاد المسلمين ، ومن أراد شق عصا الطاعة ، وزعزعة الأمن في ربوع البلاد ، ونشر الذعر بين الناس ، فيجب الأخذ على يده لأنه سفيه طائش ، ضل عن ركب العلماء والصالحين ، وغوى عن طريق الحق ، ونأى بنفسه بعيداً عن سلوك درب الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فوجب تأديبه وزجره حتى يكون عبرة للمعتبرين ، ونكاية للمتآمرين ، والله لا يحب الظالمين .(1/54)
قال الشيخ / صالح الفوزان وفقه الله : " فلاشك أن توفير الأمن مطلب ضروري ، والإنسانية أحوج إليه من حاجتها إلى الطعام والشراب ، ولذا قدمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعائه على الرزق فقال{رب اجعل هذا بلداً آمنا وارزق أهله من الثمرات لعلهم يشكرون}
لان الناس لا يهناون بالطعام والشراب مع وجود الخوف، ولان الخوف تنقطع معه السبل ؛ التي بواسطتها تنقل الأرزاق من بلد لآخر، ولذلك رتب الله على قطاع الطرق اشد العقوبات فقال { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}
وجاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس ، وهي الدين,والنفس ، والعقل ، والعرض ، والمال ، ورتب حدوداً صارمة في حق من يعتدي على هذه الضرورات ، سواء كانت هذه الضرورات لمسلمين أو معاهدين ، فالكافر المعاهد له ما للمسلم ، وعليه ما على المسلم؛قال النبي صلى الله عليه وسلم (( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)) وقال تعالى{ وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه }
وإذا خاف المسلمون من المعاهدين خيانة للعهد ، لم يجز لهم أن يقاتلوهم حتى يعلموهم بإنهاء العهد الذي بينهم ، ولا يفاجئوهم بالقتال بدون إعلام ، قال تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}
والذين يدخلون تحت عهد المسلمين من الكفار ثلاثة أنواع:
المستأمن: وهو الذي يدخل بلاد المسلمين بأمن منهم؛لأداء مهمة ثم يرجع إلى بلدة بعد إنهائها.
والمعاهد: الذي يدخل تحت صلح بين المسلمين والكفار,وهذا يؤمن حتى ينتهي العهد الذي بين الفئتين,ولا يجوز لا حد أن يعتدي عليه,كما لا يجوز له أن يعتدي على احد من المسلمين.
والذمي: الذي يدفع الجزية للمسلمين ويدخل تحت حكمهم.(1/55)
والإسلام يكفل لهؤلاء الأنواع من الكفار الأمن على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، ومن اعتدى عليهم فقد خان الإسلام ، واستحق العقوبة الرادعة.
والعدل واجب مع المسلمين ومع الكفار، حتى لو لم يكونوا معاهدين أو مستأمنين أو أهل ذمة ، قال تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا}
وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنان قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى}
والذين يعتدون على الآمن : إما أن يكونوا خوارج ، أو قطاع طرق ، أو بغاة ، وكل من هذه الأصناف الثلاثة يتخذ معه الإجراء الصارم ، الذي يوقفه عند حده ، ويكف شره عن المسلمين والمستأمنين والمعاهدين وأهل الذمة ، فهؤلاء الذين يقومون بالتفجير في أي مكان ، ويتلفون الأنفس المعصومة ، والأموال المحترمة – لمسلمين أو معاهدين - ، ويرملون النساء ، وييتمون الأطفال ؛ هم من الذين قال الله فيهم { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام *وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد *وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}
ومن العجيب أن هؤلاء المعتدين الخارجين على حكم الإسلام يسمون عملهم هذا جهاداً في سبيل الله ، وهذا من أعظم الكذب على الله ؛ فان الله جعل هذا فساداً ولم يجعله جهاداً ، ولكن لا نعجب حينما نعلم أن سلف هؤلاء من الخوارج كفروا الصحابة ، وقتلوا عثمان وعلياً – رضي الله عنهما- وهما من الخلفاء الراشدين ومن العشرة المبشرين بالجنة، قتلوهما؛ وسم وا هذا جهاداً في سبيل الله ، وإنما هو جهاد في سبيل الشيطان ، قال تعالى{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}(1/56)
ولا يحمل الإسلام فعلهم هذا كما يقول أعداء الإسلام –من الكفار والمنافقين -:إن دين الإسلام دين إرهاب,ويحتجون بفعل هؤلاء المجرمين ، فان فعلهم هذا ليس من الإسلام ، ولا يقره إسلام ولا دين ، إنما هو فكر خارجي قد حث النبي صلى الله عليه وسلم على قتل أصحابه ، وقال (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم))
ووعد بالأجر الجزيل لمن قتلهم ، وإنما يقاتلهم ولي أمر المسلمين؛ كما قاتلهم الصحابة بقيادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-.وبعض المنافقين أو الجهال يزعم أن مدارس المسلمين هي التي علمتهم هذا الفكر، وان مناهج التدريس تتضمن هذا الفكر المنحرف ، ويطالبون بتغيير مناهج التعليم.
ونقول : إن أصحاب هذا الفكر لم يتخرجوا من مدارس المسلمين ، ولم يأخذوا العلم عن علماء المسلمين ؛ لأنهم يحرمون الدراسة في المدارس والمعاهد والكليات ، ويحتقرون علماء المسلمين ، ويجهلونهم ، ويصفونهم بالعمالة للسلاطين ، ويتعلمون عند أصحاب الفكر المنحرف ، وعند حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام من أمثالهم ، كما جهل أسلافهم علماء الصحابة وكفروهم.
والذي نرجوه بعد اليوم أن يلتفت الآباء لأبنائهم ، فلا يتركوهم لأصحاب الأفكار الهدامة يوجهونهم إلى الأفكار الضالة ، والمناهج المنحرفة,ولا يتركوهم للتجمعات المشبوهة ، والرحلات المجهولة,والاستراحات التي هي مراتع لأصحاب التضليل ، ومصائد للذئاب المفترسة ، ولا يتركوهم يسافرون إلى خارج المملكة وهم صغار السن ، وعلى العلماء أن يقوموا بالتوجيه السليم ، وتعليم العقائد الصحيحة في المدارس والمساجد ووسائل الإعلام؛حتى لا يدعوا فرصة لأصحاب الضلال الذين يخرجون في الظلام وعند غفلة المصلحين " .(1/57)
6- موقعة الحرة : وقعت في زمن يزيد بن معاوية ، واستبيحت فيها مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقُتل فيها كثير من الصحابة رضي الله عنهم ، وسببها : أن أهل المدينة خلعوا يزيد من البيعة ، فأرسل إليهم جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة المري ، فاستباح المدينة ، وقتل نحو سبعمائة من الصحابة ، وقتل عشرة آلاف من غيرهم ، وقد أخذه الله وهو في طريقه من مكة إلى المدينة .
وهكذا تتابعت الفتن في بلاد المسلمين حتى تفرقوا وأصبحوا أحزاباً وشيعاً ، كل فرقة تدَّعي أنها على الحق ، وأن غيرها على الباطل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً " [ أخرجه أهل السنن إلا النسائي ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم 1094 ، والصحيحة برقم 203 ] ، ولا ينجو من هذه الفرق الثلاث والسبعون إلا من كان على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهذا ما جاء في سنن ابن ماجة رحمه الله من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ " [ أخرجه ابن ماجة وغيره ] ، وهانحن نرى الفتن تتلاطم بالمسلمين كأمواج البحار ، وسيل الأنهار ، ولا سلامة منها إلا بالتمسك بالكتاب العزيز ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولزوم جماعة المسلمين .
الإمساك عما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين :(1/58)
واجبنا حول ما حدث بين الصحابة من قتال ، أن لا نبحث فيما شجر بينهم ، لأن ذلك لا يقرب العبد إلى الله زلفى ، فهم قد لقوا ربهم و هو أعلم بما شجر بينهم ، فإن كان الأمر لا يقربك إلى الله زلفى ، وإنما قد يقودك إلى النار وأنت لا تعلم ، فتجنبه أولى ؛ إلا في حالة واحدة وسيأتي بيان هذه الحالة .
و معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة ، هو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ، ونشر ذلك بين العامة ، أو التعرض لهم ، بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 3/406) : وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ، ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب ، وهم كانوا مجتهدين ، إما مصيبين لهم أجران ، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم ، وما كان لهم من السيئات ، وقد سبق لهم من الله الحسنى ، فإن الله يغفر لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحية أو مصائب مكفرة .
وما شجر بينهم من خلاف فقد كانوا رضي الله عنهم يطلبون فيه الحق ويدافعون فيه عن الحق ، فاختلفت فيه اجتهاداتهم ، ولكنهم عند الله عز وجل من العدول المرضي عنهم ، ومن هنا كان منهج أهل السنة والجماعة هو حفظ اللسان عما شجر بينهم ، فلا نقول عنهم إلا خيراً ، ونتأول ونحاول أن نجد الأعذار للمخطئ منهم ، ولا نطعن في نيّاتهم فهي عند الله ، وقد أفضوا إلى ما قدموا ، فنترضى عنهم جميعاً ، ونترحم عليهم ونحرص على أن تكون القلوب سليمة تجاههم .(1/59)
وقال ابن قدامة المقدسي في اللمعة (ص175) : و من السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحبتهم وذكر محاسنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم ، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم ، واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم ، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحشر10] ، وقال تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [الفتح29] ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً ، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ ، وَلاَ نَصِيفَهُ " [ أخرجه البخاري من حديث عن أبي سعيد الخُدريِّ رضيَ اللَّهُ عنه ، وأخرجه مسلم واللفظ له ] .
والذي يظهر من كلام هؤلاء الأئمة التأكيد على هذا الضابط المهم و هو : عدم الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، على سبيل التسلية و تأليف الأشرطة والمحاضرات وعرضها بين الناس بمختلف مستوياتهم ، وهو خطأ وقع فيه بعض الدعاة والكتاب غفر الله لنا ولهم .
غير أن بعضهم أجاز الخوض في ذلك في حالة واحدة فقط ؛ وهي إن ظهر مبتدع مبطل يقدح فيهم بالباطل ، فيجب الدفاع عنهم بحق وعدل مع التنبيه إلى أنه لا يدافع عن بعضهم فيقع في سب آخرين منهم ، إنما يكون الدفاع عنهم رضي الله عنهم جميعاً ، وإلا فيجب الصمت وترك الخوض فيما شجر بينهم .(1/60)
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نتمسك بقوله تعالى : { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم }[ الحشر10 ] .
الشرط السابع :
ظهور مدعي النبوة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ اللَّهُ عنهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ ، قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِينَ ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللّهِ " [ أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له ] .
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ : قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ _ رضي الله عنه _ خَمْسَ سِنِينَ ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ ، وَإنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي ، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ " ، قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ : " فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ، فَإنَّ اللّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ " [ متفق عليه ] .
وممن ظهر من هؤلاء الدجالين الثلاثون :
1- مسيلمة الكذاب : الذي ادعى النبوة في آخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كثر أتباعه ، وعظم شره على المسلمين ، حتى قضى عليه الصحابة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في معركة اليمامة .
2- ثم ظهر الأسود العنسي في اليمن : وادعى النبوة ، فقتله الصحابة قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم .
3- ثم ظهرت سجاح : فادعت النبوة ، وتزوجها مسيلمة الكذاب ، وبعد موته رجعت إلى الإسلام .
4- ثم ظهر طليحة بن خويلد الأسدي : ثم رجع إلى الإسلام وحسن إسلامه .(1/61)
5- ثم ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي : وأظهر محبة أهل البيت ، وطالب بدم الحسين ، وكثر أتباعه ، فتغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير ، ثم أغواه الشيطان فادعى النبوة ، وأن جبريل نزل عليه بالوحي .
6- ومنهم الحارث الكذاب : ظهر في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل .
7- وخرج في خلافة بني العباس جماعة من الدجالين .
8- وظهر في العصر الحديث ، ميرزا أحمد القادياني بالهند .
9- وظهر في عام 1233هـ الميرزا عباس في إيران : وادعى النبوة ، ومات بفلسطين عام 1309هـ .
10- ثم ظهر محمود محمد طه في السودان : وقد أضل كثيراً من الخلق ، وأعدم عام 1985م .
11- وظهر رشاد عبد الحليم خليفة : بهائي ، ادعى النبوة ، ولد بكفر الزيات بمصر سنة 1354هـ ، والده شيخ الطريقة الشاذلية الصوفية بمدينة طنطا ، كان معروفاً بسوء الخلق والعناد منذ صغره ، ويميل إلى الكذب والمراوغة ، تخرج بتقدير مقبول من كلية الزراعة ، فلم يستطع إكمال دراسته ، أكمل دراسته في أمريكا ، عن طريق الكنيسة والمؤسسات التنصيرية ، فنال خلال أربعة أعوام درجة الدكتوراه في الكيمياء الحيوية ، ثم عاد لمصر ، أنكر السنة ، وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم ، أصدر المجمع الفقهي سنة 1409هـ فتوى بتكفيره ، ادعى النبوة في شهر رمضان 1409هـ ، إلى أن دخل عليه مجاهد مسلم ، فطعنه عدة طعنات في بيته ، في 31/يناير/ 1990م ، فقتله في مدينة توسان بأمريكا .
ومن هؤلاء الكذابون أربع نسوة ، عن حذيفة رضي الله عنه : أن النبي الله صلى الله عليه وسلّم قال : " في أُمَّتِي كَذَّابُونَ وَدَجَّالُونَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ، مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، وَإِنِّي خَاتِمُ النَّبِيِّيْنَ ، لاَ نَبِيَّ بَعْدِي " [ أخرجه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة برقم 1999 ] .(1/62)
ولا يزال يظهر هؤلاء الكذابون حتى يظهر آخرهم الأعور الدجال ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " وإنَّهُ والله لا تقومُ الساعةُ حتَّى يَخْرُجَ ثلاثونَ كذاباً آخِرُهُمُ الأعورُ الدَّجَّالُ " [ أخرجه أحمد وابن خزيمة ] .
فكل من ادعى النبوة ، وقويت شوكته ، وأصبح له متبعين ، فهو من الدجالين الكذابين ، الذين ورد ذكرهم في الأحاديث ، أما من لم يكن كذلك ، فليس بداخل في الأحاديث ، فليس كل من ادعى النبوة أصبح ممن وردوا في الأحاديث ، فربما كان هناك من به جنون مثلاً ، أو من استمع لمحاضرة مثلاً فتقمص شخصية أحد البارزين بها ، أو ما شابه ذلك ، ثم ادعى ما ادعى من الخرافات .
الشرط الثامن :
ظهور القحطاني : واختلف العلماء في هذا الرجل هل هو رجل صالح ، أم أنه رجل شرير ؟
فقيل : إنه رجل شرير ، يحكم الناس بالقوة ، بدليل أنه ذكر في الحديث أنه يحشر الناس بعصاة ، وهذا دليل على القوة والعنف التي يستخدمها مع الناس ، حتى يدين له القاصي والداني خوفاً وهلعاً ، وقد ذكره ابن كثير رحمه الله في النهاية في الفتن والملاحم فقال : " ظهور ظالم من قحطان قبل قيام الساعة " [ 159 ] .
والصحيح أن القحطاني يخرج من قحطان ، ويحكم الناس بالعدل ، وهو رجل صالح ، تدين له الناس بالطاعة ، وتجتمع عليه ، ويكون ذلك عند تغيّر الزمان، ولهذا ذكر البخاري رحمه الله حديث القحطاني في باب تغير الزمان.
والقحطاني ليس هو المهدي الذي سيخرج أيضاً لكن في آخر الزمان ، وخروجه من علامات الساعة الكبرى ، فإن خروج المهدي يكون من علامات الساعة الكبرى ، وسيكون خروجه بعد القحطاني بزمن ، وليس القحطاني هو الجهجاه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيحكم أيضاً ، ويكون له الملك في آخر الزمان ، لأن الجهجاه رجل من الموالي ، أما القحطاني فهو من الأحرار نسبة إلى قحطان ، الذي تنتهي أنساب أهل اليمن من حمير وهمدان وغيرهم إليه .(1/63)
وليس القحطاني هو السفياني ، فإن أحاديث خروج السفياني أحاديث لا تصح ولا تثبت البتة .
ومن قال أن صدام حسين هو السفياني ، فقد افترى كذباً عظيماً ، وقال على الله ما لم علم له به .
أما أحاديث خروج القحطاني فكثيرة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ ، يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، ومعنى يسوق الناس بعصاه : كناية عن استقامة الناس ، وانقيادهم له ، واتفاقهم عليه ، وفيه إشارة أيضاً إلى القسوة على أهل المعصية ، لأنه رجل صالح ، يحكم بالعدل ، ولا يرضى بانتشار المعاصي والمنكرات تحت ولايته [ التذكرة للقرطبي 348 ] ، ويدل لذلك ما أخرجه نعيم بن حماد بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال فيه : " ورجل من قحطان ، كلهم صالح " .
أما الجهجاه فقد ورد ذكره في كتب السنة وهو من علامات الساعة وأشراطها ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَال سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ " [ أخرجه الترمذي وأحمد ، وصحح إسناده أحمد شاكر برقم 8346 ] .
ولمّا حدّث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بهذا الحديث ، غضب معاوية رضي الله عنه ، فقام وتكلم وقال : فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنَّ هذا الأمرَ في قريشٍ _ الحكم _ لا يُعاديهم أحدٌ ، إلا كبَّهُ الله على وجهِه ، ما أقاموا الدِّين " [ أخرجه البخاري ] .(1/64)
ومعاوية رضي الله عنه لم ينكر حديث خروج القحطاني ، ولكنه كان يريد رضي الله عنه ، التأكيد على أن الخلافة لا تجوز في غير قريش ، لكن بشرط ، كما في حديث معاوية _ ما أقاموا الدين _ فإذا لم يقيموا الدين ، خرج الأمر من أيديهم ، وقد حصل هذا ، فإن الناس لم يزالوا في طاعة قريش إلى أن ضعف تمسكهم بالدين ، فضعف أمرهم ، وتلاشى ملكهم ، وانتقل الحكم إلى غيرهم .
وهذه سنة ربانية ماضية إلى يوم القيامة ، فكلما بدّل الناس ، بُدّل عليهم ، مصداقاً لقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ الرعد11 ] .(1/65)
وواقع هذه الآية نشاهده اليوم بكل وضوح ، فكم كانت الأمة تعيش حياة هادئة هانئة ، لا منغص لها ، وذلك بتمسك أفرادها بدينها الذي لا يقبل أية مساومة أو تبديل أو تغيير ، حتى وصل الحال اليوم إلى ابتعدا الناس عن دينهم شيئاً فشيئاً ، فنشأت أجيال تنكرت لدينها ، وتخلت عن وطنيتها ، بل زاد الطين بلة ، عندما حاربنا أبناؤنا في ديننا وفي معتقدنا الصحيح ، فأصبحوا يدعون إلى تغريب الدين ، وأنه لابد من فصله عن جميع مناحي الحياة ، ويدَّعون زوراً وبهتاناً ، دعاوىً ربما أخرجت المرء عن دينه _ والعياذ بالله _ كتحرير المرأة من قيود الشريعة ، واختلاط الرجال بالنساء في الأعمال ، وقيادة المرأة للسيارة ، وفشو كثير من الكبائر والمنكرات ، وهجران بيوت الله تعالى ، وترك الصلوات إما جزئياً أو كلياً ، فالأمة اليوم تعيش حالة من الفوضى وعدم الاستقرار ، بسبب البعد عن الدين ، بل يُحارب الدين من كل حدب وصوب ، والأمة عمياء صماء بكماء إلا ما رحم ربي وعصم ، قرآننا يُدنس ، ونبينا _ صلى الله عليه وسلم _ يُسب ، ليس من قبل الأعداء فقط ، بل حتى من بعض المسلمين ، فنجد من يسب الدين ، ويتعرض لله تبارك وتعالى بأنواع من العتاب أو اللعن _ والعياذ بالله _ فكان حتماً أن يحصل لنا ما نحن فيه من ضيق ونكد ، وتعب ونصب ، وتكالب الأعداء علينا ، لانتهاب الثروات ، وتحطيم المقدرات ، قال تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل112 ] ، وقال تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الأنبياء11 ] .(1/66)
ففي ضل هذه الظروف القاسية ، والتكدسات اللاأخلاقية ، والتدفقات اللادينية ، كان لابد من انتشار الظلم ، وسيطرة القهر والجريمة ، بشكل مريع فظيع ، حتى بات المسلم لا يأمن على نفسه وأهله ، جراء فقدان زمام الأمن ، وضياع الحابل بالنابل ، والتنصل من المسؤولية على مستوى أفراد المجتمع الواحد ، بدءاً بالمنزل ، ثم المدرسة ، والمسجد ، إلى أكبر من ذلك .
فكان لابد مع تفشي هذه المنكرات ، وخوفاً من وقوع العقوبات من الله عز وجل ، كان لابد من وجود رجل يجدد للناس إيمانهم ويذكرهم بالله تعالى ، ليعودوا إلى دينهم ، ويحكموا عقولهم ، فكان خروج القحطاني لأجل ذلك ، فهو رجل صالح ، يدين له الناس ، ويتبعونه ويطيعونه .
الشرط التاسع :
ظهور نار الحجاز ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ، تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبْلِ بِبُصْرَى " [ أخرجه البخاري ] ، وبُصرى : أرض بالشام ويقال لها حوران ، وقد ظهرت هذه النار في منتصف القرن السابع الهجري في عام 654 هـ ، وكانت ناراً عظيمة أفاض العلماء ممن عاصر ظهورها ومن بعدهم بوصفها ، قال النووي : " خرجت في زماننا نار في المدينة سنة أربع وخمسين وست مائة وكانت ناراً عظيمة جداً من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة ، وتواتر العلم بها عند جميع أهل الشام وسائر البلدان وأخبرني من حضرها من أهل المدينة " .(1/67)
ونقل ابن كثير أن غير واحد من الأعراب ممن كان بحاضرة بصرى شاهدوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت من أرض الحجاز ، وذكر القرطبي في التذكرة أن هذه النار رئيت من مكة ومن جبال بصرى ، وهذه النار ليست بالنار التي تخرج في آخر الزمان وتحشر الناس إلى المحشر ، بل هي نار قبلها ووقعت وانتهت ، وكانت آية من آيات الله تعالى ، وحكمة بالغة منه سبحانه ، وتصديقاً لما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وكان من عجيب أمرها أنه لم يكن لها حر ولا لفح على عظمها ، فسبحان الله القادر على كل شيء .
ويصف أبو شامة المقدسي هذه النار فيقول : " لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ، ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم ، ثم زلزلة عظيمة ، رجت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب ، ساعة بعد ساعة ، إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور ، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من بني قريظة ، نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا ، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات ، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء ، فلم يسيل ، والله لقد طلعنا جماعةً نبصرها فإذا الجبال تسير نيراناً ، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي ، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة ، فوقفت بعدما أشفقنا أن تجئ إلينا ، ورجعت تسيل في الشرق ، فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة . . " [ البداية والنهاية ] .
وقال ابن حجر رحمه الله : " فانتهت النار إلى قرب المدينة ، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد ، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر ، وقيل : أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى " [ الفتح ] .
وقال النووي رحمه الله وهو ممن عاصر خروجها : " تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام " [ شرح النووي على مسلم ] .(1/68)
قال أبو شامة : " وقد تاب جميع أهل المدينة ، ولا بقي يُسمع فيها رباب ، ولا دف ، ولا شرب ، وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن ، وراكع وساجد ، وداع إلى الله عز وجل ، ومتنصل من ذنوبه ، ومستغفر وتائب . . . " [ البداية والنهاية ] ، فكان لتلك النار العظيمة أثر في النفوس في ذلك الوقت فرجعوا إلى الله تعالى ، وأنابوا إليه ، وأقبلوا على طاعته سبحانه ، وتركوا معصيته ، وانزجروا عنها ، فهل لنا في تلك الآيات العظام ، والفتن الجسام عبر نعتبر بها ، وقلوباً نعي بها ، فكم نشاهد اليوم من آيات الله تعالى في خلقه من معجزات بينات ظاهرات واضحات ، وتخويف من الله تعالى لعباده ليعودوا إليه ويصححوا المسار ، ويقلعوا عن الذنوب والمعاصي ، ومن تلك الآيات التي يرسلها الله لعباده ليخوفهم بها ، ما نراه من كسوف وخسوف للشمس والقمر ، وما نراه من قحط للمطر ، وحدوث الزلازل المدمرة ، والبراكين المحرقة ، والفيضانات المغرقة ، والعواصف المهلكة ، وما نشاهده من فتن وحروب وقتل واستيلاء وهدم وانتهاك وغير ذلك كثير ، فهذه فتن وآيات ليقلع العاصي ، ويتوب المذنب ، فهل ينتظر الناس إلا الدجال فهو شر غائب ينتظر ، نعوذ بالله منه ومن فتنته ، فهي أعظم فتنة تمر بالبشرية ، فلابد من إعلان التوبة الصادقة ، والحذر من المخادعة لله ، فالله أعظم وأجل أن يخادعه بشر ضعيف فقير ، قال تعالى : { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [ البقرة 9 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء 142 ] .
الشرط العاشر :(1/69)
قتال الترك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك ، قوماً وجوههم كالمَجانِّ المطرقة ، يلبسون الشعر ، ويمشون في الشعر " [ أخرجه مسلم ] .
واختلف العلماء في الترك إلى عدة أقوال :
1- أنهم من نسل يافث بن نوح ، الذي من نسله يأجوج ومأجوج ، فهم أبناء عمهم ، لأن ذو القرنين لما بنى السد على يأجوج ومأجوج كان بعضهم غائباً فلم يدخلوا مع قومهم فسموا الترك .
2- أنهم من بني قنطوراء ، وهي جارية لإبراهيم عليه السلام ، ولدت له أولاداً ، جاء من نسلهم الترك والصين .
3- أنهم من نسل تُبَّع .
4- أنهم من نسل أفريدون بن سام بن نوح عليه السلام .
وبلادهم يقال لها تركستان ، وهي ما بين مشارق خراسان إلى مغارب الصين وشمال الهند إلى أقصى المعمورة .
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم وجوههم بالمجان المطرقة : وهي التروس التي ركب بعضها فوق بعض ، فأصبحت طاقاً واحداً ، ومعنى يلبسون الشعر ويمشون في الشعر : أنهم يصنعون من الشعر ثياباً ونعالاً وحبالاً ، لأن أرضهم باردة جداً وكثيرة الثلج ، فهم يصنعون ذلك من جلود الذئاب ، وكلاب الماء ، وهي ذات شعر كما هو معروف . [ التذكرة للقرطبي 306 ] .
وقد قاتل المسلمون الترك من عصر الصحابة رضي الله عنهم وذلك في أول خلافة بني أميه في عهد معاوية رضي الله عنه ، وكذلك بعد السنة الستمائة لما أسعرت الدنيا ناراً خصوصاً الشرق بأسره ، حتى لم يبق بلد منه إلا دخله شرهم ، ثم كان خراب بغداد وقتل الخليفة المعتصم ، يقول النووي رحمه الله : " قد وجد قتال هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، صغار الأعين ، حمر الوجوه ، ذلف الأنوف ، عراض الوجوه ، كأن وجوههم المجان المطرقة ، ينتعلون الشعر ، فوجدوا بهذه الصفات كلها في زماننا ، وقاتلهم المسلمون مرات " .(1/70)
وقد حدثت تلك المعارك حتى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أُمَّتِي يَسُوقُهَا قَوْمٌ عِرَاضُ الَوْجُوهِ ، صِغَارُ الْأَعْيُنِ ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْحَجَفُ ( يعني : الترس ) ـ ثَلَاثَ مِرَارٍ ـ حَتَّى يُلْحِقُوهُمْ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، أَمَّا السَّابِقَةُ الْأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَيَهْلِكُ بَعْضٌ وَيَنْجُو بَعْضٌ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَيُصْطَلمُونَ كُلُّهُمْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ " قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : " هُمُ التُّرْكُ " قَالَ : " أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَرْبِطُنَّ خُيُولَهُمْ إِلَى سَوَارِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ " وَكَانَ بُرَيْدَةُ لَا يُفَارِقُهُ بَعِيرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ وَمَتَاعُ السَّفَرِ وَالْأَسْقِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ، لِلْهَرَبِ مِمَّا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنَ الْبَلَاءِ مِنْ أُمَرَاءِ التُّرْكِ " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح ] ، ومعنى يصطلمون : يعني الاستئصال ، أي يحصدون المسلمين .
وكان مشهوراً في زمن الصحابة رضي الله عنهم حديث : " اتركوا الترك ما تركوكم " [ أخرجه أبو داود واختلف العلماء في صحته من عدمها ، ولكن أقل ما يقال فيه إنه حسن والله أعلم كما قاله بعض المحدثين ] .(1/71)
فاشتد بأس الترك على المسلمين ، فوقع قتالهم في أول خلافة بني أمية ، ووقع قتالهم في عصر ابن تيمية رحمه الله تعالى ، ففي سنة خمسمائة خرج الغزُّ من التتار ، فخربوا البلاد ، وفتكوا بالعباد ، ثم كان خروج جنكز خان بعد المائة السادسة ، فكانت فتنته عظيمة ، خصوصاً بالمشرق ، حتى لم يبق بلد إلا دخله ، وخربت بغداد وقُتل المستعصم وكان ذلك في سنة ستمائة وست وخمسين للهجرة ، وظهر هولاكو ، فعاث في الأرض الفساد ، وقتل المسلمين والعلماء والفضلاء في بغداد حتى سالت ميازيب المنازل بدماء الشهداء ، وظهر اللنك ومعناه الأعرج وسامه تَمُّر ، وعاث في بلاد الشام الفساد حتى حرق دمشق وصارت على عروشها ، ودخل الروم والهند وما بين ذلك ، وطالت مدته حتى أخذه الله تعالى .
إلى أن خرج إليهم القائد البطل الملك المظفر الملقب بقطز ، فخرج بجميع عساكره ، حتى التقى بالترك في عين جالوت ، فهزمهم شر هزيمة .
ثم دخل كثير من الترك في الإسلام ، نتيجة احتكاكهم بالمسلمين ، وتأثرهم بسلوكهم وأخلاقهم النبيلة ، فحسن إسلامهم ، وقد ظهر على أيديهم خير كثير للإسلام والمسلمين ، وحصل في عهدهم كثير من الفتوحات العظيمة ، ومنها : فتح القسطنطينية عاصمة الروم ، وذاك الفتح تمهيداً للفتح العظيم الذي سيكون آخر الزمان قبل ظهور الدجال .
لكن تركيا اليوم تختلف كثيراً عنها قديماً ، فاليوم هي بلد الإباحية المطلقة ، والكفر البواح ، بل هي الدولة العلمانية الأولى على مستوى الكرة الأرضية ، فعاقبهم الله عقاباً أليماً ، فهذه الصورة تمثل جزءاً من عدل الله وسطوته بعباده إذا طغوا وبغوا ، وعاثوا في الأرض الفساد .
زلزال رهيب يضرب منطقة من المناطق التركية التي تقام فيها الإباحية ، ويحاربون الله فيها عياناً بياناً ، كيف دك الله القصور العالية الشامخة ، فأصبحت مساوية للأرض في مستواها وانخفاضها .(1/72)
إنها آية من آيات الله في هذا العصر ، ولو تدبرناها لهرعنا إلى الله خاشعين متضرعين تائبين ، انظروا كيف تدك القرية بأسرها فيسوي الله العمائر بالأرض ، وخاصة حول المسجد ، فلا مبنى يستقر إلا المسجد ، وعمارة بجانب المسجد مقابلة له لم يمسها سوء ، ومؤخرة العمارة وجانبيها تساقطت ، لأن العمارة هذه لو وقعت لدكت التوسعة خلف المسجد ، ولو تأمل المتبصر ، وأمعن النظر ، لرأى المنارة التي هي انحل وانحف وأقل أساساً من أي مبنى آخر ، وهي ثابتة شامخة ، فلو توقع المتوقعون وخمن المخمنون لتوقعوا وظنوا إن حل زلزال أن تكون مأذنة المسجد أول شيء يسقط ، ولكن لله في تدمير قرية وإبقاء شعار القرية الديني الإسلامي حكمة بالغة .
قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف 97-99 ] .
فهذه الصورة والتي قبلها ، تبين مدى الدمار الذي خلفه الزلزال الذي ضرب تركيا عندما تمرد أحفاد من حفظوا دولة الإسلام قروناً من الزمن ، فأعلنوا الحرب على الله ، أعلنوها صريحة مدوية ، وتباهوا بموالاة أعداء الله من اليهود والنصارى ، متهكمين بذلك ، فرحين به مستبشرين ، بل ومستسخرين بدين الله ، وله محاربين ، مارقين من الدين خارجين عن حوزته .(1/73)
عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " قال : ثم قرأ : " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ( هود 102 ) " [ متفق عليه ] .
لقد أعلن الأتراك الحرب على الله يوم ظهرت امرأة جلسة البرلمان التي فازت بها بحجابها وبلا نقاب فمنعت ، وفصلت ، وأوذيت ، ثم أبعدت إلى تكساس بأمريكا حيث والدها إمام لمسجد فيها .
لقد أعلن الأتراك الحرب على الله ، يوم أن أيدوا حكومتهم الكافرة في إبادة وتصفية ومنع الحزب الإسلامي من العمل على ما فيه من التساهل واللين لتعاليم الدين الحنيفة ، لقد أعلنوا الحرب على الله يوم أن أيدوا حكومتهم في سلسلة من القوانين الجائرة والتي منها : فصل أي موظف حكومي أو جندي يؤدي الصلاة علناً وتعريضه للسجن حسب وظيفته أو رتبته ، فأداء الصلاة عندهم جريمة ، ولربما صح الخبر ، فالعهدة على الراوي والله أعلم .
ولقد أعلنوا الحرب على الله يوم أن منعوا الحجاب ، فأي موظف حكومي تتحجب زوجته فإنه يفصل ويسجن ، نعم هذه هي الحكومة التي ابتعدت عن الله تعالى ، وأصبحت في غابة يأكل فيها القوي الضعيف ، أصبحت تلك الدولة العلمانية المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين بوقاً للدولة الصهيونية المغتصبة ، ومكبراً للأفعال الهوجاء ، والآراء الخرقاء التي تنتهجها الدولة الصليبية المعتدية ، فلا غرابة أن يكون الانتقام من الجبار سبحانه بهذه المثابة ، وما ربك بظلام للعبيد ، يقول الله تعالى : " إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون " [ يونس 44 ] .
ثم أصدرت الحكومة التركية قراراً بمنع تدريس المادة الدينية في المدارس والمعاهد تلبية لرغبة أسيادها الدولة اليهودية المدللة ، ومدمرة البشرية أمريكا .
ولقد صدرت القرارات بمنع حلقات تحفيظ القرآن من مساجد تركيا بأسرها .(1/74)
فكيف تريد دولة تحارب الله ورسوله العز والرفعة في الدنيا والآخرة ، بل هو الذل والهوان ، وتغير الأوضاع ، وانتكاس الطباع ، فكم تعرضت هذه الدولة للزلازل والمحن ، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود 102 ] ، ويقول سبحانه وتعالى : { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [ هود 83 ] .
واليوم نرى الدول الإسلامية تسقط الدولة تلو الأخرى ، في خضم البعد عن دين الله تعالى ، والتنصل منه ، والتبرء من بعض أحكامه ، وتحكيم القوانين الوضعية ، والدساتير الكفرية ، في مقابل إزاحة ما يمكن إزاحته من أحكام الكتاب العزيز ، والسنة النبوية المطهرة ، نسأل الله السلامة والعافية ، الأمة اليوم تعاني ويلات وتبعات البعد عن الله تعالى ، وعن تعاليم دينه ، ونبذ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، التي علليها المعول في استنباط الأحكام الشرعية ، بعد كتاب الله العزيز ، قال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء65 ] .
الشرط الحادي عشر :(1/75)
قتال العجم ، والعجم غير الترك الذين ذكرناهم قبل قليل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا خُوزًا وَكَرْمَانَ مِنَ الْأَعَاجِمِ ، حُمْرَ الْوُجُوهِ ، فُطْسَ الْأُنُوفِ ، صِغَارَ الْأَعْيُنِ ، كأن وُجُوهَهَمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ ، نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ " [ أخرجه البخاري ] ، خُوز : بلاد خوزستان ، وكَرمان : وهي بلاد واسعة ، ذات قرى ومدن ، يحدها من الغرب بلاد فارس ، ومن الشمال خراسان ، وجنوبها بحر فارس ، وأهلها أهل سنة وجماعة ، وخير وصلاح ، وذلك بعد فتح المسلمين لها .
وورد قتالهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يكثر فيكم من العجم أسداً لا يفرون ، فيقتلون مقاتلتكم ، ويأكلون فيئكم " [ أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ] .
فقتالهم من أشراط الساعة .
الشرط الثاني عشر :
ضياع الأمانة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ ، فَكَرِهَ مَا قَالَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : " أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ " قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " فَإِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ " [ أخرجه البخاري ] .(1/76)
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم كيف ترفع الأمانة ، عن حُذَيْفَةُ قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ ، حَدَّثَنَا : " أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ : " يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ـ النقطة ـ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ـ البثرة ـ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ ، فَيُقَالُ : إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
الحديث يدل على أن الأمانة سترفع من القلوب ، حتى يصير الرجل خائناً بعد أن كان أميناً ، وهذا إنما يقع ، إذا ذهبت خشية الله من القلوب ، وضعف الإيمان في النفوس ، وخالطة الخيانة شغاف الأفئدة ، إرضاءً للهوى والشيطان ، وتذللاً للسلطان .(1/77)
فبذلك تضيع حقوق الناس ، وتحصل العداوة والبغضاء ، وتقع الكراهية والشحناء ، وتملأ القلوب حقداً وحسداً ، وتثار الفتن ، وتحصل المحن ، وتتغير الأحوال ، وتضيع الأموال ، وتنتكس الطباع ، وتتبدل الأوضاع .
ألا وإن إسناد الأمر لغير أهله لهو دليل على عدم اكتراث الناس بدينهم ، وعدم طاعتهم لربهم ، ومعصيتهم لنبيهم ، وخروجهم على علمائهم ، وكل ذلك يصب في قالب وقوع أشراط الساعة واقترابها .
فالأمانة فضيلة عظيمة ، وخلق كريم ، وسجية طيبة ، لا يعرفها إلا الرجال الأكفاء ، والنخبة الأصفياء ، فهي عملة نادرة ، لا سيما في عصر طغت عليه الشكليات والمظاهر البراقة ، والأشكال البراقة ، ولقد أمر الله بأداء الأمانة وحذر من التفريط فيها ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون " ، وقال تعالى : " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته . . " [ متفق عليه ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له " [ أخرجه أحمد بإسناد جيد ، وهو حديث صحيح برقم 135 ] .
ذكر أبن الجوزي نقلاً عن بعض المفسرين أن الأمانة في القرآن الكريم على ثلاثة أوجه : أحدها : الفرائض ، ومنه قوله تعالى : " يا أيها الذين أمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " .
الثاني : الوديعة ، ومنه قوله تعالى : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " .
الثالث : العفة والصيانة ومنه قوله تعالى : " إن خير من استأجرت القوي الأمين " .(1/78)
قال صلى الله عليه وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من استعملناه منكم على عمل ، فكتمنا مخيطاً من فوقة ، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة " [ رواه مسلم ] وهذا حديث عظيم يدل على عظم الأمانة وتحريم التفريط فيها .
إذاً من معاني الأمانة أن يحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً في العمل الذي يوجه له وأن يستنفد جهده في تكميله وتحسينة وأن يفي بجميع ما أسند إليه من عمل .
ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه لجر منفعة له أو إلى قريبه أو تناول رشوة باسم الهدية أو المجاملة فكل ذلك حرام .
قال صلى الله عليه وسلم : " من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليه أحداً محاباة فعلية لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم " [ رواه الحاكم ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله ورسوله وغش جماعة المسلمين " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ما من إمام يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخَلَّة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دونه خلته وحاجته ومسكنته " ، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم : " من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين ، فاحتجب دونه حاجتهم وخلتهم وفقرهم ، احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره " [ السلسة الصحيحة 629]
ومن مظاهر تضييع الأمانة :
التفريط في تربية الأبناء ، حتى يخرج منهم السارق ، وقاطع الطريق ، وشارب الدخان ، ومتعاط المخدرات ، والممثل ، والمطرب ، ومرتكب الكبيرة ، وفاعل الجريرة ، وتارك الصلاة ، والمفرط في حق ربه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم ، والعاق لوالديه ، كل ذلك بسبب التفريط في أمانة الرعاية الصحيحة السليمة في التربية الإسلامية ، والتنشئة الدينية .(1/79)
الإهمال في القوامة على النساء ، فمن الرجال من يترك نساءه ومحارمه على أي حال كنَّ ، بلا تأديب ولا زجر ، ولا تعنيف إذا احتاج الأمر لذلك ، فكم من النساء اللاتي يخرجن من بيوتهن متبرجات متزينات متعطرات ، يفتن المسلمين ، ويسئن للدين ، والزوج والولي كالشاة التي تنقاد مع الراعي .
والمعلم في مدرسته ، لا يؤدي عمله كما يجب ، بل هناك من المعلمين من لا يدخل الحصة إلا بعد خمس دقائق أو أكثر من بدايتها ، وهناك من يخرج قبل نهاية الوقت بمثل ذلك أيضاً ، وهناك من لا يؤدي حصته كما ينبغي ، فتراه مشغولاً بهاتفه الجوال تارة ، وبممازحة زميله تارة ، وبالخروج من الحصة دون سبب تارة أخرى ، وهناك من لا يشرح الدرس بأمانة وخوف من الله ، ولكن إذا جاءه زائر من مشرف أو مدير رأيته يستنفد جميع الطاقات والهمم ، ويستخدم الوسائل ، والطباشير الملونة ، وتنتهي الحصة وقد ينقل إلى الوحدة الصحية ، وهناك من يميز بين طالب وآخر ، إما لقرابة ، أو محاباة من أجل مصلحة يرجوها عند ولي أمر الطالب ، وإما لخلق الطالب وشكله ومظهره ، فيقم هذا ويؤخر ذاك ، ويتغاضى عن أخطاء طالب ، ويشدد على آخر ، فينجح من لا يستحق النجاح ، ويرسب من هو أهل له ، أليس ذلك تفريط في الأمانة ، ويكون المال من حرام .
والعامل في عمله تراه يسرق وينهب ويغش المسلمين ، ويتآمر مع آخرين للغدر بصاحب العمل .
والموظف في وظيفته تراه يؤخر معاملات المسلمين من أجل أن يشرب كأساً من الشاي ، أو يتحدث مع زميل في هاتف أو جوال أو عبر شباك ، ومنهم من لا يؤدي وظيفته على الوجه المطلوب ، فيتأخر ويغيب بدون عذر ولا سبب .
وهكذا فمظاهر التفريط في الأمانة لا يمكن حصره ، وفيما ذكرت ذكرى للذاكرين ، وعبرة للمعتبرين .(1/80)
وهنا ثمة أمر مهم جداً ألا وهو إسناد الأمور لأهلها ، فلا يجوز إسناد عمل إلا لمن هو أهل لحمل أمانة عمله ، ولا يُعطى منصب إلا لمن هو جدير به ، فلا بد من وضع الأمور في نصابها ، فلا يوضع إنسان في مكان هناك من هو أحق به منه ، إما محاباة لقريب ، أو من أجل تحصيل مصلحة دنيوية دنيئة ، أو من أجل مجاملات كاذبة ، فكل ذلك حرام لا يجوز ، وهذا من صميم التفريط في الأمانة .
الشرط الثالث عشر :
قبض العلم وظهور الجهل ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا " [ رواه البخاري ومسلم ] ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ عَبْدِاللَّهِ وَأَبِي مُوسَى فَقَالَا : قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وقبض العلم بقبض العلماء ، قال الذهبي رحمه الله : "وما أوتوا من العلم إلا قليلاً ، وأما اليوم فما بقي من العلوم القليلة إلا القليل ، في أناس قليل ، ما أقل من يعمل منهم بذلك القليل فحسبنا الله ونعم الوكيل" .(1/81)
وهذا في زمان الذهبي رحمه الله فما بالك بزماننا هذا ؟ فإنه كلما بعد الزمان من عهد النبوة قل العلم وكثر الجهل ولا يزال يقبض العلم حتى لا يعرف من الإسلام إلا اسمه . وكما قال العلماء ، فإن قبض العلم لا يكون بقبضه من صدور العلماء ، وإنما بقبض العلماء ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " [ متفق عليه اللفظ للبخاري ] .
قال النووي رحمه الله : "هذا الحديث يبين أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه ولكن معناه أن يموت حملته ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بحهالتهم فيضلون ويضلون" ، والمراد بالعلم في هذه الأحاديث هو علم الكتاب والسنة ، العلم الشرعي الموروث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ، فبذهاب العلماء يذهب العلم ، وتموت السنن ، وتندرس أهم شعائر الدين ، وتنتشر البدعة ، وتقوى شوكة الجهل ، أما علوم الدنيا فإنها من فروض الكفاية ، وليست مقصودة من الأحاديث والله أعلم .(1/82)
فعلى المسلم أن يسعى جاهداً من أجل تحصيل العلم الشرعي الذي يرفعه الله به يوم القيام درجات ، بل حتى في الدنيا ، فصاحب العلم يتسنم مكانة رفيعة بين الناس ، قال تعالى : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير " ، فعلينا معاشر المسلمين أن نتسابق في هذا الميدان الكبير ، ميدان طلب العلم على أيدي العلماء قبل أن يقبض العلم بقبضهم ، وإننا في هذا الزمان نجد تحقيق الأحاديث قد وقع ، فهاهم العلماء في كل سنة يتناقصون ويُقبضون ، فكم شيع العالم الإسلامي من علماء فضلاء دأبوا على تعليم الناس العلم الشرعي ، وأقاموا الحجة على أهل الضلالة ، ودمغوا أهل الكفر بالحج والبراهين ، وأبانوا الحق بألسنتهم وأقلامهم ، فرحمهم الله تعالى رحمة واسعة .
ووجب علينا أن ننهل من علمهم الذي خلفوه ، ونستقي من معينه الذي تركوه ، وعلينا أن نجد بطلب العلم على أيدي الباقين منهم ، حتى نعبد الله على بصيرة ، دون إفراط ولا تفريط .
يقول عبد الله بن مسعود : " عليكم بالعلم قبل أن يقبض ، وقبضه : ذهاب أهله ، وعليكم بالعمل ، فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه ، وعليكم بالعلم وإياكم والتنطع والتعمق ، وعليكم بالعتيق " .(1/83)
ولا يزال العلم ينقص ، والجهل يكثر ، حتى لا يعرف الناس فرائض الإسلام ، فيصبح العلم شيئاً نادراً ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ ، وَلَا صَلَاةٌ ، وَلَا نُسُكٌ ، وَلَا صَدَقَةٌ ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ : أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ ( لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) فَنَحْنُ نَقُولُهَا " ، فَقَالَ لَهُ صِلَةُ ـ صلة بن زفر العبسي الكوفي تابعي كبير ثقة ـ مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ وَلَا صِيَامٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ ثَلَاثًا " [ أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم 7933 ] .
قال ابن تيمية رحمه الله : " يُسرى به ـ القرآن ـ في آخر الزمان من المصاحف والصدور ، فلا يبقى في الصدور منه كلمة ، ولا في المصاحف منه حرف " [ مجموع الفتاوى 3 / 198 ] .(1/84)
والأدهى من ذلك ، والأعظم مصيبة ، والأنكى خطورة أن لا يقال في الأرض الله ، وهي أرضه سبحانه ، ولكن لذهاب العلم لم يعد أحد يعرف شيئاً عن الدين ، ولا عن الرب سبحانه وتعالى ، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " [ أخرجه مسلم ] ، وهذا الحديث يدل على هلاك الناس آخر الزمان ، لأنهم لا يعلمون من العلم شيئاً ، فإذا ساد الجهل غلب حب الدنيا ، ومن غلب عليه حبها فقد هلك وأهلك ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : " لا يزال الناس صالحين متماسكين ، ما آتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن أكابرهم ، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا " ، وقيل لسعيد بن جبير رحمه الله : ما علامة هلاك الناس ؟ قال : " إذا هلك علماؤهم " .
فالجهل أشد عدو للإنسان ، بل الجاهل عدو نفسه ، لأنه قد يوقعها في المهالك بسبب جهله وضلاله ، وكم فتك الجهل بالأمم ، وكم دمر من شعوب ، وخرب من بلاد ، يقول سفيان بن عيينه رحمه الله : " تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل ، والعالم الفاجر ، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون " .
فوجب على كل مسلم ومسلمة تعلم العلم الشرعي الذي به قوام الحياة ، العلم المبني على الكتاب والسنة الصحيحة ، لأن العلم سبب لرقي الأمم ، وبه معرفة الحلال والحرام ، وبه يطاع الله تعالى ، وبه يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه يكون دخول الجنة والبعد عن النار ، وبه ترتفع الدرجات ، ويترقى فيها العلماء ، فالعلم نور كله ، وقد أثنى الله على العلماء وأنهم أخشى الناس لله لمعرفتهم به سبحانه ، قال تعالى : " إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور " .(1/85)
وكم من الناس من هجر العلم الشرعي الموروث عن الكتاب والسنة واتجهوا إلى المجلات والصحف يقرؤونها ويعكفون عليها ، وما شاكلها من الكتب الغثة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل الكثير منها يحمل بين طياته سماً زعافاً ، وغالب تلك الصحف والمجلات مشتمل على جهل صرف ، لأن تغذيته لا تأتي إلا عن رويبضة هذا العصر ، أو علمانيته ، أو تأتي من الغرب والشرق الكافر الذي لا يدين بدين ، فأنى لم لمسلم أن يتعلم منها علماً شرعياً ، بل يسمون ذلك العلم الناجم عنها ثقافة وتقدم ، ومن يقدم عليه هو المثقف والمهذب ، وقد بلغ الحمق ذروته ، والغباء أوجه عند بعض السفهاء والمغرورين عندما أطلقوا على المعتنين بالعلم الشرعي وكتبه اسم رجعيين ، وسموا كتب العلم الشرعي بالكتب الصفراء ، تحقيراً لها ، وتنفيراً منها ، وهذا مصداق ما قاله الشعبي رحمه الله : " لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلاً ، والجهل علماً " [ أخرجه ابن أبي شيبة ] .
المقصود من ذلك كله أن فقد العلماء في هذه الأزمنة ، وانفراط عقدهم دليل على قرب وقوع الساعة ، فعلينا أن نعد العدة لذلك ، بأن نعود إلى الله تعالى ونتوب إليه ، ونطلب العلم الشرعي حتى نواكب العلماء في سيرهم الحثيث نحو ذلك ، وأن نحذر غارات الأعداء ، وجولات الكذابين المنافقين ، وأن نخلص أعمالنا لله تعالى .
الشرط الرابع عشر :(1/86)
كثرة الشرط وأعوان الظلمة ، وجاء في حديث أبي أمَامَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ أَوْ قَالَ يَخْرُجُ رِجَالٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعَهُمْ أَسْيَاطٌ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ الْبَقَرِ يَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ فِي غَضَبِهِ " [ أخرجه أحمد وهو حديث صحيح ] ، وعند الطبراني : " سيكون في آخر الزمان شرطة ، يغدون في غضب الله ، ويروحون في سخط الله ، فإياك أن تكون من بطانتهم " [ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3560 ] ، ولا يشك إنسان حصيف بوجود تلك الفئة المذكورة اليوم في كثير من بلاد المسلمين ، فتراهم يأخذون الرجل بلا جرم ولا ذنب ، وهو مدان حتى تثبت براءته ، مع أن الصحيح أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته ، ولكن لما حصل الظلم من تلك الفئة من الناس ، وقع العباد في ظلمهم وجورهم ، لا سيما وأناس منهم لا يدينون بدين الإسلام ، ولا يحكمون أحكامه ، ويرعون لمسلم حق ولا صيانة ، ولا للعقول حصانة ، فتراهم يتخبطون في أعراض المسلمين ، وفي أجسادهم ، يسجنون ويضربون ويعذبون ويضطهدون بلا مبرر ولا سبب ، فأولئك هم الذين يصبحون في سخط الله ، ويمسون في عذابه . قال تعالى : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً " [ الأحزاب 58 ] ، وقال تعالى : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " [ البروج 10 ] ، فكم سفكوا من دماء للأبرياء الذين يأمرون بالمعروف ويدعون إلى الله تعالى ، ويحذرون من معصيته ، وينهون عن المنكر ، حتى أذاقوهم سوء العذاب ، ونكلوا بهم ، وقتلوهم ظلماً وعدواناً والله شهيد على ما يفعلون ، كل ذلك حصل من أعوان الظلمة ، ممن انتسبوا لأعمالهم الغاشمة ، وأفعالهم المشينة ، فحورب أهل الدين(1/87)
في دينهم ، وأبعدوا من ديارهم ، ومزقت أسرهم ، وانتهكت أعراضهم ، ومن يلاحقون المجاهدين في سبيل الله ، للنكاية بهم وإرضاء العدو فيهم ، وتعذيبهم وسجنهم عند كل حادث أو حديث ، وما حصل للصالحين من أمة الإسلام اليوم إلا بسبب اعتداءات الظلمة من أهل الشرط وأعوانهم والله يمقت على ذلك ، ويعذب عليه أشد العذاب ، قال تعالى : " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " [ آل عمران 21-22 ] ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا " [ أخرجه مسلم ] ، وهذا الحديث يدل على أن الله تعالى قد توعد أهل الشرط وأعوان الظلمة الذين يضربون الناس بسياطهم وعصيهم ورصاصهم وشتى أسلحتهم وعدهم الله النار وبئس المصير ، لأنهم حاربوا الله تعالى ، لحربهم أهل الله وخاصته ، الذين يعدون الناس إلى العدل والقسط ، الذين يدعون إلى الخير ويرهبون من الشر ، يدعون إلى التوبة والتمسك بحبل الله المتين الذي لا يزيغ عنه إلا هالك ، فمن حاربهم في دعوتهم ، فقد ضاد الله في حكمه ،ومن نازع الله في أحكامه أدخله النار ولا يبالي به سبحانه وتعالى ، لأنه سبحانه جل شأنه قال في كتابه : " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " [ الحج 38 ] . قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يكون عليكم(1/88)
أمراء هم شر من المجوس " [ أخرجه الطبراني في الأوسط ، وقال الهيثمي في المجمع رجاله رجال الصحيح خلا مؤمل بن إهاب وهو ثقة ] .
فكم نرى اليوم من فرقة بين رجال الدين وأهل الخير والصلاح ، والمتمسكين بدينهم ، وطلاب العلماء والعلماء ، وبين رجال الأمن والشرطة ، وأحدثت هذه الفجوة بسبب دخول طبقة فاسدة ، وشريحة سيئة من شرائح المجتمع بين الفئتين ، فئة العلماء ، وفئة الحكام ، وأخص منهم الظلمة ، أو الذين لا يتبينون حقائق الأمور ، بل يصدقون كل ما يقال لهم ، وكل ما يذاع لديهم ، وتلك الفئة الباغية التي تريد الاصطياد في المياه العكرة ، قد ألقمت حجارة خصوصاً في أيام ظهر فيها الحق ، وزهق الباطل ، يريدون القضاء على أهل الحسبة من رجال الهيئة المخلصين ، يريدون القضاء على المؤسسات الخيرية التي تدعم مشاريع الخير في كل بقاع المسلمين ، كل ذلك خوفاً منهم وذعراً من أن تنتشر الفضيلة بين الناس ، فهم يريدونها فساداً وحرية زعموها ، فأولئك الذين ارتضعوا عادات الغرب الزائفة ، وتقاليده الفاضحة سببوا هوة كبيرة بين العلماء وأهل الخير وبين الحكام ، فحصل أن وجد أعوان الظلمة ، وأصحاب السياط وأذناب البقر .
الشرط الخامس عشر:
انتشار الزنا : فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن فشو الزنا وكثرته بين الناس أن ذلك من أشراط الساعة، ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أشراط الساعة . . فذكر منها: ويظهر الزنا " .
وعند الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سيأتي على الناس سنوات خدّاعات " . فذكر الحديث وفيه : " وتشيع فيها الفاحشة " .(1/89)
الزنا من أفحش الفواحش، وأحط القاذورات، وقد قرنه الله بالشرك فقال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ومع ما سينتشر بل انتشر تحقيقاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل جريمة الزنا يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية ويهلك الحرث والنسل، عاره يهدم البيوت، ويطأطئ الرؤوس، يسوِّد الوجوه، ويخرس الألسنة، ويهبط بالرجل العزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية ما لها من قرار، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما ارتفع، إن الزنا يجمع خصال الشر كلها، من الغدر والكذب والخيانة، إنه ينزع الحياء ويذهب الورع ويزيل المروءة، ويطمس نور القلب، ويجلب غضب الرب، إنه إذا انتشر أفسد نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الأبضاع، وصيانة الحرمات، والحفاظ على روابط الأسر، وتماسك المجتمعات، لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المجتمع كله يصيبه الأمراض والأوجاع بسبب انتشار الزنا، يقول ابن عمر رضي الله عنهما، أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، أعوذ بالله أن تدركوهن، وذكر منها - ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم " .
سؤال يرد؟! ما ذنب المجتمع في أن ينتشر فيه الأمراض؟
ذنبه: أنه لم يقاوم تيار الفساد، ولم يقاوم الأسباب التي تؤدي إلى انشار الزنا في البلد.
ذنبه: أنه لم يأمر بالمعروف ولم ينهى عن المنكر.
ذنبه: أنه يساعد تيار الفساد في التمدد، ويقاوم تيار الخير من أن ينتشر.
فكان ذنب هذا المجتمع، أن يذوق مرارة الوجع مع الزناة والزواني الذين أصابهم الزهري والسيلان والإيدز.(1/90)
إذا أردنا حماية أنفسنا من أوجاع الزنا، وأردنا حماية أولادنا وبناتنا من الوقوع في هذه الرذيلة، فعلينا بذل كل سبب في الوقوع أمام هذا التيار من خلال:
أولاً: ما يحصل في الأسواق وبالأخص في المجمعات التجارية من التبرج والسفور والميوعة سواءً من الأجنبيات أو من بنات البلد فإن هذا يزيد ارتفاع نسبة الزنا.
ثانياً: ما يعرض في وسائل الإعلام، من أغانٍ ماجنة، وصور فاضحة، وقصص ساقطة، وأفلام هابطة، مما يحرك ويثير شهوة الكبير المتزوج فكيف بالشاب المراهق، والبنت المراهقة، فكل من يتساهل في أن يعرض أو يسمع شيء من هذا في بيته، ثم يقع أحد أولاده في الانحراف، فإنه يتحمل وزره يوم القيامة أمام الله عز وجل.
ثالثاً: إسكات هذه الأبواق العلمانية المضللة التي تسعى في نشر هذا السقوط الاجتماعي إما بكتابة مقالات في جرائد ومجلات، أو نظم قصائد غرامية، وكلمات عشق وغرام ونشرها هنا وهناك، أو بأية طريقة أخرى يحاولون من خلاله نشر سمومهم وأفكارهم، هذا التيار يسعى جاهداً بكل ما أُتي من حيلة ووسيلة إلى تغريب حياة الناس، وجعل الواقع يشابه الواقع الغربي المنحل في كل شيء، إنه لا بد علينا جميعاً من فضح هؤلاء ومقاومة شرهم، بنشر الخير، ورد أفكارهم بالحجة والبرهان والمحاضرات، وإلا لو ترك لهم المجال ونشروا نتنهم، أصابنا جميعاً ذلك الوجع، ((أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم، إذا كثر الخبث)).(1/91)
والخبث والله قد كثر، وبوادر الانحلال قد لاح، ولا داعي أن نشابه النعام ونضع رؤوسنا في التراب، فلنكن صرحاء، هذه المشاكل، وهذه القضايا التي نسمعها كلنا، كل يوم عشرات القضايا، وعشرات الجرائم، في الأسواق، وحول المدارس، والمعاهد والكليات، والشقق المفروشة، وشواطئ البحر، بكل صراحة، هؤلاء أولاد من؟ هل هم أولاد الجن. أم أنهم أولادنا وبناتنا، هذه القصص التي تصل لمراكز الهيئات يومياً بالأرطال من المجمعات التجارية من الذي يمارسها، أولاد كوكب آخر، فلماذا التغافل، ولماذا دس الرؤوس، ولماذا الثقة المفرطة والاطمئنان الزائد، وكأن أولادنا أولاد الصحابة. كلنا يعرف بأن الشهوة لو تحركت فإنها لا تعرف التوسط والاعتدال، حتى تخرج في سبيلها.
فاتقوا الله يا أولياء الأمور في الأولاد والبنات، فإن عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة قال الله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً .
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع بانتشار الزنا، فوالله إن لم ننتبه سيدركنا قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة عند أبي يعلى قال : " والذي نفسي بيده لا تفني هذه الأمة، حتى يقوم الرجل إلى المرأة، فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذٍ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط " .
قال القرطبي رحمه الله : " في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت خصوصاً في هذه الأزمان " .(1/92)
وقد ظهرت بوادر هذا الحديث ومصداقيته ، فوجد اليوم في بعض الدول الغربية رجال ونساء يفعلون الفاحشة تحت ظل الشجر ، أو ظل السيارات ، أو في الأماكن العامة ، برضا من الطرفين ، والعجيب أن من ينكر عليهم يعاقب ، فقد أوجدوا قانوناً يعاقب المنكر ، من سجن وغرامة مالية ، وكثير من الحيوانات لا ينزو الذكر على الأنثى وحوله أناس يشاهدون ، فحياة أولئك الناس أشد قذارة من حياة البهائم ، فهم كما قال الله تعالى : " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً " [ الفرقان 44 ] .
فرحم الله القرطبي وأسكنه فسيح جناته، إذا كان هذا وقع في زمنه، وقد توفي في القرن السابع ، فكيف لو رأى زماننا هذا، الذي قد اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبحت قلة الحياء شعار أسر كاملة، وعوائل معروفة، كانت معروفة إلى سنوات قريبة بالستر والعفاف .
فإن واقعنا ينذر بشر عظيم، وباب سينكسر، نسأله العفو والعافية، إنه سميع الدعاء .
السادس عشر :
انتشار الربا : عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بين يدي الساعة يظهر الربا " [ أخرجه الطبراني ] ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام " .
إن الربا ومع كل أسف قد ضرب بأطنابه وغرس قوائمه في ديار المسلمين، الذي دينهم يحرم عليهم الربا أشد تحريم، يكفيك في ذلك قول الله تعالى: فأذنوا بحرب من الله ورسوله . عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات " [ متفق عليه ] .(1/93)
إن الربا الذي قد انتشر في مجتمعات المسلمين اليوم لهو أحد الأسباب الذي أدى إلى فساد الصلات، وإفساد المكاسب والمطاعم والمشارب، وكل هذا سيؤدي إلى عدم نفع الأعمال وقبول الدعاء، والتأييد بالنصر على الأعداء، وبهذا عُلل وجود آية الربا يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعاف مضاعفة بين عدد كثير من آيات الجهاد التي نزلت في غزوة أحد في سورة آل عمران، إيماءً إلى أن من أسباب قبول الأعمال وحصول النصر، تطهير الأموال التي تنفق في العبادات التي من أفضلها الجهاد في سبيل الله.
فإذا أرادت الأمة قبول أعمالها، وحصول النصر على أعدائها، فعليها تطهير أموالها، ومحاربة الربا في بلادها، لا أن تكون هي جالبةً للذل والخزي بنفسها بسبب تعاملاتها الربوية خصوصاً عن طريق ما يسمى بالديون الخارجية.(1/94)
لقد عصم المسلمون زماناً طويلاً في الماضي من وباء الربا، وحفظت أموال الأمة التي جعلها الله قياماً للمسلمين من أن يسيطر عليها المرابون الذين يأكلون ثروات الشعوب، ويدمرون اقتصادها، ووجد أولئك أن اعتصام المسلمين بدينهم وابتعادهم عن التعامل بالربا جدار صلب يقف في وجه مطامعهم الخبيثة إلى أن وجّه عباد الصليب تلك الهجمة الفكرية الشرسة على ديار المسلمين، وزرعوا ألغام بشرية في أرضها من جلدتها ويتكلمون بلغتها إلا أنهم يحاربون دينها، فكان من جملة ما فعلوا إقصاء الشريعة عن الحكم، وإبعاد الدين عن الهيمنة على حياة الناس، وإفساد مناهج التعليم، وتربية رجال من هذه الأمة وفق مناهج الكفر، فقام أولئك الذين رضعوا فكر الغرب، وتغذوا بُسمّه الزعاف، ينادون بأخذ كل ما عند الغرب، ولا شك بأنها دعوة صريحة للضلال والانسلاخ من القيم، فعمل الذين أضلهم الله على علم والذين اتبعوهم على إقرار الأنظمة الربوية وإقامة المؤسسات والبنوك الربوية في ديار المسلمين وظن بعض هؤلاء أنهم هدوا للطريق التي ترقى بها أمتهم، وها نحن اليوم نشاهد بأعيننا انتشار الربا في ديار المسلمين انتشار السرطان في الجسد، ولا زلنا نعاني من التخلف والقهر والاستبعاد، ولا يزال أباطرة الربا يربضون على قلب الأمة الإسلامية في كل شبر من أراضيها، وكل هذا تحقيق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
السابع عشر :(1/95)
ظهور المعازف واستحلالها : فذكر النبي صلى الله عليه وسلم، أنها ستكثر وتنتشر، بل ويستحلّها الناس ، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سيكون في آخر الزمان خسف، وقذف ومسخ، قيل ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات " [ رواه ابن ماجة وسنده صحيح . انظر صحيح الجامع رقم 3559 ] ، وهذه العلامة قد وقع شيء كبير منها في العصور السابقة، وهي الآن وفي هذا الوقت أكثر ظهوراً، وأعظم انتشاراً، فقد كثر المغنون والمغنيات ، وهم المشار إليهم في الحديث بـ ( القينات ) ، ولقد ابتلي كثير من المسلمين بالمعازف، وأشربت قلوبهم حب الغناء، وسماع الموسيقى، وارتفعت أصوات المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، في كل مكان، وتساهل الناس في هذا الأمر، وصار سماع الغناء جزء من حياتهم، ولا ينكر ارتفاعه في الأسواق والأماكن العامة، وامتلأت البيوت به، وكل هذا مؤذن بشرّ والله المستعان. فقد جاء الوعيد لمن فعل ذلك بالمسخ والقذف والخسف، كما في الحديث السابق، بل والأعظم من هذا، إذا استحلّ الناس الغناء والمعازف، وفعلاً قد استحلها كثير من الناس، ويستغرب إذا قلت له بأن سماع الموسيقى والغناء حرام، فهؤلاء عقوبتهم كما ثبت في البخاري أنهم يمسخون قردة وخنازير إلى يوم القيامة، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم تأتيهم – يعني الفقير لحاجة – فيقولوا ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " .(1/96)
إن المتأمل لواقع الناس اليوم، يرى أن هذه الأمة إن لم يتداركها الله برحمته، فإنها مقبلة على فتن عظيمة، لقد أحب الناس اللهو والعبث والمرح، نزعت الجدية من حياتهم، نسوا أننا أمة مجاهدة، أمة صاحبة رسالة، تكالب علينا الأعداء من كل جانب، نهبت أموالنا، اغتصبت أراضينا، سرقت خيرات الأمة، ومازلنا نرقص ونغني، تعجب أحياناً من رجل كبير في السن يتمايل مع أصوات المعازف، فكيف بالشاب المراهق.
إن مما عوّد الناس على سماع الغناء، وجعلها عادية في حياتهم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وزاد الطين بِلةً، دخول الدشوش في البيوت، وهذا شر عظيم، وجرم كبير، يرتكبه رب الأسرة في حق أولاده لأنها دعوة صريحة إلى الفواحش، محطات كاملة، تبث وعلى مدى 24 ساعة، برامج فقط رقص وغناء، بشكل فاضح ساقط، والبنت تنظر وتسمع، والولد، والزوجة، والبيت كله يتربى على هذا، ألا تظنون أننا لا نحاسب حساباً عسيراً على هذا، والله سنحاسب .
وانظر إلى المسلمين بالبطاقة اليوم في المنتزهات ، وحول الشواطئ ، وحتى في البراري ، وفي المنازل ، يؤذون جيرانهم من أهل الخير والصلاح ممن لا يرضون بهذا العمل المحرم شرعاً ، وهذه علامة من علامات الساعة التي ظهرت منذ زمن قديم ولا زال ظهورها يتواصل ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فهل يعقل المسلمون في بقاع الأرض حرمة الأغاني والموسيقى ؟
الثامن عشر :
انتشار الخمر وكثرة شاربيه في هذه الأمة ، والأدهى من ذلك استحلال بعض الناس لها، نعم ولا غرابة أن يستحل بعض هذه الأمة ما حرم الله، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أشراط الساعة)). وذكر منها: ((ويشرب الخمر)). وعند الإمام أحمد وابن ماجة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه " [ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4945 ] .(1/97)
ولقد أطلقوا اليوم على الخمر أسماءً متعددة من باب التغطية ، فم كما جاء في الحديث يسمونها بغير اسمها ، فسموها المشروبات الروحية ، والوسكي ، وغير ذلك من الأسماء ، وقد فسر ابن العربي استحلال الخمر بتفسيرين :
الأول : اعتقاد حلها .
الثاني : أن يكون المراد بذلك الاسترسال في شربها ، كالاسترسال في الحلال .
ولقد ابتلي عدد غير قليل من المسلمين بشرب الخمر والعياذ بالله، وابتلي به أكثر أصحاب الأموال والترف، وأصحاب الوجهات، لأسباب :
منها : أن الحصول عليه يحتاج إلى ميزانية، لارتفاع سعره، وهذا ما لا يتمكن منه الفقير الفاسق .(1/98)
ومنها : أن هذه الطبقة من المجتمع، تقليداً لأشباههم الكفار الغربيين، يعتبرونه من مكملات الوجاهة ومن تتمات البروتوكولات – زعموا – لكن مع ذلك الفرق كبير بين المُقلِدّ والمُقَلَّد، فالكفار مع كفرهم، لكنهم أعقل ممن قلدوهم من المسلمين في تناول الخمر، يذهبون عقولهم لكن بعقل، وفي أوقات محددة، وبعضهم تحت إشراف طبيب، أما أصحاب الترف، وأصحاب الملذات واللعب من هذه الأمة، مع كونهم مسلمين، ومع أنهم يعلمون حرمته، لكنهم يذهبون عقولهم بغير عقل، نسمع عن بعضهم أنهم لا يشربون الخمر بالكأس بل بالسطل، حيوانية وبهيمية متناهية، وبعضهم يبقى بالأربع والخمس أيام فاقداً للوعي، لا يترك لنفسه فرصة ولا دقيقة واحدة ليعود إليه عقله ، فتفوته الصلاة تلو الأخرى ، وهو متعمد في ذلك ، فقد أذهب عقله بيده ، ومن ترك صلاة فرض واحدة متعمداً فهو كافر مرتد ، كما ذكر ذلك ابن حزم رحمه الله عن عدد من الصحابة ، وكما نقل شقيق بن عبد الله البجلي رحمه الله أنه قال : لم يكن أصاب محمد صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ، وجاءت الأدلة من الكتاب والسنة متضافرة في كفر تارك الصلاة ، قال صلى الله عليه وسلم : " من ترك الصلاة سُكراً مرة واحدة ، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسُلبها " [ أخرجه أحمد والحاكم وهو حسن لغيره ، صحيح الترغيب والترهيب 2 / 608 ] ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنْ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ ، وَلَا تَتْرُكْ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ ، وَلَا تَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ " [ أخرجه ابن ماجة والبيهقي وهو حسن لغيره ، صحيح الترغيب والترهيب 2 / 601 ] .(1/99)
ولقد كثر الخمارين في أوساط الناس، وكثرت أيضاً الخمارات، وكل هذا تحقيقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أما كثرة الخمارين، فإن الواقع يشهد لذلك، قبيل سنوات، كان المبتلى بالخمر، لا أحد يعرف عنه، يتستر حتى من أهل بيته، أما الآن، فلكثرة البلوى به، أصبح عند الناس تبلد إحساس وعدم اكتراث بهذا الأمر، فلا يبالي إذا عرف الناس عنه أنه يتعاطى المسكرات ذهب الحياء حتى من الناس، أصبحنا نسمع في واقعنا وكأن الأمر عادي جداً فلان أتانا وهو سكران، فلان يشرب في بيته، فلان .. وهكذا وكأن الأمر لا شيء، أما كثرة الخمارات، فلو اتيحت لك فرصة أن تجلس لبضع دقائق مع أحد أعضاء الهيئات، ليعطيك بعض أخبار الخمارات، فأظنك لا تصدق العدد في البلد الواحد، ليست بالآحاد، بل بالعشرات وربما أكثر، مصانع داخلية في الشقق والبيوت، وأكثر البلوى والمصائب كما بلغنا من العمالة الأجنبية، فهم سبب لكثير من المفاسد في البلد، يجتمع العشرة وربما أكثر في الشقة الواحدة، وليس بينهم متزوج، ومع غياب متابعة الكفيل، يفعلون كل شيء، فيفتحون لهم مصنعاً، وأحياناً يكون السبب هو الكفيل نفسه إذا أخرّ رواتبهم، وهم بحاجة إلى المال، ماذا يفعلون؟ فيغريهم الشيطان إلى مثل هذه الطرق، لكن المصيبة على من يبيعون؟ تتم البيعة على أولاد البلد، ممن يتوفر في أيديهم المال، فاتقوا الله عباد الله، الأب يتابع ولده، والكفيل يتابع مكفوله وكلنا نكون رجال هيئة، نتعاون مع الأعضاء الرسميين، لنخفف الشر المنتشر في كل مكان.
ولقد تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم في انتشار الخمر، وليس أعظم انتشاراً من أن تباع جهاراً ونهاراً، وتشرب علانية في بعض البلدان الإسلامية، وتحت غطاء رسمي يحمي ذلك كله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.(1/100)
من كان يتصور أن يصل الحال بالمسلمين، أن يرضوا ببيع الخمر في بلادهم، الكفار حكوماتهم كافرة، وليس بعد الكفر ذنب، ولكن العجب فيمن يدعي الإسلام، ثم يرضى ببيع الخمر بين المسلمين، إن كان استحلالاً، فإن من استحل الخمر كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً، تضرب عنقه، ثم لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإنما يرمس بثيابه في حفرة بعيدة، لئلا يتأذى المسلمون برائحته، وأقاربه بمشاهدته، ولا يرث أقاربه من ماله، وإنما يصرف ماله في مصالح المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة، ولا النجاة من النار، لأنه كافر مخلد في نار جهنم إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا . هذا المستحل، أما غير المستحل فهو عاصي لله فاسق خارج عن طاعته، مستحق للعقوبة، وعقوبته في الدنيا الجلد، وقد كان يفتي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من تكرر منه شرب الخمر فإنه يقتل في الرابعة، عند الحاجة إليه، إذا لم ينته الناس بدون القتل. وهذا والله عين الفقه، فإن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع، وصلاحه وفلاحه، لأن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه، بل يتعداه إلى نسله ومجتمعه، ولعل هذه الفتوى أنسب فيمن يسمحون ببيع الخمور في ديار المسلمين.(1/101)
وزاد الطين بلة ظهور المخدرات بأنواعها المختلفة ، فهي باكورة لانتشار الخمور والمسكرات ، حتى ظهرت المخدرات وأودت بحياة الكثير من شباب المسلمين ورجاله ، وضيعت جماً غفيراً من الأسر ، وفتكت بالأعراض بسبب الحصول عليها ، فكم من المسلمين من باع عرض زوجته وبناته وأخواته في سبيل الحصول على قيمة تلك المخدرات والعياذ بالله ، فهذا هو المآل الذي آلت إليه الأمة اليوم ، ووالله لولا نشاط رجال الهيئة لدمرت الأمة تماماً ، ثم نجد هناك من ينادي بحل هذا الجهاز الذي أمر الله به من فوق سبع سماوات ، ثم تأتي أفواه تتشدق مدعومة بأبواق غربية وشرقية بل ومن أبناء جلدتنا يريدون محاربة الله تعالى في أرضه ، فسبحان الله العظيم كيف تفلح الأمة إذا فقد الأمن فيها وتزعزع ، ولا يفقده ويزعزعه إلا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
ومعلوم بالضرورة تحريم الخمر شربها وبيعها والتجارة فيها ، بل لعن الله في الخمر عشرة ، عن ابْنَ عُمَرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وآكل ثمنها " [ أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن ماجة ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5091 ] . ولقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان عمن يتعاطى الخمر والمسكرات والمخدرات ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ " [ أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له ] .(1/102)
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الخمر وشربها أو الاتجار فيها أو كل ما من شأنه أن يكون سبباً في انتشارها ، وحذر تحذيراً بليغاً لمتعاطيها حتى عده كمن يعبد صنماً ، ومعلوم أن من عبد صنماً من دون الله فقد كفر والعياذ بالله ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ " [ أخرجه أحمد واللفظ له ، وابن ماجة وابن حبان ، وقال الألباني رحمه الله : صحيح لغيره . صحيح الترغيب والترهيب 2 / 600 ] ، فشارب الخمر المصر على سربها كمن أشرك بالله ، حتى عده الصحابة من ذلك ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما حُرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ، وقالوا : حُرمت الخمر ، وجُعلت عِدْلاً للشرك " [ أخرجه الطبراني وصححه الألباني . صحيح الترغيب والترهيب 2 / 602 ] .(1/103)
وشدد النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم شرب الخمر حرم على شاربها دخول الجنة ، فشارب الخمر لا يمكن أن يعلم حرمتها في الكتاب والسنة واتفاق جميع أئمة المسلمين ، ثم يقوم بشربها ، إلا طاعة للشيطان ومعصية للرحمن ، فإن كان مقراً بحلها فقد حرم الله عليه دخول الجنة والعياذ بالله ، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ : مُدْمِنُ الْخَمْرِ ، وَالْعَاقُّ ، وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ " [ أخرجه أحمد وغيره واللفظ له وهو حديث حسن لغيره . صحيح الترغيب والترهيب 2 / 600 ] ، فلا يمكن لعاقل أبداً أن يتعدى حدود الله ، ويدعي الإيمان ، بل الإيمان منه براء ، لأن المعصية تجر المعصية حتى تطبق على الإنسان فلا يعود يعرف معروفاً أو ينكر منكراً ، ثم يموت على خاتمة سيئة عياذاً بالله من ذلك ، ومنهم من يموت وهو يقول كلمة الكفر ، لأنه لم يتب من ذنوبه وآثامه فتربى عليه وعاش عليه وأدمنها وألفها ثم مات عليها ، فمثل أولئك الذين يشربون الخمور والمسكرات ، ويتعاطون المخدرات المهلكات قد ثبت لدينا بما لا يدع مجالاً للشك أن أكثرهم مات وهو يشربها ، أو مات وهو يطلبها ، بل أن يموت على شهادة التوحيد ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ، فأي نهاية مؤلمة لأولئك الناس ، فالخمر أم الخبائث وتجر معها الكثير من الكبائر ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجتنبوا الخمر ، فإنها مفتاح كل شر " [ أخرجه الحاكم وهو حديث حسن لغيره ، صحيح الترغيب والترهيب 2 / 601 ] ، وقد ثبت لدى الناس اليوم مصداقية هذا الحديث ، فكم هم الذين يشربون الخمور أو يتعاطون المخدرات ، ثم يصبحوا في مصاف البهائم ، فلا يعرفون الحرام ، ولا يميزون الحلال ، فمن شرب الخمر ، وغاب عقله ، وفقد أهليته(1/104)
البشرية ، لا يتوانى عن ارتكاب أي منكر أو فاحشة دون شعور ، لأنه أذهب عقله بنفسه ، وأي عاقل يفعل بنفسه مثل هذه الأفاعيل والأباطيل ، فسبحان الله الذي وهب العقول وميز بها أناساً عن آخرين ، قال تعالى : " إنا هديناه النجدين " والنجدان : الطريقان ، أي طريق الخير وطريق الشر ، فكيف يُقبل من عاقل أن يختار طريق الشر الذي يؤدي إلى النار دون طريق الخير الذي يوصل إلى الجنة ، لا يمكن أن يصدُق عليه أن يكون عاقلاً أبداً ، وهذه قصة تؤيد مصداقية حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أن الخمر سبب لكل شر ، ومفتاح لكل سوء ، فهذا رجل صالح أرادت أحد النساء أن تفتنه وتراوده عن نفسه ، فعملت له حيلة ، فأرسلت جارية لها إليه وهو يمشي فدعته وقالت : سيدي يريدك ، فلما دخل البيت ، أغلقت الباب ، فلما دخل إذا هو بامرأة وليس برجل ، فأراد أن يخرج ، فقالت : إن خرجت صحت وقلت أراد أن يفعل بي ، فخاف الرجل من الناس ، فقال : وما تريدين ؟ قالت : إما أن تزني ، وإما أن تقتل هذا الطفل ، وإما أن تشرب الخمر ، فنظر ، فإذا كل واحدة أدهى من أختها ، وأحلاها مر ، فقال : أشرب الخمر ، فشرب الخمر ، فسكر ، وغاب عقله ، فوقع على المرأة ، وقتل الطفل ، فانظروا عاقبة شرب الخمر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر ، أو يقتل نفساً ، أو يزني ، أو يأكل لحم خنزير ، أو يقتلوه إن أبى ، فاختار الخمر ، وإنه لما شرب الخمر ، لم يمتنع من شيء أرادوه منه " [ أخرجه الطبراني بإسناد صحيح ، وصححه الألباني في الصحيحة برقم 2695 ] .
وقد جاء في التحذير من شرب الخمر قوله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة ، ولا يموت وفي مثانيه منه شيء إلا حُرمت عليه الجنة ، فإن مات في أربعين ليلة ، مات ميتة جاهلية " [أخرجه الطبراني بإسناد صحيح وصححه الألباني في الصحيحة برقم 2695 ] .(1/105)
عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ لَمْ يَتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَسَقَاهُ مِنْ نَهْرِ الْخَبَالِ قِيلَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَا نَهْرُ الْخَبَالِ قَالَ نَهْرٌ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ " [ أخرجه الترمذي ، وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وقال الألباني : صحيح لغيره ، صحيح الترغيب والترهيب 2 / 606 ] ، لأن توبته ليست صادقة بدليل نقضه لها كل تلك المرات ، ونظير ذلك قوله تعالى : " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفروا لن تقبل توبتهم " ، وقد جاء إقامة الحد على شارب الخمر ومتعاط المخدرات ، في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ " قَالَ : ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ ، وَكَذَلِكَ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا قَالَ فَرُفِعَ الْقَتْلُ وَكَانَتْ رُخْصَةً وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمُ(1/106)
اخْتِلَافًا فِي ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ " [ صحيح الترمذي ] .
وقد فسر بعض أهل العلم القتل في الحديث : بشديد العقاب ، وقوة الجلد ، وقالوا : أن القتل منسوخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الحديث هذا ، فعندما أتي بالرجل في الرابعة لم يقتله وإنما اكتفى بجلده [ مرقاة المفاتيح 7 / 190 ] .
لكن قد يرى الإمام مصلحة في قتل شار بالخمر ، حتى يكون عبرة لغيره ، أو لكف أذاه عن المسلمين إذا ثبت أذاه ، أو لأي مصلحة يراها ولي الأمر ، وإن كان قتل الشارب منسوخاً كما ذكره جمع غفير من أهل العلم ، لكن يجوز قتله إذا خضعت المصلحة لذلك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " نسخ الوجوب لا يمنع الجواز ، فيجوز أن يقال : يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك ، فإن ما بين الأربعين إلى الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء ، كما هو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ، بل الزيادة على الأربعين ترجع إلى اجتهاد الإمام فيفعلها عند المصلحة ، كغيرها من أنواع التعزير ، وكذلك صفة الضرب فإنه يجوز جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب بخلاف الزاني والقاذف . فيجوز أن يقال : قتله في الرابعة من هذا الباب " [ مجموع الفتاوى 7 / 483 ] .(1/107)
وقال الألباني رحمه الله : " لا دليل ينهض على النسخ ، وكل ما استدلوا به إنما هي روايات من فعله صلى الله عليه وسلم أنه لم يقتل ، ومع أنه ليس فيه ما يصح ، ولو كان فيه شيء يصح معه النسخ ، فهي لا تنسخ أصل مشروعية القتل ، وإنما تنسخ الوجوب " [ الروضة الندية 3 / 315 ] .
وقال القاضي عياض رحمه الله : " أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر ، وأجمعوا أن لا يُقتل إذا تكرر منه ذلك ، إلا طائفة شاذة قالوا : يقتل بعد حده أربع مرات ، والحديث الوارد في ذلك وهو عند الكافة منسوخ بقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق " ، وحديث النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم حده ثلاث مرات ولم يقتله ، ونهى عن لعنه ، ودل على نسخه إجماع الصحابة على ترك العمل به " [ إكمال المُعلم 5 / 540 ] .
فالخمر أم الخبائث وسبب لكل شر ، وقد كان شربها معروفاً قبل الإسلام وبعده ، ولكن لما حرمت الخمر ونزلت الآيات بتحريمها كف الصحابة رضوان الله عليهم عن شربها فوراً ، وقالوا : انتهينا انتهينا ، فشرب الخمر أمارة من أمارات الساعة ، وإذن بقرب وقوعها ، وقد انتشرت اليوم بشكل ملفت للنظر ، مما يدل على اقتراب شر مستطير قد يقع بهذه الأمة ، أجارنا الله من عذابه وعقابه .
التاسع عشر :(1/108)
زخرفة المساجد والتباهي بها : فقد روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " ، وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أشراط الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد " [ أخرجه النسائي وابن خزيمة بسند صحيح ] . وزخرفة المساجد، هو نقشها، وعلة النهي والله أعلم أن ذلك علامة الترف والتبذير والإسراف، إضافة إلى أنه يشغل الناس عن صلاتهم، أضف إلى ذلك قول ابن عباس كما في صحيح البخاري أنه من عمل اليهود والنصارى : " لتُزخرفُنّها كما زخرفت اليهود والنصارى " . لهذا ولغيره ورد النهي ، ولمّا أمر عمر بن الخطاب بتجديد المسجد النبوي على عهده، نهى عن الزخرفة وأكد على ذلك فقال : " أكنّ الناس من المطر، وإياك أن تحمرّ أو تصفرّ، فتفتن الناس ".
فانظر كيف فهم فاروق الأمة رضي الله عنه أحاديث النهي ، لأن الزخرفة تفتن الناس وتشغلهم عن صلاتهم ، وتلهيهم عنها ، وتُذهب الخشوع ، وتنزع الطمأنينة من القلوب .(1/109)
ولقد كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً من اللبن ، وأعمدته من خشب النخل ،وسقفه مظلل بالجريد ، ولما نُخرت في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، جدده بمثل ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نُخرت في خلافة عمر رضي الله عنه ، فوسع المسجد ولم يغير ما بُني سابقاً ، بل بناه باللبن والجريد وخشب النخل ، ولم يزخرفه ولم بنقشه ، مع كثرة الفتوحات الإسلامية في عهده رضي الله عنه ، واتساع رقعة الديار الإسلامية ، وكثرة الأموال بسبب الفتوحات ، ومع ذلك أبقاه كما كان عليه صاحبيه ، ولكن ليس معنى هذا أن يبقى المسجد من اللبن والجريد فقط ، وكلما نخرته السوس أُعيد بناؤه ، بل يجب العناية بالمساجد فهي بيوت الله تعالى ، يجب على المسلمين العناية بها أكثر مما يعتنون ببيوتهم ، وليس معنى ذلك أن نقوم بزخرفتها والتكلف في بنائها وصرف الأموال العظيمة الطائلة في ذلك ، ونترك الفقراء والمساكين والمحتاجين ، بل هذا الفعل هو المنهي عنه في الحديث ، فالمنهي عنه أن النقوش والتصاوير والزخارف وخصوصاً إذا كانت بالذهب . [ أحكام المساجد في الإسلام 51 ] .
فرحم الله الفاروق عمر، فإن من أتوا بعده، لم يأخذوا بوصيته، ولم يقتصروا على التحمير والتصفير، بل وتعدوا ذلك إلى النقش كما ينقش الثوب .(1/110)
والتباهي في بناء المساجد، صار أمراً ظاهراً لكل أحد، ومنذ القديم، والسلاطين والملوك والخلفاء، يتباهون في بناء المساجد وتزويقها وزخرفتها، حتى أتوا وعلى مر التاريخ بالعجب، ولا زالت بعض هذه المساجد قائمة حتى الآن في الشام ومصر وتركيا، وبلاد المغرب والأندلس والهند، وغيرها. ولا تزال هذه العادة مستمرة إلى يومنا هذا، التباهي، والزخرفة، الأول يبني مسجداً يتباهى بأنه صاحب أطول مئذنة في العالم، والثاني أكبر قبة، والثالث أوسع، والرابع أجمل، والخامس أحسن، المهم أنه على وزن أفعل – ما في العالم، ويمكن أن يلحق ما هو على وزن أفعل: أسوء، وأقبح، إذا كان مخالفاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
إن عمارة بيوت الله جل وتعالى إنما تكون، بالطاعة والذكر والصلاة، وتحقيق ما وجدت المساجد في هذا الدين من أجله، يكفي في المسجد أن يقي الناس الحر والبرد والمطر.
إن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في وقته من جريد النخل لكنه كان مكاناً للصلاة والذكر، وكان مقراً لاجتماع مجلس الشورى، وكانت قاعدة عسكرية، ينطلق منها جحافل الإيمان إلى أصقاع المعمورة، يفتحون البلاد وينشرون دين الله، وكانت جامعة تخرج منها الفقهاء والمحدثين والمفسرين، وكانت مأوى للفقراء والمساكين، كأهل الصفة وغيرهم.
إلى غير ذلك مما وجد المسجد في الإسلام لأجله، أما اليوم فصحيح أن مساجدنا، أطول، وأكبر، وأوسع، و .. و .. لكن المقاصد الشرعية الأخرى للمساجد عطلت، فأصبح أسوأ، وأبشع، وأبعد من السنة.
لقد جاء الوعيد من نبيكم بالخبر الصحيح بالدمار إذا زخرفت المساجد وحليت المصاحف، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : " إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم " [ أخرجه الترمذي وحسنه الألباني في الصحيحة برقم 1351 ] ، والحديث وإن كان موقوفاً على أبي الدرداء ، فإنه في حكم المرفوع لأن مثل هذا الأمر لا يُقال بالرأي .(1/111)
والذي عليه الشافعية كما نقله المناوي رحمه الله : " أن تزويق المساجد ولو الكعبة بذهب أو فضة حرام مطلقاً، وبغيرهما مكروه " [ فيض القدير 2 / 714 ] .
فكم من المساجد اليوم يتباهى بها أهلها ، من زخرفة وكتابات بخطوط مختلفة ، وأشكال ورسوم ، ورخام وأشياء عجيبة لم تُرى قبل ذلك ، يأتون بها من أقصى الدنيا وأدناها ، حتى يدخل المصلي إلى المسجد ويخرج وهو منذهل متعجب من تلك الأمور ، بل إن البعض يدخل الصلاة ويخرج منها ولا يذكر إلا تلك الزخرفة ، ولو سئل عما قرأ الإمام لما عرف ، والكثير من الناس إذا أتوا من الحج أو زيارة المسجد النبوي ، لا يحدثونك عن حلقات تحفيظ القرآن ، ولا يحدثونك عن المحاضرات والدروس العلمية المقامة هناك ، بل يتحدثون عما رأوا من زخارف ومصاعد كهربائية ومياه باردة ، وسلالم مختلفة ، فأصبحت المساجد أماكن للفرجة والنزهة ، ولا أقول ذلك من باب الاعتراض على ما هو حاصل اليوم من توسعة للمساجد في بلاد المسلمين ، لا بل المقصود أن لا تصل الأمور بالمسلمين حتى يتباهوا بالمساجد وزخرفتها وترك الجوهر والأصل وهو عمارتها بذكر الله ، وأن تكون مكاناً للتعليم ، ومنطلقاً للفتوحات الإسلامية ، كما كانت في الصدر الأول للإسلام .(1/112)
واليوم أصبحت المساجد تئن من فقد المصلين ، وتشتكي من كثرة المتسولين ، ولا يحرك أكثر المسلمين ساكناً تجاه هذه الأحداث المؤلمة المؤثرة على العقيدة ، والقادحة في الدين ، فهناك من الناس من يؤيد التسول في بيوت الله ، وهي لم تبن لذلك ، قال تعالى : " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبخ له فيها بالغدو والآصال " ، فالواجب على الجميع احترام بيوت الله تعالى من كل ما يدنسها ، أو يثير الجدل والكلام الغير لائق بها ، فليست بأماكن كسب وسبل ارتزاق ، لجمع حطام الدنيا ، لذلك فهي لا تصلح مكاناً للتسول ، ورفع الصوت ولغط الكلام ، كمن يتسول ويسأل الناس من أموالهم . ويحرم أن تكون بيوت الله تعالى مكاناً لكسب حطام الدنيا ، والتمول من أموال الناس . وأقرب ما تقاس عليه مسألة التسول ، مسألة نشدان الضالة ، والجامع بينهما البحث والمطالبة بأمر مادي دنيوي ، فناشد الضالة يبحث عن ماله دون شبهة ، ومع ذلك أمر الشارع الكريم كل من في المسجد بأن يدعو عليه بأن لا يجد ضالته ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد ، فليقل : لا ردها الله عليك ، فإن المساجد لم تبن لهذا " [ أخرجه مسلم أبو داود ] . أما المتسول فهو يطلب مال غيره ، والشبهة قائمة ألا يكون محتاجاً أصلاً بل إنه يسأل الناس تكثراً والعياذ بالله . فكان أجدر ألا يُعطى نكالاً له . فمسألة التسول مسألة أرقت الأمة اليوم ، وأيقظت الغيرة عند الغيورين ، وكثر فيها الجدل عند الكثيرين ، فلا تكاد تصلي في مسجد إلا ويداهمك متسول وشحاذ ، ويطاردك سائل ومحتاج ، وليس العجب في هذا ، ولكن العجب عندما ترى رجلاً أو شاباً يافعاً وهو يردد كلمات لطالما سمعناها ، ولطالما سئمناها ، فيقف أحدهم ويردد كلمات عكف على حفظها أياماً طوالاً ، وساعات عديدة ، مدفوعاً من قبل فئة مبتزة ، أو جهة عاطلة ، تريد المساس بأمن هذا(1/113)
البلد واستقراره ، وتشويه صورته أما المجتمعات ، إن تلك المناظر المخجلة التي نراها في بيوت الله تعالى ، لهي دليل على عدم احترام المساجد ، وعدم معرفة السبب الذي من أجله بنيت ، ودليل على نزع الحياء ، وعدم توقير لبيوت الله تعالى ، ووضاعة في أخلاق أولئك المتسولين والشحاذين والمبتزين لأموال الناس والآكلين لها بالباطل ، وكم تطالعنا الصحف اليومية بتحقيقات صحفية مع أولئك المبتزين من رجال ونساء ، ولسان حالهم جميعاً يقول : نريد مالاً بلا عمل ، لقد فسخوا الحياء من وجوههم ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن لم تستح فاصنع ما شئت " .
إننا في هذا الوقت من الزمان ، الذي تفشى فيه الجهل ، وانتشرت فيه البطالة ، اعتدنا كل يوم وبعد كل صلاة تقريباً على مناظر مؤذية ، ومشاهد مؤلمة ، يقوم بتمثيلها فئة من الشباب المدربين على إتقان صناعة النصب والاحتيال بممارسة مهنة الشحاذة ، وأكل أموال الناس بالباطل ، ولهم في ذلك أحوال وأشكال ، فمنهم من يقوم بتجبيس يده أو رجله أو أي جزء من جسده ، ومنهم من يتصنع البلاهة والجنون ، ومنهم من يدعي الإصابة بحادث أو موت والد أو أم ، أو حصول مرض ، أو ترك ديون ، وتُرك له أخوة وأخوات ، ويقوم برعايتهم ، والإنفاق عليهم ، والدين أثقل كاهله ولا يستطيع السداد ، ومنهم من يفتعل البكاء وقد يجلب معه ابن الجيران أو ابنتهم ليمارس الشحاذة بها ، لاستعطاف القلوب ، وقد يقسم بالله كاذباً أنه لولا تلك الديون ، وعظم المسؤولية لما وقف أمام الناس ، وغير ذلك من الأعذار والأكاذيب التي لم تعد تنطلي على أحد من العقلاء . وكل يوم يقومون بتطوير أساليب الشحاذة ونهب أموال الناس ، بل لقد وصل الأمر إلى بشاعة عظيمة ، وأمر لا يقره دين ولا عقل ، وذلك بوجود فئة من إماء الله من النساء اللاتي يأتين إلى بيوت الله تعالى لممارسة الشحاذة والتسول ، وهذا أمر خطير .(1/114)
وهذه بعض الأدلة التي تحرم التسول ، وسؤال الناس من غير حاجة :
فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر " .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس : خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه " .
وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس : خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول " ، زاد الإمام أحمد : " ولأن يأخذ ترابا فيجعله في فيه : خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه " . وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه : خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه " .
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه " [ رواه الترمذى وقال : حديث حسن صحيح ] .
قال ابن القيم رحمه الله : المسألة في الأصل حرام ، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم في حق الربوبية ، وظلم في حق المسئول ، وظلم في حق السائل :(1/115)
أما الأول : فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله وذلك نوع عبودية فوضع المسألة في غير موضعها ، وأنزلها بغير أهلها ، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه ، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس ، وذلك كله يهضم من حق التوحيد ، ويطفئ نوره ويضعف قوته .
وأما ظلمه للمسئول : فلأنه سأله ما ليس عنده فأوجب له بسؤاله عليه حقا لم يكن له عليه ، وعرضه لمشقة البذل ، أو لوم المنع ، فإن أعطاه ، أعطاه على كراهة ، وإن منعه ، منعه على استحياء وإمضاض ، هذا إذا سأله ما ليس عليه وأما إذا سأله حقا هو له عنده : فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله .
وأما ظلمه لنفسه : فإنه أراق ماء وجهه وذل لغير خالقه وأنزل نفسه أدنى المنزلتين ، ورضي لها بأبخس الحالتين ، ورضي بإسقاط شرف نفسه ، وعزة تعففه ، وراحة قناعته ، وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له ، واستغناءه عن الناس بسؤالهم ، وهذا عين ظلمه لنفسه ، إذ وضعها في غير موضعها ، وأخمل شرفها ، ووضع قدرها ، وأذهب عزها وصغرها وحقرها ، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسئول ويده تحت يده .
وقال البغوي رحمه الله : وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد ، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد . [ شرح السنة 2 / 375 ] .
وقال أبو حامد الغزالي : الأصل في السؤال التحريم لثلاثة أسباب :
الأول : شكوى الله على الخلق : إذ إن السؤال إظهار للفقر ، وإن نعمة الله قصرت عنه ، وذلك عين الشكوى .
الثاني : أن السائل يذل نفسه لغير الله تعالى ، وليس للمسلم أن يذل نفسه إلا لله ، وفي السؤال ذل للسائل ، بالإضافة إلى إيذاء المسؤول .
الثالث : في السؤال إحراج للمسؤول وإيذاء له ، فهو إما أن يعطيه حياءً أو رياءً ، وبهذا يحرم على الآخذ والمعطي . [ إحياء علوم الدين 4 / 278 ] .
وقال الحنابلة رحمهم الله : يكره سؤال الصدقة في المسجد ، ويكره إعطاء السائل فيه .(1/116)
وقال الشافعية رحمهم الله : يكره السؤال في المسجد ، وإذا كان فيه تهويش ورفع صوت فيحرم .
وقال المالكية رحمهم الله : ينهى عن السؤال في المسجد ، ويكره إعطاء السائل فيه .
وقال الأحناف رحمهم الله : يحرم السؤال في المسجد ، ويكره إعطاء السائل فيه . [ الفقه على المذاهب الأربعة 1 / 283 ] .
وقال الشيخ إبراهيم بن محمد الضبيعي : اتفق علماء الإسلام على أن التسول حرام لغير ضرورة ، ولا يجوز إعطاء المتسولين في المساجد ، لأن فيه تشجيع لاستمرارهم في هذا المسلك القبيح ، وفيه تعطيل للطاقات البشرية عن الكسب المشروع ، ويعتمد التحريم على دلالة النصوص الشرعية من الكتاب والسنة . [جريدة الجزيرة – 14/6/1420هـ ] .
فانظروا أيها الأخوة كيف أصبحت المساجد اليوم دوراً للمتسولين ، ومأوىً للفاشلين ، ومرتزقاً للشحاذين ، لقد أخذت المساجد اليوم سمة غريبة ، ابتعدت بها عن مقصدها الحقيقي وهو أنها مقر للطاعات وكسب الحسنات ، وأداء الصلوات .
أضف إلى ذلك هذه الزخرفة والنقوش التي أصبحت من الأساسيات في بناء المساجد اليوم ، وهذه ظاهرة خطيرة تدل على قرب قيام الساعة ، فنسأل الله الثبات على الدين ، والعزيمة على الرشد .
العشرون :(1/117)
التطاول في البنيان ، وهي من العلامات التي ظهرت قريباً من عصر النبوة ، وبدأت بالانتشار بعد ذلك ، حتى تباهى الناس في العمران ، وزخرفة البيوت ، فكانت البيوت من جريد النخل ومن الطين ، والآن من الإسمنت المسلح ، واليوم نرى عجباً ، فقد كثر التباهي بالبيوت ، حتى أصبح الأمر محيراً للعقول ، مدلهماً لبعض الناس ، وخطراً على آخرين ، فبسبب التقدم الحضاري والتكنولوجي والتقني ، وجدت أعمال عمرانية تكلف الملايين من الريالات ، وهي من الكماليات التي لا داعي لها ، فقد كان الفراش من الموكيت ، أما الآن أصبح الفراش من السيراميك ، مكلفاً مبالغ مالية طائلة ، وأصبحت الواجهات من الرخام ، أو الحجر الذي يُستقدم من بلاد أخرى ، فتباهى الناس فيما بينهم ، حتى أثقلت كواهل الكثير من الرجال بسبب غيرة النساء بعضهن من بعض في التقليد ، وهناك منازل زُخرفت من الداخل والخارج ، بلا سبب مقنع لذلك ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : " الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ " ، قَالَ : مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : " الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ " ، قَالَ : مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " ، قَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا : " إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ رَبَّهَا ، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ ، فِي خَمْسٍ لَا(1/118)
يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) الْآيَةَ ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ رُدُّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا ، فَقَالَ : " هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ " [ متفق عليه ] ، وقد ظهر هذا في زماننا جلياً فتطاول الناس في البنيان وتفاخروا في ذلك تفاخراً عجيباً ، ولو أنفقت تلك الأموال للفقراء والمساكين لكان خيراً لهم ، وأنفع لغيرهم ، وأعظم في درجاتهم .
فبعد أن كان أولئك البدو الرحل الذين لا يقر لهم مستقر بحثاً عن الكلأ والعشب والماء لرعي مواشيهم وبهائمهم ، أصبحوا اليوم يتطاولون في الأبنية ، وكثرة الأدوار ، والفلل والعمارات الشاهقة الارتفاع .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله : " فإذا صار الحفاة العراة رعاء الشاة وهم أهل الجهل والجفاء رؤوس الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان ، فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا " [ جامع العلوم والحكم ] .
قال صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشونها وشي المراحيل " [ أخرجه البخاري في الأدب المفرد ورجاله كلهم ثقات ، ما عدا عبد الله بن محمد بن أبي يحيى وهو ثقة وثقه ابن حجر في التقريب ] ، والمراحيل : الثياب المخططة ، ومعنى ذلك : أنه في آخر الزمان سيكون هناك أناس يبنون بيوتاً يزخرفونها ويخططونها مثل تخطيط الملابس وزركشتها .(1/119)
وقال ابن حجر رحمه الله : " ومعنى التطاول في البنيان : أن كلاً ممن كان يبني بيتاً يريد أن يكون ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر ، ويحتمل أن يكون المراد المباهاة به في الزينة والزخرفة ، أو أعم من ذلك ، وقد وُجد الكثير من ذلك ، وهو في ازدياد " [ الفتح / باب الفتن ] ، وكما قال رحمه الله فقد ظهر في عصرنا هذا ناطحات السحاب ، والعمارات الشاهقة الارتفاع ، وغير ذلك من أمور التطاول في البنيان ، وهذا دليل اقتراب الساعة .
الحادي والعشرون :
ولادة الأمة لربتها : كما في الصحيحين لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : " وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربتها " .
واختلف العلماء في معنى هذا الحديث إلى سبعة أقوال ، بعضها متداخلة في بعض ، وإليك تلخيصها في خمسة أقوال :
القول الأول : اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرط ، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها ، وهذا القول قول أكثر أهل العلم .
وقيل : أن تبيع السادة أمهات أولادها ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها أولادها ولا يشعر بذلك [ معالم السنن 7 / 67 ] .
لكن استبعد هذا القول كل من ابن حجر وابن كثير .
حتى قال ابن حجر رحمه الله : " استيلاد الإماء كان موجوداً حين المقالة ـ حين ورود الحديث ـ والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام ، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة " [ الفتح ] .
القول الثاني : أن تلد الأمة حراً من غير سيدها يوطئ شبهة أو رقيقاً بنكاح أو زنا ، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعاً صحيحاً وتدور الأيدي حتى يشتريها ابنها أو بنتها .
القول الثالث : أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة والسب ، قال ابن حجر : وهذا أوجه الأوجه عندي .(1/120)
القول الرابع : أن الإماء تكون في آخر الزمان هنّ المشار إليهن بالحشمة فتكون الأمة تحت الرجل الكبير دون غيرها من الحرائر .
القول الخامس : أن تبيع السادة أمهات الأولاد ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها وهو لا يشعر بذلك ، وقد يكون ذلك ناشئاً عن غلبة الجهل بتحريم بيع الأمهات ، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية .
وهكذا نرى انعكاس الأمور ، بحيث يصبح المُربى مُربياً ، والسافل عالياً ، فعند ذلك ينتظر الناس وقوع العلامات الكبرى ومن ثم قيام الساعة .
الثاني والعشرون :
كثرة القتل ، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج ، قالوا : وما الهرج يارسول الله قال القتل القتل " ، وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن بين يدي الساعة الهرج، قالوا وما الهرج؟ قال القتل، قالوا: أكثر مما نقتل؟ إنا نقتل في العام الواحد أكثر من سبعين ألفاً، قال: إنه ليس بقتلكم المشركين ولكن قتل بعضكم بعضاً، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: إنه ليُنزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنه على شيء وليسوا على شيء " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتلَ، ولا المقتول فيم قُتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار " .(1/121)
وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث قد وقع بعض منه، فحدث القتال بين المسلمين في عهد الصحابة رضي الله عنهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم فتح الباب بعد ذلك .. لكن قتال الصحابة ليس كقتال من جاء بعدهم، فلم تكن لهم أطماع دنيوية على مال أو حكم أو رياسة كما يصور ذلك بعض المنحرفين من الكُتاب، ويصدقه السذج وضعاف الإيمان. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ويكفي أنهم قوم قد حطوا رحالهم في الجنة . [ وقد مر بنا مزيد بيان لهذه النقطة فيما سبق ] .
ثم صارت الحروب تكثر في بعض الأماكن دون بعض، وفي بعض الأزمان دون بعض، وغالبها لا تخلو من أطماع، إما على حكم وهذا الغالب، أو على مال أو حروب طائفية دينية، وأحياناً تقوم حروب دون أن يعرف لها سبب، وإن ما حصل في القرون الأخيرة من الحروب المدمرة بين الأمم والتي ذهب ضحيتها الألوف بل الملايين. وانتشرت الفتن بين الناس بسبب ذلك، وكلما تسلم زعيم حكم دولة فأول ما يبدأ به هو تصفية كل المقربين من الوزراء والأمراء والأعوان للذي قبله .
وكذلك، فإن انتشار الأسلحة الفتاكة التي تدمر الشعوب والأمم، لها دور كبير في كثرة القتل حتى صار الإنسان لا قيمة له، يذبح كما تذبح الشاة، وذلك بسبب الانحلال، وطيش العقول، وعدم احترام الإنسان ، فعند وقوع الفتن، يُقتل المقتول ولا يدري لماذا قُتِل وفيم قُتل، بل أننا نرى بعض الناس يقتل غيره لأسباب تافهة، وذلك عند اضطراب الناس ويصدق على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليُنزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان " نسأل الله العافية، ونعوذ به من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والمتأمل بعين البصير ، والعاقل الحصيف ، والناظر لواقع الحياة اليوم ، وما يجري على مسرح الأحداث يجد أمرين :(1/122)
الأول: إن جميع الحروب التي تقع ضد المسلمين في هذا الوقت، سواءً كانت موجهة مباشرةً ضدهم أو كانت بالتحريش بينهم، فينبغي أن نعلم أن ورائها الغرب الحاقد على الإسلام، متمثلة في دولة عاد الكبرى – وهي حروب دينية صليبية بحتة – يراد منها القضاء على أكبر عدد من المسلمين بالقتل، وإن كانت في الظاهر قد تأخذ أسباباً تروج في الإعلام أنها غير دينية، لا شك أنهم يحققون مكاسب مادية من وراء ذلك، لكن قضية الدين في المقدمة، ولقد كثر القتل في المسلمين في هذه الأزمان، بسبب هذا المخطط الصليبي الحاقد.
فمرة : يعطون الضوء الأخضر لدولة تغزو جارتها، ومرة يتسببون في فتن بين جارتين فيقع بينهم حروب لسنوات، تستنزف فيها أموال، وتزهق أنفس، ومرة يكونون وراء حرب طائفية داخل الدولة الواحدة، ومرة يكون الطرف الآخر هم أنفسهم مباشرة كما حصل في البوسنة، ويخترعون لها أي سبب.
ما محصلة هذا كله: المحصلة كثرة القتل في المسلمين.(1/123)
الأمر الثاني : إن هذا القتل الذريع في المسلمين، والغالب أنهم أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم شعوب تلك الدولة أو رعايا الدولة الأخرى، أنهم والعلم عند الله تعالى أن هذا القتل لهم بدون سبب يخفف عنهم عذاب الآخرة، فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن صدقة بن المثنى قال: حدثنا رباح بن الحارث عن أبي بردة قال: بينا أنا واقف في السوق في إمارة زياد إذا ضربت بأحدى يدي على الأخرى تعجباً، فقال رجل من الأنصار قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما تعجب يا أبا بردة؟ قلت أعجب من قوم دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضهم قتل بعض، قال فلا تعجب فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أمتي أمة مرحومة، ليس عليها في الآخرة حساب ولا عذاب، إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن " [ السلسلة الصحيحة 2 / 684-686 ] ، وفي رواية أبي موسى في مسند الإمام أحمد بسند صحيح : " إن أمتي أمة مرحومة، ليس عليها في الآخرة عذاب، إنما عذابها في الدنيا: القتل والبلابل والزلازل " [ صحيح الجامع برقم 1734 ، والسلسلة الصحيحة برقم 959 ] .(1/124)
فظهر في هذه الآونة صدق هذه الأحاديث التي على كثرة القتل ، وخصوصاً في جانب المسلمين ، لأنه ليس لهم من ينصر قضاياهم إلا الله تعالى ، أما هم فقد خذلوا أنفسهم بابتعاد قلوبهم ، وشتات رأيهم ، وتباعد أقطارهم ، حتى أصبحوا فريسة سهلة في أيدي الأعداء من الأمريكان واليهود ، فما حصل في فلسطين إلا أكبر دليل على خبث نوايا القوم ، ولهو أعظم دليل على شتات أمر الأمة ، وتفرق كلمتها ، وانحطاط رأيها ، وذهاب هيبتها بين الأمم والشعوب ، وما حصل في العراق من قتل للأبرياء وانتهاب للخيرات ، وتحطيم للمقدرات ، وذهاب الأنفس البريئة ، ما الدافع لهذه الحرب ؟ وهل فعلاً تحقق ما كانت تدعيه أمريكا وبريطانيا من انقاذ شعب العراق من طاغيته ، وتغيير الحكم ، والقضاء على أسلحة الدمار الشامل ؟
إن الواقع بعد أن انتهت الحرب يدل على أن هناك أطماعاً دولية كانت ترسم لها تلك الدول ، وتخطط لتحقيق مآربها في ذلك ، وفعلاً تمت الخطة وإن كانت مكشوفة واضحة للبيان والعيان ، لكن تحقق لهم ما أرادوا من القضاء على دولة إسلامية عريقة ، لأنها تمثل عقبة في وجه العدو الصهيوني ، وتعيق تحركات الدول الكافرة إذا أرادت ان تتحرش بأي دولة عربية أو إسلامية أخرى ، كذلك لأن العراق تعتبر ثاني أكبر دولة في العالم من إنتاج البترول ، فأرادت تلك الدول تحقيق مقاصدها ، لكن لك تجد أسلحة دمار شاملاً ، ولم تقبض على صدام حسين طاغية العراق ، فماذا عساها كانت أسباب تلك الحرب ؟ والجواب القضاء على الإسلام .(1/125)
كذلك القتال الذي حصل ضد دولة مسلمة لا سلاح لها ، ولا قوة عندها ، لكن كان القتال بحجة القضاء على الإرهاب ، وأي إرهاب أعظم من الذي تنتهجه أمريكا ضد دول العالم أجمع ، فهي لا ترعى للإنسانية حقاً ، ولا تحترم قانوناً ، بل اخترقت جميع القوانين والأنظمة الدولية ، فكلما لاحت لها براقة فائدة في قتال دولة ما ، سارعت إلى ذلك بتذرع أي حجة حتى تدخل معها في قتال ، ويحتدم القتال في تلك الدولة ، حتى تتحقق مآربها الدنيئة ، ومطامعها الخسيسة .
