خالد حداد
صفحات من مذكرات
رجل عاقل جداً
* مجموعة قصصية *
البريد الالكتروني: : unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.com
تصميم الغلاف للفنان : صالح الخضر
((
خالد حداد
صفحات من مذكرات
رجل عاقل جداً
* مجموعة قصصية *
من منشورات اتحاد الكتّاب العرب
2000
صفحات من مذكرات
رجل عاقل جداً
... لا تظنوا أنني أشكو من نقص في قواي العقلية. كلا، أرجوكم، لا تقعوا في الخطأ الرهيب الذي وقع فيه الكثيرون من قبلكم، فأنا مكتمل العقل إلى حد يفوق المعتاد. نعم، يفوق المعتاد، وهذه هي مأساتي. فأصحاب العقول العادية لا يلفتون النظر، ولا يكترث بهم أحد، ولا يتناولهم الآخرون سواء بالمديح أو بالذم. وهنا محور مأساتي كما قلت لكم، فأنا أرى أكثر من غيري، وأبعد، وربما بشمولية أوسع وأعمق. وأنا لا أتباهى بهذه الميزة دائماً، وعندما أفعل ذلك لا أبالغ كثيراً. وأقول «لا أتباهى» تجاوزاً، لأنني لا أعتبر ذلك تباهياً كما يفعل البعض، فهو حق مشروع لي، وذكره بين الحين والآخر يُعتبر عرضاً للحقائق فحسب، يمنح صاحبه نشوة بالغة، مثلما يبعث على النشوة أن تختال ببذلة جديدة، أو أن تدعو بعض الأصدقاء لمشاهدة قطعة مفروشات اشتريتها حديثاً. بل إن التباهي بالمقدرة العقلية أحق وأجدر من التباهي بالمقدرة الشرائية، فالأولى موهبة منحها اللّه عز وجل لعدد قليل من الناس، بينما الثانية قوة مكتسبة يمكن لأي شخص أن يصل إليها بشكل أو بآخر.(1/1)
قد يتساءل بعضكم: إذاً أين المأساة في ذلك؟ هل أصابكم الملل؟ أرجو عفوكم، فربما قد استفضت قليلاً في حديثي، وقد أكون خارجاً عن الموضوع إلى حد ما. ولكن ما أدراكم ما هو الموضوع الذي أرغب في عرضه عليكم؟ على أي حال سأحاول التقليل ما أمكن من الاسترسال في لغو لا طائل من ورائه حتى لا تتهموني بالثرثرة، فأنا لست ثرثاراً بطبعي، ولا أجيد الثرثرة إلا بفرشاتي وألواني، التي إذا أطلقت لها حريتها فإنها ستواصل ثرثرتها من غير انقطاع لساعات طويلة، وربما لأيام متواصلة، فأنا رسام محترف أعيش من بيع لوحاتي. وقد تستغربون أن يوجد رسام محترف يستطيع كسب رزقه من لوحاته، وهذا لا يدهشني، فقد كان كل شخص ألتقي به للمرة الأولى في منزل أحد أصدقائي يستغرب أن يكون هذا عملي. كان التعليق نفسه يتكرر، كشريط تسجيل، بدقة وحرفية كاملتين:
ـ ماذا يعمل الأستاذ؟
ـ رسام!
ـ أقصد ما هو عملك الحقيقي؟
ـ هذا هو عملي الحقيقي.. رسام!
ـ آه.. تقصد أنك رسام هندسي؟
ـ كلا أنا رسام.. أرسم لوحات، وأبيعها، وأعيش بثمنها.
ويستمر الحديث على هذا الشكل، باستنكار مكتوم مهذب من محدثي، وإصرار عنيد مترقب مني. كان الجميع يظهرون ردة الفعل نفسها، وكنت دائماً أبدي الإصرار نفسه. كانوا على استعداد لتقبل أي جواب مني، لو قلت لهم إنني كاتب في دائرة حكومية، أو عامل في ورشة لتصليح السيارات، أو نادل في مطعم، أو حتى مُهرّب. أما أن أكون رساماً محترفاً فهذا شيء غير مألوف، والناس لا يقبلون غير المألوف. حتى أمي الطيبة ـ رحمها اللّه ـ كثيراً ما كانت تطالبني بالبحث عن «وظيفة مجدية» تعطيني كياناً واضحاً بين الناس، وتؤهلني للعثور على زوجة مناسبة. كانت تقول لي:
ـ بماذا سنجيبهم إذا سألوا عن عملك؟ هل سنقول لهم إنك رسام؟ هل سيقتنعون بقدرتك على إعالة ابنتهم من عملك هذا؟
وكانت النتيجة أنني الآن في الستين من عمري.. ولا أزال عزباً.(1/2)
على أي حال، لم تكن هذه مأساتي الحقيقية، لكن حقيقة المأساة كانت رؤيتي البعيدة للأمور، وتفكيري المغرق في الشمولية. كانت رؤيتي البعيدة تصل في بعدها إلى حد محرج لي أحياناً، ولبعض الأشخاص غالباً. فكثير من الناس لا يرتاحون كثيراً لأصحاب الرؤى البعيدة، لأنهم يبعدونهم عن الاستقرار والراحة والطمأنينة التي تبعثها فيهم الحياة المرحلية الهادئة. وهذا بالذات ما ضخم مأساتي، وأوصلني إلى حد المواجهة المباشرة مع نتائجها. لقد بدأ الأمر بسيطاً، مثل بدايات الأزمات الكبيرة كلها، ونما بسرعة، مثل نموها أيضاً، حتى وصل إلى نقطة الانفجار. كنت أقف في مخزن لبيع الملبوسات أتأمل مجموعة من ربطات العنق، وتدخل أحد عمال المخزن قاطعاً تأملي، وراح يقترح علي ألواناً معينة، لكنني رفضتها بطبيعة الحال لأنها لا تناسب ذوقي، وبخاصة أن اختيار الألوان وتناسبها هو من صميم عملي. وفجأة رأيت في وجهه ابتسامة «خاصة».. وربما وجدتها أنا «خاصة» بسبب رؤيتي البعيدة جداً، لقد تبينت في تلك الابتسامة رأيه الصريح بي، كأنه يملك تلك الموهبة النادرة مثلي أيضاً . كان يراني بعمق.. وكان يسخر مني، ويحاول مسايرتي بصبر نافد، وبترفع مهذب متقن. وشعرت بيدي ترتجفان، وقلبي ينبض بقرع صارخ. وتغلب الانفعال الغاضب في داخلي على الهدوء والدماثة اللتين أغلف شخصيتي بهما عادة. كنت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. وخلال لحظة قصيرة أدركت ذلك، لكن لحظة الإدراك تتأخر دائماً عن الوقت المناسب للسيطرة والكبح... وشعرت بأنني انفصلت إلى شخصين، أحدهما انقلب إلى وحش خرافي مستثار، راح يحطم كل ما تصل إليه يداه، بلا وعي أو تفكير.. بلا موجّه.. بلا هدف.. باستسلام كامل لانفعاله الذي انطلق متحرراً من كل قيد. والشخص الآخر إنسان واعٍ مدرك يقظ، يرى ويسمع كل ما يجري، بأدق تفاصيله، لكنه عاجز تماماً عن التدخل، أو التأثير..(1/3)
يراقب الأحداث بحياد كما يراقب شريطاً سينمائياً، لا علاقة له بأحداثه، ولا يعرف كيف ستكون نهايته.
لكن هذين الشخصين سرعان ما عادا إلى الالتحام من جديد. وشعرت بالتحامهما فوراً، وكان مفاجئاً وسريعاً مثلما كان الانفصال.. لكنه لم يكن تراجعاً وعودة إلى البداية، مثل تدوير الشريط السينمائي باتجاه معاكس، بل كان هبوطاً من الجهة المقابلة، كالانحدار عن قمة جبل من الجانب المقابل للصعود. وعندما وصلت إلى درجة الوعي الكامل كنت قد بلغت السفح تماماً. وفي درجة الوعي الكامل هذه أدركت أنني في سيارة مغلقة تنطلق بأقصى سرعتها. وبدأت استكشف ما حولي. كان يحيط بي من الجانبين رجلان بلباس أبيض، حاولت بمقدرتي الفذة على الرؤية البعيدة أن أستشف شيئاً ما من ملامحهما.. شيئاً يدلني على ما سيلي ذلك.. شيئاً يخبرني أين أنا؟ إلى أين أُنقل؟ ماذا سيحدث بعد؟ لكنني لم أجد في وجه أي منهما ما يمكن أن أسميه «ملامح». كانت هنالك عينان وحاجبان وأنف وفم.. كان هنالك كل أجزاء الوجه المعروفة، ولكن بلا ملامح. قد يقول بعضكم: ولكن أليست الملامح ما ذكرت؟.. كلا، فالملامح ليست عناصر مادية تراها العين، بل هي إحساس بما تكنه هذه العناصر، وهذا الإحساس هو ما افتقدته في هذين الوجهين.. لكنني عثرت عليه في اللباس الأبيض، الذي استنتجت منه ما أريد والذي كان ملامح هذين الرجلين.. ملامحهما الوحيدة حقاً.(1/4)
كان الطبيب الذي استقبلنا، أنا وحارسي، من نوع يختلف كلياً عنهما. كانت له «ملامحه» الخاصة، المرنة، المدروسة بإتقان والتي يمكن التكيف بها حسب الحاجة. فقد منحني، كما اقتضت حالتي برأيه، نظرة حنان متواضعة التعالي، متفهمة، وطلب مني الجلوس برقة واضحة، أرفقها بتربيتة أبوية على كتفي ـ كان شاباً في الثلاثين ـ زيادة في محاولة منه لإقناعي وتطميني. وتوضحت الأمور أمام عيني بشكل جلي. إذاً فهم يظنونني ناقص العقل، أو بكلمة أخرى مضطرب الأعصاب... وكاد الشخصان في داخلي أن ينفصلا ثانية، لكنني تمكنت من كبح ذلك بمقدرة فائقة. كان الشخص الواعي بينهما يحاول الاستسلام للأمر الواقع، واعتبار وصولي إلى هذا المكان نتيجة منطقية طبيعية لما ارتكبه الشخص الآخر. لكن الآخر هذا كان يرفض تلك النتيجة، ويستغرب إحضاري إلى هنا. كان يعتبر أن المنطق يقتضي الالتجاء إلى الشرطة، لتعتقلني وتسجنني، وتطالبني بغرامة تعويضاً عما أتلفت في ثورتي. ولكن أن أصل إلى هنا.. أهذا رأيهم بي؟ وتمكن الشخص الواعي من إقناع الآخر بأن هذا تدبير موقت لن يطول. والتحم الشخصان من جديد بعد وصولهما إلى هذا الاتفاق، فقد كانت مقدرة الشخص الواعي على الإقناع مجدية إلى حد كبير في بداية الأزمات.. أما بعد تطورها فهذا موضع شك كبير.(1/5)
خلال الأشهر الستة التي أمضيتها في المصح كانت القراءة تسليتي الوحيدة. فقد منعوني من الرسم لأن أدواته خطرة ويحظر وجودها بين أيدي ذوي الأعصاب المضطربة. لكن متعتي الكبرى كانت تلك الساعات الطويلة التي أمضيها في سلسلة من أحلام اليقظة. كنت خلال هذه الساعات أحقق بسهولة عجيبة ما لم أستطع تحقيقه طوال السنين العديدة التي انقضت من عمري. كانت هذه الأحلام هي بحر حياتي الواسع الذي تتخلله هنا وهناك جزر من اليقظة الجبرية. وكانت الجزر تزعجني وتنفرني وتقطع علي استرسالي، فكنت أحاول تقليل عددها ما أمكنني، كي أستطيع تحويل أحلام يقظتي إلى إحساس واقعي حقيقي. وكان هذا الإحساس (عند تمكني من بلوغه) يُشكّل حقاً أقصى درجات السعادة والنشوة التي كنت أحصل عليها. وعندما قرأت «الدكتور فوستوس» حسدته كثيراً على مقدرته الهائلة التي حصل عليها بإبرام عقد مع الشيطان، ينال فيه قوة لامحدودة طوال أربع وعشرين سنة، ثم يهب نفسه في نهايتها للشيطان ذاته كي يصطحبه إلى الجحيم. لكنني تفوقت بعد ذلك على هذا «الفوستوس» التافه، الذي لم يحسن الاستفادة من هذه الفرصة النادرة. فقد منحت نفسي عدداً أكبر من السنين، وحققت ما لم يستطع هو تحقيقه: لقد دمرت أعدائي بلا رحمة، وحصلت بسهولة فائقة على كل متعي الحسية والروحية التي رغبت فيها.. وتحديت أصدقائي الخياليين الطيبين كافة، ابتداء من أفلاطون، مروراً بتوماس مور، وانتهاء بويلز. فقد كانت أحلامهم، وخيالهم الذي أعقبها، محدودة إلى درجة متدنية جداً. أردت أن أقدم خدمة أوسع نطاقاً وأعم فائدة للعالم مما قدموا. وفكرت.. يجب أن أخلص هذا العالم من الكابوس الذي يمتص دمه.. من الشبح الذي يمسح ألوان أحلامه. وقلت في نفسي: إن الولايات المتحدة هي المارد الذي يخيف أطفال العالم بسوطه الطويل اللاسع، إذاً علي أن أحولها إلى مسخ لا حول له ولا قوة..(1/6)
إلى دولة ضعيفة مقلمة الأظافر من دول العالم الثالث، تستجدي اللقمة والعطف والمساندة من أسيادها. ولكن كيف سأنجز ذلك؟ الأمر سهل، سأجردها من هيبتها، وهيبتها تكمن في قوتها المالية: مصارفها وشركاتها. إذاً سأبدأ بأضخم مجمع لتلك القوة: مدينة نيويورك... وخلال دقائق قليلة كانت المدينة قد خُسفت تحت مياه شاطئها، بناطحات سحابها وتمثال حريتها، بأغنيائها ومؤسساتها، بغرورها وجبروتها، بصلفها وعنادها؛ هكذا يكون العمل الحقيقي يا فوستوس، لا كما كانت ألعابك السحرية الساذجة المضحكة.(1/7)
خلال إقامتي القصيرة في المصح كونت عدداً من الصداقات مع بعض النزلاء الذين اكتشفوا قدرتي الفكرية الفريدة وأعجبوا بها، وأصبحوا يتلهفون لمقابلتي والاستماع إلى آخر منجزاتي التي لم يكن لها حدود. وكان همي الأكبر ينحصر في إصلاح العالم؛ بمساعدة الدول الضعيفة وتقويتها صناعياً واقتصادياً، وتوحيد الدول المجزأة، وتهذيب كبرياء الدول القوية، للوصول إلى حالة مثالية يتحقق معها العدل والأمان والرفاهية لدى البشر كافة. وكثيراً ما كنت أستمع إلى العديد من الاقتراحات التي يعرضها أصدقائي الطيبون، فأقوم بإجراء ما يلزم من التعديل والصقل عليها قبل وضعها موضع التنفيذ. واستطعت خلال فترة محدودة نسبياً أن أخفف من حدة المجاعة في الهند، وأوصلت المياه الوفيرة إلى المناطق العطشى في إفريقية، وأنهيت حالات مزمنة من الصراعات في عدد من مناطق العالم، وعطلت المفاعلات المعدة لإجراء التفجيرات النووية، وأبقيت على ما خُصّص منها للغايات الإنسانية الحضارية. وخلال أشهر ثلاثة تمكنت من إيصال البشر إلى حالة مقبولة من الطمأنينة والاستقرار والرضا، تصلح أساساً للبدء بمرحلة جديدة من البناء والتعويض، بغية تحقيق الشكل المثالي للإنسانية كما ينبغي أن تكون، بالعدل والمساواة وتكافؤ الفرص. وفي الأشهر الثلاثة التالية بدأ ذلك يتحقق، وكان من الطبيعي بعد استكمال الأساس أن ألتفت إلى بعض الأمور المتممة، وعلى رأسها مبادئ التعامل الأخلاقي بين البشر. كان هذا في رأيي أحد أهم أسباب التخلف في دول العالم الثالث، وعنصراً مؤثراً يدفع الدول الصناعية حالياً إلى التراجع بسرعة، مقترباً بها من التخلف ثم الانهيار. وفوجئت بأن الإصلاح الأخلاقي أصعب بكثير من كل الإنجازات السابقة التي قمت بها، ابتداء من خسف مدينة نيويورك حتى تعطيل مفاعلات التفجيرات النووية. فهذه منشآت ومبان لها وجود مادي ظاهر، يمكن مجابهته والتأثير عليه.(1/8)
أما تلك فهي مشاعر وأحاسيس وردود فعل وسلوك وقناعات داخلية ومبادئ متوارثة، وبالتالي لا يمكن لأي قوة أن تغير من واقعها، ولا لأي قانون أو سلطة أن يضبط شذوذها. لقد كان تدمير العالم بكامله ثم إعادة بنائه، أو تغيير خريطته الجغرافية والاقتصادية، أسهل بكثير من إقناع مخادع كي يكف عن الخداع أو ظالم أن ينزع الظلم من قلبه. لكن اصراري ومقدرتي كانا أقوى من أن يتراجعا أمام عقبات كهذه، مهما كانت صعبة العبور.
