شعرية المرأة وأنوثة القصيدة
- قراءة في شعر نزار قباني -
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
تصميم الغلاف للفنان : اسماعيل نصرة
((
الدكتور أحمد حيدوش
شعرية المرأة وأنوثة القصيدة
- قراءة في شعر نزار قباني -
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
مقدّمة:
تعد تجربة نزار قباني الشعرية أكثر التجارب الشعرية العربية الحديثة انتشاراً في الوطن العربي، وأكثرها إثارة للجدل النقدي والإعلامي.
لم يتوقف النقد عند حدود نتاجه الشعري بل اهتم بشخصية الشاعر، فلقب بألقاب كثيرة من أهمها: شاعر المرأة، وشاعر الفضيحة، والشاعر الكافر، وشاعر المراهقات، وشاعر النهود، وشاعر الإباحية، وشاعر الفجور، والشاعر التاجر، وشاعر الهزيمة، وشاعر التناقض، وشاعر القضية، والشاعر الملتزم، وشاعر الوطنية، وشاعر الحب ومفسد المرأة والحب، والشاعر الذي أعطى المرأة معنى كونها أنثى، وكاشف القناع عن المرأة، ومجردها من الأنوثة، وشاعر أعطى الجيل معنى الشباب، وشاعر لكل الأجيال، وسوى ذلك من النعوت التي تكشف عن مواقف أيديولوجية تجاه الشاعر إنساناً وشاعراً. فتحول النقد عند هؤلاء وأولئك إلى هجاء أو إلى مدح، وشجع هؤلاء وأولئك اعتراف الشاعر بتناقضاته، وتحولاته، وجنونه، واعتزازه بهذه الصفات، ولم يتوقف عند تأكيد ذلك إعلامياً، بل تعداه إلى تأكيده شعرياً، إذ يؤكد أنه فعل ذلك نكاية بسيوف الانكشارية، ويعلن ولاءه المطلق للنهود، ويعدها منطلقاً لتحرر جسد المرأة وإخراج عواطفها من السرية إلى العلنية.(1/1)
ومن هنا واجهت الدارسين صعوبة الفصل بين شخصيته الإعلامية وشخصيته في الحياة اليومية، وشخصيته الشعرية، وهكذا فعلى الرغم من سهولة تجربته الشعرية، من حيث لغتها وموضوعها، إلا أنها غدت من أكثر التجارب الشعرية العربية المعاصرة غموضاً، إذ من السهل جداً القبض على مضمونها الظاهر، ولكن القبض على الوجه الخفي في شعره والذي يختبئ تحت عباءة الرمز يكاد يكون مستحيلاً.
وهنا تكمن أهمية دراسة شعر نزار قباني من منظور مغاير للمنظور الذي انطلق منه كثير من الدارسين.
في ضوء هذا المنظور يحاول هذا البحث أن يرسم معالم طريق جديد في الدراسة النفسية لشعره، تستفيد من مختلف المناهج ضمن الاتجاه النفسي العام، ولكنها تتميز عنها بكونها لا تهتم بشخصية الشاعر، قدر اهتمامها بنتاجه، ولا تتخذ أدلتها إلا من شعره، ومما صرح به هو نفسه في سيرته الذاتية وفي حواراته التي تعد وجهاً آخر لأدبه.
وإذا كانت المرأة هي الموضوع الذي استنفذ جل طاقته الشعرية خلال نصف قرن من الزمن، حيث كانت موضوعاً لأولى قصائده، وموضوعاً لآخر قصائده، أيضاً، وأوحى إليه بآلاف الصور، فما سر ذلك؟ ولماذا المرأة، إذن، في شعره دون سواها من الموضوعات المحفزة للشاعر في هذا الكون؟ ولماذا اختارها دون سواها من الموجودات الجميلة في هذا العالم؟
إن هذا السؤال هو الأكثر تردداً على ألسنة النقاد، وهو السؤال الذي حاول نزار قباني نفسه أن يجيب عليه، وهو السؤال نفسه الذي تحاول هذه الدراسة أن تسهم في الإجابة عليه.
ولتحقيق هذا الهدف، قسمت البحث على أربعة فصول وخاتمة تلخص أبرز النتائج المتوصل إليها في هذا البحث..(1/2)
تناولت في التمهيد المنهج والإجراء، فعرضت لأهم المناحي التي سارت فيها البحوث في هذا الاتجاه فكان التوقف عند فرويد، لا على أساس منهجه العام، ولكن على أساس تلك الأفكار التي ربطت بين الحلم والنص الأدبي، وجعلت منه خطاباً لغوياً يبلور الرغبة في أنموذج خيالي، ويسعى إلى تحقيقها تحقيقاً مقنعاً. ويجعل الطفولة المصدر الأساس لمحتويات الحلم والنص الأدبي، وينظر إلى تعدد معاني النص الأدبي، ومعاني الحلم. ومن ثم قابليتها لأكثر من تأويل وتفسير، وفي كل ذلك تتخذ اللغة مرجعاً ومنطلقاً لاكتشاف عالم النص. وتعد الصور البلاغية أبرز معالم اللاّوعي في النص الأدبي.
ثم حاولت ربط هذا الوافد إلينا بالتراث لاستخلاص تصور منهجي من خلال مجموعة من الثنائيات الضدية اختصرتها في ثنائية الحب والكراهية، وثنائية الجسد والروح، ثم ثنائية المذكر والمؤنث لاستخلاص أبعادها في اللاوعي الثقافي العربي، ومن ثم إمكانات تطبيقها على النصوص الشعرية العربية القديمة والحديثة. ثم كانت الإشارة إلى الاستعارات الملحة التي جاء بها "شارل مورون" بوصفها إحدى الدعامات التي يمكن أن تبنى عليها قراءة نصوصنا، ومن ثم خلصت إلى تصوري لمفهوم القراءة والمنهج والإجراء، وهذا التصور هو الذي انطلقت منه لقراءة شعر نزار قباني، وتطلب مني ذلك، تخصيص الفصل الأول للمنجزات الموضوعاتية لدواوين نزار قباني في المرحلة الأولى( 1944-1968) لاستخلاص الاستحواذ الموضوعاتي الذي يحكم عالم هذه الدواوين متمثلاً في ثلاثة موضوعات محورية، هي المرأة الجسد، المرأة المدينة، والمرأة القصيدة.(1/3)
وخصصت الفصل الثاني، للمرأة الجسد وحصرته في محورين: محور المرأة الأم، ومحور المرأة الحبيبة، فأعطيت فكرة في المحور الأول عن المرأة والشعر العربي، ثم المرأة في شعر نزار قباني لأخلص إلى المرأة الأم في شعره معتمداً على انطباعات الشاعر الطفولية عن الأم، ودعمت ذلك بشواهد من شعره. وحاولت تحديد ملامحها من خلال حقله المعجمي في القصائد التي تغنى فيها بالأم بصورة صريحة أو بصورة رمزية.
أما المحور الثاني، محور المرأة الحبيبة، فقد اعتمدت فيه على الصفات الجسدية الحسية التي صور بها هذه الحبيبة، والعناصر الجمالية التي تحدد ملامحها عناصر الطبيعة. وهي عناصر تسير في اتجاه واحد هو الإثارة والإغراء.
وخصصت الفصل الثالث للموضوع الثاني، حيث تجلت في هذا الفصل المدينة بوصفها أنثى ترمز إلى الأم وإلى الحبيبة، حيث استعار صفات المرأة للمدينة تارة وصفات المكان للمرأة تارة أخرى. فكانت دمشق بمثابة الأم وبيروت بمثابة الحبيبة.
أما الفصل الرابع فقد خصصته للمرأة القصيدة، وركزت فيه على ظاهرة التداخل بين القصيدة والمرأة، التي لاحظها عدد من الدارسين من قبل، مع الإشارة إلى جذور هذه الظاهرة في الأدب العربي القديم، ولكنها عند نزار قباني غدت هاجساً رافق مسيرته الشعرية، ومن ثم حاولت تفسير العلاقة القائمة بين القصيدة والمرأة، والصراع الذي تولد لديه نتيجة التداخل والتماهي بينهما في خيال الشاعر.
وقد حاولت فهم مواقفه من المرأة والقصيدة متمثلة في كونها (المرأة) تساوي القصيدة أحياناً، وأحياناً أخرى تبدو أجمل وأحلى من القصيدة، في حين تبدو القصيدة في أحيان كثيرة أجمل من المرأة.(1/4)
هذه المواقف التي رافقت مسيرته الشعرية- منذ أن أصدر أول دواوينه (قالت لي السمراء) إلى آخر ديوان صدر في حياته- تعد ظاهرة محيرة في شعر نزار قباني، ومن هنا كان لا بد من محاولة البحث في هذه الظاهرة لاستعراض مواقفه المختلفة من خلال مجموعة من القصائد ومحاولة تفسير ذلك.
ثم أفردت خاتمة لهذا البحث، ركزت فيها على أهم العناصر التي واجهت تجربة نزار قباني الشعرية عن المرأة.
أحمد حيدوش
((
الفصل الأول :
المنجزات الموضوعاتية
1-قالت لي السمراء
2-طفولة نهد
3-سامبا
4-أنت لي
5- قصائد
6- حبيبتي
7-الرسم بالكلمات
8-النتائج
لقد انتبه بعض الدارسين (1) إلى أهمية تقسيم شعر نزار قباني الغزلي على مراحل، لخاصية كل مرحلة، واستخلص من دراسته لشعره خمسة مراحل هي:
أولاً: مرحلة العطش والجوع وتمثلها دواوينه:
1-قالت لي السمراء (1944)
2-طفولة نهد (1947)
3-سامبا (1949)
4-أنت لي (1950)
ثانياً: مرحلة ما بين الذات والآخرين، وتمثلها دواوينه:
1-قصائد (1956)
2-حبيبتي (1961)
3-يوميات امرأة لا مبالية (1958-1968).
ثالثاً: مرحلة الارتواء والانطواء وتمثلها دواوينه:
1-الرسم بالكلمات (1966)
2-100 رسالة حب (1970)
3-كتاب الحب (1970)
4-قصائد متوحشة (1970)
رابعاً: مرحلة التخمة وإفلاس الشعور ويمثلها ديوانه
-أشعار خارجة على القانون 1972، لأنه وحده يشكل مرحلة نفسية مستقلة.
خامساً مرحلة الهاجس الزمني وتمثلها دواوينه:
1-كل عام وأنت حبيبتي (1977)
2-أحبك أحبك.. والبقية تأتي (1978)
3-أشهد أن لا امرأة إلا أنت (1979)
4-هكذا أكتب تاريخ النساء (1981)
5-قاموس العاشقين (1981)
وعلى الرغم من قيمة هذا التقسيم إذا ما نظرنا إلى شعره على أنه وثيقة تكشف تطور شخصيته النرجسية، إلا أن نظرة أخرى قد لا تفيد هواة الكشف عن شخصيته التي ليست هدفاً لهذه الدراسة، ولكنها تفيد الباحثين في تطور موضوعاتية شعره في تناغمه الشكلي.(1/5)
لقد تحدث نزار قباني عن الملل من أشكاله القديمة الذي هاجمه بدءاً من عام 1968، وبدأ يبحث عن شكل جديد، ومن هنا يمكن الحديث عن مرحلتين في شعره. مرحلة ما قبل الرسم بالكلمات، ومرحلة ما بعد الرسم بالكلمات. فلنحاول إذن، أن نبحث عن المنجزات المعجمية الدلالية والاستحواذ الموضوعاتي والتكرارات الملحة في دواوين المرحلة الأولى ثم نؤكد النتائج بدواوين المرحلة الثانية وسنكتشف أن المرحلتين تشكلان مرحلة واحدة، وقد لاحظ الدارس نفسه الذي قسم شعره على خمسة مراحل: "أن رواسب الماضي ظلت جنباً إلى جنب مع انطلاقة الشاعر الجديدة. فنحن لو أحصينا عناوين قصائده لهذه المرحلة التي بدأت عام 1956 مع ديوانه (قصائد) واستمرت حتى ديوانه (حبيبتي) عام 1961، مروراً بـ (يوميات امرأة لا مبالية) عام 1958، لوجدنا ثوابت نزار السابقة عينها (2)، فلنبحث، إذن، عن هذه الثوابت في شعره لأن معرفة الهواجس العميقة التي تطالعنا في كل مكان من الأثر الفني أهم من معرفة أسماء النساء اللواتي أحبهن الشاعر وأسماء الرجال الذين تركوا بصماتهم عليه(3).
1-قالت لي السمراء (4)
1944
1-ورقة إلى القارئ
2-مذعورة الفستان
3-مكابرة
4-الموعد الأول
5-أكتبي لي
6-أمام قصرها
7-اندفاع
8-أنا محرومة
9-في المقهى
10-اسمها
11-غرفتها
12-زيتية العينين
13-حبيبة وشتاء
14-مساء
15-القرط الطويل
16-خاتم الخطوبة
17-إلى مصطافة
18-سمفونية على الرصيف
19-فم
20-أحبك
21-مسافرة
22-رافعة النهد
23-نهداك
24-أفيقي
25-إلى عجوز
26-إلى زائرة
27-مدنسة الحليب
28-البغي
من خلال ثمان وعشرين قصيدة في هذا الديوان نلاحظ ما يلي:(1/6)
1-القصيدة الأولى هي بمثابة بيان الشاعر إلى القارئ، أو هي القصيدة البيان فيها تزاحمت كثير من العناصر التي تحكمت في عالم الديوان: (الغيم، بكاء المآذن، النجوم، الموعد المنتظر، الأنا الشراع الذي لا يريد الوصول، والأنا الذي لا يريد الهدى، الحروف التي هي جموع السنونو، الطبيعة الجميلة، العطور، المرأة التي تجري في العروق مجرى الدم، المسافرة معه في مطاوي الردى، الذات الصانعة المبدعة للمرأة المبجلة لها وللطبيعة أيضاً:
جمالك مني فلولاي لم تك
شيئاً ولولاي لن توجدا
ولولاي ما انفتحت وردة
ولا فقع الثدي أو عربدا
صنعتك من أضلعي (..)
البيت، الشرفة، ثم الموت والخلود الذي يتجلى في المعادلة التالية: موت العاشقين خلود، إذن، العاشق لا يموت، وموت الشاعر خلود، إذن، الشاعر لا يموت.
2-تهتم القصيدة الثانية بحركة الجسد وتتزاحم فيها العناصر التالية: العقد، الجورب، الخصر، النهد، الأسوار، الجرح، الهوى المرعب، الشعر الطويل، الاخضرار، الرغبة غير المحققة.
3-في حين تعبر القصيدة الثالثة عن حيرة رجل أمام عواطفه تجاه المرأة ويتسائل أيحبها أم لا، وبعد المكابرة يقر بأن المرأة ملهمته، وأن وراء كل قصيدة كتبها امرأة ومن ثم يقر بأنه يعبدها، لا لشيء إلا لأنها الملهمة.
4-في القصيدة الرابعة حديث عن الموعد الذي يمنحه ثغرها، واخضرار الصدى في شفتيها وفي القصيدة عناصر تتردد مرة أخرى كالنهد وموت الفم والأنجم، والذات الصانعة للمرأة المبدعة لجمالها، والموعد الذي لا يتحقق.
5-في القصيدة حث على المراسلة، والبحث عن علاقة مثالية، عن طريق التوقف عند حدود المراسلة وعدم تجاوزها إلى علاقات أخرى، ويطلب منها أن لا تقطع عنه رسائلها، أي الاهتمام من جانب واحد. وتتكرر مرة أخرى في هذه القصيدة النجمات، الطفولة، الضحكات، الاخضرار، الماء، السرور، علاقة صبا.(1/7)
6-تصور هذه القصيدة أيضاً: علاقة صبا ورفض اللقاء بها، فهو يستفسرها: متى تجيئين؟ ولكنه يفرض عليها الجواب الذي يريده: (قولي لموعد مستحيل) ليؤكد استحالة اللقاء بها لأنها مجرد طيف يعيش في الوهم والظنون، وهو فوق الوقوع، وفوق الحصول، وهي مجرد خيط سراب يموت دائماً قبل الوصول.
7-تؤكد هذه القصيدة مرة أخرى استحالة اللقاء بينهما وترسم ملامح صورة المحبوبة أي المرأة المثال، وفيها تتجلى الرغبة وعدم تحقيقها والواقع والحلم وتكشف عن ملامح امرأة ومكان محددين:
على لوحة الغرب المخملي /تباشير شال/ يجر نجوما/ يجر كروما/ يجر غلال/ سأعرف أنك أصبحت لي/ وأني لمست حدود المحال.
8-قصيدة على لسان المرأة تصور عالم الحلم وترسم ملامح الطفولة والمراهقة وتظهر فيها العلاقة غير محققة والرافض لقيام العلاقة هي أم الاثنين الفتاة والشاب (لا أمه لانت ولا أمي) وتجسد الصراع بين الواقع والحلم ويتكرر هنا كذلك عنصر: الغيم، وعنصر الشال، والكرم، والجرح، والنجم.
9-موعد لا يتحقق مرة أخرى، وتظهر فيها الأنا التائهة الباحثة عن مرفأ، أما العناصر الجمالية في جسد المرأة فيتم التركيز في هذه القصيدة على : الركبة، الجفون، العيون، وتندمج هذه العناصر بعناصر جمالية في الطبيعة متمثلة في الأنجم، والثلج والربى.
10-أحرف خمسة هو اسمها وهو مرتبط بالحزن، وسيكون مصدر نبوغه، ويضفي على اسمها القداسة ويستمد صفاته من المكان: النوافير، الشذا، حقول الشفيق، رف من السنونو يهم بالتحليق، نهور الفيروز، لهاث الكروم، فم الإبريق، قطيع من المواويل، ركضة نبيذ، المزارع الخضر، ربيع وريق، أوتار عود، ترانيم عود.
يمكن تأويل هذه القصيدة على أنها موجهة إلى الأم الحقيقية "فائزة" وهي صاحبة الاسم ذي الأحرف الخمسة خاصة وأنه لم يضف عليها أي صفة حسية، ولم يتحدث عن صفاتها الجسدية وأن الصفات التي أعطاها لهذا الاسم هي صفات البيت/ المدينة.(1/8)
11-غرفتها خالية منها، بقي فيها ما يذكره بها، المهد الذي لفهما، صورتها، شقراء، منديلها الخمري، أجواء البيت، (فوقنا للياسمين اعتراش). القصيدة تتحدث عن امرأة ميتة.
البيت الأول:
في الحجرة الزرقاء .. أحيا أنا
بعدك، يا أخت، أصلي
البيت الأخير: ... قولي .. ألا يغريك لون الدنا
بالعود.. فالطير أنت للعشاش
12-من وصف العينين إلى وصف القميص، أجواء كلها اخضرار (قميص أخضر، بحيرة خضراء، العشب الأخضر، الصفصافة، العريشة، جوع الربى للأخضر المورق، نوافير المياه، شباكنا).
تنتهي القصيدة على أمل اللقاء:
يا مرفأ الفيروز .. يا متعبا
سفينتي لا بد أن نلتقي
13-انتظار موعد لم يتحقق، كان الموعد معها أن تأتي شتاء لكنه مر الشتاء ومر الربيع ومر العام ولم تأت. (زجاج نافذتي، الدوالي، الكرم الرضيع، النجمات)
14-مساء، الموعد، وتشرين شهر مواعيدنا
أحبك .. حرفا ببال الدواة
ووعدا على الشفة الكاذبة
الموعد الذي لا يتحقق، المرأة المهملة
15-قصيدة هجاء لامرأة خانت العهد حين قبلت خطوبة شخص آخر.
(بائعتي بزائفات الحلي)
(عقد ماس وانتهى حبنا)
(كيف تآمرت على حبنا)
(بائعتي .. بائعة نفسها)
(سبية الدينار)،
(شاريك بالنقود والمخمل)
تصور هذه القصيدة علاقة انفصال بين المرأة والرجل. والمرأة فيها سبب هذا الانفصال فهي خائنة وفيها تتكرر بعض العناصر الموجهة للمعنى كالبرد، والجثمان، والطعنة، واللعنة، والمأتم، والنعش، وخريف المنى، إلى جانب العناصر المألوفة كالأخضر، والنجوم.
16-تهتم بحركة المرأة على الرصيف التي تبدو سيمفونية يغزلها قوسا كمان، ولكنها سيمفونية حزينة تجعله يبحر في جرح جرحه، ومع طغيان أجواء الحزن يغيب الاخضرار (اختفت سروتان- اختفت أطول صفصافة) والمدينة ضيعت نفسها، وودعت تاريخها، حين صار كل شيء يرتعش فيها حناناً لأن هذه المرأة قد حلت محل المدينة.(1/9)
17-تصور القصيدة حنيناً إلى غائبة يتذكرها عند رؤية جموع السنونو وقد لاحت على الأفق ويتمنى أن تلوح هي كذلك ولو مرة واحدة. والغائبة هذه تبدو امرأة والطرف الثاني صبي وليس رجلاً، فالعلاقة هنا هي علاقة صبا. وهي عبارة عن نكوص واسترداد لمرحلة ما من الطفولة:
(حملت اندفاعة هذا الصبي
كما احتملت طفلها الوالدة)
18-محاولة رسم صورة لفمها فهو كبرعم، كلوحة، كفكرة، كجملة غير مفهومة، كنجمة، كزجاجة طيب مختومة، إنه لوحة مبهمة وهو وهم وغموض (منضمة الشفاه.. لا تفصحي/ أريد أن أبقى بوهم الفم)، وما دام ذلك كذلك يجب أن تظل صاحبته صامتة حتى تستمر الدهشة، ولا يتحقق شيء مما يريده منها.
19-المرأة هنا صانعة القصيدة ففي عينيها تختبئ قصائده، والطرف الثاني طفل مغامر، تجارته الأشباح والوهم والليل. والحب عنده تطرف، وتكسير أبعاد، ونار لها أكل، وتكسير أسوار، وفتح سماء، وتخطيط ألوان، وتعمير أنجم ورسم زمان ماله شكل.وجماله عنده تختزله عناصر أنوثتها متمثلة في صدرها المملوء بألف هدية، ونهدها وخصرها المعتل وثغرها دفاق الينابيع، وهي له بمثابة العطر للوردة.
20-إن هذه المسافرة التي جاءها نازف الجراح والتي تستفسره عن حاله سرعان ما تعامله معاملة الأم لطفلها وتقدم إليه النصائح وتواسيه وتطمئنه وتدعوه إلى التفاؤل لأن صداقتهما ستستمر:
نم على زندي الرحيم.. وأشفق
يا رفيق الصبا.. على أعصابك
ارفع الرأس والتفت لي قليلا
يا صغيري أكأبتني باكتئابك(1/10)
إن امتزاج المرأة بالقصيدة هنا مرة أخرى نتيجته النصيحة التالية: لا تقترن بالمرأة لأن المرأة تقتل موهبتك. وعلى الرغم من هذه النتيجة المقنعة والمطمئنة للشاعر إلا أن موقفاً درامياً كان قد كشف عنه قبل الوصول إلى هذه النتيجة ويتمثل هذا الموقف في كون الشاعر سيظل حاملاً جرحه بيمينه ولذلك يسألها ذلك السؤال المخيف: أين تمضي؟ وكيف تمضي؟ وقصائده ضارعات ببابها بوصفها ملهمته، وهنا تتجلى دراما الشاعر متمثله في الصراع بين المرأة والقصيدة.
21- إن القصيدة، كما يتجلى من عنوانها، هي عبارة عن وصف لعناق الجيد والشعر، ولكن تتزاحم فيها عناصر الاخضرار، والنجوم، وتنتهي بما يوحي بعدم تحقق شيء ما، (رغم امتناع القرط.. أجتاحه/ أشرس من عصفورة البيدر).
22-هذه القصيدة تنتهي بهذه الحكمة : (هذا الذي بالغت في ضمه أثمن ما أخرج للعالم) وذلك بعد أن وصف رقتها ورقة الذي تدور عليه رافعة النهدين، وأنها تأويهما وتحميهما من الأذى ومن البرد، وتطعمهما، وتهدهدهما حتى يناما. فالنهد هنا كائن حي له إحساس ومشاعر وعلى رافعة النهدين مراعاة ذلك.
23-تكشف هذه القصيدة عن الرغبة وتحقيقها من خلال البيت الأول من القصيدة والبيت الأخير فيها:
سمراء صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي
***
يا شاعري.. لم ألق في العشرين من لم يفطم(1/11)
ومن خلال مجموعة من التداعيات التي تثيرها الرغبة الباحثة عن تحققها تتكشف عناصر نسق هذه الرغبة: صبي، دنيا فمي، لذة حمراء، متمردان، صنمان، فكي، احسري، لا تكبتي، جهنم، لظى الدم، محروقتان، شهوة تبكي، وحشيان، مجرى الحليب، حقول الأنجم، الحلمة الحمقاء، ظفر مجرم، حبر من الدم، صلبة النهدين، أجمل لوحتين، كرتان من ثلج، تقدمي، يا قطتي، تحرري، حطمي، خلي كبرياءك، انعمي بأصابعي، غدا شبابك ينطفئ، غداً سيذوي النهد والشفتان، اقدمي، تفكري بمصير نهدك بعد موت الموسم، لا، فكي، نهداك ما خلقا للثم الثوب، مجنونة من تحجب النهدين، مجنونة من مر عهد شبابها لم تلثم. جذبت منها الجسم، لم تنفر، لم تتكلم، مالت علي، مخمورة، تعللني، تقول في سكر، أرشق مبسم.
إن معجم هذه القصيدة يكشف عن استعارات ودلالات مدهشة، تنحصر كلها في دائرة العلاقة بين الطفولة والأمومة، هذه العلاقة تبدأ بالطلب والترجي والاستعطاف والتردد والترغيب إلى الثورة والغضب والأمر والترهيب. لتنتهي بالرضى والانشراح. وعبر هذا المعجم تظهر مجموعة من الألفاظ الدالة على الحب والكراهية وتصورات طفولية، ومشاعر الغضب والرضى. وتبنى القصيدة على الأسس التالية:
دعوة – وصف/ دعوة – وصف/ وصف- دعوة/ دعوة – إغراء- استجابة.
24-تمثل هذه القصيدة الخطيئة، يدعوها أن تفيق من الليلة الشاعلة، وأن ترد عباءتها على الصدر والحلمة الآكلة لأن الصباح سيفضح شهوتها السافلة، وبكلمات أكثر قسوة يدعوها إلى أن تجمع ثيابها التي بعثرتها عند لحظة اللذة الكبرى، كما يدعوها إلى التوقف عن الفحيح الذي يشبه نفخ الحية الصائلة، وأن تفيق، فليل الجنون ولى وأقبل وقت العقل (النهار) فالخطايا مرتبطة بالليل، أما النهار فيمثل الفضيلة. وعليها أن تعود إلى أمها رمز الطهر، وسينكشف بعد شهور أمرها حين ينمو الجنين.(1/12)
تكشف هذه القصيدة عن ثنائية الخطيئة والطهر. امرأة دفعتها شهوتها إلى رجل فتقضي معه ليلتها. ثم يحملها مسؤولية خطيئتها، وفي هذه القصيدة يظهر مثلث (الأم/ البنت/ الولد).
25-في هذه القصيدة تتكرر كذلك صورة امرأة منبوذة وهي عبارة عن هجاء امرأة عجوز يرفض الاستجابة إليها فهي: جيفة متقيئة، مقرفة، نهدها متدل، وحلمتها مهترئة، شفتاها عنقودا دم، وإبطها حفرة ملعونة يملأ قعرها الدود والأوبئة وهي أخت الأزقة، والمضاجع والغوى، والغرفة المشبوهة. وثديها صار للزوار مورداً ما إن تتوقف فئة حتى تعصره فئة أخرى، ومن ثم فإن في كل ثغر من حليبها قطرة.
إن القصيدة هجاء عجوز ليس فيها ما يشد انتباه الرجل فليس في جسدها أي عنصر جمالي، لكن الموقف الذي لا نجد له تبريرا هنا هو غيرته من الحليب الذي صار مورداً للآخرين، وأي حليب يأخذه الراشد من المرأة. ومن هنا فإن القصيدة تكشف هي الأخرى عن علاقة طفولية.
26-في هذه القصيدة تتكرر كذلك المرأة الشهوانية الممقوتة المخيفة المهجوة، فهي رعشة ثعبان، ومجرمة، وهي لا تستحي، إذا زلقت من أهلها إلى غرفته، وهي ذئبة تائهة كالفكرة المبهمة، ونهدها الملتف في ريشة كأرنب إليه يدني فمه، لكنه رغم شهوتها فهو أشد شهوة منها حين تقهقه عواصفه وشهواته الملجمة فلا يفرق بين الحلال والحرام.
هنا نجد مقابلة بين الرجل والمرأة إن شهوتها لا تمثل شيئاً قياساً إلى شهوته وعليها أن تتوقف عن السعي لامتلاكه.
27-تصور هذه القصيدة الخيانة الزوجية وهي الأخرى عبارة عن هجاء امرأة خائنة تقوم باستغلال غياب زوجها لتشبع شهواتها مع رجل تدخله إلى بيتها الزوجي وتقوم بنية القصيدة على مثلث: المرأة- الرجل- الطفل، يقوم بين أبعاد المثلث علاقة رمزية طفلية يكشف عليها عنوان القصيدة (مدنسة الحليب) ثم أول بيت: (أطعميه من ناهديك أطعميه/ واسكبي أعكر الحليب بفيه) وآخر بيت: (إن سقيت الزوار منه فقدما /لعق الهر من دماء بنيه).(1/13)
إن الحليب هو العنصر الأكثر حضوراً في هذه القصيدة، فهو مدنس عند هذه المرأة، وهي تطعم بنهديها غريباً، وتسكب فيه أعكر الحليب، حتى نشفت فورة الحليب بثديها من كثرة إطعام ذلك الزائر المشبوه في حين حرم منه الرضيع الذي يملأ البيت صراخاً. ويقوده هذا الهجاء إلى المقابلة بين زوجها وهذا الغريب ويقوم بهجائه هو أيضاً، فهو فظ، وعميق العاهات والتشويه، في حين يتعاطف مع الزوج الساذج الأبيض السريرة، الخالي من الظن والشك، فتظهر في هذه القصيدة، رمزيا، صورة رجلين أحدهما متعاطف معه، مقبول والآخر مهجو مرفوض وصورة طفل مهمل يرنو إلى صدر أمه، وصورة رجل غريب، طيب وبسيط.
28-في هذه القصيدة يجتمع الكره، والتعاطف والهجاء، هجاء المرأة والرجل معاً، ثم تعاطف مع المرأة، ثم تعبير على لسانها لكشف خطايا الرجال. فهناك عجوز عمرها أقدم من عمر الرذيلة، هي صاحبة المبغى، وهناك مذهبة السن، ترقب بعين حذرة، ركبتها شاحبة، وهناك واحدة عطرها أرخص من أن يذكر، حاجباها مبالغ في تخطيطهما، وطلاؤها كطلاء جدار المقبرة، فمها متسع كغلاف التينة المعتصرة، وهناك مجدورة وجه انزوت كوباء، كعبير نتن، ساقها معروقة، مثل ميت خارج من كفن، على وجهها حفر مرعبة، هي آثار الزمن، نهدها حبة تين ناشفة لم تعد فيها قطرة حليب. ثم يتحول من هذه الأوصاف المقززة إلى هجوم على جنس الرجال فهم المسؤولون عن هذه الأوضاع، إنهم لصوص وذئاب، وما هؤلاء النسوة سوى إحدى خطاياهم لأن الأنثى تسأل إذا تزني في حين لا يسأل الرجل على الرغم من أن سريراً واحداً ضمهما، فالسقوط يلحق البنت، أما الرجل فهو في حماية.(1/14)
إن القصيدة هنا تبدو بسيطة، واضحة لا تحتاج إلى تأويل، ولكن عند الابتعاد قليلاً عن وجهها الظاهر تتراءى لنا صورة القبح والنذالة ومدى التقزز الذي يثيره الجسد الأنثوي حين تضمر عناصر الجمال فيه. ومن ثم يمكن إضافة هذه القصيدة إلى سابقتها وعدها ضمن قصائد هجاء المرأة على الرغم من التعاطف الشديد معها.
***
2-طفولة نهد(5)
1948
1-مني
2-أزرار
3-بلادي
4-على الغيم
5-وشوشة
6-بيت
7-لولاك
8-على البيادر
9-على الدرب
10-الضفائر السود
11-دورنا القمر
12-سؤال
13-شرق
14-من كوة المقهى
15-شمعة ونهد
16-إلى ساق
17-حلمة
18-العين الخضراء
19-لو
20-إلى رداء أصفر
21-رسالة
22-الشفة
23-إلى مضطجعة
24-اسمها
25-غرفة
26-الموعد
27-طفلتها
28-إلى وشاح أحمر
29-القبلة الأولى
30-همجية الشفتين
31-ذئبة
32-امرأة من دخان
33-نار
34-طائشة الضفائر
35-المستحمة
36-عند امرأة
37-مصلوبة النهدين
تتناول قصائد هذا الديوان الموضوعات التالية:
1-المرأة السر، والحب السر الذي لا ينبغي أن يبوح به أحد، ويتلخص ذلك في هذه الأبيات:
لا تبوحي بسري ... ومن أكون لديك
هذي وريقات حب ... غنت على شفتيك
عاشت بصدري سنينا ... لكي تعود إليك
2-اندماج النباتات المعلقة على جدران البيت بالقصائد فكما تنمو تلك النباتات تنمو القصائد.
3-التغني بالوطن، وتظهر العناصر: الياسمين، الصفصاف، المآذن، النجوم، السوسن، والورد، هي العناصر الجمالية في هذا الوطن (البيت)
4-خطاب لامرأة، ولكنه يعبر عن حب سري، حب لا يبوح به، فيه عفة وطهارة، وتظهر عناصر: النجوم، البيت، العطر، عناصر مسيطرة على القصيدة.
5-خطاب لامرأة غائبة يحس بدعوتها إياه للقاء، رغبة في أن تقوم بدعوته امرأة لا أن يقوم بدعوتها هو.
6-بيت الحلم كما تتصوره امرأة.
7-هي سر وجوده. فلولا نعومة رجليها لما طرز الأرض عشب. توحي القصيدة بالجنة تحت أقدام الأمهات.(1/15)
8-موعد لم يتم وتذكر لأيام الصبا قرب الجدار، والجدار أحد الرموز التي تتكرر كلما عاد بذاكرته إلى الطفولة، (والجدار العتيق وكر حكايانا إذا نحن في الهوى أولاد). وأن هذا الحب أنموذج مفقود كان مرة لا تعاد (لا تقولي أعود.. بح انتظاري / حبنا كان مرة.. لا تعاد).
9-خطاب على لسان امرأة فيه محاولة لكسب ود الطرف الآخر الممتنع (أبيع عمري كله كي أربحك).
10-حديث عما يثيره شعرها من عواطف ومن رغبات، ضمه، واللعب به، مع تمني اللقاء (قد نلتقي في نجمة) بيد أن اللقاء يبدو بعيداً.
11-تصور هذه القصيدة الرغبة وتحقيقها، انتظار موعد، وعودة إلى ذكريات الطفولة حين كان يكسر النجوم ذرات، ويحصي ما انكسر. الانتظار ثم تأتي ويخضر تحتها الحجر، ونلاحظ تردد الاخضرار تحت القدمين مرة أخرى هنا، والشال، وتظهر الحبيبة بأنها صديقة طفولة:
هذا أنت، صاحب الصغر؟
ألا تزال مثلما
كنت غلاماً ذا خطر؟
( ... )
أي صبي كنت.. يا
أحب طفل في العمر
12-في هذه القصيدة رفض لفكرة الموت، واستعادة لذكريات الطفولة مرة أخرى، وتتكرر فكرة الاخضرار تحت القدمين، حين تنمي أقدامها الحشائش، ويتكرر مرة أخرى الحائط والسياج، العتيق مخبأ الطفولة، وحكايات الصبا.
13-انتظار ودعوة امرأة وهمية غائبة للمجيء.
14-دعوة امرأة خيالية يرفض أن تتعرف على هويته وعلى اتجاهه، كل ما يطلبه منها أن تعرف أنها في ذاكرته.
15-حوار بين نهد وشمعة في حضرة شاعر.
16-تصوير لحركة ساق امرأة نزلت من السيارة بحركة طائشة، وجلست على مقعد مصلوبة الساقين فراح يرصد هذه الحركة، وما تثيره من عواطف لدى الشاعر، وبلهجة آمرة يدعوها للذهاب وتغيير مكانها وإخفاء ترف ساقها، لأنها أصل شحوبه.(1/16)
17-تصوير للحلمة وما تثيره من عواطف وأحاسيس لدى الشاعر فهي خصلة حرير ومبسم عصفور، وأرجوحة عبير، وحرق نار، وكلمة مهموسة مكتوبة بنور وهي دميعة، أو قبلة متجمدة وشرارة مخيفة، ومظلة شقراء، وإبريق وهج وشباك هوى وفراشة، ونجمة مكسورة الريش، وحبة رمان، وحبيبة الحرير، ثم يدعوها للثورة وتمزيق هذا الحبيب (الحرير).
18-عن مناسبة هذه القصيدة يقول إن فتاة جاءته وفي يدها دفتر صغير، ورغبت إلى الشاعر أن يكتب شعراً في عينيها، فسجل ما أثاره هذا الطلب من عواطف وأحاسيس تارة، ووصف خضرة تلك العينين طوراً آخر، مستعيراً تلك الأجواء التي تتردد كثيراً في أشعاره: صفصافة، شباك هوى أخضر، الكرم، البيدر، الربى، النجوم.
19-وجودها شرط وجود الشعر. فلولا وجودها في ذلك المكان وفي ذلك الوقت، ولولا استجابتها لتلك الطلبات التي طلبها ما كان الشعر، ولظل قلبه موحشاً، يابسا.
20-وصف لردائها وغيرته من ذلك الرداء الذي يلمس ذلك الجسد وكأنه إنسان، ومن ثم ما كان له أن يلمس تلك الأجزاء من الجسد كالمعصم، والذراع، والنهد، والردف، والحلمة، وتبدو أجواء الشتاء القاتمة تحكم عالم الشاعر الداخلي.
21-استلام رسالة من امرأة بعد غيبة أكثر من عام، بيد أن صورتها في الذهن وليس في الواقع، إنها مجرد صورة ذهنية، وأنها هدب رحيم وفم رف رحمة ونبالة. ويدعوها لمزيد من الكتابة إليه. وكأنها زائرة مفاجئة من عالم آخر، ويدعو هذه الزائرة إلى الاستمرار في زياراتها والاتصال به.
22-وصف للشفة، وهي منضمّة ومزقزقة، ونافورة صادحة، وفكرة محلقة ووعاء ورد، وباقة من كرز، ولوحة موفقة.
23-وصف للساقين: إنهما مزرعتان للفل، وأشرطة حرير، وأنبوبان من طل، وشلالان من ذهب، في هذه القصيدة اهتمام بجمال الساقين وما يثيرانه من مشاعر، وهي مشاعر فيها من البرودة الشيء الكثير، حيث يكشف عن ذلك بصورة استعارية:
يا ثوبها، ماذا لديك لنا؟
ما الثلج؟ ما أنباؤه؟ قل لي
...
لا تمنعي عني الثلوج(1/17)
24-يرتبط اسمها بالقداسة، فاسمها بضعة أحرف تصحبه كمصحفه، وهي مجهولة لا يجوز التعريف بها، فهي فوق أن تعرف.
25-كل ما فيها يحيل على الذكريات الماضية، دورق العبير يبكي، والوشاح واجم، والعقد أشجاه الحنين، والسوار يبكي حبهما، والمنديل يناديه، وأثواب الهوى مواسم، من أحمر، وثوب فاقع أو قاتم، وصورة وجه ناعم، إنها لا بد أن تعود لأنها هي سر وجوده ووجود هذا العالم.
26-وصف لموعد متخيل ورغبة في تحقيقه.
27-وصف لامرأة كانت على علاقة بالشاعر ومرت ابنتها مرة فراح يستعيد عبرها تلك العلاقة، مركزا على جانب الأمومة في هذه المرأة فهو أهم ما فيها.
28-إن هذه القصيدة التي تصور الوشاح يلاحظ أنه اعتمد في الحديث عنه على الأفعال بدل الأوصاف التي نجدها في قصائده التي تصف أثواب المرأة عادة، فهو يعربد ويطفو، ويرسو، ويستريح، ويرف، وينهار، ويثور، ويحتار، ويهز، ويحط، ويجمع زهراً، وهنا يبدو اهتمامه بحركة الرداء لا بحركة الجسد.
29-إنها القبلة الأولى ولكنها هي التي قبلته أي أنها بدأت فعل القبلة، ويصف القبلة بأنها دافئة وباردة في الوقت نفسه، بل جعلته يحس بالمقبرة، وترتبط الشفة بالمقبرة في أكثر من موضع، ويبدو في هذا النص منافس، وتظهر لفظة سيدتي لأول مرة. وأنه لم يبق منها أثر سوى تلك القبلة، فهي في أحضان شخص آخر.
30-تصوير لدونية المرأة وفوقية الرجل، هو في السماء وهي في الأرض، هي رفيقة الشيطان. حاول أن يقربها من قممه لكنها هزئت منه. ومن ثم فما هي بعده سوى طلل، أنقاضه تبكي. تسيطر على النص كلمات لاذعة في الهجاء: همجية، الشيطان، البغض، بئس هوى، الدود، الأنقاض، حقارة، طينة، وغد. وهي كلمات غير مألوفة في لغة نزار الرقيقة حين يخاطب المرأة، عدا تلك الألفاظ التي استخدمها في قصيدة "البغي" مما يؤكد توظيفها الرمزي لهجاء المرأة من خلالها.(1/18)
31-في هذه القصيدة المهداة إلى راقصة شرقية، يركز على عناصر من جسدها، الشعر الغجري، الثغر الكرزي، الساق، النهد.
ثم يتحول إلى الاهتمام بأعضاء الجسد حين يتحرك هذا الجسد ويدخل في حوار مع اللحن ويثور شفاها، وصدرا، وركبة، وثديا.
32-تصور هذه القصيدة المرأة المثال، امرأة الوهم والخيال، المرأة الطيف. التي لا يتحقق وجود الشاعر إلا بغيابها، وتطغى على القصيدة الأوامر والنفي: لا تدقي بابي – ظلي بعمري مستحيلا- كوني وشاحا وموعدا لا يكون- ولتعيشي تخيلا – ولتكوني خرافة لا تكون- اتركيني أبنيك شعرا- لا تجيئي لموعدي- اتركيني في ضلال- أحرقيني إذا أردت- إذا كنت واقعا لا أكون.
ولا تظهر في هذه القصيدة ملامح معينة ولا عناصر جسدية، باستثناء إشارة واحدة إلى أنها ذات شعر طويل أسود فهي امرأة وجدانية مستحيلة الوجود.
33-تصور هذه القصيدة حبه لامرأة بدون ملامح محدودة ولا مواصفات جسدية، ويتم التركيز هنا على وصف حبه إياها. أقوى من النار وأشد من إعصار وأقسى من الشتاء وبدون حدود وهو يرفض أي منافس له في حبها. النار، والإعصار، والشتاء، والأمطار، والعويل، والقوة، وأنوار الصباح والغروب، والأقمار، والنجوم هي العناصر اللغوية اللاواعية التي تحكم عالم القصيدة حيث تكشف عن رغبة الامتلاك لكنه امتلاك يعبر عن مأساة داخلية وحزن دفين.
34-هذه القصيدة عبارة عن هجاء للمرأة في صورة مقابلة بين الشاعر والمرأة فهي متصنعة في حبها، فاقدة الإحساس، تافهة الوصال. أما هو فليس عبد سيدة، ولا بائع رجولته، ولا فاقد وعيه، وأنه طرز دربها بالياسمين، وحمل إليها النجوم، وفي مقابل ذلك داست براعمه وقطعت غرسه، وشوهت أيامه وعمره. ويطلب منها أن تعيده إلى أصله جميلا، فمهما كان جمالها فجمال نفسه أكبر منه بكثير.(1/19)
35-في هذه القصيدة وصف لمفاتن المرأة مع التركيز على النهد الذي تكرر ذكره في القصيدة أربع مرات مع تردد العناصر الدالة على الطفولة والصبا: طفلتي، إصبع طفل، وعلى الرغم من أن القصيدة تتحدث عن مستحمة إلا أننا لا نجد التركيز على حركة الجسد بقدر ما نجد التثبت على عنصر واحد في هذا الجسد وهو النهد. وملامح هذه المستحمة ليست امرأة وإنما هي طفلة أو هي في بداية مرحلة المراهقة.
36-هذه القصيدة عبارة عن هجاء للمرأة تعبر عن رفضه لها، وهي الأخرى عبارة عن مقابلة بين طرفين، الطرف الأول هو المرأة والطرف الثاني هو الرجل. المرأة قد هيأت نفسها وجعلت صورتها على الهيئة التي يريدها ومع ذلك يقابلها ببرودة على الرغم من أن كل ما فيها دفء وحرارة، لكن كل ما فيه هو شتاء وبرد وتسيطر على القصيدة أجواء الشتاء التي ترمز إلى الحزن. إن إطار القصيدة شتوي، فمن وراء بابها يعوي شتاء ملحد، وعدة الشتاء بيت دافئ ونبيذ، وامرأة وضية بشعر مهمل مبدد، يتضوع من جسدها عطر يختلط بعطر البيت ويعانق تلك الرسوم المشتهاة، وكانت تئن كذئب مجهد، وترنو إليه برغبة لها يد، ساقها أفعى شاردة، وجسدها مورد، وعقدها فوق نهدها سابح مغرد، ونهدها كسلة من ياسمين كانت كما يريدها تماما، حتى أن موجدها يحار فيها، كأنها أدركت ذوقه وأدركت من مِنَ النساء يعبد، فبدت بطاقة دعوة تنتظر التلبية وتذكره بالموعد:
وكل ما في بيتها ... معطر.. ممهد
يمد لي ذراعه ... يقول: عندي الموعد
بيد أنه يشعر أن في صميمه غيمة تبكي وثلجا أسود. إن المقابلة بين الطرفين في هذا المشهد تكشف عن ثنائية: الحرارة /البرودة = المرأة / الرجل.
وتنتظم هذه الثنائية في مجموعتين، مجموعة العناصر الدالة على الحرارة وهي: الموقد، النبيذ، الشمعة، الغطاء، اللهيب، ومجموعة العناصر الدالة على البرودة وهي: شتاء يعوي، في الذرى رعد، في أعماق روحي ترعد، غيمة تبكي، ثلج أسود، وهو ما تعبر عنه نهاية القصيدة:(1/20)
كانت إذن ممدودة ... وكان يشكو الموقد
وكانت الأحراج ... تبكي والخليج يزبد
وفي صميم غيمة ... تبكي.. وثلج أسود
وتقف إلى جانب هاتين المجموعتين الدالتين على الحرارة والبرودة مجموعة تنتظم فيها عناصر تدل على الخوف والرهبة (ساقها أفعى، كانت تئن كذئب، جسمها مرعب، ترنو إلى لبؤة) وطبيعي أن هذا الخوف تولد عن الكراهية فلا شك في: "أن الخوف الذي لازم الإنسان وهو طفل يجعله إذن في خوف من جسد المرأة لأن جسدها محفوف بالمحاذير، ولا يجد أمامه من حل سوى أن يستبدل بالجسد الذي يخيف شيئاً لا يخيف"(6). ولعل هذا ما جعل القصيدة خالية تماماً من كل ما يزين جسد المرأة باستثناء العقد السابح المغرد فوق ناهديها.
إن إحساس الرجل بالعجز أمام المرأة، سببه فقدان الثقة برجولته، إذ يشعر في أعماقه أنه لن يرضي المرأة لأنها أقوى منه، ولأنها مثل أمه تمثل الجنس الأقوى في نظره عندما كان طفلا. إذ يؤكد بعض العلماء أن الخوف البدائي القديم من المرأة يظل عالقاً ببعض الرجال، وهو الخوف من المرأة القديمة، تلك الأنثى الإلهة القادرة على خلق الحياة وتدميرها في الوقت نفسه(7).
37-في هذه القصيدة تتردد صورة امرأة مرفوضة وهي عبارة عن فتاة صغيرة يدعوها بلهجة آمرة للعودة إلى أمها وعدم الثقة فيه، لا تحسني بي الظن، ردي مآزرك، لا تتركي المصلوب، لا تتهوري، اربطي متمردا، تفرجي، عودي لأمك.
***
3-سامبا(8)
(1949)(1/21)
قصيدة أصدرها نزار قباني عام 1949 في كراس صغير، وهي تصف الرقصة البرازيلية المعروفة على أنها "قصة رضعت ثدي الخطيئة" ويركز فيها على وصف حركة الجسد، فيجعل النهد، يجرح النجمة، وهو جمر يأكل القميص، ونزق المنقار، وترتبط فيها الحلمة بالدم، ثم يعرج على باقي أعضاء الجسد، من أذرع سمر وبيض وهي يهزها الدفء هزا، وحركة القد الطويل الذي يغمر الأرض عطاء، وحركة السيقان، ثم الجدائل، وحركة الفساتين ثم حركة الجسد ككل، ثم ينتقل إلى تأثير ذلك المشهد على نفسيته، فيذكره بطبيعة بلاده الخلابة، ويتمنى لو كان ذلك العنق مخدة له، ثم يدعو إحداهن أن تدمدم له، فيحس أنه كالقتيل، وأنه يرغب أن يرقص معها إلى أن يتلاشى وتتلاشى معه، ثم يحملان كجنازات الفراش، ويختفيان عن الأنظار، هي في قرميد نجمة، وهو في قطن غيمة.
وعلى الرغم من أن الرقصة معروفة بإثارتها للرغبة وللغريزة، إلا أن قسماً من الحقل المعجمي للقصيدة يكشف عن جو جنائزي حزين لا ينسجم وأجواء الرقصة.
***
4-أنت لي(9)
(1950)
1-أنت لي
2-معجبة
3-تطريز
4-الشقيقتان
5-كيف كان
6-عند الجدار
7-الموعد المزور
8-شباك
9-سر
10-حكاية
11-أثواب
12-تلفون
13-مانيكور
14-الفم المطيب
15-ضحكة
16-أحبك
17-الصليب الذهبي
18-وردة
19-المايوه الأزرق
20-ثوب النوم الوردي
21-نحت
22-خصر
23-هي
24-وشاية
25-أنامل
26-هرة
27-أحمر الشفاه
28-إلى لئيمة
29-حبيبتي
30-نار
31-إلى ضفيرتي ماس
32-ألاغارسون
1-رواية تروى في الضيعة، وهي المرجحة، وهناك استجابة لما يروى، وإعادة نشر الرواية بفم مزقه التبجح، وصارت الرواية لعبة يلهو بها ويمرح، فإن صدقت روايتهم فالنجوم مسرحه، وإن كذبت ففي ظنونه عبق لا يمسح.
لكن الأرجح أنها له وحده، ويشدد على العناصر الأكثر حضوراً وهي : ميسة الزنار، الخاصرة، الموشح، الخال، الشال، الشعر الأسود الطويل، النهد، ويقابل بينها وبينه:
أنت.. ويكفيني أنا/ الغرور والتبجح(1/22)
إنها معادلة: الجمال والغرور والتبجح. أي:
هي = الجمال. هو= الغرور والتبجح.
2-قصيدة على لسان المرأة: المعجبة بشعر الشاعر الذي تغنى بها، فقصائده كعقدها تعيش في صدرها، ومن شعره تكحل عينيها، ومنه تعطر نهديها ولون عينيها وحمرة خديها تستمدهما من أبياته الشعرية التي تدثرها شتاء حين يقسو البرد، ثم تكشف القصيدة عن رغبة الانتشار في كل مكان ودخول كل البيوت:
وحسبك أنك في كل بيت
كسلة ورد..
وتنتهي القصيدة على لسان الشاعر الذي يقابل هذا النسيج الذي جاء على لسان المرأة بوصفه هو مجد الشاعر كله:
كفاني من المجد ... تسبيح
ثغر جميل بحمد.
وتظهر في هذه القصيدة الجمالية متمثلة في : العقد، الكحل، العين، العطر، النهد، الخد الأحمر، الثغر الجميل، الطيب، سلة الورد. إلى جانب عنصر القداسة والطهر: التسبيح، الحمد. فوظيفتها التسبيح بخصاله ووظيفته إنشادها.
3-تصور الوله والحيرة والتساؤل عن حقيقتها، وترتبط هذه الحقيقة بعناصر الطبيعة، كالكرز، والشاطئ، وحفيف الريش، وغنة المطارق، والعناقيد، والشباك، والقمر، والهضاب، والريح، والغصون، والضوء، والسنونو، وتندمج عناصر الطبيعة هذه بعناصر جسدها الجمالية: المخمل، الشال، الناهد، نول من الحرير. وتنتهي القصيدة بالإشارة إلى وجودها قبل وجوده:
وكان.. في الأرض السنا
وكنت- من بعد- أنا
فهي ضوءه الذي ينير دربه ويهديه إلى المجد.
4-ثاني قصيدة على لسان المرأة في هذا الديوان، وهي حوار بين فتاتين تطلب إحداهن من الأخرى مساعدة بتقديمها ما تحتاج إليه من أدوات الزينة على جناح السرعة، لأنها على موعد معه. بيد أن مكان الموعد غير محدد إنه في (شرفات الظن) و(سحابات الرصد).
إنها تصوير للهفة المرأة إلى اللقاء، بيد أن هذا اللقاء لا يتحقق. ما دام مكانه مجهولاً وما دام اسم صاحب الموعد غير معلوم. تكشف هذه القصيدة عن عناصر الجمال متمثلة في : قلم الحمرة، الأصابع، المشط، الحلي، الثوب، الديباج، تسريحة الشعر.(1/23)
5-تصوير للحب الضائع. حب الصبا حيث يضيع المكان ويلفه النسيان، لكن تبقى آثارهما فحيثما رفت خطاهما تفتقت نجمتان، وحيث سال شذاهما تفتقت وردتان، ويشهد الليل على أنهما كانا له شمعدان.
6-تصوير لذكرى لقاء جمعه بفتاة عمرها عشر سنوات، كان اللقاء معها عند جدار البيت، وهذا ما يتردد كذلك في قصيدة تصور العودة إلى مرحلة الطفولة، حيث تبدأ:
عند جدار البيت ذات يوم
أقبلت نحوي تسألين ما اسمي؟
وتنتهي بـ:
يا رحمة الله.. على جدار
لذنا له طفلين ذات يوم
وتحكم القصيدة أربعة عناصر: البيت، الأم، الطفل، الفتاة. الحدث يتم بين الفتى والفتاة عند جدار البيت. وتتدخل الأم لتؤنبه وهي تقول: "يا شقي.. كيف تغشى زاوية الجدار دون علمي؟" فالأم هي التي يجب أن تعطي الإذن للابن للارتماء في أحضان فتاة أخرى غيرها.
والعناصر الجمالية المكونة للقصيدة هي: جدار البيت، الجدائل، صدر كقطعة حرير لم يشم، النجم، الصباح، الوشوشات، الكرم.
7-رغبة في الحصول على موعد تكاد تنطق به شفتاها. لكن ذلك لم يتم لأن فمها شحيح وشفتيها ظالمتان، ومن ثم يتم التركيز على الفم الذي يصوره في ثنائية الراغب في البوح/ وعدم البوح. والذي يريد/ ولا يريد. والذي يراوده/ وينكر إنه فم شحيح، على شطيه يحتضر الوضوح، على شفته حرف مبتهل ذبيح.
