بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة دائما كنت أعجب من موقف رجال الكنيسة من الإسلام! إنهم لو فكروا قليلا بحياد وموضوعية لتغير موقفهم من المسلمين، ولبذلوا الجهود الصادقة المخلصة فى التعرف على هذا المنهج الجديد الذى جاء بعد عيسى عليه السلام! ـ لم يأت مكذبا لنبيهم ولا سابا له ولا متورطا فى محاولة قتله ولا مدعيا على أمه، بل جاء ليقول فى عيسى وأمه: " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " فعيسى رسول الله عليه الصلاة والسلام حلقة فى السلسلة النبوية الكريمة شأنه شأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى.. عليهم جميعا الصلاة و السلام!! وقصة عيسى مبثوثة فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم.. ولم يرد فى موضع واحد منها ما يسئ عيسى أو يشينه، كما أنه لم يرد فى أمه شئ من ذلك، بل إنها ـ عليها السلام ـ قد اختصت بسورة كريمة من سور القرآن هى سورة (مريم)...!! وتأمل فى هذا الوحى الرفيع وهو يسطر أزكى الآيات فى حق عيسى وأمه عليهما السلام: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين).
ص _004(1/1)
ولا يوجد فرق كبير بيننا وبين النصارى فى شخص مريم عليها السلام، فنحن نؤمن بأنها صديقة، وبأنها بشر، وبأنها عذراء طاهرة صالحة تقية، تعهدها الله برعاية خاصة وفضلها تفضيلا عظيما على نساء العالمين. والفرق بيننا وبين رجال الكنيسة يتمثل أول ما يتمثل فى شخص المسيح عليه السلام، فنحن نؤمن بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل، ولا نرى أنه إله، ولا ابن إله، ولا أنه يجلس إلى جوار أبيه فى السماء، (وليس هنا مجال استقصاء خلافاتنا مع الكنيسة). ونحن نؤمن بأن النصرانية الصحيحة التى تنزلت على عيسى تنزلت بما نؤمن به وأن فرقا نصرانية كثيرة كانت على رأينا هذا لكنها ووجهت بحرب إبادة. بل نحن نؤمن بأن الأغلبية الساحقة من أعضاء مجمع نيقيه كانت على عقيدة التوحيد وعلى رأس هؤلاء العالم المصرى أريوس (إمام الأريسيين).. فمن بين المجتمعين فى المؤتمر الذى بلغ عددهم 2048 عضوا.. وقع على قرار التثليث 318 عضوا ـ فقط ـ هم الذين رضخوا لرأى الحاكم (الوثنى سابقا) قسطنطين ولصديقه كاهن روما، وخافوا تهديداته وإجراءاته التى كان من بينها قتل أريوس وتشريد بقية الموحدين. وكان هذا العام 325 م كما يقول أستاذنا الدكتور أحمد شلبى أول تاريخ يتخذ فيه قرار ضد التوحيد ويحكم بألوهية المسيح . ونحن نؤمن كذلك بأن الدراسة العلمية الموضوعية تنتهى إلى ما نؤمن به، بل هى النتيجة التى انتهى إليها كثير من المؤرخين النصارى المنصفين.. فالواحد واحد.. والثلاثة ثلاثة، ولا يمكن أن يكون الثلاثة واحدا إلا إذا كانوا أجزاء فى واحد،.. وسيكون فى كل جزء نقص يمنعه من أن يكون وحده واحدا... ! وأى جدل حول هذه المسلمة البديهية هو نوع من السفسطة التبريرية التى تستحق أن تقرع لقول الله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم). بقول أستاذنا الكبير الشيخ محمد الغزالى: "إن قضية(1/2)
الثالوث والفداء لا تعرفها أديان السماء، وما سمع بها عيسى عليه ص _005
السلام، والنصارى الأولون كانوا على عقيدة التوحيد، وظاهر أن نفرا من شياطين الجن والإنس حاولوا فتنتهم عن هذا المعتقد الصالح، وأرادوا أن يخلطوا بين الوحى النازل على عيسى، وبين تعاليم أديان أرضية قديمة، عُرفت فى وثنيات الهنود والمصريين وغيرهم، ونشب عراك شديد بين المحافظين والمحرفين ظل قرابة أربعة قرون، انتصرت فيه للأسف العقائد المغشوشة، والمبادئ المعلولة، واستخفى من قلوب الناس التوحيد الخالص.. وقد أعان السلطان الرومانى على بلوغ هذه النتيجة الرديئة، فإذا الواحد ثلاثة، وإذا المعابد مذابح وقرابين، وإذا رجال الدين وسطاء يغفرون الذنوب وإذا المسئولية الشخصية تبتعد، وإذا أحكام إلهية كثيرة تتوارى، وإذا تحريف واسع النطاق يدخل فى تراث عيسى عليه السلام ". وما يقوله الداعية المسلم الكبير الشيخ محمد الغزالى هو ما انتهى إليه ودافع عنه المسيحى المنصف الأستاذ (الدكتور شارل جنيبير) أستاذ المسيحية ورئيس قسم تاريخ الأديان بجامعة باريس، والذى نشأ مسيحيا من أب مسيحى وأم مسيحية وفى بيئة مسيحية صميمة هى البيئة الريفية الفرنسية الكاثوليكية المتعصبة، والذى حصل على الدكتواره فى تاريخ الأديان ولكنه تعمق فى المسيحية بصفة خاصة حتى أصبحت المسيحية تخصصه الدقيق (بالتعبير الأكاديمى). ولقد أخذ الدكتور شارل جنبيير يرتقى فى المناصب الجامعية ـ كأستاذ لتاريخ الأديان والمسيحية بخاصة ـ حتى وصل إلى أستاذ تاريخ المسيحية فى أكبر جامعة فى فرنسا وهى جامعة باريس ثم وصل إلى رئيس قسم تاريخ الأديان فى الجامعة!! ما يقوله الشيخ محمد الغزالى ـ الداعية المسلم ـ يلتقى تماما مع ما يردده ويتحدى به ويؤلفه فى كتبه ويلقيه فى محاضرات جامعية وعامة ويكتبه فى بحوث ومؤتمرات العالم المسيحى المتخصص الدكتور شارل جنيبير... يقول الدكتور شارل جنيبير فى كتابه (المسيحية نشأتها(1/3)
وتطورها): " والنتيجة أكيدة لدراسات الباحثين، هى: أن عيسى لم يدع أنه هو المسيح المنتظر. ولم يقل عن نفسه إنه (ابن الله) وذلك تعبير لم يكن فى الواقع ليمثل ـ بالنسبة إلى اليهود ـ سوى خطأ لغوى فاحش وضرب من ضروب السفه فى الدين. كذلك لا يسمح لنا أى نص من نصوص الأناجيل بإطلاق تعبير (ابن الله) على عيسى، فتلك لغة لم يبدأ فى استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية، إنها اللغة التى استخدمها القديس بولس كما استخدمها مؤلف الإنجيل الرابع، وقد وجدا فيها معانى عميقة وعلى قدر كاف من الوضوح بالنسبة إليهما. ص _006(1/4)
ولو أراد ـ أى عيسى ـ أن يتخذ لقبا، لاتخذ لقب (ابن داود) المعروف بين بنى إسرائيل، والذى كانوا يعتبرونه لقب المنقذ المنتظر ولكنه لم يفعل". لكن كيف وقع هذا الانحراف الكبير بل لعله أكبر الأخطاء فى تاريخ العقائد والأفكار؟ إنه لم يقع فى مجمع نيقيه سنة 325 م الذى تقرر فيه اعتماد العقيدة الكنسية بالأناجيل المنتقاة على النحو المعروف اليوم؛ بل إنه (فرض) بالقرار السياسى والعسكرى فى هذا المجمع، أما وقوعه فكان قبل ذلك بأكثر من قرنين ونصف القرن على يد المنشئ الحقيقى لهذه العقيدة، والذى يتحمل وزرها التاريخى والدينى وهو اليهودى شاول (بولس). إن بولس هو منشئ هذا الدين، وهو الذى يقف وراء الأناجيل بعامة ووراء الإنجيل الوحيد الذى نص بصراحة واضحة على ألوهية عيسى، وهو إنجيل يوحنا حيث نقل يوحنا فى إنجيله عن عيسى مقولات (أنا والأب واحد)، (الذى رآنى فقد رأى الأب)، (أنا فى الأب والأب فى) ويوحنا هو الوحيد أيضا الذى ذكر أن عيسى أخبر أنه سيرسل (الفارقليط) - المعزى - أو الروح القدس حسب اعتقاد النصارى ؛ ليسدد الكنيسة ويرشدها من بعده! وليس يوحنا هذا من حواريي المسيح ؛ بل هو كما يذكر كاتب الموسوعة البريطانية (يوحنا آخر) كان يعيش فى أفسيس، "ومن داخل الإنجيل يفهم أنه كتبه حوارى محبوب مجهول الاسم، وبما أن الشواهد الداخلية، والخارجية مشكوك فيها فإن الفرضية المطروحة لهذا العمل هى أن إنجيل يوحنا ورسائله حررت فى مكان ما فى الشرق، ربما فى أفسيس، كإنتاج لمدرسة أو دائرة متأثرة بيوحنا فى نهاية القرن الأول الميلادى". ويقول موريس بوكاى حول مؤلف إنجيل يوحنا: " كل شىء يدفع إلى الاعتقاد بأن النص المنشور حاليا ينتمى إلى أكثر من كاتب واحد... وبولس يقف من ورائهم جميعا "!! وقد ورد فى الجزء الخامس من دائرة المعارف الفرنسية أن كتب العهد الجديد المعتمدة من عمل بولس أو من عمل أتباعه، وليست الأسماء الموضوعة عليها إلا أسماء(1/5)
مستعارة. ص _007
ويقول صاحبنا أستاذ المسيحية وتاريخ الأديان الدكتور شارل جنيبير: " يجب علينا ألا ننسى أنه ـ أى المسيح ـ لم يؤسس شيئا: لم يأت بدين جديد، ولا حتى بأى من طقوس العبادة جديد. لم يأت إلا بتصور شخصي فريد للتقوى فى إطار الديانة اليهودية، تلك الديانة التى لم يزعم قط أنه يبغى التغيير فى معتقداتها أو من شرعها وشعائرها. واعتمدت تعاليمه على فكرة حلول مملكة الله التى آمن بها هو كما آمن بها سائر مواطنيه، إلا أنه فهمها وعبر عنها بطريقته الخاصة ". - فمن الذى أتى بهذا الدين الجديد الذى يمثل المسيحية المعاصرة...؟ إن المؤرخ الكبير (هـ. ج. ويلز) يجيبنا على هذا السؤال فيقول: " كان القديس بولس من أعظم من أنشئوا المسيحية الحديثة، وهو لم ير عيسى قط، ولا سمعه يبشر الناس، وكان اسم بولس فى الأصل شاول، وكان فى بادئ الأمر من أبرز وأنشط المضطهدين لفئة الحواريين القليلة العدد، ثم اعتنق المسيحية فجأة، وغير اسمه فجعله بولس، وقد أوتى ذلك الرجل قوة عقلية عظيمة، كما كان شديد الاهتمام بحركات زمانه الدينية، فتراه على علم عظيم باليهودية والميتراسية وديانة ذلك الزمان التى تعتنقها الإسكندرية، فنقل إلى المسيحية كثيرا من فكراتهم ومصطلح تعبيرهم، ولم يهتم بتوسيع فكرة عيسى الأصلية وتنميتها، وهى فكرة (ملكوت السموات) ولكنه علم الناس أن عيسى لم يكن المسيح الموعود فحسب، ولا زعيم اليهود الموعود فقط بل إنه ابن الله نزل إلى الأرض ليقدم نفسه قربانا ويصلب تكفيرا عن خطيئة البشر". لقد كان بولس عليما بالفلسفة الإغريقية التى تمثلها مدرسة الإسكندرية، وقد نجح بولس فى أن يضع البذور التى نقل بها المسيحية من الوحدانية الى التثليث، ووافقت فكرة التثليث الجماهير ذات الخلفية الوثنية، واستطاع بعض أتباع بولس أن يصيروا من آباء الكنيسة وذوى الرأى فيها فتم الامتزاج بين آراء مدرسة الإسكندرية المؤمنة بالفلسفة الإغريقية وبين(1/6)
المسيحية الجديدة. لقد كان هذا أعظم خطأ وقع فى تاريخ العقائد والرسالات السماوية، ولئن كانت الأديان السابقة تتعرض للتحريف ثم يرسل الله الرسل فيزيحون الأتربة عنها ص _008
ويعيدون إليها نقاءها ووحدانيتها، فإن المشكلة مع النصرانية الكنسية صعبة ومعقدة، وذلك لأمرين خطيرين: أولهما: أن بولس وهو رجل فى غاية الدهاء والمكر، قد نجح فى القضاء على نصرانية المسيح البسيطة الطيبة، القائمة على الفطرة والزهد والأخلاق الكريمة، وأنشأ لدينه الجديد مؤسسة تعتبر من أقوى المؤسسات الفكرية والعقائدية فى التاريخ البشرى، وهى الكنيسة التى تحصر كل رسالاتها فى حماية آراء بولس وأفكاره المبثوثة فى رسائله وفى إنجيل يوحنا بخاصة، ولم تحاول الكنيسة التى أنشأها بولس أن تبذل بعض جهدها وطاقتها البحثية فى كشف الطبيعة الصحيحة لدين المسيح عليه السلام، ولا لتعاليمه قبل أن يهيمن بولس على النصرانية المسكينة، بل إن الموحدين النصارى فى القرون الثلاثة الأولى قبل مجمع نيقيه يخضعون لتعتيم شديد، ولا يكادون يفوزون بنصيب من الدراسة المنصفة... فالكنيسة الممتدة فى بقاع المعمورة أصبحت تمثل حجابا كثيفا حاجزا بين البشرية ونصرانية المسيح، وهى بتركيبها المعقد تجعل من مهمة الوصول إلى النصرانية الصحيحة أمرا صعبا للغاية... ولقد ضمن بولس هذا النجاح عندما وضع للكنيسة هذا النظام البالغ التعقيد الذى يربط وجودها بهذه الطقوس، ويربط حياة القائمين عليها ـ أيضا ـ بهذه الطقوس، وتبدو الكنيسة مؤسسة مصادرة للعقل، حامية لهذه التركيبة من الأفكار والطقوس التى لا تخضع لأى منهج عقلى أو نقدى أو أية موازين دينية محايدة... يقول شارل جنبيير:،(إن المسيح لم ينشئ الكنيسة ولم يردها. ولعل هذه القضية أكثر الأمور المحققة ثبوتا لدى أى باحث يدرس النصوص الإنجيلية فى غير ما تحيز، بل إننا نؤكد أيضا أن الغرض العلمى لا يمكن أن يوجد له سند تاريخى مقبول، ولم يستطع رجال(1/7)
اللاهوت، بكل ما أوتوا من براعة، حيال ذلك شيئا. ومهما بلغ من فقر معلوماتنا عن تعاليم المسيح، فإنها لتبدو لنا فى مجملها، كرد فعل ضد التعصب الضيق الأفق للشريعة الموسوية لدى اليهود، وضد شعائرهم النى تزيد فى صرامتها عن الحد المعقول . ويقول جنبيير فى موضع آخر أيضا: " أما أن تنسب إليه ـ أى إلى المسيح ـ إرادة تأسيس كنيسة... كنيسة لكون كنيسته هو... كنيسة تختص بالعبادات ص _009
والطقوس التى يعينها لها والتى يظهر فيها رضاه عنها... كنيسة يمهد لها فتح الأرض جميعا... فهذا قول لا يقره واقع الأحداث، ولا صريح التسلسل التاريخى. ولن نتعدى الحق إن أضفنا: أن كل ذلك لا يمكن اعتباره إلا تحريفا لفكرته، وأنه لم يكن ليرض عنه قط لو نمى إلى علمه منه شىء " . بل إن (جنبيير) ـ أستاذ المسيحية بجامعة باريس سابقا ـ ليقول كلاما لا يستطيع أن يصرح به إلا أمثاله من الباحثين المتجردين تماما من العواطف... إنه يقول: إن النصوص الإنجيلية لم تنسب قط إلى المسيح تعبيرا مثل: (كنيستى)، أو (كنيسة الأب)، إلا فى مناسبة واحدة نقرأ فيها: إنك أنت - لبطرس - (بطرس - صخرة) وعلى هذه الصخرة سوف أبنى كنيستى (إنجيل متى 16/ 18- 19) لكن هذا الحديث المشهور، والذى استغل أقصى الاستغلال، لا يمكن بحال من الأحوال الاعتماد على صحته، إلا إذا أعلنا أن المسيح فى ساعة من ساعات الغفلة والتيه، قد تنكر لتعاليمه، ولعمله، ولرسالته، بل ولذاته أيضا. هذه الكنيسة (البولسية) ـ غير (المسيحية) قد أصبحت مؤسسة لاهوتية اقتصادية سياسية ذات شبكة دولية من العلاقات والمصالح. وذات نفوذ سياسى واقتصادى وإعلامى رهيب. وقد أصبح صعبا غاية الصعوبة أن تحاول نقد نفسها وتغيير بيئتها وتجاوز (بولس) والعودة إلى (المسيح) وتجنيد كل طاقتها لتجاوز مقررات مجمع نيقيه، وتأثيرات بولس وأتباعه على الأناجيل الأربعة التى اعتمدت بقرارات سياسية موائمة لظروف التحول التى كانت تمر بها(1/8)
الإمبراطورية الرومانية وحاكمها قسطنطين!! - ومع ذلك فإن الفكر البشرى العلمى والتطور الحضارى قد وجدا أنفسهما وجها لوجه فى مواجهة هذه المؤسسة التى لا تقوم على وحى صحيح أو عقل صحيح...... ثانيهما: أما الخطر الكبير الثانى فقد تمثل فى ذلك الرفض العقلى والحضارى الأوربى لكنيسة بولس المعقدة اللا معقولة... والمأساة الكبرى أن هذا الرأى لم يتجه لنقد (المرحلة البولسية) بل اتجه إلى رفض الدين كله... دين عيسى (عليه السلام) ص _010(1/9)
ودين بولس... بل وكل الأديان السابقة.. وحتى الدين الجديد الذى جاء مصححا وهو الإسلام، فقد تم رفضه لأن الكنيسة كانت ـ عن وعى بخطورته ـ تشوهه ولا تسمح بوصوله صحيحا إلى العقل الأوربى، واتجه العقل الأوربى ـ فى ظل هذا ـ إلى المادية والإلحاد والعلمانية التى تحصر الدين فى داخل هذه المؤسسة اللاهوتية (الكنيسة) ولا تسمح بوجوده فى جوانب الحياة المعاشة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية.... والغريب أن الكنيسة التى كانت تشارك الملوك فى السياسة وتنفرد هى بصياغة الحياة والعقول فى العصور الوسطى.. هذه الكنيسة الغريبة قد رضيت بهذا الوضع، واستسلمت لهذه النتيجة، وقبلت أن تتعاون مع قيادات الحياة الجديدة، فأصبحت طليعة الاستعمار والشريك المتضامن مع العلمانيين وحكام الفساد والانحلال الذين لا تربطهم بالله صلة ولا يهمهم من الدين ورجاله إلا أن يساعدوهم على تحقيق أهدافهم اللاإنسانية واللاأخلاقية ضد الشعوب المستضعفة وضد المسلمين بخاصة!! ومرة أخرى تنجح الكنيسة فى ركوب الموجة وتغيير الحقيقة وبيع المبادئ والتضحية بالنصرانية الصحيحة وبالدين الحق، وذلك فى سبيل الحفاظ على هويتها وعلى مكاسبها الدنيوية البحتة ! وكما امتزجت مع قسطنطين والملوك والإقطاعيين منذ القرن الرابع وحتى الفرن السادس عشر، كذلك نجحت فى أن تتعاون مع خصومها قادة الحضارة الأوربية الحديثة، فاستثمروها واستثمرتهم، وأصبح الطريق صعبا ـ مرة أخرى ـ لتجاوز مرحلة بولس وقرارات مجمع نيقيه والاتصال المباشر بالمسيح وإنجيله المفقود. وزاد من صعوبة الأمر تفوق الحضارة الأوربية التكنولوجى والمادى فعمدت الكنيسة إلى استغلال جهل الناس بمذابحها ضد العلم ورجاله فى العصور الوسطى، وصورت لهم أن لها صلة بهذا التقدم، وهذا التقدم (المادى) و (العقلى) منها براء!! إن إنقاذ البشرية وهدايتها إلى الدين الحق طويل وشاق. لكن هذه الومضات (العلمية) التى تتألق فى عدد من الدارسين(1/10)
الشرقيين والأوربيين المحايدين المنصفين تبشر بالخير. ص _011
ونحن المسلمين لا نفهم سر هذا التحجر من رجال الكنيسة، لأننا لا نريد أن نقتنع بأن المصالح الدنيوية البحتة تستطيع أن توجه هذا العدد الغفير الذى يقدر بالملايين من المنصرين ورجال اللاهوت إلى هذه الوجهة المخالفة للحق والمدمرة لمستقبل البشرية. ومازال الأمل يراودنا ـ كما راود أستاذنا الإمام الشيخ/ محمد الغزالى فى هذا البحث الطيب ـ فى أن يثوب المخلصون من رجال النصرانية ألى دراسة الإسلام دراسة موضوعية، وفى أن يدرسوا مسيحية بولس دراسة موضوعية... وكما أمكن للعقل البشرى أن ينفذ من خلال حجب الظلام الكثيفة إلى تبديد كثير من الأوهام الباطلة التى كانت حقائق يقينية فى عهد سقراط وأرسطو وأفلاطون وأفلوطين ـ فإننا كذلك نأمل فى كشف أباطيل بولس ورفض منظومته اللاهوتية والكنسية، والعودة إلى نصرانية المسيح عليه السلام... - نصرانية موحدة لا تأليه فيها لرسول الله عيسى، ولا لروح القدس جبريل. - نصرانية بلا صلب ولا فداء. - نصرانية تقدر الله حق قدره ولا تسمح بكلمة تخدش عظمة الله وقدرته. - نصرانية تقدر الرسل حق قدرهم وتنزههم عن اللصوصية والزنا والقتل وغيرها من العيوب والنقائص. - نصرانية منقولة معقولة لا تتجاوز النص ولا تجهض العقل. - نصرانية سمحة لا تضع يدها فى يد مستعمري العالم ومروجى الرذيلة ومبيدى البشرية ومفسدى أخلاقها... - نصرانية يتصل فيها العبد بالله اتصالا مباشرا بلا صكوك غفران ولا اعتراف... - نصرانية لا ترى فى محمد عليه الصلاة والسلام ولا فى القرآن الذى نزل عليه (العدو الأول) لأن القرآن الذى أنزله الله على محمد ولأن الأحاديث المنسوبة إلى محمد ليس فيهما إلا كل حب وتقدير للمسيح عيسى عليه السلام.. وما جاءت تعاليم القرآن والسنة إلا بكل حق وخير يوجههما الوحى الصحيح والعقل الصحيح.. إننا ندعو العقلاء والمخلصين إلى أن نتجه جميعا للبحث عن الحقيقة(1/11)
فى عصر العقل..بالعقل.. وبالثوابت الدينية التى تتفق عليها كل الرسالات السماوية. إن أستاذتا الشيخ الغزالى فى هذا الحوار العقلى الكريم يدعو هذه الجيوش ص _012
المشتغلة بالتنصير أن تعمل فى ميدانها الحقيقى لو كانت تؤمن بالله وبالدين الحق... إنه ميدان الحضارة الأوربية العلمانية المادية بالدرجة الأولى... والمسلمون آخر من يحتاجون إلى خدمات التنصير لأنهم أول المؤمنين بالله وبرسالات الله وبعيسى عليه السلام... فعلام هذه الحرب الضروس؟ ولماذا التواطؤ ضد المسلمين مع اليهود والمجوس؟ وأنا أضيف إلى نداء أستاذنا الشيخ الغزالى إلى عقلاء حركات التنصير نداء إلى البشرية كلها أن تقف ضد مؤسسات الباطل التى تلغى العقل وتعمل لخدمة أهداف تستذل بها شعوب العالم وتقاوم بها أشعة الشمس وأضواء الحق... صليبية كانت هذه المؤسسات أو يهودية!! ولن نيأس من رحمة الله ، لأن ثقتنا كاملة فى وعده: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) (صدق الله العظيم). القاهرة- صفر الخير 1412 هـ. د/ عبد الحليم عويس ص _013(1/12)
مدخل بين يدى كتاب من 900 صفحة مطبوعة بحروف صغيرة، فلو أن الكتاب طبع بالحروف المعتادة لبلغ ثلاثة مجلدات كبيرة، إنه سجل للمدارسات والمحاورات والمقترحات والآراء والنتائج التى انتهى إليها آخر المؤتمرات التبشيرية فى الولايات المتحدة... وقد تخصص هذا المؤتمر فى بحث قضية واحدة هى أمثل الطرق لتنصير المسلمين والقضاء على دينهم، وقد جمع لهذه الغاية ألف مليون دولار لعلها الخطوة الأولى فى مشوار طويل.. الحق أنى شعرت بالكآبة والأسف، وتساءلت: ماذا يطلب هؤلاء الكهنة المجتمعون على أخس غرض؟ إننا نحن المسلمين نقدر الله حق قدره! ونقضى الليالى والأيام فى تسبيحه وتحميده، وقد قسمنا الزمان قسمة رتيبة، فبين الحين والحين تحمل الرياح الأربع صيحات المؤذنين: الله أكبر الله أكبر ؛ ثم نهرع إلى المساجد ملبين النداء محيين ربنا بالركوع والسجود، والقيام والقعود.. وضحكت وأنا أتساءل مستغربا: أنحن كافرون بالله..؟ إننا بلا ريب مقصرون فى حق الله مفرطون فى جنبه، لأننا لم نبلغ المدى المطلوب منا، ولم نحسن أعمالنا على النحو الذى سار عليه أسلافنا، وتأخرنا تأخرا أطمع فينا الثعالب والذئاب، فضربتنا اليد الحالبة واليد العاطلة على سواء، ونال منا عُباد الأوثان، ومن لا يعبد شيئا قط.. ورجعت إلى صفحات الكتاب الحافل بالمكر والإفك، انه يعرف عقائدنا معرفة حسنة، وهو يريد أن نضم إلى عبادة الله، عبادة إلهين آخرين، هما الابن والروح القدس! ويصفنا بأننا أعداء المسيح عيسى ابن مريم! أصحيح أننا أعداء عيسى؟ إننا وقرناه وكرمناه، وبرأنا أمه وفضلناها على العالمين، فماذا نُلام عليه؟ أو ماذا يؤخذ علينا؟ إنكم ـ يا رجال الكنائس المجتمعين فى مؤتمركم هذا ـ صادقتم يهود، وبسطتم أيديكم إليهم بالود والنصرة، ولم يخف ضغنكم ذرة على الإسلام ونبيه! وتذكرت كلمة (برنارد شو): لقد طبع رجال الكنيسة فى القرون الوسطى دين الإسلام بطابع ص _014(1/13)
أسود حالك، إما جهلا وإما تعصبا، إنهم فى الحقيقة كانوا مسوقين بإحساس واحد، هو بغض محمد ودينه، وهم يقولون : إن محمدا عدو للمسيح، ولقد درست سيرة محمد، الرجل العجيب، وفى رأيى أنه بعيد جدا عن أن يكون عدوا للمسيح، وإنما ينبغى أن يدعى منقذ البشرية) ! هذه كلمة حق هُدِى إليها رجل من رجال الدنيا، وضل عنها المتعصبون من رجال الدين!! ولقد فكرت فى الحضارة الحديثة التى تسود العالم بكشوفها العلمية الرائعة، إن الذى صنع هذه الحضارة وحملها هم رجال من طراز (برناردشو) أما رجال الكنائس المؤتمرون فى الولايات المتحدة، فهم اخوة وأبناء للدين ذبحوا العلماء، وقيدوا المدنية، وكرهوا الفكر والحرية، ولم تستطع أوربا حسم شرورهم إلا بعد أن حكمت حكما لا رجعة فيه، بإقصائهم عن الدولة والاقتصاد والسياسة، والعلم والمجتمع وكل نشاط له وزن.. إنهم الآن يعودون فى ظل مدنية قتلوا رجالها الأوائل ـ حاملين لواء الكراهية للإسلام وحده! عاملين مع قوى البشر، وخادمين للاستعمار القائم على العنصرية والفساد.!!- إن هذه القطعان من الكهنة، تستأنف غرائز التعصب القديم، حين تستأنف الحرب، وتشق غارة جديدة على الإسلام.. ماذا تريدون ممن يعبد الله الواحد؟ تقولون: اعبد معه يسوع ابنه الوحيد ثم ضم إلى يسوع الإله الثالث روح القدس.. إننا نعرف هذه القصة وننكرها! إن الله الواحد هو الخالق الرازق المحيى المميت، المدبر لكل شىء (ما أعانه أحد وهو يبدع السماوات والأرض) لأنه لا يحتاج إلى معين، إن ماعداه فقير إليه عان بين يديه!! (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون). سألت نفسى: ما وضع هذه الآلهة الأخرى مع الله؟ أهى كبطانة المغنى تردد ما يقول وحسب، إن(1/14)
البطانة مرتبة أخرى دون الأصل، وقد تطرد ويجاء بغيرها إن هى أساءت الترجيع أو شذت عن النغم ! ما علاقتى أنا بأفراد هذا الثالوث؟ هل الأب خلق المخ، وخلق الابن الصدر، ص _015
وخلق الروح القدس البطن والأطراف؟ أجبت: إن الحياة السارية فى الكيان كله واحدة، لا تصدر إلا عن واحد يشرف عليها من ذؤابة الرأس إلى أخمص القدم، ويوزع عمل الأجهزة الرئيسة على أجزاء الجسم علوا وسفلا.. وأنا لهذا الإله الواحد أسجد وأشكر وأحيا فى دنياى أستعد للقائه كى يجزينى على حسن معرفتى! أنا ليست بينى وبين أحد الآلهة المزعومة خصومة شخصية، لو كان هناك إله آخر لعبدته (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) لكن ليس هناك خالق إلا الله هو خالق الكل، وما عداه مخلوق له!! (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون) لكن هؤلاء الكهنة جهلة غاشون يبغضون محمدا لأنهم عميان لا يرون الحق، ويبغضون أتباعه لأنهم متعاونون ضدهم مع شياطين الإنس والجن! وأعلم أن الناس من الأزل مختلفون، وكذلك خلقوا، ليكن (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون). فما علة اجتماعكم عشرات ومئات كى ترسموا الخطط لقتلى، وتنتهزوا كبوة عرضت لى كيما تجهزوا على!! هذا مؤتمر مستنكر الوسائل والأهداف، ومن حق المسلمين فى المشارق والمغارب أن يتنادوا بأخذ الحذر والتأهب للدفاع!! وذاك بعض ما قمت به فى هذا الكتاب، لأميط اللثام عن لصوص العقائد لاسيما إذا ساروا مع استعمار يسرق الأموال والأعراض، وألفوا جميعا جبهة للشر والعدوان...!! إن أوربا وأمريكا مع تقدمهما العلمى ما أحسنتا الصلة بالله، ولا اكترثتا باليوم الآخر، ولا احترمتا جنة ولا نارا، إنهم عُباد (فانون) فى متاع الدنيا وحدها، فهلا التفت الكهنة المؤتمرون إلى ما يسود مجتمعاتهم من مادية طاغية فقاوموها،(1/15)
هلا أصلحوا أنفسهم قبل أن يتجهوا إلينا بالإصلاح أعنى بالإفساد !! ما أحسب غرائز السوء انطلقت فى عصر انطلاقها فى هذه الأيام النحسات الكارهة للوحى، الناقمة على مواريث السماء... إن كهان أوربا وأمريكا يتعامون عن هذا الواقع الحافل بالنذر، ويكرسون أوقاتهم لشىء واحد، هو حرب محمد ص _016
وأمته، حرب التوحيد الخالص، ونصرة عقيدة التثليث..!! ونحو هذه الغاية يتسامحون مع الهنادك واليهود وكل ذى نحلة شاردة، المهم هو القضاء على الإسلام وحده.!! والمؤتمر الأخير قوة جديدة لتشديد الغارة على الإسلام، ورسم لوسائل أنجع.. وقد وقع الاشتباك فى ساحات كثيرة، والأنباء التى تجيئنى من القلب والأطراف، من وسط العالم الإسلامى وشرقه وغربه، تجعلنى ألعق مرارة الهزيمة، وأدرك ضراوة الهجوم.. من ألوم فى هذه الأحداث المؤذنة بالويل والثبور؟ لا ألوم إلا قومى، فإن تخاذلهم وتقصيرهم من وراء هزائم شنيعة لحقت بنا فى كل مكان.. التربية هى الثلث الأوسط من عناصر الرسالة الإسلامية، تسبقها تلاوة المنهاج الذى يحدد إطارها، ويوضح غايتها، ثم يعقبها التعلم للحكمة المودعة فى تضاعيف الكتاب العزيز. ونختار من الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). أوضحنا فى مكان آخر أن التزكية هي التربية، والحق أنه لا قيام لأمة إلا إذا تربت وتهذبت، وحكمتها قيم معينة، وتابت على نوازع السوء، وسادتها خلال الصدق والأمانة والوفاء والشرف.. والأمم العظيمة تتوفر فى جنباتها جماهير ذات أخلاق ومواهب، ومن هنا قد تنهزم الدولة فيها، ولكن الأمة تبقى جديرة بالحياة، وسرعان ما تتجدد! وترى مصداق هذا فى عصرنا، فئد انهزمت ألمانيا واليابان، وسُحقت الدولة فيهما سحقا، لكن الكيان الخصب بقى قديرا على الإثمار، فسرعان ما قامت الدولتان مرة أخرى على نحو(1/16)
أعظم وأقوى... وفى تاريخنا انهزمت الدولة العباسية وقتل الخليفة، ولم يمض كبير وقت، حتى كان التتار المنتصرون قد دخلوا فى الإسلام، بل حملوا لواءه ! ذلك لأن مستوى الأمة الإسلامية كان أعلى من مستوى الغالب، وكانت حضارتها أينع وأزكى، فلم تنهزم الأمة عندما سقطت الدولة، بل ظلت تؤدى رسالتها بنجاح. وذاك فى نظرى سر إيراد الآية القرآنية الكاشفة لعناصر الرسالة بعد هزيمة أحد، وحزن المسلمين على ضحاياهم، كأنما قيل لهم: قد يقع خلل فى السلطة ص _017(1/17)
يعرض نظامها للتصدع، لكن يبقى جوهر الأمة سليما قادرا على النهوض بعد العثار، فاستأنفوا السير، (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). وقد انهزم المسلمون فى القرن الماضى، وامتدت هزيمتهم إلى العصر الحاضر، وآن لهم أن ينهضوا من كبوتهم، كما نهض آباؤهم بعد الاندحار أمام التتار وأمامنا المنهاج الخالد وهو القرآن الكريم، وعلينا أن نتزكى بتعاليمه، فلا أمة بدين تربية... وليس بقائم بنيان قوم إذا أخلاقهم كانت خرابا ونستطيع أن ننهل من ينابيع المعرفة، ونعى الحكمة الإلهية التى أودعت في كتابنا، ونستطيع ـ لو صبرنا ونشطنا ـ إقامة حضارة أزكى وأشرف من الحضارة التى تسود الدنيا الآن.. إن الحضارة الحديثة لا علاقة لها بموسى ولا عيسى، والكهنة السائرون فى موكبها خدم لأخس أغراضها، وقد كانوا وما زالوا حملة أفكار أرضية مظلمة، لا صلة لها بالسماء، ولن يبارك الأحد الصمد شيئا لديهم.. بيد أنى أعود فألوم قومى! إن التربية نشاط شعبى قبل كل شيئ، فمالى أراهم ناشطين لنيل الحكم، قاصرين فى ميدان التربية، عاجزين عن تغيير التقاليد السيئة؟ والعادات السخيفة؟ والأوهام الشائعة؟؟ إن قوى التنصير تتسلل من خلال الثغور الكثيرة فى أنحاء مجتمعنا، ومن خور الضعف الظاهر فى بنائنا الأخلاقى.. ولست أنكر عجز الحكومات المختلفة فى مكافحة هذا البلاء، غير أنى أتفرس فى هذا العجز فأجده ـ مرة أخرى ـ وليد تربية سيئة؟ وتنشئة معتلة.. إن الشره فى حب المال جعلنا نجمع منه القناطير المقنطرة، فهل أنفقنا بعضها فى إشباع من يستغل التبشير جوعهم أو مرضهم؟ كان العقاب الإلهى عدلا حين أحرق هذه القناطير فى فتنة الخليج.. لماذا نشترى القمح من الآخرين ولدينا الأرض التى تزرعه؟ إننا وضعنا من عند أنفسنا العوائق التى تجعل إحياء الموات مشكلة ! فلتكن أيدينا هى السفلى إذن، ولنقبل الاستدانة، وكنا أغنياء عنها، والفقر طريق الكفر.. ثم إن الحاكم عبد لله ينبغى أن(1/18)
يعان على عبئه، فمن الذى أوجد عصابات من الرقيق تهتف خلفه: بالدم والروح نفديك يا فلان!! وهم فى صراخهم كذبة، أرض ص _018