بدأت بدائرتي الصغرى، بالمجتمع المحدود الذي فُرض علي أن أكون أحد أفراده ـ مجتمع المصح ـ هؤلاء الأصدقاء البسطاء الطيبين، المعجبين إلى درجة الذهول والانبهار بقوتي وأفكاري وإنجازاتي. كانت كل فكرة أقولها لهم تصبح قانوناً، وكل رأي أطرحه أمامهم يتحول إلى مبدأ يسيرون على نهجه. ولكن، حتى هذه القوانين والمبادئ التي وصلت إلى أعماق قلوبهم ظلت في حيز الاقتناع النظري. فالاقتناع النظري شيء والتطبيق العملي شيء آخر. كانوا مثل مدمن التدخين الذي يعرف باقتناع كلي أضرار التدخين وأهمية الامتناع عنه، لكنه أضعف من أن يبدأ الخطوة الأولى في طريق التخلي عن ممارسته، وبدء مرحلة حياتية جديدة موفورة الصحة. لكنني مع ذلك تمكنت من التأثير (والانتقال إلى التطبيق العملي) على عدد من زملائي أو تلامذتي كما كانوا يدعون أنفسهم، مما زاد من غبطتي ونشوتي وثقتي بمقدرتي الفريدة من نوعها. وعندما صدر قرار من إدارة المصح يتضمن أن بإمكاني مغادرته لتأكدهم من زوال أي آثار للاضطراب العصبي في سلوكي، كنت قد نجحت في تحويل عدد كبير من نزلاء المصح إلى أتباع لي، مؤمنين بأفكاري وناشرين لمبادئي ومدافعين عن نظرياتي.(1/9)
كانت عودتي إلى مرسمي مفعمة بالإثارة والنشوة. كنت كمن يعود إلى بيته بعد سفر طويل مليء بالمشقة والإحساس بالغربة. وعلى الرغم من أن الأشهر الستة التي أمضيتها في المصح كانت مصدر بهجة وسعادة لي، إلا أنها تظل قصيرة بالنسبة للسنوات الستين التي أمضيتها خارجه، ومتعتها العابرة لا تقارن بتراكمات السنين المليئة بمزيج متداخل من المعاناة والسعادة والشقاء والسرور والعذاب واللذة. كانت إقامتي في المصح مثل سفر إنسان من موطنه المتخلف البائس إلى منتجع فائق السحر والروعة والرقي، يشعر بمتعة الإقامة فيه، وتملأ قلبه ووجدانه نشوة مذهلة جديدة على مشاعره وأحاسيسه، لكن أعماقه تظل مرتبطة بموطنه، برباط أسطوري المتانة لا يمكن لأي قوة أن توهنه أو تؤثر عليه. ومع ذلك فالعودة تفتح صفحة جديدة من المشاعر والأحاسيس كانت مجهولة من قبل. فثمة رباط جديد يبرز إلى الوجود يشد العائد إلى ذلك المنتجع بشوق تصعب مقاومته، ويدفعه إلى الحنين والتفكير الملحاح المتواصل بالعودة ثانية للاستمتاع بسحره وروعته. وتتولد آنذاك قوتان متعاكستان متصارعتان: قوة الارتباط والتعلق بالموطن الأصلي بما فيه من عاطفة وذكريات متأصلة متراكمة على مدى السنين، وقوة الانبهار والتطلع للتجديد والتطوير والانفتاح على عوالم لم تكن معروفة من قبل، لكن هاتين القوتين تظلان متساويتين مع تساوي دوافعهما، ويظل الإنسان بالتالي تحت تأثير صراعهما المتوازن، لا يقوى على مفارقة موطنه، ولا يستطيع أن ينتزع من قلبه الرغبة في السفر والاغتراب ثانية.(1/10)
بعد شهرين من عودتي إلى المرسم كنت قد استنفدت ما تراكم لدي من شوق ولهفة للاعتزال والانزواء بين جدرانه، وفي الوقت نفسه كانت أحلام يقظتي قد أصبحت خبزي اليومي، وأصبحت مَلَكة متعمقة الجذور داخل كياني إلى حد لا أستطيع معه التخلي ساعة واحدة عنها. وبدأت أشعر بمتعة السير على غير هدى في شوارع المدينة، أراقب الناس في حركتهم اليومية، وأجعلهم مادة لأحلامي، أُسيّرهم وأُحرّكهم كما أهوى، وأُطبّق عليهم أنظمتي وقوانيني وأفكاري. وفي لحظات متباعدة كان يقطع تسلسل أحلامي هدير سيارة مسرعة، أو ارتطام شخص ذاهل بي، لكنني كنت أعود فوراً لأصل ما انقطع، من غير أن أسمح لأمور عابرة بتشويش مخططاتي الإصلاحية الهامة. ومع ذلك كان احتكاكي بالسلوك الأخلاقي للناس مبعث قلق وإرهاق عصبي شديدين لي، على الرغم من أن هذا السلوك هو نفسه الذي كنت أعايشه، وأتعايش معه إلى حد ما قبل دخولي المصح، والناس هم نفسهم الذين كنت أواجههم وأتفاعل معهم. لكن الأمور بدت وكأنها قد تغيرت بطريقة ما الآن. كنت كمن ينظر إلى الأمور بمنظار مكبر ومقرب، كان الناس يبدون الآن وكأنهم أمام أنفي مباشرة وملتصقين بي إلى درجة مرعبة، وأصبح سلوكهم كأنه موجه إلي بالذات كي أعاني منه وحدي وأتأذى من نتائجه. وبدأت أشعر أنني هدف مقصود لعبث الناس وظلمهم واضطهادهم. ولعل هذا كان مبعثه إحساسهم بالنقص أمام قدراتي المميزة، وغيرتهم مني وحسدهم لي بسبب تفوقي العقلي ورؤيتي البعيدة. ووصل الجهل بهم إلى درجة أنهم كانوا يسخرون من إنجازاتي المتواصلة حين يتفق أن أتحدث عنها أمامهم، كما أصبحوا يتندرون بأفكاري الإصلاحية ويتناولونها في جلساتهم بأقصى درجة من السطحية وانعدام الرؤية والبصيرة. وأخيراً لم يكن أمامي سوى العودة إلى الانزواء والعزلة في مرسمي، فهو صومعتي المحصنة المنيعة التي لا يستطيع أحد اختراقها وإزعاجي فيها.(1/11)
خلال شهرين آخرين كنت قد بدأت برسم أكثر من عشرة لوحات، كل واحدة منها موضوع لأحد أحلامي. لكن الأحلام كانت بعيدة التطلعات واسعة المدى إلى حد عجزت معه موهبتي الفنية الفائقة عن تصويرها، فظلت اللوحات في خطوط تأسيسها الأولى، وتوقفت موقتاً عن إتمامها. ومع مرور الأيام شعرت بأن ثمة قوى خفية تحاول إفشالي وعرقلة إنجازاتي. ولم تعد صومعتي المنيعة مكاناً آمناً لي، بل أصبحت هدفاً لزيارات مشبوهة من أعدائي، الذين لم يُرضهم ابتعادي عن سخريتهم وعبثهم، فلحقوا بي إلى مرسمي ليواصلوا تندرهم ومزاحهم وجهلهم. وبلغت القسوة لديهم حداً رهيباً كانوا معه يتفننون في البحث عما يسبب لي المزيد من الاضطراب والقلق ليمعنوا في ارتكابه، ويستمتعوا في مراقبة آثاره. وكانت أقصى درجات وحشيتهم تلك المجلات والصحف الملفقة التي راحوا يحضرونها لي ليكذبوا ما رويت لهم من إنجازاتي. كانوا يريدون إقناعي بأن نيويورك ما زالت حية تنطح السحاب، وأن المجاعة في الهند تزداد ضراوة، وأن المناطق الجافة في إفريقية تتشقق عطشاً يوماً بعد يوم، وأن التجارب النووية فاقت في حجمها حدود العقل، وأن الصراعات التي تتنامى في أنحاء العالم كافة لا تزال لعبة الدول العظمى التي لا يمكن أن تتخلى عنها أبداً. كان همهم الوحيد أن يبرهنوا لي بالأدلة والوثائق أن العالم أبعد ما يكون عن الطمأنينة والاستقرار والرفاهية والعدل. وزاد هذا من اضطرابي وتشتت ذهني، فقد كنت أستمد من الأحلام غلافاً زاهياً أغطي به الواقع الكئيب المحيط بي، وكنت أعتصر من خيالاتي بضع قطرات حلوة أمزجها مع الحقيقة المرهقة لأخفف من مرارة مذاقها. كانت أحلامي وخيالاتي ملجأ أتقي به فوضى العالم واضطهاده، وأُجابه به عجز قادة البشرية عن التصرف بما تقتضيه مناصبهم من حكمة وإنسانية وعدل، وأحقق عن طريقها ما لا يستطيعون (أو لا يريدون) تحقيقه من أمن وسعادة للبشر...(1/12)
وكانت أقسى درجات الظلم والاضطهاد التي يمكن أن يمارسها أعدائي هي أن يحرّموا علي حتى متعة اللجوء إلى أحلامي. وعندما حاولت منعهم من دخول مرسمي، أخذوا يتعرضون لي في أحلامي، كي يخربوا ما أحاول بناءه، ويعطلوا ما أريد إنجازه. وفقدت بالتدريج مقدرتي الفذة على التركيز، وتحولت أحلامي وخيالاتي إلى صورة مشوشة مضطربة ممتلئة بمزيج من المحاولات الفاشلة والنظرات الساخرة.
كان اتخاذ القرار صعباً وقاسياً للغاية. لكنه كان الحل الوحيد لما أعاني. كان العملية الجراحية التي تحمل (على الرغم من خطورتها) الأمل الأخير لإنقاذ حياتي. ولم أفكر كثيراً، فالتفكير الطويل يزيد من احتمال التردد، وقد يسبب التراجع في اللحظة الأخيرة. وكانت ليلة تفكير واحدة كافية، ومع إطلالة الشمس كنت أستقل سيارة أجرة، متجهاً إلى حيث قررت تمضية ما تبقى من حياتي، إلى الجزيرة الوحيدة التي يمكن أن أعيش فيها بأمان وسعادة واستقرار مع أحلامي وخيالاتي، مع أفكاري وإنجازاتي، مع أصدقائي وتلامذتي وأتباعي البسطاء الطيبين.
(((
ذو الوجه المستطيل
كان الأمر الغريب الوحيد الذي رأيته في حلمي تلك الليلة، هو ذلك الرجل النحيل بوجهه المستطيل، الذي يشبه في استطالته وجوه لوحات مودلياني. لم يكن الحلم مزعجاً كثيراً بحد ذاته، لكن الابتسامة الحادة التي ارتسمت على الوجه المستطيل، بشاربيه الرفيعين الطويلين المتهدلين، أثارت لدي كثيراً من الاستغراب والنفور والتوجس. فقد احتوت ابتسامته مزيجاً من التربص والسخرية واللؤم. كان واضحاً أن ابتسامته تلك مسددة نحوي وحدي، أما بقية الحاضرين فلم يبد مكترثاً بهم، أو شاعراً بوجودهم.(1/13)
استيقظت صباح اليوم التالي، وقد نسيت أحداث الحلم كلها، باستثناء صورة صاحب الابتسامة، التي ظلت ملتصقة بذاكرتي. كان وجهه المستطيل، وشارباه الرفيعان الطويلان المتهدلان، وابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة تلوح في مخيلتي بوضوح يمكنني من رسم صورة الوجه بأدق تفاصيله.
حاولت أن أضحك من نفسي، وأنا أرتدي ثيابي، كي أمسح ما خلّفته تلك الصورة في قلبي من إحساس بالقلق. وخرجت الضحكة من شفتي مهزولة جافة مفتعلة، بينما ظل قلبي منقبضاً قلقاً مترقباً.
خلال المسافة التي تفصل منزلي عن مكان عملي تعمدت أن أركز نظري، وعقلي من ورائه، في وجوه الناس الذين يتتابعون أمامي، لعل صورة وجوههم تتراكم في طبقة ثخينة داخل ذاكرتي، وتخفي صورة الوجه المستطيل، لكن صورة تلك الوجوه كانت تدخل مخيلتي، وفي لحظة تفقد ملامحها، وتتحول إلى رقاقة شفافة، تزيد في وضوح الوجه المستطيل، بشاربيه المتهدلين، وابتسامته الحادة.
دخلت المصعد مع الداخلين، وانزويت في ركنه، مثبتاً عيني على الأرقام الضوئية بجانب الباب، بانتظار وصولي إلى الطابق العاشر حيث مكان عملي. عند الطابق الثالث شعرت بقوة خفية غامضة تحول نظري عن أرقام المصعد نحو رجل واقف بجانبي. وتضاعفت دقات قلبي، وهبطت ارتجافة باردة منه إلى ركبتي. كان ذلك رجل الحلم نفسه، صاحب الوجه المستطيل، ذا الشاربين الرفيعين الطويلين المتهدلين، وعلى شفتيه ارتسمت نفس تلك الابتسامة الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة. كانت عيناه تحدقان في عيني، بتفحص مدقق ثابت.
توقف المصعد في الطابق السابع، وخرج منه ذو الوجه المستطيل. كانت مقدرتي على التفكير والمحاكمة قد تعطلت عن العمل، منذ الطابق الثالث. شعرت لدى خروجه بومضة من الارتياح، وتباطأت نبضات قلبي، وخفت رعشات ركبتي، لكنني عجزت عن استخدام عقلي، في محاولة لتبرير ما رأيت، أو تحليله، أو ربطه بالمنطق والواقع.(1/14)
دخلت مكتبي وجلست إلى طاولتي، لكن تفكيري كان محلقاً بعيداً عني، بين الطابقين الثالث والسابع داخل المصعد. كان قد انفصل عني في ذلك المكان، رافضاً الخروج معي في الطابق العاشر. فقد عودته منذ سنين على ربط الأمور بمعادلة صحيحة لا تحتمل الخطأ، والآن قد اختل توازن معادلته تلك، ولم يعد قادراً على الالتحام معي قبل التوصل إلى حل يعيد إليه صفاءه واسترخاءه.
انقضت ساعات الدوام الرسمي بدون أن أنجز شيئاً من عملي. وخلال هبوطي داخل المصعد حاولت إجراء مصالحة شكلية موقتة مع تفكيري، وأقنعته بعد جهد بالانضمام إلى صفي كي نتعاون معاً لمواجهة هذا الدخيل الطارئ الذي تسلل بيننا.
تمكنت تدريجياً من إعادة بعض الهدوء والارتياح إلى عقلي. لكن جسدي كان متعباً، وقدمي في حالة من الإرهاق تمنعني من مواصلة السير إلى منزلي، وأشرت إلى سيارة أجرة عابرة، وصعدت بجانب السائق، وهمست إليه بعنوان المنزل، وعيناي شاردتان في زحام ساعة الظهيرة، وعقلي تتناوبه لحظات من الكبت ومحاولة التمرد والانفلات. توقفت السيارة أمام البناء الكبير الذي أسكن إحدى شققه، ومددت يدي بالنقود إلى السائق، لكنها جمدت وكاد قلبي أن يجمد معها، وأنا أنظر إلى السائق ذي الوجه المستطيل بشاربيه الرفيعين الطويلين المتهدلين، وابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة.
فتحت باب منزلي ودخلت. كنت بحاجة إلى الارتماء على أقرب مقعد، لأريح جسدي، وأحاول من خلاله إراحة ذهني المجهد. مضت ساعة أو أكثر، وأنا أفرض على جسدي استرخاء قسرياً، فيقاومني بالتوتر اللاإرادي. كان الأمر قد تعدى مرحلة الصدفة وبدأ يدخل طور الإنذار الجدي المبهم. نهضت ودخلت غرفة النوم كي أبدل ثيابي. فتحت باب الخزانة، ومددت يدي أعلق سترتي. كنت أتحرك تلقائياً بالعادة والتكرار. ابتعدت عن الخزانة، واتجهت نحو السرير. ولحظة استلقائي داهمتني إغفاءة قصيرة متقطعة قلقة، أشبه بالغيبوبة أو الذهول.(1/15)
استيقظت من إغفاءتي منهك الجسد والعقل. وتذكرت أنني على موعد مع صديق في المساء. قررت الاعتذار منه، وارتديت ثيابي ونزلت إلى غرفة الهاتف العمومي القريبة. وقفت خارجها بانتظار انتهاء شاغلها. وبعد عشر دقائق انتهى الرجل من مكالمته، واستدار ليفتح الباب ويخرج. وغرق جسدي في سيول من العرق البارد. كان ذاك هو رجل الحلم نفسه، بوجهه المستطيل، وشاربيه الرفيعين الطويلين المتهدلين، وابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة.
لا أذكر إن كنت قد اتصلت هاتفياً مع صديقي أم لا، لكنني أفقت من شرودي وأنا جالس من جديد في منزلي، أستعيد أحداث اليوم في ذاكرتي المجهدة. حاولت تغيير مسار أفكاري إلى اتجاهات مغايرة، لكنها ظلت تعود بقوة جاذبة تفوق قدرتي، وتحوم بإصرار عنيد حول محورها. وشعرت بأن الأمر قد انتقل إلى مرحلة التحدي بين إرادتي وأفكاري. وقررت استخدام وسيلة الإلهاء مع ذهني المتمرد، وفتحت التلفاز كي أقيّد بما أراه هذا التمرد. استرخيت في مقعدي، وثبتّ عيني على الشاشة الصغيرة لحظة قصيرة، انتفضت بعدها مندفعاً إلى الجهاز، فأطفأته، مبعداً عن عيني صورة صاحب الوجه المستطيل، والشاربين الطويلين المتهدلين، وهو يخترق بابتسامته الحادة المتربصة الساخرة اللئيمة شاشة الجهاز، فينفذ إلى أعماق عيني، ويستقر متخبطاً في معدتي.
لم يمهلني الغثيان الذي زلزل معدتي، وجريت إلى الحمام أتدارك الأمر... بعد لحظات شعرت أنني هدأت قليلاً. فتحت الماء قوياً ووضعت رأسي تحت تياره المنهمر. لم أدرِ هل كنت أغسل رأسي أم ما بداخله. وعندما أحسست ببرودة الماء أغلقت الصنبور، وتناولت المنشفة ورحت أجفف شعري ووجهي. انتعشت قليلاً، وأقنعت نفسي بأنني أقوى من هذه الأوهام والرؤى. وتمكنت أخيراً من السيطرة على ثورة أفكاري وتمردها.(1/16)
تناولت فرشاة الشعر ورفعتها كي أعيد إلى شعري ترتيبه، وإلى ذهني هدوءه، ونظرت إلى صورتي في المرآة. وأصابني الذهول، وأنا أرى مكان وجهي وجهاً مستطيلاً، ذا شاربين رفيعين طويلين متهدلين، يحدق بي بابتسامة حادة متربصة ساخرة لئيمة.
(((
الاختيار
طال النقاش بيني وبين حورية البحر، ونحن جالسان على صخرتنا المنعزلة، التي اعتدنا أن نلتقي فوقها طوال أشهر مضت. كانت راغبة في مواصلة الحديث، لكن التأخير أصبح الآن خطراً، وعليها الانطلاق مبتعدة في أعماق البحر، فالصباح اقترب، وبدأت أولى أشعة الشمس تلوح حمراء مثل عيون غاضبة منذرة في الأفق.
وأخيراً قالت لي وهي تهم بالغوص في الماء:
عليك أن تفكر جيداً قبل اتخاذ قرارك.. ولكن من الضروري بأي حال أن تسرع في تحولك إلى كائن بحري، إذا كنت حريصاً على استمرارنا معاً، فهذه اللقاءات المبتورة لا يمكن أن تطبع حياتنا المشتركة إلى الأبد.
- - -(1/17)
لم أشعر بمرور الوقت إلا عندما بدأت أشعة شمس الظهيرة تلسع رأسي. نعم، يجب أن أصل إلى قرار حاسم مهما يكن، فأنا كائن ناضج التفكير، واسع الأفق، قوي الإرادة.. كما أنني قادر على محاكمة الأمور محاكمة معقولة. ولم أكن خائفاً من تحولي القريب إلى كائن بحري، فكل منا سيصبح يوماً ما كائناً بحرياً بصورة ما.. وهذا قدرنا، شئنا أم أبينا، كما أنني قد بدأت أشعر فعلاً بمشاعر الكائنات البحرية قبل أن أتحول كلياً إلى واحد منها، صحيح أن مشاعري تلك لا تزال تنقصها الهوية، فهي لا تنتمي إلى نوع محدد من الكائنات البحرية، إلا أنني أُعطيت امتيازاً فردياً من نوعه، وهو قدرتي على اختيار الفصيلة التي سأنتمي إليها، وهذا الاختيار بالذات أوقعني في حيرة ممضة. وتمنيت في حيرتي هذه لو أنني حُرمت من حرية الاختيار، وتحولت مجبراً إلى أي نوع من الكائنات البحرية، مهما يكن، إذاً لاسترحت وحينئذ إما يعجبني ما أصبحت عليه وينتهي الأمر، أو لا يعجبني، فأعيش المعاناة، ثم أعتاد شيئاً فشيئاً.. وينتهي الأمر أيضاً. لكنني أقف الآن أمام متاهة الاختيار، وعلي إذاً أن أختار الشكل الأفضل، وهنا لبّ القضية. ما هو الشكل الأفضل؟ ما هي خصائصه؟ ولماذا هو الأفضل؟ وتيقنت أن ما من ناظم يمكن أن يحكم ذلك.. فالأمر نسبي يختلف من عقل إلى آخر، وقراري يجب أن يصدر من ذاتي، وبحسب قناعتي. هنا شعرت بأنني أغوص في دوامة أكبر.. فعناصر الحكم غير مستوفية شروطها في ذهني، والقرار على هذا الأساس قد لا يكون صائباً، وقد يصل بي إلى مأساة يمكن أن تعكر صفو حياتي.. أو تحطمها.. أو ربما تنهيها.
- - -(1/18)
عدت إلى صخرة اللقاء قبل المساء، وانتظرت حلول الظلام. كان عقلي يسبح جاهداً في دوامة الاختيار الغامض الذي أواجهه، بينما عيناي تبحثان بلهفة بعيداً، بين موجات البحر المعتمة الكسلى عن رفيقتي. ورنت في أذني ضحكة خافتة عابثة، وضحك قلبي وأنا ألتفت لأرى حوريتي جالسة بجانبي وهي تنفض قطرات الماء عن جسدها، وسألتني متمادية في عبثها:
ـ عم تبحث؟ هل مللتني، وبدأت تحوم بعينيك وراء حورية أخرى؟
أجبتها، ولمسات من الاعتذار تتسلل داخل عيني:
ـ يبدو أنني كنت شارداً مع أفكاري وأنا أنتظرك، فلم أنتبه لمجيئك.
رنت ضحكتها الطفولية عالياً، فتغلغل رنينها مرتعشاً في صدري، وقالت مهددة مداعبة:
ـ إذا رأيتك شارداً في المرة القادمة فسوف أسحبك معي إلى البحر كما أنت، فتصبح أول كائن بحري لا يزال في صورة البشر.
- - -
تحدثنا تلك الليلة طويلاً، واعترفت لها بما دار في ذهني بعد مغادرتها البارحة.. أحزنها ترددي وحيرتي، لكنها اعترفت بأن الاختيار أمر بالغ الصعوبة حقاً. فالقرار يحمل مصيري، ومصيرها معي، ولا بد من اتخاذه بحكمة واقتناع، ولكن بدون إبطاء أو استرسال في التردد، أو استسلام للحيرة، لأن الوقت لا يمهل، والعمر لا ينتظر. واتفقنا أخيراً على أن التجربة هي أفضل وسيلة للوصول إلى الاختيار الصائب. يجب أن أعيش التجربة كاملة، ولكي أعيشها يجب أن أخوض في أدق التفاصيل الحياتية لكل أنواع الكائنات البحرية، وهكذا علي أن أتحول من كائن إلى آخر خلال فترات زمنية متعاقبة، أمارس خلالها حياة كل كائن بحري، أعاني ما يعانيه، أتلذذ بما يمتعه، انفعل بما يثيره، أركن إلى ما يريحه. وبعد أن تكتمل التجربة يأتي الاختيار النهائي، الذي لا يدع مجالاً للندم بعده.
- - -
عندما ودعتني في الصباح كنا قد انتهينا من بحث تفاصيل التجربة التي سوف أُخضع نفسي لها. وخلال النهار رسمت خطتي. وفي المساء التقينا، وبدأت التجربة...
- - -(1/19)
كانت البداية متواضعة جداً، فمن المستحيل أن أبدأ تجربتي كبيراً مرة واحدة، فهذا امتياز لا أملكه، ولا يستطيع الحصول عليه إلا عدد قليل جداً ممن ولد في الأساس كائناً بحرياً كبيراً، وبالصورة التي كان عليها والداه، والتي رسماها له لحظة إنجابه. أما أنا، هذا الكائن الضعيف، الذي رضي أن يدخل التجربة في سبيل الوصول إلى الاختيار الصائب، فقد كُتب علي أن استهل تجربتي صغيراً، ثم أرتقي سلم الاختيار درجة درجة. كما أن اختياري سيكون تجريبياً لا مصيرياً، فالاختيار المصيري بعيد، ولا يزال الوقت مبكراً جداً للوصول إليه. وقررت أن أجرب أولاً حياة الكائنات البحرية الصغيرة.. وبعد تفكير قصير مركّز كانت البداية.. وأصبحت صَدَفة بحرية.
