طريق هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
من قباء إلى المدينة المنورة
أحمد محمد شعبان
باحث في مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
لم يكن اختيار الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الهجرة بدءًا لكتابة التاريخ عند المسلمين إلا للآثار الكبيرة التي نتجت عنها ، ليس في حياة فرد أو أفراد وحسب بل في مستقبل شعوب وأمم ؛ فقد نتج عنها ميلاد أول مجتمع إسلامي ، طبَّق فيه الصحابة - بِحُرِّيَّةٍ - الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا عن عنت المشركين ، وقد أفاد السهيلي في الروض(1) : أن الصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } الآية(2) ، فكأنَّ اليوم الذي وصل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - سالمًا - إلى قباء جديرًا بأن يكون اليوم الأول عند المسلمين ؛ لأنه الثمرة الكبرى التي حققتها الدعوة في مكة .
فمتى وصل - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء ؟ وما الطريق الذي سلكه إلى حيث نزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ؟(3) ، هذا ما سأبينه في هذا البحث إن شاء الله ؛ مقدمًا بين يدي ذلك توضيحًا لطبيعة ( يثرب ) والتوزع السكاني فيها قبيل هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
(
__________
(1) الروض الأنف 2/246 .
(2) الآية 108 من سورة التوبة .
(3) أبو أيوب الأنصاري هو : خالد بن زيد بن كليب النجاري الخزرجي ، شهد العقبة والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغزا أيام معاوية القسطنطينية ، فتوفي في تلك الغزوة ودفن عند أسوارها سنة 51هـ . أسد الغابة 2/194 ، 6/25 .(1/1)
يثرب ) سهل خصيب ، يمتد بشكل مستطيل تقريبًا من الجنوب إلى الشمال ، وسط حرار تحيط به من ثلاثة جوانب ، تنساب منها ستة أودية ترويه في عدد من شهور السنة ، وتغنيه بالمياه الجوفية القريبة في باطنها ، كما ينتشر فيه عدد من العيون والآبار ( انظر المصور ) .
وتفيد الروايات التاريخية أن القبائل في ذلك العهد كانت تسكن على أطراف الأودية ، وبالقرب من منابع العيون والآبار ، كما تفيد أيضًا أن القبائل اليهودية سكنت المناطق الخصيبة من ( يثرب ) ، فسكن بنو ( النضير ) على وادي مذينيب بالعوالي ، وأقام بنو ( قريظة ) إلى شمالهم على مهزور ، وأقام بنو ( قينقاع ) عند منتهى جسر بطحان مما يلي العالية , وسكنت شراذم منهم أماكن متفرقة من المدينة(1)
وأما القبائل العربية من الأوس والخزرج ؛ فقد انقسمت كل قبيلة إلى خمسة بطون ، وهذه البطون انقسمت بدورها إلى بطون أخرى ، توزعت في مناطق مختلفة من المدينة ، ومن أشهر بطون الأوس :
1 - بنو عوف بن مالك : وكانوا يسكنون منطقة قباء جنوب المدينة عدا بني معاوية ؛ فقد سكنوا شرق البقيع ، وبني أمية فقد سكنوا إلى جنوبهم .
2 - بنو عمرو بن مالك ( النبيت ) : وكانوا يسكنون الطرف الشرقي لحرة واقم ، على أطراف وادي مذينيب .
3 - بنو جشم بن مالك : وكانت منازلهم مجاورة لبني أمية في الحرة الشرقية الجنوبية من المدينة .
4 - بنو امرئ القيس بن مالك : وكانوا يسكنون بالعوالي بين بني قريظة والنضير .
5 - بنو مُرَّة بن مالك ( الجعاذرة ) : وكانوا يسكنون بالقرب من قباء عند ملتقى بطحان ورانوناء إلا بني سعد بن مُرَّة ؛ أحد بطونهم فقد سكنوا ( راتج ) على الطرف الشمالي من الحرة الشرقية(2) .
وأما الخزرج ، فبطونهم الخمسة الكبرى ، هي :
__________
(1) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أحمد إبراهيم الشريف ، القاهرة د.ت ص 319 .
(2) انظر المرجع السابق ، وعمدة الأخبار للعباسي ، ص 45-47 .(1/2)
1 - بنو عمرو بن الخزرج ، وهم أربعة بطون من بني النجار ، وكانوا يسكنون المنطقة الوسطى التي حول المسجد النبوي .
2 - بنو عوف بن الخزرج ، وهم ثلاثة بطون ، ويعرفون بالقواقل ، وكانوا يسكنون على أطراف الحرة الغربية ، غربي وادي رانوناء ، وسكن بنو الحبلى أحد بطونهم بين قباء وبين دار بني الحارث التي شرقي وادي بطحان(1) .
3 - بنو جشم بن الخزرج : وهم بطون كثيرة ، أكبرها : بنو بياضة ، وبنو زريق ، وبنو سلمة ، أما بنو بياضة وزريق فكانوا يسكنون جنوب المدينة ، شمال مساكن بني سالم بن عوف على وادي بطحان ، وأما بنو سلمة فهم بطون كثيرة ، وتمتد مساكنهم من سلع إلى وادي العقيق .
4 - بنو الحارث بن الخزرج : وهم بطون كثيرة أيضًا ، وكانوا يسكنون بالعوالي شرقي وادي بطحان ، عدا بني جشم وبني زيد مناة ، فقد سكنوا السُّنْح ، وبني خدرة وجدارة فقد سكنوا مما يلي السوق بالمدينة .
