صفحات من تاريخ الطب والأطباء في المدينة المنورة
د.عبد الفتاح عبد الرزاق حنون
طبيب أسنان وباحث في تاريخ الطب
لم يحظ تاريخ الطب والأطباء في المدينة المنورة بما يكفي من الدراسة والبحث للكشف عن الجوانب المختلفة للممارسة الطبية في المدينة المنورة عبر العصور، وسنحاول في هذا البحث تسليط الضوء على بعض الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع، ودراسة تاريخ المستشفيات والأطباء في المدينة المنورة في العهود المختلفة، منذ العهد الإسلامي الأول وحتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري.
كان لأهل المدينة في الجاهلية معرفة بأعضاء جسم الإنسان، وكان لهم تبعاً لذلك طب من وسائله القطع والكي وشرب مغليات أو منقوعات بعض الأعشاب، وسمي من يشتغل بذلك أطباء ونطاسيين، ولكن طبهم كان في عامته بدائياً مشوباً بالعرافة يقوم به النساء بعض الأحيان(1).
هناك علاقة بين الأمراض وبين كل من البيئة الطبيعية من جهة والبيئة التي يصنعها الإنسان من جهة أخرى، حيث تتوالد الملاريا وتنتشر مثلاً في المناطق الحارة والرطبة، كما أن الارتفاع الشديد في درجة الحرارة قد يكون مفيداً في القضاء على الجراثيم كما هو الحال في المناطق الصحراوية.
وقد اشتهرت المدينة من بين ما اشتهرت به في الماضي بالحميات، حتى إنه ليقال: «حمى المدينة»، ويبدو أن انتشار الحميات كان راجعاً إلى المناخ الحار ومياه الآبار المفتوحة وقنوات الري، غير أن المدينة لم تشتهر ببعض الأمراض التي كانت تفتك بالسكان كما هو الحال في جنوب آسيا؛ لأن المدينة لم تكن مزدحمة بالسكان.
__________
(1) د الخطراوي محمد عيد - المدينة في العصر الجاهلي (الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية) ص232 -مؤسسة علوم القرآن – دمشق – بيروت – الطبعة الأولى 1982م/ 1403هـ(1/1)
وقد كان السكن إما متفرقاً أو في تكتلات صغيرة، حيث كان يقطن في الكتلة السكانية الواحدة أبناء القبيلة الواحدة أو الفرع منها، وكانوا يسكنون في حصون أو أطم(1)، وكانت الأطم متفرقة بين كل منها مزارع أو فراغات أرضية، ولم يكن في مقدور أهل المدينة عمل شيء للحفاظ على صحة البيئة غير النظافة(2).
وقد عرف عن المدينة أنها أرض وباء، وأن الوباء كان بالمدينة شديداً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرضا الله، قالت: «فكان بطحان يجري نجلاً» - تعني ماء آجناً(3)، ومما كان متداولاً بينهم قبل الإسلام أن الوادي إذا كان وبيئاً فأشرف عليه الإنسان، قيل له: انهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره وباء ذلك الوادي. وفي خبر ثنية الوداع ما يقتضي أن الداخل كان يعشر بها، أي ينهق كالحمار عشرة أصوات في طلق، وإلا مات قبل أن يخرج منها، حتى قدم عروة بن الورد العبسي فلم يعشر، فتركه الناس(4) حيث عرفوا بطلانه، وعدم صحة ما كان يتداول بينهم من ضرورته، والضرر الحاصل لمن يتركه.
__________
(1) الأطم هو الحصن المبني بالحجارة ويشمل كل بناء مرتفع، وقيل كل بيت مربع مسطح.
(2) أ .د.الرويثي محمد أحمد، و أ.د.خوجلي مصطفى محمد – المدينة المنورة البيئة والإنسان ص 531، الطبعة الأولى 1419هـ 1998م – دار الواحة العربية – المدينة .
(3) متفق عليه واللفظ للبخاري في صحيحه: كتاب فضائل المدينة :باب حدثنا مسدد؛ صحيح مسلم: كتاب الحج: باب الترغيب في سكنى المدينة؛ انظر د.ملا خاطر خليل، فضائل المدينة المنورة، 1/229.
(4) علي بن عبد الله بن أحمد الحسني السمهودي – خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ص 37، طبع بدمشق على نفقة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة لصاحبها الشيخ عمر سلطان النمكاني – 1972م 1392هـ(1/2)
وقد تفاوتت مناطق المدينة في مستوى الصحة البيئية، فقد ورد عند ابن زبالة أن «أصح المدينة من الحمى ما بين حرة بني قريظة والعريض»(1)، بينما نسبت مناطق أخرى إلى الوباء «إن كان الوباء في شيء من المدينة فهو في ظل مشعط». ومشعط أطم لبني هذيلة كان في غربي مسجدهم قرب البقيع(2).
عندما انتقل النبي × والصحابة من المهاجرين رضي الله عنهم إلى المدينة اشتكى أبو بكر، واشتكى بلال رضي الله عنهما، فلما رأى رسول الله × شكوى أصحابه قال: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وحول حُمَّاها إلى الجحفة»(3). وقد وردت روايات عديدة صحيحة في دعاء النبي × في البخاري ومسلم وغيرهما، بنقل الوباء، وأن يصحح الله لهم المدينة(4).
تنوعت عادات العلاج في المدينة في صدر الإسلام، فمن الحجامة والكي والرقية، إلى استخدام بعض الأعشاب والنباتات والأدوية وغيرها من طرق العلاج المختلفة؛ وقد زاول هذه المهنة كثير من الأشخاص، ولم يكن الأطباء يأخذون أجراً على علاجهم - عدا الحجام(5)، وقد كان لابن عباس ثلاثة غلمان حجامون: اثنان يغلان عليه وأهله، وواحد لحجمه وحجم أهله(6).
__________
(1) المرجع السابق ص 37.
(2) المرجع السابق ص 38.
(3) المرجع السابق ص 35.
(4) المرجع السابق ص 36.
(5) آل الشيخ نورة بنت عبد الملك بنت إبراهيم – الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة المنورة في صدر الإسلام ص 96، الطبعة الأولى – جدة – 1403هـ 1983م – منشورات تهامة.
(6) ابن القيم، الطب النبوي، ص 41(1/3)
ولم يكن الطب علماً مقنناً مدروساً كما هو الحال في أيامنا، ولكنه كان مأخوذاً بالتجربة، وكان الأطباء يسألون عما يشعر به المريض ويصفون له الأدوية المناسبة التي أفادت غيره ممن كان يشكو هذه الشكوى(1)؛ وكانوا في المدينة في صدر الإسلام يتعالجون بقطع العروق والكي بالنار، فقد بعث النبي × إلى أبي بن كعب رضي الله عنه طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه(2)؛ وعندما طعن سعد بن معاذ رضي الله عنه وقطع أكحله كواه(3)؛ كما كانوا يعالجون الجروح التي تنزف بقطعة حصير تحرق حتى تصير رماداً ثم تلصق بالجرح فيستمسك الدم(4)؛ ولما مرض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة عاده النبي ×، وقال: ادعوا له طبيباً، فدعي الحارث بن كلدة، فنظر إليه، وقال: ليس عليه بأس، فاتخذوا له الفريقة، وهي الحلبة مع تمر عجوة رطب يطبخان، فيحساهما ففعل ذلك فبرئ(5).
__________
(1) د.الوكيل محمد السيد – الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه –3 /88 – الطبعة الأولى – 1406هـ 1986م – دار المجتمع بجدة.
(2) الطب النبوي ص 49.
(3) الواقدي – المغازي 2/525.
(4) المرجع السابق 2/250.