8-هي عبارة عن وصف لبيت الحبيبة المهجور، وتحية لشباكها البنفسجي، ودعوةله أن يحرسه العبير. تتضافر عناصر البنفسج، والشحارير، والعوسج، والدير، والسور الرحيم، وأسراب السنونو، والطفلة، لترسم عالم هذا البيت الذي كان راية للحب لم تخطر ببال منسج. وتصور الحنين واللهفة للعودة إليه.(1/24)
9-يمكن أن تختصر هذه القصيدة في جملة، هي أن المرأة التي يحبها سر لا يبوح به، على الرغم من لونه الباهت المنخطف، وجبهته المثلوجة، ومفصله المرتجف. ولكنه حين تدعوه للاعتراف يرسم الكلمة في الظن ولا ينطقها، ويذبح الحرف على ثغره، ويبرر ذلك كون حبه إياها شرف لا ينبغي البوح والاعتراف به حتى وإن منع النور عن عينيه.
10-تصور حكاية فتاة تروي لأمها ما قاله عنها شاب حين كانت تعدو في غابة اللوز: على سالفها زر ورد، ومن قميصها تفلّتت عروة، وأن قميصها جحيم فوق صدرها، وثوبها يقطر نشوة، ومبسمها وريقة توت، وصدرها ثروة، وأن نهديها جدولا نبيذ وقهوة، ودورق رحيق ونور، وهما ربوة تعانق ربوة. وقد أيقظت كلماته غريزة الأنوثة فيها. وراحت هي الأخرى تتأمله، وتتصور صوته الرخيم، وأن بأحداقه بريق النبوة، وأن له جبهة حرة كإنسراح النور، وثغرا فيه اعتداد وقسوة، وأنه يغتصب القبلة اغتصاباً وترضى، بل وتفضل أن يأخذ ثغرها عنوة.
وحين ترد عنه جفونها حياء، ففي ذلك دعوة للحب، وعلى الرغم من طهرها إلا أنها تحس أن لطهرها شهوة.
إن عناصر الطهر، الشهوة، الحياء، الاحتراق، مجامر النار، اغتصاب القبلة، الثغر، السالف، القميص، المبسم، الصدر الثروة، عناصر تنتظم في ثنائية الطهر والدنس، حيث يظهر ذلك في مقابلة الرجل بالمرأة. فالمرأة هنا كلها رغبة وشهوة بيد أن ذلك لم يتحقق لها إذ لم تحدث الاستجابة من الآخر. وبقيت محترقة لتعلن في نهاية القصيدة أن ذلك سمة لاصقة بالمرأة:
أنت.. لن تنكري علي احتراقي
كلنا. في مجامر النار.. نسوة.
11-القصيدة عبارة عن حديث عن غائبة، يستحضر ألوان أثوابها، التي تجري في تفكيره جري البيادر في ذهن العصافير. والأيام التي جمعتهما بحجرتها يتمثلها وكأنها أساطير، ويتذكر خزانتها التي امتلأت بكل الألوان من الثياب ويضع قائمتها وتتمثل في:
1-رافعة للنهد زاهية
2-رداء بلون الوجد مسعور
3-قميص كشيف الكم مغتلم
4-وشاح هريق الطيب مخمور(1/25)
ثم تساءل عن مصيرها بعد الذي كان، وعن مصير أشيائها، يتساءل عن المخادع هل هي كسالفها لا زالت تزهو بكل لطيف الوشي منظور، وهل منامتها الصفراء ما برحت تفتر عن طيب الأنفاس، وهل هي لا زالت هاجمة النهدين، وهل نسي صدرها الطفل مواسمه، وهل حلمتاها لا زالتا على صدرها قطرتي نور.
وأين ذلك الشعر الطويل الذي كان يطويه وينشر منفلته وضفائره حين كانت المخدات سابحة بالأشواق، وهما في حالة انتشاء أو سكر. ثم يختمها بقوله:
أهفو إلى طيب الجاري.. كما اجتمعت
كل المنابع أعناق الشحارير..
فالقصيدة إذن، عبارة عن استعادة لذكرى لقاء جمع اثنين، رجلاً وامرأة في غرفتها، والعناصر المستحضرة هنا يمكن أن ترتب حسب أهميتها في الذاكرة وتداعياتها.
أولا: إن قصيدة تحمل عنوان "أثواب"، فأثوابها، انطلاقاً من العنوان، تأخذ بعدا دلالياً مهما: فليس المهم اللقاء في حد ذاته، وليس المهم المرأة في حد ذاتها بوصفها جسداً أنثوياً له قيمته الشبقية حين كانا في الغرفة، إنما المهم عنده هو، ما يتزين به هذا الجسد من أثواب فهي التي تجري بتفكيره وليس شيئاً آخر.
ثانياً: إن الأيام التي جمعتهما في غرفتها لا تأخذ بعد الزمان الواقعي إنما تأخذ بعد الزمن النفسي المتخيل فهي عبارة عن "أساطير الأساطير"، فما حدث بين الاثنين تم على مستوى الخيال والوهم.
ثالثاً كل ما يستحضره من هذا الزمن الغابر ومن فضاء الغرفة التي جمعتهما هو خزانة أثوابها، وما لفت نظره من تلك الأثواب التي تملأ الخزانة حسب أهميتها في الترتيب هي: (رافعة النهدين، الرداء، القميص، الوشاح). ثم تستدعي هذه العناصر تداعيات تالية تتمثل في المخادع، المنامة الصفراء، النهدين، الصدر الطفل، الحلمتين، الشعر، المخدات.
من خلال ما سبق نستنتج ثلاثة عناصر مفاتيح هي:
1-ذكرى لا زمن لها.
2-علاقة بين رجل وامرأة، ولكنها علاقة تكشف عن براءة وطهر.
3-حضور الطفولة بشكل مكثف.(1/26)
12-تتحدث هذه القصيدة عن مكالمة هاتفية من امرأة لثغاء، صوتها همس دفء وحنان، ونغمة، وقيثار، حنجرتها رائقة تزقزق كالوتر الراجف في مسمعه، بيد أن هذا العنصر المثير (الهمسة الحلوة) يقابل بالخوف (دمي للموعد الخائف) بل إن صاحبة الميعاد مجهولة):
من صاحب الميعاد؟ مجهولة
تمثلت كالحلم الطائف ...
وبديهي أن يرفض اللقاء ويجد تبريره في كونه:
التقينا قبل أن نلتقي
على شريط، دافئ، عاطفي
ومن ثم فلا داعي للقاء، وإذا ما رغبت في ذلك ليلة حين تكون وحيدة فالهاتف وسيلة للقاء.
إن المرأة مجهولة، وهي التي تريد أن تلتقي به، ولكنه لا يستجيب لذلك. إن القصيدة تحمل عنوان تلفون، وهي مهتمة بعالم الصوت، لكن الذهن هنا يستحضر عبر الصوت: الموعد الخائف، الفم الحنون، رائحة القميص، السالف، الصدر العاصف.
13-تهتم هذه القصيدة بتسوية المرأة لأظافرها وتجميلها بالصبغ. وهي تهتم بالحركة أكثر من اهتمامها بالأظافر، يدل على ذلك الأفعال الآتية: (قامت، استلت، ينحت، غرد، يحصد، يأكل، تترك، تفرز).
وفي القصيدة بيت له دلالة رمزية:
عشر شموع أوقدت
في معبد عتيق
فالعدد عشرة، والشموع، والمعبد العتيق، تذكرنا بقصيدة عند الجدار السابقة حين يتحدث عن أعوامها العشرة.
إن تجميل الأظافر بوصفها عنصرا جمالياً في جسد المرأة، سرعان ما يتحول في نهاية القصيدة إلى كائن منفصل عنها يناديه، يحاوره ويستعطفه ويطلب منه أن يحافظ على العهد إن أخلفت هي وعدها يوما ونسيت فضله عليها، فعليه أن يذكرها بأنه (الظفر) قد رضع من عروقه:
يا ظفر، يا وردي، يا
سجادة العقيق
إن كفرت سيدتي
بعهدي الوثيق
فقل لها إنك قد
رضعت من عروقي(1/27)
14-يثير فمها المطيب عواطف متباينة، فمنه ينبع مغرب، وقد نام صغيرا مثلما يرقد طفل متعب، وهو يعاتبه، وعلى ضفافه يصلي وعد هوى معذب يبكي. وأن كل ذرة منه انتظار مرعب. وهو مخلب لولا أنه في وجهها البريء، إن الطفل المتعب والوعد المعذب، والانتظار المرعب، والمخلب تعطي بعدا نفسياً آخر لهذا الفم المطيب، إنه بعد الخوف والرهبة.
15-هذه القصيدة التي ترتبط كذلك بالفم، والتي تأخذ عنوان "ضحكة"، تلك الضحكة المصورة على أنها موسيقى، سرعان ما يتحول ذلك الصوت وتصبح له أنامل تمزقه:
أنامل صوتك الزرقاء
تمعن في تمزيقا
16-تؤكد هذه القصيدة مقولة مفادها أن الحب رغبة في التخلص مما يضر الذات ويتبادل الضميران : أنت/ أنا الأدوار:
أحبك- حتى يتم انطفائي
... ... إلى أن أغيب رويدا رويدا
... ... إلى أن أحس بأنك بعضي، وظنوني، وردائي
أحبك- لكنني غيبوبة لا تفيق
أنا عطش يستحيل ارتوائي
أنا= أنت
إذن: (إذا ما أحبك.. نفسي أحب)
17-تكشف هذه القصيدة عن ثنائية عجيبة في علاقة الرجل بالمرأة فهي حين تدعوه لا يستجيب لدعوتها، ولكنها حين تزهد يدعوها للاستجابة لرغبته:
ترهبت لدعوتها، ولكنها حين تزهد يدعوها للاستجابة لرغبته:
ترهبت في عمر الورود.. ومن له
براءة هذا الوجه.. هل يتقشف
...
فلا تمنعي أجري.. وأنت جميلة
ولا تقطعي حبلي .. ودينك ينصف
إن توظيف الصليب هنا بوصفه رمزاً دينياً له قداسته وبعده الروحي، وعلى الرغم من أن القصيدة تحمل عنوان (الصليب الذهبي) إلا أن هذا العنصر ليس له قيمة في حد ذاته وإنما هو مجرد وسيلة للدخول إلى عالم الجسد، إنه نقطة نور بين نهديها، وأنه على قالبي شمع يمد بساطه، ويرشف من دورقي ماس، وهو وإن تدلى كعنقود اللهيب، إلا أن المساحة التي حوله محطة للأماني، وما تحته حرير وأضواء وورد منتف. والقصيدة انتصار للمادي على الروحي.(1/28)
18-اللافت للنظر في هذه القصيدة أن الهدية التي بعثت بها الحبيبة تتمثل في وردة، وهي عنوان القصيدة، وهذه الهدية أرسلت مع الخادم التي خبأتها في صدرها، وعدتها سراً أحمر لا يجب أن تعلم به حتى حلمتها. وعد هذه الهدية فضلا يمكن أن يرده ذات يوم إذا تحول قلبه وردة، فالمرسل هو المرأة، والمرسل إليه هو الرجل (الشاعر) والرسالة (الوردة) وهذه الرسالة تتحول إلى قبلة مرسلها الشاعر ومستقبلها المرأة، بيد أن هذه القبلة تنقلها الخادمة. فالمرأة هنا غائبة، والعلاقة بين المرأة والرجل هنا علاقة غير مباشرة.
19-تهتم هذه القصيدة كما تبدو من عنوانها "المايوه الأزرق" بالمستحمة مرة أخرى، بيد أن حركة الجسد هنا لا تأخذ مكانها في القصيدة، على الرغم من وصفه لهذه المرأة في مايوه سباحة، ولم يركز على العناصر الجمالية التي يتكون منها الجسد الأنثوي شبه العاري، إذ أننا لا نجد في هذا الجسد سوى الساقين، والنهد الراعش المنقار.
20-في قصيدة "أثواب" إشارة إلى المنامة الصفراء، وفي هذه القصيدة "ثوب النوم الوردي" يجعله على أنه أغوى فساتينها، وأنه بردة مطيبة، ذات التطاريز والطرة المقصبة، والذيل والرسوم والزركشة. والمرأة هنا حاضرة في غرفته بعد أن كان في قصيدة سابقة في غرفتها. وينتقل من ثوب النوم إلى الجسد، وفي هذا الجسد نجد الشعر الطويل، والقدم الصغيرة بأصابعها العاجية، بيد أن سرعان ما يعود إلى الحديث عن المنامة. وعلى الرغم من أن المرأة التي يتحدث عنها حاضرة في غرفته إلا أننا لا نحس بحضورها، فالقصيدة تبدو وكأنها تتحدث عن جسد غائب أو مستحضر في المخيلة فقط.(1/29)
21-تتحدث هذه القصيدة عن المرأة التي صنعها الشاعر والتي تريد إنكار صنيعه. ومن هنا جاء عنوان القصيدة "نحت"، وكأنه يريد أن يقول لنا إنه لا وجود لامرأة واقعية في قصائدي، هناك منحوتات أقوم بنحتها، وهناك لوحات أقوم برسمها، وهناك تماثيل أقوم بصقلها، فهو، إذن، صانع أشكال وألوان. ولذلك تأخذ المرأة في كل مرة شكلاً ولوناً جديدين:
..ومن جعدة المخمل
ودمدمة المغول
جبلتك إبريق طيب
على العمر لم يجبل
وحركت نهدك شمساً تدور
فهل أنت لي؟
وزرعت النجيمات في ناظريك
ولم أبخل..
أنا من هديت الرياح
إلى شعرك المرسل.
وحين اكتملت .. ذهلت..
عن الصانع الأول.
22-في هذه القصيدة وصف للخصر وقيمته الجمالية في جسد المرأة. ولكن الصدر يحضر هنا، وكأنه لا يستطيع أن يتحدث عن جزء في جسدها دون أن يقفز إلى صدرها، على الرغم من أن القصيدة كما يبدو من عنوانها (خصر) مخصصة لجزء من هذا الجسد دون سواه، وتكشف هذه القصيدة عن أن النهد هاجس واستعارة ملحة تفرض نفسها في كل نص.
23-"هي" عنوان القصيدة، وهي تعني الغياب. إنها غائبة وهي عبارة عن طيف وذكرى، والشاهد على هذه الغائبة هو الطبيعة: النسمة الحافية، والغروب والغاب، والوردة، فالنسمة لمحتها تعدو على الرابية، أو هي كأحلى ما يكون الصبا، وشاحها الشباب والعافية، مقلتها هدباء، ولونها من عزة البادية.ونهدها فلقة تفاحة وثغرها تنفس الخابية. وعند الغروب شاهدها تبعثر النجوم في الساقية. وأكد العصفور أن فراشها كان من ورق الدالية، وقالت الغابة عنها إنها مرت من هنا وانطلقت من هذه الناحية، واعترفت الوردة أنها كانت معها وأنها قطعت غلالتها القانية، واستقطرت من سائلها دمعة ولونت حلمتها النامية.(1/30)
أما الطيب، والريح، والغمامة الباكية، والسفح والضياء، والمنحنى، والليل، والنجمة، والراعية،والذرى والكون ودموع الليلة الشاتية فلم تشر إلى، أي أثر لها. ومن هنا كان لا بد من العودة إلى الذات، إلى الداخل بدل الخارج، فهي كموضوع لا وجود لها، وهي ككيان مستقل لا يمكن أن توجد، ومن هنا لا بد من البحث عنها داخل الذات، إذ لا وجود لها خارج الأنا. وهي الفكرة نفسها التي سبقت الإشارة إليها في قصيدة "أحبك". فليبحث عنها، إذن، في أناه، وسيعثر عليها:
حتى إذا عدت إلى مخدعي
محطماً، أجر أقداميه
سمعت قلبي من خلال الدجى
يضحك مني ضحكة عالية
وكان.. أن رأيتها تختبي
من جنبي الأيسر.. في الزاوية
24-يستمر حضور عناصر الطبيعة في هذه القصيدة، مثل ما كانت حاضرة في القصيدة السابقة (هي)، وهي في هذه المرة تشاركهما بعد أن تنقل إليها أخبارهما، وهذه العناصر تتمثل في : العصافير، النحل، الورد، الفراش، الطيب.
فالعصافير راحت تدق شباكهما بمناقيرها، وتغرق مضجعهما زقزقات، وتغمر بالقش أبوابهما. والنحل راح يقاسمهما دارهما، والورد يتدلى ويزركش بالنور جدران بيتهما. والفراش راح يلاحق آثارهما. والطيب عرف ميعادهما ومن ثم سيفضحهما العبير.
إن هذه القصيدة تكرس رفض البوح بالعلاقة القائمة بين الرجل والمرأة، إذ عد البوح بها "وشاية" وأن معرفة الآخرين لهذه العلاقة يعد فضيحة، فلتبق، إذن، هذه العلاقة سراً غير قابل للبوح.
25-الأنامل شموع موقدة، والمرأة هنا هي التي تتباهى بهذه الشموع حيث تسأل الطرف الثاني (الرجل): هل رأيت أرشق من أصابعي منظرا؟ لكنه لا يجيب. ثم تدعوه إلى أن ينظر يدها (أنظر يدي)، ولكنه لا يرى، وهنا لا بد من تأكيد جمالها:
معي يد جميلة
تغزل شمعا
يد غدير فضة
من النجوم قطرا
أنهار ماس، أنامل كأضلع البيان ...
وأمام هذا الإغراء تأتي الاستجابة لكن بطلب غريب:
أرجوك .. ردي مخلبا
عني.. غميسا أحمرا..
أخاف.. إن جن الهوى
أن تشهريه خنجرا..(1/31)
وهكذا تتحول الأنامل الجميلة في نهاية القصيدة إلى مخالب مخيفة.
26-هذه القصيدة التي هي وصف للهرة فعنوانها "هرة" وهي استعارة للمرأة، تكشف عن ثنائية الحب والكراهية كما يبدو ذلك من مطلعها:
أكرهها .. وأشتهي وصلها
وإنني أحب كرهي لها..
وتؤكد نهاية القصيدة الفكرة نفسها:
يحبها حقدي. ويا طالما
وددت إن طوقتها .. قتلتها.
اللوم في عينيها، الزور في قولها، الكذبة في ثغرها، عينيها كعين الذئب محتالة، وحولها تطوف أكاذيب الهوى، أحداقها سكنها الشيطان، والشهوة أطفأت عقلها، عناقها كسر أضلع، وقبلاتها إفراغ غل، تشرح لك بأنها باكية فإن ترفقت بها استكبرت. فهي، إذن، محبوبة ومرهوبة.
27-أحمر الشفاه هو شفيعه عندها مثل ما هو شفيعه في قصيدة (مانيكور).
...
يرضع حرف مخمل
تقبيله صلاه.
...
بغزل نصف مغرب
كأنه إله..
...
أنت شفيعي عندها
يا أحمر الشفاه ...
الرضاعة ، الشفاه، طعام، الرزق، الرفاه، عناصر تشكل بعدا نفسياً للقصيدة بأجواء طفولية.
28-تكشف هذه القصيدة عن حقد إزاء المرأة ومن ثم فهي قصيدة هجاء، إنها لئيمة، ورسائلها وثائق اعتراف، ويمكن استخدامها للانتقام منها في أي لحظة. ومن هنا يستحيل أن ينالها غيره.
29-تتحدث هذه القصيدة عن الحبيب، كما يبدو من عنوانها "حبيبي"، ومطلعها: (لا تسألوني .. ما اسمه حبيبي). والحبيب هنا يجمع بين الذكر والأنثى، فالعنوان والمطلع يدلان على الذكر، أما باقي القصيدة فيدل على الأنثى لأنه استعار صفات الحبيبة الجمالية للحبيب، (صدره ، نحره، ثغره، خصره، ضوعة الطيوب، زق العبير)
ثغره أناقة المغيب
مقلتاه شاطئا نقاء
خصره تهزهز القضيب
صدره ...
نحره ...
وتعود مرة أخرى الحبيبة / الطبيعة مثل ما رأينا ذلك في قصيدة "هي"، لكن هناك يعثر عليها في أناه، أما هنا فيطردها خارج أناه:
لا تبحثوا عنها هنا بصدري
تركته يجري مع الغروب(1/32)
ويمكن رؤيته في ضحكة السواقي، وفي رقة الفراشة اللعوب، وفي البحر، وفي الشتاء، وفي عطاء الديمة السكوب، واسمه سر لا ينبغي البوح به.
30-استعار في هذه القصيدة لسان المرأة، التي تدعوه إلى احتضانها وضمها، وكسر عظامها والتهام مبسمها، وكسر ضلوعها، والنوم فوق شعرها، وتوسد رخام صدرها الرضيع.
واللافت للنظر هنا أنها في "هرة" هي التي تكسر أضلعه، أما هنا فهي التي تدعوه لكسر أضلعها.
31-كانت مضطجعة، وكانت مثيرة، إلا أن هذه الإثارة لم تكن دافعاً للحديث عن جمال جسدها، بل حول اهتمامه عنها وراح يتحدث عنه بدلاً من الحديث عنها:
يظلمني الماس، حولي عرائش وخضرة وزرع، متكأي خزانتا لآل، ثروتي جواهر وشمع. يأخذ جفني مقلعا رخام، أنا على مجرى الثلوج قلع، المدرج العاجي بانتظاري، لي عنده خميلة ونبع. تضحك لي.
كل ما فيها مثير ينتظر منه الاستجابة، ولكن تنتهي القصيدة بالقول إن هذا الجسد بكل ما يحمله من جمال تحت ذلك الرداء المصفق ما هو إلا ضلع واحد منه. وأن تحت ثيابه لؤلؤ مشع:
أنا عناقيد الزجاج.. حسبي
تحت تصفيف الرداء ضلع
لا تأبهي لي.. إنني بركن
ملء ثيابي لؤلؤ مشع ...
32-قصت شعرها ففجعته بأعز ما عنده، تكشف هذه القصيدة عن قيمة الشعر، الذي عده كائناً حيا ظل يرعاه وفجأة ضاع جهده وذهب هباء منثوراً عندما قصته.
فهو: جدار شذا تهدم، ونول تكسر، وضحكات مروحة، ومظلات العبير، وستار مخملي، وسقفه، وبستانه، ومدفأته، وفراشه المجدول من ورد، ومظلته السوداء التي تحجب عنه الشموس، وتهدهد وجده.(1/33)
وأنه من زرع يده، وأنه ظل يسقيه ويطعمه ويذره، ويلم بالشفتين عتمته، ويريح فوق سواده خده، ويفرشه ليلاً على كبده، وسبله، وجدل مخمله، وكحله بمكاحل السهد حتى اندفعت غدائره نهرا من الكافور والرند، لكن صاحبته لا تعرف قيمته فهي بلهاء، شاحبة الجبين، ميتة، ومن هنا لا يمكن أن يقيم علاقة مع امرأة لا تحمل على كتفها شعرا كثيفاً طويلا أسود، بل إن الشعر ليختزل جسد المرأة كله:
لا تقربيني.. أنت ميتة
إن السوالف، مجدها مجدي.
بل أن الشعر المقصوص يلغي عناصر الأنوثة في المرأة كلها، وأبرز عنصر يلغيه نهدها:
حل الشتاء بكل زاوية
فالثلج عند مفاتق النهد
تكشف هذه القصيدة عن معادلة مفادها أن الشعر يساوي النهد من حيث القيمة الجمالية في جسد المرأة، وكأن الأنوثة عنده شعر ونهد.
***
5-قصائد (10)
(1956)
1-رسالة حب صغيرة
2-مع جريدة
3-22 نيسان
4-كريستيان ديور
5-لماذا؟
6-عودة أيلول
7-يا بيتها
8-العقدة الخضراء
9-كم الدانتيل
10-عيد ميلادها
11-عندنا
12-بيتي
13-ساعي البريد
14-إلى عينين شماليتين
15-القميص الأبيض
16-رحلة في العيون الزرق
17-رباط العنق الأخضر
18-المدخنة الجميلة
19-إلى صديقة جديدة
20-مشبوهة الشفتين
21-إلى ساذجة
22-إلى ميتة
23-عودة التنورة المزركشة
24-الجورب المقطوع
25-نفاق
26-رسائل لم تكتب لها
27-طوق الياسمين
28-لن تطفئي مجدي
29-وجودية
30-رسالة من سيدة حاقدة
31-عند واحدة
32-حبلى
33-أوعية الصديد
34- إلى أجيرة
35- شمع
36-القصيدة الشريرة
37-أبي
38-قصة راشيل شوارنبرغ
39-خبز وحشيش وقمر
1-تشير إلى امرأة مرغوبة، لكنها ليست شيئاً بدون وهمه، فهي التي جعلت حروفه شرانق للحرير. إلا أنها لن تصبح كبيرة إلا بحبه، والأرض تستمد جمالها من جمال عينيها، تمتزج مرة أخرى المرأة بالطبيعة، وتتكرر كلمات اللوز، النجوم، والفم النبيذي.(1/34)
2-امرأة معجبة بالطرف الآخر لكنه يغيب عنها، ولا يتحقق اللقاء وهي قصيدة استعار فيها الشاعر لسان المرأة(11)، يجلس أمامها رجل في المقهى دون أن يعطيها أي اهتمام، يتناول قهوته وينصرف تاركاً إياها في اضطراب وحيرة.
3-وصف لعيني امرأة، ترددت فيها كلمة عين تسع مرات على الرغم من أن عنوانها يبدو وكأنه يتحدث عن يوم من أيام نيسان، تظهر العين في كل مرة حاملة لمعنى، فهي مرة بها ألوف الصور، ومرة أخرى يعادل ضوءها ضوء القمر أو أن فيها مرايا اشتعلت وبحاراً ولدت منها، ولكنهما مرة أخرى من صنع الشاعر بل هما إياه، وجد قبلهما، و أنه هو الذي بعثر فيها نجومه، وما المصابيح التي تغلي على فتحتي عينيها إلا فكره.
يظهر مرة أخرى الشاعر وهو يكشف عن جمال المرأة، لكنه سرعان ما يسلب منها هذا الجمال ليؤكد أنه من صنعه، وما دام ذلك كذلك فمن حقه أن يسلبه منها في أية لحظة.
وتتكرر مرة أخرى دراما الشاعر الباحث عن مرفأ يرسو فيه، الرافض البوح بسر علاقته بالمرأة (إنني أعبد عينيك.. فلا /تنبئ الليل بهذا الخبر..) وتتكرر بعض مفردات معجمه المألوفة: (نجوم يبعثرها، الشال، اللون الأخضر).
4-قصيدة أخرى على لسان المرأة ترجوه أن يلتفت إليها، فهي لم تتزين إلا من أجله وفيها إشارة إلى الأمومة، وهي تمد له ذراعها لتستقبله، وتطلب منه أن يلتفت إليها، وتذكره بصدرها كم دلله في الماضي، وكم صنعت له الجو ريحاً وراحاً وأنه إن لبى دعوتها وأتى إليها فستبنى على فلة منزله. وهنا نلاحظ نكوصاً إلى مرحلة الطفولة وإلى البيت القديم.(1/35)
5-قصيدة أخرى على لسان المرأة تصور علاقة بين رجل وامرأة لم تستمر وتلوم الطرف الثاني الذي تخلى عنها وتحاول أن تظفر منه بجواب يطفئ حرقة الأسئلة ولذلك تكررت أداة الاستفهام "لماذا" في القصيدة ثماني مرات وهي عنوان القصيدة وبها اختتمت القصيدة. وتتكرر فيها بعض عناصر معجمه القديم (سور الحديقة، النجوم، اللون الأخضر، الزرع والحقول، السنونو، البنفسج، حوض المياه).
6-قصيدة أخرى على لسان المرأة، وتتضمن دعوة الرجل للاستجابة إلى توسلاتها، وإغراءاتها، فكلها دفء وشوق إلى أحضانه. وفي القصيدة نجد معجمه السابق تتكرر منه بعض العناصر: (الأم، الحلمة، الصبيان، الورد، الزنار، الأقمار، النجمات يحشرها في خاطر السلة، اللون الأخضر).
7-تصور حنيناً إلى بيتها، الذي يبدو في آخر الدنيا، بل ضائعاً في الأرض، وبحرف النداء (يا بيتها) يكشف عن بعد المسافة، ولعل البيت هنا هو بيت صباه، بيت الماضي.
8-عبارة عن نداء لمجهولة غامضة غير محددة الملامح والقصيدة تبدو بدون موضوع محدد، على عكس القصائد السابقة كلها، فالعقدة الخضراء التي هي عنوان القصيدة لا تشير إلى شيء حقيقي ولا تكشف عن مرموزها، فهو يناديها يا نهاري، يا رحلة في الطيب لا ينتهي، يا قلوع الصحو التي أخجلت بالخفق غرور البحار، وشباك البيت يصفق لها عندما تمر ويسعى الستار، وفي ظلها تختبئ النحلات. وهي حكاية في القرية تحكى، وهي طيب مثار.
ولا تكشف الذات الشاعرة إلا عن النجيمات التي تنهمر عليها، ويدعوها إن طلعت قبل الشمس أن تتوقف عند بابه للم الأزرار، فللقرميد يد، وكل شباك في الدار انتظار. ولعلنا نكتشف مفتاح السر من خلال بعض الجمل مثل:
(تختبئ النحلات في ظلها/ تظن فيها كرمة أو جدار/ يعضها الحسون.. في جريه فبينها وبينه ألف ثار:
رحلة في الطيب لا تنتهي، قرميد الدار، الشباك.
النجيمات على انهمار.
إن هذه القصيدة تشبه أبيات المعاني عند القدماء، فهي قصيدة رمزية.(1/36)
9-لم تصف هذه القصيدة "كم الدانتيل" كما يبدو من عنوانها وإنما هي عبارة عن نداءات لكائن حي ثرثار، يطلب منه أن يرفه عن الدنيا ولا يبخل وأن ينقط الثلج على جرحنا، فهو شفة تفتيحها ممكن ولكنه، أيضاً، سؤال لم يسأل بعد. إن تحرك فحركته وسط جوقة من السنونو.
وينتقل من الكم إلى مفاتن الجسد الشبقي المثير الذي حوله في لحظة من حريق إلى جدول ومساند التفاح، والزنبق الأسود: شرانق الحرير والريح الشرقية والقمر الأسود الندى. ويمتزج كل ذلك ليرسم صورة لروعة الروعة، لمخمل يصلي على مخمل. ذهول يحول الكم إلى كائن حي، ثم إلى عنصر جمالي يضفي عليه قداسة.
10-حيرة وتردد مردهما البحث عن هدية يقدمها لها في عيد ميلادها ويستعرض قائمة الهدايا الممكنة: خاتم، باقة ورد، أحزمة من سوسن، نجمة مقيمة في وطنه، حق غريب العبق، آنية مسحورة. ولكنه لا يستقر على واحدة منها، ويتمنى لو كان بيده فرقد، ودر، وزمرد، لفصلها جميعاً رافعة لنهدها ومحبساً لزندها. ويلاحظ هنا تكرير مفردات معجمه مرة أخرى.
11-قصيدة تتغنى بالوطن واصفة جماله الطبيعي، ولكن هناك إشارة إلى عنصرين مهمين في التحليل هما: الجذع العتيق، والسقف الذي يرشح رصداً من جهة، واختزال الوطن في شرفة صحو وميناء، وشعاع، وأنه من زرقة الحلم مصنوع من جهة ثانية.
12-قصيدة "بيتي" هي أحد المفاتيح السحرية الثمينة في هذا الديوان، (سقف منزلنا اختفى-حرسته خمس صنوبرات، انزوى، تصوف، لبس الثلوج عباءة، لبس الزوابع معطفاً، الطيب حدوده، حدوده غيمة عابرة، وجنح مرفرف، فلا مات الوفاء. قرميده حضن المواويل الجريحة، قطع الحصى في أرضه أحرف من ضوء. وهي عناصر ترسم استحضار البيت عبر الذاكرة؛ وتنتهي القصيدة بالحديث عن الذات التي تستحضر هذا البيت، وتركز على نقطتين لهما أثرهما الكبير من الناحية النفسية وهما: النجوم التي تدخل عليه، وشال الحرير:
كم نجمة دخلت علي
تظن عندي متحفا ..
تركت بسور حديقتي(1/37)
شال الحرير منتفا.
13-ما ينتظره من ساعي البريد مجرد سراب وحروف من ضباب، وفي القصيدة حديث عن المنزل وشجيرة النارنج، ويربط بين البيت والنجوم مرة أخرى:
عنوان منزلنا.. المغمس بالسحاب
عنواننا..
عند النجوم الحافيات..
على الهضاب.
14-يتكرر في هذه القصيدة معجم الشاعر: أفق نجماته نزلت تطوق الشاعر. العيون الخضر، الجنينة الخضراء الضاحكة التي تزرعه على حدود النجم، الكروم العارشة القلوع الخضر، الدرب الضائع أو الراحة في الضياع، البيت، البيدر، شجيرة النارنج.
ومن خلال استحضار هذا المعجم ترتسم معالم البيت ومعالم الوطن فتمتزج المرأة بالبيت وبالوطن، ويدرك أن ما يعبده بعينيها هو وطنه:
بيتي.. وبيت أبي.. وبيدرنا
وشجيرة النارنج تحضنني
تاهت بعينيها وما علمت
أني عبدت بعينها وطني.
15-قصيدة على لسان المرأة، وتتضمن دعوة الشاعر إلى دغدغة غرورها من خلال جمال الفستان: (يا بخيل، أ أنت الحنون؟ أأنت الوفي؟. يا جاحد الطيب، دغدغ غروري)، ويستجيب الشاعر لذلك: (تبارك هذا القميص، ملأت ظنوني، سرقت نهار عيوني). ولكنه سرعان ما يتذكر أشياء أخرى، فيدخل في علاقة مع القميص الذي يذكره بجمال بلاده وينسى صاحبة القميص.
تذكرت تفاحة عندنا
إذا أزهرت أمطرتنا حلي
صباح الأصابيح أنت، توالد
نجوماً، أيا غصن لوز صبي
على حجر العين.. صفق قميصا
نقياً.. كوجه بلادي النقي.
فالقميص يذكره بالبيت، والبيت يذكره بالوطن، ويكشف هذا التذكر عن معجم لا علاقة له بالقميص منطقياً، ولكن له دلالة نفسية، إذا ما نظرنا إليه في علاقاته مع مفردات معجم القصائد الأخرى. ويتمثل هذا المعجم في: التفاحة التي تمطر حلياً عندما تزهر، والقميص الذي يتحول إلى غصن لوز يتوالد نجوماً.(1/38)
16-القصيدة وصف لانبهاره بالعيون الزرق، ويحمله لونهما في رحلة تذكر تعيده عبر الزمن النفسي قروناً إلى الوراء. ويكشف هذا التذكر عن معجم يتمثل في: سفن من ظنون، وضمير من الياسمين، والإبحار في النجوم، وتكوين جزر وإغراق جزر، والبحر. وهو معجم يكشف عن ثوابت معجمية تقودنا حتماً إلى دلالة واحدة.
17-القصيدة وصف لمشاعره إزاء هديتها (رباط العنق) بيد أن ربطة العنق هذه خضراء اللون، وهي من فصل الربيع المونق، وغروره غرور طائر مزوق. ومن الربيع، والطائر إلى فراشة كبرى هوت على غدير تستقي، وجناحها أغرب من أسطورة لم تحلق، إلى رياح يدعوها للتصفيق إلى نجوم يدعوها للتحديق. فانظر كيف انتقل من هديتها إلى استجابة الطبيعة كلها لهذه الالتفاتة التي صدرت عنها.
18-القصيدة وصف للعناصر الجمالية في جسد مدخّنة جميلة، من أصابع وأظافر، وشفاه حمر، وثغر، وعيون، وشعر، ونهد، ثم يحاول من خلال الإشارة إلى عناصر الجمال في جسدها وعبر سيجارتها أن يدخل إلى عالمها الداخلي، وأن يكتشف سر تدخينها بهذه الطريقة وبهذه السرعة اللافتة للنظر. ولكنه يتوقف عند إسداء النصح لها كونها ينبغي أن تحافظ على جمالها، وأنها ما دامت صغيرة وحسناء ونهدها في مجده، فالعالم في عينيها يحتار، وأنها نوارة وأغنى أساطيره، فعلام الأسى، إذن، والأرض كلها أنوار وموسيقى وربيع.
19-قصيدة تتحدث عن صديقة جديدة، في شكل رسالة إليها كما يظهر من عنوانها، إلى (صديقة جديدة)، ويبدو في هذه القصيدة معجم جديد غير المعجم المألوف. وإن كان يتقاطع من حيث المعنى العام مع ما ورد في كثير من القصائد، خاصة تلك المتعلقة بهجاء المرأة، ويمكن أن نلخص هذا المعجم فيما يلي:
((1/39)
ودعتك، وعدت، كتبت عن عينيك ألف شيء، أشياء بدون معنى مكتوبة بنور، من أنت؟ من رماك في طريقي؟ من حرك المياه في جذوري؟ كان قلبي مقبرة ميتة الزهور، أضعت تاريخي، أنت بغير تاريخ ولا مصير، أريد أن أقيك من ضلالي، من عالمي المسمم، أنا بكل سيئاتي لن تجدي أطهر من شروري، جربي أختاه أن تثوري).
ومن خلال هذا المعجم تظهر العناصر التالية أكثر إلحاحاً: الزهور، المقبرة، الميتة، الوداع. وهذه العناصر لا تنسجم، بالتأكيد مع موضوع القصيدة الصديقة الجديدة، ومن ثم فهي قد تكشف عن أمور أخرى عندما ننضدها مع باقي القصائد.
20-القصيدة تتغنى بجمال الشفتين، ومن خلال العنوان (مشبوهة الشفتين) الذي تكرر في مطلع المقطع الأول منها ومعجمها يتلخص فيما يلي: (مشبوهة الشفتين، الموعد المكبوت، شفتان معصيتان، يرشح منها الياقوت، الشفاه الصابرات، كرز الحديقة عندنا متتفخ، قبلة في جرحه. شفتان للتدمير، بهما سعدت وألف ألف شقيت. شفتان مقبرتان، في كل شطر أحمر تابوت، شفة كآبار النبيذ، الفلقة العليا دعاء، الفلقة السفلى دفء، أموت).
إن العناصر المكونة لمعجم هذه القصيدة لا يختلف كثيراً عن عناصر معجم القصيدة السابقة، حيث تصب كلها في حقل الموت والفناء.
21-يرسم الشاعر هنا صورة للتعارض القائم بين المرفوض والمرغوب في المرأة، الصورة الأولى الساذجة المرفوضة، وملامحها يحددها المعجم التالي:
ساذجة، طيبة، بسيطة بساطة الأطفال حين يلعبون، عيناها بحيرتا سكون، فارغة العيون، نقية كاللؤلؤة، باردة كاللؤلؤة، ليست امرأة، عادية الشفاه، ميتة الشفاه، ذات عيون مطفأة، طيبة كالأرنب الوديع، كالشمع، كالربيع، هامدة كالموت، كالصقيع.
أما المرغوبة المبحوث عنها فيحدد ملامحها هذا المعجم: أبحث عن الصلات المتعبة، الشفاه المخطئة، شفة تأكلني قبل أن تلمسني، أعين أمطارها سوداء لا تتركيني أرتاح، أضيق بالربيع، السير على الصقيع يتعبني، يرهقني.(1/40)
لكن القصيدة تنتهي دون أن يستقر لا على الأنموذج الأول ولا على الثاني، وبخطاب عام يقول:
وودت يا سيدتي
لو كنت أستطيع
حبك يا سيدتي
لو كنت أستطيع..
وهكذا يستقر على أنموذج مفقود هو أنموذج الذاكرة والوهم والخيال، وقد ترددت لفظة العين في هذه المقطوعة خمس مرات، لا كعنصر جمالي في الجسد الأنثوي بل تشير إلى الفراغ والسكون والانطفاء والموت، إلى جانب الكلمات التي تشير إلى الموت صراحة هامدة، كالموت، ميتة الشفاه.
22-إن هذه القصيدة الرسالة على عكس الرسائل الأخرى مرسلة إلى ميتة كما يبدو من عنوانها، وهي تصوير لنهاية قصة العلاقة بين الرجل والمرأة: انتهت قهوتنا، انتهت قصتنا، انتهى الحب، كنت سخيفاً ضعيفاً، بردت قهوتنا، بردت حجرتنا، انتهى كل شيء، لم تعد بتاريخه شيئاً، لم يعد بتاريخها شيئاً، لقد تحرر من وهم الصورة التي رسمها لها عندما اعتقد أنها أميرة وملايين النجوم فوق أحداقها تغلي كالعصافير الصغيرة، ويتساءل ما الذي حرك فيه هذا الإحساس حتى يتخذ هذا الموقف الذي حرره من حكاياتها القديمة، ومن قضاياها السقيمة، وكيف استطاع أن يمزق خيوط الكفن، ويتمرد على الشوق الأخير، وأن يستيقظ من سباته ليعود إليه إيمانه. وهكذا تنتفي المرأة. ويتحرر منها وتتحقق ذاته الباحثة دوماً عن المرأة المثال في عالم الخيال.
23-تتحدث القصيدة عن التنورة المزركشة، ولكن معجمها لا يلتزم بما توحي به التنورة بل يظهر الشاعر وكأنه يصور كائناً حياً، يأمره تارة بفعل شيء ويناديه أحياناً فيستجيب، أو يتوهم أنه قد استجاب للنداء، فيمضي إلى قاموسه المألوف يغرف منه حقيبة الأنجم، وبوح المزرعة، والزنار، والخاصرة، والصنوبرة، والموال، وزهرات الليمون.(1/41)
24-إن عنوان القصيدة يبدو وكأنه لا علاقة له بموضوعها، فهي ليست وصفاً (الجورب المقطوع) بقدر ما هي حديث عن طائشة المشية، والطعنة التي تشمته، والشهقة النادمة، والقمر المرسوم في سرعة يرضعه من جرحه المذهب، وجزيرة في صدفة كونت، ومرمى الشبابيك على المغرب، وانهماكه في تكويم النجمات في سلته، والجرح لم يتعب، وهو الآخر لم يتعب.
في النص بيتان يكونان معجماً مهما يمكن إضافته إلى ما سبق، وهما:
فالقمر المرسوم في سرعة
يرضعني من جرحه المذهب
...
أكوم النجمات في سلتي
لم يتعب الجرح ولم أتعب.
فالقمر هنا يرضعه، والنجمات تكوم في السلة، والجرح لم يتعب.
25-هذه القصيدة عبارة عن وصف للعلاقة الباردة بين الرجل والمرأة وقد طوى المساء فصول علاقتهما الفاشلة، وأصبح تاريخهما جثة هامدة. وينسجم معجم هذه القصيدة مع هذه النهاية المأساوية، ويدخل ضمن سياق معجم كثير من القصائد تصور فشل العلاقة بين الرجل والمرأة: (النفاق، القبلات الباردة، الجثة الهامدة، الحكايات الرتيبة، الفشل، المقل الزائغة، تجويف الأعين الفارغة، الغباء، دفن الوفاء، بيع الضمائر للشتاء، الأسطر الزائفة في رسائلها، الهراء).
26-تسير هذه القصيدة في سياق القصيدة السابقة، بحيث تصور عدم إمكانية قيام علاقة بين الشاعر وهذه المرأة التي يوجه إليها رسائله ويطلب منها أن تمزقها، أن تلعنها، أن لا تؤمن بالحب الذي يتحدث عنه لأن الكتابة ببساطة جزء من حياته ولأنه لا يدري اتجاهه وحدوده، وأنه يتلهى بها كما يتلهى بالكلمة، وأنه يكتب كالسكران، وهو الباحث دوماً عن حرف جديد، ووجود الحرف في حياته من أبسط حاجات وجوده.
إن جزءاً كبيراً من قصائده عبارة عن رسائل، وقد ورد في هذا الديوان مجموعة من القصائد مسبوق عنوانها بحرف الجر (إلى).(1/42)
27-على الرغم من عنوان القصيدة "طوق الياسمين" الذي يوحي بالفرح إلا أن الحزن والألم طابعان ميزاها، لأن العلاقة التي تصورها علاقة غير متكافئة بين رجل شديد الحساسية يقدم طوق الياسمين هدية لامرأة لا تدرك معناه حين تتركه يسقط على الأرض، فبدا له كالجثة البيضاء، لتواصل رقصها مع رجل آخر، وجموع الراقصين تدفع ذلك الطوق، وحين هم مُراقصها بأخذه منعته، وقهقهت لأنه لا شيء يستحق انحناءه. إن هذه القصيدة تكشف عن قيمة طوق الياسمين الذي اختاره هدية لهذه المرأة في وقت عد الباقة في قصيدة عيد ميلادها تقليداً لا يليق بصاحبته. فلو كانت هديته غير طوق الياسمين لما كانت لها هذه القيمة.
28-هذه القصيدة لا تختلف كثيراً عن قصيدة نفاق، فهي تدخل في سياق شعر هجاء المرأة، المصور لعلاقة منتهية والسبب فيها المرأة. وقاموسها يكشف عن ذلك: (ثرثرت، اتركيني، يمزق جبيني، أنا في الجحيم، لن تفهمي معنى العذاب، بريشتي، عمياء، تأكلك الحروف، مات الحنين، مت مع الحنين، قصتنا انتهت، قصة الأعصاب والأفيون، والدم والجنون، لا تتذكريني، تاريخ سخفك، مريضة الأفكار، لن تطفئي مجدي، هراؤك، اكرهيني، حاولت حرقي، مزقت أجمل ما كتبت، غرت من ظنوني، أضرمت الحرائق في سكوني، كسرت لوحاتي).
إن هذه اللغة الهجائية العنيفة تكشف عن كراهية قوية، تلخصها الأبيات التالية:
وبقيت، رغم أناملي،
طيناً تراكم فوق طين
لا كنت شيئاً في حساب
الذكريات.. ولن تكوني
شفتي سأبترها.. ولن
أمشي إليك على جبيني..
29-تصور وجودية فرنسية ذكر اسمها وقد التقاها في باريس في مغارة التابو وراح يسجل الذكرى من خلال استحضار سماء باريس الرمادية الباكية في عينيها ويرسم ملامحها التي يمكن معرفتها منها: خفها، وهسهسات حلقها وقصة شعرها، وبنطالها، ثم يتعرض لطريقة حياتها في مغارة التابو (ليلها جاز).(1/43)
وليس في هذه القصيدة معجم له قيمة من حيث الدلالة، سوى الإشارة إلى النجوم، والعصافير الشتائية، وجرح أغنية. ولعل ورود كلمة النجوم هنا دخيلة على الوجودية، وسماء باريس الرمادية.
30-هذه الرسالة من سيدة حاقدة "تعد هجاء للرجل على لسان امرأة حاقدة عليه، وتعبر هي الأخرى عن نهاية علاقة بين امرأة ورجل، فقد اكتشفت حقيقته، عندما زارته في البيت، ونهرها بحجة وجود رفاق لديه، لكنها أدركت بحاستها الأنثوية أن سلوكه ذاك قد كشف حقيقته، فقد كانت لديه امرأة ثانية سيبدأ معها قصة جديدة وسيروي لها الكلمات نفسها التي أسمعها إياها أيام كانت معه. ويكشف قاموسها عن سياقها الذي لا يختلف عن كثير من القصائد التي يمكن عدها ضمن خانة القصائد الهجائية، المعبرة عن الكراهية الشديدة للرجل، بوصفه مصدر تلك النهاية المأسوية التي آلت إليها علاقتهما، وهذه النهاية المأساوية تعد بداية قصة مأساوية لفتاة أخرى سيردد عليها القصص نفسها، ويخبرها بما أخبر غيرها، وسيعطيها الكأس نفسها وستكون لها النهاية نفسها، ضياع رونقها كما ضيع رونقها هي وتستمر اللعبة.
ويتمثل معجم الكراهية والحقد هذا فيما يلي: (سددت في وجهي الطريق بمرفقيك، قفي، الذل يكسو موقفي، يا نذل، أنا لست آسفة عليك، يا دني، أنكرتني، الإثم يحصد حاجبيك، أذللتني، نفضتني كذبابة، أهنتني).
31-تدخل هذه القصيدة في سياق القصيدة التي عنوانها "نفاق" وقصيدة "لن تطفئي مجدي" ويكاد معجمها يكون حقلاً دلالياً واحداً، فهي عبارة عن تصوير للعلاقة الباردة بين الرجل والمرأة التي تنتهي إلى حقد وكراهية وإذلال للآخر، وتصور الماضي الذي جمعهما على أنه مجرد نفاق وثرثرة، وأن محاولة البحث عن حل لهذه الأزمة يعد ضرباً من الثرثرة أيضاً، ويجب الاعتراف بالتحول الذي حدث في مسار علاقتهما والتوقف عن نبش التاريخ، فالأمس قد دفن، ويدعوها إلى الاعتراف بهذا التحول:
حسناء.. إن شفاهنا حطب
فلنعترف أنا تغيرنا(1/44)
ويكشف معجم مثل هذه القصائد عن عدم إعطاء فرصة لطرف ما للكشف عن حقيقة الطرف الثاني، حيث يعطينا الشاعر صورة واحدة سواء أكانت للمرأة، أم للرجل. ومعجم هذه القصيدة يكشف عن صورة هذه العلاقة: (نافقنا، كم نحن ثرثرنا، شفاهنا حطب، الرطوبة في أصابعنا، دفنا الأمس، رسائلنا السابقة سخف، ثيابك لست أعيرها شأناً، اللون مات، يبس الحنو، الثلج غمْر إن تصافحنا، مر الربيع ليخبر أننا متنا).
إن الفرق بين هذه القصيدة والقصائد الأخرى يكمن في أن لهجة الكراهية فيها أخف، وقد جاءت معظم كلماتها بضمير الجمع (أنا) وكأن هذا المعجم يقول إن مسؤولية النهاية المأساوية مشتركة بينهما، ويجب الاعتراف بذلك التغير الحادث في حياتهما وحبهما، وكأن الرجل هنا يحاول أن يقنع المرأة بضرورة تقبل الأمر الواقع وتقبل التحول الحادث في حياتهما.
32-وتصور قصيدة (حبلى) نهاية العلاقة كذلك بين الرجل والمرأة بسبب الحمل، ولا يخرج معجمها عن معجم (رسالة من سيدة حاقدة): صرخت كالملسوع، أخذت تشتمني، عرفتك دائماً نذلاً، أتبصقني؟، تخيط لي كفني، يا بؤرة العفن.
33-لا تختلف هذه القصيدة عن سابقتها (حبلى) في كونها هجاء للرجل على لسان المرأة بمفردات لاذعة: يا بليد، أيا جدار من جليد، يا صغير النفس، قفص من اللحم القديد، يا سفاح، يا قرصان، يا قبو الجليد) ولكن الفرق بين السابقة وهذه هو أن هجاء المرأة هنا كان نتيجة استئثار الرجل بلحظة العلاقة الجنسية، وبعد لحظة انطفائه يظهر عدم اهتمامه بها فتكشف المرأة عن كراهيتها له. ومن ثم نلمس العلاقة غير السوية بين الطرفين.(1/45)
34-تكشف هذه القصيدة عن استغلال الرجل الثري للمرأة، الذي يقول إنه حطم عزتها بدراهمه لا بحديثه الناعم، وجعلها تتبعه كالقطة العمياء مطيعة ذليلة حتى صارت كالخاتم في إصبعه، وصارت مسكينة منذ أن استعبدتها دراهمه. ويكشف معجم هذه القصيدة عن كلمات التباهي المستخدمة من الرجل الذي يشعر أنه حطم كبرياء المرأة بدراهمه، ويتمثل ذلك في: (حطمت عزتك بدراهمي، صدرك المغرور ضمن غنائمي، ثغرك كان ربي فصار خادمي، الحسن الأجير وطأته بدراهمي وركلته، وذللته، لهوت فيك، ما انتخت شفتاك تحت جرائمي، نار شتائمي، مسكينة). وهو معجم يكشف عن كراهية الرجل للمرأة وحقده الدفين.
35-عنوان القصيدة "شمع" لكن موضوعها يوحي بوصف مفاتن جسد المرأة (جسمك في تفتيحه الأروع)، وتندمج مفاتن هذا الجسد في جسد الطبيعة (في غابة أريجها موجع/ ولوزها.. أكثر من موجع.. كلي شموساً.. امضغي أنجماً، حلمة بغير الورود لم تزرع. احصدي حشائش طازجة المطلع. النهد مشكاة النجوم. حق من اللؤلؤ). وتتكرر مرة أخرى العناصر ذاتها: الطفولة، الأمومة، البرود.
36-القصيدة تصوير للعلاقة الجنسية بين امرأتين أو ما يعرف بالسحاق. ويعد ذلك قصة حب لا تحكى، كما يعرف الحب دائماً بأنه غير قابل للإيضاح. ومن العناصر التي تحمل بعداً نفسياً نجد: (الذئبة ترضع ذئبها، اللحم الطفل يخدشه ظفر سفاح، الصوت المهموس نباح، يكسر نهد واقعه ويثور، للجرح جراح، يا أختي لا تضطربي، يموت الموت).(1/46)
37-قصيدة رثاء لأبيه بعد وفاته، وهي تحمل عنوان (أبي) منسوبة إلى ضمير المتكلم، لكن مطلعها استفسار عن وفاة الأب (أمات أبوك) منسوبة إلى ضمير المخاطب، ثم يجيب (أنا لا يموت أبي)، ويعطي الدليل على ذلك، أن في البيت منه روائح رب، وذكرى نبي، وأن ركنه، وأشياءه، وجريدته، وتبغه، ومتكأه، وصحن الرماد، وفنجانه، ونظارته كلها لا تزال هنا تنتظره كبقايا النسور في الملعب. ومن أشيائه ينتقل إلى صفاته وشخصيته وخصاله. ثغره الطيب، خبر من جنة، عيناه ملجأ للنجوم، وراءه تاريخ طيب، ترك بصمات صفاته على ابنه حتى تهيأ للناس أنه الأب في صحو عينيه، ونبرة صوته، وتنتهي القصيدة بانتظار عودته صيفاً.
ولعل أهم الكلمات المعجمية تتمثل في السؤال أمات؟، وروائح رب، والعيون التي ذكرت أربع مرات:
... أيسلو الزجاج عيوناً،
وعينا أبي.. ملجأ للنجوم/ فهل يذكر الشرق عيني أبي؟
حملتك في صحو عيني حتى تهيأ للناس أني أبي.
38-على الرغم من أن القصيدة سياسية بعنوان: (راشيل شوازنبرغ) وراشيل هذه يرويها في القصيدة على أنها إرهابية مجندة، قضت سنين الحرب في زنزانة منفردة شيدها الألمان في براغ، كان أبوها من أقذر اليهود يزور النقود، وهي تدير منزلاً للفحش يقصده الجنود في براغ، وآلت الحرب العالمية إلى سلام فأبحرت إلى فلسطين وحلت محل أمه.
وتظهر في هذه القصيدة مجموعة من الكلمات التي تكشف عن بعد نفسي للنص يتمثل ذلك في: (العيون، أمي، والدي، أختي).
إن هذا المعجم ينتظم على الشكل التالي في القصيدة:
1-الأعمار والعيون
2-أكتب للصغار لأعين
3-حلت محل أمي الممددة
4-أمي أنا الذبيحة المستشهدة
5-وأختي القتيل/ هناك في بيارة الليمون، أختي القتيل
6-أختي التي علقها اليهود في الأصيل
7-أختي أنا نوار
8-أختي أنا الهتيكة الأزرار
9-أختي التي ما زال جرحها الظليل/ ( ... )/ وقبرها الضائع في القفار
10-يضيء برتقالها كنجمة النجوم
11-والشجر المثقل بالنجوم(1/47)
12-وأشعلوا النيران في بيادر النجوم
13-تضم قبر والدي
14-هل تعرفون والدي
15-ومات والدي
16-مات والدي العظيم.