ووالله لو اجتمعت كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لسُحقت الدولة الصليبية التي أعلن رئيسها أنه سيشن حرباً ضد الإسلام والمسلمين ، والعجيب أننا في غفلة وتباعد وخوف شديد ، ولا شك أن دولة واحدة من دول الإسلام قد لا تكون جديرة ومهيأة لخوض حرب مع دولة متقدمة تقنياً وعسكرياً كأمريكا ، لكن أقول : لو اجتمعت دول الإسلام ، ووقف جميع المسلمين يداً واحدة ، بمقدراتهم المالية والعسكرية والتكنولوجية والجسدية ، لرأت أمريكا شيئاً مذهلاً ، فلقد حصلت الانتصارات في بدر وحطين ، وفتحت فلسطين ، ومُزق الاتحاد السوفيتي ، ودخل الخوف والهلع قلوب اليهود وغيرهم اليوم ، بسبب تماسك بعض الجهات الإسلامية ، فبالله قل لي : كيف لو اتحدت أمة كاملة تربوا عن الألف وثلاثمائة مليون مسلم ، حتماً ستسحق العالم بأسره ، وستستولي عليه بأكمله .
فنسأل الله أن يحقق لمسلمين نصراً عزيزاً على أعدائهم ، وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم ، إنه سميع قريب مجيب .
الثالث والعشرون :
كثرة التجارة وفشوها بين الناس، حتى تشارك وتزاحم النساء فيها الرجال.(1/126)
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تشارك المرأة زوجها في التجارة)). وروى النسائي عن عمرو بن تغلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يفشو المال ويكثر، وتفشو التجارة)) وهذا أمر حاصل وظاهر لكل أحد، إن كثرة التجارة وانتشارها أمر لا بأس به، بل قد يكون مطلوباً، فهو يغني الإنسان عن سؤال الغير، لكن البأس، أن تؤدي التجارة ويؤدي هذا المال للإفتتان، ثم الطغيان، كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وكذلك المرأة، الأصل أنه لا بأس من مشاركتها في التجارة، والدخول فيها ، لكن البأس ما هو حاصل من واقعنا في هذا الزمان، التمرد، والاستغناء عن الزوج، بل والتسلط عليه، وصار المسكين موقفه ضعيفاً، فالمال بيدها، أضف إلى ذلك نقصان العقل والدين، فماذا تتوقع بعد ذلك، لا غرابة إذا سمعنا، بل أصبح هذا أمراً عادياً عند بعض الأسر، أن تسافر بعض النساء لوحدهن، ولا أتكلم هنا عن بعض الأسفار الداخلية، ولا عن ما ذكره الفقهاء في كتبهم من سفر المرأة مع مجموعة إلى الحج، بل أعني سفر عدد من النساء، وفي الغالب أخوات للسياحة والتنزه والإصطياف في الخارج، وهذا حاصل وواقع .. وصل قلة الحياء والإستهانة بأوامر الله وعدم الخجل حتى من الناس أن يقال ويعرف أن بنات فلان قضين شهراً من عطلة الصيف في أوربا، أو أمريكا، أو أحد بلدان الشام، بل وصار الناس يستقبلون مثل هذه الأخبار دون نكارة، ولا حرج، لو سألت وبحثت عن بعض أسباب ذلك، لوجدت أن وفرة المال، وكثرته في يد المرأة، قد يؤدي إلى مثل ذلك، بل وأشد من ذلك .. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخشى على هذه الأمة الفقر، إنما يخشى عليها أن تبسط عليها الدنيا، فيكثر المال، وتفشو التجارة، فيقع بين الناس التنافس، الذي يؤدي(1/127)
إلى الهلاك، ففي الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) رواه البخاري ومسلم .. وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ قال عبدالرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك: تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون)). فالمنافسة على الدنيا، تجر إلى ضعف الدين، وهلاك الأمة، وتفريق الكلمة، كما وقع في الماضي، وكما هو واقع الآن.
تجد أخوين، خرجا من بطن واحد، ومن صلب رجل واحد، يحصل بينهم مشاكل ومنازعات وخصومات، بل ويصل الأمر إلى المحاكم، من أجل خلاف على مزرعة، أو أرض، أو كانا شريكين في تجارة، والله المستعان.
وتصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فشو التجارة، أصبحت ترى مدينة صغيرة، كالتي نحن فيها الآن، كان سوقها قبيل سنوات محصور في شارع واحد، والآن أصبحت المدينة كلها سوق، وتحولت معظمها إلى مجمعات تجارية، أضعاف أضعاف حاجة البلد، والعجيب أن التجار يشتكون من كساد السوق، وفي المقابل هناك ازدياد متضاعف على فتح محلات أخرى وجديدة، بماذا نفسر هذا؟ إن تفسيره أنه أحد علامات الساعة.
الرابع والعشرون :
كثرة الزلازل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ ، وحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ " [ أخرجه البخاري ] .
ولقد تزلزلت الأرض بالمدينة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لأصحابه : " لئن عادت والله لا أساكنكم فيها أبداً " .(1/128)
فإذا كان ذلك في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، زمن الأمن والإيمان ، زمن التقوى والخوف من الله ، وهناك من يزجر الناس عن الحرام ، ويمنعهم من ارتكاب الآثام ، فكيف في زماننا هذا ، ألا يستحق الناس أن تتزلزل بهم الأرض كل يوم وليلة ، لما اقترفوه ويقترفونه من معاص وذنوب كبار ، وهذه سنة الله تعالى في خلقه ، فكلما عصى القوم ربهم سلط عليهم أموراً ينكرونها لتخوفهم حتى يعودوا إلى ربهم ، قال تعالى : " وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً " ، فكم هي الزلازل التي حصلت هنا في مدينة تبوك وما جاورها من محافظات ، بل وحتى في العديد من الدول الإسلامية ، حتى حدثت انزلاقات كبيرة في القشرة الأرضية ، وأُحدثت تشققات في الأرض يراها كل إنسان ، كل ذلك تخويف من الله تعالى لعباده حتى يراجعوا دينهم ، ويحذروا من عذابه وعقابه .
قال ابن حجر رحمه الله : " قد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثير من الزلازل ، ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها : شمولها ودوامها ، وقد وقع في حديث سلمة بن نفيل عند أحمد : " وبين يدي الساعة سنوات الزلازل " [ الفتح 17 / 109 ] .
فالمقصود من كثرة الزلازل ، تواليها واستمرارها في السنة الواحدة ، ونحن الآن على عتبة البداية ، فكل سنة تحصل زلازل منها المدمرة ، ومنها غير ذلك ، وآخر زلزال حصل الذي في الجزائر في شهر ربيع الأول لعام 1424هـ ، والذي راح ضحيته آلاف الأموات ، وعشرات الآلاف من المصابين ، وما هذا إلا دليل على قرب وقوع الساعة .(1/129)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوَالَةَ الْأَزْدِيُّ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي أَوْ قَالَ عَلَى هَامَتِي ثُمَّ قَالَ : " يَا ابْنَ حَوَالَةَ إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ " [ أخرجه أبو داود واحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 7715 ] .
الخامس والعشرون :
ظهور الخسف والمسخ والقذف ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَكُونُ فِي آخِرِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ " ، قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ إِذَا ظَهَرَ الْخُبْثُ " [ أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8012 ] ، وقد جاءت عدة أحاديث تدل على وقوع الخسف والمسخ والقذف في هذه الأمة ، لكن لا يكون ذلك إلا إذا ارتكبت الذنوب ، وقل من يعظ الناس ، أو سكت الجميع على فاعل المنكر ، ولم يُنكر عليه أحد ، عند ذاك فعلى الناس أن ينتظروا حدوث ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع تلك الفتن العظيمة التي تشيب لها رؤوس المواليد ، وتذهل منها المرضعات ، وتضع كل ذات حمل حملها ، لأن عذاب الله شديد .(1/130)
وقد وجد الخسف في مواضع في الشرق والغرب قبل عصرنا هذا ، ووقع في هذا الزمان كثير من الخسوفات في أماكن متفرقة من الأرض ، وهذا نذير بين يدي عذاب شديد ، وتخويف من الله لعباده ، وعقوبة لأهل البدع والمعاصي ، كي يعتبروا ويرجعوا إلى ربهم ، ويعلموا أن الساعة أزفت واقتربت وحان أوان العودة إلى الله تعالى ، فعلى الناس أن يأخذوا أهبة الاستعداد بالتوبة النصوح والإقبال إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ، وترك المنكرات والحذر من لقاء الله تعالى والإنسان مثقل بالذنوب والآثام .
وقد تنوعت أسباب وقوع الخسف والمسخ والقذف بتعدد أسباب المعاصي والذنوب والآثام ، فمنها :
أولاً / شرب الخمور وسماع الأغاني : فهي من أسباب وقوع تلك الفتن بالأمة ، فقد جاء الوعيد بمن شرب الخمر أو سمع المعازف والأغاني بالخسف والقذف والمسخ إلى قردة وخنازير والعياذ بالله ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ قَالَ إِذَا ظَهَرَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتِ الْخُمُورُ " [ أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4119 ] ، وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ " [ أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5330 ] .(1/131)
ثانياً / أهل القدر : وهم القدرية وهي فرقة ضلت عن سواء السبيل وظهرت في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم ، وأنكرها عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة والتابعين ، والأئمة المهديين إلى يومنا هذا ، لأنها فرقة كفرت بالله تعالى فطغت وغلت حتى خرجت من الملة والعياذ بالله ، قال الشافعي رحمه الله : " القدري : الذي يقول : إن الله لم يخلق الشر حتى عُمل به " ، وقال الإمام أحمد رحمه الله : " القدرية : هم الذين يزعمون أن الاستطاعة والمشيئة والقدرة إليهم ، وأنهم يملكون لأنفسهم الخير والشر ، والضر والنفع ، والطاعة المعصية ، والهدى والضلالة ، بدءاً من أنفسهم من غير أن يكون سبق لهم ذلك من الله أو في علم الله ، وقولهم يضارع قول المجوسية والنصرانية " [ اتحاف الجماعة 1 / 313 ] .
وعَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ مَا رَأْيُكَ فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ فَقُلْتُ رَأْيِي أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَذَلِكَ رَأْيِي قَالَ مَالِك وَذَلِكَ رَأْيِي " [ الموطأ ] .
فهي فرقة مارقة من الدين ، ولذلك استحقوا العقوبة من الله تعالى على أقوالهم تلك قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ فِي أُمَّتِي الشَّكُّ مِنْهُ خَسْفٌ أَوْ مَسْخٌ أَوْ قَذْفٌ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ " [ أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4150 ] ، وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي مَسْخٌ وَقَذْفٌ وَهُوَ فِي الزِّنْدِيقِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ " [ أخرجه أحمد ، وصححه أحمد شاكر في تحقيق المسند برقم 6208 ] .(1/132)
وقد اختلف العلماء في المسخ هل هو حقيقي أم معنوي ؟ على قولين :
القول الأول / أنه مسخ حقيقي : ورجح هذا القول ، ابن عباس ، وابن كثير ، وبن العربي ، وغيرهم من أئمة التفسير .
القول الثاني / أنه مسخ معنوي : وأن المسخ كان لقلوبهم ، ولم يمسخوا قردة .
ولعل القول الراجح في ذلك والله أعلم بالصواب : هو القول الأول ، لأن المسخ وقع حقيقة في بني إسرائيل وتشهد بذلك الأحاديث ، وأن المسخ لا يستمر أكثر من ثلاثة أيام ثم يموت ، قال ابن مسعود رضي الله عنه ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ ؟ فقال : " إن الله عز وجل لم يهلك قوماً ، أو يمسخ قوماً ، فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة " ، [ منة المنعم 3/314 ] ، وأصل حديث ابن مسعود في مسلم في باب القدر (16/431) .
الخسف بقبائل العرب :
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُخْسَفَ بِقَبَائِلَ فَيُقَالُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ " ، قَالَ : فَعَرَفْتُ حِينَ قَالَ قَبَائِلَ أَنَّهَا الْعَرَبُ لِأَنَّ الْعَجَمَ تُنْسَبُ إِلَى قُرَاهَا " [ أخرجه أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار ، وضعفه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند برقم 20340 ] .
وبما أن الحديث ضعيف فلا تقوم به حجة ، فليس ما ذُكر فيه صحيح .
الخسف بالبصرة :(1/133)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : " يَا أَنَسُ إِنَّ النَّاسَ يُمَصِّرُونَ أَمْصَارًا وَإِنَّ مِصْرًا مِنْهَا يُقَالُ لَهُ الْبَصْرَةُ أَوِ الْبُصَيْرَةُ فَإِنْ أَنْتَ مَرَرْتَ بِهَا أَوْ دَخَلْتَهَا فَإِيَّاكَ وَسِبَاخَهَا وَكِلَاءَهَا وَسُوقَهَا وَبَابَ أُمَرَائِهَا وَعَلَيْكَ بِضَوَاحِيهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ بِهَا خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَرَجْفٌ وَقَوْمٌ يَبِيتُونَ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ " [ أخرجه أبو داود والطبراني في الأوسط ] .
الخسف بالجيش الذي يغزو الكعبة :
عَنْ عَائِشَةُ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ " ، قَالَتْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] ، وسيحدث هذا الخسف لجيش في آخر الزمان في زمن المهدي ، وسيأتي الحديث عنه في أشراط الساعة الكبرى إن شاء الله تعالى .(1/134)
لكن الخسف الذي يحصل لبعض البعوث جاء مصرحاً به في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَنْتَهِي الْبُعُوثُ عَنْ غَزْوِ هَذَا الْبَيْتِ حَتَّى يُخْسَفَ بِجَيْشٍ مِنْهُمْ " [ أخرجه النسائي وغيره ] ، وعَنْ صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَنْتَهِي النَّاسُ عَنْ غَزْوِ هَذَا الْبَيْتِ حَتَّى يَغْزُوَهُ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَلَمْ يَنْجُ أَوْسَطُهُمْ " ، قَالَتْ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ الْمُكْرَهَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمْ " [ أخرجه أحمد وغيره ] .
فالبعوث ستتواصل لهدم البيت الحرام ، ولكن الله يحمي بيته ، ولقد تبجح أهل الكفر اليوم ، بأنهم سيقومون بهدم الكعبة المشرفة إذا تواصلت حملات العنف ضد الأعداء من قبل المسلمين ، وأنى لهم ذلك ، وأمة المليار مسلم على أهبة الاستعداد للدفاع عن بيت الله الحرام قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم ، ولهم في أبرهة مثالاً وقدوة يقتدون بها ، وعبرة يعتبرون بها .
ومن الآيات العظام التي يكون ظهورها آخر الزمان ثلاثة خسوفات ، وسيأتي ذكرها مستوفىً بإذن الله تعالى في أشراط الساعة الكبرى .
السادس والعشرون :(1/135)
ذهاب الصالحين، وقلة الأخيار، وكثرة الأشرار، حتى لا يبقى إلا شرار الناس، وهم الذين تقوم عليهم الساعة .. روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض – (شريطته أي أهل الخير والدين) – فيبقى فيها عجاجة – (وهم الأراذل الذين لا خير فيهم) – لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)). معنى الحديث أن الله يأخذ أهل الخير والدين، ويبقى غوغاء الناس وأراذلهم ومن لا خير فيهم، وتأمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربط القضية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وروى الإمام أحمد أيضاً بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يأتي على الناس زمان، يُغربلون فيه غربلةً، يبقى منهم حثالة – (والحثالة الردئ من كل شيء) – قد مرِجت – (أي اختلطت) – عهودهم وأماناتهم واختلفوا، فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)) .
متى يكون ذهاب الصالحين؟ ومتى يقل الأخيار ويكثر الفجار؟ يكون ذهاب الصالحين، عند كثرة المعاصي، وعند ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث)).
والخبث والله قد كثر، وطفح على السطح، ولم يعد الخبث مستوراً، بل أصبح ظاهراً ويعلن عنه، دخل الخبث معظم البيوت، أصبحت ترى الخبث في شوارع المسلمين وأسواقهم، بل لقد تخلل الخبث إلى سلوكيات الأمة وأخلاقها، كان في الماضي يستحي الناس من ظهور وبروز شيء من خبثهم وفجورهم ومعاصيهم، أما اليوم وصل الأمر إلى المجاهرة بالخبث.
أصبح الرجل الصالح الذي لا يريد أن يتلوث بخبث المجتمع غريباً، بل حتى عوام الناس صاروا يطلقون عليه بقولهم – فلان ملتزم – إذا كان هو ملتزماً فأنت ماذا تكون؟ هذا اعتراف منك بأنك غير ملتزم، أي غير ملتزم بأوامر الله، غير ملتزم بأحكام الشرع، وهذه هي الإنتكاسة أيها الأحبة.(1/136)
أرجع إلى الخبث، ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث)).
إن كثرة الخبث في المجتمع، سبب لذهاب النعم، وحلول النقم، الخبث سلاّب للنعم جلاّب للنقم، خبث الناس وفجورهم ومعاصيهم يسبب تسلط الخصوم، وتسيطر الأشرار والفجار، وارتفاع الأسعار، وشح الوظائف، وكثرة الجرائم وقلة الأمطار، وانتشار الأوبئة فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
ما نزل بالأمة من ذل وهوان وآلام، وعقوبات ومحن وفتن إلا بسبب كثرة الخبث وقلة الصالحين، فحرمت الأمة من خيرهم وبركتهم ودعوتهم، وما يصيب الأمة في واقعها ما هي إلا نذر لكي يعودوا ويرجعوا ويكفوا من نشر الخبث وتقليص تمدد الصالحين. وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقال جل شأنه: فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم . ولعلك تسألني وتقول ما هو الخبث؟ وماذا تعني بالخبث؟ فأقول لك إن الخبث صوره لا تعد ولا تحصى لكن خذ بعض النماذج:
إن من الخبث، إقامة الربا، وانتشار الفواحش، وكثرة الزنا ومن الخبث: إكرام الكفار والفجار، وإهانة الصالحين والأخيار، ونبذ أحكام شريعة الجبار، ومن الخبث: تضيع الصلوات ومنع الزكوات، واتباع الشهوات، وارتكاب المنكرات، ومعاداة أولياء من بيده الأرض والسماوات.
من الخبث: انتشار الغش والظلم، كثرة أكل الحرام، ارتفاع أصوات المعازف، تساهل الناس في سماع الغناء، عدم الإكتراث بمشاهدة التبرج والسفور.
من الخبث: فشو رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكع النساء في الأسواق، وكثرة مشاكل المغازلات والمعاكسات، هذه نماذج وغيرها أضعاف مضاعفة .. ولعله ثار في ذهنك، لماذا لم يذكر الخطيب خبث الإعلام وما يبثه من سموم، والخبث الموجود في التلفاز؟(1/137)
الجواب: فإن هذا لا يكفيه إشارة عابرة، وإنما يحتاج إلى كلام مفصل، وسيكون بإذن الله تعالى، خصوصاً الخبث الأكبر، وشيطان الخبائث، ما يسمونه: الدش.
والمشكلة أن الناس نيام، والمجتمع غافلٌ لاه، لا يعلم بأن الخبث، يهدم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، وينقص المال، وترتفع الأسعار، وتغلو المعيشة، وتحل الهزائم الحربية والمعنوية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون .
قال الله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون
السابع والعشرون :
ارتفاع الأسافل من الناس على خيارهم، واستئثارهم بالأمور دونهم، فيكون أمر الناس بيد سفهالهم وأراذلهم ومن لا خير فيهم، وهذا أيها الأحبة من انعكاس الحقائق وتغيّر الأحوال، وهذا أمر مشاهد جداً في هذا الزمان، فترى أن كثيراً من رؤوس الناس وأهل العقد والحل هم أقل الناس صلاحاً وعلماً، إلا من رحم الله مع أن الواجب أن يكون أهل الدين والتقى هم المقدمون على غيرهم في تولي أمور الناس، لأن أفضل الناس وأكرمهم هم أهل الدين والتقوى، قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يولي الولايات وأمر الناس إلا من هم أصلح الناس وأعلمهم، وكذلك خلفاؤه من بعده، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها ما رواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران: ((لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حَق أمين)) فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث أبا عبيدة.(1/138)
اسمع أخي المسلم إلى هذه الأحاديث في أن من أشراط الساعة إرتفاع أسافل الناس، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستأتي على الناس سنون خدّاعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)) وفي حديث جبريل الطويل قوله: ((ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس، فذاك من أشراطها)) رواه مسلم.
وفي الصحيح: ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((من أشراط الساعة، أن يعلو التحوت الوعول، قال: أكذلك يا عبدالله بن مسعود سمعته من حِبي؟ قال: نعم ورب الكعبة، قلنا وما التحوت؟ قال: سفول الرجال، وأهل البيوت الغامضة يرفعون فوق صالحيهم، والوعول: أهل البيوت الصالحة)) رواه الطبراني في الأوسط.
وفي الصحيحين، عن حذيفة رضي الله عنه، فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبض الأمانة، قال: ((حتى يقال للرجل: ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)).
وهذا هو الواقع بين المسلمين في هذا العصر، يقولون للرجل: ما أعقله، ما أحسن خلقه، ويصفونه بأبلغ الأوصاف الحسنة، ربما لم يوصف بها بعض الصحابة، وهو من أفسق الناس، وأقلهم ديناً وأمانة، بل قد يكون عدواً للإسلام والمسلمين، ويعمل على هدم الدين ليل نهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(1/139)
ولا داعي لكي تتيقن أن إرتفاع أسافل الناس على خيارهم، وتقلد الأمور دونهم، أن تنظر إلى بعيد، لو نظرت إلى أقرب المؤسسات حولك أو الشركات، أو المصالح والمكاتب، لرأيت أنه يتولى أمر هذه المصلحة، أو ذلك المكتب، أو ذلك القسم أو الإدارة، أقلهم علماً وخبرة بل وشهادة، وربما لا يحمل شهادة، ولا يفقه شيء في العمل، وإذا نظرت إلى خلقه وسلوكياته، لرأيته أفسق من في الإدارة، أو المؤسسة، وأنزلهم خلقاً ومعاملة، بل ربما لو فتشت في أوراقه وملفاته، لوجدت عليه قضايا وطامات، سرقات، اختلاسات، ناهيك عن القضايا الأخلاقية، وربما لم يسلم من جره للهيئة عدة مرات. فلو سألت، كيف تقلد هذا هذا المنصب، وكيف ارتفع هذا التحوت، لجاءك الجواب، بأنه هذا هو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون من أشراط الساعة .
الثامن والعشرون :
أن تكون التحية للمعرفة فقط ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ " [ أخرجه أحمد ، وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح ] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ وَتَفْشُو التِّجَارَةُ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ وَتُقْطَعُ الْأَرْحَامُ " [ أخرجه أحمد : وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح ، وقال الألباني : إسناده صحيح على شرط مسلم ، السلسلة الصحيحة رقم 647 ] .(1/140)
وقد ظهرت هذه العلامة في زماننا هذا ، فقليل من الناس من تمر به ويسلم عليك ، أو تلتقي به في مقر العمل ، أو في محل تجاري ، أو تجمع عام ويلقي عليك تحية الإسلام ، ولو بادرته أنت لرد من فوره : هل تعرفني ؟ سبحان الله ! السلام اسم من أسماء الله تعالى أمرنا بإفشائه بيننا ، لأن السلام يوحي بالأمان والمحبة والمودة بين الناس ، فمن سلم عليك أمنته ، ومن لم يسلم خونته ولم تأمنه ، فالسلام من صفات أهل الإيمان وسبب لدخول الجنان ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ، أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " [ أخرجه مسلم وغيره ] .
لقد أصبح الناس وكأنهم غرباء ، يمر هذا بجانب هذا ولا يُلقي له بالاً ، بل الجار بجانب جاره ، وداره تلتصق بداره ، ومع ذلك لو مات أحدهما لما عرف الآخر بما جرى له ، لأن التحية والمودة لم تعد كما ينبغي ، بل أصبحت التحية وإلقاء السلام للمعرفة فقط ، فمن تعرفه تُلقي عليه السلام ، ومن لك عنده مصلحة تربها ، أو حاجة تريدها تُلقي عليه السلام في الطالعة والنازلة ، وهذا لا يتوافق مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هذا خلاف السنة ، ومن شذ عن السنة وقع في المحذور ، والمصيبة أنك ترى بعض المتمسكين والملتزمين وقد اقتفوا أثر العامة من جهلاء القوم وهم لا يُسلمون ولا يردون السلام ، فوقعوا في أشد مما وقع فيه عامة الناس ، لأن إلقاء السلام سنة ، ورده واجب ، قال تعالى : " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيباً " [ النساء 86 ] .(1/141)
ومما هو تابع لموضوع السلام ، استبدال اللعن أو السباب بدل السلام ، عَنْ أنس عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَزَالُ الْأُمَّةُ عَلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا ثَلَاثٌ : مَا لَمْ يُقْبَضِ الْعِلْمُ مِنْهُمْ ، وَيَكْثُرْ فِيهِمْ وَلَدُ الْحِنْثِ ـ ولد المعصية وهم أولاد الزنا ـ ، وَيَظْهَرْ فِيهِمُ الصَّقَّارُونَ ؟ " قَالَ : وَمَا الصَّقَّارُونَ أَوِ الصَّقْلَاوُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " بَشَرٌ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَحِيَّتُهُمْ بَيْنَهُمُ التَّلَاعُنُ " [ أخرجه أحمد وغيره ] .
فمعنى الحديث قد ظهر في هذه الأزمنة ، فهناك البعض من الناس وخصوصاً طبقة الشباب هداهم الله ، إذا تقابلوا كانت تحيتهم غير تحية الإسلام ، بل استبدلوها بتحية أهل الكفر والفساد ، فيتلاعنون ، ويطلقون الكفر فيما بينهم ، ويتسابون عند اللقاء ، وقد يرمي بعضهم بعضاً باليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من كلمات الفجور ، والألفاظ القبيحة ، وهذه العلامة واقعة اليوم لا يكاد ينكرها أحد من العباد ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
التاسع والعشرون :
ظهور الكاسيات العاريات ، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على سرج كأشباه الرحال ينزلون على أبواب المساجد ، نساؤهم كاسيات عاريات رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف ، العنوهن فإنهن ملعونات) [رواه أحمد ، وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح] ومعنى كاسيات عاريات أي : كاسية جسدها ولكنها تشد خمارها وتضيق ثيابها حتى تظهر تفاصيل جسمها ، أو تكشف بعض جسدها ، وهذا حادث .(1/142)
والمراد بهذا خروج النساء عن الآداب الشرعية، وذلك بلبس الثياب التي لا تستر عوراتهن، وإظهارهن للزينة وما يجب عليهن ستره، من أبدانهن. روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون في آخر أمتي رجالٌ يركبون سروج كأشباه الرجال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهم كأسنمة البخت العجاف، إلعنوهن فإنهن ملعونات)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من أشراط الساعة، أن تظهر ثيابٌ يلبسها نساءٌ كاسيات عاريات).
إن هذه الأحاديث وأمثالها يعد من معجزات النبوة، فإنه لم ير عليه الصلاة والسلام ما أخبر به، ولكنه وقع كما أخبر، وذكر بأن هذا من أشراط وعلامات الساعة: من ذلك ظهور الكاسيات العاريات.
تخرج النساء كما نشاهد في عصرنا هذا، يلبسن ثياب، لكنه لا يستر، الستر مطلوب شرعاً، فتكون المرأة كأنها عارية، إما لرِقة هذه الثياب وشفافيتها، وإما لقصره بحيث أنها لا تؤدي وظيفة الستر المطلوبة، وإما لأنها ثياب ضيقة، تُظهر تفاصيل جسمها، فتبرز صدرها، وعجيزتها، فتكون كأنها عارية، وكل هذا واقع ومشاهد.
إن المجتمع قفز قفزات سريعة في وقت قصير من الزمن، وصار هناك تحول ملحوظ في ملابس النساء عندنا، وشياطين مصممي الأزياء عرفوا من أين تؤكل الكتف.(1/143)
إن الحديث عن الملاحظات الشرعية على ما تلبسه نساءنا، حديث قد يطول، وليس هذا مجال تفصيله، ولكن سأنبه إلى ظاهرتين، انتشرتا انتشاراً سريعاً وملحوظاً في الآونة الأخيرة، وكلا الظاهرتين، أفتى عدد من علمائنا بحرمتها فعليك أيها الأب أو الزوج، أو ولي الأمر، بعد هذا أن تتبع ما أقوله في أهل بيتك، فإن كان حاصلاً يكون المنع والتنبيه لكي لا تقع أنت أيضاً في الإثم، وتشارك في المحرم لرضاك بهذا، بل ربما يكون الإثم الأعظم عليك لأنك ولي الأمر وبإمكانك المنع، أما المرأة، فهي ناقصة عقل ودين.
الظاهرة الأولى: وضع العباءة على الكتف. وتظن المرأة أنها قد سترت نفسها بهذه الطريقة، وهي قد سترت بعض الستر، لكن ليس هذا ما أمرها الله به، إن العباءة إذا وضعت على الكتف، وقعت المرأة أولاً في محذور التشبه بالرجال، لأن وضع العباءة على الكتف من خصائص الرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، وتقع أيضاً في المحذور الثاني وهو إبراز الجسد وهيئته وحجمه، وهو حرام أيضاً ولا يجوز، فعلى المرأة، أن تضع عباءتها على رأسها، لينزل إلى قدميها وتكون بذلك قد سترت نفسها كما أمر الله.(1/144)
الظاهرة الثانية: لبس النساء للبنطال. وهذه الظاهرة انتشرت في مجتمعنا مؤخراً انتشار النار في الهشيم، وهي ظاهرة غربية جاءتنا من ديار الكفر، لا تتناسب مع عاداتنا ولا أعرافنا، ولا يناسب هذا مجتمعنا، كيف رضيت به المرأة؟ لا أدري. بل كيف رضي الأب أن تخرج بناته وهن لابسات للبنطال، وكيف رضي الزوج أن تخرج زوجته؟ لا أدري؟ حجتهم أنها ساترة لنفسها بالعباءة، وهذه حجة ضعيفة، فالعباءة قد يحركها الهواء، وكثرة الحركة، وقد تقع المرأة، أقول وإن لم يحصل هذا فإن ظهورها أمام النساء بهذا الشكل فيه محذور شرعي، وهي تجسيد عورتها وإبرازه، فتكون من النساء الكاسيات العاريات اللاتي لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها. فلبسه حرام ولا يجوز، فتنبه أيها الأب، وأنت أيها الزوج.
الثلاثون :
صدق رؤيا المؤمن. فكلما اقترب الزمان، وكلما قربت الساعة كثرت هذه العلامة، وهي أن المؤمن يرى الرؤية في المنام، فتقع الرؤيا في الواقع كما رآها، وكلما كان المرء صادقاً في إيمانه، كانت رؤياه صادقة، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا، أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزء من النبوة)).
لعلك تسأل: ما الحكمة أنه كلما اقترب الزمان صدقت رؤيا المؤمن؟ ولماذا كانت من علامات الساعة صدق رؤيا المؤمن؟(1/145)
الجواب والعلم عند الله تعالى: أنه كلما اقترب الزمان، زادت غربة الإسلام كما في حديث مسلم – ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)) – إذا زادت غربة الإسلام، قبض أكثر العلم، ودرست معالم الشريعة، وازداد الفتن، وأصبح الناس على مثل الفترة، ويقل عندها أنيس المؤمن ومعينه، فالناس عندها يكونون محتاجون إلى مجدد، ومذكر، لما دَرَس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، لكن لما كان نبينا آخر الأنبياء وتعذّرت النبوة في هذه الأمة، فإنهم يعوضون بالرؤيا الصادقة، التي هي جزء من خمس وأربعين جزء من النبوة.
وإذا ازدادت غربة الإسلام، وذلك بقلة عدد الأخيار الصالحين، وكثرة عدد الفسقة الموجودين، وأصبح الغلبة لملة الكفر، وأصبحت الترأس لأهل الجهل والفسق، وعندها يشعر المؤمن فعلاً بالغربة، فيقل المعين، وينعدم الأنيس، ويزداد الوحشة، ويأخذ أمر الدين بالاضمحلال، عندها، تأتي هذه العلامة رحمة من الله تعالى، وأنساً للمؤمن، وإكراماً له، وتسلية لقلبه، فتكون رؤياه صادقة، نسأل الله جل وتعالى الإعانة.
الواحد والثلاثون :(1/146)
ظهور القلم ، والمراد بظهور القلم : انتشار الكتابة وفشوها ، ولقد تبنت وزارة التربية والتعليم بالمملكة برنامجاً يدعو إلى نشر التعليم في أرجاء البلاد ، وسمته " أمة بلا أمية " ، وفعلاً تم القضاء على كثير من الأميين ، وتعلموا الكتابة والقراءة ، وقد جاوزوا الخمسين من أعمارهم ، وكذلك دأبت قبلنا دول العالم للقضاء على الأمية ، فهذه علامة من علامات الساعة تحققت ولا شك فيها ، قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ " [ أخرجه أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر برقم 3870 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن من أشراط الساعة : أن يكثر التجار ، ويظهر القلم " [ أخرجه أبو داود الطيالسي والنسائي ، وصحح إسناده الشيخ / حمود التويجري في اتحاف الجماعة 2 / 109 ] ، وقد ظهرت وسائل العلم في هذا الزمان ظهوراً باهراً ، فانتشرت دور الطباعة ، وآلات التصوير والتجليد ، ووسائل الطباعة ، فانتشرت الكتب ، وزادت رقعة العلم في كل مكان ، وكل ذلك كما قلت بسبب وسائل انتشار العلم من مطابع وغيرها ، وكثرة أهل الخير الذين يمدون تلك الدور بالأموال من أجل خدمة كتاب الله تعالى ، وخدمة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى أصبح الكُتاب في كل مكان ، فكل يدلو بدلوه ، ويعرض بضاعته ، ما بين مزجاة ، وجيدة ، ومقلدة وجديدة ، وركيكة وقوية ، وهكذا أصبح هناك كم هائل من الكتاب ، وأصبحت الكتب في متناول أيدي الجميع .(1/147)
ولكن ومع كثر تلك الكتب العلمية ، إلا أن هناك كثرة كاثرة من الناس تركتها واتجهت نحو المجلات والصحف ( الجرائد ) ، والكتب القصصية الغير نافعة ، وكذلك الكتب التافهة ، والتي تهتم بقضاياً سخيفة بعيدة عن الدين ، أما العلم الشرعي الذي به قوام الحياة ، فقلما تجد بيتاً يهتم به مع كثر ظهور المتعلمين ، وقد أشار إلى ذلك الضحاك رحمه الله بقوله : " يأتي على الناس زمان ، تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف عليه الغبار لا يُنظر فيه " [ والأثر فيه ضعيف ، وقيل أن مثله لا يُقال بالرأي ، بل هو في حكم المرفوع ] لكن عموماً معناه حقيقي حي يراه كل أحد ، فكم من الناس الذين لا يعرفون القرآن إلا في رمضان ، وكم من الناس الذين لا يعرفون القرآن إلا في المناسبات كالتعازي والأحزان ، ومن الناس والعياذ بالله من لا يعرف القرآن أبداً ، فقد هجروا كتاب الله تعالى ، ومعلوم أنه لم يُنزل القرآن إلا ليُقرأ ، ولتُستنبط منه الأحكام ، قال تعالى : " وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً " [ الفرقان 30 ] ، فقد كثرت الصحف والمجلات في زماننا هذا ، وكثرت وسائل الإعلام المختلفة من إذاعات وتلفزيونات وقنوات فضائية وإنترنت وافتتن بها كثير من الناس ، فأصبحوا يأخذون العلم عن طريقها وتركوا طريق الحق الطريق الصحيح الذي يُخذ منه العلم ألا وهو العلماء وكتب أهل العلم قديماً وحديثاً ، فأعرض أغلب الناس اليوم عن كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأدبروا عن مجالسة العلماء وأئمة الهدى ، فلم ينتفعوا بعلم العلماء الأجلاء ، وظهر فيهم الجهل ، وقل فيهم العلم النافع ، فلم تغن عنهم كثرة الكتب شيئاً ، وكم أثرت وسائل الإعلام اليوم على المسلمين سلباً ، فقد تقمصوا عادات الغرب والشرق ، وارتضعوا تعاليمه ، واشرأبت نفوسهم ذلك ، حتى خرج لدينا جيل لا يعرف صلاة ولا براً ولا زكاة ولا طاعة ولا معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، بل إذا رأيتهم(1/148)
حسبتهم يهود أو نصارى ، فكلامهم مثلهم ، وأشكالهم تحاكيهم ، ولبسهم كأنهم هم ، فانحرفوا عن المروءات ، وتركوا الشيم العربية والأخلاق الفاضلة ، وتخلقوا بأخلاق العجم الإفرنج أعداء الله تعالى ، واتبعوا سننهم حذو القذة بالقذة ، فتشبهوا بأعداء الملة والدين ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
الثاني والثلاثون :
انتفاخ الأهلة ، وهو أن يرى الهلال لليلة واحدة فيقال لليلتين ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة " [ أخرجه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 5774 ] ، وهذا الحديث واضح اليوم ، فكم يختلف الناس في دخول الشهر وخروجه ، وكم هو اليوم ؟ وذلك لانتفاخ الهلال ، حتى يُرى وكأنه لليلتين .
الثالث والثلاثون :(1/149)
كثرة الكذب، وعدم التثبت في نقل الأخبار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ " [ أخرجه مسلم ] . وفي رواية : " يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ لَا يُضِلُّونَكُمْ وَلَا يَفْتِنُونَكُمْ " ، ولا نكون مبالغين أيها الأحبة، إذا قلنا بأن الكذب أصبح من سمات هذا العصر، صار الكذب على جميع المستويات، الخاصة والعامة، الرسمية وغير الرسمية، الصغير والكبير، أصبح الناس لا يثقون بشيء خذ بعض الأمثلة في صحافتهم لعلمهم بأنه قد دخله عنصر الكذب، لمصلحة فلان أو فلان، ومع كل أسف إن شعوب العالم الإسلامي صارت تثق وتأخذ أخبارها من الغرب الكافر، ولا تثق بإعلامها من أجل دقة الأخبار والتثبت والمصداقية عندهم، وأصبح الناس لا يثقون بتصريحات مدرائهم، حتى على مستوى العمل والوظيفة، لدخول عنصر الكذب والنفاق فيه ، فعلى المستوى العالمي نجد أن حرب الخليج الثالثة أثبتت مصداقية الحديث ، وأن الكذب قد فشى في هذه الأمة ، فكم هي التصريحات الكاذبة التي صدرت من المتحدثين الرسميين ، وكل يُكذب الآخر ، وكل يُنفي مقالة العدو وحتى الصديق ، فأصبحت الحرب لا مصادقية أبداً ، وكذلك التصريحات في الصحف المحلية وغير المحلية ، وعبر الشاشات فهي تكاد تخلو تماماً من الصدق ، والكذب واضح يدركه ويعرفه كل أحد ، فأصبح الكذب فعلاً سمة يُعرف بها هذا العصر .
والأخطر من هذا كله إذا دخل عنصر الكذب في البيت، كأن يصدر من أب ويعرف الابن، أو يدخل المدرسة، فيصدر من مدرس ويكتشف الطالب، عندها قل على التربية السلام.(1/150)
ومما يؤسف له، أنك أصبحت تشم رائحة الكذب على بعض الفئات العاملة للإسلام، ويُدخل تحت باب التورية، من أجل مصلحة الدعوة، وهو في الحقيقة كذب.
إنك تستطيع أن تتعامل في دائرة السوق، أو في دائرة العمل، أو غيرهما من قطاعات الحياة، تستطيع أن تتعامل مع فاسق، أو مع شارب خمر، أو مع آكل ربا، لكنك لا تستطيع أن تتعامل مع كذّاب ، لأن الكذاب قد يوقعك في الهلاك والدمار وأنت تُحسن الظن به .
واسمعوا لهذا الحديث ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبَدَةَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود : " إِنَّ الشَّيْطَانَ لِيَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ فَيَأْتِي الْقَوْمَ فَيُحَدِّثُهُمْ بِالْحَدِيثِ مِنَ الْكَذِبِ فَيَتَفَرَّقُونَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ سَمِعْتُ رَجُلًا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَلَا أَدْرِي مَا اسْمُهُ يُحَدِّثُ " [ أخرجه مسلم ] ، ولقد أصبح الكذب اليوم فاكهة المجالس ، فكل يأتي بفكاهة ملفقة يكذب بها على الناس من أجل أن يضحكهم ، وهذا الفعل محرم شرعاً ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عن أَبِيه عَنْ جدهِ قَالَ : قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ " [ أخرجه الترمذي وأبو داود وغيرهم وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 7136 ] ، فهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم لمن يكذب ويختلق النوادر والفكاهات من أجل أن يُضحك الناس بها ، فالمزاح لا يكون إلا حقاً كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يمزح لكن لا يقول إلا حقاً ، ولا يؤذي قلباً ، ولا يُفْرِطُ فيه ، أما اليوم فالناس يمزحون بالكذب ، وبما يؤذي قلوب الحاضرين ، بحيث يستلم الجلوس أحدهم ويبدؤون بالمزاح عليه وتلفيق الفكاهات الكاذبة أو حتى الصادقة ، فهذا لا يجوز ، لا يجوز أن تؤذي أخوك المسلم بمثل تلك التفاهات ، فيمتلأ قلبه حقداً(1/151)
وغيظاً عليك ، فالكذب من الصفات الذميمة ، صفات أهل النفاق ، والتي توعد الله عليها بالنار والويل يوم القيامة ، لأن الإنسان إذا اعتاد قول الكذب استمرأه فأصبح سمة يُعرف بها والعياذ بالله ، وإنه لمن المؤسف أن ترى بعض الشباب المتمسك بدينه وعقيدته ، وتراه يكذب في الصغيرة والكبيرة ، يكذب في الحاجة وغير الحاجة ، بل أصبح بعضهم يكذب في يومه وليلته ولا تثق بكلمة واحدة يقولها ، فهو يستخدم المعاريض في كل شؤون حياته ، وهذا لا شك انه على خطر عظيم ، فالمعاريض أبيحت للحاجة والضرورة التي لا بد منها ، أما أن تُتخذ ديناً يُعبَدُ الله بها ، فهذا لم يقله أحد من الناس على الإطلاق ، واسمعوا لهذا الحديث الصحيح الذي يذم الكذب وأهله ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعود رَضِي اللَّه عَنْه : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا ، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا " [ متفق عليه ] .
لكن من حدث بحديث صدق ليضحك الناس فلا بأس ، بشرط أن لا يتخذ ذلك حرفة يتكسب من ورائها ، أو يكون هكذا حاله طول يومه وليلته ، فهذا خطأ فادح ، وفي الدين قادح ، لأن المؤمن صادق دائماً ، قوي أبداً ، نقي قلباً ، طاهر ظاهراً وباطناً ، يجعل مخافة الله بين عينيه ، فلا يعتمد على الكذب والمزاح وإن كان حقاً وصدقاً ، المؤمن يترك المباح خوفاً من الوقوع في المكروه والحرام ، حياته جد لا هزل .(1/152)
فأصبح الكثير من الناس اليوم لا يتورع من قول الكذب ، أو نقل الأخبار الكاذبة ، فكم نسمع من الأحاديث الغريبة في هذا الزمان ، ونقل الأقوال بدون تثبت من صحتها ، وفي هذا إضلال للناس عن الحقيقة ، وفتنة لهم .
وأعظم الكذب الكذب على الله ورسوله ، قال تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " [ النحل 116 ] ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تَسَمَّوْا بِاسْمِي ، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي ، وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] ، ولفظ مسلم : عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " .
المقصود أن الكذب وانتشاره وشيوعه بين الناس من علامات الساعة ، وقد وجدت هذه العلامة بكثرة اليوم ، فنسأل الله السلامة والعافية .[ شرح الطيبي 10 / 3122 ، مرقاة المفاتيح 9 / 71 ] .
الرابع والثلاثون :
كثرة شهادة الزور ، وكتمان شهادة الحق ، قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ وَظُهُورَ الْقَلَمِ " [ أخرجه أحمد ، وقال أحمد شاكر : صحيح ] .(1/153)
والزور : هو الكذب ، والباطل ، والتهمة . فشاهد الزور : هو الشاهد بالكذب . [ المطلع على أبواب المقنع 411 ] .
قال تعالى : " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " [ الحج 30 ] ، ففي هذه الآية الكريمة قرن الله تعالى شهادة الزور بعبادة الأوثان والشرك بالله تعالى ، وهذا دليل على التحذير من شهادة الزور أو العمل بها ، فهي من كبائر الذنوب والمعاصي التي عُصي الله بها ، عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَبَائِرِ ؟ قَالَ : " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ " [ أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ] .
ولقد امتدح الله عباده الذين هم عباد الرحمن بأنهم لا يشهدون الزور ، قال تعالى : " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً " [ الفرقان 72 ] ، عباد الرحمن لا يشهدون الزور وهو الباطل والكذب ، ولا يحضرون مجالسه ، ولا يقولونه ، ولا يشهدونه ، ولا ينطقون به ، وإذا مروا باللغو وهو كل قول وعمل لا خير فيه ، مروا مكرمين أنفسهم من التلوث به ، بالوقوع فيه . [ أيسر التفاسير 3 / 633 ] .(1/154)
فقول الزور وشهادته من أعظم الكبائر ، ومن أرجس المنكرات ، فكم من حقوق ضاعت ، وسُلب أهلها ، وكم من باطل تحول إلى طيب ، وكم من حرام تُبدل إلى حلال بسبب شهادة الزور ، والكذب في الحلف ، ولقد توعد الله أهل ذلك بعقوبة قاسية ، وعذاب أليم ، قال تعالى : " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم " [ البقرة 283 ] ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " ، قَالَ عَبْدُاللَّهِ : ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ : " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ . . . الْآيَةَ " [ أخرجه البخاري ] ، وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ " [ أخرجه مسلم ] ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ " [ أخرجه مسلم ] ، فشهادة الزور سبب للحرمان من دخول الجنان ، وطريق لدخول النيران ، فمن شهد شهادة زور طوقه الله يوم القيامة بما شهد به زوراً وكذباً ، وأنى(1/155)
لبشر أن يحمل في عنقه دجاجة حتى يحمل بعيراً أو بقرة أو سيارة أو أرضاً أو بيتاً يبقى معلقاً في عنقه أمام الخلائق حتى يُعرف أنه شهد بذلك الأمر زوراً وكذباً ، وع كل تلك التحذيرات في الكتاب والسنة ، إلا أننا نلاحظ وبشكل ملموس تفشي شهادة الزور في المجتمعات اليوم دون خوف من الله تعالى ، وقد يكون لها دوافع :
فقد يكون الدافع لشهادة الزور الانتقام من المشهود عليه .
وقد يكون الدافع نفع المشهود له .
وقد يكون الدافع النفع المادي من وراء الشهادة زوراً وكذباً .
وكم من الناس من لا يتورع عن شهادة الزور ، فتراه سباقاً إليها ، مقداماً عليها ، ولقد شاهدنا الكثير منهم على أبواب المحاكم كل يريد أن يتكسب بلسانه كذباً وزوراً على عباد الله تعالى ، لغرض دنيوي دنيء ، يأكل به حفنة من وسخ الدنيا الفانية ، ثم ما يلبث أن يلقى الله تعالى بجرمه وكبيرته والعياذ بالله ، فكم جرت شهادة الزور من ضياع حق ، واغتصاب ملك ، وإزهاق نفس ، فيجب على العبد المسلم المؤمن بلقاء ربه ، الموقن بتحريم الزور شهادة وقولاً وحضوراً ، أن يحذر من تلك الشهادة الآثمة ، وأن يقول الحق ولو على نفسه أو قريبه ، ولو كان أقرب قريب ، فالله يحب الحق ويأمر به ولا يستحيي من قوله ، قال تعالى : " والله لا يستحيي من الحق " [ الأحزاب 53 ] ، وألا تأخذه في قول الحق لومة لائم ، وعموماً فشهادة الزور دليل على ضعف الإيمان ، وقلة المروءة ، وسوء الخلق ، ودليل على قرب وقوع الساعة .
الخامس والثلاثون :
كثرة النساء ، عن أنس رضي الله عنه قال لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحدٌ بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيّم الواحدُ " .(1/156)
إن الله جل وعلا يقدّر في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث، ويقدر سبحانه وتعالى أيضاً حصول الفتن، التي تكون سبباً في القتال، فيذهب بسببه كثير من الرجال قتلى، وتبقى النساء، وهذا كما هو معروف شأن الحروب والمعارك .
والعدد المذكور في الحديث وهو الخمسين ، قد يكون حقيقة ، وقد يكون مجازاً ، والذي يؤيد كونه مجازاً ما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه كما في صحيح مسلم : " ويُرى الرجل يتبعه أربعون امرأة يَلُذْن به " .(1/157)
مجتمعنا الذي نعيش فيه، مع أنه ولله الحمد لم يُبتلَ بالحروب والمعارك، ومع ذلك فإن ظاهرة العنوسة ظاهرة واضحة في كثير من البيوتات والأسر، بنات جاوزن سن الزواج ولم يجد المولي لهن زوجاً يناسبها، وبهذا تظهر حكمة التشريع الإسلامي الذي يحث على التعدد، فالشريعة الإسلامية أباحت للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة حفظاً للمجتمع، وقضاءً على هذه الظاهرة، وإلا فمن لهؤلاء العوانس، غداً يموت أبوها وتموت أمها، وتبقى ذليلة عند أخ لا يحترمها، أو ولي لا يقدّر قدرها. فكونها تحصل على نصف رجل، أو ثلث رجل، خيراً لها أن تعيش طول عمرها بلا رجل، فربما رزقها الله أولاداً تأنس بهم، ويكون لها بيتاً تستقر فيه ، ولو كان ذلك مع نصف رجل، فهو خير لها أن تعيش طول حياتها لوحدها، وقبل هذا كله، وقبل ذكر هذه المحاسن في التعدد، يكفي أنه تشريع من الله، والله جل وعز هو الذي خلقنا، وهو سبحانه يعلم ما يُصلح أحوالنا وما يفسدها، فلا يحرم الله شيئاً إلا وفيه مضرة، ولا يبيح شيئاً إلا وفيه المنفعة، لكن المشكلة، هذه القناعات عند الناس اليوم، بأن الزواج الثاني يجلب المشاكل، وأن التعدد ظلم للمرأة، ولو بحثنا من أين جاءت هذه الآراء، وكيف صار الناس يعتقدون ويظنون هذا الظن، لوجدت أن الناس أقنعهم بذلك الإعلام، هذه الأفلام التي تعرض على الناس، وهذه المسلسلات التي يشاهدها الناس، تعرض الزواج الثاني بأنه يفرق الأولاد ويظلم المرأة ويجلب المشاكل، مسلسل بعد آخر، وفيلم بعد آخر، يتأثر الناس وتتغير قناعتهم، ولو بحثت خلف الستار، من هم القائمون على هذه الأفلام ومن المنتجون لهذه المسلسلات، هل هم أناس مخلصون، همهم حماية الشعوب المسلمة، ونشر الفضيلة، أم أن القائمين عليها مجرمون، بل ولهم علاقات مشبوهة بمنظمات سرية، ولقد كشف الزمان أوراق عدد من كبار الممثلين – زعموا – ومن أبطال الشاشة، ومن ممثلات قديرات، كما يعبرون، اتضح أنهم أعضاء في منظمات ماسونية،(1/158)
يعملون ليل نهار ويخططون لهدم الدين، فيصورون أحكام الشرع وأوامر الله أنها ظلم ومشاكل، ومع الأسف، نحن مغفلون نصدق ونتأثر بكل ما يبث وينشر.
فهل نرتقي بعقولنا قليلاً .. وهل من تأمل وتبصر.
نغيّر قناعتنا حول أحكام شرعها الله جل جلاله بسبب فيلم أو مسلسل، ونقتنع بأن التعدد خطأ، ثم بعدها لتنتشر الرذيلة والفاحشة في البلد بسبب كثرة العوانس، والمطلقات، ومن مات أزواجهن.
ونحن اليوم نشاهد كثرة النساء وقلة الرجال ، فأكثر المواليد بنات ، وأكثر الحوادث يذهب ضحيتها شباب ورجال ، فلا بد أن نعلم أن شرع الله فوق كل شيء ، والعجيب أن الناس ينظرون إلى الزواج بالثانية من منظار الزوجة الأولى ، وأنها مظلومة ، وقد خانها الزوج وما إلى ذلك من الخرافات والخزعبلات ، ولماذا لا ينظرون من زاوية الزوجة الثانية ، وأن هذه فرصتها فلو ضاعت فقد لا تتكرر ، ولها أيضاً حق في أن يكون لها زوج وأطفال ، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فلقد تزوج بأحد عشرة امرأة من غير السراري ، فما دام أن هناك عدل من الزوج فلا مانع من الزواج بأربع أو أقل ، المهم أن يكون هناك عدل ، أما ما يُعرض عبر الشاشات وما تبثه بعض الصحف من إنكار لأمر وأصل بينه الله في كتابه ، فيجب أن لا يُرغى لها سمعاً ، ولا يرضى بها عاقلاً ، فهي أقلام مدسوسة ، تدس السم في الدسم ، يريدون بها المكيدة من الإسلام وأهله ، وأن يقل النسل فينقضوا على المسلمين انقضاضة رجل واحد ، فهم يخافون الكثرة ، والتعدد في الزواج ، فعلينا أن نرغم تلك الأنوف ، ونلصقها بالتراب ، وأن نصم الآذان ، عن تلك الترهات والأحلام ، فكم أزكمت الأنوف تلك الكتابات برائحتها الملوثة والموبوءة .(1/159)
وفي الحديث : يكون لخمسين امرأة قيم واحد : يعني والله أعلم ، أن القائم على الخمسين امرأة رجل واحد لقلة الرجال ، فهو الذي يرعاهن وينفق عليهن ، وقيل : أن المراد بذلك ، أن ذلك الأمر يكو في آخر الزمان ، حيث لا يبقى أحد على الأرض يقول : الله الله ، فعند ذلك يموت العلم ، ويقتل الدين في النفوس ، فلا يعرف الناس معروفاً ، ولا ينكرون منكراً ، عند ذاك قد يتزوج الواحد بغير عدد أي أكثر مما حدده الشرع ، فيتجاوز الأربع ، جهلاً بالحكم الشرعي ، وكما قال الحافظ بن حجر رحمه الله : وقد وجد من بعض أمراء التركمان وغيرهم من فعل ذلك مع دعواه الإسلام [ الفتح 1 / 236 ] .
السادس والثلاثون :
كثرة موت الفجأة ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أمارات الساعة . . . أن يظهر موت الفجأة " [ أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم ] .(1/160)
وقد كثر في زماننا هذا موت الفجأة ، وهو ما يسمى بالسكتة القلبية ، فكم من رجل جالس مع أهله يحادثهم ويضحك معهم ، وفجأة وإذا به يميل فيفقد وعيه ثم يفقد حياته ، فيموت في لحظات ، وكذلك السيارات ، كثر بسبب التهور في قيادتها موت الفجأة ، فيذهب أحدهم لشراء أو نزهة أو سفر فلا يعود إلى أهله ، بل يعود خبره ، وأنه قد مات وأفضى لما قدَّم ، فهذه علامة من علامات الساعة قد تحققت بلا شك ولا ريب ، فعلى المرء العاقل أن يستغل أوقاته في طاعة الله تعالى ، ويحذر من المعصية ، فالحياة أيام وشهور وسنوات ثم يعود الخلق للبارئ جل وعلا ، ولو أدرك العبد أن خُلق لعبادة الله ، لما غفل عن الموت لحظة ، ولكان شغله الشاغل طاعة الله تعالى في سره وعلنه ، لكن لما لم يدخل الإيمان قلوب الكثيرين التهوا بالملهيات ، وانجرفوا وراء تيار المغريات ، والله تعالى يقول لهم : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " [ الذاريات 56 ] ، فعلى المسلم أن يستغل أوقات حياته في هذه الدنيا في طاعة ربه ومولاه ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ : الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ " [ أخرجه البخاري ] .(1/161)
وكم هي أوقات الناس اليوم التي تذهب سدى ، وتضيع هباءً منثوراً ، فيقضونها في اللعب ، ومشاهدة المباريات والصراخ والغضب على كومة من الجلد ، وكم هي الأوقات التي تُهدر في سبيل مشاهدة مسلسل أو حفلة غنائية تميت القلوب ، وتدفن الحسنات وتزيد السيئات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فأوقات المسلمين اليوم أصبحت فراغاً تُملأ بلا شيء ، فلا علماً شرعياً يتعلمونه ، ولا درساً يحضرونه ، ولا قرآناً يحفظونه ، ولا سنة يتبعونها ، فما هذه الحياة ؟ للموت أعظم منها فضلاً ، وأكثر خيراً ، فمن كانت تلك حياته كثرت سيئاته ، ولقي الله بطوفان من الذنوب تنوء بحملها الجبال الراسيات .