الله الواسعة لا تعرف هذا النفاق! والزواج عقد اجتماعى لتكوين أسرة، ورعاية جيل؟ وتحصين الناس ضد الحرام، فما الذى جعله معرضا للثراء والرياء، والنفقات السفيهة والمظاهر الكذوب!؟ ولماذا أصبحت تكاليفه قاصمة الظهر؟ ولحساب من؟ ان ضعف الأخلاق فى أمتنا هو الذى فتح الطريق أمام أعداء يكرهون محمدا وأمته ويتمنون لهم الدمار!! وقد رأيت (سادة) عندنا يستخدمون وثنيين ووثنيات فى شئونهم الخاصة والعامة، لماذا؟ إن كان لهم عذر فهى مصيبة، وإن لم يكن لهم عذر فالأمر أشد... لا أريد هنا إحصاء مثالبنا، ولكني أريد فقط بيان أن التنصير يستغل آفاتنا الخلقية فى سلخنا عن ديننا، وهى آفات نشأت من عصياننا السافر لتعاليم الإسلام.. والبراءة من هذه العيوب لا تحتاج إلى معجزات سماوية، بل علينا أن نتحرك كما يتحرك سائر البشر فى الدفاع عن أنفسهم ودينهم.. أعرف أن هناك حكومات قامت وفق مخططات استعمارية بشل قوى الإسلام وإخمال شأنه، بل أعرف أن أشخاصا بأعيانهم وضعوا فى هذه الوظائف، ومنحوا إمكانات مالية وأدبية كبيرة.. ليكن! إننا لا ننتظر من الشيطان أن يرحم أو يعدل لقد كانت إفريقية مستعمرات كلها من نصف قرن، ثم أنشأ الاستعمار العالمى على صعيدها نيفا وخمسين دولة، وزع عليها المسلمين والوثنيين والنصارى بطريقة خاصة، وترك الناس يموج بعضهم فى بعض ناشدا من فوضى التقسيم أن يخمد روح الإسلام، وأن يجعل النصرانية هى الدين الأول فى القارة المسكينة مع أنها الدين الأخير ـ من ناحية التعداد ـ ثم دفع الأمور فى مجراها العتيد، ووقف يرقب النتائج. ماذا كان يصنع العرب فى شمال القارة؟ كانوا مشغولين بما لا يشتغل به عاقل! نزاع بين أتباع المذاهب الفقهية! نزاع بين سلف وخلف! نزاع على مطالب الدنيا، نزاع على مآرب الحكم، ذلك كله، والإذاعات(1/19)
التنصيرية ماضية فى طريقها، والنشرات التى تحمل الشبه ينقلها البريد إلى البيوت، ومن وراء ذلك البلاء سيف المعز وذهبه.. ولقد زرت المغرب الكبير، وزرت وادى النيل، ووجدت أمتنا مخدرة، لا تدرى ما بيت لها، إلا قليلا ممن عصم الله.. ص _019
واليوم يلتقى فى الولايات المتحدة جمهور من المبشرين يضعون الخطة للقضاء على الإسلام فى العالم كله، كأن الأمة الكبيرة أمست ميراثا للناهبين ! قلت: أيها الكهنة الأذكياء! إنكم تستطيعون خدمة دينكم حيث أنتم، فبلادكم مسرح لشتى الجرائم التى ينتهك فيها العرض وينهب المال، احموا شبابكم من المخدرات والإيدز وفنون الإلحاد التى تشيع فى صفوفه.. ترى بم يجيبون؟ لا... نحن نريد القضاء على الإسلام وحده، وسندرس الخطط المطلوبة، وندفع التكاليف المالية.. قلت: ما بد من الدفاع والله غالب على أمره.. وذهب إلى إدارة الأزهر من يشكون محاولات الفتنة، بل جاء إلى بيتى من يريد المكر بى.. إن الأمر جد، ولابد من الوقوف فى وجهه.. فكان هذا الكتاب وهو جهد المقل، ولله الأمر من قبل ومن بعد ! ص _020(1/20)
راغب عن الجدل: ولكن ما العمل..؟ جاءنى شخص حسن السمت، ظننته لأول وهلة طالب علم، لكنه عرفنى بنفسه فأدركت أنه مسيحى، يتبع الكنيسة الإنجيلية الإنكليزية، قال لى: أريد مساءلتك فى بعض القضايا! فقلت له: أنا أكره الجدل الدينى، فإن أصحابه سرعان ما يتحولون إلى اللجاجة والمغالبة، وليس لدى وقت لهذه الأمور!! قال: بل أنا ناشد حق أعرفه وأدعو إليه، فأجبته: ما يزعم أحد أنه على باطل، كل امرئ مستريح إلى ما عنده، ما يبغى به بديلا. ومن ثم فأنا أدع كل امرئ لقدره الغالب، أو لمواريثه التى انحدرت إليه؟ حتى يستبين من تلقاء نفسه ما يغيره ويبدل أحواله! قال: ما تعنى؟ قلت: أحسب أننا ورثنا الأديان؟ ورثنا اللغات ؛ دون إرادة منا ولا اختيار، فلما كبرنا شرع كل واحد يفكر فيما عنده تفكيرا سطحيا أو عميقا على قدر ما أوتى من عقل. ويغلب أن يقتنع المرء بما جاءه، وأن يتساهل فيما يند عن عقله ؛ ويقبل على إغماض وتجوز ما قد يراه مأخذا على دينه، ثم يجرفه بحر الحياة، وتشغله معركة الخبز فيبقى على وضعه. وأنا ألتمس العذر لهؤلاء وأمثالهم، وأعى قول الله سبحانه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) قال الرجل: كأنك تشعر بالقلق من الحديث معى! فرددت ساخرا، قلق على ما عندى، أو على ما عندك؟ اسمع يا صاح، إننى رجل أومن بالعقل ص _021(1/21)
البشرى الذى جعله الله مناط التكليف، أحيانا أرتاب فى وجوده أو فى يقظته عند أغلب الناس، وذاك سير اليأس من مجادلتهم! أنا ورثت الإسلام عن أبوىّ، بيد أننى عندما كبرت أخذت أفكر فى هذا الميراث، وأغوص وراء أسرار الوجود الأعلى والوجود الأدنى، وأراقب طنين الأفكار والمذاهب المتطاحنة من حولى، وأوازن وأرجح، وأستقبل الشبهات بترحاب وأناقشها بتؤدة، وبعد سياحة طويلة أدركت أن الله حق، وأنه واحد، وأنه أرحم بعباده من أن يتركهم دون دليل ؛ فى صحراء مليئة بالمتاهات، فأرسل إليهم رسله معلمين ودعاة صادقين. وعلى ضوء العقل المجرد نظرت إلى الأديان الشائعة بين البشر، فما كان أكثر تنزيها لله، وإشعارا بعظمته، وشرحا لصفاته العُلى، وأسمائه الحسنى آثرته على غيره. إننى أحيا فى كون كبير، فى ملكوت لم يعرف الفلكيون أبعاده، يتكون من ذرات يحار العقل فى أعمائها، ولا ريب أن رب هذا الملكوت أكبر منه وأعلم وأقدر. وقد نظرت فى كتب المتحدثين عن الله، فلم أجد كتابا شرح أسرار العظمة الإلهية، واحتدت نبرته وهو يرد ترهات الملاحدة، ويصور معالم الكمال والجمال والجلال.. لم أجد أصدق من هذا القرآن الكريم فاتبعته، ولو وجدت ما هو خير منه لملت إليه واستقر هواى عليه. إن العقل أيها الصديق هو الميزان المصدوق والحاسب المضبوط! وأنا أومن به. وهو من وراء تمسكى بالإسلام وبقائى عليه! أنا لست مقلدا أعمى لدين وجدت عليه آبائى! اعتقادى أن الله سوف يحاسب الناس على حسب مواقفهم من عقولهم، فمن بحث واجتهد، وفكر وتعمق، فهو واصل إلى الحق حتما، قال تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) ص _022(1/22)
ولكن هناك مرضا عقليا شائعا بين الناس، هو الكسل الفكرى، المرء يحس الريبة فى أمر ما، ومع ذلك لا يتحقق منه، ويبقى على ما هو عليه، حسبه أنه يأكل ويشرب ! ومن حق رب الناس أن يغضب على امرئ لا يهتم بمعرفته، وإنما همته فى تأمين حياته الأرضية وحسب! وجمهور ضخم من سكان القارات يعيش على هذه الوتيرة، شأن الألوهية عنده ثانوى، فهو ينساق مع مواريثه دون قلق! أين عقله؟ ولماذا لم يؤد الوظيفة المطلوبة منه؟؟ فانظر يا صاحبى فى نفسك قبل أن تتحدث معى! هل أنت عبد التقاليد الموروثة أم أنت رجل حر الفكر، تحترم العقل الإنسانى الذى هو أعظم هدايا الخالق للناس أجمعين؟ قال الرجل: أنا مثلك أومن بالله، وبالسيد المسيح له المجد! قلت: حسنا فأنا أومن بالمسيح وبآبائه وأسلافه، وبمن جاء بعدهم، أنا مسلم دائرة إيمانه تشمل موسى وعيسى ومحمدا، أنا أدرك أن الله ـ كما قلت لك ـ أرحم من أن يترك عباده حيارى، فبعث إليهم (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) القرآن الكريم أمرنا أن نؤمن بجميعهم على اختلاف عصورهم(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) آسف أيها الأخ لأنكم تجهلون آفاق الإسلام الرحبة، وتحسبونه دينا محليا لبعض الناس قلوا أو كثروا، إن الإسلام يجمع الخلائق كلها فى ولائها لله، وخضوعها لمجده وتسبيحها بحمده، إنه دين موسى وعيسى الذى تزعم الانتماء إليه، إن عيسى عندما وجد مكابرين لدعوته، ومكذبين لرسالته صرخ ص _023(1/23)
(من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) إلى هذا الإسلام السمح الواسع نحن ننتمى، وإنه ليسرنا أن يعرف البشر أجمعون هذه الحقيقة، ويتآخون فى ظلالها الوارفة. قال: معذرة، إن إيمانكم ينقصه عنصر أساسى مهم، إنكم تؤمنون بالمسيح الإنسان، ولا تؤمنون بالمسيح الإله، وهذا يجعل إيمانكم لا وزن له. قلت مبتسما: هل ألوهية المسيح تخصه وحده؟ ألا تنال معه إخوته لأمه؟ قال: ما تعنى؟ قلت: لقد ولدت مريم عيسى وهى خطيبة ليوسف النجار ولم يتصل بها، وبعد أن تم نفاسها أتم زواجه بها، وأنجب منها ـ كما يقول (متى) أربعة أبناء آخرين: هم يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا، هؤلاء هم إخوة الإله لأمه؟ جاء فى كتابكم! يبدو أنهم لا هم آلهة ولاهم أنبياء.. فتملك الرجل ضيق كتمه بقوة! وقال: تلك أخوة الجسد، ولا صلة لها بالرب يسوع له المجد! قلت له: هنا نختلف، ولا أكرهك على ما عندى ولا تكرهنى على ما عندك، إن عيسى إنسان كريم ونبى عظيم، وقد جاءت ولادته مخالفة لقانون السببية، فإن هذا القانون وإن حكم البشر لا يحكم واضعه الأعلى، ومن قبل ولد آدم من غير أبوين، ولدت حواء من غير أم، فليولد عيسى من غير أب، وقد عاصرت ولادة عيسى ولادة أخرى ألغى فيها قانون السببية: ولادة يحيى من أم عقيم وأب شيخ بلغ من الكبر عتيا. إن الخالق الأعلى إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون. أما أن تحاول إقناعى بأن رب السماوات والأرضين، ومسخر النجوم فى السماوات تشرق وتغرب فى فضاء فوق أوهامنا، هذا الإله احتبس تسعة شهور فى بطن امرأة ولدته وولدت غيره فهذا ما ننكره. عيسى يا صديقى رجل رقيق نبيل، ونحن نوقره ونقدره كما نقدر ونوقر إخوانه من الأنبياء الآخرين.. ص _024(1/24)
العقل أصل دينى قال صاحبى: إنك تغالى بالعقل مغالاة شديدة، والعلاقة بين الإيمان والعقل ليست على ما تزعم، ولديكم معشر المسلمين من ينزل بالعقل عن هذه المكانة، ألم تسمع إلى قول شاعركم: مجانين إلا أن سر جنونهم قديم وفى محرابهم يسجد العقل! إن جوهر الإيمان لدينا فوق العقل ومن هنا آمنا بالثالوث المقدس ولا دخل للعقل فى إدراك كنهه! قلت: بل العقل عندنا أساس الدين، فما جزم العقل الصحيح الموثوق باستحالته لا يكون دينا البتة، إن للدليل العقلى وزنا لا يرجحه شىء أبدا. بالعقل عرفنا الله، وبالعقل أدركنا حقائق الوحى، وبالعقل يتم حساب الآخرة، ومن لا عقل له لا دين له. ويوجد فى الدنيا مجنون ليلى، ومجنون بطلب المال!، ومجنون بحب الرياسة، وهؤلاء لا يسقط عنهم التكليف ما بقى لهم عقل يعرف الخير والشر، والحق والباطل، فإذا فقدوا هذا العقل سقط عنهم التكليف، ولم يبق محل لمؤاخذة على أنى أريد التفريق أولا بين أمرين: ما يجزم العقل باستحالته لقيام الدليل ضده، وما يعجز العقل عن إدراك كنهه لأنه فوق الطاقة البشرية. وشىء آخر، هناك أمور يتواضع الناس عليها ـ ولا مشاحة فى الاصطلاح كما يقولون ـ وقد يلتزمون فى عاداتهم أو عبادتهم بأدائها، ولا صلة للعقل بها سلبا أو إيجابا. ص _025(1/25)
وأرى فى وجهك أنك تطلب الإيضاح، فاسمع منى: إن واحدا وواحدا يساويان اثنين، فإذا روى راو أنهما يساويان أقل أو أكثر رمينا بروايته فى سلة المهملات.. ولا كرامة، فالعقل ضده!! وإذا حاول عالم معرفة حقيقة الكهرباء ـ وهى موجودة يقينا ـ شعر بالعجز، وتعامل معها على أنه يعرف خواصها، ولا يدرك كنهها، وفى الكون مواد وقوانين يتلقاها العقل البشرى بالتسليم لعجزه عن فقهها ؛ لا لتكذيبه لها. وهناك مراسم فى الوداع والاستقبال والتحية والعزاء.. الخ وضعها الناس لأنفسهم أو وضعها الوحى لهم، فهم يلتزمون بها، لأنها ليست مجال إنكار عقلى أو رضا عقلى، كالتزام اليمين أو اليسار فى المشى، وكالتلويح باليد فى التحيات المتبادلة يمنة ويسرة، أو بمجرد الإشارة، وكالوقوف عند تحية العلم وصدح الموسيقى له.. الخ فإذا صلى المسلمون مثلا قياما وقعودا ورُكَّعا وسجودا، فهذه تعاليم لا ينكرها العقل.. إنما ينكر العقل ما يحكم عليه بالبطلان، لأنه كذب محض. ويتجلى عمل العقل فى ميدان العقيدة، فمن قال: إن الصفر يصنع شيئا، أو أن العالم خلقه العدم فهو كاذب، واسمح لى أيها الصديق أننى بعقلى وكذلك الناس كلهم معى، يستحيل أن يجمعوا واحدا، وواحدا، وواحدا، على أنهم واحد، إنهم ثلاثة يقينا. والله غيرُ أنبيائه، وأنبياؤه غير الأمم التى أرسلوا إليها. ورفعُ بشر أو ملك إلى درجة الألوهية خطأ كبير، وأنتم جعلتم جبريل كبير الملائكة إلها، وأسميتموه الروح القدس، أو الإله الثالث،؟ جعلتم عيسى ابنا لله وسميتموه الإله الثانى، أما الإله الأول فهو الأب المفترى عليه.. ثم قلتم بعد ذلك: والثلاثة فى الحقيقة واحد فقط!! هذا كلام له خبىء معناه ليست لنا عقول ! ويقول القرآن منزها عيسى، وجبريل معا عن قبول هذه الدعاوى (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) ص(1/26)
_026
(ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) إن قضية الثالوث شىء ينافى الوحدانية التى تصيرون إليها.. أما نحن فنقرر جازمين أن الله واحد، وأن ماعداه مخلوق له، وهو عبده الخاضع لجلاله ومجده، وأن شرفه إن كان بشرا أو ملكا هو فى التجاوب مع هذه العبودية والقيام بحقوقها خوفا ورجاء، وصبرا وشكرا، وورعا وتوبة ورغبة ورهبة.. ولنتجاوز الناحية العقلية فى قصة الثالوث هذه إلى الناحية الخلقية والتربوية، إننا سوف نواجه مأساة أنكى! لماذا يؤخذ الجار بجرم الجار؟ لماذا يخطئ آدم فيُعاقب عيسى؟ أيخطئ واحد فيقتص من آخر؟ إنكم تقولون: إن الله قد ضحى بابنه الوحيد (!) على خشبة الصليب كيما ينقذ البشر من الخطيئة التى ورثوها عن آدم! لماذا يرث البشر الخطأ عن أبيهم الذى أزله الشيطان؟ وإذا كانت الخطيئة مرضا وراثيا، فما ذنب مريض انحدرت الجراثيم فى دمه على كره منه؟ إنه ما استدعى هذه الجراثيم المارقة كى يقع فى معصية ربه!! ونعود مرة أخرى إلى التساؤل: لماذا يدفع عيسى ثمن هذه الأمور التى لا ناقة له فيها ولا جمل؟ تدبر أيها الأخ هذا الأمر الإلهى لمحمد عليه الصلاة والسلام (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) ألا تتذوق فى هذا السياق حلاوة الإخلاص والعدالة والصدق؟ وحرارة اليقين، والعبودية الخالصة لله، والإنصاف للناس؟ أذكر أن قسيسا إنجيليا زارنى فى مكتبى بوزارة الأوقاف، وكنت أحبه لدماثة أخلاقه، وتركنى أكتب مذكرة مطلوبة منى، إلا أن القلم جف مداده فجئت بالدواة لأملأه، وحدث أن ارتعشت يدى، فكاد المداد يسقط على ص _027(1/27)
ثوبى، ووجل الرجل لما توقعه من أذى يلحق بى، ولكن الله سلم! قلت له ضاحكا: ماذا لو لوث المداد ثوبى؟ قال: شىء مؤسف! قلت: فماذا كنت أصنع؟ قال: تغسله طبعا بعناء شديد! قلت: هل يغنى عنى أن تغسل أنت ثوبك؟ إنك لو غسلته ألف مرة ما نقى ثوبى أنا.. فنظر الرجل إلى مترددا قلقا، فأردفت على عجل: لذلك نحن ننكر قضية الخطيئة والفداء ! أنا أسأت فأنا أحسن لعل الحسنة تذهب السيئة، أنا الذى أتلوث بالمعصية فأنا الذى أتطهر منها، فأنصف نفسى وأرضى ربى. وإذا بقيت ملوثا فلن ينفعنى تطهر الناس أجمعين، هذه الحقيقة هي التى بلغها المرسلون أجمعون (أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى) إن قضية الثالوث والفداء لا تعرفها أديان السماء، وما سمع بها عيسى عليه السلام.. والنصارى الأولون كانوا على عقيدة التوحيد، وظاهر أن نفرا من شياطين الجن والإنس حاولوا فتنتهم عن هذا المعتقد الصالح، وأرادوا أن يخلطوا بين الوحى النازل على عيسى، وبين تعاليم أديان أرضية قديمة، عُرفت فى وثنيات الهنود والمصريين وغيرهم.. ونشب عراك شديد بين المحافظين والمحرفين ظل قرابة أربعة قرون، انتصرت فيه للأسف العقائد المغشوشة، والمبادئ المعلولة، واستخفى من قلوب الناس التوحيد الخالص. وقد أعان السلطان الرومانى على بلوغ هذه النتيجة الرديئة، فإذا الواحد ثلاثة، وإذا المعابد مذابح وقرابين، وإذا رجال الدين وسطاء يغفرون الذنوب، وإذا المسئولية الشخصية تبتعد، وإذا أحكام إلهية كثيرة تتوارى، وإذا تحريف واسع النطاق يدخل فى تراث عيسى عليه السلام: (....وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو(1/28)
سبحانه عما يشركون) ص _028
أعزؤأ إلألمخذؤأ إققما ؤجذا لأ ابة إلأ هر شثتة كضأ لمجتنيرمحوئ ! (1) قال صاحبى: لقد تركتك تسترسل فى حديثك، وأظنك قلت ما عندك كله، وقد ينخدع السذج به أو ببعضه، وعندنا نحن فى كتبنا تفصيل أدق للوقائع ووضع للأمور فى نصابها.. ! قلت: إننى أستمع لما تريد، وليس بيننا إكراه، ولا كراهية.. ص _029
مبادئ قبل النقاش.. لا أستغرب أن تستند إلى كتابك يا صاحبى فى الأخذ والرد، فأنا أعتمد على القرآن الكريم فى مسيرى وآرائى، وحتى لا يتشعب بنا الحديث إلى وجهات كثيرة أرى أن نضع عدة مبادئ نتفق عليها، ثم ننظر بعدئذ فيما لدى كل منا من تراث. قال: ما هاتيك المبادئ التى تقترحها؟ قلت: أولا نتفق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله وجلالته! فأنا وأنت متفقان على أن الله قد أحاط بكل شىء علما، وأنه لا يعجزه شىء فى السماوات ولا فى الأرض، وأن رحمته وسعت كل شىء، وأنه ليس متصفا بالنقائص والعيوب التى تشيع بين البشر.. الخ وثانيا: نتفق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة، ويبعد أن يختار سفراءه إلى عباده من اللصوص والقتلة وأشباههم من المجرمين.. ثالثا: ما وجدناه متوافقا فى تراثنا نرد إليه ما اختلف عنه، وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين الأديان.. فنظر إلى مترددا كأنما يخشى أن يقع فى حفرة!! فصحت به: ماذا فى هذه المبادئ الثلاثة يقلقك؟ أترتاب فى كمال الله أو فى نزاهة الأنبياء، أو يضايقك أن يكون فى كتابك ما أصدقه أنا لأنه عندى أيضا؟ قال: عند التطبيق يتضح مرادك! وبداية لا مانع عندى من السماع، والقاعدة المقترحة حسنة على الإجمال.. قلت: فى سفر التكوين أن الله كان يمشى فى الجنة، ففوجئ بآدم مختبئا ص _030(1/29)
بين الشجر، وشعر بأنه عريان، فسأله: هل أكلت من الشجرة التى نهيتك عنها؟ فاعترف بأن امرأته أغرته، فأكل، فتعرى!! أسألك: هل هذا السياق مُشعر بأن الله يعلم كل شىء؟ إنه كان جاهلا حتى أخبره آدم ! أما دينى فيخبرنى أن الله ألا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء، وأنه على كل شئ شهيد، فأى السياقين أولى بالقبول؟ وفى القصة نفسها أن الله بعدما علم أن آدم أكل من الشجرة، فكر فى مستقبله باهتمام، لأن الشجرة التى أكل منها هى شجرة المعرفة، ويخاف أن يأكل من شجرة الحياة فيخلد ولا يفنى، فأمر بإخراجه من الجنة حتى لا يتحول إلى ند لله يشاركه البقاء!! هل هذا السياق مقبول؟ أليس يفيد أن الله استكثر على آدم الأكل من شجرة العلم وأنه يريد له أن يحيا جاهلا؟ فلما أكل خشى منافسته له عندما يزداد طمعه، وسيكون خالدا عندما يأكل من شجرة الحياة، فأمر بطرده حتى لا ينازعه سلطانه، ثم أمر بحراسة هذه الشجرة من كل طامع ! ممن يخاف الله؟ والكون كله إنما نشأ بإيجاد الله، وبقى بإمداده، ولو تخلى رب العوالم طرفة عين عن هذه العوالم لزالت، ولم يبق لها أثر ! هذا فكر طفولى جدير بالضحك! إن الحديث عن الله فى كتابنا له أوج آخر، ونسق موغل فى السناء والسمو وقد بين القرآن الكريم أن هذا النسق لم يجىء بدعا على لسان محمد وحده، بل جرى من قبل على ألسنة إخوانه الأنبياء السابقين واحدا واحدا. تدبر هذا الحوار بين فرعون، وموسى وهارون (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) ص _031(1/30)
إن الفارق في الحديث عن الله ـ بين الكتابين كالفارق بين كلام شخص قاصر، وفيلسوف راسخ ! قال الرجل: لا أسمح لك بهذا التطاول، وقد بدأ الكتاب المقدس بحديث عن الله الخالق علمنا أنه الموجد الأوحد للسماوات والأرض والبر والبحر، فلا مكان لهذا اللغط!! قلت: إننا نتحدث عن الحوار الذى دار فى الجنة، بين الله وآدم، وبين الله وملائكته، وأتفق معك على أن الكتب السماوية كلها قالت: إن الله خالق السماوات والأرض، بل إن عبدة الأصنام يقررون ذلك ولا ينكرونه (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) ومع ذلك يتناقضون مع أنفسهم ويعبدون غيره وأنتم مع الحديث عن الله الواحد عند بدء الخلق، لم تقدروا الله حق قدره فنسبتم إليه ما يخدش جلاله.. ولذلك أستأذنك فى أن أرجئ الحديث عن المبدأ الثانى مؤقتا، لأذكر طرفا مما اتفق فيه كتابنا وكتابكم، لعل ذلك يسرك. عندما سئل عيسى، أية وصية هى أول الكل؟ أجاب: أول الوصايا كلها هى (اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك). هذه هى الوصية الأولى، والثانية مثلها، تحب قريبك كما تحب نفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فلما جاء عيسى بهذه الكلمات، قال له الكاتب: جيدا يا معلم ! بالحق قلت، لأن الله واحد وليس آخر سواه.. هذا ما كتبه مرقس فى إنجيله. ص _032(1/31)
نقول: ومع غض البصر عما فى الصياغة من ركاكة، إلا أن المعنى صحيح، فأصدق كلمة هى لا إله إلا الله، وصلة الرحم من أعظم القربات. وبهذا نطق كتابنا: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم..) إن الإسلام يرى عقيدة التوحيد جذر تعاليمه كلها، ويرى الشرك فى الإيمان أو فى السلوك أعظم الكبائر.. وتلك وصية الله لأنبيائه جميعا: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وفى الحضارة الحديثة نلحظ أن الاستمتاع بالنساء أخذ طرقا معوجة كثيرة، ويستحيل وصف هذه الحضارة بأنها عفيفة، أو مقتصدة فى ملذاتها، إنها لا تزال تكرع من الآثام حتى تهلك من التخمة، وكذلك تصنع فى سائر علاقاتها بالدنيا ! أهذه تعاليم الكتاب المقدس؟ إن النهى عن ذلك ورد بأسلوب مثير يقول عيسى عليه السلام: (إن كانت عينك اليمنى تعثرك - تجرك إلى الإثم - فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله فى جهنم، وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله فى جهنم). هكذا ذكر متى! ونحن نوافقه فى ضرورة غض البصر عن المحرمات، ونشجب المدنية الأوربية ـ التى تدعى المسيحية ـ ومع ذلك لا يروى التاريخ أن مدنية أخرى بلغت مداها فى تزيين المناكر وتوسعة دائرتها وإزلاق الملوك والجماهير إليها.. الإيمان بالله الواحد ـ كما ترى ـ أساس تعاليم عيسى، والمواظبة على ص _033(1/32)
العمل الصالح هى طوق النجاة، ونحن ما نختلف عنكم فى أحد الأمرين، فما جاء بعد ذلك من تعاليم مناقضة فهو مرفوض. ألا ترى هذا قاسما مشتركا بيننا؟ قال الرجل: إننا موحدون، ونتواصى بالصالحات، التثليث لا ينافى التوحيد، وافتداء عيسى لأصحاب الخطايا لا ينفى الدعوة العامة إلى العمل الصاع..!! قلت: من النماذج الكثيرة التى سوف أسوقها لك، سترى أن فكرتكم عن التوحيد تحتاج إلى مراجعة، وحديث الكتاب المقدس عن الله يتنافى مع ما ينبغى له من حمد وتمجيد، وإذا كان الأنبياء نماذج حسنة للرجال الصالحين، فحديث الكتاب عن أولئك الأنبياء تقشعر له الأبدان.. ص _034(1/33)
يستحيل أن يكون هذا وحيا! هل يتخيل عاقل أن الله الذى خلق السماوات والأرض يتجسد فى إهاب بشر محدود العرض والطول؟ ويتصرف داخل هذا الإهاب كأنه مخلوق لا خالق؟ إن التوراة ذكرت عدة تجسدات لله ـ سبحانه وتعالى ـ كل واحد منها أعجب من الآخر. وقد أشرنا إلى التجسد الأول بعدما أكل آدم وزوجته من الشجرة المحرمة، فتعريا، وجلسا ينتظران مصيرهما!! قالت التوراة : (وسمعا صوت الرب الإله ماشيا فى الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك فى الجنة فخشيت، لأنى عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التى أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التى جعلتها معى هى أعطتنى من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذى فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتنى فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك) ! وتقول التوراة بعد ذلك بلغة الجمع لا بلغة الفرد، إن الله توجس من تطلعات آدم التى يجب وضع حدا لها!! (وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد ص _035(1/34)
صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا، ويأكل ويحيا إلى الأبد! فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل فى الأرض التى أخذ منها. فطرد الإنسان، وأقام شرقى جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة)..! ممن؟؟ أما التجسد الثانى فإن إبراهيم رأى الله مقبلا فى نفر من ملائكته، فأسرع إلى استقباله يستضيفه، ليشرف بيته، ويتناول الطعام فيه، ويستريح قليلا!! تقول التوراة: (وظهر له الرب عند بلوطات " قمرا " وهو جالس فى باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة، وسجد إلى الأرض، وقال: يا سيد إن كنتُ قد وجدت نعمة فى عينيك فلا تتجاوز عبدك، ليؤخذ قليل ماء، واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة فآخذ كسرة خبز، فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم، فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت، فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعى بثلاث كيلات دقيقا سميذا؟ اعجنى واصنعى خبز مَلة. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلا رخصا وجيدا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذى عمله، ووضعها قدامهم، وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا)!! إنها ألوهية عجيبة الأطوار، أكل وشرب ونظافة أيد وأقدام؟ ما يقول القرآن الكريم يا صديقى فى هذه القصة التوراتية؟ الله وملائكته يدعوهم إبراهيم إلى وليمة على مائدتها عجل مشوى وخبز نقى!! إن القرآن يسرد الخبر على نحو آخر، فالذين أتوا إبراهيم جماعة من الملائكة يحملون إليه بشريين إحداهما أصغر من الأخرى، أما الكبيرة، فهى هلاك قوم لوط الذين أفسدوا المجتمع، وعالنوا بالمنكر، وخاصموا الأطهار وأحرجوهم، وآذوا لوطا نفسه وصغروه أمام ضيوفه ! ص _036(1/35)
وأما الصغيرة فهى تبشير امرأة إبراهيم بأنها ستلد بعد إياس، وسيكون لها عقب بعد شيخوختها وشيخوخة زوجها. ونص القصة فى سياقها الصدوق: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) هو عجيب حقا، ولكن قانون السببية لا يلزم واضعه، فله أن يُمضيه، وله أن ينشئ أمرا آخر، أو قانونا آخر إن شئت ! فيما قرأنا: أى النسقين أدنى إلى الرشد؟ إن كاتب التوراة مغرق فى وهم بعيد. ولنسجل هنا التجسد الثالث، وهو يمثل مصارعة وقعت بين يعقوب وبين الله سبحانه وتعالى.. كانت المصارعة فى جنح الليل، واستمرت حتى مطلع الفجر، ويبدو أن الجولات كثرت، واتصلت، ولم يغلب أحد الآخر، فرأى الرب أن خلاصه يكون بضربة يوجهها إلى حُق فخذ يعقوب، وبذلك فاز فى المصارعة ! ولكن يعقوب ظل ممسكا به، فقال له الرب: أطلقنى ! فقال يعقوب: لا أطلقك حتى تباركنى. وننقل وصف هذه المباراة عن التوراة، من الإصحاح الثانى والثلاثين: (فبقى يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب فى مصارعته معه، وقال: أطلقنى لأنه قد طلع الفجر. فقال: لا أطلقك إن لم تباركنى. فقال له: ما اسمك؟ فقال يعقوب. فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرنى ص _037(1/36)
باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمى؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل، قائلا: لأنى نظرت الله وجها لوجه. ونُجِّيَت نفسى، وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل، وهو يخمغ على فخذه. لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذى على حُق الفخذ إلى هذا اليوم) ! هذه التجسدات التى أتيح لى أن أقرأها، لا أدرى كيف يُسيغ ذو دين تدوينها، واعتبارها وحيا معصوما؟ هل الله الذى يقول للشىء كن فيكون تنسب له هذه المهازل؟ ومع ذلك فإن كتبة العهد الجديد أساغوها، لأنها فى نظرهم تمهيد حسن للتجسد الكبير الذى نزل فيه الله عن عرشه، وتحول إلى جنين فى بطن مريم، ثم صبى يتكلم فى المهد، ثم رسول ينصح الناس، ثم قتيل على خشبة الصليب ليكون فداء البشر، بعدما أخطأ أبوهم آدم، وورثوا هم ذل الخطيئة وآصارها..؟ إن حكايات العهد القديم وخيالاته السارحة تنال من جلالة الألوهية ومجادتها، ولا تبعث النفوس على إعظام ولا تهيُّب لله. أين من هذا القاع المعتم ما حفل به القرآن من ترديد لأسماء الله الحسنى، وأوصافه السنية؟ لقد لاحظت أن سورة بنى النضير ـ وتسمى سورة الحشر ـ ختمت بأكثر من عشرين اسما ووصفا لله الكبير المتعال، كأنها تذكر القوم بما نسوه، أو تعلمهم ما جهلوه، عن إله انتسبوا إليه ولم يقدروه قدره، ولم يعرفوا حقه. يقول الله تعالى بعدما وبخ اليهود على غدرهم وإسفافهم: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) فى هذه الآية الثانية تسعة أسماء وصفات زيادة عن سابقتها التى تضمنت خمسة أسماء وأوصاف! ص _038(1/37)
(هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) فى هذه الآية الثالثة إضافة سبعة أسماء وأوصاف أخرى، يتألق فيها الكمال الإلهى نورا على نور.. أين من هذه الأسماء حديث التوراة عن إله جهول أكول يصارع عبدا له طوال الليل؟ من أجل ذلك حدد الإسلام عقيدته الكبرى فى سطر وحيد واضح حاسم: (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) وحسما لأوهام التجسيد يقول الله تعالى: (...ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض.... ) ويقول عن ذاته الأقدس: (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) ص _039(1/38)