(5) الطب النبوي ص232 ؛ المغازي 3/1116 ؛ ابن الأثير، أسد الغابة 1 /345.(1/4)
وقد وجد في ذلك الوقت عدد من الأطباء، منهم من قابل النبي ×، وقد علم النبي × أنه ليس فائقاً في صناعة الطب، ورفض أن يتولى علاجه(1)، ففي طبقات الأطباء أن ابن أبي رمثة التميمي كان طبيباً على عهد رسول اللَّه × ومزاولاً لأعمال اليد وصناعة الجراح؛ وروى نعيم عن ابن أبي عيينة عن ابن أبجر عن زياد عن لقيط عن ابن أبي رمثة، قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فرأيت بين كتفيه الخاتم، فقلت: إني طبيب، فدعني أعالجه، فقال: «أنت رفيق، والطبيب اللَّه». قال سليمان بن حسان: علم رسول اللَّه أنه رفيق اليد ولم يكن فائقاً في العلم، فبان ذلك من قوله: «والطبيب اللَّه»(2).
ولم تصلنا إلا أسماء عدد قليل جداً ممن عرف بالطب في ذلك الوقت، كالحارث بن كلدة وابن أبي رمثة، لكن كان هناك آخرون كثر لم تصلنا أسماؤهم. ويشير إلى ذلك قول السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لما سألها عروة بن الزبير عن سبب علمها بالطب، فقالت: إن رسول الله × كثرت أسقامه وكان يقدم عليه أطباء العرب والعجم فيصفون له فنعالجه(3)؛ كانت رضي الله عنها تعد له الدواء الموصوف، كما يوضحه قولها رضي الله عنها: فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت الأنعات، فكنت أعالجها، فمن ثّمَّ(4)، كان علمها بالطب رضي الله عنها، لذا يقول هشام بن عروة: «ما رأيت أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة» رضي الله عنها(5).
ومما نعرفه عن الطب في ذلك الوقت تداويهم بالعسل، وعلاج ضربة الشمس والحمى بالماء، واستخدام نبات الحلبة والتمر كدواء، وأمور أخرى عديدة.
__________
(1) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة المنورة في صدر الإسلام ص 96.
(2) طبقات الأطباء – ابن أبي أصيبعة 1/116؛ وانظر تخريج السمعيات للخزاعي – مخطوط ص 619.
(3) الحركة العلمية في عصر الرسول وخلفائه 3 /88.
(4) المرجع السابق.
(5) الاستيعاب 4/358؛ الإصابة 4/360.(1/5)
وقد أمر النبي × بعدم مخالطة ذوي الأمراض المعدية، ففي البخاري : فر من المجذوم فرارك من الأسد؛ كما أمر بالحجر الصحي حيث نهى عن دخول أرض ينتشر فيها الطاعون، كما في البخاري: إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها.
ونبههم × إلى الناحية النفسية في الشفاء، ففي سنن ابن ماجه: «إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل»، ويعلق ابن القيم على الحديث بقوله: إن هذا نوع شريف جداً من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة وتنتعش به القوة(1).
وإلى جانب الأطباء من الرجال فقد اشتهرت بعض النسوة بمعالجة المرضى، منهن رفيدة رضي الله عنها، وهي طبيبة متميزة بالجراحة اختارها الرسول × لتقوم بالعمل في خيمة متنقلة، و أمية بنت قيس الغفارية التي خرجت زعيمة للآسيات الطبيبات ولما تبلغ السابعة عشر من عمرها، وأم عطية الأنصارية التي اشتهرت بالجراحة، وغزت مع الرسول ×، حيث كانت تداوي الجرحى وتقوم على المرضى، و أم سليم التي كانت تشترك في غزوات الرسول × ومعها نسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى، وأم سنان السلمية التي اشتركت في غزوة خيبر، وأم أيمن التي حضرت أحداً تداوي الجرحى، واشتهرت منهن أيضاً كعيبة بنت سعد الأسلمية، وهي إحدى النجيبات المعدودات من طبيبات العرب، ومنهن خمنة والربيع بنت معوذ رضي الله عنهما؛ ونسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها التي حضرت بدراً وأحداً وكانت تضمد جراح المرضى(2).
__________
(1) ابن القيم - زاد المعاد 3/213.
(2) الآسيات والطبيبات المسلمات ، د.شمسي باشا حسان ، منشور في موقع د شمسي على شبكة المعلومات.(1/6)
وكانت لهن أدوية يصطحبنها معهن، ففي ترجمة أم زياد الأشجعية، كما في الإصابة، أنها خرجت مع النبي × في غزوة خيبر سادسة ست نسوة .... فقلنا خرجنا ومعنا دواء نداوي الجرحى(1).
ولا شك أنه كان هناك أطباء في المدينة أو حولها في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ومن بعدهم لم تصلنا أخبارهم، إذ نجد إشارات إلى أن طبيباً قد حضر سيدنا عمر رضي الله عنه عندما طعنه أبو لؤلؤة، وفي خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القاهر البغدادي أن سالم بن دارة رجع إلى المدينة يتداوى بها بعد أن جرح وهو خارج من المدينة، ولا نعرف من تولى علاجه من هذه الجراح، وكان هذا في زمن عثمان رضي الله عنه، وفي الكتاب نفسه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دفعه إلى طبيب نصراني، فعالجه إلى أن برئت كلومه(2).
وفي زمن الدولة الأموية أيضاً نجد أن طبيباً قد حضر الحسن رضي الله عنه في مرض وفاته بالمدينة، وإن كنا لا نعرف أيضاً من هو ذلك الطبيب.
وهكذا نلاحظ توفر أشخاص في المدينة كان لهم ممارسة للطب وشؤون العلاج في مختلف العصور، ولكننا لا نعرف من أسمائهم وأخبارهم إلا القليل.
كان العطار يقوم بدور الطبيب والصيدلاني وبائع العطور، وكان لهذه المهنة أهلها ولهم سوق خاص يسمى سوق العطارين، وقد عمل بهذه المهنة أسر توارثتها كأسرة ابن مشكور التي تنتسب إلى قريش، وأسرة الشكليين(3).
__________
(1) شراب محمد محمد حسن – المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي ص467، الطبعة الأولى – دار القلم -1415هـ 1994م.
(2) البغدادي عبد القاهر – خزانة الأدب ولب لسان العرب – ص1169،1170 من النسخة الإلكترونية في برنامج الموسوعة الشعرية وعدد صفحاتها 10299 صفحة.
(3) المديرس عبد الرحمن مديرس- المدينة في العصر المملوكي ص100، منشورات مركز الملك فيصل – 1422هـ 2001م.(1/7)
وأول بيمارستان (مستشفى) عرفته المدينة هو البيمارستان الذي أمر بإنشائه الخليفة العباسي المستنصر بالله(1) أبو جعفر المنصور بن أحمد بن الحسن الذي ولي الخلافة عام 623هـ/ 1226م وتوفي عام 640هـ/ 1242م(2)، وهو مؤسس المدرسة المستنصرية ببغداد التي كانت أول مدرسة في الدول الإسلامية تدرس المذاهب الأربعة(3).
وكان الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء وأهل الخير يتسابقون في إنشاء البيمارستانات صدقة وحسبة وخدمة للإنسانية وتخليداً لذكراهم.
وكانت أولى البيمارستانات المتنقلة قد ظهرت على عهد النبي ×، وهي خيمة رفيدة الأسلمية التي شيدت أثناء غزوة الخندق.
وأول بيمارستان ثابت بني بدمشق سنة (88هـ706م)، ثم غصت بعد ذلك حواضر الإسلام من سمرقند إلى فاس إلى غرناطة بالبيمارستانات.