يقول البخاري رحمه الله :
اغتنم في الفراغ فضل ركوع
فعسى أن يكون موتك بغته
كم من صحيح رأيت من غير سُقم
ذهبت نفسه الصحيحة فلته .
السابع والثلاثون :
وقوع التناكر بين الناس ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ : " عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ " ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهَا : إِنَّ بَيْنَ يَدَيْهَا فِتْنَةً وَهَرْجًا " قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : الْفِتْنَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا ، فَالْهَرْجُ مَا هُوَ ؟ قَالَ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ : " الْقَتْلُ ، وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدًا " [ أخرجه أحمد وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ] .(1/162)
فالحديث يصدق الواقع اليوم من التناكر بين الناس ، بين البيت الواحد ، وبين الجار وجاره ، فحصلت القطيعة والفرقة ، كل ذلك بسبب أطماع دنيوية ، ووقع التناكر يحصل عند كثرة الفتن والمحن ، وكثرة القتال بين الناس ، وحينما تستولي المادة على الناس ، ويعمل كل منهم لحظوظ نفسه ، غير مكترث بمصالح الآخرين ، ولا بحقوقهم ، فتنتشر الأنانية البغيضة ، ويعيش الإنسان في بوتقة الأهواء والشهوات ، وتحقيق الرغبات ، فلا تكون هناك قيم أخلاقية ، وليس هناك أخوة إيمانية ، فلا حب في الله ، ولا تعاون على البر والتقوى ، بل يصبح الناس وكأنهم في غاب يأكل فيها القوي الضعيف ، ويريد كل أن يستأثر بالخير لنفسه ، دون أحد سواه ، وقد جاء عن المصطفي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس من الإيمان في شيء ، فمن أحب نفسه ، ورضي لها ما لم يرض لغيرها فهو ناقص الإيمان ، عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " [ متفق عليه ] ، فأين تحقيق هذا الحديث اليوم ، وعندما تشاهد أحوال الناس في هذا الزمان لتجد عجباً وغرابة في تطبيق الكتاب والسنة ، فقد هجروا كتاب الله ، ورغبوا عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فوقع التناكر والاختلاف بين القلوب ، وحصل الصراع واحتدم النزاع بين الناس من أجل الدنيا ودرجاتها ومناصبها ، وتركوا النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، قال تعالى : " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلاً " [ النساء 77 ] .(1/163)
ولو أدرك الناس معنى تلك الآية وآيات أخرى كثيرة لما رغب أحد في دنيا زائلة ، واشترى بها حياة باقية ، ولكن لما ذُهلت النفوس في خضم الماديات وحب الشكليات ، والتنازع من أجل المراكز ، والتصارع بسبب المراتب ، ابتعد الناس عن دين الله أفواجاً ، فكانت النتيجة الحتمية التي تصب في قالب التناكر والتنافر بين القلوب والأجساد .
وظهر في هذا الزمان مصداقية الحديث حيث حصل التناكر بين الناس في البيت الواحد ، وفي الحي الواحد ، وفي العمل ، فكم هي الخصومات بين الزملاء في مقر عملهم ، وكذلك الأصدقاء في أماكن تواجدهم ، لقد تناكرت القلوب ، واختلفت الأفئدة ، وحصلت النزاعات بين الناس لأتفه الأسباب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذا دليل على قرب وقوع الساعة .
الثامن والثلاثون :
التماس العلم عند الأصاغر ،
التاسع والثلاثون :
كثرة المطر وقلة النبات ، عن أنس رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُمْطَرَ النَّاسُ مَطَرًا عَامًّا وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا " [ أخرجه أحمد ، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند 21 / 438 ] .(1/164)
المعروف أنه إذا كان هناك مطر ، فلا شك أن الأرض ستُنبت الزرع ، ولكن في آخر الزمان ، يكثر المطر ، ولا تنبت الأرض شيئاً ، فالله تعالى يُوجد ما يمنع خروج النبات من الأرض ، فهو سبحانه القادر على كل شيء ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، ونحن اليوم في زمن توقف فيه هطول المطر ، وأمسكت السماء نزول الغيث ، حتى اجدبت الأرض ، لكثرة المعاصي ومجاهرة الناس بها عياناً بياناً جهاراً نهاراً ، فعاقبهم الله بإمساك رحمته ، ولكن نشاهد اليوم هطول زخات بسيطة من المطر على الصحاري والتلال لتسقي الزرع والبهائم ، فلا ذنب لها في آثار ذنوب بني آدم ، ولولا البهائم لم يُمطر الناس ، وخصوصاً في هذا الزمان الذي لم يكترث فيه أغلب الناس باقتراف الكبائر والآثام العظام ، ثم يريدون المطر والرحمة من الله تعالى ، إنه تناقض عجيب ، فالمعصية سبب لقلة الرزق ، وسبب لظهور العذاب وتفشي الفتن ، ولن ترتفع إلا بالتوبة النصوح والإقبال على الله عز وجل ، والتضرع إليه ، وترك المنكرات ، والحذر من الذنوب فلها آثار سيئة بالشعوب .
فالله عز وجل لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، فكما يُعصى ، فهو يمنع ، وقد تظهر الأمطار ولكن لا بركة فيها ، جزاءً وفاقاً ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَتِ السَّنَةُ ـ القحط والجدب ـ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا " [ أخرجه مسلم ] .
الأربعون :(1/165)
حسر الفرات عن جبل من ذهب ، روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن ( 8 / 100 ) باب خروج النار ، و مسلم في كتاب الفتن ( برقم 2894 ) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة حتى يُحْسَر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ، فيقول كل رجل منهم : لعلي أكون أنا أنجو " ، و في رواية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً " ، ورواه أيضاً أبو داود ، والترمذي و عن عبد الله بن الحارث بن نوفل رضي الله عنه قال : كنت واقفاً مع أبي بن كعب ، فقال : لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا ؟ قلت : أجل ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يوشك الفرات أن ينحسر عن جبل من ذهب ، فإذا سمع به الناس ساروا إليه ، فيقول من عنده : لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله ، قال : فيقتتلون عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون " [ أخرجه مسلم ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتكم عن جزيرة من ذهب ، فيقتتلون عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، فالحديث يدل على دلالات كثيرة منها :
أولاً : تعريف نهر الفرات : هو بالضم ثم التخفيف ، و آخره تاء مثناة من فوق ، والفرات في أصل كلام العرب أعذب المياه ، و مخرج الفرات فيما زعموا من أرمينية ثم من قاليقلا قرب خلاط و يدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم إلى ملطية ، ويصب فيها أنهاراً صغار ، ثم يمر بالرَّقَّة ثم يصير أنهاراً لتسقي زروع السواد بالعراق ، و يلتقي بدجلة قرب واسط ، فيصيران نهراً واحداً عظيماً يصب في بحر الهند . [ معجم البلدان 4 / 241 ، 242 ] .(1/166)
وقد ذُكر الفرات في السنة في أكثر من حديث لما له من فضائل ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ : نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ : النِّيلُ وَالْفُرَاتُ ، وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ ، فَأُتِيتُ بِثَلَاثَةِ أَقْدَاحٍ قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ ، فَقِيلَ لِي : أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ ، كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ " [ أخرجه مسلم ] .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " يا أهل الكوفة إن نهركم هذا يصب إليه ميزابان من الجنة " ، وقال عبد الملك بن عمير : " إن الفرات من أنهار الجنة ، ولولا ما يخالطه من الأذى ما تداوى به مريض إلا أبرأه الله تعالى ، وأن عليه ملكاً يذود عنه الأدواء " ، وقال جعفر بن محمد الصادق : " نهر ما أعظم بركته ، ولو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا على حافتيه القباب ، ولولا ما يدخله من الخطائين ، ما اغتمس فيه ذو عاهة إلا برئ " [ معجم البلدان 4 / 242 ] ، كل تلك الأحاديث الآثار تدل على فضيلة نهر الفرات ، وأنه من أنهار الجنة ، وسينحسر يوماً من الأيام عن جبل من ذهب ، وسيقتتل الناس عليه ، فمن حضره فيحرم عليه أن يأخذ منه شيئاً .
ثانياً : الكلام على المعنى الإجمالي للحديث :(1/167)
يقول الإمام النووي رحمه الله - في معنى انحسار الفرات : ومعنى انحساره ، انكشافه لذهاب مائه ، وقد يكون بسبب تحول مجراه ، فإن هذا الكنز أو هذا الجبل مطمور بالتراب ، و هو غير معروف ، فإذا ما تحول مجرى النهر لسبب من الأسباب ، و مر قريباً من هذا الجبل كشفه ، و الله أعلم بالصواب . أهـ . شرح صحيح مسلم ( 18 / 98 ) .
يقول الحافظ ابن حجر عن سبب تسميته بالكنز : باعتبار حاله قبل أن ينكشف ، وعن سبب تسميته بجبل من ذهب للإشارة إلى كثرته . [ الفتح 13 / 101 ] .
أما معنى أن يقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون و لا ينجو إلا واحد ، الظاهر من معنى هذا الحديث أن القتال يقع بين المسلمين أنفسهم ، لأن قتال المسلمين مع أعدائهم من يهود ونصارى وغيرهم يسمى ملاحم .
ثالثاً : بيان زمن حدوث ذلك :
وقد اختلف الأئمة في تحديد زمن حدوث ذلك ، فذهب الإمام البخاري إلى أنه يقع مع خروج النار ، و يظهر ذلك من صنيعه أي من صنيع الإمام البخاري - ، إذ أدخل حديث حسر الفرات تحت باب خروج النار ، و أورد حديث أبي هريرة و حارثة بن وهب و لفظ حديث حارثة هو : تصدقوا ، فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته ، فيقول الذي يأتيه بها : لو جئت بها بالأمس ؛ لقبلتها فأما الآن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها عقب الباب المذكور مباشرة تحت باب لم يترجم له بشيء ، مما يدل على أنه متعلق به ، فهو كالفصل منه ، و من ثم يؤخذ السبب في عدم قبول الناس ما يعرض عليهم من الأموال ، و كذلك سبب النهي عن أخذ شيء مما يحسر عنه الفرات ، و هو انشغالهم بأمر الحشر ، بحيث لا يلتفت أحد منهم إلى المال بل يقصد أن يتخفف منه ما استطاع . [ الفتح 13 / 101 وما بعدها ] .(1/168)
وذهب الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان إلى أنه يقع في زمن عيسى بن مريم عليهما السلام ، فإنه ذكر حديث حسر الفرات ثم قال : فيشبه أن يكون هذا الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال يفيض فيه فلا يقبله أحد ، و ذلك في زمان عيسى عليه السلام ، و لعل سبب هذا الفيض العظيم ذلك الجبل مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين ، والله أعلم . المنهاج ( 1 / 430 ) .
وذكر القرطبي نفس كلام الحليمي و أقره على ذلك ، أنظر التذكرة ( ص 750 ) .
وهناك حديث يؤيد هذا القول ، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً ، و فيه : " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً .. .. إلى أن قال : و يفيض المال حتى لا يقبله أحد " .
أما ابن حجر فإنه لم يحدد لحديث حسر الفرات عن جبل من ذهب زمن معين ، لكنه ذكر ما ذهب إليه البخاري من أنه يقع عند الحشر ، و ذلك أثناء تعرضه لبيان الحكمة التي لأجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأخذ منه ، و قد عد ذلك أي حسر الفرات عن جبل من ذهب صاحب الإشاعة ، من الأمارات التي تدل على قرب خروج المهدي . الإشاعة ( ص 91 ) ، و الذي دفعه إلى القول بذلك ما رواه ابن ماجة من حديث ثوبان مرفوعاً : " يقتتل عند كنزكم ثلاثة ، كلهم ابن خليفة . ثم ذكر الحديث في المهدي ، فإن كان المراد بالكنز الذي في حديث أبي هريرة ، دل على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي قبل نزول عيسى و خروج النار ، و لكن ليس هناك ما يعين ذلك . [ الفتح 13 / 101 ] .
و يبدو والله أعلم أن الأنسب حمل هذه الأحاديث على محمل واحد و هو أن ذلك يقع قبل أشراط الساعة الكبرى .
رابعاً : سبب النهي عن أخذ شيء منه :
أما الحكمة التي لأجلها ورد النهي عن الأخذ من ذلك الجبل الذي يحسر عنه الفرات ، فقد ذكر العلماء في بيان الحكمة من ذلك عدة أسباب :-(1/169)
1- أن النهي لتقارب الأمر و ظهور أشراطه ، فإن الركون إلى الدنيا والاستكثار منها مع ذلك جهل واغترار .
2- أن النهي عن أخذه لما ينشا عنه من الفتنة والاقتتال عليه .
3- لأنه لا يجري به مجرى المعدن ، فإذا أخذه أحدهم ثم لم يجد من يخرج حق الله إليه لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه ، فكان الانقباض عنه أولى . ذكره الحليمي احتمالاً في المنهاج ( 1/ 430 )
4- إنما نهى عن الأخذ منه أنه للمسلمين فلا يؤخذ إلا بحقه ، ذكره ابن التين ، وقال كما حكى عنه الحافظ ابن حجر : و من أخذه و كثر المال ندم لأخذه ما لا ينفعه ، و إذا ظهر جبل من ذهب ، كَسَدَ الذهب ، و يبدو أن الإمام البخاري ذهب إلى اختيار القول الأول ، إذ أورد هذا الحديث تحت باب خروج النار مما يوحي بأنه يرى أن النهي عن الأخذ ورد لأنه عند الحشر و مع خروج النار ، وهو وقت انشغال الناس بأمر الحشر ، فإذا أخذ منه أحد لا يستفيد منه سوى الندم .
و ذهب القرطبي إلى اختيار القول الثاني ، و قال : و هو الذي يدل عليه الحديث . التذكرة ( ص 750 ) . كذلك ذهب إلى اختياره الحافظ ابن حجر واستدل بحديث أبي بن كعب مرفوعاً : يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب ... ، و ذكر الحديث . و بهذا الحديث أبطل ما ذهب إليه ابن التين ، و قال : إنما يتم ما زعم من الكساد لو اقتسمه الناس بينهم بالتسوية و وسعهم كلهم ، فاستغنوا أجمعين ، فحينئذ تبطل الرغبة فيه ، و أما إذا حواه قوم دون قوم ، فحال من لم يحصل له منه شيء باق على حاله ، و عَقّبَ على القول بأن النهي ورد لكونه يقع مع خروج النار ، فقال : ولا مانع أن يكون عند خروج النار للحشر ، لكن ليس ذلك السبب في النهي عن الأخذ منه والله أعلم . [ الفتح 13 / 101 ] .
خامساً : شبهة والرد عليها :
وذهب بعض المتأخرين ، في حسر الفرات عن جبل من ذهب ، إلى أن معناه حسره عن الذهب البترولي الأسود .(1/170)
والجواب : ليس المقصود بهذا الجبل من ذهب هو النفط أو البترول الأسود ، و ذلك من وجوه :-
1- أن النص جاء فيه جبل من ذهب نصاً لا يحتمل التأويل ، والبترول ليس بذهب على الحقيقة فإن الذهب هو المعدن المعروف
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ماء النهر ينحسر عن جبل من ذهب ، فيراه الناس ، والنفط أو البترول يستخرج من باطن الأرض بالآلات من مسافات بعيدة .
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الفرات بهذا دون غيره من البحار والأنهار ، والنفط نراه يستخرج من البحار كما يستخرج من الأرض ، و في أماكن كثيرة متعددة من العالم .
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس سيقتتلون عند هذا الكنز ، و لم يحصل أنهم اقتتلوا عند خروج النفط من الفرات أو غيره ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى من حضر هذا الكنز أن يأخذ منه شيئاً ؛ كما هي الرواية الأخرى عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، ومن حمله على النفط ، فإنه يلزمه على قوله هذا النهي عن الأخذ من النفط ، ولم يقل به أحد . [ أنظر : إتحاف الجماعة 2 / 185، 186 ، فقد ذكر الشيخ حمود التويجري وجوهاً كثيرة للرد على هذه الشبهة ] .
وسبب انحسار نهر الفرات عن الذهب ، أنه قد يتحول مجراه ، ويكون جبل الذهب المذكور مطمور بالتراب ، وغير معروف مكانه ، فإذا تحول مجرى الماء ظهر الجبل ، فيكشفه الله تعالى ، لكن على كل من حضره أن لا يأخذ منه شيئاً تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك خشية الفتنة وسفك الدماء ، وإن كانت هذه العلامة لم تظهر بعد [ شرح النووي على مسلم ] .
لكن بوادرها تدل على ذلك فلقد كشفت صور الأقمار الصناعية عن وجود ذرات من الذهب مختلطة بتراب هذا الجبل ، وعموماً صحت تلك الأخبار أم لا فلا نستبق الأحداث ، فهي علامة من علامات الساعة أخبر بها الصادق محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا ريب أنها كائنة وحادثة وواقعة ولا شك .
الواحد والأربعون :(1/171)
كلام السباع والجمادات الإنس ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا ، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ قَالَ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ ، تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ ، فَقَالَ : يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ ؟ فَقَالَ الذِّئْبُ : أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ ، يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ . قَالَ : فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ لِلرَّاعِي : " أَخْبِرْهُمْ " ، فَأَخْبَرَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ " [ أخرجه أحمد بسند صحيح ، السلسلة الصحيحة حديث رقم 122 ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : " بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً ، إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا ، فَقَالَتْ : إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا ، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ ؟ فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ : بَقَرَةٌ تتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ :(1/172)
فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ ، وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ يا هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي ، فَقَالَ النَّاسُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ ، قَالَ : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ " [ متفق عليه ] .
ففي الحديثين معجزة عظيمة ، وخبر غيبي يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن الحيوانات وأجزاء الجسد ، والجمادات ستكلم الإنسان ، وتخبره بما حدث في غيابه ، وبما فعل أهله من بعده ، فتكليم السباع حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الحديثين السابقين ، وقد يتكرر ثانية ، أما باقي العلامات ، فإنها لم تظهر بعد ، ولكنها واقعة ولا بد ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء .(1/173)
وقد ثبت في كتاب الله تعالى ، أن جميع أعضاء الجسم ستشهد على الإنسان يوم القيامة بما أحدث ، وبما فعل في هذه الدنيا ، فهي شهادات من نفسه ، تشهد عليه يوم القيامة ، قال تعالى : " ويوم يُحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون " [ فصلت 19-22 ] ، وقال تعالى : " يوم تشهد عليهم أسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " [ النور 24 ] ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ ؟ قَالَ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ، يَقُولُ : يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ ؟ قَالَ يَقُولُ : بَلَى ، قَالَ فَيَقُولُ : فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي ، قَالَ فَيَقُولُ : كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا ، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا ، قَالَ : فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ انْطِقِي ، قَالَ : فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ ، قَالَ : ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ ، قَالَ فَيَقُولُ : بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا ، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ " [ أخرجه مسلم ] ، الحاصل أن كلام الأعضاء والجمادات والحيوانات حاصل ، وهذه معجزة تدل على قدرة الخالق جل جلاله الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ، فسبحانه من خالق عظيم .
الثاني والأربعون :(1/174)
تمني الموت من شدة البلاء ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أيضاً قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ ، فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ ، وَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ " [ أخرجه مسلم ] .(1/175)
فالحديث يدل على أن الرجل ليتمنى الموت ، وأن يكون مكان صاحب القبر لما يلاقيه من شدة العناء والبلاء ، وليس من التدين والتقرب إلى الله تعالى ، أو حباً في لقائه ، وإنما بسبب البلاء وكثرة الفتن والمصائب التي تصيبه ، وكما هو معلوم أنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى الموت من أجل مصيبة حطة به ، أو فتنة أصابته ، بل يكون تمني الموت خوفاً على دينه ، خصوصاً في زمان يفسد فيه الناس ، ويقل وازعهم الديني ، فيبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا ، فعند ذاك يجوز للمسلم الفار بدينه أن يقول كما جاء في حديث ، أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا ، فَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي " [ متفق عليه ] ، فتمني الموت من أجل حوادث الدهر ، ونوائب الزمان لا يجوز ، لكن إذا كان خوفاً على الدين ، وان يضل صاحبه لكثرة المنكرات ، وفساد الأقوام ، وضعف الدين ، فيجوز حينئذٍ ، ويدل على ذلك حديث ، مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : احْتُبِسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ ، فَخَرَجَ سَرِيعًا ، فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ فَقَالَ لَنَا : " عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ " ، ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا ثُمَّ قَالَ : " أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الْغَدَاةَ ، أَنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي ،(1/176)
فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ : قُلْتُ لَبَّيْكَ رَبِّ ، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ لَا أَدْرِي رَبِّ قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ وَعَرَفْتُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَبِّ قَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى قُلْتُ فِي الْكَفَّارَاتِ قَالَ مَا هُنَّ قُلْتُ مَشْيُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي الْمَكْرُوهَاتِ قَالَ ثُمَّ فِيمَ قُلْتُ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ قَالَ سَلْ قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا " [ أخرجه الترمذي وأحمد ، وهو حديث صحيح ] . فالشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ " .
قال ابن عبد البر رحمه الله : " ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت ، وليس كذلك ، وإنما في هذا أن هذا القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه ، لا لضرر ينزل بالجسم " [ ذكره عنه الحافظ بن حجر في الفتح 13 / 94 ] .(1/177)
وقال النووي رحمه الله : " لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف ، منهم : عمر بن الخطاب ، وعيسى الغفاري ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم " [ الفتح 13 / 94 ] .
وتمني الموت يكون عند كثرة الفتن وتغيّر الأحوال وتبديل أحكام الشريعة والتي يخف منها المرء على دينه أن يذهب ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: سيأتي عليكم زمان لو وَجَد أحدكم الموت يُباع لاشتراه. وكما قيل:
وهذا العيش مالا خير فيه ... ألا موتٌ يباع فأشتريه
والأمر كما قال الحافظ العراقي رحمه الله: إن هذه الحالة، لا يلزم كونه في كل بلد ولا في كل زمن، ولا في جميع الناس، بل يصدق اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان.
فنحن ولله الحمد نعيش في عافية وأمن وارف ، وخير وسعة رزق ، أسأل الله جل وعز، أن نبقى في عافية، وأن يجنبنا الفتن، وإلا فالأيام حبلى، فإن هذا العصر الذي نحن فيه الآن، في الوقت الذي نعيش فيه نحن بأمان، فإن غيرنا من المسلمين، وفي بلاد كثيرة، يمرون بأحوال، فعلاً يتمنى الواحد منهم الموت من شدة البلاء.
لقد مرت أيام وما تزال تصلنا أخبار إخواننا المسلمين في فلسطين وأفغانستان ، ومسلمي العراق من الأكراد وغيرهم ، وناهيك عن مسلمي البوسنة والهرسك أو الشيشان أو غيرها ، أو ما يحصل للمسلمين في الفلبين ، وفي أندونيسيا وفي إفريقيا وغيرها من بقاع الأرض ، فلقد مرت أحوال على ضعاف المسلمين هناك يتمنى الواحد أن يكون في بطن الأرض، ولا يرى أو يعيش ما يحصل له على ظهرها .(1/178)
فتخيل أنهم دخلوا عليك في بيتك وأنت جالس أو نائم مع أهلك وأولادك ثم أمسكوا بأبيك الشيخ الكبير، وذبحوه أمامك ذبح الشاة، وأمسكوا بأمك العجوز وبقروا بطنها وأنت تنظر، ثم انتزعوا منك زوجتك، وانتهكوا عرضها، أمام عينيك، أما أولادك الصغار، فيأخذ الواحد تلو الآخر، ويغمس في بركة حتى يموت غرقاً وأنت تشاهد، أليس الموت خير لك من هذا، ألا تتمنى الموت قبل أن تعيش هذه الحالة، حتى لا تفتن في دينك ، أسأل الله تعالى أن لا نرى مثل هذه الأحوال.
إذن فاعلم يا أخي، بأن لك إخواناً مستضعفين في بلدان كثيرة في العالم الإسلامي وغيره، يعيشون في مثل هذه الحالات وأشد، وتمر بهم أحوال أصعب من هذا، مذابح وحشية ، ويمارس مع المسلمين، القتل بأقسى صوره وأشكاله .. تأتي أخبار من طاجاكستان وغيرها أنه يؤتى بأعداد من المسلمين، ثم يؤخذ الواحد تلو الآخر، ويمرر على منشار كهربائي، تخيل ينتظر دوره في الطابور، وهو يرى أمام عينيه القتل بهذه الصورة، يقطع بالمنشار.
ويؤخذ الأطفال والأولاد، ويوضعون في أنابيب، ثم يغلق طرفي الأنبوب لساعات حتى يموت الطفل .. ألا يكفي في قتل هؤلاء أن يقتلوا مباشرة بالرصاص، أو بالقنابل والرشاشات إبادة جماعية . بلى والله يكفي .(1/179)
لكن هؤلاء النصارى يتلذذون في قتل المسلمين بأبشع الصور. وما ذكرت فقط نماذج سريعة، وإلا ما يُرى ويُسمع أشد من هذا. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ونحن هنا منشغلون في متابعة الدوري، وجولات المصارعة الحرة، ورجالنا ولا أقول الشباب أو النساء، بل الرجال ما يزال أحدهم يغني ويرقص وكأن الأمر لا يعنيه. هل تظنون أن الله لا يسألنا، ولا يحاسبنا عن هذا التقصير والإهمال تجاه المسلمين، أم أن الله لا يحاسبنا عن حياة الغفلة واللهو والعبث التي نعيشها، والله الذي لا إله إلا هو سيسأل كل واحد منا، بنفسه عن واقعه، وعن أحوال أمته، فماذا أنت مجيب؟ وقد نعاقب نحن عقوبة دنيوية عاجلة، ونبتلى بمثل ما ابتُلي به غيرنا نتيجة تقصيرنا وغفلتنا عنهم، والحال كما تعرفون من أنفسكم، والله لا نحسن حتى الهرب، لا نعرف كيف نهرب، كما حصل في أزمة الخليج قبل سنوات، فضلاً عن المواجهة والبذل والصبر.
والله جل وتعالى لا يحابي أحدا، لأنك من قبيلة كذا، أو لأن نسبك إلى فلان أو فلان. المخالفة الربانية، وعصيان أمر الله، يوجب العقوبة، إما في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة.
فلنتقي الله أيها المسلمون، ولننتبه، كفانا غفلة وكفانا عدم مبالاة، فالأمر جد خطير، ولنبدأ ببعض الخطوات العملية، وكل بإمكانه أن يقدم لأمته .. خذ هذا المثال، لماذا لا تقتطع شيئاً يسيراً من مرتبك ودخلك تجعلها لله، لنكبات المسلمين هنا أو هناك، وهكذا لو تحركنا بمثل هذه المشاريع البسيطة السهلة، والتي لا تكلفنا كثيراً، لقدمنا كثيراً لأمتنا، وهذه فقط فكرة خطرت بالبال، وأنا متأكد بأن العقلاء والأذكياء أمثالكم، لو فكروا، لخرجوا بعشرات الأفكار المناسبة ، فلا تبخلوا على أمتكم وإخوانكم بمثل هذه الأفكار التي تدعم المسلمين في كل مكان ، فالمسلم أخو المسلم .
الثالث والأربعون :(1/180)
كثرة الروم وقتالهم للمسلمين ، فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعدد ستاً بين يدي الساعة ، فذكر منها : ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً " [ أخرجه البخاري ] .
وجاء في وصف هذا القتال أنه عظيم شديد عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ : إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا : وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ ، فَقَالَ : عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، قُلْتُ : الرُّومَ تَعْنِي ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ ، رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ ، فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ ، فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً ، إِمَّا قَالَ : لَا يُرَى مِثْلُهَا ، وَإِمَّا قَالَ : لَمْ يُرَ مِثْلُهَا ، حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ(1/181)
فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا ، فَيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ كَانُوا مِائَةً ، فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ ، أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ : إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ " [ أخرجه مسلم ] . وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعدد ستاً بين يدي الساعة – فذكر منها – ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر – وبنو الأصفر هم الروم النصارى – فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية – أي راية – تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً " .(1/182)
وهذا يعني بأن عدد النصارى في هذه المعركة يقارب المليون لأنهم سيأتون تحت 80 راية وتحت كل راية اثنا عشر ألفاً ، وبالحساب 960000 ألفاً ، وهذا القتال يقع في الشام في آخر الزمان، قبل ظهور الدجال، كما دلت على ذلك الأحاديث ويكون انتصار المسلمين على الروم تهيئة لفتح القسطنطينية، والتي هي فتحها أيضاً من أشراط الساعة .. فعن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظت منه أربع كلمات أعدُّهن في يدي، قال: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله، قال: فقال نافع: يا جابر لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم)) [ أخرجه مسلم ] .
وجاء تحديد أرض المعركة مع النصارى أنها في الشام في حديث أبي الدرداء في سنن أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة في أرض بالغوطة في مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام)).
قال ابن المنيّر رحمه الله – وهو الحافظ زين الدين عبداللطيف من أعيان القرن التاسع الهجري – قال: أما قصة الروم – يقصد المعركة الكبرى بين المسلمين والنصارى – فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر في هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دّل على أن العاقبة للمؤمنين، مع كثرة ذلك الجيش، وفيه بشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه.(1/183)
إن صراع المسلمين مع النصارى صراع قديم بدأ هذا الصراع مع غزوة مؤته، وكان هذا أول التقاء للمسلمين مع النصرانية، في جماد الأولى سنة ثمان من الهجرة، وانتهت المعركة الذي كان عدد المسلمين فيه ثلاثة آلاف وعدد النصارى مائة ألف، انتهت بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة، لكن قذف الله الرعب في قلوب النصارى، وبدأ الخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب وقبل هذه الغزوة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام، فكان من جملة ما بعث رسالة إلى قيصر ملك الروم – وهم النصارى في ذلك الوقت ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)).
إن هذا الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم للنصارى يمثل الإعلان الدائم والمستمر على أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى، لأن الشرط الذي في هذا الكتاب هو قبول الإسلام، والخروج من النصرانية، بل والتخلي عن الزعامة، ونحن نشاهد أن زعامة العالم اليوم في أيديهم، أما نحن المسلمون فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب، والسعي لتنفيذه وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.
فينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون هو ديمومة الصراع مع النصارى، وإنه سيستمر إلى نهاية العالم، وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بطريق غير مباشر حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، والأصرح منه قول الله تبارك وتعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون .(1/184)
إذن صراع الإسلام مع النصرانية، سيستمر إلى قيام الساعة، وهو فتنة ابتلى الله بها المسلمون، وهذا قدرهم وما عليهم إلا الصبر و حتمية المواجهة، وسيكون هذا الصراع بين مد وجزر، تنتهي بالمعركة الفاصلة، وبالملحمة الكبرى التي يحشد لها النصارى قرابة مليون شخص تنتهي بالهزيمة النهائية حيث لا يقف الجيش الإسلامي إلا بعد أن يفتح روما ، العاصمة الروحية للنصرانية، وعند هذا الفتح تنتهي معركة الروم، ويتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتم فتح الروم، ويتبع ذلك مباشرة المعارك مع الدجال الذي ينتهي الأمر بقتله، وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها ويقرب العالم من نهايته، ويتحقق وعد الله بتبديل الأرض غير الأرض، ويعود الخلق جميعهم إلى موجدهم لنبدأ بعد ذلك الحياة السرمدية الأخروية.
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنِ الْهُدْنَةِ قَالَ : قَالَ جُبَيْرٌ : انْطَلِقْ بِنَا إِلَى ذِي مِخْبَرٍ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَيْنَاهُ ، فَسَأَلَهُ جُبَيْرٌ عَنِ الْهُدْنَةِ ؟ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا ، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ، ثُمَّ تَرْجِعُونَ حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ ، فَيَقُولُ : غَلَبَ الصَّلِيبُ ؟ فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ " ، وفي لفظ وَزَادَ فِيهِ : " وَيَثُورُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى أَسْلِحَتِهِمْ فَيَقْتَتِلُونَ فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ بِالشَّهَادَةِ " [ أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ] .(1/185)
في هذا الحديث العظيم يتضح بعض الحقائق، التي تبين مستقبل الصراع مع النصارى:
الأول: أن هذه الهيمنة من قبل النصارى اليوم على العالم ستزول، وأن هذه القوة المادية وهذه التقنية لن تستمر حتى نهاية العالم. قال الله تعالى: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون . إذن فهذه العقلية التي يعيشها الغرب اليوم، ويرون أنهم قادرون على فعل كل شيء، وهذا التباهي بالقوة العقلية والمادية والعسكرية والتقنية، ستزول بقوة الواحد الأحد.
ثانياً: يشير الحديث إلى خفض الهيمنة العالمية المعاصرة للنصارى، وفك ارتباط الحكومات العربية المعاصرة مع العدو الصليبي اليهودي، وابتعاد النفوذ الصليبي عن المنطقة مما يتيح للمسلمين تسلم زمام الأمور وتكوين دولة إسلامية تمثل قوة جديدة في العالم، يلتجئ إليها النصارى، ويطلبون الصلح للحصول على مساعدة لمحاربة عدوها الشيوعي الذي سينزل بها الدمار.
ثالثاً: إن هذا الصلح الذي سيتم مع النصارى في آخر الزمان يتم بناءً على رغبة من النصارى، فهم الذين يطلبون الصلح بقصد الاستعانة بالمسلمين، وهذا يؤكد أنه سيكون للمسلمين دولة قوية، وهو مؤشر إلى أنه قبل الملحمة ستقوم للمسلمين دولة قوية، يخشاها النصارى، ولمعرفتهم بقوة المسلمين يحشدون لهم ما يقارب من مليون شخص – ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألف –.(1/186)
رابعاً: يفهم من هذا الحديث أن الفكر العلماني المعاصر التي تتبناه الدول النصرانية، سوف يحل محله الفكر الديني الصليبي، وأن الدول النصرانية ستعود إلى دينها، بعد أن قضت ردحاً من الزمن وهي غارقة في شهواتها وعلمنتها، وأن الدين سيكون هو المحرك لهذه الدول، وهذا يؤخذ من الحديث من قيام رجل منهم برفع الصليب بقصد إظهار القوة النصرانية، فيغضب المسلمون لذلك، فيعمدون إلى الصليب فيكسرونه مما يثير غضب النصارى، فيقومون بقتل الجيش الذي كان معهم، وبهذا ينقضون الصلح مع الدولة الإسلامية.
خامساً: إن هذا الحديث وأمثاله من علم الغيب الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن أمة تؤمن بالغيب ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .
فانطلاقاً من إيماننا بالغيب، وثقة بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن على موعد مع الروم وسيتحقق كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى، وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية – روما – وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويكون الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع الروم، وسيكسر الصليب فوق رؤوس أصحابها، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين .(1/187)
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق – ودابق قرية قرب حلب – فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فيتنزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكنه يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته)).
ولقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن الروم عند قيام الساعة يكونون من أكثر الناس ، قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ " ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : أَبْصِرْ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا : إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ " [ أخرجه مسلم ] .(1/188)
فالحديث يدل على أن الروم في آخر الزمان سيكونون أكثر الناس عدداً ، كما أن في الحديث إشارة مهمة ، وهي أن الروم لهم فضيلة ، لما يتحلون به من صفات طيبة وحميدة ، ولما يتمتعون به من خلق كريم ، وسلوك قويم ، وتلك الأسباب التي ذُكرت عنهم في الحديث من الأسباب الرئيسة التي ساهمت في بقائهم ، وحافظت على وجودهم ، وبالتالي كثرتهم عند قيام الساعة .
ونأتي لشرح الحديث السابق :
فمعنى أحلم الناس عند فتنة : أي أعقلهم وأفطنهم بمعالجة الفتنة بروية للخروج منها ، فلا تطيش عقولهم ، بل يعالجون الأمور بروية ليخرجوا منها بسلام .
ومعنى أسرعهم إفاقة بعد مصيبة : أي سرعتهم في العودة إلى حالتهم الطبيعية قبل وقوع المصيبة بهم .
ومعنى أوشكهم كرة بعد فرة : أي أنهم أسرع الناس إقداماً في الحرب وإكراراً على العدو إن حصل لهم في بعض المواقع فراراً .
ومعنى خيرهم لمسكين ويتيم وضعيف : أي أنهم خير الناس وأفضلهم في معاملة المساكين والأيتام والضعفاء والقيام على مصالحهم ورعاية شؤونهم .
المقصود أن رجالاً منهم سيسلمون في آخر الزمان ، ويقاتلون مع المسلمين حتى يفتحوا القسطنطينية بإذن الله تعالى .
الرابع والأربعون :
فتح القسطنطينية ، عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا ، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ " ، قَالَ فَدَعَانِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَأَلَنِي فَحَدَّثْتُهُ فَغَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ " [ أخرجه أحمد ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق المسند برقم 18859 ، وأخرج الحاكم وقال : صحيح الإسناد 5 / 603 ] .(1/189)
فتح القسطنطينية حلم كان يحلم به المسلمون منذ القدم ، فقد تواصلت البعوث والسرايا والجيوش إليها ، ولكن باءت تلك المحاولات بالفشل ، وكان من تلك المحاولات ، سنة خمسين حيث سير معاوية جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم للغزاة ، وجعل عليهم سفيان بن عوف ، ثم ألحق بهم أبنه يزيد وكان في هذا الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وغيرهم وعبد العزيز بن زرارة الكلابي فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا القسطنطينية فاقتتل المسلمون والروم في بعض الأيام واشتدت الحرب بينهم ، ثم رجع يزيد والجيش إلى الشام وقد توفي أبو أيوب الأنصاري عند القسطنطينية فدفن بالقرب من سورها وكان قد شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله " [ الكامل في التاريخ 3 / 315 ] .(1/190)
وفي سنة ثمان وتسعين سار سليمان بن عبد الملك إلى دابق وجهز جيشا مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية ومات ملك الروم فأتاه اليون من أذربيجان فأخبره فضمن له فتح الروم فوجه مسلمة معه فسارا إلى القسطنطينية فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية ففعلوا فلما أتاها أمر بالطعام فألقي أمثال الجبال وقال للمسلمين لا تأكلوا منه شيئا وأغيروا في أرضهم وازرعوا وعمل بيوتا من خشب فشتى فيها وصاف وزرع الناس وبقي الطعام في الصحراء والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات ومن الزرع وأقام مسلمة قاهرا للروم معه أعيان الناس خالد بن معدان ومجاهد بن جبر وعبد الله بن أبي زكريا الخزاعي وغيرهم فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس دينارا فلم يقبل فقالت الروم لاليون إن صرفت عنا المسلمين ملكناك فاستوثق منهم فأتى مسلمة فقال له أن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم فأمر به فأحرق فقوي الروم وأصابوا المسلمين حتى كادوا يهلكون وبقوا على ذلك حتى مات سليمان ، وقيل إنما خدع اليون مسلمة بأن سأله أن يدخل من الطعام إلى الروم بمقدار ما يعيشون به ليلة واحدة ليصدقوا أن أمره وأمر مسلمة واحد وأنهم في أمان من السبي والخروج من بلادهم فأذن له وكان اليون قد أعد السفن والرجال فنقلوا تلك الليلة الطعام فلم يتركوا في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر وأصبح أليون محاربا وقد خدع مسلمة خديعة لو كانت لامرأة لعيبت بها ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر ، ثم لم يكن هناك فتح . [ الكامل في التأريخ 4 / ] .
وهكذا نرى أن المحاولات كانت جدية لفتح القسطنطينية للحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل قائد يريد أن يحظى بأفضلية ذلك الحديث .(1/191)
ولقد فتحت القسطنطينية على عهد الأتراك ، وذلك عندما قامت الدولة العثمانية ، وكانوا أشد الناس حماساً للإسلام ، وهذا هو حال كل من أسلم ، فإنه يجد في نفسه راحة وطمأنينة وسكينة ، وأمناً وأماناً ، لم يكن ليجدها وهو على غير الإسلام ، فلما أسلم الأتراك شعروا بتلك الصفات الحميدة ، والخصال الطيبة ، فتجاوز نفوذهم أسيا الصغرى ، وعبر بحر مرمرة ، وأرسوا حكمهم شرقي أوروبا ، فقد ألفوا الجهاد في سبيل الله تعالى ، والموت ابتغاء الجنة ، والرغبة في الشهادة ، فتطلعوا آنذاك إلى القسطنطينية ( وهي معقل النصرانية ) ، فقرروا فتح تلك المدينة العظيمة ، إعزازاً لدين الله عز وجل ، فمضوا قُدماً لتحقيق هدفهم ، بقيادة البطل المسلم ( محمد الفاتح ) السلطان العثماني الذي نظم جيوشه ، وأحكم خطته وحاصر أسوار القسطنطينية براً وبحراً ، وهي ترمي بحممها ومنجنيقها ليل نهار ، واستمر الحصار واحداً وخمسين يوماً ، إلى أن أعانهم الله على فتحها ، ففتحوها وصدع فيها الأذان بشهادة التوحيد ، لأول مرة في الكنيسة العظيمة ذات التأريخ العريق ( سالت صوفيا ) ، وحولت الكنيسة إلى جامع للمسلمين يؤدون فيه شعائر دينهم ، وهذا الجامع معروف اليوم باسم ( أيا صوفيا ) ، وكان ذلك الفتح العظيم للقسطنطينية في 20 / 5 / 857هـ ، وأصبحت القسطنطينية عاصمة للدولة الإسلامية ، وأصبح اسمها ( إسلام بول ) يعني : عاصمة الإسلام ، وتحول هذا الاسم في اللغة التركية اليوم إلى : استانبول .
وبذلك كان الفتح الأول للقسطنطينية على يد البطل المجاهد المسلم ( محمد الفاتح ) ، ولقد نال ذلك الفاتح المسلم البشارة هو وجنوده البواسل ، حازوا البشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم أفضل أمير ، وأفضل جيش ، كما سبق في الحديث الذي مضى .(1/192)
ولما ضعف المسلمون ، وابتعدوا عن مصدر عزهم وقوتهم ، هانوا على الله تعالى ، لأن المعاصي سبب للفتن والهزيمة ، والطاعة سبب للطمأنينة والنصر ، فلما دب الضعف في نفوس المسلمين آنذاك ، سيطر عليهم حب الدنيا ، فاشتروها وتركوا الآخرة ، فهانوا على ربهم تبارك وتعالى ، سقطت الخلافة الإسلامية ، وبذلك أضاعت الأمة جهود البطل محمد الفاتح ، وألغت جهاده ، فنسأل الله تعالى أن يهيئ للأمة رجلاً بطلاً يقودها لتستعيد أمجادها وعزها وقوتها ورخاءها ، فليس ذلك على الله بعزيز ، ولكن لا يكون ذلك إلا بشرط شرطه الله على الأمة فقال : " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " [ محمد 7 ] فمتى تمسكنا بعقيدتنا ومنهجنا وثوابتنا فحتماً وبإذن الله سيكون النصر لنا ، لكن ما دمنا في ضياع وتفكك ، كما هو الحال اليوم ، فلا عز ولا نصر ، بل ذل وهوان ، وضعف وهزيمة ، وهذا هو واقع المسلمين اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله .(1/193)
وستفتح القسطنطينية مرة أخرى كما جاء بذلك الحديث الصحيح ، وسيكون فتحها في آخر الزمان على يد أبطال مسلمون بلا قتال ولا سلاح ، بل سلاحهم التكبير والتهليل ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ " ، قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَقَ ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ ، قَالُوا : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا " ، قَالَ ثَوْرٌ : لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ الَّذِي فِي الْبَحْرِ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفَرَّجُ لَهُمْ فَيَدْخُلُوهَا ، فَيَغْنَمُوا ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ فَقَالَ : إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَيَرْجِعُونَ " [ أخرجه مسلم ] .
وقد أشكل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من بني إسحاق " ، ومعلوم أن بني إسحاق هم الروم ، لأنهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أما بني إسماعيل فهم من سلالة إسماعيل عليه السلام ، والذي من ذريته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن جاء من ذريتهم حتى يومنا هذا ، فكيف سيفتح الروم مدينة القسطنطينية في آخر الزمان مع أنه ستكون هناك مقتلة عظيمة بين المسلمين والروم وهي التي ذكرناها في أشراط الساعة الماضية ؟
والجواب :(1/194)
قال القاضي عياض رحمه الله : " هكذا هو في جميع أصول مسلم : من بني إسحاق ، وقال بعضهم : المعروف المحفوظ : من بني إسماعيل ، وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه ، لأنه إنما أراد العرب " [ إكمال المعلم 8 / 464 ] .
وقال ابن كثير رحمه الله : " وهذا يدل على أن الروم يُسلمون في آخر الزمان ، ولعل فتح القسطنطينية على يد طائفة منهم ، كما نطق به الحديث المتقدم ، أنه يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق . . . فالروم يكونون في آخر الزمان خير من بني إسرائيل . . . . وهؤلاء الروم قد مُدحوا في هذا الحديث ، فلعلهم يُسلمون على يدي المسيح بن مريم والله أعلم " [ النهاية في الفتن والملاحم 1 / 74 ] .
قلت : لكن لا يمنع أن يكون الفتح بأفراد من العرب ومن أسلم من النصارى يومذاك ، فليس ذلك بمستبعد أبداً ، فكم أسلم من النصارى ومن اليهود ومن غيرهم في عصر النبوة وما بعده وقاتلوا مع المسلمين فكانوا يداً واحدة ضد أعدائهم ، فلا يمنع أن يكون الفتح الأعظم للقسطنطينية على أيدي بني إسماعيل ، وبني إسحاق ، يعني العرب والعجم المسلمين .
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : " فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث سيكون في مستقبل قريب أو بعيد يعلمه الله عز وجل ، وهو الفتح الصحيح لها حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي أعرضوا عنه ، وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا ، فإنه كان تمهيداً للفتح الأعظم ، ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين ، منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية ، وعاهدت الكفار أعداء الإسلام ، وحكمت أمتها وشعبها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة ، وسيعود الفتح الإسلامي لها إن شاء الله كما بشر به رسول الله صلى الله وعليه وسلم " [ عمدة التفسير ] .(1/195)
وقال الألباني رحمه الله : " وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني ، كما هو معروف ، وذلك بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح ، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد ، ولتعلمن نبأه بعد حين " [ السلسلة الصحيحة 1 / 33 ] .
فإذاً فتح القسطنطينية فتحان : الأول حصل في عام 857هـ ، والثاني سيكون في آخر الزمان ، عند خروج الدجال ، ومن قال إنه فتح واحد فقد أخطأ وتكلف ما لا علم له به والله أعلم [ إتحاف الجماعة 1 / 404 ] .
المقصود أن الفتح الثاني للقسطنطينية سيكون قبل خروج الدجال كما في الحديث ، وبعد قتال الروم في الملحمة الكبرى، وانتصار المسلمين عليهم، فعندئذٍ يتوجهون إلى مدينة القسطنطينية، فيفتحها الله للمسلمين بدون قتال، وسلاحهم التكبير والتهليل .
والقسطنطينية فتحت أيام الترك، ولكن بقتال ثم رجعت في أيدي الكفار العلمانيين، وستفتح فتحاً أخيراً بخبر من الصادق المصدوق وبدون قتال ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ـ موضعان بالشام قرب مدينة حلب ـ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ ، لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا ، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ . . . . " [ أخرجه مسلم ] .(1/196)
وهانحن ننتظر الفتح الأعظم لها، بإذن الله عز وجل، وسيسبق ذلك أمور وأحوال، منها عودة ورجوع المسلمين إلى دينهم الذي أعرضوا عنه .
وستفتح كذلك روما ، وهي معقل الصليبية والمسيحية اليوم ، وفتحها يكون بعد القسطنطينية ، فعن أَبُي قَبِيلٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَسُئِلَ : أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا ، الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ ، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ ، قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا " يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ " [ أخرجه أحمد والدارمي بإسناد صحيح ] .
فمدينة روما الإيطالية ستفتح بإذن الله أيضاً وتبلغها دعوة التوحيد ، ويرتفع فيها صوت الحق ، ويصدع فيها الأذان إن شاء الله تعالى .
الخامس والأربعون :
أن تقلِّد هذه الأمة أمم الكفر كاليهود والنصارى، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. فقيل يا رسول الله كفارس والروم ، فقال : ومن الناس إلا أولئك " [ أخرجه البخاري ] ، وفي رواية : " قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى، قال: فمن؟ " .(1/197)
إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم واقِع ومُشَاهد، فقد تشبه عدد غير قليل من المسلمين بالكفار، من شرقيين وغربيين، فتشبه رجالنا برجالهم، ونساؤنا بنسائهم، والمحزن المخجل في ذات الوقت أن بعض رجالنا تشبهوا بنسائهم، وافتتنوا بهن ، حتى أدى الأمر بالبعض بأن خرجوا من الدين والعياذ بالله.
إن من عرف الإسلام الصحيح، عرف ما وصل إليه حال المسلمين، في الفترة الراهنة، من بعدهم عن تعاليم الإسلام، بسبب تقليدهم للغرب الكافر، انحراف في العقائد، تحكيم لقوانين الكفار، ابتعاد عن شريعة الله، تقليد للغرب في الملبس والمأكل والمشرب وليس هناك أبلغ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المحاكاة من قوله: ((شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))، ماذا جنت الأمة، وماذا استفادت، عندما تمركنت ( أصبحت أمريكية ، وتفرسنت (أصبحت فرنسية) ، وتغرّبت ( أصبحت غربية ) ، ماذا جنينا سوى الذل والهوان، ونهب للخيرات، وضرب فوق الرؤوس، والعيش كالعبيد، وبعد هذا كله، خسران الدين، وقبله كان خسران الدنيا، كم نتمنى من أولئك الذين يستوردون للأمة من الغرب مساحيق التجميل، والأخلاق السيئة والعادات الرذيلة ، أن يستوردوا النظم الإدارية الجيدة ، وتنظيم الأعمال التقنية الحديثة ، ونظم المعلومات ، واختراع الصواريخ والطائرات ، للدفاع عن مقدسات المسلمين ، والذود عن حوزتهم ، وأن يرتقوا بشعوبهم في هذه النواحي ، تحديث في نظم المستشفيات، المؤسسات، المقاولات، التحديث في رصف الشوارع ، في بناء المعاهد، الجامعات، المدارس.
وكم هو محزن، عندما تجول العالم من أقصاه إلى أقصاه، فترى التخلف في هذه النواحي والقصور، ثم في المقابل تشاهد أنصاف رجال يتسكعون كالنساء، مفتخرين أنهم تفرنجوا، وأصبحت حياتهم غربية، ويدعون للتغريب، إنها فتن أيها الأحبة، نسأل الله جل وعلا أن يخلص منها هذه الأمة .(1/198)
لقد خذلنا كثير من أبناء جلدتنا ، عندما أنفقت عليهم دولتهم وأسرهم الأموال الطائلة ، ليعودوا بعلم وفير تستفيد منه الأمة جمعاء ، وإذا بهم يعودون بلباس الكفار ،ولهجتهم ظاهراً وباطناً ، وأصبحوا يتحرجون من والديهم ، وأهليهم ، وذويهم ، ولا غرابة ، لا سيما وقد رضعوا حضارة الغرب الزائفة ، واستقوا من معينها الكاذب ، فجاءوا إلينا بدين غير ديننا ، وبوجه غير الذي ذهبوا به ، فأنكروا الدين ، وأبطلوا كثيراً من تعاليمه ، وهربوا من أحكامه ، وتجرءوا على مقام الخالق جل وعلا ، فحرموا الحلال ، وأحلوا الحرام ، وأصبحوا ينادون بالتقدم والمدنية والحضارة ، ويعني ذلك عندهم : أن تخرج المرأة بلا محرم ، وأن تختلط بالرجال ، وأن تتخذ صديقاً لها غير زوجها ، وأن تنبذ الحجاب الذي أمرها الله به ، وأن تُشرب الخمور والمسكرات والمخدرات ، ومن أراد أن يصلي فليصل ، ومن لم يرد فلا حرج عليه ، ويريدون تعطيل جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا سيما في وقت حاربتنا فيه كثير من الدول وحسدتنا عليه كثير من الشعوب ، وينادون بالاختلاط بين الجنسين في المدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات ، وما هم إلا كلاب مسعورة ، وأذناب مقلوبة للغرب الكافر ، فمتى يدرك المسلمون أنهم على خطر ، وأنهم مقصودون لذاتهم ، لتدمير قوتهم ، ونزع فتيل شبابهم ، والله المستعان على ما يصفون .(1/199)
وكم نرى اليوم بل في كل زمان ومكان ذلك العداء السافر من قبل أعداء الدين للإسلام وأهله ، والاستهزاء بهم ، والعداون عليهم ، من قتل وتشريد وتدمير للمنشآت والمباني السكنية والبنية التحتية ، وتحطيم مقدرات الدول الإسلامية ، والاستيلاء على ثرواتها ، وقتل أهلها ، واستعباد أطفالهم ، واستحياء نسائهم ، ثم تأتي ثلة من شباب الإسلام يقتفون أثر الأعداء فيكونون معاول هدم للدين والعقيدة ، بل أن يكونوا دعاة إلى نبذ عادات الكفار ، وسلاحاً شهراً في وجوههم ، يدافعون عن مقدساتهم وحرماتهم وأوطانهم ، يروون أرضهم بدمائهم ، يثبتون للعالم أجمع أنه لا دين إلا الإسلام ، ولا عز إلا للإسلام ، فكل منهم عزيز بدينه ، أبي بعقيدته ، قال تعالى : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " [ المنافقون 8 ] .
السادس والأربعون :
قتال اليهود ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ : يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ! هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ " [متفق عليه] .
وهم الآن يزرعون شجر الغرقد بكثرة ، ويجتثون ما سواه من الأشجار ، ولكن لن يغني ذلك عن قتلهم أبداً بإذن الله تعالى ، لأنه وعد الله ، والله لا يخلف وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
وقد وردت عدة أحاديث بقتال المسلمين لليهود ، وهذا شيء منها :(1/200)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " تُقَاتِلُونَ الْيَهُودَ حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الْحَجَرِ فَيَقُولُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ " [ أخرجه البخاري ] ، وعنه رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ " أخرجه البخاري ] ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَتُقَاتِلُنَّ الْيَهُودَ فَلَتَقْتُلُنَّهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ " [ أخرجه مسلم ] .
إن مما ينبغي علمه من كليات وأصول الدين أن اليهود من أعظم أعداء الإسلام وأهله: قال الله سبحانه عنهم:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا (82) ([سورة المائدة] .
وقد وصفهم الله سبحانه في كتابه: بأنهم يقتلون الأنبياء، والذين يأمرون بالقسط من الناس، وأنهم سمّاعون للكذب، أكالون للسحت، يأخذون الربا وقد نهوا عنه، ينقضون المواثيق، ويحكمون بالطواغيت، ويصفون الله تعالى بالنقائص، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وغيرِ هذا مما هو مشهور عنهم .(1/201)
وتاريخ اليهود مليء بالمؤامرات والدسائس: فقد أرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فشُبه لهم ورفعه الله إليه حتى يخرج في آخر الزمان فيقتلهم ، ويقتل مسيحهم مسيح الضلالة آنذاك المسيح الدجال أعاذنا الله من فتنته ، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم مراراً؛ فأنجاه الله منهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتنة بين الصحابة فسلمهم الله، وأول فتنة فرّقت بين المسلمين كانت فتنة ابن سبأ اليهودي، واستمر كيدهم طوال التاريخ، فأثاروا فتناً، وأسقطوا دولاً، حتى تمكنوا أخيراً من اغتصاب أراضي المسلمين .
وأرض إسرائيل الكبرى: التي يحلمون بها والتي وضعوا رايتهم على أساسها من النيل غرباً حتى الفرات شرقاً، ومن شمال الجزيرة جنوباً حتى جنوب تركيا شمالاً، وقد علموا جيداً أنه لا بقاء لهم ما دام للعقيدة الإسلامية القائمة على الولاء والبراء، والجهاد في سبيل الله وجود بين الشعوب، حتى لو طال مقامهم، فإن قاعدة الدين، وملة إبراهيم، وأصل دين الإسلام، ومقتضى شهادة التوحيد؛ موالاة الإسلام وأهله ومحبتهم، والبراءة من الكفر وأهله ومعاداتهم، كما قال تعالى:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (4)( [سورة الممتحنة].(1/202)
فإياك وسماع الدعوات التي تقول: إنه لا عداء بيننا وبين اليهود، أو غيرهم من الكفار، أو أننا لا نبغضهم من أجل دينهم؛ فإن أصل الأصول البراءة من الكفر وأهله، ومعاداتُهم وبغضهم .. من أجل هذا اخترع اليهود ما يسمى بمشروع السلام، وأطلقوا عليه السلام الدائم والشامل، والذي يريدون من خلاله اختراق صفوف الشعوب المسلمة، ومحاولة كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود، وإذابة عقيدة البراء ومعاداة الكافرين من خلال الذوبان الثقافي، والتعليمي، والإعلامي، ونشر ما يسمى بحوار الحضارات، وحوار الأديان في سبيل السلام ونحوها، بالإضافة إلى إفساد أخلاقيات المسلمين .