- - -
شعرت بالسعادة في ساعاتي الأولى. وكان مبعثها إحساسي بالأمان. فأنا في قوقعتي منعزل تماماً عن عالم البحر الواسع المخيف، بعيد عن أخطاره، إذ اخترت لسكني فجوة ملائمة في صخرة عميقة، أما السبب الهام الآخر لبهجتي فقد كان الأمل الذي بدأ يدغدغ قلبي في أن أفرز يوماً ما لؤلؤة كبيرة أتباهى بها، وأزهو بتقديمها هدية إلى حوريتي.
وبينما كنت مستغرقاً في نشوة حياتي الجديدة لمحت حوريتي تقترب نحوي. وكان رد الفعل عندي غريزياً وآلياً، لا علاقة له بالعاطفة أو الرغبة أو الإرادة، حتى أنني نفسي فوجئت به. فقد أطبقت مصراعي بيتي الصدفي بسرعة، وانزويت في ركن منه أرتجف من خوف لا أستطيع تفسيره، ولا يمكن أن أجد تبريراً له.
وعندما سكن خوفي تحرك نفوري من كوني مجرد صدفة سلبية مستسلمة إلى خوفها، ورغبت في تجربة صورة كائن أكثر إيجابية وجرأة. وقبل أن ينقضي الليل تحولت إلى قنديل بحري.
- - -(1/20)
كان تخلصي من الأحساس بالسلبية والاستسلام إلى الخوف، في حد ذاته مبعث سرور لي، ورحت أختال بين بقية الكائنات البحرية بجسمي الهلامي المكور الشفاف، وأنا متلهف للقاء حوريتي. ولم يطل انتظاري، فقد لاحت من بعيد وهي تنساب برشاقتها الفاتنة بين الصخور. ولم أستطع انتظار عثورها علي، فاندفعت نحوها وأنا أمد مجساتي لعناقها، وقبل أن أتمكن من لمسها فوجئت بها تستدير ثم تنطلق هاربة بعيداً عني، والرعب يملأ ملامحها. أحسست بمزيج من الدهشة وخيبة الأمل. أهكذا تتصرف معي.. وهي من وضعتُ حياتي رهن مشيئتها؟ هل هذا جزاء استجابتي إلى رغبتها في أن أصبح كائناً بحرياً؟ ورحت أسبح وأنا أفكر في أسباب نفورها المفاجئ مني. وأتاني الجواب سريعاً. فبينما كنت أسبح اصطدمت عن غير قصد ببعض الأسماك الذاهلة الصغيرة، وإذا بها تُصعق على الفور وكأنها أصيبت بالشلل. أما الكبيرة فقد راحت تبتعد عن طريقي، متجنبة ملامستي. وأدركت أنني مبعث خطر نسبي على من يقترب مني. إذاً فلا أمل لي في لقاء مع حوريتي وأنا على هذه الصورة. فأنا كائن أحمل الأذى لكل من يصادفني، بلا ذنب منه، وبلا قصد مني. لقد أصبح التغيير ضرورياً، ورحت أفكر.. إلى أي صورة أحول نفسي؟ أريد أن أكون مخلوقاً وديعاً، أمنح الإحساس بالراحة والطمأنينة إلى من حولي، وبصورة خاصة إلى حوريتي، وخلال دقائق معدودة اتخذت قراري.
- - -(1/21)
رجعت بذاكرتي إلى أيام مضت، عندما كنت كائناً بشرياً، واستعدت صورة أسماك الزينة التي طالما راقبتها في أحواضها، واستمتعت بمنظرها وهي تسبح مختالة بألوانها المشرقة. وبلحظة أصبحت سمكة حمراء براقة، ورحت أدور بين الصخور والنشوة تملأ قلبي الصغير، وأنا أفكر بنظرات الحب والإعجاب، التي ستلمع في عيني حوريتي عندما تراني، لكن نشوتي الحالمة انقلبت في لحظة إلى هلع ورعب قاتلين، وأنا أرى ثمانية أذرع مخيفة تمتد نحوي، وخلفها عينان واسعتان كبيرتان تحدقان إلي بنهم. واستطعت أن أندس بسرعة داخل شق في إحدى الصخور ورحت ألهث وجسمي الضئيل ينتفض بعنف، وغلاصمي تكاد تتوقف عن الحركة.. لا، مستحيل.. لا أريد أن أكون وديعاً مسالماً. ثم أصبح وجبة سهلة للكبار من وحوش البحر. فالثمن باهظ ولن أطمئن على حياتي ورغبتي في أن أعيش وأستمتع وأحس بالأمان. وكي أحقق هذا يجب أن أكون الأقوى، وليس الأرق قلباً. وانتظرت طلوع الفجر، وخرجت في صورتي الجديدة.. صورة من كان مصدر رعبي طوال الليلة الماضية.
- - -(1/22)
لم تكن صورتي الكريهة المخيفة، بعد أن أصبحت أخطبوطاً، مبعث إزعاج لي. فالتعويض مجزٍ، ونشوة الإحساس بالقوة كانت كافية لاسترجاع ثقتي بنفسي. وبدأت رحلتي أبحث تلقائياً عن فريسة. كنت أشعر بالجوع يتنامى في أحشائي بعد ما كابدته في تجاربي الفاشلة السابقة. وأنساني الجوع للحظة حورية البحر.. وعندما تذكرتها استغربت قليلاً أن شعوري بالجوع يفوق شوقي إليها. لكنني تناسيت الأمر عندما رأيت سرباً من الأسماك الصغيرة يقترب من مخبئي. كنت قد عثرت على عرين مناسب داخل صخرة مدببة عميقة، وكمنت فيه بانتظار الصيد. وكان علي المبالغة في الحذر كي أتمكن من مباغتة فريستي، والانقضاض عليها، وإحاطتها بأذرعي الماصة، قبل أن تتنبه إلى الخطر القريب منها، فتنجو بحياتها. وتعلمت أن الليل أجدى لي من النهار لممارسة نشاطي المعيشي. فهو يسهّل وصولي إلى طرائدي الضعيفة من جهة، كما يمنحني الأمان الكافي من جهة أخرى. فقد كنت مع قوتي أخاف من المجهول، الذي قد يحمل لي لقاء مع كائن أقوى مني، تكون نهايتي بين فكيه. وصدقت مخاوفي، فبعد أيام قليلة حصل ما كنت أخشاه.. أو كاد أن يحصل. فعلى الرغم من شدة حذري تجرأت بدافع الجوع وغامرت بالخروج من مخبئي، أتلفّت حولي بحثاً عن طعام. وعثرت على سمكة شاردة، فغافلتها وهجمت عليها. وفجأة شعرت بألم يطعن إحدى أذرعي. واستدرت بجسمي المنتفخ وأنا أغص بالرعب لأجد سمكة ضخمة غريبة الشكل تهاجمني، وتطبق فكيها على تلك الذراع وتوشك أن تقتلعها. وبدأ الصراع بيننا. كان صراع حياة أو موت بالنسبة لي، ولا مزاح فيه. كنت أحاول القضاء على ذلك الوحش المرعب. لكنني بعد دقائق أدركت أن نجاتي منه هي أكبر غنيمة يمكن أن أفوز بها. وتمكنت قبل فوات الأوان من تخليص ذراعي الجريح والانطلاق بسرعة إلى مخبئي، وأنا أرتجف من الألم والخوف. وعندما هدأ انفعالي تملكني إحساس امتزجت فيه خيبة الأمل، وفرحة الانتصار..(1/23)
ولكن أي انتصار هذا؟ إنه انتصار المهزوم المغلوب على أمره، الذي استطاع الإبقاء على حياته فحسب. إذاً، فأنا لست الأقوى.. وعلي الاعتراف بالحقيقة التي يؤكدها الجرح في ذراعي، والجوع في أحشائي. والأقوى لا يزال يحوم خارج مخبئي، بانتظار خروجي ليجهز علي ويحصل على وجبته. لا لن أقبل هذا.. لن أرضى بأن أصبح فريسة، ومهما كان الثمن. ولم يكن القرار صعباً هذه المرة.
- - -
وأخيراً أصبحت أقوى كائن بحري، وأستطيع التجول بحريّة في كل مكان، بدون أن أخشى أي خطر، وغمرني الإحساس بالفخر والغرور، وأنا أسبح معتزاً بفكي الضخم وأسناني الحادة، موقعاً الرعب في قلوب المخلوقات الأخرى. كان كل من يصادفني يبتعد عن طريقي رهبة مني، واحتراماً لقوتي، ولا أحد يجرؤ على منافستي في طريدة أنوي افتراسها، فقد يصبح هو الطريدة والفريسة. وزاد هذا الإحساس من اعتزازي بنفسي، ومن غروري.. كما زاد من قسوتي. فقد انطلقت بدون تردد أبحث عن الكائنات البحرية الضعيفة، وأنتهز فرصة وقوعها في مأزق لأجهز عليها في لحظات، ثم أنطلق بحثاً عن غيرها. وساعد في نجاحي وسيطرتي ما اكتشفته من مقدرة فائقة على سماع أبعد الأصوات وأخفتها، وعلى الإحساس المرهف في ترصد الدماء، فازداد نشاطي، وتضاعفت حيويتي، ولم يعد يعنيني أمر سوى العثور على مزيد من الضحايا، لأملأ جوفي الذي لا يشبع.(1/24)
مر يومان، ولم أكن قد رأيت حورية البحر بعد تحولي الأخير. كانت نشوة الفخر بقوتي التي لا تقاوم قد خدرت أي أحاسيس غيرها في داخلي. لكن تلك النشوة بدأت تتحول تدريجياً إلى قناعة راسخة، ثم إلى أسلوب حياتي رتيب. وشعرت بالملل. وعندئذ تذكرت حورية البحر.. ورغبت في لقائها، لأزهو أمامها بقوتي وجبروتي. وفوجئت قليلاً بهذا التغيير الذي طرأ على عاطفتي. كنت في البداية أحمل مشاعر الحب العفوي، أما الآن فقد تحولت تلك المشاعر إلى محرض ذاتي يكمن في داخلي، تتنازعه الرغبة في استكمال ثقتي بنفسي، من خلال رؤية ردود الفعل في عيون الآخرين، والتباهي بالقوة التي لا تفوقها قوة، والنشوة التي يحركها كل ما زرعته من خوف في قلوب الكائنات البحرية كافة، والتحدي لمن يجرؤ على اعتراض طريقي.
وبحثت عن حورية البحر، ووجدتها أخيراً. لكنني لم أجد في عينيها إشعاع حب، أو بريق لهفة.. حتى ولا نظرة انبهار بما أصبحت عليه من قوة. لكنني رأيت الخوف والترقب، والحذر، وربما الندم أيضاً .
عند لقائنا حاولت ألا أُظهر شراستي التي تطبعت بها. ورحت أبذل جهداً كبيراً لأبدو رقيقاً دمثاً مسالماً. وتناسيت رغبتي في التباهي أمامها، والزهو بقوتي وجبروتي. وأمام نظراتها الخائفة المترقبة الحذرة، أحسست بجذوة عاطفتي الأولى تتقد من جديد. فقد وضعتني نظراتها تلك في مواجهة مفترق طريقين عليّ اختيار أحدهما: إما أن أحافظ على حوريتي أو أستمر بصورة الكائن البحري الأقوى. أوقعني هذا الاختيار في حيرة. فالمحافظة على حوريتي تعني أن أتخلى عن حياة القرش القوي المفترس، التي وجدت فيها نشوة لم أذقها من قبل، وعندما تذوقتها بات من العسير عليّ مفارقتها. أما الإبقاء على ما حققته في صورة الكائن البحري الأقوى فثمنه الذي لا بد علي من تسديده هو إلغاء أي عاطفة عفوية من حسابي والاكتفاء بمتعة الإحساس بسيطرتي على عالم البحر وما فيه.
- - -(1/25)
كان الاختيار هذه المرة هو الأصعب. فالتضحية غالية في الاتجاهين، والقرار لا رجعة فيه. وتغلبت العاطفة، ربما لأنها كانت الباعث الأول لخوض هذه التجربة. وعدت من جديد أفكر في أي صورة أتخذها الآن. لم أكن راغباً في التراجع والعودة إلى إحدى الصور التي مررت بها سابقاً، بل صممت على الانتقال إلى شكل أستطيع اعتباره أكمل مما جربته من قبل، وأكثر امتيازاً. وبعد تفكير، توصلت إلى قراري..
- - -
إنني الآن دلفين أزهو بلوني الأخضر اللامع، وجلدي الأملس الرقيق. وأستمتع بحياتي مع حوريتي التي أصبحت لا تفارقني أبداً. فنحن نلهو كثيراً، ونتنزه عندما يكون الجو مناسباً. أما الكائنات البحرية الأخرى فهي تحبني وتألفني لأنني أعاملها برقة ودماثة. لكن أسناني الحادة تذكر من يحاول التعرض لي بالأذى بأنني لن أرحمه..
وأستعيد في ذاكرتي أحياناً الأشكال المختلفة التي مررت بها، وأتمنى لو أنني أستطيع جمع ميزاتها كلها في مخلوق واحد أكونه. وأفكر أحياناً بأن هذا أمر مستحيل، وعليّ أن أقنع بما وصلت إليه، لكن الأمل يظل يومض بين ساعة وأخرى في قلبي. ترى هل أستطيع أن أصبح ذلك المخلوق يوماً ما؟ ربما يتحقق هذا الأمل ذات يوم.. فمن يدري؟
- - -
القرار
لا تتحدث هذه القصة عن مكان أو زمان أو أشخاص محددين...
إنها فانتازيا، أو حلم يقظة، حول ما كان،
أو ربما سيكون...
1 ـ التحضير للرحلة
ـ ما هين حادَشوت طيولينو؟
ـ يَقاداح أَحَري شَافُوَعْ.
ـ مي يَهَليخ إيتّانو؟
ـ شام قاهال جادول.(1)
__________
(1) ـ ما هي أخبار رحلتنا؟
ـ ستتمّ بعد أسبوع.
ـ من سيذهب معنا؟
ـ هنالك مجموعة كبيرة.(1/26)
وتابع الخمسة حوارهم، وهم يناقشون برنامج رحلتهم إلى «أرض جيرانهم»، كما يطلقون على البلاد العربية المحيطة بهم. كانوا مبتهجين ومتشوقين إلى تلك الرحلة التي انتظروها طويلاً، والتي خططوا لها بعناية، فهي حدث جديد فريد من نوعه، يختلف عن كل ما سبقه، ويعني لكلّ منهم شيئاً أكبر، وأبعد مدى من أي سفر عادي آخر. كان كلّ منهم يُضمر في نفسه حلماً يخفيه عن الباقين، وأملاً يتوق إلى تحقيقه من خلالها.
كان «شلومو» صاحب مصنع للألبسة الجاهزة، أخفق في فتح سوق مناسبة ضمن العديد من مدن أوروبة الغربية، وشعر بأن الانفتاح على «الجيران» سوف يُحسّن أعماله، ويؤمّن له سوقاً واسعة، لا تكلف الكثير من أجور الشحن، وإرضاؤها سهل ، لأنها تلهث وراء كل ما هو غربي الطابع، كما سمع. وكانت «يهوديت» صاحبة دار نشر كبيرة، اختصّت بإصدارات عبرية للكتب التاريخية والسياسية، التي تتحدث عن اليهود وتاريخهم و«حقوقهم»، وتأمل الآن في ترجمتها إلى اللغة العربية، ثم طبعها وتوزيعها بصورة عريضة في الدول العربية. ولم يكن «عزرا» و«سارة» أقل شوقاً من أصحابهما للقيام بهذه الرحلة، فهما يملكان شركة نقل سياحي ، ويبحثان عن قنوات جديدة يوسعان فيها نشاطهما، ويزيدان من أرباحهما، وليس أحلى ولا أشهى من الآثار والجبال والمصايف المحيطة ببلادهما. أما «موشيه» فهو ضابط في الاستخبارات، أُوكلت إليه مُهمة جمع معلومات مفصلة عن الأنشطة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في الدول المجاورة، وهذه الرحلة سوف تيسّر مهمته في الحصول على ما يريد شخصياً، ومن مصادره مباشرة.
2 ـ أبو عبد اللّه يتذكر(1/27)
لم يكن «أبو عبد اللّه» رجل سياسة في حياته، ولم يحلم كالكثيرين باستلام منصب إداريّ كبير وهامّ. كان رجلاً بسيطاً، عادياً، ينفعل ويتفاعل بصدق تلقائي مع أحداث بلده، وتنبع قناعاته، وردود أفعاله من حدسه الفطري وإحساسه العفوي. وكان أكبر حلم عاشه في سنواته الخمسين هو أن يؤمّن دخلاً نظيفاً يحفظ كرامته، ويسد الحد الأدنى من نفقاته الضرورية، واحتياجات زوجته وأولاده الأربعة. ومع أنه لم يتجاوز في دراسته المرحلة الإعدادية، إلا أنه عوّض ذلك النقص بقراءاته المتنوعة المستمرة، ثم باكتساب مهارة رائعة في قيادة السيارات الثقيلة وصيانتها، جعلته خلال خمسة وعشرين عاماً موضع حسد عدد كبير من زملائه. ولم يكن كثيراً عليه أن يصبح أخيراً سائق حافلة فخمة، في شركة سياحية كبيرة.
وحتى الآن لا يزال يستعيد، بحنين موجع، ذكرى السنوات التسع التي أمضاها في المدرسة، ويتحسر على كلّ تفاصيلها، ويكرر في كل مناسبة أحداثها، الحلوة والقاسية. وعندما يتسلل الحديث، في سهراته مع أصدقائه، إلى الأمور السياسية، كان يروي لهم، ربما للمرة المئة، كيف كان يقود المظاهرات في ذكرى وعد بلفور، وتقسيم فلسطين، وتأسيس الدولة العبرية، وغيرها، وكيف كان يدور مع زملائه على المدارس لتجميع الطلاب، والانطلاق بهم عبر شوارع المدينة، وهم يهتفون بأعلى أصواتهم، حتى يصلوا إلى ساحة المدينة، حيث يخرج من بينهم خطيب أو شاعر، يتجمعون حوله، ليصبّ كلماته الحماسيّة فوق انفعالهم الصاخب، فتلتهب الساحة بمزيج متداخل غريب من الهتاف والتصفيق.
3 ـ تداعيات قديمة(1/28)
لا أعرف ما يجري لهذا العالم اليوم. الجميع فقدوا عقولهم، وضمائرهم، ومُثُلهم. يقول لي بعض أصدقائي: (يا أبا عبد اللّه، هذا منطق العصر، وعليك أن تساير التطور). عجيب قولهم. هل لكلّ عصر منطق خاص به؟ هل تتغير القناعات مع تغير الزمن؟ هل يمكن أن أتعايش مع من كرهني وكرهته آلاف السنين؟ هل يمكن أن أصفح عمّن نهبني وأذلني وأفقرني وقتل أهلي؟ وأن أنسى كلّ ما يحيط بعلاقتي معه من ذكريات، وكوارث، وأحزان، وقهر، عشتها عمري كلَّه، ونشأتُ عليها منذ طفولتي؟ هل أستطيع أن أصادق، وأحب، وأتعامل مع من قتل أخي وآلافاً غيره بسلاحه؟ هل أستسلم إلى هذا كلّه، وأتقبّل نتائجه ببساطة وهدوء؟
كنا أيام الشباب نشير إلى عدوّنا بكلمة «اليهود» أو «الصهاينة». وفي أحد الأيام دخلت في نقاش حادّ مع صديق لي، لأنه قال: (علينا أن نرضى بالتقسيم ونصالح «إسرائيل» ونقبل وجودها، فهي أمر واقع مفروض علينا، ولا يمكننا تغييره). كان مجرّد النطق بكلمة «إسرائيل» كفراً، يُحتقر قائلها، ويوصف بانعدام الشعور الوطني، فكيف بطرح فكرة الصلح. وتطوّر النقاش إلى شجار، ودفعني انفعالي إلى صفع صديقي. والتقيت ذلك الصديق بعد سنوات، وذكّرني بتلك الصفعة، وقال لي: ترى كم شخصاً ستصفع اليوم يا أبا عبد اللّه؟ وشعرت بأن صفعتي رُدَّت إلي.
