شعاع من المحراب
تأليف
د. سليمان بن حمد العودة
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
المرأة والهمة والوقت (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره..
اتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا مضلات الفتن فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
إخوة الإيمان وسبق لي حديث عن الإحازة والوقت، وكان الحديث في أصله موجهاً للشباب، وإن جاءت الإشارة عرضاً للنساء.. ولقد رأيت أنهن أهل للتخصيص بالحديث.. لماذا؟ لأن النساء محصورات مقصورات، وبالإفساد والمخططات الرهيبة مقصودات، وما مؤتمر المرأة في بكين فيما مضى وما يحاك للمرأة حاضراً ومستقبلاً.. إلا نماذج صارخة تشهد بالتركيز على المرأة بالإفساد، وإذا أفسدت المرأة فقل على المجتمع الإسلام.. ولا يغيب هذا الهدف عن اللئام!
لم لا يكون الحديث – بكثرة – عن المرأة، ونحن نسمع بين الحين والآخر عن قانون جديد يصدر للمرأة ظاهره فيه الدفاع عن حقوقها المنتهكة – فيما يزعمون – وباطنه فيه الهلكة والضياع للمرأة لو يعلمون؟ والمصيبة حين تصدر هذه القوانين في بلاد المسلمين ويعجز البشر أن يأتوا بتشريع أعدل وأوفى من تشريع الإسلام للمرأة، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
الحديث للمرأة يكون لأن النساء قادرات على العطاء والإسهام لفاعل الخير في المجتمع إذا علم الدور، واستثمر الزمن.
لم لا يكون الحديث خاصاً للمرأة وعددهن في المجتمع كثير ودورهن في الإصلاح كبير.
ويتأكد الحديث للمرأة، لأن هناك من يخاطبها بلهجة المصلح المتباكي، والمحرر والمنقذ، والله أعلم بما يكتمون؟
ويكون الحديث للمرأة لأن ثمة هدراً في وقتها، وتقطيعاً لأيامها وسني عمرها سدى، واشتغالاً بالتوافه ومحقرات الأمور، ونسياناً أو تناسياً للقيم الكبرى والهدف من الوجود.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/2/1418هـ.(1/1)
أختاه أنت محل اهتمام الإسلام وتقديره منذ أيامه الأولى، ولا تزال آيات القرآن النازلة بشأنكن تتلى، وأنت محل اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصيته، وهو القائل: "استوصوا بالنساء خيراً"، ولقد خصص للمرأة يوماً للحديث والفتيا – وجاء خلفاؤه الراشدون من بعده يؤكدون العناية بالنساء، وفي سير أعلام النبلاء (1) أن عمر - رضي الله عنه - أمر عمرو بن حريث - رضي الله عنه - أن يؤم النساء في رمضان.
أختاه أنت مستودع للخير بما تملكين، ولئن عذرت عن حمل السيف ونكاية العدو، فسلاح القلب وقوة التأثير في مجالات كثيرة تستطيعين، ولقد أبكيت الأئمة، وأنت بالتأثير على غيرهم حرية، وهاك أنموذجاً فاعقليه.
دخل سفيان الثوري رحمه الله على امرأة زاهدة عابدة تدعى أم حسان فلم ير في بيتها غير قطعة حصير. فقال لها: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك ليغيروا من سوء حالك. فقالت: يا سفيان؛ لقد كنت في عيني أعظم، وفي قلبي أكبر. يا سفيان من ساعتك هذه أما إني لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها. يا سفيان، والله ما أحب أن يأتي علي وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير الله. فبكى سفيان (وحق له البكاء)(2).
ويعترف العدو – مع الصديق – بأثرك المشهود في نشر الإسلام والدعوة إليه، ويقول (توماس – و – آرنولد): ومما يثير اهتمامنا ما نلاحظه من أن نشر الإسلام لم يكن من عمل الرجال وحدهم، بل لقد قام النساء المسلمات أيضاً بنصيبهن في هذه المهمة الدينية (3).
__________
(1) 3/419.
(2) أحكام النساء ص143.
(3) الدعوة إلى الإسلام ص451.(1/2)
أختاه.. لقد ذلك لك الجبابرة المستكبرون وأذعنوا، وفاق أثر إيمانك جبروت الطغاة وإن ظلموا. لم يستجب فرعون الطاغية لآسية المؤمنة في شأن إبقاء موسى – عليه السلام – وهو مطلبه الأوحد، ومن أجله كان يقتل ويستحي قال تعالى: { وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } (القصص:9).
ويحدثنا التأريخ أن المغول مع همجيتهم وشدتهم على الإسلام والمسلمين تأثروا بالنساء، ويقال: إن الفضل في إسلام كثير من أمراء المغول – يرجع بعد الله – إلى تأثير زوجة مسلمة.
ويقال أيضاً: ولا يبعد أن يكون مثل هذا التأثير سبباً في إسلام كثير من الأتراك الوثنيين حين أغاروا على الأقطار الإسلامية (1).
أيتها المسلمات.. لا يستكثر هذا ومثله على نساء خالط الإيمان قلوبهن، واستشعرن قيمة الحياة، وقدر الزمن. وكم هو البون شاسع بين هذه النماذج ونماذج أخرى من النساء، الهدف الأسمى عندهن غائب، والوقت يضيع هدراً، الاهتمامات عندهن بسيطة، وهممهن لتقديم الخير لهن ولغيرهن ضعيفة، فتتثاقل إحداهن أداء الواجبات المشروعة، ولربما كانت خطواتها المثيرة للفتنة سريعة.
ولهذا الصنف من النساء يقال: لا بد من التحرر من الوهم، لا بد من الاستيقاظ من النوم، لا بد من الخلاص من عقدة الشعور بالنقص والرغبة في مجاراة الآخرين إن لم تحمد سلوكياتهم، لا بد أن يمتلئ قلب المرأة المسلمة ثقة ويقيناً بأنها قادرة على تقديم الخير في مجتمعها الصغير والكبير، وأن بإمكانها أن تدفع الشر عن نفسها وبنات جنسها.
__________
(1) توماس، الدعوة إلى الإسلام ص451، فضل إلهي، مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص17.(1/3)
أيتها المؤمنات، وحين يكون الحديث عن وقت المرأة وهمتها ولا يتسع المجال للتفصيل في المجالات التي يمكن للمرأة أن تستثمر وقتها فيه، فحسبي أن أثير تساؤلات أدع للمرأة فرصة الإجابة عليها، واختيار ما تراه الأنسب منها، وأقول: أيتها المرأة المثقفة ماذا تقرئين؟ وما الهدف مما تقرئين؟ وما الخطوة الأخرى بعدما تقرئين؟ وهل بغير سهم الإسلام تضربين؟ إن الثقافة قد تكون نعمة، وقد تكون نقمة فمن أي الفريقين تكونين؟
أيتها المرأة العاملة: لماذا تعملين؟ وما أثرك في الإصلاح مع زميلات العمل؟ وهل يلازمك الحياء والبعد عن الخلطة بالرجال قدر ما تستطيعين؟
أيتها المعلمة: هل تشعرين بشرف المهمة، وتقدرين الإمانة وحجم المسؤولية؟ ما موقعك في المدرسة؟ وأي أثر خلفت على الزميلة والطالبة؟
أيتها الطالبة: لماذا تتعلمين؟ وبأي نوع من الأدب تتجملين؟ وهل تطبقين ما تتعلمين؟ كيف العلاقة مع الزميلات وما نوع الاحترام للمعلمات؟
ربة البيت: هل تتذكرين عظيم الأجر فيما تعملين؟ وهل تديرين شؤون المنزل، وترعين حقوق الزوج، وتقدرين مسؤولية التربية، ومع هذا يعطر المنزل بالذكر، وتفوح في جوانبه التقوى، ويكون لك قدوة بمن قيل فيها:
فمها يرتل آي ربك بينما يدها تدير على الشعير رحاها
بلت وسادتها لآلئ دمعها من طول خشيتها ومن تقواها
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل:97).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أعود للمرأة قائلاً:(1/4)
أيتها الفتاة البكر: بم تفكرين؟ وما مواصفات شريك الحياة الذي ترغبين؟ وما نوع الحياة الزوجية التي تأملين؟ وإلام بعد الزواج تتطلعين؟ هل قرأت عن حقوق الزوج؟ وهل لديك عزم وحزم على تربية جيل يسعد أمته ولا يشقيها، ويبني ما تهدم من أركانها؟
أيتها النساء عموماً، بل أيها المسلمون جميعاً إن الوقت ثروة عظيمة والمغبون حقاً من فرط فيها، وإن الحياة تمضي سريعاً. والعاجزون هم أصحاب التمني والتسويف فيها، واسمعوا إلى كلام الحسين البصري يرحمه الله وهو يحذر من التسويف، ويقول: "إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكس فيه (أي اجتهد فيه) كما كست في اليوم، وإلا يكن الغد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم"(1).
ويقول ابن الجوزي: إياك والتسويف، فإنه أكبر جنود إبليس (صيد الخاطر).
أما ابن القيم فيشير إلى صوارف الخير بـ"لعل" و"عسى" محذراً حيث يقول: كلما جاء طارق الخير صرفه بواب: (لعل) و(عسى) [الفوائد].
إخوة الإسلام إن الكسل والتسويف بضاعة الحمقى والمفاليس ولذا قيل: تزوج التواني الكسل فتولد منهما الخسران (2).
وليس يخفى أن العمر، والعام، والشهر، واليوم مضبوط بساعات ودقائق وثوان لا تزيد، ولكنك مع ذلك تلحظ البون شاسعاً بين الناس في استثمارها، وكم بنى بها المشمرون قصوراً عالية في الجنان، وكم كانت سبباً لهلكة أقوام ومعبراً لهم إلى النار، كم شيد فيها أولو همم وأصحاب عزائم من بيوت للعلم، أصبحت منائر تضئ للسالكين، وكم خمل فيها ذكر آخرين، ومرت عليهم السنون، وهم في ظلمات الجهل يتقلبون، كم أشاد فيها عاملون نشطون من صروح الحضارة ما بقي ذكره في العالمين.. وكم ثرب التاريخ على أمم عاشوا على فتات حضارات الآخرين؟
__________
(1) 125 طريقة لحفظ الوقت، محمد بن صالح آل عبدالله ص137.
(2) ابن الجوزي: المدهش، عن 125 طريقة لحفظ الوقت ص137.(1/5)
إنه الزمن لك أو عليك، ومن لم يستثمر حياته بالخير وعمل الصالحات قادته نفسه الأمارة بالسوء إلى مهاوي الردى وعمل السيئات، ولا ينفع الندم حين كشف الحساب عند أهل الغواية والجهل، وبطول مكثهم وعدم استثمار أوقاتهم في الخير يشهد عليهم أهل العلم والإيمان { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } (الروم:من الآية 55-57).
إنه مشد غائب حاضر لا يستبعده إلا الغافلون { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (العنكبوت: من الآية 5-6).
{ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } (الكهف: من الآية110)
أختاه في الإسلام حنانيك أن يضيع وقتك سدى عبر جلسات مطولة لا فائدة فيها، بل ربما حملت نفسك أوزاراً من خلال الحديث المحرم فيها. ووقتك أغلى من أن يضيع في العكوف على سماع أو رؤية أصوات أو مشاهد الفجور والخنا وعمرك أنفس من إضاعته بكثرة النوم. وربما لم تصل الفجر حتى تعالى الضحى، ولربما كان النوم سبباً للخصام مع الزوج للتقصير في الأداء، وضياع الوقت هدراً، وغدا الأطفال يسرحون ويفسدون، وأنت غائبة لطول موتتك الصغرى.(1/6)
أختاه ومن الخطأ أن تعتقدي أن في الذهاب للأسواق بكثرة ما يقطع الوقت، ويجلب السرور والسلوى.. والبيت نعم المستقر لك، وقد قيل لمن قبلك من خيرة النساء: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب:33).
كما أن من الخطأ أن تظني أن رفع سماعة الهاتف وقتاً طويلاً دونما فائدة ترتجى، يجلب السعادة ويمضي به الوقت سريعاً؟
أختاه ليس ذلك حصراً لمواطن هدر الوقت سدى عند بعض النساء. أنت بذلك وغيره أدرى، فاحذري وحذري غيرك من النساء من إضاعة الوقت سدى.
كما أنت أدرى بمواطن استثمار الوقت، وهي من الكثيرة بحيث أوصلها بعضهم إلى (مائة وخمس وعشرين طريقة لحفظ الوقت/ أبو القعقاع محمد بن صالح آل عبدالله) يمكن أن يزاد عليها.
إن الخطوة الأولى – لنا معاشر الرجال، ولكن معاشر النساء – نحو استثمار الوقت هي الشعور بأهميته، يتبع ذلك خطوة أخرى بالهمة والعزيمة الصادقة، ثم تكون الخطوة الثالثة بالعمل والتنفيذ، مع مراعاة القصد حتى تبلغوا، وطاقة النفس حتى لا تملوا "عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا".
أيها الرجال – هذه كلمات وتوجيهات، وإن كانت في أصلها موجهة للنساء، فنحن شركاء في المسؤولية، والمرأة ليست جسماً غريباً عنا، فهي (أم) أو "زوجة" أو "أخت" أو "بنت" أو "قريبة" لنا، والله أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان وعليكم كفل من مسؤولية البلاغ والنصح والمتابعة، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته.
هذا فضلاً عن كون بعض ما جاء فيها يصلح أن يكون خطاباً يوجه للرجل والمرأة على حد سواء.(1/7)
اللهم وفقنا لاستثمار أعمارنا بعمل الصالحات، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة واتباع الهوى والشهوات.
العقيدة الحقة.. وما يناقضها (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى، وقدر فهدى، وله الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، يخفض ويرفع ويقبض ويبسط، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الحكيم الخبير بشؤون أهل الأرض والسماء.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، والمؤتمن على وحيه، والنموذج الأمثل للرضا بما كتب الله وقدر.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بلزوم تقوى الله: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه } (النساء: من الآية131).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/3/1418هـ.(1/8)
أيها المسلمون متقرر عند العقلاء أن الله خلق هذا الوجود لحكمة بالغة، وأن ما يقع فيه من الخير والشر بمشيئته وإرادته، كوناً وقدراً، أو شرعاً وديناً، ومتقرر عند العلماء أن معنى التوحيد: "أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه، يدبر أمر عباده وحده، فلا خالق ولا رازق، ولا معطي ولا مانع، ولا مميت ولا محيي، ولا مدبر لأمر المملكة – ظاهراً وباطناً – غيره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه وأحاطت بها قدرته، ونفذت بها مشيئته واقتضتها حكمته"(1).
أيها الناس إن امتلاء القلب بهذه الحقيقة الكبرى لا يدعو إلى الكسل والتواكل والتراخي والتقصير في أداء الطاعات والواجبات.. اعتماداً على التقدير الأزلي، والربوبية الشاملة لحركة هذا الكون ومن فيه، فذلك فهم سلبي لمعنى التوحيد. وإنما يدعو التوحيد الحق إلى العبودية الحقة المشتملة على الطاعة والتسليم، والقيام بحقوق الخالق من المحبة والتعظيم وإفراده بالألوهية والعبادة الخالصة، وانشراح الصدر لفعل المأمور والبعد عن المحظور.
إن التوحيد الحق دعامة الإيمان، والإيمان الحق قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح.
وبالإيمان والتوحيد يستشعر المؤمن السعادة الحقة في الدنيا، قبل أن يصل إلى السعادة الكبرى حين يلقى الله، وهو راض عنه يعمل المسلم جهده في سبيل الخير، وإن كانت الأمور مقدرة في علم الله من قبل، فهو لا يعلم قدر الله من جانب، وهو من جانب آخر يعمل بوصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :"اعملوا فكل ميسر لما خلق له..".
__________
(1) ابن القيم: مدارج السالكين 3/510.(1/9)
وهو يتلو كتاب ربه، وفيه قوله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (ا5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (ا8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (الليل:من الآية5-10).
عباد الله هناك نوع من الإيمان تجرى عليه الأحكام، وتقسم به المواريث، ولكنه لا يمنح صاحبه سعادة في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة، ذلكم هو إيمان المنافقين والمرائين الذين يظهرون للناس خلاف ما يبطنون.
أما الإيمان الذي يحقق لأصحابه السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، فهو الإيمان الحق، الذي يتفق الظاهر فيه مع الباطن، وهذه علمها وحكمها عند علام الغيوب، وسوف يكشف المخبوء، يقول سفيان الثوري، وابن المبارك رحمهما الله: "الناس عندنا مؤمنون في المواريث والأحكام، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل"(1).
فإياك إياك يا عبدالله أن تغتر بستر الله عليك، وإياك أن تتخذ من غفلة الناس عن حقيقتك مزيداً من التمادي في المخادعة والنفاق والسير في طريق الضلال؟
إخوة الإسلام وف يحال غربة الإسلام تتغير المفاهيم، وتختل الموازين، ويظن أقوام أن مجرد تصديق اللسان يكفي للإيمان حتى وإن كان القلب شاكاً فاسداً، وحتى لو كانت الجوارح تعب من الفساد عباً، وحتى وإن ضيعت الواجبات، وانتهكت المحرمات.
ذلكم فكر الإرجاء، ومعتقد المرجئة: أنه لا يضر مع الإيمان معصية. وعكسهم الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة.
