طبعة مزيدة ومصحّحةمكتبة العبيكان
مَعَ دِرَاسَةٍ تَحْلِيلِيَّةٍ لِتَرْجَمَةِ
إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِي- رحمه الله وغفر له ولوالديه -الأستاذ المشارك بكلية الحديث الشريف
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورةتأليف فضيلة الشيخ الدكتورعبد العزيز بن محمد بن إبراهيم العبد اللطيف
مقدمة
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فإن مما يتفاوت فيه المنتسبون إلى العلم القدرة على تنظيم المعلومات وترتيبها، وتوثيقها من مصادرها الأصلية، وقبل ذلك فهمها واستيعابها، وفضيلة شيخنا الشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف -رحمه الله- ضرب من ذلك كله بسهم وافر، أولاً في تدريسه للطلبة في الجامعة، وثانياً في كتبه ورسائله التي ألفها.
ولا شك أن من أهم كتب الشيخ -رحمه الله- كتابه: "ضوابط الجرح والتعديل"، فقد أفرغ فيه خلاصة جهوده على مدى سنوات طويلة، كان في أثنائها يقوم بتدريس مادة: "الجرح والتعديل"، فقلَّب هذا الفن كثيراً، وأبدى فيه وأعاد، حتى تبيَّن له ما يحتاجه المنتسبون إليه: كتاباً يساعدهم على النظر في أقوال أئمة النقد الأولين في الراوي، فالناظر في أقوالهم لن يجد الأمر في الوصول إلى درجة واضحة في الراوي سهلاً في جميع الرواة، فربما اختلفوا، بل ربما اختلف كلام الناقد الواحد، فهو محتاج إذن إلى قواعد وضوابط يسير على وفقها للوصول إلى هذه الدرجة.
وهذا الأمر قد أدركه قبلنا أئمة كثيرون، ممن جاء بعد عصر النقاد الأولين، مثل ابن الصلاح، والذهبي، وابن حجر، والسخاوي، فحكموا على الرواة وفق قواعد وضوابط ظهرت لهم، وظلّت هذه القواعد والضوابط مبثوثة في كتبهم، بحاجة إلى من ينظمها في سلك واحد، مفصّلة مرتبة، وهذا ما قام به الشيخ -رحمه الله- في هذا الكتاب، مضيفاً إليها ما ظهر له أثناء تدريسه للجرح والتعديل.(1/1)
وكتاب الشيخ: "ضوابط الجرح والتعديل" طبع في المرة الأولى في الجامعة الإسلامية بالمدينة، حيث اختاره المجلس العلمي ضمن الكتب التي تتولى الجامعة طباعتها، وقد نفذت هذه الطبعة منذ مدة طويلة، فكان لزاماً إعادة طبع الكتاب، حيث كثر السائلون عنه جداً، فهو فوق كونه كتاباً علمياً متميزاً في بابه، فقد كتبه الشيخ بطريقة أقرب ما تكون إلى المقرر الدراسي، أكثر فيه من التقسيم، ووضع الفقرات، ودعمه بالأمثلة التطبيقية، فجاء
ـ بحق ـ كتاباً مشبعاً لرغبة الباحث المتخصص، قريباً من طالب العلم المبتدئ في هذا الفن.
ومع أن الكتاب مملوء بالأمثلة التطبيقية على ما ذكره الشيخ من ضوابط، إلّا أنه بحاجة إلى أمثلة خاصة، يتم فيها تطبيق الضوابط مجتمعة -أو ما أمكن منها- على راوٍ واحد، وهذا ما فعله الشيخ -رحمه الله- إذ قام بإعداد دراسة وافية على أحد الرواة المختلف فيهم كثيراً، وهو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عرض فيها أقوال الأئمة كلها، ثم قام بدراستها والخلوص منها إلى رأي راجح في هذا الراوي، مستخدماً في دراسته له ما شرحه من ضوابط هذا الكتاب، فأبان بذلك عن هدفٍ كان يرمي إليه دائماً، وهو أن تلك الضوابط تظل تحفظ وتردد دون ما فائدة تذكر، إذا لم يصاحبها تطبيق عملي، وهذا ما كان يحرص عليه مع طلابه وفي دروسه.
وكان من المناسب جداً أن تضم ترجمة: "إسرائيل بن يونس" إلى كتاب الضوابط في طبعته الجديدة، بغرض تعميم الفائدة المرجوة منه، وتسهيلاً على طلاب العلم.
والله سبحانه وتعالى ـ وهو المنعم المتفضل ـ أسأل أن يجزي الشيخ خير الجزاء على ما قدمه للعلم وأهله، تدريساً وتأليفاً، وأن يشملنا وإياه بواسع رحمته، إنه سميع مجيب.
كتبه
إبراهيم بن عبد الله اللاحم
القصيم ـ بريدة ـ
في 5/8/1425هـ
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه.(1/2)
وبعد: فقد أُسْنِدَ إليّ تدريس مادة (الجرح والتعديل) في كلية الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية منذ عام 1404هـ، فألفيت الحاجة ماسة إلى تأليف كتاب منهجي يحوي أهم قواعد الجرح والتعديل، ويَلُمُّ شتاتها من الكتب المُصَنَّفة في (مصطلح الحديث) و(الجرح والتعديل) و(علل الحديث) بأسلوب يلائم مستوى الطالب الجامعي ويلفت نظره إلى ضوابطهما المتعددة. ورأيت الاكتفاء بما كتبه فضيلة الدكتور/ أكرم ضياء العُمَري من دراسة وافية حول (الإسناد وظهور علم الرجال) ونشأة (علم الجرح والتعديل) في كتابه (بحوث في تاريخ السنة المُشَرَّفة) فوجَّهت العناية إلى القواعد وضوابطها مستفيداً من أسئلة الطلاب ومناقشاتهم خلال تلك السنوات في تجديد صياغتها والإضافة إليها، ومعرفة أيسر السُّبُلِ إلى حسن عرضها.
فلما اجتمع لديَّ ما يُحقِّقُ شيئاً من الغرض المنشود عزمت على إخراجه في كتاب يسهل تَدَاوُلُه، وبَدَا لي أن الوفاء بذلك الغرض يقتضي تقسيمه إلى ثلاثة أبواب. هي:
الباب الأول:
حقيقة الجرح والتعديل وضوابط تعارضهما
وفيه فصلان:
الفصل الأول: حقيقة الجرح والتعديل.
الفصل الثاني: تعارض الجرح والتعديل.
الباب الثاني:
وجوه الطعن في الراوي
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: ما يتعلق بجهالة الراوي.
الفصل الثاني: ما يختص بالعدالة.
الفصل الثالث: ما يختص بالضبط.
الفصل الرابع: ما لا يتعلق بالعدالة ولا بالضبط غالباً.
الباب الثالث:
من عبارات الجرح والتعديل
وفيه فصلان:
الفصل الأول: معاني بعض عبارات الجرح والتعديل.
الفصل الثاني: مراتب ألفاظ الجرح والتعديل.
فآمُلُ أن يُحَقِّق هذا الكتاب للطالب المتخصص في علم الحديث أساساً صالحاً للبناء، ولغير المتخصص في هذا العلم من طلاب العلوم الشرعية اطلاعاً يُجَلِّيْ له أصول هذا العلم.
وأقدم الشكر الجزيل لمن حظيت أصول الكتاب بمراجعتهم وتوجيهاتهم وهم الإخوة الكرام:
د. حافظ بن محمد الحكمي د. صالح بن حامد الرفاعي(1/3)
د. عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف د. محمد بن مطر الزهراني
وأملي أن أحظى بتوجيهات الأفاضل فيما يظهر لهم فيه من خطأ أو نقص أو خلل.
وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب.
المدينة النبوية
الجمعة: 15/صفر/1410هـ
د. عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم العبد اللطيف
ترجمة المؤلف -رحمه الله-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
اسمه ونسبه وكنيته:
هو الشيخ: عبد العزيز بن محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الله العبد اللطيف الباهلي، أبو إسماعيل.
مولده ونشأته:
وُلِدَ الشيخ ـ رحمه الله ـ عام1374هـ؛ في الشعراء بمنطقة الرياض، ونشأ في أسرة علمية مرموقة، فَجَدُّهُ الشيخ إبراهيم كان قاضيا، وكذلك كان عَمُّهُ الشيخ عبد اللّطيف؛ الذي اسْتَقَالَ عن القضاء فيما بعد، ثم التحق للتدريس بالجامعة الإسلاميّة عام افتتاحها 1381هـ، وَمَكَثَ يُدَرِّسُ بها إلى أن أُحِيلَ للتقاعد، وهو صاحب الكتاب الشهير:(طريق الرشد إلى تخريج أحاديث بداية ابن رشد)(1).
وهكذا نَشَأَ الشيخ في بداية حياته نشأة علميّة، وَتَنَقَّلَ بين عِدَّةِ مناطق بحكم عَمَلِ والده، فأقام في تربة حيث كان والده رحمه الله يعمل رئيسا لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتقل إلى الرياض لمواصلة الدراسة إلى أن استقرّ به المقام بالمدينة النبويّة لماّ انتقل والده إليها عام1386هـ.
دراسته ومشايخه:
1ـ بَعْدَ أن تخرّج الشّيخ من المدرسة الابتدائيّة التحق بالمعهد العلميّ؛ التّابع لجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة بالمدينة المنورة.
__________
(1) تمت طباعة الكتاب بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية مرارا.(1/4)
2ـ عندما تخرّج منه انتقل إلى مدينة الرياض للدراسة في كلية الشّريعة بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة، وهناك تتلمذ الشّيخ على يد نخبة من العلماء والأساتذة: كالشيخ صالح الفوزان، والشيخ صالح العلي الناصر، والشيخ صالح المنصور، والشيخ فهد الحمين، ودَرَسَ العقيدة على الشيخ صالح الرشود، والشيخ عبد الرحمن البرّاك.
كما تتلمذ على عَدَدٍ من الأساتذة الوافدين من خارج المملكة: كالشيخ علي شبّار المصري، والشيخ محمد أبوالفتح البيانوني.
3ـ تخرّج الشيخ من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة في العام الجامعي: 1394ـ1395هـ.
4ـ كما تتلمذ في مرحلة دراسته العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة على نخبة من خيار الأساتذة: كالشيخ عبد المحسن بن حمد البدر، والدكتور محمد أمين المصري، والدكتور السَّيِّد محمد الحكيم، والدكتور مصطفى زيد، والدكتور عمر عبد العزيز، والدكتور أكرم ضياء العمري، وغيرهم.
حياته الوظيفية:
1ـ عُيِّنَ الشيخ مُعِيدًا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في: 12/7/1395هـ، لكنّه فضّل الانتقال إلى المدينة النبوية فَعُيِّنَ معيدًا في الجامعة الإسلامية في:10/2/1396هـ، وواصل دراسته العليا بها.
2ـ حصل على درجة (الماجستير) في: 4/7/1399هـ، ورقي إلى درجة محاضر في: 23/4/1400هـ .
3ـ حصل على شهادة (الدكتوراه) في:26/8/1405هـ، ورقي إلى درجة أستاذ مساعد في: 29/8/1405هـ.
ثم رقي إلى درجة أستاذ مشارك في: 9/6/1414هـ.
آثاره العلميّة:
أ- آثاره العلمية المنشورة:(1/5)
1ـ (ضوابط الجرح والتعديل)، وقد نشرته الجامعة الإسلامية عام1412هـ، وتكمن أهمية هذا الكتاب في كونه جمع شتات ما تفرّق في العديد من المصادر مما يتعلق بضوابط الجرح والتعديل، مع حسن الترتيب، وجودة التنظيم، والعناية بذكر الأمثلة، وصنع الجداول وغيرها من المزايا التي جعلته مرجعا معتمدا من قبل الدارسين والباحثين في علوم الحديث النبوي.
2ـ تحقيق كتاب:(بغية الراغب المتمني في ختم النسائي برواية ابن السني) للإمام السخاوي، وقد نشرته مكتبة العبيكان عام1414هـ .
ب- آثاره العلمية التي لم تنشر:
1ـ (الأحاديث المخصصة للعموم في السور الأربع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة)، وهي رسالته التي حَصَلَ بها على درجة (الماجستير)، وتقع في مجلد واحد، وكانت تحت إشراف فضيلة الدكتور: عمر عبد العزيز حفظه الله.
2ـ (أمهات المؤمنين ـ رضي الله عنهن ـ: دراسة حديثية)، وهي أطروحته التي حصل بها على شهادة (الدكتوراه)، وتقع في مجلدين، وكانت تحت إشراف فضيلة الأستاذ الدكتور: أكرم ضياء العمري، وحَظِيَتْ بمناقشة فضيلة الشيخ عبد المحسن ابن حمد البدر، وفضيلة الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي.
3ـ (إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني: ترجمته وأقوال أئمة الجرح والتعديل فيه ـ دراسة تحليلية ـ ).
4ـ (مذكرة في كتب الجرح والتعديل)، وهي منتشرة بين الطلبة الذين دَرَسُوا على الشيخ في كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية وغيرهم.
5ـ (مذكرة في مصطلح الحديث)، وهي ـ في الأصل ـ محاضراته التي ألقاها على طلاب كلية الحديث في مادة المصطلح.
6ـ (مذكرة في الدفاع عن السنة)، وهي ـ في الأصل ـ محاضراته التي كان يلقيها على طلبة السنة الرابعة بكلية الحديث في مادة: "دفاع عن السنة".
7ـ (عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ـ دراسة تحليلية ـ ).
وله ـ رحمه الله ـ دراسات في الجرح والتعديل لم تكتمل:(1/6)
1ـ كَبَحْثِهِ في حال عمرو بن شعيب وروايته عن أبيه عن جده..
2ـ تحقيق الفصل الخاص برجال صحيح البخاري المتكلم فيهم من كتاب هدي الساري، وقد بلغ في التحقيق والتعليق إلى حرف الكاف.
وفاته:
توفي ـ رحمه الله ـ يوم الجمعة الرابع عشر من شهر ذي الحجة عام 1421هـ، وهو في السابعة والأربعين من عمره، بعد مرض عضال ألم به أزيد من سنتين.
نسأل الله العظيم الكريم أن يرفع درجته في المهديين، ويسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا(1).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الباب الأول
حقيقة الجرح والتعديل وضوابط تعارضهما
وفيه فصلان:
( الفصل الأول: حقيقة الجرح والتعديل.
( الفصل الثاني: تعارض الجرح والتعديل.
الفصل الأول
حقيقة الجرح والتعديل
تعريف الجرح
أ ـ الجرح في اللغة:
الجَرح ـ بالفتح ـ التأثير في الجسم بالسلاح(2).
والجُرح ـ بالضم ـ اسم للجرح(3).
وقال بعض فقهاء اللغة: « الجُرح ـ بالضم ـ يكون في الأبدان بالحديد ونحوه.
والجَرح ـ بالفتح ـ يكون باللسان في المعاني والأعراض ونحوها ))(4).
ب ـ الجرح في الاصطلاح:
وصف الراوي في عدالته أوضبطه بما يقتضي تليين روايته أو تضعيفها أو ردَّها(5).
__________
(1) أخذت هذه الترجمة المختصرة من ترجمة مطولة، كتبها تلميذه: الشيخ عبد اللطيف بن محمد الجيلاني
ـ حفظه الله ووفقه ـ
(2) ... انظر: لسان العرب 2/422 مادة "جرح".
(3) ... تاج اللغة وصحاح العربية 1/358، ومجمل اللغة 1/186 مادة "جرح".
(4) ... تاج العروس 2/130 مادة "جرح".
قال الزَّبيْدي: "هذا هو المتداول بينهم وإن كانا في أصل اللغة بمعنى واحد". تاج العروس 2/130.
(5) ... قال ابن الأثير: "الجرح: وصفٌ متى التحق بالراوي والشاهد سقط الاعتبار بقوله وبطل العمل به". جامع الأصول 1/126.(1/7)
فالموصوف بما يقتضي تليين روايته هو (الصدوق سيئ الحفظ) تتقوى روايته بوجود قرينة مرجّحة لجانب ضبطه لحديث معين.
والموصوف بما يقتضي تضعيف روايته لا يخلو تضعيفه من ثلاث حالات هي:
الأولى: أن يكون تضعيفاً مطلقاً فهذا لا تقبل معه رواية الراوي عند تفرّده بها ولكن تتقوى بالمتابعة من مثله فترتقي إلى حسن لغيره.
الثانية: أن يكون تضعيفاً مقيداً بالرواية عن بعض الشيوخ أو في بعض البلدان أو في بعض الأوقات فيختص الضعف بما قُيد به دون سواه.
الثالثة: أن يكون تضعيفاً نسبياً وهو الواقع عند المفاضلة بين راويين فأكثر فهذا لا يلزم منه ثبوت الضعف المطلق في الراوي بل يختلف الحكم عليه بحسب قرينة الحال في تلك المفاضلة.
وأمّا الموصوف بما يقتضي ردَّ روايته فهو الضعيف جداً فمن دونه لا يُقَوِّي غيره ولا يَتَقَوَّى بغيره.
تعريف التعديل
أ ـ التعديل في اللغة:
التسوية. وتقويم الشيء وموازنته بغيره(1).
ب ـ التعديل في الاصطلاح:
وصف الراوي في عدالته وضبطه بما يقتضي قبول روايته(2).
والقبول هنا على إطلاقه فيشمل:
1 ـ مَنْ تُقْبل روايته وتعتبر في مرتبة الصحيح لذاته.
2 ـ مَنْ تُقْبل روايته وتعتبر في مرتبة الحسن لذاته(3).
وذلك لأن هؤلاء يُحْتَجُّ بمروياتهم وإن تفاوتت مراتبها.
استعمال كلمة (التعديل) في الاصطلاح بمعنى (التوثيق)
أصل كلمة (تعديل) يعني الحكم بعدالة الراوي، لكنها قد اسْتُعْمِلتْ هنا بمعنى أشمل هو (التوثيق) أي: الحكم بعدالة الراوي وضبطه معاً لأنهما أساس قبول خبر الراوي.
والمراد بالعدالة: مَلَكَةٌ تحمل المرء على ملازمة التقوى والمروءة(4).
__________
(1) ... الوسيط في علوم ومصطلح الحديث ص 385. وانظر: لسان العرب 11/432 مادة (عدل).
(2) ... المختصر في علم رجال الأثر ص 43.
(3) ... انظر: توضيح الأفكار 2/120.
(4) ... نزهة النظر ص 29.
والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. نزهة النظر ص 29.
وأما المروءة: فآداب نفسانية تحمل مراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. ويُرْجَعُ في معرفتها إلى العُرْف وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبلدان. انظر: المصباح المنير 2/234 مادة (مرأ)، وفتح المغيث 1/288.(1/8)
والعدل هو: المسلم البالغ العاقل السالم من أسباب الفسق(1) وخوارم المروءة(2).
فالإسلام والبلوغ شرطان للأداء وليسا بشرطين للتَّحَمُّلِ، فقد تَحَمَّل بعض الصحابة قبل إسلامهم ثم أدّوا بعده وتحمّل صغار الصحابة حال صباهم وأدّوا بعد بلوغهم(3).
والبلوغ والعقل هما مناط التكليف الشرعي(4) لكن قد يضبط الصبي المُمَيِّز بعض ما سمعه أو شاهده ولذلك اعتبر أداؤه بعد البلوغ لما تَحَمَّله حال الصبا(5).
والسلامة من أسباب الفسق وخوارم المروءة إنما تحقق في ظاهر حال الراوي. لكن يَقِلُّ تضعيف الراوي بفعله ما يخرم المروءة(6).
المراد بالضبط:
الضبط نوعان هما: ضبط الصدر وضبط الكتاب.
فضبط الصدر: أن يكون الراوي يقظاً غير مُغَفَّل بل يحفظ ما سمعه ويُثْبِتُه بحيث يتمكّن من استحضاره متى شاء، مع علمه بما يحيل المعاني إن روى بالمعنى.
وضبط الكتاب: صيانته لديه منذ سمع فيه وصحّحه إلى أن يُؤدِّيَ منه(7).
ما يخرج بتعريف العدل واشتراط الضبط:
أولاً: ما يتعلق بجهالة الراوي:
__________
(1) ... سبب الفسق ارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة. انظر: فتح المغيث 1/287.
(2) ... انظر: علوم الحديث ص 218.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 241.
(4) ... انظر: الإحكام في أصول الأحكام 1/150 ـ 151، وروضة الناظر 1/137، وفتح المغيث 1/287.
(5) ... انظر: علوم الحديث ص 243 ـ 244.
(6) ... من ذلك (ما ورد عن شعبة أنه ترك حديث رجل لأنه رآه يركض على بِرْذَون). محاسن الاصطلاح ص 218.
(7) ... انظر: علوم الحديث ص 218، وفتح المغيث 1/286.
وقال ابن الأثير: "الضبط نوعان: ظاهر وباطن، فالظاهر: ضبط معنى الحديث من حيث اللغة، والباطن: ضبط معناه من حيث تعلق الحكم الشرعي به، وهو الفقه. ومطلق الضبط الذي هو شرط في الراوي هو الضبط ظاهراً عند الأكثر لأنه يجوز نقل الخبر بالمعنى فتلحقه تهمة تبديل المعنى بروايته قبل الحفظ أو قبل العلم حين سمع". جامع الأصول 1/ 72 ـ 73.(1/9)
1 ـ المبهم: من لم يُسَمَّ اسمُه.
2 ـ مجهول العين: من لم يَرْوِ عنه غير واحد ولم يُوثَّق.
3 ـ مجهول الحال: من روى عنه راويان فأكثر ولم يُوثَّق.
وذلك لعدم معرفة أحوالهم في العدالة والضبط.
ثانياً: ما يخرج بتعريف العدل:
1 ـ الكافر.
2 ـ الصبي.
3 ـ المجنون.
4 ـ المبتدع: من اعتقد ما لم يكن معروفاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يكن عليه أمره ولا أصحابه.
5 ـ الفاسق: من عُرِفَ بارتكاب كبيرة أو بإصرار على صغيرة.
6 ـ المتهم بالكذب: من يتعامل بالكذب ولم يُعرفْ أنه كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
7 ـ الكذاب: من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - متعمداً ولو مرة.
8 ـ مخروم المروءة.
وقد خرج الأول لكفره، والثاني لصباه، والثالث لجنونه إذا كان مُطْبِقاً أو مُتَقَطِّعاً مؤثراً في الإفاقة(1)، والرابع لبدعته(2)، والخامس والسادس والسابع لظهور فسقهم، والثامن لنقصان مروءته.
ثالثاً: ما يخرج باشتراط الضبط:
1 ـ كثرة الوَهْم: أن تكثر من الراوي الرواية على سبيل التَّوهُّم فَيَصِلَ الإسناد المرسل، ويرفع الأثر الموقوف ونحو ذلك(3).
2 ـ كثرة مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه أو لجمع من الثقات(4).
3 ـ سوء الحفظ: أن لا يترجح جانب إصابة الراوي على جانب خطئه(5) بل يتساوى الاحتمالان.
4 ـ شدّة الغفلة: أن لا يكون لدى الراوي من اليقظة والإتقان ما يميّز به الصواب من الخطأ في مروياته(6).
__________
(1) ... انظر: فتح المغيث 1/287، وتدريب الراوي 1/300.
(2) ... أخرج أئمة من المحدثين مرويات بعض المبتدعة دون بعض لاعتبارات معيّنة تنبئ عن دقة مسلك أولئك الأئمة في تقصّي أحوال الرواة والحكم عليهم بمقتضاها. انظر: ص 139.
(3) ... انظر: نزهة النظر ص 44 ـ 45.
(4) ... انظر: المصدر السابق ص 35 ـ 36.
(5) ... انظر: نزهة النظر ص 51.
(6) ... انظر: شرح نخبة الفكر ص 121.(1/10)
5 ـ فحش الغلط: أن يزيد خطأ الراوي على صوابه زيادة فاحشة(1).
6 ـ جهل الراوي بمدلولات الألفاظ ومقاصدها وما يُحيْلُ معانيها ـ عند الرواية بالمعنى ـ حيث يتعيّن عند ذلك الأداء باللفظ الذي سمعه اتفاقاً لئلا يقع فيما يَصْرِفُ الحديث عن المعنى المراد به(2).
7 ـ تساهل الراوي في مقابلة كتابه وتصحيحه وصيانته(3).
ما يُنتقد على الرواة في غير العدالة والضبط:
حكى ابن الصلاح إجماع جماهير أئمة الحديث والفقه على (( أنه يشترط فيمن يُحْتَجُّ بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه ))(4) فكلُّ أمر يُنافي أحد هذين الشرطين فهو جرح في الراوي سواء ورد مطلقاً أو مقيداً.
وثمة أمورٌ أخرى منتقدة على الرواة في غير عدالتهم وضبطهم كالتدليس، وكثرة الإرسال(5)، وعدم انتقاء الشيوخ.
الأصل الشرعي لاعتبار العدالة والضبط في الرواة:
الأصل في اعتبار عدالة الراوي قوله تعالى: { يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبيّنُوا... }(6) الآية.
ووجه الدلالة:
أن الآية نص في وجوب التَّبيُّنِ والتثبُّت(7) من حقيقة خبر الفاسق(8).
__________
(1) ... انظر: نزهة النظر ص 44 ـ 45، وشرح نخبة الفكر ص 121.
(2) ... انظر: علوم الحديث ص 331.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 310 ـ 312.
(4) ... علوم الحديث ص 218.
(5) ... يقدح هذان في عدالة الراوي إذا تعمَّد إسقاط من يَعْتقدُ ضعفه من رجال الإسناد.
(6) ... سورة الحجرات آية (6).
(7) ... في قراءة حمزة والكسائي "فتثبتوا". انظر: الجامع لأحكام القرآن 16/312.
(8) ... انظر: الجامع لأحكام القرآن 16/312، وتفسير القرآن العظيم 4/208.
ويَحْتجُّ بهذه الآية أيضاً من يقبل خبر مجهول الحال؛ لأن الله تعالى إنما أمرنا بالتثبّت عند خبر الفاسق وليس مجهول الحال بمحقق الفسق. انظر: تفسير القرآن العظيم 4/208.(1/11)
والأصل في اعتبار الضبط الحديث المتواتر(1): «نَضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها، فرُبَّ حاملِ فقه غير فقيه ورُبَّ حاملِ فقه إلى من هو أفقه منه...» الحديث(2).
وفي بعض رواياته «... سمع منا شيئاً فبلَّغه كما سمع»(3).
ووجه الدلالة:
أ ـ أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فحفظها» نصّ على الحفظ وهو يشمل الحفظ في الصدر وفي الكتاب(4).
ب ـ وقوله: «فبلَّغه كما سمع» نص على اعتبار الضبط عند الأداء.
جـ ـ أن هذا الحديث قد ورد بألفاظ متنوِّعة تَدُلُّ على أنه قد رُوي بالمعنى(5). وذلك أحد وجهي الأداء.
وجرح الرواة بقدر الحاجة لا يُعَدُّ من الغيبة المحرّمة فقد ذكر النووي ـ رحمه الله تعالى ـ أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعاً لا يمكن الوصول إليه إلّا بها(6)، وأنّ من تلك الأغراض تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم لتوَقِّيْهِ. وذلك من وجوه منها:
__________
(1) ... انظر: طرق الحديث في: (دراسة حديث: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي...» رواية ودراية).
وتلك الطرق تنتهي إلى أربعة وعشرين صحابياً.
(2) ... انظر: المصدر السابق ص 48.
(3) ... دراسة حديث «نضر الله امرءا سمع مقالتي...» ص 33.
(4) ... انظر: المصدر السابق ص 224.
(5) ... انظر: دراسة حديث «نضر الله امرءا سمع مقالتي...» ص 212.
(6) ... انظر: رياض الصالحين ص 575، وشرح صحيح مسلم 16/142، وفتح الباري 10/472.(1/12)
جرح المجروحين من الرواة والشهود فإنه جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة(1) إذ يترتب عليه في شأن الرواة تمييز الأحاديث الثابتة عن الروايات الضعيفة والواهية والموضوعة(2) التي لا تثبت صحتها لما في أحوال رواتها من الأمور المنافية(3) للعدالة أو الضبط.
ومن الأدلة على جواز الغيبة لغرض شرعي ما يلي:
1 ـ ما اتفق عليه الشيخان من حديث عائشة -رضي الله عنها-: «أن رجلاً استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وانبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت عائشة: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عائشة متى عَهِدتني فاحشاً؟ إنّ شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة مَنْ تركه الناس اتقاء شرّه»(4).
وفي رواية: «اتقاء فُحْشِهِ»(5).
ووجه دلالة الحديث:
__________
(1) ... انظر: المصدرين الأولين السابقين في المواضع المذكورة.
(2) ... انظر: رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة ص 24.
(3) ... من الروايات ما لا تثبت صحتها بسبب الانقطاع أو المخالفة ونحو ذلك مما لا يستلزم ثبوت الطعن في الراوي بل يكون حصول ذلك لاحتمال الضعف.
(4) ... الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشا ولا متفاحشا. (مع فتح الباري 10/452).
(5) ... الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الأدب، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيب (مع فتح الباري 10/471). وباب المداراة مع الناس (مع فتح الباري 10/528)، وصحيح الإمام مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب مداراة من يُتَّقى فحشه (مع شرح النووي 16/144).(1/13)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلّم في ذلك الرجل على وجه الذّم لمّا كان في ذلك مصلحة شرعية، وهي التنبيه إلى سوء خلقه ليحذره السامع كما يفيده قوله:
«إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه».
ولذلك تطلَّق في وجهه وانبسط إليه مداراة له لا مداهنة(1).
2 ـ ما أخرجه الإمام مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو
ابن حفص طلّقها البتّة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «... فإذا حَلَلَتِ فآذنيني».
قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية ابن أبي سفيان وأبا جَهْمٍ خطباني.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أما أبو جَهْمٍ فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد...»(2).
وفي رواية «أما معاوية فرجل تَرِبٌ لا مال له، وأما أبو جَهْمٍ فرجل ضرّاب للنساء، ولكن أسامة بن زيد...»(3).
ووجه دلالة الحديث:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر معاوية وأبا جَهْمٍ ـ رضي الله عنهما ـ بما فيهما لتحقق المصلحة وهي المشورة على المستشير بالأصلح له، ولذلك قال لها عليه الصلاة والسلام: «انكحي أسامة بن زيد».
هل يشترط في الراوي غير العدالة والضبط؟:
ثمة أمور لا ترجع إلى عدالة الراوي وضبطه يمكن تقسيمها إلى قسمين:
__________
(1) ... المداراة: بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا. والمداهنة: ترك الدين لصلاح الدنيا.
... ووجه المداراة في الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بذل (لذلك الرجل) من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن عشرة". فتح الباري 10/454.
(2) ... صحيح الإمام مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة البائن لا نفقة لها 10/97.
(3) ... صحيح الإمام مسلم، كتاب الطلاق، باب المطلقة البائن لا نفقة لها 10/104.(1/14)
الأول: ما لا يُشترط بالإجماع وهي حُرِّية الراوي، فقد حكى الخطيب البغدادي إجماع الناس على قبول رواية العبد(1).
والثاني: ما لا يُشترط على القول الراجح عند الجمهور فمنها: ما يرجع إلى الراوي، وهي خمسة أمور:
1 ـ الذُّكُورية واشتراطها في الراوي منقول عن الإمام أبي حنيفة ولكن استثنى من ذلك أخبار عائشة وأم سلمة(2).
2 ـ الفقه:
أ ـ اشتهر عن الإمام أبي حنيفة اشتراطه لفقه الراوي إذا خالف خبره قياس الأصول(3).
ب ـ واشترطه آخرون عند تَفَرُّدِ الراوي بالحديث(4).
جـ ـ واشترطه ابن حبان عند أداء الراوي من حفظه.
فقال: ((الثقة الحافظ إذا حدّث من حفظه وليس بفقيه لا يجوز عندي الاحتجاج بخبره...فإذا كان الثقة الحافظ لم يكن فقيهاً وحدّث من حفظه فرُبَّما قلب المتن وغيَّر المعنى حتى يذهب الخبر عن معنى ما جاء فيه ويقلب إلى شيء ليس منه وهو لا يعلم فلا يجوز عندي الاحتجاج بخبر من هذا نَعْتُه إلّا أن يُحَدِّث من كتاب أو يوافق الثقات فيما يرويه من متون الأخبار))(5).
__________
(1) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 157.
(2) ... انظر: أدب القاضي 1/385، وفتح المغيث 1/289.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/289، وتدريب الراوي 1/70.
... وذكر علاء الدين البخاري أن القول باشتراط فقه الراوي لتقديم خبره على القياس هو مذهب عيسى بن أبان وأكثر المتأخرين من الحنفية، وأما المتقدمون منهم فالمنقول عنهم تقديم خبر الواحد على القياس دون تفرقة بين خبر الفقيه وخبر غير الفقيه. انظر: كشف الأسرار 2/383.
... ومما ورد عن الإمام أبي حنيفة في تقديمه لخبر الواحد على القياس ما يلي:
... 1 ـ أخذُه بحديث القهقهة مع مخالفته للقياس. انظر: الأصل 1/169 ـ 170.
... 2 ـ عملُه بحديث أبي هريرة «من أكل أو شرب ناسيا فلْيُتِّم صومه». انظر: كشف الأسرار 2/383.
(4) ... فتح المغيث 1/289.
(5) ... معرفة المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين 1/93.(1/15)
وكلامه هذا مُقَيَّد بما قاله في شروط من يُحْتَجُّ به حيث قال: ((... والعلم بما يحيل من معاني ما يروي: هو أن يعلم من الفقه بمقدار ما إذا أدّى خبراً أو رواه من حفظه أو اختصره لم يُحلْهُ عن معناه الذي أطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معنى آخر))(1). وهذا موافق لما يشترطه الأئمة في ضبط الصدر(2).
3 ـ الشهرة بسماع الحديث(3).
4 ـ كون الراوي بصيراً غير أعمى(4).
5 ـ كونه معروف النّسب(5).
وإنما لم تُشترط هذه الأمور على القول الراجح؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها» لم يفرّق بين من استوفى هذه الشروط ومن لم يستوفها.
ثم إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : «فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه» «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه». صريح في عدم اشتراط فقه الراوي(6).
ومنها ما يرجع إلى رواية الراوي وأهمها:
1 ـ عدم تَفَرُّدها بالحديث(7).
2 ـ عدم إنكار راوي الأصل رواية الفرع عنه على وجه النسيان(8).
__________
(1) ... صحيح ابن حبان 1/140.
(2) ... انظر: ص 24.
(3) ... انظر: لسان الميزان 1/19، وفتح المغيث 1/289.
إنما يُشترط في الراوي من الشهرة ما يرفع عنه الجهالة فقط.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/289.
(5) ... انظر: لسان الميزان 1/19.
(6) ... انظر: المصدر السابق 1/19، وفتح المغيث 1/289.
(7) ... هذه مسألة اشتراط العدد لقبول الرواية، ومن متقدمي القائلين بها: إبراهيم بن إسماعيل بن عُليَّة المعتزلي، حيث اشترط للقبول أن يكون الحديث من رواية رجلين عن رجلين.
... انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 1/241، وتدريب الراوي 1/72.
(8) ... انظر: لسان الميزان 1/20.
... وقد اشترط هذا الشرط جماعة من الحنفية. ومن أمثلته: حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «قضى بشاهد ويمين». فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: "لقيت سهيلا فسألته عنه فلم يعرفه فكان سهيل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني عن أبي..." ويسوق الحديث.