إن حضور الأخت القتيلة والأم الذبيحة والوالد الميت والشجر المثقل بالنجوم توحي بالحديث عن العائلة في البيت الدمشقي. وستتضح هذه الدلالة النفسية لاحقاً.
39-هي ثاني قصيدة سياسية في الديوان تهجو الشرق وتثور على القمر بعد أن كانت قصائده السابقة جميعها تتغنى بالنجوم والأقمار، فلماذا كانت خبزاً وحشيشاً وقمراً وثورة على الشرق؟.
لا نعلم بالضبط هل القصيدة جاءت قبل وفاة الأب أم بعدها؟ لأن تاريخها مهم من حيث اكتشاف دلالتها، ولكن مهما يكن من أمر فإن الثورة على الشرق يعني الثورة على الأب الرمزي.
***
6-حبيبتي (12)
(1961)
1-أكبر من كل الكلمات
2-حبيبتي
3-شؤون صغيرة
4-فستان التفتا
5-كلمات
6-شعري سرير من ذهب
7-لوليتا
8-صديقتي وسجائري
9-عندما تمطر فيروزاً
10-أيظن؟
11-نهر الأحزان
12-تلفون
13-ثلاث بطاقات من آسيا
14-أوريانتيا
15-الرسائل المحترقة
16-قصة خلافاتنا
17-الكبريت والأصابع
18-خطاب من حبيبتي
19-يد
20-أخبروني
21-قطتي الغضبى
22-الرجل الثاني
23-إلى قديسة
24-إلى مراهقة
25-صوت من الحريم
26-الحب والبترول
27-جميلة بوحيرد
28-رسالة من جندي في جبهة السويس
1-تصور هذه القصيدة ثنائية المرأة والقصيدة، وتبدو القصيدة فيها جسداً راقصاً في ثوب أصفر تارة وفي ثوب أحمر تارة أخرى، ولكن كلمات ذلك الجسد الأنثوي ينشئها قلم الشاعر ليقدمها هدية للحبيبة لأنها أحلى من كل الكلمات وأكبر منها، وهنا تنتصر المرأة على القصيدة.
2-الحبيبة هنا يتجلى جمالها في الشعر القصير، فهو إناء طيب، وحرير، وشبيه بفصل الصيف يوزع الظلال والعبير. وهنا يظهر تحول في النظر إلى الشعر.(1/48)
إن الشعر الطويل، كان دائماً، هو الشعر المحبوب لدى الشاعر. ويشارك في هذه القصيدة جمال الشعر، جمال العين، إذ تنتهي القصيدة بتأكيد الشاعر على حبه الكبير لعينيها. وهو حب سيبقى دائماً كبيراً.
3-قصيدة على لسان المرأة، وفيها تصوير لاعتزاز المرأة بالأشياء الصغيرة التي قد لا يعطيها الرجل أية قيمة في حين تعد عندها من أثمن ممتلكاتها، بل تساوي حياتها. وكذا بعض الحوادث الصغيرة التي لا تثير اهتمام الرجل، فهي تعمر منها قصوراً، وتحي عليها شهوراً، وتغزل منها حكايات كثيرة، فهي تصنع من تدخين الرجل عالماً وهمياً تحس فيه بالأمان حين تلاحق خيوط الدخان مزهوة معجبة وهو يوزعها في زوايا المكان دوائر دوائر، وينتابها إحساس تتحول بموجبه إلى قطة طيبة تجثو أمامه. وسرعان ما يتحول هذا الشعور بالأمان إلى شعور بالخوف حين تفكر في رحيله في آخر الليل كنجم غارب ويتركها لرائحة التبغ والذكريات.
ومن الذكريات، ذكرى تلك الباقة من الأزهار التي أهداها إياها يوم كانت مريضة، وتلك اللمسة الحنون من يديه حين حطت على يديها كحمام، أو حين رد الغطاء عليها، أو حين جعل رأسها فوق الوسادة، إن هذه الذكرى الجميلة جعلتها تتمنى لو أنها ظلت عليلة. وتستمر في سرد الذكريات المتداعية، فتعود بها الذكريات إلى الهاتف حين يرن وكيف تطير إليه بفرحة طفل صغير وبشوق سنونوة شاردة تتلاشى بعد ذلك تحت تأثير حرارة دفء صوته والدموع تترقرق من عينيها.(1/49)
وتقودها تداعيات الذكريات إلى أيام كانت تذهب إلى بيته لتزعم أنها تستعير كتاباً، وتتابع حركة أصابعه حين يمدها إلى المكتبة، وينتابها إحساس بأنها سؤال بغير جواب حين تحدق فيه وفي المكتبة كأنها قطة طيبة. ثم سرعان ما تحمل الكتاب وتعود إلى بيتها، وتمضي إلى مخدعها تقلب أوراق الكتاب باحثة عن عبارة حب أو سلام صغير يعيد السلام والأمان إليها. لكنها لا تعثر على شيء. وتستمر في استرداد الذكريات، كتلك الذكرى التي يأخذ فيها ذراعها من غير قصد، ويأخذها إلى عالم الضياع الجميل حيث ترفع يديها إلى السماء متضرعة إلى الله أن لا يجعل نهاية لذلك الضياع، لكن القصيدة تنتهي نهاية محزنة حيث الغرفة المظلمة الباردة وحيث الوحدة القاتلة، لكن طيفه يظل حاضراً إلى جانبها وهو عزاؤها الوحيد.
تصور هذه القصيدة العلاقة بين الرجل والمرأة على أنها علاقة حضور وغياب حضور الطرف/ الأنثى، وغياب الطرف/ الذكر، الذي يحضر من خلال مجموعة من الذكريات والتصورات والأوهام الأنثوية، ويظهر تدخين الرجل في هذه القصيدة إغراءً يثير شهية المرأة ويجعلها تستسلم كقطة طيبة:
فحين تدخن أجثو أمامك/ كقطتك الطيبة/ وكلي أمان/ ألاحق مزهوة معجبة/ خيوط الدخان/ توزعها في زوايا المكان/ دوائر دوائر.
4-قصيدة أخرى على لسان المرأة، تصف فيها فرحتها بفستانها الذي اعتقدت أنها حققت فيه ما يحب الرجل في الفستان من الوشي، والنمنمة، ومن لون حشيشي يشبه لون عينيها، أكمامه عشب بحيرات، وأزراره كقطيع نجمات، وقد فعلت كل ذلك لا لتحس بذاتها وكيانها وهي ترفل فيه جميلة رائعة، بل لتثير انتباهه لأن الثوب لغة ورسالة إلى الآخر.(1/50)
5-قصيدة أخرى على لسان المرأة، تستحضر عذوبة كلماته وهو يراقصها، تلك الكلمات التي تجعلها تتلاشى تارة، وطوراً تحس أنها قد زرعت في إحدى الغيمات حين يحملها لمساء وردي الشرفات أو حين يجعلها كالريشة في يده تحركها النسمات، إنها قصيدة تصور مدى تأثير الكلمة على المرأة إذ تجعلها تحس بكيانها ووجودها وذاتها، ولكن سرعان ما يتوقف تدفق ذلك الحلم الجميل عندما لا يملأ سمعها الرجل بكلماته. وهنا تؤكد هذه القصيدة ذلك المثل القائل، إن المرأة تحب الهدية ما في ذلك شك، ولكنها تفضل سماع الكلمة الحلوة على القرط الجميل.
6-قصيدة على لسان المرأة، تتغنى فيها المرأة بشعرها الذهبي الطويل الذي هو بمثابة قصيدة حروفها من ذهب، ولكن رغم التعب من تطويل هذا الشعر وتدليله، والاعتناء به، إلا أنه لا أحد في الأفق قد لاح ممن تبحث عنهم هذه المرأة، فالرجل غائب، وهذا ما يؤكد قولها: لواحد، لواحد. له، له. أين من شعري له.
إن المرأة هنا تبحث عن الرجل ولكن لا وجود له.
7-قصيدة على لسان المرأة تصور فرحة فتاة صار عمرها خمس عشرة سنة، وهي محاولة للتعبير عما تحسه الفتاة حين تبلغ سن المراهقة، سن الزهو والغرور، فهي أحلى من ذي قبل ألف مرة، وحبه لها أكبر ألف مرة، وكل ما في داخلها غنى وأزهر، وصار أخضر. وجسدها صار محط أنظار الرجل، حين تحولت شفتاها خوخاً وياقوتاً، وبصدرها قبة مرمر تضحك، وينابيع وشمس وصنوبر، وقطعة جوهر لا تقدر.
تكشف هذه القصيدة عن تحولات الجسد وما يرافق هذه التحوّلات من تحول في المعاملات، وتحقق الذات الثائرة على الجسد.(1/51)
8-قصيدة أخرى على لسان المرأة، ونقطة ضعف المرأة فيها مشاهدتها الرجل وهو يدخن، إذ يوقظ التدخين فيها رغبة جامحة لا تقاوم، ومن ثم تدعوه إلى استثمار هذا الضعف وهذا الجنون الذي ينشأ لديها ساعة مشاهدتها لدخان سجائره وهو يتصاعد في السماء، ومن السجائر ينتقل نظرها إلى جسده تعد عروق يديه وتتسلى بذلك، وخيوط الشيب في رأسه تنهي أعصابها وتنهيها، ويتحول تفكيرها إلى داخلها تستحضر قيمة الرجل فتختزلها في الشعور بالحماية والأمن والطمأنينة والحنان واللطف حين يكون جنبها.
تشترك هذه القصيدة مع قصيدة "حبيبتي" التي جعلها الشاعر عنواناً لديوانه في كونها تشير إلى أن تدخين الرجل يوقظ الشهوة في المرأة وتشعر بضعف شديد لا يقاوم أمام ذلك الإغراء:
واصل تدخينك.. يغريني
رجل في لحظة تدخين
هي نقطة ضعفي كامرأة
فاستثمر ضعفي وجنوني.
9-قصيدة في وصف العينين وتأثيرهما في الرجل بوصفهما من مغريات الجسد، تاريخه مرسوم فوقهما، وأخباره مصورة في اخضرارهما، وهما نهران من تبغ ومن عسل، وكوخان عند البحر وهما ستارتان إذا تحركتا ظهر وجه الله خلفهما، وهما مخففتا التعب، ومصلى، وفيهما يحلو النوم.
ومنذ رحلت والشمس مطفأة، والأرض غير الأرض، والقمر غادر السماء.
إن المرأة هنا تمتزج بالطبيعة وتستمد الطبيعة جمالها من جمالها بحضورها تتجمل الدنيا وبغيابها يسود القبح ويعم الفناء.
10-قصيدة على لسان المرأة مبنية على ثلاث حركات، الأولى تتمثل في الرفض المطلق، والثانية تتمثل في الحيرة والتردد، والثالثة في الاستسلام. تقر المرأة هنا في مطلع القصيدة أنها ليست لعبة بين يديه، وأنها ترفض الرجوع إليه، إنها ترفض أن تكون لعبة، ولكنها وصفته هو بأنه لعبتها المفضلة في قصيدة "لوليتا".
وبمجرد أن عاد إليها أحست برغبة في الارتماء في أحضانه، ونسيت كل شيء في لحظة ورجعت إليه لتحس أن الرجوع إلى أحضانه أحلى ما في الوجود.(1/52)
11-قصيدة في وصف العينين وتأثيرهما في الرجل، فهما كنهري أحزان وكنهري موسيقى أعاداه إلى الوراء سنين، وأضاعاه، إنه غير قادر على حبها، فهو لا يملك من جسدها سوى تلك العينين اللتين تتعانقان وأحزانه، لأنه إنسان مفقود، لا تاريخ له ولا يعرف مكانه في الأرض، فقد ضيعه دربه، وضيعه اسمه، وضيعه عنوانه، إنه نسيان النسيان، مرساة لا ترسو، جرح بملامح إنسان، إنها ظل الله بأجفانه، وصيفه الأخضر، وشمسه الأجمل، وهي أجمل ألوانه وهي حبه الأوحد، ومليكته في الدنيا كلها والسفر بدونها مستحيل لكنه في الوقت ذاته يدعوها إلى الابتعاد عنه لأنه لا يملك في هذه الدنيا إلا عينيها وأحزانه، أي أنها لا تثيره بوصفها كياناً وجسداً ولا بوصفها أنثى جميلة مغرية بل لأن عينيها فقط وجدتا هوى في نفسه، فاستيقظ الحزن النائم في عمقه وبذلك تحقق له التوازن النفسي كما تحقق حين رفض عيونها في قصيدة إلى ساذجة في ديوان قصائد.
12-هذه القصيدة من حيث بنيتها لا تختلف عن بنية القصائد التي قالها على لسان المرأة خاصة من حيث النهاية، فقد بدأت القصيدة بالحيرة، ثم الرفض، وأخيراً الاستسلام. والمرأة في هذه القصيدة هي التي عادت إليه، كما في قصيدة "أيظن" حين عاد هو إليها. ولكن يظهر التباين هنا بين الرجل والمرأة في القصيدتين من حيث رد الفعل، فالمرأة تنسى كل شيء في لحظة حين يعود إليها الرجل ويسمعها بضع كلمات جميلة لطيفة حلوة، في حين أن الرجل لا تؤثر فيه كلماتها العذبة:
لم أعد أخدع يا سيدتي
بالحديث الحلو.. والصوت النغوم.
ولكن القصيدة تنتهي بالاستسلام، فيدعوها أن تداعب كل مساء رقمه وتصدح مثل عصافير الكروم:
كلمة منك.. ولو كاذبة
عمرت لي منزلاً فوق النجوم(1/53)
13-قصيدة في مدح العيون، وهي في مادتها لا تختلف عن قصيدة "نهر الأحزان"، فهو بعد عينيها لا يعرف السلام، وبدون عينيها كأنه بدون شمعتين، وبدون مصباحين أخضرين، ولا كوكب في الأفق، ولا منار، بدون شاطئين مقمرين، بدون غابتين.
إن محتوى السؤال لا يكون إلاّ عن عينيها، وهما أعز ما لديه، فهما قطعتا حلي مالهما مثيل في اللون والنقاء، وهما ماستان ما لهما نظير. وهما كنزه الأول والأخير.
14-تجسد هذه القصيدة المرأة الطبيعة، وعناصر الجمالية في جسدها يلخصها الأنف الذي ورد الحديث عنه لأول مرة في شعره، ثم العينان، والشفتان والنهد، وتمتزج عناصر الجمال في جسدها بعناصر الطبيعة (زهرتا أضاليا، صحنان صينيان رائعان، قلعان من لهيب تزودا بزهرتي غاردينا، وبعنبر، وفلفل، وطيب، وزبيب، بل هي أحر ما عرفه من التوابل).
15-المرأة في هذه القصيدة ليست شيئاً خارج قصائده، وأن شعره رسائل أرسلها إليها ويغير شفراتها في كل مرة، فبعد أن كان يدعوها إلى تمزيق رسائله، لأنها مجرد ممارسة لهواية، في "رسائل لم تكتب لها" في ديوان "قصائد"، ها هو ذا هنا يتساءل "أحقاً رسالاتي إليك تمزقت؟"، وبعد أن كانت مجرد تسلية ها هي الآن تمثل أسلوبه وطابعه، وأحداقه، وزرقة عينيه، وبحر مطالعه، وأنهن حروفه، وسفيراته، ومرايا خواطره، وأجمل ما غنى، وما طرزت يداه، وأكرم ما أعطت أنامل صانع، حروفها رسمتها أعصابه، وأطعمها من صحته، ومن مدامعه، وقد أنفق أيامه كلها يصوغ سطورها بدقة مثال، وأشواق راكع.
والرسائل التي يتحدث عنها هنا في قصائده، فحين يسألها عن مصيرها، يقول: ألم ينج حتى مقطع من مقاطعي؟
ثم ينهي قصيدته بمقطع يتجلى فيه الحديث عن قصائده (رسائله) واضحاً حين يؤكد أنه لا وجود لجمال المرأة خارج روائعه:
أمطعمة النيران.. أحلى رسائلي
جمالك ماذا كان؟ لولا روائعي
فثغرك بعض من أناقة أحرفي.
وصدرك بعض من عويل زوابعي.(1/54)
16-تسرد هذه القصيدة قصة الخلافات بين المرأة والرجل، ولكن على الرغم من كل الخلافات، وجميع القرارات، والعداء، والجفاء، والبرود، وانطفاء الابتسامة، وانقطاع الخطابات بينهما، واختلاف مناخاتهما، واستعادة كل الهدايا والصور، وانكسار الإناء الجميل، ورتابة الساعة، والضجر، وخريف علاقتهما، والنزيف بأعماقهما، وحماقاتهما، على الرغم من كل ذلك فهما ضعيفان في وجه القدر، وأنهما رفيقا مصير، ورفيقا طريق، وهكذا وعلى الرغم من كل الخلافات فإن العلاقة بين الرجل والمرأة مستمرة ولن يقف في طريقهما أي عائق.
17-قصيدة على لسان المرأة، تصور رد فعل امرأة إزاء حركة بسيطة صدرت من رجل، فقد أخذ الكبريت وأشعل لها سيجارة ومضى، فتعلقت به، وهذا الموقف نجده كذلك في قصيدة "مع جريدة" في ديوان "قصائد" حين جلس رجل أمام امرأة في المقهى دون أن يعطيها أي اهتمام، ثم انصرف وتركها في حيرة والنار متأججة في داخلها. في هذه القصيدة كذلك، تركها تأكلها النار على مهل، وراحت تسرد عناصر الجمال في جسدها، وأن تلك العناصر قد هيأتها له، ففي صدرها خبأت له زوجاً من حمام، ولكن الحديث ينتقل إلى وصف جسده الذكوري، عيناه قالتا ولم يقل، ما أطيب رائحة الرجل، يده تتحدث دون فم، عروق زرق نافرة، وراحت تستحضر ما لفت انتباهها في فترة زمنية قصيرة هي لحظة إشعاله لها سيجارة، فقد راقبت نحول أصابعه، ودرست تعابير يديه، وأحاطت بأشواقها ظفراً عليه آثار التدخين، وعبدت بقية إرهاق تحتل جوانب عينيه، ولاحظت التعب الأزرق تحت عينيه، والثلج الذي راح يتساقط على صدغيه، مما دفعها إلى أن تفقد توازنها وتستسلم لإغراءاته، وتقف أمام رجولته ذاهلة، كطفل ضيع أبويه، أو كالأرنب الوديع لا تصدر منها حركة، وينتابها إحساس بأنها أصغر كائن في هذا الوجود بين ذراعيه. ثم تستيقظ من هذا الحلم لتعود إلى الواقع فتتساءل:
أأحب يدا.. لا أعرفها /ماذا يربطني بيديه؟/ ولكن يبقى سؤالها بلا جواب.(1/55)
18-رسالة منها إليه، قرأها مرات ومرات وأعاد قراءتها، وبكى من أسلوبها (بكيت كالأطفال في سريري)، ومن السرير يخرج إلى الطبيعة، فيود لو قرأ خطابها للنهر، للنجمة، للغدير، للريح، للغابات، للطيور، ونقشه في أضلع الصخور. وحتى اسمها النائم في آخر الصفحة يتحول إلى عنقود من العبير.
19-في هذه القصيدة حديث عن قيمة اليد المعنوية حين تربت على كتف رجل، وهي تعادل عنده ألف مملكة لكن سرعان ما يتحول من المعنوي إلى المادي، لتتحول تلك اليد إلى سنبلة، وسكنى على كوكب، وشمس نائمة على كتفه، ونهر حريري، ومروحة صينية، وهنا يظهر إعجابه بذلك السوار المذهب الذي يلفها، وبتلك الملاسة التي تميزها، ثم تتحول هذه اليد إلى نجمة هربت، ونجمة تلعب، وقصيدة تكتب، وحمامة نزلت لكي تشرب.
20-قصيدة على لسان المرأة، وهي قصيدة هجاء للرجل وفي هذه القصيدة امرأة تحل محل الأولى (امرأة 1، امرأة2، رجل)، وهي عودة إلى تلك المرأة التي وجدناها في ديوان قصائد في: "رسالة من سيدة حاقدة" وفي "حبلى" ولكن الفارق بين تلك المرأة وهذه، هو التحول الذي يحدث في نهاية هذه القصيدة.
إن امرأة أخبروها أن حسناء حلت محلها عنده، بعد أن أعطته الذي لا يعطى من حياتها وبذلت قصارى جهدها لتحافظ على حبهما، وبعد أن كان عطرها لديه أجمل عطر، وشعرها عليه شلال ظل وثوبها البنفسجي ربيعاً كان يصلى على زهره، ها هو ذا يقابل هذا العطاء بذبح كبرياءها، بل محاولة قتلها، ومن ثم تصفه بأنه (رخيص الأشواق) وأن ما شيدته من خمس سنوات كان بناء على دخان ورمل، لأنها أصبحت عنده الآن لا تساوي شيئاً، فلم تشفع لها عنده عيناها ولا طيبها، ولا كحلها.
ولكن على الرغم من كل هذا، إلا أن الذي يحدث في نهاية القصيدة تلخصه الأبيات التالية:
"سأصلي لكي تكون سعيداً"
"أنت طفلي الصغير.. أنت حبيبي/ كيف أقسو على حبيبي وطفلي؟
"يا صديقي. شكراً. أنا أتمنى/ لو وجدت التي تحبك مثلي.."(1/56)
إن المعجم الذي يوجه المعنى في هذه القصيدة يتمثل في (العطر، الشعر، الثوب البنفسجي، العينان، الطيب، الكحل، الطفل الصغير، ثم السنين الخمس وهي عدد السنوات التي مضت على وفاة الأب يوم كتب هذه القصيدة) وفي هذه القصيدة يظهر مرة أخرى الرجل الطفل، وامرأتان في امرأة تجمع بين القسوة والحنان، ولكن الحنان هو الذي ينتصر على القسوة.
21- قصيدة على لسان المرأة، تصور علاقة كانت ثم انتهت، ولكن المرأة فيها ليست ضعيفة، وليست من اللواتي لا يدخل الرجل الثاني قلوبهن إلا إذا خرج منها الأول، وتعبر القصيدة عن ذلك بوضوح:
لو كنت إنساناً معي مرة/ ما كان هذا الرجل الآخر!
إن المثلث: امرأة، رجل1، رجل2 هو الذي يحكم عالم القصيدة. وينتج المعنى التالي: انتهى الرجل الأول من حياتها وحل محله رجل آخر.
وصورة هذه المرأة تبدو متناقضة تجمع بين الضعف والقوة وقد عدت تخلصها من الرجل الأول شفاء من ضعفها وطيبتها. وأنها حين أدخلت رجلاً آخر في حياتها كان ذلك جزاء كفره بالنعمة، فقد كانت له الجنات مفتوحة ولكنه لم يعرف قيمة تلك الجنات، أما ملامح الرجل الثاني فليس هناك أي إشارة إليها.
إن المعجم الموجه للمعنى هنا يمكن تلخيصه في: (مقبرة ليس لها زائر، الجنة، القطة الغضبى، الرجل الآخر).
22-في قصيدة "قطتي الغضبى" رجل ثان، وتأخذ هذه القصيدة الرجل الثاني عنواناً لها، وهي تصور كذلك نهاية العلاقة بين المرأة والرجل دون أن تشير إلى ذلك صراحة، وفي هذه القصيدة يتضرع الرجل إليها طالباً ودها بعد عودته، متسائلاً هل غيره يزاحمه؟ وهل سرير الهوى ما عاد منفردا؟
ويجيب على هذا التساؤل بقوله:
جريدة الرجل الثاني ومعطفه/ وتبغه.. لم يزل في الصحن متقدا.(1/57)
وهذا البيت يذكرنا بذلك الوصف الذي خص به الشاعر أباه في رثائه إياه في قصيدة "أبي" ونجد فيها البنية الثلاثية (رجل1، رجل2، امراة) نفسها التي وجدناها في القصيدة السابقة إلى جانب ما يشير إلى الطفل (الصدر الذي كان ولداً، غيري يزاحمني، سرير الهوى، العيون، النهد).
23-هذه القصيدة تظهر في شكل "رسالة إلى قديسة" ولكن هذه القديسة هي عبارة عن بضعة امرأة، فهي إذن قصيدة هجاء للمرأة يلخصها قوله: (يا بضعة امرأة، رجل أنا كالآخرين)، ويوجه معناها العناصر الآتية: (سريرك الزاهي، قط مستكين، القط الذي تتصورين، قط من الخشب المجوف، قباب الياسمين، طعام الميتين، أأصوم عن شفتيك، متصوف، رجل فيه وداعة الأطفال يحب بعنف الأربعين)، إنها، إذن، رسالة استعطاف إلى امرأة تبدو غير مكترثة به.
24-قصيدة هجاء في شكل رسالة "إلى مراهقة" يرد فيها على استفزازها إياه ويحذرها بلهجة آمرة: (لا تكوني حمقاء، يا غبية، لا تمسي رجولتي)، وفيها يظهر الرجل ابن الأربعين في حين المرأة فيها ابنة خمسة عشرة وهي نفسها التي نجدها في قصيدة "لوليتا، وفي قصيدة "أحبك" في ديوان "قالت لي السمراء"، ولكنها أيضاً هي تلك الصغيرة المرفوضة في "مصلوبة النهدين" في ديوان "طفولة نهد"، التي يدعوها أن تعود إلى أمها ويرفضها في هذه القصيدة لأن منطق الأربعين يلجم أعصابه، في حين نجده في قصيدة "إلى قديسة يتحدث عن عنف حب الأربعين الذي لا تفهمه تلك التي يخاطبها.
وإلى جانب هذا المبرر، نجد تبريرات أخرى في القصيدة يتخذها ذريعة لرفضها وتتمثل في (يقظة الضمير، الطهر والحليب، الصراع الذي يعاني منه، ثم علاقة المشابهة بينها وبين ابنته) وهكذا تنتهي القصيدة باتخاذ موقف الرفض:
اذهبي.. اذهبي.. كسرت سلاحي
ضاع مني فمي.. فماذا أجيب؟(1/58)
إن رفض هذه الفتاة ليس منشؤه العجز أو عدم القدرة عليها أو عدم استجابتها، بل على العكس فهي تتحداه إلى درجة المس برجولته حين قالت: (رجل أنت؟) ومع ذلك فإنه لا يستطيع فعل أي شيء ويقف عاجزاً أمام مغريات جسدها كجدار من الجليد لا يستجيب ولا يحرك ساكناً، ونجد مبررات ذلك في استحضار ابنته ذهنياً في لحظة ضعفه أمام مغريات جسدها.
25-قصيدة أخرى على لسان المرأة تبدأ الجملة بكلمة "تحبني" هي الجملة نفسها التي وردت في "قطتي الغضبى"، ومحتواها يدخل في سياق قصائد الرجل الثاني: فجملة أحبك التي يتلفظها الرجل الأول هنا وترددها هي بتعجب "تحبني!" صارت جوفاء، معزوفة رخيصة اللحن، وبلهاء، ونغمة قديمة لم تعد تهزها، لأنها أدركت أنها مجرد وجه من الوجوه الكثيرة في دفتره الملون، وأنها مجرد سوسنة يضيفها إلى ألوف السوسن، ولعبة يلهو بها، حتى إذا بدت له لعبة جديدة حطمها.
إن المرأة هنا لعبة يحطمها الرجل عندما يعثر على لعبة جديدة، وهي الفكرة نفسها التي نجدها في قصيدة "أخبروني" و "رسالة من سيدة حاقدة" و "حبلى" في ديوان "قصائد".
إن الرجل الأول الذي تتحدث عنه هذه القصيدة تصوره لاعباً في السيرك، ومهرجاً بألف وجه مستعار، وممثلاً في مسرحية لدور متقن بجمل جوفاء، ولذلك تدعوه هذه المرأة إلى أن يكشف عن حقيقته، ويتحدث اللغة التي يؤمن بها في أعماقه، وباختصار إلى أن يقول جملاً أخرى غير تلك الجملة، كأن يقول مثلاً: إنه يشتهي طيبها، ودفء مسكنها، أو إنها جميلة وسهلة، وأنها بلهاء أعطته كلما سألها، وأنه يريدها محظية جديدة يضيفها إلى الحريم المدفون وراء الجدران. أما هي فإنها تبحث عن رجل يحبها، وهو لا يعرف أن يحب، لأن ميدانه العيون لا ما وراء العيون، ولأنه "طفل لاعب".
إن الموضوع هنا يظهر مرة أخرى على أنه ثلاثي الأوجه: الرجل الأول، الرجل الآخر (الثاني)، المرأة. والرجل هنا تصفه بأنه طفل لاعب.(1/59)
26-قصيدة أخرى على لسان المرأة المتميزة عن النساء الأخريات وهي هجاء للرجل، الذي لا يفهم المرأة، حيث تكرر السؤال اللازمة "متى تفهم؟" تسع مرات، إذ تريده أن يفهم يوماً أنها ليست واحدة كغيرها من صديقاته، وأنها لن تكون رماداً في سجائره، وأنه لن يستطيع تخديرها بجاهه أو إماراته، وأن كرامتها أكرم من ذهبه المكدس بين راحاته، وأنه إنسان يتمرغ في ضلالاته، فمتى يستيقظ الإنسان النائم في ذاته؟ وهو السؤال الذي تنتهي به القصيدة.
وتكشف القصيدة عن معجم لاذع (أيا جملاً في الصحراء لم يلجم، يا من يأكل الجدري منك الوجه والمعصم، أيا مشقق القدمين، تحنطهم كالحشرات، أيها المتخم، يا من فرّخ الإقطاع في ذرات ذراتك، أنت صريع شهواتك).
27، 28- قصيدتان سياسيتان الأولى عن جميلة بوحيرد ولكنه حين يتحدث عنها يستحضر عناصر الجمال في جسدها، (الجسد الخمري الأسمر، حروق في الثدي الأيسر في الحلمة وأطول نخلة، وفي صدرها استوطن زوج حمام، وثغرها غصن سلام وعيناها قنديل معبد، وشعرها الأسود شلال الأحزان، أما القصيدة الأخيرة فهي عبارة عن رسالة من جندي إلى والده وهي تندرج ضمن مجموعة القصائد الرسائل.
***
7-الرسم بالكلمات (13)
(1966)
1-مدخل
2-الرسم بالكلمات
3-أحلى خبر
4-صباحك سكر
5-حقائب البكاء
6-حبك طير أخضر
7-القصيدة البحرية
8-الحسناء والدفتر
9-يدي
10-بعد العاصفة
11-الدخول إلى هيروشيما
12-إلى تلميذة
13-يوميات قرصان
14-حصان
15-ثمن قصائدي
16-مرثاة قطة
17-ماذا أقول له؟
18-المجد للضفائر الطويلة
19-لو كنت في مدريد
20-بريدها الذي لا يأتي
21-تريدين
22-لا تحبيني
23-اغضب
24-يجوز أن تكوني
25-تعود شعري عليك
26-خمس رسائل إلى أمي
27-إلاّ معي
28-ساعة الصفر
29-مهرجة
30-التفكير بالأصابع
31-النقاط على الحروف
32-دموع شهريار
33-امرأة من زجاج
34-ديك الجن الدمشقي
35-من منكما أحلى
36-قبل وبعد
37-أخاف
38-ماذا ستفعل؟
39-حديث يديها
40-استحالة(1/60)
قبل التحليل الموضوعاتي لقصائد هذا الديوان واحدة واحدة للكشف عن المنجزات الهاجسية المتكررة التي تربط بين القصائد، نشير إلى أنّ ما صدر به هذا الديوان، يكشف عن موقف يلخص رؤية مأساوية لمنجزاته الشعرية خلال أزيد من عشرين سنة خلت:
عشرون عاماً فوق درب الهوى ... ولا يزال الدرب مجهولا
فمرة كنت أنا قاتلاً ... وأكثر المرات مقتولا
عشرون عاماً يا كتاب الهوى ... ولم أزل في الصفحة الأولى
ولعلّ هذا الموقف هو بمثابة إجابة على من يسأل: ترى ماذا أضاف الشاعر من جديد في هذا الديوان؟ فهل، فعلاً، لم يضف جديداً إلى كتبه السابقة، وأنَّه لا يزال في الصفحة الأولى؟ ذلك ما سوف نكتشفه من تحليلنا لقصائد هذا الديوان موضوعاتياً.
1-موضوع هذه القصيدة يتلخص في أنّ المرأة من صنعه، وذلك ما لم يفعله أحد سواه، فقد كانت مجهولة حتى أتى هو ورمى على صدرها الأفلاك والشهب، وكتب عن عينيها بالضوء، وحول تراب نهديها تراباً.
2-تلخص هذه القصيدة فكرة أنَّ الكلمات هي البديل الحقيقي للمرأة:
فمك المطيب لا يحل قضيتي ... فقضيتي في دفتري ودواتي
كل الدروب أمامنا مسدودة ... وخلاصنا في الرسم بالكلمات
ومعجم هذه الكلمات يتلخص في موضوع الضجر والملل والحزن (أبحث عن طريق نجاة، لا أرى في الظل غير جماجم الأموات، تنتقم النهود، ترد الطعنات بالطعنات، لو تدركين مرارة المأساة، لا أحد يرى دمعاتي، الحب أصبح كله متشابهاً، أنا عاجز عن عشق أي نملة، كل الدروب مسدودة).
هذا السأم والملل دفع الشاعر إلى الانكماش وإلغاء الآخر، وهكذا برزت الذات بديلاً للآخر:
مارست ألف عبادة وعبادة ... فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
3-تندمج المرأة في هذه القصيدة بالطبيعة، بل هي الطبيعة، ولذلك كتب كلمة "أحبك" فوق جذوع الشجر والسنابل، والجداول، والثمر والكواكب، وفوق عقيق السحر، وحدود السماء، وعلى ورقات الزهر، والجسر والنهر وصدفات البحار وقطرات المطر، وعلى كل غصن، وحصاة وحجر.(1/61)
4-إذا كان قد كتب لها في القصيدة السابقة "أحبك" فوق كل عناصر الطبيعة، فهذه المرأة هنا في هذه القصيدة وهم، فبالوهم يجملها، وبالوهم يخلق منها إلهاً:
فبالوهم أخلق منك إلها ... وأجعل نهدك قطعة جوهر
وبالوهم أزرع شعرك دفلى ... وقمحاً.. ولوزاً.. وغابات زعتر
ولذلك يدعوها أن لا تنتظر منه أن يتجاوب معها بصورة مباشرة، فالأفضل أن تتركه يراها كما يتصوّر، لأنَّه بالذهن يبصرها أكثر مما هي عليه في الواقع، ولذلك وجب أن يغمض عينيه عن بعض طيباتها الحقيقية، وعن قميصها كطفل صغير، خيالاته في صورة كلام غريب على وجه دفتره، وستكتشف بعد ذلك أن الخيال أجمل من الواقع، حين ترى صورتها مرسومة على دفتره. بيد أن الصورة الغريبة في هذه القصيدة هي صورة النهد الشهي كطعنة خنجر:
ونهدك.. تحت ارتفاف القميص
شهيّ.. شهيّ.. كطعنة خنجر
5-موضوعها ومعجمها يدوران حول الحزن، فعنوانها "حقائب البكاء" يوحي بذلك، ومطلعها (إذا أتى الشفاء) يوحي بذلك كذلك، ثم الرياح التي تحرك الستائر، والعصافير التي بلا منزل، والنزيف في القلب والأنامل، والأمطار التي تنهمر، والشتاء الذي خبّأ النجوم في ردائه الكئيب، كلّ ذلك ينعكس على عالمه الداخلي، أو أن عالمه الداخلي صور له العالم الخارجي بتلك الصورة، فيحس أن الأمطار كأنها تهطل في داخله فيأتيه الحزن كطفل شاحب غريب فيغمره شوق طفولي إلى البكاء. على حرير شعرها الطويل كالسنابل.
6-في هذه القصيدة يتحول الحب طيراً جميلاً أخضر غريباً ينقر من أصابعه ومن جفونه. وطفلاً أشقر متعباً يكسر ما في طريقه، ويزوره حينما تمطر السماء، ويظل طول الليل باكياً لا ينام. وهو أيضاً ينمو، كما تزهر الحقول وحدها، وكما ينمو الشقيق الأحمر على الأبواب، واللوز والصنوبر على السفوح، وهو كذلك جزيرة، وحلم من الأحلام لا يحكى. ومع ذلك يظل السؤال بلا جواب، ويقف الشاعر مندهشاً متسائلاً: أزهرة حبّها؟ أم خنجر؟ أشمعة تضيء أم عاصفة؟(1/62)
وتنتهي القصيدة بلا جواب (من يحب لا يفكر..).
7-موضوع القصيدة هو وصف لجمال عيني المرأة وتأثيرهما النفسي على الرجل. ومن خلال مجموعة من الأوصاف والاستعارات والتشبيهات، يتحدد عالم الشاعر المستمد من عينيها، إذ في عينيها دفتر مغلق يخبئ آلاف الأشعار، وأمطار من ضوء، وشموس دائخة، وطيور تبحث عن جزر لا وجود لها، وثلوج تتساقط في تموز، ومراكب حبلى بالفيروز، وأحجار تتكلم. ثم يتصور الشاعر نفسه طفلاً يركض في مساحاتهما ويستشف رائحة البحر، ثم يعود كعصفور أنهكه التعب وهو يحلم بالبحر والإبحار، وصيد ملايين الأقمار واللؤلؤ والزنبق، لكن لا شيء سوى الرحلة للمطلق والشباك البحري المفتوح والجزر التي لم تخلق والثلوج والمركب، والغرق والشموس الدائمة والطفل الراكض والعصفور المرهق.
هكذا يعود الشاعر إلى الواقع بعد رحلة سباحة في بحر عينيها ليكتشف أنّ لا شيء تحقق سوى القصيدة التي أوحت بها عيناها، الدفتر المغلق الذي يخبئ آلاف الأشعار يلتجئ إليه كلّما استعصت عليه قصيدة من القصائد.(1/63)
8-يكشف لقزحية العينين في هذه القصيدة عن حقيقة أخرى، غير تلك التي لمسناها في القصيدة السابقة، فهو يخاطب تلك الحسناء التي جاءت تطلب منه أن يزين دفترها بعبارة أو بيت شعر تريحه كالطفل فوق وسائدها، وتصرح أن شعره أروع وأغلى من جميع قلائدها. لكنه لا يستجيب لطلبها بحجة أنّه لم يعد تثيره المرأة وأنّه مجرد سراج خامد، وأنّه قد أحرق كل أشعاره الأولى، ورمى كل مزاهره وموائده، ثمّ ينصحها أن لا تبحث عنه من خلال كتاباته فشتان بينه وبين قصائده. فإذا كان قد صنع جمال كل جميلة وأثار نخوة كلّ نهد ناهد، وأشعل في حطب النجوم الحرائق، فهو اليوم أمامها كالجدار البارد كتبه ليست سوى مجرد ورق وحبر جامد، وبروقها ورعودها خادعة لأنّ النار ميتة في جوف مواقده، وسيفه خشب، ويذكرها أنّه مجرّد محارب بالحروف وأنّ المشاهد التي يصنعها كانت مادتها دائماً من دخان، وأنّ المعابد التي شيّدها للحب، قد سقط مقتولاً أمامها.
ويؤكد في آخر القصيدة أن هذه هي حقيقته، مستفسراً إياها: (هل بعد هذا تقرئين قصائدي؟)، يظهر في القصيدة مرة أخرى الشاعر صانع المرأة، وبلسانها يؤكد أن حروف قصائده أجمل من حليها، أي أنّ القصيدة أجمل من المرأة مهما تجملت.
9-محاولة رسم صورة لامرأة نائمة على يده فيراها: (كطفلة نامت على كتابها فهي طفلة ويده كتابها.، وهكذا أصبحت جزءاً من يده، بل صارت يده بشمسها وبحرها، وطهرها وكفرها ونثرها وشعرها، وكذلك: بحبها المحفور بالسكين في أعصابها، وباسمها المكتوب على أبوابها، وبوجهها المرسوم على ترابها، ويذكرها بذلك:
كم مرة.. لعبت بالثلج على هضابها
وضعت كالنجمة في أعشابها
لعلّ ما يلفت النظر في هذه القصيدة التعارض القائم بين الصورة الرائعة للمرأة المستلقية على يده، والبرود الذي توحي به لفظة الثلج.(1/64)
10-عودة إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، والخلافات بينهما، ولكن هذه الخلافات في هذه القصيدة، تبدو غير مؤثرة في مسار علاقتهما، لأنَّهما طفلان كانا في تصرفهما وغرورهما وضلال دعواهما، وحبّهما طفل لا بد أن يدارى وأن يعبد مهما بكى وأبكاهما. وتنتهي القصيدة بطلب يديها:
هاتي يديك.. فأنت زنبقي ... وحبيبتي. رغم الذي كانا..
إنّ المعجم الموضوعاتي الموجه للقصيدة والذي يعطيها بعداً آخر يتمثل في:
العام الذي مضى وبقيت غالية، المقطع الذي يذكر بقصيدة رثاء الأب (وبه معابدنا، جرائدنا/ أقداح قهوتنا، زوايانا)، الطفل، وتكشف القصيدة عن مثلث: الرجل، المرأة، الطفل بصورة رمزية.
11-تصوّر القصيدة عودة إلى التيه والضجر والملل والضياع، ورفض الآخر (المرأة)، فيستعير هيروشيما لقلبه الذي يشبه طائراً ظل قروناً ضائعاً تحت المطر، وزجاجة تدفعها الأمواج في بحر القدر، وسفينة مثقوبة تبحث عن خلاصها، وشواطئ لا تنتظر. وهو مدينة مغلقة، يخاف من زيارة ضوء القمر، مدينة يضجر فيها الضجر، أعمدة مكسورة، أرصفة مهجورة، يغمرها الثلج وأوراق الشجر وليس في ساحاتها سوى الذباب، والحفر، ورفيق واحد هو الضجر.
ويحذر المرأة (صغيرتي)، من محاولة التسلل إلى قلبه، فقد سبقتها أخريات وباءت محاولاتهن بالفشل. إنّها عودة إلى الانكماش والانغلاق على الذات ورفض الآخر، وهو الموقف الذي عبر عنه في القصيدة "الرسم بالكلمات".
12-"إلى تلميذة"، هو عنوان القصيدة وهي تدخل في سياق القصائد التي صاغها في شكل رسائل يسدي إليها بالنصائح الآتية: ما زلت طفلة، بيني وبينك أبحر وجبال، إنّ الرجال جميعهم أطفال، قصص الهوى أفسدتك، لا تجرحي التمثال في إحساسه. ثمّ يكشف عن نظرته إلى الحب تلك النظرة التي تكشف عن تباين في الموقف بينه وبينها.
الحب إبحار دون سفينة، وشعورنا أنَّ الوصول محال، وعلى الشفاه سؤال، هو جدول الأحزان في الأعماق. وينتهي إلى صياغة هذا الموقف على النحو الآتي:(1/65)
حسبي وحسبك.. أن تظلي دائماً
سرّاً يمزقني.. وليس يقال..
إنّها المرأة السرّ، المرأة المثال التي لا وجود لها في عالم الواقع.
13-يستمر في هذه القصيدة "يوميات قرصان"، اليأس والقنوط ولا جدوى العلاقة بينه وبين المرأة: (أشعر أنَّ حبّنا جريمة، إنّني مهرج عجوز، أشعر أنّي سارق، العبارات جريمة، الانتصارات هزيمة، أنا جريدة قديمة، تافهة الانتصار، حبنا تجربة انتحار، نهدك المزروع في جواري كخنجر، يشتمني، يجلدني، حبنا حماقة، ومبرر ذلك أنّها لا زالت نعجة غريرة، وصغيرة تحتاج للأمومة.
وهكذا تنتهي المقابلة بينه وبينها إلى النتيجة التالية:
وأنت يا صغيرتي
ما زلت ...
تحتاجين للأمومة..
...
أما أنا.. فمركب عتيق
يواجه الدقائق الأخيرة..
14-تحذير للمرأة من الوقوف بين يديه، ودعوتها إلى الابتعاد عنه وعدم إثارته، فالسم في شفتيه، والحقد البربري بصدره. ترتبط الشفة هنا بالموت وتعبر القصيدة عن رفض المرأة (السم، السوط، الحقد).
15-إنّ العلاقة المرفوضة التي صورتها القصائد السابقة تستمر في هذه القصيدة، ولكن المانع من قيام العلاقة، بين المرأة والشاعر طرف آخر. إنّهم رجال المدينة. ففي حين تمضغ النساء في المدينة القديمة قصتهما العظيمة، يرفع الرجال قبضاتهم وتشحذ الفؤوس كأنَّها جريمة أن تحب المرأة شاعراً.
في هذه القصيدة كذلك رفض قيام علاقة بين الرجل (الشاعر) والمرأة بغض النظر عن المبررات التي حالت دون قيام تلك العلاقة.
16-تصور القصيدة موقف الشاعر من المرأة التي تتحول من وجهها الطبيعي إلى الوجه الذي يعتمد على وسائل التزيين، ولذلك يرثي فيها تلك "القطة" التي عرفها من عامين ينبوع طيبة ووجها بسيطاً. وهو الوجه المفضل لديه.(1/66)
حيث كانت عيناها أنقى من مياه غمامة. وشعرها مرسلاً طفولي الضفائر، وقلبها صافياً، وأثوابها بيضاء ترشرش ثلجاً ومخملاً، وصوتها لا يسمع، وثغرها خجولاً، كانت كلها عذوبة، ولكن كل ذلك قد تبدل فتوحشت حتى صارت كقطة شارع، وودعت حسنها فاستحالت وداعتها رعونة، وزينتها تبذّلاً، وباختصار لقد اغتال حسنها نفسه حين غدت غجرية تنوء يداها بالأساور والحلي، تجول في ليل الأزقة لا تثير التخيل، لأنها كانت أيام البساطة أجمل.
يلاحظ هنا تحول في موقف نزار قباني من المرأة، وهو الذي كان دائماً مادحاً لعطورها وكل وسائل زينتها، ولكنه هنا يتّخذ موقفاً مغايراً لتبرير رفضه المرأة.
17-يلخص عنوان القصيدة موضوعها، "ماذا أقول له؟" حيرة امرأة، ماذا سيكون موقفها لو عاد إليها حبيبها بعد الهجر؟، وتقرّر أن تعطيه رسائله، وتطعم النار أحلى ما كتباه، فقصتها انتهت معه من سنين، وماتت ذكراه كخيوط الشمس، وكؤوس الحب تكسرت من زمان؟ ولكن سرعان ما يحدث التحول في الموقف دون أي مبرر، حيث أشياؤه الصغرى تعذبها، فتتجه إلى الله سائلة كيف تنجو من الأشياء رباه؟ وفي مقطع يذكرنا بذلك المقطع الوارد في رثاء أبيه في قصيدة "أبي" في ديوان "قصائد" يقول على لسانها:
هنا جريدته في الركن مهملة
هنا كتاب معاً.. كنا قرأناه
على المقاعد بعض من سجائره
وفي الزوايا.. بقايا من بقاياه..
ومن الأشياء إلى المرآة، راحت تحدق فيها وتسأل أي ثوب يليق للقياه، ثم تستقر على قرار، إنها لا يمكن أن تدعي أنها أصبحت تكرهه، فمسكنه في أجفانها، ولا يمكن أن تهرب منه فهو قدرها، وتؤكد أنه حتى خطاياه لم تعد خطاياه. وتنتهي القصيدة:
ماذا أقول له لو جاء يسألني
إن كنت أهواه. إني ألف أهواه..
إن البنية النفسية للقصيدة هي الصورة التالية: حيرة يقين قوة ضعف.(1/67)
18-قصيدة في صورة قصة امرأة ذات شعر طويل أسود هي ابنة الخليفة، يرويها وكأنها حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة (وكان في بغداد يا حبيبتي في سالف الزمان/ خليفة له ابنة جميلة../ عيناها طيران أخضران../ وشعرها قصيدة طويلة..) سعى إليها الملوك والقياصرة، وقدموا لها كنوزاً، وتيجاناً، وصحافاً من الذهب، مهراً لكنها رفضت الجميع لأنها كانت تحب شاعراً، وقرر الخليفة الانتقام فقص ضفائرها، وأعطى ألف دينار لمن يأتي برأس الشاعر.
وتنتهي القصيدة بهذا المقطع:
فالمجد يا أميرتي الجميلة..
يا من بعينيها، غفا طيران أخضران
يظل للضفائر الطويلة..
والكلمة الجميلة..
إن الضفائر الطويلة تساوي الكلمة الجميلة
أي المجد للمرأة وللقصيدة
وما دام شعرها قصيدة طويلة، فهي تساوي قصيدة.
19-قصيدة يتمنى فيها لو كانت حاضرة جنبه ليلة رأس السنة في مدريد (لو كنت في مدريد في رأس السنة) فالقصيدة، إذن استحضار لغائبة. وبناء القصيدة جاء على الشكل التالي: لو كنت في مدريد. كنا رأينا. لو ... كنا ذهبنا.. كنا حملنا، كنا شكونا، لو كنت.. كنا ملأنا، كنا صنعنا).
20-يدعوها إلى أن تقطع رسائلها عنه لأن ما كتبته ليس فيه إلا البرودة والصقيع، والتكلف، والإحساس المتحجر، والتصنع، والنفاق، والحديث المتميع، إنها مجرد رسائل لا تحمل في طياتها سوى فتات عواطف. فقد مرّت سنة وكل الذي عنده رسائل أربع. ثم يتحدث عن نفسه (أنا مِنْ هواك، من بريدك متعب، أريد أن أنسى عذابكما، لا تنجي يدك الرقيقة).
وإذا كان الحرف عندها لم يتعد الأصبع، فالحرف في قلبه نزيف دائم. وهنا مقابلة بين كلماته وكلماتها وهذه إشارة إلى الفرق بين رسائله (قصائده) ورسائلها.
21-تصور القصيدة هنا التعارض القائم بين المرأة الباحثة عن المال والجاه، والرجل البسيط الحالم بالخبز والحب وزوج تخيط ثقوب ردائه، وطفل ينام على ركبتيه.(1/68)
هي ككل النساء تريد كنوزاً، وأحواض عطر، وأمشاط عاج، وسرب إماء، ونجوم السماء، وأطباق منٍّ، وسلوى، وحريراً، وجلوداً، ومراوح ريش، أما هو فليس لديه سوى كبريائه.
وفي هذه القصيدة يظهر كذلك المثلث رجل، امرأة. طفل (في صورة حلم).
22-دعوة صريحة لأن لا تحبه (لا تحبيني) فهواها لم يعد يغريه، ثم يقابل بين حبه وحبها، حبه هو الدنيا بأجمعها. أما حبها فلا يعنيه. لأن الحب وهم في الخواطر، ويكرر هنا مرة أخرى أنه صانعها:
عيناك
من حزني خلقتهما
ما أنت؟ ما عيناك؟ من دوني
فمك الصغير..
أدرته بيدي
وزرعته أزهار ليمون..
23-قصيدة في صورة كلام من امرأة إلى رجل (طفل) تدعوه فيها أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يشاء (اغضب كما تشاء، اجرح أحاسيسي، حطم أواني الزهر، هدد بحب امرأة سواي) فكل ما يقوله أو يفعله سواء. فهو كالأطفال، محبوب مهما أساء وهو رائع حين يثور، وقلبها، دائماً، غفور. لا يمكن أن تتحداه بأي شيء لأنه طفل عابث، والطيور لا تنتقم من صغارها.
وتدعوه، إذا مل منها، أن يذهب حيث يشاء فالأرض فيها العطر والنساء، وعندما يحس أنَّ به حاجة إلى أن يراها، أو يحتاج كالطفل إلى حنانها، فليعد إلى قلبها متى شاء لأنه في حياتها كالهواء، والأرض والسماء. وعندها سيعرف معنى الوفاء.
إن المعجم المشكل لهذه القصيدة. يكشف عن امرأة في صورة أم ورجل في صورة طفل، وتبدو العلاقة بين المرأة والرجل هنا علاقة أم بطفل.
24-تكشف هذه القصيدة عن مقابلة بين امرأة ورجل متمثلة في ما يلي:
المرأة ... الرجل
-من أجمل النساء ... أبله معقد الشعور
-دافئة ... جبان مغرور
-وحشية ... خصي
-آمرة/ ناهية ... كئيب
-سمراء ... لا يقبل التزوير في الشعور
-إفريقية العيون
-عنيدة
-عنيفة
-جميلة-ساحقة الجمال
-مثيرة
متقنة اللهو
-مضطجعة عارية
-مليسة كريشة نعام
-سلطانة الزمان والعصور
-تهدد، تعربد، تثور
-شفافة كأدمع الربابة
-رقيقة كنجمة
-عميقة كغابة(1/69)
كل هذه الصفات في المرأة لم تعد تثيره، مهما كانت جميلة ساحقة الجمال دافئة، آمرة ناهية، عنيدة، إفريقية العيون، عنيفة، شفافة كأدمع الربابة، رقيقة كنجمة، عميقة كغابة، مثيرة للجلد، للأعصاب، للخيال، لم تعد تثيره وإن اضطجعت أمامه عارية، مليسة سنة وأزيد، فلن يحس أن هناك امرأة أمامه. لأن جسمها النقي كالقشطة والرخام لا يحسن الكتابة.
ومن ثم لا يحرضه على الكتابة ولا يستطيع أن يثيره.
25-قصيدة على لسان المرأة تتحدث عن شعرها الذي تعود على الآخر (الرجل)، منذ ثلاث سنين، ولكنه يهجرها بعد هذه المدة فتتوسل إليه أن يفكر فيها، وفي مصير شعرها إذا استمر في الهجران، وتعلن عن خوفها من التعلق أكثر به إذا ازداد اهتمامها بشكل يديه، وتنتهي القصيدة بالسؤال:
إذا رحت..
ماذا بشعري سأفعل؟
فكأن شعرها لا قيمة له إلا إذا كان في حياتها رجل.
26-قصيدة من خمسة مقاطع، بعنوان "خمس رسائل إلى أمي" يذكرها أولاً بالزمن (مضى عامان يا أمي) ويذكرها أنه ما زال طفلاً (الولد الذي أبحر)، ويذكرها أنه حمل معه (صباح بلاده، وأنجمها، وأنهرها، وشقيقها الأحمر، وطرابيناً من النعناع، والزعتر، وليلة دمشقية).
ثم يكشف لها عن شعوره بالوحدة، والضجر، والحزن، والبرودة التي يحسها مع نساء أوروبا (عواطف الإسمنت والخشب). ثم يذكرها بجولاته في أصقاع العالم (الهند، السند، العالم الأصفر)، ويؤكد لها أنه لم يعثر على تلك التي يريدها:
ولم أعثر..
على امرأة تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها
إلي عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثر(1/70)
ويؤكد لها مرة أخرى أنه ظلّ ذلك الولد الذي أبحر، ولا زالت بخاطره تعيش عروسة السكر. وأنه على الرغم من كونه صار أباً إلا أنه لم يكبر بعد، أي أنه ما زال طفلاً في علاقته معها. ثم يذكرها بوفاة الأب الذي تحلم بعودته الفلة وليست الأم أو الطفل، فهي التي تبحث عنه، في أرجاء غرفته وتسأل عن عباءته، وعن جريدته، وعن فيروز عينيه، يزف تحاياه إلى البيت الذي سقاهم الحب والرحمة، إلى أزهارها البيضاء، وفرحة (ساحة النجمة) وتخته، وكتبه، وأطفال الحارة، وحيطانها، وإلى القطط. والليلكة المعرشة على شباك الجارة.