وأما أهل السنة والجماعة فوسط بين الغالي والجافي. يقول أئمتهم: إن الإيمان عمل الجوارح. فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، فلا يتحقق الإيمان بالرسول مع ترك الطاعة بالكلية.
__________
(1) السنة للخلال 3/567، والإبانة لابن بطة 2/872 عن نواقض الإيمان؛ د. العبد اللطيف ص29.(1/10)
قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (النساء: من الآية64).
ويقولون: إن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ولازمة لها، فالقلب إذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يختلف البدن عما يريده القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب.."(1).
إن الإيمان الحق يحدث خشية في القلب، تسري على الجوارح؛ فتصلحها فتنشط لعمل الصالحات.. وتتورع قدر الطاقة من فعل المحرمات، وإن ضعفت ووقعت في شيء من المحظورات ندمت، واستغفر صاحبها { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } (النساء:110). أو زاد من فعل الحسنات: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } (هود: من الآية114).
وإذا صح الإيمان وحيا القلب تعلق العبد بالله تعلق المضطر المنيب المنكسر المسكين، وأحدث له من الأثر ما تحمد عقباه عاجلاً وآجلاً.
يقول الإمام ابن القيم يرحمه الله: "ولا يزال يضرب هذا القلب السليم على صاحبه، حتى ينيب إلى ربه، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المضطر، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه، والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن ويأوي، وبه يفرح وعليه يتوكل، فإذا حصل له هذا سكن وزال اضطرابه، وانسدت تلك الفاقة.
إن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله أبداً. وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له، فحينئذ يباشر روح الحياة، وإذا تعلق القلب بالله استغنى به عن كل ما سواه فيستغني عن المخلوقين ويعظم ربه"(2).
__________
(1) الفتاوى 7/187، 541، 221.
(2) إغاثة اللهفان 1/71.(1/11)
يا أخا الإيمان إذا أردت أن تمتحن قلبك أسليم هو أم مريض فانظر مدى تعظيمك لخالقك وقدره عندك، والله يقول: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (الزمر:67).
وتأمل خشوعك في صلاتك، فهي من علائم الإيمان { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } (المؤمنون:1-2).
قال العارفون: وإذا كبرت أيها المصلي فلا يكذبن قلبك لسانك، لأنه لو كان في قلبك شيء أكبر من الله تعالى فقد كذبت، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر، بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى، فإذا استعذت فاعلم أن الاستعاذة هي ملجأ إلى الله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وإذا ركعت فاستشعر التواضع، وإذا سجدت فاستشعر الذل بين يدي الله، لأنك وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود في التراب الذي خلقت منه، واعلم أن أداء الصلاة بهذه الكيفية سبب لجلاء القلب من الصدأ.. (1).
الخبطة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده حمد الشاكرين الذاكرين، وأتوب إليه وأستغفره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
إخوة الإسلام..
أما تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبته فتكون بطاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
__________
(1) إذا صح الإيمان، عبدالله السلوم ص60، 61.(1/12)
ولا بد أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه وأهله وماله وولده والناس أجمعين: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (التوبة:24).
وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
ولكن هذه المحبة مضبوطة بضوابط الشرع، لا ينبغي أن يتجاوز المحب فيها حدود الله، ولا يصرف شيئاً من أنواع العبادة: كالدعاء والاستغاثة والنذر والتوكل ونحوها لغير الله.
وتلك مزلة غلط فيها قوم، فغلوا في حبهم، وتجاوزوا المشروع في تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال قائلهم ظلماً وعدواناً.
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
وجرى آخر في شركة حتى قال:
وحل عقدة كربي يا محمد من هم على خطرات القلب مطرد
أرجوك في سكرات الموت تشهدني كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلت ضريحاً لا أنيس به فكن أنيس وحيد فيه منفرد
وقال بعضهم زوراً وبهتاناً:
يا سيدي يا صفي الدين يا سندي يا عمدتي بل وياذخري ومفتخري
أنت الملاذ لما أخشى ضرورته وأنت لي ملجأ من حادث الدهر
إلى قوله:
وامنن علي بتوفيق وعافية وخير خاتمة مهما انتقضى عمري
وكف عنا أكف الظالمين إذا امتدت بسوء لأمر مؤلم نكري
فإنني عبدك الراجي بودك ما أملته يا صفي السادة الغرر(1/13)
قال بعض العلماء: فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة، وما أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر؟ (1).
معاشر المسلمين! هذه نماذج من شركيات وغلو في جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كانت ولا تزال تتكرر في مناسبات المولد المزعوم؟
ويتجاوز المادحون فيها حدود الشرع والعقل، وما هي إلا بدع ابتدعوها وسنها أصحاب الملل والنحل والطرق الصوفية، فراج سوقها عند طوائف من المسلمين، ظنها البعض منهم عبادة وقربة، وهي منكرات وشركيات مبتدعة. ومن عجب أن هؤلاء المادحين وأصحاب الأعياد البدعية لا يكاد بعضهم يعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذه المناسبة، وهم أجهل الناس بسنته، وأزهدهم في هديه، فصار حظهم منه - صلى الله عليه وسلم - مدحه بالأشعار والقصائد والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه.. وذلك نوع من تلاعب الشيطان بالإنسان، نسأل الله السلامة والعافية لنا ولإخواننا المسلمين.
أيها المسلمون لقد حمى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد، وسد طرق الشرك، وهو القائل للوفد الذين وفدوا عليه، وقالوا له: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله تبارك وتعالى"، قالوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال عليه الصلاة والسلام، "قولوا: بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان"(2).
ونهى وحذر عليه الصلاة والسلام أمته قبل موته من إطرائه والغلو فيه فقال:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبدالله ورسوله".
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص187، 189، 191.
(2) رواه أبو داود بسند جيد (تيسير العزيز الحميد ص662).(1/14)
ومستقر عند العلماء أن: "من الشرك أن يستغيث المرء بغير الله أو يدعو غيره، قال الله تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } (الرعد:14).
وقال تعالى: { وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (يونس:107).
قال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً. ونقله عنه غير واحد من أهل العلم مقرين له.
وقال ابن القيم: ومن أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد.."(1).
عباد الله! إن صحة المعتقد شرط في المغفرة ودخول الجنة: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } (النساء: من الآية 48)، { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } الكهف: من الآية110).
__________
(1) شرح المنازل.. عن تيسير العزيز الحميد ص195.(1/15)
وإن فساد المعتقد وانتشار البدع في مجتمعات المسلمين معوق من أهم معوقات النهوض ببلاد المسلمين، ولن يستكمل المسلمون أسباب النصر حتى تصفو عقائدهم، ويصدقوا في إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. تلك خلاصة دعوة الرسل عليهم السلام وما أوحى الله به إليهم: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الانبياء:25).
الخير المكروه (1)
الخبطة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، فتقوى الله أمان من كل خوف، وبها المخرج عند كل فتنة، بها تكفر السيئات، وتعظم الأجور، وتتوفر الأرزاق، وتيسر الأمور.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } (الحج:1).
أيها المسلمون وكثيرة هي توجيهات القرآن وحقائقه التي تستدعي الانتباه، وتستحق التوقف عندها، وأخذ العبرة منها، وكلنا – لغفلتنا وتقصيرنا – نمر عليها مر الكرام، فلا تحدث في أنفسنا الأثر المطلوب، ولا تهذب سلوكياتنا، ولا تكسر حدة الشهوة والطمع في نفوسنا، وهي كفيلة لو آمنا بها – حق الإيمان – وصدقنا – بتوفير السعادة وتحقيق الرضا، وتثبيت اليقين.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/3/1418هـ.(1/16)
ومن هذه الحقائق: أن الخير قد يكون فيما تكرهه النفس ابتداءً لجهلها بما يؤول إليه، وقد يكون الشر فيما تحبه النفس وتهواه.. إن الخير المكروه، والشر المحبوب حقيقة وقدر إلهي، أشار إليهما القرآن وكشف فيهما عن علم الله، وجهل الإنسان، فقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (البقرة:216).
وهذه الآية وإن نزلت في إيجاب جهاد الأعداء، حتى قال الزهري يرحمه الله: الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد. القاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد.
وفي الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة كاهلية"(1).
فمعنى الآية أعم، وأن الخير يكون فيما تكرهه النفس أحياناً، وأن الشر يكون فيما تهواه النفس أحياناً وتحبه، والله وحده يعلم والناس لا يعلمون.
ومن عجب أن يقضي الله قضاءً لابن آدم، يبيت بسببه غضبان أسفاً، وقد اختار الله له الخير وهو لا يدري، ولربما بات فرحاً جذلاً جراء مسرةٍ ظاهرة واتته، وقد يكون فيها حتفه، ولذا جاء توجيه القرآن بلسماً شافياً { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (الحديد:23).
معاشر المسلمين إن هذه الحقيقة القرآنية تبدو واضحة على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، وهي حقيقة يشهد بها الماضي ويؤكدها الحاضر، وستظل ماثلةً في المستقبل تشهد بإعجاز القرآن، وتؤكد علم وتقدير الرحمن.
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/394.(1/17)
أما على مستوى الفرد فقد كتب الله على كل إنسان حظه من الفقر والغنى، والمرض و الشفا، ومحبوبات النفس ومكروهاتها، والمهم أن المرض ربما كان فتحاً للمريض تحول به من حال إلى حال، وكذا الفقر ونحوهما من مصائب الدنيا، ولربما كان الغنى سبباً للطغيان والفجور، ولربما كانت الصحة سبيلاً للغفلة والفسوق، ولا يعني ذلك بحال أن يتمنى المرء المرض أو الفقر، وإنما القصد أن يشكر المسلم ربه حال السراء، ويصبر نفسه ويرضى بقضاء الله وقدره له حال الضراء، وهو في كل أحواله ينتقل من عبودية إلى عبودية أخرى.
أما على مستوى المجتمع فقد يبتلى الناس بالشر والخير فتنة، وحينها يميز الله الخبيث من الطيب، ويتبين الصادقون من الكاذبين، وتتحول الضراء والفتن عند بعضهم إلى سراء ومنح لا يعلم مداها إلا الله، وتنقلب السراء الظاهرة عند البعض منهم إلى بلايا ومحن يتمنون المخرج منها. ولرب نازلة يضيق بها الفرد أو الملأ، تحولت إلى خير ونعمة مع الصبر والإيمان والتقى، وشواهد ذلك كثيرة تفوق العد والإحصاء.
إخوة الإسلام ومن شواهد الماضي أسوق لكم نموذجاً وقع في خير القرون مؤكدا حقيقة: { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } (النساء: من الآية19).(1/18)
فقد عقد رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - مع مشركي مكة (صلح الحديبية) وكانت شروطه – فيما يبدو ظاهراً – مجحفة بحق المسلمين، فالمسلمون المحرمون يحلون إحرامهم دون عمرة، ويقضونها في العام المقبل، ومن جاء إلى المسلمين من قريش بغير إذن وليه، يرد، ولو كان مسلماً فاراً بدينه. ومن جاء قريشاً من المسلمين يقبل ولا يرد – إلى غير ذلك من بنود الصلح، الأمر الذي تذمر منه المسلمون وتألموا له، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي لم يتمالك نفسه حتى جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: "بلى"، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى"، قال (عمر) فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً".. ثم ذهب إلى أبي بكر، وقال له نحواً من ذلك (1).
أما رواية ابن اسحق فقد جاء فيها: أن المسلمين حين رأوا ما رأوا من الصلح، وما تحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا..(2).
ومع ذلك فقد انجلت هذه الشدة التي كرهها المسلمون في البداية وتحولت – بقضاء الله وتقديره – إلى فتح مبين، ونزلت البشارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك من قبل أن يصل المدينة قافلاً بقوله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } (الفتح:1)، وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة (الفتح) إلى آخرها على عمر، فقال: يا رسول الله: أو فتح هو؟ قال: "نعم"(3).
__________
(1) هذه رواية البخاري ح3182 كتاب الجزية.
(2) ابن هشام 3/308، ومسند أحمد 4/325، ومرويات الحديبية ص172.
(3) رواه البخاري.(1/19)
إخوة الإيمان وإذا كان هذا فيما تكرهه النفس وفيه الخير لها، ففي ما تحبه النفوس وإن كان فيه ضير عليها، يحدثنا الإمام القرطبي يرحمه الله عن واقع مر ابتلي به المسلمون في بلاد الأندلس، ويقول هو يفسر قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } (البقرة: من الآية216) قال: والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال، وهو شر لكم في أنكم تغلبون، وتذلون ويذهب أمركم، قلت (القرطبي): وهذا صحيح لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟ وأسر وقتل، وسبى، واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته (1).
إخوة الإسلام أما النموذج الثالث فيجليه لنا الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهو يشهد في عصره اجتماع الأحزاب على إبادة المسلمين، فيسلي المسلمين ويشحذ هممهم، ويتفاءل بالشر يعقبه الخير، وبالشدة يتلوها الفرج، ويقول مقارناً بين غزوة الأحزاب في زمن النبوة، وغزو التتر والفرس والنصارى للمسلمين في زمنه: "كذلك – إن شاء الله – هؤلاء الأحزاب من المغل، وأصناف الترك، ومن الفرس والمستعربة، والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب الله على من يشاء من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم، ويحسن ظنهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم..
__________
(1) تفسير القرطبي 3/39.(1/20)
بل وينظر الشيخ للحادثات الكونية التي يبدو فيها الضر نظرة خير وإن كرهها غيره فيقول: "وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرةٍ، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرة عظيمة، وفيه لله حكمة وسر، فلا تكرهوه، فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل سبب رحيلهم، وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه"(1).
وكذلك ينظر أهل القرآن بنور الله، وما أحوج الأمة إلى رجال كهؤلاء يعيدون الثقة إلى النفوس، ويبعدون الناس عن اليأس والإحباط، مهما ادلهمت الخطوب وكثر المكروه وتجمعت الأحزاب، وساءت الظنون ولف الكون خيوط الظلام – فالعسر معه اليسر، والصبر معه النصر، والغبار سيتجلى، والعاقبة للمتقين.. وصدق الله وهو أصدق القائلين.
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } (الانبياء:من الآية 105-106),
وصدق الله إذ يقول: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) } (الصافات: من الآية 171-177).
الخطبة الثانية
الحمد لله العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحكم ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة من أمرهم.
__________
(1) الفتاوى 28/462، 463.(1/21)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عاش حياته راضياً مرضياً رغم ضيق العيش حيناً، وكيد الأعداء حيناً، ولم تكن حياته عليه الصلاة والسلام من الأكدار والمنغصات صفواً.
اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون ومن صفحة الماضي إلى ظروف الحاضر نتأمل حقيقة القرآن { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم } (البقرة: من الآية216) فبالأمس القريب تنمرت الشيوعية الحمراء وحكمت الشعوب المسلمة المحيطة بها بالنار والحديد، وبات المسلمون حيناً من الدهر يصلون ويتلون القرآن في السراديب المظلمة والخلوات، وامتدت هذه الأفعى لتغزو أجزاء من عالمنا الإسلامي بقوة السلاح، وبل امتد أثرها الفكري ليغزو العقول النخرة، ونبتت في العالم الإسلامي نابتة يسارية الفكر والمعتقد، لغرض أو لآخر. وحين بلغ السيل الزبى، وبلغ الكره والتأفف للواقع الإلحادي مداه.. كانت النهاية قاب قوسين أو أدنى، وأخيراً تحطمت الدولة الشيوعية الكبرى على مرأى الناس ومسمع، وأصيب الأتباع بالذهول، وكانت البشرى للذين آمنوا وضاقوا من قبل بها ذرعاً، وتنفس المسلمون الصعداء، وعسى أن يكره الناس شيئاً ويجعل الله من بعده خيراً كثيراً.
واليوم نشهد بأم أعيننا عطرسة اليهود وتطرفهم، وهم يسيئون إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويستفزون مشاعر أكثر من مليار مسلم، ويصل بهم التطرف والغطرسة إلى تصوير الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هيئة خنزير – قاتلهم الله أنى يؤفكون – وتنشر هذه الصور المزرية على مرأى من العالم ومسمع؟
ثم لا يقف التحدي العقدي عند هذا الحد، بل يستخرج القرآن ويمزق أمام أعين المسلمين؟
لقد ضاق المسلمون ذرعاً بهذه التصرفات الرعناء، ومن قبل كره المسلمون وصول المتطرفين من اليهود لحكم إسرائيل.. ولكن { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (البقرة: من الآية216).(1/22)
أجل إن المتأمل في الأحداث الجارية على الساحة يرى أن في هذا الشر الظاهر خيراً كثيراً في الباطن.