5 - بنو كعب بن الخزرج : وأهم بطونهم ( بنو ساعدة ) ، وكانت منازلهم شمال المدينة بالقرب من سقيفتهم المشهورة ، وكانت لهم منازل أخرى عند وادي بطحان(2) .
__________
(1) انظر خلاصة الوفا 1/559 .
(2) خلاصة الوفا 1/551 فما بعدها . مكة والمدينة ، للشريف ، ص 319 . عمدة الأخبار ، ص 48-53 .(1/3)
بعد أن أُرِيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - دار هجرته ، وكانت تسمى : ( يثرب ) ، فسماها بعد ذلك : المدينة ؛ أذن لأصحابه بالتوجه إليها ، وأقام - صلى الله عليه وسلم - بمكة ينتظر الإذن بالخروج ، وفي يوم الخميس(1) ؛ أول يوم من شهر ربيع الأول ، خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بصحبة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - مهاجرين إلى المدينة .
أما المسلمون في المدينة فقد بلغهم خبر هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكانوا يخرجون كل صباح إلى الحرة لاستقباله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا ارتفعت الشمس واشتد حرها رجعوا إلى بيوتهم .
__________
(1) اختلف العلماء في اليوم الذي خرج فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، فقال الحاكم : يوم الاثنين ، وقيل : يوم الخميس ، وجمع الحافظ ابن حجر بين الأقوال بأن خروجه من مكة يوم الخميس ، ومن الغار يوم الاثنين ... والله أعلم . فتح الباري ، للحافظ ابن حجر العسقلاني ، ط دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، [ د.ت ] 7/244 .(1/4)
ويروي الإمام البخاري(1) : « أن المسلمين انقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مُبَيِّضَين(2) ، يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب ؛ هذا جدُّكم الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلاح ، فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين ، حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف » .
وكان وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء في شهر ربيع الأول ، يوم الاثنين نهارًا ، وجزم النووي ، وتبعه جمع من العلماء(3) بأنه كان في اليوم الثاني عشر من الشهر .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ص 818 .
(2) مبيضين : أي لابسين ثيابًا بيضًا ، يقال : بيض الرجل ، إذا ليس ثوبًا أبيض فهو مبيض . القاموس المحيط ، مادة (بيض) . وهذه الثياب البيض كساها الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر حين لقيهم في الطريق قرب المدينة ، وكان قافلاً من تجارة إلى الشام . البخاري ، كتاب المناقب ، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ص 818 .
(3) انظر : فتح الباري 7/244 ، وسبل الهدى والرشاد 3/269 .(1/5)
ويروي ابن إسحاق وابن زبالة وغيرهما من أصحاب السير والتاريخ : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل في بيت كلثوم بن الهدْم(1) ، وكان يجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة(2) ؛ لأنه كان عَزَبًا وينزل عنده عزاب المهاجرين . وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء أربعة عشر يومًا على أصح أقوال أهل العلم(3) ، وبنى فيها المسجد الذي صار يعرف بمسجد قباء ، وصلَّى فيه ، وصار ببركته من المساجد التي لها فضل كبير .
لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الارتحال من قباء إلى المدينة ، أرسل إلى ملأ من بني النجار(4) فجاؤوا متقلدين سيوفهم ، فقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق : « اركبا آمنين مطاعين » ، فركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ارتفاع النهار ناقته القصواء وأبو بكر ردفه ، والناس حوله ينازع أحدهم صاحبه زمام الناقة ؛ إكرامًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) ، وكان
__________
(1) كلثوم بن الهِدْم : بكسر الهاء وسكون الدال ، ابن امرئ القيس الأنصاري الأوسي ، وهو أول من مات بالمدينة من الصحابة . الإصابة 5/462 .
(2) سعد بن خيثمة السلمي ، أبو خيثمة ، مشهور بكنيته ، شهد أحدًا ، وتخلف عن تبوك ، ثم لحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، توفي في خلافة يزيد بن معاوية . الإصابة 7/92 .
(3) انظر : فتح الباري 7/244 .
(4) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ص 818 ، وباب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ص 819 .
(5) انظر : دلائل النبوة للبيهقي 2/501 .(1/6)
خروجه - صلى الله عليه وسلم - من قباء يوم الجمعة ، وتحديد هذا اليوم من الشهر اختلف فيه العلماء ، واختلافهم فيه مبني على اختلافهم في يوم وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى قباء ، والمدة التي مكثها فيها(1) .
واتجه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وكان كلما مر على حي من الأنصار دعوه للنزول عندهم(2) ، وقالوا : هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة ، فيقول لهم خيرًا ويدعو لهم ، ويقول : « خلوا سبيلها فإنها مأمورة »(3) .
ولم تُبَيِّن لنا الأحاديث الصحيحة خط سير النبي - صلى الله عليه وسلم - من قباء حتى وصوله المدينة مقتصرة على بيان خروجه من قباء في كوكبة عظيمة من أصحابه ، ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - .
إلا أن خط سير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جاء مفصلاً عند ابن إسحاق ، ورزين ، ويحيى بن الحسن بن جعفر العلوي ، وموسى بن عقبة وغيرهم من أصحاب السير والتاريخ(4) ، ومع أن هذه الروايات لم تَرِدْ من طريق يعتمد عليه ، إلا أنها حجة في بابها ، كما أنها جاءت مؤيدة ومبينة لما أجملته الأحاديث الصحيحة ، ولم تخرج في إطارها العام عن الطريق المعروف ، الذي كان يتبعه القادمون من تلك الجهة إلى المدينة .