... انظر: علوم الحديث ص 234، وأصول السرخسي 2/3 ـ 5.(1/16)
وإنما لم يُشترط هذان على القول الراجح لكثرة الدلائل على قبول خبر الواحد الثقة(1)؛ ولأن الإنكار على وجه النسيان ليس نفيا لوقوع التحديث، بل غايته عدم التَّذكُّر، فقول المثبت مقدم لأنه جازم بما يروي عن شيخه(2).
ما تثبت به العدالة:
للعلماء فيما تثبت به عدالة الراوي مذاهب هي:
1 ـ مذهب الجمهور: تثبت عدالة الراوي بأحد أمرين:
الأمر الأول: الاستفاضة: بأن يشتهر الراوي بالخير ويشيع الثناء عليه بالثقة والأمانة فيكفي ذلك عن بيّنة تشهد بعدالته، كما هو الشأن في مثل: الإمام مالك، وشعبة، والسفيانين، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني... ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم(3).
ويتبيّن وجه ذلك فيما يلي:
أ ـ أن تلك الاستفاضة والشهرة أقوى في النفوس من تعديل الواحد والاثنين.
ب ـ أن غاية الأمر من تزكية المعدِّل أن يبلغ ظهور ستر الراوي، وهي لا تبلغ ذلك أبداً، فلا حاجة إذن إلى تعديله لظاهر العدالة مُشْتهِرِها(4).
الأمر الثاني: تَنْصيصُ الأئمة المُعَدِّلين على عدالة الراوي(5).
ويكفي تعديل الإمام الواحد على القول الراجح(6) قياساً على قبول خبر الراوي الثقة عند تفرّده(7).
__________
(1) ... انظر: الرسالة ص 401 ـ 458.
(2) ... انظر: علوم الحديث ص 234، والتقييد والإيضاح ص 153 ـ 154.
(3) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 147، وعلوم الحديث ص 218 ـ 219.
(4) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 148.
(5) ... انظر: علوم الحديث ص 218.
(6) ... إلّا في حالتين:
أ- إذا كان الإمام الموثِّق متساهلاً، كابن حبان فلا يُعتمد على قوله بإطلاق. بل على التفصيل الوارد في ص 112.
ب- إذا عارضه قول إمام آخر فعندئذٍ يطلب الترجيح بضوابط التعارض.
انظر: ص 65-97.
(7) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 160 ـ 161.(1/17)
وقيل: لا بد من تعديل اثنين(1). وذلك لما يلي:
أ ـ لأن التزكية صفة، فتحتاج في ثبوتها إلى عدلين كالرُّشد والكفاءة(2).
ب - وقياساً على الشهادة في حقوق الآدميين(3).
2 ـ طريقة أبي بكر البزار في مسنده ثبوت عدالة الراوي برواية جماعة من الجُلَّة عنه(4).
ونحوه قول الذهبي: ((والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما يُنْكر عليه أن حديثه صحيح))(5).
وهذا يقتضي أن رواية العدل عن غيره تعديل له؛ لأن العدل لو كان يعلم فيه جرحاً لذكره(6).
3 ـ قول ابن عبد البر: ((كل حامل لهذا العلم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يَتبيَّن جرحه))(7).
وقد استدل ابن عبد البر بحديث: «يَحْمِلُ هذا العلم من كل خَلَفٍ عُدولُه»(8).
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق ص 160.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/290.
(3) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 160.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/293.
(5) ... ميزان الاعتدال 3/426. وانظر: فتح المغيث 1/293.
(6) ... انظر: الكفاية في علم الراوية ص 150.
(7) ... انظر: علوم الحديث ص 219.
(8) ... انظر المصدر السابق في الموضع المذكور.
وقد ورد هذا الحديث من طرق متعددة:
أشهرها: رواية إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري مرسلاً.
قال الذهبي في شأن إبراهيم: "لا يُدْرى مَنْ هوْ". ميزان الاعتدال 1/45.
وقد رواه عن إبراهيم:
1 ـ الوليد بن مسلم عنه عن الثقة من أشياخه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أخرجه ابن عدي (الكامل -مخطوط- 1/91). من طريقين عن الوليد، صرح في أحدهما بالسماع من إبراهيم، ومن طريق ابن عدي. أخرجه البيهقي (السنن الكبرى 10/209)، وابن عساكر (تاريخ دمشق 2/233).
2 ـ مُعان بن رِفاعه السّلامي (ليِّن الحديث) عن إبراهيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد أخرج روايته:
أ ـ ابن حبان (الثقات 4/10)، وابن عدي (الكامل –مخطوط- 1/91)، وأبو نعيم (معرفة الصحابة 1/53)، وابن عبد البر (التمهيد 1/59)، والخطيب (شرف أصحاب الحديث ص 29)، وابن عساكر (تاريخ دمشق 2/233) من طرق عن أبي الربيع الزهراني عن حماد بن زيد عن بقية ابن الوليد عن مُعان بن رِفاعة عن إبراهيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ب ـ العقيلي (الضعفاء 4/256)، وابن أبي حاتم (الجرح والتعديل 2/17)، وابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/91)، وابن عساكر (تاريخ دمشق 2/233)، من طرق عن إسماعيل بن عياش عن مُعان به، ومن طريق العقيلي أخرجه ابن عبد البر (التمهيد 1/59).
جـ ـ ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل 2/17)، وابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/91). كلاهما من طريقين عن مبشر بن إسماعيل عن معان به.
وقد وردت هذه الرواية عند ابن أبي حاتم بصيغة الأمر: «ليحمل هذا العلم من كل خَلفٍ عُدولُه».
الثاني: من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
... أخرجه الخطيب (شرف أصحاب الحديث ص 28) بإسناده عن عمرو بن هشام البيروتي (صدوق يخطئ) عن محمد بن سليمان (ابن أبي كريمة) (قد ضعّفه أبو حاتم) عن مُعان بن رفاعة (لَيِّن الحديث) عن أبي عثمان النَّهدي عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن طريقه أخرجه
ابن عساكر (تاريخ دمشق 2/233).
الثالث: من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أخرجه الخطيب (شرف أصحاب الحديث ص 28) بإسناده عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث (صدوق كثير الغلط ثَبْتٌ في كتابه وكانت فيه غفلة). قال: حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد (الأنصاري) عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن مسعود.
ولم يذكر المِّزي عبد الله بن مسعود فيمن روى عنهم ابن المسيب.
انظر: تهذيب الكمال 11/67 ـ 68.
الرابع: من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أخرجه ابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/90) من طريق موسى بن جعفر (الكاظم) عن أبيه (جعفر الصادق) عن جده (محمد الباقر) عن علي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا معضل فقد قال العلائي ـ في ترجمة محمد الباقر ـ : "أرسل عن جَدَّيه الحسن والحسين وجده الأعلى علّي رضي الله عنهم". جامع التحصيل ص 266.
الخامس: من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
أخرجه العقيلي (الضعفاء ـ مخطوط ـ 1/2)، وابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/90 ـ 91). كلاهما عن طريق محمد بن عبد العزيز الرملي (صدوق يهم) عن بقية بن الوليد (صدوق كثير التدليس عن الضعفاء) عن رزيق أبي عبد الله الألهاني (صدوق له أوهام) عن القاسم بن عبد الرحمن (صدوق يُغْربُ كثيراً) عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وسقط من إسناد ابن عدي ذكر بقية بن الوليد. وقد قال محمد بن عبد العزيز الرملي: "حدثنا بقية" هكذا في رواية العقيلي.
السادس: من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
أخرجه الخطيب (شرف أصحاب الحديث ص 11) من طريق عبد الله بن خراش بن حوشب (قد ضعّفوه وأطلق عليه ابن عمار الكذب) عن العوام بن حوشب عن شهر بن حوشب عن معاذ
ابن جبل ـ رضي الله عنه ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
السابع: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد ورد من طرق هي:
1 ـ من طريق أبي حازم سلمان الأشجعي.
أخرجه ابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/90) من طريق داود بن سليمان الغسّاني المديني عن مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان (صدوق يخطئ) عن أبي حازم.
قال ابن عدي: "لم أر هذا الحديث لمروان الفزاري بهذا الإسناد إلّا من هذا الطريق".
2 ـ من طريق أبي صالح الأشعري (مقبول).
أخرجه ابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/90)، والخطيب (شرف أصحاب الحديث ص 28). كلاهما من طريق عبد الرحمن بن يزيد السلمي عن علي بن مسلم البكري عن أبي صالح الأشعري.
3 ـ من طريق أبي قَبِيل حُيي بن هانئ.
أخرجه البزار (انظر: كشف الأستار 1/86). والعقيلي (الضعفاء ـ مخطوط ـ 1/2).
كلاهما من طريق خالد بن عمرو الأموي القرشي (رماه ابن معين بالكذب، ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع). عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي قَبِيل.
ومن طريق العقيلي أخرجه ابن عبد البر (التمهيد 1/59).
الثامن: من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
أخرجه ابن عدي (الكامل ـ مخطوط ـ 1/90) من طريق خالد بن عمرو القرشي (رماه ابن معين بالكذب، ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع) عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن عدي: "وهذا الحديث بهذا الإسناد لا أعلم يرويه عن الليث غير خالد بن عمرو".
التاسع: من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
أخرجه العقيلي (الضعفاء ـ مخطوط ـ 1/2) من طريق خالد بن عمرو القرشي (رماه ابن معين بالكذب، ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع) عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي قَبِيل (حُيَي
ابن هانئ) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
... ومن طريق العقيلي أخرجه ابن عبد البر (التمهيد 1/59).
فالضعف الشديد في هذه الأسانيد ينحصر في حديث معاذ وما أخرجه البزار والعقيلي من طريق أبي قَبِيل عن أبي هريرة، وحديثي عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو.
وما عدا ذلك فليس ضعفه بالشديد.
وثمة طرق أخرى لم أقف عليها. هي:
1 ـ من حديث جابر بن سمرة. انظر: (التقييد والإيضاح ص 139).
2 ـ من حديث ابن عباس. انظر: (فتح المغيث 1/294).
3 ـ ما عزاه البرهان فوري إلى ابن عساكر من حديث أنس، وإلى الديلمي من حديث ابن عمر. انظر: (كنز العمال 10/176).
وقد اختلفت آراء العلماء في الحكم على الحديث على النحو التالي:
1 ـ صحَّحه الإمام أحمد.
قال الخطيب: "حدثت عن عبد العزيز بن جعفر الفقيه. قال: حدثنا أبو بكر الخَلّال. قال: قرأت على زهير بن صالح بن أحمد قال: حدثنا مهنا ـ وهو ابن يحيى ـ قال: سألت أحمد ـ يعني ابن حنبل ـ عن حديث مُعان بن رِفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين». فقلت لأحمد: كأنه كلام موضوع. قال: لا. هو صحيح. فقلت: ممن سمعته أنت؟. قال: من غير واحد. قلت: مَن هم؟.
قال: حدثني بن مسكين إلّا أنه يقول: مُعان عن القاسم بن عبد الرحمن. قال أحمد: معان بن رفاعة لا بأس به". شرف أصحاب الحديث ص 29.
2 ـ ضعّف أبو الحسن بن القطان رواية إبراهيم العُذْري. فقال: "هذا مرسل أو معضل، وإبراهيم الذي أرسله لا يعرف بشيء من العلم غير هذا...".
وتعقّب كلام الإمام أحمد في شأن رفاعة بقوله: "خفي على أحمد من أمره ما علمه غيره". (التقييد والإيضاح ص 139).
... ويوافق ذلك قول الذهبي: "مُعان ليس بعمدة ولا سيما أتى بواحد لا يُدْرى من هو". (ميزان الاعتدال 1/45).
وقال العراقي: "وقد رُويَ هذا الحديث متصلاً من رواية جماعة من الصحابة: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وجابر بن سمرة، وأبي أمامة. وكلها ضعيفة لا يثبت منها شئ وليس فيها شئ يُقَوي المرسل المذكور". (التقييد والإيضاح ص 139).(1/18)
ووجه الاستدلال:
أن الحديث إخبار بعدالة حملة هذا العلم من كل خَلَف.
4 ـ قول ابن حبان: ((إن العدل من لم يُعْرفْ فيه الجرح، إذ التجريح ضد التعديل، فمن لم يُجْرح فهو عدل حتى يتبيّن جرحه))(1).
ونحوه ما نقله الخطيب البغدادي بقوله: ((وزعم أهل العراق أن العدالة هي إظهار الإسلام وسلامة المسلم من فسق ظاهر، فمتى كانت هذه حاله وجب أن يكون عدلاً))(2).
وأدلة ذلك ما يلي:
أ ـ حديث ابن عباس قال: ((جاء أعرابي إلى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فقال: إني رأيت الهلال. قال: أتشهد أن لا إله إلّا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال أذِّنْ في الناس فليصوموا غداً))(3).
__________
(1) ... انظر: الثقات 1/13، ولسان الميزان 1/14.
(2) ... الكفاية في علم الرواية ص 141.
(3) ... مدار هذا الحديث على سِماك بن حرب عن عكرمة مولى ابن عباس.
قال الحافظ ابن حجر: "سِماك بن حرب... صدوق وروايته عن عكرمة –خاصة- مضطربة وقد تغيّر بأخرة فكان ربّما تلّقن". (تقريب التهذيب ص 255).
ورواة هذا الحديث عن سِماك. منهم من رواه موصولاً فقال: "عن سماك عن عكرمة عن
ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ..." ومنهم من رواه مرسلاً. فقال: "عن سماك عن عكرمة: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ...".
ومنهم من اخْتُلف عليه. فرُويَ من طريقه موصولاً وَرُويَ مرسلاً.
فرواته عن سِماك موصولاً ثلاثة هم:
1 ـ زائدة بن قُدامة (ثقة ثبت).
وقد أخرج روايته:
أ ـ أبو داود (السنن 2/302)، والترمذي (السنن 3/74)، والنسائي (السنن 4/132)، وابن أبي شيبة (المصنف 3/68)، والدارمي (السنن 1/337)، وابن الجارود (المنتقى ص 138)، وابن خزيمة (الصحيح 3/208)، والدارقطني (السنن 2/158)، والحاكم (المستدرك 1/424). ومن طريقه البيهقي (السنن الكبرى 4/211).
كلهم من طريق حسين الجُعْفي عن زائدة بن قُدامة عن سِماك...
ب ـ ابن ماجه (السنن 1/529)، وابن خزيمة (الصحيح 3/208)، والدارقطني (السنن 2/158).
كلهم من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة عن زائدة بن قُدامة عن سِماك...
2 ـ حازم بن إبراهيم البجلي. قال ابن عدي: "أرجو أنه لا بأس به" (الكامل 2/850).
وقد أخرج روايته:
أ ـ الدارقطني (السنن 2/157) من طريق أبي قتيبة عن حازم عن سِماك...
ب ـ الطبراني (المعجم الكبير 11/295) من طريق مسلم بن إبراهيم عن حازم عن سِماك...
3 ـ الوليد بن عبد الله بن أبي ثور (ضعيف).
وقد أخرج روايته:
أ ـ أبو داود (السنن 2/302) من طريق محمد بن بكّار بن الريان.
ب ـ الترمذي (السنن 3/74) من طريق محمد بن الصبّاح.
جـ ـ الدارقطني (السنن 2/158) من طريق عباد بن يعقوب.
ورواه عن سماك مرسلاً: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أخرجه ابن أبي شيبة (المصنف 3/67).
واخْتُلف على سفيان الثوري، وحماد بن سلمة في روايتيهما عن سماك.
فأما سفيان الثوري فرواه عنه عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس موصولاً راويان هما:
1 ـ الفضل بن موسى.
وقد أخرج روايته النسائي (السنن 4/131 ـ 132)، وابن الجارود (المنتقى ص 138)، والدارقطني (السنن 2/158)، والحاكم (المستدرك 1/424). ومن طريقه البيهقي (السنن الكبرى 4/212).
2 ـ أبو عاصم الضحاك بن مخلد:
وقد أخرج روايته الدارقطني (السنن 2/158)، والحاكم (المستدرك 1/424).
ورواه عن سفيان عن سماك عن عكرمة مرسلاً ستة رواة هم:
1 ـ شعبة بن الحجاج.
أخرج روايته الدارقطني (السنن 2/159).
2 ـ عبد الله بن المبارك.
أخرج روايته النسائي (السنن 4/132).
3 ـ أبو داود عمر بن سعد الحفري.
أخرج روايته النسائي (السنن 4/132).
4 ـ عبد الرزاق بن همام (المصنف 4/166).
5، 6 ـ عبد الرحمن بن مهدي، وأبو نعيم الفضل بن دكين.
ذكر الدارقطني روايتهما عنه بالإرسال (السنن 2/158) ولم أقف عليهما.
وأما حماد بن سلمة فقد رواه عنه موسى بن إسماعيل لكن اخْتُلِف عليه: فرواه عثمان بن سعيد الدارمي عن موسى عن حماد عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس موصولاً.
أخرج روايته الحاكم (المستدرك 1/424). ومن طريقه البيهقي (السنن الكبرى 4/212).
وخالفه أبو داود السجستاني فرواه عن موسى عن حماد بن سلمة عن عكرمة مرسلاً (السنن 2/302).
ومن طريقه أخرجه الدارقطني (السنن 2/159)، والبيهقي (السنن الكبرى 4/212).
وخلاصة ذلك ما يلي:
أ ـ أن الإرسال رواية إسرائيل بن يونس عن سماك، وهو أرجح الوجهين في رواية سفيان عن سماك.
حيث رواه عنه ستة من تلاميذه. وأحد الوجهين في رواية حماد بن سلمة.
ب ـ وأن الوصل رواية زائدة بن قدامة وحازم بن إبراهيم والوليد بن عبد الله بن أبي ثور عن سماك، وهو الوجه المرجوح في رواية سفيان، حيث رواه عنه اثنان وهو الوجه الآخر في رواية حماد بن سلمة.
وقد رجّح جانب الإرسال أئمة. منهم:
1 ـ الترمذي. فإنه أخرج الحديث عن سماك من طريق الوليد بن أبي ثور، وزائدة بن قدامة موصولاً.
ثم نصّ على الإرسال بقوله: "وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مرسلاً، وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مرسلاً". (السنن 3/75).
2 ـ النسائي. فقد أخرج رواية الفضل بن موسى عن سفيان عن سماك به موصولاً، ثم أخرج الحديث عن ابن المبارك عن سفيان عن سماك مرسلاً. وقال: "وهذا أولى بالصواب لأن سماكاً كان يُلَقّن فيتلقَّن وابن المبارك أثبت في سفيان من الفضل".
انظر: نصب الراية 2/443 ـ 444.(1/19)
ووجه الدلالة:
أن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قَبِلَ خبر الأعرابي من غير أن يختبر عدالته بشيء سوى ظاهر إسلامه(1).
ب ـ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عملوا بأخبار النساء والعبيد ومن تحمّل الحديث طفلاً وأدّاه بالغاً، واعتمدوا في العمل بالأخبار على ظاهر الإسلام(2).
جـ ـ أن الناس لم يُكَلَّفوا معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلِّفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المُغَيَّب عنهم(3).
والراجح مذهب الجمهور لأنه مقتضى الاحتياط للرواية، إذ المقصود توثيق الراوي لا التعريف به فقط.
ويمكن الجواب عن الأقوال الأخرى بما يلي:
أولاً: الأجوبة عن القول الثاني:
1 ـ قال الخطيب البغدادي: ((يجوز أن يكون العدل لا يعرف عدالة من روى عنه فلا تكون روايته عنه تعديلاً ولا خبراً عن صدقه، بل يروي عنه لأغراض يقصدها، كيف وقد وُجد جماعة من العدول الثقات رووا عن قوم أحاديث أمسكوا في بعضها عن ذكر أحوالهم مع علمهم بأنها غير مرضية وفي بعضها شهدوا عليهم بالكذب في الرواية وبفساد الآراء والمذاهب))(4).
2 ـ أن ما حكاه الذهبي عن الجمهور قد تَعَقَّبه عليه ابن حجر.
فقال: ((وهذا الذي نسبه للجمهور لم يُصَرِّحْ به أحد من أئمة النقد إلّا ابن حبان، نعم هو حقٌ في حقِّ من كان مشهوراً بطلب الحديث والانتساب إليه...))(5).
ثانياً: الأجوبة عن دليل القول الثالث:
1 ـ ضعف أسانيده(6).
2 ـ أنه على فرض ثبوته فهو خبر بمعنى (الأمر) ويدل على ذلك:
أ ـ ورود إحدى رواياته بلفظ ((ليحمل هذا العلم))(7) أي: أيها العدول احملوا هذا العلم.
__________
(1) ... انظر الكفاية في علم الرواية ص141.
(2) ... المصدر السابق ص 142.
(3) ... الثقات 1/13.
(4) ... الكفاية في علم الرواية ص 150.
(5) ... لسان الميزان -مخطوط- 3/1. وانظر: فتح المغيث 1/293.
(6) ... انظر: تخريج الحديث ص 37.
(7) ... هي رواية مبشر بن إسماعيل عن مُعان عن إبراهيم. انظر: ص 38، وفتح المغيث 1/295.(1/20)
ب ـ أنه لا يصح أن يكون خبراً على حقيقته لوجود من يحمل هذا العلم وهو غير عدل، ولهذا قال ابن عبد البر: ((حتى يَتَبَيَّنَ جرحه))(1).
3 ـ إذا اعتُبِرَ الحديثُ خبراً على ظاهره فيمكن حمله على الغالب فيمن يحمل هذا العلم لكونهم مظنة للعدالة(2).
ثالثاً: الأجوبة عن أدلة القول الرابع:
1 ـ يجاب عن حديث ابن عباس بما يلي:
أ ـ من جهة إسناده بأن الأئمة قد رجّحوا إرساله(3).
ب ـ ومن جهة الاستدلال به ـ على فرض ثبوته ـ باحتمال أن يكون خبر ذلك الأعرابي قد وقع قرب إسلامه وهو في ذلك الوقت طاهر من كل ذنب؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله(4).
2 ـ أجاب الخطيب عن القول باعتماد الصحابة في العمل بالأخبار على ظاهر الإسلام. فقال: (( هذا غير صحيح، ولا نعلم الصحابة قبلوا خبر أحد إلّا بعد اختبار حاله والعلم بسداده، واستقامة مذاهبه، وصلاح طرائقه، وهذه صفةُ جميعِ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهنّ من النسوة اللاتي روين عنه، وكلِّ مُتَحَمَّلٍ للحديث عنه صبيا ثم رواه كبيرا، وكلِّ عبدٍ قُبِلَ خبرُه في أحكام الدين ))(5).
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق 1/295.
... قال البقاعي: "قول ابن عبد البر: "حتى يتبين جرحهُ" عجيب مع استدلاله بالحديث، فإن الحديث لا يدل على ذلك إلّا إذا كان خبراً وإذا كان خبراً ثبت مضمونه فلم يقدح فيمن عدّله تجريحُ أحد كائناً من كان". النكت الوفية ص 197. وانظر: توضيح الأفكار 2/129.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/295.
(3) ... انظر: تخريج الحديث ص 42.
(4) ... حكى الخطيب هذا الاحتمال عن غيره. ويظهر لي أنه أقوى ما ذكره من الاحتمالات في الجواب عن الاستدلال بالحديث.
... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 141 ـ 142.
(5) ... المصدر السابق ص 142.(1/21)
ثم قال: (( يدلّ على صحة ما ذكرناه أن عمر بن الخطاب ردّ خبر فاطمة بنت قيس في إسقاط نفقتها وسكناها لمّا طلّقها زوجها ثلاثاً، مع ظهور إسلامها واستقامة أمرها ))(1).
3 ـ ويجاب عن كون التكليف يختص بظواهر الأحوال بأن مجهول العين ومجهول الحال لا يمكن الحكم عليهما بفسقٍ في جانب العدالة ولا بتغفيل في جانب الضبط حيث لم يظهر منهما ما يُوْجِبُ ذلك، لكنَّ كُلاًّ من هذين الأمرين محتمل فيهما فلا يدفع هذا الاحتمال عنهما سوى التوثيق الصريح.
وأما الإخراج للرواي في الصحيحين فإنه يُكْسِبُه توثيقاً ضمنياً في العدالة مطلقاً، وأما في الضبط فإنه يكتسبه أيضاً إن كان الإخراج له في الأصول مع مراعاة وجه الإخراج له، وإن كان الإخراج له في المتابعات والشواهد ونحوها فبحسب حاله.
وثمة مسألتان اختلف في حصول التوثيق بهما. وهما:
الأولى: إذا روى العدل عن رجل وسمّاه. فهل تعتبر روايته عنه تعديلاً منه له؟:
اختلف العلماء في ذلك على أقوال أشهرها:
1 ـ قول أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم: (( أنه لا تعتبر رواية العدل تعديلاً منه لمن روى عنه )).
وتعليل ذلك: (( أنه يجوز أن يروي العدل عن غير عدل فلا تتضمن روايته عنه تعديله ))(2).
2 ـ قول بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: (( أنه تعتبر رواية العدل تعديلاً منه لمن روى عنه )).
وتعليل ذلك: (( أن الرواية تتضمن التعديل(3) من جهة أن العدل لو عَلِمَ فيمن روى عنه جرحاً لذكره لئلا يكون غاشاً في الدين ))(4).
3 ـ القول الثالث: (( إن كان ذلك العدل قد عُلم أنه لا يروي إلّا عن ثقة، فروايته توثيق لمن روى عنه، وإلّا فلا تعتبر روايته توثيقاً ))(5).
__________
(1) ... الكفاية في علم الرواية ص 142.
(2) ... انظر: علوم الحديث ص 225.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 225.
(4) ... انظر: الكفاية ص 154، وفتح المغيث 1/312.
(5) ... انظر: اختصار علوم الحديث ص 80، وفتح المغيث 1/313.(1/22)
قال السخاوي: (( هذا هو الصحيح عند الأصوليين كالسيف الآمدي
وابن الحاجب وغيرهما، بل وذهب إليه جمع من المحدثين. وإليه مَيْلُ الشيخين،
وابن خزيمة في صحاحهم، والحاكم في مستدركه.... ))(1).
وقد نوقش القول الثاني بأمرين. هما:
أ ـ احتمال كون الراوي لا يعلم عدالة من روى عنه ولا جرحه(2).
ب ـ أن الرواية تعريف تزول به جهالة العين بشرطه، والعدالة إنما تعرف بالخِبْرة، والرواية لا تدل على الخِبْرة كما قاله أبو بكر الصيرفي(3).
وهذان الأمران لا يَرِدَان على القول الثالث؛ لأن الراوي قد عُرف بانتقاء شيوخه، ولذلك قَال الحافظ ابن حجر: (( من عُرِف من حاله أنه لا يروي إلّا عن ثقة، فإنه إذا روى عن رجلٍ وُصِف بكونه ثقة عنده، كمالك، وشعبة، والقطان، وابن مهدي وطائفة ممن بعدهم ))(4).
وقوله: (( وُصِف بكونه ثقة عنده )) لا يقتضي توثيق الراوي إلّا عند ذلك الإمام المعروف بانتقاء الشيوخ.
وهذه القاعدة غالبية، يستفاد منها في ترجيح جانب التوثيق في حق الراوي المختلف فيه جرحاً وتوثيقاً.
الثانية: إذا عمل العالم أو أفتى على وفق حديث. فهل يُعتبر ذلك تصحيحاً له وتعديلاً لراويه؟:
1 ـ قال الخطيب البغدادي: (( إذا عمل العالم بخبر من روى عنه لأجله فإن ذلك تعديل له يعتمد عليه ))(5).
وتعليله:
أ ـ لأنه لم يعمل بخبره إلّا وهو رضيّ عنده عدل، فقام عمله بخبره مقام قوله:
(( هو عدل مقبول الخبر )).
ب ـ أنه لو عمل العالم بخبر من ليس هو عنده عدلاً لم يكن عدلاً يجوز الأخذ بقوله والرجوع إلى تعديله؛ لأنه إذا احتملت أمانته أن يعمل بخبر من ليس بعدل عنده، احتملت أمانته أن يزكي ويُعَدِّل من ليس بعدل(6).
__________
(1) ... فتح المغيث 1/313.
(2) ... انظر: الكفاية ص 154.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/313.
(4) ... لسان الميزان 1/15. وما ذكره ابن حجر هنا مبني على الغالب. انظر: ص 81.
(5) ... الكفاية ص 155.
(6) ... انظر: الكفاية ص 155.(1/23)
2 ـ قال ابن الصلاح: (( ...عمل العالم أو فتياه على وَفْقِ حديثٍ ليس حكماً منه بصحة ذلك الحديث ))(1).
قال ابن كثير: (( وفي هذا نظر:
إذا لم يكن في الباب غير ذلك الحديث.
أو تعرض للاحتجاج به في فتياه أو حكمه.
أو استشهد به عند العمل بمقتضاه ))(2).
وقد نوقش كلام ابن كثير بما يلي:
أ ـ أنه لا يلزم من كون ذلك الباب ليس فيه غير هذا الحديث ألّا يكون ثَمَّ دليلٌ آخر من إجماع أو قياس، فلعل هناك دليلاً آخر وإنما استأنس العالم بالحديث لموافقته لذلك الدليل.
ب ـ ربما كان المفتي أو الحاكم ممن يرى العمل بالحديث الضعيف وتقديمه على القياس(3).
جـ ـ وربما كان عمل العالم بذلك الحديث احتياطاً منه(4).
ويظهر لي أنه لا تعارض بين قول الخطيب وقول ابن الصلاح؛ لأن الخطيب قد قيَّد كلامه بقوله: (( من روى عنه لأجله )).
فالحكم هنا خاص بحديث راو معين بخلاف كلام ابن الصلاح، حيث وافق العمل حديثاً ما.
وأما إذا كان عمل العالم مخالفاً للحديث الذي يرويه، فهل يعتبر ذلك قدحاً في صحته أو جرحاً في راويه؟
قال الخطيب البغدادي: (( إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حكماً من الأحكام فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ ))(5).
وكذلك قال ابن الصلاح: (( وهكذا نقول: إن عمل العالم أو فتياه على وَفْقِ حديثٍ ليس حكماً منه بصحة ذلك الحديث، وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحاً منه في صحته ولا في راويه ))(6).
وتعليل ذلك: احتمال أن يكون العالم قد ترك العمل بالخبر لما يلي:
1 ـ لخبر آخر يعارضه أو عمومٍ أو قياسٍ.
2 ـ أو لكونه منسوخاً عنده.
3 ـ أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه(7).
__________
(1) ... علوم الحديث ص 225.
(2) ... اختصار علوم الحديث ص 81.
(3) ... انظر: التقييد والإيضاح ص 144، وفتح المغيث 1/311.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/311.
(5) ... الكفاية ص 186.
(6) ... علوم الحديث ص 225.
(7) ... انظر: الكفاية ص 186، وفتح المغيث 1/312.(1/24)
قال الخطيب: (( وإذا احتمل ذلك لم نجعله قدحاً في راويه ))(1).
ما يعرف به ضبط الراوي:
يعرف ضبط الراوي بأمور. هي:
1 ـ مقارنة رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان.
فإن كانت روايته موافقة ـ ولو من حيث المعنى ـ لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، فهو ضابط ثبت.
وإن كانت روايته كثيرة المخالفة لرواياتهم، فهو مختل الضبط لا يحتج بحديثه(2).
لكن إذا كان للراوي أصل كتاب صحيح وقد التزم بالأداء منه دون الاعتماد على حفظه فقط قُبلت روايته.
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ : (( من كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم نقبل حديثه ))(3).
2 ـ امتحان الراوي(4) بأساليب متنوّعة. منها:
أ ـ أن تُقْرأ عليه أحاديث تُدْخَلُ ضمن رواياته ليُنْظرَ أيفطن لها أم يتلقّنها؟ كما فعل يحيى بن معين في امتحانه لأبي نعيم الفضل بن دُكَين(5).
ب ـ قلب الأسانيد بتركيبها على غير متونها، كما فعل محدثو بغداد في اختبارهم لحفظ البخاري(6).
والامتحان بمثل هذه الأساليب محل خلاف بين أهل العلم في جوازه ومنعه. فقد كان يحيى بن سعيد القطان يقول: (( لا أستحلّه ))(7).
وعُلل المنع من ذلك بأمرين هما:
أ ـ ما يترتب عليه من تغليط الممتحِن لمن يمتحنه فقد يستمر على روايته لظنه أنّه صواب.
ب ـ أنه قد يسمعه من لا خِبرة له فيرويه ظناً منه أنه صواب(8).
وكان شعبة بن الحجاج ويحيى بن معين يمتحنان بعض الرواة بقصد اختبار ضبطهم(9).
__________
(1) ... الكفاية ص 186.
(2) ... انظر: علوم الحديث ص 220.
(3) ... الرسالة ص 382 فقرة (1044). وانظر: فتح المغيث 1/298.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/299.
(5) ... انظر: تاريخ بغداد 12/353.
(6) ... انظر: المصدر السابق 2/20.
(7) ... فتح المغيث 1/272.
(8) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 2/866.
(9) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 2/866.(1/25)
وقد رجح الحافظ ابن حجر جواز الامتحان بأن مصلحته أكثر من مفسدته(1). لما فيها من معرفة مرتبة الراوي في الضبط بأسرع وقت لكن بشرط أن لا يستمر عليه بل ينتهي بانتهاء الحاجة(2).
شروط المعدّل والجارح:
يشترط في المعدل والجارح أربعة شروط. هي:
1 ـ أن يكون عدلاً.
2 ـ أن يكون وَرِعاً يمنعه الورع من التعصب والهوى.
3 ـ أن يكون يَقِظاً غير مغفّل لئلا يغتر بظاهر حال الراوي.
4 ـ أن يكون عارفاً بأسباب الجرح والتعديل لئلا يجرح عدلاً أو يعدّل من استحق الجرح(3).
قبول الجرح والتعديل مفسّرين أو مبهمين:
المراد بتفسير الجرح والتعديل بيان أسبابهما والمراد بإبهامهما(4) عدم بيان الأسباب.
وقد اختلف العلماء في اشتراط تفسير الجرح والتعديل على خمسة أقوال. هي:
1 ـ مذهب الجمهور:
يُقْبل التعديل مبهماً ولا يُقْبل الجرح إلّا مفسّراً(5).
وذلك لما يأتي:
أ ـ أن أسباب التعديل كثيرة جداً يثقل ذكرها، فلو كُلّف المعدِّلُ بذكرها، للزمه أن يقول: "يفعل كذا وكذا" عادّاً ما يجب على المعدَّلِ فعلُه، "ويترك كذا وكذا" عادّاً ما يجب على المعدَّلِ تركُه(6)، بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد(7).
__________
(1) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 2/866.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/274.
(3) ... انظر: الموقظة في علم مصطلح الحديث ص 82، ونزهة النظر ص 70، 72.
(4) ... قد تستعمل كلمة (مجمل) بدلاً من (مبهم). كما سيأتي في تفصيل ابن حجر في قبول الجرح ص 59.
(5) ... انظر: علوم الحديث ص 220، وفتح المغيث 1/299.
(6) ... انظر: المصدرين السابقين في المواضع المذكورة.
(7) ... انظر: فتح المغيث 1/299، وتدريب الراوي 1/305.(1/26)
ب ـ ولاختلاف الناس في مُوجِبِ الجرح، فربما أطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر(1) ولا سيما إذا كان الإمام متشدداً متعنّتاً يجرح الراوي بما لا يكون قدحاً عند غيره(2)، فبيان السبب مزيل لهذا الاحتمال ومظهر لكونه قادحاً أو غير قادح(3).
2 ـ القول الثاني:
يُقْبل الجرح مبهماً ولا يُقْبَلُ التعديل إلّا مفسراً(4).
وذلك لما يلي:
أ ـ أن الجرح إنما يؤخذ من إمام عارف بأسباب الجرح والتعديل(5).