ويهدف اليهود من خلال هذه العملية بالإضافة إلى تغيير عقلية المسلمين إلى تأمين بلادهم من ضربات المجاهدين، وتعزيز اقتصادهم المنهار، وتهجير بقية اليهود إلى فلسطين، وإكمال بناء المستوطنات تمهيداً لإكمال الهيمنة على المنطقة بأسرها . لذلك فالتصور الصحيح لهذا السلام المزعوم كافٍ في معرفة حكمه الشرعي، إذ هو مشتمل على منكرات كثيرة محرمة بإجماع المسلمين منها:التحاكم إلى الطواغيت، وهدم أصل البراء في الإسلام، وإلغاء شريعة الجهاد في سبيل الله، وتسليط اليهود على المسلمين، وغيرها من العظائم .
لذا فإن ما يسمى بمساعي السلام ومؤتمراته؛ ستفشل، ولو نجحت فنجاحها سيكون مؤقتاً، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود فيقتلونهم حتى يختبئ اليهودي خلف الشجر والحجر، فيقول الشجر والحجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء .(1/203)
إن مشروع السلام الذي أطلقوا عليه السلام الدائم له آثارٌ سيئة على المسلمين وعلى بلادهم : ولو تم- ونسأل الله أن لا يكون- فسيقضي على عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، أو على الأقل يضعفها عن طريق شعار: حوار الحضارات والإسلام دين السلام ونبذ التطرف، وكراهية الآخر، وسيقضي على روح الجهاد بينهم، وسيُضرَب المجاهدون بسلاح السلام كما سيحصل تغيير وتشويه للتاريخ الإسلامي، وستستنزف ثروات المسلمين، وتبنى عندهم أوكار الجاسوسية، وتصدر لهم الآفات والأمراض، وغير ذلك .
وللمسلمين عبرة وعظة في من خطى خطوات عملية في عملية السلام مع اليهود: ماذا حصل لهم ولبلادهم؟ فبعد سنوات عجاف من السلام بين مصر وإسرائيل ظهرت بعض الآثار اليهودية على أرض الكنانة، ومن ذلك:
إفساد الدين: فقد أنشئ المركز الأكاديمي اليهودي في مصر، وهو يقوم بدور رائد في مجال إفساد الدين، وقتل روح الولاء والبراء عند المسلمين، ويقوم بالتعاون مع الكثير من المراكز الأميركية المنتشرة في مصر بأسماء ووظائف مختلفة، وقد ركّز المركز في أبحاثه على: ضرورة فتح الأبواب أمام حركة الناس، وتبادل المعلومات، والثقافة والعلوم، وضرورة مراجعة البرامج الدراسية من الجانبين، وفحص ما يُدرَس وتحديد ما يجب حذفه، ودراسة البرامج المتبادلة في وسائل الإعلام، وأن يسمح كل طرف للآخر بإذاعة برامج ثقافية عن وثائقه وتاريخه، وضرورة إزالة المفاهيم السلبية عند المسلمين تجاه اليهود . وقد تحقق لهم الكثير مما أرادوا فبرامج التعليم تمّت مراجعتها، وحُذف منها كل ما يتعلق باليهود من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ووقائع تاريخية .(1/204)
وأيضاً من الآثار: أنه في أوائل أيلول 1985م كشفت المخابرات المصرية عن شبكة تجسس إسرائيلية في القاهرة يقودها المستشار العسكري بالسفارة، واكتشفت السلطات المصرية أن المركز الأكاديمي الإسرائيلي تحوّل منذ تأسيسه عام 1402هـ في القاهرة إلى واحد من أخطر بؤر التجسس، وأبرز مظاهر الاختراق الثقافي في مصر، ثم كشف بعد ذلك عن عصابات التجسس الإسرائيلي الواحدة تلو الأخرى .
ومما تبيّن أيضاً: أن هناك خطة لإغراق السوق المصرية بملايين الدولارات المزيفة وقد ضُبطت على سبيل المثال فقط 80 قضية لتهريب وترويج عملات مزيفة من فئة المائة دولار مهربة من تل أبيب إلى القاهرة، وفي عام 1410هـ ضبطت شبكة مكونة من 11 يهودياً كان بحوزتهم مليون دولار مزيفة، وفي التحقيقات اعترف الجميع أنهم يعملون ضمن شبكة دولية مركزها تل أبيب .
وأيضاً: ففي عام 1409هـ تم القبض على 5 أشخاص من العاملين في المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة خلال تهريب الهيرويين في معجون أسنان، وقبلها بعامين ضُبط صهيوني يقوم بترويج الهيرويين في مدينة العريش، وقبل ذلك بعام أي في عام 1406هـ أكدت تقارير وزارة الداخلية المصرية أن مجموع القضايا التي ضُبط فيها الصهاينة بلغ 4457 قضية، هُرّب فيها 5 طن من الحشيش، و 30 كيلو أفيون .(1/205)
وأيضاً من آثار السلام التي تضررت بها مصر إفساد المزورعات: فقد اتفقت مصر مع إسرائيل التعاون في المجال الزراعي، ولأهمية هذا المجال دخلت أميركا طرفاً ثالثاً لرعاية هذا التعاون وكان ما يسمى: "المشروع الثلاثي" يكون فيه التمويل أميركياً والخبراء صهاينة بالاشتراك مع بعض المصريين أحياناً، أما أرض البحث فهي مصرية، وبعد سنوات قليلة من بداية التوسع في المشروع بدأت نتائجه تظهر في زراعات مصر التي أصابها الهلاك مثل: الخضروات، والقطن، والقمح، والذُّرة، بل إن الأرض نطقت هي الأخرى بما أصابها من السلام، وذلك بعد إصابة تربتها بالجدب نتيجة البذور الملوّثة عمداً، وكذلك الأسمدة والمبيدات الفاسدة، والخطير أن البذور الملوّثة، والتي تؤدي إلى تدمير الزراعات هي مثل قنابل موقوتة تُحدث آثارها بعد سنوات من استخدامها وهذا ما حصل عندما فوجئ المزارعون بتدهور الإنتاج عاماً بعد عام إلى أن تأكد أن الجميع جلبوا الدمار لأنفسهم؛ لأنه بتحليل البذور كانت المفاجأة أنها تحمل نسبة كبيرة من أمراض تصيب الإنسان بالفشل الكلوي، وأنها مصابة بفيروسات تصيب التربة بأمراض تصيبها بالبوار لعدة سنوات . وعُرف فيما بعد وبعد فوات الأوان أنها كانت عملية مدبرة من اليهود لإفساد الأراضي الزراعية المصرية .
وأما عن تلويث الشواطئ المصرية: فقد تحدثت الصحف وقتها عن القبض على قبطان صهيوني كان متهماً بتسريب البترول من باخرته التي يقودها في البحر الأحمر مما أدى إلى تلويث مياه المنطقة، وتكررت حوادث تدمير الشعاب المِرْجانية النادرة وتلويث الشواطئ المصرية بصورة ملحوظة ممّا أدى إلى تلويث 40% من الشاطئ .(1/206)
والأخطر مما سبق: أن اكتشفت السلطات المصرية شبكة يهودية تضم العشرات من بائعات الهوى الإسرائيليات المصابات بمرض الإيدز يعملن بتوجيه من المخابرات الإسرائيلية الموساد لنشر هذا المرض في صفوف الشعب المصري عن طريق استدراج الشباب المنحرف لممارسة الرذيلة معهن في أماكن اللهو، والشقق المفروشة، وذكرت الصحف المصرية: أن رجال الموساد أقنعوهن بأن ما يقمن به هو لصالح إسرائيل الكبرى.
هذه بعض الآثار التي ظهرت ونشرت من جراء التقارب مع إسرائيل، وما لم يظهر إلى الآن أو لم ينشر إلى الآن فالله أعلم به .
فماذا نتوقع أن يحصل من الضرر والمفاسد والشرور لو أن معظم دول الجوار لإسرائيل دخلت مع اليهود في اتفاقات سلام دائم أو شامل: ستدفع هذه الدول الثمن باهضاً، واليهود تاريخهم أسود ومعروف، أفلا نأخذ عبرة من التاريخ الماضي، وعبرة من التاريخ المعاصر لما حصل لمصر، وقبل ذلك نأخذ العبرة العظمى والكبرى من كتاب الله في آيات كثيرة فيها التحذير من يهود .(1/207)
إن اتفاقيات السلام مع اليهود، وإقامة للعلاقات الدائمة معهم؛ يعد إقراراً لهم في ديار الإسلام، وتمكينهم من الدخول والعبث بعقول المسلمين، وإمدادهم بما يزيد من قوتهم وجبروتهم، وهذا كله في الشرع من باب الموالاة لليهود، وإلقاء المودة لهم، والركون إليهم وقد دلت نصوص كثيرة على النهي عن ذلك قال الله تعالى:(لا تجَِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ بِاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّوْنَ مَنْ حَادّ اللهَ وَرَسُوْلَه وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ(22)( [سورة الممتحنة]. وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51)( [سورة المائدة]. وقال تعالى:(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً(139)( [سورة النساء]. والنصوص في النهي عن موالاة الكفار، والركون إليهم، ومودتهم، ووجوب بغضهم ومعاداتهم كثيرة جداً.
وفرق كبير بين ترك قتالهم والهدنة معهم لوجود الضعف للإعداد لهم: وبين الاعتراف بهم، وإقرارهم على أراضي الإسلام، فالأول: جائز بالإجماع، والثاني: محرم بالإجماع، إضافة إلى أن السلام الدائم والشامل مع اليهود مضاد لشرع الله سبحانه ولقدره .(1/208)
أما مضاداته للشرع؛ فلأنه يلغي شعيرة الجهاد في سبيل الله، وقد قال الله تعالى: ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً(36) ( [سورة التوبة]. وقال سبحانه:( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)( [سورة التوبة]. وقال عز وجل:( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ(60)( [سورة الأنفال].
وفي المسند وغيره: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:[ جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ] . وفي المسند أيضاً عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي...] .
وأما مضاداة السلام للقدر: فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وخبره حق أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، ومن ذلك : ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ " [ رواه البخاري ومسلم ] .(1/209)
وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها أنه قال:[ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]. والمقصود من هذا كله أن ما يسمى بالسلام الدائم أو الشامل لن يتحقق وسيقاتل المجاهدون اليهود ويهزمونهم بحول الله وقوته، وهذا وعد الله سبحانه لنا ولكن الله سبحانه أعلم بمن يستحق أن يكون هذا الفتح على يديه .
لقد فجر الله لهم العيون ، وأنزل عليهم الطيبات ، وساق لهم الغمام ليظلهم في الصحراء ، فلم يشكروا الله على تلك النعم ، بل جحدوا ربهم ، وقالوا لموسى : { اجعل إلهاً كما لهم آلهة } فأجابهم موسى { إنكم قوم تجهلون ، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } ولما ذهب موسى لميقات ربه ، اتخذوا من حليهم عجلاً جسداً له خوار ، يعبدونه من دون الله ، ولم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا رؤية الله جهرة ، فأرسل الله عليهم صاعقة من السماء ؛ تأديباً لهم ، ثم شاء الله أن تنتهي حياة موسى وهارون بعد تكذيب لهم طويل من بني إسرائيل ، واستمر حال اليهود وتكذيبهم بل وتحريفهم لكتاب الله التوراة ، فأرسل الله عيسى على جميع رسل الله الصلاة والسلام ، فآمن بعضهم وهم الحواريون ، وكذب بعضهم وهم بقية اليهود .
ثم حاولوا قتل عيسى فرفعه الله إليه ، واستمر عداء اليهود _ لعنهم الله _ للأنبياء والرسالات ، وكان عند بعضهم بقية من علم ، فعلموا بمقدم رسول الهدى عليه الصلاة والسلام ، من خلال وصفه في الإنجيل والتوراة .(1/210)
فلقد سافر أبو طالب _ عم النبي صلى الله عليه وسلم _ إلى الشام متاجراً ، ومعه رسول الله وعمره اثنتا عشرة سنة ، وفي الطريق قابل راهباً يقال له بحيرا ، فلما خرج الركب خرج إليهم وأكرمهم ، وكان لا يخرج لأحد قبل ذلك ، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته ، فقال الراهب وهو يأخذ بيد رسول الله صلى اله عليه وسلم : هذا سيد العالمين ، يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال أبو طالب : ومن علمك هذا ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم ، لم يبق حجر ولا شجر إلاّ خر ساجداً ، ولا تسجد إلاّ لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة في ظهره ، وإنا نجده في كتبنا ، ثم سأل أباطالب أن يرده ولا يدخله الشام خوفاً عليه من اليهود ففعل .
وعداء اليهود يكمن في أنهم كانوا يتوقعون أن يخرج رسول الله منهم ، فلما خرج من العرب كذبوه ، وشوهوا صورته ، وألبوا عليه الرجال ، وحاولوا قتله ، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام خرج في نفر من أصحابه إلى يهود بني النضير لجمع بعض الديات ، فقال اليهود لرسول الله : اجلس هاهنا حتى نقضي حاجتك ، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ، ينتظر وفائهم بما وعدوا ، ولكن اليهود أهل مكر وخبث حيثما حلوا وارتحلوا ، فأعطوا أحدهم رحىً ليرميها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقضي عليه ، وبينما هم يخططون ، إذ نزل الوحي يفضحهم ، فهب رسول الله وهب أصحابه معه ، وخرجوا وأخبرهم بما أراد اليهود ، فكانت غزوة بني النضير التي أعلى الله فيها كلمته .(1/211)
ويواصل اليهود عداوتهم للإسلام وأهله ، بل عداوتهم لله سبحانه وتعالى ، حتى وصل الحال والكبر بهم إلى سب الله تبارك وتعالى ، فلما أنزل الله قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه أضعافاً كثيرة .. } قالوا : يا محمد افتقر ربك ، فسأل عباده القرض !! فأنزل الله { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .. } هم أهل البخل والتقتير ... هم أهل الشح الكبير ... لعائن الله تترى عليهم إلى يوم القيامة .
هل يليق بعاقل أن يقول أن يد الله مغلولة !!! وهو يتقلب بين أنعم الله صباح مساء بل من أكبر طيشهم ، أنهم نسبوا الابن إلى الله ، ومن جعلوا الابن ؟؟!! قالوا عزير ابن الله !! وقالوا أنهم أبناء الله وأحباؤه !! ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان ابن آصا ، وبحري ابن عمرو ، وشاس ابن عدي ، فكلموه وكلمهم ، ودعاهم إلى الله ، وحذرهم نقمته ، فقالوا : يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، قال تعالى : " وقال اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير " .
ولا تزال سلسلة فضائحهم تتوالى وستتوالى إلى يوم القيامة : " لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون " .
ولو استعرضنا كل فضائحهم لطال بنا المقام ، ولكننا نقتصر على بعض الوقائع فقط ، لنعرف أعدائنا ، كيف يكرهون الإسلام وأهله وشرائعه .(1/212)
حسد اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين سمعوا الأذان ، وقالوا : ابتدعت شيئاً لم يكن للأنبياء ، فمن أين لك الصياح كصياح العير ؟؟ فما أقبحه من صوت !! فأنزل الله : " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " بل إنهم سخروا من القرآن وكذبوا به ، فقد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ألست تؤمن أن التوراة حق من عند الله ؟! قال : بلى ، فقالوا : فإنا نؤمن بها ، ولا نؤمن بما عداها . فأنزل الله : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ... } ، وما أرسل إليهم من نبي مع كثرة أنبيائهم إلاّ سبوه أو شتموه ، فآذوا موسى ، واتهموا سليمان بالسحر وأنه ساحر ، واتهموا إبراهيم بأنه يهودي ، وكذبوا بعيسى وحاولوا قتله ، وكذبوا محمداً _ على أنبياء الله الصلاة والسلام _ وحاولوا اغتياله ... فلعن الله اليهود ما أسخفهم ، وأحقرهم .
وكان من أعظم ما فرح به المسلمون هو إنزال قوله تعالى : " قل أؤنبؤكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " ، فكان المسلمون يعيرون اليهود بأنهم أبناء القردة والخنازير وهم كذلك .
إن اليهود أهل شر وخبث ، وإن تبسموا وصالحوا وعاهدوا ، وقد روي في بعض الأحاديث عند ابن مردويه : " ما خلا يهودي بمسلم إلاّ هم بقتله " .(1/213)
ومن قبائح اليهود في زماننا هذا ما يفعلونه الآن من كتابة لفظ الجلالة على الأحذية ، وما شابهها ، وقيامهم بدهس المصاحف ، ونشر الصور المشوهة للإسلام ولنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام ، ومع كل ذلك ، فالمؤمنون غافلون أو متغافلون ، كأن لم تحرك لديهم ساكناً _ وما لجرح بميت إيلام _ وتجد الكثير من المسلمين قد مسحوا اسم المسجد الأقصى من ذاكرتهم ، وما فكر أحدهم يوماً أن يرفع يديه إلى العزيز القدير ، ويرسل على اليهود سهاماً وصواريخ من سهام " يا رب " تخترق الدنيا لتمطر على اليهود النكبات والمصائب ، ومع كل هذا ، فإن وعد الله لنا بالنصر والتمكين لابد حاصل ، فقد وعدنا الله بالنصر على أبناء القردة والخنازير ، " حتى لا يبقى حجر ولا شجر إلاّ ويقول للمسلم : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله " .
ولقد أخبر الله تعالى في كتابه بأن يهود سيعلون في الأرض المقدسة ، ويصبح لهم فيها قوة وسلطة ، فيفسدون فيها ، فيبعث الله عليهم عباداً أولي بطش وقوة فيذيقونهم ويلات القهر والذل ، ثم تعود الكرة ويعلو يهود من جديد ، ويتكرر الإفساد منهم ، فتتكرر سنة الله التي لا تتغير ، فيسلط عليهم من يشردهم في الأرض ثانية ويدمر ممتلكاتهم ، وقد حدث هذا كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين .(1/214)
فكلما عاد اليهود للفساد والإفساد بعث الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، لأنهم عرفوا الحق وتركوه ، علموا العلم فلم يعملوا به فغضب الله عليهم ، وما أكثر غدر يهود على مر الدهور والعصور ، فعندما أفسدوا في الجزيرة العربية أخرجهم المسلمون ، من الجزيرة كلها ، ولخبثهم ومكرهم وإفسادهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من الجزيرة وعدم عودتهم إليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَذَرَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا " [ أخرجه أحمد ] ، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمُ الْخَمِيسِ ، وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ، اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ ، فَقَالَ : " ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا " ، فَتَنَازَعُوا وَلَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ ، فَقَالُوا : مَا شَأْنُهُ أَهَجَرَ ؟ اسْتَفْهِمُوهُ فَذَهَبُوا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " دَعُونِي فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إِلَيْهِ " ، وَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثٍ قَالَ : " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ أَوْ قَالَ فَنَسِيتُهَا " [ متفق عليه ] .
وهكذا نرى أن من خسة يهود ودناءتهم وغدرهم ومكرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجهم من جزيرة العرب ، لئلا يدنسوها بِرِجْسِهِم وخَبَثِهِم .(1/215)
ثم عاد اليهود للإفساد في الأرض في العالم ، فسلط الله عليهم عباداً آخرين أنزلوا بهم أنواعاً من الاضطهادات والقتل الجماعي ، وهكذا فكلما أفسد اليهود في الأرض سلط الله عليهم من يردعهم ويذيقهم الهوان .
وهاهم يعودون للفساد في أرض العروبة ، مصلى الأنبياء ومسرى رسول الهدى ، وأولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال ، فهاهم يهود إسرائيل يقتلون ويغتصبون ويهدمون ويعيثون في أرض فلسطين الحبيبة أنواع الظلم والعداء ، في حق المسلمين الأبرياء هناك ، وما حصل لهم ذلك التمكين إلا بضعف المسلمين ، وابتعادهم عن دينهم ، وتخليهم عن نصرة سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ومتى عدنا إلى ديننا فسوف نخرج اليهود من بلادنا العرب والمسلمين بإذن الله تعالى ، فقتالنا معهم بدأ ولا زال ، حتى تأتي الملحمة الكبرى ، والمعركة العظمى بين المسلمين واليهود ، فيقتلونهم قتل عاد وثمود ، ألا نصر الله قريب ، ولتعلمن نبأه بعد حين ، فنسأل الله أن نكون ممن يتشرف بالتقرب إلى الله بقتل إخوان القردة والخنازير ، أحفاد بني قريظة والنضير وقينقاع ، ونسأله سبحانه أن يُقر أعيننا بعودة المسجد الأقصى لحوزة المسلمين ، وأن نرى أولئك المرتزقة يخرجون من بلاد الإسلام أذلة صاغرين ، بعز عزيز وذل ذليل ، وليس ذلك على الله ببعيد .
وهاك أخي الكريم بعض فضائح القوم وفظائعهم ومخططاتهم وبروتوكولاتهم :
هم الذين أخبرنا الله عنهم في كتابه بقوله : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .. الآية " [ المائدة 64 ] ، وهم الذين قالوا : " إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ " [ آل عمران 181 ] .(1/216)
وهم الذين ادّعوا الولد لله : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ " [ التوبة 30 ] ، تعالى الله عن قولهم : " لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا " [ الفرقان 2 ] .
هؤلاء أنفسهم الذين قالوا في تلمودهم المزعوم : ليس الله - نستغفره سبحانه - معصوماً من الطيش والغضب والكذب .
وفي تلمودهم أيضا : للحاخامات السيادة على الله , وعليه أجْراء ما يرغبون فيه .
ويقولون : يقضي الله ثلاث ساعات من النهار يلعب مع ملك الأسماك .
تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً : " وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِين َ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ " [ الأنبياء 16-18 ]
وفي تلمودهم : اليهودي أحب إلى الله من الملائكة , فالذي يصفع اليهودي كمن يصفع العزة الإلهية .
وقد أكذبهم الله فقال : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ " [ المائدة 18 ] .
ومما قالوه في تلمودهم أيضا : إن الله يستشير الحاخامات على الأرض حين توجد معضلة لا يستطيع حلها في السماء . تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
وهل يوجد شيء لا يقدر عليه الربّ ؟ سبحانه وتعالى وهو على كل شيء قدير : " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " [ يس 82 ] .(1/217)
وقالوا في التلمود بوقاحة فاجرة : أن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها أو تغييرها ولو بأمر الله .
سبحان الله وهو القائل عن اليهود : " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " [ التوبة 31 ] ، وهؤلاء الذين قال الله عنهم : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " [ التوبة 34 ] .
هؤلاء اليهود الذين يرون أنفسهم كل شيئا ولا يعدّون غيرهم شيئا ، ومن أقوالهم في غير اليهود كما جاء في تلمودهم :
1- نطفة غير اليهودي كنطفة باقي الحيوانات .
2- يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأمم في الأرض لتبقى السلطة لليهود وحدهم .
3- لو لم يخلق الله اليهود لانعدمت البركة في الأرض .
4- الخارجون عن دين اليهود خنازير نجسة .
5- أرواح اليهود عزيزة عند الله , وبالنسبة لباقي الأرواح فالأرواح غير اليهودية أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات .
6- اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض غير اليهودية , لأن كل عقد زواج عند غير اليهود باطل , فالمرأة غير اليهودية تعتبر بهيمة , والعقد لا يقوم بين البهائم .
7- لليهود الحق في اغتصاب النساء غير اليهوديات .
8- الزنا بغير اليهود ذكورا كانوا أو إناثا لا عقاب عليه لأنهم من نسل الحيوانات .
9- ليس للمرأة اليهودية أن تشكوا إذا زنى زوجها بأجنبية في بيت الزوجية .
وليس بمستبعد أن يقولوا هذا الكلام وهم الذين قال الله فيهم : " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " [ آل عمران 75 ] .
ومن اعتقادهم في مصير غير اليهود في الآخرة ما نصّوا عليه في تلمودهم :
1- النعيم مأوى أرواح اليهود ولا يدخل الجنة إلا اليهود .(1/218)
وهذا موافق لما ذكره الله عنهم بقوله : " وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " [ البقرة 111 ] .
2- هؤلاء اليهود هم الذين قتلوا أنبياء الله وسبوهم وشتموهم وقالوا عن عيسى عليه السلام في تلمودهم : إنه ابن زنا وإن أمه حملت به خلال فترة الحيض وأنه مشعوذ ومضلل وأحمق وغشاش بني إسرائيل وأنّه صلب ومات ودفن في جهنم وأنه يعذّب فيها في أتون ماء منتن يغلي ، وقد قال الله تعالى في فريتهم على المسيح عليه السلام وأمه : " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا " [ النساء 155 – 157 ] .
3- وهم الذين قالوا في تلمودهم في عداوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : حيث أن المسيح كذاب وحيث أن محمدا اعترف به والمعترف بالكذاب كذاب مثله ، يجب أن نقاتل الكذاب الثاني كما قاتلنا الكذاب الأول .
( لبقية أقوالهم في التلمود ينظر : فضائح التلمود : آي براناتيس ص : 57 وما بعدها وكتاب دفائن النفس اليهودية : محمد الزعبي )(1/219)
وهاهم اليوم يقولون إن الله ندم على خلق الفلسطينيين ، ويلفّون رأس خنزير في أوراق مصحف مكتوب عليها " محمد " لإلقائها في المسجد الأقصى إغاظة للمسلمين ، ورسموا خنزيراً على جدار وكتبوا عليه اسم نبينا ووقّعوا تحت ذلك بنجمة داود .
فعداوتنا لهم إذاً عداوة عقدية وليست سياسية ، إننا لا نبغضهم فقط لأنهم محتلين بل لأمر قبل ذلك هو أكبر بكثير كما تقدّم ، ثم نحن نبغضهم أيضاً لجرائمهم في حقّ بيت الله المسجد الأقصى وقيامهم بإحراقه ومحاولات هدمه وحفر الأنفاق الكثيرة تحته ثم قتلهم إخواننا واستعمال الأسلحة الفتاكة التي تحفر رصاصاتها في رؤوس المسلمين ثم تنفجر داخلها :
10 شظايا وجدت في دماغ طفل مسلم ، ورصاص يُطلق من أسلحة كاتمة للصوت حتى لا ينتبه المسلمون أنّ أحداً من إخوانهم سقط جريحاً فيسارعون إلى إسعافه ، وصواريخ تنفجر في أجساد المسلمين العزّل حتى لا تعرف عائلة أحدهم ملامحه ولا يستطيعون التعرّف عليه ، وغازات سامة يُزعم أنها لتفريق المظاهرات وهي في الحقيقة تصيب بالاختناق القاتل ، وإطلاق الرصاص على سيارات الإسعاف ، وقتلوا بعض رجال الإسعاف ، وجرحوا آخرين ، ومنعوا سيارة تقلّ امرأة مسلمة على وشك الوضع من إكمال طريقها إلى المستشفى حتى وضعت جنينها في السيارة ، وأطلقوا رصاص 500 و800 ، ورصاص الدمدم ففجّروا رؤوس الضحايا المسلمين : مائة وستون قتيلا وخمسة آلاف جريح ومئات المعوقين وأصحاب العاهات الذين باتوا لا يستطيعون الإنفاق على أسرهم . ومواد كيماوية في خزانات مياه الشرب في فلسطين لتعقيم النساء المسلمات وإصابتهن بعدم القدرة على الإنجاب وتغيير المناهج الدراسية للمسلمين في فلسطين حذفاً وإضافة بما يوافق أهواءهم . [ المنجد ] .(1/220)
ثم يأتي بعد ذلك من يقول بالسلام مع ألد أعداء الله تعالى ، وخنازير الناس وقردتهم ، ودنسة بيوت الله عز وجل ، وخُراب الأرض ، وأصحاب الدمار الشامل على مستوى البشرية ، وخونة العهود ، ونقضة المواثيق ، وسفكة الدماء ، وقتلة الأنبياء ، فأي سلام معهم ، وأي أمن يرجى منهم ، إنهم لا حل لهم إلا السيف والقتال ، فهم أجبن من أن يخوضوا حرباً مع المسلمين ، ألم يقل الله تعالى : " لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون * لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " [ الحشر 13 ، 14 ] .
السابع والأربعون :
نفي المدينة لشرارها وخرابها ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ ، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِي يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ ، يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا ـ يصيحان بها ـ فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا ـ في أرض خالية ـ حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا " [ أخرجه البخاري ] .
سيأتي زمان تكثر فيه الفتوحات ويعم الرخاء معظم أرجاء المعمورة ، ويقدر الله تعالى أن يبقى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة وقحط وخوف ، وذلك ابتلاءً وامتحاناً ، فيتسابق ضعاف الإيمان ، وأصحاب الشر والترف إلى أماكن الرخاء حيث الفتوحات ، ولا يبقى في المدينة إلا الأتقياء والصالحون الصابرون ، الموقنون بوعد الله عز وجل ، ويكون ذلك إيذاناً بقرب وقوع الساعة .(1/221)
وقد خرج عدد كبير من الصحابة من الرعيل الأول من المدينة واستقر بعضهم في الشام ، وبعضهم في العراق ، وبعضهم في مصر ، وغيرها من البلدان ، ولم يكن خروجهم طلباً للدنيا ، بل كان الخير وفيراً في المدينة أيام عز الإسلام ورفعة ذروة سنامه ، ولكن دفعهم طلب العلم تعلماً وتعليماً إلى الترحال من مكان إلى آخر حتى استقر ببعضهم المقام في تلك البلدان ومنهم من مات بها كما هو الثابت في السير عنهم رضي الله عنهم أجمعين .
أما ما يكون من خروج الناس من المدينة النبوية في آخر الزمان ، فهو المقصود من الأحاديث الدالة على قرب وقوع الساعة ، ولا يخرج منها آنذاك إلا شرارها وحثالتها ، ومن لا دين لهم ولا عقيدة ، ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على سكنى المدينة ، ورغب في ذلك ، وأخبر أنه لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها من هو خير منه ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من علامات الساعة نفي المدينة لخبثها ، وهم شرار الناس ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ ، يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا ، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ ، أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ ، تُخْرِجُ الْخَبِيثَ ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ " [ أخرجه مسلم وأحمد ] .(1/222)
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ ـ يزينون للناس الخروج من المدينة ـ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، وَتُفْتَحُ الشَّأْمُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " [ متفق عليه ] .
وهناك خلاف بين العلماء في الزمن الذي تنفي فيه المدينة شرارها :(1/223)
فقال بعضهم : أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان لا يصبر على الهجرة والمقام معه ، إلا من ثبت إيمانه ، وأما المنافقون وجهلة الأعراب ، ومن آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه ، فلا يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون أجرهم في ذلك ، أولئك شرار الناس وخبثاؤهم ، كما جرى للأعرابي الذي بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والهجرة إلى المدينة ، فلما أصابته الحمى أراد أن يخرج من الإسلام ويترك المدينة فأبى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا نص الحديث : عَنْ جَابِرٍ رَضِي اللَّه عَنْه : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ مَحْمُومًا ، فَقَالَ : أَقِلْنِي ، فَأَبَى ـ ثَلَاثَ مِرَارٍ ـ فَقَالَ : " الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا " [ أخرجه البخاري ] ، وفي رواية لمسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ : أَقِلْنِي بَيْعَتِي ، فَأَبَى ، ثُمَّ جَاءَهُ ، فَقَالَ : أَقِلْنِي بَيْعَتِي ، فَأَبَى ، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا " [ أخرجه مسلم ] .(1/224)
فأراد الأعرابي أن يستقيل بيعته ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك ، ولا زال يكرر ذلك الطلب ويلح فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كل مرة يأبى عليه النبي صلى الله عليه ، لأن من دخل الإسلام لا يجوز له أن يخرج منه إلى الكفر ، ومن فعل ذلك وجب قتله مرتداً ، وكذلك لا يجوز لمن هاجر إلى بلاد الإسلام أن يخرج منها إلى بلد الكفر ، وهذا الأعرابي قد بايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه في المدينة ، ولا يجوز للمهاجر أن يترك هجرته ويرفض بيعته ، وقد ارتد أعرابي بعد هجرته كما في حديث مسلم حيث خرج الأعرابي من المدينة تاركاً هجرته ، وخالعاً بيعته ، وخارجاً من دينه والعياذ بالله .
وقيل أن قصة الأعرابي بعد الفتح وسقوط الهجرة ، وإنما استقال ذلك الأعرابي من الإسلام ، ولهذا لم يُقله النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي قصة خروج الأعرابي من المدينة بدون إذن من النبي صلى الله عليه وسلم دليل على ضعف الدين ، وقلة الإيمان ، وخبث طوية الرجل .
إذن القول الأول : أن زمن نفي المدينة لشرارها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد استبعد النووي هذا القول ، وهذا القول هو القول القاضي عياض رحمه الله .(1/225)
وقال بعض العلماء : أن زمن نفي المدينة لشرارها زمن الدجال ، وهو قول النووي رحمه الله ، حيث قال : " يكون ذلك زمن الدجال كما جاء في الحديث الصحيح ، عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ ، إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهَا ، فَيَنْزِلُ بِالسِّبْخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] ، فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال ، ويحتمل أنه في أزمان متفرقة والله أعلم " .
وقد ذهب الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى احتمال القولين .
أما بين ذلك من الأزمان فلا ، وكذلك من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك ، فليس بداخل في الحديث السابق .
[ إكمال المعلم 4 / 500 ، فتح الباري 4 / 117 ، 125 ، شرح النووي 9 / 156 ] .(1/226)
ويكون خروج الناس من المدينة بالكلية في آخر الزمان ، قرب قيام الساعة ، ويشهد لذلك ما جاء عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " يَتْرُكُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ لَا يَغْشَاهَا إِلَّا الْعَوَافِ يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ الْمَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلَغَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ خَرَّا عَلَى وُجُوهِهِمَا " [ متفق عليه ] ، فالمدينة ستخرب ولا يبقى بها إلا عوافي الطير والسباع ، ولا يكون ذلك إلا في آخر الزمان ، فستبقى المدينة عامرة بساكنيها أيام الدجال ، وأيام عيسى بن مريم عليه السلام حتى يموت بها ، ويدفن أيضاً فيها ، ثم بعد ذلك يخرج منها أهلها نهائياً ، خروجاً لا رجعة معه ، وذلك عند خروج النار التي تحشر الناس على محشرهم ، وأرض المحشر هي الشام ، وفي ذاك الزمن تصبح المدينة غير محمية ولا ممتنعة ، فتنتابها السباع والوحوش والطير ، لخلوها من الساكنين ، وسيأتي مزيد بحث عن النار التي تحشر الناس إلى محشرهم في أشراط الساعة الكبرى بإذن الله تعالى .
وعموماً فخروج الناس من المدينة بالكلية هو آخر علامات الساعة ، والتي لا يبقى بعدها إلا قيام الساعة والحشر إلى أرض المحشر بالشام .
الثامن والأربعون :(1/227)
قطع المال والغذاء عن العراق وبلاد الشام : عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : يُوشِكُ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ ـ مكيال معروف ـ وَلَا دِرْهَمٌ ، قُلْنَا مِنْ أَيْنَ ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ ، يَمْنَعُونَ ذَاكَ ، ثُمَّ قَالَ : يُوشِكُ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ دِينَارٌ وَلَا مُدْيٌ ـ مكيال لأهل الشام ـ قُلْنَا مِنْ أَيْنَ ذَاكَ ؟ قَالَ : مِنْ قِبَلِ الرُّومِ ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا ، لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا " [ أخرجه مسلم ] ، وليس المقصود عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وإنما قد يكون المقصود المهدي المنتظر والعلم عند الله تعالى ، كما جاء في الحديث نفسه ، فهذا الخليفة المذكور ، يكثر المال في عهده ، وتكثر الغنائم والفتوحات مع سخاء نفسه .
الحديث يبين أن من علامات الساعة في آخر الزمان ، استيلاء العجم والروم على بلاد المسلمين ، والاستمتاع بثرواتها ونفطها وينابيعها ، ومقدراتها ، ومعاصرة بعض البلدان الإسلامية سياساً واقتصادياً ، فيمنعون عنها المال والغذاء ، لا لشيء ، إلا لإجبارها لأن تخضع لهم ، وتذل وتذعن لمخططاتهم وأوامرهم ، والتحكم في شؤون البلاد الإسلامية داخلياً وخارجياً ، والتحكم في سياساتها وتعاملاتها مع الدول الأخرى ، وسلب ما أنعم الله به على تلك الدول من خيرات وأرزاق وبترول ومعادن وغيرها ، ومن تأمل حال الواقع اليوم ، ونظر إلى الأحداث بعين ثاقبة يجد مصداقية هذا الحديث ، وإن كان موقوفاً فله حكم الرفع ، لأن مثل هذا الإخبار عن الغيب لا يكون إلا تلقياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/228)
وإن المتأمل بعين الحق والبصيرة ليرى مصداقية هذا الحديث ، فهو علم من أعلام النبوة المحمدية ، حيث تحقق هذا الخبر ، وأصبح في دنيا الواقع من الأمور الظاهرة ، وذلك أن رأس الكفر العالمي ، وحاملة لواء الإرهاب والعنف ، أمريكا فرضت الحصار على الشعب العراقي المسلم البريء ، ولا غرابة في ذلك فأمريكا تعشق الظلم والبغي والعدوان ، وقد شمل ظلمها كل نوع وجنس وهوية وملة ، فعلى أمريكا تدور رحى الهمجية والتطرف ، وهي حاملة كأس الموت ، وهي السابقة في كل الميادين الإجرامية ، وهي رائدة الكبر والطغيان والتمرد والإجرام ، فأمريكا لا ترعى لشيخ حرمة ، ولا لطفل رحمة ، ولا لمرآة عاطفة .
كم قتلت أمريكا في العراق .
وكم قتلت في فلسطين .
وكم قتلت في أفغانستان .
وكم قتلت في حرب فيتنام .
وكم قتلت في اليابان .
وكم قتلت .... وكم دمرت .... وكم أجرمت ... ؟ !!
تعجز الأقلام عن تسويدها، ولا يسع الصحف عرضها ، ولا تستطيع الذاكرة استيعابها .
أمريكا عدوة الإنسانية ، ليس المسلمين فحسب بل من كل ملة ، اسألوا أفريقيا السوداء واليابان ، واسألوا أمريكا الجنوبية ، الذين يجزرون بعشرات الملايين ، أرقام خيالية، وأعداد رنانة ، ووفيات فوق حسابات البشر ، " قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ " [ التوبة 30 ] .
وطريقة القتل عندهم طريقة وحشية وليست إنسانية ، فهم يصبون وابلاً من الأطنان على الأبرياء وكأنهم يصبون على جبال صماء ، وصدق الله حيث يقول : " إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ " [ الكهف 20 ] .(1/229)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إذا مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا ، وَمَنَعَتِ الشَّأْمُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا ، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ " ، شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ " [ أخرجه مسلم وغيره ] .
فالحديثين يدلان على معنيين :
الأول : إسلام تلد البلدان وبالتالي تمنع الجزية التي كانت تؤديها ، وقد حصل ذلك فعلاً .
الثاني : وقيل لأن أهل تلك البلاد يرتدون في آخر الزمان ، فيمنعون ما لزمهم من الزكاة ، ولكن يجاب عن ذلك ، بان منع الزكاة واقع اليوم في جميع دول الإسلام بلا استثناء ، ولا أقول من كل الأغنياء أو من وجبت عليهم الزكاة ، كلا ، ولكن هناك فئة كثيرة من المسلمين ممن وجبت عليهم زكاة أموالهم ، ومع ذلك لم يؤدوها ، فغضب الله عليهم ، فمنع البلاد من القطر والخير والرحمة ، وهذا أمر مشاهد وملموس اليوم ، فكم هي الأراضي الجدباء ، ولولا البهائم والزرع لما مُطرت الأرض ، ولكنها رحمة أرحم الراحمين .
ثالثاً : أن الكفار الذين عليهم الجزية ، تقوى شوكتهم فلا يؤدون الزكاة .(1/230)
الرابع : أن العجم والروم يستولون على بلاد المسلمين ، ويتمتعون بخيراتها ، ويمنعون ذلك عن المسلمين ، ويكون ذلك في آخر الزمان ، والناظر اليوم في مجريات الأحداث على الساحة العالمية والإسلامية بشكل خاص يرى وقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمريكا وغيرها من دول التحالف قد سيطرت تماماً على بعض الدول الإسلامية ، وأحكمت عليها قبضتها ، وتمكنت من الإمساك بزمام أمورها ، وبالتالي منعت المسلمون من الاستمتاع بخيرات أراضيهم التي حباهم الله بها ، ولا أدل على ذلك من الواقع في العراق اليوم ، ففي محرم من عام 1424هـ ، تمكنت القوات الأمريكية بخيانة من الشيعة وغيرهم من الاستيلاء على العراق شعباً وأرضاً ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وبالتالي تمكنت من الاستيلاء على بترولها ، وثرواتها الاقتصادية والزراعية والتجارية ، وأسلحتها القتالية ، ومنعت ذلك عن المسلمين . ولعل هذا القول هو القول الصواب في تفسير ما جاء في الحديثين السابقين . لأن مجريات الأحداث تؤيده وتدل عليه . [ شرح النووي على مسلم 18 / 229 ] .
وقد حدث هذا الحصار الاقتصادي قديماً على العراق والشام أيام السيطرة البريطانية على بلاد المسلمين ، فحاصرت العراق والشام ومنعت عن هذين البلدين المسلمين المال والغذاء إلى أن انجلت تلك المحنة ولله الحمد والمنة .(1/231)
وهاهو التأريخ يعيد نفسه ، ونرى الأحداث قد عادت لتجد ظلم الغرب الكافر ، وتجدد أحزان المسلمين ، وجراحهم التي لم تلتئم بعد ، فهاهو الحصار الأمريكي بتغطية من مجلس الأمن الدولي للعراق المسلمة وشعبها الأبي ، يتجدد بحجة واهية أضعف من بيت العنكبوت ، فوقع ضحية ذلك الحصار الظالم الذي لم يقره عاقل على مستوى العالم بأسره ، بل إن هناك الكثير من الضباط وكبار المسؤولين من دول عظمى قدموا استقالاتهم لذلك العدوان الصارخ ضد الأبرياء من المسلمين في العراق وخصوصاً الأطفال والرضع والشيوخ وكبار السن والنساء ، الذين يموتون كل يوم بسبب الفقر والجوع ونقص الغذاء والدواء .
يقول هوج ستيفتر من معهد الدراسات المستقلة ، عن حصار العراق ، هو أكثر الجرائم ، وحشية في القرن العشرين ، وتقول منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة – برنامج الغذاء العالمي – في التحذير الخاص رقم 237في يوليو 1993م ، إنه بلد اقتصاده مدمر ، بسبب استمرار العقوبات التي شلت فعلياً الاقتصاد كله ، وأدت إلى عوز مستمر وجوع مزمن ، ونقص في التغذية ، وبطالة متفشية ، ومعاناة واسعة الانتشار .... ويتناول عدد كبير من العراقيين حالياً كمية من الغذاء تقل عما يتناوله السكان في الأقطار الأفريقية التي تحل بها الكوارث) .(1/232)
وقد قتل أكثر من مليون طفل عراقي ، بسبب قصف الطائرات الأمريكية للعراق وحصارها الظالم له خلال أكثر من عشر سنوات ، وأصيب الآلف من الأطفال الرضع في العراق بالعمى لقلة الإنسولين ، وهبط عمر العراقيين 20سنة للرجال و 11سنة للنساء ، بسبب الحصار والقصف الأمريكي ، وأكثر من نصف مليون حالة وفاة بالقتل الإشعاعي وأوضح بيان لوزارة الصحة العراقية أن مجموع الذين توفوا من الصغار والكبار بسبب الحصار المفروض على العراق منذ محرم – 1411هـ وحتى صفر – 1422هـ بلغ مليوناً و489,959 شخصاً ، كما أعلنت وزارت الصحة العراقية أن أكثر من 184ألف عراقي توفوا عام 1421هـ بسبب انعكاسات الحظر المفروض على العراق ، وأن من بينهم أكثر من 84ألف طفل دون سن الخامسة ، كما أشار البيان المذكور إلى أن عدد العراقيين الذين توفوا منذ فرض الحظر في أغسطس 1990م ، وحتى نهاية عام 2001م بلغ مليوناً 639,629شخصاً ، بينهم 674,780طفلاً دون سن الخامسة ، وفي نفس الوقت فأمريكا مستفيدة اقتصادياً من هذا الحصار ، فقد أكد طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي أن الولايات المتحدة ربحت جراء الحصار على العراق واستمراره 300 مليار دولار ، بينما خسرت روسيا حوالي 70 مليار دولار ، وتركيا 35 مليار.
وقد رفع أحد المحامين النصارى الأمريكيين دعوى على الرئيس الأمريكي جورج بوش – الأب – يطالب فيها بمحاكمته على أنه مجرم حرب ، بسبب ما أحدثه في العراق من قتل وتدمير !!! .
وقتل الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال الفلسطينيين بالسلاح الأمريكي .
وأخيراً تم الانقضاض على الفريسة الجريحة المثخنة بجراحاتها جراء حصار دام أكثر من عشر سنوات متواصلة ، فتمت السيطرة على العراق المسلم .
يقول أحد الخبراء حول حرب العراق الأخيرة :(1/233)
إن السبب الذي تتستر وراءه أمريكا من زعمها إزالة صدام يختلط بالمصالح الأمريكية المحضة الهادفة إلى فرض هيمنتها وسيطرتها العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والاقتصادية على المنطقة كلها تبعاً لخططها الاستراتيجية التي حددت مفهومها للنظام العالمي الجديد والعولمة ذات القطب الواحد ومن التأمل البسيط للأهداف الأمريكية يجعل الهدف الحقيقي من الحرب مفضوحا فإن إزالة الرئيس العراقي لا تستدعي حرباً ولم يبق عنده شيء من سلاح دمار شامل وإنما هو النفط الذي يغري فان دراسات الخبراء تشير أن الاحتياطي النفطي العراقي هو اكبر احتياطي في العالم خلافاً لما يعلن من أن احتياطي أرامكوا هو الأكبر وكادت فرنسا والمانيا أن تحصلا على امتياز حقل مجنون العملاق في أواخر الثمانينات ففوتت أمريكا الفرصة عند اقتحام صدام للكويت ثم الانقضاض عليه وبدلت حرب الخليج الثانية جميع الخوارط والتراتيب القديمة وفرضت أمريكا نفسها عالميا كقطب أوحد لا معارض له وأرخصت أسعار النفط بما يحفظ مصالح ميزانيتها حتى قال بعض خبراء النفط العرب إن ما فقدته البلاد العربية عبر الثمن النازل عن المقدار الواجب اللائق يقدر بأكثر من ألف وخمسمائة مليار دولار خلال هذه السنوات الأخيرة بعد تحرير الكويت ، ثم هاهي أمريكا تندفع اليوم لإكمال سيطرتها على نفط العالم بعامة ونفط العراق والخليج بخاصة وتجعل ذلك ركنا في خطتها الاستراتيجية المقدمة إلى الرئيس بوش الابن قبل انتخابه بستة أشهر إذ إن العالم بعد سبع سنوات من الآن سيستورد من العراق فقط ربع كمية الاستهلاك اليومي ومن الخليج نصف الكمية فإذا أخذنا في الاعتبار أن نفط إيران معني من قبل أمريكا أيضا ونفط الجزائر وليبيا والسودان فإن اعتماد العالم في المستقبل سيكون بصورة تامة على النفط العربي إلا قليلا من الأسرار التي لا يعلمها إلا قليل من الناس .(1/234)
إن أمريكا قد اكتشفت من قبل أن السودان كله يطفو فوق بحيرة من النفط لكنها لم تستخرجه وتركته ليكون الاحتياطي الرئيسي إذا اضطربت أحوال الخليج وأغلقت قناة السويس وفي خطتها أن تستخرجه وتبني أنبوبا يوصله إلى سواحل غرب إفريقيا ليشحن إليها بحرية عبر المحيط بعيدا عن المضايق فجاءت حكومة الإنقاذ الإسلامي في السودان وتحدت الإدارة الأمريكية واستخرجته قبل أوانه الذي حددته الاستراتيجية الأمريكية ومن ثم كان الغضب الأمريكي على السودان وبعد إنجاز حربها واحتلال العراق سيكون أول بلد تصب عليه غضبها هو السودان لوقف عمليات الاستخراج والاحتفاظ بنفط السودان كاحتياطي مستقبلي فقط يوفر لها الطاقة .
كذلك تشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب بل واستخدامه كسلاح سياسي فاعل ليس تجاه دول العالم الثالث فقط بل وتجاه دول أوروبا الكبرى أيضا بحرمانها من شرائه إذا كانت تشاكس أمريكا وتتمرد وهذا هو بعض سر الموقف الفرنسي الألماني الرافض للحرب ، ثم تؤكد الأخبار أن أقطاب الإدارة الأمريكية : بوش ومن قبله أبيه وجده وديك تشيني ، ورامسفيلد ، وكونداليزا رايس ، كلهم لهم شركات نفطية ستذهب لها بعض حصص نفط العراق ، والخليج ، وافصح سقوط الطائرة الإغاثية في باكستان قبل أيام عن عمل خفي لوضع هندسة مرور أنابيب النفط والغاز من أسيا الوسطى عبر أفغانستان وصولاً إلى الخليج مما يعتبر الهدف الرئيسي من غزو أمريكا لأفغانستان واستترت من اجله بستار مكافحة الإرهاب ثم عادت تولول وتطبق خططها الاستعمارية تحت غطاء مقاومة الإرهاب وحري أن ننظر إلى ما في ثنايا قصة الطائرة من امتلاك جمعية إغاثية غربية لها فقد اصبح جزءاً من العمليات الاستخبارية التجسسية يطبق في بلادنا تحت مظلة الإغاثة كالذي كان ويكون من إغاثة حركة تمرد جنوب السودان باسم الإغاثة الإنسانية وتوزيع السلاح هناك بطائرات الإغاثة .(1/235)
وقد صرح بوش بأن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند أمريكا لحساب الشعب العراقي فأعاد إلى ذاكرتنا مثل إيداع الشاة لدى الذئب ، والشحم لدى القط .
وفي القصص أن الأسد استعان بالذئب والثعلب في يوم صيد فصادوا جملاً وغزالاً وأرنبا فضحك الثعلب وقال بفضول : قد جاءت النسبة قدرية واضحة التناسب فالجمل لمولانا الملك ، والغزال للذئب ، والأرنب لي ، فلطمه الأسد وأسال دمه على وجهه والتفت إلى الذئب يستشيره ، فقال الذئب : بل الجمل تأكله الآن أيها الملك وأحب لك أن تتلهى عصراً بين الوقتين بالأرنب ثم يكون عشاؤك الغزال فإنه أخف على المعدة عند النوم فابتسم الأسد وقال هذه هي الحكمة بعينها من أين تعلمتها ؟ قال : رأيتها في الكتاب الذي كتب بالمداد الأحمر يعني وجه الثعلب الدامي .
فوديعتنا لدى الملك لن تقسم إلا كذلك ودروس أمريكا لشعوب الأرض هي الكتاب البليغ الفصيح الأحمر ، وستسيطر على العراقيين أحزان والآم نتيجة سعة التدمير وكثرة القتلى وجريان الدماء ، والأمريكي المنتصر سيتصرف بزهو وخيلاء وتكبر ، ويتبجح علانية وستدون مكتبة واسعة من كتب سطرت بالمداد الأحمر التهديدي لكل البشرية وليس كتاباً واحداً .
وهذه بريطانيا حاربت في «فوكلاند» قبل عشرين سنة تحت شعار تصدير الديمقراطية إلى الأرجنتين ، وهي الآن تستنبط النفط من تلك الجزيرة النائية التي عجب السذج من اهتمام بريطانيا بها ذلك اليوم ، وصار المثل الفوكلاندي واضحاً في قيادة حروب النفط بشعارات التباكي على الديمقراطية .(1/236)
لكن المتأمل يدلنا على أن هذه الأهداف النفطية والسياسية التي تريد أمريكا الوصول إليها عبر الحرب تعتبر ثانوية بالنسبة إلى الهدف الرئيس الأهم المتمثل في محاولة تحطيم العراق وجيشه وتدمير البنية الصحية والنفسية المعنوية للشعب العراقي بحيث يعجز عن دخول حرب مع إسرائيل فأمريكا تقوم بهذه المهمة نيابة عن إسرائيل إذ اليهود يجدون في التلمود أن خراب دولتهم الثانية هذه سيكون على أياد جند أولى باس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج بختنصر الذي خرب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين وساقهم أسرى وإنما صممت أمريكا مواصلة حصار العراق وامتداد وقته بحيث تحصل سوء تغذية في عموم الشعب طويلة الأمد تؤدي إلى وهن عام ، وإحداث طفرة وراثية تنتج المرض المنغولي وأنواع الإعاقة والتخلف إلى درجة يضمر معها الذكاء وعموم مستلزمات الأداء الحربي لشعب العراق وتحصل حالة انكفاء عام واهتمام بالآلام فينام اليهود عندئذ بأمان ولكن الله سلم وشاءت حكمته أن يكون التمر الكثير في العراق أفضل غذاء غني بأنواع المعادن والفيتامينات فانجد أهل العراق وأنقذهم رب العزة والجلال ، وفشل الحصار في تحقيق هدفه وصار تحطيم هذا الشعب الجسور من مهمات الحرب الاستعمارية الأمريكية الجديدة بحيث صممت لنشر الموت الذريع في هذا الشعب الأبي أو الإعاقة الدائمة عبر استعمال آلاف الصواريخ والقنابل الذكية الليزرية وقنابل أخرى تسمى قنابل المايكروويف تعطل جميع الأجهزة الإلكترونية وتحرق جلود الناس وربما استعملت أمريكا الأسلحة النووية والقنابل النيوترونية كما صرح رامسفيلد وزير دفاعها لنشر الإعاقة فيمن تناله إشعاعاتها ـ وقد تم استخدام جميع الأسلحة المحرمة الدولية بالفعل في مطار بغداد وغيره ـ مما أيد الشكوك في أن الحرب إنما تراد لتحطيم الشعب والبنية الصحية والطاقات الصناعية والزراعية وحرق النخيل الذي يتحدى التجويع ثم تتولى خطة افتقار العراق على المدى الطويل ، وإتمام(1/237)
المهمة الشريرة وتحول مياه أنهاره إلى إسرائيل فتيبس الحقول وتحول أثمان نفطه إلى إطفاء الديون وسداد العقوبات وكلفة الحرب فتكون الكارثة الصحية ويحصل الانهيار المعنوي مع العلم أن مدير برنامج الغذاء العالمي قد صرح بأن المتوقع أن الحرب ستصيب ما بين خمسة إلى عشرة ملايين عراقي بنقص الغذاء وان جمعيته لا تستطيع إلا مساعدة تسعمائة ألف فقط .
فأمريكا تسعى جاهدة مع الدول الإسلامية والعربية إلى الاعتراف الرسمي بإسرائيل وعقد معاهدة على غرار معاهدات السلام التي وقعها السادات وغيره والقبول بالتطبيع السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع اليهود وبذلك تتوفر حماية دائمة لإسرائيل وفق القانون الدولي وأنظمة الأمم المتحدة وحلف الناتو تمنع العراق من شن حرب في المستقبل على إسرائيل أو إلحاق أي نوع من الأذى بها مهما صغر ، وذلك يعني تعطيل فريضة الجهاد ويتضمن هذا الحال نزع الهوية الإسلامية للشعب العراقي عبر المناهج الدراسية والتلقين الإعلامي الكثيف وغرس تربية غربية بديلة أمريكية الأنماط والأذواق وفض هزيمة معنوية وفرض شعور يأس واستسلام للعدو، والجدير بالذكر أن رسائل كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي إلى أقطاب المعارضة العراقية اشترطت عليهم صراحة وجوب الاعتراف بإسرائيل وقبلت المعارضة ذلك .