لذلك كان لا بد من اعتمادها في بيان خط سير النبي - صلى الله عليه وسلم - من قباء وحتى نزوله على أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - .
__________
(1) فتح الباري 7/244 ، سبل الهدى والرشاد 3/269 ، وفاء الوفا 1/246 .
(2) في رواية الإمام مسلم : (( فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) . انظر صحيح مسلم ، كتاب الزهد والرقائق ، باب حديث الهجرة 4/2311 .
(3) سيرة ابن هشام 2/494 فما بعدها .
(4) انظر سيرة ابن هشام 2/494 فما بعدها . وطبقات ابن سعد 1/236 ، ووفاء الوفا للسمهودي 1/256 . وسبل الهدى والرشاد 3/271 .(1/7)
وتُعَدُّ رواية ابن إسحاق أوضح الروايات وأشملها ، لذلك فإنني سوف أسوقها - كما جاءت - مقتصرًا على موضع الشاهد ، ثم أشير إلى ما خالفها من روايات ، سالكًا طريق الجمع إن أمكن ، أو مرجحًا إن تعسر الجمع ، مع الشرح والتعليق على بعض العبارات اللازمة .
قال ابن إسحاق(1) : « فأَدْرَكَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةُ الجمعة في بني سالم بن عوف ، فصلاها في المسجد الذي في بطن وادي رانوناء(2) ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ، فأتاه عِتْبان بن مالك(3) ، وعباس بن عبادة بن نضلة(4) في رجال من بني سالم(5) ، فقالوا : يا رسول الله : أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة ، قال : « خلوا سبيلها فإنها مأمورة » اهـ .
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/494 فما بعدها .
(2) انظر التعريف به ص 97 .
(3) عتبان ، بكسر أوله وسكون ثانيه : ابن مالك بن عمرو الأنصاري ، الخزرجي ، آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عمر بن الخطاب ، توفي في خلافة معاوية رضي الله عنه . الإصابة 4/358 .
(4) عباس بن عبادة بن نضلة بن مالك الخزرجي ، شهد العقبة ، واستشهد بأحد . الإصابة 3/510 .
(5) ذكر الصالحي 3/272 ، منهم أيضًا : نوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان .(1/8)
ثم انطلقت حتى إذا وازنت(1) دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد(2) ، وفروة بن عمرو(3) في رجال من بين بياضة ، فقالوا : يا رسول الله ؛ هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : « خلوا سبيلها فإنها مأمورة » .
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة(4) والمنذر بن عمرو(5) في رجال(6) من بني ساعدة ، فقالوا : يا رسول الله ؛ هلم إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : « خلوا سبيلها فإنها مأمورة » .
__________
(1) أي عادلت وقابلت وحاذت . القاموس المحيط ، مادة (وزن) .
(2) زياد بن لبيد بن ثعلبة البياضي الخزرجي الأنصاري ، خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام معه في مكة حتى هاجر ، فكان يقال له : مهاجري أنصاري ، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها ، واستعمله - صلى الله عليه وسلم - على حضرموت ، توفي أول أيام معاوية رضي الله عنه . أسد الغابة 2/273-274 .
(3) فروة بن عمرو بن ورقة البياضي الأنصاري ، شهد العقبة وبدرًا ، كان يخرص تمر أهل المدينة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان من أصحاب علي يوم الجمل . الإصابة 5/279 .
(4) سعد بن عبادة ، أبو ثابت الأنصاري ، شهد العقبة والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يقال له : الكامل ، خرج إلى الشام ، ومات بحوران سنة خمس عشرة . الإصابة 3/56 .
(5) المنذر بن عمرو بن خنيس الخزرجي الأنصاري ، شهد العقبة وبدرًا ، واستشهد يوم بئر معونة . الإصابة 6/171 .
(6) ذكر الصالحي في سبل الهدى والرشاد 3/272 منهم أبا دجانة سماك بن خرشة .(1/9)
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع(1) ، وخارجة بن زيد(2) ، وعبد الله بن رواحة(3) في رجال من بني الحارث بن الخزرج ، فقالوا : يا رسول الله ؛ هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : « خلوا سبيلها فإنها مأمورة » .
__________
(1) سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير الأنصاري الخزرجي ، أحد النقباء يوم العقبة ، آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، واستشهد يوم أحد . الإصابة 3/51 .
(2) خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي الأنصاري ، من أعيان الصحابة ، آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي بكر ، شهد بدرًا والعقبة ، واستشهد يوم أحد . أسد الغابة 2/85 .
(3) عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس ، أبو محمد الخزرجي الأنصاري ، شهد العقبة وبدرًا وما بعدهما ، واستشهد بمؤتة . الإصابة 4/72 . وانظر ذلك مفصلاً في كتاب : سعد بن الربيع الأنصاري النقيب الشهيد ، لمحمد علي كاتبي .(1/10)
فخلوا سبيلها ، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عَدي بن النجار ؛ وهم أخواله دُنْيا(1) : أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم ، اعترضها سليط بن قيس(2) ، وأبو سليط أسيرة بن أبي خارجة(3) في رجال من بني عدي بن النجار ، فقالوا : يا رسول الله ؛ هلم إلى أخوالك ، إلى العدد والعدة والمنعة ، قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة » ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني مالك بن النجار بركت عند باب مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ثم وثبت ، فسارت غير بعيد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت إلى خلفها ، فرجعت إلى مبركها أول مرة ، ثم تحلحلت(4) ورزمت(5) ، ووضعت جرانها(6) ، فنزل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته ، ونزل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » .
أولاً : قال ابن إسحاق : « فأدركتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعةُ في بني سالم بن عوف » اهـ.
__________
(1) أي : أقرب أخواله إليه من بني النجار هم بنو عدي ، وذلك لأن أم جده عبد المطلب وهي ( سلمى بنت عمرو ) كانت منهم . وفاء الوفا 1/256 .
(2) سليط بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن مالك الأنصاري ، شهد بدرًا والمشاهد كلها ، وقتل يوم جسر أبي عبيد ، في خلافة عمر رضي الله عنهما . الإصابة 3/136 .
(3) أسير بن عمرو ، أبو سليط البدري ، مشهور بكنيته ، له رواية عند أحمد والبغوي . الإصابة 7/160 .
(4) تحلحلت : أي تحركت . انظر : القاموس ، مادة (حلل) .
(5) رزمت : أي صوتت ، والإرزام صوت لا يفتح به الفم ، ويكون ذلك للحنين والعطف . انظر : لسان العرب ، مادة (رزم) .
(6) الجران : باطن العنق . القاموس ، مادة (جرن) .(1/11)
بنو سالم بن عوف بطن من الخزرج(1) ، وهم أول من قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خروجه من قباء ، من غير خلاف بين أهل السير ، سوى ما أورده السمهودي(2) وضعَّفه بقوله : « ويقال إن أول الأنصار اعترضه بنو بياضة ، ثم بنو سالم » .
ولا يلتفت إلى هذا القول ؛ لانقطاعه ومخالفته لما هو أوثق منه .
وتقع منازل بني سالم بن عوف على أطراف الحرة الغربية ، جنوب وغرب القلعة الواقعة على طريق قباء الطالع(3) ( انظر المصور ) وأما الموقع الذي صلَّى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقد صار فيما بعد مسجدًا يعرف بمسجد الجمعة ، وهو من أشهر المعالم التي تنسب لبني سالم ، والتي لا تزال قائمة حتى الآن .
ثانيًا : قال ابن إسحاق : « فصلاها - أي الجمعة - في المسجد الذي في بطن الوادي ، وادي رانوناء(4) ، فكانت أول جمعة صلاها » .
أورد السمهودي(5) رواية أخرى عن يحيى قال : « فصلَّى الجمعة في بطن وادي ذي صلب » ، ولا تعارض بين الروايتين في تحديد مكان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ؛ لأن ذا صلب كما قال الفيروزابادي(6) : « موضع بالقرب من وادي رانوناء » فكأن الراوي سمى وادي رانوناء باسم الموضع الذي بقربه ونسبه إليه ، وهذا لا إشكال فيه .
__________
(1) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 335 .
(2) وفاء الوفاء 1/257 .
(3) المدينة بين الماضي والحاضر ، للعياشي ، ص 95 . وانظر : خلاصة الوفا 1/559 .
(4) وادي رانوناء ، أحد الأودية الصغيرة في المدينة ، يبدأ من شعاب جبل المقمن الواقع جنوب جبر عير ، ويتجه شمالاً إلى الشرق قليلاً حيث يدخل بساتين المدينة ، مارًا غربي قباء ، فمسجد الجمعة ، ثم يلتقي بطريق قربان المتجه إلى المدينة ، ثم حتى يصب في مجرى بطحان ويصبح جزءًا منه . وفاء الوفا 2/1072 ، والعياشي ص 407 .
(5) وفاء الوفا 1/256 .
(6) المغانم المطابة 2/891 .(1/12)
ثالثًا : ظاهر رواية البخاري(1) : « ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار » ، ورواية مسلم(2) :
« أنزل على بني النجار ، أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك » مناف لما رواه ابن إسحاق(3) ، والطبري(4) ، والبيهقي في الدلائل(5) ، والهيثمي في مجمع الزوائد(6) من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلما مر بحي من الأنصار ودعوه للنزول عندهم يقول : « دعوها ؛ فإنها مأمورة » .
قال المطري(7) : « وهذا غير مناف ؛ لأن الله اختار له ما كان يختار لنفسه » اهـ.
ويبدو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إرادته وعلمه المسبق بالنزول عند أخواله بني النجار ؛ إلا أنه من لطفه وعظيم كرمه لم يُرِد أن يَرُدَّ صراحة دعوة من يدعوه للنزول عندهم تطييبًا لخاطرهم ، وإرضاء لنفوسهم ، فأوكل ذلك إلى الناقة التي سُخِّرت للنزول في المكان الذي يريده - صلى الله عليه وسلم - .
رابعًا : قول ابن إسحاق : (( فأتاه عتبان بن مالك ، وعباس بن نضلة في رجال من بني سالم )) اهـ. أورد الصالحي في سبل الهدى والرشاد(8) رواية أخرى فيها زيادة على ما ذكره ابن إسحاق ، وهذه الرواية هي : (( فقام إليه عتبان بن مالك ، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان وهو آخذ بزمام راحلته ، فقال :
((
__________
(1) كتاب المناقب ، باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة ، ص 818 .
(2) كتاب الزهد والرقائق ، باب في حديث الهجرة ، ح 75 ، 4/2311 .