ب ـ ولأن أسباب التعديل يكثر التَّصَنُّعُ فيها والتظاهر بها فربّما سارع المعدِّلُ إلى الثناء اغتراراً بظاهر الحال(6).
3 ـ القول الثالث:
لا يُقبلان إلّا مفسّرين.
وذلك لِما تقدم من تعليل اشتراط تفسيرهما لا سيما مع اختلاف الناس في مُوجِبِ التعديل، فقد يُوثِّق المعدِّلُ بما لا يقتضي العدالة(7).
4 ـ القول الرابع:
يُقبلان مبهمين(8).
وذلك لِما تقدم من تعليل قبولهما وإن كانا مبهمين.
5 ـ قول الحافظ ابن حجر:
قبول التعديل مبهماً، والتفصيل في قبول الجرح على النحو التالي:
__________
(1) ... انظر: علوم الحديث ص 220.
(2) ... من ذلك قول شعبة لما سئل لِمَ تركت حديث فلان؟: "رأيته يركض على بِرْذون فتركته". انظر: الكفاية في علم الرواية ص 182.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/299.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/301.
(5) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 178.
(6) ... من ذلك قول الإمام مالك لما سئل عن روايته عن عبد الكريم بن أبي المُخارق: "غَرَّني بكثرة جلوسه في المسجد". انظر: فتح المغيث 1/301.
(7) ... من ذلك ما رواه يعقوب بن سفيان. قال: "سمعت إنساناً يقول لأحمد بن يونس: "عبد الله العُمَري ضعيف". قال: إنما يُضَعِّفُه رافضي مبغض لآبائه، لو رأيت لحيته وخضابه وهيئته لعرفت أنه ثقة". المعرفة والتاريخ 2/665. وانظر: الكفاية في علم الرواية ص 165، وفتح المغيث 1/302.
(8) ... انظر: فتح المغيث 1/302.(1/27)
أ ـ إن كان مَنْ جُرِحَ مجملاً قد وثقه أحد من أئمة هذا الشأن لم يُقبل الجرح فيه من أحد كائناً من كان إلّا مفسراً؛ لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة فلا يزحزح عنها إلّا بأمر جلي(1).
وهذا مأخوذ من قول الإمام أحمد: (( كل رجل ثبتت عدالته لم يقبل فيه تجريح أحد حتى يبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه ))(2).
وذلك لأن أئمة هذا الشأن لا يوثقون إلّا من اعتبروا حاله في دينه ثم في حديثه ونقدوه كما ينبغي وهم أيقظ الناس، فلا ينتقض حكم أحدهم إلّا بأمر صريح(3).
ب ـ وإن كان مَنْ جُرِحَ جرحاً مبهماً قد خلا عن التعديل قُبِلَ فيه الجرح وإن كان مبهماً إذا صدر من إمام عارف.
وذلك لأن الراوي إذا لم يُعدَّلْ فهو في حَيِّزِ المجهول، فإعمالُ قول المجرِّح فيه أولى من إهماله(4)، وإنما لم يُطْلبْ من المجرِّح تفسير جرحه لأنه لو فسره فكان جرحاً غير قادح لمنعت جهالة حال الراوي من الاحتجاج به(5).
الضابط لطلب تفسير الجرح:
يرد الجرح ـ في كتب الجرح والتعديل ـ مبهماً في الغالب، ولا مناص من أخذ تلك الجروح المبهمة بالاعتبار لئلا يتعطّل النقد، ولكن يتأكد طلب تفسير الجرح حيث توجد قرينة داعية إليه. كما قال عبد الوهاب بن علي السبكي: (( لا نطلب التفسير من كل أحد، بل إنما نطلبه حيث يحتمل الحال شكّاً إما لاختلافٍ في الاجتهاد، أو لتهمةٍ يسيرة في الجارح، أو نحو ذلك مما لا يوجب سقوط قول الجارح ولا ينتهي إلى الاعتبار به على الإطلاق، بل يكون بَيْنَ بَيْنَ.
__________
(1) ... تدريب الراوي 1/308.
(2) ... تهذيب التهذيب 7/273.
(3) ... تدريب الراوي 1/308.
(4) ... انظر: نزهة النظر ص 73، وتدريب الراوي 1/308.
(5) ... انظر: لسان الميزان 1/16.(1/28)
أما إذا انتفت الظنون وانتفت التُّهمُ، وكان الجارح حَبْراً من أحبار الأمة، مبرأً عن مظان التهمة، أو كان المجروح مشهوراً بالضعف متروكاً بين النقاد، فلا نتلعثم عند جرحه ولا نُحْوِجُ الجارح إلى تفسير، بل طلب التفسير منه ـ والحالة هذه ـ طلبٌ لغيبة لا حاجة إليها... ))(1).
جواب ابن الصلاح عما تضمّنته كتب الجرح والتعديل من الجروح المبهمة:
قال ابن الصلاح: (( ولقائل أن يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة وردّ حديثهم على الكتب التي صنّفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل، وقلّما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء... ونحو ذلك، أو هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت... ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسدّ باب الجرح في الأغلب الأكثر.
قال: وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يُوجِبُ مثلُها التوّقف، ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسّهم مثل هذا الجرح من غيرهم ))(2).
وقد نوقش هذا الجواب بما يلي:
1 ـ قول الحافظ ابن كثير: (( أما كلام هؤلاء الآئمة المنتصبين لهذا الشأن فينبغي أن يؤخذ مسلَّماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإِنصاف والديانة والخبرة والنصح؛ لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل أو كونه متروكاً، أو كذاباً... أو نحو ذلك. فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم لصدقهم وأمانتهم ونصحهم.
__________
(1) ... طبقات الشافعية الكبرى 2/21 ـ 22، وقاعدة في الجرح والتعديل ص 52.
(2) ... علوم الحديث ص 222.(1/29)
ولهذا يقول الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث: "لا يثبته أهل العلم بالحديث". ويردّه ولا يحتج به بمجرد ذلك ))(1).
2 ـ قول الحافظ ابن حجر: (( إن خلا المجروح عن التعديل قُبِلَ الجرح فيه مجملاً غير مبين السبب إذا صدر من عارف ))(2).
وبذلك ينحصر احتمال زوال الريبة في حق من وثَّقه أئمة وضعفّه آخرون دون من اتفقوا على تضعيفه أو خلا عن التعديل مع وجود الجرح فيه.
الفصل الثاني
تعارض الجرح والتعديل
تعارض الجرح والتعديل
لتعارض الجرح والتعديل صورتان. هما:
1 ـ أن يكون تعارضهما بصدورهما من إمامين فأكثر.
2 ـ أن يتعارضا وقد صدرا من إمام واحد.
والمراد بالجرح هنا: الجرح المفسّر.
فإذا تعارض الجرح المفسّر مع التعديل بصدورهما من إمامين فأكثر فمذهب الجمهور تقديم الجرح(3) على التعديل مطلقاً(4)، سواء زاد عدد المُعدِّلين على عدد المُجرِّحين أو نقص عنه أو استويا(5).
__________
(1) ... اختصار علوم الحديث ص 79.
(2) ... نزهة النظر ص 73.
(3) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 175 و177، وعلوم الحديث ص 224.
(4) ... استثنى الفقهاء من ذلك حالتين يُقدّم فيهما التعديل على الجرح المفسّر وهما:
... أ ـ إذا قال المعدِّل: (عرفت السبب الذي ذكره الجارح في الراوي ولكنه تاب منه وحسنت حاله
-على خلافٍ في التائب من الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ).
... ب ـ إذا نفى المعدِّلُ كلامَ الجارح بطريق معتبر يدل يقيناً على بطلان سبب الجرح وكون الجارح واهماً فيما قاله. كما لو قال الجارح: (إن فلاناً قتل فلاناً يوم كذا، فقال المعدِّلُ: أنا رأيته حيا بعد ذلك اليوم). انظر: محاسن الاصطلاح ص 224، وفتح المغيث 1/307، وتدريب الراوي 1/310.
(5) ... انظر: فتح المغيث 1/305.(1/30)
وذلك لأن مع الجارح زيادةَ علمٍ بخفي حال الراوي لم يطَّلعْ عليها المعدِّلُ فالجارح مصدِّقٌ للمعدِّل في الحال الظاهرة ومبيّن لحال الراوي الخفية(1).
وثمة ثلاثة أقوال أخرى فيما إذا زاد عدد المعدِّلين على عدد الجارحين هي:
1 ـ ما حكاه الخطيب البغدادي عن طائفة من أهل العلم: ((يُقدّم التعديل على الجرح))(2).
وذلك لأن كثرة المعدِّلين تقوي حالهم وتوجب العمل بخبرهم إذ الكثرة تفيد غلبة الظن بثبوت ذلك الحكم، وقلة الجارحين تُضَعِّف خبرهم(3).
2 ـ ما حكاه البلقيني: ((يُقدّم قولُ الأحفظ من الأئمة المختلفين))(4).
ويمكن توجيهه بأن الأئمة ليسوا على درجة واحدة من الاطلاع على أحوال الرواة عامّة، بل منهم من تكلّم في أكثر الرواة، كابن معين، وأبي حاتم، ومنهم من تكلّم في كثير من الرواة، كالإمام مالك، وشعبة بن الحجاج، ومنهم من تكلّم في الرجل بعد الرجل، كسفيان بن عيينة، والإمام الشافعي(5).
وقد يكون فيهم من هو أكثر معرفة بحال ذلك الراوي بخصوصه.
3 ـ ما حكاه السخاوي عن ابن الحاجب: ((أنهما يتعارضان فلا يقدّم أحدهما على الآخر إلّا بمرجح))(6).
وذلك لأن مع المعدِّل زيادةَ قوةٍ بالكثرة ومع الجارح زيادة قوة بالاطلاع على الباطن(7).
والراجح: أن الأصل تقديم الجرح المفسر على التعديل، لكن ذلك ليس على إطلاقه، بل هو مقيَّد بضوابط الجرح والتعديل -كما سيأتي بعون الله تعالى-.
__________
(1) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 175، وعلوم الحديث ص 224.
(2) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 177.
(3) ... انظر: الكفاية في علم الرواية ص 177، وفتح المغيث 1/307.
(4) ... انظر: محاسن الاصطلاح ص 224.
(5) ... انظر: ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 158.
(6) ... فتح المغيث 1/308. ونص عبارة ابن الحاجب: "أما لو عَيَّنَ السبب ونفاه المعدِّل بطريق يقيني فيتعارضان فالترجيح". منتهى السؤل والأمل ص 80.
(7) ... انظر: فتح المغيث 1/308.(1/31)
وأمّا إذا تعارض الجرح المبهم مع التعديل فقد حكى السخاوي عن أبي الحجاج المزّي وغيره: ((أن التعديل مُقدّم على الجرح المبهم))(1) لكن ليس ذلك على إطلاقه أيضاً فإن توثيق الإمام المتساهل لا يُقدّم على جرح الإمام المعتدل.
وأما إذا تعارض الجرح والتعديل الصادران من إمام واحد، فلذلك حالتان. هما:
الحالة الأولى:
أن يتبين تغيرُ اجتهاد الإمام في الحكم على ذلك الراوي، فالعمل حينئذ على المتأخر من قوليه.
ومن ذلك قول عباس الدُّوري في ترجمة ثواب بن عتبة: ((سمعت يحيى يقول: "شيخ صدق" فإن كُنْتُ كتبتُ عن أبي زكريا (يحيى بن معين) فيه شيئاً، أنه ضعيف، فقد رجع أبو زكريا وهذا هو القول الأخير من قوله))(2).
والحالة الثانية:
أن لا يتبين تغيُّرُ اجتهاد الإمام في حكمه على الراوي، فالعمل على الترتيب التالي:
أ ـ يُطْلبُ الجمع بين القولين إن أمكن، كأن يكون التوثيق أو التضعيف نِسْبياً لا مطلقاً، فإن المعدِّل قد يقول: (فلان ثقة) ولا يريد به أنه ممن يُحْتجُّ بحديثه وإنما ذلك على حسب ما هو فيه ووجه السؤال له، فقد يُسألُ عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه فيُقْرَنُ بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان وفلان وفلان؟. فيقول: (فلان ثقة) يريد أنه ليس من نمط من قُرنَ به(3)، وقد يُقْرنُ بأوثقَ منه فيقول: (فلان ضعيف) أي بالنسبة لمن قُرِنَ به في السؤال، فإذا سئل عنه بمفرده بيَّن حاله في التوسط.
فقد سأل عثمان الدارمي يحيى بن معين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه. فقال: ((ليس به بأس. قال: قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقْبُري؟ فقال: سعيد أوثق والعلاء ضعيف))(4).
فتضعيف ابن معين للعلاء إنما هو بالنسبة لسعيد المقْبُري وليس تضعيفاً مطلقاً(5).
__________
(1) ... انظر: فتح المغيث 1/307.
(2) ... التاريخ 4/272.
(3) ... انظر: لسان الميزان 1/17.
(4) ... تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي عن أبي زكريا يحيى بن معين ص 173 ـ 174.
(5) ... انظر: فتح المغيث 1/377.(1/32)
ب ـ إذا لم يمكن الجمع، طُلِب الترجيح بين القولين بالقرائن، كأن يكون بعضُ تلاميذ الإِمام أكثر ملازمة له من بعض، فتقدَّم روايةُ الملازم على رواية غيره، كما هو الشأن في تقديم رواية عباس الدُّوري عن ابن معين لطول ملازمته له(1).
جـ ـ إذا لم توجد قرينة خاصة يرجّح بها فيؤخذ بأقرب القولين إلى أقوال أهل النقد وبالأخص أقوال الأئمة المعتدلين.
د ـ إذا لم يتيسّر ذلك كله فالتوقف حتى يظهر مرجّح.
من ضوابط تعارض الجرح والتعديل:
الأصل المعتبر عند تعارض الجرح والتعديل تقديم الجرح المفسر على التعديل، وتقديم التعديل على الجرح المبهم، ولكن هذا الأصل تقيّده ضوابط متعددة توجد في ثنايا كلام الأئمة عند الموازنة بين الآراء المختلفة في توثيق الراوي وتضعيفه.
ومن أهم تلك الضوابط ما يلي:
1 ـ اعتبار مناهج الأئمة في جرحهم وتعديلهم(2) فإنهم على ثلاثة أقسام(3). هي:
أ ـ من هو متعنِّتٌ في الجرح متثبِّتٌ في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويُلَيِّنُ بذلك حديثه. ومن هؤلاء: شعبة بن الحجاج (ت 160هـ)، ويحيى ابن سعيد القطان (ت 198هـ)، ويحيى بن معين (ت 233هـ)، وأبو حاتم الرازي (ت 277هـ) ، والنسائي (ت303هـ)(4).
__________
(1) ... ومن قرائن الترجيح أيضاً: كثرة الناقلين لأحد القولين عن الإمام، وكون أحد القولين أصح إسناداً إلى ذلك الإمام من القول الآخر.
(2) ... تُعرف مناهج الأئمة بطريقين:
1- ... نص الأئمة ذوي التتبع والاستقراء -كالذهبي وابن حجر- على ذلك.
2- ... الدراسات المعاصرة لجهود الأئمة ومناهجهم في الجرح والتعديل.
(3) ... انظر: ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 158 ـ 159، 167، والموقظة ص 83، والنكت على كتاب ابن الصلاح 1/482، والمتكلمون في الرجال ص 132.
(4) ... من النقاد من اشتهر بالتعنّت في جرح أهل بلد معين. ومن أولئك:
أ ـ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (ت 259هـ) في جرحه لأهل الكوفة.
ب ـ عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش البغدادي (ت283هـ) في جرحه لأهل الشام.
انظر: لسان الميزان 1/16.(1/33)
ب ـ من هو معتدل في التوثيق منصف في الجرح. ومنهم: سفيان الثوري (ت 161هـ)، وعبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ)، وابن سعد (ت 230هـ)، وابن المديني (ت 234هـ)، والإمام أحمد (ت 241هـ)، والبخاري (ت256هـ)، وأبو زرعة الرازي (ت 264هـ)، وأبو داود (ت 275هـ)، وابن عدي (ت 365هـ)، والدارقطني (ت 385هـ).
جـ ـ من هو متساهل مثل:
أبي الحسن أحمد بن عبد الله العجلي(1) (ت261هـ)، وأبي عيسى الترمذي
(ت 279هـ)، وابن حبان(2) (ت354هـ) والدارقطني (ت 385هـ) في بعض الأوقات(2)،
__________
(1) ، (2) قال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي: "توثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان أو أوسع". الأنوار الكاشفة ص 72.
وتساهل ابن حبان يرجع إلى قاعدته المتقدمة ص 42: "العدل من لم يُعْرفْ فيه الجرح"، فإنها تقتضي توثيق كثير من مجهولي الحال عند غيره. انظر: لسان الميزان 1/14.
ويوضح كلام المعلمي بشأن توثيق العجلي قول عبد العليم البستوي: "...تبيّن لي بعد دراسة تراجم كثير من الرواة أن الإمام العجلي كثيراً ما يتفق مع ابن حبان في توثيق أناس ذكرهم أبو حاتم وغيره في المجاهيل أو سكتوا عليهم، ويجزم العجلي بتوثيقهم ولكنه ـ أي العجلي ـ يختلف عن ابن حبان في أن ابن حبان يتشدد أو يتعنّت في الجرح بخلاف العجلي، فإنه يتسامح مع الضعفاء أيضاً، فيعطيهم مرتبة أعلى مما هم فيه عند النقاد الآخرين.
ويظهر تساهل العجلي في الأمور التالية:
أولاً: إطلاق (ثقة) على الصدوق فمن دونه.
ثانياً: إطلاق (لا بأس به) على من هو ضعيف.
ثالثاً: إطلاق (ضعيف) على من هو ضعيف جداً أو متروك.
رابعاً: توثيق مجهولي الحال ومن لم يرو عنه إلّا راو واحد. تحقيق كتاب معرفة الثقات 1/125 ـ 127.
(2) ... ذكر هذا القيد الحافظ الذهبي. انظر: الموقظة ص 83.
... ومما يوضح ذلك ما نقله السخاوي من قول الدارقطني: "من روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته وثبتت عدالته". فتح المغيث 1/320.(1/34)
وأبي عبد الله الحاكم (ت 405هـ)، وأبي بكر البيهقي (ت 458هـ).
وفائدة هذا التقسيم: النظر في أقوال الأئمة عند إرادة الحكم على الراوي.
فإذا جاء التوثيق من المتشددين، فإنه يُعضُّ عليه بالنواجذ لشدة تثبُتِهم في التوثيق إلّا إذا خالف الإجماع على تضعيف الراوي أو كان الجرح مفسّرا بما يجرح فإنه يقدم على التوثيق، ولكن إذا جرَّحوا أحداً من الرواة، فإنه يُنظر هل وافقهم أحد على ذلك؟.
فإن وافقهم أحد على ذلك التضعيف ولم يُوثِّق ذلك الراوي أحدٌ من الحُذَّاق فهو ضعيف، وإن لم يوافقهم أحد على التضعيف، فإنه لا يؤخذ بقولهم على إطلاقه، ولكن لا يطرح مطلقاً، بل إن عارضه توثيق من معتبر فلا يقبل ذلك الجرح إلّا مفسّراً.
فإذا قال ابن معين في راوٍ: "إنه ضعيف" فلا يكفي أن يقول ذلك دون بيانٍ لسبب تضعيفه وغيرهُ قد وثّقه، بل مثل هذا الراوي يُتوقَّف في تصحيح حديثه وهو إلى الحسن أقرب. كما قاله الحافظ الذهبي(1).
وإذا جاء التوثيق من المتساهلين فإنه يُنظر. هل وافقهم أحد من الأئمة الآخرين على ذلك؟.
فإن وافقهم أحد أُخِذَ بقولهم، وإن انفرد أحدهم بذلك التوثيق فإنه لا يُسلَّم له فإن من عادة ابن حبان توثيق المجاهيل(2).
وأما الجرح فليسوا فيه على منهج واحد، بل منهم من يتساهل مع الضعفاء أيضاً كالعجلي(3).
ومنهم من يتعنّت أحياناً كابن حبان. ولذلك يتعقّبه الذهبي على التعنت في مواضع كثيرة(4).
__________
(1) ... انظر: ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 158 ـ 159.
(2) ... توثيق ابن حبَّان على خمس مراتب. سيأتي ذكرها ص 112.
(3) ... انظر ص 70.
(4) ... من تعقبات الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) لجرح ابن حبان ما يلي:
أ ـ قوله في ترجمة أفلح بن سعيد المدني: "ابن حبان رُبَّما قَصَّبَ الثقة حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه" 1/274.
ب ـ وقوله في ترجمة سعيد بن عبد الرحمن الجُمحِي: "وأما ابن حبان فإنه خَسَّاف قصّاب". 2/148.
جـ ـ وقوله في ترجمة سويد بن عمرو الكلبي: "وأما ابن حبان فأسرف واجترأ" 2/253.(1/35)
وأما المعتدلون المنصفون. فإنه يُعتمد على أقوالهم في الحكم على الرواة جرحاً وتعديلاً ما لم يُعارض توثيقهم بجرح مفسّر خال من التعنّت والتشدد فإنه يقدم على التوثيق.
2 ـ كل طبقة من طبقات نقّاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط: فمن الأولى: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وشعبة أشدّهما.
ومن الثانية: يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى أشد من عبد الرحمن.
ومن الثالثة : يحيى بن معين، والإمام أحمد، ويحيى أشد من أحمد.
ومن الرابعة: أبو حاتم الرازي، والبخاري، وأبو حاتم أشد من البخاري(1).
والفائدة من معرفة ذلك، طلب المقارنة بين أقوال النقّاد من الطبقة الواحدة في حكمها على الراوي.
قال الحافظ الذهبي: ((عبد الرحمن بن مهدي كان هو ويحيى القطان قد انتدبا لنقد الرجال، وناهيك بهما جلالة ونُبْلاً وعلماً وفضلاً، فمن جرحاه لا يكاد ـ والله ـ ينْدمِلُ جرحه، ومن وثّقاه فهو الحجّة المقبول، ومن اختلفا فيه اجْتُهد في أمره ونزل عن درجة الصحيح إلى الحسن...))(2).
3 ـ يُتوقف في قبول الجرح إذا خُشِيَ أن يكون باعثه الاختلاف في الاعتقاد أو المنافسة بين الأقران.
قال الحافظ ابن حجر: ((وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد فإن الحاذق إذا تأمل ثلْب
أبي إسحاق الجوزجاني(3)
__________
(1) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 1/482.
(2) ... ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 167.
(3) ... قال ابن حبان: "كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية إليه، وكان صلباً في السُّنَّة، حافظاً للحديث، إلّا أنه من صلابته، رُبَّما كان يتعدى طوره" الثقات 8/81-82.
وهذا يُفَسِّرُ شدّة ألفاظه على كل من نُسِبَ إلى بدعة، وأن ذلك ليس خاصاً بالكوفيين المتشيعين. انظر كلامه في أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي الإمام أبي حنيفة -رحمهم الله تعالى- في كتابه أحوال الرجال.(1/36)
لأهل الكوفة رأى العجب وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيّع، فتراه لا يتوقّف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلقة(1) حتى أنه أخذ يُليِّنُ مثل الأعمش، وأبي نعيم، وعبيد الله بن موسى، وأساطين الحديث وأركان الرواية.
فهذا إذا عارضه مثلُه أو أكبرُ منه فوثّق رجلاً ضعّفه قُبل التوثيق.
ويلتحق به عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش المحدث الحافظ، فإنه من غلاة الشيعة، بل نُسب إلى الرفض، فيُتأنَّى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد.
ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب، فكثيراً ما يقع بين العصريين الاختلاف والتباين(2) لهذا وغيره، فكل هذا ينبغي أن يُتأنَّى فيه ويُتأمَّل...))(3).
وقد قال الحافظ الذهبي: ((... كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يُطوى ولا يُرْوى ويُطرح ولا يجعل طعناً ويعامل الرجل بالعدل والقسط))(4).
ونظير ذلك في التوثيق ما ذكره الحافظ الذهبي أيضاً، أنه ((قد يكون نفسُ الإمام فيما وافق مذهبه أو في حال شيخه ألطف منه فيما كان بخلاف ذلك))(5).
4 ـ لا يقبل الجرح في حق من استفاضت عدالته واشتهرت إمامته، ولذلك لا يُلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في الإِمام مالك، ولا إلى كلام النسائي في أحمد
__________
(1) ... من عبارات الجوزجاني (زائغ ساقط) و(مفتر) و(زائغ عن الحق).
انظر: أحوال الرجال ص 51، 52، 62.
(2) ... علل ابن الصلاح لصدور الجرح بين بعض الأقران من الأئمة بأن عين السخط تُبْدِي مساوي لها في الباطن مخارج صحيحة تَعْمَى عنها بحجاب السخط لا أن ذلك يقع من الإمام تَعَمُّداً لقدح يعلم بطلانه.
علوم الحديث ص 591.
(3) ... لسان الميزان 1/16.
(4) ... ذكر أسماء من تُكُلِّمَ فيه وهو مُوَثَّق ص 46.
(5) ... الموقظة ص 84.(1/37)
ابن صالح المصري، لأن هؤلاء أئمة مشهورون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صحّ لتوفرت الدواعي على نقله(1).
وقد صحّ عن ابن معين أنه يتكلم في الإِمام الشافعي، ولذلك قال الحافظ الذهبي: ((قد آذى ابن معين نفسه بذلك ولم يلتفت الناس إلى كلامه في الشافعي ولا إلى كلامه في جماعة من الأثبات، كما لم يلتفتوا إلى توثيقه لبعض الناس، فإنَّا نقبل قوله دائماً في الجرح والتعديل ونُقدِّمُه على كثير من الحفّاظ ما لم يخالف الجمهور في اجتهاده، فإذا انفرد بتوثيق من ليَّنه الجمهور، أو بتضعيف من وثَّقه الجمهور وقَبِلُوه فالحكم لعموم أقوال الأئمة لا لمن شذّ...))(2).
وفي مقابل ذلك لا يؤخذ بتوثيق إمامٍ لراوٍ اتفق الأئمة على تركه ولذلك أعرضوا عن توثيق الإِمام الشافعي لإِبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي مولاهم(3).
5 ـ لا عبرة بجرح لم يصح إسناده إلى الإِمام المحكي عنه.
قال الحافظ ابن حجر: ((ونقل ابن الجوزي من طريق الكُديْمي(4) عن
ابن المديني عن القطان أنه قال: "أنا لا أروي عنه" -يعني أبان بن يزيد العطار- وهذا مردود لأن الكُديْمي ضعيف))(5).
ومما يؤكد اعتبار ذلك فيما يُنسبُ إلى الأئمة من الأقوال، رسمُ الحافظ
أبي الحجاج المزِّي لمنهجه في مقدمة كتابه (تهذيب الكمال) حيث قال: ((ولم نذكر إسناد كل قول من ذلك فيما بيننا وبين قائله خوف التطويل، وقد ذكرنا من ذلك الشيء بعد الشيء لئلا يخلو الكتاب من الإِسناد على عادة من تقدّمنا من الأئمة في ذلك.
__________
(1) ... انظر: طبقات الشافعية الكبرى 2/12، وقاعدة في الجرح والتعديل ص 24 ـ 28.
(2) ... انظر: ذكر أسماء من تُكُلِّمَ فيه وهو مُوَثَّق ص 49.
(3) ... انظر: ميزان الاعتدال 1/57.
(4) ... هو محمد بن يونس بن موسى. انظر: تهذيب التهذيب 9/539، وتقريب التهذيب ص 515.
(5) ... هدى الساري ص 387.(1/38)
وما لم نذكر إسناده فيما بيننا وبين قائله فما كان من ذلك بصيغة الجزم فهو مما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكي ذلك عنه بأساً.
وما كان منه بصيغة التمريض فرُبَّما كان في إسناده إلى قائله ذلك نظر...))(1).
ونظير ما تقدم أن لا يُقبل توثيق لم يصح إسناده إلى الإمام المحكي عنه، ومن ذلك ما رواه علي بن عبد العزيز البغوي عن سليمان بن أحمد قال: سمعت
عبد الرحمن بن مهدي يقول: «ما رأيت شامياً أثبت من فرج بن فضالة».
قال الحافظ ابن حجر: ((لا يغترّ أحد بالحكاية المروية في توثيقه عن ابن مهدي؛ فإنها من رواية سليمان بن أحمد ـ وهو الواسطي ـ وهو كذاب))(2).
6 ـ لا يُلتفت إلى الجرح الصادر من المجروح إلّا إذا كان الجارح إماماً له عناية بهذا الشأن وقد خلا الراوي المجروح عن التوثيق ولم تظهر قرينة تدل على تحامل الجارح في جرحه.
فمن المردود لمعارضته بتوثيق:
أ ـ قول أبي الفتح الأزدي في أحمد بن شبيب الحَبطي: ((منكر الحديث غير مرضي)).
قال الحافظ ابن حجر: ((لم يلتفت أحد إلى هذا القول بل الأزدي غير مرضي))(3).
وقال في موضع آخر: ((لا عبرة بقول الأزدي لأنه هو ضعيف. فكيف يُعتمد في تضعيف الثقات؟))(4).
ب ـ قول عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش في عمرو بن سليم الزرقي: ((ثقة في حديثه اختلاط)).
قال ابن حجر: ((ابن خِراش مذكور بالرفض والبدعة فلا يلتفت إليه))(5).
ومن أمثلة اعتماد الحافظ ابن حجر للجرح الصادر من الأزدي لعدم توثيق الراوي مايلي:
أ ـ قول الأزدي في إبراهيم بن مهدي بن عبد الرحمن الأُ بُلّي: ((يضع الحديث، مشهور بذاك، لا ينبغي أن يُخرج عنه حديث ولا ذِكْر))(6).
قال ابن حجر: ((كذّبوه))(7).
__________
(1) ... تهذيب الكمال 1/153.
(2) ... تهذيب التهذيب 8/262.
(3) ... المصدر السابق 1/36.
(4) ... هدي الساري ص 386.
(5) ... هدي الساري ص 431.
(6) ... تاريخ بغداد 6/179، وانظر: تهذيب التهذيب 1/170.
(7) ... تقريب التهذيب ص 94.(1/39)
ب ـ قوله في إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة: ((مجهول، ضعّفه الأزدي))(1).
7 ـ لا يلتفت إلى جرح يغلب على الظن أن مصدره ضعيف.
ومن ذلك أن عبد الرحمن بن شريح المعافري ثقة اتفاقاً، لكن شذّ ابن سعد فقال: ((منكر الحديث)).
قال الحافظ ابن حجر: ((لم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا فإن مادته من الواقدي في الغالب، والواقدي ليس بمعتمد))(2).
ويمكن أن يُعْرف مصدر حكم ابن سعد على الراوي من خلال نُقُوله عن المتقدمين في الترجمة، حيث يتبيّن بذلك مأخذُ حكمه على الرواة غير المعاصرين له، وإلّا فقد قال الحافظ الذهبي: ((تكلم محمد بن سعد الحافظ في كتاب (الطبقات) له بكلام جيد مقبول))(3).
لكن إذا تكلّم ابن سعد في راوٍ من أهل العراق وظهر أن مصدر كلامه نقل الواقدي، تعيّن حينئذ التثبّت الشديد، فقد قال الحافظ ابن حجر: ((ابن سعد يقلد الواقدي، والواقدي على طريقة أهل المدينة في الانحراف على أهل العراق))(4).
8 ـ يُتأنى في الأخذ بجرح الإِمام المتأخر إذا عارض توثيق الأئمة المتقدمين حتى يتبين وجهه بما يجرح الراوي مطلقاً(5).
ومن ذلك أن أبان بن صالح القرشي مولاهم قد وثّقه ابن معين(6) والعجلي(7)، ويعقوب بن شيبة(8)، وأبو زرعة(9)، وأبو حاتم(10)، وقال فيه النسائي: ((ليس به بأس))(11).
__________
(1) ... المصدر السابق ص 87. وانظر: تهذيب التهذيب 1/105.
(2) ... هدي الساري ص 417.
(3) ... ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل ص 172.
(4) ... هدي الساري ص 443.
(5) ... إذا ورد الجرح مبهماً لم يقبل، وإن ورد مفسّراً بما يقتضي تضعيف الراوي في رواية معينة اختص بتلك الرواية.
(6) ... انظر: تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي ص 72.
(7) ... انظر: معرفة الثقات 1/198.
(8) ... انظر: تهذيب الكمال 2/11.
(9) ... انظر: الجرح والتعديل 2/297.
(10) ... انظر: المصدر السابق 2/297.
(11) ... انظر: تهذيب الكمال 2/11.(1/40)
وقال ابن عبد البر: ((ضعيف))(1). وقال ابن حزم: ((ليس بالمشهور))(2).
قال الحافظ ابن حجر: ((وهذه غفلة منهما وخطأ تواردا عليه، فلم يُضعّف أباناً هذا أحدٌ قبلهما ويكفي فيه قول ابن معين ومن تقدّم معه))(3).
9 ـ قد يقع الجرح بسبب الخطأ في النَّسخ من الكتب.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة بشر بن شعيب بن أبي حمزة الحمصي: ((صدوق، أخطأ ابن حبان بذكره في الضعفاء))(4).
وعمدته أن البخاري قال: ((تركناه))، كذا نقل فوَهِم على البخاري إنما قال البخاري: ((تركناه حيّاً سنة اثنتي عشرة ومائتين))(5).
وقال الحافظ ابن حجر: ((وقال ابن حبان في كتاب الثقات(6): "كان مُتْقناً" ثم غفل غفلة شديدة فذكره في الضعفاء، وروى عن البخاري أنه قال: "تركناه" وهذا خطأ من ابن حبان نشأ عن حذف، وذلك أن البخاري إنما قال في تاريخه: "تركناه حيّاً سنة اثنتي عشرة" -يعني ومائتين-، فسقط من نسخة ابن حبان لفظة: (حيّاً) فتغير المعنى))(7).
10 ـ قال الحافظ ابن حجر: ((مَنْ عُرف من حاله أنه لا يروي إلّا عن ثقة فإنه إذا روى عن رجل وُصِفَ بأنه ثقة عنده، كمالك وشعبة والقطان
وابن مهدي...))(8)، والإِمام أحمد، وبقي بن مخلد، وحريز بن عثمان(9) وسليمان
ابن حرب، والشعبي(10).
__________
(1) ... انظر: التمهيد 1/312.
(2) ... انظر: المحلّى 1/198. وقال في 7/137: (ليس بالقوي).
(3) ... تهذيب التهذيب 1/95.
(4) ... لم أجد ترجمة بشر بن شعيب في النسخة المطبوعة من كتاب المجروحين.
(5) ... ميزان الاعتدال 1/318. وانظر: التاريخ الكبير 2/76، وفي نسخته المخطوطة من مكتبة كوبريلي: (قال أبو عبد الله: ومات بعدنا).
(6) ... انظر: الثقات 8/141.
(7) ... هدي الساري ص 393.
(8) ... لسان الميزان 1/15.
(9) ... قال الحافظ الذهبي: "أبو خداش حِبّان بن زيد الشرعبي الحمصي، ما علمتُ روى عنه سوى حريز، وشيوخه قد وُثّقوا مطلقاً". سير أعلام النبلاء 14/87.
(10) ... انظر: فتح المغيث 1/314.(1/41)
وما ذكره رحمه الله مبني على الغالب(1) فيمن روى عنهم هؤلاء وأمثالهم وإلّا فقد روى شعبة عن جابر الجعفي، وإبراهيم الهجري، ومحمد بن عبيدالله العرزمي وغير واحد ممن يضعّف في الحديث(2)، كما روى الإِمام مالك عن عبد الكريم
ابن أبي المخارق وهو ضعيف.