__________
(1) المرجع السابق ص 309.
(2) ابن تغري بردى – المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي 1/245 حاشية – تحقيق د.أمين محمد محمد - الهيئة المصرية للكتاب – 1984م ؛ وانظر تاريخ الدول الإسلامية ص13.
(3) المنهل الصافي ص 377 حاشية.؛ وانظر ابن كثير -البداية والنهاية 13/139 – الطبعة الأولى – مكتبة المعارف ببيروت 1966م.(1/8)
ولما ولي الخليفة المستنصر العباسي بغداد أمر في عام 627هـ موافق 1229م بتشييد بيمارستان في المدينة المنورة(1) وآخر في مكة عام 628هـ(2)؛ وقد عرف كل منهما بالبيمارستان المستنصري نسبة لمؤسسه(3)، كما عرف بنسبته إلى البلد الذي أقيم فيه، كبيمارستان المدينة المنورة الذي كان يقع إلى الشمال من المسجد النبوي الشريف(4).
__________
(1) د.لمعي صالح مصطفى - المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري ص15 – دار النهضة – بيروت – 1981م؛ كعكي عبد العزيز بن عبد الرحمن بن إبراهيم -معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ –2/146 - الطبعة الأولى – مطابع دار إحياء التراث العربي، ببيروت – 1419هـ 1998م ؛ المدينة في العصر الملوكي ص 309؛ وانظر السخاوي في التحفة 1/65؛ السمهودي -وفاء الوفاء 2/695 – بيروت – 1971م.
(2) أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي المكي المالكي – شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/337 – دار الكتب العلمية في بيروت؛ وانظر أيضا: النجم عمر بن فهد محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن فهد - إتحاف الورى بأخبار أم القرى –3/49، 4/32 حاشية – تحقيق شلتوت فهيم – الطبعة الأولى – نشر جامعة أم القرى 1988م.
(3) البيمارستان المستنصري بمكة أنشأه المستنصر العباسي ووقفه عام 628هـ ؛ انظر إتحاف الورى بأخبار أم القرى 4/32 حاشية.
(4) المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري ص 15 ؛ معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ ج2ص 146؛ وفاء الوفاء 2 /695.(1/9)
وقد تم تجديد بيمارستان المدينة بأمر السلطان المملوكي الظاهر بيبرس سنة 663هـ/ 1262م(1)؛ غير أننا لا نملك ما يشير إلى طبيعة النشاط العلاجي والعلمي فيه، ولا معلومات عن الأطباء والمشرفين عليه، وعن مدة بقائه مكاناً لعلاج المرضى، إلا أنه وردت إشارات في النصف الأول من القرن الثامن الهجري إلى وجود بيمارستان في المدينة(2). ومن أبرز الأطباء في المدينة في تلك الفترة ابن فرحون، وأبو علي الحسن الحجام(3).
ويشير النويري في نهاية الأرب إلى أن السلطان الظاهر بيبرس عندما جدد البيمارستان عام 663هـ أرسل إليه طبيباً من الديار المصرية اسمه محي الدين أحمد بن أبي الحسين بن تمام، ومعه أدوية وأشربة ومعاجين ومراهم وسكر، وكان خروجه في السابع عشر من شهر رجب(4)، وهذا يؤكد وجود أطباء كانوا يشرفون على المرضى في هذا البيمارستان ويعالجونهم.
__________
(1) المدينة في العصر المملوكي ص309؛ وانظر ابن تغري بردى – النجوم الزاهرة 7/194.
(2) المدينة في العصر المملوكي ص 309 ؛ انظر ابن فرحون – النصيحة – ورقة 85ل ب ؛ السخاوي – التحفة 1/484.
(3) المدينة في العصر المملوكي ص 309 ؛ انظر السخاوي – التحفة 1 /500.
(4) النويري شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب - نهاية الأرب في فنون الأدب –حوادث سنة 633 هـ - ص18859 من النسخة الإلكترونية للكتاب وعدد صفحاتها 19893 وذلك في برنامج الموسوعة الشعرية .(1/10)
وخلافاً لبيمارستان المدينة الذي لا نعرف بالضبط زمن بقائه واستمراره؛ فإن بيمارستان مكة المكرمة في حي أجياد بقي قائماً حتى فترة قريبة، إلى أن ولي الأمير عبد الله الفيصل وزارة الصحة بالمملكة فأمر بإقامة مستشفى بمدينة الطائف عوضا عنه، وقد أزيل فيما بعد في التوسعة السعودية للمسجد الحرام بمكة المكرمة؛ ولدينا فيما يتعلق ببيمارستان مكة تفاصيل عن تجديداته(1) وشيوخه(2) وبعض من توفي فيه(3) ومن يقوم على نظارته(4) ومن زاد فيه(5) أو أوقف عليه(6) والعديد من التفاصيل التي يمكن تقصيها في الكتب المخصصة لتاريخ البلد الحرام؛ غير أننا لا نعثر على أسماء أحد ممن عمل فيه أو في بيمارستان المدينة من الأطباء المعروفين في ذلك العصر، ويبدو أن البيمارستانين القائمين في مكة والمدينة كانا في بعض الأزمنة مكاناً لإيواء المرضى وخدمتهم، وتأمين من يقوم بشؤونهم، ويوصل إليهم الطعام والماء العذب، وما تحتاجه خدمة المكان والمرضى من الحطب(7)؛ وربما كانت تتوفر فيه بعض الأدوية المعروفة المستخدمة في العلاج؛ ولا نجد ما يشير إلى طبيب معروف يشرف على المرضى في المكان إلا في حالات قليلة كما في عهد السلطان الظاهر بيبرس، وإن كنا لا نعرف بالتحديد كم بقي هناك، ولم يكن نظام البيمارستان يسمح بإخراج من يأوي إليه إلا باختياره هو بعد أن تحصل له العافية والشفاء؛ لأن الواقف «أوقفه على الفقراء والمساكين والمنقطعين المرضى والمجاورين ... لا يزعج أحد منهم ولا يخرج منه بغير اختياره إلا بعد حصول العافية له والشفاء»(8).
__________
(1) إتحاف الورى 3/ 496، 3 /507.
(2) المرجع السابق 4/105 حاشية، 4/298 حاشية.
(3) المرجع السابق 4/310.
(4) المرجع السابق 4/310.
(5) المرجع السابق 4/46.
(6) المرجع السابق 4/310.
(7) المرجع السابق 4/46.
(8) المرجع السابق 3/507.(1/11)
تعطينا مخطوطة علي بن موسى أفندي المؤرخة في 21 جمادى الثاني 1303هـ الموافق 27 آذار 1886م وصفاً دقيقاً للمدينة ومبانيها ومرافقها، ولا نجد فيها ذكراً للبيمارستان وفقاً لدراسة الأستاذ صالح لمعي للمخطوط وإحصائه ما ورد فيه من مبان (1)؛ والمقصود هنا البيمارستان الذي بناه الخليفة المستنصر إلى الشمال من المسجد النبوي(2)؛ غير أن المؤلف يذكر وجود تكيتين في المدينة ومستشفى للأهالي وآخر عسكري(3)؛ أما اللواء إبراهيم رفعت باشا الذي زار المدينة أربع مرات بين سنة 1319هـ/1901م وسنة 1329هـ /1908م فيذكر لنا مستشفى واحدة في المدينة(4)، وقد تم إنشاؤها في العهد العثماني(5)، وقد تلا ذلك كما هو معروف عند أهل المدينة وجود كثير من الوحدات العلاجية الخاصة التي يديرها بعض الأطباء الشعبيين الذين يقومون على علاج المرضى وتدبير الكسور باستخدام العلاجات الطبيعية(6).