فالأحداث تكشف أولاً حقيقة اليهود لمن به غبش في الرؤية أو خداع في النظرة، ويتولى اليهود بأنفسهم رسم الصورة الحقة لنفسياتهم ومعتقداتهم وأخلاقهم وطبيعة نظرتهم للأديان والشعوب، وهذه حقيقة لو مكث العلماء، والدعاة وأهل الاختصاص، والخطباء حيناً من الدهر لكشفها وبيانها للناس لم تصل أثر كلماتهم وخطبهم إلى ما وصلت إليه أفعال اليهود أنفسهم، فهل أبصرتهم هذا الخير من وراء هذا الشر؟
وتكشف أحداث اليهود الراهنة ثانياً عن حقيقة التطرف، وأصناف المتطرفين، ويتهاوى المصطلح العالمي الحائر بوصف المسلمين بالتطرف على أصداء التطرف الحق لبني صهيون؟
وثالث جوانب الخير الذي نرجو أن يتحقق عاجلاً من وراء هذا الشر المستطير أن تستفز هذه التصرفات المشينة مشاعر المسلمين، ويستيقظ أصحاب السبات منهم على ضربات اليهود الموجعة، فيهبوا مدافعين عن عقيدتهم، وكأن اليهود بتصرفاتهم يقولون للمسلمين: هكذا نفعل بنبيكم وكتابكم، فأين أنتم؟ وماذا تفعلون؟
إن هذا التحدي السافر حري بأن يوحد كلمة المسلمين، ويجمع شتاتهم، وينسيهم أضغانهم، ويضيق هوة الخلاف في اجتهاداتهم، فالخطر يهددهم جميعاً، والعدو يكشر لهم عن أنيابه، وخطوة اليوم من إخوان القردة والخنازير سيتبعها خطوات أكثر جرأة، إذا لم يع المسلمون دورهم، ويستعدوا لمنازل عدوهم.(1/23)
أما الرابعة من جوانب الخير المتوقعة من وراء هذا الشر، أن تكون هذه الكبرياء وذلك السوء في المعتقد والخلق من يهود مؤشراً لنهاية هذا الجسم الغريب في الأمة المسلمة، ومعجلاً بالمنازلة المحتومة النتائج مع اليهود "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود"(1).
إن سلبيات واقعنا المعاصر كثيرة ومتنوعة، وإن رعود الشر تبرق هنا وهناك، وإن الغصص والمآسي التي يراها المسلم أو يسمعها تدمي الفؤاد وتبكي العيون.. ومع ذلك فبإمكان المسلمين أن يحيلوا هذه السلبيات إلى إيجابيات حين يعودون إلى دينهم، ويعرفوا حقيقة أعدائهم وطبيعة المعركة معهم، ويأخذوا بأسباب العدة والنصر التي أمروا بها، ولا يركنوا إلى الذين ظلموا، ولا ينتظروا النصف والنصرة من أعدائهم فالكفر ملة واحدة، ولن يرضى اليهود ولا النصارى عن المسلمين إلا باتباع ملتهم، وما النصر إلا من عند الله.
خير القرون (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه.
اتقوا الله عباد الله – ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (الحج:من الآية 1-2).
إخوة الإسلام وما أحوج الأمة إلى مثل ونماذج صادقة تحذو حذوها، ورجالات ذات همم صادقة وعالية يقتدى بها، ويستضاء بتاريخها.
__________
(1) الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/4/1418هـ.(1/24)
وفي أمة الإسلام نجوم ومصابيح دجى أشرق نورها فترة من الزمن في هذا الوجود، ولئن ماتوا بأجسادهم فلا زال تاريخهم ولن يزال غضاً طرياً يستنهض الهمم ويجلو الريب، ويبعث على الجهاد والتضحية في سبيل الله، إنهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير القرون، وأولئك القوم الذين اختارهم الله لصحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وخصهم بفضل الصحبة – دون سواهم – وما كان اختيارهم على غيرهم فرطاً، بل كان قدراً – من عند الله – مقدوراً.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء"(1).
هم القوم أعلى شأنهم القرآن، وأثنى الله فيه على المهاجرين والأنصار، ورضي الله عن أصحاب البيعة تحت الشجرة، وتاب على الذين اتبعوه في جيش العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ولئن فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على من أسلم بعدهم، فكلاً وعد الله الحسنى وكفاهم فخراً – أن يقول الله فيهم ومن اتبعهم بإحسان: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:100).
__________
(1) رواه أحمد، 1/379(3599).(1/25)
صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمنة للأمة، وبذهابهم أتى الأمة ما كانوا يوعدون، قال عليه الصلاة والسلام: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون"(1).
قال صاحب النهاية: والأمنة في الحديث جمع أمين وهو الحافظ، وفي الحديث إشارة بالجملة إلى مجيء الشر عند ذهاب أهل الخير (2).
أمة الإسلام، لقد أخبر الصادق المصدوق عن فضلهم وحكم بعلو منزلتهم فقال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
قال عمران بن حصين - رضي الله عنه - - الراوي – فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة –"ثم إن بعدهم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن"(3).
ونهى عليه الصلاة والسلام وكرر النهي عن سبهم حين قال: "لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه"(4).
وأجمع أهل السنة والجماعة على عدالتهم، حتى قال الخطيب في الكفاية: "والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق لهم، فهم على هذه الصفة إلى أن يثبت على أحد ارتكاب مالا يحتمل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده إلى أن قال:
__________
(1) رواه مسلم 4/1961.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر 1/70، 71.
(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما (جامع الأصول 8/547).
(4) أخرجه مسلم (2540) (جامع الأصول 8/553).(1/26)
"على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرنا لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين"(1).
أيها المسلمون ولفضل الصحابة يفتح للمسلمين إذا كانوا فيهم، ويفتح لمن صحبهم، أو صحب من صحبهم، وتلك كانت هي فترات القوة للبعوث الإسلامية، والجهاد إلى بلاد الكفار، أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم، فيفتح لهم"(2).
وفي لفظ: "هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
وهذا الحديث يستفاد منه عدة أمور ومنها:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الحكم بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به، وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة، ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - (3).
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص93-96.
(2) جامع الأصول 8/551.
(3) نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 4/465).(1/27)
قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد من الحديث بطلان قول من ادعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبة، لأن الخبر يتضمن استمرار الجهاد والبعوث إلى بلاد الكفار، وأنهم يسألون: هل فيكم أحد من أصحابه؟.. وكذلك في التابعين، وفي أتباع التابعين. وقد وقع كل ذلك فيما مضى، وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك على ما هو معلوم مشاهد من مدة متطاولة ولا سيما في بلاد الأندلس"(1).
وإذا كان هذا في زمن ابن حجر، فكيف لو أبصر حال المسلمين اليوم؟ وقد أصبحت بعوثهم التنصيرية تغزو بلاد المسلمين، وتدرس في السياسات الخارجية للدول الكبرى مشروعات تنصير المسلمين، ومحاولة الضغط عليهم بالمنح والقروض، ولكن { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة: من الآية 32-33).
اللهم انفعنا بالقرآن، وهدي محمد عليه الصلاة والسلام…
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يختص برحمته من يشاء، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضل هذه الأمة بالتراحم فيما بينها، فيستغفر اللاحقون للسابقين، على حين كانت الأمم الجاهلية قبلهم يلعن بعضهم بعضاً؟ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أوحى إليه ربه أفضلية قرنه، وشهد لصحابته بالخيرية على من سواهم، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أيها المسلمون ويقول القاضي عياض يرحمه الله عن ميزة الصحابة:
"وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بالقياس"(2).
__________
(1) الفتح 7/5.
(2) شرح مسلم 16/93.(1/28)
أما عما شجر بينهم، فيقول الذهبي يرحمه الله: "كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم، وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب.. فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء..
إلى أن يقول: فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبيهم من ذلك فلا نعرج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أورد مافي الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سكران"(1).
هذه معاشر المسلمين مقتطفات عاجلة من معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة، وتلك قناعات ومنطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين، ولا تتأثر بتشكيك المشككين.
وإذا كانت أعراض المسلمين – بشكل عام – مصونة في الإسلام، فأعراض الصحابة وهم أهل الفضل والسابقة والجهاد أولى بالصيانة والدفاع قربة لله عز وجل، وتقديراً لمآثرهم وجهادهم. وقد نص العلماء قديماً على تحريم سب الصحابة، وأرشدوا إلى عقوبات تعزيرية لمن فعل ذلك معهم.
قال الإمام النووي يرحمه الله: "وأعلم أن سب الصحابة - رضي الله عنه - حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره"(2).
وقال الإمام أحمد: "إنه يجب على السلطان تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه"(3).
واعتبر القاضي عياض تعزيز من سب الصحابة مذهب الجمهور (4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10/92، 93.
(2) النووي: شرح مسلم 16/93.
(3) رسالة السنة ص78، وانظر: السلمي، في منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص219.
(4) شرح مسلم 16/93.(1/29)
بل نقل عن بعض المالكية؛ أنه يقتل. وحكم الإمام أحمد يرحمه الله على نوعية الطاعنين في الصحابة فقال: فمن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد منهم، أو تنقصه أو طعن عليه أو عرض بعيبهم أو عاب أحداً منهم فهو مبتدع رافضي.
أيها المسلمون لما هذه العناية بأعراض الصحابة؟ ولماذا الدفاع عنهم؟ لأن هناك مكمن خطر في سبهم أو التعريض بهم وعدالتهم، فهم نقلة الدين، والطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين.
وهذا ما نبيه إليه الإمام أبو زرعة الرازي يرحمه الله حين قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة (1).
عباد الله لا بد من التنبه لمثل هذه الأفكار المتسللة، التي تحاول بين الفنية والأخرى الطعن في أحد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، سواء كانت بعبارات صريحة أو ملفوفة، أو استخدمت أسلوب التشكيك في وجود هذا الصحابي وأسطوريته، فتلك رغم ما فيها من جرأة تحطم الحجب الواقية لهذا التاريخ المجيد، الذي أجمعت عليه الأمة، هو كذلك إشغال للأمة بقضايا جانبية، لا يحتمله تاريخ الأمة المثقل بكثير من القضايا والهموم، ليس اجتماع الكيد الصليبي مع التطرف اليهودي على العبث بمقدسات المسلمين ومحاصرة وتجويع أبنائهم إلا واحدة من هذه القضايا المؤلمة، التي تحتاج من المسلمين إلى عمل دؤوب وصدق في اللقاء، يدفع الله به كيد الكائدين.
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص97.(1/30)
وإذا قدر لهذه القضايا أن تبحث فينبغي أ، يوسد الأمر إلى أهله، وأن يتوفر على ذلك علماء متمكنون في عملهم صادقون في توجههم، برآء من أي تهمة في سلامة معتقدهم، وأن يكون على مستوى الخاصة، وألا تفتن به العامة، وألا تكون قضية مطروحة للمزاد، يهرف فيها من لا يعرف، ويظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف.. وليت شعري كم تنطق الرويبضة ويتصدر السفهاء إذا غاب عن الساحة صوت العلماء، أو توارى خلف الحجب رأي النبلاء.. ومع ذلك فالزبد سيذهب جفاء، ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، وكذلك اقتضت حكمة الله في الصراع بين الحق والباطل قديماً وحديثاً، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينحاز الصادقون، وينكشف – ولو بعد حين – الكاذبون، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا ابتاعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
المسلمون والإعلام (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون لعلكم ترحمون، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/5/1418هـ.(1/31)
أيها المسلمون تحتاج أي أمة من الأمم إلى وسيلة تنشر بها تراثها، وتوصل – عن طريقها – للآخرين أساليب حضارتها، ومقومات فكرها، أياً كانت هذه الحضارة، وأياً ما كان نوع هذه الأفكار المصدرة.
وتتشكل هذه الوسيلة – لنقل الحضارة والأفكار – حسب ظروف الزمان والمكان، وتتطور وفق تطور الحضارات وتفوق الأمم.
هذه الوسيلة اصطلح عليها مؤخراً باسم "وسائل الإعلام" وحين يعرفه الغربيون بأنه "التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت"(1).
فهو في نظرة المسلمين أداة هامة؛ لنقل الخير والدعوة إليه، والتعريف بالشر والتحذير منه، أو هو باختصار كما قال أحد المختصين المسلمين بالإعلام: هو إعلاء كلمة الله في كل عصر بكافة وسائل الاتصال المناسبة لكل عصر، والتي لا تتناقض مع مقاصد الشريعة الإسلامية (2).
أجل لقد استخدم الأنبياء عليهم السلام وسيلة البلاغ للناس أسلوباً من أساليب الدعوة إلى دين الله، والتعريف بخالق الكون والحكمة من الوجود في هذه الحياة، وذلك بالأسلوب واللغة التي تناسبهم، كل ذلك ليتحقق البلاغ، ويصل البيان، وتقوم الحجة، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (ابراهيم:4).
وقيل لخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (المائدة: من الآية67).
__________
(1) الإعلام الإسلامي، د. محيي الدين عبد الحليم ص21.
(2) د. زين العابدين الركابي، النظرية الإسلامية في الإعلام، عن: وسائل الإعلام وأثرها.. الغلايني ص46.(1/32)
فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأشهدهم على البلاغ، أشهد ربه – وهو به أعلم – أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"يا أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت، فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكثها إلى الناس: "اللهم اشهد" ثلاث مرات.
إخوة الإيمان ومنذ القدم عرف الناس البلاغ ووسائل التأثير، فهذا موسى عليه السلام – في سبيل دعوته لفرعون وقومه – رغب أن يكون إحقاق الحق وإبطال الباطل على ملأ من الناس، وفي يوم اجتماعهم: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } (طه:59).
وفرعون في المقابل يبعث في المدائن حاشرين مثيراً ومضللاً: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } (الشعراء:من الآية54-56).
وينقلب السحر على الساحر، ويعلو الحق الأصيل، وينكشف الباطل المزيف.
وسليمان عليه السلام يستخدم الكتاب أسلوباً من أساليب الدعوة لملكة سبأ التي قالت: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (ا29)إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } (النمل:من الآية 29-31).
وكانت النتيجة: { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (النمل: من الآية44).(1/33)
والعرب قبل الإسلام انتشرت لديهم وسائل كثيرة للاتصال تتلاءم مع طبيعة تلك المرحلة، فعن طريق التجارة كانوا ينقلون الأخبار ويطلعون على الأحوال، وأسهمت البعثات اليهودية والنصرانية المتتابعة لأرض الجزيرة العربية في نقل أفكار الأمم المجاورة ومعتقداتها، وكانت إمارتا الحيرة والغساسنة على تخوم الفرس والروم صلة الوصل بين العرب والأمم التي تجاورها، وبين العرب أنفسهم كانت توجد وسائل اتصال فيما بينهم عن طريق الشعر والخطابة، والأعياد والأسواق وإشعال النار على رؤوس الجبال، وعقد الندوات والمشاورات (1).
وحين جاء الإسلام استبقى ما هو صالح للبقاء من هذه الوسائل وزاد عليها، فكان المسجد قاعدة ينطلق منها المسلمون إثر تجمعهم وتشاورهم، وكانت خطبة الجمعة بلاغاً للحاضر والباد، ونافح الشعراء والخطباء المسلمون عن الإسلام ونبي الإسلام، مؤيدين بملائكة السماء "اهجهم وروح القدس يؤيدك".
وكتب عليه الصلاة والسلام إلى ملوك الأرض، وأرسل الرسل يدعوهم إلى الإسلام، وكانت البعثات التعليمية والدعوية الموجهة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجوب جزيرة العرب وسطها وأطرافها، فبلغت الدعوة اليمن والبحرين والحبشة، وأرض فارس والروم، ومقوقس مصر.. وغيرهم.
ثم جاءت حركة الفتوح الإسلامية والجهاد في سبيل الله لتنشر دين الله في الآفاق، ولم يبق بيت وبر ولا مدر، ولا أحمر ولا أسود إلا بلغتهم الدعوة. ووقف المجاهد الشهم في سبيل الله على ساحل البحر ليقول كلمته: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر بشراً لم تبلغهم دعوة الإسلام لخضت البحر إليهم.. الله أكبر، ويفوح شذى الذكريات، وإن كانت مؤرقة.
إني تذكر والذكر مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه؟
__________
(1) محمد موفق الغلايني، وسائل الإسلام ص36.(1/34)
واستمر المسلمون، والعالم الآخر من حولهم يعنون بوسائل الإعلام وأساليب التأثير – ولكل وجهة هو موليها – حتى إذا كان العصر الحاضر تطورت وسائل الإعلام، وبلغت في تنوعها وتقنيتها وأساليب تأثيرها شأواً بعيداً، وأصبح العالم الكبير يعيش وكأنه في قرية واحدة – كما يقال – لا تخفى أحداث الغرب على من هو في الشرق، ولا من هو في الشمال على من هو في الجنوب، والعكس. ولكن المؤلم والمؤسف أن مراكز القيادة الإعلامية، وقنوات التأثير الكبرى، ووكالات الأنباء العالمية من نصيب غير المسلمين، ويمتلكها مناوئون للإسلام وقوم خصمون للمسلمين، يكفي – دليلاً على ذلك – أن تعترف الصحف الغربية نفسها بسيطرة اليهود على الصحافة العالمية – وخاصة في أوربا وأمريكا – ومنذ أمد بعيد (1).
وليس يخفى سيطرة اليهود كذلك على أغلب وكالات الأنباء، وهذا يفسر التعتيم الإعلامي على كثير من قضايا المسلمين من جانب، وإشغال الناس بقضايا تافهة وفرضها على الإعلام العالمي، لأنها تخدم أغراضاً معينة يريد تصديرها أولئك المنتقدون من جانب آخر – والله المستعان.