الأنبياء والخطايا، قصص بالغة الهبوط قلت فى كتاب لى إن الأنبياء هم القادة الحقيقيون للفكر الإنسانى، والقادة الموثقون للسلوك الإنسانى! العقل يصيب ويخطئ، والقدم تزل وتنهض، لكن جمهور الأنبياء مأمون الفكر مبارك الخطى! ومعنى ذلك أنه يستحيل على أحدهم أن ينكر الله أو يشرك به، كما يستحيل على أحدهم أن يكون عديم المروءة خؤونا لئيما.. المرتقب من الأنبياء ليس فقط البعد عن هذه الدنايا، فقد يُتاح هذا البعد لكثيرين من الكملة المؤدبين، المفروض فيهم أنهم نماذج عالية للعبودية الخالصة، فهم فى شروق دائم من الحس بالوجود الإلهى، وهم فى أوج رفيع من المروءة والإيثار، والعدل والفضل. ولو كان سكان الأرض ملائكة لاختار الله أشراف الملائكة وأعلاهم قدرا ليكونوا سفراءه إلى خلقه، لكن سكان الأرض بشر، ولن يصلح لقيادتهم إلا واحد منهم، يعانى ما يعانون، ويشعر بالجوع والمرض وأحزان الموت وتكاليف الحياة، وأعباء التسامى، ومجاهدة النفس. حتى لو كان الأنبياء معصومين، فإن العصمة لا تمنع المحنة، إلا أن الأشغال الشاقة التى يحكم بها على لص، غير السهر والكفاح والآلام الرفيعة المكتوبة على طلاب المجد. وقد طالعت سير المرسلين خصوصا أميرهم المرموق محمدا عليه الصلاة والسلام، فوجدتهم جميعا شركاء فى المعالى، محفوفين برضوان الله وتوفيقه، وقد تكون لأحدهم عثرة تناسب حياته، إن القمر ساعة يخسف لا يتحول إلى حجر فى الطريق، ويونس عندما تبرم بآلام الدعوة فابتلعه الحوت كان نموذجا ص _040(1/39)
لعبد فَنِى فى رجاء ربه: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) ولقد قرأت صورا لحياة الأنبياء فى التوراة، فوجدت نماذج غريبة للسقوط والدنس تتقزز منها النفس، وتتساءل بعد مشاهدتها: هل يلام الرعاع بعد ذلك على رذيلة؟ إن كاتب هذه التواريخ تعمد أن يلوث حياة هؤلاء الرجال، وأن يلطخها بالأوحال، ونذكر هنا بعض هذه المخازى أو المآسى مقارنة بما يقابلها من حديث القرآن الكريم عن القوم. نوح فى التوراة رجل سكير تذهب الخمر بعقله فينطرح على الأرض مكشوف العورة مثيرا للضحك فى القرآن الكريم نجد نوحا يعلم قومه كيف يعظمون ربهم، ويفتح عقولهم على مشاهد القدرة فى الكون: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله أنبتكم من الأرض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا) وبعد هذه الإثارة العقلية يرفض نوح التفاوت الاجتماعى فى قومه، ونظام الطبقات، ويرفض اقتراح الأغنياء عليه أن يطرد الفقراء من حوله حتى يستطيعوا الاجتماع به، ويصيح: (...وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون) هذا النبى الجاد الوقور المستعلى على الخرافات السائدة، يصوره العهد القديم، وهو كما يقول عوام مصر (سكران باشا طينة): " وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، ص _041(1/40)
فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم " كما جاء فى الإصحاح التاسع من سفر التكوين، وأظن كاتب هذه القصة أراد إهانة الكنعانيين، وهم سلالة عربية سكنت الشام، وعمرت فلسطين قبل اليهود فانتحل هذه الحكاية، ونقطع بأنه لا أصل لها. بين يدى قصة نوح فى التوراة، عبارات يقرؤها المرء ويهز رأسه كثيرا، منها ما جاء فى بداية الإصحاح السادس: (ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فى الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان فى الأرض، وتأسف فى قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذى خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأنى حزنت أنى عملتهم، وأما نوح فوجد نعمة فى عينى الرب). إنك تلحظ فى هذا السرد أن الخالق جل وعلى فوجئ بما لم يكن فى الحسبان، ومن أجل ذلك تألم لأنه خلق أبناء آدم فقرر الخلاص منهم، وهاهو ذا قد أغرقهم بالطوفان ونجى نبيه نوحا، فماذا يصنع نوح لمرضاة الله: (بنى نوح مذبحا للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسم الرب رائحة الرضا، وقال الرب فى قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان، لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته، ولا أعود أيضا أميت كل حى كما فعلت). يظهر أن رائحة الشواء لها سحر عند كاتب التوراة، لقد تصور أن الله لما شم رائحتها رضى عمن تقرب بها، وعاد عن حكمه على الإنسان أنه شرير منذ حداثته، وكاتب التوراة يذكر أن الله ندم على إغراق الأرض بالطوفان، وحتى لا يقع فى هذا الخطأ مرة أخرى صنع قوس قزح، لتذكره القوس الملونة بأن(1/41)
يمسك المطر فلا يطغى على النادر. ص _042
إته يجهل، ويتردد، ويندم ويفرط في حالتى الرضا والغضب على سواء. أى حديث هذا؟ شأن الألوهية أعلى وأجل ! إن نوحا عبد صالح، بلغ الرسالة بعزم حديد وصبر طوي!،، فلما يئس من صلاح قومه دعا الله عليهم فاستجيب له: (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين) وقد ذكر نبينا نوحا في حديث من الرقائق نحب أن نثبته، (روى النسائى عن سليمان بن يسار عن أحد الأنصار أن النبى قال: (قال نوح لابنه: إنى موصيك بوصية وقاصرها، لكى لا تنساها: أوصيك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين، أما اللتان أوصيك بهما فيستبشر الله بهما وصالح خلقه، وهما يكثران الولوج على الله، أوصيك بلا إله إلا الله، فإن السماوات والأرض لو كانتا حلقة قصمتهما، ولو كانتا فى كفة وزنتهما. وأوصيك بسبحان الله وبحمده، فإنهما صلاة الخلق، وبهما يرزق الخلق: (...وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) وأما اللتان أنهاك عنهما فيحتجب الله منهما وصالح خلقه: أنهاك عن الشرك، والكبر). أكان نوح وهو يعظ ابنه يعرف أمراضه النفسية؟ إن العناد والكبر حملاه على نسيان الله ومعصية أبيه فطوته الأمواج وكان من الهالكين. ونلحظ أن طوفان التوراة طغى على الأرض كلها، لم يترك منها شبرا، وأغرق الإنسان والحيوان والنبات فى القارات الخمس. وهذا تصرف مستحيل على الله، فما ذنب الأبرياء الذين لم يُرسل إليهم نوح؟ إن نوحا مرسل إلى قومه خاصة، وهم شمالى العراق تقريبا. ص _043(1/42)
والطوفان الذى طم وأهلك المجرمين كان محليا عوقب به العصاة وحدهم ولا صلة للهند، ولا لوادى النيل به، فضلا عن أوربا والأمريكتين!! ( لوط) هو ابن أخ إبراهيم الخليل، كان مثل عمه داعيا إلى الله فى بيئات سيئة، تمرد فيها بعمق اليقين، وطهارة الذيل، وشرف السيرة. وكانت المدينة التى يجاهد فيها سافلة الطباع، شاع فيها الشذوذ، واستعلن فى الأندية، وكأنما أصبحت اللواطة تقليدا ينساق إليه الغريب والقريب!! وقال لوط لقومه: (....إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون) فنجاه الله من القرية الظالمة، وأمر بإهلاك أهلها.. وجعل عاليها سافلها. والسياق التوراتى يشبه السياق القرآنى فى أغلب الحوادث. إلا فى خبر من أفحش الأخبار، انفردت به التوراة، فزعمت أن لوطا سكر وانتشى وضاجع ابنتيه إحداهما بعد الأخرى، وأنجب من كل بنت ولدا كان رأسا لقبيلة كبيرة!! وتزعم التوراة أن ذلك تم ولوط تحت وطأة الخمر لا يدرى ما يصنع. والسبب فيما تواطأت عليه البنتان، أنهما يريدان نسلا من أبيهما، تحيا به الذرية، ولا يوجد رجال ! كيف لا يوجد رجال على ظهر الأرض؟ هل إذا دمرت القرية الفاجرة خلت الدنيا من القرى الأخرى الطاهرة؟ أما كان المفروض فى أسرة لوط أن ترحل إلى مكان آخر تجد فيه بغيتها؟ إن التوراة آثرت أن تختم جهاد لوط بهذا الختام الأسود القبيح، والقصة كما روتها: ( صعد لوط من صوغر، وسكن فى الجبل، وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن فى صوغر، فسكن فى المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر ص _044(1/43)
للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس فى الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقى أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيى من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا فى تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث فى الغد أن البكر قالت للصغيرة: إنى قد اضطجعت البارحة مع أبى. نسقيه خمرا الليلة أيضا، فادخلى اضطجعى معه، فنحيى من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا فى تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغيرة أيضا ولدت ابنا ودعت اسمه بَن عمى، وهو أبو بنى عمون إلى اليوم). وكاتب هذه القصة يريد الإساءة إلى قبيلتين كبيرتين، يكرههما بنو إسرائيل ويبحثون عن عيوب تُلصق بهما، وتنكس رءوسهما،. فافتروا هذا السباب الشنيع على لوط وابنتيه، كما فعلوا من قبل مع أعدائهم الكنعانيين. على أساس أن أولاد الزنا ملعونون، لا تكون لهم سيادة ولا يلون سلطة!. ومع معرفتنا بأن هذا الزعم فاسد، وأن ولد الزنا لا يؤخره جُرم أبويه، فنحن نكذب الخبر كله من ألفه إلى يائه. فما سكر لوط ولا زنى، ولا ألحق عارا بابنتيه، والويل يوم القيامة لمسطر هذه الأكاذيب. ويدركنا العجب عندما يتحول الكذب إلى خليقة تجر على صاحبها نفسه المعرة، فإن بنى إسرائيل عندما يكتبون تاريخ أبيهم يعقوب، لا ينسون أنه من الشطار الذين يختطفون ما تهفو نفوسهم إليه، ولذلك فقد اختطف النبوة من أخيه الأكبر، ودخل التاريخ من باب الزور ! إن صور التزوير والادعاء تلقانا كثيرا فى هذه الحياة، ومن أمد قريب قرأت أن طبيبا مزيفا بلغت الجراءة به أن شارك لفيفا من الأطباء فى إجراء جراحة لأحد المرضى. وبعض كتبة المحامين يرون أنفسهم أقدر من المحامين على الدفاع ص _045(1/44)
والاستدلال. وقد رأيت من واتته الظروف فسرق مناصب كبيرة، وجلس فى سُدتها بادى القدرة والأبهة! إننى أفهم أن تُسرق بضاعة من دكان، أو سيارة من حارة، أو فكرة من مؤلف، أو كتاب من واضعه ! ولكننى لا أفهم أبدا أن تُسرق النبوة وأن يترشح السارق بعد الاستحواذ عليها لتلقى الوحى، وقيادة الناس باسم الله! ولكن العهد القديم حكى لنا هذه الواقعة! وقرر أن يعقوب خدع أباه إسحاق، واستلب النبوة التى هى حق أخيه الأكبر عيصو ! كان إسحاق قد عمى! وفى اليوم الذى قرر منح بركات النبوة لصاحبها عيصو، جاء يعقوب على عَجل، وقلد صوت أخيه، ولبس جلد معز ـ لأن عيصو كان أشعر ـ واقترب من أبيه الأعمى، وهو يتظاهر بأنه عيصو نفسه ! وانخدع إسحاق، وسرق يعقوب النبوة، وعرف عيصو بعد فوات الأوان، أن أخاه استولى على حقه، ولكن الرواية كانت انتهت والجريمة وقعت، وأضحى يعقوب نبيا عن طريق الاحتيال، ثم نال لقب إسرائيل، ثم قامت باسمه دولة تؤكد أن الباطل قوة إذا استعان بالمكر والدهاء، وأن الحق ضعف إذ لزم السذاجة والاسترسال. كيف تُسرق النبوة ؟!! إن اللص يخدع الناس، فكيف يتصور لص أنه يخدع الله ؟ وهل العبد يعرض نفسه على ربه بهذا الأسلوب؟ وهل ينتظر رضاه وهو يخدعه بهذه الطفولة؟ إن تصوير العبودية والربوبية على هذا النحو نوع من الخبل الدينى، برع فيه اليهود، وصدقه مَن ظن الدين غيبيات مبهمة لا صلة لها بعقل ولا عدل. ان كتاب العهد القديم مثال صادق لفكرة اليهود عن الأخلاق والقيم. والناس يتهمون السياسى الإيطالى (ميكيافيللى) بأنه صاحب مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) وهذا خطأ، فالرجل ينقل كلمته عن أسلوب العهد ص _046(1/45)
القديم، فى تنفيذ الأغراض بأى خطة، وأقصر طريق.. أما الشرف فشىء فى الكتب لا فى الواقع.. مع هذا السياق الخسيس تقرأ ما افتراه اليهود على داود، أنه اغتصب امرأة أعجبه جمالها. وبعد ما أتم جريمته احتال على قتل زوجها ـ وكان فى ميدان الحرب ـ حتى تخلص له ! وزين له هذا كله أنه إسرائيلى، وأن الأسرة التى مزق أحشاءها من الحيثيين، فلا حقوق لها.. إن بنى إسرائيل إذا شاءوا فلا يجوز لجنس آخر أن يعترض مشيئتهم: (...ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) إن أحقر حشاش لا يقترف الجريمة التى نسبها اليهود إلى داود، صاحب المزامير التى يتعبدون الله بغنائها وتلحينها. ونحن المسلمين لا نصدق حرفا من هذا الإفك، ونصون سيرة الأنبياء عن هذا الدنس كله، ولكنا نلفت النظر إلى طبيعة المنهج الأخلاقى عند القوم ومن يؤيدهم، ويشد أزرهم، ويحمى ظهرهم، ويدعم سياستهم. وفى العهد القديم تفصيل ما أوجزنا، وما نسبه الرواة إلى المرسلين من إفك خسيس. إنهم جميعا كذبة على الله ورسله، وما أحسب عيسى عندما ينزل إلا مقاتل هؤلاء جميعا حتى يُطهر الأرض من شركهم وإفكهم. إنهم يتظاهرون ضد الإسلام يحاولون إزالته. ولو زال الإسلام وخلت الحياة منه، فماذا يبقى مما يشرف الدين وتزكو به الدنيا؟ ماذا يبقى بعد زوال العقل والعدل؟ يبقى منهج إسرائيل فى الاختطاف؟ ومنهاج داود فى الإسفاف؟ كما ص _047(1/46)
يتوارث الأفاكون!! فياموت زر، إن الحياة دميمة ويا نفس جدى، إن دهرك هازل لم ينج إبراهيم من رشاش التهم المتطايرة على عباد الله الصالحين، برغم مكانته الفريدة، فقد أظهره العهد القديم شخصا حريصا على الحياة، هيابا للموت، فى وقت يدافع فيه الأحرار عن شرفهم بالدم الغالى ! كان إبراهيم يصحب امرأته (سارة) فى تجواله لنشر الدعوة فى الأرضين القريبة منه أو البعيدة عنه.. قالوا: وكانت (سارة) ذات منصب وجمال. فاقترب يوما من بلاد (أبى مالك) وهو حاكم مرهوب فى منطقته، ورأى الجواسيس المرأة الجميلة، فرأوا إهداءها إلى حاكمهم. وشعر إبراهيم بالخطر، لا على امرأته. بل على حياته، فقال لزوجته إذا سألوك عنى فقولى: إننى أخوك، فإنهم إذا شعروا بأنى زوجك قتلونى لينفردوا بك. وقد حفظ الله المرأة من الاغتصاب بمعجزة، وعادت إلى زوجها الذى أهديت له حمال وجديان وحمر وأشياء أخرى. والغريب أن الحادثة تكررت مع فرعون مصر الذى كاد يفسق بالمرأة لولا صون الله لها. وكان موقف إبراهيم فى كل مرة: اكتمى أننى زوجك، وقولى: إننى أخوك، حتى لا يصيبنى ضرر ! أهذا موقف رجالات الله؟ فأين الشجاعة والغيرة والاعتزاز بالله؟ وما قيمة الإبل والمعز التى سيقت إليه بعد ذلك. وندع إبراهيم إلى حفيده يهوذا، فقد ذهب إلى بلد ليخز صوف غنمه، وعلمت امرأة ابنه المتوفى بهذه الرحلة، فخلعت ثياب ترملها ـ كما يحكى سفر التكوين ـ وتغطت ببرقع، وجلست فى مدخل البلد. فنظرها يهوذا وحسبها من المومسات، لأنها كانت مغطاة الوجه، فمال إليها على الطريق، وقال هاتى ص _048(1/47)
أدخل عليك، لأنه لا يعلم أنها كنته ـ امرأة ابنه. قالت: ماذا تعطينى لتدخل على؟ قالت: أرسل إليك جديا من غنمى! قالت: هل تعطينى رهنا حتى ترسله؟ قال: ما الرهن الذى أعطيك؟ قالت: خاتمك، وعصابتك، وعصاك التى في يدك! فأعطاها، ودخل عليها، فحبلت منه، ثم عادت إلى بيتها ! وظهر الحبل على ثامار بعد ثلاثة شهور، وأخبر بذلك (النبى يهوذا) فأمر بإخراجها لتُحرق.. إنها تحرق، أما هو فنبى تُقبل يداه وقدماه!! فلما اقتيدت المرأة ليُنفذ فيها الحكم، استدعت يهوذا، وأظهرت له العصا والخاتم والعصابة قائلة له: ألست الرجل الذى فعل ذلك؟ فشعر يهوذا بأنه أخطأ ! فيم أخطأ؟ فى عدم تنفيذه للشريعة اليهودية التى تقضى بأن الزوج إذا توفى وجب أن يتقدم أخوه إلى الأرملة! ليتزوجها، ويستولدها ابنا ينسب إلى أخيه الميت، لا إليه هو.. هذا هو خطؤه.. والغريب أن هذا النبى الزانى رزق من امرأة ابنه بولدين ! إن دسائس الغريزة الجنسية فى بيت إسرائيل، ومع عدد من النبيين جديرة بالدراسة، وهى تدل على بيئة لم يرتفع بها الوحى قيد أنملة، بل هى إلى الحيوانات أقرب!! وهذه قصة أخرى ( لدينة) ابنة النبى يعقوب الملقب بإسرائيل، فقد خرجت لنزهة ترى أترابها من بنات الأرض، فرآها (شكيم بن حمور) رئيس الأرض . وأخذها واضطجع معها ـ هكذا على طريق المفاجأة والاقتدار ـ يقول سفر التكوين: تعلقت نفسه بالفتاة فأحبها ولاطفها، وطلب من أبيه أن يتزوجها!! وعرف يعقوب أن الفتى نجس ابنته دينة، وشعر إخوتها بعد عودتهم من الحقل بما حدث، فاغتاظوا كل الغيظ، فماذا يصنعون وقد جاءهم أبو الفتى يطلب البنت زوجة لابنه؟؟ ص _049(1/48)
أيردونه؟ لقد ضم ـ مع هذا الطلب ـ عقد صلح شامل مع أسرة يعقوب، يعيشان بمقتضاه فى وطن مشترك، ويتبادلان المصالح، ويتزوج كلا الفريقين من بنات الفريق الآخر، وينشأ فى المنطقة عهد جديد من الوئام. وتدبر أبناء يعقوب أمرهم، ثم رأوا أن يقوموا بخديعة المفاوض الطيب، فتظاهروا بقبول الصلح، وذهبت فتاتهم إلى العشيق الذى صار زوجا، بيد أنهم قالوا لحميهم: إن شريعتنا توجب الختان، ولا يجوز أن نزوجكم بناتنا وأنتم غير مختونين، فلا بد من أن تختتنوا!! وقبل أبو شكيم هذا الاقتراح، وصاح فى أهل المدينة يطلب منهم جميعا الختان إنفاذا لعهد الصلح.. فاختتن كل ذكر والختان جراحة فى عضو حساس، وحركة الرجل المختون ضعيفة، وانتهز بنو إسرائيل الفرصة، قال سفر التكوين ـ الإصحاح الرابع و الثلاثون: (فحدث فى اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنى يعقوب: شمعون، ولاوى، أخوى دينة أخذ كل واحد سيفه، وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف، وأخذا دينة من بيت شكيم وخرجا، ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنهم نجسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وحميرهم، وكل ما فى المدينة وما فى الحقل أخذوه، وسبوا ونهبوا كل ثروتهم، وكل أطفالهم ونسائهم، وكل ما فى البيوت. فقال يعقوب لشمعون ولاوى : كدرتمانى بتكريهكما إياى عند سكان الأرض الكنعانيين والفرزيين، وأنا نفر قليل، فيجتمعون على ويضربوننى، فأبيد أنا وبيتى، فقالا: أنظير زانية يفعل بأختنا). وهذه قصة جديرة بالتأمل. أهذا سلوك الأسباط حملة الوحى الإلهى؟ حرب إبادة من أجل قضية محدودة.. إن هذا الغدر له دلالة عميقة، وهذا الفتك له دلالة أعمق، والمفروض فى الأنبياء أنهم أولا وآخرا دعاة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، فأين هذا الإيمان..؟. وأين موضعه عند بنى إسرائيل أو عند خصومهم؟. ص _050(1/49)
إنك لا تجد دينا يعصم من العصيان، ولا تجد أبوة تحمى من الإسفاف، المسلك كله لعصابة من القتلة، لا يذكرون الله إلا قليلا.
فى الجاهلية العربية ظفر أعرابى بخصم له، يعرف عداوته ولا يعرف وجهه، فقال له: إن دللتنى على عدى ـ خصمه الذى يطارده ـ فأنت حر، فقال الرجل مستوثقا: إذا دللتك عليه فأنا حر؟ قال: نعم. قال: فأنا عدى، ففك الرجل وثاقه وهو يقول متوجعا:
لهف نفسى على عدى! ولم أعرف عديا إذا أمكنتنى اليدان.
ذاك أن العرب فى جاهليتهم كانوا يرون الوفاء قرين الشرف، ويرون الخيانة قرينة العار !
أما بنو إسرائيل فقد رأيت فعالهم، إن الغدر شيمتهم حتى قال القرآن فيهم:
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون)
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإنى أتعجب لنبى مثل يهوذا تساوره الشهوة فيقع على أول امرأة يلقاها. تذكرت قصة عبد الله بن عبد المطلب ـ وكان وسيما مضىء الوجه ـ فراودته امرأة عن نفسه، فنظر إليها ثم قال:
أما الحرام فالممات دونه! والحل؟ لا حل فأستبينه!
فكيف بالأمر الذى تبغينه؟ يحمى الشريف عرضه ودينه
إن هذه الحكايات التى تشيع فى العهد القديم، تجعله كتابا يُخرج الناس من النور إلى الظلمات، ويجرئهم على اقتراف المعاصى دون محاذرة، ما دام الأنبياء وهم خلاصة البشر يواقعونها بهذا النزق، وينحدرون إليها بتلك السرعة.!!
ص _051(1/50)
إسفاف فى الحديث عن الله ورسله الحديث عن الله بخشوع وأدب سمة ثابتة فى القرآن الكريم، لا تكاد تخلو صفحة من ترديد اسم أو اسمين من أسماء الله الحسنى. وبعد أغلب القصص، أو بعد جملة أحكام ترى آيات تتحدث عن مجد الله وعظمته، تلمح فى سياقها كأن الشروق يشع خلال السطور، فتمتلئ رقة ومهابة بين يدى الكبير المتعال، وتحسن الانتفاع من التاريخ المحكى، وتحسن التنفيذ للأحكام المطلوبة. أما فى الكتاب المقدس فتشعر كأن الرب شخص عادى حينا، أو رجل جبار حينا أخر، وتأمل فى هذه الأوصاف المنسوبة إلى الله. جاء فى سفر التكوين: (فنزل الرب ينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما) أما كان يستطيع رؤيتهما وهو على عرشه؟ حتى هبط إلى الأرض. وفى سفر الخروج، عندما طلب موسى أن يرى الله، قال الله له: (.. ثم أرفع يدى فتنظر ورائى، وأما وجهى فلا يُرى)!! يقول أحمد ديدات: كأن موسى يستطع رؤية أعضاء الله الخلفية!! قارن بين هذا وبين عبارة القرآن الكريم: (....لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك.... ) وفى المزامير وصف لله بأنه يشبه السكران (فاستيقظ الرب كنائم جبار معيّط من الخمر). ص _052(1/51)
وفى سفر التكوين (فندم الرب لأنه عمل ـ خلق الإنسان ـ وتأسف فى قلبه..). وفى سفر العدد وصف لله غريب، يقول: (جثم كأسد!! ربض كلبه ! من يقيمه؟؟). وفى سفر الخروج (كان منظر مجد الله كنار آكلة على رأس جبل أمام عيون بنى إسرائيل). وفى سفر الخروج أيضا ( لأنه فى ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفى اليوم السابع استراح وتنفس). ويحدثنا القرآن الكريم كيف اختار الله موسى ليقاوم جبروت فرعون فى الأرض وينقذ قومه بنى إسرائيل. كان موسى مع فرحته بالاختيار الإلهى، يشعر بأن للمصريين ثأرا عنده ، كما يشعر بأنه بكىء لا يقدر على الإطناب وإطالة الأخذ والرد فى مهمة تقتضى ذلك. فانظر السياق القرآنى فى عرض هذه الحقائق: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون) أما الكتاب المقدس فله عرض آخر، اختلفت التراجم فى بيانه، وتلمح فى هذا العرض سوء أدب مع الله يستحق النظر العميق. فبعد ما طلب الله من موسى الذهاب إلى فرعون، كان لموسى موقف سيئ منه، وصفه اللواء المهندس أحمد عبد الوهاب: (تقول فيه ترجمة الكتاب المقدس للبروتستانت: فقال موسى للرب: استمع أيها السيد: لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، ص _053(1/52)
بل أنا ثقيل انفم واللسان. فقال له الرب: من صنع للإنسان فما؟.. أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم به. فقال: استمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل. فحمى غضب الرب على موسى- (خروج 4: 10- 14) وتذكر ترجمة الكتاب المقدس للكاثوليك قولا آخر غير هذا القول الجاف الذى ينسب لموسى: أى: استمع أيها السيد، جاء فيه. (فقال موسى للرب: رحماك يارب، إنى لست أحسن الكلام. رحماك يارب: ابعث من أنت باعثه). وتقول ترجمة التوراة الكاثوليكية: (فقال موسى للرب: العفو يارب، إنى لست رجل كلام.. قال: العفو يارب، أرسل من تريد أن ترسله). وتذكر التراجم الإنجليزية أن لهجة موسى لم تكن جافة، حيث خلت من ذلك القول: استمع أيها السيد! وكذلك تقول الترجمة الفرنسية. إن ترجمة الكتاب المقدس للبروتستانت فى حاجة إلى تصحيح.). والمأساة ليست فى اختلاف التراجم، إنما المأساة فى الأصل نفسه! يرى أهل الكتاب أن التوراة أنزلها الله على موسى، وتعنى التوراة الآن الأسفار الخمسة الأولى فى العهد القديم، والتى انتهت بموت موسى. فاقرأ هذه العبارات التى وردت فى آخر سفر التثنية، وسل نفسك: هل نزل هذا الكلام على موسى أم هو على التحقيق كلام مؤرخ آخر يصف ممات موسى، ويذكر تاريخه للناس. (فمات هناك موسى عبد الرب، فى أرض موآب، حسب قول الرب، ودفنه فى الجواء فى أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان مولى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه، ولا ص _054(1/53)
ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل موسى فى غربات موآب ثلاثين يوما، فكملت أيام بكاء مناحة موسى. ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو إسرائيل، وعملوا كما أوصى الرب موسى. ولم يقم بعد نبى فى إسرائيل مثل موسى الذى عرفه الرب وجها لوجه فى جميع الآيات والعجائب التى أرسله الرب ليعملها فى أرض مصر بفرعون، وبجميع عبيده وكل أرضه، وفى كل اليد الشديدة، وكل المخاوف العظيمة التى صنعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل). هل هذا وحى الله النازل على موسى؟ ظاهر أنه كلام أحد المؤرخين. والحق يقال: إن أكثر ما ورد من حكايات وأحكام فى التوراة، بل فى العهد القديم كله، هو حديث قصاص مجاهيل.. تنقصهم الأمانة العلمية، والخبرة بحقائق الدين. ما أظن أحدا يمارى فى أن وصف موت موسى هو من صنع مؤرخ مجهول، من هو؟ لا ندرى! وظاهر أن الأسفار كلها عملت فيها أقلام كثيرة، قد نجهل أصحابها، بيد أننا نحكم بأنهم لا يعرفون ما ينبغى لله من عظمة، ولا لرسله من توقير.. وإلا ما جاءت كتاباتهم على هذا النحو المستهجن! إن أهواء وأخطاء لا حصر لها تبرز للقارئ، ليست من قبيل حبات طين فى كوم من القمح، لا، إنك تبحث عن حبات القمح وسط ركام من الترهات. وقد طالعت نشيد الإنشاد الذى لسليمان، واقتبست منه جُملا ضمنتها أحد كتبى، وتساءلت عن سر هذا السِّفر كله؟ إنه غزل تسمع صراخ الشهوة فى ثناياه ونداء الرغبة المجنونة إلى الضم والتقبيل وأشياء أخرى! أذاك وحى نازل من السماء؟ أهذه قطعة من كتاب معصوم؟ ص _055(1/54)
إن امرأ القيس وأبا نواس لا يبلغان هذه الدرجة فى لوعة الحب، وحرارة العشق، وإليك هذه السطور منه: (فى الليل على فراشى طلبت من تحبه نفسى، طلبته فما وجدته، إنى أقوم وأطوف فى المدينة، فى الأسواق، وفى الشوارع أطلب من تحبه نفسى. طلبته فما وجدته، وجدنى الحرس الطائف فى المدينة، فقلت: أرأيتم من تحبه نفسى؟ فما جاوزتهم إلا قليلا حتى وجدت من تحبه نفسى فأمسكته، ولم أُرخه حتى أدخلته بيت أمى وحجرة من حَبَلْت بى. أحلفكن يا بنات أورشليم بالظاء، وبأيائل الحقول ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء. ها أنت جميلة يا حبيبتى، عيناك حمامتان من تحت نقابك.. شفتاك كسلكة من القرمز، وفمك حلو، خدك كفلقة رمانة تحت نقابك، ثدياك كحشفة ظبية، كلك جميل، ليس فيك عيب، هلمى معى من لبنان يا عروس معى من لبنان. قد سلبت قلبى يا أختى العروس، كم محبتك أطيب من الخمر، وكم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب. شفتاك يا عروس تقطران شهدا، تحت لسانك عسل ولبن، ورائحة ثيابك كرائحة لبنان ، ليأت حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمره النفيس. كلوا أيها الأصحاب واشربوا واسكروا أيها الأحباء أنا نائمة وقلبى مستيقظ، وصوت حبيبى قارعا. افتحى يا أختى، يا حبيبتى، يا حمامتى. وقد خلعت ثوبى فكيف ألبسه، وقد غسلت رجلى فكيف أوسخهما، حبيبى مد يده من الكوة فأنَّت عليه أحشائى حبيبى أبيض وأحمر.. قصصه مسترسلة حالكة كالغراب.. خداه كخميلة الطيب، شفتاه سوسن.. يداه حلقتا ذهب بطه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق، ساقاه عمود الرخام.. فتى كالإوزة، حلقه حلاوة، وكله مشتهيات. هذا حبيبى وخليلى يا بنات أورشليم). ص _056(1/55)
أهذا هو الهدى المعصوم؟ والتسامى المنشود؟ والدين الحق؟. إن كاتب هذه الكلمات يحتاج إلى من يؤدبه ويوقظه من سكرة اللذة التى استولت عليه، ويعرفه كيف يؤمن بالله الواحد، وكيف يستعد للقائه بالعمل الصالح. ومع التأمل فى طول الكتاب وعرضه نجزم بأن أقلاما كثيرة فى عصور شتى، صنعت هذا النسيج المتباين، ونسبته إلى الله، بعدما عزلت العقل عن الإيمان، واستولت على إنسان طفل تسكب فى روعه ما تشاء. ص _057
نؤمن بالوحى كله..! قلت لصاحبى: لقد أريتك سطورا مطولة من كتابك! لم أجىء بشىء من عندى ولعلك شعرت بمدى ما عندكم من بُعد عن الصدق، وجراءة على الله ورسله، وأظنك بعد ذلك سوف توافق على النتائج المحتومة لهذا الاستعراض الواسع! قال: وقد خامرته حيرة ودهشة: إن ما وصفت به كتابى يرتد إلى كتابك كذلك ويرفع الثقة به!! لأنك تقرأ فيه ثناء على التوراة والإنجيل فكيف! يكونان كما ذكرت مع الثناء عليهما والدعوة إلى التزامهما؟؟ قلت: يا صاحبى، لا تخلط بين التوراة النازلة على موسى، والإنجيل النازل على عيسى، وبين ما لديكم من دخل ظاهر، لا يمت بصلة إلى وحى فى أكثر ما جاء به. نحن المسلمين نؤمن بموسى وتوراته، وعيسى وإنجيله، وفى القرآن الكريم يقول الله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) كما يقول: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) ولا يوجد مسلم يكفر بتوراة موسى أو بإنجيل عيسى، لكن أين هما؟ هل لتوراة المتحدثة عن رب يجهل ويندم ويعبث فيها هدى ونور؟ ص _058(1/56)
هل الإنجيل الذى لا توجد منه نسخة منسوبة إلى عيسى نفسه يمكن الأخذ عنه؟ إن ما لديكم صحف مشحونة بحكايات كثيرة، تنسب إلى الله ورسله مالا يليق، ومالا يقبله العقل المجرد، نعم ربما لمعت وسط ترابها بقايا وحى، أما الركام السائد فهو ـ كما سردت عليك ـ مبتوت الصلة بالسماء. وقبل أن أتحدث عن أسانيد هذه المرويات، أنظر إلى المتون نفسها بما آتانى الله من فكر. فإذا كان المتن مستحيل التصديق فكيف أقبله؟ هب أن يعقوب روى عن أبيه إسحاق عن أبيه إبراهيم أن الجزء أكبر من الكل، أو أن الله تناول الطعام مع إبراهيم، أو صارع يعقوب فى حلبة ظلت دائرة الرحى طول الليل.. هل يطلب إلى عاقل أن أصدق هذه الترهات لأن الرواة ثقات؟!! أى ثقة فى هذه المنقولات المحالة؟ إن الكَذَبَة لا يصعب عليهم اختلاق الأسانيد لما يقولون على الله بغير علم! لكى تعرف الفروق فى الطرق التى وصلت بها الكتب السماوية يجب أن تدرس التاريخ ببصيرة. إن القرآن النازل على محمد كان صاحب الرسالة يستمع إليه من أمين الوحى ؛ ثم يستدعى الكتبة فيكتبون والحفظة فيحفظون. كانت له شرائط مسجلة فى الأدمغة، وسطور حافظة فى الصحف. وفى كل يوم، بل فى كل وقت من الصلوات الخمس صباحا ومساء كان القرآن يُتلى، وكان دَوِى الحفظة لا ينقطع، وكانت الصحف تُنشر فى كل مكان، وكانت الجُمَعُ تُجوِّد القرآن تجويدا، وكان قُوَّام الليل يملؤون محاريبهم به! وتحول القرآن من كتاب شعبى متداول، إلى دستور للحكم تحكم به دولة حكمت جزيرة العرب أولا، ثم حكمت الشرق الوثنى والغرب المسيحى فى القارات المعروفة. مصحف واحد لا اختلاف فيه ولا خلاف عليه، على امتداد الزمان ص _059(1/57)