__________
(1) المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري ص22؛ معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ 2/166-172.
(2) المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري ص15.
(3) المرجع السابق ص22
(4) اللواء رفعت باشا إبراهيم -مرآة الحرمين 1/414 -الطبعة الأولى – مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة – 1344هـ/1925م ؛ المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري ص23؛ معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ 2/175ص199.
(5) معالم المدينة المنورة بين العمارة والتاريخ 2/176.
(6) المرجع السابق 2/199.(1/12)
ويقول الأستاذ ياسين أحمد ياسين الخياري أثناء حديثه عن الحياة الاجتماعية في المدينة مطلع القرن الهجري الرابع عشر: «لم يكن بالمدينة دكتور بالمعنى المعروف وإن وجد فإن الإقبال عليه كان نادراً، لأن أهالي المدينة تعودوا الذهاب إلى العطار لأخذ العلاج لأي شكوى تمر بهم، وكان العطارون الكبار منهم وأصحاب الخبرة يتناوبون على فتح دكاكينهم ليلاً دون أمر حكومي، ولا مرتب يتعاطونه، بل تطوعاً منهم وإسهاماً في تخفيف الآلام عن المواطنين، وكانت صيدلية العطار هي العقاقير للاستشفاء»(1).
وتؤكد الوثائق العثمانية الخاصة بهذه الفترة والمؤرخة عام 1317هـ وجود كادر طبي معين من الحكومة العثمانية يعمل في المدينة المنورة في صيدلية كان اسمها صيدلية الغرباء، وكان يعمل فيها الصيدلاني ضياء أفندي(2) الذي نقل في ذلك العام إلى صيدلية مستشفى ولاية قسطموني، وتظهر الوثائق عدم إمكانية السماح للصيدلاني السابق المنقول بالسفر إلى عمله الجديد إلا بعد أن يباشر خلفه الصيدلاني محمد عمر أفندي عمله في صيدلية الغرباء بالمدينة، طبقاً لوثيقة مؤرخة في 28 رمضان عام 1317هـ(3).
__________
(1) الخياري ياسين حمد ياسين – صور من الحياة الاجتماعية بالمدينة المنورة منذ بداية القرن 14هـ حتى العقد الثامن منه ص291 -الطبعة الثانية – مطابع مؤسسة المدينة – 1415هـ 1995م.
(2) المدينة المنورة في الوثائق العثمانية 2/50.
(3) المرجع السابق 2/51.(1/13)
وتطلق الوثائق العثمانية اسم صيدلية الغرباء أو صيدلية ومستشفى الغرباء أو مستشفى الغرباء على تلك المؤسسة الطبية التي كانت قائمة بالمدينة، إذ نجد وثيقة مؤرخة بداية ذي القعدة 1317هـ موجهة من المديرية العلية إلى إدارة حسابات الخزينة الديوانية موعزة «بالاستمرار في صرف مخصصات السادة: طبيب وجراح وصيدلي مستشفى الغرباء بالمدينة من الخزينة الديوانية، كما كان الحال من قبل لعدم إمكانية صرفها من الخزينة النبوية(1)» وتوضح لنا هذه الوثيقة أن الكادر الطبي الحكومي العامل بالمدينة كان يتضمن وجود طبيب وجراح بجانب الصيدلي، وأنهم كانوا موظفين موفدين من الحكومة العثمانية، ويتقاضون رواتبهم منها، بل يبدو أنه كان هناك أكثر من طبيب واحد عدا الجراح، وأن كلاً منهما كان يتبع جهة حكومية مختلفة، إذ أطلق على أحدهما الطبيب العسكري، أما الآخر فسمي بطبيب الشؤون الصحية، إذ تؤكد وثيقة في 1317هـ من طبيب الشؤون الصحية والطبيب العسكري والصيدلي وأحد الجراحين في صيدلية الغرباء أن يقوموا بتنظيم دفتر الأدوات والمهمات المطلوب شراؤها للعام المقبل(2).
ونلاحظ هنا أن هناك مؤسسة طبية أخرى في مكة كانت تحمل الاسم نفسه، فقد كان هناك في مكة مستشفى يسمى مستشفى الغرباء و الفقراء ويقع شرقي المسجد الحرام أنشئ عام 1086هـ كما هو مكتوب عليه، وذلك في زمن السلطان الغازي محمد خان الرابع، وكان يعمل في هذا المستشفى في فترة الحج من عام 1318هـ طبيبان وصيدلانيٌ، وفيه 50 سريراً، لكن فيه إهمالاً شديداً، وكانت الأدوية تأتي إليه من الآستانة، أما الأغذية والمفروشات فمن ديوان مكة المكرمة(3)، كما أطلق الاسم نفسه أي: "مستشفى الغرباء" على المستشفى الذي أنشأته الدولة العثمانية في دمشق أيضاً.
__________
(1) المرجع السابق 2/51.
(2) المرجع السابق 2/52.
(3) مرآة الحرمين أو الرحلات الحجازية 1/184.(1/14)
ولعل اسم الغرباء جاء من قيامها بعلاج المرضى من الغرباء والفقراء وغيرهم، وكان هذا الاسم كما أشرنا يطلق على عدة مستشفيات كانت الدولة العثمانية قد أنشأتها في عدد من المدن، وتثبت الوثائق العثمانية بوضوح أن صيدلية الغرباء في المدينة لم تكن تقتصر في خدماتها على موظفي الحكومة العثمانية، بل كانت تقدم خدماتها للعموم، ففي وثيقة مؤرخة في 11 ربيع ثاني 1317هـ موجهة من المديرية العامة إلى إدارة حسابات الخزينة الديوانية نقرأ طلب مستحقات مستشفى وصيدلية الغرباء من الحنطة عن السنوات الست الماضية، حيث إن تأخر وصول هذه المستحقات كان له أثر سيئ على ما يقدمه المستشفى من خدمات للمرضى الفقراء والغرباء(1).
وممن عمل في المدينة في تلك الفترة جراح يدعى يعقوب أفندي كان موجوداً عام 1315هـ، وأراد القيام بالحج ذلك العام؛ فأرسلت مشيخة الحرم إلى محافظة المدينة تسأل في شهر شوال عن إمكانية الموافقة على قيام جمال أفندي بالوكالة عن الجراح يعقوب أفندي، لاعتزامه أداء فريضة الحج(2)؛ وقد ظل يعقوب أفندي هذا يعمل في المدينة حتى وفاته عام 1321هـ، إذ نجد وثيقة مؤرخة في 6 رمضان 1321هـ تطلب تعيين جراح مؤهل بدل الجراح المتوفى يعقوب أفندي.
وبالتدقيق في هذه الوثائق يتبين لنا أن صيدلية الغرباء كانت سابقة على المستشفى. ولعل الزيادة في كادرها الطبي، ووجود الأطباء أعطاها اسم المستشفى في بعض الوثائق، ثم تقرر رسميا في وقت لاحق تأسيس مستشفى حقيقي في المدينة، فقد وجهت مشيخة الحرم إلى نظارة الأوقاف والرئاسة العامة للمدارس العسكرية بإسناد مهمة الإشراف على مستشفى الغرباء المزمع إنشاؤها في المدينة إلى محمد أمين أفندي طبيب صيدلية الغرباء الموجودة بالمدينة إضافة إلى عمله(3).
__________
(1) المدينة المنورة في الوثائق العثمانية 2/50.
(2) المرجع السابق 2/51.