ثم يذكرها مرة أخرى (مضى عامان) ولكن وجه دمشق وفل دمشق، وليل دمشق، ودور دمشق تسكن في خاطره، ومآذنها تضيء مراكبه.
ويذكرها بعودة أيلول. وبغياب الأب، كما يذكرها بطفولته في دمشق.
وهنا نلاحظ عودة المثلث العائلي مرة أخرى الأب، الأم، الطفل.
27-توحي القصيدة وكأنه هنا لا يشير إلى المرأة، وإنما يتحدث عن القصيدة التي لا يمكن أن تكون امرأة إلا معه أما مع غيره فلن تكون كذلك ولها أن تضاجع من تشاء وتمارس الحب مع من تشاء، وتنام مع كل أصناف البشر، ولكنها ستتذكر دائماً أصابعه ولو عاشت بعده ألف عام، لأن أصابعه هي التي كتبتها ووضعت بصماتها عليها وحدها دون سواها.
28-تصور هذه القصيدة نهاية العلاقة بين الرجل والمرأة بعد عشرة خمس سنوات، فقد صارت غير محتملة، لأن أطوارها غريبة وفوضى، وأفكارها طين، وصوتها وحشي، ومن ثم لا بد من تركها لزيف الزائفين، ويظهر فيها مثلث: امرأة، رجل1، رجل2 (آخر) وتكشف نهاية القصيدة عن كراهية شديدة للمرأة
أبعدي الوجه الذي أكرهه..
أنت عندي
في عداد الميتين..(1/71)
29-تنتهي العلاقة بينهما بعد خمس سنوات فتبحث عن عشيق آخر، وتقترح عليه، أن يظلا صديقين، فيثور لذلك لأنه إما أن يكون سيدها الوحيد أو لا يكون، ويدعوها إلى الابتعاد عنه لأنه لا يستطيع أن يزوّر نفسه، في حين تستطيع هي أن تفعل ذلك، ويأمرها أن تتوارى عن طريقه.
وتظهر في القصيدة البنية نفسها التي لوحظت في كثير من القصائد: امرأة، رجل1، رجل2. وكذا السنوات الخمس التي دامتها العلاقة بين الاثنين، وهو نفس عدد السنوات الذي ورد في قصيدة "ساعة الصفر".
30-إن القصيدة في مضمونها الظاهر تصور عقلية الإنسان الشرقي، من حيث علاقته بالمرأة، إذ لا يهم من يكون بل المهم ماذا بإمكانه أن يفعل معها في السرير، ولكنها في مضمونها الخفي، المضمر تسير في اتجاه مجموعة القصائد التي تلغي المرأة.
31-تلتقي هذه القصيدة مع قصيدة "المهرجة" و "ساعة الصفر" و "يجوز أن تكوني" فهي تعبر عن رفضه المرأة، وهي من قصائد الهجاء، وهي تكشف عن معجم الشاعر في مثل هذه القصائد الهجائية فالمرأة فيها: عصبية، بربرية، غبية، ممثلة مسرحية، جبانة، مسؤولة عن موت هواهما، قاتلة، بهلوان، منافقة، متجبرة، قشة تطفو على السطح، لم تعش الحب يوماً كقضية، وهي من غير تاريخ ومن غير هوية.
32-هي عبارة عن محاولة البحث عن امرأة واحدة وسط ألوف النساء فلا يجدها وتلك مأساة شهريار. تبدأ، القصيدة بالسؤال: ما قيمة الحوار؟ ما دامت المرأة قانعة بأن الرجل وارث شهريار، ثم يدافع عن نفسه قائلاً: لا أحد يفهم مأساة شهريار. فالجنس في حياتنا فرار، ومخدر، وضريبة ندفعها بدون اختيار، ثم يكشف عن الإحساس بالملل والسأم، حيث تتكرر لفظة مللت ثلاث مرات، ويكشف عن الإحساس بتفاهتها فجسدها لم يعد شيئاً يثيره: نهدها المعجون بالبهار مقصلته وصخرة انتحاره، والشفاه كلها صارت عنده كالشوك في البراري، والنهود كلها تدق في رتابة. ثم تنتهي القصيدة بخطاب يوجهه إليها يتهمها بأنها لم تستطع أن تفهم مأساته:(1/72)
لن تفهميني أبداً..
لن تفهمي أحزان شهريار..
فحين ألف امرأة.. ينمن في جواري..
أحس أن لا أحداً..
ينام في جواري ...
وهذا الموقف يعد نفياً للمرأة أو للأنثى التي يبحث عنها فهي لا وجود لها بين النساء.
33-هي مقابلة بين رجل وامرأة وأيهما أقدر على دحض الآخر، فهي بجمال عينيها كلها تحد، ولكنها في حقيقتها أجبن الجبناء، كما هي أغبى الأغبياء في "قصيدة النقاط على الحروف" فمهما كان سلاحها قوياً وفعالاً فإنه لا يساوي شيئاً. فإذا كان حقدها قطرة، فحقده طوفان، وسيمزقها بسياط حقده، ويصفها بأنها آخر امرأة تحاول أن تقف في طريق مجده:
.. يا آخر امرأة.. تحاول
أن تسد طريق مجدي.
ولكن المرأة هنا تهدده بحبّ آخر لغيره وزند غير زنده، وهنا يدرك أنه لم يعد وحده، فيصفها بالرخيصة، ثم يقابل بينه وبين الآخر الذي يسعى إليها، ويؤكد لها أنه لا يساوي شيئاً وأنه لا يرضى أن يتخذه عبداً. وإذا ما أصرت على ذلك فليكن لها ما تشاء. وعليه أن يعرف أنه سيمضغ النهد الذي خلفه أنقاض نهد.
يتكرر هنا مرة أخرى المثلث: امرأة، رجل1، رجل2. أي المرأة والرجل والمنافس. والغيرة هنا من الرجل الثاني تتجه إلى النهد، وكأن العلاقة التي تربطه بالمرأة هنا علاقة طفولية.
34-تبدأ القصيدة بهذا المقطع:
إني قتلتك.. واسترحت
يا أرخص امرأة عرفت..
ثم تتوالى العبارات والكلمات الدالة على رفض إقامة العلاقة مع المرأة، أغمدت في نهديهك سكيني، وفي دمك اغتسلت، أكلت من شفة الجراح (يلاحظ هنا ارتباط الشفة بالجراح)، طعنت حبك، رميت للأسماك لحمك، لا تستغيثي، انزفي، قتلتك عشر مرات.(1/73)
وعلى الرغم من هذا المعجم الذي يؤكد التخلص من المرأة إلا أن تحولاً في القصيدة قد حدث بعد ذلك، فالجريمة التي اقترفها في حقها عشر مرات فشلت، وانتصاره عليها هزيمة، والقبر الذي بحث عنه لدفنها لا أثر له، وهنا يكتشف أن الهرب منها هرب إليها، فهي موجودة في كل زاوية، وفي كل فاصلة كتبها، فإذا كان قد قتلها فإنه في واقع الأمر قد قتل نفسه.
تصور القصيدة هنا نوعاً من الإحساس بالذنب إزاء الآخر (المرأة)، ولا شك في أن هذا الإحساس قد أيقظه معجم الجريمة، ولكن هذا الإحساس لا ينفي كون القصيدة تنتمي إلى مجموعة القصائد التي تصور العلاقة غير السوية بين الرجل والمرأة.
35 إلى 39 تعد هذه المقطوعات الشعرية القصيرة جداً والتي لا تتعدى أربعة أسطر بداية التجريب الشكلي، فالمقطوعة الأولى رقم (35) عبارة عن مفاضلة بين القصيدة والمرأة ولكنها حيرة لا تنتهي إلى اتخاذ موقف من منهما أحلى.
وتصور الثانية (36) قصائده قبل أن يحب تلك المرأة وقصائده بعد ذلك، وينتهي إلى القول: إنّ قصائده بعد ذلك أحلى.
وتصور المقطوعة (37) ضرورة أن يبقى الحب سراً من أسرار الكون.
وتصور المقطوعة (38) عنف القبلة، والإحساس الذي يعقبها.
في حين تصور المقطوعة (39) العودة إلى تلك العلاقة غير السوية بين الرجل والمرأة حيث تتهم فيها المرأة بالجهل، وتصور المقطوعة (40) استحالة اغتصاب المرأة.
41-43 أوراق إسبانية، وأحزان في الأندلس، وغرناطة تصور استعادة البيت الدمشقي. أي الحنين إلى المكان والسفر عبر الزمان إلى أيام العرب في إسبانيا، ووجه الشبه بين إسبانيا الأمس وإسبانيا اليوم إذ لم يبق من قرطبة سوى دموع المئذنات الباكية، وأعين ما زال في سوادها ينام ليل البادية. ووجه دمشقي ومنزل الشاعر القديم، وحجرة كانت بها أمه تمد وسادته حيث الياسمينة رصّعت بنجومها.
***
8-النتائج:(1/74)
من خلال تنضيد مائتين وثلاث (203) قصائد في الدواوين السبعة السابقة التي تغطي مرحلة 1944-1968 نلاحظ هيمنة مجموعة من العناصر هي التي توجه التجربة الشعرية عند الشاعر وهي التي تقتضي دراستها، وتتمثل هذه العناصر في:
1-المرأة من صنع الشاعر، الذات المبدعة للمرأة الصانعة لجمالها.
2-عالم الجسد، في المرأة يتمثل في النهد والشفة والشعر والعين.
3-المرأة قصيدة، صانعة القصيدة، الصراع بين المرأة والقصيدة، وجود المرأة شرط وجود الشعر.
4-العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة مثالية غير محققة، والموعد بينهما لا يتحقق.
5-المرأة الوهم، المثال، الملهمة، الغائبة، السر، الطيف، المجهولة، الصورة الذهنية. امرأة بدون ملامح محددة ولا مواصفات جسدية..
6-المرأة الأم، البيت، المدينة، الصبا والطفولة.
7-المرأة طبيعة والطبيعة جسد أنثوي.
8-الحب والكراهية، المدح والهجاء، هجاء لاذع غالباً ما يقابل فيه بين المرأة والشاعر الذي قد يتعاطف معها تعاطفاً شديداً.
9-العلاقة بين الطفولة والأمومة. الخطيئة والطهر، القداسة والدنس، المرفوض والمرغوب في المرأة.
10-مثلث الرجل، المرأة، الطفل.
11-العلاقة الباردة بين الرجل والمرأة.
12-الرجل المنافس المرفوض، المرأة المذمومة المرفوضة.
لكن المرأة الأم، المرأة الشعر، المرأة المدينة هي النماذج الأكثر حضوراً في شعر نزار قباني بدءاً من ديوانه الأول "قالت لي السمراء" إلى ديوانه "الرسم بالكلمات"، فعلى امتداد ربع قرن من الشعر في مديح النساء وهجائهن كذلك كانت المرأة الأم سيدة المقام، وسوف نؤكد هذه النتائج من خلال باقي الدواوين.
(
الهوامش:
(1)خريستو نجم، النرجسية في أدب نزار قباني، دار الرائد العربي، بيروت 1983، ص 23-24.
(2)نجم، ص 169.
3-نفسه، ص 148.
4-نزار قباني، قالت لي السمراء، منشورات نزار قباني، بيروت (د.ت).
5-نزار قباني، طفولة نهد، منشورات نزار قباني، بيروت 1969.(1/75)
6-S. FREUD, le Fétichisme, in S. FREUD, la Vie Sexuelle, P. U. F, PARIS, 1970, P 135.
7-S. FREUD, Behavior, in The Human, W. B, Smitors, 1950.
... (نقلاً عن: نجم، ص 147).
8-نزار قباني، سامبا، المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت، 1964.
9-نزار قباني، أنت لي، منشورات نزار قباني، بيروت (د.ت).
10-نزار قباني، قصائد، منشورات نزار قباني، بيروت، 1980.
11-قصيدة أثارت زوبعة نقدية حينما اعتبرها بعض النقاد مسروقة من "جاك بريفر" الذي كتب قصيدة بالعنوان نفسه.
((
الفصل الثاني:
المرأة الجسد
1 ـ المرأة الأم:
أ ـ المرأة والشعر العربي.
ب ـ المرأة في شعر نزار قباني.
ج ـ المرأة الأم.
2 ـ المرأة الحبيبة.
1 ـ المرأة الأم:
أ ـ المرأة والشعر العربي.
لقد حفظ لنا تاريخ الشعر العربي شعراء ارتبطت أسماؤهم بأسماء نساء، فلا يكاد يذكر الشاعر حتى تذكر تلك المرأة معه، من هؤلاء:
(جميل ـ بثينة). (عروة -عفراء (كثير ـ عزة). (قيس بن ذريح ـ لبنى).(مرقش ـ أسماء). (عبد الله بن عجلان ـ هند). (قيس بن الملوح أو مجنون بني عامر ـ ليلى). (الغمر بن ضرار ـ جُمل.). (أبو نواس ـ جنان). (أبو العتاهية ـ عتبة). (ابن المعتز ـ بِشر). (ابن زيدون ـ ولادة). (خريمة بن هند ـ فاطمة). (بشار ـ عبدة).
وتبدو صورة العلاقة بين بعض هؤلاء الشعراء والنساء اللواتي تغنوا بهن صورة مأساوية. يقول الجاحظ في معرض مناظراته بين صاحب الغلمان وصاحب الجواري: "ولم نسمع بعاشق قتله حب غلام،ونحن نعد من الشعراء خاصة الإسلاميين جماعة، منهم جميل بن معمر قتله حب بثينة، وكثير قتله حب عزة، وعروة قتله حب عفراء، ومجنون بني عامر هيمته ليلى، وقيس بن ذريح قتلته لبنى، وعبد الله بن عجلان قتلته هند، والغمر بن ضرار قتلته جُمل، هؤلاء من أحصينا ومن لم نذكر أكثر"(1).(1/76)
وقد تفنن هؤلاء الشعراء في وصف مفاتن المرأة الجسدية حتى صار بالإمكان استخلاص معجم لجمالية جسدها عندهم. وقد تحدث الجاحظ عن شيء من ذلك حين قال: "قالوا: مدمجة الخصر، لذيذة العناق، طيبة النكهة، حلوة العينين، ساحرة الطرف، كأن سرتها مدهن، وكأن فاها خاتم، وكأن ثدييها حقان، وكأن عنقها إبريق فضة"(2).
إنَّ هذه الجمالية الجسدية للمرأة لا تختلف كثيراً عن تلك الجمالية التي عبر عنها الإنسان العربي قبل الإسلام حين قال عن المرأة الجميلة بأنها تلك التي تكون: كحلاء، عيناء، زجاء، بلجاء، بيضاء، شماء، مأسورة، فلجاء، لمياء، لعساء، جيداء، غيداء، أثيثة الشعر، مشرقة النحر، مضمرة الخصر. والمقصود بذلك أن تكون المرأة واسعة العينين مع شدة سوادهما. دقيقة الحاجبين مع طولهما، وأن يكون هناك تباعد مابين الحاجبين، وهذه المسافة مابينهما يجب أن تكون خالية من الشعر. دقيقة الأنف مع استواء قصبته في علو. دقيقة أسنانها محززة وحادة أطرافها. سمراء الشفاه واللثاث طويلة العنق في حسن ودقة. طويلة الشعر مع غزارة واسترخاء. رقيقة الخصر عما يحيط به(3).
لقد أنتجت علاقة الشاعر العربي بالمرأة شعراً كثيراً كان بمثابة ديوان ضخم نجد فيه صور هؤلاء الشعراء وأخيلتهم ونظرتهم إلى المرأة ومواقفهم منها. واتخذ بعضهم المرأة موضوعاً وحيداً لشعره دون سواه من الموضوعات. وبذلك حققوا ذواتهم وهويتهم الفنية من خلالها..
وخلد بعضهم أسماء نساء ما كان خلودهن ممكناً لولا دخولهن عالم الشعر. وعلى الرغم من ارتباط أسماء معينة بشعراء معروفين إلا أن اللعبة بين الشاعر والمرأة لم تقتصر، في أغلب الحالات، على اسم معين بل تجاوزته إلى مجموعة من النساء، وأحياناً اقتصرت علاقة الشاعر بالمرأة على نساء طبقة محددة مثل ما نجد عند عمر بن أبي ربيعة.(1/77)
لقد كانت المرأة دائماً في تاريخ الشعر العربي بطاقة هوية لكثير من الشعراء، وقد استمر ذلك عند شعرائنا المحدثين، وفي مقدمتهم نزار قباني الذي جعل منها بطاقة هويته.
ب ـ المرأة في شعر نزار قباني.
لعل السؤال المحير هنا هو ما الذي يجعل المرأة موضوعاً خالداً للكتابة الأدبية ـ (بصورة عامة والشعرية بصورة خاصة)ـ دائم التجدد والتعدد والتلون والتنوع؟ ويزداد هذا السؤال تعقيداً وإِبهاماً وتصبح الإجابة عليه ضرباً من المستحيل عندما تصبح المرأة موضوعاً وحيداً يحفز الشاعر دون سائر الموضوعات المحفزة للإنسان في هذا الكون والتي لا تعد. وعندما يصبح هما فيه تذوب شتى الهموم الأخرى، ونقطة مركزية في الكون تسبح حوله سائر الموجودات ولا يدركها الشاعر إلا من خلالها وهي المفتاح الذي لا تنفتح سائر أبواب الدنيا بدونه. وهي المبتدأ والمصير. ذلك شأن الشاعر نزار قباني الذي نشر أول ديوان له سنة أربعة وأربعين وتسع مائة وألف تحت عنوان "قالت لي السمراء" ومنذ ذلك الحين وهو يبحث عما قالته له السمراء أو ماذا تريد أن تقول له المرأة؟ وما الإشارات التي يرسلها جسدها؟ وذلك من خلال جل أدبه، لاسيما أشعاره في الحب(4).
وبعد خمسين سنة من رحلة البحث هذه يعلن لسمرائه أنه رجل واحد وأنها صارت قبيلة من النساء، لا تحدها حدود جغرافية طبيعية، ولا تزاحمها في الوجود قبيلة أخرى عدا قبيلة الأعداء من الرجال. وذلك من خلال ديوانه الصادر سنة ثلاثة وتسعين وتسع مائة وألف بعنوان: "أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء" ... وذلك عن عمر تجاوز السبعين بقليل.
فما الذي جعل المرأة موضوعاً لأولى قصائده وهي أيضاً، موضوع لآخر قصائده وموضوع لكل شعره طوال ربع قرن، وموضوع لجل أشعاره طوال أزيد من نصف قرن؟ ...
كيف استطاع هذا الموضوع أن يوحي له بآلاف الصور ويظل مكروراً دون أن يتكرر، حاضراً دون أن يغيب لحظة واحدة، وطيفاً ووهماً يحاصر مخيلة الشاعر ويفرض عليها أجمل الصور؟ ...(1/78)
إذا كان الشعر (رسماً بالكلمات) فما الصورة التي رسمها نزار قباني للمرأة بالكلمات؟..
تلك بعض الأسئلة التي نحاول الإجابة عليها. بيد أن المهمة ليست سهلة فما أكثر الأسئلة التي طرحها الشاعر نفسه، وأجاب عليها دون أن يقنعنا وما أكثر الأسئلة التي طرحت عليه أو طرحها النقاد حول هذا الموضوع ولكن الإجابة عليها ظلت محدودة:
لماذا المرأة، إذن، في شعره؟
يتساءل نزار قباني بدوره:
ـ لماذا اخترت المرأة، دون غيرها، من الكائنات الجميلة، دفتراً أكتب عليه أشعاري؟..
ـ لماذا احتلت المرأة تلك المساحة الشاسعة من أوراقي، ومدت ظلها على ثلاثة أرباع عمري؟ وثلاثة أرباع فني؟ ...
ـ لماذا أكتب عن المرأة؟..
ويؤكد أن تسعين بالمائة من الأحاديث الصحفية التي تجري معه تطرح ذات السؤال الذي أصبح بالنسبة إليه صداعاً يومياً لا يحتمل:
"لماذا اخترت المرأة موضوعاً رئيساً لشعرك ... ونسيت الوطن؟..
ويجيب نزار قباني على هذه الأسئلة الخطيرة بسؤال بسيط ولماذا لا أكتب عنها؟! ...
ثم يبرر ذلك، أو يحاول أن يجيب على هذه الأسئلة، وكأنه عالم اجتماع يحلل الواقع العربي بقسوة، ويقدم الحلول التي يراها بديلة لهذا الواقع، بديلة لمنطق ذكور القبيلة الذين يعدون الأنثى عارهم في الليل وذلهم في النهار، والذين لشدة خوفهم من جسد المرأة يتآمرون عليه، ويحاكمونه، ويدينونه، ويحكمون عليه غيابياً بالإعدام، هذا المجتمع الذي ثلاثة أرباع مؤسساته، تأكل، تشرب، وتعتاش على حساب الجنس الثاني، وحساب مواجعه، وخريطة الشرق الوحيدة التي تعتمد وتدرس في المدارس هي خريطة الجسد النسائي. فعلى جسد المرأة وحدها كما يقول، عمرنا المواقع الحربية، والحصون، والقلاع، ومددنا الأسلاك الشائكة.(1/79)
وعلى هذا الجسد كتبنا قواعد الخير والشر، ومبادئ الأخلاق، وعلقنا لافتات الشهامة، إننا لم نشف بعد من فكرة الأنثى العار(5). ومن ثم يؤكد أن فكرة التوبة عن الشعر النسائي غير واردة وأن ملفه الشعري حافل بجميع القضايا مع النساء وأنه ملف ضخم وأن الحقيقة النسائية رغم تعددها واحدة، على الرغم من أنهن عالم فيه الأبيض، والأسود، والأحمر، والرمادي. وأنه يكتب عن كل نساء العالم، وأنه رغم خلافاته مع بعض النساء فقد بقيت المرأة صديقته. وأنه مسؤول عن المرأة حتى الموت(6). لكنه يؤكد في موضع آخر: "إن شعري كله ابتداء من أول فاصلة حتى آخر نقطة فيه، وبصرف النظر عن المواد الأولية التي تشكله، والبشر الذين يملؤونه من رجال ونساء، والتجربة التي تضيئه سواء كانت تجربة عاطفية أو سياسية هو شعر وطني"(7). فما كتبه من شعر عن المرأة، إذن، كتبه عن الوطن. فالمرأة عنده وطن، لأن من يحب المرأة يحب الوطن ويحب الآخرين، وأن: "الوطن قد يصبح في مرحلة من المراحل عشيقة أجمل من كل العشيقات وأغلى من كل العشيقات" (8). ويؤكد ذلك شعرياً حين قال:
كلما غنيت باسم امرأة
أسقطوا قوميتي عني، وقالوا:
"كيف لا تكتب شعراً للوطن"
فهل المرأة شيء آخر غير الوطن؟
آه لو يدرك من يقرَأُني
أن ما أكتبه في الحب..
مكتوب لتحرير الوطن..(9).
وفي قصيدة أخرى تحت عنوان "من لا يحبك يبقى دونما وطن"(10) تظهر المعادلة التالية:
حب المرأة = البقاء على صلة بالله.
ـ بالأرض.
ـ بالتاريخ.
ـ بالزمن.
ـ بالماء.
ـ بالزرع.
ـ بالطفولة.
ـ بالخبز.
ـ بالبحر.
ـ بالأصداف.
ـ بالسفن.
ـ بالنجوم.
ـ بالشعر.
وفي قصيدة "أجمل نصوصي" يقول:
لو لم أبصر وطني الثاني في عينيك..
أكانت هذه الدنيا كذبا ... (11).
ويقول في موضع آخر:
فكيف أزعم أني دونما وطن؟
وكل أنثى أحبتني هي وطن.. (12).(1/80)
ولكنه في موضع آخر يعلن أنه عاش هذه التجارب التي كتب عنها مؤكداً أنه لكي نكتب عن العشق، لابد لنا أن نموت عشقاً، وأنه في كل ما كتبه كان جزء من الرواية، لا مشاهداً في مقاعد المتفرجين، على الرغم من أن هناك كتاباً يتفرجون على الحب، ويكتبون عنه ألوف الصفحات، وشعراء يقومون بتركيب المرأة تركيباً ذهنياً في مختبرات أحلامهم، بيد أنه يرى أن تجربة هؤلاء تبقى مخبرية باردة، محرومة من وهج الحياة وحرارتها(13). لكنه يؤكد في موضع آخر أن نساءه كلهن من الواقع العربي، ويلح على ذلك: "وليس من باب التبجح والغرور القومي أن أقول: إن تجاربي وأبطالي، وخلفية شعري، كانت عربية مائة بالمائة، والنساء اللواتي يتحركن على دفاتري هن عربيات، وهمومهن، وأزماتهن، وأحزانهن، وصرخاتهن، هي هموم وأزمات وصرخات الأنوثة العربية ( ... ). إنني نقلت الواقع العربي في تعامله مع المرأة ولم أخترعه من عندي"(14)، ويمثل لذلك بقصيدته (الحب والبترول) ويجعلها صورة للإقطاع العاطفي، وللعلاقة اللا أخلاقية بين رجل يستملك بدفتر شيكاته، وامرأة تستملك بسنابل شعرها الذهبي وطفولة نهديها، كما يمثل بقصيدته (حبلى) ويجعلها صورة عنيفة للظلم الواقع على جسد المرأة قليلة التجربة، سيئة الحظ، ويقول عن قصائده: (أوعية الصديد)، و(إلى أجيرة)، و(رسالة إلى رجل ما)، و(صوت من الحريم)، و(رسالة من سيدة حاقدة)، و(البغي) إنها تمثل تشهيراً واحتجاجاً على شريعة الاحتكار والأنانية والإقطاع التي تتحكم بالمجتمع العربي في علاقاته العاطفية والجنسية (15).(1/81)
ويرى في موضع آخر أن الكاتب لا يستطيع أن يتجاوز المرأة وإن تجاوزها فهذا يعني أنه تجاوز نبضه، ودورته الدموية وبذلك يدخل في التكلس والموت، إذ لا أحد تجاوز المرأة إلاَّ تحول إلى إسفنجة أو إلى مسمار أو إلى منحرف جنسي(16) لأن المرأة هي التي تشعل فينا شهوة الكتابة وتستولدنا القصائد كما نستولدها الأطفال عندما تلغي زمن الرجل الخاص وتدخله في زمنها هي(17) .
المرأة عند نزار قباني هي جواز سفره، وبطاقة هويته، وهي كل تاريخه الثقافي والحضاري، بل هي ذاته الحاضرة الغائبة دوماً، تختزل عناصر الحياة الأربعة، تختزل الفصول الأربعة، تختزل العالم كله في نظرة أو في إشارة أو حركة، وهي كالبرق تلمع لتضيء غياهب نفسه وظلماتها ثم تختفي بالسرعة نفسها التي أضاءت بها تلك الغياهب. يعثر عليها تارة وتضيع منه في معظم الأطوار، فتشكل بذلك الحضور والغياب في الوقت نفسه، إنها قارب نجاة أحياناً ومرفأ أمان أحياناً أخرى، ولكنها في معظم الأحيان عاصفة هوجاء ومصدر ضياع وقلق وخوف ورهبة وحزن أبدي وإن تخلله من حين إلى آخر بعض فواصل من السرور، إنها داؤه العضال لكنها مسكن هذا الداء في ذات الوقت. ولكن مع ذلك فقليلات هن النساء اللواتي ضربن جهازه العصبي فكتب فيهن شعراً، وما كل امرأة عرفها حركت رياح الشعر في داخله، ولا كل علاقة نسائية فتحت شهيته إلى الكتابة، كثيرات من النساء ذهبن من حياته كما أتين، ولم يتركن وراءهن حرفاً ولا فاصلة، فقد كان دائماً في داخله يتصارع الرجل والشاعر كما يقول: بيد أنه يقول شعرياً:
ليس عندي قصيدة ذات شأن
لم تضع رأسها على ركبتيك
أنت أصل الأشياء.. هل ثم شعر
جيد لم يمر بين يديك؟ ... (18)
ويقول في موضع آخر:
يا امرأة أحبها..
تفجر الشعر إذا داست على أي حجر(19)
فمن هي (المرأة ـ الشعر)، إذن،؟ وكيف تأتيه القناعة الشعرية؟(1/82)
يعترف نزار قباني أنه من خلال تجاربه، تعلم أن المرأة الشعر هي التي تترك شرخاً وارتجاجاً في قشرة دماغه، وتحدث خلخلة في إيقاع أيامه، وفي نظام الأشياء من حوله، ومن ثم فإن النساء اللواتي أحدثن كسراً في زجاج حياته لا يتجاوز عددهن أصابع اليد، أما الباقيات فلم يتركن سوى خدوش بسيطة على سطح جلده، ويؤكد أنه على الرغم من سمعته كشاعر حب فإنه نادراً ما وقع في الحب، خمس مرات ربما في مدى ثلاثين عاماً(20). ومن خلال مجمل ما كتبه نزار قباني فيما يشبه سيرته الذاتية يمكن أن نحدد نوع المرأة التي يمكن أن تقوم بينه وبينها علاقة حب كما أورد شروطها وهي كما يلي:
"أولها أن تكون من أحبها تشبهني، وثانيها أن تكون أمي.. وثالثها أن يكون فني جزءاً من عمرها كما هو جزء من عمري"(21) ويؤكد هذه الحقيقة مرة أخرى في حوار أجراه سنة 1987 وهو على مشارف الستين من العمر: "لم تتغير مطالبي من المرأة كثيراً.. فلا أزال أبحث عن أمي في كل امرأة أقابلها ... ولا أزال أبحث عمن ترضى أن تسكن معي أنا وشعري، تحت سقف واحد ... "(22).
يظهر من هذا الاعتراف أن العناصر التي يجب توافرها في المرأة ـ الشعر هي: قيام علاقة مشابهة بين الشاعر وبينها من جهة، وبينها وبين أمه من جهة ثانية. ويمكن صياغة ذلك في شكل مثلث (أ ب جـ):
أ (الشاعر).
(الأم) ب ... ... ... ... ... ... ج (المرأة).
نلاحظ هنا علاقتين محددتين وعلاقة غير محددة:
1 ـ العلاقة أ جـ ـ جـ أ محددة بسمة المشابهة.
2 ـ العلاقة جـ ب ـ ب جـ محددة بسمة المشابهة.
3 ـ العلاقة أ ب ـ ب أ غير محددة بأية سمة.(1/83)
فأية صورة ذهنية يحملها الشاعر عن الأم؟، لأن تلك الصورة هي التي تحدد علاقة المشابهة بين الحبيبة والأم، وهل يمكن أن تصل هذه العلاقة حد التطابق؟ ... إن ذلك ضرب من المستحيل ولعل ما يفسر تحطم أكثر علاقاته مع المرأة غياب شرط من هذه الشروط فمن كانت تشبهه لم تقبل أن تكون أمه كما يقول، ومن قبلت أن تكون أمه لم تقبل أن تكون معه ومع الشعر في غرفة واحدة(23)، وإذا ما توافرت الشروط الثلاثة السابقة في المرأة سارع إلى إيجاد مبرر آخر: "ابحث مثل شهريار، عن امرأة تحبني لذاتي، لا لكوني شاعراً معروفاً تحيط به الخرافات والأساطير من كل جانب" (24). ولعلنا هنا نكون قد وضعنا أصابعنا على أهم مفاتيح شعره في المرأة متمثلاً في البحث عن امرأة تحبه لذاته حباً أمومياً:
أحببتني شاعراً طارت قصائده
فحاولي مرة أن تفهمي الرجلا
وحاولي مرة أن تفهمي مللي
قد يعرف الله في فردوسه المللا(25)
جـ ـ المرأة الأم:
إن الانطباع الذي قدمه لنا نزار قباني في سيرته الذاتية عن الأم حين قال: "أما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب، كانت تعتبرني ولدها المفضل، وتخصني دون سائر أخوتي في الطيبات ( ... ) ظلت ترضعني حتى سن السابعة، وتطعمني بيدها حتى الثالثة عشرة"(26)، والذي أكده عندما سئل مرة عن أول سيدة في حياته حين قال: "أمي كانت ـ ولا زالت ـ هي السيدة الأولى في حياتي"(27)، هذا الانطباع لاشك في أنه قد وجه شعره منذ أن نشر باكورة أعماله إلى آخر ديوان صدر في حياته (تنويعات نزارية على زمن العشق 1996)، لقد ظلت الأم رفيقة مساره الشعري، والنثري، والإعلامي. ولاشك في أن حضورها الدائم في أشعاره وحالة الحزن التي رافقته تؤكد هاجسيتها.
فما الصورة التي قدمها لنا الشاعر عن الأم في شعره..؟ ...(1/84)
لقد أشار إلى الأم في دواوينه الأولى ثلاثاً وعشرين (23) إشارة، بشكل صريح أحياناً، وبشكل مضمر أحياناً أخرى، وكثيرا ما تتردد علاقة الصبا التي جمعته بالمرأة واستحالة أن يصير الحب واقعاً، فموعد الحب مستحيل، واللقاء بها كذلك مستحيل، لأنها مجرد طيف يعيش في الوهم والظنون، أو مجرد خيط سراب يموت دائماً قبل الوصول، أو هي سر لا يجب البوح به، ويجب أن تظل مجهولة لأنها فوق أن تعرف وهي سر وجوده.
إن القصائد التي ترسم ملامح الأم غالباً ما تتجلى فيها الرغبة وعدم تحقيقها والواقع والحلم. وهو يشير إلى اسمها أحياناً بـ(أحرف خمسة)، واسمها مرتبط بالحزن، وهو مصدر نبوغه، ويضفي على اسمها القداسة، فهو بضعة أحرف يحمله معه كمصحفه وملامحه، يحددها بمكان، أي البيت بنوافيره، وشذى عطره، مع ملاحظة أن الجانب الحسي في مثل هذه القصائد يغيب تماماً. وتحل محله صفات البيت والمدينة. وتبدو في كثير من الأحيان في صورة غائبة يتذكرها عند رؤية جموع السنونو ويتمنى أن تلوح في الأفق، وتبدو العلاقة بين المرأة والآخر هنا دائماً علاقة صبي بامرأة، فالطرف الأول امرأة والطرف الثاني طفل مغامر تجارته الأشباح والوهم والليل.(1/85)
إن معجم قصائد دواوينه الأولى يكشف عن استعارات ودلالات مدهشة، تصب كلها في دائرة العلاقة بين الطفولة والأمومة، وتتردد ثنائية الخطيئة والطهر لتحكم بنية كثير من القصائد، كأن تدفع الشهوة امرأة إلى رجل تقضي معه ليلتها، ثم يحملها مسؤولية طفلها، ويظهر هنا مثلث الأم /البنت/ الولد، أو يوجه هجاء إلى عجوز، وتظهر الغيرة هنا من الحليب الذي جعلته مورداً للآخرين. أو يصور الخيانة الزوجية ويهجو المرأة الخائنة، التي تقوم باستغلال غياب زوجها وسذاجته، لتشبع شهواتها مع رجل آخر. وفي هذه الحال تقوم بنية القصيدة على مثلث المرأة ـ الرجل ـ الطفل. ويكون الحليب هو العنصر الأكثر حضوراً في هذه العلاقة فالغريب يطعم بحليبها في حين يحرم الطفل الرضيع المهمل الذي يرنو إلى صدر أمه. وتبدو المرأة رفيقة الطفولة يوم كان يكسر النجوم ذرات، ويحصي ما انكسر.(1/86)
ويبدو في مثل هذه النصوص منافس تكون المرأة في أحضانه وقد تحكم القصيدة التي تظهر فيها الأم أربعة عناصر هي: البيت، الأم، الطفل، الفتاة. وفي هذه الحال يغيب الرجل ويحل محله الطفل. ويلاحظ باستمرار نكوص إلى مرحلة الطفولة وإلى البيت القديم في مثل هذه العلاقة، حيث تبدو المرأة هي التي ترجوه أن يلتفت إليها، فيدها ممدودة إليه لتستقبله، وتذكره بصدرها، وكم دلله، وكم صنعت له الجو ريحاً وراحاً. وتستحضر الذات الشاعرة أجواء البيت، وغالباً ما تركز في هذا الاستحضار على عاملين لهما أثرهما الكبير نفسياً وهما النجوم ونافورة المياه، وهمُّ المرأة هنا استماله الرجل، وهو نوعٌ من الإسقاط للرغبة الباحثة عن المرأة المدّلِلَة، المرأة الغائبة، هذه المرأة يكشف عنها بصورة صريحة في قصيدة بعنوان "خمس رسائل إلى أمي" في ديوانه "الرسم بالكلمات"، حيث يذكّر الأم بأنه ما زال طفلاً، حمل معه صورتها، والبيت الذي آواه، والحزن والبرد الذي يحسه مع باقي النساء، لأنه لم يعثر على المرأة التي تعامله معاملة الأم لطفلها، فهو في علاقته مع المرأة لم يكبر وفي علاقته مع البيت، والمدينة لم يتحول:
أنا شاعر لا يزال على شفته
حليب الطفولة(28)
وفي قصيدة تحت عنوان: "القصيدة تولد من أصابعها إشارة إلى أن المرأة التي تشاركه كتابة القصيدة هي الأم، وأن حليبها هو الحبر الذي يكتب به، وأن ثديها هو الذي علمه صناعة النهد ورسمه ولكنه رمز له بالفخار:
حليب أمي.. كان حبراً أبيضاً
وثديها علمني صناعة الفخار(29)
ويبدو أن هذه القصيدة من نوع السيرة الذاتية وإن اعتمدت كثيراً على الإخفاء في توظيف اللغة والصور الشعرية. فقد كانت بدايتها واضحة جداً، بداية واقعية تتطابق تاماً مع حياة الشاعر:
ولدت..
في الواحد والعشرين آذار(30)
وتتكرر صورة الأم في قصيدة أخرى في الديوان نفسه بعنوان صريح:(1/87)
"هل تقبلين أن تكوني أمي؟". حيث تمتزج بشهر أيلول رمز التغير والتحول في الطبيعة وبداية الخريف، والفصل الذي ينبئ بالموت، موت الطبيعة. وهنا تستيقظ فجأة الذكرى النائمة لتطفو على السطح فيظهر الحنين بعد التعبير الصريح عن أشواقه فتنتهي بالبحث عن تحقيق رغبة ملحة، حيث تتزاحم فيها عناصر ملحة: الرغبة، الرحم، الأمومة، الرغبة الطفولية، الجوازات المزورة (النساء)، العودة إلى الأصل:
عندما يأتي أيلول
أشعر برغبة قوية
للعودة جنيناً إلى رحم أمومتك
عندما يأتي أيلول
أشعر برغبة طفولية قاهرة
للاختباء في تجويف يديك الصغيرتين..
وتمزيق كل الجوازات المزورة التي أحملها
والعودة إلى أصلي(31)
وفي قصيدة أخرى (عادات) تكاد تتكرر العناصر نفسها، الحبيبة، البيت، الأم، غطاء الأمومة:
وفي حالة العشق..
يصبح ثوب الحبيبة بيتاً..
ويصبح أماً
( ... ).
تعودت أن أتغطى بريش حنانك
خمسين عاماً
ومنذ سحبت غطاء الأمومة عني
نسيت الرقاد..(32)
والمعروف في التحليل النفسي أن: "الأم يسعها أن تصب على ابنها كل العجب الذي ما أبيح لها أن تعامل به نفسها، كما تأمل أن تجد لديه تلبية لمطالب ما تبقى من عقدة الذكورة لديها. وتبقى السعادة الزوجية غير ثابتة الدعائم ما لم تفلح الزوجة في أن تتخذ زوجها طفلاً لها وتتصرف إزاءه تصرف الأم"(33)..
إن نزار قباني يستبدل دائماً المرأة الفعلية الحاضرة المثيرة المهيجة الشبقية بجسدها، بصورتها المرغوبة أكثر على مستوى الذاكرة والخيال، فيتحول ذلك الجسد إلى سلسلة من الكلمات المرغوبة.(1/88)
هكذا تغدو المرأة الفعلية الواقعية بسحر جمالها وخفة ظلها وجاذبيتها مثيراً آنياً يدفع إلى الاستجابة إليه والاستمتاع به وتحقيق لذة حواسية من خلال فسح المجال للخيال يستحضر صوراً يصنعها انطلاقاً من أنموذج مستقر في الذهن قابل للإيحاء بآلاف الصور والأشكال. إنها المرأة المستقرة التي غازلها وغازلته ذات يوم، ومن ثم كان الحب في قصائده علاقة غامضة مع امرأة غامضة.
إن المرأة في كل قصيدة من قصائده هي امرأة منزاحة عن الأنموذج الأول هذا الأنموذج هو بمثابة البنية على ما يقول البنيويون، وهي الأسطورة الشخصية حسب تعبير شارل مورون، وهي الموضوع حسب مصطلح الموضوعاتيين فمهما تراءت لنا جديدة لا تغدو كونها تكراراً لصورة مركزية مع الانزياح أحياناً والمطابقة في بعض الأحيان. وتعدد وجوهها ويخدعنا النص في كل مرة بأنه يقدم لنا صورة جديدة.
وإِذا وضعنا قاموساً لكل الصور المركزية للمرأة في كل ما كتبه نزار قباني فإننا نخلص إلى القول: إن الأنموذج لم يتغير. ولذلك ينقلنا دائماً من الوهم إلى الواقع ثم يعود إلى الوهم. الوهم هو ذلك التصور الثابت المحدد عن المرأة، والواقع هو تلك التصورات المنزاحة عن الوهم، من هنا أهمية إيجاد صورة ثم نفيها، كل امرأة تحمل بذور استمرارها وفي الوقت ذاته بذور فنائها، إنها ثنائية عجيبة تحكم عالم قصائد الشاعر وتظهر باستمرار في شكل تناقض بين الطهر والدنس فانظر إلى هذه الصورة التي تشير إلى بداية الخليقة، إلى أول علاقة قامت بين الرجل والمرأة أي تلك العلاقة التي ربطت آدم بحواء:
أتصور أنك أول أنثى..
ظهرت منذ ملايين الأعوام
وبأني أول رجل عشق امرأة..
منذ ملايين الأعوام(34).
إن هذا التصور للمرأة يجعل فضاء اللذة رحباً حين يلغي النساء والرجال جميعاً ولا يبقي إلا على رجل واحد وامرأة واحدة هما بمثابة آدم تعود علاقتهما إلى ملايين السنين وهذه العلاقة فيها من المقدس مافيها من المدنس.(1/89)
وهذه الصورة أو التصور يؤكده مرة أخرى في أخريات حياته، في آخر ديوان صدر له إذ يقول:
أنت امرأة.. كانت تسكن جسدي
قبل ملايين الأعوام ... (35)
ويقول في موضع آخر في الديوان نفسه:
لغتي أنتِ.. التي ألبسها في عنقي
مثل القلادة..
والتي أحفظها عن ظهر قلب
قبل لحظات الولادة ...
والتي جمّلتها بالشعر أثناء الولادة..
ووضعت الذهب المشغول في معصمها
بعد تاريخ الولادة ... (36)
ثم ينتهي إلى القول بأصلية المرأة، وفرعية الرجل:
أنت الأصل.. وكل ذكور العالم
ليسوا فوق قميصك إلا زغباً!! (37)
وأنها البر والبحر، وحضارة هذا الكون، وأنها الخير، والعدل، وأنها هلال الحب(38). وأن تاريخ الجميلات كتب على جبين الشاعر من يوم كانت أمنا حواء(39).
تكشف قصيدة "حب .. بلا حدود"، عن بنية أسلوبية، وموضوعاتية عجيبة، فهي تتكون من خمسة عشر مقطعاً يوجهها حرف النداء "يا" وضمير المتكلم "أنتِ" وأداتا النفي: "لا" و"لن": يا.أنتِ،أنتِ، أنتِ، أنتِ. يا، يا، يا، يا، يا، يا. لن. يا، لا،ولا، ولا،ولا، لا، لا، لا. يا، لا، لا، لا، يا ، يا ، يا. لا. أنتِ، يا. لا. وقبل المقطع الأخير، الذي يبدو زائداً ولا وظيفة له في القصيدة، تنتهي القصيدة بهذا المقطع المعبر نفسياً أكثر من أية جملة أخرى يقولها عالم النفس:
أنت امرأتي الأولى.
رحمي الأول.
شغفي الأول.
شبقي الأول.
طوق نجاتي في زمن الطوفان ... (40)
ولعل هذا الاعتراف الشعري الصريح جداً الذي جاء في قصيدة بعنوان: "البيان الأخير من الملك شهريار"، لا يترك مجالاً لاجتهادات علماء التحليل النفسي لاستخراج صورة الأم من شعره:
إنك الأولى .. وما تبقى من نساء الأرض
ذرات رمال
( ... .).
وأنا أعرف من أرضعني لبن العشق..
ومن علمني أحلى الكلام..
فاشرحي لي: كيف أمضي هارباً من صدر أمي؟
( ... .).
كيف يا واحدتي؟
أرفض النهد الذي أطعمني
( ... .).
عقدتي الكبرى التي لم أشف منها
أن كل امرأة أحببتها
كان لابد بأن تشبه أمي..(41)(1/90)
هذه النزعة للعشق الأمومي جعلت غزل نزار شبيهاً بغزل المتصوفة، فهناك المرأة المطلق المثال، وهي دائماً واحدة، تبدو أشعاره فيها تسابيح يتلوها على مسامعها ويخاطبها دائماً بضمير المخاطب أنتِ، وليس هناك أخرى سواها. فهي "سيدة العالم"، تجلس بعيدة في "نهاية العالم".
فطول الشعر واحد..
ومحيط الخصر واحد..
وامتلاء الثغر واحد..
وجنون الصدر واحد..
وصراخ الحلمات (42)
بل إنه يصرح في موضع آخر إنه لا وجود لامرأة ثانية في حياته، فهي واحدته، وأن باقي النساء هن مجرد لباس لها:
إن ما تحكينه من وجود امرأة ثانية..
في جواريري.. وفي ذاكرتي..
هو تأليف روائي.. وشطحات خيال.
إنك الأولى.. وما تبقى من نساء الأرض
ذرات رمال(43)
هي اللغة الأنثى فيها يقرأ الناس عينيها، ويشمون بها رائحة الورد الدمشقي، وهي تشبهه ويشبهها، تسكنه، ويسكن فيها.
هذه المرأة رافقته يوم كان في بطن أمه:
منذ أن كنت في بطن أمي
وأنا أخطط كي تكوني حبيبتي(44)
وعندما صارت حبيبته، تحولت إلى لغته، وعندما تحولت إلى لغته راح يبحث فيها عن الأم التي تشعره دوماً أنه ما زال على قيد الحياة(45) .
هناك دائماً في شعر نزار قباني المرأة المحورية، التي هي الأصل التي رافقت الشاعر منذ الولادة وقبل الولادة، وظلت جزءاً منه ومن نتاجه، المرأة المطلق، المثال، وهناك المرأة العادية، امرأة الحياة اليومية، التي ترتبط مع الشاعر بعلاقات سرعان ما تنتهي، أو تأتي متأخرة لتربط معه علاقة فيرفضها:
أريد استعادة وجهي البريء كوجه الصلاة.
أريد الرجوع إلى صدر أمي
أريد الحياة ... (46)
من هنا نفهم معنى: هروب الشعر منه = هروب القصيدة = هروب الموضوع = هروب المرأة التي يرغب في أسرها: "كلما حاولت أن أتعقب الشعر إلى حيث يسكن هرب مني. ثلاثون سنة، وأنا أحاول أن أفاجئه بملابسه الداخلية، أو عارياً.. ولكنه في كل مرة كان يلبس طاقية الإخفاء.. ويتبخر كالروح النقي..."(47).
2 ـ المرأة الحبيبة:(1/91)
إن المرأة بوصفها مثيراً، والقصيدة بوصفها استجابة لهذا المثير غير الثابت الشديد التنوع والتبدل والتغير، كل جزء فيه يوحي بآلاف الصور، وكل عنصر فيه ينشطر إلى ذرات وجزيئيات شتى، وطبيعي أن تكون الاستجابة لهذا الثابت المتغير الشديد التنوع هي الأخرى متغيرة وأكثر تنوعاً.
إن محاولة إحصاء الصور التي يوحي بها كل جزء في جسد المرأة يشكل حقلاً دلالياً مدهشاً، كل عنصر فيه ينتج آلاف الصور، وأي جزء فيه يحرك كوامن الشاعر، ويجعله يتفنن في رسم لوحات فنية بالكلمات ويشكل صوراً تضفي على ذلك الجزء جمالاً لا يضاهيه جمال، ولعل الدهشة التي تثيرها أجزاء جسد المرأة لا تقل إثارة عن تلك التي تثيرها أشياؤها، ومن ثم كان ذلك الكم الهائل من الصور.
إن المرأة في شعر نزار قباني مثير ثابت، ولكنه دائم التجدد. أو هو دائرة كبرى تحوي دوائر صغرى وأخرى أصغر تولد أنواعاً وأشكالاً من الاستجابات حين تغدو هي الأخرى مثيرات ضمن عالم الإغراء. ونزار قباني يعبر عن هذه الحقيقة شعرياً حين يقول:
أحبك جداً..
ويقلقني أن يمر نهار
ولا تحدثين به خضة في حياتي..
ولا تحدثين انقلاباً بشعري
ولا تشعلين الحرائق في كلماتي ... (48)
ويمكن أن نتمثل لذلك بهذا الشكل:
هذه العناصر تعمل في اتجاه واحد هو الإغراء والإثارة ومن ثم توقظ عواطف شتى، وتسيطر على الحواس بنسب متفاوتة. فمن حاسة البصر إلى حاسة الشم إلى حاسة السمع إلى حاسة الذوق إلى حاسة اللمس إلى تراسل هذه الحواس أحياناً ترسم صورة هذا الجسد.
إن الحديث عن مفاتن جسد المرأة معروف في الشعر العربي وأنتج معجماً خاصاً، يمكن إحصاء كلماته ودلالاتها المتشابهة، ومن ثم الوصول إلى معجم لجمالية هذا الجسد، بيد أن هذا الجسد عند نزار قباني شكل عالماً لا حدود له، وأنشأ لغة خاصة من حيث التوليد الدلالي للكلمات والصور الذهنية غير المحدودة.(1/92)
لا تحتاج المرأة إلى أن تتحدث حتى تخبرنا عن كونها امرأة جميلة، لأن الجسد وهو صامت ناطق مبين ولكن لغته غامضة أكثر من اللغة اللفظية، فقد حيرت ابتسامة الموناليزا الدارسين والنقاد مدة طويلة من الزمن وظلت لغزاً استعصى فهمه، وإذا كانت العين أبرز أدوات الاتصال والتواصل بين الناس في لغة الجسد، وهي بمثابة اللسان في لغة الكلام مع ما فيها من غموض وإبهام فإن باقي الأعضاء لا تقل أهمية عن العين، وفي مقدمتها الابتسامة.
إن عالم الداخل النفسي المتشابك غالباً ما يعبر عنه الجسد، فالألم واللذة، والفرح، والحزن، والأمل واليأس، والخوف والارتياح تظهر على ملامح الجسد، وما الثوب الذي يغطي هذا الجسد سوى رسالة منه إلى الآخر وتعبير عن رغبة.
إن: "الصمت كلام ولغة، إنه أحياناً الأبلغ، والأشد توتراً، والمولد الأكبر للخواف والتخلخل، فهو خطاب في حد ذاته، وهو موقف، وقلق، وتوتر؛ فقد يكون دفاعياً، وهو أحياناً هجومي عدائي رافض ومتحد في جميع الأحوال، إنه حمال معنى؛ كما قد يكون ضرورة للإظهار الأفصح وللتعبير الأوضح وللتواصل".(49)
من هنا يمكن أن نتحدث عن الحقيقة والمجاز في لغة الجسد، فالحداجة أي لغة العين هي أكثر مجازاً من غيرها، فعدم النظر إلى الشخص قد يعني عدم الاهتمام أو الإهمال، أو الكره، أو النفور أو الفتور، والنظر قد يعني التقدير، أو الحب، أو الرغبة، أو السؤال، فالنظرة رسالة رمزية إيحائية حمالة معان، وفهمها يقتضي تأويلها مثل ما نؤول نصاً شعرياً، فهل قرأ نزار قباني
رسائل هذا الجسد؟
إن القصيدة عند نزار قباني تبنى على قراءة جسد المرأة بوصفه نصاً مفتوحاً وموضوعاً لحقيقتها المطلقة، ونواة هذا الجسد الجوهرية ومحورها الأساسي يكمن في الأنوثة. فأين تكمن الأنوثة في جسد المرأة؟ ...(1/93)
إن المرأة / المرأة لا تعني الشاعر بوصفها جسداً كأي جسد آخر، وإنما الذي يعنيه هو المرأة / الأنثى. والأنوثة ظاهرة لا تتكرر عند النساء إنها حالة خاصة بكل امرأة، ومادام الأمر كذلك فهي ناقصة ويتوجب البحث عن ملامحها باستمرار في جسد المرأة الذي لا يتكرر هو الآخر وذلك للعثور على الأنثى/ الأنثى وعند ذلك سنعثر على تلك المرأة المفقودة فهي حالة تخص امرأة واحدة.
ولكن من العبث أيضاً البحث عن امرأة بعينها في شعر نزار قباني فهو لم يلجأ يوماً إلى تخليد واحدة من نساء الواقع اللواتي عرفهن دون أن يسدل عليهن ستاراً ويحولهن إلى رموز، المرأة عنده مثال جمع فيه صفات العديد من النساء اللواتي عرفهن. والمرأة في شعره شأنها شأن المرأة التي نشاهدها في الحلم فيها عناصر من مجموعة من النساء ومن الصعب تحديد هويتها. فالمرأة الجسد التي نقلها نزار قباني تجربة مشروطة أو ملونة بما يجري في الذهن في صورة تخييل مرتبط بأنموذج مستقر في الذاكرة: "أنا أقص على الناس حلماً، وأترك لهم مطلق الحرية في تصديقه أو رفضه"(50).(1/94)
يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف "جاك دريدا": ليس هناك من جوهر للمرأة لأن المرأة تزيح وتنزاح عن نفسها لا وجود للحقيقة. ولا وجود لحقيقة المرأة، فالمرأة هي اسم للا حقيقة الحقيقة"(51) أما أب التحليل النفسي "فرويد" الذي اعتقد الناس جميعاً أنه قد دخل دهاليز النفس البشرية، وبدد ظلماتها فقد قال عن سيكولوجيا النساء بعبارة صريحة لماري بونابرت إن السؤال الكبير الذي لم تتم الإجابة عليه أبداً. والذي لست قادراً بعد على الإجابة عليه على الرغم من ثلاثين سنة من البحث في النفس الأنثوية: هو" ما الذي تريده المرأة؟"..(52) وفي رسالة لخطيبته "مارتا" سنة (1883)، جاء فيها: "إن الطبيعة قد حددت سلفاً مصير المرأة بلغة الجمال، والفتنة، والعذوبة، وذلك قبل أن يكون الكائن البشري قد بلغ سن الارتقاء إلى مكانه في المجتمع، إن القوانين والأعراف ما تزال مدعوة إلى منح النساء عدداً من الأشياء التي لا تزال محظورة عليهن حتى الآن. بيد أن مصير المرأة سيظل رغم ذلك ما كان عليه حتى اليوم: ففي شبابها تكون ذلك الشيء اللذيذ والرائع. وفي سن الرشد تكون الزوجة المحبوبة"(53).(1/95)
ويؤكد في أحد أبحاثه إن سيكولوجيا المرأة "قارة مظلمة"(54) فهل اكتشف نزار قباني هذه القارة التي أمضى أكثر من خمسين سنة في صحبتها. يمدحها تارة ويهجوها أخرى، وفي كل ماكتبه من شعر كان دائماً يبحث عنها، يكتب عنها طوراً، ويستعير لسانها طوراً آخر.كان في كل ما كتب من شعر في المرأة باحثاً عن أنموذج، ظل خفياً، ولعل ذلك مادفعه إلى القول ذات مرة، وهو شاعر جسد المرأة: الإثارة الذهنية هي في تصوري أهم من الإثارة الجسدية فالإثارة الجسدية لا عمر لها وهي مرتبطة بالسطحي والآني والعابر وإذا افترضنا أن عمر المرأة الافتراضي هو ثلاثون عاماً فإن جمالها بعد الثلاثين يجب أن يكون جمالاً ذهنياً وماكياجها يجب أن يكون ماكياجاً ثقافياً"(55)، هذه المرأة الذهنية التي لا يمكن إدراكها بالحواس هي التي قال عنها:
يا امرأة ...