وهذا ما حصل فعلاً في اجتماع شرم الشيخ الذي عقد في جمهورية مصر العربية ، عندما كانت طلبات الدولة الأمريكية الاعتراف بإسرائيل كدولة ، ومنحها الأمن التام والكامل ، وضمان عدم إزعاجها من قبل جيرانها العرب كما يزعمون ، وحقيقة لا يمكن لإسرائيل أن تنام قريرة العين مادام الأقصى قابعاً في قبضتهم ، ولن تنعم دولة صهيون بالقرار حتى تنسحب كلياً من دولة فلسطين المسلمة الحرة المغتصبة بالقوة .(1/238)
وبعد الأحداث الآثمة التي حصلت في الرياض من تفجيرات غير شرعية ، بل محرمة شرعاً ، نرى أمريكا تسعى لتتدخل في الموضوع والتحقيق فيما جرى ، ثم تلقي باللائمة على مناهج التعليم ، سبحان الله ملايين الشباب والرجال قد تخرجوا من تلك المدارس التي تدرس تلك المناهج فهل فكر أحدهم يوماً ما أن يقوم بعمل تخريبي في بلاده ، لا ولن يفكر عاقل حصيف في مثل تلك الأعمال الهوجاء التي لا تمت للدين بصلة ، بل سارع الجميع علماء وطلاب علم وعامة الناس من المسلمين إلا إنكار ذلك الفعل القبيح ، والعمل الشائن ، ولكن لأمريكا بعد سياسي ورؤية اقتصادية تريد تحقيقها من وراء تغيير المناهج التعليمية في الدول الإسلامية ، حتى تضمن منع الجهاد نهائياً وتعطيله إلى الأبد ، ومنح الحماية الكاملة لمدللتها الدولة العبرية الصهيونية ، وبإذن الله لن يتحقق لها مرادها مادام أبناء الملك الموحد والمجاهد البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله يحكمون هذه البلاد ، بشريعة الله تعالى ، ومحكمين فيها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يأخذهم في ذلك لومة لائم ، لعلمهم أن شعبهم ووطنهم معهم في الشدة والرخاء ، فالحمد لله على قضائه والشكر له على نعمائه .
فالأحاديث تدل على أن الشام ومصر على نحو العراق ، فما حصل للعراق ليس ببعيد عن الشام ومصر ، واليوم نسمع هجمات كلامية شرسة ضد سوريا البلد المسلم المسالم ، والله أعلم بما سيحصل للبلاد الإسلامية في الزمن القادم .
التاسع والأربعون :
أن تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً : روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً " .(1/239)
إن أرض العرب أرض قاحلة كما هو معروف، شحيحة المياه، قليلة النبات، غالب مياهها من الآبار والأمطار، فمن علامات الساعة أن تنقلب هذه الأرض ويكثر فيها المياه، حتى تكون أنهاراً، فتنبت بها النباتات، فتكون مروجاً وحدائق وغابات، ونحن نشاهد في وقتنا هذا أن عيوناً كثيرة تفجرت كالأنهار، وقامت عليها زراعات كثيرة، ولعل من أعجب ذلك هذا الحديث الصحيح في صحيح مسلم عن منطقة تبوك، والتي بدأنا نشاهد شيئاً من خيرات أرضها، ما لم تكن من قبل .(1/240)
عَنْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا ، ثُمَّ قَالَ : " إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ " ، فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ ـ يعني ماؤها قليل ـ فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ؟ " قَالَا : نَعَمْ ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ، قَالَ ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ ، قَالَ وَغَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ، أَوْ قَالَ غَزِيرٍ حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ ثُمَّ قَالَ : " يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا " [ أخرجه مسلم وأحمد ومالك وغيرهم ] ، وهانحن نرى الآن أرض تبوك قد ملئت جناناً ، فالمزارع والبساتين والحدائق في كل مكان ، بل أصبحت تبوك تصدر الكثير من الفواكه والخضراوات والزهور والحبوب ولحوم الطير(1/241)
والحيوان إلى بعض البلدان المجاورة ، بسبب الاهتمام المتزايد من أهالي المنطقة بالزراعة ، وحفر الآبار الارتوازية التي ينبع منها الماء بكثرة ووفرة ، كما اتجهت الحكومة الرشيدة أيدها الله بتأييده ، ووفقها بتوفيقه ، إلى إنشاء السدود التي تحبس المياه ، حتى أصبحت وكأنها أنهاراً تجري لري الأراضي الزراعية في تلك المنطقة ، حتى أصبحت مروجاً ومزارع وخضرة يانعة ، وهاهي اليوم بعد أن كانت أرضاً قاحلة لا حياة فيها ، إذ بها خضراء يانعة تزخر بأنواع الزروع والثمار ، والدواب والطيور ، وتجري المياه فيها كأنها أنهاراً فسبحان الله العظيم القادر على إحياء الموتى ، وإعمار الأرض ، قال تعالى : " ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " [ الروم 24 ] ، وقال تعالى : " وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً * لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسياً كثيراً " [ الفرقان 48 ، 49 ] .
غزوة تبوك :
ولنا وقفة مع غزوة تبوك التي كانت فيها معجزة من معجزات النبوة ، حيث أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن هذه الأرض بعد أن كانت قاحلة لا سكن فيها ولا مورد للحياة ، أصبحت بعد ذلك مدينة عريقة تزدحم بالسكان ، وتكثر فيها موراد العيش ، وتزخر بأنواع مقومات الحياة البشرية والحيوانية ، ولنا وقفة قصيرة مع تلك الغزوة التي كانت في هذه المنطقة ، فغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة النبوية ، وكانت آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم .
فلما عاد رسول الله أقام بالمدينة بعد عوده من الطائف ما بين ذي الحجة إلى رجب أم أمر الناس بالتجهز لغزو الروم وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وشدة الحر وقوة العدو .(1/242)
وكان سببها أن النبي بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد عزموا على قصده وحربه فتجهز هو والمسلمون وساروا إلى الروم وكان الحر شديدا والبلاد مجدبة والناس في عسرة وكانت الثمار قد طابت فأحب الناس المقام في ثمارهم فتجهزوا على كره فكان ذلك الجيش يسمى جيش العسرة فقال رسول الله للجد بن قيس وكان من رؤساء المنافقين هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر فقال والله لقد عرف قومي حبي للنساء وأخشى أن لا أصبر على نساء بني الأصفر فإن رأيت أن تأذن لي ولا تفتني فقال رسول الله قد أذنت لك فأنزل الله تعالى : " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " الآية وقال قائل من المنافقين لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول فنزل قوله تعالى : " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً " الآية ، ثم إن النبي تجهز وأمر بالنفقة في سبيل الله وأنفق أهل الغنى وانفق أبو بكر جميع ما بقي عنده من ماله وانفق عثمان نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها قيل كانت ثلاثمائة بعير وألف دينار ثم إن رجالا من المسلمين أتوا النبي وهم البكاؤون وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم وكانوا أهل حاجة فاستحملوه فقال لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا يبكون فلقيهم يامين بن عمير بن كعب النضري فسألهم عما يبكيهم فأعلموه فأعطى أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل المزني بعيرا فكانا يعتقبانه مع رسول الله وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إلى رسول الله فلم يعذرهم الله وكان عدة من المسلمين تخلفوا من غير شك منهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية وأبو خيثمة وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم(1/243)
فلما سار رسول الله تخلف عنه عبد الله بن أبي المنافق فيمن تبعه من أهل النفاق واستخلف رسول الله على المدينة سباع بن عرفطة وعلى أهله علي بن أبي طالب فأرجف به المنافقون وقالوا ما استخلفه إلا استثقالا له فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله فأخبره ما قال المنافقون فقال كذبوا وإنما خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي واهلك أما ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي فرجع علي إلى المدينة ، فسار رسول الله ثم إن أبا خيثمة أقام أياما فجاء يوما إلى أهله وكانت له امرأتان وقد رشت كل امرأة منهما عريشها وبردت له ماء وصنعت طعاما فلما رآه قال يكون رسول الله في الحر والريح وأبو خيثمة في الظل البارد والماء البارد والطعام المهيء والمرأة الحسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف والله ما أحل عريشا منهما حتى ألحق برسول الله فهيأ زاده وخرج إلى ناضحه فركبه وطلب رسول الله فأدركه بتبوك فقال الناس يا رسول الله هذا راكب مقبل فقال رسول الله كن أبا خيثمة فقالوا هو والله أبو خيثمة وأتى رسول الله فأخبره بخبره فدعا له(1/244)
وكان رسول الله حين مر بالحجر وهو بطريقه وهو منزل ثمود قال لأصحابه لا تشربوا من هذا الماء شيئا ولا تتوضأوا منه وما كان من عجين فألقوه واعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرج الليلة أحد إلا مع صاحب له ففعل ذلك الناس ولم يخرج أحد إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فأصابه جنون وأما الذي طلب بعيره فاحتمله الريح إلى جبلي طيىء فأخبر بذلك رسول الله فقال ألم أنهكم أن لا يخرج أحد إلا مع صاحب له فأما الذي خنق فدعا له فشفي وأما الذي حملته الريح فأهدته طيىء إلى رسول الله بعد عوده إلى المدينة وأصبح الناس بالحجر ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى النبي فدعا الله فأرسل سحابة فأمطرت حتى روي الناس واحتملوا حاجتهم من الماء وكان بعض المنافقين يسير مع رسول الله فلما جاء المطر قال له بعض المسلمين هل بعد هذا شيء قال سحابة مارة ، وضلت ناقة رسول الله في الطريق فقال لأصحابه وفيهم عمارة بن حزم وهو عقبي بدري إن رجلا قال إن محمدا يخبركم الخبر من السماء وهو لا يدري أين ناقته وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله عز وجل وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا قد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا فأتوه بها فرجع عمارة إلى أصحابه فخبرهم بما قال رسول الله عن الناقة تعجبا مما رأى وكان زيد بن لصيب القينقاعي منافقا وهو في رحل عمارة قد قال هذه المقالة فأخبر عمارة بأن زيدا قد قالها فقام عمارة يطأ عنقه وهو يقول في رحلي داهية ولا أدري اخرج عني يا عدو الله من رحلي ولا تصحبني فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وحسن إسلامه وقيل لم يزل متهما حتى هلك ، ووقف بأبي ذر جمله فتخلف عليه فقيل يا رسول الله تخلف أبو ذر فقال ذروه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم فكان يقولها لكل من تخلف عنه فوقف أبو ذر على جمله فلما أبطأ عليه أخذ رحله عنه وحمله على ظهره وتبع النبي ماشيا فنظر الناس فقالوا يا رسول الله هذا رجل على الطريق وحده فقال(1/245)
رسول الله كن أبا ذر فلما تأمله الناس قالوا هو أبو ذر فقال رسول الله يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده ويشهده عصابة من المؤمنين فلما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة فأصابه بها أجله ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه فأوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ثم يضعاه على الطريق فأول ركب يمر بهما يستعينان بهم على دفنه ففعلا ذلك فاجتاز بهما عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق فأعلمته امرأة أبي ذر بموته فبكى ابن مسعود وقال صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم واروه ، وانتهى رسول الله إلى تبوك فأتى يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة فصالحه على الجزية وكتب له كتابا فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار ثم زاد فيها الخلفاء من بني أمية فلما كان عمر بن عبد العزيز لم يأخذ منهم غير ثلاثمائة وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب وصالح أهل جرباء على الجزية وصالح أهل مقنا على ربع ثمارهم ، وأرسل رسول الله خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وكان نصرانيا من كندة فقال لخالد إنك تجده يصيد البقر فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه على منظر العين وأكيدر على سطح داره فباتت البقرة تحك بقرونها باب الحصن فقالت امرأته هل رأيت مثل هذا قط قال لا والله قالت فمن يترك هذا قال لا أحد ثم نزل وركب فرسه ومعه نفر من أهل بيته ثم خرج يطلب البقر فتلقتهم خيل رسول الله وأخذته وقتلوا أخاه حسانا وأخذ خالد من أكيدر قباء ديباج مخوص بالذهب فأرسله إلى رسول الله قبل قدومه فجعل المسلمون يلمسونه ويتعجبون منه فقال رسول الله أتعجبون من هذا لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا وقدم خالد بأكيدر على رسول الله فحقن دمه وصالحه على الجزية وخلى سبيله فرجع إلى قريته ، وأقام رسول الله بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها ولم يقدم عليه الروم والعرب المتنصرة فعاد إلى المدينة وكان في الطريق ماء يخرج من وشل لا يروي إلا الراكب(1/246)
والراكبين بواد يقال له وادي المشقق فقال رسول الله من سبقنا فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه فسبقه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما جاء رسول الله أخبروه بفعلهم فلعنهم ودعا عليهم ثم نزل رسول الله إليه فوضع يده تحته وجعل يصب إليها يسيرا من الماء فدعا فيه ونضحه في الوشل فانخرق الماء جريا شديدا فشرب الناس واستقوا وسار رسول الله حتى قارب المدينة فاتاه خبر مسجد الضرار فأرسل مالك بن الدخشم فحرقه وهدمه وأنزل الله فيه والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين الآيات وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا وكان قد أخرج من دار خذام بن خالد من بني عمرو بن عوف ، وقدم رسول الله وكان قد تخلف عنه رهط من المنافقين فأتوه يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله ولم يعذرهم الله ورسوله وتخلف أولئك النفر الثلاثة وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع تخلفوا من غير شك ولا نفاق فنهى رسول الله عن كلامهم فاعتزلهم الناس فبقوا كذلك خمسين ليلة ثم انزل الله توبتهم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم الآيات إلى قولهم صادقين وكان قدوم رسول الله المدينة من تبوك في رمضان . [ الكامل في التأريخ 2 / 251 ] .
ملاحظة : قبل عرض الموضوع ينبغي مراجعته على الرحيق المختوم
فهانحن نرى أرض تبوك وقد عادت مروجاً وأنهاراً ولله الحمد والمنة .
الخمسون :
الواحد والخمسون :(1/247)
انتشار الأمن في بعض فترات الأمة ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا وَأَنْهَارًا ، وَحَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَمَكَّةَ لَا يَخَافُ إِلَّا ضَلَالَ الطَّرِيقِ ، وَحَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ " قَالُوا : وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الْقَتْلُ " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم 14 / 427 ] .
وهذا قد وقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وذلك حينما عمّ الإسلام والعدل البلاد التي فتحها المسلمون، وأيضاً في زمن عمر بن عبدالعزيز .(1/248)
إذن لنعلم أن الأمن مرتبط بالإسلام والعدل ، فإذا رأيت الأمن قد عمّ البلاد فأعلم بأن راية الإسلام مرفوعة والعدل قائم ، وهذا يؤيده الحديث عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ ، فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ ، فَقَالَ يَا عَدِيُّ : هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ ؟ قُلْتُ : لَمْ أَرَهَا ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا ، قَالَ : " فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ ، حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ ، لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ـ قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي : فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ ، الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ ـ وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى ـ قُلْتُ : كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، قَالَ : كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ ، وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ ، فَلَيَقُولَنَّ لَهُ : أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى ، فَيَقُولُ : أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى ، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ " قَالَ عَدِيٌّ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ " قَالَ(1/249)
عَدِيٌّ : فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ ، لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ ، وَكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ " [ أخرجه البخاري ] .
وسيتحقق هذا الأمن، وسينتشر في زمن المهدي في آخر الزمان ، وفي زمن عيسى بن مريم عليه السلام بعدما ينزل ، لأن زمنهما سيعم العدل مكان الجور والظلم، وسيملأن الدنيا قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
وفي زماننا هذا بل وفي كل الأزمنة الماضية ، تنقل لنا كتب التأريخ الظلم والعدوان الذي حصل في فترات هناك ، فتزعزع الأمن وأصبح الفرد يخاف حتى من جاره ، ولا يأمن أحداً بوائقه ، وفي وقتنا الحاضر ينقل لنا كل من عاش في بلاد الكفر وغيرها من البلاد التي لا تطبق الشريعة الإسلامية ، نقلوا لنا انفراط عقد الأمن هناك ، فكثير من الناس لا يستطيعون الخروج من منازلهم ليلاً خوفاً من اللصوص وقطاع الطرق ، بل إذا طُرق الباب أصاب أهل المنزل الهلع ، وتملكهم الخوف الشديد خوفاً من أن يكون الطارق لصاً يريد السرقة أو الوقيعة بأهل البيت ، وهذا تناسب طردي فكلما كان العدل موجوداً كان الأمن سائداً ، وكلما فُقد العدل ، فقد الأمن وسادت الفوضى والاضطرابات أرجاء البلاد ، وهذا هو المشاهد اليوم في كثير من تلك الدول التي لا تقيم شرع الله تعالى ، ولا تحكم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .(1/250)
أما نحن في هذه البلاد فننعم بأمن وراف ، وأمان جارف ، والفضل في ذلك أولاً وآخراً لله سبحانه وتعالى الذي أنعم على هذه البلاد بشتى النعم ، فلا يخاف الرجل على نفسه ولا على أهل بيته ، لأن الأمن أساس العدل ، والعدل أساس الحكم ، فمتى طبقنا شريعة ربنا ، ومتى حكمنا سنة نبينا ، ظفرنا بمطلوبنا من الأمن والأمان ، والعدل والقسط ، فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالعدل والأمان في الأوطان ، والصحة في الأبدان ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
صحيح أنه قد تحدث فترات تعصف بالأمة بعض الفتن والمحن ، وقد يعتريها بعض الشوائب ، والانتكاسات ، وهذا أمر طبيعي ، وحدوثه شيء فطري ، فكلما ابتعد عن الناس عن دينهم شيئاً عوقبوا بما يكون زاجراً لهم ورادعاً ليعودوا إلى دينهم ، ويراجعوا أنفسهم ، فلا شك أن هناك خلل ما قد حصل ، فربما راجع كل إنسان نفسه ، وحاسبها وأنبها ، فتعود سفينة الأمان كما كانت عليه ، وهكذا هي الحياة تعب ونكد ، وراحة واطمئنان ، فلا استقرار لحال ، فسبحان الله العظيم ، الحكيم العليم .
الثاني والخمسون :
تقارب الزمان ، بحيث تصبح السنة كالشهر ، والشهر كالأسبوع ، والأسبوع كاليوم ، واليوم كاحتراق السعفة من ورق النخيل ، ويشهد لذلك ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ فَيَفِيضَ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] .(1/251)
وعَنْه رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ " [ أخرجه الترمذي ، والإمام أحمد بسند حسن ، واللفظ لأحمد ] .
وقد اختلف العلماء في معنى تقارب الزمان إلى عدة أقوال :
القول الأول / وهو قول ابن حجر والقاضي عياض ، أن المراد بذلك قلة البركة في الزمان :
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " قد وجد في زماننا هذا ، فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا . . . " [ الفتح 13 / 22 ] ، ومال إلى ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله ، حيث عقداً عنواناً أوسمه بعنوان : إشارة نبوية إلى نزع البركة من الوقت قبل قيام الساعة ، وذكر الحديث . [ النهاية في الفتن والملاحم 1 / 182 ] .
القول الثاني / وهو قول الخطابي رحمه الله ، أن المراد بذلك ما يكون في زمن المهدي وعيسى عليه السلام :
لأن الناس يستلذون بالعيش ، وتوفر الأمن ، وانتشار العدل ، فيستقصر الناس مدة أيام الرخاء وإن طالت ، وتطول عليهم مدة الشدة والبؤس وإن قصرت " [ الفتح 13 / 22 ] . ويجاب عن ذلك : بأن الرخاء موجود على فترات من الزمن ، ولذة العيش موجودة أيضاً ، فكم هم الذين ينعمون اليوم برغد العيش ، ووفرة المال ، ولكن لا يجدون للحياة طعماً ولا راحة ، فاليوم مثل البارحة مثل الغد ، لا يقدرون الوقت ، فالوقت لديهم قاتل ، لكثرته ووفرته ، حتى أن أكثرهم يلجأ للسفر هنا وهناك ، أو إحضار من يضيع معه الوقت أو ما شابه ذلك ، فهذا دليل على أن هذا القول مرجوح .
القول الثالث / وهو قول الداودي : أن المراد بذلك تقارب ساعات الليل والنهار :(1/252)
فتقصر ساعات النهار ، قرب قيام الساعة ، ويقرب النهار من الليل . [ الفتح 13 / 22 ] .
ويجاب عن ذلك : بأننا في هذا الزمان نجد ضيق الوقت وقلة البركة فيه ، مهما كان طول الليل أو النهار ، ولا شك أن النهار والليل يأخذ أحدهما من الآخر على مدار العام حتى يستويا ، ثم يبدأ النقص في أحدهما والزيادة في الآخر ، وهذا أمر معلوم مشهور ، فلا مجال للقول بأن تقارب الزمان يُقصد به تقارب ساعات الليل والنهار .
القول الرابع / وهو قول الشيخ حمود التويجري ، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وغيرهما : أن المراد بذلك تقارب أهل الزمان بسبب وفرة وسائل المواصلات والاتصالات :
فهذه الوسائل الحديثة تقرب البعيد ، وهذا القول له وجهه من الصواب ، وله حظه من النظر ، فنعم باستخدام التقنية الحديثة من وسائل المواصلات ، أصبح الإنسان يقطع مسافة الأيام الطويلة في السفر في عدة ساعات ، بل في أقل من ساعة ، كذلك تصل الرسالة مخبرة بالأنباء في خلال ثوان من الزمن ، بعد أن كانت تُحمل بواسطة رجل البريد أو غيره ممن كان يوصل الرسائل إلى أهلها ، فيقطع أحدهم تلك المسافات الشاسعة ، ويقطع الفيافي والقفار في أيام بل أسابيع ، ويمكن أن تكون أشهر ، لكن اليوم ومع التطور التقني الحديث ، كالهاتف والجوال ، والفاكس والتلكس والبرقيات ، أصبح العالم وكأنه مدينة واحدة ، فهذا القول قول قوي جداً ، وقد يكون هو المراد بتقارب الزمان . [ إتحاف الجماعة 2 / 195 ] .
القول الخامس / وهو قول أبي جمرة رحمه الله : أن المراد بذلك إما حسياً وإما معنوياً :
يحتمل أن يكون المراد بتقارب الزمان : قصره ، على ما وقع في حديث : " لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر " [ سبق تخريجه قبل قليل ] ، وعلى هذا فالقصر يحتمل أن يكون حسياً ويحتمل أن يكون معنوياً :
أما الحسي : فلم يظهر بعد ، ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة .(1/253)
وأما المعنوي : فله مدة منذ ظهر ، يعرف ذلك أهل العلم الديني ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي ، فإنهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قدر ما كانوا يعملونه قبل ذلك ، ويشكون ذلك ، ولا يدرون العلة فيه ، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان ، لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه ، وأشد ذلك الأقوات ، ففيها من الحرام المحض ومن الشبه ما لا يخفى ، حتى إن كثيراً من الناس لا يتوقف في شيء ، ومهما قدر على تحصيل شيء ـ من الحرام ـ هجم عليه ولا يبالي ، والواقع أن البركة في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما يكون من طريق قوة الإيمان ، واتباع الأمر ، واجتناب النهي ، والشاهد لذلك قوله تعالى : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " [ الأعراف 96 ] [ الفتح 13 / 22 ] .
القول السادس / وهو قول الطحاوي رحمه الله : أن المراد بذلك تساوي الناس في الجهل :
قد يكون معناه في ترك طلب العلم والرضا بالجهل ، وذلك لأن الناس لا يتساوون ، لأن العلم درجات ، وهي متفاوتة بقدر ما أوتي الإنسان من علم ، قال تعالى : " وفوق كل ذي علم عليم " [ يوسف 76 ] ، وإنما يتساوى الناس في الجهل ، لأنه درجة واحدة " [ الفتح 13 / 21 بتصرف ] .
القول السابع / وهو قول القرطبي رحمه الله : أن المراد بذلك تقارب أهل ذلك الزمان في قلة الدين :
حتى لا يكون فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما هو اليوم لغلبة الفسق ، وظهور أهله . [ التذكرة 2 / 344 ] .(1/254)
وأقرب الأقوال للصواب ، أن معنى تقارب الزمان ؟ قلة بركة الزمان ، كما في الحديث تكون السنة كالشهر ، تمضي عليك السنة ولم تفعل شيئاً، ولم تنجز عملاً يذكر، كأنه شهر، والشهر يقل بركته ، فيصير كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة، كم يستغرق وقت احتراق السعفة، بضع دقائق، الساعة بركتها كالدقائق والله المستعان .
وهذا يشعر به العقلاء من الناس، وأهل العلم، والفطنة، وأصحاب العقول الراجحة، والأذهان الصافية، أما فسقة الناس وجهالهم، وأصحاب الهمم الدنيئة، وأصحاب الشهوات العاجلة، فهؤلاء لا يشعرون بشيء، إن هم إلا كالأنعام، همّ الواحد أن يملأ بطنه من الطعام والشراب ويستمتع ويقف عند ذلك. يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم .(1/255)
ما السبب في تقارب الزمان ؟ وما هو السبب في قلة بركة الوقت ؟ وأظن أن الكثيرين فعلاً يشتكي كل منهم من هذه القضية ، يمر عليك اليوم ، واليومان والشهر والسنة ، والإنجاز قليل ، والعطاء ضعيف ، والسبب كما ذكره أهل العلم ، هو ظهور الأمور المخالفة للشرع في حياة الناس الخاصة ، وفي مجتمعاتهم ، إنه من الغلط ربط قلة البركة ونزعها من حياة الناس بغير القضايا الشرعية ، إن علاقتها المباشرة بالأمور الشرعية ولا غير ، يشتكي الناس من قلة البركة في الأوقات ، كما يشتكي الناس من قلة البركة في المال ، يستلم الموظف عشرة آلاف أو أكثر أو أقل بقليل ، ولا يدري أين ذهب الراتب ، ولو دققنا النظر لوجدنا أن التعاملات المحرمة سبب رئيس من أسباب محق بركة المال ، قال تعالى : " يمحق الله الربا ويربي الصدقات " [ البقرة ] ، وكذلك التعامل بالرشوة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وأكل أموال العمال والخدم ظلماً وعدواناً ، المقصود أنه لما كثر التعامل بالربا وغيره من التعاملات المحرمة قلت بركة المال ، لأنه لم يعد من حلال ، والمشاهد اليوم أن الكثرة الكاثرة من المسلمين إن لم نقل جميعهم رواتبهم ناتجة من تعاملات محرمة مع البنوك الربوية وصدق فيهم الحديث الذي جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ " [ أخرجه النسائي ، وضعفه الألباني ص 147 ، وأخرجه أبو داود وابن ماجة ، وأحمد بإسناد ضعيف 16 / 258 ، والحديث فيه عباد بن راشد وهو ضعيف لكنه متابع ] ، والحديث وإن كان فيه ضعفاً إلا أنه يصدقه ، فقلما تخلو معاملة تجارية من حرام أو رباً ظاهراً بيناً ، أو باطناً متخفياً ، وما أكثر التعاملات الربوية المحرمة ، وغير الربوية أيضاً من التبايع بالحرام ، كبيع السيارة في معرضها الذي اشتراها منه وهي(1/256)
في مكانها بدون أن يقبضها ويحولها باسمه وينقلها من مكانها ، وكذلك البيع بالأجل المنتهي بالتمليك ، وكذلك المساهمات المحرمة مع جميع البنوك ، أو بعض المؤسسات التي تستخدم في تعاملاتها أموراً محرمة ، كل ذلك وغيره كان سبباً في محق الأموال وضياع بركتها ، بينما كان في الماضي يأخذ الموظف نصف راتبه الآن ، ويجد ما يوفر بل ويتصدق ، ويشتكي الناس قلة البركة في الأولاد ، نعم لديك سبعة أو ثمانية من الولد ، لكن أين هم ؟ ما وجودهم ، ما قيمتهم بين الناس ؟ السبب قد يكون عائداً للعقوق من الأب فعاقبه الله تعالى بعقوق أبنائه له ، لأن العقوق دين ، ولقد حذر الله تعالى من العقوق وعده من الكبائر ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنَعَ وَهَاتِ وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَبَائِرِ قَالَ : " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ " [ متفق عليه ] ، ومن أسباب ضياع بركة الأولاد تركهم في الشوارع وحول الفضائيات يسرحون ويمرحون بلا حسيب ولا رقيب ، ومن أسباب قلة البركة في الأولاد الدعاء عليهم ، فدعاء الوالدين مستجاب ولا شك ، ومادام أنه من الدعوات المستجابات فيجب على الآباء والأمهات تسخير هذا الدعاء لمصلحة الأبناء وليس ضدهم ، فيجب على الأب والأم الدعاء للأبناء بالصلاح والتوفيق والهداية لعل الله تعالى أن يتقبل منهم دعاءهم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ :(1/257)
دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ " [ أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد ] ، وهكذا يشتكي الناس اليوم من نزع البركة من كثير من أمور حياتهم ، وإذا راجعنا أنفسنا وجدنا أن السبب نحن ، ضعف إيماننا ، وكثرة معاصينا ، وجرأتنا على الحرام ، وكثرة فشو المنكرات في مجتمعاتنا ، وقلة المنكرين كل هذا وغيره ، عاقبنا الله جل وعلا ، وهذه تعد عقوبة يسيرة ، فنزع البركة من حياتنا بسبب ذنوبنا وتقصيرنا وتفريطنا في جنب الله لهي عقوبة سهلة ويسيرة ، أمام جبال الآثام والمعاصي التي ترتكب ليل نهار ، وكلام أبي جمرة الأندلسي الذي سبق قبل قليل لهو دليل على الحال الذي آلت إليها كثير من مجتمعات المسلمين اليوم .
الثالث والخمسون :(1/258)
ظهور الشرك في هذه الأمة ، هذه العلامة ظهرت بل هي في ازدياد ، ولها صور وأشكال لا تُحصى ، لقد وقع الشرك في هذه الأمة ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث ليحارب الشرك ، لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها ، وحول الكعبة وفوقها 360 صنماً ، تعبد من دون الله ، وكان بيده معول فصار يضربها ويكسرها وهو يتلو قول الله تعالى : " وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً " [ الإسراء ] ، فأعلن عليه الصلاة والسلام التوحيد ، وأقامه بين الناس ، لكن بعد سنوات القرون المفضلة ، وقع الشرك في هذه الأمة مرة أخرى ، بل ولحقت قبائل منها بالمشركين ، وعبدوا الأوثان ، وبنوا المشاهد على القبور ، وعبدوها من دون الله ، وقصدوها للتبرك والتعظيم ، وقدموا لها النذور ، وأقاموا لها الأعياد ، وصور أخرى من الشرك . عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ ، أَوْ قَالَ : " إِنَّ رَبِّي زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ، وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا ، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ ، وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ لِي : يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ ، وَلَا أُهْلِكُهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ وَلَا أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِ أَقْطَارِهَا أَوْ قَالَ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَحَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا ، وَإِنَّمَا أَخَافُ(1/259)
عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ " [ أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 828 ، إهداء الديباجة 5 / 295 ] . فالشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ " ، هذه بعض صور الشرك مما كان في الماضي ولا يزال ، أما اليوم فقد ظهرت صور أخرى ، تتعدى عبادة الحجر والشجر ، فصار في مجتمعاتنا الطواغيت أنداداً من دون الله ، وصار الشرك في تشريع الناس لأنفسهم ما يخالف شرع الله عز وجل ، وصار الشرك بإلزام البشر بالتحاكم إلى غير شريعة الله ، وصار الشرك بتنصيب أشخاص في جهة أو لجنة أو مجلس ، اتخذوا أنفسهم آلهة مع الله في التحليل والتحريم ، وصار الشرك في اعتناق البعض المذاهب العلمانية والإلحادية والاشتراكية والقومية والوطنية وغيرها ، ثم قبل ذلك كله وبعده ، يزعمون أنهم مسلمون .(1/260)
ولما انبرى لإنكار تلك الأعمال الشركية ، والأفعال الكفرية ، أهل العلم العاملين الذين علموا الحق من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، لما قام أولئك العلماء بالإنكار ، ورد الناس إلى الصواب ، وتحذيرهم من الشر والكفر ، قابلتهم أيد خسيسة ودنيئة أحبت مناصبها وكراسيها ، وأرغمت أنفها للشيطان ، واستسلمت للأوهام ، ورضيت بالحياة الدنيا مقراً لها بدلاً عن الآخرة ، تلك الفئة الباغية الطاغية من الحكام والرؤساء قابلوا أهل العلم بالأذى والسجن والتشريد والقتل ، سبحان الله العظيم أي إسلام يدعونه وهم يحاربونه ، قال تعالى : " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " [ آل عمران ] ، الدين هو الإسلام ، ولن يقبل الله من أحد ديناً سواه ، الإسلام هو آخر الأديان وهو المهيمن عليها والناسخ لها ، فلا دين إلا الإسلام ، ولا نبي في هذا الزمان إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يحكم شريعته فليس بمؤمن ، قال تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " [ النساء ] ، فكيف تقوم بعض الدول التي تدعي أنها إسلامية ، وتلغي الكثير من أحكام القرآن والسنة بحجة أنها لا تنفع في زمن التقدم التقني والصناعي والاجتماعي وغير ذلك من الخرافات وترهات الأحلام .
ولقد صدق في هذه الأزمنة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الأوثان والطواغيت من دون الله عز وجل ، إما عبادة حقيقية كمن يدعو القبور وأهلها ، ومن يذبح لها وينذر لها ، ويتبرك بأهلها ، والله تعالى يقول : " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شرك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " [ الأعراف ] ، وقال تعالى : " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين " [ الأعراف ] ، وقال تعالى : " فصل لربك وانحر " [ الكوثر ] .(1/261)
وهناك عبادة أخرى من غير الله ، كاتباع علماء الضلالة من الصوفية والزنادقة وغيرهم ممن زاغوا عن الحق ، واتبعوا الهوى ، فضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ، طاعة للحكام ، ورغبة في زخرف الدنيا وبهرجتها ، ورضاً بما يقدمه لهم رؤساء الضلالة من الأقذار الوسخة من وسخ الدنيا ، فقادوا الناس للحكم بغير شريعة الله ، فحرموا الحلال ، وأحلوا الحرام .
وكم هي الدول التي تحكم القوانين الوضعية التي هي من وضع البشر ، وإن كانوا مسلمين بالاسم ، أو القوانين الفرنسية والألمانية أو البريطانية أو غيرها التي وضعها كفار الناس اليوم وعصاتهم ، وتركوا كتاب الله المتين الذي من تمسك به عُصم ، ومن تركه قُصم ، ونبذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاعاً لرأي أحمق وأخرق ، فكيف لأمة أن تتقدم وتنتصر وهي متخلفة في دينها ، ومتقوقعة حول شرذمتها ، ألا فليعلم كل مسلم أنه لا فوز ولا نجاة من القوم الظالمين ، ولا خروج من هذه الفتن إلا بالتمسك بالكتاب والسنة ، وتحكيمهما في جميع أمور الحياة ، ولا يُفرق في شيء أبداً ، فالدين تمتد جذوره ، وتُعمق أساساته في كل صغيرة وكبيرة من مناحي الحياة ، فلا تفصل الحياة عن الدين ، ولا يفصل العمل عن الدين ، ولا تفصل السياسة عن الدين ، بل الدين متغلغل في كل أمر من أمور المسلم في بيته وعمله وتجارته وتعاملاته ، وذهابه وعودته ، فالدين حصن للمسلم من الزيغ والفساد ، ونحن نرى اليوم أن هناك الكثير من الرايات التي تدعو إلى فصل الدين عن بعض مجالات الحياة لسبب أو لآخر ، وتلك الفئة الخفاشية التي تظهر ليلاً وتختبئ نهاراً قد نبأنا الله من أخبارها ، فعرفناها وعرفنا مقاصدها ومراميها ، وما تدعو إليه ، ولكننا لهم بالمرصاد ما بقي في عرق مسلمٍ دماً ، وما بقي قلباً متحركاً .(1/262)
وقد جاء أن الساعة لا تقوم حتى تعبد نساء من دوس صنم ذو الخلصة ، وذو الخلصة صنم كان يعبده أهل دوس في الجاهلية ، ويوجد ببلاد زهران في جنوب المملكة العربية السعودية ، وقد هدم واندرس أثره تماماً ، ويشهد لذلك الحديث الذي جاء عَنْ جَرِير قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ ، وَهُوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي رَجُلٌ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ ، فَصَكَّ فِي صَدْرِي فَقَالَ : " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا " قَالَ : فَخَرَجْتُ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا مِنْ أَحْمَسَ مِنْ قَوْمِي ، وَرُبَّمَا قَالَ : فَانْطَلَقْتُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِي فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُكَ حَتَّى تَرَكْتُهَا مِثْلَ الْجَمَلِ الْأَجْرَبِ فَدَعَا لِأَحْمَسَ وَخَيْلِهَا " [ أخرجه البخاري ] ، وقد كان هذا التمثال موجود قديماً ، وعبد من دون الله .
وذو الخلصة : اسم لصنمين كل منهما يُدعى ذا الخلصة ، أحدهما لدوس ، والثاني لخثعم وغيرهم من العرب .
فأما صنم دوس فهو المراد من علامات الساعة ، ولا يزال مكانه معروفاً إلى الآن في بلاد زهران ، في مكان يقال له ( ثروق ) قريباً من قرية تسمى ( رمس ) ، ويقع ذو الخلصة فوق تل صخري مرتفع .
وأما صنم خثعم فهو بيت بنته قبيلتان من العرب هما : خثعم وبجيلة ، يضاهئون به الكعبة وقد هدمه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، وهذا الصنم أزيل وبني مكانه مسجد جامع في بلدة يقال لها ( العبلات ) من أرض خثعم .(1/263)
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ ، وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وقد حدث هذا الشرك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قبيلة دوس وما حولها من بلاد العرب ، وذلك عندما عاد الجهل إلى تلك المناطق ، فافتتنوا بذي الخلصة وعاد الجهل ، فعبدوا ذلك الصنم من دون الله عز وجل ، حتى قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالدعوة إلى تجديد التوحيد ، وتصحيح العقيدة ، فدعاء إلى التوحيد الخالص لله تعالى ، وجدد ما اندرس من معالم الدين ، وسعى في محو الشرك من جزيرة العرب ، فبعث إمام المسلمين في ذلك الزمان وهو الإمام / عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله ، حيث بعث جماعة من الدعاة إلى ذي الخلصة ، فخربوها ، وهدموا بعض بنائها ، وكان بناءً قوياً ومحكماً ، حتى أن الحجر الواحد لا يستطيع زحزحته أقل من أربعين رجلاً ، فهدموا جزءاً من البناء ، وأقاموا الدين في تلك البقاع ، وأقاموا شرع الله تعالى .
ولما انتهى حكم آل سعود على الحجاز في تلك الفترة ، عاد الجهال إلى عبادة ذي الخلصة مرة أخرى ، حتى استولى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله على الحجاز ، أمر عامله عليها بهدم البناء بأكمله ، فأرسل جماعة من جيشه فهدموها ، وأزالوا أثرها ، ورموا بأنقاضها في الوادي ، فانقطع أثرها إلى يومنا هذا ولله الحمد والمنة ، وكان ذلك في عام ألف وثلاثمائة وأربع وأربعين للهجرة .
فهذا الحديث قد وقع وانتهى ولن يعود بإذن الله تعالى شرك إلى تلك المناطق مادام الإسلام قائماً ، وما كان هناك دعاة وعلماء وحكاماً يتبعون كلام الله ، ويحكمون شرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .(1/264)
ونأتي لبقية شرح الحديث ، فقوله صلى الله عليه وسلم : " حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ " ، الأليات : جمع أليه ، وهي العجيزة ، ومعنى ذلك : أن نساءً من دوس سيركبن الدواب إلى ذي الخلصة فتتحرك أعجازهن من أثر ركوب الدواب لقطع المسافة إلى ذلك الصنم ، وقيل : أن أعجازهن تتحرك عندما يطفن بذلك الصنم نتيجة لازدحامهن بحيث تضرب عجيزة أحدهن الأخرى ، وقيل : أنهن يضطربن من الكفر بالله وعبادة ذلك الصنم ، الحاصل أن تلك العلامة من علامات الساعة قد وقعت كما سبق وقلت ، ولا رجعة لها بإذن الله تعالى . [ عمدة القاري 16 / 374 ، فتح الباري 13 / 96 ، شرح النووي على مسلم 18 / 240 ] .
لكن مظاهر الشرك في بلاد الإسلام كثيرة اليوم ، وليست محصورة في دولة واحدة فقط ، بل الكثير منها لا تخلو من مظهر من مظاهر الشرك بالله تعالى ، مصداقاً لقول الله تبارك وتعالى : " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " [ يوسف 106 ] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : من إيمانهم : أنهم إذا قيل لهم : من خلق السموات ؟ ومن خلق الأرض ؟ ومن خلق الجبال ؟ قالوا : الله ، وهم مشركون به ، وكذا قال المجاهد والشعبي وقتادة ، وجاء في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ . . . " ، فهذا هو الشرك العظيم الذي لا يغفره الله تعالى ، أن تعبد مع الله غيره .[ عمدة التفسير 2 / 309 ] .(1/265)
ولا تزال هناك صور للشرك في بعض البلاد الإسلامية ، مصداقاً لحديث عَائِشَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى " فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا ، قَالَ : " إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ " [ أخرجه مسلم ] .
وقد افتتن الناس في قرون مضت بقبر ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف ، فكانوا يدعونه من دون الله ، ويطلبون منه قضاء حوائجهم ، وتفريج كرباتهم ، ويستغيثون به ويستعينون به من دون الله ، وقد أزيلت آثار الوثنية من قبر ابن عباس رضي الله عنهما مرتين الأولى في سنة ألف ومائتين وعشرين تقريباً ، والثانية في أواخر سنة ألف وثلاثمائة واثنين وأربعين .(1/266)
هذا في الجزيرة ، وما حول الجزيرة لا يزال باقياً إلى يومنا هذا ، فالشرك قلما يخلو منه بيت من بيوت المسلمين خصوصاً في بلاد المغرب العربي وما جاورها ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ولعل ذلك الشرك قد تفشى ونشأ وظهر وبقي ، بسبب العلماء الضلال الذين أرضوا الحكام بسخط الله عز وجل ، وأطاعوهم في معصية الله تعالى ، فالناس تبع للعلماء وما دام أن العلماء قد ضلوا ، فلا بد أن يضل القوم ، وقال سفيان بن عيينه في مثل أولئك العلماء الضُلاَّل : " احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل ، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون " ، وقيل في الأمثال : " إذا زل العالِم زل بزلته عالَم " ، وهذا هو المشاهد اليوم من كثرة ظهور الشرك في هذه الأمة ، وهو أمر يتحسر عليه المسلم ، ويبقي دماً بدل الدمع ، فكم هي المشاهد والقبور والأوثان ، وكم هم الذين يحلفون بغير الله وهو شرك ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ " [ أخرجه الترمذي وصححه الألباني 2 / 175 ، وهو في الصحيحة برقم 2042 ] قَالَ أَبو عِيسَى رحمه الله : " فُسِّرَ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ : فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ ، عَلَى التَّغْلِيظِ وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ : وَأَبِي وَأَبِي ، فَقَالَ : أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ " ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى ، فَلْيَقُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " ، وسمع ابن عمر رجلاً يحلف بالكعبة ، فقال : " ويحك لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله(1/267)
عليه وسلم يقول : " من حلف بغير الله فقد أشرك " [ هو قطعة من الحديث السابق ، وهو صحيح الإسناد على شرط مسلم ] ، قال الطحاوي رحمه الله : " لم يرد به الشرك الذي يخرج من الإسلام حتى يكون به صاحبه خراجاً من الإسلام ، ولكنه أراد أنه لا ينبغي أن يحلف بغير الله تعالى ، لأن من حلف بغير الله تعالى فقد جعل ما حلف به محلوفاً به ، كما جعل الله تعالى محلوفاً به ، وبذلك جعله شريكاً لله تعالى ، وهذا من الشرك الأصغر وهو خطر على دين المسلم " [ السلسلة الصحيحة 5 / 70 بتصرف ] .
ومن وسائل الشرك الموجودة اليوم ، الطواف حول القبور والأضرحة ودعاء أهلها من دون الله وهذا شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله ، ومن وسائل ومظاهره الاحتفال بالمولد النبوي واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الموالد والاحتفالات الخرافية الكاذبة التي لا دليل عليها لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وليس عليها أمر المسلمين لا قديماً ولا حديثاً ، ولم يدع إليها أي عالم من العلماء ممن يُعتد بعلمه إلا من زاغ منهم وضل عن سبيل المؤمنين ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ ( مِنْهُ ) فَهُوَ رَدٌّ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ولفظ مسلم ما بين القوسين ] ، وهناك الكثير والكثير من مظاهر الشرك في بلاد الإسلام .(1/268)
وأحذر العلماء في بلاد الإسلام ممن اغتروا بالسلطان إما خوفاً ، وإما مجاملة ، وإما دراً للمال واستزادة في حب الدنيا والبقاء فيها ، أحذرهم بأن الله قد أخذ عليهم الميثاق بأن يقولوا الحق ولا يكتمونه ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم وأجسادهم وأموالهم وأولادهم فما عند الله خير وأبقى ، وأعظم أجراً ، قال تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون " [ آل عمران 187 ] ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم العلماء من اتباع الأمراء المضلين في حديث عظيم ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ تِسْعَةٌ ، خَمْسَةٌ وَأَرْبَعَةٌ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْآخَرُ مِنَ الْعَجَمِ فَقَالَ : " اسْمَعُوا ! هَلْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ سَتَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ ، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ " [ أخرجه النسائي والترمذي وأحمد ، وصححه الألباني في صحيح النسائي 3 / 135 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ليأتين عليكم أمراء ، يقربون شرار الناس ، ويؤخرون الصلاة عن وقتها ، فمن أدرك ذلك منهم ، فلا يكونن عريفاً ، ولا شرطياً ، ولا جابياً ، ولا خازناً " [ أخرجه ابن حبان وحسن إسناده الألباني في الصحيحة 1 / 701 ، حديث رقم 360 ] ، فهنا نرى ان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر العلماء من الوقوف على أبواب الأمراء والائتمار بأمرهم إذا فيه معصية لله تعالى ، وإضلالاً لعباد الله ، وقد توعد من(1/269)
فعل ذلك بأنه لا يرد على النبي صلى الله عليه وسلم الحوض يوم القيامة ، فهذا وعيد شديد لمن أعان أميراً على الظلم ، وخصوصاً إذا كان عالماً من العلماء يريد بذلك الدنيا وزينتها ، وقد بوب النسائي رحمه الله باباً وسماه ( ذكر الوعيد لمن أعان أميراً على الظلم ) [ سنن النسائي بشرح السيوطي ، وحاشية السندي 7 / 180 ] ، فإذا كان من عمل معهم كشرطي أو والياً لهم ، أو جابياً للمال من الناس أو غير ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يعمل معهم في مثل تلك الأعمال التي يكون فيها ظلمٌ للمسلمين من أخذ أموال بغير حق أو ما شابه ذلك من الظلم والعدوان ، فمن باب أولى وأحرى أن يكون التشديد فيمن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف طاعة للرؤساء والحكام والأمراء ، فيُضل الناس عن طاعة ربهم إلى طاعة رؤسائهم ، وهذا من أكبر العداون على الناس ، ومن أعظم الظلم للنفس البشرية ، إذ كيف يمن الله على أحدهم بالعلم النافع ثم يستخدم علمه في زيغ الناس وإفساد عقيدتهم ، وتدمير دينهم ، وأفتى بفتاوى تجيز عبادة القبور أو التبرك بأهلها أو الاجتماع للأعياد غير أعياد المسلمين الثلاثة المعروفة منذ صدر الإسلام حتى يومنا هذا وهي : عيدا الفطر والأضحى ويوم الجمعة ، فمن أحدث عيداً غير ذلك فقد ابتدع في الدين الله ما لم يأذن به الله ، ومن أفتى بطاعة الحكام ولو كانوا حكمهم مبنياً على معصية لله تعالى ، ومخالفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا ريب أن ذلك العالم الفاجر لا يرد على النبي صلى الله عليه وسلم الحوض يوم القيامة ، وهذا كما قلت تشديد ووعيد وتهديد وتخويف للعلماء الضلال ، وما أكثرهم اليوم ، فلا كثرهم الله .(1/270)
نسأل الله تعالى أن يقينا الشرور والفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يعيد الأمة الإسلامية إلى عزها وشموخها ، وتمسكها بعبادة ربها ، ونبذ عبادة الأوثان والأولياء والمشاهد والقبور ، ونسأله سبحانه أن يهيئ للأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ، ويذل فيه أهل المعصية ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، ونسأله سبحانه أن يصلح العلماء والحكام في بلاد الإسلام ، وأن يرينا جميعاً الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، إنه جواد كريم ، وهو على كل شيء قدير .
الرابع والخمسون :
ظهور الفحش وقطيعة الرحم وسوء الجوار ، روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة)). فهذه ثلاثة أمور ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها من علامات الساعة، وكلها والله منتشرة بيننا ، ولنأخذ كل واحدة على حدة :
أولاً / ظهور الفحش :(1/271)
لقد انتشر الفحش بين كثير من الناس ، وهذا نذير شر ولا شك ، فالفحش دليل سقوط المجتمع في الرذيلة والفساد ، والبعد عن الله الواحد الديان ، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الفحش ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : " لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا ، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وعن عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتِ : اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ أَوِ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْكَلَامَ ، قَالَ : " أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ " [ أخرجه البخاري ] ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : " لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا وَلَا فَحَّاشًا وَلَا لَعَّانًا ، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ : " مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ " [ أخرجه البخاري ] .(1/272)
إلا أن هناك فئة من أهل المعاصي والذنوب ربما يكونون غير مبالين بالتحدث بما يرتكبون من معاصي وآثام ، وهذا من الفحش والعياذ بالله، ومن المهانة والذلة والخسة وعدم المروءة أن يقع المرء في معصية أو خطأ أو جريمة أو فاحشة، وقد بات يستره الله، ثم يصبح ويكشف ستر الله عنه بأن يتحدث بين زملائه وأقرانه بما فعل ، بل البعض يفتخر بفعل الزنا واللواط مثلاً ، أو معاكسة النساء ، أو ما شابه ذلك ، فمن فعل ذلك فقد باء بالإثم والخسران ، ولا شك أنه سفيه عديم الحياء ، ميت المروءة ، ولا شك أيضاً أن ذلك من الدناءة بمكان ، فكيف بعبد حقير ذليل مثقل بالذنوب يعصي مولاه ، وهو مطلع عليه فيستره لعله يتوب ويرجع إلى ربه ويحكم عقله ، وإذا به يزيد الأمر سوءاً فيفضح ستر الله عليه ، ويجاهر بمعصيته والعياذ بالله أمام الناس ، وقد حذر الشارع الكريم من ذلك تحذيراً بليغاً ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ ( الإجهار ) أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ولفظ مسلم ما بين القوسين ] .(1/273)
وكم نرى اليوم ونسمع من المجاهرة بالمعصية والعياذ بالله ، ومن أعظم المجاهرة بالمعاصي والكبائر المهلكة ، المجاهرة بسماع الأغاني ورفع الصوت بها في الشوارع والطرقات في السيارات والمحلات التجارية ، والبيوت وغير ذلك ، وكذل المجاهرة بإسبال الثياب وحلق اللحى ، وتبرج الناس بالزينة والخروج متعطرات في مجامع الناس وأماكن طرقهم ، ومن المجاهرة بالمعصية والتي لا يُعافى صاحبها بل قد يأخذه الله على عين غفلة منه ، المجاهرة بارتكاب الربا وأكله سحتاً حراماً ، والتعامل بالرشوة ، وشرب الدخان والمسكرات والخمور والمخدرات ، وتقليد الكفار ، وهذا غيض من فيض ، وقليل من كثر من ظهور الفحش في المجتمعات بل والتباهي بها وهتك سرها ، نسأل الله السلامة والعافية ، وأن نلقاه وهو راض عنا غير غضبان .
ثانياً / قطيعة الرحم :(1/274)
وهذه هي الحالقة التي تحلق الدين والعياذ بالله ، فالله المستعان وإليه المشتكى ، وصلنا إلى مرحلة غريبة عجيبة في قطيعة الرحم ، وصلنا إلى أن القريب لا يصل قريبه ، بل يحصل بينهم التقاطع والتدابر إلى درجة أن الشهور تمر وهم في بلد واحد ، وربما في حارة واحدة ، فلا يتزاورون ولا يتواصلون ، بل يتباغضون ويتلاعنون ، هذا هو واقعنا اليوم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على صلة الرحم وحذّر من قطيعتها ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ ، قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ : هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ ، قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، قَالَ : " فَذَاكِ لَكِ " ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) [ أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له ] .
صلة الرحم سبب لدخول الجنة ، قال رجل يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَعْبُدِ الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصل الرحم " [ متفق عليه ] . وطرق القيام بحق الأقارب والأرحام واسعة ، ووسائله عديدة ، وسبله كثيرة ، فمنها فشّو المودة واتساع الصدور وسلامة القلوب .(1/275)
إن صلة الرحم بركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة ، يكتب الله بها العزة والمنعة وتمتلئ القلوب بها إجلالاً وهيبة . بصلة الأرحام تقوى المودة ، وتزيد المحبة ، وتتوثق عُرى القرابة . إنها أقوال وأفعال لا تكلف المسلم شيئاً ما إن يقوم بها إلا وتصافت القلوب ، وتسامى اللقاء بين الأرحام والأقارب ، ما إن تفعل إلا وزالت الشحناء وذهبت البغضاء ، واستبدلت القطيعة محبة وصلة ، فبشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة وطيب في القول وطلاقة في الوجه ، وزيارات وصِلات ، وتفقد واستفسارات ، مكالمات ومراسلات ، إحسان إلى المحتاج وبذل للمعروف وتبادل في الهدايا ، وغضّ عن الهفوات وعفوٌ عن الزلاّت وإقالةٌ للعثرات ، عدلُ وإنصاف واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح ، تجنى المحبة ويحصل الفلاح ، وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا والمبادرة بالمغفرة إذا أخطأوا والإحسان إليهم ولو أساءوا . قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الواصل بالمكافيء ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها " [ أخرجه البخاري ] . وجاء رجلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله عن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عليهم ويجهلون عليّ فقال عليه الصلاة والسلام " لئن كان كما تقول فكأنما تُسفُّهم الملّ ( أي تطعمهم الرماد الحار في أفواههم ) ولا يزال معك من الله ظهيرٌ ما دمت على ذلك " ] أخرجه مسلم [ .(1/276)
إن قطيعة الرحم شؤمٌ وخراب ، وسببٌ للعنة وعمى البصر والبصيرة ، إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب وعقوبتها معجلةٌ في الدنيا قبل الآخرة ، أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنبٍ أجدر أن يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " ، وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد _ ورواة أحمد ثقات _ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعمال بني آدم تُعرض كل عشية خميس ليلة الجمعة فلا يُقبل عمل قاطع رحم " ، ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان جالساً بعد الصبح في حلقة فقال : " انشد الله قاطع الرحم لما قام عنّا ، فإناّ نريد أن ندعوا ربنا وإن أبواب السماء مُرتجّة _ أي مغلقة _ دون قاطع الرحم " ] رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلاّ أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود [ ، ويصدق ذلك قوله تعالى : " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " ، ولقد أوصى عليّ بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال : " لا تصاحب قاطع رحمٍ ، فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع " ، وإن أسرع الخير ثواباً البر وصلة الرحم ، وأسرع الشر عقوبةً البغي وقطيعة الرحم ، ومع هذا ترى في بعض من قلّ نصيبهم من الخير يُسارع في قطع صلاته بأقاربه لأدنى سب ، غماّ لكلمةٍ سمعها ، أو شيئاً صغيراً رآه ، وما درى أنه بهذا قد يُجَرُّ إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء ، فيستحقون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " [ الرعد 25 ] .(1/277)
فعلينا أن نتق الله في صلة الأرحام فهي طريق مؤد إلى الجنة ، وقطعها سبيل موصل للنار والعياذ بالله .
ثالثاً / سوء الجوار :
وحدث عن ذلك ولا حرج، فكم من جار لا يعرف جاره، ولا يتفقد أحواله ليمد له يد العون إن احتاج، بل ولا يكف شره عنه، يقول بعض الجيران، لا نريد من جيراننا خيراً، نريد أن يكفوا شرهم عنا .
واسمعوا هذه الأحاديث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم عن حق الجار ، وعقوبة إيذائه :(1/278)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " [ أخرجه مسلم ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ " ، وعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ " ، وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ ـ وهو صحابي جليل ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ " [ أخرجها البخاري ومسلم ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ(1/279)
ـ شروره ومصائبه ـ " [ أخرجه مسلم ] ، وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ " قِيلَ : وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ " [ متفق عليه واللفظ للبخاري ] ، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا ، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ " [ أخرجه مسلم ] ، وعَنْ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا يَشْبَعُ الرَّجُلُ دُونَ جَارِهِ " [ أخرجه أحمد ورجاله ثقات 1 / 448 ] ، وورد الحديث بألفاظ متعددة : " ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع " [ أخرجه الطبراني وأبو يعلى وهو صحيح لغيره ] ، وعند الطبراني والبزار بإسناد حسن : " ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم " [ أنظرها جميعاً في صحيح الترغيب والترهيب 2 / 683 ] ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ " [ أخرجه الترمذي وأحمد والدارمي ، وابن حبان بإسناد صحيح 2 / 276 ] ، وعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " [ متفق عليه ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ(1/280)
النَّاسِ ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ " [ أخرجه ابن ماجة وصححه الألباني 3 / 374 ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : " هِيَ فِي النَّارِ " ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ؟ قَالَ : " هِيَ فِي الْجَنَّةِ " [ أخرجه أحمد والبزار وابن حبان بإسناد صحيح ، أنظر صحيح الترغيب والترهيب 2 / 682 ] ، وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ " [ أخرجه أحمد ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2 / 681 ، وحسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند 28 / 601 ، وحسن إسناده حمزة الزين في تحقيق المسند 13 / 355 ] ، وعن الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : " مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟ " قَالُوا : حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : " لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ " ، فَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ " قَالُوا : حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ(1/281)
حَرَامٌ ، قَالَ : " لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ " [ أخرجه أحمد واللفظ له ، والطبراني في الكبير والأوسط ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2 / 678 ، وقال الأرنؤوط : إسناده جيد 39 / 277 ] .