والمكان. ما رُزق كتاب من الكتب حَفَظة تتلوه عن ظهر قلب إلا هذا الكتاب، من يوم بدأ نزوله حتى هذه الساعة ! فإذا تناول أحد نسخة من المصحف ليطالع وجد قرآنا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليست فيه لفظة تشين ذا الجلال والإكرام، هدير لا ينقطع بعظمة الله، وعلوه فوق خلقه أجمعين، واحد تعنو له الوجوه، وتسبح بحمده الأشياء، وتتقرب إليه الملائكة ويقف المرسلون أمامه خاضعين خاشعين. فى كتاب محمد، لا ذكر لمحمد إلا أنه عبد من عباد الله، إن زاد قدرا على أحد فبقدر ما يبطن فى ضميره، ويبدو على سلوكه من خشية لله وتزلف إليه ورجاء فيه. الرسل كلهم، موسى أو عيسى أو محمد، وكل من سبقهم عبيد، لو شاء الجبار إبادتهم ما بقى منهم أحد، إنما يستبقيهم ويكرمهم بمحض رحمته. أين من هذا ما ترويه التوراة ؛ أن موسى زجر الله فازدجر، وتراجع وندم..؟؟ تعالى الله علوا كبيرا، وهاك النص، وهو شبيه بما سبق سرده من نصوص تسيل كلها من نبع آسن عفن..: (فقال الرب لموسى: اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذى أصعدتُه من أرض مصر، زاغوا سريعا عن الطريق الذى أوصيتهم به، صنعوا لهم عجلا مسبوكا، وسجدوا له وذبحوا له، وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التى أصعدتك من أرض مصر، وقال الرب لموسى رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة، فالآن اتركنى ليحمى غضبى عليهم وأفنيهم، فأصيرك شعبا عظيما، فتضرع موسى أمام الرب إلهه، وقال: لماذا يارب يحمى غضبك على شعبك الذى أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويد شديدة؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين: أخرجهم بخبث ليقتلهم فى الجبال ويفنيهم عن وجه الأرض. ارجع عن حُمُوِّ غضبك، واندم على الشر بشعبك، اذكر إبراهيم وإسحاق وإسرائيل، عبيدك الذين حلفت لهم بنفسك، وقلت لهم: أكثر نسلكم كنجوم السماء وأعطى نسلكم كل هذه الأرض التى تكلمتُ عنها فيملكونها إلى الأبد. فندم الرب على الشر الذى قال ص _060(1/58)
إنه يفعله بشعبه. فانصرف موسى ونزل من الجبل). إن أحدا فى الأرض أو السماء لا يعامل الله بهذا الأسلوب النابى، إن الله أجل شأنا وأعلى قدرا من أن يغضب ثم يندم ويتراجع كأنه إنسان ثاب إلى رشده بعدما عزب عنه. وهذه المرويات كلها من صنع بشر يريدون إعزاز جنسهم بالأكاذيب، والاستعلاء على غيرهم بالباطل، وبنو إسرائيل كبنى إسماعيل كغيرهم من البشر، لا يرتفع أحدهم إلا بالتقوى والأدب. إن التوراة النازلة على موسى اختفت مع تقلب الزمان ببنى إسرائيل، والذى بقى منها هو هذا الميراث المشوب الذى طغى فيه كلام البشر على الوحى الحق، وكادت تختفى فيه ذرات السكر داخل مسحوق من الصخر والتراب. أما الإنجيل فنسأل مخلصين: أين هو؟ إن الأناجيل الأربعة الموجودة هى قصص كتبها تلامذة عيسى، تضمنت ما يقال إنه كان يدعو إليه ويبشر به. حسنا، فلنتنازل عن المطالبة بالإنجيل نفسه! ولنحاول البحث عن بقايا الحق فيما كتبه التلامذة المخلصون. إن عيسى وصحبه هم من بنى إسرائيل، كانوا يتكلمون العبرية بلهجة آرامية، والسؤال: أين ما كتبه هؤلاء الحواريون بلسانهم الأصلى؟ إن الأصل مفقود ! فما أسماء الذين ترجموا عنهم، ومدى الثقة فيهم؟ إنهم مجهولون! إن أى منصف، يحس بأنه أمام مواريث معضلة، التأمل فى متونها يدعو إلى الرفض، والتأمل فى أسانيدها يدعو إلى الرفض. فإلام نُدعى ـ نحن المسلمين ـ الذين نقبل تسليط الأضواء كلها على كتابنا سندا ومتنا؟ إلام نُدعى؟ إلى الأوهام!! هاتوا خيرا مما عندنا ونحن نتبعكم، وهيهات، فلا وجود لمستحيل ! ص _061(1/59)
ليس عيسى إلها الله رب العالمين، تنتظم ربوبيته عالم الجماد والنبات والأحياء، خلق كل شيء ثم تعهد قيامه ونظامه وبقاءه، ونماءه وفناءه، لم يشركه فى ذلك أحد!! وإذا كان سبحانه مُمِد كل شىء بوجوده، فكيف يكون شىء ما شريكا له؟ إنه البارئ المهيمن والأول والآخر والظاهر والباطن. فى عالم الأحياء ليس هناك إله خلق المخاخ والأكباد، وآخر خلق الأيدى والأرجل، خالق الكل واحد ! فى عالم النبات ليس هناك إله خلق الأشجار وآخر خلق الثمار، ليس هناك إله خلق الغابات وآخر خلق الحشائش (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض.... ) فى عالم الجماد ليس للأرض إله، وللزُهرة إله آخر، إنه واحد، رصَّع السماء بنجومها، وأبدع فيها ضوءها، وهو فى الوقت نفسه حاكم الخلايا فى الأجسام، والكرات فى الدماء، والمشاعر فى القلوب، والخواطر فى الأدمغة (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) ذكر الشيخ أحمد ديدات أنه ظهر فى بلدهم محام يشتغل بالتنصير، شرع يعلم المسلمين أن عيسى إله مع الله، وأن الإله الابن مساو لله ذاته، ومغاير له فى الوقت نفسه، وتساءل الشيخ العلامة: كيف يكون إلها من استجمع كل خصائص البشرية فى كيانه؟ ص _062(1/60)
وأخذ يحصى من الأناجيل فقرإت كثيرة تشهد بهذه الخصائص البشرية، وتصرح بأن صاحبها إنسان عادى، فكيف يكون إلها من مر بهذه الأطوار كلها؟ وهاك مقتطفات مما نقله من كتب القوم: (مولد الإله خلق " الإله " من نسل داود (رومية 1- 3) عن ابنه الذى صار من نسل داود من جهة الجسد)! " الإله " من ثمرة صلب داود:- (أعمال الرسل 2: 3) (فإذا كان نبيا وعلم أن الله حلف له بقسم أنه من ثمرة صلبه، يقيم المسيح حسب الجسد ؛ ليجلس على كرسيه). أسلاف " الإله " (متى 1 : 1) (كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن إبراهيم). جنس " الإله " ( لوقا 2: 21) (ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبى سمى يسوع) كيف حملت مريم " بالإله " وولدته؟ لقد حملته كأى امرأة أخرى ( لوقا: 2: 6) (تمت أيامها لتلد) وهذا يعنى أنها مرت بجميع مراحل الحمل الطبيعية، ولم تكن ولادتها تختلف عن أى امرأة تنتظر مولودها ـ رؤيا يوحنا 12: 2) (وهى حبلى تصرخ متمخضة ومتوجعة لتلد). (رضع الإله حلمتى امرأة ( لوقا 11: 27) وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طولى للبطن الذى حملك والثديين اللذين رضعتهما). الموطن الأصلى " للإله " (متى 2: 1) (ولماذا ولد يسوع فى بيت لحم اليهودية فى أيام هيرودس الملك). مهنة " الإله " (مرقص 6: 3) (أليس هذا هو النجار ابن مريم) (متى: 13: 55) (أليس هذا ابن النجار). مواصلات " الإله " (متى 21: ه) (هو ذا ملكك يأتيك وديعا راكبا على أتان وجحش ابن أتان) (يوحنا 12: 14) (ووجد يسوع جحشا فجلس عليه). ص _063(1/61)
طعام " الإله " وخمرته (متى ا1 :19، لوقا 34:7) (جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هو إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشاريين والخطاة). فقر" الإله " (متى 8: 20) (فقال له يسوع للثعالب أوْجزة، ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه). ممتلكات " الإله " الضئيلة ( لوقا 3: 16) (سيور حذائه) (يوحنا 19: 23) (ثيابه... قميصه). " الإله "يهودى ورع (مرقص ا: 35) (وفى الصبح باكرا جدا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلى هناك) " الإله " تابع مخلص: كان يسوع مواطنا صالحا، وكان مخلصا للقيصر، وقال: (متى 22: 21) (أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله) (متى 17: 24- 27) وكان يدفع ضرائبه بانتظام. " الإله " أبو يوسف: (يوحنا1: 45) (فيلبس وجدّ نثنائيل، وقال له: وجدنا الذى كتب عنه موسى فى الناموس والأنبياء يسوع بن يوسف الذى من الناصرة). إخوة " الإله " وأزواج أخواته: (متى 13: 54: 56) (و لما جاء إلى وطنه كان يعلمهم فى مجمعهم حتى بهتوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوّات؟ أليس هذا ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم؟ وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟ أوليست أخواته جميعهن عندنا؟ فمن أين لهذا هذه كلها؟). ص _064(1/62)
تطور " الإله " التطور الروحى " للإله " ( لوقا: 2: 40) (وكان الصبى ينمو ويتقوى بالروح ممتلئا حكمة). تطور " الإله " عقليا وجسديا وخلقيا: ( لوقا 2: 52) (وأما يسوع فكان يتقدم فى الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس). كان عمر " الإله " اثنى عشر عاما عندما أخذه والداه إلى القدس : (لوقا 2: 41- 42) (وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم فى عيد الفصح، ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد). " الإله " العاجز: (يوحنا 5: 30) (قال يسوع: أنا لا أقدر أن أفعل من نفسى شيئا) أ. هـ. (مَن هذه صفاته كيف يساوى الله؟ (وأنتم معشر النصارى تزعمون أن عيسى قتل، فكيف يُقتل الله؟ ومن قتله؟ أعبد مثله، أو إله آخر؟؟ إنها معركة طريفة تلك التى تقع بين الآلهة! والعجب العاجب أن يبقى الكون منتظما وإلهه قد قُتل وصُلب..!! وهناك إله ثالث، موضعه غريب، ووظيفته مجهولة، ذاك المسمى بالروح القدس، ما عمله مع الإله الأب، والإله الابن؟. الواقع أن القصة كلها خيال محموم، فلا إله إلا الله ! (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) وفق التصوير المسيحى للتاريخ كانت الأيام الأخيرة للمسيحيين مليئة بأسباب الفزع والضيق، وكانت السلطة الحاكمة بإيعاز من اليهود تطارد ص _065(1/63)
(يسوع) وتُبيِّت قتله. وما نرتاب فى أن جمهرة الحواريين كانوا مؤمنين صالحين، يحبون الله ورسوله منذ قالوا (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) غير أن نفرا منهم انخلع قلبه رعبا، وأعيته تكاليف الجهاد، ففر هاربا، وأنكر صلته بالمسيح مع أنه كان مشهورا بصحبته!! واشتدت وطأة الحكومة على أتباع الدين المضطهد، ثم انتشرت شائعة بأن المعلم الطيب قتل وصلب، فانفضت جموع المؤمنين، لم يلو أحد على أحد. إننا نحن المسلمين نعرف ما حدث بدقة، ونؤكد أن كثرة من الموحدين بقيت صادقة مع الله ومع الناس، فهل كان النصارى كلهم على هذا الغرار؟ كلا، إن أصحاب الغلو موجودون فى كل عصر ومصر، سرعان ما توهم البعض أن جبريل النازل بالوحى ليس إلا إلها، وأن عيسى الذى اختفى هو ابن لإله الأرض والسماء. ثم ماذا؟ أين صحائف الإنجيل الذى كان عيسى يتلوه على الناس؟ ذهبت فى حريق الاضطهاد، وأحسب أن من كانت لديه أثارة منها أخفاها حتى لا يموت. وانفسح الطريق لكتابات جديدة، لم تظهر إلا بعد عشرات السنين وربما لم تظهر إلا بعد مائة سنة أو يزيد! لماذا؟ لأن كثيرين كانوا يعتقدون أن عيسى سوف يظهر كما اختفى، وأن أمد غيبته لن يطول، فلننتظر مجيئه ليحدثنا بما كان. ويشرح ذلك اللواء المهندس أحمد عبد الوهاب فيقول: ( لقد سيطرت على المسيحيين الأوائل فكرة، تناقلتها الألسن شفاها تعلن انتهاء هذا العالم سريعا، وعودة المسيح ثانية إلى الأرض ليدين الناس وكان من بين نتائج هذا المعتقد أن توقف التفكير فى تأليف كتابات مسيحية؛ تسجل أخبار المسيح ص _066(1/64)
وتعاليمه ـ بعد اختفاء الإنجيل النازل على عيسى عليه السلام ـ فتأخر لذلك تأليف الأناجيل الأخرى؟ إذ لم يُشرع فى تأليف أقدمها، وهو إنجيل مرقس ـ ومرقس لم يكن قط من تلاميذ المسيح ـ إلا بعد بضع عشرات من السنين. لقد كانوا يؤمنون بنهاية العالم وعودة المسيح سريعا إلى الأرض: - قبل أن يكمل رسله التبشير فى مدن إسرائيل، وهى عملية لا تستغرق أكثر من عدة شهور، أو بضع سنين على أكثر تقدير. هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: (إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرِىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة). الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتى ابن الإنسان (المسيح) (متى 10: 5- 23). وقبل أن يموت عدد من الذين وقفوا أمامه يستمعون إلى تعاليمه ومواعظه، وهى فترة يمكن تقديرها دون خطأ يذكر فى حدود خمسين عاما على أقصى تقدير. إن ابن الإنسان سوف يأتى فى مجد أبيه مع ملائكته، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله. الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتيا فى ملكوته (متى 16: 27- 28) وهو يعود ثانية إلى الأرض قبل أن يفنى ذلك الجيل الذى عاصر المسيح، وهى فترة لا تتجاوز أقصى ما قدرناه، أى خمسين عاما: (وفيما هو جالس على جبل الزيتون، تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين: قل لنا: متى يكون هذا؟ وما هى علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟ فأجاب يسوع وقال لهم: بعد ضيق تلك الأيام، تظلم الشمس، والقمر لا يعطى ضوءه، والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماء تتزعزع؛ وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان فى السماء، وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. ص _067(1/65)
الحق أقول لكم: لا يمضى هذا الجيل حتى يكون هذا كله (متى 3:24-24). ومعلوم أن ذلك كله لم يحدث، إذ لا يزال الكون قائما، وبنو آدم يعيشون فى عالمهم الدنيوى حتى يأتى أمر الله. هذا ـ ولما بردت الحمية التى أثارتها فكرة عودة المسيح سريعا إلى الأرض، ظهرت الحاجة ماسة إلى تدوين الذكريات عنه وعن تعاليمه، ومن هنا كانت النواة لتأليف أسفار ـ ما صار يُعرف فيما بعد باسم ـ العهد الجديد، وهى الأسفار التى لم يُعترف بشرعيتها إلا على مراحل، وعلى امتداد أكثر من ثلاثة قرون. خلال هذه القرون الثلاثة أو الأربعة تم تأليف دين جديد ؛ أصوله قائمة على التثليث والفداء ؛ لا تتفق مع أى دين سماوى سبق، بل هى فى الحقيقة صُلح ماكر مع الأديان الأرضية التى تقوم على تعدد الآلهة وتقديم القرابين. مع دعوى جريئة بأن التعدد لا ينافى الوحدانية (!)، وأن الصلب لا ينافى المسئولية الشخصية! ومع دعوى مصاحبة أن الإيمان مفصول عن العقل. وذاك سر الحرب التى نشبت فيما بعد بين الدين والعلم!! لقد اعتُبر علماء الكون الذين ظهروا فى أوربا متأثرين بالمنهج الإسلامى المنتصر فى الدنيا يومئذ، ولذلك استبيحت دماؤهم بوحشية بالغة!!. ص _068(1/66)
الوحى عند النصارى العلم كشاف الحقائق، وفى المنطق العلمى ضمان لبلوغ حقائق سليمة، وعلى من ارتاب فى حقيقة ما أن يبين أسباب ريبته، وأن يجىء بالمقابل الذى يراه مدعاة طمأنينته. ونحن نحترم البرهان، وندعو إلى احترامه، وننزل على حكمه. وهناك جملة من العقائد والأخلاق والمسالك وسير الحضارات، تقوم على حقائق مسلمة يكاد البشر يتفقون عليها، وهناك ما هو موضع خلاف وخصام وقتال. وإلف الجماهير لأمر ما لا يعطيه حكما بالصحة، فكم يألف الناس أخطاء يحسبونها حقائق! وكم يرتكبون خطايا يحسبونها فضائل! (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) والدهماء تستريح لما ورثت، وكذلك أنصاف المتعلمين، بل إنهم يسعدون بالمدى الذى بلغوه، ويشبههم فى تلك الحال من يغالطون أنفسهم ويتخيلون فيخالون، كما يقول أبو الطيب: تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط فى الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع وفى عالم المجون حكوا أن جحا أراد صرف الغلمان الذين يتبعونه، فزعم لهم أن وليمة فى بيت فلان ينبغى أن يذهبوا إليها.. فلما انصرفوا عنه صدق هو ما زعم، وتبعهم إلى حيث ذهبوا!! وفى عالم التدين رأيت ناسا يضمون تحت خيمة الغيبيات أشياء من عند أنفسهم؛ يزعمونها دينا وما هى بدين، ويخلطون الحقائق بالأهواء متذرعين ص _069(1/67)
بأن ما وراء المادة لا يُسبر غوره، ولا يُعرف له حدود. وفساد الأديان ينشأ غالبا عن هذه الجراءة فى الاختلاق والإضافة، وما يقبل هذا رب العالمين الذى منح الناس عقولا تميز الخبيث من الطيب، والدخيل من الأصيل. إن العقل الإنسانى مناط التكليف، وهو ضابط محترم،، وما يرفضه لا قيمة له، ولا يجوز الخلط بين ما يحكم العقل باستحالته، وبين ما يعجز عن اكتناهه أو كما يقولون: إن عدم العلم ليس علما بالعدم!! وقد رأيت أنه باسم الدين تقبل فنون من الشعوذة والترهات، أو تقبل قضايا مشحونة بالمتناقضات العلمية والخلقية، لأنها ـ كما زعموا ـ جاءت من عند الله. كلا فالله لا يجىء من عنده إفك (ومن أصدق من الله حديثا) إن الوحى أساس الدين بلا ريب، وعندما يلهم الله بشرا بجملة من المعانى فقد ألهمه جملة من الحقائق التى لا يرقى إليها باطل، ولهذا الإلهام طرقه المحصورة كما جاء فى كتابنا (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) وقد كلم الله موسى من وراء حجاب، وألهم إبراهيم ما يريده منه، وأرسل أمين الوحى إلى محمد فكلفه بما شاء. وطبيعى أن الموحى إليه يعرف معرفة اليقين أن ما يجيئه هو من عند الله سبحانه، فلا حيرة ولا قلق ولا تردد، وعلامة الصدق تكمن فى الوحى نفسه، فأى آفة به تصرفنا عن تصديقه: (. . .ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) إذ يستحيل أن يوحى الله بالأكاذيب والترهات، كما يستحيل أن يقع بين الوحى والعقل خلاف، فلا فجوة البتة بين دين صحيح وعقل سليم. ص _070(1/68)
هذا هو الوحى عندنا ، معارف سماوية يتلقاها عن ربه بشَرٌ كريم ، يتدبرها أولو الألباب فيستريحون إليها ويؤمنون بها . فهل الوحى عند غيرنا كذلك ؟ الظاهر أن عددا من أهل الكتاب أعطى نفسه حق التفسير والتعليق ، أو حق الإنشاء والتوجيه ، واطمأن إلى صدق إيمانه عند نفسه ، ثم نسب ما جاء به إلى الله سبحانه ، على طريقة أنا كذبت له ، ولم أكذب عليه فلا مكان للوم !! وقد سبق أن نقلنا لك من التوراة النازلة على موسى ، كيف مات موسى ، وكيف ناحت عليه نسوان بنى إسرائيل أربعين يوما ، وكيف دفن فى قبر غير معروف .. الخ وظاهر لكل ذى لب أن هذا كلام مؤرخين ، ضموا ما ذكروه عن وفاة موسى إلى كتاب موسى نفسه ، فصار الأصل والضميمة كتابا واحدا . ونزيد الموضوع شرحا بنقل ما كتبه ونقله الشيخ أحمد ديدات فى هذه القضية البالغة الخطورة : ( يقول السيد و . جراهام سكروجى ، عضو معهد مودى للكتاب المقدس ، والذى يعتبر من أكبر علماء البروتستانت التبشريين فى كتابه : ( هل الكتاب المقدم كلام الرب ؟ ) ، تحت عنوان ( كتاب من صنع البشر ولكنه سماوى ) صـ 17 : ( نعم ، إن الكتاب المقدس من صنع البشر ، رغم أن البعض جهلا منهم قد أنكروا ذلك ) . ( إن هذه الكتب قد مرت من خلال أذهان البشر ، وكتبت بلغة البشر وبأقلامهم ، كما أنها تحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر ) . ويقول عالم نصرانى آخر واسع المعرفة ، وهو أسقف بيت المقدس ، السيد كينيث كراغ فى كتابه ( نداء المئذنة ) . ( وبعكس القرآن فإننا نجد أن العهد الجديد يحوى بعض التلخيص والتنقيح ، هناك اختيار للألفاظ وتجديد وشواهد ، إن كتب العهد الجديد قد جاءت من ذهن الكنيسة التى تقف وراء المؤلفين ، فهذه الكتب تمثل الخبرة والتاريخ ) . ص _071(1/69)
ورغم أن هذه الكلمات لا تحمل أى معنى آخر نحتاج معه لإضافة أو تعليق، لنثبت حجتنا، فإن هذا الداعية النصرانى المحترف، حتى بعد أن يكشف نفسه، تكون لديه الجرأة على أن يقول: إنه قد أثبت إثباتا قاطعا بأن الكتاب المقدس هو (كلام الرب المتعذر إنكاره) وإنه لشىء عجيب هذا التلاعب بالألفاظ والكلمات. فكلا العالمين يخبراننا بأوضح لغة بشرية ممكنة بأن الكتاب المقدس هو من صنع البشر، ثم هما بعد ذلك يزعمان أنه من عند الله ! ويقول الشيخ أحمد ديدات: وأتذكر أننى قابلت يوما قسيسا صغير السن، كان يتردد على مسجدنا فى جوهانسبرج، وفى ذهنه مهمة نبيلة، وهى دعوة المترددين على المسجد إلى دينه، فدعوته للغداء فى منزل أخى القريب من المسجد، وخلال مناقشتنا حول موضوع أصالة الكتاب المقدس وصحته ،لاحظت تصميمه العنيد، فقلت له: إن البروفيسور جيزير، (وهو رئيس قسم اللاهوت فى جامعتهم) لا يؤمن بأن الكتاب المقدس هو كلام الرب، فكان رده مباشرة دون أى تردد: أنا أعلم ذلك، فكررت قولى: إن محاضركم لا يؤمن بأن الكتاب المقدس كلام الرب! فردد ثانية: أعلم ذلك، وتابع قائلا: ولكننى شخصيا أومن بأنه كلام الرب ! وأقول لكم: إنه لا يوجد علاج لهذا النوع من الناس المغلقين، حتى عيسى نفسه كان يقاسى من انتشار هذا المرض بين الذين من حوله (لأنهم يبصرون ولا يبصرون، ويسمعون ولا يسمعون ولا يفهمون) إنجيل القديس متى 13: 13. وكذلك يقول القرآن الكريم: (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون). البون بعيد بين نظرية الوحى عندنا ونظريته عند أهل الكتاب. ص _072(1/70)
فالوحى عندنا إلهام إلهى خالص فى معناه ومبناه، لا يستطيع أن يتجاوزه مرسل من الله (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) أما الوحى عند أهل الكتاب فكلام إنسان ربانى فانٍ فى خدمة الله، قد يحفظ بقايا ما نزل على موسى وعيسى ثم يرويه كما يتيسر له، وقد يضم إليه ما اقتنع بصدقه، أو ما رسب فى نفسه من وقائع شائعة وفلسفات سائدة. وقد يجمع هذا الخليط بين عواء جسد يطلب الحبيب كما فى نشيد الإنشاد الذى لسليمان، أو مناجاة لله كما فى مزامير داود. والمأساة تجىء من تسلل عقائد وثنية، أو تجريح أنبياء كرام، أو تحريف معنى سامٍ، وهذا سر الاشتراك المستخفى وراء تعدد الآلهة، ووراء القرابين المادية التى يُسترضى بها الإله الغاضب. من أجل ذلك جاء وعيد القرآن الكريم (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) ص _073(1/71)
ما أسانيد الكتاب المقدس؟ كانت وفاة عيسى ضربة شديدة لعقيدة التوحيد، ومبدأ انقسام واسع بين أتباعه، فالكثرة علمت أن رسولها قد اختاره الله وذهب إلى السماء كما يذهب غيره من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أما قلة من الغلاة فزعموا أن عيسى قتل مصلوبا، وبنوا على ذلك أمورا ذات بال!! إن النزاع محدود القيمة والأثر، لو أنه كان حول قضية الصلب أو الموت، فهو أجل انتهى على أية حال! إن النزاع أخذ مسارا أبعد من ذلك، إذ صُور القتيل المصلوب على أنه ابن الله الوحيد، قتله أبوه على هذا النحو الدامى، ليفتدى به خطايا آدم وبنيه ! وقد اعتنق النصارى الغلاة هذه الفكرة، وروجوا لها بحماس شديد، ورفضها الكثيرون. وانشعب التيار النصرانى شعبتين متخاصمتين، ظلتا على هذا الشقاق حتى حسمه الإمبراطور قسطنطين فى مؤتمر (نيقية) إذ أيد القلة القائلة بالصلب والفداء وبُنوَّة المسيح لله، وخذل الكثرة التى تقول بنبوة عيسى لا بنوته ! وقسطنطين حاكم وثنى تدخل فيما لا يدرى ولا يحسن، ولذلك قال علماؤنا: لم يتنصر الرومان ولكن تروّمت النصرانية!! وواجه الموحدون حربا ضارية، وصودرت حرياتهم وكتبهم، وانفسح المجال للتيار الأضعف، وانفرد بالسلطة، فبقيت كتبه وحدها على حين اختفت كتب الكثرة. وعُثر بطريق الصدفة على إنجيل برنابا الذى يمثل تعاليم النصرانية ص _074(1/72)
الصحيحة، عُثر على هذا الإنجيل فى بيئة مسيحية خالصة، ولم يقع قط أن تحدث عنه المسلمون أو استشهدوا بنص فيه خلال ألف عام ! لقد غلقت كنائس الموحدين، وتلاشت قواهم، واختفت كتبهم وأناجيلهم، وانتصر الغلاة المثلثون، وانفردوا بزمام المسيحية حتى اليوم!! لذلك يقول القرآن الكريم (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) وقد جمع النصارى الجدد كل ما يؤيد وجهة نظرهم، فيما سُمى بعد (بالعهد الجديد) لأن ألوهية عيسى لم يقل بها نبى سبق، وإنما جدّ الكلام فيها على النحو الذى وصفناه! ثم ضموا ما جمعوا إلى ما بأيدى اليهود من صحف تضمنت الغرائب، وسموا الكل بالكتاب المقدس! وعلماء الإسناد يرون من الناحية التاريخية أن الكتاب ليس له رواة موثقون، بل إن أسانيده تشبه أسانيد الأحاديث المتروكة والمنكرة والموضوعة فى تراثنا الإسلامى، ومن ثم اتجه النظر إلى المتن نفسه ليُمحص حقيقته، ويُقرر قيمته، فقد يتضمن ما هو جدير بالتقدير والاقتداء!! ومن المفيد أن نذكر رأى المغالين بقيمة الكتاب، والمرجحين له على سائر ما فى الدنيا من كتب، وأول هؤلاء فيما قرأنا كتاب (جوش مكدويل) الذى ترجمه القس منير عبد النور، والذى نقل فيه عن الأستاذ (مونتيرو وليامز) العبارات الآتية، وهى خلاصة تجارب دراسة 42 سنة للكتب الشرقية، قال بعدها: (والكتاب المقدس فريد، يختلف عن كل الكتب الأخرى فى المجالات الآتية، وكثير غيرها: ص _075(1/73)
أولا: فريد فى ترابطه : 1- فقد كتب فى فترة بلغت 1600 سنة. 2- فى فترة أكثر من ستين جيلا. 3- كتبه أكثر من أربعين كاتبا، من كل مسالك الحياة، منهم الملك والفلاح والفيلسوف والصياد والشاعر والحاكم والعالم.. الخ فمنهم: موسى القائد السياسى الذى تلقى تعليمه فى الجامعات المصرية، وبطرس الصياد، وعاموس راعى الغنم، ويشوع القائد العسكرى، ونحميا ساقى الملك، ودانيال رئيس الوزراء، ولوقا الطبيب، وسليمان الملك، ومتى جابى الضرائب، وبولس رجل الدين. وقد كتب فى أماكن مختلفة: كتب موسى فى الصحراء، وإرميا فى جب السجن المظلم، ودانيال على جانب التل أو فى القصر، وبولس داخل السجن، ولوقا وهو مسافر، ويوحنا فى جزيرة بطمس، وآخرون فى أرض المعارك. وكتب فى أزمنة مختلفة: كتب داود فى وقت الحرب، وسليمان فى وقت السلم. وكتب فى أحوال نفسية مختلفة: كتب البعض فى قمة أفراحهم، وآخرون فى عمق أساهم وفشلهم. كتب فى ثلاث قارات: آسيا، وإفريقيا، وأوربا. أقول: ولكى نصدق كتابا هذه صفته يجب أن نؤمن بأن الله الذى وسع كرسيه السماوات والأرض قد تنزل من عرشه وصارع عبده يعقوب صراعا استغرق الليل كله ، وفاز فيه يعقوب بالنقط وتلقب بإسرائيل!! وأن نؤمن بأنه تناول الطعام مع عبده إبراهيم، وكان على المائدة عجل مشوى وخبز رقيق، ولا ندرى أتناولا الشاى معا بعد ذلك أم لا..؟ وأن نؤمن بأن أنبياء الله مولعون بالسكر، والزنا بالمحارم، واغتصاب الأعراض، سيما أعراض الغائبين عن زوجاتهم فى ميدان الجهاد. إن هذا العهد القديم كتاب عجيب، أو مجموعة من فصول غريبة، ص _076(1/74)
ملأى بالحكايات والرؤى والتواريخ المضطربة التى قدمنا نماذج منها آنفا، ويبدو أنه لكى تكون مؤمنا يجب أن تقبل الخرافات. ثم نرمق العهد الجديد فنرى رجلا يؤلف إنجيلا لفكرة معينة! إن يوحنا ألف إنجيله لتوكيد فكرة أن المسيح هو الله أو ابن الله فعيسى الذى ولد من عشرين قرنا هو فى الحقيقة موجود قبل خلق السماوات والأرض. ومريم يوم وضعت طفلها كانت تلد الجسد الإلهى، أما الإله المولود فقديم والناس لا يدرون!! إن الإشراك بالله جريمة فى الأرض يحاربها الأنبياء كلهم، أما الإشراك فى السماء فحقيقة مقررة لأن الابن، وإن كان غير الأب فهو أزلى معه، وعند التأمل هو هو ! وعفاء على العقول إن لم تقبل هذا اللغز..!! (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم * وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون * ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) ثم إن الرجال الذين ألفوا الكتاب المقدس، وإن كانوا وُضَّاعه الظاهرين فهم في الحقيقة تراجمة للوحى الأعلى، والكتاب من عند الله لا من عند أنفسهم! وتدبر هذا الحوار بين المسيح، وخصومه من اليهود بعد ما أعلن عن مساواته لله قائلا: أ- (أنا والأب واحد) (يوحنا 10: 30)، فتناول اليهود حجارة ليرجموه، فسألهم: (أعمالا كثيرة حسنة أريتكم من عند أبى، بسبب أى عمل منها ترجموننى؟) أجابه اليهود: ( لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها) (راجع يوحنا 10: 30- 33). ص _0 ص(1/75)
يقول المؤلف: وهذه العبارة هى قمة إعلان المسيح عن صلته بالأب، وقد أثارت غضب الفريسيين بشدة، حتى إنهم أصدروا الحكم عليه وتناولوا حجارة ليرجموه، حسب نص اللاويين 24: 16 ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى حاولوا فيها رجمه (يوحنا 8: 59)، لا بسبب عمل صالح أتاه، بل بسبب (تجديفه)، دون أن يتمهلوا ليروا مدى صدقه فى هذا الادعاء ـ هكذا يقول المؤلف. ب - يوحنا (5: 17 ـ 18) (فأجابهم يسوع: أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل. فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه، لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضا: إن الله أبوه، معادلا نفسه بالله). وفى هذه الآيات لا يقول المسيح عن الله (أبونا) بل (أبى) موضحا علاقته الفريدة بالأب، وبأن عملهما مشترك، وهو بهذا يبرر شفاءه للمرضى فى يوم السبت. كان اليهود يقولون عن الله إنه (أب) لكنهم كانوا يضيفون إليها (فى السماوات) ولكن يسوع هنا يقولها ببساطة معبرا عن الصلة القوية والمساواة الكاملة بينه وبين الله، وأدرك اليهود قصده فأرادوا قتله. جـ (أنا كائن) (فى يوحنا 8: 58) قال المسيح لليهود: (الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن) وكلمة (الحق الحق) مكررة هى قسم قوى يسبق إعلانه أنه الله! وارتعب اليهود (فرفعوا حجارة ليرجموه). ولا عجب فإنجيل يوحنا تتصدره هذه العبارة (فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة الله). ولا يوجد فى الأولين والآخرين عقل يتسع لهذه المتناقضات، فالمسيح إنسان كريم، دعا إلى عبادة الله الواحد (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) ولو أنه زعم الألوهية ما استمع إليه أحد. لقد كذب اليهود رسالته حين ادعى النبوة، ولو ادعى الألوهية ما وجدوا صعوبة فى قتله كما قتل سليمان المرشد فى لبنان، وما كان أحد ليدافع عنه ص _078(1/76)
(ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) وسيبقى المسلمون إلى آخر الدهر يسوون بين إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد فى تلقى رسالات الله. ولا يزال عدد من المسيحيين يرون عيسى إلها ابن إله، وعند الله الملتقى (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) ص _079
ما عدا التوحيد باطل...! سرت فى أعصابى حماسة الإيمان وأنا أستمع الفتية أهل الكهف يقولون: (ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا) قلت: صدقتم ليس للكون إلا سيد واحد ؛ هو الحى القيوم، الذى تقوم به الأشياء وتدوم، إن شاء أمسكها فظلت بإذنه موجودة، وإن شاء استرد ما وهب فإذا هى فى أودية الفناء مفقودة! ليس معه آخر! من هو؟ وأين هو؟ ماعداه صفر! إن أدركته مِنة الإيجاد فبالله صار حيا، وإن تخلَّى عنه ربه دخل فى المحاق فصار وهما. بيد أن الغريب فى حياة الناس أنهم أولعوا باختلاق آلهة أخرى، سموها بنات الله (ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون) وجاء آخرون فزعموا أن لله ابنا، هو منه أو معه (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين) وإخواننا النصارى راعهم ما جرى على يد المسيح من خوارق للعادات، ثم ما أحاط بمولده من غرابة، وشذوذ عن القاعدة، فقالوا: إنه لا شك ابن الله، وهو مع بنوته إله معه يساوى أباه فى الأزل والأبد. ثم سمعوا بذكر جبريل ـ روح القدس ـ ينزل بالوحى، ويؤيد الأنبياء، فقالوا، وهذا الأخير إله ثالث والكل واحد!! ولم تعرف هذه الفكرة أذهان الفلاسفة، وهم ـ فى غيبة الوحى ـ يبحثون عن الله! ص _080(1/77)
ولم تجر هذه المقالة على لسان نبى من الأولين والآخرين، فقد اتفقت كلمتهم على وحدانية الله (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) والفتية أهل الكهف، وقد عاشوا فى عهد الدولة الرومانية، وقاوموا شبهات الشرك التى شاعت بينهم ـ يقولون مستنكرين: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)!! الحقيقة الأولى فى تعاليم الإسلام أن الله واحد، لم يلد ولم يولد، وليس له ند ولا ضد، وأن ماعداه من ساكنى الأرض والسماء مخلوقون له، عانون لمجده، هاتفون بحمده، سواء كانوا ملائكة أو جنا أو بشرا. ولست أدرى أكان الفتية أهل الكهف يقاومون حكما مشركا؟ أو سلطة مثلثة؟. أيا ما كان أمرهم فهم حراص على التوحيد متمردون على كل ربوبية أخرى، يقولون ـ كما ذكرنا ـ (ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا). وسورة الكهف مكية، والمفروض أنها تحارب الوثنية الشائعة فى الجزيرة العربية، لكننا نلحظ فى السياق الداعى إلى التوحيد، أنه يرفض التعدد بجميع صوره سواء كان الشريك المزعوم حجرا أو بشرا. وتدبر مطلع السورة (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) إن المطلع يتناول الأحزاب الشاردة كلها، يستوى من ادعى لله بنتا أو من ادعى له ابنا..! ص _081(1/78)
ومع تدبر عشرات السور المكية نرى إخلاص التوحيد من كل شائبة هو السمة الغالبة، وأن داعى التوحيد يتناول النصارى كما يتناول غيرهم، بل ربما كان الحَجَاج أكثر انطباقا عليهم وتأمل فى قوله تعالى فى سورة الأنبياء المكية (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم....) إن السياق هنا ألصق بالنصرانية التى تجعل عيسى إلها، أو تجعل لله ولدا، وهى تكشف عن أن عيسى يرفض كل غلو فى ذاته، وأنه ليس إلا واحدا من العباد الذين يقفون بين يدى الله تملكهم مشاعر الرغبة والرهبة، وتحركهم عواطف الخوف والرضا. واللغز الذى لا حل له إلى آخر الدهر أن إخواننا النصارى يؤمنون بأن الثلاثة واحد، وأن الأب والابن والروح كل منهم إله، وهم فى الوقت نفسه إله واحد ! وقد نقلنا فى مكان آخر اعتذار بعضهم لهذا التناقض الظاهر بأن الابن يعنى صفة الحياة، والروح القدس يعنى صفة العلم، وأن الذات واحدة، وضرب لذلك مثلا بالشمس وحرارتها ونورها، وربما زاد آخرون فقالوا: يشبه ذلك ابتداء سور القرآن باسم الله الرحمن الرحيم ! والاعتذار موضع تأمل، إن الذات يمكن أن توصف بصفات كثيرة لا بصفة واحدة أو صفتين اثنتين! ونحن مع أولى الألباب نصف الرب الأعلى بكل كمال، لكن الوصف عَرضٌ لا يقوم وحده، ولا يُتصور إلا قائما بذات. وإذا كنت كارها لأحد العلماء فهل أستطيع إطلاق الرصاص على صفة العلم فيه فأقتلها وأصلبها، وتبقى الذات سليمة؟؟ إن هذا الاعتذار يكشف الحيرة المستكنة عند أصحابه، والزعم بأن عيسى صفة العلم، وجبريل صفة الحياة زعم مردود ومضحك. ص _082(1/79)
الواقع أن النصارى الأوائل كانوا موحدين مثلنا، وأن التوحيد ساورته أوهام قلة كانت أول أمرها مغموصة ثم استفحل خطرها على مر الأيام، فانضم الغلو الباطل إلى أصل الإيمان وسارا معا على نحو غامض. فالمسيحى يشعر بأنه عبد لله، ويقتنع بأنه واحد، ثم يقبل على تساهل وترخص أن يكون هناك إله ثان وثالث، ولكنهما ضميمة موروثة لا تثبت على التمحيص، فإذا نوقش هرب إلى التوحيد، وإذا تُرك وزع عواطفه على بعض الثلاثة، ويغلب أن يكون الابن هو الظافر الأكبر بالدعاء والولاء ! وصلة النصارى بالرب يسوع المسيح هى التى تشيع بينهم، أما الصلات الأخرى فتابعة وثانوية، إن للابن نصيب الأسد من مشاعر العباد، أما الإله الأب فيجىء تاليا، وأخيرا يجىء روح القدس إن وجد مكانا..!! أما الإسلام فتوحيده لله محض، نقى، سائغ، صادق، إنه الإيمان الذى جاء به نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وإلى جانب هذا الإعلاء للذات الأقدس، فالمرسلون جميعا عباد صالحون، شرفهم أنهم يتقنون العبودية للواحد الكبير، ويدعون الناس طرا إلى عبادته وحده. هل هذا الطراز من الإيمان هو العيب الذى نوصم به؟ أو الذنب الذى اقترفناه؟ أو الخطأ الذى تعبأ قوى العالم لمحوه طورا بالحديد والنار، وطورا بالخديعة والحيلة..؟ (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) وشىء آخر لا بأس من ذكره. إن الجن عالم يشبه عالم الإنس فى تكاليف العقائد والعبادات وأهل الكتاب جميعا يؤمنون بوجودهم وإن كنا لا نراهم. وقد لاحظت أن قصة التعدد وصلت إليهم، وأنهم لم يعرفوا وحدة الإله إلا بعد ما جمعوا القرآن، فانظر ماذا يقولون؟ (….إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا * وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا * وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) ص _083(1/80)
هذا ما وصفوا به قالة السوء التى وصلتهم عن الله، ثم اعتذروا عن تصديقها ابتداء بهذا الاعتذار (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) هكذا شرح الإسلام الحقيقة، ومحا الظلام، وبين أنه لا إله إلا الله. ص _084
إنجيل برنابا أقرب الأناجيل إلى الصحة العقل الدينى الذى سيطر على كتابات الأولين من اليهود والنصارى لم تكن له ضوابط متزنة، بل كان يجنح إلى الخرافة برغبة جامحة، خذ مثلا قصة الشمس مع يوشع! كان يوشع فتى لموسى فى حياته، فلما مات فى أرض التيه، تولى قيادة بنى إسرائيل من بعده. قالوا: وقاتل يوشع أعداء الشعب حتى يدخل باليهود أرض فلسطين ولكن الحرب ظلت محتدمة، والشمس أوشكت على المغيب، فدعا يوشع الرب أن يمنع الشمس من المغيب حتى ينتصر على خصومه، فوقفت الشمس عن الدوران يوما كاملا! أربع وعشرون ساعة لم تتحرك فيها الأرض، ولم يقع ليل ولا نهار! وكأن الناس فى القارات كلها سكارى لم يشعروا بما حدث، إن النظام الفلكى اختل من أجل المقاتل الإسرائيلى يوما كاملا ! والواقع أن هذه الرواية لا تشير إلى اختلال كونى، بل تشير إلى اختلال فى عقل الكاتب، وهى نموذج للأساطير التى روتها التوراة عن الله وملائكته ورسله. والذى يكذب فى عالم الشهادة لا يستكثر عليه أن يكذب فى عالم الغيب، ومن حقنا أن نرفض مرويات العهد القديم التى تبدو عليها مسحة الأساطير. ومثل قصة الشمس قصة الطوفان مع نوح، فإن كاتب العهد القديم زعم أن الطوفان غمر الكرة الأرضية سنة كاملة، فنيت خلالها الحياة والأحياء إلا أصحاب السفينة! والصحيح أن الطوفان كان حدثا محليا صرفا، لا صلة لوادى النيل به ؛ ولا علاقة لشبه القارة الهندية به، ولم يتحدث عنه مؤرخ هنا أو هناك، ولم تحس به أوربا ولا أمريكا. ص _085(1/81)
والرواية التوراتية لا أصل لها، والروايات التى أكدتها فى العهد الجديد مفتعلة. إن العقل المشرف على تدوين الكتاب المقدس حكى التاريخ بأسلوب مريب، واعتمد على شائعات أو ترهات لا تثبت على التمحيص العلمى. هذا العقل نفسه ساق الأحداث حين وفاة عيسى على نحو مضطرب فاليهود يقولون: نحن قتلنا عيسى، وغيرهم يقول: بل نجا عيسى من القتل بدليل رؤيته حيا بعد شائعة صلبه.. ويقول النصارى: إنه صلب ثم عادت إليه الحياة. ورأينا نحن المسلمين ثابت فى القرآن الكريم من أنه لم يقتل ولم يصلب، قد يكون مات موتا طبيعيا حين وافاه أجله، وهذا ما أرجحه، وقد تكون العناية العليا قد نجته ليحيا فى مكان آخر على نحو لا أدريه. وكتاب الأناجيل كثيرون، وقد اختلفوا فى سرد الوقائع على نحو يثير الدهشة، ولا عجب فمن هؤلاء الكاتبين من لم ير عيسى قط، فكيف كتب عنه؟ ومنهم من صحبه وكتب بلغة لم يصل إلينا نصها، ولم نعرف من ترجمها! والروايات كثيرة، وقد كانت الأناجيل أول تاريخ المسيحية تعد بالعشرات. ورأيى أن إنجيل (برنابا) نموذج لأناجيل أخرى تشبهه فى السرد الصحيح، والوصف الدقيق، ولكن هذه الأناجيل طوردت، وعمل الغلاة على إخفائها ومحوها.. وقد ظل التوحيد الحق له أنصاره المكافحون حتى القرن الرابع للميلاد، وبدا فى مجمع (نيقية) الذى قرر ألوهية المسيح، أن الموحدين كثرة عددية، ولكن الإمبراطور قسططين ازور عنهم، وعالن باضطهادهم حتى رجحت كفة التثليث والصلب، وانهزم أريوس وأتباعه من الموحدين، واستقرت فى العالم المسيحى عقيدة أخرى. ويمتاز إنجيل (برنابا) بأنه جعل رسالة عيسى لبنى إسرائيل خاصة، وهى حقيقة أكدتها أناجيل أخرى، بعبارات متفاوتة، والواقع أن عالمية المسيحية لا ص _086(1/82)
أساس لها، وأن عيسى أكد لمن حوله أنه تمهيد لرسالة أخرى أوسع وأشمل، وأنه لم يبعث إلا لخراف إسرائيل الضالة. وكان برنابا صريحا فى التنويه بنبى الإسلام، ومؤكدا ارتقابه باسمه الصريح كما جاء فى القرآن الكريم (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين) إن عيسى كزكريا ويحيى وداود وسليمان نبى من أنبياء بنى إسرائيل، ورسالته محلية وموقوتة، أما ما انطلق به بعض التلامذة إلى آفاق العالم من تعدد وصلب فهو وهم غالب، ومسالك شخصية، يحمل أصحابها وزرها، وهى تخالف أول ما تخالف التوراة التى بين أيديهم ! وإنجيل (برنابا) لم يُعرف فى بيئة إسلامية ، بل إن أغلب المسلمين لا يعرفونه، وأول نسخة عثر عيها لم تكن فى القاهرة أو بغداد أو دمشق من عواصم الإسلام، بل كانت فى روما. ولم يقع قط خلال حروب العقائد واحتدام الجدال أن متكلما مسلما تحدث عن هذا الإنجيل أو استشهد به، وأنى له ذلك؟ والعقل الإسلامى عموما والعربى خاصة لا يحسن هذا اللون من التآليف التى تخدم غايته أو تساند رسالته، إنه يعتمد على الجدال المباشر الصريح. من أجل ذلك نؤكد أن إنجيل برنابا أحد الأناجيل التى تقررت مصادرتها قديما، حتى يستقر الأمر للأناجيل التى تصارح بصلب عيسى فداء لخطايا البشر، والتى وردت بها عبارات توهم أو تلمح إلى أنه ابن الله، أو إله مع الله. وخلال القرون الأربعة الأولى للنصرانية كانت الحرب ضارية بين الموحدين والمعددين، ولولا تدخل الرومان فى المعركة إلى جانب المعددين ما رجحت كفتهم، وانتشرت كتبهم، وما انعقدت المؤتمرات التى صبت العقيدة المسيحية فى قالبها الجديد! كأن العقائد تجىء وليدة انتخابات حرة أو مزورة!! ص _087(1/83)
ونحن نرى أن الكتاب الذى بعث به النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل؛ كان يومئ إلى تدخل السلطة فى فرض عقائد باطلة ومحو عقائد صحيحة، وإزهاق أرواح ألوف مؤلفة من (الأريوسيين) الداعين إلى وحدانية الله وبشرية عيسى. وقد ختم هذا الكتاب بالآية الكريمة (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) وقد يثير الأسى أن الضغط العسكرى الذى فتن المؤمنين قديما تحول فى هذا العصر إلى ضغط اقتصادى غادر، يستغل الأزمات لفرض الأباطيل، ويجرى خلف المستضعفين ليختلهم عن دينهم بخبث. والمأساة التى نشهدها ونحن صامتون، أنظمة اجتماعية معينة تغرق البلاد فى بحر لجى من البأساء والضراء، حتى إذا داخ الناس وسط الأنواء، جاء من يعرض عليهم النجاة باسم الأب والابن والروح القدس!! مَن صانع هذا الأنظمة الخائنة التى قامت بالتمهيد المطلوب؟ مَن مرسل المبشرين يعرضون النجاة على الغرقى؟ إنه الاستعمار العالمى أولا وآخرا! هل يلام أم نحن الملومون..؟ ص _088(1/84)
مسارب الخرافة.... فكرة إله مزدوج أو مثلث لم ينزل بها وحى، ولى يتمخض عنها فكر. أنا وأنت وعالمنا كله وليد إرادة عليا واحدة ؛ اتجهت إلى تكويننا ؛ وقدرة عليا واحدة أبرزتنا من العدم إلى الحياة، ليست هنالك قدرتان، ولا إرادتان، ولا ألوهيتان (..إنما الله إله واحد.. ). وقد يغتفر الله كثيرا من الأخطاء العقلية والخلقية، ولكنه لا يغتفر الإساءة إلى ذاته بمزاعم التعدد والإشراك.... لقد قرر ربنا أن الملكوت له والجبروت له؟ وأن ما عداه عبد له، يستوى فى ذلك كله سكان الأرض والسماء، وصدر هذا التحدى الإلهى فى الوحى الخاتم مقتحما كل زعم بأن هناك إلها آخر: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا). فمن الذى تعرض لهذا التحدى بالإنكار والمواجهة؟ لا أحد، بل قال القرآن مزدريا الآلهة الأخرى المزعومة: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) فبم ردت هذه الآلهة ؟ لم يسمع رد لأنها ليس لها وجود. ومس التحدى شخص عيسى نفسه: (قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا) ص _089(1/85)
ولم يقع تمرد فى الكون تحركت له لجج الماء أو تيارات الهواء أو موجات الكهرباء غضبا أو احتجاجا على هذا القول ؛ لأن هذه الكائنات - كشخص عيسى نفسه - عبيد تسجد أشخاصها وظلالها للرب الأعلى... إنه لا إله إلا الله، وكل ما عدا الله من إنس وجن وملك، خلقهم الله من الصفر! ما كانوا شيئا حتى شاء! وما استحق أحد منهم ثناء إلا بما أفاض الله عليه من آلاء! وهو وحده يرفع ويضع، ويعطى ويمنع، ليس لأمين الوحى جبريل، ولا لبعوضة فى مستنقع إلا استقبال القضاء الأعلى برهبة العبد القن (...حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير). وستتوقف مواكب العمران على ظهر هذه الأرض، ثم تبدأ رحلة العودة إلى الحسيب الرقيب، وستدعى الأفراد والأمم للمساءلة عن الشائعات التى صدقتها وتبعتها!. ولعل أوسع شائعة يشتد الحساب عليها ألوهية عيسى التى تألفت حولها شعوب، وتضخمت خرافات ورسمت كهانات... وقد عجل القرآن الكريم بذكر موقف من مشاهد البعث والجزاء، لعله يفيد فى ترشيد دنيانا الحائرة (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم... ) ومن النقائض الجديرة بالتأمل أن النصارى ينتظرون نزول عيسى ليرث ص _090(1/86)
الأرض ويجلس على العرش عن يمين أبيه، وأن المسلمين ينتظرون عيسى ليكذب بنفسه شائعة ألوهيته؛ ويكسر الصليب، ويأبى إلا توحيد الله تبارك اسمه. فلينتظر المنتظرون! أما أنا وغيرى من أولى الألباب فنرنو ببصائرنا إلى الفرد الصمد الذى (...إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) ويهيمن على جماهير البشر (...ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها...). القدوس الذى يستحيل أن يعاب أو يلحقه نقص أو يخرج من بطن أو تمسه محاقر التصورات المادية الهابطة، الذى خضع كل شىء لمجده، وعنا لوجهه، واستكان لأمره.. (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) ونرجع إلى موضوع بحثنا: كيف نميز الصواب والخطأ فى هذا الكتاب الذى استغرق تأليفه ستة عشر قرنا كما يروى " جوش مكدويل "؟!!. للشيخ أحمد ديدات إجابة ننقلها، ثم نذكر رأينا فيها.. قال: " لا نتردد نحن ـ المسلمين ـ فى التسليم بوجود ثلاثة أنواع من الشواهد فى الكتاب المقدس، وهو شىء لا يحتاج إلى تدريب سابق: 1ـ تستطيع أن ترى فى الكتاب المقدس ما يمكن وصفه بأنه كلام الرب. 2ـ كما تستطيع أن تتبين ما يمكن وصفه بأنه كلام نبى الرب. 3 ـ وما هو واضح أكثر، هو ما تتكون منه معظم محتويات الكتاب المقدس من تقارير لشهود عيان أو غيرهم ممن كتبوا ما كانوا يسمعون عنه، وهو ما نستطيع أن نسميه: كلام المؤرخ. ص _091(1/87)
ولا تتعب نفسك بالبحث عن بعض الأمثلة لهذه الأنواع الثلاثة فى الكتاب المقدس، فإليك السطور الآتية التى ستوضح لك ما أعنيه بالضبط: ـ النوع الأول: أ - " أقيم لهم نبيا.. وألقى كلامى فى فيه.. فيخاطبهم بجميع ما آمره به"! (سفر تثنية الاشتراع 18: 18). ب - " أنا أنا الرب ولا مخلص غيرى " (نبوءة أشعيا 43: 11). جـ- " توجهوا إلى فأخلصوا يا جميع أقاصى الأرض فإنى أنا الله وليس آخر " (نبوءة أشعيا 45: 22). لاحظوا ضمير المتكلم فى الجمل السابقة، وبدون أى صعوبة ستلاحظون أنها تبدو ككلام الرب. ـ النوع الثانى: أ- "... صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلى إيلى لم شبقتنى؟ أى إلهى إلهى لماذا تركتنى؟ " (إنجيل متى 27: 46). ب- " أجابه يسوع: إن الوصايا كلها، اسمع يا إسرائيل، إن الرب إلهنا رب واحد " (مرقس 12: 29). جـ- " فقال له يسوع: لماذا تدعونى صالحا، إنه لا صالح إلا الله و حده" (مرقس 10: 18). حتى الطفل يستطع أن يؤكد هنا أن: " صرخ يسوع " أجابه يسوع "، فقال له يسوع " هى كلمات تنسب إلى صاحبها وهو رسول الرب. ـ النوع الثالث: " فنظر عن بعد شجرة تين ذات ورق، فدنا إليها، لعله يجد عليها شيئا من ثمر، فلما دنا عيسى لم يجد إلا ورقا... " (مرقس 11: 13). ومعظم الكتاب المقدس " يتكون من هذا النوع الثالث، وهى كلمات شخص ثالث، فإذا لاحظت الضمائر الموضحة تجد أنها ليست من كلام الرب أو ص _092(1/88)
نبيه بل كلمات مؤرخ " وهذا ضابط لا بأس به، ولكنه كما يقول علماء المنطق: ليس جامعا ولا مانعا!! فقد رأينا كلاما يصدر عن الله يستحيل صدوره عنه، مثل ما أوردناه فى صدر هذا الكتاب أن الله خشى أن يأكل آدم من شجرة الحياة فيخلد معه، ومن ثم طرده من الجنة! إن الله لا يخشى شيئا، والخلود لا يجىء من أصل شجرة معينة، والكلام كله تصوير مختلق لمعنى باطل. وقد رأيت كيف أجرى يوحنا كلاما علي لسان عيسى أنه والإله من أصل واحد!! مع ما ورد فى الأناجيل الأخرى من أن الله واحد، وهو وحده الصالح، وما عداه دونه... أما تعليقات المؤرخين، وما يشبهها من حشو فهذا ركام كثيف... والضابط الأمثل هو النظر فى الكتاب كله على قاعدة أن ما لا يليق بذات الله ولا بأنبيائه مرفوض... إن الله أهل الكمال كله، فكل ذرة من نقص تنسب إليه تتدحرج من تلقاء نفسها إلى النفايات المستبعدة ، كما أن أنبياءه يستحيل اختيارهم من بيئة ساقطة المروءة خسيسة المعدن، ومن ثم فوصمهم بالخنا أو الغدر لا مكان لقبوله.... وهناك أسفار تنفست فيها الغريزة الجنسية بشبق منكر، لا ندرى كيف وضعت فى كتاب دين!! مثل نشيد الإنشاد لسليمان، ودعك من الرؤى الهائمة التى لا توصف إلا بأنها أضغاث أحلام... ! ص _093(1/89)
متناقضات... يرى المسلمون أن فى تراث القوم حقا وباطلا، وخطأ وصوابا، وأنه لابد من ميز الخبيث من الطب. فالله حق، ولكن القول بأنه تعب بعد خلق العالم باطل! وعقابه للمجرمين عدل، فالزعم بأنه أحس ندما بعد ما أغرق بالطوفان قوم نوح لا أصل له. وقد أرسل ملائكته لإبراهيم برسالة معينة، فالقول بأنه ذهب معهم إلى إبراهيم وتناولوا جميعا الغداء ضرب من السخف. وإلغاء الرجم والقصاص وإباحة الربا مع سائر الشعوب كلام مقبوح، فإن يك اليهود قد أماتوا أحكام السماء ؛ فإن محمدا بعث لإحيائها (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك...). وقد حوت كتب القوم قصصا هابطة ، تزين للناس اقتراف الآثام مادام الأنبياء الكبار يقترفونها.. أما القرآن الكريم فقد سرد سير النبيين سردا صادقا، وأبرز ما فيها من شرف وسناء.. وكل متأمل لقصة يوسف فى القرآن الكريم ؛ يرى كيف ظل يوسف داعيا إلى الله، معتصما بالفضيلة، مترفعا عن الدنايا، وكيف انتهت حياته بهذا الدعاء الرقيق (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) ص _094(1/90)
ويوسف أشرف ابن لإسرائيل، أما العهد القديم فيذكر القصة على نسق آخر، وهو يحسب بنى إسرائيل قد خلقوا من طينة أخرى غير طينة البشر..! إن الشيخ رحمة الله الهندى فى كتابه " إظهار الحق " أحصى مائة اختلاف تاريخى بين الأخبار التى ذكرها الكتاب المقدس، وواجه بها مناظريه من قادة التنصير فخرسوا، وما استطاع أحدهم جوابا، وهذا الكتاب ينبغى أن يعاد طبعه، وتشرح حقائقه، وترتب على نحو يفيد المعاصرين. ويقول الشيخ محمد أبو زهرة: إن دعوى الإلهام فى تأليف الكتاب المقدس باطلة، لا لأنها عارية عن دليل، بل لأن البينات قائمة ضدها.. لو كان الكتاب بإلهام إلهى لكان صادقا فيما أخبر به، وما وجد الباطل منفذا يليه. ولنذكر بإيجاز شديد ـ نماذج للأخطاء الفادحة التى تسللت إلى هذا الكتاب.. هناك ستة أخطاء فى نسب المسيح، شرحها الشيخ (رحمة الله) على هذا النحو : فى إنجيل " متى " أن يوسف بن يعقوب، وفى " لوقا" أنه ابن هالى! فى " متى" أن عيسى من أولاد سليمان بن داود، وفى " لوقا" أنه من أولاد ناثان بن داود. يقول " متى" : إن جميع آباء المسيح سلاطين مشهورون، ويقول "لوقا" : إنهم ليسوا سلاطين ولا مشهورين، ما عدا داود وناثان.. يعلم من " متى " أن سلتال بن بكينا، ويقول لوقا : إن سلتائيل بن نيرى. ويفهم من " متى " أن اسم ابن زربايل أبيهود، ومن " لوقا" أن اسمه ريسا. والغريب أن فى السفر الأول من أخبار الأيام من كتب العهد القديم جاء ذكر هذا النسب، وليس فيه أبيهود ولا ريسا، فكلا الإنجيلين ص _095(1/91)
خطأ. 6- وذكر " متى " أن من داود إلى المسيح ستة وعشرين جيلا، على حين يذكر " لوقا" أن عدد الأجيال واحد وأربعون!! فأيهما أصح؟؟ وأيهما كان بإلهام؟ الواقع أن هذه التآليف جميعا بعيدة عن العصمة... ويطرد الخلاف فى ذكر الأحداث على نحو مثير، فمثلا: ما جنسية المرأة التى استغاثت بالمسيح ليشفى ابنتها؟ يقول متى: إنها كنعانية، لقيته فى الطريق مسترحمة ! ويقول لوقا: إنها فينيقية سورية، أتت إليه وهو يريد الاختفاء فى أحد البيوت ليستريح... أى الخبرين أصح؟ أو أى الخبرين كان من عند الله؟ أو أن الله أوحى بالخبرين معا؟ وتقرأ خبر القبض على المسيح لمحاكمته، فترى السياق فى إنجيل "متى" مخالفا السياق فى إنجيل " يوحنا" ففى الأول أن تلميذا خائنا هو الذى قاد الشرطة، ولما كان رجالها لا يعرفون عيسى! فقد قال لهم: من أقبل يده فهو المطلوب! وهاك القصة من الإصحاح السادس والعشرين! وفيما هو يتكلم إذا يهوذا ـ واحد من الحواريين الإثنى عشر ـ قد جاء ومعه جمع كبير بسيوف وعصى، من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب ـ والخائن ـ الذى أسلمه أعطاهم علامة قائلا: الذى أقبله هو هو، أمسكوه!! فتقدم إلى يسوع وقال: السلام يا سيدى وقبله أ فقال يسوع: يا صاحب، لماذا جئت؟ حينئذ تقدموا وألقوا أياديهم على يسوع وأمسكوه ".. أما إنجيل يوحنا فقد سيق الخبر فيه على النحو الآتى: " أخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفريسيين، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع ـ وهو عالم بكل ما يأتى ـ وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصرى، قال لهم: أنا هو ـ وكان يهوذا واقفا معهم - فلما قال لهم: إنى أنا هو؟ رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض، فسألهم أيضا: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصرى! أجاب يسوع: قد قلت لكم: إنى أنا ص _096(1/92)
هو..الخ ! والخلاف ظاهر بين الروايتين، يقول الشيخ محمد أبو زهرة: " الواقع أن من يراجع الأناجيل فى قصة القبض على المسيح وحبسه ومحاكمته وصلبه، ثم قيامته من قبره ؛ يجد الاختلاف بينا فى أخبارها، ولو كان بعض هذا الاختلاف فى شهادة اثنين على درهم، ما ثبتت بشهادتهما دعوى، وما انتصر حق ". وفى نهاية يهوذا الخائن يقول " متى ": إنه انتحر خنقا، ويقول " لوقا " إنه خر على وجهه وانشق بطنه وانسكبت أحشاؤه كلها فمات " ونقول نحن: أى الرجلين نصدق؟؟ وانفرد " متى " بحكاية رواها عند صلب المسيح قائلا: " صرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل ينشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت ؛ والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين، أما قائد الحراس المائة والذين معه عند القبض على المسيح فإنهم لما رأوا الزلزال وما كان؛ خافوا جدا وقالوا: حقا كان هذا ابن الله ". يقول الشيخ محمد أبو زهرة : " وهذه حادثة عظيمة لو صحت لدونها التاريخ العام الذى لم يشر إلى المسيح بكلمة، ولو صحت أيضا لآمن الرومان واليهود، الصخور تتشقق، والأرض تزلزل، والأموات ينشرون، ويسيرون على الأرض، ويراهم الكثيرون، ويبقى بعد ذلك مساغ لإنكار، ولكن لم ترد أخبار بإيمان أحد من اليهود على أثر تلك البينات الباهرات، ولقد جزم العلامة المسيحى نورتن بكذب هذه الحكاية، وقال فى تكذيبها: " هذه الحكاية كاذبة، والغالب أن أمثال هذه الحكايات كانت رائجة فى اليهود بعد خراب أورشليم، فلعل أحدا كتب هذه الحكاية فى حاشية النسخة العبرانية، وأدخلها الكتاب فى المتن، ص _097(1/93)
وهذا المتن وقع فى يد المترجم، فترجمها كما وجدها ". ونقول: لعل كثيرا مما فى المتن أصله فى الحاشية، ثم نُقِل نقْلَ خطأ فى المتن، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون هذا الكتاب وأشباهه مصدرا لاعتقاد جازم، وإيمان بدين؟ وكيف يزعم زاعم أن هذا الكتاب بحواشيه الدخيلة غير المعلومة من متنه الأصيل هو بإلهام من الله العلى القدير؟؟ ص _098
المسلمون أتباع الأنبياء جميعا مع ما فى الكتاب المقدس من أخطاء تحصى بالمئات، ومع فظاعة التهمة التى يدندن حولها، من أن لله شريكا، أو أن للناس ربا غيره؛ فإن مبشرا مسكينا ألف كتيبا عن عصمة التوراة والإنجيل ؛ صدَّره بكلمة عن المسيح الذى خلقه الله فى بطن مريم بأمره وحده، وقال فى شأنه (..إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه... ) ثم نصح النصارى بقوله: (فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا). لكن المبشر المسكين يكتب هذه العبارة فى وصف عيسى : " كلمة الله حية، وفعالة، وأمضى من كل سيف ذى حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل، ومميزة أفكار القلب ونياته ". وعيسى عليه السلام أفضل من هذا الكلام المبهم الموهم، هو وجيه فى الدنيا والآخرة، وسوف يقف هو وإخوانه بين يدى الله يوم الحساب لإحقاق الحق وإبطال الباطل (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب). إن هول الموقف أذهلهم، وجعل وقائع الزمن الماضى تعزب عن وعيهم ولكن الحساب لن يدع خطأ ولا خاطئا، وسينكشف الشركاء عن أصفار لا تضر ولا تنفع وسيمضى المشركون إلى مصيرهم الحتم ! إن القرآن حاسم فى أن الله واحد، وأنه لا رب غيره، وأن مما عداه ص _099(1/94)
ملك له، مكلف فى الدنيا بعبادته، محاسب فى الآخرة أمامه، وآيات الكتاب كانت ولا تزال معجزة تتحدى الإنس والجن. وحشود الجماهير التى توافرت على نقلها تؤكد صدقه حرفا حرفا، وما يُعرف ذلك لكتاب من المستقدمين والمستأخرين. وقد ضحكت ـ وأنا أقرأ فى كتيب أمامى ـ أحد مصادر المعرفة فى الكتاب المقدس، يقول المؤلف: " فأخنوخ الذى ورد ذكره فى الإصحاح الخامس من سفر التكوين؛ يخبرنا الرسول يهوذا أنه كان نبيا، وأنه كان السابع من آدم، وهذا النبى لا شك كانت لديه أخبار الماضى... إلخ ". يهوذا شهد بالنبوة لأخنوخ! فمن يهوذا؟ إنه النبى الزانى الذى نقلنا قصته آنفا من العهد القديم، وبينا أنه ارتهن خاتمه وعمامته حتى يأتى بالجدى الذى تعهد بتقديمه ثمنا لزناه ! وأنه كان يزنى بامرأة ابنه وهو لا يدرى لأنها كانت منقبة !. هل تقبل شهادة يهوذا هذا فى شىء؟ لكنه شهد لأخنوخ بالنبوة والعلم فلنصدق ولنتعلم!! أهذه مصادر المعرفة لأخبار العهد القديم؟ وإذا جاء فى هذه الأخبار أن الله ما كان يدرى حتى عرف بعد جهل أو أنه ندم على إرسال الطوفان يهلك البشرية جمعاء، فهل لهذه الكلمات وزن ! إن الكتاب المقدس بقسميه ملىء بأمور جديرة بالتأمل والبحث الجيد، وقد أثبتنا ما يغنى قليله عن الكثير، ولنمض فى طريقنا ساردين الحقائق التى لا ريب فيها... نحن المسلمين نؤمن بموسى كليم الله الذى اصطفاه لنفسه وصنعه على عينه، كان نبيا صالحا، أبلى فى الله بلاء حسنا، وحارب الآلهة المزورة وربى عبادا صالحين، نصرهم الله على خصومهم، وقال فى نتائج نصره لهم ص _100(1/95)