أترك تحت شعرها أسئلتي
ولم تجب يوماً على سؤال
يا امرأة..
هي اللغات كلها
لكنها تلمس بالذهن، ولا تقال
وهكذا ينتهي هو الآخر إلى ما انتهى إليه فرويد، ليصرح: "المرأة مهنتي، وهي قارة يجب أن تظل مجهولة واكتشافها اغتيال لها"(56). ويعبر عن ذلك بعد تجربة خمسين سنة من الحب شعرياً.
تورطت في الحب، خمسين عاماً
ولا زلت أجهل ماذا يدور برؤوس النساء
كيف يفكرن..
كيف يخططن..
كيف يرتبن أشياءهن..(57)
وفي موضع آخر يؤكد أن النساء مجموعة من الأسئلة لا يعرف جوابها إلا الله(58)، وقد ظلت المرأة عنده كتاباً مفتوحاً حمّال معارف لا يعرف صفحته الأولى ولا صفحته الأخيرة، وموسوعة إنسانية وكونية لا حدود لها فمما كتبه شعراً قبل وفاته بأقل من ثلاث سنوات يؤكد فيه هذه الحقيقة:
بعد خمسين عاماً
من التحصيل الابتدائي، والمتوسط، والعالي
لازلت أتعلم كيف أحب امرأة..
وكيف أعتني بشمع يديها..
وفضة نهديها..
وكيف أخاف عليها..
فكما أن الحرية لا سقف لها.
والديموقراطية لا سقف لها.
فإن المعارف النسائية..
لا سقف لها ... .. (59)(1/96)
مشكلته مع المرأة، إذن، مشكلة وجودية لذلك نجد أن المرأة في شعره تكاد تغير وجهها ولباسها وزينتها واسمها وهويتها من قصيدة إلى أخرى على الرغم من الملامح العامة المشتركة بين بطلات قصائده: "المرأة كانت ذات يوم وردة في عروة ثوبي، خاتماً في إصبعي، همَّاً جميلاً ينام على وسادتي ثم تحولت إلى سيف يذبحني"(60).
إن كل من يتتبع الصورة الجسدية للمرأة في شعر نزار قباني يكتشف على نحو سهل أن المرأة في شعره: "ليست جسداً فحسب بل هي جسد وطبيعة، وإذا حظيت المرأة الجسد بحواس نزار ورغبته مبكراً فإن المرأة الطبيعة لم تغب عن أفق عينيه اللتين طالما أبحرت المرأة بشراع الحب في مداهما الأزرق وأمطرته فيروزاً من عينيها، وزودته بجمر حرائقها، وغمره شعرها بشلال ضوئه الأسود، وهي جماليات تقرن المرأة بأوسع من الحس والرغبة، بل بطبيعة عليا"(61)..
وهي أيضاً: "وليمة جسدية تملأ الكون بشهوة النور والبريق والاصطخاب"(62) وهي: "مساحات لا تنتهي حتى الظلال فيها ملونة حيث جمال المرأة، كجمال الأرض، لذة أبدية للعين واليد، والأذن والأنف
واللسان"(63).
وتقترن مظاهر الجمال في المرأة برموز الخصب والنماء في الطبيعة، مفردة حيناً. أو متصلة بغيرها أحياناً أخرى، وتتسع رؤية الخصب لتشمل مشاهد ممتدة من الطبيعة ترتبط ببساطة الفطرة، ورموز الحركة، والحرية والبراءة(64).(1/97)
إن الحقل المعجمي لدواوينه في هذا المجال يكشف عن عالم مدهش رافقه طوال مسيرته الشعرية: فالحجارة تلتفت إليها وتبكي وتطرب، وتنسجم عندما تلوح مخضرة الخطوة وهي واحة يحلم فيها كل مُسْتَرطِبٍ ولولاها وجه الأرض لم يعشب، في شفتيها يخضر الصدى، والشذا يجري بشعرها أنهراً، وهي وعد ببال الحقول، أو ببال العناقيد، أو ببال الدوالي، واسمها بكاء النوافير، ورحيل الشذا، وحقول الشقيق، ورف من سنونو يهم بالتحليق، وعينها صفصافة، بفيها رائحة المراعي، وفي ضفائرها يلهث القطيع، وهي سروة، وصفصافة، وهي تعادل عناصر الطبيعة وهذه العناصر ما وجدت إلا لخدمتها، ومن ثغرها تتدفق الينابيع، وهي كوخ أحلام، ونهداها مزرعتا زنبق، ومبسمها وريقة توت، وصدرها ثروة نادرة، ونهداها جدولا نبيذ وقهوة، ودورقا صيف ونور، وربوة تعانق ربوة، وشمس تدور، أو فلقة تفاحة، وثغرها تنفس الخابية، وأصابعها أنهار ماس، وهي عرائش وخضرة وزرع، وعشب الأرض من نعومة رجليها، ولولاها ما تنفس الصبح، وما صار للصخر قلب، وهي ديمة تعصر الرزق، وأن الطبيعة استمدت جمالها منها. وشعرها شلال ضوء، وسنابل لم تحصد، وتحت قدميها يخضر الحجر، وأقدامها هي التي تنمي الحشائش، وهي التي جعلت الأرض تزهر، وحين تمر يرتجف الفل، وشفتها نافورة صادحة، وباقة من كرز، وساقاها مزرعتان للفل، وأشرطة من الحرير وشلال من ذهب. وصدرها مزرعة ياسمين، وهي أصل هذا العالم فهو ماكان ليوجد لولاها، إذا حضرت حضرت الدنيا، وإذا غابت غاب العالم.(1/98)
فلو لم تكن عيناها ماذا تصير الأرض؟ ويقابل بين حال المرأة حين يهجرها الحبيب وحال الطبيعة، ويؤكد أن بعينيها بحاراً ولدت من أبحر، وانفتاحات على صحو، وعلى جزر، وأن النجوم فيها مبعثرة، والصيف إليها يعود كل سنة، وهي منثور الربى وزنبقها، وشهقات النجمات في المنحدر، وصحو مقبل بعطايا، وقمر أو شرفة في قمر، وهي عقدة خضراء تتحول إلى رمز لشجرة، ويتحول كم الدانتيل في ذراعها إلى مساند التفاح، والزنبق الأسود، وهي أفق نجماته نزلت تطوق الشاعر، وجنينة خضراء، وصنوبرة، وعيناها كروم عارشة، وبحار مجهولة وجزر، وبيت طفولة ووطن. ومن حول نهدها تلم الأقمار، وهي نوار هذا العالم، وصحو عيونها أمطار، ومن شفتيها يرشح الياقوت، وعيناها بحيرتا سكون، أمطارها سوداء، وفوق أجفانها ملايين النجوم، وتنورتها حقيبة أنجم، وهي صنوبرة، وغابة لوز، وشموس، وأنجم، وفراشة، ونيسان، وفستانها من دمع تشرين، ومن غصن ليمون، ومن صوت حسون، وأكمامه من عشب البحيرات، وأزراره قطيع نجمات، وفي عينيها مطر أسود، وشفتاها خوخ، وياقوت مكسر، وبصدرها قبة مرمر، وينابيع، وشمس، وصنوبر، وعيناها نهران من تبغ، ومن عسل، وكوخان عند البحر، في مياههما يذوب الحزن، وبرحيلها تنطفئ الشمس ويغيب القمر، وتتغير الأرض. هي الصيف الأخضر، والشمس الأجمل، ورغوة بحار، شفتاها زهرتا أضاليا، في صدرها زوج من حجل ورسائلها تقرأ للطبيعة. فيفهمهما النهر، والنجمة، والغدير، والريح، والغابات، والطيور، ويدها شمس، ونهر حريري، ونجمة هربت، أو نجمة تلعب، وشعرها شلال ظل، وثوبها ربيع، وهي جنة بثمارها، وعشبها ناضر، وفي صدرها استوطن زوج حمام، وثغرها غصن سلام، وحلمتها مزرعة ورد، وإبطها منبت حشائش طازجة المطلع، وهي قطعة صيف، وقد كانت مجهولة فاكتشفها الشاعر، فرمى على صدرها الأفلاك والشهب، وحول تراب نهديها ذهبا، وزرع بأرضها راياته.(1/99)
ثم كتب"أحبك" فوق جدار القمر أو سوره، وفوق كراسي الحديقة، وجذوع الشجر والسنابل، والجداول، والتمر، والكواكب، وورقات الزهر، والنهر، والمنحدر، وصدفات البحار وقطرات المطر، وعلى كل غصن، وحصاة، وحجر، وشمس. وثوبها كعشب البحيرات، وشعرها كبحر، وكسنابل، وهو يزرعه دفلى، وقمحاً، ولوزاً، وغابات زعتر، ونهدها قطعة جوهر، وحبها طير جميل أخضر، وجزيرة، وجدول تنمو حوله كروم وغلال، وهو ينمو ويزهر كالحقول، والشقيق الأحمر، واللوز، والصنوبر، وهو يجري كما يجري السكر بقلب الخوخ. وفي مرفأ عينيها أمطار، وشموس، وطيور، ومنهما تتساقط ثلوج، وهي ربيع، وزنبقة، ونجمة، وكرمة، وغابة، ولؤلؤة، وواحة، وينبوع ماء. وعيناها نيسانان، وطيران أخضران، أو بهما غفا طيران أخضران، وفمها مزرعة أزهار ليمون، وثوبها من الأرجوان، والياسمين.
وقد يتمنى الشاعر أن يكون حدائقياً في بساتين عينيها، وقد تتبعها الأشجار عندما تمشي، ويشرب الحمام من مياه جسمها الثلجي، وتأكل الخراف من حشيش إبطها الصيفي، وقد يكون حضورها في الكون مثل حضور المياه والشجر تماماً، وقد تتحول إلى زهرة دوار شمس أو إلى بستان نخل، وقد يكون جسدها مليئاً باحتمالات المطر. وسرتها واحة ظليلة فوق الرمال ومركز الكون، وتحتها ميزان الزلازل يتنبأ باهتزاز الأرض، وهي مليئة كالسنبلة، وطازجة كالسمكة الخارجة من البحر.(1/100)
وإذا كان البحر هو سيد التعدد، والإخصاب، والتحولات، فإن أنوثتها هي امتداد طبيعي له، وهي شجرة، أو هي أوراقها، وأن نهديها طفلان يتدحرجان على الثلج، والعصافير تأتي من عينيها أفواجاً أفواجاً من جهة البحر، صوتها يتسلق كعريشة زرقاء، وحول عينيها تدور المجموعة الشمسية، وفي وجهها شوارع، وفي صوتها أزقة للتجول، وتلحس الجداول السكر عن أصابع قدميها. وهي غابة تمشي على أقدامها، وترش الأرض بقرنفل وبهار، ومن عُتمة نهدها يطلع فجر، وبهار، ومحار، ونحاس، وشاي، وعاج، وبين نهديها شارع ضيق هو آخر عنوان يلتجئ إليه الشاعر، ومن عينيها يُنَقَّطُ العسل الأسود نقطة نقطة، وهي بستان الزعفران، وفي شعرها أدغال يصعب التغلغل فيها، وتحت نهديها شمس حارقة، وهي قابلة للتحول من حجر مستدير إلى نافورة ماء ومن قصيدة إلى حمامة. وهي سحابة حبلى بالشعر، نقطت فوق دفاتر الشاعر نبيذاً وعسلاً، وعصافير وياقوتاً أحمر، ونقطت فوق مشاعره قلوعاً وطيوراً بحرية وأقمار ياسمين، وهي المتحكمة في حركة الكون وكل مافيه من كائنات، وبرحيلها يتوقف الشجر عن النمو والقمر عن الاستدارة، والماء عن الاشتعال، وشعرها غابات يخبئ بها الشاعر وجهه، وقد يصيد المحار بشطآن عينيها، ومن ثغرها تنقر أسراب النورس الحنطة، واللؤلؤ الأسود قد اكتشف في عينيها، وجسدها خريطة جغرافية، وحول نهديها يلعب الأطفال بكرات ثلج، ويصطادون البط المائي، ويشاهدون كروية الأرض، وعلى نهديها جبال يكسوها الثلج وهي ملأى بالذهب، وفي عينيها يمكن قضاء عطلة صيفية، ويمكن السباحة في صوتها، ويدها سحابتان ربيعيتان لولاهما لمات العالم عطشاً. وهي مليكة تسير في رحابها الأشجار، والنجوم، والسحاب وعيناها شمس، وخداها نهرا حرير، وفي نهديها غابة أشجار تختبئ فيها الطيور، وقد يسقط القمح، واللوز، والتين من ركبتيها.(1/101)
ومن قفطانها تلوح رائحة البخور، والكافور، والبحار، وفي ضحكتها رائحة الأمطار، وهي صفصافة، ونخلة، وأشجار لوز،وخوخ يصعب الوصول إليها. وعيناها من عسل حجازي، وخصرها بعض مغازل الغمام، ويداها من ذهب، ومن عنب، ومن حبق، ومن قمر، ومن ريش نعام.
وقد تطلع منها بساتين نخل، ونوافير ماء، وقد يطلع منها نبيذ، وقمح، وقطن، ومانغو، ومن تحت سرتها تطلع المعجزات، وهي آخر مروحة من حرير، وآخر طفل من عائلة الياسمين، وهي تختزل طبائع كل الطيور، وأسماء كل الزهور، وفوق مياه يديها يتلاقى الحمام الدمشقي، ومن شفتيها يبدأ فصل السفرجل، والخوخ، والتين، وغمائم السماء تذرف دموعها عليها، بل هي السماء، وكل الحمائم تفرش ريشها الأبيض تحت رأسها، وكل شقائق النعمان تطلع من حقول جسدها، ونهداها مصدر من مصادر الرمال، وهي رحيق الحضارات، هضابها تتحرك، وبحارها تتماوج، وسرتها تتكلم، وكل الذين تجولوا في قاراتها الخمس لم يعرفوا الطريق إلى مناجمها الذهبية، وهناك في جسدها سهول يزرع فيها القطن، ووديان يتكاثر فيها الصفصاف، وهضاب يتسلق عليها العنب، وشواطئ تتزاوج فيها الأسماك، وعناوين سرية تسكن فيها حوريات البحر، على جسدها نباتات شتى، وأنهار طويلة، وأزهار، وحمائم، ومواسم لوز، وخوخ، وسفرجل جبلي، ومد وجزر، ومواعيد أمطار، ومناطق استوائية. وهي من فصيلة الورد، وإلىسرتها تطلب مئات العصافير اللجوء السياسي، وتطلب مئات الأسماك الهجرة إلى مياهها الدافئة. وتغطي طبقة من الثلوج نهديها، وهي سمكة تكتشف كل يوم أبعاد جسدها، وتتعرف على حقول حنطتها، وأشجار فاكهتها، وأعشاش عصافيرها، وموسيقى جداولها الربيعية، وهي أميرة الأسماك، وأميرة النساء المصنوعات من "توركواز" البحر، وأميرة الأنوثة التي لا ضفاف لها، وبإمكانها أن تختار ماذا تريد أن تكون: سمكة متوحشة، حمامة بيضاء، قطة سيامية، غابة أفريقية، فرساً تصهل في البراري، أو عاصفة على شكل امرأة.(1/102)
لجسمها رائحة الشام، وخوخ، وتين، ولوز، وماء، وعلى شفتيها يشتم الربيع في عز الشتاء، وعطرها أمطار، ونهدها، يأخذ شكل الهلال في أول الشهر، وجسمها رواب يجب رشها بماء البنفسج، وتضاريس عالية، ومدن، وبواد، والزمن مفصل على مقياس جسدها، والشجر يورق معها، والأنهار تفيض معها، والقمر يستدير مع استدارة صدرها، والحنطة لا تتكاثر إلا تحت إبطيها، والضفادع تسبح في مياه ركبتيها، والعصافير تتعلم الطيران في سهولها المفتوحة، والشمس تشرق من شفتها العليا، وتغيب تحت شفتها السفلى، والقصائد تتساقط في سلال نهديها، هي الخصب والنماء، وغيابها مجاعة وجفاف، وهي شتائية، ورمادية، وساطعة، وباهرة، وحبلى بالبروق، والأمطار، ومن تحت برنسها الأبيض تتدحرج الفاكهة، ونهدها يتكور بمجرد وضع تفاحة إلى جانب تفاحة، وأنه بمجرد الضغط على يدها تتساقط الفاكهة، في جسدها تشق الأنهار، وتزرع النخيل، ويجمع محصولها القطن، ويستخرج ماء الورد، وزيت الياسمين.
وهي مغزولة من قطن الغمام، وأمطار من ياقوت، وأنهار من نهوند، وغابات رخام، وقد جاءت إلى ذاكرة الشاعر من بياض الياسمين، ومن سواقي الماء، ومن دموع الماندولين، وهي تُطلع من عينها شمساً، ومن إبطيها قمحاً، ومن سرتها ذهباً. وهي قمر طالع، وحجل نائم، وسمك راقص، آتية من ألوان الطيف، ومن رائحة الصيف. ومن عبق الزعتر. من أشجار أنوثتها نأكل، ومن شفتيها نقطف لوزاً، وخوخاً، وتيناً، وعنباً، من ثلج يديها يخرج جمر، ومن عقيق شفتيها تخرج النار، ومن أية رابية من روابي أنوثتها، وأية منطقة حبلى بمياهها الجوفية يستخرج الشعر، وأزهار القطن تتفتح من نهدها الأيمن، ومن نهدها الأيسر تتفتح أزهار الغاردينيا.
في ديوان الشعر عن المرأة ما قبل الأخير نجد بياناً شعرياً عن المرأة الطبيعة يقول فيه:
أنا لا أحبك.. وحدي
ولكنني أحاول أن أقنع الحقول، والسنابل،
والغيوم، والأمطار، والبحار، والأشرعة،(1/103)
والأرانب، والقطط، والأطفال، والحمائم..
حتى تحبك معي..
فلن يخرج الربيع إلا من بين أصابعك
ولن تتشكل الحضارات إلا على ضفاف أنهارك
ولن يستخرج الذهب إلا من مناجم أنوثتك(65)
ومن هنا لم يعد الشاعر يبحث عن امرأة من عالم البشر، ومن لحم ودم، وإنما راح يبحث عن جنية نائمة بغابة، مرآتها بحيرة ومشطها سحابة:
خطيئتي..
ـ إن كنت تحسبينها خطيئة ـ
أنني من طفولتي..
أبحث عن جنية نائمة بغابة مرآتها بحيرة..
ومشطها سحابة(66)
هذه المرأة الطبيعة لم يكتشفها أحد، ومن ثم راح يبحث عنها.
لقد تحول الجسد في شعره: "إلى كرنفال من المباهج والملذات وإلى احتفالية دائمة بالطرف الأول من القوس الذي يقف الموت عند طرفه الثاني. إنه شعر الرغبات المتوثبة والحيوية المدفوعة إلى ذراها الأخيرة والترنح المستمر على الشفير الفاصل بين اللذة والألم"(67)، لذة يجدها في الزهور والفل والياسمين، والزنبق، وغلال الأرض والطيور والعطور، فيقرن جمال الجسد بجمال الكون.
إن فكرة ارتباط المرأة بالطبيعة، وإضفاء عناصر الطبيعة على جسدها ليست حديثة في الشعر العربي، فقد ارتبطت بتاريخ الشعر، ولكنها عند نزار قباني صارت المرأة طبيعة خالصة، فمن القصائد التي تندمج فيها المرأة بالطبيعة نجد هذه الأبيات لابن الرومي:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان ... فيهن نوعان : تفاح ورمان
وفوق ذينك أعناب مهدلة ... سود لهن من الظلماء ألوان
وتحت هاتيك عناب تلوح به ... أطرافهن قلوب القوم قُنْوان
ونرجس بات ساري الطلّ يضربه ... وأقحوان منير النوار ريان
أَلّفْنَ من كل شيءٍ طيب حسن ... فهن فاكهة شتى وريحان (68)(1/104)
بيد أن كل ما كتبه نزار قباني من شعر في المرأة يمكن اختزاله في حقلين معجميين كبيرين هما الحقل المعجمي الخاص بالجسد الأنثوي، والحقل المعجمي الخاص بالطبيعة، وغالباً ما يتم الانتقال من الجسد إلى الطبيعة، ومن الطبيعة إلى الجسد، وقد يتوحد الحقلان المعجميان في حقل معجمي واحد هو الكون، والنقطة المحورية فيه هي المرأة التي حولها تتحرك كل العناصر الأخرى.
من هنا يبدو الشاعر دائماً وكأنه حين يكتب قصيدته يستحضر صورة امرأة غير محددة المعالم في خياله ثم يشرع في رسمها بالكلمات، ولكنه في الوقت ذاته يستحضر مشهداً أو عنصراً طبيعياً من هذا الكون الواسع ويضفيه عليها، فتتحول المرأة إلى قطعة ديكور في مشهد خلاب، هي المسؤولة عن كل أبعاده الجمالية، ومن ثم لا يمكن تصور عنصر جمالي في جسدها دون تصور عنصر، أو عناصر جمالية في الطبيعة لها من الفتنة والسحر والروعة واللذة ما لجسدها من كل ذلك.
ولكنه ما إن ينتهي من كتابة القصيدة حتى يحس أنه في حاجة إلى اكتشاف المرأة من جديد فيتبدى له أن هناك مناطق كثيرة جداً في جسدها لم تكتشف فيسعى إلى اكتشافها من جديد، وهكذا، لأنه يعتقد أن:
الجسد الأنثوي لغة
وأكثر الرجال لم يقرأوا في حياتهم كتابا.. (69)
(وأن):
جسد المرأة بيانو
وأكثر الرجال يجهلون مبادئ الموسيقى..(70)
(وأن):
جسد المرأة أرض زراعية (71)(1/105)
شأن الشاعر هنا شأن المكتشفين الذين ينطلقون صوب مكتشفات جديدة دائماً ويعانون ضروباً من الحرمان. وقد: "أتاح البحث في التحليل النفسي اكتشافاً مفاده أن الاستيهامات الخاصة باكتشاف جسد الأم، الناجمة عن رغبات الطفل الجنسية العدوانية، وعن شراهته، وفضوله، وحبه، هي عناصر تسهم في هذا الاهتمام باكتشاف بلدان جديدة ( ... )، وتمثل أرض جديدة، في لا عي المكتشف أمَّاً جديدة، أمَّاً تعوض خسارة الأم الحقيقية"(72) وقد أتاح لنا التحليل النفسي كذلك معرفة بعض محتويات لا وعي الراشد الناجمة عن علاقته بالأم حيث يرغب الصبي بشراهة في أن يهاجم جسد الأم الذي يعد بالنسبة إليه امتداداً لثديها، وأنه يرغب في استيهامه أن يسرق منها محتويات جسدها(73)، وتعد الحاجة إلى الاكتشاف بصورة عامة ـ الاكتشاف المادي للعالم بالفعل والاكتشاف في المجالات الأخرى ـ استيهامات ورغبات بدئية في اكتشاف جسم الأم، يتم إشباعها باكتشاف أم الأيام القديمة مجدداً، الأم التي كانت قد فقدت في الواقع، وفي العواطف، وهي ذات أهمية كبرى في الفن، وفي اللذائذ التي يستمدها منه الناس الذين يقدرون قيمته(74) وتبين محتويات اللا وعي المكتشفة كذلك أن المناطق الجميلة تمثل الأم المحبوبة، وأن الرغبة في بلوغ هذه المناطق والأراضي ناشئة عن رغباتنا في هذه الأم(75) وللعلاقة بالطبيعة التي توقظ عواطف قوية جداً من الحب، وتقدير القيمة، والإعجاب، والإخلاص، وكثير من النقاط المشتركة مع العلاقة بالأم، وقد أدرك الشعراء ذلك من زمن طويل، فهبات الطبيعة العديدة يشبهونها بكل ما تلقيناه عن أمنا في الزمن الغابر، لكن هذه الأم لم تمنحنا الإشباع دائماً، وقد كابدنا في الغالب، عاطفة مفادها أنها لم تكن كريمة، وهذه العاطفة نعيشها عيشة جديدة أيضاً مع
الطبيعة(76).(1/106)
يذكرنا جسد المرأة في شعر نزار قباني الذي يشمل الكون كله، ويجعله أصل الكون بقصة "مردوخ" الذي دخل في صراع مميت مع "نعامة" فقتلها ثم قسم جسدها نصفين، فمن نصف رفع السماء ومن نصف ثبت الأرض. ثم أخذ بتنظيم الكون ليخرجه على صورته الحالية(77)، وإذا كان الكون بكليته يشكل تبدياً في الزمان والمكان لها، فإن أي جزء من هذا الكون إذا أخذ في حد ذاته، وفي اعتبار ماهيته، هو ... هي، فالسماء الزرقاء التي تنشر غطاءها فوق الأرض هي الأم، ورداء الليل المعتم الذي يبدو بلا أطراف هو الأم، والبحر الذي يصدر عن مياه أزلية لا نهاية لها في الامتداد هو الأم، ولعل أكثر مظاهر الكون تجسيداً للأم، كانت الأرض، فالأرض هي الأم الحقيقية للإنسان ومن أعماقها تنفجر ينابيع المياه وعلى سطحها تسيل مجاري الأنهار، يلتصق بها الإنسان في حياته ويعود إليها في مماته(78).
يذكرنا شعر نزار قباني كذلك بتلك الأعمال التشكيلية التي وصلت إلينا من فترة ازدهار الحضارة الكريتية، إذ كانت في غالبيتها تتخذ المرأة موضوعاً رئيساً لها. فبالإضافة إلى رسوم وتماثيل الأم الكبرى، كانت الأعمال التشكيلية الأخرى تصور المرأة في أبهى وضع وحلة(79).
وكما تتغذى الحياة التي أطلقتها الأنثى من رحمها، وعلى جسدها وفي أحضانها، وكما يعطي هذا الجسد حليباً ينبثق منه بشكل سحري معجز، وكما يهب هذا الجسد طفولة الإنسان دفئاً وأمناً وسكناً، كذلك هي الأم الكبرى. عنها انبثقت الحياة على المستوى الشمولي وعليها تتغذى وتستمر(80).
لقد ارتبطت المرأة في شعر نزار قباني بالأمومة وارتبطت معها رموز الطبيعة فلا تكاد تخلو قصيدة منها أو من رموزها، وغدا الجسد الأنثوي: "أشبه بالوعاء السحري الذي يتحول في داخله الدم إلى حليب يتفجر من فوهة الثدي، وبالمستودع الذي تختمر في ظلماته بذور الحياة لتنطلق من بوابة الرحم"(81)..(1/107)
وهكذا تعددت أنماط صياغتها وتشكيلها، وظلت الأثداء الأنثوية التي هي مركز العطاء في جسد المرأة العنصر الأكثر تكراراً في مجمل أشعاره. فالتعلق البَدْئي بثدي الأم وبحليبها أساس كل علاقات الحب في الحياة(82).
فأي شيء مدور يمكنه، على هذا النحو الرمزي، أن يمثل في لا وعي الطفل ثدي الأم. إن شيئاً يجده جيداً وجميلاً، شيئاً يمنح اللذة والإشباع بمعنى مادي أو بمعنى أوسع، يمكنه، بهذه الصيرورة، أن يتخذ تدريجياً، في لا وعي الطفل، مكان هذا الثدي الخير دائماً ومكان الأم برمتها. وعلى هذا النحو نتكلم عن بلادنا بوصفها الوطن الأم لأن بلادنا يمكنها ان تمثل أمّنا على نحو لا واع ويمكنها أن تكون عندئذٍ محبوبة حباً ترافقه عواطف طبيعتها ناجمة عن علاقتنا بالأم(83).
وإذا كانت الأنوثة في شعر نزار قباني توحداً مع الطبيعة واندماجاً فيها، حتى لتراها وكأنها قطعة من هذا الكون،أو هي هذا الكون، فإن: "الأمومية توحد مع الطبيعة وخضوع لقوانينها"(84).
(
الهوامش:
(1)ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، رسائل الجاحظ، ج2، تحقيق: عبد السلام هارون، دار الجيل، بيروت 1990، ص 104، 105.
(2)ـ نفسه، ج4، ص 163.
(3)ـ يوسف عاله، المرأة العربية في العصر الجاهلي، مقال في مجلة "الثقافة"، دار مجلة الثقافة، عدد شباط، دمشق 1996، ص10.
(4)ـ دواوينه في الحب (1944 ـ 1998).
ـ قالت لي السمراء (1944).
ـ طفولة نهد (1948).
ـ سامبا (1949).
ـ أنت لي (1950).
ـ قصائد (1956).
ـ حبيبتي (1961).
ـ الرسم بالكلمات (1966).
ـ يوميات امرأة لا مبالية (1968).
ـ قصائد متوحشة (1970).
ـ كتاب الحب (1970).
ـ 100 رسالة حب (1970).
ـ أشعار خارجة على القانون (1972).
ـ أحبك أحبك والبقية تأتي (1978).
ـ كل عام وأنت حبيبتي (1978).
ـ أشهد أن لا امرأة إلا أنت (1979).
ـ هكذا أكتب تاريخ النساء (1981).
ـ قصيدة بلقيس (1981).
ـ الحب لا يقف على الضوء الأخضر (1985).(1/108)
ـ سيبقى الحب سيدتي (1986).
ـ الأوراق السرية لعاشق قرمطي (1988).
ـ لا غالب إلا الحب (1990).
ـ هل تسمعين صهيل أحزاني (1991).
ـ أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء (1993).
ـ خمسون عاماً في مديح النساء (1994).
ـ تنويعات نزارية على مقام العشق (1996).
ـ ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة كتاب (إلى بيروت الأنثى ... مع حبي 1978) فعلى الرغم من أنه يعد من أعماله الشعرية السياسية إلا أن الأنثى هي الحاضرة فيه، فقد تغزل ببيروت كما يتصندل العاشق بمعشوقته.
(5)ـ نزار قباني، المرأة في شعري وفي حياتي، منشورات نزار قباني، بيروت 1986، ص 12، ومابعدها.
(6)ـ نفسه، ص 26-28.
(7)ـ نزار قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج7، منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 372.
(8)ـ نفسه، ص 421، 422.
(9)ـ نزار قباني، قاموس العاشقين، منشورات نزار قباني، بيروت 1988، ص 143.
(10)ـ نفسه، ص 49.
(11)ـ نزار قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، منشورات نزار قباني، بيروت 1996، ص 80.
(12)ـ نزار قباني، الأوراق السرية لعاشق قرمطي، منشورات نزار قباني، بيروت 1989، ص 48.
(13)ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج7، ص 395.
(14)ـ نفسه، ص 398.
(15)ـ نفسه، ص 399.
(16)ـ قباني، المرأة في شعري وفي حياتي، ص 16.
(17)ـ نفسه، ص 19.
(18)ـ قباني، قاموس العاشقين، ص 51.
(19)ـ قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص 44.
(20)ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج 7، ص 336-339.
(21)ـ نفسه، ص 340.
(22)ـ نزار قباني، لعبت بإتقان وها هي مفاتيحي، منشورات نزار قباني، بيروت 1990، ص 259، وانظر كذلك: ص 132، 284.
(23)ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج 7، ص 344.
(24)ـ نفسه، ص 353.
(25)ـ نزار قباني، كتاب الحب، منشورات نزار قباني، بيروت 1988، ص 22.
(26)ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج 7، ص 255.
(27)ـ حوار مع الشاعر نشر في مجلة "ألف باء"، عدد 966، بغداد 1987.
((1/109)
28)ـ قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص 105.
(29)ـ نزار قباني، أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء، منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 14.
(30)ـ نفسه، ص 9.
(31)ـ نفسه، ص 186.
(32)ـ نفسه، ص 190-191.
(33)ـ سيغموند فرويد، محاضرات جديدة في التحليل النفسي، ترجمة: جورج طرابيشي، بيروت، 1980، ص 159.
(34)ـ قباني، قاموس العاشقين، ص 29.
(35)ـ قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص 17.
(36)ـ نفسه، ص 57.
(37)ـ نفسه، ص 47.
(38)ـ نفسه، ص 78.
(39)ـ نزار قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، منشورات نزار قباني، بيروت 1994، ص 35.
(40)ـ قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، 27.
(41) ـ نفسه، ص 167-174.
(42) ـ نفسه، ص 57.
(43) ـ نفسه، ص 167.
(44) ـ نفسه، ص 91.
(45) ـ نفسه، ص 59.
(46) ـ نزار قباني، سيبقى الحب سيدتي، منشورات نزار قباني، بيروت 1986، ص 149.
(47) ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج 7، ص 204.
(48) ـ قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص 70.
(49) ـ علي زيعور، تأويل لغة الجسد داخل اللا وعي الثقافي العربي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد (54،55)، بيروت 1988، ص 69.
(50) ـ قباني، لعبت بإتقان وهاهي مفاتيحي، ص 41.
51- J.DERIDA, Eperons, les Styles de NIETZSCHE, ed, FLAHAMMARION, ... CHAMPS. 1978. P 38, 39. col,
... نقلاً عن : فريد الزاهي، الحكاية والمتخيل، أفريقيا الشرق، المغرب 1991، ص 130، هامش 7.
(52) ـ ثائر ذيب، المرأة في التحليل النفسي الفرويدي، مجلة "المعرفة" ع 387، وزارة الثقافة، دمشق 1995، ص 100. ...
(53) ـ نفسه، ص 89.
(54)ـ نفسه، ص100.
(55) ـ جريدة الرأي، عدد 8147، بتاريخ: 29/11/1992.
(56) ـ جريدة النهار العربي والدولي، عدد 328، بتاريخ: 15/08/1983.
(57) ـ قباني، أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء، ص 19.
(85) ـ نفسه، ص242.
(59) ـ قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص 97.
((1/110)
60) ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج 7، ص 467.
(61) ـ نذير العظمة، نزار قباني وتحولات الجسد، ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998، ص 297.
(62) جبرا إبراهيم جبرا ، نزار قباني .. الحب معاصراً، الحب خارج الزمن، ضمن كتاب: نزار قباني لكل الأجيال، ج1، ص 63.
(63) ـ نفسه، ص66.
(64) ـ عبد القادر القط، الحب والمرأة في شعر نزار قباني، ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، ص414.
(65) ـ قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، ص 150.
(66) ـ قباني، أشعار خارجة على القانون ، ص 32.
(67) ـ شوقي بزيغ، احتفالية الجسد وشاعرية الحواس، ضمن كتاب: نزار قباني لكل الأجيال، ج1، ص40.
(68)ـ عباس محمود العقاد، ابن الرومي، حياته من شعره، مطابع دار الكتاب العربي، القاهرة، 1963، ص 379.
(69) ـ قباني، الأوراق السرية لعاشق قرمطي، ص 98.
(70) ـ نفسه، ص98.
(71) ـ نفسه، ص99.
(72) ـ ميلاني كلاين، وجون ريفيير، الحب والكراهية، ترجمة: وجيه أسعد، دار البشائر، دمشق 1993، ص 107.
(73) ـ نفسه، ص106.
(74) ـ نفسه، ص108.
(75) ـ نفسه، ص110.
(76) ـ نفسه، ص111.
(77) ـ فراس السواح، لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، سومر للدراسات والنشر والتوزيع، قبرص 1985، ص 54.
(78) ـ نفسه، ص50.
(79) ـ نفسه، ص39.
(80) ـ نفسه، ص43.
(81) ـ نفسه، ص48.
(82) ـ كلاين وريفيير، ص 93.
(83) ـ نفسه، ص106.
(84) ـ السواح، ص 32.
((
الفصل الثالث:
المرأة المدينة
1 ـ الشاعر العربي والمدينة.
2 ـ نزار قباني والمدينة
أ ـ دمشق الأم.
ب ـ بيروت الحبيبة.
ج ـ مراجعة حب المدينتين.
1 ـ الشاعر العربي والمدينة:(1/111)
تعد المدينة من الموضوعات الأكثر حضوراً في الشعر العربي الحديث، واختلفت نظرة الشعراء إليها، ولكن على الرغم من هذا الاختلاف إلا أننا نكاد نلمس لديهم قاسماً مشتركاً تمثل في مقابلتها بالريف وإظهار التضاد القائم بينهما ثم الحنين إلى الريف بوصفه رمزاً للصفاء، والطهر والنقاء والإخلاص، والنفور من المدينة رمز الرذيلة والتلوث.
ويبدو أن خيال الشعراء، قد نسج صوراً عن المدينة قبل اكتشاف عالمها وبعد اكتشاف واقعها تولد لديهم نوع من الكراهية لها ومن ثم هجاؤها. وتمثل قصيدة فاروق شوشة: "ضاع في الزحام"، أنموذجاً جيداً للتضاد القائم بين عالم الوهم والخيال المنسوج حول المدينة وعالم الواقع:
صديقتي كان لنا ألف خيال
في قريتي الصغيرة
وألف توق وارف الظلال
إلى المدينة الكبيرة
...
وكم حلمنا بالعجائب الطوال
واتسعت أحداقنا لكل ما قيل وما يقال
عن هذه المدينة الكبيرة
...
وفي مدينتي الكبيرة
عرفت يا صديقتي معنى السأم
معنى الضياع(1).
وقد واكب الحنين إلى الصفاء الطبيعي حنين إلى المرأة المثال النقية الجسد الطاهرة الروح، الوفية في حبها كما نجد ذلك عند توفيق صايغ..، ومادامت المدينة تفتقر إلى ذلك فإن صورتها قد تحولت إلى مبغى كبير كما عند السياب، ثم إلى امرأة مبتذلة كما عند البياتي، وإلى امرأة ذات خواص لابد من تغييرها بل الثورة عليها كما عند ادونيس(2).
يحصر جون جونسون في كتابه (الشاعر والمدينة) شعر المدينة ضمن إطار محدد إنه الشعر الذي يصف مدينة واقعية وصفاً مباشراً أو يصف البشر الذين تتأثر حياتهم بتجربتهم في تلك المدينة تأثراً واضحاً، ويستثني من ذلك شعر الأحلام والرؤى والأوهام والخيالات التي لها علاقة واهنة أو لا علاقة لها البتة بالمدينة الواقعية(3).(1/112)
انطلاقاً من هذا التعريف يستثني مجيد الربيعي نماذج كثيرة من شعر المدينة في الشعر العربي المعاصر، منها أشعار نزار قباني التي يقول عنها إنه وجد لها طبيعة سياحية أحياناً، خطابية حماسية أحياناً أخرى(4)..
ويجمل موقف الشاعر العربي المعاصر من المدينة رغم سعة مجال رؤيته في ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: تقف المدينة الطاهرة النقية المعشوقة، التي تكاد أن تكون مبرأة من العيوب.
الموقف الثاني: تقف المدينة المزيفة، القاسية، المشوهة..، ومن خلال هذين الموقفين المتباعدين ينبثق الموقف الثالث: المدينة الرمز التي تجسد بصفائها معنى شاملاً يومئ في بعض الأحيان إلى الحياة ذاتها(5). ومن هنا فإن:
ـ مدينة أحمد حجازي هي مدينة الوحشة والتوحد والضياع.
ـ ومدينة صلاح عبد الصبور، مدينة الحزن والحياة والموت.
ـ ومدينة عبد الوهاب البياتي، تعددية الأوجه، لكنها ميؤوس منها.
ـ ومدينة فاروق شوشة، رمز إشاري متعدد الاحتمالات يلتقي عند نهايتها الضياع، وفقدان البراءة.
ـ ومدينة حامد طاهر، أسطورية وهي القاهرة دون سواها.
ـ ومدينة محمود درويش ، مغصوبة ومحاربة، وضائعة.
ـ ومدينة أمل دنقل، ترتبط بالإنسان وبالمستقبل (6) .
ويضع محمد عبده بدوي المدن التي شغلت الشاعر العربي المعاصر في ثلاث دوائر:
1 ـ دائرة المدينة العربية.
2 ـ دائرة المدينة الأجنبية.
3 ـ دائرة المدينة الحلم.
في الدائرة الأولى تأخذ القاهرة، وبغداد، وبيت المقدس، والخرطوم، وبيروت، ودمشق، حيزاً واسعاً. وفي دائرة المدينة الأجنبية، تظهر أكثر باريس، والمدينة، الإيطالية ولندن، وبعض مدن الأمريكيتين، وبعض مدن الشرق. أما دائرة المدينة الحلم فتتمثل في محاور:
1 ـ محور المدينة التي لم توجد ولم تخلق ولن تصل إلى الكمال لأنها تظل دائماً في حالة خلق، ويمثلها أدونيس.
2 ـ محور المدينة التي كانت موجودة ثم فقدت ولكنها مع ذلك تظل مستقرة في الأعماق ويمثل هذا المحور الشاعر محمد عبد الحي.(1/113)
3 ـ محور المدينة الحلم التي تعد رد فعل للواقع الصلب الذي يعيشه الشاعر الذي لا ينسجم معه ويمثله جبران.
4 ـ محور المدينة الضائعة التي لا يضيعها الإنسان بإرادته وإنما يرغم على تضييعها ويمثلها محمود درويش.
5 ـ محور مدينة الموتى وهي المدينة التي ضاعت فيها الحياة تماماً، يمثلها أحمد مشاري العدواني(7)، وينتهي إلى ربط أدونيس بالمدينة التي لم توجد بعد (الحلم). ومحمد عبد الحي بالمدينة التي كانت وانتهت. وجبران خليل جبران بالمدينة الغاب. وأحمد مشاري العدواني بمدينة الموتى ويستثني نزار قباني إذ لم يشر إليه إلا إشارة عابرة دون أن يصنفه في محور من المحاور المشار إليها.
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء الشعراء، فكيف كان الأمر بالنسبة إلى نزار قباني؟
2 ـ نزار قباني والمدينة:
لقد سئل نزار قباني ذات مرة(8) عن الدور الذي يلعبه المكان في شعره، فكان جوابه: أن شعره كله مكان، وأن شعره منذ الأربعينات كان عبارة عن رائحة المكان، مؤكداً أنَّه لا هرب من المكان لأنه هو الذي يملي على الشاعر صوره ومشاعره ويعطيه مادته الشعرية. وقد لعبت عدة أماكن دوراً كبيراً في تكوين لغته الشعرية حيث نجد الموروث الأندلسي ظاهراً في شعره في إسباينا لا سيما في ديوانه "الرسم بالكلمات"، حتى إنه قسم شعره على مراحل حسب الأمكنة التي كتبت فيها فجعل قصائد الصين مثلاً ضمن المرحلة الصفراء وقصائد بريطانيا ضمن المرحلة الرمادية.
وإن لندن، على ما يقول، قد أعطته واحداً من أفضل كتبه وهو "قصائد". ومدريد أعطته واحداً من أعنف كتبه وهو "الرسم بالكلمات". ودمشق أعطته "قالت لي السمراء"، و"أنت لي"، و"حبيبتي"، وبيروت أعطته: "قصائد متوحشة"، و"كتاب الحب"، و"قاموس العاشقين"، و"قصيدة بلقيس".(9)(1/114)
وعلى الرغم من عشرات المدن التي زارها وأقام فيها، وعلى الرغم من حضور بعضها في شعره إلا أن ثناءه على دمشق وبيروت كان ثناء خاصاً ولم يخلد مدينة من المدن مثلما خلدهما في شعره، فغدت المدينتان هاجساً رافق مسيرته الشعرية إلى آخر أيام حياته. فلا نجد إشارة واحدة إلى لندن في هذا الديوان أعطته إياه، بل فيه قصائد نجد فيها أجواء دمشق ومنها قصيدة بعنوان: "يا بيتها في آخر الدنيا"، توحي بالحديث عن بيت دمشقي:
نوار مر عليك ، وانفتحت
أزراره ، لا فيك بل فيا
باب تقوس تحت ليلكة
تهمي سماوياً.. سماويا
( ... )
وبلاد آبائي مغمسة
(بالميجنا) و(الأوف) و(الليا) (10)
وفي قصيدة (عندنا):
يولد الموال حرا
عندنا بين الضياع
(...)
وبلادي، شرفة الصحوة
وميناء الشعاع(11) .
وفي قصيدة أخرى بعنوان "بيتي":
في حرجنا المدروز شوحا
سقف منزلنا اختفى
حرسته خمس صنوبرات
فانزوى .. وتصوفا
...
الطيب بعض حدوده
أتريد أن لا يعرفا
...
كم نجمة دخلت علي
تظن عندي متحفا (12) .
وفي قصيدة "وجودية" يذكر باريس ولا يذكر لندن:
في عينها تبكي
سماء باريس الرمادية
في ليل باريس الرمادية (13) .
وعلى الرغم من تجلي بعض الرموز التاريخية الأندلسية في شعره، وفي أحاديثه عن مدريد في ديوانه :"الرسم بالكلمات"، إلا أن حضور دمشق فيه كان حضوراً قوياً، ففي قصيدة بعنوان: "خمس رسائل إلى أمي"، يقول فيها:
مضى عامان... يا أمي
ووجه دمشق..
عصفور يخربش في جوانحنا..
يعض على ستائرنا..
وينقرنا، برفق، من أصابعنا..
مضى عامان يا أمي..
وليل دمشق..
فل دمشق..
دور دمشق..
تسكن في خواطرنا
مآذنها.. تضيء على مراكبنا..
كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا
كأن مشاتل التفاح تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء والأحجار..
جاءت كلها معنا (14)
وفي مقطوعة بعنوان "اللؤلؤ الأسود"، تحضر هذه الأجواء من ذلك مثلاً:
فمن مقعدي ...
أرى وطني في العيون الكبيرة
أرى مئذنات دمشق
مصورة..
فوق كل ضفيرة (15)(1/115)
وتحضر الأجواء نفسها في : "أحزان في الأندلس"، وفي "غرناطة"(16).
إن أجواء دمشق تكاد تغطي قصائد هذا الديوان وليس أجواء إسبانيا.
وعندما يكتشف بيروت فيما بعد يتحول إعجابه إليها.
فما دلالة المدينتين في شعره؟ ...
أ ـ دمشق الأم:
يقول عن دمشق: إن حضورها في شعره حضور خطير حتى إن لغته مشبعة بما سمّاه الأبجدية المائية الدمشقية. وأن أنهار دمشق السبعة لا تسير بالأرض الدمشقية فقط، بل بمفاصل شعره أيضاً، وأنه استعمل تعابير من النباتات التي كانت تزرعها أمه في بيتهم القديم، كالشمشير، والمنثور، والخبيز، والأضاليا الخ ... (17).
ويؤكد في موضع آخر أنه في دمشق يشعر أنه في مملكته ويتصور أن صوته فيها أجمل، لأن العصفور يغني دائماً بصورة أفضل حين يقف على الشجرة التي ولد عليها وعاش في ظلالها. وأن النقاد الذين درسوه شموا في أبجديته رائحة النباتات الدمشقية، وأنه في كل مطار في العالم نزل فيه وجدوا في حقائبه قمراً أخضراً وشجرة صفصاف وعريشة ياسمين دمشقية، وأنه منذ أربعين عاماً(18) وهو يحمل مآذن دمشق على كتفيه ويطوف بها العالم، وأنه سوف يبقى كذلك حاملاً دمشق وأنهارها وأشجار خوخها، وتفاحها، ورمانها، وعنبها حتى آخر لحظة في حياته(19).(1/116)
والمعروف أننا لا نجد مكاناً أجمل من الجنة في خيال المسلم فهي المكان الذي يختزل جمال أمكنة الدنيا جميعها، إذ لو جمعنا جمالها كله لما صاغ لنا عنصراً واحداً من العناصر الجمالية المكونة للجنة، بيد أن لنزار قباني جنتين إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الآخرة، وجنة الدنيا هي دمشق، والعلاقة بين جنة نزار قباني في الدنيا وجنته في الآخرة ليست مجرد علاقة مشابهة وليست مجرد: "صورة منقولة عن الجنة، إنها الجنة"(20)، ولأنه ينظر إليها كذلك في الواقع لا في الخيال، فحسب، يؤكد نزار قباني على أن كل: "الذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون(21).
من هنا ينحاز نزار قباني انحيازاً كلياً إلى دمشق لا بوصفها جسداً منفصلاً عن جسده ولا بوصفها حمالة ذكرياته الطفولية وذكريات شبابه، وحمالة ثقافته فحسب، بل بوصفها من مكونات هذا الجسد: "إن جغرافية جسدي هي استمرار لجغرافية الشام، حتى إنني لا أعرف أين تبدأ تضاريس جسدي ولا أين تنتهي تضاريس قاسيون"(22).
وفي موضع آخر يقول عنها إنها تحضنه، تشعله، تضيئه، تكتبه، ترسمه باللون الوردي، تزرعه قمحاً، وشعيراً، وحروفاً أبجدية، تغير تقاطيع وجهه، تحدد طول قامته، تختار له لون عينيه، تؤكده، تجدده، تقبله على فمه فتغير ترتيب دمه(23).
هذه المدينة، إذن، استثنائية جداً لا يقابلها مكان آخر في عالم الواقع أي على وجه هذه المعمورة، ومن هنا وجب على الشاعر أن يجد لها لغة خاصة، لغة استثنائية، لغة لا وجود لها في معاجم الشعراء، لغة نزارية، قاموسها نزاري، لكن حروف أبجديتها من اختراع دمشق.(1/117)
إن القصيدة عنده يشترك في صنعها اثنان هو ودمشق هي باختراعها لحروف أبجديته، وهو باختراعه لغة استثنائية لها إذ لابد، كما يقول، أن يخترع لغة استثنائية لهذه المدينة الاستثنائية فكل حروف الأبجدية مقتلعة حجراً حجراً من بيوت دمشق، وأسوار بساتينها، وفسيفساء جوامعها، قصائده كلها معمرة على الطراز الشامي، فكل ألف رسمها على الورقة هي مئذنة دمشقية، كل ضمة مستديرة هي قبة من قباب الشام، وكل حاء هي حمامة بيضاء في صحن الجامع الأموي، وكل عين هي عين ماء، وكل شين هي شجرة مشمش مزهرة، وكل سين هي سنبلة قمح، وكل ميم هي امرأة دمشقية. وما أكثر الميمات في دواوين شعره(24).
هذه الحقيقة يؤكدها في موضع آخر في معرض إجابته على سؤال يتعلق بأثر طفولته في شعره، فقال: "أنا محصول دمشقي مائة في المائة. وأبجديتي تحتشد فيها كل مآذن الشام، وحمائمها، وياسمينها، ونعناعها، وخوخها، وعنبها، ووردها البلدي، ... وبين كل فاصلة وفاصلة من قصائدي.. تضيء عينان دمشقيتان"(25).
ويؤكد الكلام نفسه في عام 1995 حين قال: "لا تطلبوا مني أوراقي الثبوتية. فأنا محصول دمشقي مائة بالمائة، كما الحنطة، والخوخ، والرمان، والجانرك، واللوز الأخضر في بساتين الغوطة. وكما البروكار، والأغباني، والداماسكو، وأباريق النحاس، والخزائن المطعمة بالصدف، التي هي جزء من تاريخي ... ومن جهاز عرس أمي"(26). يؤكد هذه الحقيقة شعرياً في قصيدة "أم المعتز" التي يرثي فيها أمه:
أمي متفشية في لغتي..
كلما نسيت ورقة من أوراقي في صحن الدار
رشتها أمي بالماء مع بقية أحواض الزرع
فتحولت الألف إلى (امرأة).
والياء إلى (بنفسجة).
والدال (دالية)
والراء إلى (رمانة)
والسين إلى (سوسنة) أو (سمكة) أو (سنونو)(27)(1/118)
ومثل ما هو منحاز للمرأة في شعره، فإنه مع دمشق لا يستطيع أن يكون محايداً:"فكما لا حياد مع امرأة نحبها، لا حياد مع مدينة أصبح ياسمينها جزءاً من دورتي الدموية، وأصبح عشقي لها فضيحة معطرة تتناقلها أجهزة الإعلام".(28) تماماً مثل ما هي المرأة فضيحة منذ أن نشر باكورة أشعاره. فمنذ أن نشر أولى قصائده مارس هوايتين: "العشق والشعر ودمشق" لا تفهم إلا هاتين اللغتين. ومن ثم لابد من الذهاب إلى الحد الأقصى للعشق أو الحد الأقصى للشعر حتى يتفاهم مع دمشق على ما يقول(29).
دمشق، إذن، تبوح بأسرارها لاثنين: عاشق متيم وشاعر ولهان، وعلاقته بدمشق علاقة عاشق بمعشوقته وعلاقة شاعر بقصيدته، وهو لا يأتيها إلا وهو: "ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا، حصان العشق وحصان الشعر"(30).
لقد ذكر الشاعر دمشق في قصائد كثيرة ووضع اسمها عنواناً لمجموعة منها وهي:
1 ـ ديك الجن الدمشقي.
2 ـ إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني.
3 ـ من مفكرة عاشق دمشقي.
4 ـ ترصيع بالذهب على سيف دمشقي.
5 ـ مواويل دمشقية إلى قمر بغداد.
6 ـ موال دمشقي.
7 ـ ياسمين دمشقي.
8 ـ القصيدة الدمشقية.
فما دلالة دمشق، إذن، في شعر نزار قباني؟
تذكر المصادر المعنية بتاريخ اللغات من الأسماء الملازمة للتأنيث في اللغة المصرية القديمة أسماء المدن. ومن المؤنثات بلا علامة في اللغة العبرية أسماء المدن أيضاً، حيث عدت في هذه اللغة (العبرية) أمهات وراعيات للسكان(31). واتخذت أثينا، المدينة اليونانية المعروفة اسم إلهة الحكمة والحرب وراعية المهارات والفنون عند الإغريق.
تعد المدن، إذن، منذ القديم رموزاً للنساء بصورة عامة وللأمهات بصورة خاصة، ومن السهل أن يتوحد الجسد البشري الأنثوي بجسد المدينة لاشتراك الجسدين في التأنيث من جهة، ومن جهة أخرى فإنه: "في معظم الأحيان كانت حركة التاريخ ضد المدن فتحاً واجتياحاً واغتصاباً لها ولنسائها"(32).(1/119)
لم يشذ نزار قباني عن هذه القاعدة من حيث تأنيثه للمدينة لكنه تميز من غيره كونه الشاعر العربي الوحيد الذي تغزل بجسدين أنثويين، جسد المرأة وجسد المدينة، مستعيراً صفات المرأة للمدينة تارة وصفات المكان للمرأة تارة أخرى مازجاً بينهما في أغلب الأحيان. فهو حين يتحدث عن المكان يستعير له صفات المرأة الجمالية، وحين يتحدث عن المرأة يستعير لها صفات المكان الجمالية، يقول عن المرأة: "إنها أوسع البحار، وأعمقها، وأخطرها"(33)، ويقول عن الحب: "لن أترك غابة الحب أبداً ولكنني سأحاول أن أستنبت فيها أشجاراً جديدة وغريبة، وأستورد لها بذوراً ولقاحات وشتولاً غير مألوفة، وسأشق فيها عشرات الطرقات الصغيرة وأحفر عشرات الآبار حتى تصبح غابة الحب نموذجية ( ... ) أنا لم أترك شواطئ المرأة أبداً حتى أعود إليها، من ذا الذي يترك الرمال الدافئة والأصداف والأعشاب البحرية وسمفونية الموج والريح ويغير مكان إقامته"(34).