أيها المسلمون ومكمن الخطر أن وسائل الإعلام باتت وجهة للرأي العام – بشكل عام – والمتفوق في هذا الميدان يفرض حضارته، ويصدر أفكاره، ويحشر الآخرين معه في اهتماماته ولو كانت ساذجة، ويؤثر في مشاعر الناس في أحداثه ولو كانت ساقطة.
__________
(1) اعترفت بذلك صحيفة الجرافيل اللندنية عام 1879م (الغلاييني، وسائل الإعلام ص240).(1/35)
أجل إن من أبرز الآثار التي خلفها الإعلام المعادي على مجتمعات المسلمين زعزعة المعتقد عند بعضهم، ونشر الأفكار الهدامة عند بعضهم الآخر، كما أثرت في تصدير العوائد والأخلاق الرديئة، وساهمت في خلخلة بناء الأسرة المسلمة، وروجت للاقتصاد الحر بزعمهم – وهو عين الربا والاحتكار، وشوهت صورة الإسلام، واختارت أبشع الصور لإلصاقها بالمسلمين، كما اختارت أسوأ المصطلحات المنفرة لترمي بها – زوراً وبهتاناً – أبناء المسلمين – ولو كانوا يدافعون عن حقوق مغتصبة – ولو حوصروا في معاشهم وضيق عليهم المستعمر أوطانهم، وأساء إلى مقدساتهم.
مصيبة عظمى حين تؤثر وسائل الإعلام المعادية في مجتمعات المسلمين، فيستوردون من عوائدهم القبيحة ما يستوردون، وينقلون من زبالة أفكارهم ما يجعلهم في ذيل القافلة وهم مؤهلون للقيادة.
مصيبة أن يحزن المسلمون أو يتأثروا لمن يحزن أو يتأثر له الآخرون وهزيمة فكرية حين تصبح قضاياهم النكدة قضايا مطروحة في بلاد المسلمين دون أن يتضح الفرق في طرحها باختلاف القيم والموازين، وتباين المعتقدات واختلاف قيم الحضارات؟
إذا كان خبر المسلم الفاسق لا بد من أن يتبين ويمحص، فكيف بأخبار الكفار المعاندين، أعوذ بالله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (الحجرات:6).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يديل الأمم والأيام بعلمه وحكمته، { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } (آل عمران: من الآية140).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، وهو العليم الخبير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ترك الأمة على محجبة بيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.(1/36)
إخوة الإسلام: بين إشراقة الصورة في نماذج الإعلام الإسلامي فيما مضى، ونتائجه المثمرة في الوجود أمناً وإيماناً، وسلاماً وإسلاماً، وعملاً وصدقاً، وبين قتامة الصورة ونتائجها المرة، وظلمة الواقع وجور الإعلام العالمي المعاصر، لا بد للإعلام الإسلامي المعاصر من دور بناء، وموقع متميز، وتحمل المسؤولية بكل صدق وأمانة.. وعلى كاهل رجاله الأوفياء تقوم المسؤوليات التالية:
رعاية التنمية، والتنمية بمفهومها الشامل، وبجوانبها المختلفة، الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية ونحوها، وما يتفرع عنها – مما لا يتسع الوقت لتفصيلها.
حماية مكتسبات الأمة – عبر تاريخها الطويل – والتنبه لكل من يريد العبث بها، أو بتر حاضر الأمة عن ماضيها، أو صياغة مستقبلها خارج إطار الشريعة الإسلامية ونظم الإسلام الكاملة المتفوقة.
فضح أتن الحضارة المعادية ومنع تسرب أخلاقها وعوائدها الموبوءة النكدة، وحماية الأمة من مخاطرها الآنية والمستقبلية، مع الاستفادة من الضالة المنشودة. فالحكمة مطلوبة أياً كان موقعها، وفرق بين هذا وذاك.
كشف تحيز الإعلام العالمي، لقضاياه الخاصة، ووفق سياساته التسلطية المستعمرة، وتجهيل العالم بقضايا العالم الإسلامي أو رسمها بالصورة المشوهة، وقيام الإعلام الإسلامي بالدور الغائب تجاه قضايا الشعوب المظلومة والمطالبة بحقوقهم المستباحة.
إخوة الإيمان من المفارقات العجيبة أن تجد هذا الإعلام المتحيز يعني بأخبار القطط والكلاب، ويعرض صوراً للكاسيات العاريات، ويبلغ الاهتمام بخصوصيات الفرد هناك إلى درجة تقتل معه عدسات التصوير مشاهير القوم – كما زعموا – وإنما قتلهم زيادة نسبة الكحول عقول المخمورين وقادة السيارات.
والحق أنهم في عداد الموتى قبل أن يقتلوا، يوم أن وأدوا الفضيلة والحياء، وليسوا بمشاهير – في نظر الإسلام – والقضية باختصار: كفر وعهر وخلاعة ومجون، عقول مخمورة، وقلوب خربة واهتمامات ساقطة، ونهاية مؤلمة.(1/37)
عباد الله ليس غريباً أن يحدث هذا في مثل هذه البيئات الموبوءة، التي تنكرت لشرائع السماء، وأفاء الله عليها من النعم ما شاء، فكفرت بأنعم الله.. ليس بعد الكفر ذنب.. وليس مع العلمنة وتقديس المادة ما يؤسف عليه بالبقاء.. إنها لوحة معبرة عن حضارة الرجل الأبيض – شاء المنهزمون والمعجبون بهم أم أبوا – وهي مؤشر للصيرورة إلى الزوال – طالت المدة أم قصر الزمان – فتلك سنة إلهية، جاء بيانها في القرآن { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } (الاسراء:من الآية 16-17).
ولكن الغريب – يا عباد الله – أن تصدر هذه المخازي إلى بلاد المسلمين، وأن يفرض الإعلام المتفوق على من دونه حتمية الصورة، وتناقل الخبر بنوع من الشراهة، يضلل العامة، وربما فتن الحدث والمرأة، ودون تعليق يوضح الحقيقة، ويكشف المأساة، ويبعد شبهة التقليد وفتنة المحاكاة.
أيها المسلمون لا بد أن نفهم الصورة في أحداث الإعلام المعادي بهذه الصورة، ومن رام غير ذلك فقد جعل الأسود أبيض، والظلمة نوراً، والكذب المزيف صدقً وعدلاً.
والصورة باختصار: إعلام متورم، وشعب مغرور متفوق، وحضارة غارقة في المادية، وبلغت الوحل في الشهوانية، تريد تصدير هذه الزبالات بقناة الإعلام عبر الصورة المخرجة، والأخبار المتتابعة وتحت رقابة وكالات أنبائهم المسيسة.
والهدف من ذلك حتى تدخل الأمة المسلمة حجر الضب الخرب وتسير في النفق المظلم ولا تدري نهايته.(1/38)
ونحن أمة لها تأريخها وقيمها، وحضارتها المتميزة، نخبر أول الطريق وندرك ما ينتهي إليه، ونميز بين ما يضر وما ينفع، وما أعظم مسؤولية رجال الإعلام المسلمين، وهم المؤتمنون على توضيح الصورة، وإعادة الثقة للأمة، هم مسؤولون عما ينقلون وعما يكتبون وما يشاهدون.. ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً. ومن غش فليس منا، وظلم النفس جريمة، ولكن ظلم الآخرين واستلاب عقولهم أشد جرماً، وليس من الوفاء للأمة التابع لها جرها إلى ذيل قافلة الأمم الأخرى.. إن معركة اليوم انتقلت من حرب السلاح إلى حرب الفكر، ووسائل الإعلام بكافة وسائلها وميادينها ورجال الفكر والأعلام حراسها.. فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبل أي ثغرة نقف حراساً لها.. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، والله غني عن العالمين، اللهم انصر وسدد.
عبودية السراء (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدث لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم أيها الناس بتقوى الله، ألا إن تقوى الله مان من الزلل، وبها المخرج عند الشدائد والكرب، وبها يتوفر سعادة الدنيا ونعيم الآخرة { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب } (الطلاق: من الآية2-3).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (لأنفال:29).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/6/1418هـ.(1/39)
أيها المسلمون ابتدأت معكم – في الجمعة الماضية – حديثاً عن الشكر، وأستكمل الحديث عنه في هذه الخطبة.
عباد الله لماذا لا يكون الحديث عن الشكر، ونعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى، ونحن في المقابل نبارزه بالمعاصي صباح مساء؟ ولم لا نكثر الحديث عن الشكر ونحن نخشى قوارع السماء، وقد أهلك الله من قبلنا أمماً كانوا أشد منا قوة وأكثر جمعاً؟
كيف لا يثير الشكر كوامن النفوس، وفينا من يبيتون على أنعم الله، ويستيقظون على معاصي الله، تمتلئ بطوننا من رزق الله، وننام ملء جفوننا بنعمة الله، لا يعكر ذلك مرض ولا خوف، ولا قلق، يعسعس الليل، ويتنفس النهار، فلا صوت المؤذن يحرك فينا ساكناً، ولا انشقاق الفجر أو ظلمة الليل تذكرنا بعظمة الباري، فنزداد لله ذكراً وتعظيماً، ولأنعمه علينا شكراً كما أراد الله لنا: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } (الفرقان:62).
إخوة الإسلام نحتاج لمزيد الحديث عن الشكر، لأنه صمام الأمان لبقاء النعم وزيادتها، وأمان من العذاب إذا توفر الإيمان كما قال ربنا { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } (النساء:147).
قال العارفون: ويا عجباً أي مقام أرفع من الشكر، الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان، حتى المحبة والرضا، والتوكل وغيرها، فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها (1).
أيها المسلمون إذا علم حقيقة الشكر ومنزلته، وحاجتنا جميعاً إليه، فما هي الأسباب المعينة على الشكر، وما هي المعوقات عنه؟
__________
(1) ابن القيم: مدارج السالكين 2/259.(1/40)
إن مما يعين على الشكر رضاك بما قدر الله لك، واعتقادك الخير فيما أصابك، فلست تدري الخير فيما أوتيت أو منعت، قال عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
والنظر في الدنيا لمن هو دونك يزيد من قناعتك وشكرك والنظر في أمور الدين لمن هو فوقك يزيد في همتك، ويدعوك للمسارعة في الخيرات، يقول عليه الصلاة والسلام: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(1).
ومما يعينك على الشكر أن يمتد بصرك إلى نعيم الآخرة، وألا تكون الدنيا محط رحالك ونهاية آمالك، وهناك في الجنان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لمن آمن وعمل صالحاً، هذا الشعور يجعلك تقنع بأي نعيم في هذه الحياة الفانية، متطلعاً إلى النعيم الباقي، متأملاً قوله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } (القمر:من الآية54-55).
وكيف لا تشكر يا ابن آدم وقد سخر لك من الدواب والأنعام ما تركب وتأكل، وهيأ لك من المسكن ما تكن إليه وتأوي وأفاء عليك من نعم الأموال والأولاد والأزواج ما تأنس به، وتتزين وإليه تسكن، وكم من نعمة أنعم الله بها عليك وقد تعلم بها وقد لا تعلم، أفلا تستحق هذه وتلك منك الشكر للمنعم، ودونك تذكير القرآن بواحدة من هذه النعم { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } (يّس: من الآية 71-73).
__________
(1) رواه أحمد ومسلم ابن ماجه: صحيح الجامع الصغير 2/32.(1/41)
والإكثار من تلاوة كتاب الله وتدبر آياته، يزيد في إيمانك وشكرك، وهو خير مذكر لك بأنعم الله عليك، كيف لا وفيه سورة تدعى سورة (النعم) بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده.. هي سورة (النحل)(1).
ومما يعينك على الشكر أن تتذكر أحوال الضعف التي مرت بك، وكيف صيرك الله إلى حال قوة وغنى، فلا يطغيك الغنى، ولا تنسيك النعم الشكر، وتذكر حالتك الأولى، ومن فقه أبي هريرة وشكره أنه رئي في الليل يكبر، فلحقه رجل ببعيره، وقال: من هذا؟
قال: أبو هريرة، قلت: وما التكبير؟ قال: شكر. قلت: على مه؟ قال: كنت أجيراً لبسرة بنت غروان بعقبة رجلي وطعام بطني، وكانوا إذا ركبوا سقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله، فهي امرأتي (2).
والنظر في سير الشاكرين يعينك بإذن الله على الشكر، قال داود الذين امتدحهم الله بالشكر بقوله { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً } (سبأ: من الآية13) ورد أنهم لم يأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصل (3).
وإبراهيم الخليل الأمة القانت كان شاكراً لأنعمه اجتباه. ولم ينس يوسف عليه السلام بعد خروجه من السجن وتبوئه خزائن الأرض أن يذكر نعمة الله، ويقول: { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } (يوسف: من الآية100) إلى قوله: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (يوسف:101).
وموسى عليه السلام يأمره ربه أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (لأعراف:144).
__________
(1) تفسير القرطبي 10/65.
(2) تهذيب السير 1/200.
(3) ابن القيم؛ عدة الصابرين ص196.(1/42)
ويطول ذكر سير الشاكرين.. ولكنه خلق الأنبياء والتابعين لهم بإحسان، قال رجل لابن تيمية يرحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين، لا أدري أيتهما أفضل، ذنوب سترها الله فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي (1).
بل كان الصالحون يتجاوزون بشكرهم خاصة أنفسهم، ويفرحون بالنعمة يهبها الله لإخوانهم المسلمين؛ نصرة للدين، وإعلاء لشأن المسلمين. وفي هذا ذكر عبد الله بن المبارك يرحمه الله أن (النجاشي) يرحمه الله أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه، فدخلوا عليه، وهو في بيت، عليه خلقان، جالس على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشركم بما يسركم، إنه جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله قد نصر نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان بواد يقال له (بدر).. حتى قال له جعفر: ما بالك جالساً على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام: أن حقاً على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعاً عندما أحدث الله لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع (2).
يا أخا الإسلام العلم نافذة تفتح لك آفاقاً واسعة في الشكر، ويدرك العالمون الربانيون من آلاء الله ونعمه، مما يستوجب الشكر ما يفوق غيرهم، بل إن فعل الشكر وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله، ومعرفة ما يكرهه، ولهذا ميز الله الذين يعلمون عن الذي لا يعلمون { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } (الزمر: من الآية9) وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر: من الآية28).
__________
(1) عدة الصابرين ص199.
(2) عدة الصابرين ص213.(1/43)
والأصل كلما ازداد علم الإنسان زاد شكره وخشيته لله، ومن يضلل الله فما له من هاد، وصلاح القلب وقوة الإيمان مكملات للعلم وبهما يتحقق الشكر، وبالجهل والفجور والطغيان يحل الهلاك والدمار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } (القصص:58).
الخطبة الثانية
الحمد لله، يشهد بآلائه الإنس والجن، خيره للناس نازل وشرهم إليه صاعد، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } (فاطر: من الآية45).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس العطاء منه دليل الرضى، وليس المنع منه علامة سخط وعذاب، يبلو بالسراء ليرى مدى الشكر، والضراء ليعلم – وهو أعلم – بالصابرين.. وهو العليم الحكيم.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أصابته الضراء فصبر، وحين أفاء الله عليه من النعم شكر واستغفر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
أيها المسلمون أما معوقات الشكر فكثيرة، ومنها:
الجهل والكبر، والغفلة، فالجاهل لا يعرف نعم الله عليه، وأنى له أن يشكر ما لا يعرف، والكبر داء يتعالى به الفرد وينسى فضل المنعم، ويخيل إليه أن ما حوله من نعم بحوله وقوته، كما قال قارون: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص: من الآية78).
والغفلة آفة تنسي النعم، ويظل صاحبها يرمق نعمة الله على الآخرين، غافلاً عما أنعم الله به عليه، وإذا لم يتنبه الغافل في العلم، فسبيله للشكر أن يشهد المرضى تارة، ويشهد أصحاب الحدود تارة أخرى، ليستيقن فضل الله بالعفو والعافية فيشكر الله.(1/44)
ويلحق بذلك عائق الشح والطمع والحسد، فمن ابتلي بذلك قل شكره وكثرت شكواه، وأصبح كالعطشان يرد البحر فلا هو ارتوى منه، ولا البحر سقا ظمأه، وفي التنزيل { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الحشر: من الآية9).
واختر لنفسك ما تشاء من مراتب الإجابة، فكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر، أو يشكو، أو يسكت.
يا أخا الإيمان لا يغب عن بالك أن الشيطان بوسوسته وإغوائه معوق عن الشكر، كيف لا وقد أخذ العهد على نفسه بذلك.
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (لأعراف:16-17).
وهاك نموذجاً لإعاقة الشيطان للإنسان عن الشكر، قال بكر بن عبدالله المزني: "ينزل بالعبد الأمر فيدعو الله فيصرف عنه، فيأتيه الشيطان فيضعف شكره، يقول: إن الأمر كان أيسر مما أذهب إليه قال: أو لا يقول العبد كان الأمر أشد مما أذهب إليه ولكن الله صرفه عني"(1).
يا أخا الإيمان ومن المعوقات عن الشكر احتقارك نعمة وهبها الله لك، فتظل تنظر إلى ما أوتيت على أنه شيء قليل، وتنسى أن المعافاة من البلايا نعمة، وأن السلامة من الأمراض نعمة، وهكذا مما صرف الله عنك، فكيف إذا أضيف إليها ما وهبك الله من نعم، ولا تنس أن النعم قد تكون مادية وقد تكون معنوية.