(3) المرجع السابق 1/80.(1/15)
وفي 30 حزيران سنة1319رومية (الموافق ربيع الثاني 1321هـ) صدر الأمر بتحويل المنزل الكبير الموجود في شارع الحميدية، وهو من الأملاك السنية إلى مستشفى(1)؛ وقد سمي هذا المستشفى بالمستشفى الحميدي، وكان له بابان: باب للرجال، وباب للنساء، كما يوضحه الطلب المؤرخ في 19 ربيع ثاني 1321هـ الخاص بإعداد اللوحات الحجرية لوضعها على أبواب المستشفى الحميدي(2)؛ وهناك وثائق في عام 1325هـ تشير إلى رسم مسطح حجر الأساس وتحديد موضعه، ووثيقة أخرى في 8 رجب 1325هـ تتحدث عن تثبيت حجر الأساس المدون عليه تاريخ إنشاء المستشفى بجانب الباب.
__________
(1) المرجع السابق 1/80.
(2) المرجع السابق 1/80.(1/16)
وقد شهد الكادر الطبي العامل بالمدينة في تلك الفترة تطوراً من حيث العدد والتخصصات والمهام الموكلة إليه والنشاطات التي يقوم بها، فقد ورد في رسالة مؤرخة عام 1325هـ طلب زيادة مرتبات بعض العاملين لأن الكادر الطبي المساعد -على سبيل المثال- صار يتضمن مخبرياً اسمه حسين وممرضا اسمه سرور وكاتباً اسمه حمزة(1)، وجاء في وثيقة أخرى تعيين بلال بدلاً من الحاج سرور ممرضاً في الصيدلية(2)؛ ومن حيث التجهيزات نلاحظ أن المستشفى أرسل في شعبان 1325هـ يطلب احتياجاته من الآلات الجراحية والمخبرية، ويشير الكتاب نفسه إلى أن خبير المستشفى نور الدين كان قد تعاقد على شراء أدوات من المصانع الأوربية وأنها لم تصل بعد(3)، كما يشير كتاب آخر في رمضان من العام نفسه إلى وصول 12 نوع من المستلزمات من قبل عبد الله أسعد وطبيب المستشفى أمين أفندي(4)؛ ومن جهة مهام العاملين في المستشفى ونشاطاتهم فإن كتاباً مؤرخاً في 8 رجب من ذلك العام (1325هـ) يتحدث عن تنفيذ زراعة بذور الكافور (أوقاليبتوس) والعناية بها بواسطة محمد أفندي(5). وهذه البذور كانت تستخدم في العلاج كمادة دوائية مما يوضح لنا أن المستشفى بدأ في هذه الفترة ينتج بعض احتياجاته الطبية معتمدا على الكادر المؤهل الموجود فيه، وأما من حيث بناء المستشفى فقد تضمنت وثائق تلك الفترة كشوفات تتحدث عن تسوير مبنى المستشفى وتبليط أرضه وتلوين جدرانه(6).
__________
(1) المرجع السابق 2/52.
(2) المرجع السابق 2/52.
(3) المرجع السابق 2/52.
(4) المرجع السابق 2/52.
(5) المرجع السابق 2/52.
(6) المرجع السابق 2/52.(1/17)
وإلى جانب ذلك فقد كانت في المدينة المنورة تكية مصرية أوقفها الخديوي محمد علي باشا الكبير لفقراء المدينة سنة 1232هـ ، وكانت تقدم خدمات خيرية متنوعة تضمنت في مرحلة ما عيادة هي أقرب إلى المستشفى، وكان فيها أطباء ولكننا لا نعلم في أي وقت بدأت بتقديم خدماتها الطبية في المدينة، ونشير هنا أيضاً إلى وجود تكية أخرى تسمى بالتكية المصرية في مكة المكرمة وكانت تقدم خدمات مشابهة، ولكن بصورة أكبر وعلى نطاق أوسع(1).
يقول الأستاذ ياسين أحمد ياسين الخياري في كتابه صور من الحياة الاجتماعية بالمدينة المنورة منذ بداية القرن 14هـ وحتى العقد الثامن منه: إن الحكومة السعودية لما استقر الأمر لها بالمدينة أخذت في إيجاد بعض المستشفيات، وبدأ بعض الأطباء يفدون طمعاً في المجاورة أولاً، ولإفادة المحتاجين لخبرتهم ثانياً، فأخذوا في فتح عيادات بتصريح من المسؤولين، كما ساهمت الحكومة المصرية في ذلك الوقت بإيفاد أطباء وصرف بعض العلاجات للمواطنين الذين يفدون إليهم في مقرهم الرسمي بالتكية المصرية في شارع العنبرية مجاناً، وصار من الضروري وجود صيدليات طبية فأمرت الحكومة بعض رجالات العوائل الذين توجد لديهم الخبرة والقدرة ولديهم إلمام بالإنكليزية في فتح صيدليات، ووصفوا فيها ما يحتاجه المريض من علاجات مستوردة أو مركبة محلياً بأمر الطبيب، وكان من أوائل الأطباء في تلك الفترة د.أحمد غلام مصطفى وكان طبيباً يونانياً وإفرنجياً في آن معاً، أي يعالج بالعقاقير والعلاجات الإفرنجية المستوردة، ود.محمد حسين خان بهادر، والطبيبان رشدي والبياري طبيبا التكية المصرية، وأطباء آخرون بمستشفى باب السلام الحكومي(2).
__________
(1) مأمون محمود ياسين – الرحلة إلى المدينة المنورة ص146، الطبعة الأولى – 1407هـ/1987م.
(2) صور من الحياة الاجتماعية بالمدينة المنورة منذ بداية القرن 14هـ وحتى العقد الثامن منه ص291 .(1/18)
ويحدثنا صاحب كتاب الرحلة إلى المدينة المنورة التي نظمتها جمعية الهداية بدمشق بقصد الحج والزيارة عام 1359هـ/1940م عن زيارتهم للتكية المصرية فيقول: إن ميزانيتها تقدر بثلاثة آلاف جنيه مصري تصرف للفقراء، وما بقي ففيما ينفع الحرم من سقي ماء ونحوه، وقد قال لهم الناظر: إن هناك عيادة لإسعاف المرضى، ثم طلب إلى موظف لديه أن يسير بهم ليطلعوا على تجهيزاتها، فاستقبلهم فيها الطبيب الأول والطبيب الثاني، وسارا معهم دليلين إلى بقية غرف المستشفى حتى الصيدلية، وقد عبّر الأطباء المصاحبون للرحلة عن إعجابهم بإتقان مستشفاها، ويختم المؤلف بأن هذا العمل من تكية وعيادة قد أسس مثله في مكة بصورة أكبر وأوسع(1).
ومع التطور الذي حدث في المملكة العربية السعودية عموماً في مختلف مناحي الحياة خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري تطورت الخدمات الطبية في المدينة المنورة بشكل عام، وازداد تبعاً لذلك عدد الأطباء والمراكز الصحية والمستشفيات الحكومية والأهلية، وتنوعت تخصصاتها، وتطورت خدماتها لتتناسب مع ازدياد السكان من مواطنين ومقيمين من جهة ومع ارتفاع أعداد الزائرين في مواسم الحج والعمرة من جهة أخرى، ولتساير التطور العام الحاصل في المملكة خصوصاً والعالم عموماً.