فهذه الأحاديث التي مضت وغيرها كثير تبين حق الجار ، ومنزلته عند الله تعالى ، وعقوبة من آذى جاره ، أو أساء إليه ، أو بات شبعاناً وجاره جائع وهو يعلم ذلك ، ولو نظرنا اليوم إلى واقعنا لرأينا عجباً ، فقد تحققت هذه العلامة من علامات الساعة ، وأصبحت واضحة جلية لا ينكرها إلا متخلف العقل ، فلقد رأينا جيراناً يسيئون إلى جيرانهم ، من سرقة أو مد يد بمضاربة أو قتل أو سطو ، أو انتهاك لحرماتهم ، ورأينا جيراناً يبيتون شبعانين وجيرانهم يتضورون جوعاً وهم يعلمون ، وهناك فائض من أكلهم ولكنهم يفضلون رمي ما بقي من طعام ، ولا يقدمون لجارهم الفقير الجائع ، لسببٍ أو لآخر ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، من يفعل تلك الأفاعيل الهمجية البعيدة عن دين الإسلام فليس بمؤمن كامل الإيمان ، بل إيمانه في نقص وخلل ، يجب جبره والتنبه له ، ويا عجباً لأحوال المسلمين اليوم ، لقد رغب أكثرهم في الحياة الدنيا ، ورضوا بها وطناً وسكناً ، وزهدوا في الآخرة وما فيها من نعيم عظيم ، فمتى يدرك المسلم حق جاره عليه .(1/282)
كم من الجيران اليوم من يشكو جاره ، ولا يأمن بوائقه ، ولا يأمن غدره ، وكم من الجيران من يؤذي جاره ، إما برفع صوت المذياع ، أو صوت التلفاز ، أو يؤذيه بالسهر الطويل حتى الساعات الأولى من الفجر ، أو يترك أبناءه يطرقون بابه ، ويزعجونه في وقت ظهيرته ، أو وقت قيلولته ، أو وقت نومه ليلاً أو نهاراً ، ومن الجيران من لا يدعو جاره لمناسبة أو وليمة أو غير ذلك ، ومن الجيران من لا يعرف جاره نهائياً ، فكأن بينهما حجاب كثيف ، وهناك من الجيران من يسيء إلى جاره بإطفاء الكهرباء ليلاً حتى لا يرى شيئاً عند صعوده أو نزوله ، وخصوصاً إذا كان عداد كهرباء الدرج في منزله ، فتراه يغيظ جاره ، ويتربص به الدوائر ، وهناك من الجيران من يسيء إلى جاره بكثرة الطلبات ، وخصوصاً الطلبات المنزلية ، كأدوات الطبخ ووسائل الغسيل مثلاً ، مع أن لديه القدرة على جلب ما يحتاج إليه منزله ، ولكن لا أدري هل يُصنف ذلك تحت الكسل أو تحت الاعتماد على الآخرين ؟ أم ماذا ؟ وعموماً فوسائل الاعتداء على الجار والإساءة إليه كثيرة جداً ، وما ذكرته غيض من فيض ، مما شاع وذاع بين الجيران من المسلمين ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ ، فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاصْبِرْ " ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ " ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ ، فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ " [ أخرجه أبو داود ] .(1/283)
وفي صحيح ابن حبان ، عن أبي هريرة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جاراً له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات : " اصبر " ، ثم قال له في الرابعة أو الثالثة : " اطرح متاعك في الطريق " ، ففعل ، فجعل الناس يمرون به ويقولون : ما لك ؟ فيقول : آذاه جاره ، فجعلوا يقولون : لعنه الله ، فجاءه جاره فقال : " رد متاعك لا والله لا أوذيك أبداً " [ قال الألباني حديث صحيح لغيره ، صحيح الترغيب والترهيب 2 / 681 ] ، وعند الطبراني والبزار والبخاري في الأدب المفرد بإسناد حسن من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره . قال : " اطرح متاعك على الطريق " . فطرحه ، فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه ـ يعني جاره الذي آذاه ـ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! لقيت من الناس . قال : " وما لقيت منهم " قال : يلعنونني . قال : " قد لعنك الله قبل الناس " ، فقال : إني لا أعود ، فجاء الذي شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ارفع متاعك فقد كُفيت " [ صحيح الترغيب والترهيب 2 / 681 ، وقال الألباني رحمه الله : حديث صحيح لغيره ] .
فجار السوء ملعون ، لعنه الله تعالى من فوق سبع سماوات لهذا الحديث ، وملعون على ألسنة المسلمين ، لأنه لم يؤمن الإيمان الكامل لما يسببه من إيذاءٍ للمسلمين .(1/284)
ولهذا تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء ، لأن جار السوء يسيء إلى جاره ، ولا يأمنه على نفسه ولا ماله ولا ولده ، فأي حياة سعيدة مع جار السوء ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول " [ أخرجه ابن حبان في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 3 / 428 وما بعدها ] ، وهذا الحديث له شاهد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء ، ومن ليلة السوء ، ومن ساعة السوء ، ومن صاحب السوء ، ومن جار السوء في دار المقام " [ أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، غير بشر بن ثابت البزار وهو ثقة ، المصدر السابق ] ، فنسأل الله أن يعيذنا من جار السوء .
الشرط الخامس والخمسون :
كثرة الشح ، والشح هو أشد البخل ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " من أشراط الساعة أن يظهر الشح " [ أخرجه الطبراني في الأوسط ] ، وروى البخاري ومسلم عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشح " ، وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يزداد الأمر إلا شدة ولا يزداد الناس إلا شحاً " ، إن الشح خلق مذموم، نهى عنه الإسلام، ويبن أن من وُقي شح نفسه فقد فاز وافلح، قال الله تعالى: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " .(1/285)
عُرف بعض الناس بالكرم، والجود، والسخاء، وأنه رجل معطاء، لا يسمع بباب نفقة في خير إلا وله فيها سهم، فمرة ينفق على مسكين، ومرة يتصدق على فقير، ومرات يرسل لأرامل وأيتام ، إذا سمع بجمعية خيرية كان أول المساهمين ، وإذا سمع ببناء مسجد كان أول المبادرين ، مثل هذا الإنسان يبشر بخير ، فإن الله جل وتعالى يبارك له في ماله فكلما زاد في العطاء زاده الله ، " يا ابن آدم انفق ينفق الله عليك، ما من يوم يصبح الناس فيه إلا وملك ينزل من السماء يقول : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً " ، وهناك من أهل الخير ممن كانت لهم مشاركات طيبة ، وبها عرفوا ، والآن قلت مساهماتهم ، وأمسكت أيديهم على جيوبهم فإذا ما سُألوا أجابوا : الأوضاع الاقتصادية الراهنة ، كساد السوق ، كثرة الالتزامات الرسمية وغير الرسمية ، نقول لهم ، هذا هو الاختبار للمؤمن الحقيقي ، الذي ينفق وقت الشدة ، " أو إطعام في يوم ذي مسغبة " ، إن الله جل وتعالى يغيّر من أحوال الزمان، من رخاء إلى شدة ومن شدة إلى رخاء، والمؤمن مبتلى، والصادق من لا ينقطع حتى في أوقات الشدة، ويعلم بأن هذا اختبار من الله له، ليضاعف له الأجر والمثوبة .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ " [ أخرجه مسلم ] .
فالشح أهلك من كان قبلنا من الأمم ، لأنه داع للفساد وقتل الأنفس ، وإرعاب الآمنين ، وإخافة الساكنين ، وسبب لقطع الطريق ، والغدر بالصديق ، وربما باع عرضه في مقابل حفنة من مال ، وربما انتهك الحرمات لأجل الحصول على بأيدي الآخرين ، فوجب الحذر منه .(1/286)
فالشح سبب لأدواء كثيرة ، ومصائب عظيمة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن بني إسرائيل وما أصابهم من البخل والشح ، حتى سفكوا دماءهم ، وقد خاطبهم الله تعالى بقوله : " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم " [ البقرة 84 ] .
واستحلوا محارمهم ، أي ما حرم الله عليهم من الشحوم ، فباعوها بعدما جملوها أي أذابوها ، وحرم الله عليهم الصيد يوم السبت فوضعوا الشباك يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد ، يتحايلون على الله تعالى ، فاستحلوا ما حرم الله عليهم بأدنى الحيل ، ولهذا قال تعالى : " وسلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شُرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " [ الأعراف 163 ] ، وكل ذلك بسبب الشح والبخل والحرص الذي كان يتملك بني إسرائيل ، وحب الدنيا وحب المال ، قال تعالى : " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من النار أن يعمر والله بصير بما يعملون " [ البقرة 96 ] .
وهناك فرق بين البخل والشح ، فالبخل : هو منع ما يجب وما ينبغي بذله .(1/287)
والشح : الطمع فيما ليس عنده ، وهو أشد من البخل ، لأن الشحيح يطمع فيما عند الغير ، ويمنع ما عنده ، والبخيل يمنع ما عنده من حق الله تعالى للفقراء والمساكين وغيرهم ، كالزكوات والنفقات مما ينبغي بذله فيما تقتضيه المروءة ، ولهذا قال تعالى : " وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى " [ الليل 8-11 ] ، قوله تعالى : " من بخل واستغنى " : أي استغنى بنفسه وزعم أنه مستغن عن رحمة الله والعياذ بالله ، وبخل بالنفقة في سبيل الله ، ومنع ما وهب الله له من فضله ، وبخل بالزكاة ، وكذب بالخلف من الله ، الذي قال : " وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه " ، والقائل سبحانه : " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة " ، وغير ذلك من الآيات الدالة على أن الله يجزي بدل القليل بالكثير ، فمن كذب بذلك وبخل بماله ولم ينفقه في وجوه البر وطرق الخير ، فهذا قال الله فيه : " فسنيسره للعسرى " : أي طرق الشر المؤدية إلى النار والعياذ بالله ، وتتعسر عليه أموره في الدنيا قبل الآخرة ، فلا تسهل عليه الطاعات ، بل يراها ثقيلة ، فالصلاة ثقيلة ، والزكاة ثقيلة ، والصوم ثقيل ، والحج ثقيل ، وكل شيء ثقيل ، لأنه بعيد عن الله ، الله لا يحب البخل ولا البخلاء ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ ، قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ ، وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ " [ أخرجه الترمذي ، قال الألباني رحمه الله : ضعيف جداً ص186 ] ، لكن معنى الحديث صحيح ، فالآيات والأحاديث تشهد لذلك ، بأن البخيل مذموم عند الله تعالى(1/288)
.
قال العلماء : ثبت بقوله تعالى : " وما يغني عنه ماله إذا تردى " ، وقوله تعالى : " ومما رزقناهم ينفقون " [ البقرة 3 ] ، وقوله تعالى : " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية " [ البقرة 274 ] وغير ذلك من الآيات ، أن الجود من مكارم الأخلاق ، والبخل من أرذلها ، وليس الجواد الذي يعطي في غير موضع العطاء ، وليس البخيل الذي يمنع في موضع المنع ، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء ، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء ، فكل من استفاد بما يعطي أجراً وحمداً فهو جواد ، وكل من استحق بالمنع ذماً وعقاباً فهو بخيل .
فما بخل به البخيل من مال فلن يغني عنه من الله شيئاً ، قال تعالى : " وما يغني عنه ماله إذا تردى " ، فإذا مات تردى في النار بسبب بخله وشحه ، ولا يحميه ماله من عذاب الله وعقابه ، قال تعالى : " يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " [ الشعراء 88-89 ] ، [ تفسير الطبري 12 / 614 ، تفسير ابن كثير 6 / 474 ، شرح رياض الصالحين / لابن عثيمين 6 / 75 ، نزهة المتقين 2 / 108 ] .(1/289)
الشح صفة ذميمة ، وخصلة دميمة ، يمقتها الله عز وجل ولا يرضاها لعباده المؤمنين ، وقد نهى الشارع الكريم عن الشح ، وأن الوقاية منه سبب للفوز والفلاح ، قال تعالى : " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " [ الحشر 9 ، التغابن 16 ] ، واسمعوا إن شئتم هذا الحديث الذي خرجه النسائي في سننه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا ، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا " [ صححه الألباني 2 / 373 ] ، وأخرج الإمام أحمد بسند قوي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ " [ صحيح بطرقه وشواهده ، مسند الإمام أحمد 15 / 433 . الرسالة ] .
ومعنى الحديث : أنه لا ينبغي للمؤمن أن يجمع بين الشح والإيمان ، إذ الشح أبعد شيء من الإيمان ، أو المراد بالإيمان كماله ، يعني لا يجتمع كمال الإيمان مع البخل والشح في قلب العبد المؤمن ، لأن البخل والشح من الصفات المذمومة ، وقيل : أن المراد أنه قلما يجتمع الإيمان والشح في قلب المؤمن ، لأن المؤمن أبعد ما يكون عن الصفات القبيحة ، التي تخدش دينه وتنقصه ، فيجب على العبد أن يخشى على نفسه من صفة البخل والشح . [ حاشية السندي على النسائي 5/20 ] .(1/290)
البخل داء ومرض ، من أمراض القلوب ، فالشحيح والبخيل لا يكون أميراً ولا والياً ، ولا يكون رئيساً لقبيلة ولا يملك زمام الأمور ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لبني سلمة : " من سيدكم ؟ " قالوا : جد بن قيس على أننا نُبَخِّلُه ، قال : " وأي داء أدوى من البخل ؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح " [ أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني 125 ] .
فيجب على المسلم الصادق ، والمؤمن الحق المخلص ، أن يتق الله تعالى ويحذر من عاقبة البخل والشح فعاقبتهما سيئة ، ونهايتهما مؤلمة ، لأنهما سبب لعدم الفلاح في الدنيا والآخرة ، ومن لم يفلح فمصيبة عظيمة ، وما أعظمها من فرحة ، وما أجمله من فوز لمن دخل الجنة ، ونجا من النار ، قال تعالى : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " [ آل عمران 185 ] .
فالشح من علامات الساعة الصغرى ، وهو موجود اليوم بين الناس ، بسبب بعدهم عن تعاليم الشريعة الغراء ، ولهذا وجدت فئة من المسلمين ممن يبخلون بأموالهم حتى عن أقرب الناس إليهم من آباء وأبناء وزوجات ، وهذه مصيبة عظيمة ، فلأن يترك الرجل أهله بيته أغنياء ميسورين ، أعظم من أن يتركهم فقراء يتكففون الناس ويسألونهم أعطوهم أو منعوهم .
وهذه العلامة كما قلت قد ظهرت جلية واضحة اليوم ، فنسأل الله السلامة والعفو والعافية .
الشرط السادس والخمسون :
تشبُّب المشيخة : أخرج أبو داود والنسائي وأحمد من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ " [ وهو حديث صحيح ] .(1/291)
المقصود بالخضاب نوعه لا جنسه ( كما قاله الملا علي القاري ) ، لأن السواد الصرف محرم ممنوع لما فيه من التمويه ، أو لأي حكمة كانت ، فالحاصل أنه محرم منهي عنه ، أما ما خالط السواد من حمرة أو صفرة أو غيرها فليس بحرام ، لأنه تحويل للأسود إلى غيره ، كالكتم والحناء [ مرقاة المفاتيح 8 / 293 ] ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي أَصْحَابِهِ أَشْمَطُ ـ من خالط سواد شعره بياض ـ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَغَلَفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ ، وفي لفظ قال : " عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ، فَكَانَ أَسَنَّ أَصْحَابِهِ ـ أكبرهم سناً ـ أَبُو بَكْرٍ ، فَغَلَفَهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ حَتَّى قَنَأَ لَوْنُهَا ـ اشتدت حمرتها ـ " [ أخرجه البخاري ] ، وسُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَى مِنَ الشَّيْبِ ، إِلَّا قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ كَأَنَّهُ يُقَلِّلُهُ ـ يعني فيه شيب قليل جداً ـ وَقَدْ خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ " [ أخرجه مسلم ] ، وقد خضب النبي صلى الله عليه وسلم بالحناء والكتم ، وجاء ذلك في حديث عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ قَالَ : فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ شَعَرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْضُوبًا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ " [ أخرجه ابن ماجة وهو حديث صحيح ، إهداء الديباجة 5 / 42 ] ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الشيب ، وإنما كانوا يعدون الشعرات البيضاء في لحيته ، ويشهد لذلك أن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ سُئِلَ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " لَوْ(1/292)
شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ ، وَقَالَ : لَمْ يَخْتَضِبْ ، وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا ـ يعني صرفاً أي فقط " [ أخرجه مسلم ] .
قال أنس رضي الله عنه لم يكن في لحيته صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة بيضاء ، وقال حميد الطويل لرجل عن يمينه : كن ( 17 ) سبع عشرة شعرة بيضاء ، كما أخبر بذلك أنس بن مالك رضي الله عنه [ التميهد ، إهداء الديباجة 5 / 44 ] ، والخضاب : كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى ، يعني تغيير شعر الرأس واللحية ، والكتم : كما سيأتي نبت فيه حمرة ، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أراد أن يغير شعر رأسه ولحيته ، أن يكون ذلك بالحناء والكتم ، وينهى عن التغيير بالسواد ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ " [ أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي ، وقَالَ أَبو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصححه الألباني رحمه الله ] ، والكَتَم : نبات ينبت في المناطق الجبلية بإفريقيا والمناطق الحارة المعتدلة ، ثمرتها تشبه الفلفل ، وتسمى فلفل القرود ، وتستعمل في الخضاب ، وصنع المداد يعني الحبر . [ المعجم الوسيط 2 / 776 ، معجم مقاييس اللغة 157 ] .
أنواع الخضاب :
ينقسم الخضاب إلى نوعين :
النوع الأول / الخضاب في شعر الرأس واللحية :
النوع الثاني / الخضاب في اليدين والرجلين :
وإليك بيان كلا النوعين من حيث الحكم وعرض أقوال أهل العلم :
النوع الأول / الخضاب في شعر الرأس واللحية :
وقد اختلف العلماء في حكم هذا الخضاب .
1 - الاختضاب لغةً : استعمال الخضاب . والخضاب هو ما يغيّر به لون الشّيء من حنّاء وكتم ونحوهما . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .(1/293)
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الصّبغ ما يصطبغ به من الإدام ، ومنه قوله تعالى : { وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن وصبغ للآكلين } . قال المفسّرون : المراد بالصّبغ في الآية الزّيت ؛ لأنّه يلوّن الحبّ إذا غمس فيه ، والمراد أنّه إدام يصبغ به .
3 - التّطريف لغةً : خضب أطراف الأصابع ، يقال : طرفت الجارية بنانها إذا خضّبت أطراف أصابعها بالحنّاء ، وهي مطرّفة .
4 - النّقش لغةً . النّمنمة ، يقال : نقشه ينقشه نقشاً وانتقشه : نمنمه فهو منقوش . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - يختلف حكم الخضاب تبعاً للونه ، وللمختضب ، رجلاً كان أو امرأةً . وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى . [ الموسوعة الفقهية الكويتية 2 / 277 ] .
وينقسم الخضاب إلى قسمين :
القسم الأول / الخضاب بغير السواد :
وهذا قد اختلف فيه العلماء فمنهم من قال بجوازه واستحبابه ، ودليلهم في ذلك حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ " [ متفق عليه ] ، وهنا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بمخالفة اليهود والنصارى ، فهم قوم لا يصبغون شعر الرأس ولا اللحية ، فأُمرنا بمخالفتهم ، وأرى والعلم عند الله تعالى أن الأمر هنا ليس للوجوب ، لأنه لم يترتب عليه عقوبة ولا لعن ولا شيء من هذا القبيل لا في الدنيا ولا في الآخرة ، فدل على أن الأمر للاستحباب وليس للوجوب .
وقد وجدت كلاماً نفيساً موافقاً لما قلته ، فاطمأنت نفسي ، حيث قال العلامة بدر الدين العيني رحمه الله : " مع أن تغييره ندب لا فرض ، أو كان نهي كراهة لا تحريم ، لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك " [ عمدة القاري 15 / 97 ] .(1/294)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " اختلف الصحابة في خضابه صلى الله عليه وسلم ، فقال أنس رضي الله عنه : لم يخضب ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : خضب ، وعن أنس رضي الله عنه قولاً آخر قال : رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً ، وقال عبد الله بن محمد بن عقيل : رأيت شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك مخضوباً ، وقالت طائفة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر من الطيب قد احمر شعره ، فكان يُظن مخضوباً ، ولم يخضب .
والفيصل في الموضوع ـ هذا من قولي وليس من كلام ابن القيم ـ ما قاله أبو رِمْثَة
قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن لي ، فقال : " أهذا ابنك " قلت : نعم أشهد به ، فقال : " لا تجني عليه ، ولا يجني عليك " قال : ورأيت الشيب أحمر " [ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي ، وصحح إسناده الأرنؤوط ] ، وقيل لجابر بن سمرة : أكان في رأس النبي صلى الله عليه وسلم شيب ؟ قال : لم يكن في رأسه شيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادَّهن ، وأراهُنَّ الدهن " [ زاد المعاد 1 / 169 ] .(1/295)
وقال النووي رحمه الله : " اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد ثم قال الغزالي في الإحياء والبغوي في التهذيب وآخرون من الأصحاب : هو مكروه ، وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه ، والصحيح بل الصواب : أنه حرام ، ودليل تحريمه حديث جابر رضي الله عنه قال : أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً ، فقال رسول الله : " غيروا هذا واجتنبوا السواد " [ أخرجه مسلم في صحيحه ] والثغامة : بفتح الثاء المثلثة وتخفيف الغين المعجمة ، نبات له ثمر أبيض ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : " يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة " [ وتقدم وهو حديث الباب ] ، ولا فرق في المنع من الخضاب بالسواد بين الرجل والمرأة هذا مذهبنا . وحكي عن إسحاق بن راهويه : أنه رخص فيه للمرأة تتزين به لزوجها والله أعلم " [ المجموع 1 / 345 ] .
وقال ابن قدامة رحمه الله : " ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به ، وذَاكَرَ رجلاً فقال : لم لا تختضب ؟ فقال : أستحي ،
قال : سبحان الله ! سنة رسول الله .
ويستحب الخضاب بالحناء والكتم ، لما روى الخلال وابن ماجة بإسنادهما ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : دخلت على أم سلمة ، فأخرجت لنا شعراً من شعر رسول الله مخضوباً بالحناء والكتم " [ وأخرجه البخاري دون الجملة التي تحتها خط ] ، وخضب أبو بكر بالحناء والكتم ، وعن الحكم بن عمرو الغفاري قال : دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر وأنا مخضوب بالحناء ، وأخي مخضوب بالصفرة ، فقال عمر بن الخطاب : هذا خضاب الإسلام ، وقال لأخي رافع : هذا خضاب الإيمان " [ المغني 1 / 125 ] .(1/296)
وقال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى : " من العلماء من رخص فيه في الجهاد ، ومنهم من رخص فيه مطلقاً وأن الأولى كراهته ، وجنح النووي إلى أنه كراهة تحريم ، وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد ، ومنهم من فرق في ذلك بين الرجل والمرأة ، فأجازه لها دون الرجل واختاره الحليمي .
وقال رحمه الله : " وقد اختلف في الخضب وتركه فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم ، وترك الخضاب علي وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة ، وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن يستشنع شيبه ، ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه ، ولكن الخضاب مطلقا أولى لأن فيه امتثال الأمر في مخالفة أهل الكتاب ، وفيه صيانة للشعر عن تعلق الغبار وغيره به ، إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى .
وقد نقل عن أحمد أنه يجب ـ الخضاب ـ وعنه يجب ولو مرة ، وعنه لا أحب لأحد ترك الخضب ويتشبه بأهل الكتاب وفي السواد عنه كالشافعية روايتان المشهورة يكره وقيل يحرم ويتأكد المنع لمن دلس به " [ فتح الباري 10 / 435 ، وانظر أيضاً عمدة القاري لبدر الدين العيني 15 / 96 ] .
القسم الثاني / الخضاب بالسواد :
فإن كان الخضاب بالسواد فهو محرم منهي عنه ، قال النووي رحمه الله : " ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح ، وقيل : يكره كراهة تنزيه ، والمختار التحريم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " واجتنبوا السواد " [ شرح النووي على مسلم 14 / 306 ] .(1/297)
وقال رحمه الله : " يسن خضاب الشيب بصفرة أو حمرة اتفق عليه أصحابنا ، وممن صرح به الصيمري والبغوي وآخرون للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " [ أخرجه البخاري ومسلم ] [ المجموع 1 / 345 ] .
وقال القسطلاني رحمه الله : " وأما الصبغ بالأسود البحت فممنوع لما ورد في الحديث من الوعيد عليه " [ إرشاد الساري 12 / 594 ] .
وقال ابن قدامة رحمه الله : " ويكره الخضاب بالسواد ، قيل لأبي عبد الله : تكره الخضاب بالسواد ؟ قال : إي والله . قال : وجاء أبو بكر بأبيه إلى رسول الله ورأسه ولحيته كالثَغَامة بياضاً ، قال رسول الله غيروهما وجنبوه السواد " [ أخرجه مسلم وغيره ] [ المغني 1 / 127 ] .
وقال ابن عبد البر رحمه الله : " فضل جماعة من العلماء الخضاب بالصفرة والحمرة على بياض الشيب وعلى الخضاب بالسواد ، واحتجوا بحديث أبي هريرة ، أن النبي قال : " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم " ، وعن عائشة أن أبا بكر خضب بالحنا والكتم واحتجوا بهذا أيضاً ، وجاء عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين أنهم خضبوا بالحمرة ، والصفرة ، وجاء عن جماعة كثيرة منهم أنهم لم يخضبوا ، وكل ذلك واسع كما قال مالك والحمد لله .
وممن كان يخضب لحيته حمراء قانية : أبو بكر وعمر ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن أبي أوفى والحسن بن علي وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن الأسود ، وخضب علي مرة ثم لم يعد .(1/298)
وممن كان يصفر لحيته : عثمان بن عفان وأبو هريرة وزيد بن وهب وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن بسر وسلمة بن الأكوع وقيس بن أبي حازم وأبو العالية وأبو السواد وأبو وائل وعطاء والقاسم والمغيرة بن شعبة والأسود وعبد الرحمن بن يزيد ويزيد بن الأسود وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وروي عن علي وأنس أنهما كانا يصفران لحاهما والصحيح عن علي رضي الله عنه أنه كانت لحيته بيضاء ، وقد ملأت ما بين منكبيه ، قال الشعبي : رأيت علي بن أبي طالب أبيض الرأس واللحية ، قد ملأت ما بين منكبيه ، وقال أبو عائشة التيمي : رأيت علياً أصلع أبيض الرأس واللحية .
وكان السائب بن يزيد وجابر بن زيد ومجاهد وسعيد بن جبير لا يخضبون ، وذكر الربيع بن سليمان قال : كان الشافعي يخضب لحيته حمراء قانية ، ورأيت الليث بن سعد يخضب بالحناء ، قال : ورأيت مالك بن أنس لا يغير الشيب ، وكان نقي البشرة ناصع بياض الشيب حسن اللحية لا يأخذ منها من غير أن يدعها تطول ، قال : ورأيت عثمان بن كنانة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وعبد الله بن نافع وعبد الرحمن بن القاسم وعبد الله بن وهب وأشهب ابن عبد العزيز لا يغيرون الشيب ، ولم يكن شيبهم بالكثير يعني ابن القاسم وابن وهب وأشهب .
قال أبو عمر : قد روي عن الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية أنهم كانوا يخضبون بالوسمة ، وعن موسى بن طلحة وأبي سلمة ونافع بن حمير أنهم خضبوا بالسواد ، ومحمد بن إبراهيم والحسن ومحمد بن سيرين لا يرون به بأساً ، وممن كره الخضاب بالسواد : عطاء ومجاهد ومكحول والشعبي وسعيد بن جبير " [ التمهيد ] .
وقال ابن القيم رحمه الله : " والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه ، فإن الذي نهى عنه النبي من تغيير الشيب أمران :
أحدهما : نتفه .
والثاني : خضابه بالسواد .(1/299)
والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره بغير السواد كالحناء والصفرة وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم ، وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم وهو الصواب بلا ريب لما تقدم ، وقيل للإمام أحمد تكره الخضاب بالسواد قال أي والله ،
وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها وقد جمعها أبو الحسن ولأنه يتضمن التلبيس بخلاف الصفرة ، ورخص فيه آخرون منهم أصحاب أبي حنيفة وروى ذلك عن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن جعفر وعقبة بن عامر وفي ثبوته عنهم نظر ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله وسنته أحق بالاتباع ولو خالفها من خالفها
" [ تهذيب السنن 6 / 103 ] .
وقال المبارك فوري رحمه الله : " المتعين عندي وحاصله أن أحاديث النهي عن الخضب بالسواد محمولة على التسويد البحت ، والأحاديث التي تدل على إباحة الخضب بالسواد محمولة على التسويد المخلوط بالحمرة " [ تحفة الأحوذي ] .
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن الخضاب بالسواد جائز في الحرب ، ليغيظ الكفار ، فإنهم إذا رأوا أن أكثر المسلمين شباباً لا شيباً فربما قذف الله في قلوبهم الرعب والهلع .
الخلاصة :
أن الصبغ سنة ، ينبغي فعلها ، مخالفة لأهل الكتاب ، ويحرم الصبغ بالسواد في شعر الرأس واللحية للرجل أو المرأة ، للأدلة الواردة في النهي عن ذلك ، ولا قول لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل الناس يخطئ ويصيب ، وربما كان خطؤه أكثر من صوابه ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو المعصوم من المخطأ والزلل ، لا سيما فيما يبلغه عن ربه ، فهو لا ينطق عن الهوى ، بل هو وحي يوحى إليه من ربه ، فكل الناس يؤخذ منه ويُرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم فيؤخذ منه ولا يُرد عليه شيء ، فلذلك يحرم الصبغة بالسواد للرجل والمرأة على حد سواء ، لأن الأدلة تشملهما جميعاً ما لم يكن هناك دليل يخصص الرجل دون المرأة ، ولا دليل في ذلك .(1/300)
ويستحبّ الاختضاب بالحنّاء والكتم ، لحديث : « غيّروا الشّيب » ، فهو أمر ، وهو للاستحباب ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم » ، فإنّه يدلّ على أنّ الحنّاء والكتم من أحسن الصّباغات الّتي يغيّر بها الشّيب . وأنّ الصّبغ غير مقصور عليهما ، بل يشاركهما غيرهما من الصّباغات في أصل الحسن لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال : اختضب أبو بكر بالحنّاء والكتم ، واختضب عمر بالحنّاء بحتاً . [ الموسوعة الفقهية 2 / 279 ] .
النوع الثاني / الخضاب في اليدين والرجلين :
قال النووي رحمه الله تعالى : " أما خضاب اليدين والرجلين بالحناء فمستحب للمتزوجة من النساء للأحاديث المشهورة فيه ، وهو حرام على الرجال إلا لحاجة التداوي ونحوه ومن الدلائل على تحريمه قوله في الحديث الصحيح لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال ، ويدل عليه الحديث الصحيح عن أنس أن النبي : " نهى أن يتزعفر الرجل " [ أخرجه البخاري ومسلم ] ، وما ذاك إلا للونه لا لريحه ، فإن ريح الطيب للرجال محبوب ، والحناء في هذا كالزعفران ، وفي كتاب الأدب من سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي أُتي بمخنث ، قد خضب يديه ورجليه بالحناء ، فقال : " ما بال هذا ؟ " فقيل يا رسول الله : يتشبه بالنساء ، فأمر به فنفي إلى النقيع ، فقالوا يا رسول الله : ألا نقتله ، فقال : " إني نهيت عن قتل المصلين " [ لكن إسناده فيه مجهول ] ، [ المجموع 1 347 ، روضة الطالبين 2 / 349 ] .
النقيع : موضع قرب المدينة ، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماه لخيله ، وله هناك مسجد يقال له : مُقَمَّل ، وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخاً ، والنقيع غير البقيع ، فالنقيع أقرب إلى المدينة من البقيع [ معجم البلدان 5 / 301 ] .(1/301)
وقال القاضي عياض رحمه الله : " قوله : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل " ، محمله عندنا على تغيير يديه بالزعفران ، تشبهاً بالنسوان " [ إكمال المعلم 6 / 623 ] .
ومع كل تلك الأحاديث الناهية عن تغيير الشيب بالسواد ، ومع ذكر أقوال العلماء في هذه المسألة المهمة ، إلا أنه انتشر بين الرجال في هذا العصر، صبغُ لحاهم ورؤوسهم بالسواد ، يريدون أن يتشببوا ، ويتخذون سناً مزيفاً ليس لهم ، ففي هذا من التحايل ما لا يخفى على أحد .
فالصبغ بالسواد حرامٌ حرام ، فلا يجوز أن يغير الرجل ولا المرأة شعرهما بالسواد ، لما يقتضيه هذا التغيير من التدليس على الناس ، وبيان بمظهر على غير حقيقته ، فتغيير الشيب بالسواد لا يُظهر السن الحقيقي لصاحبه ، فربما أراد الرجل أن يخطب فتاة يكبرها بعشرات السنين ، فإذا رأوا رأسه أسوداً ، ولحيته سوداء ربما قبلوا به ، وقبلت به الفتاة ، ليقينهم بأنه صغير السن ، وعندما تذهب الصبغة تراه في منظر غير الذي رأته فيه من قبل ، وكذلك المرأة لا يجوز لها أن تغير شعرها بالسواد حتى تبدو أصغر من سنها الحقيقي .
قال المبارك فوري رحمه الله فيما ذكره عن ابن القيم رحمه الله : " الخضاب بالسواد المنهي عنه خضاب التدليس كخضاب شعر الجارية ، والمرأة الكبيرة ، تغر الزوج ، والسيد بذلك .
وخضاب الشيخ يغر المرأة بذلك ، فإنه من الغش والخداع " [ تحفة الأحوذي ] .(1/302)
فعلى الإنسان أن يتوكل على الله ويرضى بما قسم الله له ، والشيب نور للمسلم ، ومن لجأ إلى التغيير بالسواد ، فقد ارتكب أمراً محرماً ، وهذه خديعة وتدليس وكذب من أجل الحصول على حرام ، فلا يحل لأحد أن يغير شعره بسواد أبداً ، نعم تغيير لون الشعر سنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتغيير لكن بغير السواد ، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)).
وبهذا يعرف أن بعض المحلات التي تبيع صبغ الشعر الأسود، أنه حرام عليهم، ولا يجوز لهم بيعه، وهذه من البيوع المحرمة، ومن المكاسب المحرمة ، ولا حجة بأن هذه طلبات الزبائن ، والناس تريد هذا ، فالدين شرع الله ، وسنة رسوله ، ولا قول لأحد معهما ، فانتبه يا صاحب المحل أن تخلط حلال مالك بحرام ، لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ، فالربح الذي يأتيك من هذه السلعة سحت حرام ، فاتركه لله وسيعوضك الله خيراً منه .
فائدة :
قال القسطلاني نقلاً عن بدر الدين العيني رحمة الله عليهما : " وأول من صبغ بالسواد من العرب عبد المطلب بن هاشم ، وأول من صبغ لحيته بالسواد مطلقاً ففرعون لعنه الله تعالى " [ عمدة القاري 15 / 97 ، وإرشاد الساري 12 / 594 ] .
من أحكام الصبغ ( الخضاب ) :
ولمزيد الفائدة فهذه جملة من أحكام الخضاب أو الصبغ والتي تهم المسلم والمسلمة وهي جديرة بالاهتمام ، حفية بالعناية : فمن تلك الأحكام :
اختضاب الأنثى :(1/303)
اتّفق الفقهاء على أنّ تغيير الشّيب بالحنّاء أو نحوه مستحبّ للمرأة كما هو مستحبّ للرّجل ، للأخبار الصّحيحة في ذلك . وتختصّ المرأة المزوّجة ، والمملوكة باستحباب خضب كفّيها وقدميها بالحنّاء أو نحوه في كلّ وقت عدا وقت الإحرام ؛ لأنّ الاختضاب زينة ، والزّينة مطلوبة من الزّوجة لزوجها ومن المملوكة لسيّدها ، على أن يكون الاختضاب تعميماً ، لا تطريفاً ولا نقشاً ؛ لأنّ ذلك غير مستحبّ . ويجوز لها - بإذن زوجها أو سيّدها تحمير الوجنة ، وتطريف الأصابع بالحنّاء مع السّواد . وفي استحباب خضب المرأة المزوّجة لكفّيها ما ورد عن « ابن ضمرة بن سعيد عن جدّته عن امرأة من نسائه قال : وقد كانت صلّت القبلتين مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قالت : دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : اختضبي ، تترك إحداكنّ الخضاب حتّى تكون يدها كيد الرّجل ؟ » قال : فما تركت الخضاب حتّى لقيت اللّه عزّ وجلّ ، وإن كانت لتختضب وإنّها لابنة ثمانين .
أمّا المرأة غير المزوّجة وغير المملوكة فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : كراهة اختضابها في كفّيها وقدميها لعدم الحاجة مع خوف الفتنة ، وحرمة تحمير وجنتيها وحرمة تطريف أصابعها بالحنّاء مع السّواد .
ويرى الحنابلة جواز الاختضاب للأيّم ، لما ورد عن جابر مرفوعاً : « يا معشر النّساء اختضبن ، فإنّ المرأة تختضب لزوجها ، وإنّ الأيّم تختضب تعرّض للرّزق من اللّه عزّ وجلّ » أي لتخطب وتتزوّج .
وضوء المختضب وغسله :
اتّفق الفقهاء على أنّ وجود مادّة على أعضاء الوضوء أو الغسل تمنع وصول الماء إلى البشرة - حائل بين صحّة الوضوء وصحّة الغسل . والمختضب وضوءه وغسله صحيحان ؛ لأنّ الخضاب بعد إزالة مادّته بالغسل يكون مجرّد لون ، واللّون وحده لا يحول بين البشرة ووصول الماء إليها ، ومن ثمّ فهو لا يؤثّر في صحّة الوضوء أو الغسل .
الاختضاب للتّداوي :(1/304)
اتّفق الفقهاء على جواز الاختضاب للتّداوي ، لخبر سَلْمَى خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : مَا سَمِعْتُ أَحَدًا قَطُّ يَشْكُو إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إِلَّا قَالَ : " احْتَجِمْ " ، وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إِلَّا قَالَ : " اخْضِبْهُمَا بِالْحِنَّاءِ " [ أخرجه أحمد ] ، وسلمى : مولاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وفي لفظ لأحمد : قالت : « كنت أخدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة إلاّ أمرني أن أضع عليها الحنّاء » .
الاختضاب بالمتنجّس وبعين النّجاسة :
يرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ما خضّب أو صبغ بمتنجّس يطهر بغسله ثلاثاً فلو اختضب الرّجل أو اختضبت المرأة بالحنّاء المتنجّس وغسل كلّ ثلاثاً طهر . أمّا إذا كان الاختضاب بعين النّجاسة فلا يطهر إلاّ بزوال عينه وطعمه وريحه وخروج الماء صافياً ، ويعفى عن بقاء اللّون ؛ لأنّ الأثر الّذي يشقّ زواله لا يضرّ بقاؤه . ومن هذا القبيل المصبوغ بالدّم ( فهو نجس ) ، والمصبوغ بالدّودة غير المائيّة الّتي لها دم سائل فإنّها ميتة يتجمّد الدّم فيها وهو نجس .
الاختضاب بالوشم :
الوشم هو غرز الجلد بالإبرة حتّى يخرج الدّم ثمّ يذرّ عليه كحل أو نيلة ليخضرّ أو يزرقّ وهو حرام مطلقاً لخبر الصّحيحين : « لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنّامصة والمتنمّصة » ؛ ولأنّه إذا غرز محلّ الوشم بإبرة ثمّ حشي بكحل أو نيلة ليخضرّ تنجّس الكحل بالدّم فإذا جمد الدّم والتأم الجرح بقي محلّه أخضر ، فإذا غسل ثلاثاً طهر . ويرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوشم كالاختضاب أو الصّبغ بالمتنجّس ، فإذا غسل ثلاثاً طهر ؛ لأنّه أثر يشقّ زواله إذ لا يزول إلاّ بسلخ الجلد أو جرحه .
الاختضاب بالبياض :(1/305)
يكره خضب اللّحية السّوداء بالبياض كالكبريت ونحوه إظهاراً لكبر السّنّ ترفّعاً على الشّباب من أقرانه ، وتوصّلاً إلى التّوقير والاحترام من إخوانه ، وأمثال ذلك من الأغراض الفاسدة . ويفهم من هذا أنّه إذا كان لغرض صحيح فهو جائز .
اختضاب الحائض :
جمهور الفقهاء على جواز اختضاب الحائض لما ورد « أنّ امرأةً سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت : تختضب الحائض ؟ فقالت : قد كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونحن نختضب فلم يكن ينهانا عنه » ، ولما ورد أنّ نساء ابن عمر كنّ يختضبن وهنّ حيّض . وقد قال ابن رشد : لا إشكال في جواز اختضاب الحائض والجنب لأنّ صبغ الخضاب الّذي يحصل في يديها لا يمنع من رفع حدث الجنابة والحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت . ولا وجه للقول بالكراهة .
اختضاب المرأة المحدّة :
اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة المحدّة على زوجها يحرم عليها أن تختضب مدّة عدّتها ؛ لما ورد من حديث لأمّ سلمة قالت : « دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين توفّي أبو سلمة فقال لي : لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب . قالت : قلت : بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » .
خضاب رأس المولود :(1/306)
اتّفق الفقهاء - مالك والشّافعيّ - وأحمد والزّهريّ وابن المنذر على كراهة تلطيخ رأس الصّبيّ بدم العقيقة ؛ لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ، وأميطوا عنه الأذى » ، فهذا يقتضي ألاّ يمسّ بدم لأنّه أذًى ، ولما روي عن يزيد بن عبد المزنيّ عن أبيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « يعقّ عن الغلام ولا يمسّ رأسه بدم » ولأنّ هذا تنجيس له فلا يشرع . واتّفقوا على جواز خضب رأس الصّبيّ بالزّعفران وبالخلوق ( أي الطّيب ) ، لقول بريدة : كنّا في الجاهليّة إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاةً ولطّخ رأسه بدمها ، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كنّا نذبح شاةً ونحلق رأسه ونلطّخه بزعفران ، ولقول عائشة رضي الله عنها « : كانوا في الجاهليّة إذا عقّوا عن الصّبيّ خضّبوا قطنةً بدم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه ، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا مكان الدّم خلوقاً » زاد أبو الشّيخ « : ونهى أن يمسّ رأس المولود بدم » . أمّا الحنفيّة فإنّ العقيقة عندهم غير مطلوبة .
اختضاب الرّجل والخنثى :
اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للرّجل أن يختضب في رأسه ولحيته لتغيير الشّيب بالحنّاء ونحوه للأحاديث الواردة في ذلك ، وجوّزوا له أن يختضب في جميع أجزاء بدنه ما عدا الكفّين والقدمين ، فلا يجوز له أن يختضب فيهما إلاّ لعذر ؛ لأنّ في اختضابه فيهما تشبّهاً بالنّساء ، والتّشبّه بالنّساء محظور شرعاً . وقال أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة بحرمته . وقال بعض الحنابلة وصاحب المحيط من الحنفيّة بكراهته وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء » . وحكم الخنثى المشكل كحكم الرّجل في هذا .
اختضاب المحرم :(1/307)
ذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمحرم الاختضاب بالحنّاء في أيّ جزء من البدن ما عدا الرّأس ؛ لأنّ ستر الرّأس في الإحرام بأيّ ساتر ممنوع . وقد ذكر القاضي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « إحرام الرّجل في رأسه ، وإحرام المرأة في وجهها » . ولا بأس باختضاب المرأة بالحنّاء ونحوه ، لما روي عن عكرمة أنّه قال : « كانت عائشة وأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحنّاء وهنّ حرم » . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام في جميع أجزاء جسده ، ما عدا اليدين والرّجلين فيحرم خضبهما بغير حاجة . وكرهوا للمرأة الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام ، إلاّ إذا كانت معتدّةً من وفاة فيحرم عليها ذلك ، كما يحرم عليها الاختضاب إذا كان نقشاً ، ولو كانت غير معتدّة . وقال الأحناف والمالكيّة : لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحنّاء ونحوه في أيّ جزء من البدن سواء أكان رجلاً أم امرأةً ؛ لأنّه طيب والمحرم ممنوع من الطّيب ، وقد روي « أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأمّ سلمة : لا تطيّبي وأنت محرمة ولا تمسّي الحنّاء فإنّه طيب » [ الموسوعة الفقهية 2 / 280 وما بعدها ] .
وبعد أن ذكرنا جملة من أحكام الخضاب والصبغ ، نعود للحديث عن الشرط السادس والخمسين من أشراط الساعة .
فحواصل الحمام ، المراد به والله أعلم صنيع بعض الرجال في هذا العصر ، من حلق العوارض ، ويتركون جزءاً من اللحية على الذقن فقط ، ثم يصبغونه بالسواد ، فيغدو كحواصل الحمام يعني كصدور كثير من الحمام ، وإلا فليس كل الحمام حواصله سوداء ، لكنه ربما كان من باب التغليب ، لأن الأغلب عليه أنه أسود . [ شرح الطيبي 9 / 2933 ، مرقاة المفاتيح 8 / 293 ] .(1/308)
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يريحون رائحة الجنة " ، فهذا لا شك أنه وعيد شديد لمن هذا فعلهم ، وما أكثرهم في هذا الزمان ، فمن الرجال اليوم من حلق اللحية بكاملها ، وأصبح كالحسناء ، ومنهم من تشبه باليهود النصارى والمجوس وغيره من أهل الشرك والكفر والإلحاد ، فحلق العوارض وترك ما حول العنفقة ، وهي ما يسمونه اليوم بالسكسوكة ، ثم يصبغونها بالسواد ، ولا ريب أن ذلك مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، مخالف لأمره وفعله وهديه وتقريره ، وبما أنه مخالف للأمر النبوي الكريم ، فقد توعد الله عليه بهذا الوعيد الشديد ، أنهم لا يريحون رائحة الجنة ، قال الملا على رحمه الله : " المراد بالحديث التهديد ، أو محمول على المستحل ـ يعني من استحل هذا الأمر وصبغ بالسواد تعمداً ـ أو مقيد بما قبل دخول الجنة من القبر ، أو الموقف أو النار " [ مرقاة المفاتيح 8 / 293 ، عون المعبود 11 / 178 ] .
وقال ابن الجوزي رحمه الله : ( يحتمل أن يكون المعنى لا يريحون رائحة الجنة لفعل يصدر منهم ، أو اعتقاد ، لا لعلة الخضاب ، ويكون الخضاب سيماهم ، كما قال في الخوارج سيماهم التحليق ، وإن كان تحليق الشعر ليس بحرام ) .
أما حديث صُهَيْبِ بن سنان الرومي رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ أَحْسَنَ مَا اخْتَضَبْتُمْ بِهِ ، لَهَذَا السَّوَادُ ، أَرْغَبُ لِنِسَائِكُمْ فِيكُمْ ، وَأَهْيَبُ لَكُمْ فِي صُدُورِ عَدُوِّكُمْ " [ أخرجه ابن ماجة ، فهو حديث ضعيف فيه راويان ضعيفان . انظر تمام المنة ص87 ] .(1/309)
الحاصل : أن الخضاب بالسواد حرام ، سواءً للرجال أو النساء ، ولو كانوا شباباً أو شيباً ، وهو الذي يدل عليه حديث الباب ، وقد ورد في ذلك حديث عن أبي الدرداء مرفوعاً : " من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة " [ أخرجه الطبراني ، وقال الهيثمي : فيه الوضين بن عطاء ، وثقه أحمد وابن معين ، وابن حبان ، وضعفه من هو دنهم في المنزلة ، وبقية رجاله ثقات ، وقال ابن حجر : سنده لين ، تمام المنة 86 ] .
السابع والخمسون :
فتنة الأحلاس والدهيماء : عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ : كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرَ الْفِتَنَ ، فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا ، حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ ، فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا فِتْنَةُ الْأَحْلَاسِ ؟ قَالَ : " هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ ، دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي ، وَلَيْسَ مِنِّي ، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ ، لَا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً ، فَإِذَا قِيلَ : انْقَضَتْ ، تَمَادَتْ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ ، فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ " [ أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، وقال الألباني صحيح الإسناد . المشكاة 3 / 1487 ، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط في شرح السنة 15 / 20 ، وصحح إسناده أيضاً مصطفى بن العدوي في الصحيح المسند من أحاديث الفتن 341 ] .(1/310)
ونأتي لشرح الحديث حتى نقرب المقصود منه بإذن الله تعالى :
الأحلاس : أضيفت إلى الفتنة ، لدوامها وطول لبثها ، والحلس : هو ما يوضع على ظهر البعير أو الدابة ويكون ملازماً له .
والحرب : ذهاب المال والأهل .
والسراء : المراد بها النعمة التي تسر الناس من الصحة والرخاء ، والعافية من البلاء والوباء ، واضيفت الفتنة إلى السراء ، لأن سبب وقوعها ارتكاب المعاصي بسبب كثرة النعم ، أو لأنها تسر العدو .
والدخن : هو الدخان ، يريد أن الفتنة تثور من تحت قدميه كالدخان .
ويتزعم هذه الفتنة رجل من أهل بيت النبوة ، لكنه يزعم أنه بفعله هذا يتتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " يزعم أنه مني " ، يعني بفعله ذلك يزعم أنه من فعل أو أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " وليس مني " يعني بفعله ذلك ليس مني ولا أقره عليه ، لأنه لو كان من أهلي لما هيج الفتنة ، وأجج نارها .
وقوله : " كورك على ضلع " : هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم في عدم استقامة الأمر في ذاك الزمن وفي تلك الفتنة ، لأن الضلع لا يقوم على الورك ، بمعنى أن ذلك الرجل ليس بأهل للملك .
والدهيماء : يعني السوداء ، وهي تغير للدهماء ، وصغرت للذم ، وهي الفتنة العظماء ، والطامة العمياء .
وقوله : " لطمته لطمة " : يعني أن هذه الفتنة لا تترك أحداً من الناس إلا وأصابته بمحنة ، ومسته ببلية ، فهي تعم جميع الناس ولا ينجو منها أحد .
فإذا قالوا انقضت : يعني انتهت وتوارت وذهبت ، إذا بها تزداد وتتمادى ، وتستمر .
والفسطاط : الفرقة . [ النهاية في الفتن 1 / 60 ، شرح السنة 15 / 20 ] .(1/311)
في الحديث السابق يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فتنة عظيمة طويلة المدى ، تصيب هذه الأمة ، فتنة مظلمة قاتمة السواد ، يذهب فيها الأهل والمال ، فبعد أن كان الناس في نعمة ورخاء وسرور ، فيبتلي الله عباده بنعمة الخيرات وما يمده لهم من النعيم والخير الوفير ، ليرى سبحانه وهو أعلم بعباده من الصابر الشاكر الحامد المستغفر ، ومن هو المذنب الذي لم تزده نعم الله عليه إلا طغياناً وبعداً عم ربه سبحانه وتعالى ، فإذا طغى الناس وبغوا وتجبروا ، وظلموا ولم يحمدوا ربهم على نعمه ، ولم يشكروه عليها ، هناك يبتليهم ببلاء عظيم ، إنها فتنة سوداء يأكل بعضها بعضها ، لا يبقى بيت من البيوت إلا ودخلته ، فأصيب أهله بها ، من فقد للمال ، أو الأبناء ، أو حتى صاحب الدار ، وربما نكون في هذه الأيام في بداية الطريق لتلك الفتنة العظيمة ، فالله عز وجل قد أغدق علينا بنعم لا تعد ولا تحصى ، ومع ذلك فهاهي المعاصي والفواحش والكبائر تنتشر انتشار النار في الهشيم ، بسرعة فائقة ، والناس في غفلة وإعراض عن دين ربهم ، فلا حمد ولا شكر إلا من رحم ربك من المسلمين ، وأما الغالبية العظمى والكثرة الكاثرة من المسلمين فهم في غفلة معرضون ، فلا صلاة ولا صيام ولا حج ، ولا ذكر لله ، ولا أمر بمعروف ، ولا نهي عن منكر ، ولا بر بالوالدين ، ولا فعل للخيرات ، ولا أداء للواجبات ، ولا ترك للمنهيات ، بل اقتراف لها ، وفعل لها والعياذ بالله ، فالزنا على مصراعيه ، وقبله الربا ، فلا تخلو دولة إسلامية من شره وفتنته ، واللواط يلحق بهما ، والسحر قد ملأ الأرض وأهلك الحرث والنسل ، ودمر الأنفس البريئة ، والطامة الكبرى ، والمصيبة العظمى ما يحصل في بلاد المسلمين من شرك بالله ، من تبرك بالقبور ، ودعاء أهلها من دون الله ، والخف بغير الله ، والنذر لغير الله ، وهلم جرا ، فلا غرابة أن تحصل هذه الفتن اليوم من تفجيرات وقتل للأنفس ، وانتهاك للأعراض من قبل المسلمين(1/312)
أنفسهم وليس من أعدائهم ، فهاهي الاعتداءات تلو الاعتداءات على النفس المسلمة ، وعلى البيوت الآمنة ، وهاهي السرقات من سيارات وعمارات ، يتركها أهلها آمنة ، ويعودون إليها وإذا بها خالية أو خاوية على عروشها ، ولقد حذرنا نبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم من الفتن ، التي تدخل كل بيت من بيوت المسلمين ، وذلك عندما يفسد أكثر الناس ، فلا يعودون يعرفون الحق ، ولا ينكرون الباطل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهاك جملة من الأحاديث التي تحذر من وقوع الفتن في هذه الأمة ، نسأل الله العفو والسلامة :
عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تَكُونُ فِتْنَةٌ ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمُضْطَجِعِ ، وَالْمُضْطَجِعُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ ، وَالْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ ، وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ مِنَ الْمُجْرِي ، قَتْلَاهَا كُلُّهَا فِي النَّارِ " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَتَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : " ذَلِكَ أَيَّامَ الْهَرْجِ " ، قُلْتُ : وَمَتَى أَيَّامُ الْهَرْجِ ؟ قَالَ : " حِينَ لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ " ، قُلْتُ : فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " اكْفُفْ نَفْسَكَ وَيَدَكَ ، وَادْخُلْ دَارَكَ " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيَّ دَارِي ؟ قَالَ : " فَادْخُلْ بَيْتَكَ " ، قُلْتُ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي ؟ قَالَ : " فَادْخُلْ مَسْجِدَكَ وَاصْنَعْ هَكَذَا ، وَقَبَضَ بِيَمِينِهِ عَلَى الْكُوعِ ، وَقُلْ رَبِّيَ اللَّهُ حَتَّى تَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ " [ أخرجه أحمد ] .(1/313)
واليوم نحن في فتن فالرجل يضيع حقه ، ولا مطالب له ، وإن طالب به أصبح ظالماً ومعتدياً ، والكثير من أصحاب الحقوق ، لا يأخذون حقوقهم إلا بدفع الرشوة ، أو التنازل عن بعضها مقابل الحصول على بعضها ، فما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، ولكننا وله الحمد لم نصل لمرحلة الفتن التي يصبح الرجل حبيس بيته ، ويعتزل الناس نهائياً ، وإن كنت لا أنفي وجود الفتن اليوم ، وهي موجودة لكننا نعتصم بالله منها ومن ضررها وشررها .
ومتى حصلت الفتن فعلى المسلم أن يتمسك بهذا الحديث الذي رواه أَبَو بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا ، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا ، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ أَوْ وَقَعَتْ فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ " ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ ؟ قَالَ : " يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ ، ثُمَّ لِيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ " ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَرَأَيْتَ إِنْ أُكْرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ ، فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي ؟ قَالَ : " يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ " [ أخرجه مسلم ] .(1/314)
قال القاضي عياض والنووي رحمة الله عليهما : " المراد كسر السيف حقيقة على ظاهر الحديث ، والأحاديث قبله وبعده ، مما يحتج به من لا يرى القتال في الفتنة بكل حال ، وقد اختلف العلماء في قتال الفتنة :
فقالت طائفة : لا يقاتل في فتن المسلمين ، وإن دخلوا عليه بيته ، وطلبوا قتله ، فلا يجوز له المدافعة عن نفسه ، لأن الطالب متأول ، وهذا مذهب أبي بكرة الصحابي رضي الله عنه وغيره ـ وأبو بكرة مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واشتهر بأبي بكرة ، لبكرة كان يدليها للنبي صلى الله عليه وسلم من حصن في الطائف ، وقد ذكر رضي الله عنه أنه قال : " لو دخلوا علي ما بهشت إليهم بقصبة " [ أخرجه أحمد ] .