(3) سيرة ابن هشام 2/495 .
(4) تاريخ الأمم والملوك 2/396 .
(5) دلائل النبوة للبيهقي 2/501 .
(6) مجمع الزوائد للهيثمي 6/63 .
(7) التعريف بما آنست الهجرة ص 40 .
(8) سبل الهدى والرشاد 3/272 .(1/13)
يا رسول الله انزل فينا ؛ فإن فينا العدد والعشيرة والحلقة ، ونحن أصحاب الفضاء والحدائق والدرك ، يا رسول الله ؛ قد كان الرجل من العرب يدخل هذه الشجرة خائفًا فيلجأ إلينا فنقول له : قَوْقِلْ حيث شئتَ ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسم ويقول : ( خلوا سبيلها فإنها مأمورة ) . فقام إليه عبادة بن الصامت وعباس بن نضلة بن مالك ، فجعلا يقولان : يا رسول الله ؛ انزل فينا . فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( بارك الله عليكم ؛ إنها مأمورة )) اهـ.
ولا تعارض بين هاتين الروايتين كما هو ظاهر ، فإن رواية الصالحي قد فصَّلت ما أجملته رواية ابن هشام .
خامسًا : قال ابن إسحاق : « فانطلقتْ حتى إذا وازنتْ دارَ بني بياضة » اهـ.
بنو بياضة بطن من بني جشم من الخزرج ، تقع منازلهم شمال مساكن بني سالم بن عوف ، وتمتد شرق وادي بطحان(1) .
وبنو بياضة في رواية ابن إسحاق وغيره ثاني أحياء الأنصار الذين قابلوا النبيَ - صلى الله عليه وسلم - في هجرته للمدينة ، إلا أن ابن حبان في سيرته ، والصالحي في (( سبل الهدى والرشاد ))(2) قَدَّما بني ساعدة على بني بياضة ، ولعل هذا الاختلاف بين الروايتين يعود إلى قرب منازل هذين الحيين من بعضهما وتداخلهما ؛ فبنو ساعدة على الطريق ، وبنو بياضة بقربهم إلى الشمال قليلاً ، وإن كانت النفس تميل إلى رواية ابن إسحاق وابن سعد ومن وافقهما ؛ لأن المعول في السيرة عليهما ، والله أعلم .
__________
(1) مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ص 336 .
(2) انظر : سيرة ابن حبان ، ص 142 . وسبل الهدى والرشاد 3/272 .(1/14)
وذكر البيهقي في دلائل النبوة(1) : « عن موسى بن عقبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بعبد الله بن أبي بن سلول وهو على ظهر الطريق ، أو هو في بيته فوقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظر أن يدعوه إلى المنزل ، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسها »(2) وأوردها السمهودي(3) من طريق آخر عن يحيى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سار من بني سالم تيامن فأتى منزل ابن أبي ، ثم مضى في الطريق ، كما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد(4) أيضًا عن رزين .
وهذه الروايات إن صحت يكون قوم عبد الله بن أبي وهم : ( بنو الحبلى ) بطن من بني عوف من الخزرج ، الحيَ الثانيَ الذي مرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه للمدينة ، وتقع منازلهم على يمين الطريق بين قباء وبين دار بني الحارث التي شرقي وادي بطحان(5) ، ويكون بنو بياضة هم الحي الثالث الذي مَرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى المدينة ، لكن السمهودي اعترض على هذه الرواية بقوله(6) : « الصحيح ذكر سعد لذلك في قصة عيادته - صلى الله عليه وسلم - له من مرض بعد سكناه المدينة ، قال الإمام الصالحي(7) تعليقًا على قول السمهودي : « قلت : ويحتمل أن سعدًا قال ذلك مرتين والله أعلم » .
__________
(1) دلائل النبوة 2/499 .
(2) تكملة الرواية : (( فقال له عبد الله : انظر الذين دعوك فانزل عليهم ، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفر من الأنصار وقوفه على عبد الله بن أبي والذي قال له ، فقال له سعد بن عبادة : إنا والله يا رسول الله لقد كنا قبل الذي خصنا الله به منك ، ومنَّ علينا بقدومك أردنا أن نعقد على رأس عبد الله بن أبي التاج ونملكه علينا )) .
(3) وفاء الوفا 1/259 .
(4) مجمع الزوائد للهيثمي 6/63 .
(5) خلاصة الوفا 1/559 . مكة والمدينة ، ص 336 .
(6) وفاء الوفا 1/258 .
(7) سبل الهدى والرشاد 3/272 .(1/15)
وهذا الجمع الذي قال به الإمام الصالحي الشامي رحمه الله تعالى لا يلجأ إليه إلا عند تعارض الروايات وتقاربها من حيث الصحة والضعف ، أما عند تعارض الصحيح مع الضعيف فلا .
وروايات مروره - صلى الله عليه وسلم - بابن أبيٍّ كلها منقطعة ، فلا تعارض ما جاء في الصحيح ، والله أعلم .
على أن رواية موسى بن عقبة التي أخرجها الإمام البيهقي ، إنما تحكي مرور النبي - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي عند أول وصوله المدينة قبل أن ينزل في بني عمرو بن عوف ، فلما حصل منه ما حصل عرج - صلى الله عليه وسلم - على بني عمرو بن عوف ، فنزل على كلثوم بن الهدم(1) .
سادسًا : قال ابن إسحاق : « فانطلقت حتى إذا مرَّتْ بدار بني ساعدة ... » الخ .