__________
(1) الرحلة إلى المدينة المنورة ص146 .(1/19)
ومع نهاية القرن الهجري الماضي (1400هـ) فقد كان في المدينة أحد عشر مستوصفاً(1)، بعضها قوامه طبيب واحد كمستوصف سيد الشهداء والخدمة الاجتماعية والمطار، وبعضها يضم في كادره طبيباً وطبيبة كمستوصف باب السلام والعلاج الطبيعي والعوالي، وبعضها يضم العديد من التخصصات كما هو الحال في مستوصف قباء والتنمية الاجتماعية، وإضافة إلى الطواقم المساعدة للأطباء من تمريض وغيره(2)؛ كما كان هناك مستوصف تابع للهلال الأحمر السعودي بشارع قباء النازل ومستوصف الزهراء الأهلي بباب العوالي(3)، وإلى جانب المستوصفات كانت مراكز صحية يعمل في كل منها مأمور صحي ومساعد صيدلي(4)، وقد تطور مستوصف الزهراء الأهلي بباب العوالي ليصبح مستشفى متكاملاً يشتمل على جميع التخصصات الطبية(5).
__________
(1) البليهثي محمد صالح – المدينة اليوم غرة المحرم 1401هـ ص262 – الطبعة الأولى – منشورات نادي المدينة الأدبي – 1402هـ.
(2) المدينة المنورة وأول بلدية في الإسلام 3/28 – منشورات بلدية المدينة المنورة – 1401هـ .
(3) المرجع السابق 3/91 .
(4) المرجع السابق 3/37.
(5) حافظ علي – فصول من تاريخ المدينة المنورة ص479 – الطبعة الثانية – شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر بجدة – 1405هـ.(1/20)
وكان في المدينة في ذلك الوقت، أي في عام 1400هـ خمس مستشفيات حكومية أهمها مستشفى الملك في باب الشامي آخر شارع المناخة وفيه 250 سريراً ويعمل فيه 70 طبيباً، يليه مستشفى الولادة في شارع المناخة النازل يضم 200 سريراً و36 طبيباً، ثم مستشفى الحميات بأبيار علي ويضم 57 سريراً و6 أطباء، منهم ثلاثة أخصائيين بأمراض المناطق الحارة، ثم مستشفى الأمراض الصدرية في الحرة الشرقية وكان يضم 30 سريراً منها 10 للنساء وفيه 7 أطباء منهم 4 أخصائيين وطبيبة متخصصة ومختص بالتحاليل الطبية، وأخيرا مستشفى العيون بالحرة الشرقية، وفيه 48 سريراً و6 أطباء(1).
وقد شهدت المدينة منذ عام 1401هـ وحتى الآن زيادة كبيرة ومطردة في عدد المؤسسات الطبية سواء الحكومية أو الخاصة، وذلك بتشجيع وتوجيه من الجهات الرسمية المشرفة على تنظيم العمل الطبي في المملكة، وتضاعف عدد العيادات والمستوصفات والمستشفيات في المنطقة، كما توسعت المستوصفات والمستشفيات التي كانت قائمة في مبانيها وتجهيزاتها وكادرها الطبي بشكل كبير، وشهدت المدينة ظهور مراكز طبية متخصصة في مجالات معينة، كالأمراض الجلدية و أمراض الذكورة و طب الأسنان و طب العيون، ويزداد باستمرار عدد هذه المراكز الطبية التي تركز جهدها في تخصص معين تتميز فيه وتعرف به؛ وهناك مراكز طبية ومستشفيات أخرى عديدة في المدينة لا تزال في طور التأسيس والتجهيز بعضها خاص والآخر حكومي، كمستشفى الأطفال والولادة الجديد التابع لوزارة الصحة، والذي يتطلع أهل المدينة لافتتاحه قريباً إن شاء الله تعالى.
__________
(1) المدينة المنورة وأول بلدية في الإسلام 3/28.(1/21)
كانت المدينة المنورة ولا تزال منذ فجر الإسلام وإلى اليوم مقصداً للزائرين من أنحاء العالم الإسلامي، كما كانت وفود الحجيج القادمة من البلاد المختلفة تمر بها لزيارة النبي × والصلاة في المسجد النبوي الشريف، وكان من هؤلاء الزائرين للمدينة أطباء معروفون وصلتنا بعض أخبارهم، وآخرون لم يصلنا عنهم شيء.
ولعل من المواضيع التي لم تفرد بالبحث والتمحيص الرحلات التي قام بها بعض الأطباء من العرب والمسلمين إلى شبه الجزيرة العربية، وما كتبوا هم عن ذلك، أو ما كتبه غيرهم عن رحلاتهم تلك. وقد تعددت أهداف رحلاتهم؛ فمنهم من رحل بقصد الحج ثم بقي هناك لسنوات لعلاج الناس من سكان المنطقة، ومنهم من استدعي من قبل بعض حكام تلك المناطق لأغراض علاجية، ومنهم من كان الغرض من ترحاله حب الاطلاع على تلك المناطق المهمة من العالم الإسلامي، ومنهم من سافر بقصد إنجاز مهمة طبية محددة كان قد كلف بها(1).
وقد كان من عادة الأمراء الكبار التي درج عليها كثير منهم في ذلك الوقت أن يصطحبوا معهم أطباءهم في رحلاتهم وأسفارهم. وكان الأطباء يقدمون خدماتهم لمن يحتاجها ممن معهم في الركب أو من يسمع بهم ويلجأ إليهم من سائر الناس أثناء الطريق.
وفي العهود المتأخرة بدأت بعض الحكومات، كالحكومتين العثمانية والمصرية بإرسال وفد طبي أو بعثة طبية مع بعثة الحج الرسمية، وكانت البعثة الطبية تضم كادراً طبياً مؤهلاً وبعض التجهيزات والأدوية(2)، وقد استمر هذا الأمر إلى اليوم، واعتمدته معظم الحكومات، ولكن بشكل أكثر تطوراً وتنظيماً.
__________
(1) د.كعدان عبد الناصر – بحث عن الرحالة من الأطباء العرب في القرون الأخيرة ألقي في ندوة الرحلات إلى شبه الجزيرة العربية بالرياض.
(2) مرآة الحرمين أو الرحلات الحجازية 2/48.(1/22)
وسنشير هنا إلى نماذج من الأطباء الذين مروا بالمدينة وانتفع الناس بهم في أزمنة مختلفة، فمن الأطباء القدامى الذين رافقوا الوفود القادمة إلى الحجاز أبو الحكم الدمشقي الذي وجهه معاوية متطبباً مع ابنه في وفد الحج، وعيسى بن حكم الدمشقي المتطبب الذي خرج مع عبد الصمد بن علي بن عبد اللَّه بن العباس إلى مكة متطبباً له(1).
ومنهم ابن اللجلاج متطبب الخليفة العباسي المنصور، وكان معهم أيضاً في هذه الرحلة الطبيب المعروف إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت. وفي طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة أن ابن اللجلاج قال لأبي سهل: سألتك عن علمك ببعض الأمور فبخلت به وهجرتني، ولست أبخل عليك بعلمي فاسمعه، ثم قال: إن المنصور رجل محرور تزداد يبوسة بدنه كلما أسن، وقد حلق رأسه بالحيرة، وجعل مكان الشعر الذي حلقه غالية، وهو في هذا الحجاز يداوم الغالية وما يقبل قولي في تركها، ولا أحسبه يبلغ إلى فَيد(2) حتى يحدث في دماغه من اليبس ما لا يكون عندي ولا عند أحد من المتطببين حيلة في ترطيبه، فليس يبلغ فَيد إن بلغها إلا مريضاً، ولا يبلغ مكة إن بلغها وبه حياة، قال إسماعيل: قال لي والدي: فواللّه ما بلغ المنصور فَيد إلا وهو عليل، وما وافى مكة إلا وهو ميت فدفن ببئر ميمون(3).
__________
(1) ابن أبي أصيبعة - طبقات الأطباء ص117.
(2) فيد بالفاء قرية بطريق مكة موجودة إلى اليوم.