(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون). وموسى كسائر أنبياء الله يعرف الحق ويحترمه ويتبعه حيث كان، ولذلك قال نبينا فيه: " والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى" وهذا صحيح، فالأنبياء أبرياء من جنون العظمة وعبادة الذات، وهواهم مع الله ؛ ومع من يعمل له، ولو على حساب أنفسهم. ولو كانوا كلا أو جزءا أحياء فى عصر محمد صلى الله عليه وسلم لنصروه نصرا مؤزرا وكيف يتأخرون عن نصرة الإنسان الذى يصرخ بوحدانية الله، ويقاوم الطواغيت بكل ما أوتى من قوة ؟؟ ونحن المسلمين نعد أنفسنا إخوة لأتباع موسى الذين احتفوا به، وتحملوا معه، وقال الله فيهم: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). ونحن نصدق معهم التوراة التى حكموا بها، ودعوا إليها،، قال الله فيها : (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء... ) إن المؤمنين الصادقين هم على اختلاف العصور إخوة، أما الذين بدلوا من بعد، وحرفوا الكلام عن مواضعه، فلنا عنهم حديث لاحق... والمسلمون كذلك يحبون عيسى بن مريم، ويرفعون شأن أمه، ويعلمون أنهما من آيات الله (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين). ص _101(1/96)
وقد كنت ـ وأنا أتلو الكتاب ـ أشعر بآلام مريم وفزعها وندائها وهى تعانى آلام المخاض (يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا) ما عسى أن تقوله بكر حامل إذا اتهمها الناس بالخنا واعتقدوا أن فى بطنها ثمرة جريمة مؤكدة؟؟ أى دليل يسعفها ويحسّن الظن بها، ويسقط التهمة عنها؟ ليس هناك إلا أن يتكلم الوليد فى المهد مبرئا ساحة أمه المعناة الممتحنة. وذاك ما حدث (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) ولولا أنى مسلم أومن بالله وكتابه الكريم ما صدقت أن مريم لم تتصل برجل... لكن القرآن أفهمنى أن قانون السببية توقف هنا كما توقف على نحو ما فى ميلاد يحيى، وفى مواطن كثيرة أخرى، وأن اليهود كذبة فى اتهامهم مريم بالسفاح! ورنا فؤادى إلى عيسى وهو يحاول تهذيب اليهود ! إن التدين الفاسد رذيلة مركبة، وقد حاول هذا الإنسان القوى أن يعود باليهود إلى رقة الإيمان وسماحته وخلوصه لله، بيد أن القوم ركبوا رءوسهم وعبدوا نفوسهم، ونسوا ربهم، وآثروا أهواءهم (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) نحن المسلمين مع هؤلاء الحواريين العظام، نصدق إيمانهم ونشد أزرهم، ونتبع معهم عيسى بن مريم رسول الله الصادق فى نبوته المسدد فى دعوته. ونحن من وراء النبى العربى المحمد نؤكد قولته " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم فى الدنيا والآخرة، ليس بينى وبينه نبى..". ص _102(1/97)
ونحن نؤمن بالإنجيل الذى نزل عليه من عند ربه، وبما تضمن من عظات صالحات، ونعى تسلسل الوحى الصادق فى قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور.. ) إن المرسلين يمهد سابقهم للاحقهم، ويؤيد المتأخر منهم مَن تقدموه... وإذا كان العالم كله مدرسة ينتسب إليها ألوف الطلاب، فالأنبياء أساتذة هذه المدرسة وأسرة التعليم بها، ليست بينهم جفوة ولا شحناء. والمؤمنون الصادقون فى آخر الزمن إخوة لمن جاءوا فى زمان متقدم، لا تفاوت بينهم فى عبادة الله الواحد، وصلاح النفس وشرف الخلق، ولا تفاوت بينهم كذلك فى حسن الثواب: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) والتجسيد، والإشراك، واختلاق الأباطيل على الله، والإفساد فى الأرض رذائل تتنافى مع الإيمان والعمل الصالح، وبالتالى لا يرث أصحابها الدار الآخرة. ومن المصارحات المثيرة أن القران الكريم يذكر أتباعه بهذه الحقيقة الخطيرة حتى لا يغتروا ولا يُغيروا، قال تعالى لهم: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) ص _103(1/98)
أين التوراة النازلة على موسى؟ السؤال الذى نفيض فى الإجابة عليه: هل بقى أتباع موسى على ولائهم له؟ وعملهم بكتابه؟ وهل بقى أتباع عيسى على وفائهم له وإخلاصهم لإنجيله؟ إن العلاقة بين الأسلاف والأخلاف مقطوعة. ولنبدأ باليهود! لقد أوتوا التوراة فيها الهدى والنور، فسرعان ما فرطوا فيها، ولعبوا بتعاليمها، فسلط عليهم من اجتاح أرضهم، وهدم الهيكل وأحرق التوراة، ولم تكن لديهم إلا النسخة التى كتبها لهم موسى، ولم يكونوا حفظة للوحى عن ظهر قلب ـ مثلما يصنع المسلمون مع القرآن ـ فلما حاولوا استعادتها، وكلفوا الكاهن " عزرا " بذلك، أخذ يجمع من هنا وهناك ما يحسبه نصوص التوراة، فكانت حصيلة هذا الجهد الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم. قال صاحب المنار: فجميع أسفار التوراة التى لدى أهل الكتاب كتبت بعد السبى، كما كتب غيرها من أسفار العهد القديم، يدل على ذلك كثرة الألفاظ البابلية بها. وقد اعترف علماء اللاهوت النصارى بفقد توراة موسى ـ التى هى أصل الدين وأساسه ـ قال صاحب كتاب " خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول المسيحية": والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية فى الوجود إلى الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها؟ والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرب " بختنصر " الهيكل. وربما كان ذلك سبب الحديث الجارى بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذى كان نبيا (!) جمع النسخ المتفرقة من هذه الكتب، وأصلح غلطها. وبذلك (!) عادت إلى منزلتها الأصلية ". ص _104(1/99)
قال الشيخ محمد رشيد رضا: " نحن نعلم إجابتهم عندما يسألون: من أين جمع " عزرا " تلك الكتب بعد فقدها، وعلى أى شىء اعتمد فى إصلاح أغلاطها؟ إنهم يقولون: كتب ما كتب بإلهام، فما دليل هذا الإلهام؟ وهل مع الإلهام يحتاج الكاتب إلى جمع ما بأيدى الناس الذين لا ثقة بنقولهم؟ وليته كتب الشريعة مجردة من الأخبار التاريخية التى انضمت إليها. ونقول نحن: إن الأخبار التى حوتها هذه الأسفار كانت الشاهد الأول على تسلل الكذب إليها من كل ناحية!! أكان نوح رجلا يسكر حتى يفقد وعيه؟ أكان لوط رجلا يسكر حتى يزنى بابنتيه فى ليلتين متعاقبتين لينجب من كل فهما أبناء وأحفادا؟؟ إن جملة من المفتريات تملأ سير المصطفين الأخيار من أنبياء الله، فهل هذا تأليف مقبول؟ وتتحدث هذه التوراة عن الله بعد ما خلق السماوات والأرض فتقول. " فرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل، فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقا "! ألا تحس ركاكة العبارات والتكرار الردىء الذى يزحمها؟ ودعك من هذا! ألا تحس من هذا الكلام أن الخالق تعب تعبا شديدا من المجهود الذى قام به؟ انظر إلى هذا الإسفاف فى وصف الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الأوج العالى الذى بلغه القرآن وهو ينزه الله من كل نقص وينسب إليه كل كمال (وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم) (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) ومع ذلك فالقرآن مختلق، وغير وحى أصيل ! والجنون فنون! ص _105(1/100)
وهناك تعليقات كثيرة لكتاب مجهولين، أقحمت على الأصل ثم اعتبرت منه، وصارت وهى من صنع الناس وحيا إلهيا مع تناقضها مع المعقول والمنقول. ففى سفر التكوين حديث عن الملوك الذين ملكوا أرض " أدوم " قبل أن يملك ملك لبنى إسرائيل! قال المحققون: لا يمكن أن يكون هذا كلام موسى عليه السلام، لأنه لم يكن لبنى إسرائيل ملك فى هذه الأرض.. ولم يقم لهم ملك إلا فى عهد شاول الذى جاء بعد موسى بثلاثة قرون ونصف. قال: " آدم كلارك " أحد مفسرى التوراة: أظن ظنا قويا قريبا من اليقين أن هذه الآيات كانت مكتوبة على حاشية نسخة صحيحة من التوراة، فظن الناقل أنها جزء من المتن فأدخلها فيه. وقد ذكرنا لك حديث التوراة ـ عن وفاة موسى، والتنويه به، وبكاء نسوان بنى إسرائيل عليه 40 يوما ودفنه فى قبر مجهول ! كيف يجىء هذا فى التوراة النازلة على موسى؟ إنه تعليق من الكاتب المجهول انضم إلى الأصل وصار وحيا.. وعندما كتب موسى التوراة قدمها إلى اليهود ناصحا لهم أن يعملوا بها، ومحذرا لهم من التهاون، وموبخا لهم على قساوة قلوبهم، ومنذرا بالشر الوخيم إذا لم يغيروا أنفسهم فجاء كاتب التوراة فضم نصائح موسى إلى الأصل المكتوب وعد الكل وحيا. قال صاحب المنار: جاء فى سفر التثنية أن موسى كتب التوراة وأخذ العهد على بنى إسرائيل بحفظها والعمل بها، ففى الإصحاح الحادى والثلاثين ما نصه: " (24) فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة فى كتاب إلى تمامها (25) أمر موسى اللاويين حاملى تابوت عهد الرب قائلا (26) خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدا عليكم (27) لأنى أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هو ذا وأنا بعد حى ص _106(1/101)
معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحرى بعد موتى؟ (28) اجمعوا إلىَّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق فى مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض (29) لأنى عارف أنكم بعد موتى تفسدون وتزيغون من الطريق الذى أوصيتكم (30) ويصيبكم الشر فى آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم (31) فنطق موسى فى مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه ". وههنا ذكر النشيد فى الفصل الثانى والثلاثين ـ ثم قال أى الكاتب لسفر التثنية ـ: " (44) فأتى موسى ونطق بجميع كلمات هذا النشيد فى مسامع الشعب هو ويشوع بن نون (45) ولما فرغ موسى من مخاطبة جميع بنى إسرائيل بهذه الكلمات (46) قال لهم وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التى أنا أشهد عليكم بها اليوم لكى توصوا بها أولادكم ليحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هى حياتكم وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التى أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها ". وهذا قليل من كثير من تحريف الكلم عن مواضعه، ومن تحويل كلام البشر إلى وحى سماوى! ومع ضياع أجزاء مهمة من الوحى النازل، فإن هناك إضافات لها طابع خلقى سيئ. إن الله حرم الربا لدواع إنسانية معروفة.. فجاء كاتب التوراة بنص آخر " لا تقرض أخاك الإسرائيلى بربا!! " أما سائر البشر فاستباحتهم جائزة!! وأنا أجزم بأن النصوص الآمرة بحرب الإبادة عند الانتصار على الخصوم لم يجىء بها وحى سماوى، وإنما هى من صنع قساة القلوب الذين كرهوا البشر وكرههم البشر والمأساة أنهم حولوا أهواءهم إلى دين، وتوحشوا باسم الله وهم يتعاملون مع الآخرين !. وقد جاء محمد ليكشف هذه المظالم والظلمات ص _107
(تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) ص _108(1/102)
أين الإنجيل النازل على عيسى؟ لم يكن حظ الإنجيل خيرا من حظ التوراة، بل لعله كان أردأ! فبعدما اختفى عيسى اختفت معه صحائف الكتاب الذى أنزل عليه، ولم يجد أحد أثرا لها إلى يوم الناس هذا.. والفوضى الواسعة التى أعقبت وفاته عليه السلام، ترجع إلى سطوة السلطة الرومانية، وإلى أثر اليهود بين طبقات الشعب، فقد تعاون الفريقان على مطاردة من آمن بعيسى ومصادرة ما يشير إلى تعاليمه، وظل هذا الاضطهاد أكثر من ثلاثة قرون، اختلف المسيحيون خلالها اختلافا كبيرا وظهر هذا الاختلاف فى الكتب التى قيل أن تلامذة عيسى ألفوها متضمنة تعاليمه... وقد سُميت هذه الكتب كلها أناجيل، لأن مؤلفيها شرحوا حياة عيسى، وسجلوا ما وعوا من عظاته وتعاليمه على أنها خلاصة الإنجيل الذى بشر به! وهذه تسمية تدعو إلى التساؤل، بل إلى الإنكار... فنحن ألفنا الكثير عن حياة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهل ما ألفناه يعتبر كتابا أو سنة؟؟ كلا، إن الأناجيل المذكورة كتب سيرة لا أكثر ولا أقل، وقد اختلفت فيما بينها اختلافا واسعا بلغ حد التناقض، والمروى أنها بلغت سبعين إنجيلا..!! بعضها يقوم على التوحيد، وبعضها يقوم على التثليث، وتبع ذلك اختلاف النصارى أنفسهم فى أصل العقيدة، وقد ظل هذا الانقسام إلى مؤتمر (نيقية) سنة 325 للميلاد، حتى نصر قسططين مبدأ التثليث، ومهد لذلك بجعل المسيح ابنا لله ـ مع أنه رأى قلة المؤتمرين ـ ثم جاء مؤتمر آخر فأله الروح القدس..!!. ص _109(1/103)
واعتبرت الأناجيل الموحدة كاذبة ، وبدأ عصر مصادرتها الشاملة…!! ويذكر صاحب المنار رأيا لبعض مؤرخى الكنيسة بأن عدد الأناجيل الكاذبة خمسة وثلاثون.. كما ذكر رأيا أخر لصاحب كتاب : "ذخيرة الألباب" المارونى ينكر القول بكثرة الأناجيل، ويزعم أن سبب القول بكثرتها تسمية الإنجيل الواحد بعدة أسماء، ويؤكد أن الخمسة والثلاثين إنجيلا لا تكاد تبلغ العشرين، وأحصاها كلها ذاكرا بينها إنجيل القديس برنابا.. ولنفرض جدلا أنها عشرون إنجيلا فقط، فأين ما فوق الأربعة المعتمدة؟ الواقع ا، الأناجيل التى قامت على التوحيد كانت اغلب ، وأن الأقدار حفظت إنجيل برنابا ليكون نموذجا لها، وأن الاستبداد السياسى الذى عرف به الرومان أتى عليها، وأن الأربعة المعتمدة لا تنهض على نقل صحيح ـ بله التواتر المطلوب ـ وأن أصولها وترجماتها معلقة لا يكاد يعرف لها صاحب.. ولو فرضنا جدلا أن بها خيرا فليست هى يقينا إنجيل عيسى الذى كان يقول للناس : توبوا وآمنوا بالإنجيل، والذى وردت تسميته تارة بأنه إنجيل الله وتارة إنجيل المسيح. ومعروف ـ كما قال صاحب المنار ـ أن الكتاب الإلهى ينسب إلى الله لأنه منزل ، وينسب إلى الرسول لأنه تلقاه عن ربه، فيقال : إنجيل عيسى ، كما يقال توراة موسى.. إن النصارى فى انتماءهم إلى عيسى لا يعتمدون على شيء ذى بال ، ولعل ذلك السر فى مجىء العبارة القرآنية عنهم وبها رائحة الدعوى!! قال تعالى : " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " ما أبعدهم عن عيسى ! وما أجرأهم عليه ! قال صاحب المنار : " وقد اشتد اليهود فى عدواتهم ومطاردتهم ، فلم تكن لهم هيئة اجتماعية ذات قوة ص _110(1/104)
وعلم؛ تدون ما حفظوه من إنجيل المسيح وتحفظه، ويظهر من تاريخهم وكتبهم المقدسة أن كثيرا من الدعاة كانوا يبثون بين الناس فى عصرهم تعاليم باطلة عن المسيح، ومنهم من كتب ذلك، حتى إن الذين كتبوا كتبا سموها الأناجيل كثيرون جدا، كما صرحوا به فى كتبهم المقدسة وتواريخ الكنيسة. وما ظهرت هذه الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم الآن إلا بعد ثلاثة قرون من تاريخ المسيح عندما صار للنصارى دولة بدخول الملك قسطنطين فى النصرانية، وإدخاله إياها فى طور جديد من الوثنية!! وهذه الأناجيل عبارة عن تاريخ ناقص للمسيح، وهى متعارضة متناقضة، مجهولة الأصل والتاريخ، بل وقع الخلاف بينهم فى مؤلفيها ؛ واللغات التى ألفوها بها، وقد بينا فى تفسير أول سورة آل عمران حقيقة إنجيل المسيح وكون هذه الكتب لم تحو إلا قليلا منه، كما تحتوى السيرة النبوية عندنا على القليل من القرآن والحديث، وهذا القليل من الإنجيل قد دخله التناقض و التحريف. وقد أورد الشيخ رحمة الله الهندى فى كتابه " إظهار الحق " مائة شاهد من الكتب المقدسة عند اليهود والنصارى على وقوع التحريف اللفظى والمعنوى فيها ". إن القدامى والمحدثين من علماء الإسلام ومقارنة الأديان نقدوا النصرانية سندا ومتنا، وكشفوا عن كثير مما يكتنف عقائدها من ريب، واليوم ونحن فى القرن العشرين للميلاد نقرأ للمحققين المسيحيين ما يؤكد رأينا، ويصدق علماءنا، لقد ألف اللواء المهندس أحمد عبد الوهاب كتابا أسماه "اختلاف فى تراجم الكتاب المقدس " اعتمد فيه على وثائق أثبتها لمحققين مسيحيين، تشير إلى تفاوت رهيب فى هذه التراجم تمس صميم العقائد المسيحية!! قال تحت عنوان " صيغة التثليث ": " وردت هذه الصيغة فى رسالة يوحنا الأولى ـ الإصحاح الخامس: العدد 7 ـ وكانت تعتبر النص الوحيد ـ فى الكتاب المقدس ـ الذى يعطى الأساس لعقيدة التثليث التى تقول بأن الثلاثة: ص _111(1/105)
الأب، والكلمة، والروح القدس هم واحد! لكن التراجم الحديثة للكتاب المقدس حذفتها باعتبارها نصا دخيلا أقحمه كاتب مجهول منذ قرون... يقول كتاب: " هل الكتاب المقدس حقا كلمة الله؟ " الذى طبع فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1969، ثم فى بيروت، بالعربية عام 1971، ويوزع كرسالة تبشيرية، فى صفحة 160 ـ وهو يتحدث عن الترجمات المختلفة المتلاحقة التى من شأنها تنقية الكتاب المقدس مما يكون قد علق به من أخطاء نتيجة لقصور الترجمات السابقة ـ ما يلى: " بمقارنة أعداد كبيرة من المخطوطات القديمة باعتناء، يتمكن العلماء من اقتلاع أية أخطاء ربما تسللت إليها. مثالا على ذلك: الإدخال الزائف فى يوحنا الأولى، الإصحاح الخامس، فالجزء الأخير من العدد 7، والجزء الأول من العدد 8 يقول ـ حسب الترجمة البروتستنتينية العربية، طبع الأميركان فى بيروت، ونقرأ فى الترجمة اليسوعية العربية شيئا مماثلا ـ : (فى السماء.. الأب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون فى الأرض هم ثلاثة). ولكن طوال القرون الثلاثة عشر الأولى للميلاد، لم تشتمل أية مخطوطة يونانية على هذه الكلمات، وترجمة " حريصا " العربية تحذف هذه الكلمات كليا من المتن، والترجمة البروتستنتينية العربية ذات الشواهد تضعها بين هلالين، موضحة فى المقدمة أنه ( ليس لها وجود فى أقدم النسخ وأصحها) وهكذا تساعدنا الترجمات العصرية للكتاب المقدس على الوصول إلى المعنى الصحيح لما نقرأه ". تقول ترجمة الكتاب المقدس للكاثوليك: " لأن الشهود فى السماء ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والشهود فى الأرض ثلاثة الروح والماء والدم، وهؤلاء الثلاثة هم فى واحد ـ 1 يوحنا: 7-8". وتقول ترجمة الكتاب المقدس للبروتستانت: " فإن الذين يشهدون فى ص _112(1/106)
السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون فى الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم فى الو ا حد ". وإذا رجعنا إلى التنبيه الذى وضعته هذه الترجمة فى مطلعها نجده يقول فى الكلمات التى توضع بين هلالين أو قوسين ما يلى: " والهلالان () يدلان على أن الكلمات التى بينهما ليس لها وجود فى أقدم النسخ وأصحها ". أى أن صيغة التثليث هذه فقرة مزيفة من عمل كاتب مجهول...)). وهذه المحاولات- وإن ظهرت ذات طابع علمى- لت تغنى عن الحق شيئا.. فإن العقائد المتوارثة بين النضارى نبت! فى الأرض، ولم تنزل من السماء، وهى وليدة مؤتمرات بشرية أشرفت عليها سلطات وثنية، ولو افترضنا- كذبا- أن لها أسانيد قائمة فإن متونها تصادم العقل والمنطق، وتجعل الدين مرادفا للأساطير والخرافات... وهذا سر الصراع بين الدين والعلم، وص الشقة الواسعة بين الحضارة المنشودة- وما يصبو إليه رجال الكهنوت... إن العلمانية لا رواج لها إلا فى عا لم تقوده النصرانية، وتحتكر فيه الحديث عن الدين.. ورواج العلمانية- من جانب آخر- إجابة صادقة لما كتبه أبو الحسن الندوى تحت عنوان: " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين "؟ إن تخففص الدين الحق فسح الطريق للأوهام والخرافات!! ص _113(1/107)
وسائل التنصير المعاصرة..! من الصعوبة بمكان أن يرتد مسلم عن الإسلام إلى النصرانية،؟ أنه من الصعوبة بمكان أن يرتد طالب جامعى إلى التعليم الابتدائى، أو يتحول عالم ذرة إلى العمل بمعبد هندوكى!!. إن المستوى الذى يبلغه المسلم فى مجال العقيدة بم ومعرفة الله؟ يتجاوز بمراحل شاسعة المستوى الدينى الذى يقف عنده أليهود والنصارى! ومن ثج فإن الارتداد لن يكون عودة إلى الوراء، وإذا حدث لأمر ما فسيكون انسلاخا عن الدين كله، وبعدا عن تعاليم الأنبياء أجمعين... وقد تقع صور للارتداد لا تمث إلى طبيعة الإيمان ومنطقه كارتداد تجتقة ابن الائقم عن الإسلام إلى النصرانية، فقد كان أميرا يجر ثوب الإمارة وراءه، فداس عليه أعرابى سادج، فتحول إليه جبلة ولطمه، وبلغت القضية عمر ابن الخطاب فأوجب القصاص! واستنكر جبلة الحكم: كيف. يقتص من أمير لسوقة؟ وهرب متنصثرا إلى الشام، وعندما بردت جذته ندم على قعلته وقال: تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر تكئفنى منها لجابخ ونخوة وبعت لها العين الصحيحة بالعور فياليت أمى لم تلدنى وليتنى رجعت إلى الأمر الذى قاله عمر وقد يبيع امرؤ دينه فى مقابل ما يراه خطيرا من رغبة أو رهبة! ولكن هذه النوادر لا حساب لها، فإن اكتراثنا هو للموازنة الحرة، والإيثار الغالب، بعيدا عن سوق المساومات.. ومن ثم فلست أخاف على الإسلام من جهود الفنصئرين، مهما اشتدت، فهى إلى بوار! ص _114(1/108)
لكن هناك أساليب أخرى جربها الاستعمار العالمى، وأعان بها الاستشراق والتبشير إعانة مخوفة، وهى التى نتحدث عنها هنا. والمحور الذى تدور عليه هذه الأساليب؟ فصل المسلم عن دينه بطرق شئ!ا، وتجغله يستقبل الحياة الحديثة فارغ القلب من عقيدة، عالي ئ السلوك من عبادة وخلق، شاعرا بوحشة البعد عن اللة ووصاياه... وبذلك يتحول إلى هدف سهل للمنص!رين، إنهم والحالة هذه لم يصطادوا مسلما، بل استولوا على امرىء شريد، لا قلب له ولا مأوى.. وتكوين هذه الشخص هدف أوربا وأمريكا، تساعدهما على تحقيقه الحكومات العلمانية التى تزعم التسوية بين الأديان، وهى تركب الصعب والذلول لتوهين الإسلام وآدابه وشرائعه وقيمه. الاسلام وحده هو الذى لا يجوز الانتماء إليه، ولا الولاء له، ولا الحنين إلى استعادة مظاهره فى المجتمع والدولة.. والاستعمار العالمى يتبئى هذه الغاية س ا وعلنا، ومع أنه يوثر الرقة في الوصول إلى أغراضه إلا أنه يستسهل الاغتيال إذا وجد نفسه مضطرا إليه، وهو يتبنى أشخاصا معينين لتحقيق مآربه!! كانت مراحل التعليم الأؤلى يدرس فيها خريجو مدارس المعلمين الذين يلتحقون بها وهم حفاظ للقرآن الكريم، وربما درس معهم خريجو المعاهد الأزهرية، فكانت بيئة هذا التعليم عربية إسلامية.. حتى جاء الدكتور طه حسين، وجعل المدرسين من خريجى معاهد أخرى تنتسسب للتعليم العام، وبذلك، وبجرة قلم، وفى هدوء غريب؟ طاح التعليم الأؤلى العرلى الإسلامى، وحل محله تعليم آخر، للدين واللغة فيه مكان ثانوى!! وانتقلت التجربة إلى أغلب الأقطار الاسلامية! والواقع أن بدعة ازدواج التعليم شديدة الخطر على مستقبل التعليم كله، وبقاؤها هو لمصلحة الكارهين للإسلام، الخادمين للتنصير.. ص _115(1/109)
والثمرة العاجلة تخرج أطباء ومهندسين وصيادلة ومحاسبين؟ وأدباء ومديرين، تصترهم بالإسلام كليل، ومعرفتهم به ضحلة، ودفاعهم عنه مشلول، وتطيقهم له صفر! وفى هذا الجو تنطلق أفواج المبشرين، ويكتب أصحاب الأقلام المسمومة وتنتشر جراثيم الفتنة، وتنتظر أوربا وأمريكا الحصاد..! يالك من فئرة بمعمر خلالك الجوفبيضى واصفرى و!ثرى ما شئت أن تنقرى لابد يوما أن تصادى فاصبرى إن الاسلام لا ينهزم أبدا فى ميدان متكافىء، وإنما تنزل به الكوارث فى ميدان ذل فيه دعاته، واسئبجد فداته، وتوئى رغى الشعوب فارغو القلوب و ا لعقول.. وتئم أمر آخر: هو استغلال الأوضاع الاقتصادية المضطربة بم لاستمالة الفقراء وفتنة المترفين! فى بقاع كثيرة من دار الإسلام وجد البائسون اليائسون، ووجد الأغنياء المستغلون وقد استغل التنصير هذا التفاوت لمصلحته! لا سيما بعد تلقى تعليمات مشددة أن يبتعد عن الجدل الدينى، وأن يكتفى مثلا بتقديم العون الصحى والاجتماعى للمحتاجين! مؤكدا لطالبيه أنه عون مجرد من " يسوع " الذى ئجير المستجيرين ويعطف على المساكين.. وقد قامت مؤسسات ضخمة ئ!لإى العون لطالبيه على هذا الأساس، وترقب فى أمل رد الجميل، وقبول صداقة الاشاة الماكرين.. ؟ أن عددا من أبناء المترفين فى الداخل والخارج عايق للعربدة والتسول الجنسى، وكان ظهيرا ضد بلاده ودينه للعداة المتربصين. والأقليات الاسلامية فى العا لم تتآكل تآكل اليابسة أمام الاجج العاتية، وتكاد تعجز عن المقاومة، وهى لا تجد عونا من أحد! وكأن القدر حكم على أغنيائنا بإنفاق المليارات فى الهباء، عقوبة لهم على الصخن بها فى سبيل الله ص _116(1/110)
وحماية إخوانهم المنكوبين إننى أرقب قادة التنصير وهم يدرسون على مهل خططهم فى تدويخ أضتنا وزحزحتها عن عقائدها، بيد أفى اع د أنفجر حين أرى حصوننا مهذدة من الداخل، وأرى العلم الدينى عندنا بالغ العجز ظاهر السفه وهو يواجه الدنيا.. هذا عالم أزهرى أحاول أن أقيمه فى المحراب فإذا هو عاجز عن تلاوة القرآن، وإذا أصعدته المنبر لغا كثيرا، و لم يقل شيئا.. وهذا عالم آخر يقيم الحروب من أجل فرعيات لم يقف عندها السلف الصالح، وهو يرفض العلم الصحيح ويكذب العلماء- بالجملة- فيما يحكون من تجاربهم. إن هذه افاذج من علماء المسلمين ئخرج الناس عن وعيهم، وتمهد الطريق أمام قادة التنصير ليبلغوا أغراضهم.. من المسئول عن تكوين هؤلاء وهؤلاء؟ إنهم معروفون! وما أظن أننا سوف نحسن تحصين ثغورنا ما بقيت هذه الخيانات، وما بقى " علماء" السوء ينفثبرن جهالتهم حيث يتكلمون.. ص _117(1/111)
نموذج للتنصير الرممى.. أرى تنوير! للأذهان، وتحذيرا من الأخطار، وحماية للعا لم الإسلامى أجمع أن أثبت هنا مقالا نشرته صحيفة الراية القطرية تحت عنوان: " ماذا فى أند و نيسيا..؟ ". والمقال كتبه بالانجليزية الشيخ أحمد ديدات، فى العدد العاشر من صحيفة البرهان سنة 1410! يونيو سنة 1990، وهى تصدر عن مركز الدعوة الإسلامية فى جنوب إفريقية، وتولى ترجمته الدكتور درويش مصطفى الفار مدير المتحف الوطنى بقطر. عندما تبارى الملام المشهور " محمد على كلاى " مع الملام " جورج فورمان " اخترع استراتيجية جديدة للحصول على لقب بطل العا لم فى الوزن الثقيل، حيث أغرى فورمان بمهاجمته (أى محمد على)، منذ اللحظة الأولى، بينما لجأ محمد على للارتماء على حبال الحلقة، حتى إذا ما استوثق أن فورمان قد تعب قلب عليه المنضدة،؟ يقول المثل، وأوسعه لكما حتى أطاح به وحصل على اللقب العالمى: وأطلق محمد على بم على تلك الطريقة اسم استراتيجية (التخدير بالحبل). وفى تحرك كذلك الذى ابتدعه محمد على نجد النظام الأندونيس!ا الحام يقلب المنضدة على المائة والخمسين مليون مسلم، وأقلية من عشرين مليون نصرافى، وكان أجرأ ما صنعه هذا النظام على أعين الناس احتفاله لمدة خمسة أيام كاملة بزيارة البابا " بول الثافى " الكاثوليكى العتيد، حيث عومل البابا فى أندونيسيا؟ يعامل رؤساء الدول، وذلك مع تغطة إعلامية رهيبة… واعتبر الكاثوليك البالغ عددهم 5 مليون فى أندونيسيا زيارة البابا مناسبة كبرى للاحتفال بذكرى الاجتماع الكنسى الأندونيس!ا فى 31/ 9/ 1979 ص _118(1/112)
الذى وقع فيه المسيحيون هنالك اتفاقا، رعوا فيه جميعا استراتيجية ترنو إلى أن تصبح أندونيسيا كلها نصرانية سنة 2029، وأطلق الاسم الحركى "(عملية الاستئصال " على ذلك الاتفاق إ! وهذا البرناج يحمل كل السمات التى تؤكد الانتصار المسيحى فى نحططه، وتتلخص نقاط ذلك الخطط فيما صلى: ا- العمل الجاد الفعال على تطبيق تعليمات " تحديد النسل " وقوانينه على المسلمين، ومنع المسيحيين من تطبيقها على أنفسهم. 2- يجب تسهيل فرص العمل للمسيحيين، وتضييق الخناق على المسلمين. 3- يجب تسهيل حصول المسيحيين على الأراضى والقروض لإقامة المنشآت، ولابد أ! يسهم أغنياء المسيحيين فى برناج "عملية الاستئصال ا للتأكد من رفع المستوى الأجتماعى للنصارى. 4- لابد وأن "يصبح 75% من المدرسين والمعلمين دنى المج! والطب والهندسة؟ والتقنيات الحكومية من المسيحيين.. ولابد من دفع المتعلمين المسلمين إلى الاضمحلال بل والزوال. 5- لابد أن يعطى المسيحيون أصواتهم لحزب 9 جولكار " الذى ينتمى إليه النظام الحام فى أندونيسيا وهو حزب موال لأمريكا ولحركة التنصير العالمية، ويحصل على معونات ضخمة من أمريكا. 6- لابد أن يسيطر المسيحيون على 75% من وسائل الإعلام، الصحافة والاذاعة والتلفاز، لأن هذه من أفتك الوسائل وأنجعها لتفتيت صفوف المسلمين ووحدتهم. 7- وحيث إن أغلبية القضاة والمدعين العامين فى أندونيسيا اليوم من المسيحيين؟ فلابد أن يأخذوا أوامر وتعليمات تقضى بأن يكون الحكم دائما ضد المسلم إذا تقاضى مع مسيحى، حتى ولو كان المسيحى مذنبا إ! 8- وكقاعدة ومبدأ، فإن جميع المسيحيين فى المناصب الحكومية، من الوزارء والولاة والعسكريين لابد وأن يقسموا يمين الولاء أمام الأساقفة. ص _119(1/113)