4 ـ بداية الرحلة
كان الفندق في ذروة ازدحامه. فقد وصل أكثر من أربعين سائحاً وسائحة، لهم وضعهم المتميّز الذي لم يألفه أحد من قبل، وانتشروا بصخب طليق تدفّق من بهو الاستقبال إلى غرف النوم والممرات وصالات المطعم، حتى غمر الفندق كله. واستولى على مدير الفندق وموظّفيه مزيج من النفور والفضول والقلق، فعليهم جميعاً أن ينفذوا كلّ ما يُطلب منهم، بغضّ النظر عن عواطفهم ورغباتهم وقناعاتهم الشخصية.(1/29)
ومع أن العاملين في الفندق قد ألِفوا مع مرور الزمن سماع العديد من اللغات الغريبة عليهم، إلا أن ما كانوا يسمعونه غرز وقعاً كريهاً ومنفّراً في آذانهم. وزاد من نفورهم أن وجوه القادمين، وأسماءهم وتصرفاتهم، كانت متناقضة مع الأرض التي يسكنونها، ومع بيئتها وعاداتها وطابعها. كانوا في كلّ تفاصيلهم خليطاً عجيباً متنافراً، له ألف هوية، على الرغم من انتمائهم ظاهرياً إلى هوية واحدة.
* * *
كان وصول السائحين في وقت متأخر من النهار، فاعتُبرت بقية اليوم استراحة لهم، على أن تبدأ جولاتهم في صباح اليوم التالي. وتضمن برنامج الرحلة أن ترسل الشركة السياحية المشرفة حافلة فخمة ومكيفة لتأمين تنقلاتهم. وفي الساعة السابعة والنصف صباحاً كانت الحافلة تقف عند مدخل الفندق، وخلف مقودها «أبو عبد اللّه».
5 ـ تداعيات أقل قدماً
العالم يجري بسرعة مجنونة. الناس يركضون بدون توقف، والأحداث تتابع بصورة لا تسمح بتأملها أو هضمها. لم أعد أستطيع فهم شيء. كنا نرفض مجرد ذكر ما يوحي باعتراف، ولو غير مباشر بهم، والآن نجتمع معهم، ونصافحهم، ونفاوضهم، ونتحمل مراوغتهم ومماطلاتهم، ونبتسم في وجوههم، ونقيم علاقات معهم، ونزورهم ويزوروننا.
مررت منذ بضعة أيام بجانب مقرّ سفارتهم في بلدي. رأيت اللافتة النحاسية، وعلم النجمة السداسية يتحديان التاريخ، والمنطق، والإحساس بالكرامة. وأدركت كيف تشعر المغتصبة المقهورة. وبحثت في ضباب عقلي المنهك عما تعلّمناه ونشأنا عليه منذ طفولتنا، وعن مظاهراتنا أيام الدراسة، وعن الخطب وقصائد الشعر الحماسية، وعن الرفض المبدئي المتأصل في قلوبنا وعقولنا، وعن رائحة دم أخي الشهيد ومن سبقه ومن لحقه، فلم أجد شيئاً.
6 ـ القلعة(1/30)
كان أفراد المجموعة السياحية يقفون أمام مدخل الفندق متلهفين لتنفيذ برنامج يومهم الأول. وخلال دقائق قليلة استقر كلّ منهم في مقعده، وانطلق «أبو عبد اللّه»، بحافلته، وحمولتها، وعواطفه، وانفعالاته، وتداعياته، باتجاه الطريق الجبلية المؤدية إلى القلعة الأثرية. كانت الطريق معياراً لمهارة السائقين، يتحدّى بعضهم بعضاً في القدرة على صعودها حتى مدخل القلعة الأثرية الكبيرة. كان الكثير من السائقين يصل إلى ما قبل المنعطف الحادّ الأخير، حيث يتوقف ويطلب من ركابه أن يتابعوا سيراً على الأقدام، أما «أبو عبد اللّه» فقد كان يصرّ على المتابعة، ويعتبر ذلك مجالاً للتباهي بين زملائه. وكان في كل مرة يصعد القلعة بحافلته، يبتسم عند وصوله إلى المنعطف الأخير بثقة واعتزاز بالنفس، ممزوجين بشيء من الرهبة التي لم يستطع، بعد خمس وعشرين سنة، أن يتخلص منها.
7 ـ تداعيات حديثة جداً
من لم يذق طعم القهر في حياته لا يستطيع وصفه. وقد تمر الكلمة أمامه نظرية مجردة حيادية، فلا تحرّك لديه أي فعل أو رد فعل. أما من مر بالتجربة، فإنه يحس بقلبه يتورّم ويتضخم ويضغط من الداخل، حتى يتسرب من حلقه وعينيه ومسام جسمه، فيشعر بأن كل خلية من جسده ترتجف، وتصرخ فيه، وتستحثه لفعل شيء ما، أي شيء. ومن يقدر قد يفعل، ومن لا يقدر ينكمش على نفسه، فيتقلص، ويتضاءل حتى يصبح أصغر من أصغر خلية صارخة.
هذا هو القهر اللاسع الحقيقي الذي أخذ ينزّ عبر عينيّ، ويسيل ممتدّاً إلى أعصابي، وأنا وراء مقود الحافلة، أتأمل بنظرات خاطفة سريعة، عبر المرآة أمامي، من سرقوا أرض بلدي، ورزقها، وتاريخها، وتراثها، وما تبقى من كرامتها.
8 ـ الهبوط من القلعة(1/31)
بعد الانتهاء من زيارة القلعة صعد أفراد المجموعة السياحية إلى الحافلة، وأدار «أبو عبد اللّه» المحرك. كانت الطريق الهابطة بانحدار شديد تمتد أمامه مسافة تزيد عن ثلاثة كيلومترات، تمتلئ بالمنعطفات الحادة. وبشكل آليّ وضع السرعة الثانية وانطلق بحذر الواثق المتمرس. كان من الدروس الأولى التي تعلمها في القيادة أن يغير ذراع السرعة، خلال هبوط كل مقطع من الطريق، إلى نفس السرعة التي وضعها خلال صعوده. كان المنعطف الأول قريباً، وبعده تنحدر الطريق نحو ثلاثمئة متر قبل المنعطف التالي. وهذا المقطع من الطريق هو أكثر المقاطع صعوبة وخطورة. فعلى يساره جدار صخري عمودي، وعلى يمينه الوادي العميق الممتلئ بأشجار الصنوبر والسرو.
أنهى «أبو عبد اللّه» التفاف المنعطف الأول ببراعة، وامتد أمامه الانحدار الطويل. وبدلاً من أن يحافظ على السرعة الثانية، بدّل برشاقة فائقة إلى الثالثة، فالرابعة، فالخامسة، فالسادسة، فالسابعة، ثم ضغط على دواسة الوقود حتى آخر مداها. كانت عيناه وأعصابه وعضلات ذراعيه في أقصى درجات توترها وتركيزها، كي يتمكن من المحافظة على المقود بالاتجاه الذي يريده تماماً. وشاهد الطريق تتناقص أمامه بسرعة، والمنعطف يقترب ويقترب. واختلطت أمام عينيه صورة أخيه، مع مبنى السفارة، ولافتتها وعلمها. وفجأة شعر بمزيج غريب من النشوة والرهبة، بدأ من أسفل عموده الفقري، وامتد حتى عينيه. كان قد انسلخ عن الطريق، وانطلق يحلّق، هو، والحافلة، وحمولتها، وتداعياته، وذكرياته، وأحزانه، وقهره.
ومن تحته، على بعد عميق جداً، كانت أشجار الصنوبر والسرو تمد أغصانها مثل أذرع مذعورة، أو متلهفة، أو ربما معانقة.
(((
الولادة الثانية
1 ـ الرحلة(1/32)
عند منتصف الليل كانت الإجراءات قد تمت بكل تفاصيلها، وأُحكم ربط الصندوق الخشبي الطويل فوق ظهر سيارة الأجرة، وانطلقت السيارة متثاقلة من مركز العاصمة، واتجهت نحو الطريق الخارجي المؤدي إلى بلدته. كان بوده أن يصعد إلى المقعد الخلفي، لعله يستلقي عليه ويستسلم لإغفاءة، تريح جسده بعد جهد الساعات الطويلة التي أمضاها منذ الصباح ، أو ربما يكتفي باسترخاءة قصيرة يحاول فيها أن يخفف من توتر أعصابه. لكنه صعد بصورة آلية إلى المقعد المجاور للسائق، تاركاً المقعد الخلفي الفارغ، وإغراء التمدد عليه.
ازداد ثقل الصمت بعد خروج السيارة من العاصمة. ولاحظ أن السائق قد حافظ على صمته، وصمت مذياع سيارته، احتراماً للموقف. وأحس بمشاعر الذنب تجاه السائق تتسلل إلى قلبه، وبدافع من الواجب يدفعه إلى محادثته، ليصرف ذهنه عن كآبة الرحلة الطويلة، وربما ليخفف عن نفسه هو وخزات الحزن التي غمرته. كانت العبارات تنطلق من الاثنين مترددة، ثم تنتهي باختصار مبتور محرج. بحث جاهداً عن مواضيع عامة يستهل بها الحديث، لكن الجمل كانت تنكمش وتتقلص، حتى تتلاشى في إجابات مغمغمة قصيرة، لتضيع بعدها في الصمت الطويل الكئيب، الذي يرسخ كآبته الصوت الرتيب المنبعث من محرك السيارة المنطلقة، وضجيج الأفكار المشوشة التي يتزايد صخبها في رأسه. وبدأت أصابع يديه ترتعش قليلاً، فراح يفركها، لكن الرعشة امتدت تدريجياً إلى كتفيه. تجاهل الرعشة أملاً بانقضائها، وخلال دقائق كانت قد سيطرت على قلبه ولسانه. أوهم نفسه بأن السبب هو ليل كانون الذي تخترق السيارة برده اللاسع، ربما كي يصرف ذهنه، وذهن السائق، عن الصندوق الخشبي الطويل، المثبت فوق السيارة، وجسد أبيه الممدد داخله.
2 ـ تداعيات خلال الرحلة(1/33)
كم هي نظيفة أفكارك يا أبي، وكم هي نقية وصاياك. لكن نظافة أفكارك، ونقاء وصاياك حرما عقلي من المناعة التي يحتاجها لحظة المواجهة. جعلتني أنشأ طوال عشرين سنة في غرفة العناية المشددة، التي تعمدت بناءها بنفسك، وتجهيزها بيدك وحدك، ثم بالغت في تعقيم معداتها، ومراقبة طهارة هوائها، والحذر من تسرب أي جرثومة داخلها. عشرون سنة، يا أبي، وأنا مغلف تماماً بالشاش الأبيض، وأستلقي مقيداً بإحكام داخل قفص زجاجي ثخين الجدران، من رعايتك وإشرافك. والآن، ها أنت يا أبي تطلقني فجأة، تمزق الشاش الأبيض، وتحطم جدران غرفة العناية المشددة، وتهشم ألواح القفص الزجاجي. ها أنت يا أبي تلغي مرغماً، وخلال لحظة قصيرة، كل ما حرصت على مراقبته طوال عشرين سنة كاملة، وتوقف إجراءاتك الدقيقة، وتمزق الحبل السري الذي أوصلني برحمك، منذ انفصالي عن رحم أمي.
3 ـ الوصول
عندما وصلت السيارة في الصباح كان الأهل بانتظارهما، والبيت مشرعة أبوابه. ترجل من السيارة، وحاول تجنب عيون الجميع. لم يميز الوجوه، ولم ينظر إلى أحد. أحس بالموجودين جميعاً وكأنهم كتلة هلامية ضخمة متحولة الشكل، تمتد باستطالة من طرف، وتتقلص من طرف آخر. سمع أصواتهم ولم يصغ إليها. أحس برغبة ملحة في تحييد نفسه عن تلك الكتلة، لكنه كان متأكداً من انتمائه القسري إليها. إنه استطالة، قصيرة ربما، لكنها عاجزة عن الانفصال بعيداً عن الجسم المركزي.
ازداد الازدحام حول السيارة فجأة، وامتلأ الشارع بأشخاص لا يعرفهم، والشرفات بوجوه يغلفها الفضول أكثر من الحزن. اخترقت نظراته قلوبهم، ولاحظ لمسة خفيفة من الارتياح المبطن. فالأمر لا يعنيهم إلا في حدود المواساة المجاملة، ريثما ينتهي الوداع، أما الحزن المزمن، الذي يسكن القلب، ويصبح قطعة من نسيجه، فلا يعرفه إلا الخاسر الحقيقي.(1/34)
بعد قليل تباعد أغلب الناس عن السيارة، وتولى بعض الرجال من الأقرباء مهمة إنزال الصندوق الخشبي وإدخاله. توقفت الرعشة التي ملأت قلبه طوال الرحلة، وهو ينسل وراءهم داخل البيت. لقد أوصل الأمانة، وأنجز أصعب عمل قام به في حياته حتى ذلك اليوم، وأعاد أباه من مستشفى العاصمة، حيث أُجريت العملية الجراحية الفاشلة، إلى بيته في بلدتهم النائية. اختلطت في داخله مشاعر الحزن مع الإحساس بخيبة الأمل، وهو يلتقط نظرات الموجودين نحوه، واحتار في تفسير هذه النظرات، هل هي مشاركة مواسية، أم اتهام ضمني، أم مجرد عطف مشفق. أثقلت العيون انقباض قلبه، فتشاغل عنها بمراقبة الصندوق الجاثم الآن في وسط الغرفة، وتخيل منظر أبيه وهو ممدد داخله، وتمنى لو أنه أعاده في السيارة بجانبه، راكباً عادياً معافى.
4 ـ قليل من التداعيات بعد الوصول
لقد انهارت القلعة الراسخة في لحظة يا أبي. تحطمت فجأة قبل أن أجد الوقت الكافي لبناء بديلة عنها، انتهى كل شيء، بلا إنذار، وبدون استعداد. وأصبح على هذا الكائن المعزول المعقم أن يتنفس الهواء الطبيعي، ويتكيف مع الجو المحيط به، ويحارب بسلاحه الخاص بعد الآن. ولكن أين أسلحتي التي سأدافع بها عن استمراري.. وخلاله؟ لقد تركتها كلها في القلعة التي انهارت فجأة، ولم أستطع إنقاذها بعد أن غابت داخل الأنقاض. علي الآن أن أخترع أسلحتي الخاصة، وأختبرها بنفسي لأتأكد من فعاليتها وجدواها. آه يا أبي.. ليتك تركتني أصنع سلاحاً بيدي منذ البداية، سلاحاً خاصاً بي، يُخيّب ظني، فأقوم بتعديله... يخذلني، فأكتشف نقاط ضعفه... يقصر في أدائه، فأطوره. لكنك يا أبي صنعت سلاحاً قوياً، قدمته لي جاهزاً، وسمحت لي بمشاهدته ومعاينته، وأعطيتني الدروس النظرية المطولة عن كيفية استخدامه، لكنك لم تتح لي فرصة تجربته، أو اختباره عملياً، ولو مرة واحدة.
5 ـ لحظات انتظار قبل الوداع(1/35)
ضاقت الغرف عن استيعاب القادمين، فراح الوافدون الجدد يقفون أمام باب المنزل، بانتظار أذان الظهر الذي اقترب موعده. لم يستطع الاستمرار في رحلته المتقطعة مع أفكاره، فقد اقتربت لحظة الوداع، وارتفعت الأصوات تدريجياً... كانت في البداية خافتة، تلامس أذنيه بخفة لا تؤثر على استرساله في التفكير، لكنها تزايدت وارتفعت حتى تجاوزت أفكاره، لتخترق أذنيه في خليط مبهم غريب من الهمهمة الموسيقية، والعويل المفجوع، والترتيل الخاشع المنبعث من آلة التسجيل. وتسلل هارباً خارج المنزل، لينزوي بهدوء في ركن متطرف قريب قليل الازدحام على رصيف الشارع. كان الحامل الخشبي قد وُضع قرب الباب بانتظار حمولته الجديدة. أحس بجفاف حلقه وانقباض قلبه يتزايدان وهو يتأمل زوايا الحامل المهترئة، وألواحه القديمة المتشققة. اخترقت مشاعره صورة الحامل مرتبطة بوظيفته التي تغلبت على شكله المجرد. تخيل لحظة أن الحامل طاولة قديمة للطعام، أو منضدة للكتابة، أو ربما منصة لعرض الفاكهة والخضار في السوق. وتسللت إلى قلبه لمسات من الشفقة والتعاطف، لم تتغلب على النفور، وهو يتصور الظلم الذي فرضه القدر على هذا الحامل العجوز، ليمضي حياته في هذه الوظيفة الكئيبة الكريهة، التي أضفت على شكله بعضاً من روحها وطابعها. وتساءل في نفسه، كم من الأحمال نقل هذا العجوز قبل اليوم، وكم سينقل... وقطع تأملاته رجلان رفعا الحامل ونقلاه داخل البيت.
6 ـ تداعيات أخرى خلال الانتظار(1/36)
لقد حلت نقطة الانعطاف الحتمية الحاسمة في حياتي. صحيح أنها كانت ستأتي عاجلاً أم آجلاً، لكنها جاءت بسرعة مفاجئة، بدون توقع أو تحضير. وعلي الآن أن أفكر بالغامض الذي سيلي هذه اللحظة. أحاول التنبؤ بالآتي، فلا أستطيع. أطاول عقلي وراء لحظتي التي تتمطى داخلي، فينهزم متراجعاً أمام تعرجات متاهة هذا الغامض. أداهن خيالي، واستحثه كي يتخطى حاضره بحثاً عن ركن دافئ آمن في المستقبل، فينكفئ خائفاً مرتعشاً من عتمة هذا الغامض. ويبدأ إحساس العجز ينغرز في أعصابي. لا بد أن الأمر سيكون فوق طاقتي، فالمواجهة القادمة طرفها الآخر مع الغامض، والغامض لا يمكن اختراقه والدخول إلى مكمن أسراره. إذاً، هل علي أن أنتظر؟ هل علي أن أترقب ما سيجري؟ ولكن إلى متى الانتظار؟ هل أستطيع الانتظار طويلاً؟ لا.. ليس طويلاً.. ولكن إذا طال الانتظار، ما هو البديل؟ هل سأتمكن من معرفته؟ هل سأنجح في العثور عليه؟ يجب أن أبحث عنه حتى أجده... ولكن عم أبحث؟ عن أمر مجهول لا أعرفه.. عن شيء غامض... لقد عدت إلى نقطة البداية. وشعرت بأن عقلي بدأ ينصهر، ويسيل في قطرات كثيفة متلاحقة من العرق البارد، بدأت من جبيني وخلف أذني، وتتابعت مُغرقة عنقي، ثم ملأت جسدي كله. آه يا أبي، لِمَ أسرعت في الرحيل؟
7 ـ الوداع(1/37)
انتبه إلى يد صديق له تندس تحت إبطه، وتجره إلى الشارع. فكر في تخليص نفسه والابتعاد، ورغب في السير وحيداً، ربما خلف الموكب، لكنه تخلى عن الفكرة، فقد تذكر أن تلك هي العادة في مناسبات كهذه. ارتفعت أصوات الوداع الناحبة واختلطت. وشعر بيد ضخمة مبهمة تضغط على قلبه وتعتصره... ثم ازدادت قوة الضغط والاعتصار حتى تحولت إلى حرقة حمراء مشتعلة في عينيه، ثم استرخت فجأة في دموع غزيرة، أحس بحرارتها تملأ وجهه، وبملوحتها تتسلل عبر شفتيه حتى تصل إلى حلقه. شعر بالارتياح قليلاً، فاستسلم إلى حرارة الدموع وملوحتها. خفّت بعد دقائق القوة التي كانت تعتصر قلبه، وتراجع مذاق الدموع المالح عن حلقه ثم عن شفتيه. كانت الأصوات قد تضاءلت تدريجياً وهم يبتعدون عن المنزل باتجاه جامع الحي. واصل المسير ضمن الجموع بصورة آلية، وكأنه دخل عالماً آخر لا علاقة له بما يدور حوله، وكأن الأحداث التي تجري حوله، والأصوات التي تصل أذنيه، مجرد خيالات وهمية تتراءى له. وراحت قدماه تخطوان خطوات لا إرادية، تغذيها قوة الاستمرار فحسب، وقد فقدتا أي انتماء إلى جسده، فتركهما تُقادان بدون أن يتدخل أو يوجّه، لكنه ظل مستمراً في محاولة السيطرة على عقله، والتحكم بمساره واتجاه فعاليته. وتمنى في تلك اللحظات لو استطاع قلب الأمور، وأن يتحكم بقدميه، كي ينطلق بهما حيث يشاء هو، وأن يحرر عقله من سيطرته، ويفلته على هواه، بعيداً عن إرادته.(1/38)
بعد انتهاء الصلاة دخل إحدى السيارات المنتظرة، وبدأ الموكب البطيء الحزين سيره الصامت الرتيب. كانت عيناه تراقبان الناس الواقفين على الأرصفة، وهم يتأملون قافلة السيارات بمشاركة مواسية موقتة، تنقضي مع مرور الموكب. حاول ضمن التداخلات التي تتماوج في ذهنه أن يجعل نفسه مراقباً للصفوف المتتابعة من الناس المتوقفين. ورأى نفسه مشاهداً حيادياً، يتابع قسماً من شريط سينمائي وثائقي، أو من نشرة أخبار مصوّرة. وتخيّل أنه يرى هذه الجموع المتلاحقة بدون أن تراه، وأحس لذلك ببعض الارتياح.