(3) طبقات الأطباء ص148.(1/23)
وقد جاء كثير من الأطباء المشهورين بقصد الحج دون أن يوفدهم أحد من الأمراء، ولا شك أن الناس كانوا يستفيدون من علمهم في مكة والمدينة والبلاد التي يمرون بها، ومن هؤلاء ابن الرومية، وهو أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج النباتي المعروف بابن الرومية من أهل إشبيلية، أتقن علم النبات ومعرفة أشخاص الأدوية وقواها ومنافعها واختلاف أوصافها وتباين مواطنها، ولما وصل من المغرب إلى الإسكندرية سمع به السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب رحمه اللَّه وبلغه فضله وجودة معرفته بالنبات، وكان الملك العادل في ذلك الوقت بالقاهرة فاستدعاه من الإسكندرية وتلقاه وأكرمه ورسم بأن يقرر له جامكية(1) وجراية ويكون مقيماً عنده فلم يفعل، وقال: إنما أتيت من بلدي لأحج إن شاء اللَّه وأرجع إلى أهلي، وبقي مقيماً عنده مدة وجمع الترياق الكبير وركبه، ثم توجه إلى الحجاز(2).
ومنهم عبد الفتاح القزويني، وهو طبيب ماهر، ولد سنة 874 هـ (1470 م) واشتغل بالمعقوليات والطب وغير ذلك. رحل إلى مكة فحج وجاور بها، ويروى أنه كان ضنيناً بالمعالجة مع حسن تصرف فيها. استمر في المدينة المنورة إلى أن مات فيها سنة 942 هـ (1535م)(3).
__________
(1) جامكية أي عطية ملكية وراتبا جاريا، وكان السلاطين يفعلون ذلك مع بعض العلماء ليتفرغوا لعلمهم دون أن ينشغلوا بتدبير معيشتهم.
(2) طبقات الأطباء ص 385.
(3) عيسى بك أحمد ، معجم الأطباء، ص 271، الطبعة الثانية، دار الرائد العربي، بيروت – لبنان، 1402هـ؛ السنا الباهر ص 419.(1/24)
وممن جاور بالحجاز من الأطباء وقضى زمناً في المدينة شمس الدين الحجازي الحمصي الدمشقي وهو محمد بن محمد بن أحمد، يعرف في حمص بابن سمّاقة. ولد سنة 930 هـ (1524م)، وتوفي سنة 1020 هـ (1611م). أخذ الطب عن الشيخ يونس بن جمال الدين رئيس الأطباء في دمشق، جاور بمكة بضع عشر سنة، وأخذ العلوم عن الشيخ الإيلاقي القاطن في المدينة المنورة؛ ويروى عنه أنه قصده قاصد ومعه سكرجة يستهدي فيها شيئاً من التركيب المسمى ببرء ساعة، وفي طراز السكرجة(1) هذه الأبيات:
لازال كل رئيسٍ ... يريك سمعاً وطاعه
وكل رب مزاجٍ ... بِكُم يُرَجّى انتفاعه
عبد أتاكم محبٌ ... قد مدّ كفّ الضراعة
يشكو أذىً ودواه ... لديكم برء ساعه
فقضى حاجته وكتب تحت السكرجة هذه الأبيات:
العبد عبد محبٍّ ... أبدى قبولاً وطاعه
كالسحر قابل أمراً ... مطرزاً بالبراعه
أهدى إليكم دواءً ... مهذباً بالصناعه
يشفي بفعل وحيٍ ... على المكان برء ساعه(2)
ومنهم عوض بن يوسف بن محي الدين المعروف بابن الطباخ الدمشقي الذي ولد عام 1014 هـ (1605م)، ومات أبوه وأمه حامل به. بدأ حياته بدراسته للطب وألم به إلماماً تاماً حتى اشتهر بمعرفته بالطب، ودرّس فيه. وكان يراجع في المسائل الصعبة فيعرفها ويعالجها. تولى القضاء بمدينة فلبّة وبغداد والمدينة المنورة، توفي بمدينة قسطنطينية في سنة 1080 هـ (1669م)(3).
__________
(1) سُكُرُّجَةٍ: هي بضم السين والكاف والراء والتشديد، إِناءٌ صغير يؤْكل فيه الشيء القليل من الأُدْمِ، وهي فارسية وأَكثر ما يوضع فيها الكَوامِخُ ونحوها؛ انظر لسان العرب لابن منظور (سكرج).
(2) المحبّي، محمد أمين بن فضل الله، خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، 4/163، مكتبة خياط، بيروت، لبنان ؛ معجم الأطباء ص 423 – 424.
(3) خلاصة الأثر، 3/234. معجم الأطباء، ص 324 – 325.(1/25)
ومنهم أحمد بن صالح بن إبراهيم الدرعي وهو أديب، عالم بالطب. ولد سنة 1121 هـ (1709م) في زاوية "أكتاوة" بدرعة في المغرب الأقصى، له نظم كثير في ديوان سماه «شفاء المريض في بساط القريض» وله كتاب «الهدية المقبولة»، وهو أرجوزة في الطب؛ قام برحلة إلى الديار الحجازية وكتب عنها كتاباً سماه «الرحلة الشافية»؛ وله مؤلفات أخرى أكثرها لا زال مخطوطاً، توفي في درعة سنة 1147هـ (1734م)؛ ولابنه العباس بن أحمد، تصنيف في أخباره سماه «الدرر اللامعة في السيرة الحسنة الجامعة»(1).
ومن الأطباء الذين جاوروا بالمدينة وتوفوا بها أحمد الأركلي ابن إبراهيم الأركلي الطبيب، ولد سنة 1110هـ (1698م)، كان يطالع في كتب الطب كثيراً، وله في ذلك كتابات كان يكتبها على هامش كتبه في الطب، وله أيضاً من التآليف شرح على الشمائل ومقامات ضاهى بها مقامات الحريري، جاور بالمدينة المنورة وتوفي بها سنة 1162هـ (1749م) ودفن بالبقيع(2).
وممن استقر بالمدينة وتوفي بها من الأطباء محمد صالح الرضوي، محدث رحال وطبيب، ولد في سمرقند، ونشأ في بخارى، ورحل إلى الهند واليمن والحجاز وتونس والجزائر والمغرب ومصر، ثم استقر في المدينة المنورة، وتوفي فيها سنة 1263 هـ (1847م). له «مسلسلات» لازالت مخطوطة، وهي تروي أسفاره، ويقال بأنها أول مسلسلات عرفت ورويت(3).
__________
(1) خير الدين الزركلي، الأعلام، 1/138، الطبعة السادسة، ثمانية أجزاء، دار العلم للملايين، بيروت 1984؛ دليل مؤرخ المغرب 1/195.
(2) المرادي ، سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، 1/82، أربعة أجزاء، مصر، 1301هـ؛ معجم الأطباء ص102.