9- تؤجل مسألة الخلافات المذهبية بين الفرق المسيحية الختلفة إلى ما- بعد تنصير أندونيسيا كلها حسب انحطط!!! وتعتبر زيارة البابا تتويجا للنجاح الذى وصلت إليه " عملية الاستئصال " التى بدأت منذ عشر سنوات 1980 م. ويوجد اليوم فى أندونيسيا عشرة آلاف صليبى مجند للتنصير، وهنالك سفينتان تنصيريتان فى المياه الإقليمية الأندونيسية هما (دولوبى " و ا لوجوس! تتجولان باستمرار فيما بين الجزر الأندونيسية الألفين، تذيعان فقرات من الإنجيل والتعليمات التنصيرية: (وقد تم حتى الآن تنصير أكغر من خمسة عشر مليون مسلم أندونيسى). ويحتل النصارى فى أندونيسيا اليوم كل مراكز القوة، بما فيها وزارة الدفاع، حيث وزيرها هو الجنرال ا بينى موردافى " الذى يتصدر مع جلاوذة ض ا.ت " كوباسوس! كل عمليات القمع والعنف ضد النشاطات الإسلامية!! وقد قتل بيده ذات مرة ستين شابا مسلما!! وهنالك سعى للتعتيم على كلمتى " إسلام " أو " اللة " بيما تشيع الألفاظ النصرا نية أو حتى الوثنية مثل تعليمات ديا نة! البا نكاسيلا" ورئيس النظام الأندونيسى- وهو متزوج من امرأة مسيحية- يحتفظ بالحكم فى أندونيسبيا اعتمادا على المساعدات المسيحية، وهو ينطبق عليه المثل الفرنسى: " إن النساء يمكنهن فعل أى شىء، لأنهن يحكمن أولئك الذين يحكمون كل شىء " فليس غريبا أن نجد البابا يشجع النصارى فى أوندونيسيا على معاونة الرئيس طوال أيام زيارته ،لخمسة إ! ولم يجد البابا السعادة التى لقيها فى أندونيسيا فى أى مكان بالعالم حتى الآن إ إ! حيث وجد 150 مليون مسلم مسالمين ئقذمون له على طبق من حكومة تسيطر عليها أقلية نصرانية، وتؤكد لقداسته أنها تمنع منعا باتا أئ نشاط إسلامى ولا تسمح به... نعم قد يتصارع الرؤساء والبابوات ولكن ليس فى أندونيسيا حيث إن ص _120(1/114)
أندونيسيا اليوم فى زمن (الحبل والبابا). وتنقل " الراية " ترجة هذا الذى نشرته المجلة (الجنوب إفريقية) الاسلامية لكى يكون معلوما لدى كل مسلم، ثم تقول نقلا عن أحمد ديدات: إن الجهاد من أجل الإسلام ليس اليوم وقفا على القتال بمالسلاح فى فلسطين وأفغانستان، إن الذى يحدث فى أندونيسيا بالنسبة للاسلام لا يقل خطرا عما يحدث هنالك فى بلاد الأفغان وفى فلسطين.. فيا أيها المسلمون، اتقوا اللة فى إسلامكم.. وليس المطلوب اليوم إعلان الحرب على حكومة أندونيسيا التنصيرية، وليس أمرها فى حاجة إلى حمل السلاخ! المطلوب أن تقف كل حكومة إسلامية من حام أندونيسيا الموقف الذى تئرذغه هو وزوجته عما يقومان به للتنصير فى مخططه الؤهيب " صملية الاستئصال! ب لمقاطعة الاقتصادية مثلا إن الرئيس الأندونيسى وأمثاله ومن على شاكلته أخطر على الإسلام وأولى بالمجاهدة من نجيب اللة وإسحاق شامير لأن الأخيرين على الأقل واضحان وضوح الشمس وليسا متخفيين بم لحية الرقطاء! وتوجد دنى جنوب أوربا دولة ألبانيا الإسلامية التى كان يحكمها إلى عهد قريب ملك مسلم اعه أحمد زوغو، وقد أطاحت به الحرب العالمية الأخيرة، ثم تئم بالحديد والنار محو الاسلام منها، وتغيير كل شىء فيها...! اكثر من أربعة أخماس السكان مسلمون، وأرضهم ملأى بالمساجد.. ولكن عقب الحرب الأيضرة؟ أعطى الحلفاء هذه الدولة لروسيا، بعد ما اقتطعوا منها ولاية " كوموفو " التى ضئت ليوغوسلافيا، ولم يكن حظ القسم المقتطع أحسن حالا من الكيان الكبير، فإن الشيوعية فتكت بهما معا، وأنزلت بأهليهما أشد الهوان! كتب لنا المسئولون عن " جميعة أخوة الإسلام " بتيرانا! عاصمة ألبانيا، فبذة عما وقع لهم أخيرا فقالوا: إن ألبانيا غنرتت عن العالم كله من خمسين ص _121(1/115)
سنة، خرمت خلالها من أى ضوء لعقيدة دينية، وفرضت قطيعة تامة بين مسلمى ألبانيا وغيرهم من العرب وغير العرب إ!. وغلقت جميع المساجد بأمر الدولة الحمراء، فلم يبق فى طول البلاد وعرضها إلا مسجدان لا تقام فيهما صلاة؟ لأنهما للسائحين فقط!! ولما كان المسلمون هم كثرة السكان فإن قسطهم من العذاب والاضطهاد كان مضاعفا، لا سيما وأصواتهم ئختيسة، ولا يوجد وراء الحدود من يسأل عنهم أو يهغ بهم أو يقدر جهادهم أو يبكى شهداءهم. واستطرد رئيس الجمعية يقول: فمنذ عام 1944 انقطعت صلات ألبانيا بالعرب، والحكومات العربية والإسلامية، وعندما تهاوت الشيوعية وبدأ الانفتاح على العا لم؟ عرض العا لم الغرلى بسرعة رهيبة مساعداته، وأعلنت الفاتيكان وبعض الكنائس القريبة عن الاستعداد لتقديم كل العون بشرط أن يغير المسلم احمه وعقيدته، وهم يقومون بالدعاية بين الشباب، يقولون: إن أجدادم كانوا مسيحيين أصلا، وإنكم دخلغ فى الاسلام تحت الضغط العثمافى، وأنغ الآن تعودون إلى الحرية، فعودوا إلى دين أجدادم، ونحن معنا ما يصلح دنيا آ فهئا عودوا إلينا. الآن وبعد خمسين عاما من تجربة!الشيوعية تثم تدمير الناس اقتصاديا، وققذ جيلان فؤئتهما، ويتراوح الدخل الفردى للبسطاء من 40- 80 دولارا، والعمال من 100- 200 دولار، والمثقفين من 200- 300 دولار أمريكى فى العام. والأسواق خالية من السلع الضرورية، وابخبز غالى الثمن، ولبن الأطفال مفقود، وكل شىء مهيأ لعمل البعثات التبشيرية التى تقدم الطعام والدين معا إ! ويقول رئيس الجماعة: فى سنة 1944 كانت نسبة اللصوص قليلة، ومع فقدان التربية وغيبة الاسلام، وانتشار الكفر ارتفعت ن!بة السرقات إلى 95% شة 1990، وذلك يعنى أن ما بناه الإسلام من فضائل خلال قرون ص _122(1/116)
مضت قد تلاشى . ومع بداية الديمقراطية كان التبشير أسرع شىء إلى انتهاز الفرصة ، فقام الفاتيكان بدعم العقيدة المسيحية ، وتوثيق الروابط بين أتباعها ، عن طريق برامج تبثها الإذاعة والتليفزيون ، ويقوم البابا نفسه بعمل ندوات قد تتصل يوميا ؛ باللغة الألبانية ؛ لوضع اليد على البلاد كلها … ويقول رئيس جماعة أخوة الإسلام : " لقد أصبح الناس وخاصة الشباب محطمين ، ثم جاء دعاة النصرانية ، فأغْرَوا الشباب بعمل جيد ، وحياة أفضل بعد تغيير عقيدتهم " . " وتعتبر سفارة اليونان مثالا على ذلك فى ألبانيا ، فقد أخذ 84 شخصا التأشيرة للسفر إلى اليونان فى شهر مارس الماضى ، لم يكن فيها أى اسم إسلامى ، وفى الحقيقة لقد بدل 34 منهم اسماءهم ، إنها حقا مأساة يا إخوانى .. " . قال : " وفى الوقت نفسه الذى قامت فيه المنظمات المسيحية بهذا الجهد توجد عقبات كثيرة أمام المسلمين ، فلا توجد مساجد ولا أماكن دينية ، ولا توجد مطبوعات عن الإسلام نهائيا بأى لغة !! لا يوجد مال ولا توجد مواد علمية ، بل لا توجد روح عالية لتحقيق ذلك ، ولا يوجد علماء دين ليعلموا الناس ، نحن لا نجد القرآن بأى لغة يفهمها الشعب الألبانى ، لقد دمرت الشيوعية كل شىء فنحن نبدأ من الصفر ؛ وليس لدينا أى خبرات أو حتى معلومات عن الإسلام . لقد بدأ العالم المسيحى يتحرك بسرعة رهيبة ؛ وبسيولة مالية ، ومطبوعات وسيارات للتنقل ، وأجهزة تكنولوجية حديثة ، ورجال دين متدربين وفى أول اجتماع لهم فى الكنيسة ذهب 1500 مسلم حول أسوار الكنيسة ، ليس لاستماع المحاضرة ، ولكن ليثبتوا للحكومة الشيوعية أنهم مع حرية الأديان !!! ص _123(1/117)
ونريد لكى نعود إلى ديننا ونقيم تعاليمه بين ظهرانينا: 1ـ إقامة علاقة فورية بالمعاهد الدينية بالبلاد العربية والإسلامية. 2ـ وجود نسخة من ترجمة معانى القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، وكتب إسلامية أخرى وترجمتها للألبانية. 3ـ العمل المستمر على التوجه الإسلامى فى ألبانيا فى المستقبل. 4ـ الدعم الكافى لبناء المساجد، وإيجاد الأجهزة التكنولوجية للعمل اليومى، ولإعداد الكوادر الدينية، وإرسال المتخصصين من الجامعات بالبلاد العربية. 5- دعم فقراء الألبان عن طريق الحكومات والمنظمات العربية والإسلامية... ". فهل هناك من يغيث المستنجدين؟ ثم ماذا؟ هل تريد أنباء عن نكبة ثالثة؟ بعد أندونيسيا وألبانيا هناك- ثالثة ورابعة تجعلنى أردد قول الشاعر: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان كنت فى أوغندا مبعوثا من لدن الشيخ الجليل عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر الأسبق، فلقينى رجل أشيب من الزنوج، وقال لى معاتبا: لماذا جاء آباؤكم بالإسلام إلينا إذا كنتم أنتم تنسوننا ولا تتصلون بنا أو تسألون عنا؟؟ وشعرت بالخجل أو بالخزى! وأجبته وأنا محرج: إن شاء الله نقوم بواجبكم!! وأوغندا نصفها مسلم، وثلثها وثنى، والسدس الباقى نصرانى وهو المالك لكل شىء، وهو الموضوع والشكل، والحقيقة والعنوان...!! والخطة الموضوعة لخمسين دولة فى إفريقية أن ينقرض الإسلام بتُؤَدَة ودهاء، وأن يُعِلَن فجأة أن القارة القديمة قد ارتدَّت كلها ونجح الاستعمار فى تنصيرها.. ص _124(1/118)
والمضحك المبكى أن بعض الدعاة يذهبون إلى الأقطار الذبيحة ليثيروا فيها مشكلة السفور والحجاب، أو فتنة الشريعة والحقيقة، أو ضرر تعذد المذاهب الفقهية، أو ضرورة تحريم بعض المظاهر الشكلية!! والجنون فنون والدعوة فتون، والخطب لا يهون ما بقى أولئك الغافلون!! تهب على إفريقية السوداء رياح فتنة عاتية؟ تبغى زحزحتها عن عقائدها، ودحرجة الإسلام عن منزلته الأولى، إلى الثانية، أو ما وراء ذلك حتى يتلاشى! ومعروف أن التبشير العالمى وفت نهاية هذا القرن لبلوغ غايته، وأن جيشه الهاجم استطاع التغلغل فى أقطار بيضاء؟ بعدما اجتاح الجنوب و ا لوسط.. والمعروف أنه لا توجد تقريبا قوى مدافعة! فليست للأزهر بعثات تقاوم، وكذلك رابطة العا لم الاسلامى، والأهالى متروكون لأنفسهم، وكانت هناك جمعية للدعوة إلى الاسلام تعمل جنوب السودان، توقفت عن وظيفتها فى أثناء حرب الخليج. وعلى جاهير المسلمين المعزولين أن يعتمدوا على فطرتهم السليمة، وقواهم الكليلة فى مدافعة العدو الزاحف..!! وقرأنا أخيرا أن عدد المشتغلين بالتنصير بلغ 104000 موظف؟ وأن المعاهد التابعة للكنائص! بلغت 20000، والجماعات الخاضعة لها 500، ومدارعى اللاهوت التى تخرج المنصرين الأفارقة 490؟ والمدارس ورياض الأطفال التى تشرف عليها الكنائس 106 ص ؟ وبينت إحصاءات منظمة الدعوة الإسلامية أن المستشفيات التى تملكها الكنيسة 10600؟ ودور إيواء العجزة والأرامل والأيتام 680، والطلاب المسلمون الذين يدرسون دنى مدارس الكنيس!ة ستة ملايين، وعدد الصيدليات التى تملكها 10050، والمحطات " الاذاعية أربع عشرة. ص _125(1/119)
هذا وصف موجز للجيحى الذى يعمل الآن لنحت الإسلام، وتعرية أصوله وفروعه، وففن مجامعه واقتلاع أسسه، وعلى من يقاوم هذا الجيش ألا ينتظر عونا من أحد، فلدى الأمة الكبيرة من الأزمات والآلام ما يشغلها عن نصرة مستضعف أو مواساة محروم.. قال لى صديق: إذا أفلح أولئك المبشرون فى تنصير الوثنييزا فقد قاموا بعمل حسن! قلت له: أنت لا تدرى المآسى التى تعافى منها هيآت التبشير، والانهيارات الأخلاقية التى تشيع فيها إ! ألا تقرأ فى الصحف كيف انتشر الإيدز فى إفريقية حتى أصبح وباء يهدد كيانها. إن هذه البلاد المنكوبة سبقت- فى استفحال العلة- البلاد التى هاجر . منها الايدز، فأربت عليها فى الفساد، مع فقدان الأدوية ومخففات العلة. اعهذا الخبر: نشرت صحيفة الوفد فى 91/7/9! من المتوقع أن تناقش الكنيسة الأسقفية- اكبر طوائف الكنيسة البروتستانتية- الأمريكية هذا الأسبوع، مبدأ القساوسة الشواذ جنسيا، ومباركة الكنيسة لزواج شخصين من نفس الجن!ر إ! اكد تقرير للكنيسة أن وجود الشواذ والشاذات فى سلك الكهنوت لم يعد سرا، ؤأن الكنيسة لا يمكن أن تدافع عن حقوق الشواذ والشاذات فى المجتمع عموما (!) إذا كانت تحرم العاملين فى سلك الكهنوت هذه الحقوق نفسها.. ". إن المدنية الحديثة علمانية الفكر والسيرة، وصلتها بالثة منقطغة، وتفكيرها فى الآخرة صفر، وقد نفح ذلك على الدين فى أوربا وأمريكا، فهو لا يقدم للناس زادا روحانيا هم بحاجة إليه! كلا، إنه تحؤل إلى خادم "للاستعمار الغرلى، وتحول رجاله إلى أمساخ من الخلق تشرب الخمر وتقترف الخنا، وأهم ما يقدمه لسادته توهين توى الإسلام؟ والعمل على إهانة حاضره؟ وإظلام مستقبله.. على هذا النحو يعيش، ولتلك الغاية ينطلق، فهل نصحو نحن؟ ص _126(1/120)
قضية المرأة عندنا وعندهم.. فى الكتاب الضخم الدارس لخطط التنصير بين شعوب المسلمين؟ نقرأ بابا خاصا بالمرأة! كتبه المؤلفون واهمين أن قضية المرأة ثغرة فى تعاليم الإسلام يمكن النفاذ منها وليست فى الإسلام ثغرات مخوفة، وإنما يخاف على الإسلام من زلل بعض المنتمين إليه وسوء عملهم به، وما أغرى أعداء الإسلام بالهجوم عليه إلا هؤلاء الأصدقاء الجهال.. على أننا قبل الشروع فى رد الشبهات؟ نريد أن نسأل: ما موقف النصرانية من قضية المرأة؟ ونترك الإجابة للكتاب المقدس الذى يشرح علاقة حواء با-فطئة الأولى، وبآدم نفسه؟ فيقول: " فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذى فعلت؟ فقالت المرأة: الحئة غرتنى فأكلث، فقال الرب الإله للحئة: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسغثن، وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبيزا. نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيرا اكثر أتعاب حتلك، بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك ععت لقول امرأتك واكلت ملأ الشجرة التى أوصيتك قائلا: لأ تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التى أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعوفى!. ونستفيد من هذا النص أمورا. ذات بال، أولها أن لعنة الخطئة أصابت آدم من امرأته، فهى المسئولة عن خروجه من الجنة ونزوله إلى الأرض يكدح ص _127(1/121)
ويشقى !! ويؤكد القرآن أن المرأة بريئة، وأن آدم هو الذى نسى وضعف وأضاع الأمر الإلهى بعدم الأكل من الشجرة. والثانى أن حواء ـ جزاء ما فعلت ـ ستكون حبيسة سلطان الرجل وخاضعة له.. ويؤكد القرآن أنه لا حبس ولا تسلط، بل قوامة من الرجل على بيته الذى تُتبادل فيه الحقوق والواجبات (...ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة). والثالث أن لعنة الخطيئة تنتقل من الآباء إلى الأبناء ومن الأسلاف إلى الأخلاف. ويؤكد الوحى الالهى أن الخطيئة لا تورث، وأن كل بشر مسئول برأسه عن نفسه، قال تعالى(...ولا تزر وازرة وزر أخرى... ). ونترك دور الحية المزعوم فى هذه المأساة، ونتساءل: هل الأرض ملعونة بسبب آدم؟ كما يقول الكتاب. إن القرآن الكريم يصف الأرض فيقول: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها... ) وينظر إلى زروعها وثمارها فيجعلها وليدة ماء مبارك (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) ويجعل النظر فى هذه الزروع عبادة (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون). شتان بين حياة تحفها اللعنات، ويتقاسم الجنسان معا شرورها، وبين الحياة التى يجعلها القرآن ميدان سباق عادل، فمن استغل نعماءها فى مرضاة ص _128(1/122)
الله نجا، وإلا هلك وهبر الجافى على نفسه! وسوف نفيض الحديث فى موقف رجال النصرانية من المرأة- بناء على تعاليم الكتاب- بيد أننا قبل ذلك نرى ذخض شبهات توفمها الكاتب فى تعاليم الإسلام... فهو يرى أن الإسلام أباح ضرب المرأة، وهذه إهانة كبرى لا تقبل من دين أ ونقول نحن: إن إهانة امرأة عادية لا تجوز، فهى ظلم يحاسب عليه الله الذى يقول: ومن يغمل صقالم دره ! زا ير!. إن المرأة التى تعاقب بالضرب تكون مرتكبة لإحدى جريمتين: أوما: إدخال شخص غريب فى بيت الزوجية يكره الزوج وجوده لأمر ما، فهى غيرة لها سبب، ودفع لرل!ة لا معنى للسكوت عليها. والثافى: رفض المرأة طاعة رجلها لنى العشرة الجنسية التى لابد منها، ترفعا وكرها، دون مبالاة بما قد يتعرض له من فتنة مع الأخريات... وفى كلتا الحالين يكون الضرب نهاية المطاف بعد تجربة عقوبات أخف. وألطف. ثم إنه لا يجوز لطم الوجه، ولا الضرب المبرح، بل يكون نوعا من الإشعار بخطورة ما يقع..! فالزعم بأن الإسلام أباح ضرب النساء مطلقا كذب. وهناك شبهة أخرى جاءت ضد الإسلام، ورؤج لها ذوو الأغراض. هل صحيح أن الرسول أرسل هذا الحكم العام فى نصف البشر فقال: النساء ناقصات عقل ودين؟ إذا صدر عنه هذا الحكم فكيف يقول : "حبب إلى من دنياكم النساء والطب " ؟ أهى محبة منه لنقصان العقل والدين؟ وكيف يوصى الرجل ببر أمه أضعاف بره لأبيه؟ أهو احترام لنقصان العقل والدين؟ وإذا كان الرجال والنساء بعضهم من بعض،؟ جاء فى الآية القرآنية، فلم يكون هذا النقصان حكرا على النسوان وحدهن؟؟ ولماذا لا يتعداهن إلى ص _129(1/123)
الرجال ما دام بعضهم من بعض..؟ إن الرواية الواردة جاءت فى صنف معين من النساء، ولها سبب يجعل السياق مقبولا. قلت فى كتابي مائة سؤال فى الإسلام !: ضذر هذا الحديث يقى الأص ة الإسلامية شرا يشيع بين الناس، جرثومته امرأة تحيا على خير رجلها، وتنكر فضله وتجحد حقه، قد يخطىء الرجل، وكل بنى آدم خطاء، وينبغى أن تتجاوز المرأة هذا الخطأ العارض، وربما كان الخطأ من وجهة نظبرها هى.. ولكنها بدل ذلك تغضب غضبا طائشا، وتنسى فى ثورتها كل شىء، وتزعم أنها ما رأت خيرا قط، وقد تلعن نفسها وجظها وماحدث أو يحدث لها! أليس من حق النبى اء! أن يحذر من هذا المسلك، وأن يذكر لصاحباته أنهن إن أصرزن عليه يكن من أهل النار؟؟ ثم يستطرد الحديث ".. مارأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذى ئث منكن " والعبارة متصلة بالجملة قبلها، فإن الرجل قد يستكين لامرأته والحق معه، حتى يوفر الهدوء فى بيته! ويمنع اللجاجة والخصام! وقد يلغى فكره الصائب من أجل ذلك الهدف؟ مما قد يدفع بالمرأة المغرورة إلى مزيد من العنت! وهذه هزيمة ذى اللب-؟ عبر الحديث- أو اولى الأبباب؟ كا نرى فى مجتمعات كثيرة تنتصر فيها رغبات النساء على عزائم الرجال.. والمرأة- على ضعفها- تحب أن تغلب غيرها وتفرض نفسها! قد تقول: وما هذا الضعف؟ والجواب لنى تكبرينها الجلقى، فإنها تضحى عليلة ؤ شبه عليلة خلالي الدورة الشهرية التى تعتادها، وتؤثر فى أعصابها وأفكارها، وتد عذرها! اللة من أجل ذلك، وأعفاها من بعض الفروض. إن نفرا من المتحدثين فى الدين شاء أن يفهم من هذا الحديث أمورا لا علاقة لها به، فصاغ قاعدة كلية نشرها فى طول الأمة وعرضها مفادها إ النساء ناقصات عقل ودين لم، وسواء كانت! ال ا للجنصر أو الاستغراق فهذه الكلية الشائعة بهذا الفهم التعميمى الصارم فاسدة، من ناحيتى العقل ص _130(1/124)
والنقل، فقد اكتملت قديما وحديثا نسوة أرضين الله ورسوله وخدمن الدين والأمة خدمات جليلة. وهذه الكلية المزعومة تناقض الآيات القرآنية التى قررت أن النساء والرجال بعضهم من بعض، وتناقض الأحاديث التى جعلت النساء شقائق الرجال! وزاد الطين بلة فى تأليب المرأة المعاصرة على الإسلام أن البعض فسر نقصان العقل بالحماقة، ونقصان الدين بالمعصية، وعدَّ الأنوثة ترادف الخسة والهوان، وهذا التفكير امتداد للجاهلية الأولى وهو بعض ما يشين النفسية العربية، والإسلام برىء من هذا اللغو .." ومن الإنصاف أن نقول: إن تحامُل قادة التنصير علينا لم يأت من فراغ، فإن سيرة بعض المسلمين، وفتاوى بعض المتفيقهين تجر على الإسلام صنوف البلاء.. من قال: إن المرأة لا تتعلم؟ من قال: إن المرأة لا تذهب إلى مسجد ؟ من قال: إن المرأة لا ترى أحدا ولا يراها أحد؟ إن الذين أهانوا النساء، وحجروا عليهن، وظنوا بهن الظنون ؛ ينطلقون من مبادئ شاعت فى الجاهلية الأولى، وسنرى فى الفصول المقبلة أنها تعاليم آباء الكنيسة الأقدمين.. انتقلت إلى الأمة الإسلامية؛ لأن هذه الأمة قلدت اليهود والنصارى؛ برغم تحذير النبى من هذا التقليد وتشاؤمه من هذا الاتباع السيئ..! كأنما كان هناك سباق بين الجاهلية الأولى وبين آباء الكنيسة الأقدمين فى تحقير المرأة والحط من قيمتها، عرب الجاهلية يستقبلون ميلاد البنت بوجه مكفهر، وكما عبر القرآن الكريم: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)، وآباء الكنيسة يرون أن المرأة ما دامت امرأة فهى رمز للشر والحقارة! فماذا تصنع لكى لا تكون امرأة؟ يقول: "جيروم" ص _131(1/125)
فى شرحه لرسالة القديس " بولس " : " بما أن المرأة خلقت لولادة الأطفال فهى مختلفة عن الرجل كما يختلف الجسد عن الروح، وعندما ترغب فى خدمة المسيح خدمة أكثر فى هذا العالم عندئذ يجب أن تكف عن أن تكون امرأة، وستسمى رجلا !! ـ أى بعد رهبانيتها ـ والقديس " امبروز" واضح كل الوضوح عندما يقول: " تلك التى لا تؤمن، إنما هى امرأة، ويجب أن تصنف مع جنسها الأنثوى ! أما تلك التى تؤمن ـ أى تترهب ـ فهى تتقدم نحو الرجولة الكاملة، وآنذاك تتخلى عن اسم جنسها الأنثوى، وغوايات الشباب وثرثرة العجائز ". فخلاص المرأة أن تطرح عنها أنوثتها وتصير إنسانا كاملا بالغا سن الرشد، أى تصير ذكرا.. !! هذا ما نقله من مصادره الدينية اللواء المهندس أحمد عبد الوهاب، ولا أدرى: أيعرف هؤلاء الآباء معنى الرهبانية التى ترفع الدرجة؟ إن هذا المعنى لو صح لانتهى بانقراض العالم، فالكمال المنشود هنا يعنى زوال البشرية، وانتهاء الولادات ! وذكر المؤلف أن " كريستين دى بيزان " عاشت فى القرن الخامس عشر، وكانت أديبة مرهفة الحس تبنت آلام بنات جنسها، وشرحت ما يعانين من بغضاء وازدراء! فى كتابها " مدينة السيدات" الذى نقلت فيه الأحكام الصادرة ضدهن من " اكويناس " و " أوغسطين " وسائر آباء الكنيسة، وتساءلت: هل الإله الصالح العادل يحكم على نصف البشر بهذا الهوان والأذى؟ ثم صاحت: واحسرتاه يا إلهى! لماذا لم تجعلنى أولد فى هذه الدنيا رجلا حتى أستطع خدمتك على نحو أفضل؟ وقد بزغت شمس الإسلام واكتسحت هاتيك الظلمات كلها، وقرر الكتاب الكريم أن الرجل والمرأة من نفس واحدة، وأن فيهما كليهما قبسا من نور الله الأسنى، وأنه لا تفاضل بين ذكر وأنثى إلا بالتقوى، فليست الرجولة بطاقة توضع فى ميزان الحسنات لترجحه، ولا الأنوثة بطاقة توضع ص _132(1/126)
فى ميزان السيئات لتميل به. وقد قال الله لمن يدعونه ابتغاء فضله: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) نعم الرجال من النساء، والنساء من الرجال، والسباق الذى يشترك فيه الكل هو العمل الصالح، قد يسبق الرجل وقد تسبق المرأة، فليس لإنسان إلا ما سعى.. وامرأة فرعون أشرف منه وأزكى، وكم من امرأة تقية فازت على حين هوى زوجها! ما علاقة الذكورة والأنوثة بالتقوى؟! والزعم بأن الرجل مطلقا أفضل من أية امرأة زعم كاذب، بل إنه فى ميزان المواهب العامة والملكات العظيمة نرى الرجال والنساء فصائل وصنوفا شتى، تتفاوت فيما بينها تفاوتا بعيد المدى، إن هناك رجالا أقوى وأعظم من نسائهم، لكن هؤلاء الرجال إذا قيسوا بنساء أخريات كانوا أخف وزنا، وأقل شأنا.. فالديك رجل بين الدجاج، وله سطوته، فهل تغنى عنه ذكورته شيئا إذا وقع تحت حوافر بقرة أو ظفرت به ذئبة؟؟ إنه هالك لا محالة.. لقد رأيت نساء ذوات عقول وهمم، لا يدانيهن رجال كثير، ولا يُزرى برجحانهن أنهن نساء، إن مريم أفضل من رجال ألوف، بل إن امرأة مثل " تاتشر " أخطر وأنفع لوطنها من زعماء خانوا دينهم وباعوه بثمن بخس... إن القاعدة العامة فى القرآن الكريم: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وعلاقة الزوجية لا تمحو هذا القانون، وهذا القانون الأخلاقى لا يمحو قيام الرجل على أسرته ومسئوليته عنها.. ص _133(1/127)
وثم أمر آخر نُلمع إليه بإيجاز، إن الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعتاها، ولعل الله جعلها كذلك استبقاء لقافلة الحياة البشرية على ظهر الأرض.. وقد تساءل البعض: هل قوة هذه الغريزة فى الرجل تضارع قوتها فى المرأة؟ ونحن لا نملك إجابة حاسمة على هذا التساؤل! والذى يظهر للمراقب المنصف أن الناس ليسوا سواء فى هذا الميل الغريزى، فبعض الرجال أشد عاطفة وأكثر شبقا، وبعض النساء كذلك، والحقيقة هنا وهناك عليها أغلفة محيرة... بيد أن العلاقة الجنسية تقوم بين طرفين أحدهما فاعل وهو الرجل، والآخر قابل وهو المرأة، أى أن الاتجاه الإيجابى يجىء من الذكور، وأكاد أجزم بأن الذكورة هى الطرف الأساسى فى هذه العلاقة.. لكن المسيحية والحضارة الغربية فى العصور الوسطى تصم المرأة بأنها هى سر الخطيئة وعاشقتها وحاضنتها.. والرجل مظلوم أو شبه مظلوم !! وهذا كلام انبنى عليه جور كبير واتهام خطير. كتب الراهب " يعقوب شبرنجر " كتابا يبرهن فيه على أن النساء قابلات لإغواء الشيطان أكثر من الرجال، لأنهن أصلا مخلوقات فاسدات، وندع ما ساقه الراهب الجاهل من لغو لنقف عند قوله: إن شيطنة المرأة إنما تنبع من تحرقها الشهوانى الذى لا يشبع، وذلك حسب ما قاله الكتاب المقدس فى سفر الأمثال (الإصحاح 30): ثلاثة لا تشبع وأربعة لا تقول كفى: من ذلك فم الرحم !! ويبنى الراهب الظلوم على هذا حكما عاما أن النساء مستعدات لمعاشرة أى شخص حتى الشيطان، ثم يتوجه الراهب " شبرنجر" إلى الله بالشكر على أن الرجال متحررون من تلك الشهوة الجنسية الملعونة!. وهذا الراهب معتوه بلا ريب، أو لعله معلول بارد، وواقع الحياة يرده ويكذبه، ولكن الأفكار التى رددها هذا الراهب كان يعتنقها البرلمان الفرنسى ص _134(1/128)
فى القرن السادس عشر، وقد عرضت عليه قضايا عن اتصال النساء بالشياطين ! ومع أن الإسلام أرفع من أن ينحدر إلى هذا المستوى، ومع أن عواصم المسلمين وقراهم لم تهو إلى هذا الحضيض؛ إلا أن هناك بقايا من أحكام الجاهلية تسىء إلى الأنثى وتخدش كرامتها، سواء تسربت إلينا هذه الأحكام من تقليد النصرانية أو من استحياء الوثنية القديمة ! ويؤسفنى أن عددا من المتحدثين فى ديننا متأثر بهذه الخرافات الأجنبية، أو مصدق لبعضها، وخير له أن يعود إلى كتاب الله وسنة رسوله، ينظر فيهما بعقل مفتوح متجرد عن هذه المواريث الشائنة.. إن شرف الحضارة الحديثة ـ الذى تدعيه ـ هو أنها اكتشفت أن النساء شقائق الرجال، ولهن نصيبهن الكامل من حقوق الإنسان، فهل هذه الآصرة من تعاليم ديننا أم من مآثر الحضارة المعاصرة؟ فليعقل هؤلاء الظالمون للمرأة باسم الإسلام قبل أن تثأر من جهالتهم الأقدار. ص _135(1/129)
المرأة فى أوربا وأمريكا... الحضارة الغربية التى تهيمن على العالم جعلت من أزياء النساء معارض فتنة ومصايد إغواء! ولست ممن يكرهون تجمل المرأة؛ أو رغبتها الطبيعية فى أن يكون لباسها حسنا، ولكنى نبهت مرارا إلى فروق شتى بين التجمل والتبرج، والاحتشام والإثارة، واستبقاء مظاهر الأنوثة وإطلاق العنان لها كى تُهيج وتُردى ! إن هناك ملابس لليل وأخرى للنهار، وملابس للصباح وأخرى للأصيل، وزخرفا خاصا بالربيع وآخر للخريف، وملابس الشتاء غير ملابس الصيف، لا فى التغطية بل فى التحلية والتجلية ! لم هذا كله؟ إن الحضارة المنتصرة ترفض أن يحكم الإيمان الشارع العام! وحجتها أن هناك متدينين يقولون: لا تخرج المرأة إلى الشارع أبدا، وإذا أُذن لها بالذهاب إلى المسجد، فليكن السماح لها بذلك فى نطاق ملابس المطبخ الحاملة لروائح البصل والتوابل! ونحن نأبى أن تتحول الإباحة إلى فوضى، كما نأبى أن يتحول البيت إلى سجن، وللوسطية الإسلامية منهج آخر بعيد عن الإفراط والتفريط ، بعيد عن التعنت والتبذل !! وتقاليد الحضارة المنتصرة التى غلبت العالم ـ واستغلت غباء بعض المتدينين فى انتزاع الزمام منهم، وفرض نفسها عليهم ـ هذه الحضارة لا تأبه للحلال والحرام، وتصارح بأنها ترفض الكبت الموقوت والدائم، ومن هنا يسرت للغرائز التنفس بكل وسيلة متاحة ! وليس يفرق بين الإنسان والحيوان إلا أن الحيوان لا يدرى ما يساق إليه، أما الإنسان فهو يفعل ما يفعل عامدا قاصدا.. ! ص _136(1/130)
وسوَّت الشيوعية بين الرجل والمرأة فى مباشرة كل عمل قاس أو سهل، ونساء موسكو غالبا هن المشرفات على تنظيف الميادين والدواوين، والفرق بينهن وبين النسوة الغربيات أنهن أقل زينة وأخف تبرجا، وذلك فى الغالب للفقر الشيوعى السائد.. ! وقد رأينا صورا لفرق المجندات فى الجيش الأمريكى! لقد بلغن ألوفا وألوفا، ورأيت صورة إحداهن وهى تودع طفلها منطلقة إلى الميدان، وكانت دامعة العين! قلت لنفسى: ألم يكن فى جماهير الشباب العاطل ما يغنى عن خروج الغوانى للحرب؟ إن أعداد الرجال تكفى فى هذا الشأن، لكن الفلسفة التى تسود العالم هى التسوية التامة بين الجنسين فى مباشرة كل شىء! لعلها رد فعل لسلوك متدينين كثير، يرون أن المرأة تُحجب عن كل شىء، وأنها لا تصلح لشىء... ! والوسطية الإسلامية لها منطق آخر، ومسلك أجدى وأرشد! لا بأس أن تقاتل المرأة مدافعة عن بيتها ودينها وشرفها. إذا اضطرت لذلك فى حالة الدفاع ولا معنى لتجنيدها فى حرب هجومية.. لا بأس أن تعمل المرأة فى أى حرفة أو مهنة بعد توفير الضمانات الشرعية التى تصون عرضها من الهمس القريب أو البعيد، لكن هناك قبل هذا كله أو بعد هذا كله أن البيوت الخالية من رباتها تنشئ أسرا على الورق، وتعرض مستقبل الأطفال لضياع مؤكد... هناك عمل لا تحسنه إلا النساء، هو تبعل الرجل وحضانة الولد ؛ وكل ما يصرف عن ذلك يهدد الحياة البشرية فى الصميم. والعوج الذى يلاحظ فى السلوك العام، منشؤه الأول فراغ البيوت من المرأة المسئولة عن بيتها.. الحانية على أولادها، وقد أحس نفر من المصلحين خطورة هذا الوضع، وشرعوا ينبهون إلى آثاره السيئة، بيد أنى لم أجد اعترافا أصرح ولا أخلص من كلام الزعيم الروسى "جورباتشوف" وهو يحاول إعادة ص _137(1/131)