عندما توقفت السيارات نزل وسار مع تيار السائرين، ووقف عند وقوفهم. أحزنته الخطوات الأخيرة، وتعثر بضع مرات وهو يحاول تجنب السير فوق الأضرحة الدارسة المبعثرة بصورة فوضوية عشوائية، والتي لم تترك سوى ممر متعرج غريب، كأنه خطوط أحجية أو متاهة. استمع إلى الأدعية بالرغم عنه. لم تثر لديه أي انفعال، فقد كانت تخرج من أفواه الناس آلية رتيبة خاوية، مُفرغة من العاطفة التي تفرضها المناسبة. كانت أشبه بوظيفة مُملة مكررة، اعتاد الناس تلاوتها وإعادتها، حتى فقدت معناها لديهم، وأصبحت بالتدريج تخرج من أفواههم وليس من قلوبهم.
وبعد ساعة انتهى كل شيء، وأصبح أبوه مجرد ذكرى، واسم يترحم عليه السامعون.
8 ـ مزيد من التداعيات بعد الوداع(1/39)
لقد انتهى المخاض الجديد، وحصلت الولادة الثانية. استقبلك رحم الأرض، ولفظني رحمك يا أبي، خرجت الآن إلى الدنيا، إلى العالم الحقيقي، بعد حمل طويل امتد عشرين سنة. كنت من قبل في رحم أمي أستقر دافئاً، مطمئناً، معطل الذهن والحواس. وتلقفني بعدها رحمك يا أبي. وأحسست في داخله بالبرودة، والقلق، والضعف، والتسليم. كان رحم أمي يغذيني طوال تسعة أشهر بالنسغ الأحمر، الذي يزيد من نمو جسدي، وراح رحمك يا أبي، طوال عشرين سنة يغذي قلبي بالنظريات والمثل، ويُتخم عقلي بالأفكار والوصايا. كم كانت جدران رحمك يا أبي ثخينة وكتيمة، على الرغم من شفافيتها. لكنها لم تمنعني من الرؤية الفضولية المسروقة، أو من المراقبة المحايدة لأخطار العالم الخارجي المحظور. لماذا حرمتني من أن أعيش لذة التجربة ومغامرتها... ومن المناعة التي يمكن أن أكتسبها من تلك التجربة؟
كم تحرقني دموعي الواعية الآن يا أبي، لحظة ولادتي الثانية. أشعر أنها تختلف عن دموعي الطفلية لحظة ولادتي الأولى. فبعضها أُطلقه حسرة على رحيلك وغيابك الذي سيطول، وأكثرها حسرة على نفسي خوفاً من المجهول الغامض القادم.
9 ـ بعد ثلاثين سنة من الولادة الثانية(1/40)
ثلاثون سنة مرت يا أبي منذ رحيلك، وأنا أعيش على أفكارك النظيفة، ووصاياك النقية، ونظرياتك ومبادئك المعقمة، وعقلي لا يزال محروماً من المناعة. رائحة تعقيم غرفة العناية المشددة تعشش في أنفي وتخنقني، وألواح القفص الزجاجي الصافية تلوح في مخيلتي وتعصر قلبي. ثلاثون سنة يا أبي وأنا أحاول التوفيق بين مُثُلِكَ وحياتي. أخوض معاركي بأسلحة ضعيفة بدائية ساذجة. حاولت إبداعها وتشكيلها بصورة عصرية متطورة، لكنها كشفت عدم كفاءتها، وفضحت انعدام الخبرة في تصميمها. ثم اكتشفت أخيراً أنني لست أكثر من «دون كيشوت» جديد، يحاول مجابهة عالم الشيطان بنظرة عتاب مهذبة، ومحاربة قوى الظلم بكلمة لوم بليغة. لقد خلقت مني يا أبي إنساناً ينكفيء إلى داخله هارباً من المواجهة. تعترض رحلتي مع الحياة الجديدة غابة كثيفة يملأها الظلام، والأغصان الملتوية، والكائنات الغريبة المتربصة. أهم باقتحامها، لكنني أعجز دائماً عن القيام بالخطوة الأولى، فأتراجع، وإحساس حارق بالهزيمة يتعمق داخل قلبي، يزيد من عزلتي، ويؤكد فشلي.
والآن أريد أن أرتاح يا أبي. لقد نما ما زرعته والتفّ حولي، وتداخل مع أعصابي وشراييني. لم أعد أعرف إن كنت أغذي نبتتك الفاضلة أم أتغذى عليها. ثلاثون سنة مرت يا أبي وأنا ضائع بين أن أتعايش معها، وأعيش منفرداً معزولاً، في عالم طوباوي معقم خاص أصنعه لنفسي، أو أن أتخلص منها وأقتلعها من جذورها، وأتمخض ذاتياً عن ولادة ثالثة. ساعدني يا أبي. أكمل ما بدأت، واخلق التربة الصالحة لما زرعت، والجو الملائم لما أنشأت، أو تعال وخذ أفكارك النظيفة، ووصاياك النقية، ومبادءك المعقمة، وعنايتك المشددة، وحطام قفصك الزجاجي الصافي... ودعني أعيش.
(((
يوم اختفى سعيد الراضي
1 ـ سعيد الراضي(1/41)
سعيد الراضي رجل فريد من نوعه، تتداخل التناقضات والمفارقات بين تركيب خلاياه وتكوينه النفسي. فشكله يبعث الرعب، أو الهيبة على الأقل، في نفس من يقابله أول مرة، بطوله الذي يقارب المترين، وجسده العريض الضخم ووجهه الجادّ المتورد والممتلئ قليلاً، وشاربيه الكثيفين اللذين يغطيان كل مساحة شفته العليا العريضة، ويتطاولان على طرفي فمه، وكتفيه اللذين يشبهان كتفي إله إغريقي، ووقاره الذي يفوق وقار تمثال فرعوني.
ولكن، ما أن تجلس معه لبضع دقائق حتى تبدأ الرهبة بالتقلص، والهيبة بالانكماش، ويسيطر عليك إحساس غريب، يمتزج فيه الفضول، والافتتان، والشفقة، والرغبة اللئيمة بالضحك. فهو يخشى زوجته المستنفرة دائماً، ولسانها الحاد اللاذع. وحين يسمع نكتة في سهرة يرمقها بطرف عينه، ثم يضحك بتحفظ، وعندما تنظر نحوه يزُمّ شفتيه فجأة، ويبتلع ضحكته، ويعود إلى وقاره الفرعوني. وإذا تحدث، في مناسبات متباعدة جداً، فبصوت خافت يكاد لا يُسمع. وهو يسعى، محاولاً لملمة شظايا شخصيته المتناثرة، إلى جعل صوته يبدو جهيراً من مقام «الباص». وبشكل تلقائي، يقترب محدثه منه برأسه وأذنيه ليسمع ما يقول، وغالباً لن يستطيع، ويطلب منه أن يرفع صوته، فيحاول المراوغة وتجنب ذلك، ومع إلحاح محدثه يمد يده ويتلمس منطقة حباله الصوتية، ويضغط عليها بأطراف إصبعيه الإبهام والسبابة، وكأنه يعتذر عن ضعف صوته، فيخرج الصوت صادحاً من مقام «التينور»، وقد يتخيل أصحاب النوايا السيئة أنهم، إذا واصلوا الإلحاح عليه، فقد يضغط على حباله الصوتية بأصابعه الخمسة كلها، ليخرج صوته نديّاً من مقام «السوبرانو».
2 ـ زوجة سعيد الراضي(1/42)
أما زوجة سعيد الراضي فهي نقيضه تماماً وتختلف عنه في كل شيء حتى أدق التفاصيل. فهي قليلة الهيبة بطولها الذي لا يتجاوز المئة والخمسين سنتمتراً، وشعرها الغلامي، ووجهها النحيل الشاحب، وشفتها العليا الزغباء، وجسدها الناتئ العظام. لكنها حين تتحدث يصدمك صوتها العريض، الممتلئ رجولة، وتكاد تشك في انتمائها فعلاً إلى عالم الأنوثة، لولا بروز نتوءين صغيرين بحجم كرتي البنغ بونغ على صدرها، يوحيان للناظر المدقق بوجود خيال ثديين أنثويين. وذكر أحد معارفهما في جلسة ضيقة ألح على عدم إفشاء ما قيل فيها، أن زوجة سعيد الراضي بشكلها وصوتها وشخصيتها تجبرك على إعادة النظر في مفهوم الأنوثة، وتدفعك إلى البحث في علم الجنس، والغوص في مقارنات واسعة لتأثيرات الغدد والهرمونات، ثم التوصل أخيراً إلى الاقتناع بأن الأنوثة أمر نسبي، لا يتعلق بالخصائص الجسدية، والتقسيم التقليدي للجنسين. ثم برهن على نظريته بقوله إن مايكل جاكسون، مثلاً، أكثر أنوثة من مادلين أولبرايت. وتساءل أخيراً بفضول خبيث عن كيفية تعامل سعيد الراضي مع زوجته في لحظاتهما الحميمة، وأكد استحالة لقائهما بأي طريقة مألوفة سمعها أو قرأ عنها.
3 ـ سهرة في بيت سعيد الراضي
كانوا ستة أشخاص. سعيد الراضي وزوجته، وصديق له وزوجته، وصديقة لها وزوجها. كانوا يتحدثون عن المقاومة اللبنانية وعملياتها ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب. وأجمعوا كلهم على أن هذه العمليات هي أجدى وسيلة على الإطلاق لتحرير الأرض المحتلة. فالسلطات الإسرائيلية تدرك بازدياد عمق تورطها في الجنوب اللبناني، وأصبحت تطرح للمرة الأولى، ولو ظاهرياً فقط، فكرة الانسحاب من طرف واحد، بعد فشل ما أسمته بالشريط الأمني في إحلال الأمن، ونزع الخوف المتواصل من نفوس سكان المستعمرات في شمال فلسطين المحتلة.(1/43)
أصغى سعيد الراضي بصمت. كان من عادته، حين يرغب في إبداء رأيه، وتكبحه نظرات زوجته، أن يطلق كلماته نحو الداخل، باتجاه خلايا ذهنه المتقدة دائماً، وعندها يسرح في حوارات مستفيضة طليقة، وتحليلات موسعة حرة، لا يبترها خوف من زوجته، ولا يكبتها قمع أو رهبة من أي كان. وبلحظة، انفصل بعقله وتفكيره عن المجموعة كلها، واسترسل في نقاش مفتوح مع ذاته. قال لنفسه: ليتني كنت أحد أفراد المقاومة الوطنية اللبنانية. ليتني أستطيع القيام بعملية انتحارية، أخترق فيها حاجزاً إسرائيلياً بحزام متفجر، أو أواجه دورية معادية برشاش لا تنضب طلقاته. ليتني أستطيع التسلل إلى الأرض المحتلة، وأقوم بعمليات تهز الكيان الصهيوني، وتزلزل قادته، وتزعج مؤيديه، وتقلق مهادنيه. ألن تكون مثل هذه العمليات أجدى بكثير من انتظار السلام، الذي لن يأتي؟ ألن تسرّع هذه العمليات في تحرير الأراضي المحتلة، وتحجيم الغرور الإسرائيلي؟
بدأ نقاشه الذاتي يتضخم، وارتفع صوته الداخلي عالياً، ففاض عن سعة ذهنه، ومقدرته على الاستيعاب، وتسللت قطرات منه عبر صدره إلى حنجرته. وشعر بمجموعة هائلة من الناس، المختلفين في آرائهم وردود فعلهم، وقد استغرقوا في جدال عنيف داخله، وتشابكت حواراتهم لتصبح خليطاً غامضاً. لم يعد يميز كلمات المجموعة، ولم يعد يسمع سوى ضجيج صاخب مثل هدير سيارة عتيقة. وفجأة سمع الجالسون عبارة مبتورة، تجاوزت مقام «الباص» المعتاد، وخرجت من مقام «التينور». وصمت الجميع، وراحوا ينظرون بدهشة نحوه. فقد ألفوا صمته الدائم خلال أي نقاش، وبخاصة السياسي.(1/44)
لم تكن العبارة واضحة. وألح الجميع عليه كي يكررها. كان الأمر صعباً عليه، وأقرب إلى المستحيل. وازداد تقلصه في مقعده، وحاول الهروب والاختباء داخل ذاته، لكنه أحس بأن الغطاء الثخين، الذي يغلف أفكاره، قد انكشف أمام الجميع، ولم يعد قادراً على ضبطه وستر ما فضحه صوته. وشحن صدره طويلاً، ثم حرك شفتيه، لكن حنجرته لم تتجاوب معه كما أراد. وانطلقت عبارة واحدة، اخترقت الصمت الداخلي والخارجي بقوة، كانت مزيجاً جديداً غريباً من «الباص» و«التينور»، مع مسحة خفيفة من «السوبرانو». قال بهمس مبحوح: المقاومة هي الحل.
نظر الجميع إليه بعيون ثلجية خالية من أي تعبير أو انفعال. لقد حركت الكلمة داخلهم كثيراً من ردود الفعل المتنوعة والمتباينة، التي تتراوح بين التأييد والاستنكار. كان الجميع يرغبون في إطلاقها، لكنها كانت أبعد من حدود جرأتهم، ومن المدى الذي يمنحونه عادة، أو يستطيعون منحه، لأفكارهم. وبعد قليل خرقت زوجته الصمت الطويل، وقالت له بشفتيها الصارمتين المزمومتين وعينيها الصقريتين الحادتين: هذا أمر أكبر منا، وقراره ليس بيدنا.
استفاق سعيد الراضي فجأة، ورجع من المجموعة الصاخبة المتصارعة داخل ذاته إلى المجموعة المتحفظة الجالسة حوله،. ثم انكمش في أعماق تحفظه المعتاد، وتمتم هامساً، وهو يتأمل زوجته: صحيح، إنه أكبر منا.
4 ـ اختفاء سعيد الراضي(1/45)
وفجأة اختفى سعيد الراضي. كان موعد عودته من عمله ثابتاً في الثانية والنصف ظهراً. وحين بلغت الساعة الثالثة بدأت هبات من القلق تتحرك في قلب زوجته. وخطرت في بالها احتمالات كثيرة. فكرت أولاً أنه ربما تعرض إلى حادث سير، واستبعدت أن يكون قد تشاجر مع أحد ما، واستبعدت أكثر وجود امرأة أخرى في حياته. وأخذت ترتب في ذهنها ردود فعلها ولسانها على كل حالة محتملة، أو غير محتملة. يجب ألا يخرج عن سيطرتها، وعليها أن تضبط أي ابتعاد عن المسار المحدد له، وأن تستخدم تكتيكاتها ببراعة حتى لا تفلت الأمور من يدها.
في الساعة الرابعة تحول القلق إلى خوف، ربما للمرة الأولى. وشعرت بحاجتها، ربما للمرة الأولى أيضاً، إلى من تلجأ إليه وتستشيره، وتطلب مساعدته في هذه الحالة الطارئة غير المتوقعة. واتصلت هاتفياً بصديقه، ثم بصديقتها، وحاول الاثنان طمأنتها لكن قلقها وخوفها لم يتركا مجالاً لأي اقتناع. بعد نصف ساعة كان الصديق وزوجته والصديقة وزوجها في بيتها، واقترح الجميع خططاً للبحث عن الزوج المختفي. وبعد ساعتين عاد الصديق وزوج الصديقة، وأعلنا فشل جولتهما على الأصدقاء والمستشفيات. وفي اليوم التالي عرف الصديق أن سعيد الراضي متغيب عن وظيفته في إجازة لمدة أسبوع.
كان سعيد الراضي، في الحقيقة، قد سافر إلى مدينة بعيدة، واستأجر غرفة في فندق منعزل. لقد أراد التفرغ كلياً لأحلامه، دون أن يقطع متعة انسيابها شيء. وتمنى أن يحقق في أحلامه ما لا يستطيع إنجازه في الواقع. وأطلق على مغامرته هذه اسم الهروب نحو الداخل، ونفذها بعد إحساسه بقرب اختلال توازنه النفسي. أقفل سعيد الراضي باب غرفته، وخلع ثيابه كلها، واستلقى على الفراش، ثم أغمض عينيه بقوة، وابتسم منتصراً، فقد بدأت أحلامه التي انتظرها طويلاً.
5 ـ عند الحدود(1/46)
انطلق حاييم واثنان من زملائه في دوريتهم الليلية الراجلة قرب الحدود. كانت المنطقة جبلية وعرة لا تستطيع أي آلية السير فيها. وبدأ الممر يضيق إلى درجة لا تتيح مرور أكثر من شخص واحد. وفي السماء ارتفع البدر مستديراً، ليزيد المكان وحشة ورهبة. اقترب حاييم من أحد المنعطفات خلف زميليه، وشعر فجأة بذراع قوية تلتف حول عنقه. حاول المقاومة بصورة غريزية، وحين عجز جرب الصراخ، لكن الضغط الشديد على حنجرته كان أقوى من قدرتها حتى على الهمس.
شعر زميل حاييم بصوت وراءه أثار ريبته، وحين التفت مستطلعاً اندفع جسد حاييم نحوه واصطدم به، ففقد توازنه وسقط الاثنان متدحرجين على المنحدر ثم إلى الوادي العميق. واستدار الثالث بإحساس من التحفز والخوف وحب البقاء، ورأى كتلة بشرية ضخمة ملثمة تندفع نحوه. وجمدته المباغتة للحظة قبل أن يتمكن حتى من التفكير. ومع التحام جسده بالكتلة الثقيلة الضخمة الجاثمة فوقه أحس بالخطر الحقيقي، وأصبح رد فعله الغريزي موجهه الوحيد. ورأى كفين عريضتين تمتدان نحو عنقه، ومنحه رعبه، وتمسكه بآخر خيط يربطه بالحياة، قوة استثنائية مكنته من رفع رأسه، والإطباق بشدة على إحدى الكفين بأسنانه. وشعر أخيراً بسائل دافئ مالح يتدفق داخل فمه، وقطعة من إصبع دافئة ممتلئة تنزلق نحو حلقه وتنحشر فيه. واستيقظ سعيد الراضي من حلمه.
6 ـ عودة سعيد الراضي(1/47)
فتح سعيد الراضي باب بيته، ودخل على أطراف أصابع قدميه. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً، ولم يرغب في إيقاظ زوجته من نومها. ورغم حرصه الشديد، شعرت زوجته بحركته، وفتحت عينيها، ورأت عينين تعرف ملامحهما جيداً، لكنهما تحملان تعبيراً واثقاً ومتماسكاً لم تلحظه من قبل. كان سعيد الراضي يضع يده اليسرى في جيب سترته، ونظر بحدة وعمق في صرامة عينيها وقال باختصار: مساء الخير. امتزج في صدرها خليط من الأحاسيس، كثير منها بهجة بعودته، وبعضها رغبة في معرفة مكان اختفائه الطويل، وقليل منها، ولدهشتها، كان غضباً لخروجه عن سيطرتها الحازمة ورقابتها. وأخيراً سألته، بتردد أثار استغرابها، عن سبب غيابه غير المألوف طوال هذه المدة، وأين أمضى هذه الفترة، وماذا كان يفعل. وأجاب باقتضاب حاسم: كنت مسافراً ... في رحلة استجمام. ولم يضف كلمة واحدة بعد ذلك.
7 ـ بعد شهر
مضى شهر على عودة سعيد الراضي من رحلته الغامضة. كان تورد وجهه قد خف قليلاً، وفقد جسده الكثير من الامتلاء السابق. أما تحفظه الخائف المعهود فقد تلاشى، وأصبح يضحك باستغراق مشبع عند سماع أتفه نكتة، دون أن يرمق زوجته بطرف عينه. لكن أكثر الأمور غرابة كان صوته الذي لم يعد خافتاً، وأصبح الجالسون في الغرفة المجاورة يستطيعون سماعه بوضوح. ولم تجرؤ زوجته على الإلحاح لمعرفة تفاصيل غيابه الغريب، بل احترمت، ربما للمرة الأولى، رغبته في تجنب الإشارة إليه. كان يبتسم بينه وبين نفسه وهو يرى بعد أيام امتلاء جسدها قليلاً، واختفاء الزغب المتناثر على شفتها العليا، ويلاحظ لمسات من الرقة تنساب مع صوتها، كما فوجئ بكرتي البنغ بونغ في صدرها تتحولان تدريجياً إلى كرتي تنس.
ومن وقت لآخر، حين يجلس وحيداً، كان يتلمس بمتعة فائقة إصبع السبابة العريضة في كفه اليسرى، وقد نقصت سلامية واحدة. ثم يتذكر مثل شريط سينمائي، تفاصيل حلمه الممتع في تلك الليلة المقمرة، ويتنهد بارتياح.
((((1/48)
هموم صغيرة
الساعة الأولى من محاولة البحث عن المستحيل
عندما انتصف الليل كان قد مزق ثلاث عشرة ورقة. ظلت أفكاره تومض وتتلاشى في بقعة خفية عميقة داخل أعصابه، مثل حلم يقظة مستحيل. أغمض عينيه عن العالم الخارجي، وفتحهما نحو الداخل، فاندفعتا في استطالة ممتدة لا حدود لها. ثم تشعبتا في جميع الاتجاهات، وملأتا كل الفروع. لكن تلك البقعة ظلت خفية مستعصية. وانقطع التيار الكهربائي فجأة. لكن تياره الداخلي بقي في ذروة نشاطه، واستمرت الاستطالات في تمددها المتشعب العقيم.