يحكى أن بعض القراء اشتد به الفقر، حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أتود أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألف دينار؟ قال: لا، قال فسورة هود؟ قال: لا، قال فسورة يوسف؟ قال: لا، فعدد عليه سوراً، ثم قال: فمعك قيمة مائة ألف دينار، وأنت تشكو، فأصبح وقد سري عنه (2).
__________
(1) ابن القيم: عدة الصابرين ص204.
(2) الإحياء ص2276.(1/45)
أجل لقد كان العارفون يشكرون الله على كل نعمة وهبهم الله إياها.
وهذا الإمام المزني – تلميذ الشافعي – يرحمهما الله، كان مجاب الدعوة، وذا زهد وتأله، أخذ عنه خلق من العلماء، وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي في الآفاق، وألف مختصراً في الفقه امتلأت البلاد به، حتى قيل: كانت البكر يكون في جهازها نسخة من مختصر المزني، هذا الإمام بلغ من شكره كما قال الذهبي: إنه كان إذا فرغ من تبييض مسألة، وأودعها مختصره صلى لله ركعتين (1).
أيها المسلمون وإذا زادتكم سير الشاكرين شكراً، فإن نهاية الجاحدين للنعم تنهاكم وتخوفكم من الكفر بالنعم، وقصص القرآن للذكرى والعبر، لا لمجرد السلوة والنظر، وهاكم نموذجين لعدم الشكر وعاقبة الجحود في القرآن، يمثل الأول (سبأ) الذين كانوا في نعمة وغبطة، وعيش هنيء رغيد، بلادهم رخية، وأماكنهم آمنة، وقراهم بالخيرات متواصلة، حتى أن مسافرهم لا يحتاج لحمل زاد ولا ماء بل يجد ذلك أنى نزل، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، فلما أعرضوا ولم يشكروا أنزل الله بهم بأسه، وخرب ديارهم، وفرق جمعهم وجعلهم أحاديث للناس، حتى أن العرب لتقول في القوم إذا تفرقوا (تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شذر مذر).
وصدق الله { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } (سبأ:من الآية 15-17).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 12/493، 495.(1/46)
أما النموذج الثاني فيمثله أصحاب القرية الذين قال الله فيهم: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } (النحل:112).
عباد الله ليس من الشكر لله تضييع الواجبات كإقامة الصلوات وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها من شعائر الدين. وليس من الشكر فعل المحرمات كالزنا وتناول المسكرات والمخدرات، وتعاطي الربا وقطع ما أمر الله به أن يوصل ونحوها من المحرمات.. ليس من الشكر فشو العداوة والبغضاء والتنافر بين المسلمين، والمودة والموالاة للكافرين..
لا بد أن تلهج ألسنتنا بالذكر والشكر لله، ولا بد أن تصح القلوب من الغل والحقد والحسد، ولا بد أن تشهد جوارحنا على ذلك بعمل الصالحات والبعد عن المحرمات.
تذكر يا عبد الله أن شكرك لنفسك وأن الله غني عنك { وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } (لقمان: من الآية12).
وكن على يقين بزيادة النعم بعد الشكر، قال الفضيل بن عياض: من عرف نعمة الله بقلبه، وحدث بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } (ابراهيم: من الآية7) (1).
اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر.
اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا. هذا وصلوا…
اليقظة ورقة القلب (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له..
وأشهد أن لا إله إلا الله…
__________
(1) عدة الصابرين، 194.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 28/7/1418هـ.(1/47)
أيها المسلمون التقوى وصية الله للأولين والآخرين، وهي سبب النجاة والفلاح في الدارين: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق: من الآية2-3).
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } (الطلاق: من الآية5).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آت نفوسنا تقواها، اللهم زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
عباد الله فرق كبير بين الغفلة واللهو وقسوة القلب وبين اليقظة ورقة القلب وخشوعه وإنابته إلى الله وتبلغ قسوة القلب عند بعض الناس إلى درجة ينقلب فيها القلب إلى حجر صلد، لا يترشح منه شيء، ولا يتأثر بشيء، كما قال تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة } (البقرة: من الآية74).
وصاحب هذا القلب وإن تقلب بين الناس حياً، فهو في عداد الموتى، تمر عليه الآيات والزواجر، ويبصر في الكون وفي ذات نفسه من آلاء الله ما يهز القلوب الحية، وتتصدع له الجبال الرواسي، ولكنها لا تحرك فيه ساكناً، لا تؤثر فيه موعظة الموت، وإن شيع أكثر من جنازة، بل ربما حمل الجنازة بنفسه، وواراها بالتراب، ولم تتحرك منه عبرة أو تنزل له دمعة، ولربما سار بين القبور كسيره بين الأحجار؟(1/48)
ولو قدر له أن يناجي أهل القبور قائلاً: ماذا عندكم؟ وما هي أمانيكم؟ لقالوا: تركنا كل شيء، ولم نحزن على شيء من الدنيا، سوى ساعة مرت بنا لم نعمل بها صالحاً، وما من حسرة هي أشد علينا من لحظة عصينا الله وبارزناه بالمعاصي إن سراً أو جهراً.. ولكنا نرجو رحمة الله فأنفسنا رهينة بما كسبت، ولو خرجنا إلى الدنيا لرأيتم كيف نعمل للآخرة، ولكن هيهات، وحق على الأحياء أن يتعظوا بالأموات، لقد تزوجت نساؤنا، وقسم ميراثنا.. وما بقي لنا أنيس في ظلمة القبر سوى أعمالنا الصالحة.. وكم تمنينا أن بيننا وبين ما عملنا من سوء أمداً بعيداً.. وحق على الأحياء أن يستدركوا ما فات الموتى؟
ترى أي قسوة للقلب تجعل صاحبها غافلاً لاهياً عما خلق له، منهمكاً في جمع ما ليس له، يعلق قلبه بغير خالقه، ويخشى فوات ما هو مقدور له ويزهد في عمل هو سر سعادته وأنسه – ألا إن قسوة القلب وغفلته عقوبة معجلة له، والويل له إن لم يتدارك نفسه { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (الزمر: من الآية22).
قال مالك بن دينار: "ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم" (1).
أيها المسلمون أما أهل الإيمان وأصحاب القلوب الحية الخاشعة فأولئك الذين أنعم الله عليهم وشرح صدورهم، وهم على نور من ربهم، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } (الزمر: من الآية22).
ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال قلنا يا رسول الله: كيف انشراح الصدر؟ قال: "إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح"، قلنا: يا رسول الله: وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله".
__________
(1) تفسير القرطبي 15/248.(1/49)
وفي الحديث الآخر من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: "يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع" قالوا: فما آية ذلك؟." فذكر الخصال الثلاث.
قال القرطبي – معلقاً على الخصال التي بها يستحصل على انشراح الصدر -: ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر، لأن دار الخلود إنما وضعت جزاء لأعمال البر.. فإذا جد العبد في أعمال البر فهو إنابته إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا ولها عن طلبها وأقبل على ما نعنيه منها فاكتفى به وقنع فقد تجافى عن دار الغرور، وإذا أحكم أموره بالتقوى، فكان ناظراً في كل أمر واقفاً متأدباً متثبتاً حذراً، يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه فقد استعد للموت، فهذه علامتهم في الظاهر (1).
عباد الله إذا كان للقسوة مظاهرها وآثارها على أصحابها، فللرقة والخشوع آثارها، فهي من علائم الإيمان. وسيما أولي الألباب { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } (الرعد: من الآية 19-21).
وهي أمارة العلم: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (فاطر: من الآية28).
{ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّد (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } (الاسراء: من الآية 107-109).
__________
(1) تفسير القرطبي 15/247.(1/50)
وبالخشية والخشوع والرقة تتحات الخطايا وقد ورد "إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها".
وبه يحرمه الله على النار، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أقشعر جلد عبدٍ من خشية الله إلا حرمه الله على النار".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع…" الحديث (1).
وبالخشية والبكاء الصادق أمان – بإذن الله من عذاب يوم القيامة قال عليه الصلاة والسلام: "من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيب الأرض من دموعه لم يعذبه الله تعالى يوم القيامة"(2).
والخاشع الباكي خالياً لذكر الله أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. "ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
وما من شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثر في سبيل الله، وأثر فريضة من فرائض الله"(3).
ومن آثار الخشية والرقة والخشوع قبول الدعاء، ذلكم لأن قلب الخاشع هنا حاضر مع الله مستشعر عظمته وضعف نفسه، عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء - رضي الله عنه - قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع فإن الدعاء عند ذلك مستجاب. وكان أحدهم يعلم استجابة دعوته من وجل قلبه ودموع عينيه.
__________
(1) المستدرك 4/260، الترمذي 1633، 2311. وقال حديث حسن صحيح، رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) رواه الحاكم (4/260) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) رواه الترمذي وحسنه ووافقه على تحسينه غيره صحيح سنن الترمذي 2/133.(1/51)
وعن ثابت البناني قال قال لي فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي، قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي وفاضت عيناي فذلك حين يستجاب لي (1).
إخوة الإيمان ما أحوجنا إلى طول الخشية والرقة والبكاء في الدنيا.. حتى نأمن ونفرح بلقاء الله، يوم التلاق.
خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوماً فقال: "إني أرى ما لا ترون وأسمع مالا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله.."(2).
وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم ولهم خنين (3).
عباد الله يا من تبحثون عن النجاة تأملوا في أنفسكم وابكوا على خطاياكم، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"(4).
__________
(1) تفسير القرطبي 15/250.
(2) رواه الترمذي وحسنه، وحسنه غيره (صحيح سنن الترمذي 2/268)، وصححه ابن العربي (عارضة الأحوذي 9/194، الأربعون حديثاً في الرقة والبكاء ص29).
(3) كتاب التفسير. سورة المائدة 5/190، الأربعون في الرقة؛ محمد خير يوسف ص27.
(4) رواه الترمذي حسنه (صحيح سنن الترمذي 2/287).(1/52)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (المؤمنون: من الآية 57-61). نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وعد من خافه جنتين، وتوعد من عصاه ناراً وسموماً وظلا من يحموم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمثل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم لم يفلته، { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } (ابراهيم:42).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان يسمع لصدره – إذا صلى – أزير كأزيز الرحى، أو كأزير المرجل من البكاء.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
عباد الله، هناك أمور وأسباب تدعو للرقة والبكاء (1) ومنها: مسح رأس اليتامى، وإطعام المساكين.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين"(2).
وزيارة القبور ترقق القلوب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه - : "زر القبور تذكر بها الآخرة، واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو عظة بليغة، وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله يوم القيامة"(3).
__________
(1) وعلى من يجدون قسوة في قلوبهم أن يستعينوا الله بفعلها.
(2) رواه أحمد، وقال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/163).
(3) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/330).(1/53)
وقراءة القرآن قراءة متدبرة تخشع لها القلوب، وتلين لها الجلود وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (الزمر:23).
ومن دواعي البكاء والخشية لله استشعار العبد منة الله عليه لخير أصابه، فشكر الله عليه ولم يتمالك عينيه من البكاء، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن"، قال أبي: الله سماني لك؟ قال: "الله سماك" فجعل أبي يبكي.
وفي رواية للبخاري أيضاً: قال أبي: الله سماني لك؟ قال: نعم قال: وذكرت عند رب العالمين؟ قال: "نعم"، فذرفت عيناه… (1).
ومما يرقق القلب ويبعد وحشته ويخفف قسوته مجالسة العلماء ومصاحبة الأخيار، فهؤلاء يذكرون الآخرة، قال الحسن البصري يرحمه الله: إخواننا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة" (2).
ومما يرقق القلب تعاهده بالإيمان إذا ضعف، والمبادرة إلى عمل الحسنة بعد السيئة حتى تمحو أثرها، وقد ورد ما يفيد تقلب القلب وأن الله يقلبه كيف شاء، وورد أيضاً في حديث صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال مشبهاً للقلب بضوء القمر: "ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء"(3).
__________
(1) الحديث متفق على صحته في كتاب التفسير (لمن يكن) ومناقب الأنصار (مناقب أبي) ومسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل..).
(2) المنجد، ظاهرة ضعف الإيمان ص24.
(3) رواه أبو نعيم وهو في السلسلة الصحيحة 2268، ظاهرة ضعف الإيمان ص32.(1/54)
وإذا كان هذا شأن القمر، فقلب المؤمن تعتريه أحياناً سحب مظلمة من المعصية فيحجب نوره، فيبقى صاحبه في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله في عمل الصالحات انقشعت تلك السحب وعاد نور قلبه يضيء كما كان.
ولهذا قال بعض السلف: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه، وما ينقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أو ينقص؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزعات الشيطان أنى تأتيه؟ (1).
أيها المسلمون مستحيل أن يسلم العبد من الذنوب والأخطاء، ولو شاء الله ذلك لجعل في الأرض ملائكة مقربين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، بل اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الخليفة في الأرض بشراً يحقق العبودية لله في أرضه، يذنب فيستغفر ويخطئ فيتوب، ويذكر الله إذا نسي، ولقد نسي أبو البشر آدم ما عهد إليه ربه، وأزله وزوجه الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه، وأهبط إلى الأرض فكانت مستقراً لهما ولذريتهما، واستمر الشيطان يوسوس لهم ويزين، ولم تقتصر وسوسة الشيطان على الفجار والمجرمين بل شملت المتقين، ولكن ميزة هؤلاء أنهم يتذكرون ويستغفرون فيبصرون { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } (لأعراف:201).
وهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يستمر طيلة حياته على الرقة والخشوع والبكاء إذ هو إنس مفتون مبتلى في هذه الحياة، وحسبه أن يجاهد نفسه على الثبات على دين الله، وتجديد التوبة وكثرة الاستغفار، وألا يصر على كبيرة ولا يستخف بصغيرة، وعليه أن يتذكر إذا ذكر.
يقول عليه الصلاة والسلام: "ما من عبدٍ مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً، إذا ذكر ذكر" (2).
__________
(1) شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/140، ظاهرة ضعف الإيمان ص33.
(2) رواه الطبراني عن ابن عباس، وهو في صحيح الجامع 5/172.(1/55)
يقال هذا حتى لا ييأس قساة القلوب من رقتها إذا تعاهدوا أنفسهم، وجاهدوا أهواءهم وشياطين الجن، وإخوانهم الذين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وحتى لا يقنط المسرفون على أنفسهم بالمعاصي من رحمة الله، فالله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب إليه واسترجع، ويقال ذلك حتى لا يداخل نفوس الخيرين العجب بأعمالهم، ولذا قال ابن القيم رحمه الله: "فلولا تقدير الذنب هلك ابن آدم من العجب" وقال ابن الجوزي: "إن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فما هو شر من فوت ما فاتها وهو العجب بحالها والاحتقار لجنسها..".
عباد الله إن تغييب الخاتمة عن الإنسان سر عجيب، وفيه حكمة بالغة وتدبير لطيف لأنه لو علم وكان ناجياً أعجب وكسل، وإن كان هالكاً ازداد عتواً فحجب عنه"(1).
عباد الله وإذا كان الفرق كبيراً بين أهل ايقظة وأهل الغفلة فأهل اليقظة أنفسهم متفاوتون في سيرهم إلى الله، يقول الشيخ السعدي يرحمه الله: "سبحان من فاوت بين أهل اليقظة في قوة السير وضعفه، وفي استغراق جميع الأوقات في العبادة وعدمه، منهم من يكون سيره مستقيماً في ليله ونهاره، ومع ذلك يتخير من الأعمال أفضلها وأكملها، ولا ينزل من فاضلها إلى مفضولها إلا لمصلحة تقترن بالمفضول توجب أن يساوي العمل الفاضل، ويزيد عليه وقد يكون المباح في حق هذا عبادة لكمال إخلاصه، ونيته بذلك المباح أ، يجم به نفسه ويتقوى به على الخير، فتراه ينتقل في مقامات العبودية في كل وقت بما يناسبه ويليق به، لا فرق عنده بين العبادة المتعلقة بحقوق الهه المحضة، وبين العبادة المتعلقة بحقوق الخلق على اختلاف مراتبهم وأحوالهم.."(2).
هذا فضل من الله يؤتيه من يشاء.. اللهم لا تحرمنا فضلك، واسلك بنا سبيلك، وأعنا على أنفسنا ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. هذا وصلوا…
__________
(1) معالم السلوك ص100، عن السلوم: إذا صح الإيمان ص103.
(2) الفتاوى السعدية ص49-51.(1/56)
أيها المسلم احرص على أن يكون سيرك إلى الله حثيثاً، وأن تكون عبادته لله على بصيرة وحاذر من الأهواء والبدع.. فشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ومن عبدالله بما لم يشرعه الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود عليه سواء في رجب أو شعبان أو سواهما من الأيام والشهور والأعوام، وليس لما يعتقده بعض الناس من ميزة للعبادة في رجب أصل في شريعة الله، "ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" كذا قال - صلى الله عليه وسلم - .
بين الآباء والأبناء (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/8/1418هـ.(1/57)
أيها المسلمون الذرية في شريعة الإسلام نعمة وهبة، وزينة ومفخرة، وفي الوقت نفسه هم فتنة وعدو، وهم مجنة مبخلة.
{ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } (الشورى: من الآية 49-50).
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (الكهف: من الآية46).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } (التغابن: من الآية 14-15).
وما فتئ الصالحون يدعون لأبنائهم ويرفعون أكف الضراعة لهدايتهم، ويبذلون ما في وسعهم لاستقامتهم كيف لا؟ وهم زينتهم وقرة ما داموا أحياء والوارثون لهم والداعون لهم إذا كانوا أجداثاً رمماً { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } (ابراهيم:37). إلى قوله: { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } (ابراهيم:40).
كذا قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وقال زكريا عليه السلام: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } (مريم: من الآية 5-6).(1/58)
ويصدق الداعون ويستجيب الله الدعاء، والدعوة ذات هدف ومعنى: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } (آل عمران: من الآية 38-39).
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (صّ:30).
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } (النمل: من الآية16).
لذا تتجه أنظار الأنبياء بالدعوات الصادقة للأبناء وهدفهم من الذرية تحقيق العبودية لله، يقيمون الصلاة، ويشكرون أنعم الله، فليست دعواتهم لذرية مطلقة كلا بل مقيدة بالصلاح "ذرية طيبة"، ومن أولياء الله "فهب لي من لدنك وليا".
أو ابين له { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (صّ:30).
ويستمر الآباء في الدعوة والدعاء للأبناء وإن أحسوا منهم جنوحاً عن سبيل الهدى، وانحيازاً عن ركب المؤمنين ولكن الهداية بيد الله وحده لا يملكها الأنبياء المرسلون، ولا الملائكة المقربون.
{ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } (هود: من الآية 42-43).
وحين ألح نوح في الدعاء ونادى ربه فقال: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } (هود: من الآية45).(1/59)
قال الله له: { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } (هود: من الآية46).
ترى هل يتخذ الآباء من سلوك الأنبياء منهجاً وقدوة؟
إخوة الإيمان.. من الأبوة إلى البنوة لنقف على نماذج عالية في الدعوة والطاعة والرضا والتسليم طاعة للوالدين وإحساناً إليهما..
وتأملوا هذا الأدب الرفيع والحوار المعبر والدعوة الحانية للخير بلطف في العبادة ولهف للاستجابة: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } (مريم: من الآية 41-45).
وإذا كان هذا خطاب الابن المسلم لأبيه الكافر فماذا ينبغي أن يكون خطاب الابن المسلم لأبويه المسلمين؟
والبر لا يبلى، فقد وهب الله إبراهيم عليه السلام ذرية صالحة وجعل فيهم النبوة والكتاب، وحين امتحن أحدهم، وكان البلاء المبين وفي الابن لأبيه، واستسلم الأب والابن لأمر الله طائعين، { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ } (الصافات: من الآية 103-106).(1/60)
أجل لقد بقيت كلمات إسماعيل – عليه السلام – برهانا للصدق والوفاء والطاعة والاستسلام بوعي، والصبر عن يقين ورضا..، وما من شك أن الموقف حرج، وأن المطلوب صعب.. لكنه بر الأبناء.. والوفاء للآباء { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } (الصافات:102)
ويظل يوسف عليه السلام يذكر آباءه بخير وهو في غياب السجن: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } (يوسف:38).
ولا ينسيه الملك أو يطغيه الجاه والسلطان عن طلب والديه وأهله وحين دخلوا عليه مصر { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش } (يوسف: من الآية 99-100).
أيها الأبناء تأدبوا غاية الأدب مع والديكم وقولوا لهما قولاً كريماً، وقدورهما حق قدرهما.
أورد النووي يرحمه الله في كتاب (الأذكار) في باب نهي الولد والمتعلم والتلميذ أن ينادي أباه ومعلمه وشيخه باسمه فقال: روينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معه غلام، فقال للغلام: "من هذا؟" قال: أبي، قال: "فلا تمش أمامه، ولا تستسب له، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه"، قلت (النووي): معنى لا تستسب له: أي لا تفعل فعلاً يتعرض فيه لأن يسبك أبوك زجراً لك وتأديباً على فعلك القبيح.
أيها الآباء أدبوا أولادكم بآداب الإسلام واسألوا الله لهم الهداية والصلاح فالله هو الهادي والمصلح.(1/61)
روى البخاري في الأدب المفرد عن الوليد بن نمير بن أوس أنه سمع أباه يقول "كانوا يقولون: الصلاح من الله والأدب من الآباء" (1).
أعوذ بالله من الشيطان: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُ } )(الفرقان: من الآية74).
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، واللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون: من مقامات الأنبياء إلى وصايا الحكماء يقص القرآن علينا نموذجاً لتربية الآباء ووصاياهم للأبناء، وفضل الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، ولو كان الحكيم عبداً حبشياً، قصيراً، أفطس الأنف، ذا مشافر عظيم الشفتين، مشقق الرجلين. وكذا كان لقمان الحكيم.. ولكن الله رفع ذكره بالإيمان والتقى والصدق واليقين، فقد كان عبداً صالحاً وآتاه الحكمة ولم يكن نبياً (2).
وبدت حكمته لسيده حين أمره قائلاً: اذبح لي شاة وائتني بأطيبها مضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟
فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبث مضغتين فيها، فألقى اللسان والقلب، فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تلقى أخبثها فألقيت اللسان والقلب؟ قال لقمان: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا (3).
__________
(1) بناء شخصية الطفل المسلم، محمد عثمان جمال ص85، 86.
(2) تفسير القرطبي 14/59، ابن كثير 3/731.
(3) تفسير القرطبي 14/61.(1/62)
إخوة الإيمان كم يمر بنا ذكر لقمان ووصاياه العظام فلا تلفت أنظارنا كثيراً، وربما لم تحرك عند البعض منا ساكناً، وفي وصايا لقمان لابنه وهو يعظه دروس للآباء والأبناء، وفي مواعظه ما يحيي به الله القلوب الغافلة ذكراناً كانوا أم إناثاً إن أول ما تتجه له عاطفة الأب الناصح لابنه أن يعبد بعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (لقمان:13).
فالعبودية لله وحده هدف الوجود.. وهي أساس دعوة الرسل، والشرك محبط للأعمال موجب للخسران { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (الزمر: من الآية 65-66).
ولئن قيل إن ابن لقمان، وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما (1).
فحري بالآباء أن يحذروا الأبناء من طرائق الشرك ووسائله وإن كانوا في الأصل مسلمين، وكذلك نزل القرآن محذراً المؤمنين عن الشرك بقوله: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام:82).
قد شقت هذه الآية على الصحابة حين نزلت، وقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : وأينا لا يظلم نفسه، فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (لقمان: من الآية13)(2).
__________
(1) ذكره القشيري، تفسير القرطبي، 14/62.
(2) الحديث رواه مسلم.(1/63)
ويلفت لقمان نظر ابنه إلى عظيم قدرة الله فالحبة وإن كان قدرها صغيراً، والحس لا يدرك لها ثقلاً، ولا ترجح ميزاناً لخردلة، فالله يعلم وجودها، ولو كانت محصنة محجبة داخل صخيرة صماء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات والأرض فإن الله يأتي بها فلا تخفى عليه خافية { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } (لقمان:16)(1).
قيل إن لقمان هنا وعظ ابنه ألا يشغله الرزق عن أداء فرائض الله فلو كان رزق الإنسان مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء بها الله حتى يسوقها إلى من هي رزقه.
وقيل المعنى تخويف عن اقتراف المعاصي وتنبيه لرقابة الله ولو ظن العاصي أنه لا يرى.
فقد روي أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال له لقمان: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله. فما زال ابنه يضطرب حتى مات ذكره مقاتل، ونقله القرطبي (2).
أيها المسلمون لا يزال لقمان يوصي ابنه، وينقله من موعظة إلى أخرى.. وتحتاج بقية الوصايا إلى خطبة أ×رى ولكني أقف في النهاية مستخلصاً أعظم ما ينبغي أن يمنحه الآباء للأبناء، ومن الاستعراض الموجز لسلوكيات الأنبياء أو الحكماء نعلم حاجة الآباء إلى تخصيص أبنائهم بالدعوة والدعاء، وأن يمنحوهم الأدب، ويمحضوهم النصح، ويخصوهم بالوصايا والعظات النافعة، "فما نحل والد ولداً من نحلٍ أفضل من أدب حسن"(3).
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/735.
(2) تفسير القرطبي 14/67.
(3) رواه الترمذي.(1/64)
وعلى الأبناء أن يخلصوا الطاعة لله، وأن يكونوا مثالاً للطاعة بالمعروف والبر والإحسان إلى والديهم، والشكر لهم، كيف لا، وقد قرن شكر الله بشكرهما "أن اشكر لي ولوالديك" قيل: الشكر لله على نعمة الإيمان وللوالدين على نعمة التربية، وقال سفيان بن عيينة: "من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما" (1).
ما أحوج الأبناء للقول الكريم للآباء والله يقول: "وقل لهما قولاً كريماً".
أورد القرطبي في أدب الخطاب مع الوالدين عن أبي البداح التجيبي قال: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: "وقل لهما قولاً كريماً" ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ" (2).
اللهم وفق الآباء وأصلح الأبناء، واجعلنا جميعاً ممن ينتفع بمواعظ القرآن وطرائق الأنبياء ووصايا الحكماء.
دروس من جلاء بني قينقاع (3)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الله صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
__________
(1) تفسير القرطبي 14/65.
(2) تفسير القرطبي 10/243، وانظر: محمد جمال، بناء شخصية الطفل ص84.
(3) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/8/1418هـ.(1/65)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
أيها المسلمون لابد بين الفينة والأخرى من إطلالة على سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، تنير الطريق للسالكين وتكشف حقائق الأعداء والأصدقاء للناس أجمعين فسيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهديه فصل عند التنازع والاختلاف.
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء: من الآية59).
وبسنته تعبد المسلمون الذين يرجون الله واليوم الآخر.
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب:21).
وليس يخفى أن حياته - صلى الله عليه وسلم - كلها جهاد ونصيحة وصبر ومصابرة حتى أظهر الله الدين ونصر المسلمين ولئن طارده قومه في مكة وآذوه وأصحابه حتى فروا بدينهم مهاجرين إلى المدينة.. فلم تكن الحياة بالمدينة صفواً من المكدرات، أو نوعاً من حياة الدعة والكسل والبعد عن المنغصات.
لقد ابتدأت بالمدينة مرحلة الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الله – وتكاثرت الخصوم، بين يهود حاسدين شامتين ومنافقين متربصين مرجفين، وفي أطراف المدينة أعراب مشركون يتطلعون إلى ثمار المدينة وخيراتها بشراهة ومن وراء هؤلاء وأولئك الخصوم الأولون كفار قريش يؤلبون ويحضرون ويدعمون بأموالهم، ويدفعون بأبنائهم لخوض المعارك حتى لا تقوم للدين قائمة ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.(1/66)
ودعونا – معاشر المسلمين – نقف على خصم من هذه الخصوم في المدينة.. كان له أثره في إنشاء ورعاية خصوم آخرين إنهم اليهود، ومن اليهود سأقصر الحديث على (يهود بني قينقاع) وفي أحداثهم ومواقفهم عبرة لمن تأمل.
أيها المؤمنون وليس يخفى أن اليهود بشكل عام كان لهم وجود مؤثر في المدينة، وإن لم يكونوا أكثرية فيها، فبأيديهم المال، ولديهم قدرة خبيثة على إذكاء الحروب بين الأوس والخزرج، وهم أهل علم وكتاب، ومن حولهم جهلة لا يدرون ما الكتاب ولا الإيمان.
ولذا استطاعوا أن يدخلوا في دينهم بعض أهل المدينة فكان في المدينة يهود أصلاء، ومتهودون متأثرون بهم (كيهود بني عوف مثلاً) بل بلغت فتنة اليهود بالمدينة أن المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاة – أي لا يعيش لها ولد – فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } (البقرة: من الآية256) (1).
ولأهمية وجود اليهود في المدينة عاهدهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين عاهد أهل المدينة – وتضمنت بنود المعاهدة ما يكفل حقوقهم ويمنع شرورهم، ويهيء الفرصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لكي يسلم من أذاهم ويتفرغ وصحبه لجهاد غيرهم ونشر الدين الحق في المدينة وخارجها، حتى إذا انتشر الدين وكثر الداخلون فيه قل أثرهم وأمكن القضاء عليهم، أو جلاؤهم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه وغيره بسند صحيح 3/132، د. العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/290.(1/67)
عباد الله لقد كان اليهود شوكة في حلوق المؤمنين قبل المعاهدة وبعدها، وفي أول مقدمه المدينة، وبعد أن استقر فيها أخرج أبو داود وغيره بسند صححه ابن حجر قال كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - "كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أنزلت الآية: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارا } (البقرة: من الآية109) (1).
ثم كتبت وثيقة المعاهدة مع اليهود، وتضمنت فيما تضمن "أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، والنصح والبر دون الأثمن..
بل تضمنت بنود الوثيقة أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (بنون 24، 27) الخ بنود الوثيقة فهل التزم اليهود بالمعاهدة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المعاهد؟
لقد كان يهود بني قينقاع أو يهود نقضوا العهد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونقضهم للعهد جاء بطريقة خسيسة لئيمة، وأياً ما كان أحد السببين أقوى سنداً من الآخر، ففي كليهما تتكشف أخلاق اليهود وحقدهم على المسلمين.
__________
(1) سنن أبي داود 3/401، أسباب النزول للواحدي ص129، العمري 1/289.(1/68)
أما السبب الأضعف سنداً – وإن كان مشهوراً، فيشير إلى أن امرأة مسلمة قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشف سوأتها فضحكوا بها، فساحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع (1).
أما السبب الآخر – في جلاء بني قينقاع – فقد رواه ابن اسحاق بسند حسنه ابن حجر، وهو يكشف عن غرور اليهود وعجبهم بأنفسهم واحتقار غيرهم وإن لم يكن لذلك أثر ورصيد على صعيد الواقع، ويكشف كذلك عن حسد اليهود لأي نعمة تنزل بالمسلمين، فقد ذكرت كتب السير – في هذا السبب – أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين انتصر على المشركين في معركة بدر، رأى أن يجمع بني قينقاع وينصحهم ويذكرهم العهد ويخوفهم الغدر ولعله سمع شيئاً من ذلك عنهم، فاجتمع بهم في سوقهم وقال: "يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتهم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم"، قالوا: يا محمد: إنك ترى أنا قومك؛ لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس، ونزل فيهم قوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } (آل عمران: من الآية13) كما نقل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - (2).
__________
(1) السيرة لابن هشام 2/427، وانظر: من معين السيرة الشامي ص223، وقد نقل ضعفها، والعمري في السيرة 1/300 كذلك، ومهدي ص370.
(2) السيرة لابن هشام 2/426، 427، الفتح 7/332.(1/69)
وليس يخفى ما في هذه الكلمات من تهديد، وإظهار الروح العدائية للمسلمين، ونكوص عن قبول الحق، واستهجان بقوة المسلمين رغم انتصارهم فإذا أضيف إلى ذلك ما ورد في السبب الأول – إن صح – يتبين لنا نقض اليهود للعهود، وتحينهم الفرصة للغدر بمن يعاهدون ولو كان المعاهد نبياً مرسلاً.. ولو كان العهد بالنصر قريباً فإذا كان هذا واقعهم مع من يعرفون نبوته كما يعرفون أبناءهم، وتلك حالهم مع المسلمين في وقت عزهم واجتماع كلمتهم فكيف يكون حالهم بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي حال ضعف المسلمين وفرقتهم؟
إن الذين يعتقدون التزاماً صادقاً من اليهود بالعهود والمواثيق، أو ينشدون صلحاً آمناً وسلاماً دائماً من وراء معاهدات السلام معهم، إنما يجرون وراء السراب الخادع ويحرثون في البحر الهائج.. كيف لا وقد حكم ربنا وربهم عليهم بنقض العهود، وليس ذلك حكماً لفئة منهم بل أكثرهم لا يؤمنون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } (البقرة:100).
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة لأوليائه الصادقين وجعل الذل والصغار للكافرين والمنافقين وما ربك بظلام للعبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمتحن الناس في إيمانهم ويبلو صبرهم، وحق عليه نصر المؤمنين، ويجعل العاقبة للمتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده، وفي سيرته وسنته عبر للناظرين..
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام إذا كان الدرس الأول في حادثة بني قينقاع يكشف عن طبيعة نفسياتاليهود، وتلبسهم بالغدر والخيانة وانطواء نفوسهم على الحسد والبغضاء والاحتقار للآخرين.(1/70)
فالدرس الثاني يكشف عن حلفائهم وإخوانهم من المنافقين الذين نشأوا على أيديهم، واستمر ودهم فيهم، وإن أظهروا للمسلمين المودة وحسبوا عليهم.
أخرج ابن إسحاق – بسند صحيح – أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه فقام عبدالله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد: أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرسلني، وغضب حتى رؤي وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظلال، فقال له: ويحك ارسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، أي والله، إني لا مرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هم لك"(1).
إنه الدفاع المستميت عن اليهود يصنعه المنافقون، ولو غضب لذلك رسول الله، والحرص الشديد على سلامتهم ولو كان في بقائهم شر وبلاء مستطير، والمنافقون لا يثقون بقوتهم الخاصة، ولا يثقون إلا باليهود تحسباً لوقوع الدوائر..