11 ـ الرواة الذين أخرج لهم الشيخان أو أحدهما على قسمين:
أحدهما: من احتجَّا به في الأصول.
والثاني: من خرّجا له متابعة واستشهادا واعتبارا.
فالقسم الأول: الذين أخرجا لهم على سبيل الاحتجاج على قسمين:
1 ـ من لم يُتكلم فيه بجرح فذاك ثقة حديثه قوي وإن لم ينصّ أحد على توثيقه، حيث اكتسب التوثيق الضمني من إخراج الشيخين أو أحدهما له على وجه الاحتجاج، وهما قد التزما بالصحة وشرط راوي الصحيح العدالة وتمام الضبط.
2 ـ من تُكُلِّمَ فيه بالجرح فله حالتان:
أ ـ تارة يكون الكلام فيه تعنُّتا والجمهور على توثيقه، فهذا حديثه قوي أيضاً.
ب ـ وتارة يكون الكلام في تليينه وحفظه له اعتبار، فهذا لا يَنْحطُّ حديثه عن مرتبة الحسن لذاته(3).
ويوضح ذلك قول الحافظ ابن حجر: ((...ينبغي أن يُزاد في التعريف بالصحيح فيقال: هو الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل التام الضبط أو القاصر عنه إذا اعتضد عن مثله إلى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا.
وإنما قلت ذلك لأنني اعتبرت كثيراً من أحاديث الصحيحين فوجدتها لا يتِمُّ الحكم عليها بالصحة إلّا بذلك))(4).
والقسم الثاني: الذين أخرجا لهم في الشواهد والمتابعات والتعاليق:
__________
(1) ... انظر: ص 50.
(2) ... انظر: عيون الأثر 1/14.
(3) ... انظر: الموقظة ص 79 ـ 80.
(4) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 1/417.(1/42)
فهؤلاء تتفاوت درجات من أُخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وُجد لغير الإِمام في أحد منهم طعنٌ فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلّا مبيَّن السبب، مفسراً بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقاً أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح(1).
12 ـ تُراعى اصطلاحات الأئمة فيما يطلقونه من ألفاظ الجرح والتعديل ومن ذلك قول يحيى بن معين: ((فلان لا بأس به)) يعني ثقة.
وقوله: ((فلان ليس بشيء)) يعني أن أحاديثه قليلة جداً(2).
وكذلك مصطلاحات الأئمة في كتبهم كاصطلاح الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) ((إذا كتبت (صح) أول الاسم فهي إشارة إلى أن العمل على توثيق ذلك الرجل))(3).
13 ـ قد تختلف دلالة اللفظ جرحاً وتوثيقاً باختلاف ضبطه. مثل قولهم: "فلان مُوْد" فإن "مُود" بالتخفيف بمعنى هالك. من قولهم: "أوْدى فلان" أي: هلك. وبالتشديد مع الهمزة "مُؤدّ" أي حسن الأداء(4).
14 ـ قد يرد التوثيق والتضعيف من الأئمة مُقيَّدين(5) فلا يُحْكَمُ بواحد منهما على الراوي بإطلاق، بل بحسب ما يقتضيان معاً من جرح وتوثيق.
ومن صور ذلك مايلي:
أ ـ توثيق الراوي فيما حدّث به في بلد دون آخر.
وذلك لكون الراوي حدّث في مكان لم تكن معه فيه كتبه فخلَّط، وحدّث في مكان آخر من كتبه فضبط، أو لكونه سمع في مكان من شيخ فلم يضبط عنه، وسمع منه في موضع آخر فضبط.
ومن أمثلته:
__________
(1) ... انظر: هدي الساري ص 384.
(2) ... سيأتي مزيد بيان لاصطلاحات الأئمة ص: 186، 193.
(3) ... لسان الميزان 1/9.
(4) ... انظر: تهذيب التهذيب 3/471، وفتح المغيث 1/377.
(5) ... انظر هذه القيود وأمثلتها في شرح علل الترمذي 2/733 ـ 816. فقد وسّع الحافظ ابن رجب الكلام فيمن ضُعِّفَ حديثهم في بعض الأوقات، أو في بعض الأماكن، أو عن بعض الشيوخ.(1/43)
1ـ معمر بن راشد الأزدي حديثه بالبصرة فيه اضطراب كثير، لأن كتبه لم تكن معه، وحديثه باليمن جيّد.
2 ـ قال يعقوب بن شيبة: ((سمعت علي بن المديني يُضعِّفُ ما حدّث به
عبد الرحمن بن أبي الزناد بالعراق ويصحح ما حدّث به بالمدينة)).
3 ـ قال الإمام أحمد –في رواية الأثرم-: ((سماع عبدالرزاق بمكة من سفيان مضطربٌ جداً، روى عن عبيد الله أحاديث مناكير هي من حديث العُمري. وأما سماعه باليمن فأحاديث صحاح )).
ب ـ توثيق الراوي فيما حدّث به عن أهل إقليم دون آخر.
وذلك لكون الراوي سمع من أهل مِصْرٍ أو أهل إقليم فحفظ حديثهم وسمع من أهل مِصْرٍ آخر أو إقليم آخر فلم يحفظ حديثهم.
ومن أمثلته:
1 ـ إسماعيل بن عيّاش الحمصي إذا حدث عن الشاميين فحديثه جيد، وإذا حدّث عن غيرهم فحديثه مضطرب.
2 ـ فرج بن فضالة الحمصي (ضعيف).
قال الإِمام أحمد: ((ما روى عن الشاميين فصالح، وأما ما روى عن يحيى بن سعيد (الأنصاري) فمضطرب)).
جـ- توثيق رواية الراوي إذا جاءت من طريق أهل إقليم دون آخر.
وذلك لكون الراوي قد حدّث عنه أهل إقليم فحفظوا حديثه، وحدّث عنه غيرهم فلم يقيموا حديثه.
ومن أمثلته:
1 ـ زهير بن محمد الخرساني ثم المكي، يروي عنه أهل العراق أحاديث مستقيمة، ويروي عنه أهل الشام أحاديث منكرة.
2 ـ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، سماع الحجازيين منه صحيح، وفي حديث العراقيين عنه وهم كبير.
د ـ تضعيف ما حدث به الراوي الثقة عن بعض شيوخه.
وذلك لكون الراوي ثقة في نفسه، لكن في حديثه عن بعض شيوخه ضعف بخلاف حديثه عن بقية الشيوخ.
ومن أمثلته:
1 ـ جرير بن حازم البصري، يُضَعَّف في حديثه عن قتادة.
2 ـ جعفر بن برقان الجزري. قال الإمام أحمد: ((يؤخذ من حديثه ما كان عن غير الزهري، فأما عن الزهري فلا)).
هـ- تضعيف رواية الراوي غير المتقن إذا جمع في الإِسناد عدداً من شيوخه دون ما إذا أفردهم.(1/44)
قال الحافظ أبو يعلى الخليلي: ((ذاكرت يوماً بعض الحفّاظ فقلت: البخاري لم يخرج حديث حماد بن سلمة في الصحيح وهو زاهد ثقة؟ فقال: لأنه جمع بين جماعة من أصحاب أنس فيقول: حدثنا قتادة وثابت وعبد العزيز بن صهيب، وربّما يخالف في بعض ذلك.
فقلت: أليس ابن وهب اتفقوا عليه وهو يجمع بين أسانيد، فيقول: حدثنا مالك وعمرو بن الحارث والليث بن سعد والأوزاعي بأحاديث ويجمع بين جماعة غيرهم؟.
فقال: ابن وهب أتقن لما يرويه وأحفظ له))(1).
قال ابن رجب: ((ومعنى هذا أن الرجل إذا جمع بين حديث جماعة وساق الحديث سياقة واحدة، فالظاهر أن لفظهم لم يتفق فلا يُقْبلُ هذا الجمعُ إلّا من حافظ متقن لحديثه، يعرف اتفاق شيوخه واختلافهم، كما كان الزهري يجمع بين شيوخ له في حديث الإِفك وغيره.
وكان الجمع بين الشيوخ يُنْكر على الواقدي وغيره ممن لا يضبط هذا كما أُنْكرَ على ابن إسحاق وغيره...))(2).
و ـ توثيق حديث الراوي في وقت دون وقت.
وذلك لكون الراوي الثقة قد خلط في أواخر عمره، والرواة المختلطون متفاوتون في تخليطهم، فمنهم من خلط تخليطاً فاحشاً ومنهم من خلط تخليطاً يسيراً، ويلتحق بالمختلطين صنفان. هما:
1 ـ من أضرَّ في آخر عمره وكان لا يحفظ جيداً، فحدّث من حفظه أو كان يُلقَّن فيتلقن.
2 ـ من ساء حفظه لما ولي القضاء ونحوه. فمن المختلطين:
1 ـ صالح بن نبهان (مولى التوأمة).
من سمع منه قديماً كمحمد بن أبي ذئب، فسماعه صحيح، ومن سمع منه بعد ما اختلط كسفيان الثوري، فسماعه منه لا شيء.
2 ـ سعيد بن إياس الجُريري.
ممن سمع منه قبل الاختلاط سفيان الثوري، وابن عليّة، وبشر بن المفضّل، وممن سمع بعد الاختلاط يزيد بن هارون.
وممن أضرّ في أواخر عمره وكان لا يحفظ جيداً فحدث من حفظه، أو كان يُلقّن فيتلقن:
1 ـ عبد الرزاق بن همّام الصنعاني.
__________
(1) ... الإرشاد في معرفة علماء الحديث 1/417 ـ 418.
(2) ... شرح علل الترمذي 2/815 ـ 816.(1/45)
قال الإِمام أحمد: ((عبد الرزاق لا يُعبأ بحديث من سمع منه وقد ذهب بصره، كان يُلقّن أحاديث باطلة، وقد حدّث عن الزهري أحاديث كتبناها من أصل كتابه وهو ينظر جاؤوا بخلافها)).
2 ـ محمد بن ميمون السُّكَّري.
قال النسائي: ((لا بأس به إلّا أنه كان ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب عنه قبل ذلك فحديثه جيّد)).
وممن ساء حفظه لمّا ولي القضاء:
1 ـ شريك بن عبد الله النخعي، قاضي الكوفة(1)، ساء حفظه بعد ما ولي القضاء، فما حدّث به قبل ذلك فصحيح.
2 ـ حفص بن غياث النخعي قاضي الكوفة(2).
قال أبو زرعة: ((ساء حفظه بعد ما اسْتُقْضي، فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح، وإلّا فهو كذا وكذا)).
وقد يرد ما يقتضي ترجيح المتأخر من مرويات الراوي على المتقدم منها ومن ذلك ما رواه الحسن بن علي الحلواني عن عفان بن مسلم أنه قال: ((كان همّام
(بن يحيى بن دينار الأزدي مولاهم) لا يكاد يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتابه، ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال: يا عفان كُنّا نخطئ كثيراً فنستغفر الله))(3).
قال الحافظ ابن حجر: ((وهذا يقتضي أن حديث همّام بأخرة أصحُّ ممن سمع منه قديماً، وقد نصّ على ذلك أحمد بن حنبل))(4).
ز ـ تضعيف رواية الراوي من حفظه وتوثيق روايته من كتابه: ومن أمثلته:
1 ـ يونس بن يزيد الأيلي.
قال أبو زرعة: ((كان صاحب كتاب، فإذا حدّث من حفظه لم يكن عنده شيء)).
2 ـ سُوَيد بن سعيد الحدثاني.
قال أبو زرعة: ((أما كتبه فصحاح، كنت أتتبع أصوله وأكتب منها فأما إذا حدّث من حفظه فلا)).
15 ـ يراعى سياق الكلام الذي ترد أثناءه ألفاظ الجرح والتعديل وقرائن الأحوال التي اقتضت ورودها في الراوي.
__________
(1) ... تولى شريك القضاء في عهد أبي جعفر المنصور. انظر: التاريخ لخليفة بن خياط ص 434.
(2) ... تولى حفص القضاء في عهد هارون الرشيد. انظر: المصدر السابق ص 464.
(3) ... تهذيب التهذيب 11/70.
(4) ... تهذيب التهذيب 11/70.(1/46)
قال الحافظ ابن كثير: ((والواقف على عبارات القوم يفهم مقاصدهم بما عُرفَ من عباراتهم في غالب الأحوال وبقرائن ترشد إلى ذلك))(1).
فمن ذلك أنه قد يرد التوثيق والتضعيف نسبيَّيْن، فيكون ذلك مورداً للجمع بين الأقوال وللترجيح بين الرواة.
ومن أمثلته:
1 ـ محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وأزهر بن سعد السمان ثقتان.
وقد قال الإِمام أحمد: ((ابن أبي عدي أحبّ إليّ من أزهر))(2).
2 ـ تقدم قول يحيى بن معين: ((سعيد (المقبري) أوثق، والعلاء (بن عبد الرحمن) ضعيف))(3).
16 ـ قد يرِدُ إطلاق التوثيق من الأئمة المتقدمين أكثر شمولاً منه عند المتأخرين وهو عند المتأخرين، أكثر تحديداً لدرجة الراوي.
ومن ذلك أن بعض المتقدمين قد يُطْلقُ لفظ (ثقة) على الثقة، وعلى الصدوق.
وقد يقرنون اللفظين معاً (ثقة صدوق) عند الحكم على الراوي.
ويوضح ذلك أن الحديث عند المتقدمين إما صحيح وإما ضعيف(4).
__________
(1) ... اختصار علوم الحديث ص 89. وانظر: فتح المغيث 1/363.
(2) ... انظر: تهذيب التهذيب 1/203.
(3) ... انظر: ص 68.
(4) ... قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: "من أهل الحديث من لا يُفْرِدُ نوع الحسن ويجعله مندرجاً في أنواع الصحيح لاندراجه في أنواع ما يُحتجُ به... ثم إن من سمّى الحسن صحيحاً لا يُنْكِرُ أنه دون الصحيح... فهذا إذاً اختلاف في العبارة دون المعنى".
علوم الحديث ص 115 ـ 116.
وقال ابن تيمية: "وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، فهذا أول من عُرِفَ أنّه قسّمه هذه القسمة أبو عيسى الترمذي، ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله... وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عُرِفَ عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان:
ضعيف ضعفاً لا يمتنع العمل به وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي. وضعيف ضعفاً يوجب تركه وهو الواهي". مجموع الفتاوى 18/23 ـ 25.
وقال أيضاً: "كان في عُرْفِ أحمد ومَنْ قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف.
والضعيف عندهم ينقسم إلى: ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن...".
قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 87.(1/47)
ولذلك يُستفاد من تصنيف المتأخرين لمراتب ألفاظ الجرح والتعديل في الترجيح بين من يشتركون عند المتقدمين في مطلق القبول أو في مطلق التضعيف.
17 ـ قد يتخصص الراوي في فن من فنون الرواية بسبب ما يبذله فيه من جهد في تلقّيه وأدائه، فيكون حجّة في ذلك الفن(1)، وأمّا ما سواه من فنون الرواية فقد يحتج به فيه، وقد تقصر درجته عن الاحتجاج، وربما قصرت عن درجة الاعتبار.
ومن أمثلة ذلك:
1 ـ عاصم بن أبي النجود المقرئ المشهور.
قال الحافظ الذهبي: ((كان عاصم ثبتاً في القراءة، صدوقاً في الحديث.
وقد وثقه أبو زرعة(2)وجماعة(3)، وقال أبو حاتم: محله الصدق(4).
وقال الدارقطني: في حفظه شيء(5). يعني: للحديث لا للحروف.
وما زال في كل وقت يكون العالم إماماً في فن مُقصّراً في فنون وكذلك كان صاحبه حفص بن سليمان ثبتاً في القراءة واهياً في الحديث وكان الأعمش بخلافه كان ثبتاً في الحديث ليناً في الحروف))(6).
وقال أيضاً: ((عاصم بن بهدلة الكوفي، مولى بني أسد، ثبت في القراءة، وهو في الحديث دون الثبت صدوق يهم))(7).
وقال الحافظ ابن حجر في شأن عاصم: ((صدوق له أوهام، حجّة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون))(8).
2 ـ محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم.
__________
(1) ... انظر: تحقيق د. نور الدين عتر لشرح علل الترمذي 2/554.
(2) ... انظر: الجرح والتعديل 6/341.
(3) ... انظر: تهذيب الكمال 13/476 ـ 477.
(4) ... عبارة أبي حاتم: "محله عندي محل الصدق، صالح الحديث، ولم يكن بذاك الحافظ" الجرح والتعديل 6/341.
(5) ... سؤالات البرقاني ص 49.
(6) ... سير أعلام النبلاء 5/260.
(7) ... ميزان الاعتدال 2/357.
(8) ... تقريب التهذيب ص 285.(1/48)
قال الحافظ ابن حجر: ((إمام المغازي، صدوق يدلس، ورمي بالتشيّع والقدر))(1). أخرج له البخاري تعليقاً، وأخرج له مسلم في المتابعات، فهو إمام في المغازي، وأما في أحاديث الأحكام فحديثه حسن متى صرّح بالسماع ولم يخالف من هو أوثق منه(2).
وثمة أفراد اشتهروا بفن معين لكن لا يُلتفت إلى مروياتهم فيه إذْ كانوا مجروحي العدالة كأبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي(3)، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي(4).
18 ـ قد ترد ألفاظ الجرح والتعديل المنقولة من كتب المتقدمين مختصرة أو محكيّة بالمعنى في كتب المتأخرين لاضطرارهم إلى جمع أكبر عدد من الرواة في كتاب واحد، فيؤثر ذلك الاختصار وتلك الحكاية للفظ الجرح والتعديل في الحكم على الراوي توثيقاً وجرحاً(5).
ولذا يتعيّن توثيق تلك الأقوال من مصادرها الأصلية.
فمن أمثلة الاختصار نقل الحافظ الذهبي لعبارة أبي حاتم في حكمه على شهر ابن حوشب.
قال أبو حاتم: ((شهر بن حوشب أحب إليّ من أبي هارون العبدي ومن بشر بن حرب، وليس بدون أبي الزبير، لا يحتج بحديثه))(6).
وقال الذهبي في (ميزان الاعتدال): ((قال أبو حاتم: ليس هو بدون أبي الزبير ولا يحتج به))(7).
وقال في (الكاشف): ((قال أبو حاتم: ليس بدون أبي الزبير))(8).
ومن الحكاية بالمعنى قول الحافظ ابن حجر: ((إبراهيم بن سويد بن حيان المديني وثّقه ابن معين وأبو زرعة...))(9).
وعبارته تصدُقُ على كلام ابن معين، حيث روى إسحاق بن منصور الكوسج عنه قوله: ((ثقة))(10).
__________
(1) ... المصدر السابق ص 467.
(2) ... انظر: سير أعلام النبلاء 7/41، وهدي الساري ص 458، وفتح الباري 11/163.
(3) ... انظر: ميزان الاعتدال 3/419.
(4) ... انظر: المصدر السابق 4/304 ـ 305.
(5) ... انظر: التنكيل 1/64 ـ 65.
(6) ... الجرح والتعديل 4/383.
(7) ... 2/383.
(8) ... 2/16.
(9) ... هدي الساري ص 388.
(10) ... انظر: تهذيب الكمال 2/103.(1/49)
وأما أبو زرعة فقد قال: ((ليس به بأس))(1).
19 ـ يتأثر الجرح والتعديل الصادران من الأئمة المتأخرين بقدر اطلاعهم على أقوال الأئمة المتقدمين في الحكم على الراوي.
فمن أمثلة ذلك:
1 ـ أن عبد الله بن أبي سليمان الأموي مولاهم، قد نقل عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن معين توثيقه(2).
ولم يذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمته(3) سوى قول
أبي حاتم: ((شيخ))(4). وكون ابن حبان قد ذكره في (الثقات)(5). ثم قال الحافظ في (تقريب التهذيب): ((صدوق))(6). ولعله لو استحضر نقل الدارمي عن ابن معين لوثّقه(7).
2 ـ أن الزبير بن جنادة الهجري قد نقل ابن الجنيد عن ابن معين توثيقه(8).
وذكر الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمته(9) قول أبي حاتم: ((شيخ ليس بالمشهور))(10)، وأن ابن حبان قد ذكره في (الثقات)(11) وقول الحاكم: ((ثقة))(12). ثم قال في (تقريب التهذيب): ((مقبول))(13) ولعله لو استحضر نقل ابن الجنيد عن
ابن معين لوثقه(14).
20 ـ لا يشترط في الرواة المتأخرين ما يشترط في المتقدمين من الضبط والإتقان.
__________
(1) ... الجرح والتعديل 2/104. وانظر: التنكيل 1/64 ـ 65.
(2) ... انظر: تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي: ترجمة رقم (485).
(3) ... انظر: 5/246.
(4) ... الجرح والتعديل 5/75 ـ 76.
(5) ... انظر: 5/33.
(6) ... ص 307.
(7) ... انظر: تحقيق د. أحمد محمد نور سيف (لتاريخ عثمان الدارمي) ص 28 ـ 29.
(8) ... انظر: سؤالات ابن الجنيد ترجمة رقم (28).
(9) ... انظر: 3/313.
(10) ... الجرح والتعديل 3/582.
(11) ... انظر: 6/333
(12) ... تهذيب التهذيب 6/314.
(13) ... ص 214.
(14) ... انظر: تحقيق د. أحمد محمد نور سيف (لسؤالات ابن الجنيد) ص 25.(1/50)
قال ابن الصلاح: ((أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع.... الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيّدوا بها في رواياتهم لتعذر الوفاء بذلك... ووجه ذلك.... كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها فليُعْتبرْ من الشروط... ما يليق بهذا الغرض على تجرده.
وليُكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلماً بالغاً عاقلاً غير متظاهر بالفسق والسّخف.
وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه))(1).
وقد اعتبر الحافظ الذهبي الحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر: رأس سنة ثلاثمائة(2).
وأوضح السخاوي وجه التفرقة بين المتقدمين والمتأخرين في هذا الشأن بقوله:
((لما كان الغرض أولاً معرفة التعديل والتجريح وتفاوت المقامات في الحفظ والإِتقان ليُتوصَّل بذلك إلى التصحيح والتحسين والتضعيف، حصل التشدد بمجموع تلك الصفات.
ولما كان الغرض آخِراً الاقتصار في التحصيل على مجرد وجود السلسلة السندية اكتفوا بما ترى.
__________
(1) ... علوم الحديث ص 236.
(2) ... قال الحافظ الذهبي ـ في بيان منهجه في كتابه (ميزان الاعتدال) ـ : "... وكذلك من قد تُكُلِّم فيه من المتأخرين، لا أوْرِدُ منهم إلّا من قد تبيّن ضعفُه، واتضح أمره من الرواة، إذ العمدة في زماننا ليس على الرواة بل على المحدثين والمفيدين، والذين عرفت عدالتهم وصدقهم في ضبط أسماء السامعين.
ثم من المعلوم أنه لا بد من صون الراوي وستره، فالحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو: رأس سنة ثلاثمائة، ولو فتحت على نفسي تليين هذا الباب لما سَلِمَ معي إلّا القليل، إذ الأكثر لا يدرون ما يروون ولا يعرفون هذا الشأن إنما سُمِّعُوا في الصغر واحتيج إلى علو سندهم في الكبر. فالعمدة على من قرأ لهم وعلى من أثبت طِباق السماع لهم". ميزان الاعتدال1/4.(1/51)
ولكن ذلك بالنظر إلى الغالب في الموْضِعَيْن، وإلّا فقد يُوجد في كل منهما من نمط الآخر، وإن كان التساهل إلى هذا الحد في المتقدمين قليلاً))(1).
وبهذا كله يتبيّن أن سبب التفرقة بين المتقدمين والمتأخرين كون ((العبرة في رواية المتأخرين على الكتب والأصول الصحيحة التي اشتهرت بنسبتها إلى مؤلفيها، بل تواتر بعضها إليهم))(2).
الباب الثاني
وجوه الطعن في الراوي
وفيه أربعة فصول:
( الفصل الأول: ما يتعلق بجهالة الراوي.
( الفصل الثاني: ما يختص بالعدالة.
( الفصل الثالث: ما يختص بالضبط.
( الفصل الرابع: ما لا يتعلق بالعدالة ولا بالضبط غالباً.
وجوه الطعن في الراوي
الفصل الأول
ما يتعلق بجهالة الراوي
القسم الأول: ما يتعلق بجهالة الراوي:
المراد بجهالة الراوي: أن لا يُعرَفَ فيه تعديل ولا تجريح معين(3).
ويدخل تحتها (إبهام اسم الراوي، وجهالة عينه، وجهالة حاله).
وأسباب الجهالة هي:
1 ـ أن يُسَمِّيَ الراوي شيخه أو يكنيه أو ينسبه إلى قبيلة أو بلد، أو صنعة على غير ما اشتهر به ذلك الشيخ، فيُظنّ أنه شيخ آخر، فتحصل الجهالة(4)، ويكثر ذلك في تدليس الشيوخ.
2 ـ أن يكون الراوي مُقِلّا ً من رواية الحديث فيقِلُّ الأخذ عنه فلا يعرف(5).
3 ـ أن يُبْهم الراوي اسم شيخه كأن يقول: "حدثني رجل، حدثني بعضهم، أخبرنا شيخ لنا"(6).
4 ـ أن يذكر الراوي اسم شيخه مهملاً كأن يقول: "حدثني فلان أو
ابن فلان"(5).
__________
(1) ... فتح المغيث 1/361.
(2) ... الباعث الحثيث ص 90.
(3) ... نزهة النظر ص44.
(4) ... صنّف الخطيب البغدادي في هذا النوع كتابه (الموضح لأوهام الجمع والتفريق). انظر: نزهة النظر ص 49.
(5) ... صنّف الإمام مسلم، والحسن بن سفيان في أولئك الرواة المقلّين باسم (الوحدان). انظر: المصدر السابق ص49.
(6) ، (5) يستدل على معرفة اسم المبهم وتمام اسم المهمل بوروده من طريق أخرى مسمى فيها. انظر: نزهة النظر ص 49.(1/52)
5 ـ عدم نصّ الأئمة على توثيق الراوي أو تضعيفه.
فأما المبهم من الرواة ـ وهو من لم يسمّ اسمه، نحو: "حدثنا رجل" ـ فهذا لا يقبل حديثه. وتعليل ذلك: أن شرط قبول الرواية معرفة عدالة الراوي ومن أُبْهِمَ اسمُه لا تعرف عينه. فكيف تعرف عدالته وضبطه(1).
لكن قد يقع الإبهام بلفظ التوثيق كأن يقول الراوي: "حدثني الثقة" فهذا محل خلاف على أقوال. أشهرها مايلي:
1 ـ قول الخطيب البغدادي، وأبي بكر محمد بن عبد الله الصيرفي: ((أن ذلك لا يكفي في توثيق الراوي))(2).
وتعليله: احتمال أن يكون ذلك الراوي ثقة عند من أبهمه مجروحاً عند غيره(3).
2 ـ القول الثاني: وهو منقول عن الإمام أبي حنيفة: ((أن ذلك يكفي توثيقاً للراوي))(4).
وتعليل ذلك: أن المُوثِّق مؤتمنٌ على ذلك وهو نظير الاحتجاج بالمرسل من جهة أن المرسِلَ لو لم يحتج بالمحذوف لما حذفه، فكأنّه عدَّله، فالقبول في هذه المسألة من باب أولى، لأن الإِبهام قد وقع بلفظ التوثيق الصريح (حدثني الثقة)(5).
والراجح القول الأول. وذلك لمايلي:
1 ـ أنه لا يلزم من توثيق الراوي لشيخه أن يكون كذلك عند غيره(6)، لأن الخبر عن التوثيق كالخبر عن التصحيح والتحليل والتحريم، يمكن اختلاف أهل الديانة والإِنصاف فيه(7)، بحسب ما يؤدي إليه الاجتهاد.
2 ـ ولأن الإِمام قد يَتَفَرّدُ بتوثيق الراوي المُتَّفقِ على ضعفه لكونه ثقة عنده(8).
3 ـ ولأن إضراب المحدّث عن تسمية شيخه ريبة توقع تردداً في القلب(9).
ومن ضوابط هذه المسألة مايلي:
__________
(1) ... انظر: نزهة النظر ص 49.
(2) ... انظر: الكفاية ص 155، وعلوم الحديث ص 224.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 224.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/308.
(5) ... انظر: المصدر السابق 1/308.
(6) ... انظر: علوم الحديث ص 224.
(7) ... تنقيح الأنظار 2/172.
(8) ... انظر: فتح المغيث 1/308.
(9) ... انظر: علوم الحديث ص 224.(1/53)
أ ـ أن ذلك الراوي الموثَّق بتلك الصيغة: (حدثني الثقة) قد يُعرف بالنصّ عليه أو بالاستقراء من عمل الإِمام.
فإن كان ثقة اعْتُمِدَ في حقه ذلك التوثيق موافقةً لتوثيق الأئمة الآخرين.
ومثال ذلك:
إذا قال الإِمام الشافعي: ((حدثني الثقة عن الليث بن سعد)) فالثقة يحيى بن(1) حسّان التِّنّيسي البكري(2).
وإن كان دون مرتبة الثقة اعتمد في حاله الدرجة التي تليق به.
ومثال ذلك:
إذا قال الإِمام الشافعي: ((حدثني الثقة عن ابن جريج)) فمراده بالثقة مسلم
ابن خالد المخزومي مولاهم(3)، وهوصدوق كثير الأوهام(4).
ب ـ أن هناك فرقاً بين الإِبهام بلفظ: (حدثني الثقة)، والإِبهام بلفظ (حدثني مَنْ لا أتهم)، فإن اللفظة الأولى: (حدثني الثقة) أرفع بكثير لصراحتها في التوثيق بخلاف اللفظة الثانية: (حدثني مَنْ لا أتّهم)، فإنها لا تفيد بلوغ الراوي منزلة الثقة، إذ لا يلزم من عدم اتهام الراوي توثيقه من جانب الضبط وغاية العبارة نفي التهمة دون تعرض للإِتقان(5).
ويوضح ذلك أن عبد الله بن لهيعة، وعبد الله بن جعفر بن المديني، وعبد الرحمن ابن زياد الأفريقي، ضعفاء في الحفظ لا يُحتج بهم عند التفرّد وليسوا
بمتّهمين(6).
وأما المجهول فقد تنوّعت آراء العلماء في تحديد المراد به على أقوال أشهرها:
__________
(1) ... انظر: فتح المغيث 1/310، وتدريب الراوي 1/312.
(2) ... انظر: تقريب التهذيب ص 589.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/310، وتدريب الراوي 1/312.
(4) ... انظر: تقريب التهذيب ص 529.
(5) ... انظر: فتح المغيث 1/311، وتدريب الراوي 1/311.
وقد رجّح ابن السبكي مساواة عبارة: (حدثني من لا أتهم) إذا صدرت من مثل الشافعي في مقام الاحتجاج لعبارة: (حدثني الثقة) وإن كانت لا تساويها من حيث الدلالة اللغوية.
انظر: تدريب الراوي 1/312.
(6) ... انظر: فتح المغيث 1/311.(1/54)
1ـ ما حكاه الخطيب البغدادي: ((المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يُعْرفْ حديثه إلّا من جهة راو واحد))(1).
2 ـ قول الحافظ ابن الصلاح: ((المجهول ثلاثة أقسام:
أ ـ مجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً.
ب ـ مجهول العدالة في الباطن دون الظاهر، وهو (المستور).
ج ـ مجهول العين))(2).
3 ـ قول الحافظ ابن حجر: ((المجهول قسمان:
أ ـ مجهول العين: من لم يَرْوِ عنه غير واحد ولم يُوثَّقْ.
ب ـ مجهول الحال (المستور): من روى عنه اثنان فأكثر ولم يُوَّثق))(3).
وخلاصة ذلك مايلي:
1ـ أن من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به فهو مجهول، كما حكاه الخطيب، وهذا الصنف قسمان عند ابن الصلاح: من لم يعرف العلماء عدالته مطلقاً ومن عرفوا عدالته الظاهرة دون الباطنة، ولاشتراك هذين القسمين في عدم العلم بعدالتهما الباطنة، اعتبرهما ابن حجر قسماً واحداً أطلق عليه: (المستور ـ مجهول الحال)(4).
2 ـ أن من لم يرو عنه غير واحد ولم يُوثَّق فهو مجهول العين.
وهذا الفرق المذكور بين مجهول العين ومجهول الحال هو مذهب الجمهور وهو ظاهرٌ في أن تعديل الراوي لا يحصل بمجرد الرواية عنه، بل يحصل بالتوثيق الصريح.
والمذهب الثاني: مذهب ابن حبان في كتابه (الثقات).
قال ابن حبان: ((... فكل من أذكره في هذا الكتاب الأول فهو صدوق يجوز الاحتجاج بخبره إذا تَعَرَّى خبره عن خصال خمس، فإذا وُجِدَ خبرٌ منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا، فإن ذلك الخبر لا ينفكّ من إحدى خمس خصال:
1 ـ إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا في الإِسناد رجل ضعيف لا يُحتج بخبره.
2 ـ أو يكون دونه رجل واه لا يجوز الاحتجاج بروايته.
__________
(1) ... الكفاية ص 149.
(2) ... انظر: علوم الحديث ص 225 ـ 226.
(3) ... انظر: نزهة النظر ص 50، وتقريب التهذيب ص 74.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/324.(1/55)
3 ـ أو الخبر يكون مرسلاً لا يلزمنا به الحجّة.
4 ـ أو يكون منقطعاً لا يقوم بمثله الحجّة.
5 ـ أو يكون في الإِسناد رجل مدلس لم يبيّن سماعه في الخبر مَنْ الذي سمعه منه... فكل من ذكرته في كتابي هذا إذا تَعَرَّى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره، لأن العدل من لم يُعْرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعلم بجرح فهو عدل إذا لم يتبيّن ضده، إذ لم يُكَلَّف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم، وإنما كُلِّفوا الحكم بالظاهر من الأشياء غير المغيّب عنهم))(1).
فالخصلتان الأوليان تفيدان أن المجروح لا يحتج بخبره، بل هو سبب ضعف الخبر.
وأما الثلاث الأخيرة فتفيد أن من سقط من الإِسناد بسب الإِرسال أو الانقطاع أو التدليس، فلا يُحْمل أمره على التوثيق، ولو حصل ذلك لَتَمَّ الاحتجاج بالخبر مع انقطاع إسناده في الإِرسال والانقطاع واحتمال الانقطاع في التدليس ومع جهالة عين الساقط من الإِسناد، فلم يبق إذن إلّا مَنْ كان مذكوراً في سلسلة ذلك الإِسناد ولم يُعرف فيه الجرح، فهذا عدل ـ على مذهب ابن حبان ـ حتى يتبيّن جرحه بشرط أن يكون تلميذه ثقة(2).
((وأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلّا الضعفاء، فهم متروكون على الأحوال كلها))(3).
وقد انتقد الحافظ ابن حجر هذا المذهب. فقال: ((وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبيّن جرحه مذهب عجيب، والجمهور على خلافه.
وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب (الثقات) الذي ألّفه، فإنه يذكر خَلْقاً ممن نَصَّ عليهم أبو حاتم وغيره أنهم مجهولون.
__________
(1) ... الثقات 1/11 ـ 13.
(2) ... يوضح ذلك أن ابن حبان ذكر أيوب الأنصاري في الثقات 6/60. فقال: "يروي عن سعيد بن جبير ،روى عنه مهدي بن ميمون، لا أدري من هو؟ ولا ابن من هو؟".
... انظر: فتح المغيث 1/316.
(3) ... لسان الميزان 1/14.(1/56)
وكأن عند ابن حبان أن جهالة العين ترتفع برواية واحد مشهور، وهو مذهب شيخه ابن خزيمة، ولكن جهالة حاله باقية عند غيره))(1).