عَبْرَ كتل الظلام المبعثرة حوله، ارتفع صوت بكاء حاد لطفل الجيران، فأُجفل قلبه، وانقطع تياره الداخلي، وفتح عينيه.
نهض ليحضر شمعة، ومد يديه يتحسس طريقه إلى المطبخ. اصطدم بكرسيين وجدار وطاولة. وأحس بوخزة مؤلمة في ركبته اليمنى حاول تجاهلها. وعندما تمكن من العثور على الشمعة وإشعالها، والعودة إلى غرفته بتمهل حذر حتى لا تنطفئ، عاد التيار الكهربائي، وهدأ بكاء الطفل، لكن تياره الداخلي ظل مقطوعاً.
الساعة الثانية(1/49)
كان مصراً على الاستمرار، برغم كل شيء. فرئيس التحرير صلب في مثل هذه الأمور، ولن يغفر له هذا التقصير. وعليه أن يُقدّم يوم الإثنين، أي بعد يومين، خمسمئة كلمة، هي زاويته الأسبوعية في الصحيفة. والتي ينبغي أن تعالج موضوعاً مشوّقاً، ناقداً، ولكنّه مُدجَّن مُقلَّم الأظافر. وهذه المواصفات الأخيرة لم يقلها رئيس التحرير صراحة، لكنه أوحى بها. وفكر كثيراً في التمرد على رئيس التحرير. لماذا يوم الاثنين؟ لتكن الزاوية يوم الثلاثاء أو الخميس. ولماذا خمسمئة كلمة بالتحديد؟ ربما يستطيع التعبير عما يريد بعشر كلمات... أو بكلمة واحدة. أو ربما احتاج إلى ألف أو ألفين. واجتاح ذهنه سيل من كلمات لماذا؟ كان يغوص في إغراء هذا التمرد، ولكن ليس إلى عمق كبير. فالنتيجة معروفة، والثمن هو رأسه، الذي يتحفز لبتره رئيس التحرير والكثيرون غيره. وهو لن يقدمه لهم باختياره.
وحاول من جديد أن يبحث عن ومضته الداخلية. أغمض عينيه، واسترخى أكثر في مقعده. شعر بفوضى أفكاره، وكأنها ملتقى شوارع مزدحمة، تعطلت فيها إشارات المرور الضوئية. جرب تنظيمها، وأَرْشَفَتَها، ولكن بدون جدوى.
الساعة الثالثة
من إحدى الزوايا انفلتت إحدى الأفكار الملحاحة. « اليد التي لا تقدر عليها قبّلها وادعُ عليها بالكسر». كانت هذه الفكرة ترفض الانضباط في أرشيف عقله. ومارست كل أشكال المراوغة كي تظل محتفظة بسيطرتها واستمراريتها، بدءاً من مجتمعه الصغير حتى تصل إلى العلاقات بين دول العالم. تراقص خلف عينيه بصيص ومضة، فركّز تفكيره على هذه المنفلتة، استسلم لإغوائها، وحاول الانطلاق معها في إسقاطات متدرجة نحو الأعلى. وخفق جانب منكمش في داخله بعد بضع درجات، وانتصب أمامه رئيس التحرير ملوّحاً بقلمه الأحمر: لا تتجاوز حدودك، وانتبه لرأسك الهش. وأطفأ الرعب ومضته.(1/50)
وتساءل داخلياً، كم يساوي رأسه.. عمود في صحيفة؟ عشر كلمات؟.. كلمة واحدة؟.. والمقابل هل يستحق؟ ولكن ما هو المقابل؟ خمسمئة ليرة.. عشر ليرات.. ليرة واحدة.. فشّة خلق، وصفاء قلب، واسترخاء في الأعصاب. هل سيغير العالم بقلمه؟ هل سينصف المسحوقين، ويُطعم الجائعين، ويسدّ البنادق الظالمة؟ هل سيتمكن من إعادة ما سرقه لصوص الحقوق إلى أصحابه، ملفوفاً بورقة ملونة، ومرفقاً ببطاقة اعتذار رقيقة؟
لو كانت كلمته تحمل هذه المَلَكَة الأسطورية لقالها، ثم اقتلع رأسه، وحمله بيده هدية لمن يطالب به. لكنه عرف أن زاويته الأسبوعية ليست أكثر من مساحة فارغة بحاجة إلى تغطية. قد يقرأ عنوانها بعض الناس، ويتابع قراءة ما بعد العنوان بعض هذا البعض، ربما بملل وشرود، تمهيداً للانتقال إلى مواضيع أكثر إمتاعاً، وأسهل هضماً.
الساعة الرابعة
ملأ التفكير في المقابل المادي لزاويته الأسبوعية مساحة واسعة من عقله. ثم تداخلت عَبْرَ هذه المساحة تداعيات كلّ منها يحاول السيطرة على بؤرة الاهتمام. كانت احتياجات أسرته للاستمرار في الحياة فحسب تتجاوز غالباً مردوده من الكتابة. واسترسل في تداعياته بحثاً عن القيمة الحقيقية لعمله، ولعمل الآخرين. من الذي يقررها؟ ما هو المبدأ الذي يتحكم بها؟ كيف ومتى تتحقق المعادلة العادلة بين قيمة العمل ومردوده؟(1/51)
واستعاد في ذاكرته خبراً قرأه قبل بضعة أيام في مجلة فنية، يتضمن أن مطرباً عربياً حدد مبلغ ألف دولار أمريكي ثمناً لكل دقيقة واحدة يغني فيها. وضحك عندما حاول مقارنة نفسه معه، فهو بحاجة إلى سنة كاملة من الكتابة المتواصلة ليحقق أجر الدقيقة ذاك. وأغرته المقارنة بأن يفلسف السبب. إن كل شيء خاضع لمبدأ العرض والطلب. وقيمة المعروض تحددها نوعية الطالب الذي يملك السيولة اللازمة، وصاحب السيولة يُفضّل تحريك رجليه على تحريك عقله أو قلبه. وتوصل إلى نتيجة تجمع بين المنطق والتشريح، وهي أن قيمة العمل تتزايد طرداً مع انحدار العضو الذي يعنيه هذا العمل. وتسللت فكرة خبيثة إلى واجهة تفكيره، تغريه بإنجاز عمل يرضي كل الأعضاء معاً، ويمنحه كل درجات المكاسب.
الساعة الخامسة
عندما بدأ يكتب زاويته الأسبوعية، قال له رئيس التحرير:
ـ اكتب ما تشاء، وفي أي موضوع يستهويك. وعبِّر عن كل ما يدور في ذهنك. ولكن احذر عند معالجتك أمورَ السياسة والدين والجنس. إنها أدوات خطرة، من لا يتقن استخدامها يؤذي نفسه، ومن معه.
وتذكر عدداً من الكتّاب الذين قرأ لهم. وأعاد إلى ذهنه كيف يتعاملون مع هذه الأدوات، ويظلون بعيدين عن أخطارها. كان أحدهم مغرماً بالمواضيع السياسية. وتمتعه الكتابة فيها، ويثيره ركوب صخورها الجارحة، والاقتراب من فوهة البركان، ولكن بدون الولوج فيه. وأصبحت كتاباته مثل ثورات الزوج المغلوب على أمره، أمام زوجته المتسلطة، إذا تورّم قلبه منها فرّغ غضبه على أولاده وجيرانه.(1/52)
وكاتب آخر يعشق النساء، كل النساء، عشقاً حسّياً حاداً. والكتابة عن عشقه هذا، بكل الانفعالات التي تشتعل في جسده، تخرج به عن قواعد اللعبة المسموحة. فكان يُطلق عواطفه الحبيسة المحظورة في كتابات تتحدث عن عشقه للأرض والوطن. والحديث عن عشق الأرض والوطن، الذي ينتفض في قلب عاشقهما، فيدفعه إلى مغازلتهما مثل امرأة خيالاته، لا اعتراض عليه. والرمز أسلوب مشروع، ووسيلة مسموح بها لتظليل النوايا الحقيقية التي لا يجوز التصريح بها، وكلما ازداد غموضه قلّ خطره.
وفي إحدى زيارته لدولة عربية متزمتة الرقابة، قرأ كتاباً يبحث في أصول إحدى العبادات. كان الكتاب في شرحه يذكر كل شيء باسمه، ويوضّح كل فعل بتفاصيله. وعندما أظهر استغرابه للسماح بنشر هذا الكتاب بكل ما يحتويه، قيل له: هذه أمور فقهية، ولا حياء في الدين.
وعرف أخيراً أن الخطر ينبعث من غلاف الكلمة، وليس من الكلمة نفسها؛ ومن قالب الفكرة، وليس من الفكرة ذاتها.
الساعة السادسة
كان العثور على موضوع زاويته الأسبوعية أمراً عسيراً. فقد اعتاد أن يكتب حين تولد فكرة في عقله، ثم تتنامى وتتوسع حتى تنضج، فتنفجر سيلاً من الكلمات، التي لا يعرف كيف تكوّنت، وأين ستتطور، ومتى ستنتهي. كانت الفكرة تهاجمه مثل القدر، بلا موعد، وبدون تحضير أو استعداد، تثقب نواة عقله، فيستسلم لنزيفه حتى الجفاف. والآن عليه أن يوقد شعلة أسبوعية منتظمة. عليه أن يفتعل الانفعال، ويؤججه، ويُنضجه، ويختلق الجو الذهني الذي يتفق مع الموضوع المطروح. وعوّد نفسه بعد بضعة أسابيع على التحكم بتوقيت أفكاره، وعدم تركها عفوية طليقة. وبدأ يبحث عن مواضيعه بين الناس من حوله. فالناس منجم للأفكار، وعليه اقتلاع صخور هذا المنجم، ومعالجتها وتنقيتها، ثم تشكيلها وتقديمها.(1/53)
وأخذت بعض التساؤلات تتقافز في ذهنه. كيف يفكر الناس، كيف يعيشون ، كيف ينفعلون ويتفاعلون؛ كيف يحاكمون الأمور، وكيف تنشأ ردود أفعالهم. أعدّ في ذهنه مجموعة غير مألوفة من الأسئلة، اقتحم بها عقول من حوله. واصطدم بالخوف والصمت، أو الرفض والتملّص. فالجميع يخافون من كشف ما بداخلهم. كلهم يقول ما ينبغي قوله، ما تعلّم قوله، ما يليق قوله، ما يُسمح بقوله. لا أحد يتجرأ على قول الحقيقة. فالحقيقة مخيفة مهما تكن، وسر له خصوصيته، وكشفها يشبه التعرية. وتعرية الأفكار مثل تعرية الجسد، أمر معيب ومحظور، ومخالف لكل القوانين والأعراف. والناس تعوّدوا على الهروب من المواجهة، والاختباء في سراديب أقوال استسلامية، مثل: «الباب الذي يأتيك منه الريح، سدّه لتستريح». أو «ابتعد عن الشر وغنِّ له».
لقد فقد الناس القدرة على التحدي والاقتحام والمجابهة. تخلّى كلّ منهم عن شخصيته المتفرّدة، ذات الملامح المتميزة، ورضي بأن يتضاءل ليصبح جزءاً لا ملامح له، داخل الهوية العامة المشتركة لمن حوله. تطاولت المورّثات الأرنبية ثم استقرت في عروقهم، فقنعوا بالانزواء السلبي في أقفاصهم، والتطلع عبر شقوقها بشغف مكبوت إلى الكائنات الخارجية، وكأنها من عالم آخر، منيع، بعيد المنال، مدغدِغ، ملعون، مرغوب. يحلمون به ليلاً ويستنكرونه نهاراً. يمكن النظر إليه سراً بطرف العين، أو من ثقب الباب، أو من وراء شبكة ضيقة الفتحات وحيدة الاتجاه. أما الرؤية المباشرة بعينين مواجهتين، ومحاولة الاستكشاف والتعرف، والقدرة على المحاكمة الناضجة، والاختيار الموضوعي، فهي خطرة مثل ارتكاب المعاصي، أو الدخول بين فكّي التمساح، أو تشغيل آلة إلكترونية معقدة.
الساعة السابعة(1/54)
تزايد ضوء النهار الجديد، ولم يكن قد كتب كلمة واحدة بعد. وشعر بمزيج من التعب والنعاس، وبدأ تفكيره يتراخى، وراح يطفئ زوايا عقله المضيئة واحدة واحدة. وكلما أطفأ واحدة ازداد استرخاءً. وظلت زاوية واحدة لم يستطع إطفاءها. وحين حاول ازدادت توهجاً. وقرر اقتحامها. لكن التعب والنعاس كانا أقوى من مقدرته على الوقوف. وازداد عناداً، وزحف على ركبتيه وهو يحاول الاقتراب منها. وحين وصل إليها أخيراً، انتصب في وجهه رئيس التحرير، حاملاً بيده عصا طويلة، طويلة جداً، في رأسها قلم أحمر.
(((
حكاية الشجرة العجوز
كان صباحاً عادياً، صباح يوم من أيام الشتاء. السماء ملتفة باللون الرمادي، والشمس ما زالت تتثاءب في فراشها، وتتمطى بين أغطيتها الدافئة، والناس كتل غامضة المعالم من المعاطف، تتدحرج مسرعة على أرصفة الشوارع، والرياح بلغت ذُروة غضبها وثورتها، فراحت تعتصر الغيوم بقسوة، حتى ينفجر ألمها دموعاً غزيرة، تسيل أنهاراً تغسل أنحاء البلدة الصغيرة الوادعة.
كان في طرف البلدة الوادعة بُستان واسع، لا يعرف أحد إلى أين تمتد حدوده، وفي رُكن قصي من أركانه شجرة عجوز كبيرة، أكبر من أي شجرة أخرى في ذلك البستان. وكانت هذه الشجرة الكبيرة تجمع في كل أمسية من أماسي الشتاء رفيقاتها وجاراتها، تقص عليهن من كنز ذكرياتها، وتروي لهن بعضاً من حكايات عمرها الطويل، الحافل بالأحداث. وكانت الرفيقات والجارات يحببنها، ويستمتعن بحكاياتها، ويرتحن لسماعها. وكان البستان الواسع يسترخي كل مساء في صمت حالم، ويستغرق في هدوء عميق، لا يقطعه إلا حديث الشجرة العجوز وهي تروي حكاياتها، وتقص ذكرياتها بصوت رقيق متعب.
- - -(1/55)
في ذلك العام أطال الشتاء زيارته، واستطاب الإقامة في البلدة الصغيرة الوادعة، فلم يشعر بانتظار الربيع له. وكانت الرياح قد ملت طول العمل ورتابة الليالي، فخرجت في ثورة غاضبة، تطوف أرجاء البلدة، وتقتلع كل ما يصادفها، وتطير به حتى تتعب من حمله، فترميه عند أطراف البستان الواسع خارج البلدة.
وعلى جدار عتيق، في زقاق منسي من أزقة البلدة، علّقت يد مهزولة في الليلة السابقة ورقة سوداء، كانت تعلن بحزن تقليدي، وبكلمات مقتضبة منمقة، ارتحال شخص عن هذه البلدة الوادعة، في سفر طويل، طويل، عبر السماء.
اكتشف الريح الورقة السوداء، وراحت تداعبها. ثم أخذت تزيد من قسوة عبثها. وقاومت الورقة السوداء طوال الليل. لكن الريح أزعجتها وأغضبتها، فزاد غضبها من سوادها، حتى تداخل مع سواد الليل، وكادت الورقة أن تصبح قطعة منه. ودام الصراع حتى الصباح، استنفدت فيه الريح كل قوتها ومللها، واستخدمت الورقة السوداء كل مرارتها وكآبتها. وأخيراً انتصرت الريح، واقتلعت الورقة السوداء عن الجدار العتيق، وطارت بها فرحة منتصرة فوق البيوت والأزقة، حتى وصلت إلى طرف البستان الواسع، فألقت حملها هناك، بدون أن تتوقف، وعادت مسرعة إلى البلدة، تبحث عن ضحية أخرى، تتابع معها مُزاحها الثقيل.
- - -
تأرجحت الورقة السوداء، وراحت تتمايل في الفضاء، ثم بدأت تترنح هابطة نحو البستان. كانت تختلج في انحدارها، وكأن بها بقية من روح. ومع أنفاسها الأخيرة استجمعت كل ما بقي لديها من مرارة وكآبة. وتوجهت إلى غُصن صغير مرتفع من أغصان الشجرة العجوز.
أُجفل الغصن الصغير، واهتز رعباً من هذه الوافدة الكريهة، وكان اهتزازه مفاجئاً لها، وهي في احتضارها، ففقدت توازنها، وتابعت سقوطها حتى استقرت على فرع كبير من فروع الشجرة.
- - -(1/56)
كان الفرع الكبير عجوزاً. وقد استسلم منذ زمن بعيد جداً إلى الصمت والانزواء، وعاش في غيبوبة مستمرة، يتأمل دورة الزمن، ويسترجع الذكريات، وينتظر قدوم لحظته الأخيرة. وفي غيبوبته وتأمله لم يشعر بهذه القادمة السوداء الكئيبة. وحتى لو شعر بها لما استفاق من غيبوبته وتأمله، فقد أصبح لا يبالي بما حوله، ولا بما يحل به أو يأتيه.
كان سُقوط الورقة مُستقراً في حضن الفرع العجوز، فهمدت في مكانها، ونُسيت.
- - -
بعد أيام مل الشتاء من طول إقامته، فبدأ يجمع أدواته، ويلملم بقاياه. وفي أمسية مظلمة داكنة انسل خارج البلدة الصغيرة الوادعة بهدوء، محاولاً ألا يُشعر أحداً بانسحابه. لكن الربيع، الذي كان منتظراً عند أطراف البستان الكبير، لمحه في انسلاله، فانتظر قليلاً حتى غاب الشتاء في عتمة الليل، وأسرع يوقظ رفاقه، وينطلق معهم متجهاً إلى مشارف البلدة. وهناك راح الجميع يعملون بسرعة ونشاط، يزيحون بقايا الغيوم الرمادية، التي كانت تغطي وجه السماء. فأضاءت النجوم في بريق متألق مغسول طال غيابه. وأطل القمر متسائلاً، ثم اطمأن والتمعت عيناه في تفهم، وأرسل أشعته الناعمة تنير الدرب أمام الربيع وصحبه، فاندفعوا يزيدون من نشاطهم، وراحوا ينثرون الزهور في الحدائق والبساتين ويوقظون البراعم، ويعيدون الألوان البهيجة إلى القلوب الحزينة.
سمعت الشمس، وهي تتمطى في فراشها، أصوات الصخب والمرح، التي يطلقها الزائر الجديد وصحبه، فاندفعت نشطة من بين أغطيتها، وأطلت تستقبل الضيوف بلهفة وحرارة، ونسيت كسلها ومللها، وعاد إليها دفؤها ومرحها، وأخذت تتسلل من نوافذ البيوت، توقظ النيام، وتداعب الكسالى، وتدعو الجميع لاستقبال الزائرين السعداء.
- - -(1/57)
وفي كل عام، كلما بدأ الشتاء سفره الطويل، وأتى موكب الربيع، كانت أسراب السنونو تتلاقى بعد عودتها من المهجر، وتتجمع أزواجاً، كل يحكي عن أحداث سفرته. وكانوا يسهرون عند الشجرة العجوز الطيبة، فتستمع إلى حكاياتهم وأحاديثهم، وتختزنها مع رصيدها من الذكريات. وفي هذا الصباح أطلت أسراب السنونو محلقة بلهفة وشوق. فقد سمعت بعودة الربيع، وراحت تتسابق متعجلة الوصول، لتلتقي مع الأصحاب والأحبة، القادمين من أماكن أخرى. ورقصت الزهور وهي تستقبل الفراشات الزاهية بعد غيابها الطويل، وتمايلت فروع الأشجار مع وريقاتها الطفلة نشوانة، وهي تحتضن أزواج السنونو الفرحة، وتفتحت براعمها الطرية لتعانق الطيور السعيدة بهذا اللقاء.
نظرت الطيور حولها. ثم انطلقت محلقة بسرعة ولهفة، فقد اشتاقت في غيبتها الطويلة إلى الشجرة العجوز الطيبة، واتجهت نحوها كي تهنئها بقدوم الربيع. لكنها لم تكد تصل إلى الشجرة الكبيرة حتى توقفت في الفضاء، ترفرف بأجنحتها في دهشة وذهول. وراحت تنظر واجمة مذعورة، ثم استدارت ومضت تتخبط في طيران متعثر بين أرجاء البستان الواسع، وأخيراً انطلقت مسرعة في حيرة وأسى، وغابت خارج البستان.
كانت الشجرة العجوز المسكينة وفروعها متشحة بثوب أسود كئيب يشبه ليالي الشتاء، وقد هربت البراعم عنها، وتساقطت الأوراق، ولم يبق فيها إلا أغصان يابسة سوداء، انثنت، ولوت فروعها الفاحمة، وتهدلت في يأس وحزن، وفي ركن من أركانها انزوى غصن هرم، راح في غيبوبة، يتأمل دورة الزمن، ويسترجع الذكريات، وينتظر قدوم لحظته الأخيرة، وفوقه استقرت ورقة سوداء هامدة.