(3) الأعلام، 6/164. فهرس الفهارس 1/322 – 325.(1/26)
ومن الأطباء الذين سكنوا بالمدينة زمناً واستفاد أهل المدينة من طبهم؛ محمد عابد السندي، الذي يترجم له عبد الحي الحسني في نزهة الخواطر، فيقول: الشيخ الإمام العالم المحدث الفقيه محمد عابد بن أحمد علي بن محمد مراد بن يعقوب الحافظ بن محمود الأنصاري الخزرجي ثم أحد بني أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ولد ببلدة سيون بلدة على شاطئ النهر شمالي حيدر آباد السند، هاجر جده مع رهطه إلى أرض العرب وكان يلقب بشيخ الإسلام، وكان من أهل العلم والصلاح، فتوفي عمه في الحديدة وأبوه بجدة، وكان أكثر مقام الشيخ باليمن، دخل صنعاء وألقى بها رحله، ولبث فيهم برهة من عمره يتطبب لإمامهم، وينقل الحسني عن القاضي محمد بن علي الشوكاني في البدر الطالع قوله عن الشيخ محمد عابد: إنه خرج إلى بندر الحديدة مع عمه، وكان عمه مشهوراً بعلم الطب مشاركاً في غيره، وصاحب الترجمة له اليد الطولى في علم الطب، طلبه خليفة العصر مولانا الإمام المنصور بالله إلى حضرته العلية من الحديدة لاشتهاره بعلم الطب، فوصل الحضرة وانتفع جماعة من الناس بأدويته، وكان وصوله إلى صنعاء سنة 1213هـ، وتردد إلي وقرأ علي ثم عاد إلى الحديدة في شهر شوال من تلك السنة بعد أن أحسن إليه الخليفة وقرر له معلوماً نافعاً، وكساه ونال من فائض عطاه، ثم تكرر وفوده إلى صنعاء مرة بعد مرة في أيام الإمام المنصور كما ذكرنا، ثم في أيام الإمام المتوكل، ثم في أيام مولانا الإمام المهدي، وأرسله إلى مصر إلى الباشا محمد علي بهديته منها، قيل: وكان ذلك سنة 1232هـ ، وكان الشيخ محمد عابد شديد التحنن إلى ربوع طابة، عظيم التشوق إلى شذاها، فجاء مرة ليلقي بها جراناً، ويتخذ من أهلها جيراناً، فنزل فيهم يحبوهم وينحلهم مما أعطاه الله سبحانه، ويقوم الأود منهم بنصحه، ويسد الثلمة منه بوعظه، فكان الناس نقموا منه هذه الخصلة، فقاموا عليه وكالبوه ورموه عن قوس واحدة، فقوض خباءه من فنائهم، وارتحل إلى حيث(1/27)
وجهه مولاه، ثم هزه الشوق إلى بلاد العرب، فعطف إليها عنانه ورزقه الله تعالى العود إلى المدينة، وأقام بها في غاية ما يكون من العز، وولي رئاسة علمائها من قبل والي مصر، توفي بالمدينة في 17 ربيع الأول 1257هـ ودفن بالبقيع قبالة باب عثمان رضي الله عنه(1).
ومن الأطباء الذين رافقوا الأمراء في العهود المتأخرة أثناء سفرهم إلى الحجاز الدكتور سالم باشا بن سالم الشرقاوي، ولد سنة 1248هـ (1832م)، اختاره سعيد باشا في سنة 1277هـ (1860م) طبيباً خاصاً له في سفره إلى الحجاز لأجل الزيارة، توفي سنة 1312هـ (1894م)(2).
وممن أرسل من الأطباء في مهمات رسمية إلى الحجاز حسن هاشم بك بن السيد هاشم بن السيد علي هاشم، ولد بالقاهرة سنة 1241هـ (1825م)، وقد انتدبه الخديوي إسماعيل باشا في سنة 1278هـ (1861م) للسفر إلى الحجاز للنظر في أسباب تفشي الكوليرا بين الحجاج، فقام بمهمته خير قيام، توفي سنة 1297هـ (1880م)(3).
كما جاء إلى الحجاز أيضاً الطبيب محمد عبد السميع بك، ولد في مصر سنة 1241هـ (1825م)، رحل إلى الحجاز مع ركب الحج ولبث فيها ثلاث سنين، انتفع فيها أهل الحجاز بطبه، ثم عاد إلى مصر، ألف كتاباً في الولادة من ثلاثة أجزاء، وكتاباً في علم الأربطة. توفي في مصر سنة 1318هـ (1900م)(4).
__________
(1) الحسني عبد الحي – نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ص4995-5003 من النسخة الإلكترونية وعدد صفحاتها 6406 في برنامج الموسوعة الشعرية.
(2) معجم الأطباء، ص 197. الأعلام 3/71.
(3) معجم الأطباء ص 169 – 170.
(4) معجم الأطباء، ص 467 – 468. البعثات العلمية ص 551.(1/28)
وقد أشرنا إلى الأطباء الذين كانوا يأتون في صحبة الحجاج للاهتمام بهم في قدومهم وعودتهم، ومن أهم البعثات الطبية التي كانت ترافق وفود الحج الرسمية في العهود المتأخرة البعثة المصرية، التي تضمنت كما يتبين لنا من كشوف مرتبات ومكافآت موظفي المحمل المصري ونفقاتهم لحج عام 1321هـ صيدلياً وطبيبة(1) إضافة إلى الطبيب(2)؛ كما يتبين لنا أن العادة كانت قد جرت بأن يرسل في صحبة المحمل صيدلية ملكية خلاف الصيدلية العسكرية، وأن الصيدلية الملكية لم ترسل ذلك العام، ولم يكن في الصيدلية العسكرية غناء لقلة الأدوية بها؛ وقد أكد أمير الحج المصري اللواء إبراهيم رفعت باشا على الحكومة المصرية بأن تعود إلى إرسال تلك الصيدلية الملكية كما فعلت سنة 1902م، وأن تخصص لها جملاً يحملها وممرضاً معها، وتكون في عهدة الصيدلي العسكري، وقد أجابته الحكومة إلى طلبه بعد أن عين أميراً للحج في طلعة العام التالي(3).
__________
(1) مرآة الحرمين 2/334.
(2) مرآة الحرمين 2/48.
(3) مرآة الحرمين 2/48.(1/29)
ونختم هنا كما أشرنا من قبل بأن كثيراً من الحجاج كانوا يتعمدون اصطحاب طبيب معهم في مجموعتهم أثناء الطريق، يأتي للحج ويهتم بمن يحتاج إلى طبه أثناء هذه الرحلة، وهذا الأمر لا يزال قائماً إلى اليوم لدى الكثير من المجموعات التي تأتي للحج والزيارة أو للعمرة، ويقدم الطبيب المرافق خدماته عادة لكل من يحتاج إليه من مجموعته ومن غيرها ممن يلتقيهم في هذه الرحلة، ونشير هنا إلى الرحلة التي نظمتها جمعية الهداية بدمشق للحج عام 1359هـ/1940م والتي جاءت بعد انقطاع قدوم الحجيج عبر البر من بلاد الشام لزمن، ثم العودة للسماح به مجدداً في ذلك العام، فقد تضمن عنوان الإعلان عن تلك الحملة المتوجهة للحج والزيارة والذي كتب باسم الجمعية إشارة إلى ما سيصحب الوفد من الأطباء وصيدلية(1)؛ وقد أشرنا إلى زيارة هؤلاء الأطباء الذين جاؤوا من سورية مع هذه الحملة للتكية المصرية في المدينة المنورة وإعجابهم بها وثنائهم عليها(2).
إن تاريخ الطب في المدينة يتضمن بعضاً من الأمور المهمة التي شكلت معلماً في تاريخ الطب في المدينة، وإبرازاً لأهم المستشفيات التي عرفتها المدينة في القرون السابقة؛ ولكننا نعتقد أن هذا الموضوع يحتاج للمزيد من البحث والاستقصاء والدراسة، وقد تكون هناك معلومات مهمة أخرى متعلقة بتاريخ الطب في المدينة منثورة في بطون مخطوطات لم تعرف بعد ولم نطلع عليها، أو في ثنايا كتب قد تكون بعيدة في موضوعها عن تاريخ المدينة المنورة أو تاريخ الطب والأطباء، وعلى الباحثين القيام بكثير من الجهد لاستكمال هذا الموضوع من جوانبه المختلفة.
__________
(1) الرحلة إلى المدينة المنورة ص28.
(2) المرجع السابق ص146.(1/30)