وكلام الحافظ ابن حجر هذا يُحَدِّدُ موضع الافتراق بين قول ابن حبان ومذهب الجمهور، فابن حبان يرى أن جهالة العين ترتفع عن الشيخ برواية واحد مشهور عنه وعند ذلك فالأصل في ذلك الشيخ العدالة ما لم يعرف فيه الجرح.
والجمهور على أن تفرّد الواحد بالرواية عن الشيخ لا يرفع عنه جهالة العين.
وأن رواية الاثنين فأكثر عنه تفيد التعريف دون التعديل، ولذلك يبقى في درجة مجهول الحال حتى يُوَّثق، فقد قال الخطيب: ((وأقل ما ترتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان فصاعداً من المشهورين بالعلم كذلك... إلّا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه))(2).
ونظراً لسعة مقتضى قاعدة التوثيق التي سلكها ابن حبان في كتابه: (الثقات) اشتهر بالتساهل في توثيق الرواة، لكن ليس ذلك على إطلاقه بل قال الشيخ عبد الرحمن
ابن يحيى المعلمي: ((التحقيق أن توثيقه على درجات:
الأولى: أن يُصَرِّح به كأن يقول: (كان متقناً) أو (مستقيم الحديث) .... أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخَبَرَهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث، بحيث يُعْلَم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى لا تَقِلُّ عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يُؤْمَنُ فيها الخلل))(3).
وما ذكره ـ رحمه الله تعالى ـ بالنسبة للدرجتين الأولى والثانية ظاهر جداً، حيث تبيّن أن التوثيق فيهما لم يكن على مقتضى قاعدة (العدل من لم يعرف فيه الجرح) بل على العلم بأحوال الرواة.
__________
(1) ... لسان الميزان 1/14.
(2) ... الكفاية ص 150.
(3) ... التنكيل 1/437 ـ 438.(1/57)
وأما بالنسبة للدرجتين الثالثة والرابعة، فالحكم بمقتضاهما على الراوي يحتاج إلى تثبّت ونظر في تحقق ذلك بالنسبة لكل راوٍ.
وأما الدرجة الخامسة فهي موضع تساهل مُؤَكَّد، كما يدل عليه قوله:
((لا يُؤمنُ فيها الخلل)).
وهذا كله من حيث توثيق المجهول وعدم توثيقه.
وأما من حيث الاحتجاج به. فمذهب ابن حبان قبول رواية المجهول والاحتجاج بها إذا لم يُعرف فيه الجرح، وكان شيخه والراوي عنه كلاهما ثقتين ولم يكن الحديث منكراً. هذا هو مقتضى تفصيله المتقدّم(1).
وأما الجمهور فيفرّقون بين مجهول العين ومجهول الحال على النحو التالي:
أولاً: مجهول العين في قبول روايته مذاهب هي:
أ ـ مذهب الأكثرين (من الجمهور): ردّ رواية مجهول العين مطلقاً(2).
قال الحافظ ابن كثير: ((فأما المبهم الذي لم يسم اسمه أو من سُمِّيَ ولا تعرف عينه، فهذا ممن لا يقبل روايته أحد علمناه...))(3).
وتعليله: أن من جُهِلَتْ عينه فمن باب أولى أن تجهل حاله في العدالة والضبط.
ب ـ القول الثاني: قبول روايته إذا كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلّا عن عدل كعبد الرحمن بن مهدي(4).
ويمكن تعليله: بأن في اطراد العادة بذلك توثيقاً ضِمْنيّا للراوي.
جـ ـ قول ابن عبد البر: ((قبول روايته إن كان مشهوراً كأن يشتهر بالزهد أو النجدة أو الكرم، فإن اشتهر بالعلم فقبوله من باب أولى))(5).
قال ابن الصلاح: ((بلغني عن أبي عمر بن عبد البر الأندلسي وِجَادَةً قال: كل من لم يرو عنه إلّا رجل واحد فهو عندهم مجهول إلّا أن يكون رجلاً مشهوراً في غير حمل العلم، كاشتهار مالك بن دينار بالزهد، وعمرو بن معدي كرب بالنجدة))(6).
__________
(1) ... انظر: ص 110، وفتح المغيث 1/315 ـ 316.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/319.
(3) ... اختصار علوم الحديث ص81. وانظر تمام كلامه: ص 119.
(4) ... انظر: فتح المغيث1/316.
(5) ... انظر: المصدر السابق 1/316.
(6) ... علوم الحديث ص 496.(1/58)
ويمكن تعليله: بأن المشهور بمثل هذه الصفات يندر خفاء حاله فمثله لا يضره تفرّد راو بالرواية عنه.
د ـ اختيار أبي الحسن علي بن عبد الله بن القطان: يقبل حديثه إذا زكّاه ـ مع رواية الواحد ـ أحد أئمة الجرح والتعديل(1).
وقد اختار الحافظ ابن حجر هذا القول وزاد عليه بقبول رواية مجهول العين
ـ أيضاً ـ إذا وثّقه من ينفرد عنه إذا كان متأهلاً لذلك(2).
والراجح القول الأول ولا يعارضه القول الرابع بل يؤول إليه، لأن حصول التوثيق للراوي من الإِمام المعتبر يرفع عنه الجهالة مطلقاً.
ثانياً: مجهول الحال وهو (المستور) في قبول روايته مذاهب هي:
أ ـ مذهب الأكثرين (من الجمهور): رد رواية مجهول الحال(3).
وتوجيهه: أن رواية الراويين فأكثر عن الشيخ تعريف به لا توثيق له، ولذلك فتوثيقه غير معلوم.
ب ـ القول الثاني: يُنْسَب إلى بعض المحدثين كالبزار والدارقطني: قبول روايته(4).
فقد نقل السخاوي عن الدارقطني قوله: ((مَنْ روى عنه ثقتان فقد ارتفعت جهالته وثبتت عدالته))(5).
ولعل هذا ما أشار إليه الحافظ الذهبي عند تصنيفه للحافظ الدارقطني مع الأئمة المتساهلين، مع تقييده لذلك بقوله: ((في بعض الأوقات))(6).
__________
(1) ... انظر: نزهة النظر ص 50، وفتح المغيث 1/317.
ومن أمثلة ذلك أن أسفع بن أسلع يروي عن سمرة بن جندب. قال الذهبي: "ما علمت روى عنه سوى سويد بن حجير الباهلي، وثَّقه مع هذا يحيى بن معين فما كل من لا يُعْرَف ليس بحجّة، لكن هذا الأصل". ميزان الاعتدال 1/211.
(2) ... نزهة النظر ص 50.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 50. ...
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/320.
(5) ... المصدر السابق 1/320.
(6) ... انظر: ص 70.(1/59)
جـ ـ قول إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني: ((لا نُطْلِقُ رد رواية المستور ولا قبولها بل يُقال رواية العدل مقبولة ورواية الفاسق مردودة، ورواية المستور موقوفة إلى استبانة حالته. ولو كنا على اعتقادٍ في حلّ شيء فروى لنا مستور تحريمه، فالذي أراه وجوب الانكفاف عمّا كنا نستحله إلى استتمام البحث عن حال الراوي...))(1).
وقد اختار الحافظ ابن حجر القول بالتوقف كذلك. فقال: ((والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال لا يُطْلَقُ القول بردّها ولا بقبولها بل هي موقوفة إلى استبانة حاله،كما جزم به إمام الحرمين))(2).
هل تتقوَّى رواية المجهول بالمتابعة؟:
قال الحافظ الدارقطني: ((وأهل العلم بالحديث لا يحتجّون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف، وإنما يثبت العلم عندهم إذا كان راويه عدلاً مشهورا، أو رجل قد ارتفع اسم الجهالة عنه، وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعداً، فإذا كان هذه صفته ارتفع عنه اسم الجهالة وصار حينئذ معروفاً(3)، فأما من لم يرو عنه إلّا رجل واحد انفرد بخبر وجب التوقّف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره))(4).
ومفهوم ذلك أن رواية مجهول العين تتقوى بالمتابعة، لكنه غير صريح في حصول التقوية بمتابعة مجهول مثله أو متابعة ضعيف غير متروك.
وقد خصّ الحافظ ابن حجر رواية المستور ـ مجهول الحال ـ بالذِّكْرِ فيما يتقَّوى من الروايات الضعيفة دون رواية مجهول العين(5).
من ضوابط موضوع الجهالة:
__________
(1) ... البرهان 1/615.
(2) ... نزهة النظر ص 50.
وكلام الحافظ ابن حجر يحتمل موافقة قول إمام الحرمين في أثر ذلك التوقف ويحتمل وجهاً آخر وهو التوقّف الذي حقيقته نوع من الرد، حيث يقتضي عدم العمل بالرواية وإن لم يُحْكَمْ بردّها.
(3) ... انظر ما نقله السخاوي عن الدارقطني ص 116.
(4) ... السنن 3/174.
(5) ... انظر: نزهة النظر ص 51 ـ 52.(1/60)
1 ـ أن الخلاف في قبول رواية المجهول إنما هو في حق من دون الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأما الصحابة فإن جهالتهم غير قادحة، لأنهم عدول بتعديل الله لهم(1).
قال الحافظ الذهبي: ((فأما الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فبِسَاطُهم مَطْويٌّ وإن جرى ما جرى، وإن غَلِطُوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلَم أحد من الغلط، لكنه غلط نادر لا يضر أبداً، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى))(2).
2 ـ أن روايات المجهولين على درجات. ويوضّح ذلك مايلي:
أ ـ قول الحافظ الذهبي: ((وأما المجهولون من الرواة: فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احْتُمِلَ حديثه وتُلُقِّيَ بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول ومن ركاكة الألفاظ.
وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فسائغ رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحرّيه وعدم ذلك.
وإن كان المجهول من أتباع التابعين فمن بعدهم، فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد به))(3).
وقوله ـ أيضاً ـ : ((وقولهم: (مجهول) لا يلزم منه جهالة عينه، فإن جهل عينه وحاله فأولى أن لا يحتجوا به.
وإن كان المنفرد عنه من كبار الأثبات فأقوى لحاله ويحتج بمثله جماعة كالنسائي وابن حبان))(4).
ب ـ قوال الحافظ ابن كثير: ((فأما المبهم الذي لم يسم، أو من سُمِيَّ ولا تعرف عينه، فهذا ممن لا يقبل روايته أحد علمناه، ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير، فإنه يُستأنس بروايته، ويُستضاء بها في مواطن، وقد وقع في مسند الإِمام أحمد وغيره من هذا القبيل كثير))(5).
__________
(1) ... انظر: علوم الحديث ص 142.
(2) ... معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يُوجب الرد ص 46.
(3) ... تحقيق كتاب (المغني في الضعفاء) 1/ك ـ ل. وديوان الضعفاء والمتروكين ص 374.
(4) ... الموقظة ص 79.
(5) ... اختصار علوم الحديث ص 81.(1/61)
3 ـ الرواة الذين احتج بهم صاحبا الصحيحين أو أحدهما يكتسبون التوثيق الضمني بذلك، وترتفع عنهم به الجهالة، وإن لم ينصّ أحد على توثيقهم. ويوضّح ذلك مايلي:
أ ـ قول الحافظ الذهبي ـ بعد نقله لقول ابن القطان في حفص بن بُغَيْل: "لا يعرف له حال ولا يعرف" ـ: ((... ابن القطّان يتكلم في كلّ من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته وهذا شيء كثير، ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعّفهم أحد ولا هم بمجاهيل))(1).
وقوله ـ بعد نقله لقول ابن القطّان في مالك بن الخير: "هو ممن لم تثبت عدالته" ـ : ((يريد أنه ما نصّ أحد على أنّه ثقة، وفي رواة الصحيحين عدد كثير ما علمنا أن أحداً نصّ على توثيقهم...))(2).
فقد أراد الحافظ الذهبي الاحتجاجَ على ابن القطّان بمن في الصحيحين من أولئك الرواة وصرّح بحصول توثيقهم بذلك في قوله: ((الثقة: من وثّقه كثير ولم يضَعَّف. ودونه من لم يوثّق ولا ضُعِّفْ فإن خُرِّجَ حديث هذا في الصحيحين فهو موثّق بذلك))(3).
ب ـ قول الحافظ ابن حجر: ((فأما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أُخْرِجَ لهم في الصحيح؛ لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفاً بالعدالة، فمن زعم أن أحداً منهم مجهول فكأنه نازع المصنّف في دعواه أنه معروف.
ولا شك أن المدَّعي لمعرفته مقدّم على من يدعي عدم معرفته لما مع المثبت من زيادة العلم. ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحداً ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلاً))(4).
4 ـ لا يلزم من حكم بعض الأئمة بالجهالة على الراوي أن يكون مجهولاً فقد يعرفه غيره فيوثّقه. ومن أمثلة ذلك مايلي:
__________
(1) ... ميزان الاعتدال 1/556.
(2) ... المصدر السابق 3/426.
(3) ... الموقظة ص 78.
(4) ... هدي الساري ص 384.(1/62)
أ ـ أن عبد الله بن الوليد بن عبد الله المزني قد وثّقه ابن معين. فقال: ((كان من خيار المسلمين))(1). والنسائي(2).
وقال أبو حاتم: ((صالح الحديث))(3). وقال علي بن المديني: ((مجهول لا أعرفه))(4). قال الحافظ الذهبي: ((قد عرفه جماعة ووثّقوه فالعبرة بهم))(5).
ب ـ أن الحكم بن عبد الله البصري قال فيه أبو حاتم: ((مجهول))(6).
قال الحافظ ابن حجر: ((ليس بمجهول من روى عنه أربعة ثقات ووثّقه الذُّهْلي))(7).
جـ ـ أن عباس بن الحسين القنطري قال فيه أبو حاتم: ((مجهول))(8).
قال الحافظ ابن حجر: ((إن أراد (جهالة) العين فقد روى عنه البخاري وموسى ابن هارون الحمَّال والحسن بن علي المعمري وغيرهم. وإن أراد (جهالة) الحال فقد وثّقه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عنه. فذكره بخير))(9).
وأما قول ابن عدي ـ بعد نقله لقول ابن معين في عبد الرحمن بن عبدالله الغافقي، وعبد الرحمن بن آدم حيث قال: ((لا أعرفهما))(10) ـ فقال ابن عدي: ((إذا قال مثل ابن معين: "لا أعرفه" فهو مجهول غير معروف، وإذا عرفه غيره لا يعتمد على معرفة غيره؛ لأن الرجال بابن معين تُسْبَرُ أحوالهم))(11). فقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. فقال: ((لا يتمشّى في كل الأحوال، فرب رجل
لم يعرفه ابن معين بالثقة والعدالة وعرفه غيره فضلاً عن معرفة العين لا مانع من هذا.
__________
(1) ... انظر: معرفة الرجال (رواية ابن محرز عن ابن معين) 1/ ترجمة رقم (452).
(2) ... انظر: تهذيب الكمال (مخطوط) 2/752.
(3) ... الجرح والتعديل 5/187.
(4) ... انظر: تهذيب الكمال (مخطوط) 2/752.
(5) ... ميزان الاعتدال 2/521.
(6) ... الجرح والتعديل 3/122.
(7) ... هدي الساري ص 398.
(8) ... الجرح والتعديل 6/215.
(9) ... هدي الساري ص 413.
(10) ... انظر: تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي. ترجمة (481) ـ (600).
(11) ... الكامل في ضعفاء الرجال 4/1607.(1/63)
وهذا الرجل قد عرفه ابن يونس وإليه المرجع في معرفة أهل مصر والمغرب، وقد ذكره ابن خلفون في الثقات وقال: "كان رجلاً صالحاً جميل السيرة"...))(1).
5 ـ قد يقع التجهيل من إمام في حق أئمة مشهورين فلا يضرّهم ذلك شيئاً.
ومن ذلك أن أبا محمد بن حزم قد قال في كل من أبي عيسى الترمذي وإسماعيل بن محمد الصفّار: ((مجهول))(2).
وقد علق الحافظ ابن كثير على تجهيل ابن حزم للترمذي بأن جهالته له لا تضع من قدره عند أهل العلم، بل وضعت من منزلة ابن حزم عند الحفّاظ(3).
6 ـ قال السخاوي: ((قول أبي حاتم في الرجل: "إنه مجهول" لا يريد به أنه لم يرو عنه سوى واحد، بدليل أنه قال في داود بن يزيد الثقفي: "مجهول"(4). مع أنه قد روى عنه جماعة(5).
ولذا قال الذهبي عقبه: هذا القول يُوَضِّحُ لك أن الرجل قد يكون مجهولاً عند أبي حاتم، ولو روى عنه جماعة ثقات. يعني أنه مجهول الحال))(6).
وقول السخاوي: إن إطلاق أبي حاتم للمجهول لا يريد به أنه لم يرو عنه سوى واحد، أي: أن إطلاقه عنده أشمل من ذلك وأعم، حيث يشمل كلا النوعين وليس محصوراً في مجهول العين.
ويحصل تحديد المراد بقول أبي حاتم: "فلان مجهول" بالنظر في ترجمة ذلك الراوي. هل تفرّد بالرواية عنه راو واحد فيكون مجهول العين أو روى عنه اثنان فيكون مجهول الحال؟.
__________
(1) ... تهذيب التهذيب 6/218.
(2) ... انظر: المُحَلَّى 9/296، 344، وقواعد في علوم الحديث ص 268 ـ 272.
(3) ... البداية والنهاية 11/67.
(4) ... الجرح والتعديل 3/428.
(5) ... أولئك الجماعة هم: قتيبة بن سعيد، وهشام بن عبيد الله الرازي، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، والحكم بن المبارك الخاشتي، انظر: المصدر السابق 3/428.
(6) ... تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 171-180هـ) ص 113، وفتح المغيث 1/318.(1/64)
7 ـ من عادة الأئمة أن لا يطلقوا كلمة (مجهول) إلّا في حق من يغلب على الظن كونه مجهولاً لا يُعْرَفُ مطلقاً، والغالب أن هذا الإِطلاق لا يصدر إلّا من إمام مطّلع. وأما إذا أراد الإِمام أنه لا يَعْرِفُ الرجلَ فإنه يقول: (مجهول لا أعرفه أو لا أعرف حاله)(1).
8 ـ جميع من ضُعِّفَ من النساء إنما ضُعِّفْنَ للجهالة(2).
قال الحافظ الذهبي: ((ما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها))(3).
9ـ لا يُعتبر سكوت البخاري، وابن أبي حاتم عن توثيق الراوي وتضعيفه توثيقاً له ولا جرحاً فيه(4). ويوضح ذلك مايلي:
أ ـ قول الحافظ ابن حجر في كلامه عن يزيد بن عبد الله بن مغفّل: ((قد ذكره البخاري في تاريخه(5) فسماه يزيد، ولم يذكر فيه هو ولا ابن أبي حاتم(6) جرحاً فهو مستور))(7).
ب ـ قول ابن أبي حاتم في بيان منهجه في كتابه (الجرح والتعديل): ((... على أنّا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من رُويَ عنه العلم، رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم، فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى))(8).
__________
(1) ... انظر: لسان الميزان 1/432.
(2) ... تدريب الراوي 1/321.
(3) ... ميزان الاعتدال 4/604.
(4) ... قال أبو زرعة بن الحافظ العراقي -في ترجمة عبدالكريم بن أبي المخارق-: "قال الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد الأصيلي: بيّن مسلمٌ جرحَه في صدر كتابه، وأما البخاري فلم يُنبّه من أمره على شيء يَدُلّ على أنّه عنده على الاحتمال؛ لأنه قد قال في التاريخ: كلّ من لم أُبَيّن فيه جرحاً فهو على الاحتمال، وإذا قُلت: فيه نظر، فلا يُحتمل". البيان والتوضيح ص 144.
(5) ... انظر: التاريخ الكبير 8/441.
(6) ... انظر: الجرح والتعديل 9/324.
(7) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 2/769. وانظر: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 114.
(8) ... الجرح والتعديل 2/38.(1/65)
ولذلك قال الحافظ ابن كثير في ذكره لموسى بن جبير الأنصاري السلمي مولاهم: ((... وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك فيه شيئاً من هذا ولا هذا فهو مستور الحال))(1).
10 ـ جهالة التعيين أن يقول الراوي: (حدثني فلان، أو فلان) ويسميهما فإن كانا ثقتين فالحجّة قائمة بذلك، وإن جُهِلَتْ حالُ أحدهما مع التصريح باسمه أو أبهم فلا حجّة بذلك(2)، لاحتمال أن يكون المُخْبِرُ هو المجهول(3).
الفصل الثاني
ما يختص بالعدالة
القسم الثاني: ما يختص بالعدالة:
خمسة أوجه هي:
1 ـ انخرام المروءة. ... 2 ـ الابتداع.
3 ـ الفسق. ... 4 ـ التهمة بالكذب.
5 ـ الكذب.
الوجه الأول: انخرام المروءة:
المروءة هي: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإِنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات(4).
ولما كانت المروءة تتعلق بالأخلاق والعادات صار مرجعها إلى العُرْفِ.
والأمور العُرفية قَلَّما تنضبط، بل هي تختلف باختلاف الأشخاص والبلدان فربّما جرت عادة أهل بلد بمباشرة أمور، لو باشرها غيرهم لَعُدَّ ذلك خرماً للمروءة(5) وإن كانت مباحة شرعاً، كالأكل في الأسواق والانبساط في المداعبة والمزاح... ونحو ذلك.
متى يُجْرح الراوي بالقدح في مروءته؟:
قال الخطيب البغدادي: ((الذي عندنا في هذا الباب ردّ خبر فاعلي المباحات إلى العالِم، والعمل في ذلك بما يقوى في نفسه.
فإن غلب على ظنه من أفعال مرتكب المباح المسقط للمروءة أنّه مطبوع على فعل ذلك والتساهل به، مع كونه ممن لا يحمل نفسه على الكذب في خبره وشهادته بل يرى إعظام ذلك وتحريمه والتنزّه عنه قَبِلَ خبره.
__________
(1) ... تفسير القرآن العظيم 1/138.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/319 ـ 320.
(3) ... انظر: تدريب الراوي 1/322.
(4) ... المصباح المنير 2/234. مادة (مرأ).
(5) ... انظر: فتح المغيث 1/288.(1/66)
وإن ضعفت هذه الحال في نفس العالِم واتهمه عندها وجب عليه ترك العمل بخبره ورد شهادته))(1).
ومن القدح بانخرام المروءة المنع من كتابة الحديث عمن يأخذ الأجر على التحديث، فقد منع بعض الأئمة كإسحاق بن راهويه والإمام أحمد وأبي حاتم من ذلك(2).
وذلك لمايلي:
1 ـ لما في أخذ الأجر على ذلك من خرم المروءة(3). فقد شاع بين أهل الحديث التخلق بعلو الهمم وظهارة الشيم وتنزيه العِرْضِ عن مدّ العين إلى شيء من العَرَضِ(4).
2 ـ ولأنه قد يُساء الظن بآخذ الأجر(5).
قال الخطيب البغدادي: ((إنما منعوا ذلك تنزيهاً للراوي عن سوء الظن به؛ لأن بعض من كان يأخذ الأجر على الرواية عُثِرَ على تَزَيُّدِهِ وادعائه ما لم يسمع لأجل ما كان يُعْطَى))(6).
لكن قد استثنى ابن الصلاح من ذلك من اقترن أخذه للأجر بعذر ينفي عنه سوء الظن ويدفع عنه خرم المروءة، كما حصل من أبي الحسين ابن النقور إذ فعل ذلك لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث؛ لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه من الكسب لعياله(7).
وقد ترخّص بعض الأئمة في أخذ الأجر، وذلك شبيهٌ بأخذ الأجر على تعليم القرآن ونحوه(8). ومن أولئك الأئمة:
1 ـ أبو نعيم الفضل بن دُكَين.
قال الذهبي: ((ثبت عنه أنه كان يأخذ على الحديث شيئاً قليلاً لفقره))(9).
2 ـ علي بن عبد العزيز البغوي المكي.
قال الذهبي: ((أما النسائي فمقته لكونه كان يأخذ على الحديث، ولا شك أنه كان فقيراً مجاوراً))(10).
وقال أيضاً: ((ثقة لكنه يطلب على التحديث ويعتذر بأنه محتاج))(11).
__________
(1) ... الكفاية ص 182.
(2) ... انظر: المصدر السابق ص 241.
(3) ... علوم الحديث ص 235.
(4) ... فتح المغيث 1/346.
(5) ... انظر: علوم الحديث ص 235.
(6) ... الكفاية ص 241.
(7) ... انظر: علوم الحديث ص 235.
(8) ... انظر: علوم الحديث ص 235.
(9) ... سير أعلام النبلاء 10/152.
(10) ... تذكرة الحفاظ 2/623.
(11) ... ميزان الاعتدال 3/143.(1/67)
الوجه الثاني: الابتداع:
المراد بالابتداع: اعتقاد ما حدث على خلاف المعروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأصحابه) لا بمعاندة بل بنوع شبهة(1).
آراء العلماء في حكم رواية المبتدع:
المبتدعة على قسمين. هما:
1 ـ القسم الأول:
مَنْ لا يُكَفَّر ببدعته كالخوارج والروافض غير الغلاة وسواهم من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافاً ظاهراً لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ(2).
2 ـ القسم الثاني:
مَنْ يُكَفَّر ببدعته التي يكون التكفير بها متفقاً عليه من قواعد جميع الأئمة كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في علي -رضي الله عنه-، أو في غيره. أو الإِيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة(3).
فأما مَنْ لا يُكَفَّر ببدعته ففي قبول روايته مذاهب. هي :
1ـ مذهب طائفة من السلف ـ منهم محمد بن سيرين، والإِمام مالك ـ ردّ رواية المبتدع مطلقاً(4).
ومأخذ هذا القول مايلي:
أ ـ أن المبتدع فاسق ببدعته، فكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول(5).
ب ـ أن الهوى والبدعة لا يؤمن معهما الكذب، لا سيما فيما إذا كان ظاهر الرواية يعضد مذهب المبتدع(6).
ج ـ أن في قبول رواية المبتدع ترويجاً لأمره وتنويهاً بذكره(7).
__________
(1) ... نزهة النظر ص44، واجتناء الثمر في مصطلح أهل الأثر ص 41.
(2) ... انظر: هدي الساري ص 385.
(3) ... انظر: هدي الساري ص 385.
(4) ... انظر: الكفاية ص 194، وعلوم الحديث ص 228، وشرح علل الترمذي 1/356.
(5) ... علوم الحديث ص 228. وانظر: فتح المغيث 1/326.
(6) ... انظر: شرح علل الترمذي 1/357.
(7) ... نزهة النظر ص 50.(1/68)
2 ـ مذهب الإِمام أبي حنيفة، والإِمام الشافعي، ويحيى بن سعيد القطّان وعلي ابن المديني: قبول رواية المتبدع مالم يُتَّهمْ باستحلال الكذب لنصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن داعية إليها(1). ومأخذ هذا القول مايلي:
أ ـ أن اعتقاد حرمة الكذب تمنع من الإِقدام عليه فيحصل الصدق(2).
ب ـ أن الضرورة ملجئة إلى قبول روايته، كما قال علي بن المديني: ((لو تركت أهل البصرة للقدر وتركت أهل الكوفة للتشيّع لخربت الكتب))(3). يعني لذهب الحديث(4).
3 ـ مذهب الكثير ـ أو الأكثر ـ من العلماء: التفصيل.
وذلك بقبول رواية غير الداعية إلى بدعته وردّ حديث الداعية(5).
ومأخذ هذا القول: أن المبتدع إذا كان داعية كان عنده باعث على رواية ما يشيد به بدعته(6)، وقد يحمله ذلك على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه(7).
وقد تنوّعت آراء الأئمة القائلين بهذا التفصيل على مايلي:
أ ـ مِن الأئمة مَن اكتفى بالتفصيل المذكور(8).
ب ـ ومنهم من فَصَّل في شأن غير الداعية. فقال: إن اشتملت روايته على ما يشيّد بدعته ويزيّنها ويحسّنها ظاهراً، فلا تقبل وإن لم تشتمل على ذلك فتقبل(9).
ج ـ ومنهم من فَصَّل في شأن الداعية. فقال: إن اشتملت روايته على ما يرد بدعته قُبِلتْ، وإلّا فلا تقبل(10).
__________
(1) ... انظر: الكفاية ص 194، وعلوم الحديث ص 228، وشرح علل الترمذي 1/356، ولسان الميزان 1/10.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/327
(3) ... انظر: الكفاية ص 206، وشرح علل الترمذي 1/356.
(4) ... الكفاية ص 206.
(5) ... انظر: علوم الحديث ص 229.
(6) ... لسان الميزان 1/10.
(7) ... نزهة النظر ص 50.
(8) ... انظر: هدي الساري ص 385.
(9) ... انظر: المصدر السابق ص 385.
(10) ... انظر: المصدر السابق ص 385.(1/69)
د ـ فَصَّل ابن دقيق العيد في شأن الداعية من حيث تفرده بالحديث أو عدم تفرده. فقال: ((نرى أنّ من كان داعية لمذهبه المبتدع متعصباً له متجاهراً بباطله أن تترك الرواية عنه إهانة له وإخماداً لبدعته... اللهم إلّا أن يكون ذلك الحديث غير موجود لنا إلّا من جهته، فحينئذ تُقدّم مصلحة حفظ الحديث على مصلحة إهانة المبتدع))(1).
4 ـ ثمة روايات عن الإِمام أحمد تُوْحي بأن الحكم بقبول رواية المبتدع وردّها يختلف بحسب نوع بدعته.
قال الحافظ ابن رجب: ((قال أحمد ـ في رواية أبي داود ـ: "احتملوا من المرجئة الحديث، ويكتب عن القدري إذا لم يكن داعية".
وقال المروزي: ((كان أبو عبد الله يحدّث عن المرجئ إذا لم يكن داعياً ولم نقف على نصّ له في الجهمي أنه يروي عنه إذا لم يكن داعياً، بل كلامه فيه عام، أنه لا يروى عنه".
فيخرج من هذا: أن البدع الغليظة كالتجهم يردّ بها الرواية مطلقاً والمتوسطة كالقدر إنما يردّ رواية الداعية إليها، والخفيفة كالإِرجاء. هل يقبل الرواية معها مطلقاً أو يردّ عن الداعية؟ على روايتين))(2).
فأما المذهب الأول، فهو كما قال ابن الصلاح: ((بعيد مباعِدٌ للشائع من أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدّعاة، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول))(3).
ويجاب عن أدلة ذلك القول بمايلي:
أ ـ أنه لا يلزم من استواء الحكم في حق الكافر استواؤه في حق الفسّاق من أهل القبلة.
__________
(1) ... الاقتراح في بيان الاصطلاح ص 336 ـ 337.
(2) ... شرح علل الترمذي 1/358.
(3) ... علوم الحديث ص 230.(1/70)
ب ـ أن قياس الفاسق المتأول على غير المتأول قياس الفارق؛ لأن الفاسق غير المتأول قد أوقع الفسق مجانةً وعناداً. وأما المتأول فقد اعتقد ما يعتقده ديانة(1).
جـ ـ أن تقييد قبول رواية المبتدع بكونه غير متهم باستحلال الكذب له أصل من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك، لِمَا رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم))(2).
د ـ أن ما في الرواية عن المبتدعة من الترويج لأمرهم والتنويه بذكرهم يقابله ما في تركها من تفويت شطر من السنن منه ما تفرّدوا بحمله، ومنه ما توبعوا عليه، وقد أتقنوا حمله وأداءه.
وأما المذهبان الثاني والثالث فيُستخلص من مجموعهما أن مقتضى الاحتياط الشديد في قبول رواية المبتدع أن لا تقبل إلّا بالشروط التالية:
أ ـ أن يكون صادقاً مأموناً فيما يؤدّيه بأن لا يستحلّ الكذب لنصرة مذهبه.
ب ـ أن يكون غير داعية إلى بدعته.
جـ ـ أن لا يكون ظاهر الحديث المروي موافقاً لمذهب المبتدع. فقد قال
أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ((ومنهم (يعني المبتدعة) زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس حديثه إذْ كان مخذولاً في بدعته مأموناً في روايته، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلّا أن يؤخذ من حديثهم ما يُعْرَف إذا لم يقوّ به بدعته فيتّهم عند ذلك))(3).
__________
(1) ... انظر: الكفاية ص200. فقد نقل الخطيب ذلك لكنه لم يرضه جواباً لعدم الفرق لديه بين المتأول من الفساق وغير المتأول قياساً على استواء الأمرين في حق الكافر.
(2) ... المصدر السابق ص 201.
(3) ... أحوال الرجال ص 32. وانظر: لسان الميزان 1/11.(1/71)
ووجّه الحافظ ابن حجر هذا الشرط بقوله: ((وما قاله (يعني الجوزجاني) متّجه؛ لأن العلّة التي لها رُدَّ حديث الداعية واردةٌ فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية))(1).
لكن الممارسة لأساليب ذوي الانتقاء من الأئمة تُؤكِّدُ ((أن العبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه (كما أنّ) المتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من أهل البِدَعِ موضعاً للثقة والاطمئنان وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه))(2).
ويوضح ذلك مايلي:
1 ـ قول الحافظ ابن كثير: ((وقد قال الشافعي: "أقبل شهادة أهل الأهواء إلّا الخطّابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم".
فلم يُفَرِّقْ الشافعي في هذا النص بن الداعية وغيره، ثم ما الفرق في المعنى بينهما؟. وهذا البخاري قد خرّج لعمران بن حطّان الخارجي مادح عبد الرحمن
ابن مُلْجَم قاتل علي ـ رضي الله عنه ـ وهذا من أكبر الدعاة إلى البدعة))(3) لا سيما وقد جاءت الرواية عند البخاري من طريق يحيى بن أبي كثير عن عمران بن حطّان وإنما سمع منه يحيى باليمامة حال هروبه من الحجاج، حيث كان يتطلّبه ليقتله لكونه من دعاة الخوارج(4).
ب ـ قول الحافظ الذهبي: لقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحَدُّ الثقة العدالة والإِتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟.
وجوابه أن البدعة على ضربين:
فبدعة صغرى كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة.
__________
(1) ... نزهة النظر ص 51.
(2) ... الباعث الحثيث ص 84.
(3) ... اختصار علوم الحديث ص 83.
(4) ... أخرج البخاري لعمران بن حطّان حديثاً واحداً في المتابعات. انظر: هدي الساري ص 433.(1/72)
ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة.
وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يُقبلُ نقلُ من هذا حاله؟ حاشا وكلاّ.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعُرْفِهم هو من تكلَّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا ـ رضي الله عنه ـ وتعرض لسبّهم.
والغالي في زماننا وعُرْفِنا هو الذي يُكَفّر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال مفتر))(1).
جـ ـ قول الحافظ ابن حجر: ((التشيع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل عليّ على عثمان، وأن علياً كان مصيباً في حروبه، وأن مخالفه مخطئ مع تقديم الشيخين وتفضيلهما وربما اعتقد بعضهم أن علياً أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان معتقد ذلك ورعاً دَيِّناً صادقاً مجتهداً، فلا تردّ روايته بهذا لا سيما إن كان غير داعية.
وأما التشيع في عرف المتأخرين فهو الرفض المحض، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي ولا كرامة))(2).
وقد ذكر الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة ـ رحمه الله تعالى ـ توجيهاً دقيقاً لمثل هذه المواطن. فقال: ((إذا وجدنا بعض الأئمة الكبار من أمثال البخاري ومسلم لم يتقيّد فيمن أخرج لهم في كتابه ببعض القواعد فذلك لاعتبارات ظهرت لهم رجّحت جانب الصدق على الكذب والبراءة على التهمة.