بنو ساعدة أهم بطون كعب بن الخزرج ، ومن المعروف أن منازلهم كانت في الجهة الشمالية والشمالية الغربية من المدينة بالقرب من ثنية الوداع ، وسقيفتهم المشهورة ، وذِكْرُ ابن إسحاق لها بين منازل بني بياضة وبني الحارث يدل على أنها جنوب المدينة على الطريق من قباء إلى المدينة ، الأمر الذي أوقع كثيرًا من المؤرخين في إشكال .
__________
(1) انظر : دلائل النبوة للبيهقي 2/500 ، ط. دار الريان بالقاهرة .(1/16)
فرجح السمهودي وبعض المؤرخين ، منهم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتاب ( طريق الهجرة النبوية )(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل المدينة من جهتها الشمالية ، قال السمهودي : « لأنه - صلى الله عليه وسلم - ركب ناقته وأرخى لها زمامها ، وقال : دعوها فإنها مأمورة ، ومَرَّ بدور الأنصار حتى مر ببني ساعدة ، ودارهم في شامي المدينة قرب ثنية الوداع ، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها »(2) اهـ. وهذا الذي ذهب إليه السمهودي وغيره من المؤرخين يوقع في إشكال أكبر من الأول ، وقد بين ذلك العياشي بيانًا وافيًا فقال(3) :
« لا نزاع في أن لبني ساعدة منزلة في شامي المدينة » ، ثم حدد المنزلة وقال : « ولبني ساعدة منزلين خارج هذه المنزلة الأولى في شمال مسجد قباء ، والثانية بالشوط من ناحية ملعب التعليم ، فإن كان السيد السمهودي يقصد بدخوله - صلى الله عليه وسلم - المدينة يوم الهجرة من ثنية الوداع فلا ، لأن رواية ابن إسحاق وغيرها تثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على بني ساعدة بعد بني بياضة ، وقبل بني الحارث ، وهؤلاء كلهم في جنوب المسجد النبوي ، وهذا فيه إثبات منزلة لبني ساعدة على الطريق من قباء إلى المدينة »(4) .
__________
(1) طريق الهجرة النبوية ، ص 100 .
(2) وفاء الوفا 4/1170 .
(3) المدينة بين الماضي والحاضر ، ص 95 بتصرف واختصار .
(4) المصدر السابق بتصرف واختصار .(1/17)
ثم قال : « إن مسجد قباء في الجنوب من المسجد النبوي، وثنية الوداع - هذه - في الشمال الغربي من المسجد النبوي بنحو ميل أو يزيد قليلاً ، وفي قدومه بهذا الخط المتعرج ما لا يتفق والطريق النبوية في الهجرة فيما ذكرته من نصوص ، ثم إنه - كما ترى في البيئة ومحيطها - إذا تجاوز ركبه - صلى الله عليه وسلم - بياضة ، ففي الشمال الغربي منهم بنو دينار بن النجار ، ولم يذكر حديث الهجرة أنه مَرَّ بهم ، أو وازنهم ، ثم بنو زريق في ناحية الجديدة وحوش الأشراف من ذروان ، ولم يذكر حديث الهجرة : أنها وازنتهم أو تعرضوا له ، وإذا مرت بدار بني النجار يعني في الساحة ، فمعناه أنها ذهبت للباب الشامي في بني ساعدة ، حتى اعترضه سعد بن عبادة ، وهذا الطريق غير مستقيم ، ولا يتفق مع الطريق النبوية فيما ذكرت من نصوص ، وإذا كان تجاوز بني دينار في المغسلة ، وذهب إلى منطقة السيح ثم رجع من شمال سلع إلى جرار سعد ! فهذا فيه لف ودوران لا يتفق مع الطريق النبوية التي ذكرت ، مع ملاحظة أن فيما بين الشمال من شرقي قلعة قباء إلى جرار سعد كان فضاءًا واسعًا في يوم الهجرة ، ولم يستعمره إلا المهاجرون » اهـ(1) . ولا يخفى ما في هذا الرد من إحكام المعارضة والنقض . والله أعلم .
سابعًا : قال ابن إسحاق : « فانطلقتْ حتى إذا وازنتْ دار بني الحارث بن الخزرج ... الخ » .
بنو الحارث بن الخزرج هم الحي الخامس من أحياء الأنصار الذين مرَّ بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى المدينة ، وبنو الحارث بطون كثيرة ، منها : بنو مالك بن الأغر بن كعب بن الخزرج الأصغر بن الحارث ، وبنو جشم بن الحارث ، وبنو زيد مناة بن الحارث ، وبنو خدرة وخداره ابنا عوف بن الحارث ، وبنو ضمرة بن الحارث ، وتقع منازلهم شرقي وادي بطحان(2) ( انظر المصور ) لذلك قال ابن إسحاق : « وازنتهم » ولم يقل مرت بهم .
__________
(1) السابق نفسه ، ص 98 .
(2) مكة والمدينة للشريف ، ص 336 .(1/18)
ثامنًَا : قال ابن إسحاق : « فانطلقتْ حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار أخواله دُنْيا » .
بنو عدي بن النجار بطن من الخزرج ، وتقع منازلهم غرب وجنوب المسجد النبوي ( انظر المصور ) وهم الحي السادس الذي مَرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى المدينة .
وقوله : « أخواله دنيا » : أي أقرب بني النجار إليه ، لأن سلمى بنت عمرو كانت منهم .