البناء فى روسيا الشيوعية، وبعد أن ننقل كلامه كله نسجل تعليقنا عليه: قال: "غالبا ما ينظر إلى درجة تحرير المرأة كمقياس للحكم على المستوى الاجتماعى والسياسى للأمة. ولقد وضعت الدولة السوفيتية حدا للتمييز ضد المرأة كان سائدا فى روسيا القيصرية بتصميم ودون مساومة، وكسبت المرأة مكانة اجتماعية يضمنها القانون، وتتساوى مع مكانة الرجال، ونحن نفخر بما قدمته الحكومة السوفيتية للمرأة: نفس الحق فى العمل كالرجل، والأجر المتساوى للعمل المتساوى، والضمان الاجتماعى، كما أتيحت للمرأة فرصة للحصول على التعليم، ولبناء مستقبلها، وللمشاركة فى النشاط الاجتماعى والسياسى. ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولى الشاق، عجزنا أن نولى اهتماما لحقوق المرأة الخاصة، واحتياجاتها الناشئة عن دورها كأم وربة منزل، ووظيفتها التعليمية التى لا غنى عنها بالنسبة للأطفال. إن المرأة إذ تعمل فى مجال البحث العلمى، وفى مواقع البناء والإنتاج والخدمات، وتشارك فى النشاط الإبداعى، لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية ـ العمل المنزلى؛ وتربية الأطفال، وإقامة جو أسرى طيب ـ لقد اكتشفنا أن كثيرا من مشاكلنا فى سلوك الأطفال والشباب، وفى معنوياتنا وثقاتنا، وفى الإنتاج ـ تعود جزئيا إلى تدهور العلاقات الأسرية، أو الموقف المتراخى من المسئولية الأسرية، وهذه نتيجة مناقضة لرغبتنا المخلصة والمعلنة سياسيا فى مساواة المرأة بالرجل فى كل شىء... والآن فى مجرى " البيروسترويكا " بدأنا نتغلب على هذا الوضع، ولهذا السبب فإننا نجرى الآن مناقشات حادة فى الصحافة، وفى المنظمات العامة، وفى العمل والمنزل، بخصوص ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة... " وهناك مشكلة أخرى، هى استخدام المرأة فى الوظائف الشاقة الضارة بصحتها، وهذا هو تراث الحرب التى فقدنا فيها أعدادا ضخمة من الرجال، ص _138(1/132)
والتى خلفت لنا نقصا حادا فى اليد العاملة فى كل مكان، فى كافة مجالات الإنتاج. لقد بدأنا الآن نعالج هذه المشكلة بشكل جاد ". أحسب أن ناسا منا سوف يصيحون: ألم نقل لكم هذا؟ إننا معذورون حين حظرنا على المرأة الخروج للحياة والعمل! هاهو ذا شاهد من أهلها يمشى فى الاتجاه نفسه. لقد شاهدت متدينين فى أوربا وأمريكا، وإفريقية وآسيا يقولون: إن المرأة شيطان أو هى عون للشيطان، وكل فتاة هى حواء التى أخرجت آدم من الجنة، ولابد من تضييق الخناق عليها حتى نأمن شرها ! وكان هذا التضييق القاتل لإنسانية المرأة من وراء الانفجار الذى صبغ المدنية الغربية وآذاها.. ونحن لا نجنح إلى طرف من الطرفين المتباعدين، هذا يسجن المرأة فى البيت وهذا يطلقها فى الشارع.. لقد أغنانا الإسلام عن تجارب تخطىء وتصيب، وتحلو وتمر، وهدانا صراطا مستقيما. نحن بحاجة إلى من يعرف دين الله حق المعرفة، ثم يعالج القضايا كلها بإيمان واع، لا بفكر قاصر متشائم هدام. الذى يمنع المرأة من حق الحياة والعمل فى الإطار الشرعى المناسب لفطرتها لا يقرر حقيقة شرعية ولا وضعية. والذى يتيح لها كل اختلاط، وييسر لها كل احتراف لا يقرر حقيقة شرعية ولا وضعية ! هناك مجتمع بناه صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ورجاله الكبار! لماذا لا ندرسه ونتأسى به؟ ص _139(1/133)
الحجاب المطلوب للمرأة فى عصرنا الحديث افتن الذين يتبعون الشهوات فى عرض مفاتن النساء وإقحامهن فى كل ميدان، دونما حاجة إلى هذا الإقحام. عند عرض راديو جديد قالوا: صوته صوت سيدة! وعند عرض شراب بارد؛ جاءوا بامرأة تضع عنق الزجاجة فى فمها! وعند عرض ثوب للعمل أو للراحة جاءوا بامرأة ترتديه فى أوضاع شتى، وعندما شاءوا خدمة ركاب الطائرات جاءوا بفتاة تحسن التلطف فى تقديم الطعام، وعندما أرادوا مزيدا من الإقبال على شراء السلع جاءوا بامرأة تجلس إلى الخزينة وتقبض النقود، وعندما يريد مدير عظيم أن يبرز سطوته وأناقته يجىء بامرأة تكون (سكرتيرة) لمكتبه...الخ. وقال لى بعض من يعرفون أوربا:. إن هناك دورا للبغاء توضع النساء فيها وراء زجاج (الفتارين)، لكى تنظر الذئاب الجائعة، ثم تختار ما يعجبها. وقد قلت يوما: إننى لا أظن البشرية عرفت عصرا أمكن فيه السطو على المرأة ؛ واستباحتها ظاهرا وباطنا ؛ كهذا العصر الذى نحيا فيه! فهل هذا هو تحرير المرأة؟؟ إن المسافة شاسعة بين ابتذال المرأة كما يريد البعض، وبين ضمان حقوقها الإنسانية التى كفلها الوحى، وضن بها البعض. إن ما يقع الآن فى الغرب ـ ونقلده فى الشرق ـ هو فيضان مشاعر مسعورة وأهواء جامحة ؛ تريد تطويع المرأة لمباذل سيئة، وليس من وراء هذا احترام لدين، أو رغبة فى إنصاف النساء، وصون إنسانيتهن... والذى يدعو إلى الأسى أن بعض المتدينين عندنا لا يفهم من تحرير المرأة إلا هذه الصورة التى ننكرها ونلعن أصحابها، وقد تكون رد فعل لحبسها ص _140(1/134)
الطويل فى الظلام، وعجزها عن الأخذ لنفسها، وقدرة بعض الرجال الأشرار على دفعها إلى الهاوية، وفى هذا يقول الأستاذ أنيس منصور: (مازالت المرأة تكشف عن مفاتنها، وتتعرى ؛ حتى بلغت أقصى درجات الفساد والانحلال.. وإذا تعرت المرأة فلأن الرجل أراد، وإذا انحرفت فلأن الرجل دفعها إلى ذلك، ولا بد أن الرجل قد تردى إلى ما هو أحط وأحقر حتى بلغ هذا الدرك الأسفل). إن الإسلام نسق آخر فى الفكر والسلوك بعيد عن هذا الشطط، أساسه أن النساء شقائق الرجال، وأن بينهن وبين الرجال حقوقا متبادلة ؛ وكرامات متساوية (لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). وعلى هذا الأساس طار المجتمع الانسانى إلى أهدافه العليا بجناحين من الذكورة والأنوثة، ووسع المسجد الجنسين معا يطلبان العبادة والمعرفة. المصيبة أن بعض المتدينين دون مستوى الفهم لطبيعة المجتمع الإنسانى؛ ولوظيفة المجتمع الإسلامى، وقد رفع عقيرته فى الأيام الأخيرة من يقول: لا عمل للمرأة إلا أن تضع الأولاد.. وعندما تكون المرأة بقرة للإنجاب فقط فلا بد أن يكون رجلها ثورا ؛ ولابد أن تنحدر الأمة كلها إلى أن تكون حديقة حيوانات... هل الإسلام يقدم رسالته إلى العالمين بمجتمع من هذا النوع الهابط..؟ إننا نرفض المجتمع المنحل، ونرفض كذلك المجتمع المختل ؛ نرفض أن تكون المرأة دابة للنسل، وتنتهى رسالتها فى الدنيا إلى هذه الغاية المهينة... ص _141(1/135)
المرأة تتعلم وتتعبد وتجاهد، ولها الحق فى أن تدرس، وتطبب وتتاجر، وتقوم بأعمال شتى تتناسب بداهة مع طبيعتها الأنثوية، وعملها الأول والأهم هو أن تكون ربة بيت وحاضنة أسرة. وهذا العمل يتطلب ثروة من الأدب والعلم لا حصر لها، وإلا فإن المرأة الجهول لن تنشئ إلا ذرية أسوأ... أكتب هذا بعد ما جاء فى خطاب ينكر صاحبه على اعتراضى على كلمة وكيل جبهة الإنقاذ بالجزائر، عندما صرح بأن عمل المرأة فى الإسلام أن تلد الرجال... إن المرأة فى صدر الإسلام عندما آمنت بالله ورسوله أسهمت بكل قواها المادية والأدبية فى نصرة الدين وإعلاء رايته... بدءا من قعر البيت إلى طلب الجهاد فى البحر على ظهر الأسطول الإسلامى فى نطاق محكم من تعاليم الإسلام الموفرة للعفاف والطهر... قال الأستاذ عبد الحليم أبو شقة فى موسوعته عن تحرير المرأة فى عصر الرسالة، وهى من أرحب وأنفس ما كتب فى هذا الموضوع: (وياليتهم ستروا وجهها فقط ولم يحجبوها عن المسجد، وهذا على رغم قول الرسول عليه الصلاة والسلام "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وعلى رغم حضور صحابيات كريمات صلاة الفريضة ؛ وصلاة التراويح؛ وصلاة الكسوف؛ وصلاة الجنازة فى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم. وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوها عن الاحتفال بالعيد، وهذا على رغم الحديث الشريف : " أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور... ليشهدن الخير ودعوة المسلمين " وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوها عن المحاضرات والندوات؛ وهذا على رغم الحديث الشريف : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه؛ تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن فى يوم كذا وكذا، فى مكان كذا وكذا! وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوها عن الأمر بالمعروف والنهى عن ص _142(1/136)
المنكر؛ وهذا على رغم قول أم الدرداء لعبد الملك بن مروان: لعنت خادمك؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة "! وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوها عن العمل لكسب عيشها عند الحاجة، وهذا على رغم قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة فى فترة العدة : "جُدِّى نخلك فإنك عسى أن تصدَّقى أو تفعلى معروفا ". وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوها عن الإسهام فى الجهاد ؛ بتضميد الجرحى وسقى العطشى، ثم بالقتال يوم تدعو الحاجة، وهذا على رغم ما هو معروف من إسهام الصحابيات فى عدة غزوات. وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوها عن النشاط الاجتماعى والسياسى، وهذا على رغم ما هو ثابت من أن أم شريك كانت تفتح بيتها للضيفان ؛ ومن أن بعض النساء قد شهدن بيعة العقبة قبل الهجرة ؛ كما بايع كثير منهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وعلى رغم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أجرنا من أجرت يا أم هانيء " وياليتهم ستروا وجهها عن الناس جميعا ولم يحجبوها عمن جاء يخطبها؛ وذلك على رغم قول الرسول صلى الله عليه وسلم للخاطب: "... فاذهب فانظر إليها" وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوا وصف مظهرها الخارجى، وكأنه هو الآخر عورة ينبغى ستره؛ مخافة أن يفتن الرجال بذكره، رغم ما ورد فى السنة: " سفعاء الخدين!، " بيضاء "،! أقبلت امرأة من خثعم وضيئة!، "ووقعت فى سهم دحية جارية جميلة" وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوا أخبارها، وكأن أخبارها عورة كوجهها فينبغى سترها، وذلك رغم ورود أخبار النساء فى القرآن والسنة، ففى القرآن أخبار امرأة العزيز وصواحبها، وفى السنة كثير من أخبار أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخبار عدد ليس بالقليل من الصحابيات؛ كخبر أم سليم حين تجملت وتهيأت لزوجها يوم وفاة ولدها، وخبر أسماء بنت أبى بكر وحسن حيلتها مراعاة منها لغيرة زوجها؛ وخبر أسماء بنت عميس وشجاعتها فى ص _143(1/137)
مواجهة عمر بن الخطاب. وياليتهم ستروا وجهها ولم يحجبوا اسمها؛ مخافة أن يفوح من ذكره ريح الجنس؛ وهذا على رغم قوله تعالى: (ومريم ابنة عمران) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت على عائشة " و " قلت لحفصة" و" هذه صفية". إن الحجاب الذى يعنون؛ بينه وبين الإسلام بعد المشرقين؛ وإن تحديد الموقف الإسلامى من قضايا المرأة ـ كما شاءه الله تعالى ـ يوصد أبواب الشبه التى يلج منها المنصرون... وينقذ أمتنا من عواقب الإفراط والتفريط. ص _144(1/138)
عندما يكون الدين انتماء مجردا الرؤى والوعود التى ورثها اليهود فى كتبهم الدينية؛ كانت الأساس الأول فى انبعاثهم لإقامة دولتهم؛ وإعطائها اللقب الأثير عندهم: لقب إسرائيل!. هذا النداء الدينى هو الذى جمع بين صنوف متفاوتة الأخلاق والمعارف؛ والمناسب والألوان، فانصهرت فى بوتقته الفروق الكثيرة بين يهود الفلاشا والأمريكان والأستراليين والبولنديين.. الخ باسم الدين تلاقى أولئك جميعا على أنقاضنا نحن الذين اتخذنا ديننا لهوا ولعبا، ولم نعرف قيمة الأراضى الواسعة التى ورثناها؛ والملك العريض الذى فرطنا فيه..! وينضم إلى اليهود فى تقديس الرؤى والوعود الموحية بإقامة إسرائيل جم غفير من النصارى البروتستانت؛ الذين يرون فى العهد القديم أساسا لمذهبهم. وقد ذكرنا فى مقال لنا ما كتبه (وايزمان) أول رئيس لجمهورية إسرائيل؛ من أن لورد (بالفور) إنما أعطى وعده المشئوم بإقامة الوطن اليهودى؛ لأنه رجل متدين؛ دفعته تقواه إلى فعل ما فعل ! فهو يتقرب به إلى الله ! ثم انضمت مذاهب أخرى إلى الكنيسة الإنجيلية؛ بهذا الدافع، وهم ـ وإن كرهوا اليهود، فكرههم أشد للعرب الذين هم دماغ الإسلام وقلبه، فليتفق الجميع على مناصرة إسرائيل ! لكن ما هو اللون الدينى الذى يصبغ إسرائيل؟ وما مظاهر البر والتقوى التى تقوم عليها الدولة الجديدة؟ ذكر الأستاذ نجيب فخرى عدة نقول تصور الفكر اليهودى بدقة، قال: كتب الحاخام كاهانا فى مؤلفه " شوك فى عينيك " ـ والخطاب للقارئ اليهودى ـ " إن وجود العرب فى أرض إسرائيل يعتبر تدنيسا لاسم الرب، كما أن رفضهم للسيادة اليهودية يعتبر رفضا ص _145(1/139)
لسيادة إله إسرائيل فى مملكته ـ كأن الرب والشعب شىء واحد ـ ومن ثم فطرد العرب من هذه الأرض يفوق الأمور السياسية العادية، لأنه واجب دينى؟ حتى لا يتدنس اسم الرب!! قال كاهانا: ولا ينبغى أن نخاف من رد فعل الكفار، إذا قمنا بطرد أولئك العرب، بل يجب الخوف من الرب؛ إذ لم ننفذ وصاياه فتصيبنا الكوارث. والحاخام " أفتتير " يرى العرب الأوائل الذين سكنوا الأرض المقدسة لصوصا، وهذا الوصف يرثه عنهم أبناؤهم العرب المعاصرون، وعليهم ترك هذه الأرض، بل عليهم دفع الإيجار عن القرون التى سكنوا فيها دورا ليست لهم ! أما الحاخام " والدنبرج " فيرى أن الشريعة اليهودية عندما تطبق فلن يبقى فى الأرض المقدسة إلا اليهود. ويرى الحاخام " هيس " أن الذين يحاربون شعب الله يستحقون الإبادة ؛ أيا كانت أعراقهم. ويفتى الحاخام " أربيل " فى عدة مقالات له بأن قتل غير اليهودى لا يعتبر جريمة، فإن حق الحياة مصون لليهود وحدهم. قد يقول من يطالع هذه الأقوال: إنها نضح عقول ملتاثة لنفر من الكهنة الغلاة، وأغلب الحاخامات لا يوثق بآرائهم، ولا ينبغى أن يؤاخذ بها اليهود أجمعون! قد نميل إلى تصديق هذا الاعتراض، لولا أن الأحزاب الدينية التى تحكم الدولة اليهودية الآن؛ من أتباع أولئك الحاخامات المسعورين؛ بل إن الأحزاب المدنية نفسها لا تختلف عن شقيقتها إلا فى العنوان الظاهر، أما المبدأ الثابت المشترك فهو ما نقله القرآن الكريم عنهم (ليس علينا في الأميين سبيل) ص _146(1/140)
والحق أن اليهود لا يضمرون لغيرهم إلا حرب الابادة التى تهلك الزرع والضرع، ولا تترك خلفها وسما ولا رسما. ولأدع هذا الجانب إلى ذكر حقيقة أخرى جديرة بالشرح، إن التدين عندما يكون انتماء مجردا وتعصبا أعمى تنقطع صلته بالقلب الرقيق والمسلك الطهور؛ وبكل ما قرره الدين من زكاة وأدب، بل إن حدود الحلال والحرام تتلاشى؛ ولا يبقى إلا نداء الغرائز ونباح الشهوات المجنونة. الخمر تشرب بلا حدود، والزنا ينتشر دون نكير، والاستمتاع باليوم الحاضر أهم من انتظار اليوم الآخر، ويمكن أن تغلف الحضارة هذه المبادئ بغلاف من التقاليد المرنة؛ والقوانين الوضعية التى أملاها الهوى وحده: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) وهذا يفسر لنا ما وقع أخيرا فى عيد ميلاد سنة 1991، فقد قررت الدول (العظمى) إنشاء فنادق عائمة ملأى ببغايا العالم، وفى طليعتهن مومسات إسرائيل، وشرعت ترسل أفواج الجنود إلى هذه الفنادق لترتوى من الحرام الميسور ! ورأى شعب الله المختار! إضافة إلى هذا المجون أن يستقدم العساكر العطشى إلى الأرض المقدسة؛ لتستبيح ما شاءت، وقد قرأنا ما روت الصحف أن زورقا كان يحمل الجنود العائدين بعد إشباع نهمتهم طغت عليه الأمواج الهائجة؛ فأغرقت عشرين جنديا من ركابه كانوا سكارى تائهين من كرة ما كرعوا من الآثام فى مدينة حيفا!! أكان العرب من أتباع محمد، لو سادوا حيفا، يستحلون هذه الجرائم؛ أو يرضون تلك المساخر؟ لكن كاهانا الذى يرى وجود العربى شوكة فى عينيه؛ لا يرى أى قذى عندما يرى الفاحشة والمنكر هنا وهناك. والغريب أن الشيوعيين العرب ـ سود الله وجوههم ـ يلتقون مع بنى إسرائيل فى هذه الساحة الدنسة، وآخر من سمعت كلامه فى هذا المجال شويعر ص _147(1/141)
فلسطينى قام للأسف يهاجم علماء الدين، وينكر علاقة الإسلام بقضية فلسطين ! إننا نؤمن بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، ونؤمن بأن الإسلام هو الدين الخاتم، ونؤمن بأن الهزائم التى لحقت بالعرب والمسلمين لم تغير عندهم حقيقة الفضيلة والرذيلة ؛ والحلال والحرام، نعم إننا ـ على عفن الزمان الذى بنا ـ ما نزال نحرم الحرام ونحل الحلال، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ! ومن ثم فإن صلاحيات اليهود للانتساب إلى الله انتهت، والشعب الغليظ الرقبة لا يزال يفترى على الله الكذب، ويبتعد عن وصاياه ؛ حتى التى بقيت لها عنده آثار. والسؤال الأخير: متى يعرف المسلمون دينهم ويدخلون فيه أفواجا؟ لن تُحل لنا مشكلة إلا بعد الرد القاطع كل هذا السؤال. اعترضنى أحد الناس قائلا: لاحظنا أنك تترخص كثيرا فى أحكامك وفتاويك، وتميل إلى التيسير والتساهل، وقد تأدى بك هذا المسلك إلى هجر العزائم وهى أصل الدين، وإلى ترويج أحاديث ضعيفة وأقوال ينكرها جمهور العلماء. وظهر ذلك جليا فى موقفك من قضايا المرأة، فقد أنكرت أن صوتها ووجهها عورة، وعلا صوتك أخيرا تطلب لها حق قيادة السيارات فى المجتمعات التى تضطر المرأة فيها للالتحام بالرجل والاختلاط به!! ومن قبل طلبت قبول شهادتها في كل شىء ولم تتق الله فى جرها إلى الميادين التى مهدتها لها الحضارة الحديثة، وهى ميادين يشهد كل ذى لب بما حفلت به من مآس ومباذل..! قلت لمحدثى: سمعت اتهاماتك لى، ولم أفاجأ بها، ولست فوق التهم! وكل ما أرجوه أن تكون أنت صادقا مع الله ؛ تتبع الحق إذا استبان لك، ولا تنخرط مع أولئك الذين يتلمسون للبرآء العيب! إننى فيما أكتبه وأدرسه أجتهد فى اتباع رسولنا الكريم الذى قال: ص _148(1/142)
(بعثت بالحنيفية السمحة) وقال: ( لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك). لست منحرفا عن الصراط المستقيم؛ ولا مائلا مع الهوى إلى أية وجهة، ولكنى أتفرس فى مواريثنا كلها، فما كان وحيا تبعته دون تردد! وما كان قولا لإنسان وزنته بما أعرف من كتاب وسنة، فإما رفضته وإما أمضيته. إننى وجدت المسلمين متخلفين تخلفا شائنا فى كل فج، فلما بحثت عن العلة الدفينة وجدت أهواء مشهورة، وحقائق مهجورة، فآليت أن أمحو الأهواء وأنصر الحقائق. ولنبحث فى قضية الإسلام مع المرأة! هل حكم عليها بالسجن؟ فلا تخرج إلى عمل أو صلاة بعيدة عن التبرج والإثارة! هل حكم عليها بالجهل فلا تدخل مدرسة ولا جامعة؟ هل اتهم عقلها بالخبال فلا تقبل لها شهادة فى دماء ولا أعراض؟ هل حكم عليها بالإهمال والتأخر فلا تلى أى عمل؟ وتُعد مع السفهاء والصبية ولو أحرزت أعلى الدرجات العلمية؟ لقد هوت مطارق الاستعمار العالمى على بلادنا ونحن أجهل الناس بديننا، كانت النساء صفرا فى شئون الحياة الجادة؛ علمية كانت أو أدبية أو مادية، كان عدد من المتحدثين فى الدين يهرفون بما لا يعرفون، وينسبون إلى الإسلام أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان. أما وقد طالت ألسنتهم فى أعراض العلماء الصادقين فنحن مضطرون إلى كشف الينابيع التى استقوا منها جهالتهم! إن أغلب هؤلاء يقلد الضالين من أهل الكتاب القدامى، ويتبنى الأفكار الكنائسية التى شاعت بينهم عن تحقير المرأة وإهانتها واتهامها. ولينظر القراء معى إلى ما روى عن قديسين كثيرين فى وصف المرأة، والحكم عليها بكل نقيصة، ودحرجتها اجتماعيا حتى لا تبلغ أى مكانة، ثم ليسأل نفسه: أليس هذا الكلام هو الأصل الذى تأثر به بعض رجالنا؟ جاء فى كتاب: تعدد نساء الأنبياء ومكانة المرأة، الذى ألفه اللواء المهندس أحمد عبد الوهاب، تحت عنوان: اغتيال شخصية المرأة: " لقد حرص آباء الكنيسة على توكيد أن المرأة مصدر الخطيئة والشر(1/143)
فى هذا العالم، ص _149
ومن ثم يجب قهرها إلى أقصى حد، واستهلاكها نفسيا تحت وطأة الشعور بالخزى والعار من طبيعتها وكيانها البشرى. ولقد اغتنموا كل فرصة تتعلق بالمرأة لبث روح الإحباط فيها، ولو كانت تتعلق بزى ترتديه. فقد كتب (ترتليان) فى القرن الثالث رسالة تعالج زى المرأة، صدَّرها بهذا النداء إلى: (أفضل المحبوبات أخواته فى الإيمان! ثم ما لبث أن انزلق فيها من المحبة والاحترام إلى هجوم مذهل إذ يقول: إذا وجد إيمان على الأرض عظيم مثل ما نتوقع أن ننعم به فى السماء، فما كان لأى واحدة منكن أن تشهى زيا كثير البهجة، ولا أقول زيا لافتا للنظر. لقد كان حريا بها أن تخرج فى زى حقير، وتسير مثل حواء ترثى لحالها، نادمة على ما كان منها، حتى يكون زيها الذى يتسم بالحزن مكفرا عما ورثته عن حواء من عار ، وأقصد بذلك الخطيئة الأولى، ثم الخزى من الهلاك الأبدى للإنسانية الذى يرتبط بوجودها. فلقد قال الرب للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حَبَلك بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك (تكوين 6:3). ألستن تعلمن أن كل واحدة منكن هى حواء؟ إن قضاء الله على جنسكن بالعقوبة موجود فى هذا العصر، وبالتالى فإن الشعور بالإثم يجب أن يكون موجودا أيضا. أنتن المدخل الذى يلجه الشيطان، فأنتن باكورة من ذاق الشجرة المحرمة، أنتن أول من تمرد على القانون الإلهى، أنتن تلك المرأة التى أقنعته؛ بالأكل من الشجرة ؛ إذ لم يكن لدى الشيطان القدر الكافى من الجسارة لكى يهاجم آدم. لقد دمرتن بمثل هذه السهولة الرجل الذى هو صورة الله!! وبسبب استحقاقكن للعقوبة ـ التى هى الموت ـ كان على ابن الله أن يموت أيضا.. إلى آخر ما قال من ترهات تشرح رأى الكنيسة فى وظيفة المرأة. ص _150(1/144)
وفلسفة الكنيسة أن الاتصال بالمرأة نكاحا أو سفاحا ليس من معالم التقوى! فالبعد عنها غنيمة، وهى مصيدة الإثم، وباب الفتنة، والواجب احتباسها فلا تخرج إلا فى أسوأ لباس، ومع انتظار كل رذيلة منها! وهذا الموقف القاسى الجهول هو الذى أنكره نبى الإسلام عندما قال: (حُبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وقرة عينى فى الصلاة) إنه لم يكن يصف واقعا غريزيا، بل كان يقرر موقفا دينيا؛ هو أحد العناصر الأولى للحنيفية السمحة التى بعث بها. فالمرأة فى الإسلام كالزهرة العطرة! وهى تقترن بالطيب، وسراء الحياة، وليس شأنها ـ كما يرى القديسون الجهلة فى النصرانية، وكما يرى مقلدوهم فى عصرنا ـ أن تُهان وتُزدرى. وقد كفرت الحضارة الحديثة بتعاليم المسيحية الأولى؛ واعتبار حواء مسئولة عن شقاء آدم ثم وصف كل امرأة بأنها حواء، ولكن هذه الحضارة شردت عن الصراط المستقيم، وجعلت المرأة والرجل سواء فى تحليل المحرمات. والسبب أن المسلمين المعاصرين عجزوا عن تقديم نموذج إسلامى جيد لحقوق المرأة وأسلوب معاملتها. وماذا يقول أهل الأرض عن الإسلام إذا سمعوا أنه يحرم على المرأة مزاولة أساسيات الحياة؟ إن الفقهاء الأوائل لم يحرموا على المرأة قيادة جمل أو حمارة، حتى جاء فى هذه الأيام النكدات من يحرم على المرأة أبسط حقوقها الإنسانية!! أقترح على هؤلاء الفقهاء البائسين أن يبحثوا لهم عن عمل آخر غير الكلام فى الإسلام. ص _151(1/145)
خاتمة نحن الآن فى القرن الخامس عشر من تاريخ الإسلام، وفى نهايات القرن العشرين من تاريخ النصرانية. لقد اشتعلت حروب كثيرة بين الدينين كان يمكن ألا تقع، وعند التحقيق ينكشف أننا لسنا المسئولين عنها! ثم واجه العالم كله نهضة علمية ناجحة غيرت وجه الأرض، وتطلع إليها كثير من الناس، فقادت الحياة فلسفات ومذاهب واهية الصلة بالوحى سيئة الحكم عليه..! لقد أفلت الزمام من أيدى المتدينين عموما! أما يكون ذلك دافعا إلى مراجعة المواقف السابقة، وتخفيف العداوات المتوارثة؟ يبدو أن ذلك صعب، ويبدو أن الطمع فى دحرنا شديد!! إن الحضارة الحديثة علمانية الصبغة، وهى تعبد اليوم الحاضر، وتنسى اليوم الآخر، والدين فى الغرب يُذكر فى أعياد الميلاد، وفى أيام الآحاد، ويجتر اجترارا الضغائن التاريخية بينه وبين الإسلام. وأشهد أن كهنة النصرانية بعد هزيمتهم فى معركتهم الخاسرة بين العلم والدين لم يضيعوا أوقاتهم سدى بل سرعان ما أصلحوا شأنهم، وعرضوا أنفسهم على المنتصرين يخدمون مآربهم فى الغارة على القارتين القديمتين! ولماذا لا يُقبلون مبشرين بين يدى الاستعمار الجديد؟ إنهم يمهدون لأطماعه؛ ويزينون وسائله وغاياته؛ فمرحبا بهم!! وكان المسلمون فى كبوة تاريخية هائلة عندما بوغتوا بالزحف الصليبى الجديد، على أنهم سرعان ما استفاقوا لاسيما والضربات التى تكال لهم ص _152(1/146)
عنيفة.. والخسائر متتابعة.. إنهم كانوا يقرءون فى كتابهم (....ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا....)، ويقرءون (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. . . ) وهاهم أولاء يقعون بين شِقَّي الرحى، فالوثنيون الهنادك يريدون قتلهم، واليهود قرروا إقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل، والكنائس الغربية اصطلحت على تنصير الأطراف والقلب، أو القلب والأطراف، لا يهم بأيهما تبدأ، فلتكن الهجمة الشرسة على الاثنين معا..!! إنه موقف عصيب، بيد أنه ليس بجديد فى تاريخنا المديد، وسنخرج من هذه الورطة وافرين ظافرين إن شاء الله. ذلك أننا نمثل الحق! توحيدنا لله لا تشوبه شائبة! ووحيه لدينا لم ينقص منه حرف !، وعملنا له، إن اضطرب فى قرون مضت فقد بدأ يستقيم ويلزم الطريق. إن الرياح فى بلادنا لا تزال تحمل أصوات الدعاة وهم يصيحون: الله أكبر، ولا تزال الأرض تشارك السماء عندنا فى تمجيد الله وتوقيره وتنزيهه: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون) والدين لا يكون من الأرض بل ينزل من السماء، ولا مكان فيه لأهواء الناس، لأن الأمر كله لله، وقد رأيت أيها القارئ ماذا صنع أهل الكتاب بالكتاب، وكيف حرفوا الكلم عن مواضعه، وكيف زادوا ونقصوا ! إن عقائد كثيرة صنعتها مؤتمرات بشرية، بل نظرات فردية، ولا تزال للقصة ذيول حتى يوم الناس هذا. ص _153
يقول محرر مجلة الأزهر فى عدد ذى القعدة سنة 411اهـ: (نسوق هذه النصوص من مصادر أهل الكتاب الخاصة ببابوية روما) ليس لنناقشها، أو لنحكم عليها، فليس ذلك من حقنا، إنما نسوقها لنبين لفريق من كتابنا المسلمين اختلاف مصدر التشريع، ثم نمضى، وفى ذلك البلاغ، مهما رُمى علماء المسلمين بالجمود.
تقرر الكنيسة البابوية الكاثوليكية:(1/147)
أن الكتب المقدسة لم تذكر كل شىء، وبناء على ذلك فـ (بابا الفاتيكان) نائب المسيح فى الأرض، وهو معصوم من الخطأ فى أحكامه الدينية، فكل ما يشرعه فى جانب الإيمان، وما يحدده فى العقيدة يعتبر قضايا يقينية غير قابلة للتحوير أو التبديل، كما أنها ليست بحاجة إلى موافقة الكنيسة عليها، وإذا تجاسر أحد على تخطئة تحديدها يكون محروما، وله أيضا أن ينشر تعليما إيمانيا ويحتم حفظه، لأن فحص الآيات أمر خاص به منذ أجيال عديدة.
وفى إطار هذه النصوص: أذاع الفاتيكان عام 47، 1948 م أن السيدة مريم البتول صعدت ـ بدورها ـ إلى السماء، وصارت.
وأذكر أن فريقا من القساوسة الكاثوليك بجنوب إفريقيا احتجوا على هذا القرار، فهددوا بالحرمان، فلاذوا بالصمت.
كذلك بعد هذا القرار بسنتين أو ثلاث على الأكثر، قام المنصرون بدعوتهم بين (الإسكيمو) فلما قرأ هؤلاء فى الأناجيل المتداولة: (خبزنا كفافنا) امتنعوا عن الطعام؛ وتساقطوا إعياء، فسحبت هذه الأناجيل، وجىء لهم بطبعة أحدث تحمل عبارة ذات مدلول أشمل من (الخبز) حتى لا يموتوا جوعا.
نشرت هذا الخبر (صحيفة النداء) المصرية التى صدرت فى نهايات النصف الأول لهذا القرن، وذكر المحرر هذا الموضوع تحت عنوان (شجاعة أدبية).. كذا!!
ص _154(1/148)
من هذا يتبين للقارىء أن هذه الكنيسة تشرع ما تريد، فكأنها إنجيل مفتوح يضيف إليه الباباوات ما يرون، ومن آيات ذلك تشريعاتها المختلفة فى الصوم، والانقطاع.. الخ ولا عليها ألا تعتمد على الأناجيل، لأنها ترى أن الأناجيل؛ بل الكتب المقدسة؛ لم تذكر كل شىء. ثم بعد هذه النصوص، وشىء من تطبيقاتها، ننظر فى فروق عدة، لنتبين مصدر التشريع فى الإسلام، فإنه إذا رأت الكنيسة أن (الكتب المقدسة لم تذكر كل شىء) نقول ـ فى القرآن الكريم: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وإذا رأت أن رأس الكنيسة معصوم قلنا: ليس فى الإسلام عصمة لغير الأنبياء، وإذا قررت أن لرأس الكنيسة أن يشرع فى جانب الإيمان والعقيدة.. إلخ قلنا: ليس ذلك لأحد فى الإسلام، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ليس لك من الأمر شيء). وإذا كان لرأس الكنيسة أن يضع آية، أو يعمم مضمونا. قلنا: فى القرآن الكريم: (لا تبديل لكلمات الله) ، (لا مبدل لكلماته) فالقرآن الكريم لم يفرط فى شىء، ولا تبديل لكلماته، ولا عصمة بعد أنبيائه، وقد تضمنت آياته كل شىء، ثم الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ويوضح، ويعلم كيف نمضى. فليثبُت المسلمون أمام الغزو الجديد بشُعبه الثقافية والسياسية والعسكرية إنهم منتصرون ولو اجتمع عليهم (مَن بأقطارها) إذا هم وحَّدوا كلمتهم على كلمة التوحيد. والحملة اليوم شديدة لتهويد القدس، ولتحويل مساجد بالهند إلى معابد وثنية، ولتوسيع الرقعة التى انتزعها اليهود من أرضنا، ولمعاونة العلمانيين على إقصاء الإسلام ومحو شاراته، ولشد أزر المنصرين وهم يمكرون بالضعاف و المرضى. ص _155(1/149)
إن الحملة بالغة المكر واسعة الفتك، وهى فى الوقت الذى تزعم فيه تجريد الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل تضاعف تسليح إسرائيل، وتضيق الخناق على العرب. ولست أخاف عدوى ـ فهو أمامى مكشوف ـ وأنا أجدر منه بنصر الله، إن صدقت ربى، وسويت صفى، وأخلصت نيتى، ومضيت فى الطريق إما إلى الجنة، وإما إلى السيادة والقيادة والفوز المبين. (قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون)(1/150)