__________
(1) السيرة لابن هشام، صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي ص198.(1/71)
ولئن عفى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام عن ابن أبي، وتكرم بترك قتلهم استجابة لمطلب هذا المنافق اللئيم.. فقد تولى الله كشف الحقائق، واقتضت حكمته أن يكشف عن العلاقة بين اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان، ونزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } (المائدة: من الآية 51-52).
أجل لقد تتابعت آيات القرآن الكريم تكشف ما بين اليهود والمنافقين من ود وتعاون، وإخاء نص الله عليه بقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } (الحشر: من الآية11).
ويأبى الله إلا أن تتكشف حقيقة النفاق، وينفضح المنافقون إثر علاقاتهم المريبة مع اليهود على مر العصور واختلاف الزمان والمكان.
وإذا حكم الله بالأخوة بين المنافقين واليهود فلا مزيد على هذا الوصف والبيان.
أيها المسلمون.. أما الدرس الثالث من حادثة يهود بني قينقاع فهو درس في الإيمان، اختص الله به أهل الإيمان الذين يوالون في الله ويعادون في الله، ويحبون لله ويبغضون لله وتلك أوثق عرى الإيمان.. ويمثل هذا الموقف الإيماني عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، وتأملوا الفرق بين موقفه مع اليهود الناكثين، وبين موقف عبدالله بن أبي رأس المنافقين.(1/72)
فقد أخرج ابن إسحاق في السيرة – بسند صحيح – قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبدالله بن أبي، وقام دونهم، فمشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج لهم من حلفهم مثل الذي لهم من حلف عبدالله بن أبي، فخلعهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم فقال: يا رسول الله: أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم، ويقال فيه نزل قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (المائدة: من الآية 55-56).
وهكذا يتضح الفرق بين المنافقين والمؤمنين في الولاء أو البراء من الكافرين.. والمسافة لا شك هائلة بين منافق يغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبيل الدفاع عن اليهود والصد عن قتلهم..(1/73)
وبين مؤمن يتولى أمر جلائهم، فقد كان ذلك لعبادة بن الصامت - رضي الله عنه - منقبة، ولابن أبي فضيحة وخزياً إلى يوم الدين. ألا ما أحوج الأمة إلى رجال كعبادة بن الصامت يقدمون الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين على كل ولاء، ولا تقعد بهم مصالحهم الشخصية دون مصلحة الأمة وعقيدتها. تلك تربية محمد - صلى الله عليه وسلم - وأولئك أفراخ اليهود وربائبهم. وفرق بين الثرى والثريا. وهكذا تظل سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأحداثها ودروسها معلماً هادياً ودرساً بليغاً، وعته الأجيال المسلمة فيما مضى، وينبغي أن تعيه في زماننا.. وهنا يرد السؤال المهم: إلى متى سيظل المسلمون غافلين عن هدي السيرة النبوية؟ وإلى متى سيبقون يتمرغون في أوحال الذل والهزيمة، ويتجرعون كؤوس الفرقة والشتات يرجون اليهود تارة، ويتسيدون النصارى تارة ويقود ركابهم المنافقون تارة.. ويستثمر اليهود والنصارى هذه الأوضاع المأساوية، فيستحلون المقدسات، ويزيدون في بناء المستوطنات ويستذل المسلمون، وتستباح المحرمات، ويستحوذ على المقدرات. الجواب باختصار كامن في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم } (الرعد: من الآية11).
الأيام الفاضلة والأضاحي (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين..
اتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/12/1418هـ.(1/74)
أيها المسلم أعمل لدنياك بقدر بقائك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، وإياك والتسويف فالموت أمامك والمرض يطرقك، والأشغال تتابعك، وحوادث الزمان ستفاجئك، والخلاص بأمان من ذلك كله أن تستعين بالله، وتبادر إلى عمل الصالحات وتثمن الأيام الفاضلات، وليس يخفاك فضل عشر ذي الحجة التي أنصرم شطرها، وشطرها الآخر يسير على عجل لا ينتظر الغافلين حتى يتذكروا ولا الغارقين في سبات نوم عميق حتى يستيقظوا.
أيها المتردد في الذهاب للحج وليس ثمة ما يمنعك من مرض أو حاجة.. استعن بالله واعقد العزم فلا يزال في الأمر فرصة، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. ألا أيها المتقاعس عن المسارعة للخيرات في هذه الأيام الفاضلة استدرك ما فاتك، والحق من سبقك، واعمل صالحاً لنفسك، فلا يزال في الأيام فرصة لمن تحركت فيه همم الشوق إلى الجنان..
ألا أيها الراغب في الأضحية يمكنك أن تنوي ذلك وإن لم تعقد العزم عليه قبل ذلك، وإذا نويت فأمسك عن الأخذ من شعرك وبشرتك، ولا إثم عليكم فيما أخذته قبل النية، أما من نوى قبل فعليه الإمساك عن ذلك من حين دخول العشر (1).
أيها المسلم وإن فاتك الصوم في هذه الأيام أو بعضها فاحرص ألا يفوتك صيام يوم عرفة ففيه من الفضل تكفير سنتين (سنة قبله وسنة بعده) كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
تعرض لنفحات الله في هذا اليوم، فلله في يوم عرفة عتقاء من النار، روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة".
فاحرص على صيام هذا اليوم، واحرص على الابتهال إلى الله بالدعاء، والذكر وتلاوة القرآن، ويوم عرفة لا يتكرر في السنة إلا مرة.
__________
(1) ابن عثيمين: أحكام الأضحية.(1/75)
أيها المسلم.. ويوم النحر يوم عظيم من أيام الله، ويغفل عن ذلك اليوم وجلالة شأنه كثير من المسلمين، مع أن بعض العلماء يراه أفضل أيام السنة على الإطلاق، مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - :"إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر"(1).
ويوم القر هو الحادي عشر وهو يوم الاستقرار بمنى للحجاج فليحرص المسلم على إدراك فضل هذا اليوم حاجاً كان أم مقيماً، وعلى غير الحاج في هذا اليوم أن يغتسل ويتطيب ويذهب لصلاة العيد، ولا يتهاون في أدائها، فهي سنة مؤكدة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، ومن العلماء المحققين من يراها واجبة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، مستدلاً بقوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (الكوثر:2) وتشهد النساء صلاة العيد حتى الحيض والعواتق، وتعتزل الحيض المصلى.
ومن السنة ألا تأكل شيئاً قبل الذهاب لصلاة عيد الأضحى حتى تعود وتأكل من أضحيتك، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته فليكن لك فيه أسوة.
واحرص على التكبير في هذه الأيام وحتى عصر آخر أيام التشريق قال تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } (البقرة: من الآية203).
صل أقاربك وجيرانك وإخوانك في أيام العيد فهي من الأعمال الصالحة وهي سبب للألفة والمحبة، واعطف على المساكين، وتصدق على المحتاجين.
يا أخا الإسلام أما الأضحية فأجرها عظيم، وهي سنة أبينا إبراهيم، ونبينا محمد عليهم الصلاة والسلام، ومشروعيتها في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، قال الله تعالى: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } (الكوثر: من الآية 1-3).
وقال تعالى: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْر } (الحج: من الآية36).
__________
(1) رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير رقم 1075).(1/76)
وروى البخاري ومسلم – رحمهما الله – في صحيحيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين أقرنين (1)، ذبحهما بيده وسمى وكبر (2).
وفي فضلها ورد حديث – وإن ضعفه بعض أهل العلم – قال عليه الصلاة والسلام: "ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً"(3).
أيها المضحي طب نفساً بأضحيتك، واختر من الأضاحي أحسنها إن كنت قادراً على ذلك، ولا تهدي إلى الله ما تستحي أن تهديه إلى نفسك، وإليك وصية عروة بن الزبير لبنيه، فقد روى مالك في الموطأ – بسند صحيح – إلى عروة – يرحمه الله – أنه كان يقول لبنيه: يا بني لا يهدين أحدكم من البدين شيئاً يستحي أن يهديه لكريمه إن الله أكرم الكرماء، وأحق من اختير له.
(وكريم الرجل: من يكرم عليه، ويعز عليه) (4).
إخوة الإسلام: ومن فضل الله ورحمته ويسر الإسلام أن الأضحية الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته ويصلي ثوابها الأموات والأحياء، إذا شملهم بها وإياكم والمباهاة بالأضاحي، أخرج مالك والترمذي عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: ما كنا نضحي بالمدينة إلا بالشاة الواحدة، يذبحها الرجل عنه، وعن أهل بيته، ثم تباهى الناس بعد، فصارت مباهاة"(5).
قال الترمذي: حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول أحمد واسحاق. أهـ، ونقل أنه قول مالك والليث والأوزاعي وغيرهم، أن الشاة الواحدة تجزئ عن أكثر من واحد (6).
__________
(1) والأملح ما يخالط بياضه سواد، والأقرن: ما له قرن.
(2) فقه السنة 3/318.
(3) رواه الترمذي وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 5/103.
(4) الموطأ 1/380 في الحج وسنده صحيح كما في جامع الأصول 3/329.
(5) 3/322.
(6) حسن صحيح، انظر: جامع الأصول 3/322.(1/77)
بل إن من يسر الإسلام أن من لم يجد الأضحية وهو راغب فيها، فأجره على الله، وتأملوا هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي – بسند صحيح – عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت بيوم الأضحى عيداً جعله الله لهذه الأمة"، قال له رجل: يا رسول الله: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى (والمنيحة هنا: هي الناقة أو الشاة تعار لينتفع بلبنها، وتعاد إلى صاحبها) أفأضحي بها قال - صلى الله عليه وسلم - :"لا، ولكن خذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله"(1).
عباد الله وتنبهوا لوقت الذبح، وعليكم بسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ثم النحر، وهو القائل: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا: نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء"(2).
قال بعض العلماء: "ويشترط في الأضحية ألا تذبح إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد، ويمر من الوقت قدر ما يصلي العيد ويصح ذبحها بعد ذلك في أي يوم من الأيام الثلاثة في ليل أو نهار، ويخرج الوقت بانقضاء هذه الأيام"(3).
أعود بالله من الشيطان { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } (الحج: من الآية 36-37).
الخطبة الثانية
__________
(1) جامع الأصول 3/318.
(2) رواه البخاري ومسلم أو أحدهما (جامع الأصول 3/345، 346).
(3) فقه السنة 3/322.(1/78)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
معاشر المسلمين من السنة أن يذبح الإنسان أضحيته بنفسه رجلاً كان أو امرأة (1)، وتقول حال الذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا عن فلان – ويسمي نفسه ومن أشركهم في أضحيته – فعل ذلك رسول الهدي - صلى الله عليه وسلم - .
فإن كان لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره – إن كان حاضراً – أو ينيب عنه من يذبحها له إن كان مسافراً.
ومن السنة شحذ المدية، وإضجاع الذبيحة على شقها الأيسر ويضع الذابح رجله اليمنى على عنقها، مستقبلاً بها القبلة ويسمي ويكبر، ويقول: اللهم منك وإليك اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك، قال ابن تيمية يرحمه الله: ومن أضجعها على شقها الأيمن وجعل رجله اليسرى على عنقها فهو جاهل بالسنة، معذب لنفسه وللحيوان (2).
أما الإبل فالسنة نحرها قائمة معقولة يدها اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، ومن أضجعها خالف السنة أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر - رضي الله عنه - أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، فقال ابعثها قياماً مقيدةً، فهذه سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - (3).
ومن السنة كذلك أن يأكل منها ويهدي ويتصدق.. قال العلماء: ولا يجوز بيعها ولا يبيع جلدها، ولا يعطى الجزار من لحمها شيئاً كأجر، وله أن يكافئه نظير عمله (4).
عباد الله تأكدوا – في ضحاياكم وهديكم – من السن المجزئ في الأضاحي والهدي.. ويجزئ من الإبل ماله خمس سنين، ومن البقر ماله سنتان، ومن المعز ماله سنة ومن الضأن ماله سنة أو ستة أشهر – على خلاف بين الأئمة (5).
__________
(1) جامع الأصول 3/356.
(2) الفتاوى 26/309.
(3) جامع الأصول 3/354.
(4) فقه السنة 3/324.
(5) فقه السنة 3/320.(1/79)
واحذروا من العيوب المانعة من الإجزاء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - :"أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي" وفي رواية: "العجفاء التي لا تنقي"..
قال البراء – راوي الحديث – قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص؟ قال: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد (1).
ألحق أهل العلم بذلك: العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها، والهتماء التي ذهبت ثناياها من أصلها والعصماء وهي ما انكسر غلاف قرنها، والعمياء، والتولاء – وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى – والجرباء التي كثر جربها (2).
عباد الله – كلوا واشكروا ربكم حيث أغناكم وهيأ لكم ما تذبحون وتأكلون وسخرها لكم واستحضروا تقوى الله فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم.. فإن فقه العبادات في الإسلام مطلب وقليل من الناس من يتفطن لذلك.. كما أن القليل من عباد الله الشكور.
ومن شكر الله ذكره في هذه الأيام المفضلة وعدم التجاوز على حدود الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام عن أيام التشريق: أيام أكل وشرب وذكر لله وهنا فائدتان: الأولى كما قال ابن رجب رحمه الله: وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الأكل والشرب في أيام العيد إنما يستعان بها على ذكر الله وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة.. فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله، وبدلها كفراً وهو جدير أن يسلبها كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فشكر الإله يزيل النقم (3)
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وسنده صحيح: جامع الأصول 3/333، 334.
(2) فقه السنة 3/322.
(3) اللطائف لابن رجب ص332 عن الفوزان، مجالس عشر ذي الحجة.(1/80)
الفائدة الثانية: إنه لا يجوز التطوع بصيام أيام التشريق لأنها أعياد أهل الإسلام، كما ورد في الحديث: "يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام"(1).
اللهم هيئ للمسلمين حجهم، وتقبل من الصائمين والمضحين والمتقربين إلى الله أعمالهم آمين.
الأمل والأجل بين عامين (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، فالق الإصباح وجعل الليل سكناً، والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقدر الأعمار، ويعاقب الأيام، وبقدرته تتعاقب الأعوام، وتفنى أجيال وتخلفها أجيال أخرى وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حل في هذه الدنيا ثم ارتحل، ولو قدر لأحد الخلود فيها لكان المصطفى حياً مخلداً، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله ومراقبته، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } (آل عمران:5).
وقال تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } (غافر:19).
واحذروا معاشر المسلمين أن تطغى مراقبتكم لخلق الله على مراقبة الله فتكونوا ممن قال الله فيهم: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } (النساء:108).
__________
(1) الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة ص116، 117.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/12/1418هـ.(1/81)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
أيها المسلمون: حري بكم أن تقفوا مع أنفسكم محاسبين على الدوام، وأن يزيد في تذكركم ومحاسبتكم لأنفسكم انصرام عام ومجيء عام.
كم نلهوا ونغفل، وكم نعظم من أمر الدنيا ما هو أحقر وأذل، وكم نزهد في عمل الآخرة وهي أكرم وأبقى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
عباد الله كتب الحسن البصري يرحمه الله إلى عمر بن عبد العزيز يرحمه الله، يدعوهن للتفكر، ويذكره بحقيقة الدنيا وحقارتها ويحذره من الاغترار بها. ومما قاله:(1/82)
اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيراً يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزاً، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقبها الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقبها مؤونة باقية، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة، التي غرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها.. إلى أن يقول: فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة. وإما مصيبة موجعة، وإما منية قاضية.. فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر، ولم يضرب لها مثلاً، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدار قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر، وفيها واعظ، فمالها عند الله عز وجل قدر.. ثم يقول مشخصاً أيام الدنيا: وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام: يوم مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا، ولا تدري لعلك تموت قبله، فأما أمس فحكيم مؤدب، وأما اليوم فصديق مودع، غير أ، أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه، وقد كان عنك طويل الغيبة، وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغداً أيضاً في يديك فيه أمله، فخذ الثقة بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل.. ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهم يومك غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط ودعاك للمزيد في الطلب…"(1).
__________
(1) حلية الأولياء 2/134-139.(1/83)
إخوة الإسلام: تعيشون هذه الأيام نهاية عام مضى بما فيه، أفلح العاملون السائرون إلى الله.. وخاب وخسر المبطلون، عام مضى بأحزانه وأفراحه، وسرائه وضرائه.. عد بذاكرتك قليلاً إلى ما مضى، وانظر ما قدمت فيه من عمل صالح فاشكر الله عليه، واسأله القبول وما عملت من سوء فتأسف واندم عليه فقد قيل: إن الندم توبة. واختم ما بقي من العام بالاستغفار، والتوبة النصوح، واعمل صالحاً تختم به العام المنصرم.
أما عامك الجديد فاستقبله بالعزيمة الصادقة على عمل الصالحات، واستفد مما مضى عبرة لما تستقبل، فما الدنيا إلا ساعة بين ساعتين، ساعة ماضية، وساعة آتية، وساعة أنت فيها، فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتهما لذة ولا لبلائهما ألماً، وإنما الدنيا ساعة أنت فيها، فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار، وإنما اليوم إن عقت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك، وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخر بعده فقال: إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه ويغفر لك ما صنعت، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك، فلقد ظفرت بخلف منه إن عقلت، فدارك ما قد أضعت، وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك لشهادتهما عليك (1).