قال السمهودي(1) : « وقول بني عدي بن النجار : « عند أخوالك »(2) لأنهم أقاربه من جهة الأمومة ؛ لأن سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار كانت أم جده عبد المطلب ، وقول البراء في الصحيح : « وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده أو قال : أخواله من الأنصار » فيه تَجَوُّز من حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - إنما نزل على إخوتهم بني مالك بن النجار ، أو أراد أنه نزل بخطة بني النجار ؛ لتقارب منازل الجميع ، ومنهم بنو عدي » اهـ .
تاسعًا : قال ابن إسحاق : « حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت ... الخ » .
بنو مالك بن النجار بطن من الخزرج ، تقع منازلهم في منطقة المسجد النبوي ، وهم - وفق رواية ابن إسحاق - الحي السابع والأخير الذي مرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل عنده ، إلا أن السمهودي(3) أورد رواية عن يحيى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتهى من بني عدي بن النجار مرَّ على بني مازن بن النجار ، وكانت منازلهم في قبلة المدينة ، بالقرب من بني عدي ( انظر المصور ) .
__________
(1) أي في رواية عمارة بن خزيمة . انظر وفاء الوفا 1/256 .
(2) المرجع السابق 1/257-258 .
(3) المرجع السابق نفسه .(1/19)
ولا تعارض بين الروايتين ؛ لقرب منازل بني النجار بعضهم من بعض ، فتكون إحدى الروايتين قد أثبتت ما سكتت عنه الأخرى ، ويكون بنو مازن - وفقًا لرواية السمهودي هذه - هم الحيَ السابعَ الذي مرَّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه إلى المدينة ، وبنو مالك هم الحي الثامن الذي أقام عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وبهذا البيان تتجلى لنا بوضوح معالم الطريق التي سلكها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته الميمونة المباركة من قباء ، وحتى نزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - ( انظر المصور ) .
ومن اللافت للنظر أن أحدًا من كُتَّاب السير والتاريخ لم يشر إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالقرب من منازل بني قينقاع من اليهود ، على الرغم من أن طريقه عليهم أو بالقرب منهم كما هو معلوم من منازلهم ( انظر المصور ) ، ولعل ذلك راجع إلى لزومهم الصمت ، وعدم تعرضهم لموكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير أو شر ؛ مما استوجب إهمالهم وعدم التعرض لذكرهم .
كما لم أجد من أشار إلى سبب استقبال الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسلاح ، وهل هو عادة منهم ؛ تعظيمًا له - صلى الله عليه وسلم - ، أو خوفًا عليه من تعرض اليهود . فالله أعلم .(1/20)
وكان فرحُ أهل المدينة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عظيمًا ، فقد روى الإمام أحمد(1) بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : إني لأسعى في الغلمان يقولون : جاء محمد فأسعى فلا أرى شيئًا ، ثم يقولون : جاء محمد ، فأسعى فلا أرى شيئًا ، قال : حتى جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه أبو بكر ، فكنا في بعض حرار المدينة ، ثم بعثنا رجل من أهل المدينة ليؤذن بهما الأنصار ، فاستقبلهما زهاء خمسمئة من الأنصار ، حتى انتهوا إليهما ، فقالت الأنصار : انطلقا آمنين مطاعين ، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه بين أظهرهم ، فخرج أهل المدينة ، حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه ، يقلن : أيهم هو ؟ قال : فما رأيت منظرًا مشبهًا به يومئذ . قال أنس : ولقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض ، فلم أر يومين مشبهًا بهما » اهـ.
روى البيهقي بسنده(2) عن أنس : أنه لما بركت ناقته - صلى الله عليه وسلم - على باب أبي أيوب خرجت جوار من بني النجار يضربن الدفوف وهن يقلن :
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتحبونني ؟ فقالوا : نعم أي والله يا رسول الله ، قال : أنا والله أحبكم ، أنا والله أحبكم ، أنا والله أحبكم » .
وروى البيهقي في الدلائل(3) عن ابن عائشة قال : لما قدم عليه السلام المدينة جعل النساء والصبيان يقلن :
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
__________
(1) المسند 3/222 .
(2) دلائل النبوة 2/508 .
(3) دلائل النبوة 2/506 .(1/21)
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع(1)
قال أنس - رضي الله عنه - : « لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء من المدينة كل شيء »(2) .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المصادر والمراجع
- الأحاديث الواردة في فضائل المدينة ، صالح حامد سعيد الرفاعي ، مجمع الملك فهد بالمدينة ، ط2 ، 1415هـ .
- الإصابة في تمييز الصحابة ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، 1415هـ .
__________
(1) اختلف العلماء في الوقت الذي قيلت فيه هذه الأبيات اختلافًا كبيرًا ، فذهب ابن القيم ، وتبعه جمع من العلماء ، إلى أنها قيلت يوم رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من تبوك ، ورجح السمهودي والعياشي والأنصاري وغيرهم أنها قيلت يوم قدومه - صلى الله عليه وسلم - من مكة مهاجرًا ، واختلافهم هذا مبني على اختلافهم في إثبات ثنية للوداع في جنوب المدينة - مع الاتفاق على وجود ثنية للوداع في شمال المدينة المنورة - فالمثبتون رجحوا أنها قيلت يوم الهجرة ، والنافون اختلفوا أيضًا ؛ فبعضهم رجح أنها قيلت يوم الهجرة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دخل المدينة يوم الهجرة من جهتها الشمالية بالقرب من ثنية الوداع ، وبعضهم رجح أنها قيلت يوم رجوعه من غزوة تبوك .