- - -(1/58)
مرت الليالي، والشمس تغيب كل مساء، لتعود بإشراقة أحلى في الصباح التالي، والزهور تزداد تفتحاً كل يوم، والبراعم تزدهر، وتزدهر، والأوراق الخضراء الغضة تنتشر على الفروع والأغصان كلها، ونسي الجميع كآبة ليالي الشتاء وقسوتها، وغضب الرياح وعبثها. أما الشجرة العجوز الحزينة، فقد ظلت أغصانها تزداد سواداً يوماً بعد يوم، ويزداد مع سوادها يأسها وحزنها. وتدلت أغصانها حتى لامست الأرض، وبدت مثل جثة سوداء لا حياة فيها، لولا ارتعاشة ضعيفة تنتابها، فتهزها بين ساعة وأخرى. وكان الفرع الهرم أكثر الفروع كآبة، وزاد من بؤسه حال الشجرة العجوز، وإحساسه بأنه سبب ما أصابها، فتقدمت الشيخوخة في تسللها إلى قلبه، وبات لا يصحو من غيبوبته إلا ليغرق فيها من جديد، حتى بلغ ذروة اليأس، فانهار على الأرض، منسلخاً عن شجرته الكبيرة، ولفظ آخر تنهيدة في حياته.
وفي الصباح جاء حطاب، واكتشف جثة الفرع الميت. وعندما تفحصها وجد أنها قد تحولت إلى قطعة كبيرة سوداء من الفحم، وعثر على ورقة سوداء ملتصقة بها.
- - -
حزن الجميع على الفرع العجوز، لكنهم فوجئوا بعد أيام قليلة بالشجرة الكبيرة الطيبة تعود إلى ألوانها، والسواد الكئيب يزول عن فروعها وأغصانها. وبدأت البراعم الخضراء تتفتح، والأوراق النضرة تزداد، وعاد إلى الشجرة العجوز رونقها وإشراقتها.
ومن بعيد، ظهر سرب من السنونو، ثم تبعته أسراب أُخرى، وراح الجميع يحلقون فوق الشجرة الطيبة. وشعروا بالسعادة وهم يرون نضارة أغصانها واخضرار أوراقها، واندفعوا يتسابقون إلى عناق فروعها المزهرة، ويعيدون صلتهم مع صديقتهم العجوز، ويتابعون أحاديث سفرهم الشتوي الطويل. وعادت الشجرة الطيبة تستمع إليهم. وتضم حكاياتهم إلى رصيد ذكرياتها.
نسي الجميع تلك القصة المؤلمة، وعادت حياتهم إلى طبيعتها الأولى، ولم يعد أحد منهم يذكر شيئاً عن تلك الفترة الحزينة.(1/59)
لكن شيئاً صغيراً ظل في بال الشجرة العجوز، يذكرها بالأيام القاسية التي مرت بها، شيئاً صغيراً رأته وحدها، لكنها أخفته عن الآخرين، حتى لا يعكر صفو سعادتهم، ويعيد إلى أذهانهم شيئاً من الذكريات المؤلمة.
كان ذلك فجوة عميقة في جانب الشجرة الطيبة خلّفها سقوط الفرع العجوز، بعدما لفظ تنهيدته الأخيرة، وهو ينسلخ في تلك الليلة الحزينة.
(((
يوم في حياة المواطن
7386/5/م
لا تتوقعوا أن تجدوا في هذه القصة أحداثاً معقدة، وحبكة، ثم حلاً...
إنها حكاية بسيطة.. حاولوا أن تكتشفوا شيئاً من أنفسكم بين سطورها..
1 ـ مساء اليوم الثامن والتسعين
أنهى المواطن 7386/5/م آخر لقمة من عشائه، وشرب جرعة ماء وحمد اللّه، ثم تجشأ واستغفر اللّه. وعندما حل وقت النشرة الأخبارية أشعل ذلك المواطن لفافة، وفتح تلفزيونه، وأصغى إلى خليط عجيب متناقض من الأخبار التي تبثها النشرة: هدم المنازل وتشريد الأسر في فلسطين المحتلة؛ مايكل جاكسون يحقق دخلاً سنوياً يقارب المئة مليون دولار؛ فيضانات في بنغلادش تقتل الآلاف وتشرد عشرات الآلاف؛ مسابقة لاختيار أجمل تسريحة للكلاب في الولايات المتحدة؛ استمرار المجاعة وانعدام السلطة في الصومال؛ اتهام وزيرين بريطانيين بالشذوذ الجنسي؛ حدوث زلزال شديد مدمّر في دولة آسيوية؛ محاكمة كلينتون بتهمة الكذب وإقامة علاقة جنسية مع مونيكا لوينسكي؛ ارتكاب عمليات قتل جماعي في إقليم كوسوفو؛ بيع ثوب للراحلة ديانا بمبلغ ثمانية عشر ألف دولار في مزاد علني؛ مقتل عشرات الأشخاص في حادثة انقلاب قطار في الهند؛ المكسيك تتمكن من صنع أطول شطيرة في العالم...
2 ـ بعد دقائق قليلة(1/60)
عندما انتهى المواطن من مشاهدة إعلانات عن العلكة والمنظفات والفوط الصحية ذات الأجنحة أطفأ التلفزيون، ثم استلقى في سريره وأدار ظهره إلى زوجته، وأغمض عينيه وتظاهر بالنوم. لقد بدأت الآن أجمل لحظات يومه، والتي يسترخي فيها عبر أحلام يقظة، تتراقص فيها جميع الألوان المشرقة، فتغلف القرحة القاتمة التي تشكل هيولى حياته. كانت أحلام يقظته تتداخل أحياناً، وبخبث غالباً، فتموج فيها خيالات حصوله على قدرة أسطورية هائلة، تمكنه من إعادة هيبة العرب وكرامتهم، وتحجيم أعدائهم، وردع مستغليهم ومضطهديهم، وتحويل الأمة العربية إلى قوة سياسية وصناعية ومالية وعسكرية كبرى، تفرض رأيها ومشيئتها وعملتها واحترامها على العالم، وتتصرف وفق إرادتها، وتحقق العدالة والمساواة والرفاهية والحياة الكريمة لمواطنيها. ثم تلوح في مخيلته صورة زاهية، يحصل فيها كل شخص على بيت مريح له ولأسرته، ودخل يمكنّه من تذوق طعم بعض الكماليات، وسيارة متواضعة تريحه من زحمة المواصلات العامة. كان يعتبر أصحاب السيارات الفخمة كائنات غريبة قوية متفوقة من عالم آخر، يفصلها عن المشاة وراكبي الدراجات سور ضخم، لا يجرؤ على التفكير بالاقتراب منه. وفكر، ليت الدولة تمنح كل مواطن سيارة خاصة به، وتلغي وسائل النقل العامة، فتريح وتستريح. وعند هذه الفكرة اكتملت ألوان اللوحة، وبلغ ذروة الإحساس بالسعادة، فابتسم ابتسامة رضا، ثم استرخى في سريره واستغرق في النوم.
3 ـ تأملات في صباح اليوم التاسع والتسعين(1/61)
تمكن المواطن 7386/5/م من اختراق الكتل البشرية، والصعود أخيراً إلى الحافلة المزدحمة، التي تنقله إلى منطقة عمله، ووقف محشوراً في الممر بين المقاعد التي احتلها أصحاب الحظ السعيد. كانت تقف بجانبه امرأة ثلاثينية ممتلئة، على وجهها دلائل ضيق من الازدحام، ولفت نظره الخط الفاصل المكشوف بين ثدييها المنتفخين، والذي بدا مغرياً وهو يطل من فتحة ثوبها، وبعد نظرة نشوة فضولية طويلة مشبعة استغفر اللّه ثلاثاً بقلبه، ثم حوَّل نظره مكتفياً نحو الشارع خارجاً. وعندما تحركت الحافلة المتخمة متثاقلة، استغرق المواطن كعادته في تأملاته الصباحية اليومية، وهو ينظر خارج الحافلة دون أن يرى شيئاً، ويسمع همهمة الركاب العالية دون أن يعي كلمة.(1/62)
كانت رحلة الحافلة اليومية فرصة مناسبة له كي يستعيد في ذهنه بطريقة «الفلاش باك» كل ما يطفح به قلبه من هموم مختلفة الأشكال والأحجام. كان يلجأ إلى اللّه حين تشتد أزماته وتتراكم احتياجاته، ثم يعزي نفسه قائلاً «إن اللّه جلّت عظمته كان عادلاً في توزيع عطاياه على الناس. فقد منح بعضهم المال، ووهب بعضهم الجمال، وزين بعضهم بنعمة الثقافة والتفكير السليم، وقدم لبعضهم المناصب العالية، وأعطى بعضهم الصحة والمقدرة الجسدية». ومع ذلك فقد كان يجهد عقله دائماً، ويبحث عبثاً عن عطيته التي خصه اللّه بها، ثم يُقنع نفسه أخيراً بأنه حصل على إحدى هذه النعم بالتأكيد، ولو في حدها الأدنى. ويحمد اللّه على كل شيء، وعلى أي حال، ويردد في قلبه مرتاحاً: «كم أنت عظيم يا اللّه! لقد خلقتنا، وزرعت فينا غرائز الجوع والعطش والرغبة والخوف. أكرمتنا بالقناعة والنسيان والأمل والصبر والقدرة على التحمل. جعلتنا نرجو رحمتك وعطفك، ونخاف غضبك وانتقامك. نحلم بأنهار العسل، وغابات الفاكهة، والحور الكواعب في جنتك. تدفعنا هذه التركيبة من الغرائز إلى محاولة اكتساب عفوك ورضاك، ونيل ما يوعد به الأبرار والصالحون، وتجنب سخطك وعقابك، واتقاء الحرق والتعذيب بنار الجحيم الأبدية».
4 ـ بعد نصف ساعة من صباح
اليوم التاسع والتسعين(1/63)
وصل المواطن 7386/5/م إلى مقر عمله متأخراً ثلث ساعة. كان سجل التوقيع مغلقاً على طاولة رئيس الشعبة، استعداداً لإرساله إلى رئيس الدائرة. اقترب من رئيس الشعبة، وألقى عليه تحية الصباح بابتسامة نفاق وتملق. ورد رئيس الشعبة التحية بهمهمة لائمة، ونظرة غاضبة، وتجهم متحفظ يليق بمنصبه. ثم ألقى عليه محاضرة موجزة، حول الالتزام بمواعيد العمل، والتقيد بالنظام. ومع كل كلمة كان المواطن يهز رأسه تصديقاً لما يسمع، ويتمتم بكلمات آلية، كررها عشرات المرات قبل اليوم، تتضمن الوعد بالطاعة ومحاولة عدم تكرار ذلك الذنب. وكان ينظر خلال ذلك بطرف عينه، ودون أن يتعمد بالتأكيد، إلى الطاولة الشاغرة المجاورة لطاولة رئيس الشعبة، والتي لا يشغلها صاحبها، في أحسن الأحوال، أكثر من ساعة أو ساعتين في اليوم. ولم يجرؤ على مجرد التلميح إليها، ليس خوفاً من رئيس الشعبة، بل خوفاً من أن يصل تلميحه إلى صاحب الطاولة الشاغرة.
وأخيراً تكرم رئيس الشعبة بفتح السجل، والسماح له بالتوقيع. وعندما جلس المواطن إلى طاولته، كانت تتراقص في مخيلته سلسلة «تسليك» الأمور ذات الحلقات الذهبية. وفكر هل هي وسيلة لتسليك الأمور فعلاً، أم أنها جزء من تركيبة راسخة فوق مستوى فهمه. وتتالت حلقاتها في ذهنه: الولد ينافق أمه ويتملقها لنيل مطالبه. الأم تنافق زوجها وتتملقه لاتقاء غضبه وسخطه. الأب ينافق رئيس شعبته ويتملقه لكسب رضاه وتجنب عقوبته. رئيس الشعبة ينافق رئيس الدائرة ويتملقه كي يضمن الاستمرار في منصبه. رئيس الدائرة ينافق المدير العام ويتملقه، لأنه اعتاد منذ زمن طويل على السخاء بالنفاق والتملق، نحو من هو أعلى مرتبة أو أقوى سلطة منه.
توقف مرعوباً عن متابعة السلسلة عند هذه الحلقة. وبدأت يداه بالارتجاف، وقلبه بالخفقان، وأمعاؤه بالقرقرة. وبسرعة سحب أعلى المصنفات على طاولته، وفتحه، وتمتم في قلبه: «استعنا على الشقاء باللّه».
5 ـ ضحى اليوم التاسع والتسعين(1/64)
تناقص إلى حد كبير تتابع دخول المراجعين، وأصحاب المعاملات المتراكمة، فأشعل المواطن لفافة، وراح يمتصها بلذة مع آخر رشفة من قهوته. اقترب منه كهل تجعدت ملامحه بقلق راسخ مقيم، واكتئاب قديم مزمن. مد الكهل يده التي تحمل مصنفاً، بحذر مترقب ونظرة مستكشفة، ووضع المصنف على طاولة المواطن، ونظر إليه وهو يتكلف ابتسامة تملق ورجاء. فتح المواطن المصنف، والتقت عيناه بورقة من فئة المئة ليرة، تجثم بثقة وتحدٍّ وكبرياء فوق الأوراق المتراصة داخل المصنف.
كان عليه اتخاذ القرار بسرعة. تنازعته عبر ثوان طويلة ثقيلة ردود فعل متنوعة ومتناقضة، من البهجة المفاجئة، والخوف من العاقبة؛ من الحاجة المذلة، والرادع الديني. ارتاح لمرأى الورقة الزرقاء الفاتنة، وشعر بأنها تغمزه بإغراء. انقبض قلبه، مع ومضة عبرت ذهنه، حول الإثم الذي تحمله هذه الشيطانة اللعينة المغوية، وراوده ركن نقي في تفكيره على رفض هذا الإغراء، وإعادة المصنف بصمت إلى صاحبه، واستبعد كشف الأمر أمام بقية الموظفين وإثارة فضيحة.(1/65)
ونظر بطرف عينه إلى زميله على الطاولة المجاورة، كان ذلك الزميل بارعاً في طلب «الإكرامية»، كما يدعوها، بصورة مكشوفة تصل أحياناً إلى درجة الوقاحة والصفاقة. صحيح أنه «فعلها» بضع مرات، تقل كثيراً عن زميله، كان يشعر في كل مرة بأعراض غريبة في بطنه، وتنميل متزايد في قلبه، ورجفة متعرقة في يديه. وفي تلك اللحظة، تسلل أمام عينيه خيال فروج مشوي طالما تأمله وهو يتجول في السوق، وحلم بأنه ينهش أوصاله بتلذذ غامر، ويمصمص عظامه الطرية حتى آخر نُثارة من اللحم فيها. وفكّر: «لكن هذه الورقة لا تكفي ثمناً لهذا الفروج الحلم ... فليكن نصف فروج إذاً مع الحمُّص والمخلّل. المهم أن أحقق عيّنة صغيرة من الرغبة، وأتذوق واقع حلم طال أمده». غطى منظر الفروج المشوي كل تفكير مغاير، أو رادع من أي نوع. وشعر برائحة الفروج المشوي تملأ قلبه وذهنه، وتغطي كل أمر آخر. وبسرعة وخفة فتح درج طاولته، وأسقط الورقة الزرقاء داخله، وتظاهر بتصفح أوراق المصنف، ثم دسه على الطاولة مع المصنفات الأخرى، وتنهد بارتياح ورضا، وبعض الإحساس المكبوح بالإثم.
6 ـ بعد ظهر اليوم التاسع والتسعين(1/66)
طلب المواطن 7386/5/م من بائع الفراريج أن يضع بضعة أرغفة إضافية، كي تتشرب الدهن والنكهة العطرة. وعندما خرج من المحل، وهو يؤرجح الكيس الذي احتوى على نصف الفروج وملحقاته، شعر كأنه يعلق بأصابعه جوهرة ثمينة لا يصدق أنه امتلكها حقاً. وتمنى لو يتمكن من الطيران كي يصل بحمولته اللذيذة إلى زوجته وولديه، المتبقيين بعد زواج بناته الثلاث. ولمعت في رأسه فكرة مجنونة بأن يركب سيارة أجرة، كي يصل بسرعة إلى البيت، لكنه زجرها بقسوة، فالليرات المئة تبخرت كلها أمام سيخ الفراريج الملتهبة، ولا بد من ركوب الحافلة أو السير. واختار السير خوفاً على كيسه الغالي من التعرض للضغط والتشويه، وربما الانبعاج والسقوط، في ازدحام الظهيرة. وراح يتلفت حوله خلسة خلال سيره، وهو يشعر بأن بعض الناس ينظرون إليه وإلى كنزه الفواح بغبطة، وربما بحسد. وجعله هذا يحس باعتزاز طغى على إحساسه المديد بالذل والانكسار.
عندما دخل بيته نادى زوجته وولديه، وفتح الكيس الحلم على الطاولة بنشوة، وراح يعد المائدة السخية معهم، ثم بدأ يوزع أوصال الفروج الساخنة الشهية عليهم، ويتلذذ برؤية أيديهم وهي تتخاطف قطع الخبز المتشربة بالدهن، ووجوههم التي غسل عنها عطر نصف الفروج ومذاقه لطخات حرمان متأصلة فيها. وقبل الانتهاء من تناول الغداء، حرص على إبقاء قليل من الحمُّص والمخلّل والخبز المتشرب بالدهن من أجل العشاء. ولا يضر القيام بملحق مسائي، ولو كان متواضعاً، لهذه المناسبة الفريدة من نوعها.
7 ـ بعد عصر اليوم التاسع والتسعين(1/67)
استيقظ المواطن من قيلولته، وارتدى ثيابه بثقل. كان الامتلاء اللذيذ في معدته لا يزال يذكي فيها، وفي ذهنه، متعة انقضت بسرعة مثل لحظات السعادة الأخرى، ولم يظل منها إلا بعض من بقاياها، وذكرى نشوة يحاول إطالة أمدها. كان موعد بدء عمله الإضافي في المكتب الخاص قد اقترب، ولم يشأ أن يتأخر، فالعاقبة هنا لا تقتصر على اللوم، والتذكير بالنظام، لكنها قد تصل إلى الطرد، وبدون أي تعويض. وهو لن يتسبب في إغضاب صاحب المكتب، وفقدان العمل الإضافي الذي يرفد دخله ولو قليلاً.
كان يركب دراجته عندما يذهب إلى دوامه المسائي فقط، بدلاً من استخدام الحافلة. أما في دوامه الصباحي فلم يكن هناك مكان يضعها فيه، ويطمئن عليها من الضياع. وكان يحب دراجته، إلى درجة العشق تقريباً، ويحرص عليها، ويعتني بها، ويعتز بامتلاكها. وكثيراً ما عزى نفسه بأن هذه الدراجة لا تقل بأي حال عن السيارة. ألا يكفي أنها، كما يقولون، ترفع قدميه عن الأرض. بل إنها أفضل من السيارة، لأنها لا تكلفه ثمن وقود أو أجور إصلاح عالية. كما أن ركوبها مفيد للصحة، وبخاصة في سنه المتقدمة هذه. وقد رأى كثيراً من الأشخاص الهامين يركبون دراجة، ولو كان ذلك للرياضة فقط. وحين وصل إلى المكتب، تمتم وهو يدخل: «الحمد للّه على دوام الصحة والعافية».
8 ـ مساء اليوم التاسع والتسعين
عندما انتهى دوامه المسائي، لاحت في مخيلته، وهو عائد إلى البيت على متن دراجته، صورة بقايا الحمُّص والمخلّل والخبز المشرب بدهن الفروج المشوي، وشعر بمعدته تزقزق شوقاً لوجبة العشاء الشهية التي تنتظره.(1/68)
أنهى المواطن 7386/5/م آخر لقمة من عشائه، وشرب جرعة ماء وحمد اللّه، ثم تجشأ واستغفر اللّه. وعندما حل وقت النشرة الأخبارية أشعل لفافة، ومد يده إلى مفتاح تشغيل التلفزيون. لكنه تردد، ثم أبعد يده، وأكمل لفافته. وعندما أطفأها توجه إلى سريره، واستلقى عليه، وأدار وجهه مبتسماً نحو زوجته. لقد كان هذا اليوم يوماً غير عادي، وربما لن يتكرر قبل مرور وقت طويل. وقرر تأجيل الاستغراق في أحلام يقظته، ومنح هذه المناسبة النادرة الاحتفال الاستثنائي الذي تستحقه.