إنَّ أقصى ما يمكن أن تبلغه المرأة الجميلة عنده هو أن تقوم بينها وبين دمشق ومآذنها وخاتم أمه علاقة مشابهة:
ألاحظت؟
كم تشبهين دمشق الجميلة
وكم تشبهين المآذن..
والجامع الأموي..
ورقص السماح..
وخاتم أمي
( ... )
ألاحظت كم أنت أنثى(35)..
دمشق والجامع والمآذن وخاتم الأم هي العناصر التي تحدد العلاقة بين المرأة والمكان والأم. وهي علاقة امرأة جميلة بمدينة جميلة، ويضفي على جمال المدينة القداسة، متمثلة في المسجد الأموي والمآذن، هناك جمال طبيعي وهناك قداسة بين الجسدين، جسد المرأة وجسد المدينة. بيد أن العلاقة بين المرأة والأم ملغاة، ولم يبق منها سوى العلاقة بواحدة من أشيائها "الخاتم"، فلا وجه للمقارنة بينهما سوى أن جمالها يشبه جمال خاتم الأم.
إِذن فقمة جمال المرأة أن تبلغ جمال دمشق بيد أنها لا تستطيع أن تقوم بينها وبين الأم علاقة مشابهة.(1/120)
إن انحياز نزار قباني للمرأة جعله ينحاز أيضاً للمكان ويؤنثه، بل إن هذا الانحياز جعله ينظر إلى العالم كله على أنه أنثى بما في ذلك الرجل مؤيداً ما ذهب إليه ابن عربي في أن المكان غير المؤنث لا يعول عليه. مؤكداً أنه حيث يكون الذكور تكون الأرض مالحة ويحل الجفاف، وتكثر المجاعات ويموت الشجر وتهرب العصافير، وتنشف الأرض وتزداد نسبة التلوث، وتشتعل الحروب وتتكرر (الهيروشيمات). وحيث تكون المرأة، يكون الخصب والنماء، ويخضر الشجر، وترتفع السنابل، ويمتلئ العالم بالورد، والقمح، والأطفال حيث تكون المرأة تفيض أنهار الحنان وتتكاثر ذرية النجوم وذرية القصائد(36).
تأخذ صورة المدينة عند نزار قباني دائماً بعدين يسيران في اتجاهين متباينين: اتجاه يرسم صورة المرأة الجسد بوجهها الأنثوي الصبوح الذي تظهر فيه العناصر الجمالية الجسدية. في هذا البعد يمكن أن نصنف مدينة بيروت.، وصورة المرأة الأم التي تسيطر عليها عناصر الأمومة. في البعد الثاني يمكن أن نصنف مدينة دمشق، فهي بالنسبة إلى نزار قباني امرأة ليست ككل النساء، إنها امرأة استثنائية، والمرأة الاستثنائية، لا يمكن أن تكون غير الأم. دمشق، إذن، تساوي الأم، حيث يقترن الحديث عن دمشق دائماً بالحديث عن الأم والبيت الذي ولد فيه الشاعر. إن المكان الذي ولد فيه الشاعر دمشق/ البيت لا يختلف عن رحم الأم ففي المكان الأنثى (دمشق) دفء، وانسجام وطمأنينة، وسعادة، شأنه شأن الحيز الذي كان فيه قبل الولادة (الرحم): يقول في قصيدة تحت عنوان:" القصيدة تولد من أصابعها":
كيف أقول إنني ولدت؟
ولم أزل في بطن أمي جالساً كفرخة مذبوحة
منتظراً أن يأخذوا أمي
إلى طاولة الولادة(37)
وعلى فرض أن الولادة قد تمت، فقد كانت على غير عادة الولادات الأخرى، إنها مجرد انتقال من رحم الأم إلى رحم الطبيعة:
ما عندي أبداً مشكلة
فكل شيء ها هنا، وجدته ملحنا
الأرض، والسماء، والحقول
والطيور، والرياح، والأمطار(38)(1/121)
يستمد حبه المرأة قيمته من مدى إثارته عواطف حب المكان لديه، فالرغبة في حب المرأة هي رغبة في استرجاع تفاصيل بيته الدمشقي ذلك البيت الذي لا يمكن أن يحضر في مخيلته دون حضور الأم:
أريد أن أحبك
حتى أسترجع تفاصيل بيتنا الدمشقي،
غرفة ... غرفة ...
بلاطة ... بلاطة ...
حمامة ... حمامة ... .
وأتكلم مع خمسين صفيحة فل
كانت أمي تستعرضها كل صباح(39)
إن بيت الشاعر الدمشقي القديم في حي مئذنة الشحم هو الأكثر حضوراً من كل بيوت دمشق فهو البطل الرئيس في أعماله الشعرية، هذا البيت الجميل، الواسع، المطرز بالأخضر، والأحمر، والليلكي، والماء، والورد، والياسمين أي كل ما يحتاج إليه الرسام من ألوان وقماش وفراشي(40).
وإذا كان البيت هو البطل الرئيس في شعره فإن الأم هي السيدة الأولى في حياته وفي شعره(41) هذا على الرغم من أن بعض النقاد قد لاحظوا أن نزار قد أهمل في سيرته الذاتية العنصر الإنساني إهمالاً واضحاً، في حين أنه قدم المكان على الإنسان كما قدمه أيضاً على الزمان، فهو في سيرته الذاتية لم يعن بالإنسان قدر عنايته بالمكان. فكانت سيرته هي سيرة مكان، هي سيرة دمشق المكان وهي سيرة البيت فقط(42).
تختزل دمشق (المرأة الاستثنائية)، النساء جميعاً، والنساء اللواتي تغنى بهن نزار قباني هن مجرد عناصر طبيعية في دمشق حولها الشاعر إلى نساء. في قصيدة تحت عنوان: "من مفكرة عاشق دمشقي" يقول:
فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا
حبيبتي أنتِ ... فاستلقي كأغنية
على ذراعي، ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ... ما من امرأة
أحببت بعدك، إلا خلتها كذبا
...
فكل صفصافة حولتها امرأة
وكل مئذنة رصعتها ذهبا(43).
وفي قصيدة بعنوان: "القصيدة تولد من أصابعها"، وهي من نوع قصائد السيرة الذاتية يقول:
مسقط رأسي في دمشق الشام
حيث البيوت امرأة عارية
على بياض نهديها
تراهق الأنهار..(44).
وفي قصيدة أخرى تحت عنوان: "اختزال"
أيا امرأة..(1/122)
يتلاقى الحمام الدمشقي فوق مياه يديها.
ويبدأ فصل السفرجل..
والخوخ.. والتين..
من شفتيها..(45) .
وفي قصيدة أخرى بعنوان: "سأدرس حتى أحبك عشر لغات" ... يقول:
أحبك جداً ...
وأعرف أن العلاقة بين النساء وبيني
مقررة من ألوف السنين
وأن أهم محطات عمري
مطرزة بخيوط (الداماسكو) ...
وذاكرة القطن، و(الموسلين)..
فلا تتعري أمامي ... بغير اكتراث
فإني أواجه قشطة نهديك عند الصباح
كأني أواجه جيشاً من الياسمين!!(46).
فانظر كيف يقابل بين المرأة وعناصر جمالية في المدينة فالصفصافة امرأة في المقطع الأول والبيوت امرأة عارية في المقطع الثاني، وعلى يديها يتلاقى الحمام الدمشقي في المقطع الثالث، ويقابل أهم عناصر الأنوثة فيها بأزهار الياسمين.
هذه الحقيقة، حقيقة دمشق الأم الرمزية، أكدها نزار قباني، وهو في الثانية والسبعين، في مقدمة وضعها للكتاب الذي جمع فيه صباح قباني نصوصه في دمشق، بعنوان: (دمشق نزار قباني)، كتب في مقدمته يقول: "كل أطفال العالم، يقطعون لهم حبل مشيمتهم عندما يولدون. إلا أنا ... فأنا حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق منذ 21 آذار (مارس) 1923. إنها معجزة طبية. أن يبقى طفل من الأطفال يبحث عن ثدي أمه سبعين عاماً"(47) .
إن المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب تكشف عن مكانة دمشق الرمزية في شعره. مقدمة من سبع صفحات من الحجم المتوسط ورد ذكر الأم فيها خمس مرات: أربع منها بصورة صريحة ومرة بصورة مجازية: "طفل يبحث عن ثدي أمه سبعين عاماً"، "الخزائن المطعمة بالصدف، التي هي جزء من تاريخي ومن جهاز أمي"،، "شجرة فل تركتها أمي على نافذتي"، "خزانة مشغولة بالصدف، وزبديتين من الخزف الصيني، وخمس أساور مبرومة من الذهب. هي كل ما تبقى من جهاز أمي"، "حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق".(1/123)
في هذه المقدمة تتزاحم العناصر المكونة لجمالية المدينة، من النباتات وأشجار الياسمين، والمشمش، والرمان، والتوت، والسفرجل، والحنطة، والخوخ، والجانرك، واللوز، والنرجس، والريحان، والزعتر، والطرخون، والقرنفل، والقرفة، واليانسون، والفل، الخ ... ومن قطط شامية وحمائم، وأسراب السنونو الخ ... ومن أماكن كصوامع المساجد، وأماكن الأولياء، ومن أثاث كالبروكار، والأغباني، والداماسكو، وأباريق النحاس، والخزائن المطعمة بالصدف من مأكولات ومشروبات كالخبز المرقوق، وسطل العرق سوس، وكوم صبارة مثلجة، وعنقود عنب، وركوة القهوة الخ ... ومن نوافير المياه.(1/124)
لعل هذه العناصر الجمالية المكونة لدمشق المتزاحمة في هذه المقدمة هي نفسها العناصر الجمالية المكونة لبيت نزار قباني الذي عده المفتاح إلى شعره، والمدخل الصحيح إليه وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة ومنتزعة من إطارها، هذا البيت الذي وصفه بأنه: "قارورة عطر"، يقول عنه: "بوابة صغيرة من الخشب تنفتح. ويبدأ الإسراء على الأخضر، والأحمر، والليلكي، وتبدأ سمفونية الضوء والظل والرخام. شجرة النارنج تحتضن ثمارها. والدالية حامل، والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ ... وأسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا ... أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء ... وتنفخه ... وتستمر اللعبة المائية ليلاً ونهاراً.. لا النوافير تتعب ولا ماء دمشق ينتهي ... الورد البلدي سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك ... والليلكة تمشط شعرها البنفسجي، والشمشير، والخبيزة والشاب الظريف، والمنثور، والريحان والأضاليا ... وألوف النباتات الدمشقية أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسماءها ... لا تزال تتسلق على أصابعي كلما أردت أن أكتب ... القطط الشامية النظيفة الممتلئة صحة ونضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحرية مطلقة، وحين تعود بعد هجر الحبيب ومعها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها ويطعمها ويكفكف دموعها. الأدراج الرخامية تصعد.. وتصعد على كيفها، والسمك الأحمر يسبح على كيفه، ولا أحد يسأله إلى أين؟ وعشرون صفيحة فل في صحن الدار هي كل ثروة أمي"(48).
وهذه الأجواء التي نجدها هنا في معرض حديثه عن بيته هي نفسها الأجواء التي وصف بها دمشق في قصائده، عالم الألوان، والأضواء، والنباتات، والطيور، والنوافير، والقطط الخ.. ففي قصيدة بعنوان "القصيدة الدمشقية"، نجد هذه الأجواء ومنها هذا المقطع:
مآذن الشام، تبكي إذ تعانقني
وللمآذن، كالأشجار أرواح.
للياسمين ، حقوق في منازلنا
وقطة الدار تغفو.. حيث ترتاح
طاحونة البن جزء من طفولتنا(1/125)
فكيف ننسى وعطر الهال فواح
هذا مكان (أبي المعتز) ... منتظر
ووجه (فائزة) .. حلو ولماح(49).
وفي قصيدة بعنوان: "من مفكرة عاشق دمشقي"، نجد: الصفصاف، المآذن، البساتين العنب الخ ... .
هذي البساتين ... كانت بين أمتعتي
لما ارتحلت عن الفيحاء مغتربا
فلا قميص من القمصان ألبسه
إلا وجدت على خيطانه العنبا(50)
وتتكرر بعض هذه الأجواء في مرثية ابنه توفيق التي بعنوان "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني":
أشيلك يا ولدي فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين ...
وشعرك حقل تحت المطر ...
ورأسك في راحتي وردة دمشقية ... وبقايا قمر(51) .
وهذه الأجواء تتكرر أيضاً عندما يتحدث عن قرطبة في إسبانيا، التي تذكره ببيته في دمشق حيث تحضر الأم مرة أخرى مع ذكر هذه الأجواء: "في أزقة قرطبة الضيقة، مددت يدي إلى جيبي أكثر من مرة لأخرج مفتاح بيتنا في دمشق. أحواض الشمشير، الليلك، القرطاسيا، البركة الوسطى، عين الدار الزرقاء، الياسمين الزاحف على أكتافنا، النافورة الذهبية، طفلة البيت المدللة التي لا تنشف لها حنجرة، القاعات الظليلة، أواني الرطوبة ومخبؤها، كل هذه الدنيا المغيبة التي حضنت طفولتي في دمشق وجدتها هنا( ... ) حجرة شرقية كانت أمي تنصب فيها سريري"(52).
إن التحام الأجساد الثلاثة: جسد المدينة، جسد البيت، وجسد الأم تشكل جسداً واحداً وهذا الجسد تغلب عليه صفات الأم وملامحها من طهر ونقاء وقداسة. لكننا عندما نمضي في استقراء ما قاله نزار قباني عن بعض المدن العربية نصطدم بما يتناقض وهذه النتيجة، ففي ديوانه "كل عام وأنت حبيبتي" يقول:
كل مدينة عربية هي أمي..
دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، الخرطوم، الدار البيضاء.
بنغازي، تونس، عمان، الرياض، الكويت، الجزائر، أبو ظبي
وأخواتها..
هذه هي شجرة عائلتي..
كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها
وأرضعتني من ثديها
( ... )
لذلك لا أدخل مدينة عربية.. إلا وتناديني:
"يا ولدي"
لا أطرق باب مدينة عربية ..
إلا وأجد سرير طفولتي بانتظاري(53)(1/126)
قول صريح يدحض الاستنتاج السابق، لكن إذا عدنا إلى مناسبة هذه القصيدة نجدها مرثية لأمه (أم المعتز). كانت دمشق والأم حية تمثل رمزياً الأم الحقيقية وسواها من المدن نساء حبيبات. لكن صدمة موت أمه جعلته يشعر بفقدان الحماية والأمن الذي كان يشعر به أو كان يشعر به الطفل الذي ينام في أعماقه، استيقظ الطفل على خبر موت الأم فكان عليه أن يقول في رثائها: إن هذه المدن كلها رموز لك قادرة على حمايتي وطمأنتي هذه المدن، إذن، أمهات مستعارات. ولذلك ينهي قصيدته بهذا النداء الذي نلمح فيه هذه الحقيقة حين يقول:
فيا أمي، يا حبيبتي. يافائزة
قولي للملائكة الذين كلفتهم بحراستي خمسين
عاماً، أن لا يتركوني ...
لأنني أخاف أن أنام وحدي(54)
إن المدينة لها جميع مواصفات المرأة الأم وجميع مواصفات المرأة الحبيبة. المدينة الأولى تمجيد للحظة الميلاد، وللحظة البدايات، تلك اللحظة التي تتغنى بها جميع قصائد نزار، ولعل جورج نوننشمار كان أكثر تعبيراً عن هذه الفكرة حين قال: "إنني كلما فكرت بهذا النمط من الشعر عبرت شريط خيالي صورة مولود جزؤه الأسفل قائم في رحم الأم وجزؤه الأعلى مقذوف به في الخارج. إنه الخارج المنفتح على المطلق، حيث يسود التحرر والانعتاق"(55).
ب ـ بيروت الحبيبة:(1/127)
يثني الشاعر ثناء خاصاً على بيروت سواء في حواراته أم في شعره، ففي أحد حواراته يقول عن بيروت (56): إنه (الشاعر) كان في كل الأمكنة، ولم يكن في أي مكان وأن كل مدن العالم بالنسبة إليه كانت صالات ترانزيت وفنادق صالحة للمبيت ليلة واحدة أو ليلتين على الأكثر، ولكنه بعد بيروت لم يستطع أن ينام في أي مكان، ولا أن يكتب في أي مكان، فكل العالم بالنسبة إليه فندق من الدرجة الثانية وبيروت هي البيت، وأن كل العالم بلا جدران وبيروت هي السقف، وكل العالم صحراء وبيروت هي الماء وكل الجغرافيات تفرعات وهوامش وبيروت هي الأصل، وأنه من خلال تعامله الشعري مع عشرات المدن اكتشف أن بيروت نسخة لا تتكرر في تاريخ الشعر، وأن الشاعر الذي لا يتخرج من بيروت أو لا يتشكل في بيروت أو لا يعتمد في بيروت أو لا تنشر أشعاره فيها يبقى شاعراً غير مكرس، ولا يصل إلى مرتبة النجومية وإنما يبقى في قائمة شعراء الكوميديا. إذ إن هناك قائمة طويلة من الشعراء أطلقتهم بيروت كالنيازك في سماء الوطن العربي مثل (السياب ونازك الملائكة، والبياتي ومحمود درويش وغيرهم)..
والسؤال هنا لماذا خص بيروت بعد دمشق دون سواها من المدن الأخرى بهذا الثناء وهذا الحب؟ ويجيبنا نزار (57)، إن المدن نساء، وأنه لو اجتمع كل خبراء العشق وكل خبراء الشعر على مائدة مستديرة لما استطاعوا أن يعرفوا لماذا تقدر امرأة أن تفجر بنا الكرة الأرضية وتضرم النار في تاريخنا وجهازنا العصبي في حين لا تستطيع امرأة ثانية أن تضرم عود كبريت. وبيروت ذكية جداً وشاطرة جداً وذات خبرة عالية في استدراج الشعراء إلى حبها والاحتفاظ بهم، وحين تحاول أن تقترب منها تقول لك: "بعدين، بعدين، أكمل قصيدتك الآن وعندما تفرغ من كتابة قصيدتك سأحبك". وعندما تتركها خمس دقائق وتذهب لتجلس مع القصيدة، تقول لك: "ولو يا أستاذ، هل هناك رجل يدير ظهره لامرأة جميلة، ويغازل ورقة؟ ألا تعرف أن هذا وقت الحب لا وقت الشعر؟ ...(1/128)
وعلى الرغم من محاولة نزار تلخيص الأسباب التي جعلته يخص بيروت بعد دمشق بهذا الحب متمثلة في كونها ذكية جداً، وشاطرة جداً، وذات خبرة عالية في استدراج الشعراء إلى حبها والاحتفاظ بهم، إلا أنه سرعان ما يؤكد جهله بالأسباب الحقيقية التي جعلته يهيم بعشقها إلى هذا الحد، وأنه لا يدري ماذا فعلت به هذه المدينة، ولا ماذا وضعت في فنجان قهوته، ولا أي مادة كيماوية حقنته بها فغيرت فصيلة دمه، ولا يدري كيف دخلها على هيئة إنسان وخرج منها على هيئة كتاب، ولا يدري كيف دخلها عازباً وخرج منها يجر آلاف القصائد.
بيروت، إذن، عشيقة الشاعر التي لا تضاهيها عشيقة أخرى، عشيقة متميزة، متفردة، لا يمكن أن تتكرر، لم يعثر عليها قبل أن يلتقي بها، ولن يعثر عليها مستقبلاً لأنَّه جرب كل نساء (مدن) العالم، ولم يفعل ذلك إلا لأنّه كان يبحث عنها، وقد ذكرها الشاعر في قصائد غزلية كثيرة وخصها بقصائد كاملة كانت بمثابة رسائل حب وهي: بريد بيروت(58)، يا ست الدنيا يا بيروت، سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت، بيروت محظيتكم، بيروت حبيبتي، إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار، بيروت تحترق وأحبك(59)، أربع رسائل ساذجة إلى بيروت، ومحاولة تشكيلية لرسم بيروت(60)، وقد أكثر الحديث عن بيروت في قصائد غزلية حيث تندمج المدينة مع المرأة في أغلب الأحيان، من ذلك هذا المقطع من "قصيدة الحزن":
علمني حبك كيف الليل يضخم أحزان الغرباء
علمني كيف أرى بيروت
امرأة طاغية الإغراء
امرأة تلبس كل مساء
أجمل ما تملك من أزياء
وترش العطر على نهديها للبحارة والأمراء
علمني كيف ينام الحزن
كغلام مقطوع القدمين
في طرق (الروشة) و(الحمراء)(61)
ويتكرر الموقف نفسه في قصيدة "مع بيروتية" حين تغوص بيروت في عيني تلك الجالسة معه في مطعم كلؤلؤة حتى تغيب تماماً رملاً وسماءً وبيوتاً.. وحين يبحث الشاعر عن بيروت يجدها ماثلة أمامه امرأة فاتنة:
بيروت. أفتش عن بيروت
على أهدابك والشفتين..(1/129)
فأراها.. طيراً بحريا
أراها.. عقداً ماسيا
أراها.. امرأة فاتنة(62)
ولأن بيروت في قصيدة "بيروت والحب والمطر في ديوانه أشعار خارجة على القانون ليست كباقي المدن فإن أمطارها أمطار خاصة، فحين تمطر في بيروت تستيقظ فيه الحاجة إلى الحنان. وليس للعاشقين حاجة للبحث عن المكان المناسب لأن الحب في بيروت موجود في كل مكان.
وقد سئل مرة عن هذه المدينة فكان جوابه: إنه على الرغم من كل ما كتبه عن بيروت، يشعر أنه ما زال مقصراً معها وأن، علاقته ببيروت علاقة عشق كبير،. وأنه على الرغم مما يقال عنه، بأنه يجمع المدن كما يجمع النساء فإنه شاعر أحادي أحب مدينة واحدة.. وامرأة واحدة. وأن بيروت بالنسبة إليه هي الجغرافيا كلها. جغرافية الشعر وجغرافية الأرض وأنه حين يغادرها إلى مدن أخرى سرعان ما يرحل من هذه المدن كلها ليعود إلى حبيبته بيروت، فيجدها تلبس الكيمونو الحريري الوردي وتنتظره على العشاء. وهو سرعان ما يغادر "الشانزيليزي" ليعود إلى (زاوية بيته في حي مار الياس). وسرعان ما يترك "الكونكورد" ليعود إلى (رياض الصلح). ويترك "برج إيفل" ليعود إلى (برج أبي حيدر). ثم يتساءل هل هذا معقول؟.. هل هذا منطقي؟ ويجيب طبعاً عندما يكون المرء عاشقاً حتى نخاعه الشوكي يصبح اللامعقول، واللامنطقي منطقياً.
وأنَّه لا يقيس المدن بطولها وعرضها وفخامة فنادقها ومطاراتها. وإنما يقيسها بقدرتها على تحريضه شعرياً.
ولأن بيروت تبلله بأمطار الشعر، وتشعل به شهوة الكتابة، فهي عنده أعظم من نيويورك وأهم من طوكيو.
وأنه لا يتذكر أن بيروت ضايقته في يوم من الأيام. ولا يتذكر أنها أغضبته. أو أنها استجوبته كما يفعل أكثر النساء.
وأنها لم تتلصص عليه يوماً من ثقب الباب، ولم تفتش جيوبه وأوراقه، ولم تطبق عليه الأساليب المخابراتية. كانت تضع ركوة القهوة وتقول له عندما تحتاج إلي فنادني.(1/130)
وأن معجزة بيروت هي، أنها مدينة ترفض موتها، ففي ذروة اشتعال الحرب الأهلية، كانت بيروت تطبع خمسين كتاباً جديداً كل يوم، في حين لا تستطيع باريس أو لندن أو نيويورك في زمن السلام أن تدخل هذه المغامرة الثقافية الكبرى.
ومن ثم فإنه لا في لندن يستطيع أن يكون (شكسبير) ولا في باريس يستطيع أن يكون (بول فاليري). أو (شارل بودلير)، أما في بيروت فيستطيع أن يبقى نزار قباني(63).
فلماذا هذا الحنين الجارف إليها؟ فإلى جانب كونها مدينة ثقافية حقق ذاته من خلالها فهي أيضاً تمثيل رمزي تتماهى مع المرأة المحبوبة: "كلما رأتني بيروت من نافذة البيت عائداً ... ضحكت ضحكة ساخرة. وقالت: أنتم الرجال عقلكم صغير. تقيمون الدنيا وتقعدونها على رأس امرأة تعشقونها. ثم تعودون إلى صدرها نادمين. مستغفرين.( ... .) كنت أعود إلى بيروت لأن قطع علاقتي معها يعني قطع جميع شراييني فعندما تصبح امرأة أو مدينة جزء من دورتنا الدموية، ومن قهوتنا الصباحية وجزء من حركة الدقائق والثواني، فإن هجر هذه المدينة ـ المرأة يساوي هجر الحياة ويعادل الانتحار.
إن بيروت أعطتني جرعة من الحرية عجزت أي مدينة أخرى أن تعطيني إياها. لذلك أجد صعوبة كبرى في التفاهم مع المدن الأخرى. إن إمكانية الكتابة عندي صارت مرتبطة ببيروت، وعندما أتركها أنسى القراءة والكتابة( ... ) إن (برج أبي حيدر)، و(برج البراجنة) و(برج المر) في بيروت تحرضني على الكتابة أكثر مما يحرضني (برج إيفل) في العاصمة الفرنسية الجميلة"(64)
وعلى الرغم من أن مدناً كثيرة أعطته أشعاراً غزيرة إلا أنه يحس وكأن بيروت هي المدينة الوحيدة التي تستطيع أن توقظ فيه شهوة الكتابة فلا شعر بغير بيروت ولا كتاب شعر يمكن أن يصدر من غير بيروت وأن الشعر جزء من صادراتها كما التفاح والكرز والبرتقال. وأنه لا يعتقد أن بلداً في العالم يباهي بأن الشعر هو ثروته القومية إلا لبنان.(1/131)
أما بالنسبة للعشق الذي يربطه ببيروت فهو عشق يدخل في باب الخرافات، وهو عشق أكبر من أن يقال بكل اللغات التي يعرفها لأن الكلمات في الحب تقتل الحب، ولأن الحروف تموت حين تقال شأنها شأن الحب الذي لا يعرف وهذا العشق الذي يربطه بهذه المدينة كالعشق الذي يربطه بالمرأة تماماً. وهي بمثابة الحب الأول في حياته، وأن الانفصال عنها يشبه انفصال الطفل عن ثدي أمه وعن حليبها الطبيعي: "مشكلتنا أن بيروت كانت حبنا الأول. وعندما رحلنا عن بيروت لم نجد بين نساء العالم امرأة واحدة تستحق أن تكون وصيفة أو خادمة بيروت(65).
هذا هو المأزق الخطير الذي وقعنا فيه جميعاً. مأزق الطفل الذي فصلوه عن ثدي أمه وعن حليبها الطبيعي.
لا بديل لبيروت سوى بيروت. كما لا بديل لامرأة نحبها سوى هي. إنني لا أتعاطى البدائل في المدن والنساء، ولا أومن باستعمال مدينتي المفضلة، أو حبيبتي المفضلة كدولاب احتياط"(66).
لماذا، إذن، بيروت دون سواها من المدن؟..
إنه كلما تحدث عن بيروت ذكر الحرية فهي عنده حادثة حرية لا تتكرر كل مليون سنة مرة. إنها كقصص الحب الكبيرة لا تعيد نفسها. حتى صارت كل المدن في العالم تأخذ صفراً في امتحان الحرية إذا قيست ببيروت.(1/132)
ويؤكد أن المدن نساء، أو هن: "كالنساء كل واحدة لها شخصيتها، ورائحتها، ومذاقها"(67). وأن طبائع المدن وطبائع النساء تتشابه كثيراً. فثمة مدن مكشوفة تعطيك نفسها منذ اللحظة الأولى. وثمة مدن غامضة لا تكشف أسرارها لعشاقها إلا بالتقسيط(68). ومن ثم تأخذ المدينة قيمتها، ـ شأنها شأن المرأة تماماً ـ انطلاقاً من كمية المادة الشعرية التي تقدمها للشاعر: "وأنا أقيم المدن بكمية المادة الشعرية التي تقدمها لي"(69). ويؤكد أن المدينة التي تحرضه على كتابة الشعر يعود إليها دائماً ويسأل عنها وتسأل عنه(70). وأن بيروت تبلله بأمطار الشعر وأعطته زوادة من التجارب الشعرية يأكل منها كلما داهمه الجوع والعطش ومن ثم فهو لا يقارن بيروت بأي مدينة أخرى فهي في كفه، وكل نساء العالم في الكفة الثانية(71).
ويؤكد في موضع آخر أن بيروت علمته القراءة والكتابة. وبعدها دخل مرحلة الأمية. وهي شهادته النهائية في هذه المدينة العظيمة(71)، ليخلص إلى تأكيد هاجسية هذه المدينة المرأة بخيال طفل لا بخيال راشد: "بيروت تلاحقني في صحوي وفي نومي. ودمها يغطي ثيابي وأوراقي وشراشف سريري. وكل يوم أطلب رقم بيتي في بيروت ... أعرف أنه لن يجاوبني أحد.( ... .). قد تكون هذه التصرفات صبيانية. ولا تليق برجل محترم مثلي. ولكنني أعترف لكم أنني مجنون بعشق بيروت".(73).
لقد خص الشاعر بيروت بديوان كامل تحت عنوان: "إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار" وفيه القصائد التالية:
1 ـ يا ست الدنيا يا بيروت.
2 ـ سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت.
3 ـ بيروت محظيتكم ... بيروت حبيبتي.
4 ـ إلى بيروت الأنثى... مع الاعتذار.
5 ـ بيروت تحترق.. وأحبك.
فما هي صورة بيروت التي نستشفها من خلال هذه القصائد؟(1/133)
يرسم الشاعر بيروت في قصيدة : "يا ست الدنيا يا بيروت" بمجموعة من الصور تدخل كلها في مايمكن أن نسميه الـ: قبل: (الماضي)، فهي ست الدنيا ذات الأساور المشغولة بالياقوت، والخاتم السحري، والضفائر الذهبية والعينين الخضراوين اللتين ينام فيهما الفرح، والشفتين الرائعتين. وهي سنبلة ومروحة الصيف ووردته الجورية، ولؤلؤة الشاعر، وأقلامه وأحلام أوراقه الشعرية، وخلاصات الأعمار والعصفور الدوري، وحقل اللؤلؤ، وميناء عشق، وطاووس ماء، وعشتار ونواره، وسلطانة والقنديل الذي يشتعل في القلب. وزنبقة البلدان وجوهرة الليل. وهي مكان الوعد الأول والحب الأول، ومكان كتابة الشعر، ومخبأ الشعر بأكياس المخمل.
وعلى الرغم من هذه الصفات التي تبدو عادية إلا أن بيروت عنده ليس قبلها ولا بعدها ولا مثلها شيء. لكن تحولاً ما حدث، فصارت قاسية وقطة وحشية، وعيناها تأويان خلاصة حزن البشرية، ونهداها محترقان. وهنا تغيب الصورة الأولى لتحل محلها صورة تدل على التدني والسقوط والقتامة. فكان لابد من دعوتها للقيام:
قومي كقصيدة ورد
قومي من تحت الأمواج
قومي كقصيدة نار
قومي من تحت الرد
قومي من حزنك (74)..
فلماذا الرغبة في القيام؟: ...
من أجل الحب والشعراء
من أجل الخبز والفقراء
إكراماً للغابات، للوديان للإنسان
كي نبقى نحن، ويبقى العالم، ويبقى الحب(75) ...
ويظهر الراغبون في قيامها:
الشعراء، الرب، الحب(76).
وبضمير الجمع المتكلم يعلن عن مجموعة من الأفعال في صورة اعترافات:
ها نحن أتينا معتذرين، ومعترفين
إنا أطلقنا النار عليك بروح قبلية
فقتلنا امرأة كانت تدعى (الحرية)(77).
نعترف أننا كنا نحبك كالبدو الرحل ونمارس فعل الحب تماماً كالبدو الرحل، نعترف أنك كنت خليلتنا، نأوي لفراشك طول الليل، وعند الفجر نهاجر كالبدو الرحل.
نعترف بأنا كنا أميين، وكنا نجهل ما نفعل، وبأنا كنا من بين القتلة، ورأينا رأسك يسقط وكنا ساعة نفذ فيك الحكم شهود عيان.(1/134)
كنا منك نغار، جمالك يؤذينا، إننا لم ننصفك، لم نعذرك، لم نفهمك، أهديناكِ مكان الوردة سكينا(78).
في القصيدة مجموعة من النداءات:
يا بيروت، يا ست الدنيا يا بيروت، يا سلطانة، يا نوارة، يا قنديلاً، ولكن لا جواب عند من تنادي. فتظهر مجموعة من الأسئلة لتحديد المسؤولية عما آلت إليه هذه المدينة:
من باع أساورك المشغولة بالياقوت
من صادر خاتمك السحري
وقص ضفائرك الذهبية
من ذبح الفرح النائم في عينيك الخضراوين
من شطب وجهك بالسكين
وألقى ماء النار على شفتيك الرائعتين
وسمم بحرها، ورش الحقد على شطآنها الوردية(79).
ثم يأتي الجواب : ما حدث لبيروت هودفع لضريبة حسنها ككل الحسناوات وجزية الكلمات. وأن الجماعة مسؤولة عن ذلك: راودناك، عاشرناك، ضاجعناك، حملناك معاصينا، وعرفنا ماذا اقترفت أيدينا. وأن الدنيا بعدك ليست تكفينا، وأن جذورك ضاربة فينا.
باختصار: إننا أخطأنا وجئنا نلتمس الغفران.
وعلى الرغم من التداخل الحادث بين المدينة والمرأة إلا أنه يلاحظ أنه فصل بينهما. فالنار أطلقت على المدينة لكن المغتالة هي المرأة.
إن الجماعة اعترفت بخطئها وراحت تطلب المغفرة، فالقصيدة تحكمها ثنائية الخطيئة والتكفير. حماقة ارتكبها آخرون، وراحوا يطلبون المغفرة، فعلاقة الجماعة بالمدينة علاقة: ذنب وبراءة. نفور وانجذاب.
أما علاقة الشاعر (الفرد) بالمدينة فهي علاقة: محب بمحبوب. ولذلك يعلن الشاعر في نهاية القصيدة أنه ر غم حماقة الإنسان (الآخر) (الجماعة) بارتكابه لتلك الأفعال فإن علاقة الشاعر (أنا) بالمدينة هي العلاقة نفسها التي كانت البارحة، فهي علاقة حب كان وسيبقى.(1/135)
استمرار الحياة وانهزام الموت، أي رفض انتصار إرادة الموت على إرادة الحياة. وانتصار الخيال على الواقع. (انتصار الماضي على الحاضر، وانتصار الحياة على الموت). ويصوغ ذلك في شكل ثنائية الحياة والموت فهناك معجم شعري (للحياة). وآخر للموت. الماضي/ الحاضر (عناصر الماضي الجمال وعناصر الحاضر القبح). ومع ذلك تنتصر عناصر الجمال على القبح، والخير على الشر.
يعلن الشاعر في نهاية القصيدة صرخته بضمير المتكلم المفرد بعد أن قال: ماذا نتكلم يا لؤلؤتي؟/ يا سنبلتي ... / يا أقلامي../ يا أحلامي../ يا أوراقي الشعرية../
مازلت أحبك يا بيروت المجنونة..
يا نهر دماء وجواهر..
ما زلت احبك يا بيروت القلب الطيب
يا بيروت الفوضى
يا بيروت الجوع الكافر والشبع الكافر
ما زلت احبك يا بيروت العدل
ويا بيروت الظلم
ويا بيروت السبي
ويا بيروت القاتل والشاعر
ما زلت احبك يا بيروت العشق
ويا بيروت الذبح من الشريان إلى الشريان(80)
تؤكد القصيدة هذه الحقيقة، إنه على الرغم من حماقة الإنسان فإن الحب الذي كان سيستمر، وسينتصر الحب على الحرب وتهزم الحياة الموت.
إن اعتماد صيغ النداء وضمير المخاطب بصورة مكثفة في هذه القصيدة، وفي معظم قصائد الشاعر دليل على مخاطبة جسد حاضر فالنداء والضمير أنت دليل رغبة ملحة في التواصل مع شخص قريب ولكنه بعيد في الوقت ذاته، أو بمعنى آخر تقريب الغائب البعيد وإحلاله محل المخاطب القريب فتجد الرغبة إشباعها الآني، من الـ: (أنتِ) الحاضرة، ويظل بها شوق إلى الـ: (أنتِ) الغائبة.
يمكن أن نستفيد منها من خطاطة جورج نونمشار فنقول: إن ضمير المخاطب (أنتِ) يمكن لها أن يستعيد حضور الآخر مع المحافظة على تعدده وعنفه. ونصورها على الشكل التالي:
رغبة التواصل ... أنت (الآخر الكبير) الغائب
أنت (الآخر الصغير) الحاضر.(1/136)
وهو ما يعبر عنه باشلار بـ: المتناهي في الصغر والمتناهي في الكبر، ولكن ليس على أساس ماهما عليه موضوعياً، بل بوصفهما قطبين لإسقاط الصور. وإن الإحساس بالمتناهي في الكبر يوجد داخلنا ولا يرتبط بالضرورة بشيء.
المكان بوصفه حيزاً جغرافياً طبيعياً جمالياً منفصلاً عن الـ: أنا وبوصفه موضوعاً (قيمة) تخييلياً ضرورة شعرية لا ينفصل عن الأنا يستمد قيمته كمحفز ومثير لمكامن الأنا.
يمكن القول، إذن، إن المكان هو الموقع الذي يجد فيه الأنا التعارض القائم بينه وبين الآخر. تعارض عنيف يجد فيه الـ: أنا ما لايجده فيه الآخر المغاير.
المكان معطاء ... الأنا معطاء
... الآخر شحيح
عطاء متبادل بين المكان والأنا.
عطاء من جانب واحد بين المكان والآخر.
إن الذين يخاطبهم الشاعر لا يشابهونه. فالعلاقة بين الـ: أنا، والـ: أنت (المكان) والـ: هم. علاقة تواصل بين اثنين فقط (أنا وأنت).
أنا
أنت ... ... ... هم
فالـ: أنت هو البوصلة التي تحدد أفق العلاقة القائمة بين الزيف والصدق.
جسد المكان بوصفه بنية بلاغية جمالية تحكم نسجه الشعري كجسد المرأة تماماً، فهو مرجع تارة وقيمة (موضوع) تارة أخرى، يحيل على فضاء شعري تخييلي، ومرة مجرد نص لا يحيل على شيء.
إن وضع الواحد إزاء المجموع الآخر يشكل باستمرار قطبين متعارضين. وهذا التعارض مصدره مكاني.
بنية التضاد هي التي تحكم عالم النصوص التي أنتجتها مدينة بيروت بوصفها رحماً فضائياً، مولداً، وجسداً أنثوياً.
تضاد قائم بين الجمال (قبل) والقبح (بعد) الذي أصابه الدمار والخراب والعنف، وقاد الآخر إلى اليأس والهرب، وهنا تظهر معجزة الشاعر الدائم الإخلاص لهذا الجمال. فالذين يتوجه إليهم نزار قباني في خطابه الشعري لا يشتركون معه في إنسانيته.(1/137)
من خلال إحصاء الدلالات التي ينفرد بها المكان، نلاحظ أن مفهوم المكان يتشعب بحيث تنزاح مدلولاته عن معناه المحدد المتداول ومن خلال التعدد الدلالي لمفهوم المكان والبحث عن بنية نفسية توحد عناصر الدلالات المتناثرة نكتشف القاسم المشترك الذي يجمع بين الجسدين جسد المكان وجسد المرأة.
إن هناك نوعين من المكان: المكان المادي الفيزيائي، والمكان المعنوي الذهني، النفسي. والجمال الذي تتحدث عنه القصائد عند نزار جمال ثنائي البعد: طبيعي لا يحضر دائماً. وذهني مسيطر..
في قصيدة عنوانها: "سبع رسائل ضائعة في بريد بيروت"(81) سبعة مقاطع، خمسة منها موجهة إلى امرأة. يبدأ المقطع الأول بـ: يا حبيبة، والثاني بـ: يا صديقة، والثالث بـ: يا بعيدة، والرابع بـ: يا رفيقة، والخامس بـ: يا أسيرة. في حين يوجه المقطعين السادس والسابع إلى بيروت. المقاطع الخمسة الموجهة إلى المرأة جاءت في صورة تجمع بين الشكوى والاستفسار. في خطاب موجه إلى امرأة غائبة بعيدة. فأعطت هذه الصورة ثناء على الشاعر لأنه تذكر بيروت، ووصف معاناته خلال فترة غيابها واعتذر عن هذا التأخر (سنتان). ثم يدخل الشاعر في حوار مع بعيدة ويسألها أي أخبار تريد عن الشعر وعنه.
ويشتكي لها أنهم سرقوا منه منقوشة الزعتر، والكورنيش، والأصداف، والرمل وزمان الشعر، والكتابات، ورائحة البن، وأحلام المقاهي، وقناديل الشوارع، وطواحينه، وفراشاته، وفرسانه، وألوانه، وأشياءه الصغيرة، واليواقيت التي جاء بها من آخر الدنيا لفستان الأميرة.
في المقطع الرابع حديث عن حال الشاعر. إنني أحيا، ما جدوى الحياة بدون الكلمات، هناك جفاف قحط، ليس هناك شعر، فمنذ عامين لم تزهر الأرض، ولم تورق، ولم تطرح ثمراً.(1/138)
الرسائل الأربع الأخرى عبارة عن سؤال من المرأة تستفسر فيه عن حال الشاعر ثم رد الشاعر عليها، وفي الرسالة الخامسة استفسار الشاعر عن مكان تواجدها وحالها واهتماماتها ويطلب ألا تجيبه إذا كانت أسئلة غريبة. فكل ما يشغله الآن أن تكون وعيناها بخير.
في الرسالة السادسة استفسار عن بيروت، ويجيب دون أن ينتظر جوابها، لقد ذبحوها، وأنهم ضيعوها وضيعوا أنفسهم.
وفي الرسالة السابعة: خطاب إلى بيروت أنثى الشاعر من بين ملايين النساء، يعلن فيها أنه على الرغم من كل ما جرى لها فاحتمال أن يأتي العشق ثانية وارد.
ويقابل الشاعر في قصيدة: "بيروت تحترق ... وأحبك"، بين صورة بيروت عنده وعندها، وصورتها عندهم وذلك على النحو التالي:
1 ـ عندما كانت مدينة بيروت تحترق كان الشاعر يبحث عن وجهها (المرأة) المحاصر بين ألسنة اللهب لإنقاذ بيروت الثانية. بيروت المرأة وبيروت الشاعر. التي تخصها وتخصه. بيروت التي حبلت بهما في وقت واحد وأرضعتهما من ثدي واحد.
2 ـ عندما حدث ما حدث كنت أراقب القتلة لم أكن الشاهد الوحيد، لكنني الشاعر الوحيد الذي أدرك ما حدث.
3 ـ عندما حدث ما حدث تذكرت أنك ما تزالين حبيبتي. هم يبحثون عن إنقاذ ثرواتهم، وأنا أبحث عن كيفية إنقاذ تراثنا المشترك وممتلكاتنا العاطفية متمثلة في رسوم سرية، تخطيطات بقلم الرصاص لقصائد، كتب، لوحات، أسطوانات، صحون، سيراميك، بطاقات بريدية، علاقات مفاتيح، عرائس فلكلورية، تذكارات محبة، شال من الحرير، وهي أشياء توحي بأنه يتحدث عن امرأة ارتبط اسمها ببيروت وهي بلقيس وعن بيته في بيروت.
4 ـ عندما كانت بيروت تحترق، كنت أفتش عن حزني، وعندما كان الرجال يقيسون خسارتهم المادية، كنت أقيس خسارتي بعدد فناجين القهوة التي كان يمكن أن تحتسيها.
الأسئلة التي كان يمكن أن تطرحها يدي على يديك، ألوف الكلمات مئات الأحلام الخ ... .(1/139)
هم، يفكرون في إنقاذ ممتلكاتهم وأنا أفكر في إنقاذ ممتلكاتنا. ممتلكاتهم هي (ثروتهم) وممتلكاتي هي (أنت).
5 ـ عندما كانت بيروت تحترق والمسافرون يرمون أنفسهم في البحر كنت أبحث في دهاليز عقلي الباطن عنك. غير مكترث: نائمة أو صاحية. عارية أو نصف عارية. يشاركك أحد الغرفة أو الفراش. أشياء هامشية اكتشفت أنني لا أزال أحبك.. وأعتبر نفسي مسؤولاً عن حماية أجمل بنفسجتين في العالم. أنت ... وبيروت.
هنا تنفصل بيروت عن المرأة فجأة بعد أن ظلت مندمجة فيها، وكأن نهاية القصيدة أيقظته من حلم فانقطع فجأة شريط الذكريات.
في القصيدة الأخرى: "إلى بيروت الأنثى ... مع الاعتذار"، يظهر الشاعر فيها فضائل لبنان على العرب فهي:
مروحة تنشر الألوان والظل، أعطتهم الماء والوجه الجميل، والاغتسال، الأشجار، البراري، الشراب، الغناء والطرب، العشق، الشمس والليل، ثقفتهم، ثم يتساءل:
فهل وجدتم بديلاً لبيروت؟..
ويجيب: بيروت أنثى تمنح الخصب والفصول، ومن ثم فإن:
موت لبنان = موتكم.
قاتله = مقتول.
قبحه = قبحكم.
وينتهي إلى النتيجة التالية: أعيدوه كما كان جميلاً، لأن الكون بدون لبنان عدم.
وغياب الحب هو الذي أدى بكم إلى ما فعلتم وطلب لبنان بسيط يتمثل في إعطائه قليلاً من الحب، لأن بيروت المرأة لا تحيا بدون حب.
في قصيدة: "بيروت محظيتكم ... بيروت حبيبتي"، تظهر العناصر الآتية:
1 ـ يستسمح بيروت بضمير الجمع: تركناك تموتين. تسللنا خارج الغرفة، رأينا دمك، تفرجنا على فعل الزنى. بقينا ساكتين.
2 ـ تأنيب الضمير: كم كنا قبيحين، كنا جبناء، غسلنا الحزن بالخمرة، بكينا مثلما تبكي النساء.
3 ـ استسماح بضمير الجمع: سامحينا، جعلناكِ وقوداً لخلافات العرب.
4 ـ البحث عن الطمأنينة بضمير المفرد المتكلم: طمئنيني عنك: كيف حال البحر، الحب، الشعر. وهل يمكن أن يكون بعد بيروت شعر يغنى؟ ...
5 ـ اعتراف بانتحارنا. ليس هناك عدو خارجي.(1/140)
6 ـ الصفح والعفو عن الهاربين من السيدة بيروت فهروبهم كان من الساسة والمرتزقة.
7 ـ ما الذي نكتب. فسواء كتبنا صدقاً أو كذباً محكوم علينا بالموت. لا نستطيع أن نحتج، أن نصرخ، أن نبصق، أن نكشف عن خيبتنا، أن نتمنى، أخرستنا هذه الحرب التي من غير معنى.
8 ـ طلبوا منا أن ندخل في مدرسة القتل، فرفضنا. ووقفنا ضد القاتلين، وبقينا مع لبنان (سهولاً. جبالاً. جنوباً. شمالاً) لبنان الينابيع، العناقيد، الصبابة. لبنان الذي علمنا الشعر وأمدنا بالكتابة، لبنان الطبيعة، ولبنان الثقافة.
9 ـ حلم عودة السلام: في حال عودته، سنعود لكننا تغيرنا وتغيرت بيروت ومن الجائز ألا تعرفنا بيروت.
10 ـ مكاشفة: احتملنا النفي، شربنا الخمر من كل الدوالي، شربنا دمعنا، بحثنا عن عشق جديد، عن بديل لك، أيتها الطاهرة الطيبة العظيمة. فما وجدنا. وعدنا إليك أحجارك وأشجارك، وحيطانك، كلها تكتب الشعر وضممناك إلى صدورنا لأنه لا بيروت أخرى سواك.
تصور هذه القصيدة الرغبة وتحقيقها انطلاقاً من المقابلة بين صورتها (بيروت) عنده وصورتها عند الآخرين فهي عنده طبيعة خلابة وحب وشعر وحبيبة وطمأنينة. وهي عندهم مدرسة للقتل. وتنتصر الرغبة على الواقع بضمير الجمع (عدنا إليك. وضممناكِ إلى صدورنا)، كما يضم العاشق معشوقته لأنه لا عشيقة أخرى سواها.
ج ـ مرجعية حب المدينتين:
تمثل المدينة الأولى عند نزار قباني ذلك الركح التخييلي الذي تحدث عنه جورج نونمشار المتضمن: "فضاءً منشطراً على نصفين هما: الداخل والخارج ( ... .). الداخل عبارة عن مكان مغلق ينطوي على نواة تكمن في باطنها طاقة، إنها بمثابة الملجأ الحامي، (البيت).
أما الخارج فهو فضاء لا محدود ولكنه منقسم على ذاته إلى فضائين أحدهما يمثل رحماً أمومياً غائراً، والثاني يمثل مكاناً شاسعاً للحرية والانعتاق والخلاص".(81)(1/141)
وتمثل المدينة الثانية الانفتاح على المطلق، بداية الإقامة في البيت/خارج، في هذه المدينة يحس أنه خارج الرحم، ذاتاً، وكياناً مزروعاً في مكان لا يقل قيمة عن المكان الأول، مكان الأم، مكان الشعر، رحم الشعر، بيت الشعر. ترتبط هذه المدينة ارتباطاً عضوياً بالحرية، وممارسة الأنا لسلطته. وتظهر هذه الحاجة مرة أخرى إلى المكان الأرحب في عام 1994 عندما نشر ديوانه "خمسون عاماً في مديح النساء"، حيث يعود للبحث عن مدينة في فضاء واسع.
أبحث عن مدينة
في آخر العالم لا نعرف فيها أحداً
وليس فيها أحد يعرفنا
...
أبحث عن مدينة
سماؤها مفتوحة كدفتر كتابة
وبحرها سفينة تدعوك للرحيل
أبحث عن حبيبة تجعلني
أكتظ بالشعر ... كبستان من النخيل(82).
إن البنية النفسية التي تحكم النصوص الشعرية جميعها عند نزار قباني التي عالجت المكان (المدينة)، صورته في شكل رحم أمومي يتمثل في البيت ورحماً أوسع وأشمل هو المدينة هذا الرحم الأكثر شمولية هوعالم خال من الآخر فهو عالم خاص بالشاعر لا ينافسه فيه أحد. فضاء متناغم معه ومولد للشعر.
وهكذا تأخذ المدينة عنده بعداً رمزياً أحادياً تتظافر مجموعة من الأطراف والعناصر لإظهار هويته وتتزاحم في صورة عناصر جمالية طبيعية كالنباتات، والأشجار، والبحر، الخ ... أو في صورة عناصر جمالية أنثوية تنتهي إلى ثنائية مستقرة في الذاكرة لونها الخيال بألوانه الخاصة هذه الثنائية يمكن صياغتها على الشكل التالي:
الماضي ... الحاضر/المستقبل
بيت الطفولة ... بيت الحلم
بيت الماضي ... بيت المستقبل
امرأة الماضي ... امرأة المستقبل
مدينة الماضي ... مدينة المستقبل
دمشق ... بيروت
المرأة الأم ... المرأة الحبيبة(1/142)
ومن ثمَّ لا ننتظر أساساً موضوعياً لسمات المكان حيث أننا: "نمتلك خلال صورة البيت مبدأ حقيقياً لسيكولوجية الدمج"(83). إنه الـ: أنا الذي يحمي الـ:أنا"(84). وقد صور نزار قباني هذه الـ"أنا" الحامية "للأنا"، في كتاباته المختلفة التي تعد بمثابة سيرة ذاتية وفي أعماله الشعرية التي تعد كذلك سيرة ذاتية وعلى الرغم من أن كتابة السيرة تعد محاولة استعادة موضوعية للحياة السابقة، وهي نوع من التأريخ الخارجي لمرحلة الطفولة، إلا أنها ليست خالية تماماً من الجانب التخييلي، فالسيرة عند نزار قباني لا تختلف كثيراً عن المتخيل الشعري، أما الكتابة التأويلية(85)، عنده فهي أكثر عمقاً لأنها تكشف عن أشياء خفية لكنها أكثر إلحاحاً في الظهور بشكل رمزي وبصورة خفية: "إن الطفولة أكثر بكثير من واقعها الموضوعي"(86).
يشبه، مول، ورومير الحيز الذي يحيط بالإنسان بالبصلة يحتل الفرد فيه قلب البصلة، والأماكن التي تحيط به تمثل طبقات البصلة، وتتسع هذه الطبقات كلما اتسعت مجالات أفعاله ونشاطه، فكل فرد يحيط به عدد من القواقع، أقربها إليه جلده الذي يمثل الحد الفاصل بينه وبين العالم، ثم تتوالى القواقع تباعاً، أقربها إلى الجلد هي الثياب، ثم تليها الحركة، ثم الغرفة، ثم الشقة، ثم المبنى، ثم الحي، ثم المدينة، ثم المنطقة، ثم البلد، ثم العالم. والإنسان يعيش في تذبذب جدلي بين الرغبة في الانتشار والانطلاق من قوقعة إلى أخرى في حركة طرد إلى الخارج وبين الرغبة في الانكماش والتقوقع في حركة جذب نحو
الداخل(87).
بيد أن نزار قباني لا يعنيه من كل العالم سوى مدينتين حبيبتين إحداهما دمشق بمسكنها القديم، وثانيهما بيروت بمسكنها الجديد فالعالم كله، إذن، عبارة عن مدينتين وبيتين وامرأتين إنه العالم الأصلي أما ما تبقى من العالم فهو انزياح عن الأصل.(1/143)
هذه الحقيقة يؤكدها نزار قباني في أكثر من موضع، وقد عد البيت بمثابة المفتاح الحقيقي لشعره: "دار مئذنة الشحم هي المفتاح إلى شعري والمدخل الصحيح إليه. وبغير الحديث عن هذه الدار تبقى الصورة غير مكتملة"(88)، وعده قارورة عطر: "بيتنا تلك القارورة"(89)، بل إنه يؤكد في موضع آخر إن الحس "البيوتي" ظل يرافقه طوال حياته ومرده ذلك البيت الذي نشأ فيه: "هذا البيت الدمشقي الجميل استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق ( ... ) ومن هنا نشأ عندي هذا الحس البيوتي الذي رافقني في كل مراحل حياتي ( ... ) هذا البيت المظلة ترك بصماته واضحة على شعري"(90).