قال الشيخ أبو الحسن الندوي - رحمه الله - : (( ولكن المشهور المستفيض أن هذا النشيد إنما كان عند مقدمه من مكة إلى المدينة ، وعلى ذلك تتفق كتب السيرة )) اهـ .
انظر : زاد المعاد لابن القيم 3/551 . والمغانم المطابة للفيروزابادي 2/707 . ووفاء الوفا للسمهودي 4/1170 . وعمدة الأخبار للعباسي ، ص 283 . والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ، ص 219-220 . والمدينة المنورة معالم وحضارة لمحمد السيد الوكيل ، ص 161 . والمعالم الأثيرة في السنة والسيرة ، لمحمد حسن شراب ، ص 80-84 .
(2) مسند الإمام أحمد 3/222 .(1/22)
- تاريخ الحوادث والأحوال النبوية ، د. محمد بن السيد علوي ، ط12 ، مطابع السحر ، جدة ، 1416هـ .
- التاريخ الشامل للمدينة المنورة ، د. عبد الباسط بدر ، ط1 ، المدينة المنورة ، 1414هـ .
- تاريخ الطبري ، أبو جعفر بن جرير الطبري ، ط2 ، دار المعارف ، مصر .
- تاريخ المدينة المنورة ، عمر بن شبه ، دار الكتب العلمية ، ط1 ، بيروت ، 1417هـ .
- تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة ، أبو بكر بن الحسين الشافعي ، ط1 ، 1422هـ .
- التعريف بما آنست الهجرة من معالم دار الهجرة ، محمد بن أحمد المطري ، المكتب الإسلامي ، بيروت 1402هـ .
- الجامع في السيرة النبوية ، سميرة الزايد ، ط1 ، المطبعة العلمية ، د.ت .
- حياة محمد ، محمد حسين هيكل ، ط13 ، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة ، د.ت .
- دلائل النبوة ، أحمد بن الحسين البيهقي ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1405هـ .
- الروض الأُنُف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام ، عبد الرحمن بن عبد الله السهلي ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، 1398هـ .
- سبل الهدى والرشاد ، محمد بن يوسف الصالحي الشامي ، ط1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، 1414هـ .
- سعد بن الربيع الأنصاري ، النقيب الشهيد ، محمد علي كاتبي ، ط1 ، دار القلم ، دمشق ، 1412هـ-1992م .
- السيرة النبوية ، ابن هشام ، المكتبة العلمية ، بيروت ، لبنان ، د.ت .
- السيرة النبوية ، أبو الحسن علي الحسني الندوي ، منشورات المكتبة العصرية ، صيدا ، لبنان ، 1399هـ .
- السيرة النبوية ، أبو الفداء إسماعيل بن كثير ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت ، لبنان ، 1398هـ .
- السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، مهدي رزق الله أحمد ، ط1 ، مطبعة الملك فيصل ، الرياض ، 1412هـ .
- السيرة النبوية لابن خلدون ، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ، ط1 ، مكتبة المعارف ، الرياض ، 1418هـ .(1/23)
- السيرة النبوية وأخبار الخلفاء ، محمد بن حبان التميمي البستي ، ط2 ، مؤسسة الكتب الثقافية ، بيروت ، لبنان ، 1411هـ .
- سيرة نبي الهدى والرحمة ، عبد السلام هاشم حافظ ، ط2 ، شركة المدينة المنورة للطباعة ، 1406هـ .
- صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان ، علاء الدين علي بن بلبان الفارسي ، ط3 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1418هـ .
- صحيح البخاري ، محمد بن إسماعيل البخاري ، دار الأرقم ، بيروت ، لبنان .
- صحيح السيرة النبوية ، إبراهيم العلي ، ط3 ، دار النفائس ، الأردن ، 1418هـ .
- صحيح مسلم ، مسلم بن الحجاج النيسابوري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان .
- الطبقات الكبرى ، محمد بن سعد ، دار صادر ، بيروت .
- طريق الهجرة النبوية ، عبد القدوس الأنصاري ، ط1 ، مطابع الروضة ، جدة ، 1398هـ .
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان .
- فقه السيرة ، محمد سعيد رمضان البوطي ، ط7 ، دار الفكر ، 1398هـ .
- كتاب المغازي ، أبو بكر عبد الله محمد بن أبي شيبة ، ط1 ، دار إشبيلية ، الرياض ، 1410هـ .
- محمد رسول الله ، محمد رضا ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، 1395هـ/1975م .
- المختصر في سيرة سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - ، عبد المؤمن الدمياطي ، ط1 ، دار البخاري للنشر والتوزيع ، المدينة المنورة ، بريدة ، 1416هـ .
- المدينة بين الماضي والحاضر ، إبراهيم بن علي العياشي ، ط2 ، مكتبة الثقافة ، المدينة المنورة ، 1412هـ .
- مسند الإمام أحمد بن حنبل ، أحمد بن حنبل ، ط1 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1414هـ .
- المغانم المطابة في معالم طابة ، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي ، ط1 ، 1423هـ .
- مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ، د. أحمد إبراهيم الشريف ، دار الفكر العربي .(1/24)
- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ، نور الدين علي بن أحمد السمهودي ، دار الباز ، مكة المكرمة .(1/25)