(((
حدث في القرن
الكذا والعشرين
كانت اثنتان وعشرون محطة فضائية عربية تبث في تزامن نادر غريب «أوبريت الحلم العربي»، ومع كلمات «دا حلمنا، طول عمرنا، وحدة تضمنا، كلنا، كلنا» فتح راجي عبد الصبور جهاز الكمبيوتر المتربع فوق مكتبه، وأخذ يتجول بين مواقع الأنترنت، ولفت انتباهه عنوان: «قفزة إلى المستقبل، أحداث القرن الكذا والعشرين». وراح يستعرض عناوينه الفرعية، ثم توقف عند عنوان: «احتفالات العقد الأول من القرن الكذا والعشرين» وقرأ:
في نهاية العقد الأول من القرن الكذا والعشرين، احتفلت الجمهورية العربية بالذكرى السنوية العاشرة لتأسيسها. وفي هذه المناسبة القومية الكبرى، أُقيمت المهرجانات، ورفرفت الزينات وأعلام الجمهورية العربية في عاصمتها القدس، وفي جميع أقاليمها ومدنها، من عبدان في إقليم عربستان شرقاً؛ إلى سبتة ومليلة في إقليم المغرب غرباً؛ ومن الإسكندرونة في إقليم سورية شمالاً؛ إلى جوبا في إقليم السودان جنوباً.
وقبل عشر سنوات، في بداية العقد الأول من القرن الكذا والعشرين، تمكن قادة الأقاليم العربية، أو الدول العربية كما كانت تُدعى سابقاً، من تجاوز خلافاتهم الطويلة، والتوصل إلى إجماع تام على تشكيل الجمهورية العربية. وجرى توقيع اتفاق الوحدة بين جميع الدول العربية، مع فسح المجال لانضمام الأقاليم والمناطق المحتلة عند استقلالها.(1/69)
انظر « تطور الجمهورية العربية »
انتقل راجي عبد الصبور إلى هذا العنوان وقرأ:
بعد إعلان الجمهورية العربية، تمكن الدينار العربي، الذي بدأ التعامل به فوراً، من فرض تأثيره وقوته على جميع عملات العالم، وأخذ يتقدم بسرعة لاحتلال موقع رئيسي في مجال النقد العالمي، وتوقع الخبراء أن يصبح قريباً العملة الأقوى في العالم. وقد بلغ سعر صرف الدولار الأمريكي مؤخراً ستة وعشرين درهماً عربياً، أي أكثر بقليل من ربع الدينار، كما بلغ سعر صرف الجنيه الإسترليني أربعين درهماً، والفرنك الفرنسي خمسة دراهم. وتمكنت الإجراءات السياسية والاقتصادية الحازمة في الجمهورية العربية، من توحيد دخل الفرد في مختلف أقاليمها، ورفعه إلى مستوى يضعه في مصاف أرقى المستويات العالمية، وأصبح المواطنون العرب كافة، في جميع الأقاليم، يعيشون في رفاهية عالية، مع إحساس بالطمأنينة ضمن اقتصاد وطني قوي مستقر، وأنظمة متطورة للضمان الاجتماعي والتأمين الصحي.
أدى فتح الحدود كلياً أمام الأفراد والمنتجات بين الأقاليم العربية، وإنشاء شبكة واسعة متطورة من الخطوط الجوية والحديدية والبرية، وتنفيذ مخطط اقتصادي متين منذ انطلاق الجمهورية العربية، إلى تحقيق تكامل متوازن للموارد الزراعية والصناعية والمعدنية والقوى العاملة العربية، وألغت الدولة الفتية استيرادها للمواد التي تنتجها أقاليمها، وانتظمت حركة الأيدي العاملة بين الأقاليم التي تفتقر إليها والأقاليم التي تتوفر لديها، بعد إنهاء عقود العمل الأجنبية. ومن المتوقع أن تتوسع الصناعة في الجمهورية العربية لتشمل إنتاج جميع أنواع الصناعات، والثقيلة بشكل خاص، بالإضافة إلى تطوير الصناعات الموجودة، وتحقيق الاكتفاء الاقتصادي العربي بصورة كاملة.(1/70)
تركز جانب كبير من اهتمام الدولة الفتية على تطوير صناعة الأسلحة المختلفة، لتأمين احتياج الجمهورية منها والاستغناء عن استيرادها من الدول الأجنبية، التي كانت تفرض أسعارها وشروطها. واعتُبر هذا ضرورياً لفرض هيبة الجمهورية الناشئة بين دول العالم. وتطلب هذا الأمر الاتصال مع غالبية العلماء والخبراء العرب، الذين كانوا موزعين في دول العالم، كي يعودوا ويضعوا خبراتهم في خدمة وطنهم، لقاء منحهم رواتب وامتيازات تفوق ما كانوا يتلقونه في الدول التي تستضيفهم. ونجحت هذه الاتصالات فوراً في إقناع مئات الآلاف من العلماء والخبراء، الذين عادوا إلى الجمهورية ممتلئين حماساً ورغبة في تطوير بلادهم. وساعد هذا في تسريع عملية التطور الصناعي، وخلال فترة قصيرة تمكنت الجمهورية العربية من التوصل إلى مركز صناعي متفوق جداً، جعلها تستغني كلياً تقريباً عن الاستيراد.
انظر: « حرب الساعات الست»
وبسرعة فتح راجي عبد الصبور العنوان الجديد، وقرأ:
بعد أشهر من تأسيس الجمهورية العربية اجتمعت القيادة العسكرية، وناقشت بسرية تامة خططاً لتحرير الأقاليم والمناطق العربية المحتلة. وكان طبيعياً أن يترأس جدول الأعمال وضع خطة لتحرير فلسطين. وبعد دراسة مفصلة ومعمقة للإمكانات العسكرية المتوفرة، والأهداف الاستراتيجية الحساسة للعدو، تم وضع الخطة وتحديد ساعة الصفر.(1/71)
وفي الساعة الحادية عشرة تماماً من قبل ظهر اليوم المحدد، انطلقت مئات الصواريخ من قواعدها باتجاه أهدافها. كانت الأهداف تتضمن مقرات القيادة السياسية والعسكرية للعدو، والمفاعلات النووية، والمطارات والموانئ الحربية. وفي الوقت نفسه تحركت الفرق المدرعة وقوات المشاة المحمولة، على جميع المحاور، باتجاه الأرض المحتلة تحت تغطية مكثفة من الطائرات المقاتلة. وأصيبت قيادات العدو بالذهول من المفاجأة، ولم تتمكن من التحكم بالموقف المبعثر، وخلال ست ساعات كان الجيش العربي قد سيطر على المواقع الرئيسية في فلسطين، وعلى الفور بدأ قادة المواقع المحررة تسيير الأمور الإدارية في مناطقهم، وتأمين الاحتياجات الأمنية والمعيشية والصحية للسكان. أما المجموعة المكلفة بالسيطرة على الإذاعة والتلفزيون فقد باشرت عملها فوراً، وانطلقت البيانات التي تعلن تحرير كامل الأرض الفلسطينية، وتحذر كل من يفكر بالتدخل أو المقاومة، من الداخل أو الخارج، بالرد القوي الحاسم.
عُرفت حرب تحرير فلسطين لاحقاً باسم حرب الساعات الست. وأصبحت خطتها من أساسيات العلوم العسكرية. وبعد أيام قليلة أعلن القطر الفلسطيني انضمامه إلى الجمهورية العربية، وقرر المجلس الرئاسي في الجمهورية العربية بالإجماع اعتبار القدس عاصمة للجمهورية، نظراً لما تمثله القدس من قيمة وطنية ودينية وعاطفية لدى العرب جميعاً.(1/72)
في السنة الثانية من العقد الأول، جرت مفاوضات بين قيادة الجمهورية العربية وكل من تركيا وإيران وأسبانية، بهدف التوصل إلى اتفاق لتحرير الإسكندرونة وعربستان وسبتة ومليلة. وبعد سلسلة طويلة من المباحثات والمفاوضات، اقتنعت الدول الثلاث بضرورة إعادة ما كانت تحتله من أراض عربية إلى أصحابها الشرعيين، بعد تأكدها من قوة الجيش العربي ومقدرته العالية، واقتناعها بأنها إذا لم تسلم الأراضي العربية بطريقة سلمية فسوف تسلمها بالحرب، التي ستكبدها خسائر مادية وبشرية كبيرة. وجرى الاحتفال بعد أيام بانضمام هذه المناطق إلى الجمهورية العربية.
انظر: « الانعكاسات في بريطانية وأمريكة ».
ازداد فضول راجي عبد الصبور، وانتقل إلى هذا العنوان ، وقرأ:
بدأت المشاكل الاقتصادية والسكانية تتضخم في بريطانية والولايات المتحدة. وكان السبب الرئيسي هو هجرة اليهود الذين كانوا يستوطنون فلسطين، والذين فضل عدد كبير منهم الهجرة إلى هاتين الدولتين.
ولم تعد بريطانية عظمى كما كانت تُدعى، فقد انضمت أيرلندة الشمالية أخيراً إلى جمهورية أيرلندة، وانفصلت اسكتلندة لتصبح دولة مستقلة، واستوطن غالبية اليهود المهاجرين في مقاطعة ويلز. ويؤكد المتطرفون منهم أنهم سيقومون بتشكيل دولة في ويلز، يطلقون عليها اسم إسرائيل الجديدة. ويعتبر غالبية اليهود أن لهم حقاً في بريطانية لأنها، ممثلة بوزير خارجيتها الأسبق آرثر بالفور، منحتهم حقاً بتشكيل وطن لهم في أرض فلسطين التي لا تملكها. وكان الأجدر بها منحهم هذا الحق في أراضٍ تملكها ولها حق التصرف بها.(1/73)
أما اليهود الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة فقد استوطن أغلبهم في ولاية كاليفورنيا. ونتيجة التناقضات والسلبيات التي سيطرت طويلاً على المجتمع الأمريكي، انفجرت ثلاث حركات في الولايات المتحدة: حركة الزنوج في الجنوب الشرقي، على امتداد ولايات كارولاينا الجنوبية وجورجيا وفلوريدا وألاباما والمسيسيبي ولويزيانا؛ وحركة الهنود الحمر في ولايات كولورادو ويوتا ونيو مكسيكو؛ وحركة اليهود في ولاية كاليفورنيا. ونجحت هذه الحركات الثلاث في الانفصال عن الولايات المتحدة وتأسيس دولها المستقلة. وأطلق الزنوج على دولتهم الجديدة اسم نيو أفريكا، وسمى الهنود الحمر دولتهم جمهورية شوشونيا، ودعا اليهود دولتهم باسم يهودا. ويؤكد الكثير من المحللين السياسيين أن كلاً من هذه الحركات، أو الدول الثلاث، قد تلقت دعماً عسكرياً ومالياً ومعنوياً من جهات خارجية قوية مختلفة، وهو ما أدى إلى نجاحها بسرعة. وبهذا تقلص عدد النجوم في العلم الأمريكي من خمسين إلى أربعين نجمة.
انظر: « التطورات في آسية وأفريقية »
لم يتأخر راجي عبد الصبور في الانتقال إلى هذا العنوان، وقرأ:
لم تسمح الفوارق الاقتصادية في آسية بتشكيل أي صيغة للاتفاق بين دولها. فقد تزايدت القوة الاقتصادية للصين واليابان وكوريا الموحدة، وامتد تأثيرها ليشمل العالم كله تقريباً. ومن جهة ثانية، ازدادت بنغلادش فقراً، وتضخم الخلاف بين الهند والباكستان، وتصاعدت الصراعات داخل أفغانستان، وعمّت التناقضات الاجتماعية تركيا، التي استمرت في تقديم التنازلات كي تدخل السوق الأوروبية المشتركة، دون أن تتمكن من تحقيق ذلك حتى الآن.(1/74)
وفي أفريقية تحولت منظمة الوحدة الأفريقية إلى مجلس اتحاد شبه فيدرالي، ضم الدول الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى. وقد تمكن من تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هناك، وساعده توفر التربة الغنية والمصادر الهائلة للمعادن والأحجار الثمينة والمياه. وبدأ العمل لتوصيل الماء من أماكن توفره إلى المناطق التي تفتقر إليه. وخلال فترة قصيرة تناقصت المجاعات في القارة، وتراجعت إلى حد كبير نسبة الفقر. وبعد تشكيل مجلس الاتحاد الأفريقي بسنة أصدر عملة موحدة، بدأ التداول بها بدلاً من العملات السابقة، وأطلق المجلس على العملة الجديدة اسم الأفرو، وخلال فترة قصيرة تمكن الأفرو من منافسة اليورو الأوروبي وغيره من العملات العالمية القوية.
تابع راجي عبد الصبور جولته بين العناوين، ثم توقف عند عنوان «مجلس الإنصاف الدولي» وقرأ:
نتيجة قناعة الجمهورية العربية بعجز الأمم المتحدة عن تحقيق العدالة العالمية، دعت إلى مؤتمر قمة ضم رؤساء الدول التي لم تنصفها الهيئة، وتم الاتفاق على انسحاب هذه الدول من الأمم المتحدة، وتشكيل مجلس يمنع الظلم ويفرض العدل بين جميع دول العالم. وأطلق المؤتمر على هذا المجلس اسم مجلس الإنصاف الدولي. وجرى الاتفاق على تشكيل جيش قوي يضم وحدات من جميع الدول المشاركة، هدفه التدخل عند اللزوم لوقف التجاوزات، وفرض إعادة الحقوق إلى أصحابها بالقوة، وتجميد عضوية الدولة التي لا تلتزم بقرارات المجلس.(1/75)
في تلك الفترة، تقدمت الولايات المتحدة بشكوى أمام مجلس الأمن ضد الجمهورية العربية، واتهمتها بالعنصرية وممارسة الإرهاب، وانتهاك حقوق الإنسان، وإساءة معاملة من تبقى فيها من اليهود، لأنها تطبق التمييز العرقي عليهم، وتمنعهم من تولي مناصب عليا في الجمهورية. وطلبت الولايات المتحدة فرض عقوبات صارمة على الجمهورية العربية. وعند طرح المشروع للتصويت أيدته إنكلترة، وعارضته الصين، وامتنعت فرنسا وروسيا، بالإضافة إلى اليابان وألمانية اللتين انضمتا مؤخراً، عن التصويت. وسقط المشروع الأمريكي، أولاً نتيجة الفيتو الصيني، وثانياً لأن الجمهورية العربية لم تعد عضواً في هيئة الأمم المتحدة، وثالثاً لأن عدد اليهود الذين يعيشون في الجمهورية العربية لم يكن يتجاوز ألف عجوز مريض، سمحت لهم الجمهورية بالبقاء فيها لأسباب صحية وإنسانية.
كان راجي عبد الصبور في ذروة استغراقه، وهو يتنقل بين مواقع الأنترنت، بينما استمرت المحطات الفضائية العربية الاثنتان والعشرون، بتزامنها النادر الغريب، في بث «أوبريت الحلم العربي»، وفجأة بدأت الصورة في جهاز الكمبيوتر تتلاشى تدريجياً. ومع كلمات «جايز ظلام الليل، يبعدنا يوم إنما، يفضل شعاع النور، يوصل لأبعد سما» غطى اللون الأسود الحالك الشاشة بكاملها. وبعد لحظات، ظهر على الشاشة مربع رمادي صغير وسط السواد، وقرأ راجي عبد الصبور داخل المربع: «حصل خطأ في تنفيذ البرنامج، نتيجة تسلل فيروس مجهول المصدر إلى الملفات. يرجى إعادة تشغيل الجهاز أو إطفاؤه نهائياً».
(((
المطر(1)
__________
(1) * أول قصة نشرت للمؤلف (مجلة جيش الشعب ـ 1963)(1/76)
من خلال الضباب الدخاني الأزرق.. أمضغ لفافاتي واحدة إثر أخرى.. ولا يزال القرع الرتيب يتوالى على زجاج نافذتي الصغيرة.. قطرات المطر تتصادم على حافتها العليا.. ثم تنساب باكية على خدها الزجاجي الصقيل.. والصراع على أشده.. صراع حبات المطر.. وعواء السماء الهادر.. والبريق الخاطف الحانق.. صراع أحمق فارغ.. لا يصلني منه إلا ضجيجه وأنا متنسك في صومعتي الصغيرة المعبقة بالدفء والدخان، والأحلام الفارغة..
يوم كامل قد مر.. ولا تزال السماء تبكي وتزأر.. وأنا مخبأ بين أغطيتي الدافئة.. الجامدة.. ميتاً.. لا حراك بي.. والبارحة.. يوم واحد فقط مر، كنت أصفع جوانب الطريق بقدمي الجاحدتين.. أختبيء داخل معطفي.. أحملق بالمربعات المنتظمة السخيفة.. والشقوق المستقيمة على الرصيف.. وتغلغلت يد صغيرة خلف ذراعي، واستدار رأسي.. مساء الخير.. رفيقتي العذبة.. ومضت تصفع الطريق مثلي بقدميها الطفلتين.. إلى أين في هذا الظلام؟.. وتمتمت شفتاي باختصار.. هائم.. وأنت؟.. وشدت على ذراعي برفق.. هائمة.. مثلك.. وانتظم صوت حذائها بضربات موقعة.. هائم.. وهائمة.. والشارع العريض يرتعش من البرد، هجره الناس، فانزوى إلى أحلامه بهدوء.. يقطعه بين حين وحين.. دوي سيارة هاربة..(1/77)
كيف دروسك؟.. وانفرجت شفتاها اللذيذتان عن بسمة.. كعهدك بها.. وسكتنا.. وبدأنا نتمايل بخطواتنا.. نظرت إليها.. والتهمت بعيني وجهها الصافي.. كم راودتني رغبة منذ عرفتها أن أغفو بشفتي على صفحة هذا الوجه.. أغلغل أناملي في أغوار الشعر الليلي.. ودغدغت عنقي قطرة ماء، ورفعت عيني.. سيبدأ المطر.. هل نعود؟.. وهتفت بمرح.. لا.. نزهة تحت المطر.. تطربني.. هيا نسرع قليلاً.. وعانقت يدها ذراعي بقوة.. والتصقت بي.. واندفعنا.. المطر ينقر رأسي، قطرة، قطرة.. وتجتمع القطرات ثم تنساب بمظاهرة على جسدي.. وخلال شقوق ثيابي، فتبعث بي قشعريرة برد لذيذة.. أرتعش لها بنشوة عذبة.. وأحسست بصديقتي ترتعش.. وهمست.. إنكِ ترتجفين.. وابتسمت.. لست أدري لماذا.. فأنا لا أشعر بالبرد.. إنني منتشية.. والتجأنا إلى شجرة حانية بطرف الطريق.. ووقفنا عندها.. كنت قد بدأت بالارتعاش وفمي قد جف.. واقتربت منها.. وتعبدت شفتاي في محراب وجهها.. واشتد الطرق في رأسينا وانهار المطر سيولاً فوق جسمينا الثائرين..
هدأت حدة المطر.. وكنا قد عبرنا الشارع صامتين.. لا ينظر أحدنا إلى الآخر كأننا متخاصمان.. وقطعت صمتنا الثقيل متمتمة.. هل تحبني؟؟.. وحرت.. لست أدري.. لا.. لا أحبك.. لست سوى صديقة لي.. وافترقنا.. ولا يزال المطر ينهمر.. وأنا في قوقعتي.. يحيطني الضباب الأزرق.. هل أحبها.. أتراني بقبلتي قد وقعت عهد بحبها.. هل إذا ارتعشنا تحت أنهار المطر.. وتركنا نفسينا تشعران بلذة الرعشة.. لحظات قليلة.. ثم انقضت.. هل رسمنا حياتينا في هذه اللحظات الراعشة.. لا.. لست أحبك كحبيبة.. لست في قلبي سوى صديقة.. وكصديقة أحبك..(1/78)
لا يزال القرع الرتيب يتوالى على زجاج نافذتي.. نافذة سجني الصغير.. وأنا أستنشق الدخان.. لفافة إثر لفافة.. والسماء تبكي بغصة حاقدة.. أزيزها يتدحرج عبر الغيوم السوداء.. قطرات المطر تتصارع على نافذتي.. ورأسي يدور.. متشبثاً ببقايا حلم ولى.. وذكرى قبلة راعشة في ليلة ممطرة..
(((
المحتويات
صفحات من مذكرات رجل عاقل جداً ... 3
ذو الوجه المستطيل ... 3
الاختيار ... 3
القرار ... 3
الولادة الثانية ... 3
يوم اختفى سعيد الراضي ... 3
هموم صغيرة ... 3
حكاية الشجرة العجوز ... 3
يوم في حياة المواطن 7386/5/م ... 3
حدث في القرن الكذا والعشرين ... 3
المطر ... 3
المحتويات ... 3
((((
((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
صفحات من مذكرات رجل عاقل جداً: مجموعة قصصية/ خالد حداد– [دمشق]: اتحاد الكتاب العرب، 2000 – 121 ص؛ 20سم.
1- 813.01 ح د ا ص ... ... ... 2- العنوان
3- حداد
ع- 2152/11/ 2000 - ... ... ... مكتبة الأسد
((
هذا الكتاب
يشغل الكاتب في مجموعته القصصية هم الإنسان والهم الوطني فهو يتألم عما يعانيه الإنسان من فقر وعوز وضيق، ومما يعانيه وطنه وقومه من تمزق وضعف وهوان ، بفكر إنساني وطني قومي نظيف واضح بهمومه وأحلامه الصغيرة والكثيرة، يرفض الواقع المرير، يمتزج الخاص بالعام ولا يخفي حقده على الصهاينة.
(((1/79)