وإذا تعارض كلام الناقد وكلام صاحبي الصحيحين فيمن أخرج لهم الشيخان من أهل البدع، قدّم كلامهما واعتبارهما للرواي على كلام غيرهما لأنهما أعرف بالرجال من غيرهما))(3).
ولعلَّه يقصد بهذه الاعتبارات مايلي:
__________
(1) ... ميزان الاعتدال 1/5 ـ 6.
(2) ... تهذيب التهذيب 1/94.
(3) ... الوسيط في علوم ومصطلح الحديث ص 396.(1/73)
أ ـ أن يكون اتهام الراوي بالبدعة ظناً، فقد اتهم عبدُ الوارث بن سعيد التنوري البصري بالقدر لأجل ثنائه على عمرو بن عبيد، حيث قال: ((لولا أنني أعلم أنه صدوق ما حدّثت عنه))(1).
قال البخاري: ((قال عبد الصمد بن عبد الوارث: مكذوبٌ على أبي وما سمعت منه يقول في القدر قط شيئاً))(2).
ب ـ أن يكون نقل الابتداع مُخْتَلَفاً في ثبوته عن الراوي، فقد تكلم سعيد بن عبد العزيز التنوخي في حسّان بن عطية المحاربي من أجل القول بالقدر، وأنكر ذلك الأوزاعي(3).
جـ ـ أن يثبت نقل الابتداع عن الراوي ويصح رجوعه عن البدعة وتوبته منها، فقد صح رجوع بشر بن السَّرِي البصري عن التجهم(4).
د ـ أن يرى الراوي بدعة معينة يعتقدها ولا يتكلم فيها، فضلاً عن عدم دعوته إليها، فقد كان عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج يرى القدر.
قال أبو داود: ((لكنه كان لا يتكلم فيه))(5).
هـ ـ أن لا يكون الراوي داعية إلى بدعته فقد كان عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السّامي، وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي ويحيى بن حمزة الحضرمي يرون القدر ولا يدعون إليه(6).
ومن أخرج لهم الأئمة من غير الأصناف السابقة اعتماداً على ما عُرِفَ عنهم من الصدق والأمانة، كما قال الحافظ الذهبي: ((أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد لكنه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته))(7).
__________
(1) ... انظر: هدي الساري ص 422.
(2) ... المصدر السابق ص 422. وانظر: التاريخ الكبير 6/118.
(3) ... انظر: هدي الساري ص 396.
(4) ... انظر: سير أعلام النبلاء 9/333، وهدي الساري ص 393.
(5) ... هدي الساري ص 415.
(6) ... انظر: هدي الساري ص 416 ـ 448 ـ 451.
(7) ... ميزان الاعتدال 1/5.(1/74)
ز ـ من عُدِلَ بروايته عن الأصول إلى المتابعات والشواهد، أو لم يُخرجْ حديثه إلّا مقروناً بغيره، كما أخرج البخاري حديث عباد بن يعقوب (الرواجني الكوفي) مقروناً(1).
وقد قال ابن خزيمة: ((حدثنا الثقة في روايته المتهم في دينه عبّاد بن يعقوب))(2).
وقد نقل الحافظ الذهبي عن الحافظ محمد بن البرقي قوله: ((قلت ليحيى
ابن معين: أرأيت من يُرمى بالقدر يكتب حديثه؟ قال: نعم، قد كان قتادة وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الوارث ـ وذكر جماعة ـ يقولون بالقدر، وهم ثقات، يكتب حديثهم ما لم يدعوا إلى شيء.
قال الذهبي: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا عُلِمَ صدقُه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعياً إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته، والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية، هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفّاظ إلى تجنب حديثه، وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية، ووجدنا عنده سنّة تفرّد بها، فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنّة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تُؤْذِنُ بأن المبتدع إذا لم تُبِحْ بدعتُه خروجَه من دائرة الإِسلام، ولم تبح دمه، فإن قبول ما رواه سائغ.
وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة، ولم يُعَدّ من رؤوسها، ولا أمعن فيها يُقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الإِسلام لصدقهم وحفظهم))(3).
__________
(1) ... قال ابن حجر: "صدوق رافضي، حديثه في البخاري مقرون، بالغَ ابنُ حبان فقال: يستحق الترك". تقريب التهذيب ص 291.
(2) ... تهذيب الكمال 14/177.
لكن رجع ابن خزيمة عن التحديث عنه، فقد روى الخطيب بإسناده عنه أَنّه سئل عن أحاديث
لعباد بن يعقوب، فامتنع منها، ثم قال: "قد كنت أخذتُ عنه بشريطة، والآن فإني أرى ألّا أحدّث عنه، لغُلُوّه". الكفاية ص 209-210.
(3) ... سير أعلام النبلاء 7/153 ـ 154. ...(1/75)
وأما من يُكَفَّر ببدعته. فقد قال الحافظ ابن كثير: ((لا إشكال في ردّ روايته))(1).
وهذا هو المختار وإلّا فقد حكى الحافظ ابن حجر الخلاف في ذلك فقال مُشِيراً إلى البدعة المكفّرة: ((لا يَقْبَلُ صاحبَها الجمهورُ. وقيل: يُقبل مطلقاً. وقيل: إن كان لا يعتقد حِلَّ الكذب لنصرة مقالته قُبِلَ.
والتحقيق: أنه لا يردّ كل مكفّر ببدعته؛ لأن كل طائفة تَدَّعِي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفّر مخالفيها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف.
فالمعتمد أن الذي تُرد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه.
فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله))(2).
وقال أيضاً: ((الذي يظهر أن الذي يُحْكم عليه بالكفر:
1 ـ من كان الكفرُ صريحَ قولِه.
2 ـ وكذا من كان (الكفرُ) لازمَ قولِه وعُرِض عليه فالتزمه.
وأما من لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافراً، ولو كان اللازم كفرا))(3).
قال السخاوي: ((وينبغي حمله(4) على غير القطعي ليوافق كلامه الأول))(5).
الوجه الثالث: الفسق:
المراد بالفاسق: من عُرِفَ بارتكاب كبيرة(6)، أو بإصرار على صغيرة(7).
__________
(1) ... اختصار علوم الحديث ص 83.
(2) ... نزهة النظر ص 50.
(3) ... فتح المغيث 1/333. وانظر: مجموع الفتاوى20/217، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 12 ـ 13.
(4) ... المراد: حمل هذا الكلام الأخير.
(5) ... فتح المغيث 1/333.
(6) ... من الكبائر : الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله عليه الصلاة والسلام: »من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار«. وإنما أفرد بالذكر في (الوجه الخامس) لكون القدح به في الرواي أشد في هذا الفن (فن الرواية) انظر: نزهة النظر ص 44.
(7) ... انظر: فتح المغيث 1/287.(1/76)
فمن ظهر فسقه من الرواة فحديثه مردود سواء كان فسقه بالفعل أو بالقول(1).
ويُسمَّى حديثه بـ (المنكر) على رأي من لا يشترط في المنكر وقوع المخالفة(2) فإن للمنكر إطلاقين هما:
1 ـ ما تفرّد به ضعيف لا يحتمل ضعفه لفسقه أو فحش غلطه أو كثرة غفلته(3).
2 ـ ما رواه الضعيف مخالفاً من هو أوثق منه أو جمعا من الثقات(4).
الوجه الرابع: التهمة بالكذب:
يتجه الاتهام بالكذب إلى الراوي في حالتين هما:
1ـ أن يتفرّد الراوي برواية ما يخالف أصول الدين وقواعده العامة(5). إذا لم يكن في الإِسناد من يُتَّهم بذلك غيره.
قال الحافظ الذهبي: ((أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى، لا أعرفه لكن روى عنه شيخ الإِسلام الهروي خبراً موضوعاً، ورواته سواه ثقات فهو المتهم به))(6).
2ـ أن يُعرف عنه الكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي(7).
وحديث المتهم بالكذب يسمى (المتروك)(8).
الوجه الخامس: الكذب:
المراد بالكذب في الحديث النبوي: أن يروي راو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله (ولم يفعله ولم يُقِرّه) مُتَعمِّداً لذلك(9).
والكذاب من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - متعمّداً ولو مرة واحدة.
وحديث الكذاب يسمى (الموضوع)(10).
__________
(1) ... انظر: نزهة النظر ص 44.
(2) ... انظر: المصدر السابق ص 45.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 45.
(4) ... انظر: المصدر السابق ص 35.
(5) ... انظر: نزهة النظر ص 44.
(6) ... ميزان الاعتدال 1/129.
(7) ... انظر: نزهة النظر ص 44.
(8) ... انظر: المصدر السابق ص 45.
(9) ... انظر: نزهة النظر ص 43 ـ 44.
(10) ... الحكم على حديث الكذاب بـ (الوضع) إنما هو بطريق الظن الغالب لا بالقطع إذ قد يصدق الكذوب لكن لأهل العلم بالحديث ملكةٌ قوية يُميِّزون بها ذلك. نزهة النظر ص 44.(1/77)
حكم رواية التائب من الكذب(1) متعمِّداً(2) في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
اختلف العلماء في قبول رواية التائب من الكذب في الحديث النبوي على قولين. هما:
1 ـ قول الإِمام أحمد وأبي بكر الحُميدي وأبي بكر الصيرفي(3): ((لا تقبل روايته أبداً وإن حسنت توبته))(4).
قال النووي: ((ولم أر دليلاً لمذهب هؤلاء . ويجوز أن يوجّه بأن ذلك جُعِلَ تغليظاً وزجراً بليغاً عن الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة, فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة))(5).
2 ـ اختيار أبي زكريا النووي: قبول روايته إذا صحت توبته.
__________
(1) ... قال الحافظ الذهبي: "أحمد بن عبيد الله أبو العزّ بن كادش، مشهور، من شيوخ ابن عساكر، أقرّ بوضع حديث ثم تاب وأناب". ميزان الاعتدال 1/118.
(2) ... قال السخاوي: "ويلتحق بالعمد من أخطأ وصمم بعد بيان ذلك له ممن يثق بعلمه مجرد عناد. وأما من كذب عليه - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال معتقداً أن هذا لا يضر ثم عرف ضرره فتاب، فالظاهر ـ كما قال بعض المتأخرين ـ قبول رواياته. وكذا من كذب دفعاً لضرر يلحقه من عدو وتاب منه". فتح المغيث 1/335.
(3) ... قال الصيرفي: "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نَعُدْ لقبوله بتوبة تظهر...".
وظاهر كلامه الإطلاق سواء كان الكذب في الحديث النبوي أو في غيره. انظر: علوم الحديث ص 231.
لكن قال العراقي: "الظاهر أن الصيرفي إنما أراد الكذب في الحديث بدليل قوله: (من أهل النقل). وقد قيده بالمحدّث فيما رأيته في كتابه المسمى بـ (الدلائل والأعلام) فقال: "وليس يُطعن على المحدث إلّا أن يقول: تعمدت الكذب فهو كاذب في الأول ولا يقبل خبره بعد ذلك". التقييد والإيضاح ص 151.
(4) ... انظر: علوم الحديث ص 231.
(5) ... شرح النووي لصحيح مسلم 1/70.(1/78)
قال النووي: ((وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة(1) ضعيف مخالف للقواعد الشرعية.
والمختار: القطع بصحّة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة.
وهي الإِقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها فهذا هو الجاري على قواعد الشرع.
وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة. وأجمعوا على قبول شهادته ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا))(2).
وكلام النووي يُوحي بأنه فهم من كلام الأئمة عدم قبول توبة الكاذب في الحديث النبوي، وذلك مخالف لما ورد عن الإِمام أحمد. فقد صرح بقبول توبته فيما بينه وبين الله تعالى(3).
ولكن محل النزاع هنا قبول روايته بعد التوبة، فالظاهر، قبولها كما قال الصنعاني: ((لا وجه لرد رواية الكذاب في الحديث بعد صحة توبته إذ بعد صحتها قد اجتمعت فيه شروط الرواية، فالقياس قبوله))(4).
الفصل الثالث
ما يختص بالضّبط
القسم الثالث: ما يختصّ بالضبط وحده:
منه ما يشمل ضبط الصدر وضبط الكتاب معاً، ومنه ما يختص بكل واحد منهما.
فأما ما يشمل ضبط الصدر وضبط الكتاب معاً، فوجه واحد هو:
التساهل في سماع الحديث (التحمل)، أو إسماعه (الأداء)، وذلك كعدم المبالاة بالنوم في مجلس السماع، فإن من عُرِفَ بذلك لم تقبل روايته(5).
ومن ضوابط هذا الوجه:
1 ـ أنه لا يضر في كل من التحمل والأداء النعاس الخفيف الذي لا يَخْتَلُّ معه فهم الكلام، ولا سيما من الفَطِن، فقد كان الحافظ أبو الحجاج المِزّي ربما ينعس في حال إسماعه ويغلط القارئ أو يزل فيبادر للرد عليه(6).
__________
(1) ... هم أصحاب القول الأول.
(2) ... شرح النووي لصحيح مسلم 1/70.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/335. ...
(4) ... توضيح الأفكار 2/243.
(5) ... انظر: علوم الحديث ص 235.
(6) ... فتح المغيث 1/355.(1/79)
2 ـ قد يوجد في طباق السماع التنبيه على نعاس السامع أو المُسْمِع فربما كان ذلك في حق من جُهِلَ حاله أو عُلِمَ بعدم الفهم(1).
وأما ما يختصّ بضبط الصدر، فخمسة أوجه هي:
1 ـ سوء الحفظ. ... 2 ـ كثرة المخالفة. ... 3 ـ كثرة الوهم.
4 ـ شِدّة الغفلة. ... 5 ـ فُحْش الغلط.
الوجه الأول: سوء الحفظ:
المراد بسوء الحفظ: أن لا يترجّح جانب إصابة الراوي على جانب خطئه(2).
وسوء الحفظ قسمان هما:
1 ـ ما يكون ملازماً للراوي، فهذا يدور الحكم على حديثه بحسب ما تقتضيه قرائن الجرح والتعديل وغيرها من القرائن، فقد توجد قرينة تقتضي قبول روايته، وقد توجد قرينة تقتضي تضعيفها.
ويوضّح ذلك أن من كان صدوقاً سيء الحفظ ففي حديثه ضَعْفٌ(3) يزول بكونه أثبت من يروي عن شيخ معين إذا جاءت روايته عن ذلك الشيخ لطول ملازمته له وخِبْرته بحديثه.
ويزداد ضعفاً بكونه ممن سمع من شيخه المختلط بعد اختلاطه.
2 ـ ما يكون طارئاً على الراوي، إما لكبره أو لذهاب بصره أو لاحتراق كتبه أو عدمها، بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساء حفظه(4)، فهذا هو ما يعرف بـ (الاختلاط)(5).
فالمختلط يقبل من حديثه ما حدّث به قبل الاختلاط، ولا يقبل حديث من أخذ عنه بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يُدْر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده(6)؟ لكن ما عُرِفَ أن المختلط حدّث به بعد اختلاطه أولم يتميّز كونه حدّث به قبل الاختلاط أو بعده، فهذا يتقّوى بالمتابعة أو الشاهد ليرتقي بذلك إلى مرتبة الحسن لغيره(7).
__________
(1) ... المصدر السابق 1/355.
(2) ... انظر: نزهة النظر ص 51.
(3) ... (في حديثه ضعف) أي: لا يحتج به إلّا على لين، لكن لا يحكم عليه بأنه ضعيف لأن الحكم بذلك يحتاج إلى قرينة مرجحة لضعفه.
(4) ... نزهة النظر ص 51.
(5) ... الاختلاط: فساد العقل وعدم انتظام الأقوال والأفعال، فتح المغيث 3/331. ط السلفية.
(6) ... انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 594.
(7) ... انظر: نزهة النظر ص 51 ـ 52.(1/80)
ومن ضوابط موضوع الاختلاط مايلي:
1 ـ أن صاحبي الصحيحين لم يخرجا من روايات المختلطين في صحيحهما إلّا على سبيل الانتقاء بأحد أمرين:
أ ـ أن ترد من طريق من سمع منهم قبل الاختلاط.
ب ـ أو ترد من طريق من سمع بعد الاختلاط، لكن حيث يتوافق عدد من الرواة على ذلك، أو يوافقهم عليه الثقات الأثبات، كما هو الشأن فيما يُخرج في المتابعات، أو حيث يُخرج حديث الراوي مقروناً بغيره.
قال الحافظ ابن حجر في توجيه ما أخرجه البخاري من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بن دعامة: ((وأمّا ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة فأكثره من رواية من سمع منه قبل الاختلاط وأخرج عمن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً، كمحمد بن عبد الله الأنصاري، وروح بن عبادة، وابن أبي عدي. فإذا أخرج من حديث هؤلاء انتقى منه ما توافقوا عليه))(1).
وقال أيضاً في بيان وجه إخراج البخاري لسهيل بن أبي صالح السمّان: ((له في البخاري حديث واحد في الجهاد مقرون بيحيى بن سعيد الأنصاري، كلاهما عن النعمان بن أبي عيّاش عن أبي سعيد وذكر له حديثين آخرين متابعة في الدعوات))(2).
2 ـ قد يعرف كون الراوي المختلط أو الذي تغيّر حفظه لم يُحَدِّثْ حال الاختلاط أو التغير بأمور منها:
أ ـ أن يحجبه أولاده أو بعض تلاميذه عن التحديث.
ومن ذلك: أن جرير بن حازم الأزدي قد اختلط فحجبه أولاده فلم يسمع منه أحد في حال اختلاطه(3).
ب ـ أن يقع التغيّر في مرض الموت.
قال أحمد بن أبي خيثمة: ((سمعت أبي ويحيى يقولان: أنكرنا عفان (بن مسلم الصفّار) في صفر لأيام خلون منه سنة تسع عشرة ومائتين، ومات بعد أيام))(4).
قال الذهبي: ((كل تغيّر يوجد في مرض الموت فليس بقادح في الثقة فإن غالب الناس يعتريهم في المرض الحاد نحو ذلك، ويَتِمُّ لهم وقت السياق وقبله أشد من ذلك.
__________
(1) ... هدي الساري ص 406.
(2) ... هدي الساري ص 408.
(3) ... ميزان الاعتدال 1/392.
(4) ... تاريخ بغداد 12/277.(1/81)
وإنما المحذور أن يقع الاختلاط بالثقة فيحدث في حال اختلاطه بما يضطرب في إسناده أو متنه فيخالف فيه))(1).
ويستعان على معرفة من سمع من المختلطين قبل الاختلاط أو بعده بالكتب المختصة بذلك. ومنها:
أ ـ الاغتباط بمعرفة من رُمي بالاختلاط(2) لبرهان الدين الحلبي (سبط
ابن العجمي، ت 841هـ).
ب ـ الكواكب النيِّرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات(3) لأبي البركات محمد بن أحمد بن الكيال، ت 939هـ.
الوجه الثاني: كثرة المخالفة:
المراد بالمخالفة: أن يخالف الراوي من هو أوثق منه أو جمعاً من الثقات.
ويحكم على الرواية التي وقعت فيها المخالفة بحسب ما تقتضيه قواعد مصطلح الحديث ممايلي:
1ـ إن كانت المخالفة بالمغايرة التامة في المعنى بحيث يقع التضاد بين الروايتين، فذلك (الشاذ) إن كان الراوي ثقة أو صدوقاً وهو (المنكر) إن كان الراوي ضعيفاً(4).
2ـ وإن كانت المخالفة بتغيير سياق الإِسناد فذاك (مدرج الإِسناد).
3ـ وإن كانت بدمج موقوف ونحوه في مرفوع فذاك (مدرج المتن)(5).
4ـ وإن كانت بتقديم أو تأخير فـ (المقلوب).
5ـ وإن كانت بزيادة راوٍ في الإِسناد مع وقوع التصريح بالسماع في الطريق الناقصة في موضع الزيادة فذاك (المزيد في متصل الأسانيد).
__________
(1) ... سير أعلام النبلاء 10/254. وقد رجّح الذهبي أن وفاة عفان بن مسلم سنة 220هـ.
(2) ... طبع ضمن مجموعة الرسائل الكمالية في الحديث المجلد الثاني.
(3) ... حققه عبد القيوم عبد رب النبي في رسالته لدرجة الماجستير ونشره مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى، وقد اعتنى المحقق بالاستدراك على المؤلف فذكر كثيراً ممن فاته ذكرهم ممن سمع من المختلطين قبل الاختلاط أو بعده، ووضع ملحقين للكتاب أحدهما: في ذكر ثمانية وثلاثين من المختلطين الثقات الذين لم يذكرهم ابن الكيال. والآخر: في ذكر ثلاثة عشر مختلطاً من الضعفاء.
(4) ... انظر: نزهة النظر ص 36.
(5) ... انظر: نزهة النظر ص 46.(1/82)
6ـ وإن كانت بإبدال راو ولامرجح لإِحدى الروايتين على الأخرى، فهذا هو (المضطرب)، وقد يقع في المتن.
7ـ وإن كانت بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق فله صورتان:
أ ـ إن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فهو (المُصَحَّف).
ب ـ وإن كان ذلك بالنسبة إلى الشكل فهو (المُحَرَّف)(1).
الوجه الثالث: كثرة الوهم:
المراد بالوهم: أن يروي الراوي على سبيل الخطأ والتوهّم فَيَصِلَ الإِسناد المرسل ويرفع الأثر الموقوف ونحو ذلك(2).
ويعرف حصول الوهم بجمع الطرق والمقارنة بينها من حيث الوصل والإِرسال ومن حيث الرفع والوقف، وتوثيق الرواة الناقلين ووجوه ضعفهم، فما ظهر الوهم فيه من الروايات فهو (المعلل)(3).
الوجه الرابع: شدة الغفلة:
الغفلة: عدم الفطنة بأن لا يكون لدى الراوي من اليقظة والإِتقان ما يميّز به الصواب من الخطأ في مروياته.
وقد تكون غفلة الراوي شديدة بحيث توضع له أحاديث فيحدّث بها على أنّه من مسموعاته، ويعرف ذلك بـ (التلقين) متى كان الراوي يَتَلَقّنُ ما لُقّن سواء كان من حديثه أو لم يكن.
الفرق بين الوهم والغفلة:
الوهم نوع من الخطأ قَلَّ أن يسلم منه أحد من الحفّاظ المتقنين، فضلاً عمن دونهم. وإنما يؤثر في ضبط الراوي إذا كثر منه ذلك، حيث لا تقبل روايته عندئذ إذا لم يُحدث من أصل صحيح(4) بخلاف الوهم اليسير فإن أثره يقتصر على ذلك الحديث الذي حصل فيه.
وأما الغفلة فهي صفة ملازمة لصاحبها، فمن اشتدت غفلته سمّي حديثه منكرا(5).
الوجه الخامس: فُحْش الغلط:
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق ص 47.
(2) ... انظر: المصدر السابق ص 44، 45.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 44، 46.
(4) ... انظر: علوم الحديث ص 236.
(5) ... انظر: نزهة النظر ص 45.(1/83)
المراد بفُحْش الغلط: أن يزيد خطأ الراوي على صوابه زيادة فاحشة يخرج بها عن الاعتبار في المتابعة، فلا يُقَوّي غيره ولا يتقوّى بغيره, ويُعَدُّ ما تفرّد به منكرا كما هو الحال في رواية ظاهر الفسق وشديد الغفلة(1).
وأما ما يختص بضبط الكتاب فوجه واحد هو:
التساهل برواية الحديث من فرع لم يُقابَل بالأصل، فإن الرواية من فرع غير مُقابَل محل خلاف على ثلاثة أقوال. هي:
1 ـ جزم القاضي عياض بمنع الرواية عند عدم المقابلة مطلقاً(2).
2 ـ سئل أبو إسحاق الأسفرائيني عن جواز روايته منه، فأجاز ذلك(3).
3 ـ ذهب بعض الأئمة إلى جوازها بشروط:
فاشترط أبو بكر الإِسماعيلي، وأبو بكر البرقاني: أن يُبَيِّنَ الراوي عند الأداء أنه لم يُعارِض بالأصل. فيقول كما قال البرقاني: ((أخبرنا فلان ولم أعارض بالأصل))(4).
وزاد أبو بكر الخطيب شرطاً آخر هو: أن يكون الراوي قد نقل من الأصل المعتبر(5).
وزاد ابن الصلاح شرطاً ثالثاً هو: أن يكون الناقل للنسخة الفرع من الأصل صحيح النقل قليل السقط(6).
الفصل الرابع
مَا لا يتعلق بالعدَالة ولا بالضبط غالباً
القسم الرابع: ما لا يتعلق بالعدالة ولا بالضبط غالباً:
وهو ثلاثة أوجه هي:
1 ـ التدليس(7).
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق ص 45.
(2) ... انظر: الإلماع ص 158 ـ 159.
(3) ... انظر: علوم الحديث ص 312.
(4) ... انظر: الكفاية ص 352 ـ 353، وعلوم الحديث ص 312.
(5) ... انظر: المصدرين السابقين في المواضع المذكورة.
(6) ... انظر: علوم الحديث ص 312.
(7) ... حكى ابن الصلاح عن فريق من أهل الحديث والفقهاء اعتبار التدليس جرحاً في الراوي، وأنهم قالوا: "لا تقبل روايته بحال بَيَّنَ السماع أو لم يبيّن"، ثم اختار التفصيل بقبول ما صرح فيه المدلس بالسماع دون ما لم يصرح بسماعه. انظر: علوم الحديث ص 171.
وإنما اعتبر التدليس جرحاً لما فيه من التهمة والغش، حيث عدل عن الكشف إلى الاِحتمال، وكذا التشبع بما لم يُعْطَ، حيث يُوهِم السماعَ لما لم يسمع والعلوَ والحديثُ عنده بنزول. انظر: فتح المغيث 1/180.
ولا إشكال في جرح التدليس والإِرسال لعدالة من فعله مُسْتَحِلاً له بإسقاط راو ضعيف يعتقد ضعفه ويعلم أنه كذلك عند غيره.(1/84)
... 2 ـ كثرة الإِرسال.
3 ـ كثرة الرواية عن المجهولين والمتروكين.
الوجه الأول: التدليس:
وهو ثلاثة أقسام هي:
1 ـ تدليس الإِسناد:
أن يروي الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه بصيغة تحتمل السماع وعدمه(1). كأن يقول: (عن فلان) أو (أن فلاناً قال: ...).
2 ـ تدليس التسوية:
أن يروي المدلس حديثاً يصرّح فيه السماع من شيخه ثم يُسقط من الإِسناد راوياً ضعيفاً(2) من بين ثقتين لقي أحدهما الآخر وليس الأول منهما بمدلس، ويأتي المدلس بلفظ محتمل لسماع أول الثقتين من الآخر(3).
فيستوي الإِسناد كله ثقات(4).
3 ـ تدليس الشيوخ:
أن يروي الراوي عن شيخ حديثاً سمعه منه فيسمّيه أويكنيه أوينسبه أو يصفه بما لا يعرف به لكيلا يعرف(5).
ويظهر أثر النوعين الأولين في عدم الحكم باتصال الإِسناد المعنعن(6)
ونحوه.
وأثر النوع الثالث في حصول الحكم على شيخ الراوي بالجهالة.
قال ابن دقيق العيد: ((فإنه (يعني التدليس) قد يَخْفى ويصير الراوي مجهولاً فيسقط العمل بالحديث لكون الراوي مجهولاً عند السامع مع كونه عدلاً معروفاً في نفس الأمر...))(7).
من ضوابط التدليس:
__________
(1) ... انظر: تعريف أهل التقديس ص 16.
وقد اعتبر ابن الصلاح رواية الراوي عمن عاصروه ولم يلقه موهماً أنه لقيه وسمع منه: جزءاً من تدليس الإِسناد. وذلك هو (الإرسال الخفي).
انظر: علوم الحديث ص 165، وتعريف أهل التقديس ص 16، ... والنكت على كتاب ابن الصلاح 2/614 ـ 615.
(2) ... يرى الحافظ ابن حجر أن تدليس التسوية لا يختص بإسقاط الضعيف. انظر: النكت 2/621.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/190.
(4) ... يعتبر تدليس التسوية أفحش أنواع التدليس؛ لأن قاعدة قبول المعنعن قاصرة عن كشفه، فإن شرطي الحكم باتصال المعنعن وهما (إمكان اللقاء ـ وأن لا يكون الراوي مدلساً) تامان في ظاهر حال الإِسناد.
(5) ... علوم الحديث ص 167.
(6) ... انظر: المصدر السابق ص 152.
(7) ... الاقتراح في بيان الاصطلاح ص 214.(1/85)
أولاً: قسم الحافظ صلاح الدين العلائي المدلسين إلى خمس مراتب.
وفائدة ذلك التقسيم الحكم على حديث كل مدلس إذا لم يصرح بالسماع بما يختص بمرتبته من أحكام.
وتلك المراتب هي:
المرتبة الأولى:
من لم يوصف بذلك إلّا نادراً جداً، بحيث أنه ينبغي أن لا يُعَدَّ فيهم مثل يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة.
المرتبة الثانية:
من احتمل الأئمة تدليسه وخَرَّجُوا له في الصحيح وإن لم يصرح بالسماع وذلك لإمامته وقلّة تدليسه في جنب ما روى. مثل سفيان الثوري(1).
أو كان لا يدلس إلّا عن ثقة. مثل: سفيان بن عيينة.
المرتبة الثالثة:
من أكثر من التدليس فلم يَحتج الأئمة بشيء من أحاديثهم إلّا بما صرّحوا فيه بالسماع، ومنهم من ردّ حديثهم مطلقاً، ومنهم من قَبلَه مطلقاً.
مثل: أبي الزبير محمد بن مسلم المكي.
المرتبة الرابعة:
من اتفق الأئمة على أنه لا يُحتج بشيء من أحاديثهم إلّا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين. مثل: بقية بن الوليد.
المرتبة الخامسة:
من ضُعِّفَ بأمر آخر سوى التدليس فحديثهم مردود ولو صرحوا بالسماع، إلّا أن يوثّق من كان ضعفه يسيرا. مثل: عبد الله بن لهيعة(2).
ثانياً: يحكم لرواية المدلس بالاتصال وإن وردت معنعنة في حالين هما:
أ ـ إذا وردت من طريق النقّاد المحققين لسماع ذلك المدلس لما عنعنه فيما ورد من طريقهم. ومن ذلك:
1 ـ قول شعبة: ((كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق السَّبِيْعِي، وقتادة)).
__________
(1) ... قال الحافظ الذهبي: "سفيان بن سعيد الحجّة الثبت، متفق عليه مع أنه كان يدلس عن الضعفاء، ولكن له نقد وذوق ولا عبرة بقول من قال: يدلس ويكتب عن الكذابين". ميزان الاعتدال 2/169.
(2) ... انظر: جامع التحصيل ص 113. وتعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ص 13 ـ 14.(1/86)
قال الحافظ ابن حجر: ((فهذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة، أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع))(1).
2 ـ رواية الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر. فإن الليث لم يسمع من
أبي الزبير إلّا مسموعَه من جابر. فقد قال سعيد بن أبي مريم: ((حدثنا الليث قال: جئت أبا الزبير فدفع لي كتابين فسألته: أسمعت هذا كله من جابر؟ قال: لا، فيه ما سمعت وفيه ما لم أسمع. قال: فأعْلِمْ لي على ما سمعت منه، فأَعْلَمَ لي على هذا الذي عندي))(2).
3 ـ أن يحيى القطّان لا يروي عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي إلّا ما كان عن سماع أبي إسحاق من شيوخه.
قال الإسماعيلي: ((القطّان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق))(3).
قال الحافظ ابن حجر: ((وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطّان أو بالتصريح من قوله))(4).
4 ـ رواية يحيى القطّان عن سفيان الثوري (مع قلة تدليس سفيان)(5).
ب ـ إذا كانت تلك الرواية عمّن أكثر المدلِّس من الرواية عنه، ومن ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة الأعمش: ((وهو يدلّس وربّما دلّس عن ضعيف ولا يُدْرَى به، فمتى قال: (حدثنا) فلا كلام، ومتى قال: (عن) تَطَرَّقَ إليه احتمال التدليس إلّا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم (النخعي) وأبي وائل (شقيق
ابن سلمة) وأبي صالح السمّان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال))(6).
ثالثاً: يراعى فيما ورد من أحاديث المدلسين في أحد الصحيحين بصيغة العنعنة الاحتمالات التالية:
__________
(1) ... تعريف أهل التقديس ص 59.
(2) ... تعريف أهل التقديس ص 59.
(3) ... فتح الباري 1/258. وانظر : النكت 2/631، وفتح المغيث 1/183.
(4) ... المصادر السابقة في المواضع المذكورة.
(5) ... انظر: فتح المغيث 1/183 ـ 184.
(6) ... ميزان الاعتدال 2/224.(1/87)
أ ـ ورودها صريحة بالسماع في موضع آخر من الصحيح نفسه، أو في الصحيح الآخر، أو في أحد دواوين السنة الأخرى من السنن والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها(1).
ب ـ كون الراوي المدلس من أهل المرتبتين: الأولى أو الثانية من مراتب المدلسين(2).
جـ ـ كون الرواية من طريق بعض النقاد المحققين سماع المُعَنْعِنَ لها(3).
د ـ كون رواية المدلس عن أحد شيوخه الذين أكثر من الأخذ عنهم.
هـ ـ ورود رواية المدلس مقرونة برواية غيره، أو ورودها في المتابعات والشواهد.
و ـ احتمال اطلاع الشيخين على طريق صريحة بالسماع(4)، لكنهما قد عدلا عنها اختصاراً أو لكونها ليست على شرطهما، فإنهما قد انتقيا صحيحهما من مئات الألوف من الأحاديث.
أهم الكتب في معرفة مراتب المدلسين:
1 ـ تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس للحافظ ابن حجر
(ت 852هـ).
__________
(1) ... انظر: فتح المغيث 1/183 ـ 184.
(2) ... انظر: المصدر السابق 1/183 ـ 184.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/183.
(4) ... قال الحافظ ابن حجر: "وفي أسئلة الإِمام تقي الدين السبكي للحافظ أبي الحجاج المِزِّي: وسألته عمّا وقع في الصحيحين من حديث المدلس معنعنا. هل نقول: إنهما اطلعا على اتصالها؟.
فقال: كذا يقولون وما فيه إلّا تحسين الظن بهما، وإلّا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح".
قال الحافظ ابن حجر: "قلت: وليست الأحاديث التي في الصحيحين بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط.
أما ما كان في المتابعات فيحتمل أن يكون حصل التسامح في تخريجها كغيرها. وكذلك المدلسون الذين خرج حديثهم في الصحيحين ليسوا في مرتبة واحدة في ذلك، بل هم على مراتب...". النكت على كتاب ابن الصلاح 2/636.(1/88)
اعتبر الحافظ ابن حجر تقسيم العلائي لمراتب المدلسين في كتابه (جامع التحصيل في أحكام المراسيل) أساساً لتصنيفهم فرتّب هذا الجزء على ذلك حيث يذكر في كل مرتبة أسماء أصحابها، وقد بلغ مجموعهم (152) راوٍ مدلّس.
لكن قد اختلف اجتهاده في عدد من أولئك المدلسين في كتابه (النكت على كتاب ابن الصلاح) وهو متأخر في التأليف عن كتابه (تعريف أهل التقديس)(1).
ومثال ذلك : أنه ذكر سليمان بن مهران الأعمش في المرتبة الثانية في كتابه (تعريف أهل التقديس)(2). وذكره في المرتبة الثالثة في كتابه (النكت على كتاب
ابن الصلاح)(3).
2 ـ اتحاف ذوي الرسوخ بمن رُميَ بالتدليس من الشيوخ للشيخ حماد بن محمد الأنصاري، وهو مرتب على الحروف وجامع لما في ثلاث رسائل في أسماء المدلسين للحافظ ابن حجر وبرهان الدين الحلبي والسيوطي، وقد بلغ عددهم لديه (161) راو مدلس.