بل عده نهاية حدود العالم عنده:كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي كان الصديق والواحة، والمشتى، والمصيف"(91)، وأن اللغة الشامية التي تتغلغل في مفاصل كلماته تعلمها في البيت(92)، وعندما طلب منه مرة أن يصف الشارع الدمشقي الذي يؤدي إلى منزل طفولته كما يتذكره آخر مرة كان هناك، وصفه وكأنه طفل بين أطفال الحارة: "حارتنا الضيقة في دمشق القديمة لا تزال في مكانها ... والأبواب الخشبية لا تزال في مكانها ... والسنونو لا يزال يعشش في سقوفنا وأجفاننا كلما تعب من الرحيل. منذ سنتين زرت حارتنا ( ... ) سلمت على الشبابيك، والشرفات وسلم علي صبيان الحارة والبنات ذوات الضفائر"(93).
فأنظر إلى المعجم المكون لهذا الرد المقتضب إنه لا يختلف عن معجمه الشعري الأبواب الخشبية، والسنونو، والقطط، والشبابيك، والشرفات، وصبيان الحارة.(1/144)
إنه كلما تحدث عن البيت أو المدينة أو المرأة تداعت كلمات العطر، والأخضر، والليلكي، والضوء، والرخام، وشجرة النارنج، والدالية، والياسمين، والأقمار، والنجوم، والنوافذ، وأسراب السنونو، وبركة المياه، واللعبة المائية، والنوافير، والورد البلدي، والشمشير، والخبيزة، والشاب الظريف، والمنثور، والريحان، والأضاليا، والقطط الشامية، والأدراج الرخامية، والسمك وصفائح الفل، والأم.
وعندما انتقل إلى البيت الجديد بيت الحاضر/، المستقبل..، أو بيت الحلم الذي كونه هو بنفسه ونقل إليه الحب الذي يكنه للبيت القديم ولكن هذا الحب ما كان ليكون لو لم يصنعه هو بنفسه..، لقد سئل ذات مرة لماذا تحب بيتك؟.. فأجاب:"لأني لملمته قطعة قطعة ... كل شيء مهما ترينه صغيراً هو من نفسي جلبته بمزاج واستمتعت أكثر وأنا أراه أمامي..".(94)
لقد أحس في هذا البيت أنه ملِكُ بعد غربة واحد وعشرين عاماً قضاها في السلك الدبلوماسي وعندما استقر في بيروت عام 1966، تنهد، وقال: "حين جلست على طاولة مكتبي في بيروت، وأشعلت أول لفاف، شعرت بكبرياء ملك يستلم السلطة للمرة الأولى"(95).
إن بيروت ارتبطت عنده دائماً بمفهوم الحرية، وبغض النظر عن الحرية الفعلية التي ميزت بيروت، إلا أنها حرية على المستوى الفردي والنفسي، بيروت الأنثى/ الحرية، ولذلك قال عنها في أخريات حياته (1992): "الحرية هي الوصفة السحرية التي تمنع من أن تشيخ ... وحدها المدن الحرة، هي التي لا تزحف إلى وجهها التجاعيد"(96). وهو في بيروت يشعر أنه في بيته وفي سريره(97) أي أنه في بيت يمتلكه، وحر فيه، ويشعر بالطمأنينة والأمان داخله.
إن الحبيبة الجديدة تتماهى مع الأم، وتتماهى المدينة الجديدة مع المدينة الأصل، والبيت الجديد (بيت الحرية)، يتماهى مع البيت القديم (الرحم)، والمقطع التالي يكشف عن هذه الحقيقة:
ونحن من يوم تركنا بحر بيروت
تركنا خلفنا
أثداء أمهاتنا
وورود ذكرياتنا
وبيت حرياتنا
كما تركنا خلفنا(1/145)
شهادة الميلاد(98)
فانظر كيف تتزاحم هنا العناصر الدالة على البيت، كفعل الماضي (تركنا) الذي تكرر ثلاث مرات، وظرف المكان (خلف)، والذكريات، وبيت الحرية، والورود، وما يدل على الأمومة والولادة، أثداء الأمهات، والبحر، وشهادة الميلاد. ويتضح جلياً من هذا المقطع، وما أكثر مثل هذه المقاطع في شعر نزار قباني أن هذا الحنين الدائم إلى المأوى القديم (بيت الماضي) وهو الذي جعله يرفض إقامة علاقة عاطفية مع أي مكان آخر في الدنيا، عدا البيت البيروتي الذي يتماهى مع البيت الدمشقي (الأصل). وعندما تأكد من فقدانهما إلى الأبد، وأدرك أن إمكانية عودتهما بأجوائهما القديمة يعد ضرباً من المستحيل، راح يبحث عن أم تلده مرة أخرى وتحضنه لبعض اللحظات، وهو نكوص يكشف عن ذات يملأها الإحساس بالضياع والتمزق والخوف، وقد عبر عن ذلك بنبرة حزينة تكشف عن الشعور بالتوتر والقلق وذلك في قصيدة بعنوان: "فاطمة في هايدبارك" ... وهو على مشارف السبعين:
خبئيني ... تحت قفطانك.
يا أحلى جميع الفاطمات.
لندن باردة جداً.
وإني خائف جداً
فنامي في جفوني، أو جفون الكلمات.
حاولي أن تصبحي أمي
لشهر.. أو ليوم.. أو لبعض اللحظات(99)
إن التعارض القائم، مثلاً، بين الصغير/ الكبير. الضيق/ الواسع. القيد/ الحرية، يفقد قيمته عندما يصبح المتعارضان مندمجين ومتوحدين.
فهو ينتقل دائماً من مجال إلى آخر من بيت الماضي إلى بيت الحاضر ومن الصغير إلى الكبير ومن الضيق إلى الواسع ومن المغلق إلى المفتوح ومن الداخل إلى الخارج، ومن الثابت إلى المتحول، ومن السكون إلى الحركة.
لكن المقابلة بين معجمي المتضادين كالصغير/ الكبير، الضيق/ الواسع يكشف عن ميل ملحوظ لتفضيل المكان الضيق عن المكان الواسع.
إن الوطن، على شساعته، يختزله في رحم الأم:
أحاول أن أتصور ماهو شكل الوطن؟
أحاول أن أستعيد مكاني في بطن أمي(100)(1/146)
إن المرأة عنده هي المكان، وهذا ما تؤكده جل أشعاره، وكتاباته النثرية، ويمكن أن نلمس ذلك بوضوح في كتابه "قصتي مع الشعر" الذي يعد سيرة ذاتية حيث يؤكد فيه أنه لا قدرة له على الارتباط بامرأة تبقى منفصلة عنه بمناخها، وحرارتها، وجبالها، وأنهارها، وأشجارها. وأنه بحكم تكوينه لا يستطيع أن يحب امرأة لا يشم فيها رائحة النعناع، والزعتر البري، والحبق، والوزال، والفل والمنثور والأضاليا. وأنه لا يستطيع أن يقترب من امرأة لا يكون جسدها مفصلاً تفصيلاً يشبه خارطة وطنه، بغاباته، وأمطاره، وخلجانه، ومآذنه، ومواويله، وأقداح عرقه، وهديل حمائمه(101). ولذلك يؤكد: "كان حبي مرة دمشقياً، ومرة بيروتياً، ومرة بغدادياً، لأنني أريدأن أبقى هنا، وأكتب شعراً هنا، وأعشق هنا، وأموت هنا".(102)
إن هذا التأكيد على المكان يكشف عن توحد جسد الطبيعة (المكان) بجسد المرأة وأن تركيزه على الـ"هنا" التي تكررت أربع مرات في سطر واحد، يكشف عن بعد نفسي يؤكد حقيقة ارتباطه بالمكان، إذ المعروف أن الجماعة: "تضع نفسها في إطار حيز نفسي يمثل بالنسبة إليها الـ:"هنا"، وتضع الجماعات الأخرى" "هناك" فيدخل في نطاق الـ: "هنا" الأهل، والأقارب، الذين ينتمي إليهم الفرد، بينما يدخل في الـ"هناك" الأغراب، والأباعد(103)، ونزار يؤكد على الـ"هنا" في كثير من قصائده، يقول في إحداها بعنوان: "من مفكرة عاشق دمشقي".
حبي هنا.. وحبيباتي ولدن هنا ... فمن يعيد لي العمر الذي ذهبا(104)(1/147)
فمن شمس القاهرة، إلى مآذن اسطنبول، إلى أمطار هونغ كونغ، إلى نافورات روما، إلى شحوب لندن، إلى مرتفعات اسكتلندا، إلى ثلوج موسكو، إلى معابد تايلندا، إلى حائط الصين الكبير، إلى نبيذ الراين، إلى مقاهي الرصيف في سان جرمان، إلى ملاعب مصارعة الثيران في إسبانيا، إلى كهوف الغجريات في غرناطة، إلى حقول التوليب في هولندا، إلى كريستال البحيرات السويسرية، إلى المظلات الملونة، إلى رمال نيس ومونتي كارلو، إلى غيرها من الأماكن، كانت رحلاته، وكانت كل امرأة فيها قارة بصحوها، ومطرها، وتقلب طقسها، وكانت كل امرأة كتاباً مكتوباً بلغة جديدة، وأسلوب جديد، وكان عليه، كما يقول، أن يكتشف تلك القارات ويقرأ تلك الكتب(105)، ولكنه ظل ذلك الطفل الذي يحمل في لا وعيه كل ما ورثه من بيته ومن مدينته، فالبيت هو المبدأ والمنتهى وهو المرجع دائماً وقد ظلت المرأة الملهمة بالنسبة إليه هي تلك التي لجسمها رائحة بيت الشام، ومدينة الشام:
لجسمك رائحة الشام، تملأ صدري
فخوخ.. وتين.. ولوز.. وماء..
فكيف أشم على شفتيك الربيع؟
ونحن بعز الشتاء ... (106)(1/148)
وفي آخر ما كتبه نزار قباني لدمشق بعنوان "دمشق تهديني شارعاً" بعد تسمية شارع باسمه، في أخريات أيام حياته نلمس استمرار تلك الروح الطفلية. إن دمشق قد شرفته بوضع اسمه على شارع، من أكثر شوارعها جمالاً ونضارة وخضرة. هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليه عده هدية العمر، وأجمل بيت امتلكه على تراب الجنة. هذه المدينة التي خرج من رحم ياسمينها. هاهو ذا قد وجد بيته في الجنة وجده متكئاً على صدر جبل "قاسيون" حيث يسكن الصفصاف والمشمش والخوخ. وبصيغة نداء فيه نغمة طفولية يهمس في أذن الواقفين أمام هذا الشارع الجميل الذي يحمل اسمه في حي "أبو رمانة": ((تذكروا أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع لعبت فوق حجارته، وقطفت من أشجاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره. تذكروا أنه كان أبي وأمي ووطني وقصائدي التي طارت كحمام الشام من المحيط إلى الخليج)). (107)
لقد ظلت دمشق حاضرة في كتاباته إلى آخر رمق في حياته، ففي وصيته الأخيرة التي كتبها بخط يده وهو على سرير المرض في لندن، قال: ((إني أرغب أن ينقل جثماني بعد وفاتي، إلى دمشق ويدفن فيها في مقبرة الأهل ( ... ) لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر، وعلمني الإبداع، وأهداني أبجدية الياسمين ( ... ) هكذا يعود الطائر إلى بيته والطفل إلى صدر أمه))(108). وقد كان له ما أراد حيث دفن في مقبرة الأهل في دمشق.
الهوامش:
(1) ـ فاروق شوشة، الأعمال الكاملة، ج1، المطبعة العالمية، القاهرة (د.ت) ص 325، ومابعدها.
(2) ـ محمود شريح، تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع 10، بيروت 1981، ص 90-91.
(3) ـ John Johnson, The Poet and The City, The University of GEORGIA, 1984, P. XVI
(نقلاً عن محمود الربيعي، الشاعر والمدينة، مجلة عالم الفكر، وزارة الإعلام، والثقافة، الكويت، 1988، ص 131.
(4) ـ نفسه، ص 131 هامش 8 وكذلك ص 132 هامش 10.
(5) ـ نفسه، ص 132.
(6) ـ نفسه، ص 129 ومابعدها.
((1/149)
7) ـ محمد عبده بدوي، الشاعر والمدينة في العصر الحديث،عالم الفكر، الكويت، نوفمبر، ديسمبر، 1988، ص 181، ومابعدها.
(8) ـ حوار مع نزار قباني، نشر بجريدة البعث السورية، بتاريخ 3 أفريل 1984، عدد 7628.
(9) ـ نزار قباني ، لعبت بإتقان وهاهي مفاتيحي، منشورات نزار قباني، بيروت 1990، ص 196.
(10) ـ نزار قباني، قصائد، منشورات نزار قباني، بيروت 1980، ص 28-29.
(11) ـ نفسه، ص 42-44.
(12) ـ نفسه، ص 45-46-48.
(13) ـ نفسه، ص 114.
(14) ـ نزار قباني، الرسم بالكلمات، منشورات نزار قباني، بيروت (د.ت)،
ص 129-130.
(15) ـ نفسه، ص 171.
(16) ـ نفسه، ص 172-176-177-178-183.
(17) ـ حوار مع نزار قباني، نشر بجريدة البعث السورية، عدد 7628 بتاريخ 3 أفريل 1988.
(18) ـ في ذلك التاريخ أي 1988.
(19) ـ جريدة البعث السورية، ع 7761، بتاريخ 20 سبتمبر 1988.
(20) ـ نزار قباني ، دمشق نزار قباني، جمع صباح قباني، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 1995، ص 14.
(21) ـ نفسه، ص 35.
(22) ـ جريدة البعث السورية، ع 7761، بتاريخ 20 سبتمبر 1988.
(23) ـ نزار قباني ، دمشق نزار قباني، ص 49-50.
(24) ـ نفسه، ص 50-51.
(25) ـ حوار مع نزار قباني مجلة شذا، باريس، فبراير 1989، ينظر نزار قباني، لعبت بإتقان وهاهي مفاتيحي، ص 185.
(26) ـ نزار قباني ، دمشق نزار قباني، المقدمة.
(27) ـ نزار قباني ، كل عام وأنت حبيبتي، منشورات نزار قباني، بيروت 1986، ص 173-174.
(28) ـ قباني ، دمشق نزار قباني، ص 49.
(29) ـ نفسه، ص 50.
(30) ـ قال ذلك في مقدمة أمسية شعرية في معرض الكتاب الدولي بدمشق، بتاريخ 22/9/1988. ينظر: نزار قباني، الكبريت في يدي، منشورات نزار قباني، بيروت، 1993، ص 104.
(31) ـ ابن التستري الكاتب، المذكر والمؤنث، تحقيق أحمد عبد المجيد هريدي، مكتبة الخانجي القاهرة، ودار الرفاعي بالرياض، 1983، ص 27 (المقدمة).
((1/150)
32) ـ إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1978، ص 116.
(33) ـ نزار قباني، الأعمال الكاملة، ج7، منشورات نزار قباني، بيروت ، 1993، ص 536.
(34) ـ نفسه، ص 537-538.
(35) ـ نزار قباني ، ملاحظات في زمن الحب والحرب، منشورات نزار قباني، بيروت 1974، ص 21.
(36) ـ نزار قباني ، لعبت بإتقان وهاهي مفاتيحي، ص 197.
(37) ـ نزار قباني، أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء، منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 17.
(38) ـ نفسه، ص 16.
(39) ـ نزار قباني، لا غالب إلا الحب، منشورات نزار قباني، بيروت 1990، ص 81.
(40) ـ حوار مع نزار قباني، جريدة البعث السورية، ع4، سبتمبر 1981.
(41) ـ تجلى ذلك بصورة واضحة في معظم أعماله وحواراته.
(42) ـ شاكر النابلسي، الضوء واللعبة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1986، ص 97.
(43) ـ من قصيدة ألقاها الشاعر بمهرجان الشعر بدمشق، ديسمبر 1971، ينظر: قباني، دمشق نزار قباني،ص 95.
(44) ـ نزار قباني، أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء، ص 16.
(45) ـ نفسه، ص 104.
(46) ـ نفسه، ص 90.
(47) ـ قباني، دمشق نزار قباني، ص 12.
(48) ـ نزار قباني، قصتي مع الشعر، منشورات نزار قباني، بيروت 1973، ص 32-33.
(49) ـ نزار قباني، الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق، منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 136-137.
(50) ـ قباني، دمشق نزار قباني، ص 95.
(51) ـ نزار قباني، أحبك أحبك والبقية تأتي، منشورات نزار قباني، بيروت 1986، ص 162.
(52)ـ قباني، الأعمال الكاملة، ج7، ص 25-27.
(53)ـ قباني، كل عام وأنت حبيبتي، ص 161-162.
(54)ـ نفسه، ص 175.
(55)ـ جورج نونمشار، دلالات الأثر، ترجمة عبد العزيز بن عرفة، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، 1992، ص 58.
(56)ـ الدستور، ع 5726، بتاريخ 26/7/1983.
(57)ـ في حوار نشر بمجلة الحوادث، ع 1394، بتاريخ 22/7/1983.
((1/151)
58)ـ ينظر: نزار قباني، أشعار خارجة على القانون، منشورات نزار قباني، بيروت 1986، ص 19-55.
(59)ـ ينظر: نزار قباني، إلىبيروت الأنثى مع حبي، منشورات نزار قباني، بيروت
1978.
(60)ـ نزار قباني، تزوجتك أيتها الحرية، منشورات نزار قباني، بيروت، 1988، ص 95-100.
(61)ـ نزار قباني، قصائد متوحشة منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 95.
(62)ـ نفسه، ص 74.
(63)ـ نزار قباني، لعبت بإتقان وهاهي مفاتيحي، ص 98-99.
(64)ـ نفسه، ص 126-127
(65)ـ نفسه، ص 138
(66)ـ نفسه، ص 280-281
(67)ـ نفسه، ص 196
(68)ـ نفسه، ص 264.
(69)ـ نفسه، ص 196.
(70) ـ نفسه، ص196.
(71) ـ نفسه، ص 198
(72) ـ نفسه، ص212
(73) ـ نفسه، ص287
(74) ـ قباني، إلى بيروت الأنثى مع حبي، ص 29، ومابعدها.
(75) ـ نفسه، ص 35 ومابعدها.
(76). ـ نفسه، ص35
(77) ـ نفسه، ص30
(78) ـ نفسه، ص39 ومابعدها.
(79) ـ نفسه، ص29
(80) ـ نفسه، ص32-46-47
(81) ـ نفسه، ص49
(82) ـ نوننمشار، ص 46.
(83) ـ نزار قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، منشورات نزار قباني، بيروت 1990، ص 158-159.
(84) ـ هذا المبدأ الذي يتكون من السيكولوجيا الوصفية، وسيكولوجيا العمق والظاهراتية، وهي مجموعة مبادئ أطلق عليها باشلار: المسح التحليلي ـ (Topo Analytique)
(85) ـ نفسه، ص36.
(86) ـ المصطلح لـ (باشلار).
(87) ـ باشلار، ص 44.
(88) ـ A. Moles et E. Rohmer, Psychologie de , l. Espéce, Paris 1972. P. 41.
(89) ـ قباني ، أعمال 7، ص 213.
(90) ـ نفسه، ص 213
(91) ـ نفسه، ص216-217
(92) ـ نفسه، ص216
(93) ـ نفسه، ص218.
(94) ـ جريدة الرأي، عدد 8154، بتاريخ 06/12/1992.
(95) ـ مجلة كل شيء، ع 795 بتاريخ 27/12/1969.
(96) ـ قباني، قصتي مع الشعر، ص 103.
(97) ـ نزار قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج8، منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 768.
(98)ـ نفسه، ص 774
(99) ـ قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، ص 193.
((1/152)
100) ـ قباني، أنا رجل واحد ... وأنت قبيلة من النساء، ص 47.
(101) ـ قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، ص 209.
(102) ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج7 ، ص 341-342.
(103) ـ نفسه، ص 342.
(104) ـ أحمد طاهر حسنين وآخرون، جماليات المكان، عيون المقالات، الدار البيضاء، 1988، ص 61.
(105) ـ قباني، الأعمال السياسية الكاملة، ج3، منشورات نزار قباني، بيروت 1993، ص 419.
(106) ـ قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج7 ، ص 280-350.
(107) ـ قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، ص 48.
(108) ـ عامر مبيض ومحمد كرزون ، نزار قباني، رحيل قارة شعرية، متابعة وتحرير، (د.د)، سوريا 1998، ص 19.
(109) ـ إلياس العطروني، عاد الطائر إلى بيته ... والطفل إلى صدر أمه، مجلة "الحداثة"، العدد 31-34، السنة الخامسة، المجلد 16-17، بيروت، 1998، ص 57.
((
الفصل الرابع:
المرأة القصيدة
أ-المرأة والقصيدة
ب-القصيدة بين هاجس الموضوع وهاجس الشكل
أ-المرأة والقصيدة:
لقد لاحظ عدد من الدارسين ظاهرة التداخل بين القصيدة والمرأة في شعر نزار قباني، من ذلك ما كتبه عبد الجبار داود البصري عن قصيدة بلقيس، حين لاحظ في بنيتها الموضوعاتية ثلاثة حقول في معجمها الشعري هي:
المرأة والشعر والسياسة ليخلص إلى وجود ثلاثة محاور فيها وهي محاور السياسة ومحور الحبيبة الشهيدة ومحور القصيدة المغتالة، ليؤكد أن: "هذا الاستهلال لا يلخص البنية الموضوعية في القصيدة وحسب، وإنما هو يلخص أيضاً تاريخ الشاعر الشعري. فمنذ أول ديوان لنزار قباني حتى آخر ديوان وهو مرة يميل إلى المرأة إلى الحد الذي يصنف فيه بأنه شاعر الحب والغزل في العصر الحديث، ومرة يميل إلى الشعر بحيث يفضل القصيدة على المرأة حين تضعه الظروف في موقف الاختيار"(1).(1/153)
ولاحظ محمد الغزي ذلك لكن دون أن يشير صراحة إلى ذلك، مؤكداً أن المرأة في شعر نزار قباني حضور غامر يستوقفنا لذاته قبل أن يحيلنا على شيء آخر خارج عنه فهي الرمز والمرموز إليه وهي الكناية والمكني عنه، وأن الاستعارات جميعها في شعره ترسم لنا في تراتبها وتداخلها صورة امرأة متعددة هي امرأة نزار قباني التي لا نظفر بها إلا في قصائده. ولذلك فقد أعرض عن الجسد المفهومي وتخلى عن ملامحه وتغنى بالجسد الحي يزدهي برغائبه ويحتفي بفتنته. وأن شعر نزار قباني قد قام على إيهام كبير ضلل النقاد طويلاً حين اعتقدوا أن المرأة هي سبب حظوة الشاعر، والحال أن الشاعر هو الذي أعاد للمرأة في الشعر حظوتها، وأن مقصد الشاعر لم يكن المرأة وإنما الشعر وأن المرأة كانت مجرد علة لكتابة قصيدة متطورة(2). ومن ثم فليست المرأة هي الأولى بالنظر والتدبر في شعر نزار قباني، وإنما القصيدة ذاتها، لأن امرأة نزار مثل كل نساء الشعراء كائن من ورق وكلمات وحروف(3).
ولاحظ نذير العظمة أن الجسد والقصيدة والوطن توحدت كلها في النهاية في شخص الرسولة القتيلة بلقيس(4).
ويقول محي الدين صبحي إن نساء نزار قباني في قصائده مخلوقات أبدعتها مخيلته. نساء لا وجود لهن في الواقع ولا وجود لهن في حياته إلا لحظة فكر فيهن وأبدعهن فأحبهن وعاشرهن ونقل لنا حواراته معهن ثم تلاشين بمجرد أن انتهى من نظم القصيدة، فهن مجرد موضوع لتشكيل القصيدة(5).(1/154)
وأشار شكري محمد عياد إلى أن نزار قباني قد هيأ لنا مدخلاً جيداً حين ربط بين المرأة والقصيدة إذ أنه قد هيأ لنا بذلك الطريق التي ينبغي أن نسلكها للوصول إلى عالم نصوصه، وأعطانا بنفسه مفتاح العلاقة بين جانبي الأصل الشعوري والشكل الفني اللذين يكونان معاً وحدة التجربة الشعرية، مؤكداً أن هناك صراعاً في داخل التجربة الشعرية بين المرأة والشعر أو بين صورتين للمرأة: الأنموذج المطلق، المثالي، الخالد، للأنوثة واهبة الحياة. والنماذج الكثيرة لنساء يلعب بهن الشاعر. ولا يلبث أن يشعر بالسأم حين يجدهن خاويات، ولذلك يبقى الشعر هو لعبته المفضلة، لكن المأساة تظل قائمة لعجزه عن البلوغ إلى الأنموذج المثالي الخالد للأنوثة المبدعة، وهو فشل مزدوج بين واقع خاو، ومثال مستحيل، ومن ثم يظل البحث عن هذا المستحيل للقبض عليه وأسره هواية الشاعر(6) وهكذا ظل الصراع بين المثال الذي تسعى القصيدة إلى تشكيله والواقع يحكم قصائده ويوجه ينابيعها اللاواعية.
وأدرك جبرا إبراهيم جبرا أن هذا الصراع بين الشاعر وبين المرأة كان دافعاً إلى اكتشاف أن الحب في النهاية عبث، وأن الذي يبقى فقط هو الشعر(7)، وأن شعر نزار قباني يبقى شعر اللحظة الخارقة، وهي دائماً لحظة خارج الزمن، فليس للديمومة دور تلعبه هنا، لأن الحب هو المطلق، وما المرأة إلا الحجة، والعذر المؤقت، والمرأة تزول مع الزمن، في حين يبقى الشاعر وحبه وهواجسه خارج إطار الزمن(8).(1/155)
وتذهب ماجدة الزين في هذا الاتجاه، حين تحدثت عن تجليات رموز المرأة في شعر نزار قباني حيث تعد محور شعره كله بما في ذلك الشعر السياسي، فقد وصفها أماً، وصديقة وعاشقة، ومناضلة، ومتهتكة أيضاً، وحلل مشاعرها في حنان وعمق وأن هذه القداسة التي خلع برودها على المرأة بلغت عنده تخوم العبارة وحوّلت المرأة إلى رمز، ومن هنا يمكننا القول إنّ المرأة في شعره مهما أزهرت في عروقها الحياة، ليست امرأة واقعية؛ أي ليست امرأة بعينها، بقدر ما هي رمز ممتلئ فيه مستويات معقدة من القضايا والاحتمالات. فالمرأة وطن وأرض وبلاد وأم ووحدة وحضارة ومدينة وهي في بعض الأحيان تجسيد للتراث العربي والأنظمة العربية، وهي أحياناً منفضة سجائر أو لفافة تبغ أو نافورة ماء أو سنديانة أو صفصافة أو قارورة عطر أو تمثال، وهي أحياناً موهبة قول الشعر أو حالة كتابة الشعر وتارة أخرى قصيدة. وتقرر الباحثة بالنسبة إلى الموضوع الأخير أن من يتحدث عن خلقه لها وارتباط وجودها بشاعريته هي القصيدة التي يعدها من أعظم أعماله، ومن هنا يتحدث عن مراحل تشكلها وطريقة كتابتها، ومعاناته في استلهام معنى أو فكرة ما(9).(1/156)
ولعل إحسان عباس كان من الأوائل الذين أشاروا إلى هذه العلاقة- إن لم يكن أولهم- حين تساءل: هل كان نزار قباني شاعر حب؟ فاكتشف من خلال محاولة الإجابة على هذا السؤال أنّ نقطة الكشف النفسي التي ظل نزار يراوغ ويماطل في مواجهتها، ويتهرب من التحديق فيها أعواماً، تلتمع في قصيدته "الرسم بالكلمات" في ديوان يحمل الاسم نفسه، وقد كان نزار يومئ إلى هذه اللحظة إيماء سريعاً من قبل، وكنا نمر بتلك الإيماءات عابرين، ولكنه في هذا الديوان يكشف عنها وتتمثل في الصراع بين المرأة وبين الرسم بالكلمات أي الشعر. فحين تصبح هي (المرأة) واقعاً في حياته يَنْمَحي وجوده أي وجود الشعر، ومن ثم فقد كان واعياً أنّه اختار ما يريد منذ البداية وأنّه اتّخذ الجنس مُسَكِّناً، وأصبح الحب كلّه متشابهاً، وفي ضوء هذا الصراع الطويل بين الحرف والجنس نستطيع أن نتصور مقته للمرأة المدمرة. التي لا تستطيع أن توحي له بالشعر لأن غايتها أن تمتص نسغ الشعر من عروقه، وخوفه من ضياع الحيوية الشعرية لا من ضياع العفة والفضيلة، هو الذي يحدد للحب وللجنس أبعادهما، وقيمتهما، ومن ثم فنزار، إذن، لم يتحدث عن الحب بمعناه العاطفي الذي يظنه الكثيرون، إنما تحدث عنه بمعنى جديد حين جعله طرفاً في قوتي صراع كبيرتين(10).
إن القصيدة عنده إناء يملؤه بجمال المرأة، وجمال المرأة لوحة يرسمها بالكلمات، وهي بدون ذلك لا يمكن أن تكون لها أية قيمة جمالية: "شفتاك" الكرزيتان ستموتان بدون شعر، بدون أغنية تسقيهما.. فلا تحطمي في لحظة حماس قصائدي. الأواني التي عبأت فيها جمالك. فإنك بعد هذا لن تجدي ما تتعطرين به، وما تعطرين به غرورك"(11).
هذا البعد الأنثوي لجسد القصيدة كان قد أدركه القدامى، وهو ما سبقت الإشارة إليه(12) وقد وصف أبو تمام قصائده المسروقة وصفاً أنثوياً رائعاً:
يا عذارى الكلام صرتن من بعدي ... سبايا تبعن في الأعراب
عبقات بالسمع تبدي وجوها ... كوجوه الكواعب الأتراب(1/157)
قد جرى في متونهن من الأفـ ... رند ماء نظير ماء الشباب.
إن هذا الأسير هنا في هذه الأبيات يتحول بفن المفاجأة إلى كائنات أنثوية. وقصائد أبي تمام التي سرقت تباع في البادية كالسبايا، وموسيقاها المثملة ونضارتها وجمالها الشبقي المدهش، وبهاؤها الراعش. هذه المزايا كلها تصورها صورة ممتدة في صورة عذارى وقعن في الأسر، سلعاً للتجارة في الأسواق، حضريات يفوح منهن العطر، وحرائر يملكن وجوهاً ناضرة يسفرن عنها مضطرات وظهوراً يرعش فيها بهاء الوشي الصارخ(13).
وهذا عبد القاهر الجرجاني وهو يتحدث عن أقسام الصنعة التي يكون في حد البلاغة يجعلها: "عرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب مالم تحسنها فليس لها في الحسن حظ كامل"(14). ولذلك يتحدث القدماء أحياناً عن الفرق بين القصيدة والقصائد الأخرى بأنها تتميز: "عن أخواتها في الرشاقة واللطف"(15).
وقد أنشد أبو تمام في وصف الديمة، ومدح محمداً بن مالك الزيات، فقال له: يا أبا تمام، والله إنك لتحلي شعرك من جواهر لفظك وبدائع معانيك ما يزيد حسناً على بهي الجواهر في أجياد الكواعب"(16).
يؤكد نزار قباني هذه الحقيقة، حقيقة اندماج المرأة والقصيدة والصراع بينهما في كثير من قصائده فمرة سيقول لها أحبك عندما تسقط الحدود نهائياً بينها وبين القصيدة ويصبح النوم على ورقة الكتابة شهياً كالنوم معها(17). ومرة يدعوها أن تكون امرأة عادية، تتكحل، وتتعطر، وتحبل، وتلد مثل كل النساء حتى يتصالح مع لغته الشعرية(18). ومرة يرى أن المرأة جميلة، لكن الأجمل منها آثارها حين تجلس على الورق(19) ولكنه في الوقت نفسه يحذرها من الجلوس مكان القصيدة، حتى لا تدفعه إلى الاختيار الصعب الحاسم بين جسدها وجسد القصيدة لأنه مضطر إلى اختيار القصيدة.
ففي مقطوعة بعنوان "بروتوكول" يجسد هذا الموقف:
بوسعك أن تجلسي حيث شئت..
ولكن..
حذار بأن تجلسي في مكان القصيدة
صحيح بأني أحبك جداً..
ولكنني في سرير الهوى(1/158)
سأنسى تفاصيل جسمك أنت..
وأختار جسم القصيدة..(20).
ثم تتحول المرأة في أخريات حياته إلى لغة شأنها شأن القصيدة:
لغتي أنت
وكم يسعدني أن أحب امرأة
هي من أحلى..
ومن أرقى..
ومن أصفى اللغات.(21).
إنّ القصيدة جسد مرسوم بالكلمات، وهي صورة لجسد مستعاد في النص بالذكريات. واهتمام نزار برسم الجسد لم يصرف نظره عن محاولة الخوض في أعماق المرأة لفهم نفسيتها وتفكيرها. وعلى الرغم من أنّه كشف في قصائده على لسانها عن فهم عميق لعاطفة المرأة، إلا أنها تكاد تكون امرأة واحدة كأنها قالب أو مثال صاغ عليه جل تلك القصائد.
إن القصيدة بوصفها جسداً لها زينتها وحليها التي تصنع جمالها متمثلة في الوسائل البلاغية من استعارة ومجاز، وتشبيه، وكناية وسوى ذلك، أي كل ما يسهم في رسم تلك الصورة الجميلة من كلمات، والمرأة بوصفها جسداً لها وسائلها التي تزين بها هذا الجسد الجميل فتزيده جمالاً ونضارة، متمثلة في الملابس والحلي والعطور. شأنها شأن القصيدة، تجعل من السهل إضفاء صفات الأولى على الثانية، وصفات الثانية على الأولى، بل اندماجهما في كيان واحد يكون جسداً واحداً.
المرأة إذن، قصيدة، والقصيدة امرأة، المرأة أنوثة وأمومة، أنوثة بالجسد وأمومة بإنجاب الأطفال، والقصيدة أنوثة وأمومة، أنوثة بالجسد (اللغة)، وأمومة بإنجاب المعاني، والشكل التالي يبين ذلك:
القصيدة ... ... ... ... ... ... ... ... لغة
المجاز
المرأة ... ... ... ... ... ... ... ... أنثى
إن العنصرين المشتركين اللذين يجمعان بين القصيدة والمرأة هما اللغة والأنوثة. وتظهر أنوثة القصيدة أكثر عندما يتزين جسدها باللغة الشعرية وتلبس حليتها البلاغية. وشعرية المرأة تظهر أكثر عندما يتزين جسدها بالوسائل التزيينية الأنثوية. ومن هنا يتداخل الجسدان ويشكلان جسداً واحداً أحياناً، ولكنهما ينفصلان، أحياناً أخرى، ويسير كل جسد في اتجاهه الخاص.
إن المعادلة: ... ... القصيدة ... ... = ... الأنوثة
... ... ... ... المرأة ... ... ... اللغة
تعطينا النتيجة التالية:(1/159)
الأنوثة = اللغة.
ولذلك يخشى الشاعر أن يسرقوا الوقت منهما، فإن حدث ذلك سقطت بعض الأنوثة منها وسقط شيء من الشعر منه. كما يظهر ذلك في قصيدة "الحب نهار الأحد"(22)، هذه الحقيقة نجدها مرة أخرى في آخر دواوينه في قصيدة تحت عنوان "حب بلا حدود":
أنت امرأة
صنعت من فاكهة الشعر
ومن ذهب الأحلام(23).
المرأة التي يتحدث عنها نزار قباني مصنوعة من مادة اسمها الشعر ولا وجود لها في الواقع، أو هي نتاج الأحلام، ومن ثم فالبحث عنها وعن سماتها وخصائصها ومميزاتها وعناصر جمالها، يعني البحث في مادتها الأولية أي اللغة التي تشكلها، فالأنثى لغة، واللغة أنثى، إنها لغته ويتجلى ذلك واضحاً في قصيدته "اللغة الأنثى"(24). ولكنه يلغيها، كما يقال بجرة قلم في قصيدة أخرى بعنوان: "أنت لولا الشعر ... ما كنت بتاريخ النساء"(25). حين يقول عنها إنها كانت خرساء قبله، وبفضله صار نهداها يجيدان الكلام، فلا وجود للمرأة خارج القصيدة، إنها من صنعه، فبدون القصيدة لن يكون قدها قد، وساقها ساقاً، وكحلها كحلاً، ولولا الشعر لما عرفت تلك الأسماء المعروفة في تاريخ حياة الشعراء العرب، فإذا كان تاريخ الشعر العربي يتحدث عن ليلى وعفراء وغيرهما، فإن المؤرخ للشعر العربي الحديث سوف يتحدث عن أنثى نزار قباني، وأنثى نزار قباني لا وجود لها خارج القصيدة، إنها من صنع القصيدة ولا وجود لها في الواقع، أو هي القصيدة:
أشكري الشعر كثيرا..
أنت، لولا الشعر، يا سيدتي
لم يكن اسمك مذكورا
بتاريخ النساء ... (26).
ولكنه في موضع آخر يؤكد في قصيدة "أجمل نصوصي"(27) أنها الأجمل بين نصوصه، وأنها الجسد الرّاوي شعراً، وأنها الجسد الصانع أدباً، وأنها قوام تاريخي يروي قصصاً، ويعزف ناياً، ويكتب كتباً، وأنها تقلق لغة، وتشعل في الكلمات اللّهب، وأنها الشعر والنثر.(1/160)
ثم يعود في موضوع آخر ليجعل من المرأة والقصيدة ثنائية متلازمة لا يمكن أن تحضر إحداهما دون أن تحضر الأخرى. بيد أن هذا التلازم لا يرضيه في كثير من الأحيان. ولذلك ينتصر للمرأة أحياناً، ويفضل القصيدة عليها أحياناً أخرى: "حياة امرأة نحبها.. هي أجمل وأغلى من مليون ديوان شعر" (28). لكن هذه الأجمل من مليون ديوان شعر يقول عنها أيضاً: "الأشياء الصغيرة ... الصغيرة التي تمتلكها حبيبتي، قواريرها، عطورها، مروحتها، أمشاطها، ثوبها الجديد المنقول من شجيرة دراق مزهرة.. كل هذه الأشياء ماذا تكون لو لم أصبغها بدمي.. ودم قصائدي؟ وعينا من أحب هذان المصباحان الأخضران اللذان يشتعلان ويشعلان حياتي، ماذا يكون مصيرهما بغير شعر، بغير أغنية تسقيهما"(29). لأن العيون الجميلة كلمات تنتظر من يقولها، وما أشقاها حين لا تجد من يقول لها أو يقول عنها شيئاً(30).
إن الصراع بين القصيدة والمرأة رافق مسيرته الشعرية، منذ "قالت لي السمراء" إلى آخر ديوان صدر في حياته، فتارة يقول عنها إنها المسؤولة عن كل قصيدة كتبها، وأنها مزروعة في كل قصيدة قالها شاعر، ثم يصدر بياناً نزارياً عن أصل المرأة وأصل القصيدة، فيجعل القصيدة هي الأصل تارة والمرأة مادتها، ولكن المرأة فيها مثال، وطوراً يكتب الشعر للشعر، وأن أقدس مقتنياته هي الكلمات، إذا كانت هي مدينة حبه فإن القصيدة ستظل عاصمة الكبرياء، ولكنه ينشر اعترافاً خطيراً يقول فيه إن القصيدة هي أجمل سيدة في حياته:
أنا قد أموت اشتهاء ً وعشقاً
ولكنني لا أقايض شعري
بطرف كحيل
وخصر نحيل
ونهد يخبئ لي الطيبات
فإن القصيدة أجمل سيدة في حياتي
فهل بعد نشر اعترافي
تسامحني السيدات؟؟..(31).(1/161)
وبالحدة نفسها ينشر اعترافاً آخر مناقضاً للاعتراف الأول فيجعل كل كتابة أنثى، والمرأة هي التي تتمدد على الورقة البيضاء. وهي التي تنام فوق كتبه، وترتب أوراقه ودفاتره، وتضبط حروفه، وتصحح أخطاءه، وباختصار هي التي تكتب له قصائده. ثم تصير في موضع آخر أجمل من الكتب التي كتبها، والكتب التي يفكر بكتابتها، ومن القصائد التي أتت، والقصائد التي سوف تأتي(32). فبعد أن كانت المرأة والقصيدة ثنائية متلازمة الطرفين لا يحضر طرف إلا وحضر معه الطرف الآخر، وبعد أن كانت القصيدة أجمل سيدة في حياته صارت المرأة أجمل من كل ما كتب وما سوف يكتب.
وعلى الرغم من هذه التأكيدات التي تبدو وكأن الصراع النفسي فيها قد حسم لأحد الطرفين إلا أن الشك ظل يراوده عن أصل القصيدة وأصل المرأة، ففي آخر ما كتبه يكشف عن هذا الصراع بصورة صريحة في قصيدة بعنوان: "هل المرأة أصلها قصيدة؟. أم القصيدة أصلها امرأة"؟ حيث يقول:
هل المرأة أصلها قصيدة؟
أم القصيدة أصلها امرأة؟
سؤال كبير مازال يلاحقني
منذ أن احترفت حب المرأة..
وحب الشعر..
سؤال لا أريد له جوابا
لأن تفسير الأشياء الجميلة يقتلها..(33)
في هذه القصيدة يتكرر السؤال في لازمة أربع مرات، ثم يتحول من البحث في أصل المرأة وأصل القصيدة إلى البحث عن أيهما كانت في البدء: أنوثة المرأة أم أنوثة الكلمات؟ وهل هو جمال جسدها أم هو جمال الطبيعة؟ وهو السؤال نفسه الذي ينهي به قبل هذا التاريخ قصيدته: من "بدوي مع أطيب التمنيات":
هل كنت قبل قصائدي موجودة
أم أنني بالشعر، أوجدت النساء؟؟(34).
من خلال ما تقدم نستنتج ثلاثة مواقف:
-يتمثل الموقف الأول في كون المرأة تساوي القصيدة.
-ويتمثل الموقف الثاني في أن القصيدة أجمل من المرأة وأهم منها.
-أما الموقف الثالث فيجعل المرأة أجمل من القصيدة.
لقد تولد عن الصراع بين القصيدة والمرأة موقف مأساوي، فما سر هذا الصراع؟ وهل انتهى حقاً إلى إيجاد حل له؟(1/162)
إن المواقف الثلاثة المشار إليها سابقاً، رافقت مسيرته الشعرية دون أن يتغلب موقف على آخر أو يتبنى موقفاً دون آخر، أو يلتزم بموقف في مرحلة من المراحل. فقصيدة "ورقة إلى القارئ" التي صدر بها ديوانه الأول "قالت لي السمراء" تشتمل على واحدة من هذه المواقف حين بدت لنا فيها تلك الذات الصانعة المبدعة للمرأة المجملة لها، قد أشار إلى ذلك بصورة صريحة:
جمالك مني فلولاي لم تك ... شيئاً ولولاي لن توجدا
وتطالعنا القصيدة الرابعة "الموعد الأول" في الديوان نفسه، بتلك الذات الصانعة للمرأة المبدعة لجمالها.
في حين نجد في القصيدة السادسة في الديوان نفسه أن المرأة فيها مجرد طيف يعيش في الوهم والظنون، وهي مجرد خيط سراب يموت دائماً قبل الوصول، والموقف نفسه، نجده في القصيدة السابعة "اندفاع"، وفي "حبيبة وشتاء".
حيث أنّ الموعد لا يتحقق، وفي قصيدة "فم" تبدو المرأة فيها كذلك صانعة القصيدة ففي عينيها تختبئ قصائد الشاعر، ونجد ذلك في قصيدة "زيتية العينين" حيث تبدو دراما الشاعر بصورة واضحة في الصراع بين المرأة والقصيدة.
وفي قصيدة "لو" في "طفولة نهد" يبدو وجودها شرطاً لوجود الشعر. فكأنها الأصل والشعر فرع. وفي قصيدة "امرأة من دخان" في الديوان نفسه، تظهر تلك المرأة المتوهمة، المرأة المثال، أو المرأة الطيف حيث لا يتحقق وجود الشاعر إلا بغيابها، وكأنه يكشف عن تخوفه من ذلك المنافس (المرأة) لقصائده ولذلك يدعوها أن تظل بعمره مستحيلاً. وفي ديوان "أنت لي" تظهر هذه الصورة بوضوح في قصيدة "نحت" حيث تتحدث عن المرأة التي صنعها الشاعر أي تلك التي أوجدها في قصائده والتي تريد إنكار صنيعه.
وفي ديوان "حبيبتي" تنتصر المرأة على القصيدة في قصيدة "أكبر من كل الكلمات" لأنها ببساطة أحلى وأكبر من كل الكلمات.
وفي قصيدة "الرسائل المحترقة" لا تبدو المرأة شيئاً خارج قصائده، وأنه لا وجود لجمال المرأة إلا في روائعه الشعرية.(1/163)
إن دراما الجسد عند نزار قباني هي دراما الحياة والموت، فالجسد النسوي يذبل ويفقد نضارته ثم يموت، في حين أن جسد القصيدة خالد. فقد ماتت وصال أخت الشاعر، وأمه فائزة ماتت، وزوجته بلقيس ماتت، فقدر المرأة إذن، الموت. فلم يبق للشاعر سوى الاحتماء بجسد القصيدة فهي وحدها الخالدة. ولذلك كانت المرأة عنده جسداً، ومدينة، وبيتاً، وحضارة، وثقافة، وطبيعة، ووطناً، وهوية.
وقد أدرك الشاعر هذه الدراما في أخريات حياته، فكتب بياناً ضد كل شيء، قال فيه:
واعذريني.. مرة رابعة
إن رفضت الشغل بالسخرة، يا سيدتي.
ورفضت المسرحية
لم يعد يمكنني أن ألعب الدور الدرامي الذي ألعبه
منذ خمسين سنة(35)
ولعل إدراكه لهذه الدراما هو الذي دفعه إلى إلغاء "الواحدة" التي ظل يدافع عنها طوال حياته(36).
إن المرة الوحيدة التي تموت فيها المرأة والقصيدة معاً كانت في قصيدة "بلقيس" حيث تقتل الحبيبة، وتغتال القصيدة (37)
شكراً لكم ..
شكراً لكم ..
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت..
وهل من أمة في الأرض..
-إلا نحن- نغتال القصيدة؟ (38).
إن الشعر يلغي الزمن وينتصر على الموت، في حين أن المرأة تشيخ مع مرور الزمن وتفقد وهجها وجاذبيتها وجمالها ثم تنتهي إلى الموت. أما الشعر فهو خالد.(1/164)
إن القصيدة لا تفقد نضارتها، إنها دائمة الجمال، والشباب لا يفعل بها الزمن شيئاً كما يفعل بالمرأة. ولعل ذلك ما جعل الشاعر يذكر المرأة دائماً، في جل أشعاره، بمصير جسدها، أو يهجو ذلك الجسد حين يصير مهترئاً. لقد ظل الشاعر يحاورها، وتحاوره، وينتهي أحياناً إلى أنها ليست سيدة جسدها، وليست سيدة مصيرها، فالزمن هو سيدها، ومن ثم كان لابد أن يتوجه إلى من هي سيدة نفسها (القصيدة)، تلك المرأة التي تنام مع أي رجل، وتخرج بحرية تتجول في الشوارع كما تشاء وتعود متى تشاء ولا خوف عليها من الزمن ومن رجال القبيلة فلا شيء يؤثر على أنوثتها: "إنني لا أخاف على القصيدة من الخروج في الليل وحدها( ... ) القصيدة يجب أن تعطى حرية التجول، لأن وضع رجليها في حذاء صيني على نحو ما يفعل الصينيون بأرجل بناتهم، فيه تشويه لأنوثة الأنثى، ولأنوثة القصيدة"(39).
القصيدة شخصية إيحائية، والحديث عنها يدرك في بعده المجازي، فهي جسد ومعنى في مقابل الجسد والنفس، جسد معنوي يتماهى ويحاكي جسداً مادياً يتوحد معه أحياناً ثم يدخل معه في صراع أحياناً أخرى ليفرض نفسه بديلاً، ويغدو أكثر أنوثة من الأنثى، فهو يجمع بين جمال أنوثة الأنثى وجمال أنوثة اللغة: الأول أحادي الأنوثة أما الثاني فمزدوجها.
إن المرأة المثال هي هذا الجسد الرمزي، هي هذا المطلق المتحرر من قيود الجسد، هي هذا المتصور الذهني الذي تصنعه اللغة وتشكله بقالبها الخاص وألوانها المتميزة، هي أنثى جمعت عناصر الأنوثة كلها، ولكنها في الوقت ذاته ليست أنثى بمعناها المحدود. ومن ثم لا وجود للمرأة إلا في رحم القصيدة، وكل تحرير لها من أسر القصيدة، هو قتل لها، أو تشويه لجمالها ولأنوثتها.
إن التقابل الجمالي بين الجسدين، جسد المرأة وجسد القصيدة يوضح بجلاء ذلك التلازم الأبدي بينهما، القصيدة، إذن، هي سجن النساء الأبدي، ما تحررت المرأة منه إلا فقدت أنوثتها وتعطل فيها كل جمال.(1/165)
إن التكوين الأنثوي لجسد المرأة بإغراءاته الشبقية، لم يكف يوماً عن أن يكون مثيراً لحساسية الرجل، ورغباته، وموقظاً لشهوانيته، ولكن الشاعر حين يستجيب لهذا المثير فإنه يصنع منه جسداً آخر أكثر جمالاً وإغراءً، ومن ثم لا يرقى جسد المرأة أن يكون ندا للقصيدة. فالقصيدة بوصفها أنثى ضد قرينتها المرأة، ومن ثم فحياة القصيدة تعني موت المرأة، وكأن هذا الموقف يجسد تلك الفكرة التي مفادها: "إن فهم النساء لبعضهن البعض وإحساسهن بأنفسهن ينبع من حالة انتمائهن لنسويتهن، غير أنهن يأخذن بمحاربة بعضهن البعض للسبب ذاته."(40).
إنه صراع بين الأختين، والمنتصرة فيه دائماً القصيدة، إنها معركة خاسرة تخوضها المرأة ضد المرأة (القصيدة) التي يقف الشاعر بجانبها بكل ما يملك من وسائل وقدرات، على الرغم من تمجيده للأنثى الجسد. وبما أن القصيدة أنثى، والأنثى قصيدة فإنه عندما يحب امرأة، فذلك يعني البحث عن أصله، وعن أصل الكتابة(41)، إن المرأة بوصفها موضوعاً لغوياً في شعر نزار قباني يتوالد من اللغة وباللغة، يصنعه الخيال ويلونه بألوانه، وليس ذاتاً محددة المعالم لها خواصها وأوضاعها، وجسدها مجموعة صور ولوحات فنية صنعها الوهم والظن وهذا ما جعل الشاعر يحركها حسب هواه، ويلهو بتشكيلها كما يلهو الفنان التشكيلي بأشكاله ولذلك يدعو المرأة في كثير من قصائده أن لا تصدق ما يقوله عنها، لأن بعض كلامه نمنمة وبعضه تشكيل.
إن المرأة التي يحبها والتي تغنى بها دائماً في أشعاره هي تلك المرأة التي صنعها أو التي نجدها داخل رحم قصائده، وعندما تخرج منها أو تنفصل عنها تصير امرأة أخرى كأية امرأة في الواقع:
بلا لغتي..
أنت امرأة مثل باقي النساء.
وبها، أنت كل النساء(42).(1/166)
إن كل لقاء بينه وبين المرأة هو استحضار لحالة شعرية. والوسيلة الوحيدة التي تمتلكها المرأة للإفصاح عن نفسها، هي هذا الجسد، بيد أنه لا يمتلك وسائل الحياة والديمومة إلا حينما يستعيره الشاعر ويجعله موضوعاً للشعر ويلبسه ثوب القصيدة. المرأة نص تقرؤه العين، أما القصيدة فهي نص تشترك الحواس جميعها في قراءته و: "لقد ظل الرجل يقرأ المرأة بعينه ويفسرها بأحاسيسه، وظلت المرأة نصاً شهوانياً تتمتع به حواس الذكر وتلتهمه"(43).
إلا أن هذا الجسد ينتفي أمام الأنثى القصيدة، التي هي أجمل أنثى وينتفي أمام الجسد الأمومي. إذ إن هناك دائماً رغبة مكبوتة في شعر نزار قباني تتمثل في محاولة التخلص من جسد المرأة بمدحه وهجائه، أي بحبه وكراهيته إياه في الوقت ذاته.
إن التجاذب الوجداني في شعر نزار قباني في المرأة ظاهرة بارزة حكمت شعره من أول ديوانه الأول إلى آخر دواوينه، إنها محبوبة ومكروهة: "مرهوبة كما لو أنها نداء الهاوية المذهل"(44)، إنها مولدة للحب والكراهية، وبقدر ما يمدحها بقدر ما يهجوها، حبها يولد الهجاء، وهجاؤها يؤدي بدوره إلى التعاطف معها وإلى الشعور بالذنب أحياناً وإلى الشعور بتضخم الذات أحياناً أخرى، وهكذا تسير قصائد نزار قباني في حركة اهتزازية يمثلها خط بياني على الشكل التالي:
حب
كراهية(1/167)
إنه يأتينا بنساء جميلات ساحرات يرسمهن كأنهن عذارى بأجساد رائعة ناضرة يتفنن في رسم أجزائها رسماً يضفي عليها في كل مرة شكلاً جديداً، ولكنه في الوقت ذاته يأتي بأخريات لئيمات، وجوههن شؤم، وأجسادهن فقدت كل ما يشد الناظر إليها، يصفهن بالكذب، والزنى، والدعارة الخ ... ويمتزج الأنموذجان فيرسمان عالماً درامياً في عالم الشاعر المأساوي المتناغم. وقد يبدو ذلك أحياناً في قصيدة واحدة، وهكذا وعبر مسيرة البحث عن الجمال المطلق في جسد المرأة يتوقف من حين إلى آخر في محطات القبح والنذالة، وهنا ينمو الإحساس بالكراهية إزاء الآخر، المرأة والرجل على حد سواء، فتغدو الذات وحيدة تواجه مصيرها وقدرها معزولة عن الآخر أنوثة وذكورة، ويتم الاحتماء من خوف الأنثى بالاستعاضة عنها بالقصيدة، فتتحول المرأة إلى قصيدة بعد أن كانت مثيراً ومحفزاً ومصدراً لها، وتندمج القصيدة مع الأنثى والأنثى مع القصيدة، أو تغدو القصيدة هي الأنثى والأنثى هي القصيدة.
إن معظم قصائد نزار قباني بنيت على شكل ثنائية الحب والكراهية، فهي صورة مدح وهجاء، فهو يمدح المرأة ويهجوها، وقد تظهر هذه الثنائية أحياناً في قصيدة واحدة، ولعل مرد ذلك إلى الصراع الناتج عن التنافس بين القصيدة والمرأة.
ولكن مع ذلك ففي كل قصيدة من قصائد نزار قباني في الحب، تنام قصيدة ثانية هي المرأة. والدراما النزارية محورها الأساس ومرجعها الدائم هو الصراع بين المرأة والقصيدة، أيهما أسبق المرأة أم القصيدة؟ أيهما تصنع الأخرى؟ ما هي أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما؟.
إن كلامه عن القصيدة غالباً ما يتطابق وكلامه عن المرأة، بل إننا نستطيع أن نعوض لفظة المرأة بلفظة القصيدة أو العكس فلا يحدث أي تغيير في الدلالة.
لقد ظل يبحث عن المرأة المثال، ولكنها بقيت أنموذجاً مفقوداً لم يعثر عليه:
أفتش عنك بكل الزوايا..
( ... )
فلست أشاهد في غرفة الحب
شخصاً سوايا..