وقال ابن عمر وعمران بن حصين رضي الله عنهم وغيرهما : لا يدخل فيها لكن إن قُصِدَ دَفَعَ عن نفسه ، فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام .
وقال معظم الصحابة والتابعين وعامة علماء الإسلام ، يجب نصر المحق في الفتن ، والقيام معه بمقاتلة الباغين ، كما قال تعالى : " فقاتلوا التي تبغي " [ الحجرات 9 ] ، وهذا هو الصحيح ، وتتأول الأحاديث على من لم يظهر له الحق ، أو على طائفتين ظالمتين ، لا تأويل لواحدة منهما ، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد ، واستطال أهل البغي والمبطلون . والله أعلم " [ إكمال المعلم 8 / 418 ، وشرح النووي على مسلم 18 / 218 ] .
أما حديث أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، فقلت يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " [ متفق عليه ] .
هذا الحديث فيمن كان قتالهما حمية وعصبية ونحوها ، لا عن تأويل واجتهاد ، ومعنى أنهما في النار : يعني قد استحقا دخولها ، فقد يعذبهما الله بالنار جزاء فعلهما ، وقد يعفو عنهما بمنه وكرمه .(1/315)
أما ما حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم فلا يدخل في هذا الحديث ، لأنهم مجتهدون مصيبون ومخطئون ، فمن أصاب فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر والله يعفو عن خطئه ، ومذهب أهل السنة والجماعة كما سبق بيانه فيما سبق الإمساك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، والترضي عنهم جميعاً ، وتأويل قتالهم ، وأنهم لم يقصدوا مصيبة ولا محض دنيا ، بل اعتقد كل فريق أنه محق مصيب ، وأن الحق معه ، على خلاف الطرف الآخر ، فقاتل بعضهم بعضاً من أجل الرجوع إلى أمر الله . [ المرجعين السابقين ] .
وعموماً فالواجب على المسلم حيال الفتن ، أن يمسك لسانه ، ويبعد نفسه عنها ، حتى لا يزيد في إشعالها ، ويكون وقوداً لإضرامها ، ما لم يكن ذا رأي مسموع ، وأمر مُنَفَّذ ، فهنا ينبغي أن يتدخل ويطفئ الفتنة الواقعة بين المسلمين ، وإلا فعليه بخاصة نفسه ويتجنب أمر العامة ، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن عمرو قال : بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ ذكروا الفتنة ، أو ذُكرت عنده ، قال : " إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم ، وخفت أماناتهم ، وكانوا هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ قال : فقمت إليه فقلت له : كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ قال : " الزم بيتك ، وأملك عليك لسانك ، وخذ ما تعرف ، ودع ما تنكر ، وعليك بأمر خاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة " [ أخرجه أحمد ] .
الحديث يدل على
ما يُخرج من الفتنة :
وأما ما يُخرج من الفتنة فكثير ، هناك أسباب يفعلها المسلم ، ويسلم من الفتنة ويأمن منها بإذن الله تعالى ، ومنها :
تقوى الله عز وجل : قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً " [ الطلاق 3 ] .
الخوف من الله عز وجل : قال تعالى : " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً " [ الطلاق 4 ] .(1/316)
التوكل على الله تعالى : قال تعالى : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " [ الطلاق 3 ] ، وقال تعالى : " الذين قالوا لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " [ آل عمران 173-174 ] .
الاستغفار : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لزم الاستغفار ، جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب " [ أخرجه أبو داود ، وابن ماجة ، وأحمد ، والبيهقي في الكبرى ، والطبراني ، والحاكم وقال : صحيح الإسناد ، وحسنه العلامة ابن باز رحمه الله ] .
وذكر الهندي في كنز العمال بعض الآثار المرفوعة في الاستغفار :
أنزل الله علي أمانين لأمتي. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
عن أبي موسى [ أخرجه الترمذي ] .
في الأرض أمانان أنا أمان والاستغفار أمان أنا مذهوب بي ويبقى أمان الاستغفار فعليكم بالاستغفار عند كل حدث وذنب " [ أخرجه الديلمي ، عن عثمان بن أبي العاص ] .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة ، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو الذي عصمه الله عز وجل من الذنوب والمعاصي ، بل أعانه الله تعالى على شيطانه فأسلم ، أفلا يكون لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، لا سيما ونحن مثقلون بالذنوب ، غارقون في المعاصي ، نمشي في الآثام ، فلا أقل من أن تلهج ألسنتنا بذكر الله عز وجل ، وتنطق بالاستغفار ، فلاستغفار سبب لمحو الذنوب ، وإزالة المعاصي ، وذهاب حرها ، قال تعالى : " ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً " [ النساء ] .(1/317)
ولك يكن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل محو المعاصي ، وغفران الذنوب ، فهو معصوم من الخطأ والزلل ، ولكن كان من باب جبر ما يحصل من نقص في الطاعات ، ويبين ذلك ويوضحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " ما رأيت أحداً أكثر أن يقول استغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قال أبو حاتم رحمه الله : " كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يستغفر ربه جل وعلا في الأحوال على حسب ما وصفناه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ولاستغفاره صلى الله عليه وسلم معنيان :
أحدهما : أن الله جل وعلا بعثه معلماً لخلقه قولاً وفعلاً فكان يعلم أمته الاستغفار والدوام عليه ، لما علم من مقارفتها المآثم في الأحايين باستعمال الاستغفار .
والمعنى الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لنفسه عن تقصير الطاعات لا الذنوب ، لأن الله جل وعلا عصمه من بين خلقه ، واستجاب له دعاءه على شيطانه حتى أسلم ، وذاك أن من خلق المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى بطاعة لله عز وجل داوم عليها ولم يقطعها ، فربما شغل بطاعة عن طاعة حتى فاتته إحداهما ، كما شغل صلى الله عليه وسلم عن الركعتين اللتين بعد الظهر بوفد تميم ، حيث كان يقسم فيهم ويحملهم حتى فاتته الركعتان اللتان بعد الظهر ، فصلاهما بعد العصر ، ثم دوام عليهما في ذلك الوقت فيما بعد ، فكان استغفاره صلى الله عليه وسلم لتقصير طاعة أن أخرها عن وقتها من النوافل لاشتغاله بمثلها من الطاعات التي كان في ذلك الوقت أولى من تلك التي كان يواظب عليها ، لا أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر من ذنوب يرتكبها " [ أخرجه ابن حبان ] .
فالاستغفار من أعظم القربات إلى الله تعالى ، ومن أعظم الذكر ، ومن أعظم ما يلجأ به المؤمن إلى ربه ليخرجه من الفتن والمحصن التي ربما حلت به .(1/318)
الاستعانة بالصبر والصلاة : لا شك أن الإنسان أيام الفتن ، يحتاج إلى ما يسلي به نفسه ، ويفرج عنه همومه ، ويزيل عنه كربه ، فأمر الفتن عظيم ، وشرها كبير ، ولهذا أرشدنا الشارع الكريم إلى أمور مهمة ، نتجاوز بها تلك العقبات لنواجه الفتن ونحذر منها ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " [ البقرة 153 ] ، وقال تعالى : " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " [ الحجر 98 ] ، وعن سالم بن أبي الجعد قال : قال رجل : ليتني صليت فاسترحت ، فكأنهم عابوا عليه ذلك ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا بلال ! أقم الصلاة أرحنا بها " [ أخرجه أبو داود ] ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول : " سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن ، وماذا أنزل من الفتن ، من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلين ، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " [ أخرجه البخاري والترمذي وابن حبان ] .
فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله في مواطن الفتن ، وان يحذر من الدخول فيها ، ولو بكلمة أو إشارة ، حتى لا يشعل نارها ويكون رأساً فيها ، ويتسبب في قتال المسلمين فيما بينهم ، بل عليه أن يعتزل تلك الفتن جميعاً ويبقى في بيته ، ويغلق عليه داره ، حتى تمر غمامتها بسلام ، وتنقشع غيايته بإذن الله تعالى ، ونسأل الله تعالى أن يقينا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، إنه جواد كريم .
الثامن والخمسون :(1/319)
تقارب الأسواق : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَظْهَرَ الْفِتَنُ وَيَكْثُرَ الْكَذِبُ وَتَتَقَارَبَ الْأَسْوَاقُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ " قِيلَ : وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَالَ : " الْقَتْلُ " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح ، صحح إسناده الأرنؤوط في تحقيق المسند 16 / 422 ، وصحح إسناده حمزه الزين في تحقيق المسند 9 / 548 ، ] ، وعنه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ، وتظهر الفتن ، ويكثر الكذب ، ويتقارب الزمان ، وتتقارب الأسواق ، ويكثر الهرج " قيل : وما الهرج ؟ قال : " القتل " [ أخرجه ابن حبان بإسناد صحيح ، قاله الأرنؤوط 15 / 114 ] .
يقول العلامة حمود التويجري : ورد في حديث ضعيف تفسير تقارب الأسواق بأنه كسادها وقلة أرباحها . [ اتحاف الجماعة 2 / 195 ] .
لكن الملاحظ اليوم في السواق التجارية أنها بفضل الله ومنه وكرمه في تزايد وانتماء ، وأرباحها لا تخفى على أحد ، وخصوصاً ممن يعملون في السوق التجارية ، فهم يدركون مدى أهمية التجارة والأرباح الكثيرة التي تدرها .
والحقيقة أن الناظر في التقدم العلمي والتقني اليوم ، يرى أن الحديث قد تحقق ، فأصبحت الأسواق العالمية في متناول اليد البشرية ، فيمكنك أن تتسوق من أي سوق عالمي وأنت جالس في بيتك ، ومتكئ على أريكتك ، وذلك من خلال الإنترنت ، فقد قرب البعيد ، وقلص المسافات ، حتى وكأن العالم قرية واحدة .(1/320)
وربما كان من دلائل مصداقية الحديث كثرة الأسواق في البلد الواحد ، فالسلعة المطلوبة تجدها في كل الأسواق المنتشرة في المدينة الواحدة ، فلا تحتاج إلى أن تتكبد المشاق ، وتركب الصعاب ، ولا تجوب الشوارع بسيارتك من أجل الذهاب للمحل المعين لشراء سلعة بأوصاف معينة ، فما تجده في مكان ، تجده في معظم المحلات التجارية ، نظراً لكثرة الأسواق ، وكثرة الموزعين ، الذين يوزعون السلع على جميع المحلات ، فالسلعة الواحدة تجدها متوفرة في كل مكان ، أو على أقل تقدير في معظم الأسواق ، ولعل ذلك تفسيراً لهذا الحديث .
وربما كان من تفسيرات تقارب الأسواق ، توفر وسائل المواصلات التي تنقل الإنسان من دولة إلى أخرى في ساعات معدودة ، بل وإذا كانت السلعة في مدية داخل بلد واحد ، فالمسافة التي تكون بمئات الكيلو مترات تقطع في غضون ساعة أو أقل أو أكثر قليلاً .
وقد يكون من أسباب تقارب السواق ، توفر وسائل الاتصال الحديثة كالفاكس والتلكس ، والهواتف الثابتة والمحمولة ، التي قربت البعيد ، وسهلت الصعب بإذن الله تعالى ، حتى أصبح الواحد يعقد صفقة تجارية في بلد يبعد عنه آلاف الكيلو مترات خلال دقائق معدودة من الزمن ، فيبيع ويشتري ، ويودع الأموال ، كل ذلك خلال دقائق يسيرة ، وهذا مشاهد وواقع ملموس ، يشاهده الجميع عبر وسائل الإعلام المختلفة ، عن طريق البورصات العالمية ، فلا يقع رفع في الأسعار أو خفض فيها إلا ويعلم به التجار في أصقاع المعمورة ، فلله الحمد والمنة على نعمه الظاهرة والباطنة .
التاسع والخمسون :(1/321)
التهاون بالسنن : والمقصود هنا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فيما أمر بها ، أو نهى عنه رحمة بهذه الأمة ، ولقد أمر الكتاب العزيز بوجوب اتباع سنن الأنبياء والمرسلين ، لأنهم هم الذين يبلغون عن الله رسالته ، لينذروا أقوامهم ، ويحذروهم من سخط الله وعقابه ، ومن جملة أولئك الأنبياء والرسل ، آخرهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الكتاب الكريم آيات عديدة تأمر باتباع سنته والحذر من مخالفته ، قال تعالى : " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " [ الحشر 7 ] ، وقال تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " [ النساء 64 ] ، وقال تعالى : " من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً " [ النساء 80 ] ، وبالمقابل نجد أن الله تعالى في كتابه العزيز قد حذر من خطورة مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتوعد فاعل ذلك بالنار تارة ، وبنفي الإيمان عنه تارة أخرى ، قال تعالى : " ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين " [ النساء 14 ] ، وقال تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " [ النساء 65 ] ، وقال تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " [ النور 63 ] .
وجاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ملئ بالأحاديث الصحيحة التي تأمر باتباعه عليه الصلاة والسلام والحذر من مخالفته فمنها :(1/322)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا " فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ " [ متفق عليه ] .
وعَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا ، فَقَالَ يَا قَوْمِ : إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ ـ يعني اطلبوا النجاة ـ فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا ـ الدلجة : أول الليل ـ فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا ـ وهم الذين أطاعوا ـ وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ " [ متفق عليه ] .(1/323)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ " قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ ، قَالَ : " بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ " [ متفق عليه ] .
وعن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا ، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأنتم تَقْتَحِمُونَ فِيهَا " [ متفق عليه ] .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى " قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَنْ يَأْبَى ؟ قَالَ : " مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى " [ أخرجه البخاري ] .(1/324)
وعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ " [ أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم ، وقَالَ أَبو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصحح شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء ، والألباني في الإرواء برقم 2455 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : " ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ، ولا تركت شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه " [ أخرجه الشافعي في الرسالة ، وقال الألباني رحمه الله : هذا مرسل حسن ، الصحيحة 4 / 417 ] .(1/325)
ومع كل تلك الآيات البينات ، والأحاديث الواضحات ، إلا أننا نرى أن هناك ثلة ليست بالقليلة من المسلمين تخلوا عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وزهدوا فيها ، واتبعوا سنن اليهود والنصارى ، فكيف تفوز الأمة ، وتنجو من عذاب الله وأليم سخطه ، وكيف تريد النصر والعزة والرفعة ، وهي متخلفة عن ركب الصالحين ، بعيدة عن سنة سيد الأبطال والشجعان ، سيد المجاهدين الفاتحين ، فلا بد من عودة صادقة لدين الله ، ومراجعة حقيقية للنفس الأمارة بالسوء ، وأطرها على الحق أطراً ، وجبرها على اتباع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم جبراً ، حتى تستقيم على الصراط المستقيم ، وتتمسك بالشرع القويم ، واتباع سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم .
فالسنة لغة : هي الطريقة .
وشرعاً : ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير . [ حاشية اللالكائي 1 / 55 ] .
فمن علامات الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، التهاون بالسنن ، وما أكثر انتشار هذه العلامة من علامات الساعة اليوم ، وهي التهاون بالسنن ، والمصيبة التي لا تنجبر ، والجرح الذي لا يندمل ، أن هناك ثلة من المسلمين تهاونوا بالسنن الواجبة والتي ترتب عليها عقوبة إما في الدنيا ، وإما في الآخرة ، غير مبالين ولا مكترثين ، متبعين سنن المنحلين من أهل الكتاب ، ومن المنافقين العلمانيين ، ومن غيرهم ممن مرقوا من الدين ، ولو ذهبنا نعدد تلك السنن المتهاون بها ، أو المتروكة والمهجورة لاحتجنا إلى صفحات عديدة .
فمن تلك السنن المهجورة والمتروكة والمنسية اليوم ما يلي :
السواك ، والصلاة في مسجد الحي عند القدوم من السفر ، قبل أن يطرق بيته ، أداء السنن الرواتب لصلاة الفرائض ، وأداؤها في البيت أفضل منه في المسجد ، الوتر ، صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، الوصية بالنساء ، تقصير الثياب ، ترك صلاة الاستخارة ، ترك صلاة تحية المسجد ، ترك السلام وغير ذلك كثير .(1/326)
ومن أهم السنن الواجبة المتروكة اليوم ، حلق اللحى والإساءة إليها بقص أو تهذيب كما يفعله البعض من المسلمين اليوم ، وهو في الحقيقة تعذيب لها ، وتغيير لخلق الله تعالى ، قال الله تعالى : " وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً * لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً * أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً " [ النساء 117-121 ] .
فاللحية من سنن الأنبياء وهدي المرسلين ، بل إن العرب إذا رأوا الرجل حلق لحيته انتقصوه وعابوه واعتبروا ذلك مثلة فيه وعيباً عظيماً .
ولأهمية اللحية في الإسلام ، جُعل لها دية رجل كاملة ، فقد ذكر الفقهاء في باب الديات ، أن من اعتدى على لحية رجل ، فتسبب في إزالتها وعدم إنباتها مرة أخرى ، أن عليه دية كاملة ، لأنها من الأعضاء الواحدة في الرجل والتي تجب بها الدية كاملة ، وهذا مذهب الأحناف والحنابلة ، أما الشافعية والمالكية فقالوا : فيها حكومة عدل . [ الفقه الإسلامي وأدلته 7 / 5751 ] .
والحكومة : هي الدية التي ليس فيها قدر محدد ، وحكومة العدل : هي الدية التي يحكم بها رجل ثقة عدل . [ الموسوعة الفقهية 21 / 45 ] .
ووجه حكم الشافعي ومالك رحمهما الله بحكومة عدل : أن نفع اللحية هو الجمال فقط ، ولهذا قالوا : في ذهابها بالجناية حكومة عدل ، وقالوا : أن اللحية مثل اليد الشلاء ، والعين العمياء الباقية ، فهي كلها للزينة ، ولا نفع منها ، فكذلك اللحية لا دية فيها ، وإنما فيها حكومة .(1/327)
والراجح والله أعلم : ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة من أن فيها دية كاملة ، وهو قول علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، وقول : سعيد بن المسيب ، وشريح ، والحسن ، وقتادة ، وقالوا : لأن فيها إذهاب الجمال على الكمال . [ الموسوعة الفقهية 21 / 74 ] .
وقال الشيخ / منصور البهوتي رحمه الله : " وإن اعتدى على لحية شخص ، فنبت بعضها ولم ينبت الآخر ، بحيث لا يكون فيها جمالاً فتجب الدية كاملة " [ الروض المربع بحاشية ابن عثيمين رحمه الله 2 / 975 ] .
وقال سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم مفتي عام المملكة رحمه الله : " وشعر اللحية فيه الدية كاملة ، لأنه عضو من أعضاء الرجل ، فإنها ميزة وخصيصة اختصت أشرف النوعين من الآدميين وهم الرجال ، مع الجمال لمن يعرفون حقائق الجمال ، وفقدها نقص ، وهؤلاء الحمقى حُلاق اللحى مالوا إلى صفة الأنوثة واختاروها على صفة الرجال ، وربما لو يمكن أن آلة الرجل تُزال ويُحدث آلة امرأة ربما أن كثيراً يحب ذلك ، لفقد معنوية الرجولة ، فإنه إنما يتبرم منها وصار يحلقها لأن فيه مشابهة النساء ، فكيف يرضى إنسان أن يزيل صفة الرجولة ، وكان بعض الولاة يعزر بحلق اللحى " [ مجموع الفتاوى 11 / 345 ] .(1/328)
المقصود أن حلق اللحية حرام ، لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة بالمنع من ذلك ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ ، وَفِّرُوا اللِّحَى ، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ وعنه رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أنْهَكُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى " [ أخرجهما البخاري ] ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى " ، وعنه رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى " ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ " [ أخرجها مسلم ] ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَرَنَا بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحَى " [ أخرجه الترمذي ، وقَالَ أَبو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " أَعْفُوا اللِّحَى ، وَخُذُوا الشَّوَارِبَ ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى " [ أخرجه أحمد ] .
فدلت الأدلة على تحريم حلق اللحية أو أخذ شيء منها .(1/329)
ومن تأمل واقع المسلمين اليوم وجد أن أكثرهم مبتعدين عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وتركوا أكثر السنن ، وقد جاء ذلك صريحاً في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن من أشراط الساعة أن يمر الرجل بالمسجد ، لا يصلي فيه ركعتين " [ أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ، وقال الألباني في حاشية ابن خزيمة : إسناده ضعيف ، لكن أوله أو لغالبه طرق أخرى 2 / 284 ، وقال الألباني رحمه الله في الصحيحة : له طرق أخرى يتقوى بها 2 / 253 ] .
فهناك اليوم من المسلمين في بعض الدول الإسلامية ، يدخلون المسجد ، ولا يصلون الركعتين الخاصة بدخول المسجد ، وهي ما يسمى ( بتحية المسجد ) مع أنه ورد في الصحيح الأمر بها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي حديث أَبَي قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأنْصَارِيَّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ " [ أخرجه البخاري ومسلم ، انظر الإرواء 2 / 220 ] .(1/330)
والعجيب والمؤسف اليوم أن هناك من الدول الإسلامية من جعلت المساجد وهي بيوت الله ، طرقاً ومتاحف يدخلها الكفار والفساق والفجار ليصوروا ، ويتمتعوا بالنظر ، ويأخذوا الصور التذكارية ، ونسوا أن الله تعالى أمر ببناء المساجد لإقامة ذكره جل وعلا ، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ، وأداء الصلوات ، وإقامة المحاضرات والدروس العلمية ، لا لتكون متاحف يحضرها الكفار والفجار ، قال تعالى : " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " [ النور 36 ] ، وهذا الأمر لا يجوز شرعاً ، فنحن أمة الإسلام لا نرضى بان تهان المساجد ، وتصبح طرقاً للمشاة ، وأماكن للفرجة والسياحة ، ومشاهدة للمشركين والملحدين ، والله لقد عطلت أغلب أحكام المساجد في كثير من دول الإسلام اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهذه علامة خطيرة مؤذنة باقتراب الساعة .
فعلينا معاشر المسلمين أن ننكر مثل تلك الأمور الحاصلة اليوم في بعض البلدان الإسلامية ، لأن المساجد بيوت الله ، تؤدى فيها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ألا وهي الصلاة ، ومن تعظيم هذه الشعيرة العظيمة ، تعظيم الأماكن التي تقام فيها ، ألا وإن من تعظيم شعائر الله ، تعظيم الأماكن التي تقام فيها ، فتعظيم المساجد والاهتمام بها وعدم اتخاذها طرقاً أو متنزهات أو متاحف أو أماكن للعب ذلك من تعظيم شعائر الله ، وعلامة من علامات التقوى وقوة الإيمان ، قال تعالى : " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " [ الحج 32 ] ، وقد ورد ذكر هذه العلامة من علامات الساعة ، فيما أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث انس رضي الله عنه مرفوعاً : " إن من أمارات الساعة أن تُتخذ المساجد طرقاً " [ وقال صحيح الإسناد ] .(1/331)
ومن مصائب الأمة اليوم ، أن هناك ممن انتسبوا للإسلام وهو منهم براء ، من العلمانيين المنافقين المارقين من الدين ، من يدعون الصلاح والاستقامة وقد كذبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، يصلون معنا ، ويصومون معنا ، ولا تبلغ صلاتهم تراقيهم وحناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، هم دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها والعياذ بالله ، ومن نبذهم وخالفهم فهو الحق بإذن الله ، ولقد كشف الله سترهم في هذه الأيام العصيبة المدلهمة ، فعندما حصلت الأحداث المؤلمة الغاشمة الظالمة في مدينة الرياض عام 1424هـ ، وما تبعها من مسلسلات دموية راح ضحيتها الأبرياء من المواطنين ورجال الأمن البواسل ، وراح ضحيتها أيضاً أهل الذمة والمستأمنين ، ثم تلا ذلك أحداث مؤلمة عجيبة غريبة على أهل هذه البلاد المشرفة الحبيبة ، من وجود جماعات تخريبية عابثة في مدينتي الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة النبوية ، فما إن وقعت تلك الأحداث حتى ثارت زوبعة غبارية يتزعمها أهل العلمانية ، ويتولى كبرها أهل النفاق ، وأشاروا فوراً بأصابع الاتهام إلى أهل الخير ، وأهل العلم من علماء وطلاب علم ، وأهل حسبة ، من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ليوقعوا الفوضى في البلاد بين العلماء والحكام ، ولكن لما كان أل سعود حفظهم الله ، ينتمون لبيت عز وشموخ وبيت علم ورئاسة وسياسة حكيمة ، علموا تلك الألاعيب والغايات الخسيسة الدسيسة ، فانتبهوا لما يُحاك ضد دولتنا حرسها الله من أولئك الفجار ، فأخرسوا ألسنتهم عبر وسائل الإعلام المختلفة ، درءاً للفتنة ، وسداً لبابها ، فألقموهم حجارة ، وأسأل الله تعالى أن تكون في الدنيا قبل الآخرة حجارة من سجيل منضود .(1/332)
لقد نالوا من الدعاة ورجال الحسبة أقسى منال ، عبر الصحف المحلية ، يريدون تأجيج نار الفتنة ، وإشعال فتيلها ، فاللهم شل أركانهم ، وكسر أقلامهم ، وأخرس ألسنتهم ، وجمد الدماء في عروقهم ، فهم دعاة السوء والفساد ، والحرية والتحرر المزعومتين ، حرية من الدين ، وتحرر من الإسلام ، فاللهم ارفع عنهم يدك وعافيتك ، واجعلهم أذلة صاغرين .
ولقد جاء التحذير من المنافقين العلمانيين على لسان الصادق محمد صلى الله عليه وسلم ، يَقُولُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنه : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " ، فَقُلْتُ : هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ، وَفِيهِ دَخَنٌ " ، قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ : " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي ، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ " ، فَقُلْتُ : هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا " ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : صِفْهُمْ لَنَا ؟ قَالَ : " نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ ؟ قَالَ : " تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ " فَقُلْتُ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ ؟ قَالَ : " فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا ، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ(1/333)
الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ " [ متفق عليه واللفظ لمسلم ] .
وهناك اليوم من يرفضون السنة النبوية ، ويرفضون تطبيق كثير من أحكامها بحجة أن الزمن قد تغير ، ولا تنفع بعض أحكام السنة فيها ، ويريدون تحكيم القوانين الوضعية من فرنسية وألمانية وغيرها لتوافق هواهم ، وتشبع رغباتهم الجنسية والحيوانية البهيمية ، ومعلوم من الدين بالضرورة أن رفض السنة ناقض من نواقض الإسلام الكثيرة ، وأنه مخالف لمقتضى شهادة أن محمداً رسول الله ، فمن نواقض الإسلام :
من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، فهذا كافر .
من اعتقد أن أحداً من الناس يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر .
ومن مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله ، طاعته فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وألا يُعبد الله إلا بما شرع ، فمن لم يُحَكِّم شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، ومال إلى غيرها من القوانين الوضعية فهو على خطر عظيم ، لأنه لم يأت بشهادة التوحيد كاملة بل اخترمها ، فأتى بشيء وترك آخر .
وقد ورد في الكتاب والسنة ما يؤيد وجوب اتباع الكتابين لأنهما وحيان ، فمن الكتاب سبقت الإشارة إلى بعض الآيات ، وهذه بعض الأحاديث الصحيحة التي يؤيد ذلك :
عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَغَيْرِهِ رَفَعَهُ : " قَالَ لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ، يَأْتِيهِ أَمْرٌ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ " [أخرجه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وصحح إسناده سماحة العلامة ابن باز رحمه الله في مجموع الفتاوى 1 / 215 ] .(1/334)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " [ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة بإسناد صحيح ، فتاوى ابن باز 1 / 215 ] .
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ : عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ " [ أخرجه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح ، المصدر السابق ] .(1/335)
فكم هم اليوم الذين شبعوا من مال الله ، واتكئوا على الأرائك ، غطرسة ونبذاً للسنة ، وقد كشف الله عوارهم ومكائدهم ، أصحاب الترف والدعة ، ممن طلبوا الحياة الدنيا واشتروها ، وتركوا الآخرة وباعوها ، فتجدهم يتشدقون يتركون أوامر السنة ونواهيها ، زاعمين أن القرآن لم يرد فيه دليل يحرم هذا ويحلل ذاك ، وقد سبقت الإشارة إلى أن القرآن والسنة وحيان من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فما حكمه مجملاً في القرآن الكريم ، فحكمه مفصلاً في السنة النبوية ، فالقرآن لم يأت بتحريم كل شيء بعينه ، ولكنه قواعد وضوابط يسير عليها المسلم ، وإلا لاحتاج إلى مئات المجلدات ، فظهرت تلك الفئة المترفة المتشدقة التي تلمز سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وتتهمها بالتشدد والتعصب ، بل وأنها لا توافق التقدم الحضاري والتقني اليوم ، فأولئك علهم غضب من الله ولعنوا بما قالوا .
ولما علم علماء هذه الأمة حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، ولما علموه من الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على وجوب اتباع ما جاء به ، اتبعوه ولم يزيغوا عنه قيد أنملة ، بل وأوجبوا ذلك في مؤلفاتهم ورسائلهم ، وهذه بعض النماذج من ذلك :
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : " السنة إذا ثبتت ، فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها " [ مجموع الفتاوى 19 / 85 ] .
وقال ابن القيم في تفسير قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } قال رحمه الله : " أجمع المسلمون أن الرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته ، والرجوع إلى سنته بعد مماته ، واتفقوا على أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته " [ مختصر الصواعق المرسلة ] .(1/336)
فمن علامات الساعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ظهور أناس يدعون أنهم قرآنيون ، يهتدون بهدي القرآن فقط ، ويرفضون السنة النبوية ولا يحتجون بها ، ولا يعتبرونها أصلاً يرجع إليه ، زاعمين أنهم يتبعون القرآن الكريم لأنه متواتر الوصول إلينا ، وأما السنة فإنما وصلت عن طريق الآحاد وهو لا يفيد إلا الظن في الحكم ـ زعموا وخالفوا أهل السنة والجماعة ، بل خالفوا القرآن الذي يتبعونه ـ وقالوا : أن السنة في بعض النصوص تخالف العقل والعلم ، فأي اتباع للقرآن والقرآن يأمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد سبق ذكر الآيات الكثير الدالة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وتحذر من مخالفته .
وممن أضاعوا السنة وتركوها وأهملوها ، وضربوا بها عرض الحائط ، الشيعة الروافض ، ردهم الله إلى الحق رداً جميلاً ، فقد أخطئوا وأضلوا كثيراً ، وضلوا عن سبيل الحق ، وأعرضوا عنه ، واتبعوا ما يدعو إليه الشيطان من معصية الله تعالى ، ومخالفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ، فهم لا يحكمون السنة ، بل ولا القرآن ، فضلوا عن جادة الصواب ، وللأسف الشديد أن هناك فئة من المسلمين من أهل السنة والجماعة ، قد أخذتهم العاطفة ، وقد يكون لبعضهم مآرب أخرى فدعوا إلى تقريب الشيعة وأهل السنة ، ولا قرابة بيننا وبينهم ، بل هم أنفسهم لا يرضون بذلك ، فلا يريدون إلا شيعة فقط .
وهذه نبذة مختصرة مقتبسه من بعض ما تعتقده الشيعة وما تدين به من دين، والقصد منها إظهار ما تبطنه الشيعة وما يسمونه بالتقية عندما يناقشهم مناقش فيظهرون له غير ما يبطنون من شر وانحراف عن الصراط المستقيم، يقابل ذلك ما يعتقده أهل السنة والجماعة وما يدينون الله به مع استعدادهم لقبول الحق والرجوع إليه، وبعد اطلاعك أيها القاريء على اعتقاد كل من الطرفين تستطيع بما وهبك الله من عقل أن تعرف أيهما على الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال..والله المستعان.(1/337)
أولاً / القران الكريم :
أهل السنة:
متفقون على صحة القرآن الكريم وسلامته من الزيادة والنقصان ويفهم طبقا لأصول اللغة العربية وهم يؤمنون بكل حرف منه وأنه منزل غير مخلوق وهو المصدر الأول لكل عقائد وتشريعات المسلمين وأنه محفوظ بحفظ الله له.
الشيعة:
يطعنون بالقرآن الكريم ويشككون في صحته وذلك عند أكثرهم وإذا اصطدم بشيء من معتقداتهم يؤلونه تأويلات عجيبة، وكلام أئمتهم في مصادر التشريع عندهم المعتمدة لديهم أكثر من القرآن الكريم ومن أوامر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
ثانياً / الحديث الشريف:
أهل السنة:
عند أهل السنة الحديث هو المصدر الثاني للشريعة والمفسر للقرآن الكريم ولا تجوز مخالفة حديث صحيح منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم. وكل الصحابة الذين صحبوا الرسول عليه الصلاة والسلام سواء من الرجال أو النساء ووثقت أحاديثهم فهم كلهم سواء عدول ثقات رضي الله عنهم أجمعين.
الشيعة:
لا تعتمد إلا على الأحاديث المنسوبة لآل البيت (بيت الرسول صلى الله عليه وسلم). ويرفضون ما سوى ذلك ولا يهتمون بصحة السند ويطعنون بأئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما ولذلك أنكروا أغلب سنة النبي صلى الله عليه وسلم والمروية عن الصحابة من غير آل البيت لبغضهم لهم وقذفهم إياهم حتى وصل بهم الأمر إلى تكفير كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثاً / الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين :
أهل السنة:(1/338)
يحب أهل السنة جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه وهم مؤمنون به ويترضون عنهم ويحترمونهم. ويعتقدون أنهم كلهم عدول فضلاء كرام ويعتبرون ما شجر بينهم من خلاف وغيره من قبيل الاجتهاد ومعروف أن المجتهد إذا اجتهد وأخطأ فله أجر بل إنهم رضي الله عنهم هم الذين قال الله فيهم خير ما قال في أمة فلا يحل لأحد من الناس بعد ذلك أن يتهمهم بشيء إذ قد مضوا ولا مصلحة في سبهم بل المطلوب هو الترحم عليهم والترضي عنهم نسأل الله أن يرضى عنهم ويجزيهم عن الإسلام خير الجزاء. أما عن علي بن أبي طلب رضي الله عنه فأهل السنة يعتقدون أنه أول من أسلم من الصبيان وأن الله قد أكرمه بالإسلام مبكراً ثم بمصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رابع الخلفاء ومشهود له بالجنة ثم أكرمه الله بالشهادة. فرضي الله عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم.
الشيعة:
يرى الشيعة أن الصحابة قد كفروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بما في ذلك أبي بكر وعمر وعثمان ومن بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة. فالكل قد كفروا وارتدوا عن الإسلام إلا عدد قليل يعد على أصابع اليد الواحدة ويضعون على بن أبي طالب رضي الله عنه في مكانة خاصة الخاصة.
فبعضهم يراه وصياً وبعضهم يراه نبياً وبعضهم يراه إلهاً. ثم يحكمون على المسلمين بالنسبة لموقفهم منه. ويرون أن كل من انتخب للخلافة قبله فهو ظالم أو كافر ويقصدون بذلك أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. ويعتقدون أن من خالف علي رضي الله عنه فهو كافر أو فاسق وكذلك الحال بالنسبة لمن خالف ذريته. ومن هنا أحدثوا في التاريخ فجوة هائلة من العداء والافتراء وصارت قضية التشيع مدرسة تاريخية تمضي بهذه التعاليم الضارة عبر الأجيال.
عقيدة التوحيد :
أهل السنة:(1/339)
يؤمن أهل السنة بأن الله هو الواحد القهار لا شريك له ولا ند ولا نظير. ولا واسطة بينه وبين عبادة. ويؤمنون بآيات الصفات كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه (ليس كمثله شيء) وأنه أرسل الأنبياء وكلفهم بتبليغ الرسالة فبلغوها ولم يكتموا منها شيئاً.
ويؤمنون بأن الغيب لله وحده. وأن الشفاعة مشروطة (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). وأن الدعاء والنذر والذبح والطلب لا يكون إلا له سبحانه. ولا يجوز لغيره. وأنه وحده الذي يملك الخير والشر فليس لأحد معه سلطة ولا تصرف حياً كان أو ميتاً والكل محتاجون لفضله ورحمته. ومعرفة الله تجب عندهم بالشرع وبآيات الله قبل العقل. الذي قد لا يهتدي ثم يتفكر الإنسان بعقله ليطمئن.
الشيعة:
يؤمن الشيعة بالله تعالى ووحدانيته ولكنهم يشوبون هذا الاعتقاد وينقضونه بتصرفاتهم الشركية المخرجة عن الملة أحياناً.
فهم يدعون عباداً غير الله ويشركونهم معه فيقولون في دعائهم: يا علي ويا حسين ويا زينب. وينذرون ويذبحون لغير الله ويطلبون من الأموات قضاء الحوائج ولهم أدعية وقصائد كثيرة تؤكد هذا المعنى وهم يتعبدون بها ويعتقدون أن أئمتهم معصومون وأنهم يعلمون الغيب. ولهم في الكون تدبير مع الله، والشيعة هم الذين اخترعوا التصوف لتكريس هذه المعاني المنحرفة. ويزعمون أن هناك قدرة خاصة للأولياء والأقطاب وآل البيت.
الغيب :
أهل السنة:
يعتقدون أن الله اختص بعلم الغيب دون أحد من خلقه وإنما أطلع أنبياءه ومن شاء من خلقه ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على بعض أمور الغيب لضروريات معينة (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء).
الشيعة:(1/340)
تزعم الشيعة أن معرفة الغيب من حق أئمتهم وحدهم وليس من حق النبي أن يخبر عن الغيب. ولذلك فإن بعضهم ينسب الألوهية لهؤلاء الأئمة. ويذهب بعض طوائف الشيعة إلى أبعد من هذا إذ يشركون أئمتهم مع الله في الخلق والتدبير. إذ ورد في كتابهم الكافي ص125-126: (الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا شيئاً أعلمهم الله إياه. وهم يعلمون متى يموتون ولا يموتون إلا باختيارهم وهم يعلمون علم ما كان وعلم ما يكون ولا يخفى عليهم شيء).
وكذلك يقولون أن عند الأئمة جميع الكتب التي نزلت من الله وهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها ص107 وعند الأئمة اسم الله الأعظم ص110-112.
وعندهم (أي الأئمة) الجفر وهو وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين وعلم الذين مضوا من بني إسرائيل ص115، وقال أبو جعفر: أن الله علّم علمه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فنحن نعلمه ص113.
وقال في كتاب الوشيعة: كان الصادق يقول: إني لأعلم ما في الجنة وما في النار وأعلم كل ما كان وكل ما يكون ولو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما إني أعلم منهما ولنبأتهما بما ليس لهماص193.
كما أنهم يعتقدون أن خلق أئمتهم خلقاً آخر غير خلق البشر حتى أنه يمتاز عن خلق وإيجاد سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه.
فهم يقولون عن أئمتهم إذا أراد الله أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكاً فأخذ شربة من تحت العرش ودفعها إلى الإمام يشربها فيمكث في الرحم أربعين يوماً لا يسمع الكلام فإذا وضعته أمه بعث الله إليه ذلك الملك فكتب على عضده الأيمن (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته).
فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة مناراً ينظر به إلى أعمال العباد ص196 والملائكة تدخل بيوت الأئمة وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار ص199.
والأئمة هم أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ص93-ج1.
ومنها ما ورد في كتابهم الكافي ص179-ج1:(1/341)
أن الإمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عز وجل عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلما احتاج إليه لدلالة اطلع عليه.
هذه نماذج من اعتقاداتهم الباطلة في أئمتهم بها يتضح للمسلم الناشد للحق وهو ضالة كل مؤمن أن القوم في واد والإسلام في واد آخر وأنهم لا يدينون دين الحق وهم الذين يتهمون القرآن بالنقص والزيادة ويكذبون الله إذ يقول (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
وهم الذين يكفّرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. بل يطعنون ويلعنون أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبابكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
كما أنهم مقابل ذلك يغلون في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويخالفون آراءه ومعتقده رضي الله عنه فهو من عقيدتهم المنحرفة المشركة الضالة براء.
وسوف تجد ما ينقل إليك من كتبهم المعتمدة ماذا يقولون في علي رضي الله عنه وماذا يفترون على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى علي نفسه رضي الله عنه.
فقد ورد في كتابهم تفسير البرهان للبحراني مقدمة ص27 أن سلمان رضي الله عنه دخل على علي رضي الله عنه فسأله عن نفسه فقال: يا سلمان. أنا الذي دعيت الأمم كلها إلى طاعتي فكفرت فعذبت في النار وأنا خازنها عليهم حقاً أقول يا سلمان: أنه لا يعرفني أحد حق معرفتي إلا كان معي أخذ الله الميثاق لي فصدق من صدق وكذب من كذب. قال سلمان: لقد وجدتك يا أمير المؤمنين في التوراة كذلك وفي الإنجيل كذلك بأمي أنت وأمي يا قتيل الكوفة.
أنت حجة الله الذي تاب به على آدم (عليه السلام) وبك أنجى يوسف من الجب. وأنت قصة أيوب عليه السلام وسبب تغير نعمة الله عليه. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أتدري ما قصة أيوب؟ (عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم).(1/342)
قال الله أعلم وأنت (يا أمير المؤمنين) قال لما كان عند الانبعاث للمنطلق شك أيوب في ملكي فقال: هذا خطب جليل وأمر جسيم فقال الله يا أيوب أتشك في صورة أقمته أنا إني ابتليت آدم بالبلاء فوهبته له وصفحت بالتسليم عليه بإمامة أمير المؤمنين فأنت تقول خطب جليل وأمر جسيم فوعزتي لأذيقنك عذابي أو تتوب إلي بالطاعة لأمير المؤمنين ثم أدركته السعادة بي (أي بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) يعني أنه تاب وأذعن بالطاعة لعلي عليه السلام.
ومن كذبهم على الله وتحريفهم للقرآن الكريم قولهم في كتابهم الصحيح لديهم كالبخاري عند المسلمين المسمى (الكليني) فقد روى عن الصومالي عن جعفر عليه السلام قال: (أوصى الله نبيه صلى الله عليه وآله "فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم" قال: إنك على ولاية علي وعلي هو الصراط المستقيم،ج2.
وذكر العياشي في تفسيره عن أبي عبدالله جعفر أنه قال: المؤمنون بعلي هم الخالدون في الجنة وإن كانوا في أعمالهم مسيئة وحب لعلي عليه السلام لا تضر معه سيئة وبغضه معصية لا تنفع معها حسنة.
وكذبوا أيضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا أنه قال: سمعت الله عز وجل يقول: علي بن أبي طالب حجتي على خلقي وثورى في بلادي وأمين على علمي لا أدخل النار من عرفه وإن عصاني ولا أدخل الجنة من أنكره وإن أطاعني.
وقد ذهب القوم إلى أبعد من هذا فأنزلوا علياً رضي الله عنه منزلة أعلى من منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم الكريم صلى الله عليه وسلم بل شبهوا علياً بالله جل عما يقولون علواً كبيراً فقالوا في تفسيرهم المسمى البرهان ج2-ص404: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى قال: يا محمد من تحبه من الخلق قلت يارب علياً قال: التفت يا محمد فالتفت عن يساري فإذا علي بن أبي طالب عليه السلام.(1/343)
بل وأكبر من هذا الافتراء فقد قالوا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج قال: خاطبني بلغة علي بن أبي طالب حتى قلت أنت خاطبتني أم علي؟ من كتاب كشف الغمة ج1-ص106.
فانظر أخي في الله كيف تجرأ أعداء الله وأعداء رسوله على الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وشبهوا الله تعالى عز وجل عما يقولون بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى زعموا زوراً وبهتاناً أنه اشتبه على الرسول صلى الله عليه وسلم أيكلمه الله أم علي؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقالوا أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما عرج بي إلى السماء رأيت علياً وأولاده قد وصلوا إليها من قبل فسلمت عليهم وقد فارقتهم في الأرض،ص6.
ومما تقدم يظهر أن الإسلام في واد وأن هؤلاء القوم واد آخر. بل إن معتقداتهم هذه أشد مما اعتقده أبو لهب وأبو جهل إذ لم يسبقهم إلى هذه المفتريات أحد حتى فرعون الذي ادعى الربوبية لم يدع أنه صعد إلى السماء بل حاول أن يبني صرحاً.
أما موقفهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فمعروف تقدم نموذج منه وجملته أنهم يكفرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل يسبونهم ويلعنونهم بما في ذلك أبوبكر وعمر وعثمان وغيرهم من كبار الصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين لم يسلمن من أذاهم ومن اتهامهم لهن بكل سوء.(1/344)
حتى اجتماع الصحابة رضي الله عنهم كلهم بما في ذلك علي رضي الله عنهم عندما بايعوا أبا بكر بالخلافة لم يرق لهم ذلك واعتبروا ذلك معصية وكفراً وضلالاً أن يبايع الصحابة أبابكر رضي الله عنهم. فقد قالوا في كتابهم لسليم بن قيس ص80و81: أن علياً رضي الله عنه قال لسلمان رضي الله عنه: تدري أول من بايع أبابكر حين صعد المنبر؟ قلت لا ولكن رأيت شيخاً كبيراً يتوكأ على عصاه بين عينيه سجادة شديدة التشمين صعد المنبر أول من صعد وهو يبكي ويقول الحمد لله الذي لم يمتنِ حتى رأيتك في هذا المكان ابسط يدك فبسط يده فبايعه ثم قال: يوم كيوم آدم ثم نزل فخرج من المسجد.
فقال علي عليه السلام يا سلمان أتدري من؟ قلت لا ولكن ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي عليه السلام فإن ذلك إبليس إلى أن قال: "ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين".
ومما يعتقد القوم في مهديهم المنتظر أنه سوف يخرج في آخر الزمان ويسمونه القائم. وأنه سوف يحيي الموتى ومن بينهم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويخرجهما من جوار النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ويعذبهما عذاباً شديداً ثم يأمر بهما فيقتلان في كل يوم وليلة ألف قتلة ويردان إلى أشد العذاب. من كتاب الأنوار العمانية للجزائري ج2 ص86-87.
هذا ولو تتبع الإنسان جميع مفترياتهم لوجد العجب العجاب ولكن هذه نماذج من المعتقدات لدى القوم ولو بحثت في منهجهم في العبادة وفتاوى علمائهم لضحك منها الصبيان فضلاً عن العقلاء.
فمما يفتون به ويعتقدون أن الشيعة مهما علموا من المعاصي فهم للجنة وغيرهم مهما عمل من الحسنات فهم في النار وأن الله أخرج جميع خيرات الأرض للشيعة وغيرهم يأكلون حراماً وينكحون حراماً حيث ذكر هذا في الصراع بين الإسلام والوثنية( ص ز)(1/345)
قال: قال في الكافي: قال الله تبارك وتعالى: لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله وإن كانت الرعية في أعمالها بر تقية. ولأعفون عن كل رعية في الإسلام دانت بولاية إمام عادل من الله وإن كانت الرعية في أنفسها مسيئة، ص190.
والنصوص في كتب هؤلاء في تثبيت هذا البلاء متواترة فأهل السنة الموالون لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لن تقبل منهم حسنة. والشيعة الهجاؤن لأبي بكر وعمر المؤمنين بالإمام المنتظر لن يؤاخذوا بسيئة واحدة فأظلم الشيعة صائر إلى الجنة ولا بد.
وأتقى أهل السنة صائر إلى النار ولا بد فهؤلاء لن تنفعهم الحسنات وهؤلاء لن تضرهم السيئات.
ولولا خشية الإطالة لذكرت كثيراً من معتقدات القوم الباطلة التي تبين بوضوح وجلاء ، خروجهم من دائرة الإسلام بالكلية ، ولما قالوه في ذات الله تعالى ، ولما تنقصوا به النبي صلى الله عليه وسلم واتهموه بالخطأ والزلل ، وغير ذلك كثير ، ثم يأتي بعض السذاج من المسلمين ويترحمون على الشيعة ، ويطلبون لهم المغفرة والرحمة ، ويطالبون بالتقريب بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة ، أين عقول أولئك الناس عن عقيدة القوم الضالة ، وتخبطاتهم المشينة .
فمخالفة السنة الصحيحة علامة من علامات الساعة ، فنسأل الله أن يرد المسلمين جميعاً إلى جادة الصواب .
الستون :(1/346)
سعادة لكع بن لكع : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ " [ أخرجه الترمذي ، وقَالَ الترمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وقال الألباني رحمه الله : حديث صحيح ، انظر صحيح الترمذي 2 / 478 ، وصححه رحمه الله في صحيح الجامع 2 / 1238 ] ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى تَصِيرَ لِلُكَعِ ابْنِ لُكَعٍ " [ أخرجه أحمد ، حسن لغيره ، وإسناده ضعيف . تحقيق المسند 14 / 68 . الرسالة ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2 / 1217 ، والمشكاة ، انظر فيض القدير 12 / 6402 ] ، وعَنِ ـ أبي بردة ـ ابْنِ نِيَارٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى تَكُونَ لِلُكَعِ ابْنِ لُكَعٍ " [ أخرجه أحمد بإسناد حسن ، وهو حديث صحيح ، انظر المسند 25 / 152 . مؤسسة الرسالة ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " أسعد الناس " يعني : أكثرهم مالاً ، وأطيبهم عيشاً ، وأرفعهم منصباً ، وأنفذهم حكماً .
وقوله : " بالدنيا " يعني : بأمورها وما فيها من خيرات ونعم ، فيتنعمون بنعم الله تعالى ، ويحصلون على أرفع المناصب فيها ، وهذا حاصل اليوم وواقع لا ينكره أحد ، فقد تسنم الجهلة وما لا علم لديهم أعلى المراكز ، والمصيبة أنهم تمركزوا حتى في المناصب الدينية التي لا يفقهون من أمورها إلا القليل .
وقوله : " لُكَع بن لكع " يعني : دنيء النسب والحسب ، وقيل : هو اللئيم بن اللئيم ، وقيل : هو العبد ، وقيل : الأحمق وهو ما يستعمل في الذم .(1/347)
وقد يطلق هذا للفظ على الصغير ، ويظهر ذلك عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الحسن بن علي ، كما في الحديث ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ ، فَجَلَسَ بِفِنَاءِ بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَالَ : " أَثَمَّ لُكَعُ ؟ أَثَمَّ لُكَعُ ؟ فَحَبَسَتْهُ شَيْئًا ، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخَابًا أَوْ تُغَسِّلُهُ ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ أَحْبِبْهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " ، [ متفق عليه ] ، ولبيان أن المقصود بلكع في الحديث السابق هو الحسن بن علي ، أورد هذا الحديث أيضاً ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ فَانْصَرَفْتُ ، فَقَالَ : " أَيْنَ لُكَعُ ؟ ثَلَاثًا ، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ ، فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَمْشِي وَفِي عُنُقِهِ السِّخَابُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ هَكَذَا ، فَقَالَ الْحَسَنُ بِيَدِهِ هَكَذَا ، فَالْتَزَمَهُ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ " [ أخرجه البخاري ] ، والسِّخَاب : خيط من الخرز يوضع في العنق كالقلادة . [ تحفة الأحوذي 6 / 453 ] .
وكم من لكع اليوم بين أبناء المسلمين ، يتحكم في مصالحهم بهتاناً وكذباً ، ويرعى أمورهم زوراً وادعاءً .(1/348)
وكم من لكع اليوم نشاهده يتشدق ويرتقي مرتقىً ليس له ولا لأمثاله ، ويلحق الهزائم بأهل العلم والدعاة المخلصين ، وهو لا أصل له .
وكم من لكع رفع رأسه ، وهو حقير ذليل ، لا يعرف من الدين إلا اسمه ، أسلم ببطاقته وهويته ، وفي الحقيقة مرق من الدين برمته ، يرى المسلمين من حوله يقتلون ويذبحون ويضطهدون ويسجنون وتنتهك أعراضهم ، وتهدم منازلهم ، وتغتصب أرضهم ، وهو فاغر فاه ، مسطر قبلاته على الجباه ، أو متحيزاً إلى فئة من الكفار ، واقفاً سداً منيعاً ضد شعوب المسلمين ، تارة يقولون بالتقريب مع اليهودية والنصرانية ، وأخرى يقولون بخارطة الطريق ، وثالثة يقولون بالسلام مع قتلة الأنبياء ، ورابعة يتنازلون عن بعض أراضي المسلمين في مقابل السلام المزعوم الذي لا يقره عرف فضلاً عن أن يقره الدين .
وفي خضم هذه الفتن التي ظهرت اليوم من تفجيرات وقتل للأبرياء ، واحتلال لبلاد المسلمين ، رفعت فئام من اللكع رؤوسها ، وأرى أنه قد حان قطافها ، تتبجح بالوقوف ضد تقدم المسلمين ، وتوقف تيارات الغضب العارمة إزاء ما يحدث للمسلمين من مذابح جماعية ، ويقولون : أنه لم يحن الوقت للوقوف ضد الأعداء ، إذا لم يحن الوقت الآن ، فمتى سيحين إذن ؟
إن الكفار قد كشروا عن أنيابهم ، ولا بد من إيقافهم والأخذ على أيديهم ، بقينا مئات السنين ونحن ننتظر متى تأتي هذه الفرصة ، ومتى سيحين الوقت للقضاء على شعارات الغرب وغاراته ، فلا أظنها ستأتي تلك الفرص إلا إذا ظهر المهدي وابن مريم عليه السلام .
فالحاصل أن المال والجاه والمناصب في آخر الزمان ـ وهو هذا الزمان والعلم عند الله ـ تكون في أيدي اللئام بني اللئام ، وأنهم سيكونون أسعد الناس بنعيم الدنيا الزائل ، وملذاتها الفانية ، والوجاهة الغير دينية .(1/349)
فنسأل الله أن يقيض للمسلمين من يقودهم إلى عزهم ومجدهم ، ممن لا يريدون الحياة الدنيا وزخرفها ، ممن باعوا الحياة الفانية ، ممن يريدون وجه الله والدار الآخرة ، ممن يسعون لتطهير الأرض من رجس الوثنية ، وبراثن الشركية والاشتراكية ، وتحرير مقدسات المسلمين ، وتطهير أراضيهم ، وإعادة ممتلكاتهم المغتصبة ، حتى يعود الأمن والأمان ، ولكن متى يكون ذلك ، أقول كما قال الله تعالى : " قل عسى أن يكون قريباً " [ الإسراء 51 ] ، وكما قال تعالى : " ألا إن نصر الله قريب " [ البقرة 214 ] .
الخاتمة :
وبهذا نكون قد انتهينا من أشراط الساعة الصغرى ، وبقي بعد ذلك ، أشراط الساعة الكبرى ، والتي سيكون لها بحث مستقل بإذن الله تعالى ، ولا شك أن المؤمن لا تمر عليه هذه العلامات هكذا دون أن يكون قد انتفع منها بشيء ، وأعظم ذلك زيادة الإيمان ، والخوف من الله تعالى ، وأن يأخذ منها العبر ، ويستقصي العظات ، فيكون محجاماً عن الشر والسوء ، مقداماً لفعل الطاعات والخيرات ، ويحرص كل الحرص على التزود من هذه الدنيا بالعمل الصالح الذي يقربه من ربه زلفى ، والذي يرفع من درجاته ، ويكثر من حسناته ، ويحط من سيئاته .(1/350)
وبعد فتلك جملة من أشراط الساعة جمعتها وشرحت ما تيسر لي من شرح عليها ، واقتبست ما وقع تحت يدي من مؤلفات تخص الموضوع ، وهاأنذا أقدمها حديقة يانعة ، ليقتطف من زهورها الإمام والخطيب والداعية والمحاضر والواعظ والمعلم والطالب ، ليقدمها في المجتمع الذي يكون متحدثاً فيه ، ويصيغها في قالب يفيد المستمع ، مع اعتبار الوقت والزمن ، فما كان من صواب وإصابة في الموضوع فهو من فضل الله علي وعلى الناس ولكن أكثرهم لا يعلمون ، وما كان من خطأ وزلل فأستغفر الله منه ، وأعوذ بالله أن أقول عليه أو على رسوله ما لا علم لي به ، كما أسأله جل شأنه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه عز وجل ، وأن ينفع به جميع المسلمين ، وأن يجعله في موازين الحسنات ، وأن يرفع به الدرجات ، إنه سميع قريب مجيب الدعوات ، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم ، أن يمن علينا بالعلم النافع والعمل الصالح ، اللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علماً ، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، اللهم اجعل آخر أعمالنا خواتمها ، وآخر أيامنا أواخرها ، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا إلى النار مصيرنا ، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا ، ونجبنا برحمتك من النار يا عزيز ياغفار ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه
يحيى بن موسى الزهراني
إمام الجامع الكبير بتبوك
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين بمنه وكرمه(1/351)