الوجه الثاني: كثرة الإِرسال:
والإِرسال نوعان. هما:
الإِرسال الظاهر (الجلي). والإِرسال الخفي.
فأولهما يُعرف بعدم المعاصرة بين الراويين(4).
والثاني يُعرف بعدم اللقاء بينهما مع تحقق المعاصرة(2).
هل يجوز تعمد الإِرسال؟:
قال الحافظ ابن حجر: ((لا يخلو المرسِل أن يكون شيخ من أرسل الذي حدّث به:
1 ـ عدلاً عنده وعند غيره.
2 ـ أو غيرَ عدل عنده وعند غيره.
3 ـ أو عدلاً عنده لا عند غيره.
__________
(1) ... انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/650.
(2) ... انظره: ص 33.
(3) ... انظره: 2/640.
اختلاف اجتهاد الحافظ ابن حجر هنا إن كان بين المرتبتين الثالثة والرابعة فليس بمحل إشكال؛ لأن التصريح بالسماع شرطٌ على الراجح في الثالثة، وبالاتفاق في الرابعة. وإنما يقع الإشكال عند اختلاف اجتهاده بين الثانية والثالثة؛ لأن الثانية تحمل معنعناتها على الاتصال، وأما الثالثة فيُشترط فيها التصريح بالسماع على القول الراجح.
(4) ، (2) انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/623، وفتح المغيث 1/133، 177 ـ 178.(1/89)
4 ـ أو غيرَ عدل عنده عدلاً عند غيره.
هذه أربعة أقسام:
الأول: جائز بلا خلاف.
الثاني: ممنوع بلا خلاف.
وكل من الثالث والرابع يحتمل الجواز وعدمه وتردده بينهما بحسب الأسباب الحاملة عليه))(1).
أسباب الإِرسال:
الحامل لمن كان لا يرسل إلّا عن ثقة على الإِرسال أسباب منها:
1ـ أن يكون سمع الحديث عن جماعة ثقات وصح عنده فيرسله اعتماداً على صحته عن شيوخه.
2 ـ أن يكون نسي من حدّثه به وعرف المتن فذكره مرسلاً؛ لأن أصل طريقته أنه لا يحتمل إلّا عن ثقة.
3 ـ أن لا يقصد التحديث بأن يذكر الحديث على وجه المذاكرة أو على جهة الفتوى فيذكر المتن؛ لأنه المقصود في تلك الحالة دون السند؛ ولا سيما إن كان السامع عارفاً بمن طوى لشهرته أو غير ذلك من الأسباب.
وأما من كان يُرْسِلُ عن كل أحد فرُبَّما كان الباعث له على الإِرسال ضعف من حدّثه، لكن هذا يقتضي القدح في فاعله لما يترتب عليه من الخيانة(2).
ومراسيل الرواة ـ من حيث قوتها ـ على درجات هي:
1 ـ أعلاها: ما أرسله صحابي ثبت سماعه(3).
2 ـ ثم مرسل صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه.
3 ـ ثم مرسل المخضرم.
4 ـ ثم مرسل المتقن كسعيد بن المسيب.
__________
(1) ... النكت على كتاب ابن الصلاح 2/557.
(2) ... المصدر السابق 2/555.
(3) ... قال ابن الصلاح: "لم نَعُدْ في أنواع المرسل ونحوه ما يسمَّى في أصول الفقه: مرسل الصحابي. مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند؛ لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأن الصحابة كلهم عدول".
علوم الحديث ص 141 ـ 142.
وقال الحافظ ابن حجر: "إنما يَعْنون بذلك من أمكنه التحمل والسماع. أما من لا يمكنه ذلك فحكم حديثه حكم غيره من المخضرمين الذين لم يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - " النكت على كتاب ابن الصلاح 2/541.(1/90)
5 ـ ثم مرسل من كان يتحرَّى في شيوخه كالشعبي ومجاهد.
6 ـ ثم مرسل من كان يأخذ عن كل أحد كالحسن.
وأما مراسيل صغار التابعين كقتادة والزهري وحُمَيْد الطويل، فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين(1).
أهم الكتب في معرفة ذوي الإِرسال:
1 ـ المراسيل لعبد الرحمن بن أبي حاتم.
2 ـ جامع التحصيل في أحكام المراسيل للحافظ صلاح الدين العلائي.
الوجه الثالث: كثرة الرواية عن المجهولين والمتروكين:
وإنّما يُعَدُّ ذلك منتقداً على الراوي لمايلي:
1 ـ لعدم عنايته بانتقاء الشيوخ.
2 ـ وعدم التمكن من الوقوف على حال المجهولين.
3 ـ وعدم الفائدة من روايات المتروكين في مقام تقوية الروايات.
ويظهر أثر عدم الانتقاء في أمور منها:
1 ـ ترجيح مرسل من ينتقي شيوخه على مرسل من لا ينتقيهم كما تقدم آنفاً.
2 ـ أن الراوي قد يُتَّهم بالكذب عند إكثاره من الرواية عمن لا توجد لهم تراجم في كتب علم الرجال(2). كما هو الشأن في محمد بن عمر الواقدي(3).
ما يتقوّى من الروايات الضعيفة:
قال الحافظ ابن حجر: ((ومتى تُوبع السيء الحفظ بمعتبر ـ كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه ـ وكذا المختلط الذي لم يتميز، والمستور والإِسناد المرسل وكذا المدلَّس إذا لم يُعرف المحذوف منه، صار حديثهم حسناً لا لذاته، بل وصفه بذلك باعتبار المجموع من المتابِع والمتابَع.
__________
(1) انظر: فتح المغيث 1/152.
(2) ... قال الحافظ ابن حجر: "عثمان بن عبد الرحمن بن مُسْلم الحراني، المعروف بـ (الطرائفي) صدوق، أكثر الرواية عن الضعفاء والمجاهيل، فضُعّف بسبب ذلك، حتى نسبه ابن نمير إلى الكذب، وقد وثّقه ابن معين. من التاسعة، مات سنة 202هـ. د، س، ق" تقريب التهذيب ص 385.
(3) ... انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة ص 44.(1/91)
لأن مع كل واحد منهم احتمال كون روايته صواباً أو غير صواب على حد سواء، فإذا جاءت من المعتبرين رواية موافقة لأحدهم، رجح أحد الجانبين من الاحتمالين المذكورين ودلّ ذلك على أن الحديث محفوظ، فارتقى من درجة التوقف إلى درجة القبول ـ والله أعلم ـ.
ومع ارتقائه إلى درجة القبول فهو منحط عن رتبة الحسن لذاته، وربّما توقّف بعضهم عن إطلاق اسم الحسن عليه))(1).
وإنما تتقوّى رواية الضعيف في ضبطه بثلاثة شروط هي:
1 ـ أن لا يكون الضعف شديداً.
2 ـ أن تعتضد بمتابعة أو شاهد من مثله أو أقوى منه.
3 ـ أن لا تخالف رواية الأوثق أو الثقات.
الباب الثالث
من عبارات الجرح والتعديل
وفيه فصلان:
( الفصل الأول: معاني بعض عبارات الجرح والتعديل.
( الفصل الثاني: مراتب ألفاظ الجرح والتعديل.
تقسيم عبارات الجرح والتعديل
الفصل الأول
معاني بعض عبارات الجرح والتعديل
سلك أئمة الجرح والتعديل منهجين في الدلالة على جرح الرواة وتوثيقهم هما:
1 ـ الألفاظ. ... 2 ـ الحركات.
أولاً: الألفاظ:
ألفاظ الجرح والتعديل منها ألفاظ مشهورة متداولة كثيرة الاستعمال، ومنها ما هو قليل الورود.
فالألفاظ المتداولة بكثرة، منها ما هو اصطلاح عام، وبعضها مصطلحات خاصة ببعض الأئمة.
فمن المصطلحات العامة في التوثيق بالألفاظ:
1 ـ (ثقة). وهو العدل الضابط(2). هذا هو الإِطلاق المشهور.
وقد تطلق (ثقة) على غير هذا المعنى. فمن ذلك:
أ ـ قد يُطْلِقُون الوصف بـ (الثقة) على من كان مقبولاً ولو لم يكن ضابطاً(3).
ب ـ قد يراد بها استقامة ما بلغ الموثِّق من حديث الراوي لا الحكم للراوي نفسه بأنه في نفسه بتلك المنزلة(4).
ومما يدل على ورود كلمة (ثقة) على غير معناها المشهور أمران ذكرهما الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي -رحمه الله تعالى- وهما:
__________
(1) ... نزهة النظر ص 51 ـ 52.
(2) ... انظر: الباعث الحثيث ص 77.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/369.
(4) ... التنكيل 1/69.(1/92)
الأول: أن جماعة من الأئمة يجمعون بينها وبين التضعيف(1).
الثاني: أن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له وتمكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً أو حديثاً واحداً، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شيء من حديثه، وفيمن كان قبله بمدّة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شيء من حديثه، ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في الثقات من يجد البخاري سماه في تاريخه من القدماء وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يتشدد وربما تعنّت فيمن وجد في روايته ما استنكره، وإن كان الرجل معروفاً مكثراً.
والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد
وابن معين، والنسائي، وآخرون غيرهم يوثقون من كان من التابعين وأتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد وإن لم يرو عنه إلّا واحد ولم يبلغهم عنه إلّا حديث واحد... ومن الأئمة من لا يُوثِّق من تقدّمه حتى يَطَّلِعَ على عدّة أحاديث له تكون مستقيمة، وتكثر حتى يغلب على ظنه أن الاستقامة كانت ملكة لذلك الراوي.
وهذا كله يدل على أن جُلَّ اعتمادهم في التوثيق والجرح إنما هو على سير حديث الراوي(2).
ولا تعارض بين ما تقدم من تصنيف ابن معين والنسائي ضمن الأئمة المتشددين وبين ما ذكره المعلمي هنا وذلك لأمرين هما:
1 ـ أن التشدد هو الأصل من منهجهما.
2 ـ أن توثيق من لم يأت عنه إلّا حديث واحد له فيه متابع أو شاهد حكم على ذلك الحديث بالقبول لحصول أحدهما (المتابعة أو الشاهد) فلا يلزم منه توثيق الراوي في كل ما رواه متفرّداً به بحيث يحصل له التوثيق المطلق الذي هو محل التشدد.
2 ـ (ثقة ثقة).
__________
(1) ... انظر: التنكيل 1/69.
(2) ... المصدر السابق 1/66 ـ 67.(1/93)
قال السخاوي: ((التأكيد الحاصل بالتكرار فيه زيادة على الكلام الخالي منه، وعلى هذا فما زاد على مرتين مثلاً يكون أعلى منها، كقول ابن سعد في شعبة: "ثقة مأمون ثبت حجّة صاحب حديث"(1).
قال: وأكثر ما وقفنا عليه من ذلك قول ابن عيينة: "حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة ثقة بتسع مرات" وكأنه سكت لانقطاع نَفَسِه))(2).
3 ـ (كأنه مصحف): كناية عن الحفظ والإِتقان(3).
4 ـ (حافظ) و (ضابط). وهما لا يكفيان في التوثيق إذا لم يكونا مقرونين بلفظ (عدل).
لأن الحفظ والضبط قد يوجدان مع عدم العدالة، وقد توجد العدالة بدونهما، وقد تقترن بهما(4).
ومن أمثلة ذلك: أن أبا أيوب سليمان بن داود الشاذكوني من الحفّاظ الكبار إلّا أنه كان يُتَّهم بشرب النبيذ وبالوضع حتى قال البخاري: ((هو أضعف عندي من كل ضعيف))(5).
لكن قال ابن الصلاح لما ذكر ألفاظ المرتبة الأولى من التعديل: ((وكذا إذا قيل في العدل إنه حافظ أو ضابط))(6). ومراده أن اللفظين حينئذ قد أُطْلِقا في حق معلوم العدالة.
وقال السخاوي: ((الظاهر أن مجرد الوصف بـ (الإِتقان) كذلك قياساً على الضبط إذْ هما متقاربان لا يزيد الإِتقان على الضبط سوى إشعاره بمزيد الضبط))(7).
5 ـ (حجة) وهو أقوى من (ثقة). ومما يدل على ذلك:
أ ـ أن الآجري سأل أبا داود عن سليمان بن بنت شرحبيل فقال: ((ثقة يخطئ كما يخطئ الناس. قال الآجري: قلت: هو حجّة؟ فقال: الحجّة أحمد بن حنبل))(8).
__________
(1) ... نص عبارة ابن سعد: "كان ثقة مأمونا ثبتا صاحب حديث حجّة".
الطبقات الكبرى 7/280.
(2) ... فتح المغيث 1/363.
(3) ... انظر: تهذيب التهذيب 10/115.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/364.
(5) ... انظر: تذكرة الحفّاظ 2/488، وميزان الاعتدال 2/205، وفتح المغيث 1/364.
(6) ... علوم الحديث ص 237.
(7) ... فتح المغيث 1/364.
(8) ... انظر: المصدر السابق 1/365.(1/94)
ب ـ قول عثمان بن أبي شيبة في أحمد بن عبد الله بن يونس: ((ثقة وليس بحجّة))(1).
جـ ـ قول ابن معين في محمد بن إسحاق: ((ثقة وليس بحجّة))(2).
6 ـ (صدوق) وصف بالصدق على طريق المبالغة(3). وهو دون الثقة.
قال ابن الصلاح: ((ومشهورٌ عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدّث فقال: حدثنا أبو خلدة(4). فقيل له: أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقا وكان مأمونا وكان خَيِّرا ـ وفي رواية: (كان خيارا)ـ الثقة شعبة وسفيان))(5). فوصف ابن مهدي
أبا خلدة بما يقتضي القبول ثم ذكر أن هذا اللفظ (ثقة) يقال لمثل شعبة وسفيان(6).
7 ـ (محله الصدق) لفظ يدل على أن صاحبه محله ومرتبته مطلق الصدق(7).
8 ـ (مقارب الحديث). بالكسر (مقارِب) اسم فاعل: أي حديثه مقارِبٌ لحديث غيره(8) من الثقات(9).
وبالفتح (مقارَب) اسم مفعول: أي حديثه يقاربه حديث غيره(10).
والمراد: يقارب الناس في حديثه ويقاربونه. أي: ليس حديثه بشاذ ولا
منكر(11).
ومن ذلك ما رواه الترمذي قال: ((إسماعيل بن رافع قد ضعَّفه بعض أصحاب الحديث، وسمعت محمداً ـ يعني البخاري ـ يقول: هو ثقة مقارب الحديث))(12).
__________
(1) ... انظر: فتح المغيث 1/365.
(2) ... انظر: المصدر السابق 1/365.
(3) ... فتح المغيث 1/365 ـ 366.
(4) ... هو خالد بن دينار التميمي السعدي. انظر: الاستغناء في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى 1/601.
(5) ... علوم الحديث ص 238.
(6) ... انظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/9.
(7) ... انظر: تدريب الراوي 1/345.
(8) ... التقييد والإيضاح ص 162.
(9) ... فتح المغيث 1/366.
(10) ... التقييد والإيضاح ص 162.
(11) ... فتح المغيث 1/367.
(12) ... سنن الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط 4/189. وانظر: فتح المغيث 1/367.(1/95)
9 ـ (ثَبْت) بسكون الموحّدة: الثابت القلب واللسان والكتاب والحجّة(1).
10 ـ (لا بأس به) و (ليس به بأس) لفظان في مرتبة (الصدوق)(2).
قال الصنعاني: ((فإن قيل إنه ينبغي أن يكون (لا بأس به) أبلغ من (ليس به بأس) لعراقة (لا) في النفي.
أجيب: بأن في العبارة الأخرى قوة من حيث وقوع النكرة في سياق النفي فساوت الأولى في الجملة))(3).
11 ـ قال ابن الصلاح: ((قولهم... (فلان ما أعلم به بأسا) هو في التعديل دون قولهم: (لا بأس به) )) (4).
وقال العراقي: (( (أرجو أنه لا بأس به) نظير (ما أعلم به بأسا) أو الأولى أرفع لأنه لا يلزم من عدم العلم حصول الرجاء بذلك))(5).
12 ـ (صالح) و (صالح الحديث).
ذكر ابن حجر أن ((عادة الأئمة إطلاق الصلاحية حيث يريدون بها الديانة، أما حيث أريد بها الصلاحية في الحديث فيقيدونها به))(6).
13 ـ (إلى الصدق ما هو) أي: أنه ليس ببعيد عن الصدق(7).
14 ـ (شيخ) في المرتبة الثالثة من التعديل عند ابن أبي حاتم، يكتب حديثه وينظر فيه(8).
قال أبو الحسن بن القطّان: ((...قول أبي حاتم وقد سئل عنه ـ يعني عبد الحميد ابن محمود ـ : (شيخٌ)، هذا ليس بتضعيف، وإنما هو إخبار بأنه ليس من أعلام أهل العلم وإنما هو شيخ وقعت له روايات أُخِذَت عنه))(9).
__________
(1) ... المصدر السابق 1/364. قال السخاوي: "وأما بالفتح فما يُثْبِتُ فيه المحدث مسموعه مع أسماء المشاركين له فيه، لأنه كالحجة عند الشخص لسماعه وسماع غيره".
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/365.
(3) ... توضيح الأفكار 2/265.
(4) ... علوم الحديث ص 240.
(5) ... شرح التبصرة والتذكرة 2/6.
(6) ... انظر: النكت على كتاب ابن الصلاح 2/680، وفتح المغيث 1/200.
(7) ... فتح المغيث 1/366.
(8) ... الجرح والتعديل 2/37.
(9) ... نيل الأوطار 3/218.(1/96)
لكن قال الحافظ الذهبي: ((قوله ـ يعني أبا حاتم ـ : (شيخ)، ليس هو عبارة جرح... ولكنها أيضاً ما هي عبارة توثيق وبالاستقراء يلوح لك أنّه ليس بحجّة))(1).
ومن المصطلحات الخاصة ببعض الأئمة في التوثيق بالألفاظ:
1 ـ قال ابن الصلاح: ((وجاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق. فيقول: رجل صالح الحديث))(2).
قال السخاوي: ((وهذا يقتضي أنها ـ يعني صالح الحديث ـ هي والوصف بصدوق عند ابن مهدي سواء))(3).
2 ـ قال ابن معين: ((إذا قلت: ليس به بأس فهو ثقة ))(4).
لكن لا يلزم من ذلك تساوي اللفظين، فقد قال العراقي: ((لم يقل ابن معين: إن قولي: (ليس به بأس) كقولي: (ثقة) حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين، إنما قال: إن من قال فيه هذا فهو ثقة، وللثقة مراتب فالتعبير عنه بقولهم: (ثقة) أرفع من التعبير عنه بأنه (لا بأس به) وإن اشتركا في مطلق الثقة))(5).
ونظير ذلك ما ورد عن عبد الرحمن بن إبراهيم (دُحَيم) حيث سأله أبو زرعة الدمشقي: ((ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ فقال: (لا بأس به)، قال أبو زرعة: فقلت: ولِمَ لا تقول (ثقة) ولا تعلم إلّا خيرا؟ قال: قد قلت لك إنه ثقة))(6).
3 ـ قال مكي بن عبدان: ((سألت مسلم بن الحجاج عن أبي الأزهر (أحمد بن الأزهر) فقال: أكتب عنه )). قال الحاكم: ((هذا رسم مسلم في الثقات))(7).
ومن المصطلحات العامة في الجرح بالألفاظ:
__________
(1) ... ميزان الاعتدال 2/385.
(2) ... علوم الحديث ص 239.
(3) ... فتح المغيث 1/366.
(4) ... علوم الحديث ص 238. وانظر: لسان الميزان 1/13.
(5) ... شرح التبصرة والتذكرة 2/7. وانظر: تحقيق التاريخ لابن معين برواية الدوري 1/113.
(6) ... تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/395. وانظر: شرح التبصرة والتذكرة 2/ 7 ـ 8.
(7) ... تهذيب الكمال 1/258. وانظر: حاشية الرفع والتكميل ص 149.(1/97)
1 ـ (ليس بقوي) تنفي القوة مطلقاً وإن لم تثبت الضعف مطلقاً(1).
و(ليس بالقوي) تنفي الدرجة الكاملة من القوة(2).
قال الحافظ الذهبي: ((وقد قيل في جماعات: (ليس بالقوي) واحتج به، وهذا النسائي قد قال في عدّة: (ليس بالقوي) ويخرج لهم في كتابه. قال: قولنا (ليس بالقوي ليس بجرح مُفْسِد)(3)... وبالاستقراء إذا قال أبو حاتم: (ليس بالقوي) يريد بها أن هذا الشيخ لم يبلغ درجة القوي الثبت))(4).
2 ـ (للضعف ما هو). أي: ليس ببعيد عن الضعف(5).
3 ـ (تَغيَّر بأخَرَة) اختل ضبطه وحفظه في آخر عمره وآخر أمره.
وقد ورد هذا اللفظ بألفاظ متنوعة هي:
أ ـ تغيَّر بآخِرِه (بمد الهمزة وكسر الخاء والراء بعدها ضمير الغائب).
ب ـ تغيَّر بآخِرَة (بمد الهمزة وكسر الخاء وفتح الراء بعدها تاء مربوطة).
جـ ـ تغيَّر بأَخَرَة (بفتح الهمزة والخاء والراء بعدها تاء مربوطة)(6).
4 ـ (تَعْرِفُ وتُنْكِر) (بصيغة الخطاب للمفرد المذكّر) أي: يأتي مرة بالمناكير ومرة بالمشاهير(7).
5 ـ (نزكوه) (بفتح النون والزاء) أي: طعنوا فيه(8).
6 ـ (روى مناكير) أي: روى أحاديث منكرة. ولا يلزم من هذا اللفظ. ردّ مرويات الراوي كلها. وذلك لمايلي:
أ ـ أن العبارة مشعرة بأن ذلك ليس وصفاً لازماً لجميع مروياته(9).
قال ابن دقيق العيد: ((قولهم: (روى مناكير) لا يقتضي بمجرده ترك روايته
حتى تكثر المناكير في روايته وينتهي إلى أن يقال فيه: (منكر الحديث)؛
لأن (منكر الحديث) وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه، والعبارة الأخرى
لا تقتضي الديمومة))(10).
__________
(1) ... التنكيل 1/232. ...
(2) ... المصدر السابق 1/232.
(3) ... الموقظة ص 82.
(4) ... المصدر السابق ص 83.
(5) ... فتح المغيث 1/374.
(6) ... انظر: قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص 249 هامش (3).
(7) ... تدريب الراوي 1/350.
(8) ... فتح المغيث 1/374.
(9) ... انظر: المصدر السابق 1/375.
(10) ... فتح المغيث 1/375.(1/98)
ب ـ أن الإِمام أحمد قد قال في محمد بن إبراهيم التيمي: ((يروي أحاديث مناكير)) فلم يلزم من ذلك رد مروياته، بل هو ممن اتفق عليه الشيخان وإليه المرجع في حديث: ((إنما الأعمال بالنيات))(1) لا سيما وأن الإِمام أحمد وجماعة من المحدثين يطلقون (المنكر) على الحديث الفرد الذي لا متابع له(2).
جـ ـ أن ذلك اللفظ قد يُستعمل في الثقة إذا روى المناكير عن الضعفاء. ومن ذلك: أن الحاكم سأل الدارقطني عن سليمان بن بنت شرحبيل فقال: ((ثقة. قال الحاكم: قلت: أليس عنده مناكير؟. قال: يحدّث بها عن قوم ضعفاء، فأمّا هو فهو ثقة))(3).
7 ـ (واه بمرّة). أي: قولاً واحداً لا تَرَدُّدَ فيه(4).
8 ـ (ليس بثقة ولا مأمون). لفظ يتعيّن به الجرح الشديد.
وإذا قيل: (ليس بثقة) فالمتبادر جرح شديد لكن إذا كان هناك ما يُشْعِرُ بأنها استعملت في المعنى الآخر حُمِلَتْ عليه(5).
9 ـ (يسرق الحديث). أن ينفرد المحدث بحديث فيجئ السارق ويدّعي أنه شارك هذا المحدث في سماع هذا الحديث من الشيخ، أو يكون الحديث عُرِفَ براوٍ فيضيفه لراوٍ غيره ممن شاركه في طبقته(6). وقد ذكر الحافظ الذهبي أن ذلك أهون من وضع الحديث واختلاقه في الإثم(7).
10 ـ (متروك).
أ ـ قال أحمد بن صالح: ((لا يُترك حديث الرجل حتى يَجْتَمِعَ الجميع على ترك حديثه. قد يقال: (فلان ضعيف) فأما أن يقال: (فلان متروك) فلا، إلّا أن يُجْمِعَ الجميعُ على ترك حديثه))(8).
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق 1/375.
(2) ... انظر: هدي الساري ص 437.
(3) ... سؤالات الحاكم النيسابوري للدارقطني ص 217 ـ 218. وانظر: فتح المغيث 1/375.
(4) ... فتح المغيث 1/373. وانظر: تدريب الراوي 1/350.
(5) ... التنكيل 1/70.
(6) ... فتح المغيث 1/372.
(7) ... المصدر السابق 1/372.
(8) ... علوم الحديث ص 240.(1/99)
ب ـ قال ابن مهدي: ((قيل لشعبة: مَنْ الذي يترك حديثه؟ قال: إذا روى عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون فأكثر طُرِحَ حديثه، وإذا أكثر الغلط طُرِحَ حديثه وإذا اتهم بالكذب طُرِحَ حديثه، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه عليه طُرِحَ حديثه، وأما غير ذلك فارو عنه))(1).
وأما قولهم: (تركه فلان) فلا يلزم منه ترك الراوي مطلقاً.
وذلك لمايلي:
أ ـ لاحتمال أن يكون ترك الإِمام لذلك الراوي بسبب شبهة لا توجب الجرح(2).
ب ـ لأن هذه العبارة قد تستعمل في غير الترك الاصطلاحي المعروف، فقد قال علي بن المديني في عطاء بن أبي رباح: ((كان عطاء اختلط بأخرة، تركه ابن جريج، وقيس بن سعد)).
قال الحافظ الذهبي: ((لم يَعْن عليٌ بقوله: (تركه هذان) الترك العرفي ولكنه كبر وضعفت حواسّه، وكانا قد تَكَفّيا منه وتفقّها وأكثرا عنه فبطَّلا فهذا مراده بقوله: (تركاه) ))(3).
وقال في موضع آخر : ((لم يَعْن الترك الاصطلاحي، بل عنى أنهما بطَّلا الكتابة عنه، وإلّا فعطاء ثبتٌ رَضِيٌ))(4).
11 ـ (متهم بالكذب). يطلق هذا اللفظ على الراوي في حالين هما:
أ ـ إذا تفرّد برواية ما يخالف أصول الدين وقواعده العامة، ولم يكن في الإِسناد من يتهم بذلك غيره(5).
ب ـ إذا عرف عنه الكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي(5).
12 ـ (كذّاب).
الإِطلاق المشهور لهذا اللفظ ينصرف إلى من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو مرّة واحدة(6).
__________
(1) ... لسان الميزان 1/12. وانظر: فتح المغيث 1/372.
(2) ... انظر: مجموع الفتاوى 24/349 ـ 350، حاشية الرفع والتكميل ص 141.
(3) ... سير أعلام النبلاء 5/87.
(4) ... ميزان الاعتدال 3/70.
(5) ، (5) انظر: ص 145.
(6) ... انظر: ص 145.(1/100)
وثمة إطلاق آخر فقد قال ابن الوزير: ((ومن لطيف علم هذا الباب أن يُعْلَمَ أن لفظة (كذاب) قد يُطلقها كثير من المتعنتين في الجرح على من يهم ويخطئ في حديثه وإن لم يتبيّن أنه تعمّد ذلك ولا تبيّن أن خطأه أكثر من صوابه ولا مثله... وهذا يدل على أن هذا اللفظ من جملة الألفاظ المطلقة التي لم يُفَسَّر سببها، ولهذا أطلقه كثير من الثقات على جماعة من الرفعاء من أهل الصدق والأمانة، فاحذر أن تَغْتَرَّ بذلك في حق من قيل فيه من الثقات الرفعاء، فالكذب في الحقيقة اللغوية ينطلق على الوهم والعمد معاً، ويحتاج إلى تفسير إلّا أن يدل على التعمد قرينة صحيحة))(1).
13 ـ يَسْتَعمِلُ الأئمة للتضعيف النِّسْبِي عبارات، منها: (فلان أوثق منه)، و(ليس مثل فلان) و(فلان أحب إليّ منه)(2).
بخلاف قولهم (غيره أوثق منه) فإنه كناية عن جرح الراوي؛ لأنها مفاضلة بينه وبين راو مبهم غير معين، مع تفضيل ذلك المبهم عليه، فَتَصْدُقُ العبارة في صورتها على تفضيل كل راوٍ عليه، ولهذا كانت جرحاً مطلقاً(3).
ومن المصطلحات الخاصة ببعض الأئمة في الجرح بالألفاظ:
1 ـ قال السخاوي: ((رُوِّينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب. فقال لي: "يا إبراهيم أُكْسُ ألفاظك أحسنها، لا تقل: كذّاب، ولكن قل: (حديثه ليس بشيء)".
وهذا يقتضي أنها حيث وجدت(4) في كلام الشافعي تكون من المرتبة الأولى)).(5) وهي أشد مراتب الجرح.
2 ـ قال عبد الله بن أحمد: ((سألت أبي عن يونس بن أبي إسحاق قال: (كذا وكذا).
__________
(1) ... الروض الباسم ص 82. وانظر: حاشية الرفع والتكميل ص 168.
(2) ... انظر: حاشية الرفع والتكميل ص 180 ـ 181.
(3) ... انظر: المصدر السابق ص 180 ـ 181.
(4) ... المراد: عبارة (حديثه ليس بشيء).
(5) ... فتح المغيث 1/373.(1/101)
قال الحافظ الذهبي: هذه العبارة يستعملها عبد الله بن أحمد كثيراً فيما يجيبه به والده، وهي بالاستقراء كناية عمّن فيه لِيْن))(1).
3 ـ (منكر الحديث) وهو لفظ يختلف المراد به بحسب اصطلاح قائله، فمن ذلك:
أ ـ ما ذكره الحافظ ابن حجر أن ((هذه اللفظة يُطلقها الإِمام أحمد على من يُغْرِب على أقرانه بالحديث، عرف ذلك بالاستقراء من حاله))(2).
ب ـ صرّح البخاري باصطلاحه حيث قال: ((من قلت فيه: (منكر الحديث) فلا تَحِل الرواية عنه))(3).
ج ـ نقل السخاوي عن العراقي قوله: ((كثيراً ما يطلقون المنكر على الراوي، لكونه روى حديثاً واحداً))(4).
د ـ قال ابن دقيق العيد: ((... (مُنكر الحديث) وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه))(5).
4 ـ من اصطلاحات ابن معين:
أ ـ قال ابن معين: ((إذا قلت: (هو ضعيف) فليس بثقة، لا تكتب حديثه))(6).
ب ـ وإذا قال: (يُكتب حديثه) فالمراد أنه من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم(7).
ج ـ إذا قال: (ليس بشيء) فالمراد أن أحاديث الراوي قليلة(8).
وقد يريد بذلك الجرح الشديد(9). وإنما يُعَرفُ ذلك بتتبع الأقوال الأخرى لابن معين وأقوال غيره من الأئمة في ذلك الراوي، فإذا كان الراوي الذي قال فيه ابن معين: (ليس بشيء) قليلَ الحديث، وقد وثقه ابن معين في الروايات الأخرى أو وثقه الأئمة الآخرون تعيّن حملُ كلمة ابن معين على معنى قلة الحديث لا الجرح.
__________
(1) ... ميزان الاعتدال 4/483.
(2) ... هدي الساري ص 453.
(3) ... ميزان الاعتدال 1/6. وانظر: لسان الميزان 1/20.
(4) ... فتح المغيث 1/375.
(5) ... المصدر السابق 1/375.
(6) ... علوم الحديث ص 238.
(7) ... الكامل في ضعفاء الرجال 1/242 ـ 243.
(8) ... انظر: هدي الساري ص 421.
(9) ... انظر: طليعة التنكيل ص 55.(1/102)
وأما إذا وجدنا راوياً كأبي العطوف الجراح بن المنهال، قال فيه ابن معين: (ليس بشيء) وقد اتفق الأئمة على جرحه جرحاً شديداً فذلك قرينة على أن مراد ابن معين موافق لمراد الأئمة(1).
5 ـ من اصطلاحات البخاري:
أ ـ قال الحافظ الذهبي: ((البخاري قد يطلق على الشيخ (ليس بالقوي) ويريد أنه ضعيف))(2).
ب ـ تقدم قول البخاري: ((من قلت فيه: (منكر الحديث) فلا تَحِلُّ الرواية عنه))(3).
جـ ـ قال الذهبي: ((قول البخاري: (سكتوا عنه) ظاهرها أنهم ما تعرضوا له بجرح ولا تعديل، وعلمنا مقصده بها بالاستقراء أنها بمعنى (تركوه) ))(4).
وقال ابن كثير: ((البخاري إذا قال في الرجل (سكتوا عنه) أو (فيه نظر) فإنه يكون في أدنى المنازل وأردئها عنده ولكنه لطيف العبارة في التجريح))(5).
د ـ قوله (فيه نظر) يقتضي الطعن في صدق الراوي(6) غالباً.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة عبد الله بن داود الواسطي: ((قد قال البخاري: (فيه نظر) ولا يقول هذا إلّا فيمن يتّهمه غالباً))(7).
وقال في ترجمة عثمان بن فائد: ((قَلَّ أن يكون عند البخاري رجل فيه نظر إلّا وهو متّهم))(8).
وقال أيضاً: ((وكذا عادته إذا قال: (فيه نظر) بمعنى أنّه متهم أو ليس بثقة، فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف))(9).
وكلام الحافظ الذهبي دقيق جداً لأنّه قَيَّد الموضع الأول بقوله: (غالباً)، وقال في الثاني: (قَلَّ أن يكون). وقال في الثالث: (بمعنى أنه متهم أو ليس بثقة).
ويشهد لذلك أن أفراداً من الرواة قد قال البخاري في كل منهم: (فيه نظر) وهم من المختلف فيهم جرحاً وتعديلا.
__________
(1) ... انظر: طليعة التنكيل ص 55.
(2) ... الموقظة ص 83.
(3) ... انظر: الصفحة السابقة.
(4) ... الموقظة ص 83.
(5) ... اختصار علوم الحديث ص 89.
(6) ... التنكيل 1/205.
(7) ... ميزان الاعتدال 2/416.
(8) ... المصدر السابق 3/52.
(9) ... الموقظة ص 83.(1/103)
فقد ورد تعديلهم من أئمة متشددين، كما ورد تضعيفهم، لكنه من جهة الضبط لا من جهة العدالة. ومن أولئك الرواة:
1 ـ حرب بن سُرَيج بن المنذر المنقري(1).
2 ـ يحيى بن سُلَيْم أبو بَلْج الفزاري الواسطي(2).
هـ ـ قوله: (في حديثه نظر) يُشْعِرُ بأن الراوي صالح في نفسه(3)،
__________
(1) ... أقوال الأئمة في شأن هذا الراوي هي:
أ ـ قال أبو الوليد الطيالسي: "كان جارنا لم يكن به بأس، ولم أسمع منه شيئاً".
ب ـ قال ابن معين: "ثقة".
جـ ـ قال الإِمام أحمد: "ليس به بأس".
د ـ قال أبو حاتم: "ليس بقوي، يُنْكِر عن الثقات".
هـ ـ قال ابن حبان: "يخطئ كثيراً حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد".