ولا تتصادم إلا شفاهي(1/168)
ولا تتعانق إلا يدايا(45).
لقد تجاذبت المرأة المثال في شعره صورتان أو أنموذجان، الأول يتمثل في المرأة الشعر أو المرأة القصيدة، والثاني يتمثل في المرأة الجسد وظلت الصورتان حاضرتين بشكل صريح أو بشكل رمزي، وظلت صورة الحبيبة عنده صورة ناتجة عن انطباع طفولي.
ولعل هذا ما يفسر موقفه من المرأة، فهي بقدر ما هي محبوبة، بقدر ما نجدها مكروهة، على الرغم من أنه:
قد تفرغ خمسين عاما
لمدح النساء!! ... (46).
ولكنه في الوقت نفسه قد تفرغ لهجائهن كذلك خمسين عاماً. ولعل هذا ما يفسر في موضع آخر انهياله على المرأة باللوم والتقريع لأنها عاشرته كما نجد ذلك في قصيدة "إلى لئيمة" في ديوان "أنت لي" وفي قصائد أخرى. ولعل هذا ما يفسر كذلك، ذلك الصراع الذي رافق مسيرته الشعرية بين الرغبة في التطهر من الخطيئة والرغبة في ممارسة الخطيئة.
وهذا، أيضاً، ما يفسر موقفه من المرأة محبوبة ومكروهة، فـ"امرأة من دخان" في "طفولة نهد" امرأة مستحيلة، و"لن تطفئي مجدي" في "قصائد" امرأة مرفوضة لأنها تزاحم القصائد. فمن قراءة أشعار نزار قباني في المرأة نستطيع اكتشاف أنموذجين آخرين للمرأة كذلك أحدهما المرأة الأنثى ذات الجسد المرمري والرشاقة والأناقة، ذات النهد الناهد، والثاني المرأة ذات النهود المترهلة التي يكن لها كراهية خاصة، ويسخر منها سخرية لاذعة، ويهجوها هجاء وضيعا. ومن هنا تبقى المرأة في شعره تجسد البحث عن الذات الضائعة أو عن شيء مفقود. ففي قصيدة "رسائل لم تكتب لها" يقول:
أرسم الحرف
كما يمشي مريض في سبات
فإذا اسود في الليل تلال الصفحات..
فلأن الحرف، هذا الحرف..
جزء من حياتي
ولأني رحلة سوداء.. في موج الدواة
...
فأنا أكتب كالسكران..
لا أدري اتجاهي وحدودي..
أتلهى بك، بالكلمة، تمتص وريدي..
فحياتي كلها..
شوق إلى حرف جديد
ووجود الحرف من أبسط حاجات وجودي..(47).
ب-القصيدة بين هاجس الموضوع وهاجس الشكل:(1/169)
هكذا كانت رحلته مع البيت والمدينة، وهي الرحلة نفسها مع المرأة، وهي الرحلة عينها مع القصيدة، إذ يمكن الحديث عن مرحلتين في شعر الحب عنده، مرحلة ما قبل سنة 1968 ومرحلة ما بعدها، حيث أكد هو نفسه ذلك (48) فقد بدأ التململ الشعري يطارده بعد أن أصدر مجموعته "الرسم بالكلمات" 1966، ومنذ ذلك التاريخ بدأ يسأل: ثم ماذا؟(49)، ولعل ملامح هذا الملل تبدو واضحة بدءاً من هذا الديوان حيث نلاحظ لأول مرة ظهور شكل جديد في شعره يعتمد نظام المقطوعة القصيرة جداً، ومن ذلك مقطوعة "من منكما أحلى" و"قبل" و"بعد" و"أخاف" و"ماذا ستفعل؟" و"حديث يديها" و"استحالة" و"الجسر" و"سوناتا" و"الفارس والوردة" و"بيت العصافير" و"مراوح الإسبانيات".
إن صورة الحب كما رسمها من قبل قد اهتزت وغامت ألوانها وأصبحت غير قادرة على استيعاب الصورة الجديدة للحب التي تكونت في ذهنه، فقد حدث تحول ما، ولعل أبرز تحول حدث في حياته يتمثل في استقالته من العمل الدبلوماسي سنة 1966، ونشوب حرب 1967 هذه الحرب التي قادته إلى كتابة تلك القصيدة المشهورة "هوامش على دفتر النكسة" والتي كانت لغتها كما يقول لغة (روبورتاج) صحفي ساخن وقد كانت انحرافاً عن لغته الشعرية التي كتب بها قصائده مدة ثلاثين سنة، هذه المرحلة يقول عنها: "هذه المرحلة المسرفة في تأنقها وجمالياتها قد استنفذت أغراضها وفقدت أهميتها(50)، وفي هذه السنة اتخذ مدينة بيروت مقراً دائماً لإقامته ثم تزوج من بلقيس.(1/170)
يقول نزار قباني عن هذه المرحلة: "هاجمني الملل من أشكالي القديمة عام 1968، وبدأت كالسجناء أحفر الأنفاق تحت الأرض للخروج إلى برية أكثر اتساعاً.. وبحار أكثر انفتاحاً على الحرية. وكانت التجربة الأولى (كتاب الحب) الصادر عام 1970"(51)، هذا الكتاب الذي يقول عنه إنه أتعبه واستهلكه، بحيث إنه اشتغل عليه كما لم يشتغل على أي كتاب صدر له من قبل، فقد مزق عشرات المسودات ورمى عشرات التصاميم، إذ إن قصيدة تتألف من مقطعين كانت تأخذ منه شهرين من العمل، وإنه من خلال عملية الشطب والتمزيق هذه عرف وجعاً جديداً لم يعرفه في كل تاريخه الشعري(52).
وفي السنة نفسها أصدر كتابه 100 رسالة حب، الذي يقول عنه إنه جاء: "ليتقدم خطوة أخرى نحو الحرية"(53). وإنه كان يشعر وهو يكتب هذا الكتاب: "شعور حصان يركض في برية لا يحدها شيء"(54). وفي العام نفسه انتقى مجموعة من قصائده ونشرها في كتاب بعنوان: "أحلى قصائدي" موزعة كما يلي:
-تسع قصائد مختارة من ديوانه "قصائد" أي ما يمثل 30%
-سبع قصائد مختارة من ديوانه "قصائد متوحشة" أي ما يمثل 23%
-ست قصائد مختارة من ديوانه "حبيبتي" أي ما يمثل 20%
-خمس قصائد مختارة من ديوانه "الرسم بالكلمات" أي ما يمثل 16%
-قصيدتان مختارتان من ديوانه "قالت لي السمراء" أي ما يمثل 6.66%
-قصيدة واحدة مختارة من ديوانه "يوميات امرأة لا مبالية" أي ما يمثل 3.33%(1/171)
وقد استمر في هذه اللعبة في مجموعته "أشعار خارجة على القانون" 1972، حيث جرب ما سماه القصيدة الانسيابية أو التي تأخذ أشكالاً مائية، وتتسع دوائرها الإيقاعية كما تتسع دوائر الصوت في قاعة لا جدران لها، وأهمية هذا الشكل كما يقول، إنه لا يربط الشاعر بنظام السلم الموسيقي للأبحر الخليلية ولا يكبله بقواعد (السولفيج) للعروض العربي وإنما يعطيه مفتاح النغم الرئيسي ويترك له حرية التنويع والتوزيع والابتكار حسب ما تمليه عليه حريته، ويؤكد أن هذه التجربة أجراها على قصائده التالية: "تنويعات موسيقية على امرأة متجردة" و"قصيدة غير منتهية في تعريف العشق" و"بيروت" و"الحب والمطر" و"الاستحالة" و"محاولة لاغتيال امرأة" و"الالتصاق". ويقول عن هذه التجربة إنها مريحة لأنها تحرر الشاعر من الأشكال الصمغية التي التصقت به. وتفتح الأبواب أمامه ليلعب لعبة الحرية(55)، وفي الوقت ذاته ليكتب: "قصيدة يكون حجم الصوت فيها، معادلاً لحجم الانفعال"(56).(1/172)
هذه التجربة (اللعبة) وجهت شعره توجيهاً جديداً ودفعته إلى المزيد من التجريب، وقد أصدر سنة 1981 كتاباً آخر بعنوان "قاموس العاشقين"، الذي يقول عنه إنه أراد من خلاله أن يكتب قصيدة: "يجتمع في نواتها كل الشعر، كما تتجمع في الخلية كل الحياة"(57). وبتعبير آخر يريد أن يكتب قصيدة تتجمع في نواتها كل النساء، ونواتها المركزية امرأة واحدة أساسية صالحة لبناء مئات القصائد وتوليد أشكال شعرية لا نهاية لها. والمرأة التي هي نواة كل قصيدة، وهي مركزها وحولها أو حول مداراتها تدور تلك العناصر أو الإضافات فتشكل تنغيمات في سمفونية عجيبة، ما إن تنتهي حتى تمهد لبداية أخرى (قصيدة) جديدة، وهكذا فإن كل قصيدة هي بداية حديث عن المرأة، فتنتهي القصيدة ولكن الحديث عن المرأة لا ينتهي(58). ويؤكد ذلك حين يقول: "وأنا أقولها بصراحة، لست وفياً لقصائدي المنتهية.. فالأزمنة الشعرية عندي، تكسر بعضها بوحشية لا نظير لها.. كل قصيدة مكتوبة ومنشورة هي بالنسبة لي قصيدة منفردة.. ومن أجل هذا أعلن أني شاعر لا ذاكرة له"(59). ويؤكد ذلك في موضع آخر حين أشار إلى أن بينه وبين نزار قباني الأربعينات ألوف السنين الضوئية، فقد ذهب هو في طريق ونزار اليوم (1981) ذهب في طريق آخر، وأن ملامحهما اختلفت، وعاداتهما اختلفت، وطريقة كلامهما اختلفت، وتناقضاتهما زادت، الأول ما يزال في مدرسة الفرح أما الثاني فتخرج بتفوق في مدرسة الحزن(60). وعن الشكل يؤكد: "شعري القديم كان شعر النمنمات والزركشات.. أما اليوم فإنني أكتب بذات السهولة التي أتنفس بها"(61).
فلماذا الملل من الشكل القديم؟(1/173)
المرأة هي الكلمة الأولى وهي الكلمة الأخيرة أيضاً في شعر نزار قباني. بها بدأت النقطة الأولى في دائرة الشعر عنده لتتحول إلى دوائر مركزها واحد، إنها موضوع واحد يتردد في كل القصائد التي كتبها، ولكنه موضوع يلغي نفسه بعد كل قصيدة ليتشكل من جديد في قصيدة أخرى، ثم يلغي نفسه فيها ليتشكل في أخرى على وفق دلالات جديدة، وديكور مغاير، وهكذا تستمر سيرورته وحركيته وتجدده على الرغم من سكونيته بوصفه موضوعاً مكروراً، ولكنه يتضافر بتكريره هذا مع إيحاءاته ليصنع الوهم الذي يجدده في كل مرة بتدميره الذاتي مما يحفظه من التكلس والموت.
امرأة واحدة في ملابس وماكياج وعطور شديدة التنوع والتلون، امرأة واحدة هي بمثابة جذر لكل الفروع والتنويعات الأخرى. ومن هنا يأتي اكتشاف معان جديدة في كل مرة، حين تنسج الكلمات قصة حب بينها فالعشق هو ابتكار المعاني الجديدة كما يقول بارت(62).(1/174)
إن قصائد نزار قباني كلها حوار بين لغتين: إحداهما يتحدث بها جسد المرأة إيحاء وإيماء وإشارة، ورائحة، والأخرى يتحدث بها قلم الشاعر كتابة فيها من البيان والسحر ما في ذلك الجسد من الروعة والجمال. تتداخل اللغتان فتصنعان جسداً واحداً تارة هو القصيدة وطوراً هو المرأة، فتغدو القصيدة عنده حمالة أوجه، شأنها شأن المرأة، تتطلب منا أكثر من قراءة. فمن تفاعل الجسدين تنشأ علاقات وتراكيب وموضوعات واستيهامات ورموز ودلالات اجتماعية وتاريخية، حضارية وثقافية، سياسية وإيديولوجية يختزلها كلها الحضور الأنثوي بوصفه مشكلة من أعقد مشكلات العرب الراهنة لا بوصفها قضية سياسية لابد من إيجاد حل لها، لكن بوصفها قضية دونية جسد لا يمكن أن يتصور في ذهن الرجل دون إسقاطات وخلفيات نفسية. ومن ثم فمشكلة المرأة، إذن، هي صورة جسد مشوه في ذهن الآخر (الرجل)، ولكنها من أجمل الصور في ذهن الشاعر، ومن تباين الصورتين يتشكل جسد المرأة الأنثى وجسد القصيدة الأنثى وجسد المدينة الأنثى، وجسد الكون الأنثى.
إن شكل الحب القديم كان قد اتخذ البيت القديم والمرأة القديمة والمدينة القديمة رمزاً له، وأن شكل الحب الجديد اتخذ البيت الجديد والمدينة الجديدة والمرأة الجديدة رمزاً له، وهذه العناصر الجديدة التي كانت تمثل الحلم بالنسبة إليه هي أكثر حرية، ومن ثم فالحب الجديد هو محاولة التحرر من قيود الحب القديم أو هو، في الأقل، بداية الشعور بالحرية والانطلاق في فضاء أرحب، إنه محاولة التخلص من قيود الماضي والسباحة في فضاء أكثر حرية وأكثر اتساعاً ومن ثم كان لابد من البحث عن شكل جديد لقصائده، وكان لابد من تغيير شكل القصيدة ولغتها مادام شكل الحب قد تغير عنده.
لقد زرع نزار قباني المرأة وروداً وأزهاراً وأعشاباً وأشجاراً فشكل منها حديقة غناء، وبعثرها نجوماً وأقماراً وشموساً وغيوماً فكون منها فضاء ساحراً فغدا الكون كله لوحة لونته بألوانها الساحرة.(1/175)
وإذا كان الشعر صناعة وضرباً من النسج وجنساً من التصوير على ما يقول الجاحظ، فكيف صورت قصائد نزار قباني المرأة؟ وكيف أسهمت المرأة موضوعاً في نسج القصيدة عنده؟ وكيف استطاعت أن تطور صناعة الصورة واللغة الشعريتين طوال أزيد من خمسين سنة من مسيرته الشعرية؟.
يعد نزار قباني الشعر والرسم توأمين سياميين ملتصقين التصاقاً عضوياً، بحيث أنه من الصعب عليه أن يتصور شاعراً لا يرسم، أو رساماً لا يحب الشعر.
ويؤكد أنه يفكر لونياً، وأن تسمية إحدى مجموعاته الشعرية "الرسم بالكلمات" لم تكن مجازاً، ولا تشبيهاً جميلاً، ولا مصادفة، لأنه بالأصل رسام انتصر الخيار الشعري لديه على الخيارات الأخرى، وأنه إذا سحب من شعره الأخضر، والأحمر، والبنفسجي، يصبح شعره كمدينة نيويورك حين ينقطع عنها التيار الكهربائي. وظل يحلم باستعادة عرش الرسم الذي تنازل عنه منذ أن تسلقت القصيدة على أنامله، ولكنه لا تزال عينه عليه(63).(1/176)
لقد كان اهتمامه الفني الطفولي بالرسم أولاً، ثم انتصر عنده الشعر، ولعل هذا ما يفسر حضور اللون في كل أشعاره من أبيض وأزرق وأحمر ووردي، وأصفر وبنفسجي وبرتقالي، وأخضر. ولعل هذا ما يفسر كذلك تحول المرأة والقصيدة عنده إلى منظر طبيعي أو حديقة خلابة. فلو أخذنا على سبيل المثال مجموعتيه "مئة رسالة حب" و"كتاب الحب" وأحصينا المفردات الدالة على الألوان والعطور، والحيوان، والحلي،، لوجدنا: الدراق، والفيروز، والميموزا، والأقحوان، والمارغريت، والورد، والياسمين، والزهور، والفل، والمانوليا، والعطر الهندي، والعطر الفرنسي، واللؤلؤ والجوهر، والياقوت، والذهب، والزمرد، والأحجار الثمينة والماس، والعصافير، والأسماك، والحمام، والقطط، والخيل، والديكة، والبحر، والأرض، والشمس، والقمر، والسماء، والأبيض، والأزرق، والأحمر، والأصفر، والوردي، والبنفسجي، والبرتقالي، والأخضر. فلو أخذنا هذه المفردات وأحصيناها لوجدناها قد ترددت فيها بصورة مدهشة حيث تكررت كلمة بحر، مثلاً، خمساً وثلاثين مرة، والأرض عشرين مرة، والأسماك سبع عشرة مرة، والأزرق خمس عشرة مرة، والأبيض عشرين مرة.(1/177)
ولعل قدرة نزار قباني تظهر أكثر ما تظهر في إعادة تشكيله الثابت وجعله دائم التحول، بحيث تتكرر المفردات في شعره فتؤكد هاجسية الموضوع، ولكنه من الصعب الوصول إلى دلالة الهاجس عندما تتولد من هذه المفردات مئات الصور، والمعاني المجازية والاستعارية، والتشبيهية، بوضعها أمام صيغ متعددة لا تتكرر، بحيث يختلف في كل مرة المعنى الذي يتوالد منها. هذه المفردات لاشك في أنها مفاتيح يمكن استخدامها للدخول إلى عالم قصائد نزار قباني التي تحوم دائماً حول موضوع وحيد قادر على الإشعاع في كل اتجاه، بصورة رمزية. فقصائد نزار تولد دائماً من رحم فكرة متسلطة، هي نواتها، حتى غدت من ثوابت نزار في جل أشعاره، ولكنه يصوغها في كل مرة بأساليب جديدة تتحرك ضمن لغة نزار قباني المليئة بالصور والإيحاءات وهذه الظاهرة، ظاهرة التكرير، دفعت أحد الباحثين إلى القول: "إن نزار قباني لم يكتب، في الواقع، إلا قصيدة واحدة، متعددة مقاطعها، مختلفة صورها، متعددة بحورها. هذه القصيدة الواحدة الكثيرة تقول إن العالم صور في مرآة واحدة (هي المرأة) أو صورة واحدة في مرايا مختلفة فترد بذلك الكثير إلى مبدأ واحد (المبدأ الأنثوي) وتحلل هذا الواحد إلى صور عديدة"(64).
في كل قصيدة من قصائد نزار قباني نلمس تكرير كلمات ومفردات وصيغ، وجمل، وعبارات، تقودنا إلى حقول معجمية مدهشة لهذا التكرير.
ففي قصيدة "الحب في الجاهلية" مثلاً، في ديوان "أحبك.. أحبك والبقية تأتي" تتكرر عبارة "شاءت الأقدار يا سيدتي" سبع مرات في خمسة مقاطع فتحدد بذلك المعنى الهاجس أو نواة المعنى، وفي "أريدك أنثى" في ديوان "هكذا أكتب تاريخ النساء" تتكرر عبارة "أريدك أنثى" تسع عشرة مرة. وتتكرر مفردة "أنثى" و"أنوثة" ثماني وثلاثين مرة.(1/178)
وفي قصيدة "افتراضات رمادية" في ديوان "لا غالب إلا الحب" تتكرر كلمة "صعب" ثلاثين مرة. وفي قصيدة "الحزن" في ديوان "قصائد متوحشة" تتكرر لفظة "علمني" تسع عشرة مرة.
إن هذا التكرير على مستوى المفردة غالباً ما يقود إلى معنى واحد ففي "أريدك أنثى" مثلاً تتحول الأنوثة إلى طبيعة وإلى مبدعة للطبيعة:
أريدك أنثى.. ليخضر لون الشجر
ويأتي الغمام إلينا.. ويأتي المطر
( ... )
لتبقى الحياة على أرضنا ممكنة
وتبقى الكواكب والأزمنة(65)
وفي قصيدة "افتراضات رمادية"، تقودنا كلمة "صعب": إلى هذا المعنى الذي يحدد هذا المقطع:
صعب جداً..
أن تدور الكواكب،
دون إشارة منك..
وأن ترتفع السنابل،
وتتكاثر الأسماك، وتثرثر الضفادع النهرية،
وتغني صراصير الغابة،
وتستدير أكواز الصنوبر،
وتشتعل أشجار الكرز
دون إشارة منك
صعب جداً
أن يكون هناك فصول أربعة..
إذا لم تقرئي عليها مزاميرك(66)
إن ظاهرة التكرير في معجم نزار قباني تنهض بعدة وظائف: فهي من ناحية أولى، تشحن النص بطاقات إيقاعية جديدة تتداخل مع عناصر الإيقاع الأخرى تؤكدها وتغنيها. وهي من ناحية ثانية، تصل قصائد الشاعر ببنية الأناشيد حيث يصبح الترديد طقساً من طقوس الابتهال(67). وهي من ناحية ثالثة تكشف عن هاجسية الموضوع وتحاصر المعنى.(1/179)
ولعل ما يلفت النظر في أسلوب نزار قباني، هو معجمه المحدود الذي يقدره نزار قباني نفسه بحوالي ألف كلمة(68)، وقدره باحث آخر بمئتي كلمة فقط(69) مشيراً إلى أن خمسة أسماء احتفى بها نزار احتفاء خاصاً وشكلت ظاهرة طغت على دواوينه الأربعة عشر الأولى، وهي النهد، والشفة (الثغر)، والجسد، والشعر، والعيون(70)، وعلى الرغم من أن البنية الموضوعاتية في الشعر لا تتحدد بعدد الكلمات، بل بتداعياتها في صيغ، وبعلاقاتها المتشابكة، إلا أن هذه الظاهرة تكشف عن بعد نفسي له أهميته. فإذا أخذنا على سبيل المثال لفظة "نجمة" التي تعد من أكثر المفردات تكريراً في شعر نزار قباني لاسيما في دواوينه الأولى، نلاحظ أنها ليست دائماً تلك الكائنات السماوية البعيدة المتلألئة- كما كانت عند القدماء والمحدثين- بل هي نجوم (مستأنسة) يهبط الشاعر بها إلى عالمه العاطفي الحميم، فإذا هي أحياناً كالقطة الأليفة وهي أحياناً كالحملان الوديعة تعود من مراعيها لتسترجع جموعاً أمام بيت المحبين، قبل أن تنطلق إلى الحقول من جديد، وهي نجوم كثمار الروض "تحشر" في سلة، والنجوم عند المحبين- في لحظات لهوهم- قريبة المنال كالحصى اللامع على شاطئ النهر يعبث بها المحبان(71).
إن هذه المفردة إذا أخذت في سياق توظيفها في الجملة الشعرية، ومن خلال ديوانه الأول "قالت لي السمراء"، فقط، نجد أنها قد وردت سبع عشرة مرة على النحو التالي:
-أحن إلى الخط المليس.. ورقعة
تطاير كالنجمات أحرفها النشوى.
-أريدك
أعلم أن النجوم
أروم
-تباشير شال..
يجر نجوما
-أما بذرنا الرصد والميجنا
هناك في جنينة النجم
-قصة العينين.. تستعبدني
من رأى الأنجم في طوفانها
-وفي كرم الغمائم في بلادي
وفي النجمات في وطني تضيع
-نر الليل يرصف نجماته
على كتف القرية الراهبة
-مواويل تلمس سقف بلادي
وترسو على الأنجم الغاربة
-نصبت فوق النجم أرجوحتي
وبالدما رسمت مستقبلي
-كنجمة قد ضيعت دربها
خصلات الأسود المعتم(1/180)
-وكيف ركزت إلى جنبه
غمازة.. تهزأ بالأنجم
-وتخطيط أكوان، وتعمير أنجم
ورسم زمان.. ماله.. ماله شكل
-قد فكتا.. فانفرط أنجم
على طريق معشب.. مزهر..
-مفكوكة الأزرار عن جائع
يصبو إلى النجم لكي يقضمه
-أعبئ جيبي نجوما.. وأبني
على مقعد الشمس لي مقعدا
-أنا لبلادي لنجماتها
لغيماتها.. للشذا.. للندى
-عزفت ولم أطلب النجم بيتا
ولا كان حلمي أن أخلدا.
وإذا أضفنا إلى ما سبق شيئاً مما أورده في سيرته أو أحاديثه وجدنا أنه عندما سئل مرة، لمن تكتب؟ أجاب على الفور: "في ذهني مخطط للشعر لا أتراجع عنه، وهو مخاطبة أي شجرة.. أو غيمة.. أو سمكة.. أو هرة.. أو نجمة.. أو يمامة"(72).
وفي موضع آخر يؤكد أن الزهرة بالنسبة إليه لغة، والنجمة لغة، والشجرة لغة، ووجه امرأة لغة، وجسدها لغة، وضحكتها لغة، واستدارة نهدها لغة، والعصافير، والغابات، ودموع الأطفال كلها لغات بل إنه يربح المرأة باللغة ويخسرها باللغة(73).
وإذا أضفنا إلى ما سبق أيضاً حديثه عن منزل الصباحين قال: "مكان ولادتي: تحت شجرة ياسمين تهرهر أقمارها على بلاط دمشقي قديم"(74)، وأن شهود ولادته مجموعة من الحمائم، والسنونو، والقطط الشامية(75)، ونضدنا كل ذلك بقصيدة "غرناطة" في ديوانه "الرسم بالكلمات"، حيث يقول:
ورأيت منزلنا القديم.. وحجرة
كانت بها أمي تمد وسادي
والياسمينة، رصعت بنجومها
والبحرة الذهبية الإنشاد..(76)
إذا جمعنا هذا كله، نكتشف على نحو سهل، أن النجمة انطباع طفولي عن زهرة الياسمين وصار هذا الرمز مع مرور الأيام متفشياً في لغته الشعرية، ويوجه شعره بصورة لا واعية، حاضراً بصورة مكثفة في دواوينه الأولى، وبصور أقل كثافة في دواوينه الأخيرة، ولكنه لم يفارق ديواناً واحداً من دواوينه، ففي آخر ديوان له يقول:
آه.. يا سيدة الماء التي تأخذني
للينابيع..
وتهديني نجوماً.. وكروماً.. وصنوبر..(77).(1/181)
ومن هنا يمكن القول، إن هناك مفاتيح لغوية كثيرة تقودنا إلى اكتشاف الموضوع في شعر نزار قباني عبر بوابة اللغة.
(
الهوامش:
(1) عبد الجبار داود البصري، قصيدة بلقيس: البنية الموضوعية، مجلة الآداب، عدد 11،12، بيروت (نوفمبر، ديسمبر) 1998، ص77.
(2) محمد الغزي، في شعرية الغواية، دراسة ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، الجزء 1، دار سعاد الصباح، الكويت، 1998، ص333، 334، 338.
(3) نفسه، ص339.
(4) نذير العظمة، نزار قباني وتحولات الجسد، دراسة ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال ج1، دار سعاد الصباح، الكويت، 1998، ص293.
(5) محي الدين صبحي، بنية الشعر وبنية الشعور، ضمن: كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، ص276.
(6) شكري محمد عياد، نزار قباني، ولعبة اللغة، دراسة ضمن: نزار قباني شاعر كل الأجيال، ج1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998، ص309، 313.
(7) جبرا إبراهيم جبرا، نزار قباني ... الحب معاصراً، الحب خارج الزمن، ضمن: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، ص83.
(8) نفسه، ص88.
(9) ماجدة الزين، المرأة في شعر نزار قباني، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، ع64، بيروت، 1991، ص156 وما بعدها.
(10) إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1978، ص177 وما بعدها.
(11) قباني الأعمال الكاملة، ج7، ص153، 154.
(12) ينظر مبحث ثنائية الجسد والروح من المدخل.
(13) فهد عكام، نحو تأويل تكاملي للنص الشعري، مقال في مجلة فصول، ع3، 4، مج8، القاهرة 1989، ص57.
(14) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978، ص33.
(15) الجرجاني، الوساطة، ص33.
(16) أبو إسحاق إبراهيم بن علي القيرواني، زهر الآداب وثمر الألباب، ج1، دار الفكر العربي، القاهرة، (د. ت)، ص76.
(17) قباني، أشعار مجنونة، ص142.
(18) نفسه، ص131.
(19) نفسه، ص110.
((1/182)
20) نزار قباني، سيبقى الحب سيدتي، منشورات نزار قباني، بيروت، 1987، ص51.
(21) قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص89.
(22) نفسه، ص68.
(23) نفسه، ص17.
(24) نفسه، ص55، 60.
(25) نفسه، ص 61-65.
(26) نفسه، ص66.
(27) نفسه، ص75.
(28) قباني، والكلمات تعرف الغضب، ج1، ص158.
(29) قباني، الأعمال الكاملة، ج7، ص72.
(30) نفسه، ص109.
(31) قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص106.
(32) نفسه، ص81.
(33) قباني، لا غالب إلا الحب، ص57.
(34) قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص162.
(35) نفسه، ص113، 120، 159.
(36) التقى الشاعر بلقيس أول مرة في بغداد عام 1962، وتزوجها عام 1969، وقد قال في كلمة ألقاها في الاتحاد العام لنساء العراق مرة إنه جاء إلى بغداد ليلقي قصيدة فتزوج قصيدة. (ينظر: السياسة، ع 4902 بتاريخ 19/02/1982.)، وكانت بلقيس بالنسبة إلى الشاعر محرضة جمالية وشعرية، وكان الفضل الكبير أنها تركت نار الشعر متأججة دائماً في بيته وفي حياته، ولذلك قال عنها: "من يوم زواجنا قبل اثنتي عشرة سنة كان من المفروض أن يتقهقر شعري، إلا أن العكس حصل معي، فبوجود امرأة معي مثل بلقيس أنا كبرت، وقصائدي كبرت، وإنتاجي زاد. لم أنتج في أية سنة أربعة كتب إلا في عام 1981، عام وفاتها". (نفسه).
(37) نزار قباني، قصيدة بلقيس، منشورات نزار قباني، بيروت 1982، ص1.
(38) قباني، ما هو الشعر، ص117
(39)Jull BARBER and Rite. E. Watson: Sisterhood Betrayed, St Marlin Press, NEW-YORK, 1961, P5
... (نقلاً عن الغذامي، ص172، 173).
(40) قباني، قاموس العاشقين، ص65.
(41) قباني، سيبقى الحب سيدتي، ص83.
(42) الغذامي، ص203.
(43) جون إيف تادييه، النقد في القرن العشرين، ترجمة منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، سوريا 1994، ص70. تؤكد كثير من الدراسات الحديثة أن الرجال يحملون صوراً تخويفية من النساء ومن شرورهن وتربصهن بالرجال.
... (ينظر:(1/183)
Marilyn FRENCH: The wer against Women, Ballaline Books, NEW-YORK, 1992, P163.
... (نقلاً عن، الغذامي، ص18).
(44) قباني، خمسون عاماً في مديح النساء، ص58.
(45) نفسه، ص30.
(46) قباني، قصائد، ص96، 97، 98.
(47) نزار قباني، لعبت بإتقان وها هي مفاتيحي، منشورات نزار قباني، بيروت 1990،
ص55.
(48) بين 1966 و 1971 أصدر ديواناً واحداً هو: يوميات امرأة لا مبالية(1968) ويقول عن هذا الديوان: "في شتاء 1958، عثرت على هذه المرأة الكنز، ( ... ) كانت هذه المرأة تأتيني كل مساء، في شتاء عام 1958، وكنت يومئذ دبلوماسياً في الصين، شتاء كامل وأنا أستقبل هذه المرأة دون أن يخطر ببالي مرة أن أسألها ما اسمها؟ أين تسكن؟ ما هي مدينتها؟ وذهبت هذه المرأة وأنا لا أعرف عنها سوى أنها كانت جميلة ورائعة وشجاعة، ذهبت ولم تترك لي سوى بصمات صوتها على جدران حجرتي، وسوى حزمة أوراق ممدودة على طاولتي على شكل جرح. ظلت هذه اليوميات نائمة في درج طاولتي عشر سنوات. كانت وصية صاحبتها لي قبل أن تذهب، أن لا أنشر يومياتها، وبعد عشر سنوات قررت فجأة أن أخون صاحبة اليوميات وأنشر كلامها على الدنيا" (ينظر نزار قباني، يوميات امرأة لا مبالية، منشورات نزار قباني، بيروت 1971، ص15-17).
(49) قباني، الأعمال النثرية الكاملة، ج7، ص231.
(50) نفسه، ص444.
(51) نفسه، ص447.
(52) نفسه، ص447.
(53) نفسه، ص449.
(54) نفسه، ص450.
(55) قباني، قاموس العاشقين، ص7.
(56) نفسه، ص7.
(57) وينهي مرحلة التجريب هذه بكتاب تحت عنوان "أشعار مجنونة" (1983) جمع فيه الشاعر سليم بركات 244 مقطوعة، ووضع عناوينها وهي مقطوعات من قصائد متناثرة في ثنايا دواوينه التي صدرت قبل هذا التاريخ.
(58) نزار قباني، ما هو الشعر؟، منشورات نزار قباني، بيروت 1981، ص141.
(59) نفسه، ص146، 147.
(60) نفسه، ص160.
(61) فؤاد أبو منصور، النقد البنيوي الحديث، بين لبنان وأوربا، دار الجيل، بيروت 1985، ص192.
((1/184)
62) قباني، ماهو الشعر؟ ص162، 163.
(63) محمد الغزي، في شعرية الغواية، ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، دار سعاد الصباح، الكويت 1998، ص337.
(64) نزار قباني، هكذا أكتب تاريخ النساء، منشورات نزار قباني، بيروت 1981، ص17.
(65) نزار قباني، لا غالب إلا الحب، منشورات نزار قباني، بيروت 1990، ص94.
(66) الغزي، ص336، 337.
(67) قباني، ما هو الشعر؟، ص91.
(68) شاكر النابلسي، الضوء.. واللعبة، استكناه نقدي لنزار قباني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1986، ص550.
(69) نفسه، ص430.
(70) عبد القادر القط، الحب والمرأة في شعر نزار قباني ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، ص410، 441.
(71) قباني، ما هو الشعر؟، ص82.
(72) نفسه، ص97،98.
(73) نفسه، ص54.
(74) نفسه، ص54.
(75) نزار قباني، الرسم بالكلمات، منشورات نزار قباني، بيروت د.ت، ص183.
(76) قباني، تنويعات نزارية على زمن العشق، ص40.
((
خاتمة:
تعد المرأة في شعر نزار قباني موضوعاً شائكاً معقداً، لا تربط بين أطرافه روابط ولا تضبطه ضوابط، وهو شبكة من العلاقات الغامضة التي تفتح المجال واسعاً لاحتمالات وتأويلات وتفسيرات شتى.
لقد شكلت عالماً قائماً بذاته لا تحده حدود معينة، تتداخل أبعاده، وتمتزج ألوانه، وتتشعب دلالاته، فهي واحدة ومتعددة، غائبة وحاضرة، مسيَرة هذا الكون ومسيَّرة، كائن حي يعيش في الواقع ومثال وسراب وطيف مسكنه الوهم والظنون.
ملهمة الشاعر وصانعة قصائده. ولكنها لا شيء بدون قصائده، هي الطهر والعهر والدنس والقداسة. هي الوضوح والغموض والخوف والرهبة والطمأنينة. هي الحياة والموت وقارب النجاة ومرفأ الأمان، ولكنها أيضاً عاصفة هوجاء، وبحر عات، هي الحب والكراهية، الخصب والعقم، الحلم والواقع، هي الداء والدواء.(1/185)
يختزل جسدها عناصر الطبيعة جميعها، من أنهار وغابات، ومعادن، وحدائق، وبحار، ومدن، ونجوم وأقمار وشموس، وسحب وأمطار، وثلوج ورعود وبروق. حتى يحس قارئ شعر نزار قباني في المرأة بأنه لولا الطبيعة التي استعار منها هذه الصفات الجمالية التي أضفاها على جسدها لما وجد ما يجمل به هذا الجسد، ولكنك تحس أحياناً أنه لولاها لما وجد ما يستعيره لتجميل جسد الطبيعة، بل إنك لتشعر في أحيان كثيرة أن الكون قبح، وسواد، وخراب، ودمار لو لم تجمله المرأة. وهي سر وجود هذا الكون لولاها ما وجد هذا العالم، ولكننا نجد أيضاً أن هذا الوجود لا يتحقق إلا بغيابها، فكلما كانت واقعاً انتفى الوجود. المرأة، إذن، رهينة الشاعر وسجينة أحلامه وهلوساته، وهي أمه، وبيته، ومدينته، وحبيبته، وقصيدته ووطنه، وجواز سفره وبطاقة هويته، وهي كل تاريخه الشعري وتاريخه الثقافي والحضاري، تختزل عناصر الكون كلها في نظرة، أو إشارة، أو همسة، أو ضحكة، أو حركة.(1/186)
وعلى الرغم من تجليات رموز المرأة الكثيرة في شعر نزار قباني إلا أن المرأة الحبيبة، والمرأة الأم، والمرأة المدينة، والمرأة القصيدة، هي مدار شعره بل إن الأم هي التي تختصر رموز المرأة جميعها، فهي السيدة الأولى في شعره. لكن القصائد التي ترسم ملامح الأم، غالباً، ما تتجلى فيها الرغبة وعدم تحققها والحلم والواقع ورموز الطهر والقداسة، ويغيب فيها الجانب الحسي تماماً. في حين تحضر فيها أجواء البيت. وإلى جانب القصائد التي خص بها الأم صراحة نجد قصائد كثيرة تشير إلى العلاقة بين المرأة والآخر (الرجل) على أنها علاقة أم بطفلها، فالطرف الأول امرأة، والطرف الثاني رجل ولكنه يحمل سمات الطفولة والصبا، فتظهر الأمومة من خلال معجمه الشعري المليء بالاستعارات الملحة تصب كلها في دائرة العلاقة بين الطفولة والأمومة، ومن ثم تتحكم في البنية الموضوعاتية لمعظم قصائده ثنائية الخطيئة والطهر، مع نكوص دائم إلى المأوى القديم، ويظهر هنا عنصران أساسيان يوجهان تجربته الشعرية هما النجوم ونافورة المياه، ومن ثم يبدو الشاعر في علاقته مع المرأة وكأنه لم يكبر وفي علاقته مع البيت والمدينة كأنه لم يكتسب تجارب جديدة، ولم يتحول.(1/187)
وهكذا تغدو المرأة الفعلية الواقعية بسحر جمالها وخفة ظلها وجاذبيتها مثيراً آنياً يدفعه إلى الاستجابة الآنية لتحقيق لذة حواسية ثم يفتح لخياله المجال ليستحضر صوراً يصنعها انطلاقاً من أنموذج مستقر في الذاكرة، قابل للإيحاء بآلاف الصور والأشكال، ومن ثم كان الحب في قصائده عبارة عن علاقة غامضة مع كائن غامض، يحقق معه رغبته باللغة، ويربحه باللغة، ويخسره باللغة. ولذلك ظل يتأرجح بين الواقع والوهم، وظلت كل امرأة في قصائده تحمل بين طياتها بذور فنائها. ومن هنا كانت تلك البنية النفسية العامة فيها متمثلة في المقدس والمدنس، تلك الثنائية التي تعيده إلى بداية الخليقة، للاحتماء بخطأ أمنا حواء، واللجوء إلى الطبيعة لاستعارة عناصر الجمال منها وإضفائها على جسد المرأة وتحويلها إلى طبيعة خالصة، فيتسع بذلك فضاء اللذة، ويتقلص فضاء الألم.
من هنا يبدو الشاعر وكأن المرأة- المرأة لا تعنيه بوصفها جسداً، كأي جسد آخر، وإنما الذي يعنيه هو المرأة الأنثى. والأنوثة ظاهرة لا نجدها عند النساء فحسب، وإنما نجدها في الطبيعة، ومن هنا تتحول المرأة إلى قارة مجهولة يجب اكتشافها، لكن اكتشافها يعني اغتيالها، ومن ثم تظل مجهولة، إذ يحدد من البداية أنه لا يمكن أن تكتشف، ومن هنا راح يتحدى هذه القناعة محاولاً اكتشاف هذا العالم المجهول (الجسد) فيجد في ذلك لذة ومتعة شأنه شأن المكتشفين الحقيقيين لمجاهل هذا الكون. فيتحقق في ذلك استيهام يشبع الرغبة البدئية الطفولية، الباحثة عن اكتشاف جسد الأم.
هذه المرأة التي جسدها الشاعر في صورة لوحة شكل منها مدينة دمشق، ومدينة بيروت، فظهرت الأولى أمّاً حانية، وظهرت الثانية حبيبة تعوض غياب الأولى، وتتماهى معها. فيتحول شعره إلى محصول دمشقي ترعاه الأم، وإذا حاولت أية امرأة أن تنافسها، فإنها لا تتجاوز حدود بعض الشبه بينها وبين دمشق.
ومن ثم اتخذت المدينة عند نزار قباني بعدين يسيران في اتجاهين متباينين:(1/188)
اتجاه يرسم صورة المرأة الجسد، بوجهها الأنثوي الرائع وجمالها الساحر، وتختزلها مدينة بيروت، وصورة المرأة الأم الحنون، وتجسدها مدينة دمشق، فيحتمي الشاعر في رحم المدينتين، ويحس بالطمأنينة والأمن. ولكنه سرعان ما يجد المرأة تنافس قصائده، فيحاول إرضاءها باعترافه بأسبقيتها لقصائده، وبأن قصائده استمدت جمالها منها، ولكنه يتراجع عن هذا الرأي فينتصر لقصائده. وهكذا تولد عن ذلك صراع رافق معظم قصائده ولم يحسمه طوال حياته، ولكن مع ذلك تظهر أفضلية القصيدة على المرأة عنده، لأن المرأة الذهنية التي توحي له بهذه القصائد لا وجود لها في الواقع، في حين أن المرأة المتخيلة التي نجدها في قصائده هي من صنعه، ومن هنا فبإمكانه أن يشكلها كما يشاء. ومهما تفانى في تشكيلها فإنها لن ترقى إلى ذلك الطيف الذي يعيش في الوهم والظنون.
((
فهرست المصادر
المصادر باللغة العربية:
(1) أبو زيد (نصر حامد): فلسفة التأويل، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت 1993.
(2) أبو منصور (فؤاد): النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوروبا (نصوص، جماليات، تطلعات)، دار الجيل، بيروت 1985.
(3) ابن التستري (الكاتب): المذكر والمؤنث، مكتبة الخانجي، القاهرة 1983.
(4) ابن سينا (أبو علي الحسين): القسم الخاص بالنفس من كتاب الشفاء، تحقيق يان ياكوش المجمع العلمي التشكوسلوفاكي، براغ 1956.
(5) ابن طباطبا (محمد بن أحمد): عيار الشعر، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، مصر (د. ت).
(6) ابن قتيبة (أبو محمد عبد الله بن مسلم): تأويل مشكل القرآن، شرح ونشر السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة 1973.
(7) ابن فارس (أبو الحسين أحمد): الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق مصطفى النويهي، مؤسسة بدران، بيروت 1964.
(8) الآمدي (أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى): الموازنة، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، (د. د)، (د. ت).
((1/189)
9) الأصفهاني (أبو الفرج): الأغاني، ج3، دار الثقافة، بيروت 1981.
(10) بارت (رولان): نقد وحقيقة، ترجمة منذر عياشي، مركز الأنماء الحضاري، سوريا 1994.
(11) باشلار (غاستون): جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1984.
(12) بدوي (محمد عبده): الشاعر والمدينة في العصر الحديث، عالم الفكر، ع3، مج 19، الكويت 1988.
(13) بزيغ (شوقي):احتفالية الجسد وشاعرية الحواس، ضمن كتاب نزار قباني شاعر لكل الأجيال ج1، بإشراف سعاد محمد الصباح، دار الصباح للنشر والتوزيع، الكويت1998.
(14) البصري (عبد الجبار داود): قصيدة بلقيس، البنية الموضوعية، مجلة الآداب عدد 12.11، بيروت (نوفمبر- ديسمبر) 1998.
(15) تادييه (جان ايف): النقد في القرن العشرين، ترجمة منذر عياشي، دار الأنماء الحضاري، سوريا 1994.
(16) التوحيدي (أبو حيان): الهوامل والشوامل، نشر أحمد أمين، والسيد أحمد صقر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951.
(17) الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): رسائل الجاحظ، ج2، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل بيروت 1990.
(18) جبرا إبراهيم جبرا: نزار قباني.. الحب معاصراً، الحب خارج الزمن، ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998.
(19) الجرجاني (القاضي عبد العزيز): الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة 1966.
(20) الجرجاني (عبد القاهر): دلائل الإعجاز، تحقيق السيد محمود رشيد رضا، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت 1948.
(21) أسرار البلاغة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت 1978.
(22) حسنين (أحمد طاهر) وآخرون: جماليات المكان، عيون، المقالات، الدار البيضاء 1988.
(23) الربيعي (محمود): الشاعر والمدينة، مجلة عالم الفكر، وزارة الإعلام والثقافة، الكويت 1988.
((1/190)
24) الزركلي (خير الدين): الأعلام، ج4، بيروت 1969.
(25) الزين (ماجدة): المرأة في شعر نزار قباني، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، ع. 64، بيروت 1991.
(26) زيعور(علي): تأويل لغة الجسد داخل اللاوعي الثقافي العربي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 55-54، بيروت 1988.
(27) السواح (فراس): لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، سومر للدراسات والنشر والتوزيع، قبرص 1985.
(28) العسكري (أبو هلال): الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، 1971.
(29) العطروني (الياس): عاد الطائر إلى بيته.. والطفل إلى صدر أمه، مجلة الحداثة، العدد 31-34، السنة الخامسة، المجلد 16-17، بيروت 1998.
(30) العظمة (نذير): نزار قباني وتحولات الجسد، دراسة ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال ج1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998.
(31) العقاد (عباس محمود): ابن الرومي حياته من شعره، مطابع دار الكتاب العربي، القاهرة 1963.
(32) الغذامي (عبد الله محمد): المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت 1996.
(33) الغزي (محمد): في شعرية الغواية، دراسة ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، الجزء 1، دار سعاد الصباح، الكويت، 1998.
(34) القط (عبد القادر): الحب والمرأة في شعر نزار قباني، ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال ج1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998.
(35) القيرواني: (أبو إسحاق إبراهيم بن علي) زهر الآداب وثمر الألباب ج1، دار الفكر العربي، القاهرة (د.ت).
(36) الكندي (يعقوب بن إسحاق): رسائل الكندي الفلسفية، ج1، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة 1955.
(37) المتنبي (أبو الطّيب): ديوانه، دار الجيل، بيروت (د. ت).
((1/191)
38) المصري (ابن أبي الأصبع): تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر و بيان إعجاز القرآن، تحقيق حفني شرف، منشورات المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1383 هـ.
(39) النابلسي (شاكر): الضوء واللعبة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1986.
(40) شريح (محمد): تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع.10، بيروت 1981.
(41) شوشة (فاروق): الأعمال الكاملة، ج. 1، المطبعة العالمية القاهرة 1981.
(42) صبحي (محي الدين): بنية الشعر وبنية الشعور، ضمن كتاب: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج. 1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998.
(43) عالة (يوسف): المرأة العربية في العصر الجاهلي، مقال في مجلة "الثقافة"، دار مجلة الثقافة، عدد شباط، دمشق 1996.
(44) عباس (إحسان): عبد الحميد بن يحيى الكاتب وما تبقى من رسالة ورسائل سلام أبي العلاء، دار الشروق، الأردن 1988.
(45) اتجاهات الشعر العربي المعاصر، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، مطابع دار القبس، الكويت 1978.
(46) عكام (فهد): نحو تأويل تكاملي للنص الشعري، مقال في مجلة فصول ع3-4، مج8، القاهرة 1989.
(47) عياد (شكري محمد): نزار قباني ولعبة اللغة، دراسة ضمن: نزار قباني شاعر لكل الأجيال، ج1، دار سعاد الصباح، الكويت 1998.
(48) فرويد (سيغموند): تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان، دار المعارف، القاهرة 1981.
(49) محاضرات جديدة في التحليل النفسي، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت 1980.
(50) فيلو (جان كلود): اللاّوعي، ترجمة جان كاميد، ماذا أعرف؟ المنشورات العربية، (د.د)، (د. ت).
(51) قباني (نزار): ما هو الشعر، منشورات نزار قباني، بيروت 1981.
(52) أحبك أحبك والبقية تأتي، منشورات نزار قباني، بيروت 1986.
(53) أشعار خارجة على القانون، منشورات نزار قباني، بيروت 1986.
((1/192)
54) أشعار مجنونة، اختارها ووضع عناوينها سليم بركات، منشورات نزار قباني، بيروت 1985..
(55) أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء، منشورات نزار قباني، بيروت 1993.
(56) أنت لي، منشورات نزار قباني، بيروت (د. ت).
(57) إلى بيروت الأنثى مع حبي، منشورات نزار قباني، بيروت 1978.
(58) الأعمال السياسية الكاملة، ج3، منشورات نزار قباني، بيروت 1993.
(59) الأعمال الشعرية الكاملة، ج1، منشورات نزار قباني، بيروت 1993.
(60) الأعمال النثرية الكاملة، ج8، منشورات نزار قباني، بيروت 1993
(61) الأوراق السرية لعاشق قرمطي، منشورات نزار قباني، بيروت 1989.
(62) الرسم بالكلمات، منشورات نزار قباني، بيروت (د.ت).
(63) الكبريت في يدي ودويلاتكم من ورق، منشورات نزار قباني، بيروت 1993.
(64) المرأة في شعري وفي حياتي، منشورات نزار قباني، بيروت1986
(65) تزوجتك أيتها الحرية، منشورات نزار قباني، بيروت1988
(66) تنويعات نزارية على زمن العشق، بيروت 1960.
(67) حبيبتي، منشورات نزار قباني، بيروت (د.ت).
(68) خمسون عاماً في مديح النساء، منشورات نزار قباني، بيروت1994.
(69) دمشق نزار قباني، جمع صباح قباني، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق1995.
(70) سامبا، المكتب التجاري، للطباعة والتوزيع والنشر، بيروت 1964.
(71) سيبقى الحب سيدتي، منشورات نزار قباني، بيروت1987.
(72) طفولة نهد، منشورات نزار قباني، بيروت1969.
(73) قالت لي الشقراء، منشورات نزار قباني، بيروت (د.ت).
(74) قاموس العاشقين، منشورات نزار قباني، بيروت1988.
(75) قصائد متوحشة، منشورات نزار قباني، بيروت1993.
(76) قصائد، منشورات نزار قباني، بيروت1980.
(77) قصتي مع الشعر، منشورات نزار قباني، بيروت1973.
(78) كتاب الحب، منشورات نزار قباني، بيروت1988.
(79) كل عام وأنت حبيبتي، منشورات نزار قباني، بيروت1986.
(80) لا غالب إلا الحب، منشورات نزار قباني، بيروت1990.
((1/193)
81) لعبت بإتقان وها هي مفاتيحي، منشورات نزار قباني، بيروت1990.
(82) ملاحظات في زمن الحب والحرب، منشورات نزار قباني، بيروت1974.
(83) هكذا أكتب تاريخ النساء، منشورات نزار قباني، بيروت1981.
(84) والكلمات تعرف الغضب، ج1، منشورات نزار قباني، بيروت1982.
(85) يوميات امرأة لا مبالية، منشورات نزار قباني، بيروت1971.
(86) قمبر (نبيل): قراءة في كتاب البنيوية في الغوريات لمصطفى صفوان، عالم الفكر، ع23، بيروت 1983.
(87) كلاين (ميلاني) وريفيير (جون): الحب والكراهية، ترجمة وجيه إسعد، دار البشائر، دمشق 1993.
(88) كون (أ. س): الجنس والثقافة، ترجمة منير شحود، دار الحوار، سوريا 1992.
(89) مبيض (عامر) وكرزون (محمد): نزار قباني: رحيل قارة شعرية، متابعة وتحليل، (د.د)، سوريا 1998.
(90) نجم (خريستو): النرجسية في أدب نزار قباني، دار الرائد العربي، بيروت 1983.
(91) نوننمشار (جورج): دلالات الأثر، ترجمة عبد العزيز بن عرفة، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا 1992.
(92) ذيب (ثائر): المرأة في التحليل النفسي الفرويدي، مجلة "المعرفة"، ع 387، وزارة الثقافة، دمشق 1995.
الجرائد والمجلات:
(1) مجلة "ألف باء" عدد 966، بغداد 1987.
(2) جريدة "الرأي" الأردنية: عدد 8147، بتاريخ: 29/11/1992.
(3) جريدة "الرأي" الأردنية: عدد 8154، بتاريخ: 6/12/1992.
(4) جريدة: البعث السورية، ع 7761، بتاريخ: 20 سبتمبر 1988.
(5) جريدة السياسة الكويتية، ع 4902، بتاريخ: 19/2/1982.
(6) جريدة "البعث"، ع4، سبتمبر، سوريا 1981.
(7) جريدة البعث، عدد 7628، بتاريخ 3 أفريل 1984.
(8) مجلة "الحوادث" اللبنانية، ع 1394، بتاريخ 22/7/1983.
(9) الدستور، ع. 5726، بتاريخ 26/11/1983.
(10) جريدة النهار العربي والدولي، ع. 328، بتاريخ 15/8/1983.
المصادر باللغة الأجنبية:
1-Barthes R., Le grain de la viox, ed. Seuil, Paris 1981(1/194)
2-S/ Z, Collection Points, Edition du Seuil, Paris, 1970.
3-Freud S., le Fétichisme, in S. Freud, la vie Sexuelle, P.U.F, Paris 1970.
4-Mauron, Charles, Introduction à la psychanalyse de MALLARME, suivie de Mallarmé et le livre de tao, A la baconnière- PAYOT A NEUCHATEL (suisse), 1978.
5-Du métaphore obsédante au mythe Personnal, Introduction à la psychocritique, Libririe José Corti (Paris), 1972.
((
فهرست الموضوعات
مقدّمة: ... 3
الفصل الأول : المنجزات الموضوعاتية ... 3
1-قالت لي السمراء (4) 1944 ... 3
2-طفولة نهد(5) 1948 ... 3
3-سامبا(8) (1949) ... 3
4-أنت لي(9) (1950) ... 3
5-قصائد (10) (1956) ... 3
6-حبيبتي (12) (1961) ... 3
7-الرسم بالكلمات (13) (1966) ... 3
8-النتائج: ... 3
الفصل الثاني: المرأة الجسد ... 3
1 ـ المرأة الأم: ... 3
أ ـ المرأة والشعر العربي. ... 3
ب ـ المرأة في شعر نزار قباني. ... 3
جـ ـ المرأة الأم: ... 3
2 ـ المرأة الحبيبة: ... 3
الفصل الثالث: المرأة المدينة ... 3
1 ـ الشاعر العربي والمدينة: ... 3
2 ـ نزار قباني والمدينة: ... 3
أ ـ دمشق الأم: ... 3
ب ـ بيروت الحبيبة: ... 3
ج ـ مرجعية حب المدينتين: ... 3
الفصل الرابع: المرأة القصيدة ... 3
أ-المرأة والقصيدة: ... 3
ب-القصيدة بين هاجس الموضوع وهاجس الشكل: ... 3
خاتمة: ... 3
فهرست المصادر ... 3
المصادر باللغة العربية: ... 3
الجرائد والمجلات: ... 3
المصادر باللغة الأجنبية: ... 3
فهرست الموضوعات ... 3
((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
شعرية المرأة وأنوثة القصيدة: قراءة في شعر – دراسة نزار قباني/ أحمد حيدوش - دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 –
202ص؛ 25سم.
1- 811.9561009 ح ي د ش ... ... ... ... 2- العنوان
3- حيدوش
ع- 3/1/ 2002 ... ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/195)