و ـ قال ابن عدي: "ليس بكثير الحديث، وكأن حديثه غرائب وأفرادات، وأرجو أنه لا بأس به".
ز ـ قال الدارقطني: "صالح".
انظر: تهذيب الكمال 5/523، وتهذيب التهذيب 2/224.
(2) ... أقوال الأئمة في شأن هذا الراوي هي:
أ ـ قال يزيد بن هارون: "قد رأيت أبا بَلْج وكان جاراً لنا وكان يتخذ الحمام يستأنس بهنّ وكان يذكر الله تعالى كثيراً".
ب ـ قال ابن سعد وابن معين والنسائي والدارقطني: "ثقة".
جـ ـ قال الإمام أحمد: "روى حديثاً منكراً".
د ـ قال الجوزجاني وأبو الفتح الأزدي: "كان ثقة".
هـ ـ قال أبو حاتم: "صالح الحديث لا بأس به".
و ـ قال يعقوب بن سفيان: "كوفي لا بأس به".
ز ـ ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يخطئ".
ح ـ نقل ابن عبد البر وابن الجوزي أن ابن معين ضعّفه.
انظر:تهذيب التهذيب 12/47.
(3) ... هذا مقتضى التفرقة بين اللفظين: (فيه نظر) و(في حديثه نظر) لكن قال الحافظ الذهبي: "قال (البخاري): إذا قلت: فلان (في حديثه نظر) فهو متهم واه".
سير أعلام النبلاء 12/441.
وأما قوله: (في إسناده نظر) فقد أكثر منه البخاري في تاريخه الكبير وقد ذكر ابن عدي قول البخاري في أوس بن عبد الله الربعي: (في إسناده نظر).
قال ابن عدي: "يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود، وعائشة وغيرهما لا لأنه ضعيف عنده". الكامل في ضعفاء الرجال 1/401. وانظر: هدي الساري ص 392.(1/104)
وإنما الخلل في حديثه لغفلة أو سوء حفظ(1).
6 ـ من اصطلاحات أبي حاتم:
أ ـ قوله : (فلان لا يُحتج به).
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: ((سمعت أبي يقول: إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي هو وحصين بن عبد الرحمن وعطاء بن السائب قريب بعضهم من بعض، محلهم عندنا محل الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج بحديثهم.
قلت لأبي: ما معنى: (لا يحتج بحديثهم)؟ قال: كانوا قوماً لا يحفظون فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون، ترى في أحاديثهم اضطرابا ما شئت))(2).
وقال ابن تيمية: ((وأما قول أبي حاتم: (يكتب حديثه ولا يحتج به) فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجّة في اصطلاحه ليس هو الحجّة في اصطلاح جمهور أهل العلم))(3).
ب ـ قوله: (يكتب حديثه).
قال الحافظ الذهبي: ((قول أبي حاتم هذا ليس بصيغة توثيق ولا هو بصيغة إهدار))(4).
وقال أيضاً: ((قوله: (يكتب حديثه). أي: ليس هو بحجّة))(5).
7 ـ من اصطلاحات الدارقطني:
أ ـ قال حمزة السهمي سألت أبا الحسن الدارقطني قلت له: ((إذا قلت:
(فلان لَيِّن) أيش تريد به؟. قال: لا يكون ساقطاً متروك الحديث ولكن يكون مجروحاً بشيء لا يُسْقِطُ عن العدالة))(6).
ب ـ قوله: (فلان أعورُ بين عميان) أي: أن ذلك الراوي وإن كان فيه ضعف ما فهو أحسن حالاً ممن معه من الضعفاء في ذلك الإِسناد(7).
جـ ـ (فلان يُعتبر به) أي: أنه من جملة الضعفاء لكنه صالح للاعتبار بحديثه(8).
و(فلان لا يعتبر به) أي: أنه ضعيف جداً لا يصلح للاعتبار(9).
__________
(1) ... التنكيل 1/205.
(2) ... الجرح والتعديل 2/133.
(3) ... مجموع الفتاوى 24/350. وانظر: حاشية الرفع والتكميل ص 144.
(4) ... ميزان الاعتدال 4/345.
(5) ... المصدر السابق 2/385.
(6) ... سؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدار قطني ص 72. وانظر: علوم الحديث ص 239.
(7) ... انظر: التنكيل 1/361.
(8) ... انظر: اختصار علوم الحديث ص 50.
(9) ... انظر: المصدر السابق ص 50.(1/105)
وأما الألفاظ قليلة الاستعمال أو نادرة الورود(1). فمنها:
1 ـ (الميزان) كناية عن قوة الحفظ والضبط(2).
قال الثوري: ((حدثني الميزان عبد الملك بن أبي سليمان.
وقال ابن المبارك: عبد الملك ميزان))(3).
2 ـ (سِداد من عيش).
قال الجوهري: ((وأما قولهم (فيه سِداد من عَوز)(4)، و(أصبت به سِدادا من عيش) أي: ما تُسَدُّ به الخَلَّة))(5).
فإطلاق هذا اللفظ على الراوي يوحي بأنه في أدنى مراتب التوثيق.
3 ـ (كان فَسْلا) بفتح الفاء وسكون السين.
الفَسْلُ في اللغة: الرذل النذل الذي لا مروءة له ولا جلد(6).
4 ـ (ليس من جمال المحامل)(7).
جَمَلُ المحامل هو الجمل القوي الشديد الذي يقدر على حمل الرجلين العديلين لمسافات بعيدة(8)، فوصف الرجل بأنه (جمل محامل)، كناية عن القوة، وقولهم: (ليس من جمال المحامل) كناية عن الضعف لكنه ضعف يسير، ولذلك ذكرها السخاوي في المرتبة التي تلي مراتب التوثيق من مراتب التجريح(9).
__________
(1) ... انظر جملة من هذه الألفاظ في كتاب (شرح ألفاظ التجريح النادرة أو قليلة الاستعمال)
للدكتور/ سَعْدِي الهاشمي. فقد اعتمدت عليه في هذا المبحث والمبحث التالي له.
(2) ... انظر: حاشية الرفع والتكميل ص 157.
(3) ... تهذيب التهذيب 6/397.
(4) ... قولهم: أي قول العرب (سداد من عوز) بكسر السين وفتح العين وآخر الجملة زاء معجمة.
(5) ... انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/353، ولسان العرب 3/207. مادة (سدد).
(6) ... لسان العرب 11/519 مادة (فسل).
(7) ... المحامل: جمع (محمل) بكسر الميم الأولى وسكون الحاء وفتح الميم الثانية. قال ابن سِيده: المحمل: "شقّان على البعير يحمل فيهما العديلان". لسان العرب 11/178 مادة (حمل).
(8) ... انظر: شرح ألفاظ التجريح النادرة، أو قليلة الاستعمال ص 14.
(9) ... انظر: فتح المغيث (مخطوط 2/48).(1/106)
5 ـ (لا يكتب عنه إلاّ زَحْفاً) أي: من أراد أن يتكلف الكتابة عنه فلا بأس كالذي يمشي زحفاً(1).
6 ـ (مُود) بالتخفيف. بمعنى: هالك من قولهم: (أودى فلان) إذا هلك.
(مُؤدّ) بالتشديد مع الهمزة. أي:حسن الأداء(2).
7 ـ (هو على يدي عدلٍ)(3) كناية عن الهالك فهو تضعيف شديد(4).
وأصل ذلك مثل عند العرب حيث كان أحد التبابعة (ملوك اليمن) إذا أراد قتل أحد دفعه إلى واليه على شرطته واسمه (عدل) من بني سعد العشيرة فمن وُضِعَ على يديه فقد تحقق هلاكه(5).
8 ـ (يَزْرِفُ في الحديث).
قال ابن أبي حاتم: ((يعني يكذب))(6).
9 ـ (يَثْبِجُ الحديث) كناية عن الوضع(7).
10 ـ (حاطب ليل) كناية عن عدم الانتقاء وعمّا يعتري المُكثر من عدم الإِتقان(8).
ثانياً: الحركات:
عَمِدَ بعض الأئمة إلى التعبير ـ أحياناً ـ بحركات تنبئ عن أحكامهم على بعض الرواة.
__________
(1) ... حاشية الجرح والتعديل للمعلمي3/216.
(2) ... انظر: ص 83.
(3) ... اعتبر العراقي هذه الجملة توثيقاً للراوي. فقد ذكر السخاوي عن شيخه ابن حجر أن العراقي كان ينطق بها هكذا ـ بكسر الدال الأولى ، بحيث تكون اللفظة للواحد، وبرفع اللام وتنوينها ـ وقد استشكل الحافظ ابن حجر كونها للتوثيق لقول أبي حاتم في ترجمة جبارة بن المغلس: (ضعيف الحديث). وقوله لما سأله ابنه عنه: (هو على يدي عدل) فقد استعمل هذه العبارة في حق راو ضعّفه ثم تحقق ابن حجر من كونها للجرح الشديد بعد وقوفه على أصل العبارة عند العرب.
انظر: الجرح والتعديل 2/550، وفتح المغيث 1/377 ـ 378.
(4) ... فتح المغيث 1/378.
(5) ... فتح المغيث 1/378.
(6) ... الجرح والتعديل 7/271.
(7) ... شرح ألفاظ التجريح النادرة أو قليلة الاستعمال ص 81.
(8) ... انظر: المصدر السابق ص 91.(1/107)
وأغلب ما يوجد تفسير المراد بتلك الحركات عن طريق تلاميذ أولئك الأئمة لحضورهم تلك المجالس العلمية التي صدرت فيها، وقد يُفسّرها الحفاظ ذوو التتبع والاستقراء(1).
فمن تلك الحركات:
1 ـ تحريك الأيدي:
قال علي بن المديني: ((سمعت يحيى بن سعيد، وذكر عمر بن الوليد الشَّنِّي فقال بيده يحركها. كأنّه لا يقوّيه. قال علي: فاسترجعت أنا، فقال: ما لك؟ قلت: إذا حركت يدك فقد أهلكته عندي. قال: ليس هو عندي ممن أعتمد عليه ولكنه لا بأس به))(2).
2 ـ تحريك الرأس:
قال عبد الله بن علي بن المديني: ((سئل أبي عن سويد الأنباري فحرّك رأسه وقال: ليس بشيء...))(3).
3 ـ تحميض الوجه:
قال علي بن المديني: ((سألت يحيى بن سعيد عن سيف بن وهب فحمّض(4) يحيى وجهه. وقال: كان سيف هالكاً من الهالكين))(5).
4 ـ تكلّح الوجه(6):
قال البرذعي: ((ذكرت لأبي زرعة عمرو بن عثمان الكلابي، فكلّح وجهه وأساء الثناء عليه))(7).
5 ـ الإِشارة إلى اللسان:
ومن ذلك أن البرذعي سأل أبا زرعة عن رباح بن عبد الله. فقال: ((كان أحمد بن حنبل يقول: وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه. أي: أنه كذّاب...))(8).
الفصل الثاني
مراتب ألفاظ الجرح والتعديل
مراتب الجرح والتعديل:
__________
(1) ... انظر: المصدر السابق ص 99.
(2) ... الجرح والتعديل 6/139.
(3) ... تاريخ بغداد 9/229.
(4) ... قال ابن منظور: "...فلان حامض الفؤاد ، في الغضب إذا فسد وتغيّر عداوة. وفؤاد حمض،
ونفس حمضة: تنفر من الشيء أول ما تسمعه. وتحمّض الرجل: تحوّل من شيء إلى شيء".
لسان العرب 7/140 مادة (حمض).
(5) ... الجرح والتعديل 4/275.
(6) ... الكلوح: تَكَشُّرٌ في عبوس. انظر: لسان العرب 2/574 مادة (كلح).
(7) ... الضعفاء ص 759.
(8) ... أجوبة أبي زرعة على أسئلة البرذعي ص 360.(1/108)
اعتنى عبد الرحمن بن أبي حاتم بتقسيم مراتب الجرح والتعديل، ثم تتابع العلماء من بعده على جمع الألفاظ المشهورة وتصنيفها إلى مراتب تتجلّى بها درجة كل راو.
فممن تكلم في ذلك ابن الصلاح، والذهبي، والعراقي، والسخاوي، حيث تكلم كلّ منهم بحسب اجتهاده.
وقد أودع الحافظ ابن حجر مقدمة كتابه (تقريب التهذيب) تصنيفاً خاصاً بمراتب الرواة في ذلك الكتاب.
فأما ابن أبي حاتم فقد ذكر تقسيماً مُجملاً لمراتب الرواة، وتقسيماً آخر مُفصَّلاً لمراتب ألفاظ الجرح والتعديل.
فقال في تقسيمه المجمل لمراتب الرواة:
مراتب الرواة:
1 ـ (( فمنهم الثبت الحافظ الوَرِ ع المتقن الجِهْبِذ الناقد للحديث فهذا الذي لا يُختلَف فيه ويُعتمد على جرحه وتعديله ويُحتج بحديثه وكلامه في الرجال.
2 ـ ومنهم العدل في نفسه الثبت في روايته الصدوق في نقله الوَرِ ع في دينه الحافظ لحديثه المتقن فيه، فذلك العدل الذي يُحتج بحديثه ويُوثَّق في نفسه.
3 ـ ومنهم الصدوق الوَرِع الثبت الذي يَهِمُ أحياناً ـ وقد قَبِلَهُ الجهابذة النقّاد ـ فهذا يُحتج بحديثه.
4 ـ ومنهم الصدوق الوَرِ ع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يُحتج بحديثه في الحلال والحرام.
5 ـ وخامسٌ قد ألصق نفسه بهم ودلّسها بينهم ممن ليس من أهل الصدق والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولي المعرفة منهم الكذبُ، فهذا يترك حديثه وتطرح روايته))(1).
فالمرتبة الأولى خاصة بالأئمة والمراتب الأخرى لسائر الرواة.
ثم قسّم مراتب ألفاظ التعديل إلى أربع مراتب هي:
1 ـ إذا قيل للواحد: إنه (ثقة)، أو (متقن ثبت). فهو ممن يُحتج بحديثه.
2 ـ وإذا قيل له: إنه (صدوق)، أو (محله الصدق)، أو (لا بأس به) فهو ممن يُكْتَبُ حديثه ويُنْظَرُ فيه وهي المنزلة الثانية.
__________
(1) ... مقدمة الجرح والتعديل ص 10.(1/109)
3 ـ وإذا قيل: (شيخ). فهو بالمنزلة الثالثة يُكْتَبُ حديثه ويُنْظَرُ فيه إلّا أنه دون الثانية.
4 ـ وإذا قيل: (صالح الحديث). فإنه يُكْتَبُ حديثه للاعتبار(1).
ولا تعارض بين ما ذكره في مراتب الرواة ((أن الصدوق الوَرِع الثبت الذي يَهِمُ أحياناً ـ وقد قَبِلَه الجهابذة النقّاد ـ يُحتج بحديثه))، وبين قوله:
((إذا قيل له (صدوق) أو (محله الصدق)، أو (لا بأس به). فهو ممن يُكْتَبُ حديثه ويُنْظَرُ فيه)). وذلك لأمور:
1 ـ لأن الاحتجاج بمن ذكره في مراتب الرواة مُقَيَّدٌ بمن قد قَبِلَه الجهابذة النقّاد.
2 ـ ولأنه قد صرّح في الأولى بالاحتجاج، وفي (صالح الحديث) وهي المنزلة الرابعة، بأنه يُكتب حديثه للاعتبار، فبقيت المرتبتان الثانية والثالثة محل نظر، ولا شك أن من قَبِلَهُ الجهابذة النقّاد من أهلهما للاحتجاج، فهو ممن يُحْتَجُّ بحديثه، وإنما يُعَرفُ قبولهم له بتتبع أقوال أهل النقد في الراوي، من جهة توثيقهم له، أو من جهة تصحيحهم وتحسينهم لِمَا تفرَّد به.
3 ـ أن الحافظ ابن الصلاح قد علّق على حكم ابن أبي حاتم، حيث قال: ((فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه)) بقوله: ((هذا كما قال؛ لأن هذه العبارات لا تُشْعِرُ بشريطة الضبط فيُنظر في حديثه ويُختبر حتى يعرفَ ضبطه...
وإن لم يُسْتَوْف النظر المُعرِّف لكون ذلك المحدّث في نفسه ضابطاً مطلقاً، واحتجنا إلى حديث من حديثه اعتبرنا ذلك الحديث ونظرنا هل له أصل من رواية غيره؟))(2).
فأفاد ذلك أن النظر المذكور هو لمعرفة ضبط الراوي مطلقاً، أي كونه تام الضبط، أو خفّ ضبطه يسيرا لكنه صالح للاحتجاج، وإنما يُعرف ذلك بأمور منها:
1 ـ مقارنة مروياته بمرويات الثقات الأثبات.
2 ـ قبول الجهابذة النقّاد له بتوثيقهم إياه، أو تصحيحهم وتحسينهم لِمَا تفرَّد به.
3 ـ إخراج الشيخين له في الأصول من صحيحيهما.
__________
(1) ... الجرح والتعديل 2/37.
(2) ... علوم الحديث ص 238.(1/110)
4 ـ معرفة كونه لا يروي من الحفظ، بل يعتمد على الكتاب.
ونحو ذلك من القرائن المرجِّحة لجانب الاحتجاج.
فإن لم نَسْتَوفِ النظر المفيد لكونه ضابطاً مطلقاً لم نحتجَّ بشيء من حديثه إلّا ما كان له أصل من حديث غيره.
فكلام ابن الصلاح يقتضي أمرين هما على الترتيب كمايلي:
أ ـ النظر في سائر مرويات الراوي الصدوق لمعرفة درجة ضطبه.
ب ـ من لم يُسْتَوْفَ النظر المذكور في حقه، فلا بدّ من النظر في أي حديث نحتاجه من حديثه. أله أصل من حديث غيره أم لا؟
ومراتب الجرح عند ابن أبي حاتم أربع أيضاً. وهي:
1 ـ ((إذا أجابوا في الرجل بـ (لَيِّن الحديث) فهو ممن يُكتب حديثه ويُنظر فيه اعتباراً.
2 ـ وإذا قالوا: (ليس بقوي). فهو بمنزلة الأولى في كَتْبَةِ حديثه إلّا أنه دونه.
3 ـ وإذا قالوا: (ضعيف الحديث). فهو دون الثاني لا يُطرح حديثه بل يُعتبر به.
4 ـ وإذا قالوا: (متروك الحديث) أو (ذاهب الحديث) أو (كذاب) فهو ساقط الحديث لا يُكتب حديثه. وهي المنزلة الرابعة))(1).
وهذا التقسيم قد جعل المراتب الثلاث الأولى للاعتبار، لكن بعضها أرفع من بعض وأقوى.
كما أنه جعل المتروك والكذاب في درجة واحدة لاشتراكهما في حكم المرتبة المذكورة (لا يكتب حديثه)، وإلّا فإنه من المعلوم أن منزلة الكذاب هي أدنى المنازل وفوقها منزلة المتهم بالكذب، وفوق ذلك المتروك.
ما زاده ابن الصلاح من ألفاظ الجرح والتعديل:
زاد ابن الصلاح ألفاظاً أخرى على ما ذكره ابن أبي حاتم. وذلك على النحو التالي:
1 ـ ما نَصَّ على دخوله في المرتبة الأولى من مراتب التعديل، حيث قال: ((وكذا إذا قيل: (ثبت) أو (حجة).
وكذا إذا قيل في العدل: إنه (حافظ أو ضابط) ))(2).
2 ـ ما ذكره من الألفاظ دون تصنيف لكن صنَّفها العراقي في كتابه: (التقييد والإِيضاح لما أُطْلِقَ وأُغْلِقَ من كتاب ابن الصلاح)، وذلك على النحو التالي:
__________
(1) ... الجرح والتعديل 2/37.
(2) ... علوم الحديث ص 237.(1/111)
أ ـ ألفاظ من المرتبة الرابعة من مراتب التوثيق. وهي:
(فلان روى عنه الناس)، (فلان وسط)، (فلان مقارب الحديث)، (فلان ما أعلم به بأسا).
ب ـ ألفاظ من المرتبة الأولى من مراتب الجرح. وهي:
(فلان ليس بذاك)، (فلان ليس بذاك القوي)، (فلان فيه ضعف)، (فلان في حديثه ضعف).
ومن المرتبة الثانية: (فلان لا يُحتج به)، (فلان مضطرب الحديث).
ومن المرتبة الثالثة: (فلان لا شيء)، (فلان مجهول)(1).
مراتب الجرح والتعديل عند الحافظ الذهبي:
قَسَّم الحافظ الذهبي مراتب التعديل إلى أربع مراتب. وقسم مراتب الجرح إلى خمس مراتب، لكن نقل السخاوي أن مراتب الجرح عند الذهبي ست مراتب بزيادة مرتبة (ضعيف).
قال الذهبي في ألفاظ التعديل: ((فأعلى العبارات في الرواة المقبولين:
1 ـ (ثبت حجة)، و(ثبت حافظ)، و(ثقة متقن), و(ثقة ثقة).
2 ـ ثم (ثقة).
3 ـ ثم (صدوق)، و(لا بأس به)، و(ليس به بأس).
4 ـ ثم (محلّه الصدق) و(جيد الحديث) و(صالح الحديث) و(شيخ وسط) و(شيخ حسن الحديث) و(صدوق إن شاء الله) و(صويلح) ونحو ذلك))(2).
ثم ذكر ألفاظ الجرح مُبْتَدِأً بالأشد منها فما دونه، لكن ترتيبها مع الابتداء بالأخف على النحو التالي:
1 ـ (يُضعَّف)، (فيه ضَعْف)، (قد ضُعِّف)، (ليس بالقوي)، (ليس بحجة)، (ليس بذاك)، (تَعْرِفُ وتُنْكِر)، (فيه مقال)، (تُكُلّم فيه)، (لَيِّن)، (سيء الحفظ)،
(لا يُحتج به)، (اختلف فيه)، (صدوق لكنه مبتدع).
2 ـ (ضعيف)، (ضعيف الحديث)، (مضطربُه)، (منكَرُه)(3).
3 ـ (واهٍ بمرّة)، (ليس بشيء)، (ضعيف جداً)، (ضَعَّفوه)، (ضعيف واهٍ)، (منكر الحديث).
4 ـ (متروك)، (ليس بثقة)، (سكتوا عنه)، (ذاهب الحديث)، (فيه نظر)، (هالك)، (ساقط).
5 ـ (متهم بالكذب)، (متفق على تركه).
__________
(1) ... انظر : علوم الحديث ص 240، والتقييد والإِيضاح ص 161.
(2) ... ميزان الاعتدال1/4.
(3) ... انظر: فتح المغيث 1/376.(1/112)
6 ـ (دجّال)، (كذاب)، (وضّاع)، (يضع الحديث)(1).
وهذا التقسيم دقيقٌ جداً في تحديد مراتب الألفاظ، كما يشهد بذلك تفريقُه بين (صدوق) و(صدوق إن شاء الله) و(صدوق لكنه مبتدع).
وقد حكم الحافظ الذهبي على ما ذكره من ألفاظ الجرح بقوله:
((ونحو ذلك من العبارات التي تدلّ بوضعها على اطّراح الراوي بالأصالة أو على ضعفه، أو على التوقف فيه، أو على جواز أن يُحتجّ به مع لِينٍ مّا فيه))(2).
ولعله أراد بقوله: ((تدلُّ بوضعها على اطّراح الراوي بالأصالة)): ثلاث مراتب هن: الرابعة، والخامسة، والسادسة.
وبقوله: ((أو على ضعفه)) المرتبتين الثانية والثالثة.
وبقوله: ((أو على التوقف فيه، أو على جواز أن يُحتج به مع لِينٍ مّا فيه))، المرتبة: الأولى، لكثرة ما يحصل في حق أهلها من توقف أهل العلم عن الحكم عليهم بالضعف المطلق، أو من تجويزهم للاحتجاج بأولئك؛ لأن ضعفهم يسير.
ومعلوم أن التردد يقع كثيراً في حق ذوي المرتبة الأخيرة من التعديل والمرتبة الأولى من الجرح.
ما زاده العراقي على تقسيم الذهبي، وما خالفه فيه:
أولاً: الزيادات:
أ ـ في مراتب التعديل:
1ـ زاد في المرتبة الأولى قولهم: (ثقة ثبت).
2ـ وفي المرتبة الثالثة قولهم: (مأمون)، (خيار).
3 ـ وفي المرتبة الرابعة قولهم: (رووا عنه)، (إلى الصدق ما هو)، (شيخ)، (مقارب الحديث)، (أرجو أنه لا بأس به)، (ما أعلم به بأسا)(3).
ب ـ في مراتب الجرح:
1ـ زاد في المرتبة الأولى قولهم: (في حديثه ضعف)، (ليس بذاك القوي)،
(ليس بالمتين)، (ليس بعمدة)، (ليس بالمرضي)، (للضعف ما هو)، (فيه خُلْف)، (طعنوا فيه)، (مطعون فيه)، (لَيِّن الحديث)، (فيه لِيْن)، (تكلموا فيه).
2 ـ وفي المرتبة الثانية قولهم: (واه)، (حديثه منكر).
__________
(1) ... ميزان الاعتدال 1/4.
(2) ... انظر: ميزان الاعتدال 1/4.
(3) ... شرح التبصرة والتذكرة 2/3 ـ 6.(1/113)
3 ـ وفي المرتبة الثالثة قولهم: (رُدَّ حديثه)، (ردوا حديثه)، (مردود الحديث)، (طرحوا حديثه)، (مُطَّرح)، (مُطَّرح الحديث)، (إرم به)، (لا شيء)، (لا يساوي شيئا).
4 ـ وفي المرتبة الرابعة قولهم: (ذاهب)، (متروك الحديث)، (تركوه)، (لا يُعتبر به)، (لا يعتبر بحديثه)، (ليس بالثقة)، (غير ثقة ولا مأمون).
5 ـ وفي المرتبة السادسة قولهم: (يكذب)، (وضع حديثا)(1).
ثانياً: المخالفات:
1 ـ ذكر (لا يُحتج به)، و(ضعَّفوه) في المرتبة الثانية من الجرح.
وهما لفظان مختلفا المرتبة عند الذهبي. فـ (لا يُحتج به) في مرتبة: (فيه ضعف) و(ضعفوه) في مرتبة: (ضعيف جداً).
2 ـ ذكر قولهم: (متهم بالكذب ـ أو الوضع) في مرتبة (المتروك)(2).
وقد أفردها الذهبي في مرتبة مستقلّة مع (متفق على تركه).
مراتب الجرح والتعديل عند الحافظ ابن حجر:
1ـ الصحابة.
2ـ مَنْ أُكّدَ مدحُه:
إما بأفعل التفضيل كـ (أوثق الناس).
أوبتكرير الصفة لفظاً: كـ (ثقة ثقة)، أو معنى كـ (ثقة حافظ).
3ـ من أُفْرِدَ بصفة: كـ (ثقة)، أو (متقن)، أو(ثبت)، أو (عدل).
4ـ من قَصُرَ عن درجة الثالثة قليلا: (صدوق)، أو (لا بأس به)، أو (ليس به بأس).
5ـ من قَصُرَ عن درجة الرابعة قليلاً: (صدوق سيء الحفظ)، (صدوق يَهم)، أو (له أوهام)، أو(يخطئ)، أو (تغيّر بأخرة).
ويلتحق بذلك: من رُمِيَ بنوع من البدعة كالتشيع والقدر والنّصب والإرجاء والتجهم.
6ـ من ليس له من الحديث إلّا القليل ولم يثبت فيه ما يُترك حديثه من أجله: (مقبولٌ) حيث يتابع وإلّا (فَليِّن الحديث).
7ـ مَنْ روى عنه أكثر من واحد ولم يُوثَّق: (مستور) أو (مجهول الحال)
8ـ من لم يوجد فيه توثيق لمعتبر، ووُجِد فيه إطلاق الضعف ولو لم يفسر: (ضعيف).
9ـ مَنْ لم يرو عنه غير واحد ولم يُوثَّق: (مجهول).
__________
(1) ... انظر : شرح التبصرة والتذكرة 2/11 ـ 12.
(2) ... المصدر السابق 2/11 ـ 12.(1/114)
10ـ من لم يُوثَّق البتّة وضُعِّف مع ذلك بقادح: (متروك)، أو (متروك الحديث)، أو (واهي الحديث)، أو (ساقط).
11 ـ من اتهم بالكذب.
12 ـ من أطلق عليه اسم الكذب والوضع(1).
مراتب ألفاظ التعديل عند السخاوي:
المرتبة الأولى: ما أتى بصيغة أفعل: أوثق الخلق، أثبت الناس، أصدق من أدركت من البشر.
ويُلْحَقُ بها: إليه المنتهى في التثبُّت.
ويحتمل أن يُلْحَقَ به: لا أعرف له نظيراً في الدنيا.
المرتبة الثانية: لا يُسْألُ عن مثله.
المرتبة الثالثة: ثقة ثبت، ثبت حجة، ثقة ثقة.
المرتبة الرابعة: ثقة، ثبت، كأنه مُصْحف، متقن، حجة، وكذا إذا قيل لعدل: حافظ، ضابط.
المرتبة الخامسة: ليس به بأس، لا بأس به، صدوق، مأمون، خيار.
المرتبة السادسة: محله الصدق، رووا عنه، روى الناس عنه، يُروَى عنه، إلى الصدق ما هو، شيخ وسط، وسط، شيخ، مقارِب الحديث، صالح الحديث، يُعتبر به، يكتب حديثه، جيد الحديث، حسن الحديث، ما أقرب حديثه، صويلح، صدوق إن شاء الله، أرجوأن ليس به بأس(2).
مراتب ألفاظ الجرح عند السخاوي:
المرتبة الأولى: فيه مقال، فيه أدنى مقال، ضُعِّفَ، فيه ضَعْفٌ، في حديثه ضَعْف، تَعْرِف وتُنْكِر، ليس بذاك، ليس بذاك القوي، ليس بالمتين،
ليس بالقوي،ليس بحجّة، ليس بعمدة، ليس بمأمون(3)، ليس من إبل القِباب، ليس من جِمال المحامِل(4)، ليس من جَمّازات المحامِل، ليس بالمرضي، ليس يحمدونه،
ليس بالحافظ، غيره أوثق منه،في حديثه شيء، فلان مجهول(5)، فيه جهالة، لا أدري من هو، للضعف ما هو، فيه خُلْفٌ، طعنوا فيه، مطعونٌ فيه، نزكوه، سيء الحفظ، لَيِّن،
__________
(1) ... تقريب التهذيب ص 74.
(2) ... انظر: فتح المغيث 1/362 ـ 368.
(3) ... إن كان المراد به من جهة العدالة فدخولها في هذه المرتبة محل نظر.
(4) ... انظر: فتح المغيث (مخطوط 2/48).
(5) ... المجهول عند ابن حجر قسمان: مجهول الحال، وهو فوق الضعيف. ومجهول العين وهو دونه وفوق المتروك.(1/115)
لَيِّن الحديث، فيه لِيْن، تكلموا فيه، سكتوا عنه، فيه نظر (من غير البخاري).
المرتبة الثانية: ضعيف، منكر الحديث،حديثه منكر، له ما يُنكر، له مناكير، مضطرب الحديث، واهٍ، ضَعَّفوه، لا يُحتج به.
المرتبة الثالثة: رُدَّ حديثه، ردوا حديثه، مردود الحديث، ضعيف جداً،
واهٍ بمرَّة، تالف، طرحوا حديثه، إرم به، مُطَّرح، مُطَّرح الحديث، لا يكتب حديثه، لا تَحِلُّ كَتْبَةُ حديثه، لا تَحِلُّ الرواية عنه،
ليس بشيء، لا شيء، لا يساوي فلساً، لا يساوي شيئا.
المرتبة الرابعة: يسرق الحديث، متهم بالكذب، متهم بالوضع، ساقط، هالك، ذاهب، ذاهب الحديث، متروك، متروك الحديث، تركوه، مجمعٌ على تركه، هو على يَدَي عدل، مُوْدٍ، لا يعتبر به، لا يعتبر بحديثه، ليس بالثقة، ليس بثقة، غير ثقة ولا مأمون، سكتوا عنه، فيه نظر (من البخاري).
المرتبة الخامسة: كذاب، يضع الحديث، يكذب، وضّاع، دجّال، وضع حديثا.
المرتبة السادسة: أكذب الناس، إليه المنتهى في الوضع، ركن الكذب(1).
الحكم في مراتب التعديل عند السخاوي:
قال السخاوي: ((ثم إن الحكم في أهل هذه المراتب الاحتجاج بالأربع الأولى منها.
وأما التي بعدها فإنه لا يُحتجّ بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة الضبط، بل يُكتب حديثهم ويختبر.......... ))(2).
وأما السادسة فالحكم في أهلها دون أهل التي قبلها، وفي بعضهم من يكتب حديثه للاعتبار دون اختبار ضبطهم لوضوح أمرهم فيه))(3).
__________
(1) ... انظر: فتح المغيث 1/371 ـ 375.
وقد ذكر السخاوي -تبعاً لنظم ألفية العراقي- مراتب التجريح مبتدأ بأسوء الألفاظ
(أكذب الناس) وذكر أن الأنسب ترتيبها على هذا النحو المذكور هنا، لتكون مراتب القسمين (التعديل والتجريح) منتظمة في سلك واحد بحيث يكون أولها الأعلى من التعديل وآخرها الأعلى من التجريح انظر: فتح المغيث 1/371.
(2) ... المحذوف هنا ما نقله من كلام ابن الصلاح. وقد تقدم ذكره في ص 209.
(3) ... فتح المغيث 1/368.(1/116)
وما ذكره ـ رحمه الله ـ بالنسبة للمرتبة الخامسة مأخوذ من كلام ابن الصلاح كما نقله بعد ذلك، لكننا نجد الأئمة يُحَسِّنون حديث (الصدوق) كما هو الشأن في محمد بن عمرو ابن علقمة(1)، ومحمد بن إسحاق(2) ونحوهما.
وأما المرتبة السادسة فالظاهر أن الحكم فيها يخضع لما يدور حول الراوي من القرائن في تلك الرواية، فرُبَّما كان الراوي (صدوقاً يخطئ) لَكِنْ هو أوثق من يروي عن ذلك الشيخ لطول ملازمته له وخِبْرَته بحديثه فيتقوّى بذلك.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: ((الراوي إما تُقْبل روايته مطلقاً أو مقيّداً.
فأما المقبول إطلاقاً فلا بُدَّ أن يكون مأمون الكذب بالمظنة وشرط ذلك العدالة وخُلُوُّه عن الأغراض والعقائد الفاسدة التي يُظَنُّ معها جواز الوضع، وأن يكون مأمون السهو بالحفظ والضبط والإِتقان.
وأما المقيَّد فيختلف باختلاف القرائن ولكل حديث ذوق ويختص بنظر ليس للآخر))(3).
الحكم في مراتب الجرح عند السخاوي:
المرتبتان الأولى والثانية: تخرج أحاديث أصحابها للاعتبار، حيث تصلح في المتابعات والشواهد؛ لأن صِيَغَ تلك المرتبتين تُشْعِرُ بصلاحية المُتَّصِفِ بها لذلك وعدم منافاتها له.
لكن يُستثنى من ذلك لفظ (منكر الحديث) لأن الحكم فيه يختلف بحسب اصطلاح قائله.
وأما المراتب الأربع الأخيرة: فلا تصلح أحاديث أصحابها للاعتبار مطلقاً(4).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) ... ميزان الاعتدال 3/673.
(2) ... انظر: سير أعلام النبلاء 7/41، وفتح الباري 9/181، فقد حَسَّن الحافظ ابن حجر إسناد حديث أخرجه أبو داود والحاكم من طريقه.
(3) ... انظر: مجموع الفتاوى 18/47.
(4) ... انظر: فتح المغيث 1/375.(1/117)