__________
(1) حلية الأولياء 2/139.(1/84)
يا أخا الإسلام: مجرد التحسر على ماض مطية الكسالى والعاجزين. والهمة والعزيمة على العمل في الحاضر والمستقبل سيما أهل الجد والصدق واليقين.. ودونك تشخيص العارفين بما بقي من العمر وقيمته.. فقد قالوا: إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوماً بقي من عمر صاحبه، فلا تبع اليوم ولا تعدله من الدنيا بغير ثمنه، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيماً لما في يديك منك وهو لك فلعمري لو أن مدفوناً في قبره قيل له: هذه الدنيا أولها إلى آخرها تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك فقد كنت وليس لك هم غيرهم، أحب إلي أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك لاختار ذلك (1).
يا عبدالله اتعظ بمن مات، واستدرك ما فات وإياك وغرور الأماني، وأن توافيك المنية على غير أهبة واستعداد، جد في السير إلى مولاك، ولا يكن همك الدنيا وحطامها.. ودونك حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فاعتبره إذ يقول: "ما طلعت الشمس قط إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يسمعان من على الأرض غير الثقلين: أيها الناس هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى"(2).
ودونك أنموذجاً في القناعة والزهد:
كتب سليمان بن عبدالملك إلى أبي حازم: ارفع إلى حاجتك قال: هيهات، رفعت حاجتي إلى من لا يختزن الحوائج فما أعطاني منها قنعت، وما أمسك عني منها رضيت"(3).
وقال أبو واقد الليثي: تابعنا الأعمال، نقول أيها أفضل؟ فلم نجد شيئاً أبلغ في طلب الآخرة بزهادة في الدنيا (4).
يا أخا الإيمان احرص على أن يكون لك في كل عمل خير سهم نافذ فما أجمل أن تروض النفس على عمل الخير فيصبح لها سجية وطبعاً، ومن دوام على شيء ألفه وسهل عليه القيام به.
__________
(1) حلية الأولياء 2/139.
(2) صحيح الأخبار في الزهد والرقائق، عمرو سليم ص79.
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/237، وسنده صحيح، المرجع السابق ص79.
(4) صحيح الأخبار، عمرو سليم ص55.(1/85)
وهذا سفيان الثوري يقول: ما بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث قط إلا عملت به ولو مرة" وهذا منه محمول على فضائل الأعمال.. وهو منه أيضاً تأكيد على العمل بسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشدة العناية بها، أكثر من العمل، وأقلل من الذنوب.. ففي ذلك سلامة لا يعدلها شيء، وفي الزهد لابن المبارك عن ابن عباس - رضي الله عنه - بسند صحيح أنه سئل: رجل قليل العمل قليل الذنوب أعجب إليك، أو رجل كثير العمل كثير الذنوب؟ قال لا أعدل بالسلامة شيئاً (1).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله على مشارف عام ينتهي، وإطلالة عام يبتدي وقفة وعبرة.
فنهاية عام يعني أن الله متع ابن آدم فيه ما يزيد على ثمانية آلاف وخمسمائة ساعة، وكم في هذه الساعات من نبضات قلب ما كان له أن يعيش لو أن الله أوقفها لحظة من الزمن وكم صعد خلالها النفس وما كان له أن يعيش لو كتمه الله لحظة من الزمن.
عام يمضي يعني توفير نعم كثيرة لهذا الكائن الحي، وتسخير وجودات كثيرة في هذا الكون لهذا الإنسان – قد يعلم بعضها ويجهل أكثرها.
عام يمضي يعني امتلاء السجلات بما كسبت يداك وسطره الكرام الكاتبون، وغداً سيكشف عن المخبوء، وتبلى السرائر، فأعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، عام يمضي يعني سقوط ورقة من أوراق الشجرة ذات الأوراق المحددة، وبها يتناقص الموجود، ويزداد الذابل المفقود، ولربما كانت الورقة ما قبل الأخيرة أو كان بعدها أوراق أخرى { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (فاطر: من الآية11).
__________
(1) الزهد لابن المبارك ص66، وصحيح الأخبار ص32.(1/86)
عام يمضي يعني قربك من الآخرة وبعدك عن الدنيا { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } (لأعراف: من الآية34).
وعام يستجد، وأنت فيه في عداد الأحياء يعني أن الفرصة بيدك لتدارك ما فاتك، وإبدال السيئات بالحسنات، والله في غناه عنك وعن غيرك أشد فرحاً بتوبتك منك إذا أضعت راحلتك في أرض فلاة وعليها زادك ومتاعك وحين أيست منها استسلمت للموت، فلما كنت كذلك إذا بها على رأسك وعليها ما ينقذك، فسبق لسانك وقلت من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.. أخطأت من شدة الفرح.
يا أخا الإسلام وحين تذكر بهذا فلا يطل أمدك، ولا تنس مفاجأة الموت لك. وأنت ترى وتسمع بين كل حين وآخر مفاجأة لفلان، ومصيبة جماعية لآل فلان، ولربما قلت من هول الصدمة وحداثة المفاجأة.. أمات فلان حقاً؟ نعم لقد مات.. وستموت أنت.. ومن وراؤك { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } (الرعد: من الآية38).
وهنا وقفة أذكر بها، وأشاطر الجهات المسؤولة في التنبيه لمخاطرها، والحذر من التهور فيها.. إنها الحوادث المروعة التي باتت تحصد الأنفس حصداً، وينشأ عنها ترمل النساء، ويتم الأطفال، وتشتت الأسر بعد اجتماعها.. وهذه التي نحذر منها هي الناشئة عن تهور في القيادة، أو استهتار في أنظمة المرور المساعدة بإذن الله على السلامة.. وكيف هانت عليك نفسك فعرضتها للخطر بسبب سرعة جنونية كان لها عواقبها السيئة عليك وعلى أسرتك وعلى المجتمع من حولك.. ولئن هانت عليك نفسك.. أفيحق لك أن تستهتر بأرواح الآخرين وهل يعجبك أن تكون مصدر شقاء للآمنين؟(1/87)
وإذا أردت أن تتصور الكارثة بإنصاف، فما موقفك من شخص تسبب في حادث مؤلم لأسرة قريبة منك وفيها رجال ونساء، وشيوخ وأطفال، وهذا جريح وهذا كسير، وذاك نزف من الدماء حتى فارق الحياة، ورابع فاضت روحه في الحال، وخامس عاش في غيبوبة أمد الحياة.. أو فترة طويلة أو قصيرة الزمن.. ولربما استيقظ يوم أن استيقظ وهو مشلول الأطراف أو بعضها كيف تكون نظرتك لمن تسبب في مصير هذه الأسرة فكانت كما ذكرت أو أقل أو أكثر؟ لا شك أنك ستلومنه وترسل عليه الدعوات، وهو في عينك شخص عابث مستهتر ولو أخذ رأيك في الحكم عليه لكان لك معه شأن آخر؟ أفلا تطبق هذه النظرة على نفسك يوم أن تتسبب في إلحاق الضرر بالآخرين؟
إخوة الإسلام.. لقد باتت حوادث المرور تشكل خطراً يلتهم الأسر.. ويفقد بسببها العالم، والرجل الفاضل والمرأة المربية، والشاب في ريعان الشباب، والطفل ببراءته ولم يسلم من آثارها وعوائدها الرجل المتعقل في قيادته..
وهذه وتلك استثارة همم المسؤولين، فعقدت لها الاجتماعات والندوات، وصدرت لأجلها ولا تزال تصدر التوصيات والمجتمع بأسره شريك في المسؤولية.. ولا بد من المساهمة لعلاج هذه الظواهر السيئة، ولو أن كلاً منا التزم بنفسه وحض أولاده على الالتزام بالأنظمة المرورية وقواعد السلامة.. لكان في ذلك نفع كبير.. كيف لا وفي شريعتنا الغراء حماية للنفس ورد للصائل، وأخذ على أيدي السفهاء، وتعاون على البر والتقوى، ومساهمة في النصح والتوجيه، وحفظ للطاقات، ونهي عن التسرع والإسراف، ورعاية لآداب الطريق إن من الذوق والمروءة أن تقدر مشاعر الآخرين، ومن الفظاظة والرعونة أن تعيش متبلد الإحساس، لا ترعى للآخرين حرمة، ولا تقدر لحراس الأمن مسؤولية..(1/88)
ألا فليكن إسلامك وخلقك في المسجد وفي الطريق، مع أهلك وذويك ومع الناس أجمعين.. ساهم في السلامة بوعيك وحسن قيادتك، واعتب بما حصل لك أو لقرابتك في سبيل تأمين الأمن والحماية للآخرين.. وإذا كانت الآجال محدودة، والأنفاس معدودة فاتخاذ الأسباب المشروعة مطلب، واتقاء التهلكة بالنفس محرم، وبقدر ما تتمثل من أخلاق عالية بقدر ما تكون محبوباً عند الله وعند خلقه..
انحراف الشباب مسؤولية من؟ (1)
الخبطة الأولى
الحمد لله الهادي إلى سواء الصراط، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فماله من سبيل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هدى الله به من الضلالة إلى الهدي وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً – اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
أيها المسلمون حديث اليوم استجابة لمطلب كريم من الجهات المسؤولة – وهو في الوقت نفسه حديث بالغ الأهمية عن فئة عزيزة في المجتمع.. بات يكثر عددها ويتنامى خطرها، ويحمل واقعها نذراً لا بد من توعيتها وتقييمها والمسارعة بعلاجها.
حديث اليوم عن فئة من الشباب – لا بل عن طائفة من الشباب بدأت تجنح في سلوكها، وتقلق المجتمع بتصرفاتها تسيء إلى نفسها… وتصل إساءتها إلى غيرها.. وتدمر ما حولها، وربما دمرت نفسها..
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/1/1419هـ.(1/89)
إنها فئة من الشباب، لم نولها من العناية ما تستحق، واكتفينا بلومها وانتقاد تصرفاتها.. ولكننا لم نقترب منها، ونكتشف أسباب جنوحها، وأنسب الطرق لعلاجها..
هذه الفئة – حين نريد تشخيص حالها – نقول: إنها فئة منطوية على نفسها.. أو على من يشابهها.. كسولة في أداء العبادات المفروضة، غير قادرة على تحمل المسؤوليات الأسرية – مزعجة داخل بيوت أهلها، هاوية للاجتماعات الصاخبة في زوايا الشوارع، محبة للسهر ليلاً، مكثرة للنوم نهاراً، المدرسة تشكو من ضعفها الدراسي، وما بها ضعف في الفهم ولكنها تحضر بجسدها وعقولها خارج المدرسة، ويشكو منها الجيران لسوء تصرفاتها، ولربما تخوفوا على أبنائهم منهم وحذروهم الاختلاط بهم، تتخذ من السيارة وسيلة لإزعاج الآخرين، وربما استخدمتها وسيلة للاقتناص والتغرير بالأطفال والمراهقين – ولربما دمرت نفسها أو دمرت الآمنين من حولها بقيادتها الهوجاء.. هذه الفئة تطرب للأغاني الماجنة ولربما اضطرت الآخرين لسماعها بسبب رفعها للصوت عمداً وبلا مبالاة، تفتخر بالسيجارة تتعاطاها.. وتظنها بطولة أمام الأحداث من حولها.. والأمر أدهى حين تبدأ في مسلسل المخدرات والخمور والمنبهات.. يضيع جزء من وقتها في العكوف على مشاهدة الأفلام الخليعة.. ويتأثر فكرها وسلوكها بالمسلسلات الجنسية، أو بأحداث العنف البوليسية تركز على المجلات الهابطة.. ونصيبها من الصحف زوايا الفن والرياضة.
هذه الفئة لا ترعى للوالدين حقاً، ولا تطيع لهما أمراً.. وتنساق مع الأصحاب وتطيعهم أكثر من غيرهم، وما أسرع ما يقع الخصومة بينهم ولأتفه الأسباب.. وتشتكي منهم الجهات الأمنية.. ولربما كانت إساءتهم أكثر للعمالة الوافدة.
إخوة الإسلام ليس المقصود تشخيص الداء، إلا بالقدر الذي يوصف به الدواء.. ودعونا نتصارح، ولا نلقي باللائمة كلها على هؤلاء الشباب.. ونرى مدى أسهامنا – بعلم أو غير علم – في بروز هذه الظواهر المنحرفة.(1/90)
فأنت أيها الأب قد تكون منزعجاً لهذه الظاهرة لكنك لم تساهم في علاجها وتظن أن مجرد شكواك منها كاف في علاجها، بل ربما كانت أيها الأب وراء المشكلة في بدايتها حيث لم تعن بالتربية المبكرة للأبناء، ولم تهتم كثيراً باختيار الأصدقاء، أو على الأقل التعرف على من يصادق الأبناء فتشجع على مصاحبة الأخيار وتنهى وتحذر من مصاحبة الأشرار، وتستخدم في ذلك كل وسيلة مستعيناً بالله ثم بالخيرين من حولك ومتصلاً بالمدرسة لمعرفة سلوكيات ابنك ولربما أخذتك العاطفة فوفرت للابن سيارة لا يحتاج إليها.. أو لا يحسن التصرف في قيادتها.. فألقيت ابنك المسكين في اليم وقلت له إياك أن تبتل بالماء، وقد تمانع في البداية فينضم صوت الأم إلى صوت المراهق فتبدأ المشكلة.
وأنت أيها المعلم الكريم ما الجهد الذي قدمته في سبيل استصلاح هذه الفئة.. أتراه يكفيك أن تتذمر من وجودهم في المدرسة.. أم تراه يغنيك أن تلوذ بكثرة الحصص وتعتذر بالأعباء التدريسية عن المساهمة في توجيه هؤلاء وإسداء النصح لهم والمساهمة في تربيتهم وما أعظم الخطب حين تشعرهم - أيها المعلم – بالدونية، أو تكرس فيهم أنكم شباب لا خير فيكم، وقد يكون فيهم أو في بعضهم خير كثير يحجبه طبقة رقيقة من الغبار الخادع.. ولا يسوغ لك بحال – أيها المربي – أن تنقص شيئاً من درجات يستحقونها بسبب ما يبدو لك من انحرافهم، فتلك توغر صدورهم، وتزيد من انحرافهم.. وما هكذا تورد يا سعد الإبل؟!
أيها المعلم تحفظ في الكلمة تلقيها.. واختر في الحديث مع هؤلاء بخاصة ومع غيرهم بعامة أطيب الكلام.. فللكلمة الطيبة وقعها في الآذان أولاً وفي القلوب ثانياً، ويكفيك أن الكلمة الطيبة صدقة. ولا تقنط أو تيأس من هداية هؤلاء.. ولا يرد إلى مخيلتك أن الشر دائماً مصاحب لهؤلاء.. وقدر موقعك فلربما تأثروا بك أكثر من غيرك وحين تتحدث عن دور المعلم مع الطلاب فالحديث عن المدير والوكيل والمرشد الطلابي من باب أولى.(1/91)
أيها الائمة والخطباء أنتم عليكم كفل من المسؤولية بالتوجيه والنصح والزيارة والهدية.. والموعظة بالحسنى، وعدم الاكتفاء باللوم والتقريع والاستهزاء.. وكم هو جميل أيها الإمام أ، تستعين بعدد من الأخيار المجربين للذهاب لهؤلاء الشباب ومناصحتهم والتعرف على مشكلاتهم وحوائجهم ودعوتهم للمسجد.. وإذا نجحت في ذلك بدأت تباشير السعادة على محياهم وما أسرع ما تتغير سلوكياتهم.
أما أنتم معاشر الشباب الملتزم فكم أنتم غائبون عن هؤلاء.. وسائلو أنفسكم ماذا قدمتهم لهم.. وكم يستغرق الاهتمام بهم من أوقاتكم؟ إنهم إخوانكم وجيرانكم، ولهم عليكم حق النصح، وأنتم مسؤولون عن حسن دعوتهم، ولا بد من الصبر على ما يصيبكم من أذاهم، إنكم قد تستلذون الجلوس إلى العلماء في دروسهم ومحاضراتهم، وترتاحون للجلوس مع بعضكم وترون الوقت غالياً فلا بد من حفظه بحفظ كتاب الله، أو القراءة في كتب العلم النافعة، أو الاستماع لأشرطة مفيدة.. وكل ذلك أمر طيب، لا تثريب عليكم فيه.. ولكن قدروا فيما علمكم الله.. وفيما هداكم الله.. حقاً للسائل والمحروم.. ومن شكر الله على نعمة الهداية التي أنعم بها عليكم أن تدعوا هؤلاء.. وترغبوهم في الخير، وتحذروهم من عواقب الشر والفساد، بالطرق المناسبة والوسائل المفيدة.
أيها المسلمون لا يعفي ذلك كله بحال رجالات الأمن من مسؤولية المتابعة لهذه الفئة من الشباب، وكان الله في عون العيون الساهرة وهي تراقب وتتابع، ويباح لها ما لا يباح لغيرها ويتخوف منها الشباب أكثر من غيرها.. فهل يقدر رجالات الأمن دورهم ويستشعرون مسؤوليتهم في الحفاظ على أمن المجتمع، وردع المعتدي وتأديب المخالف ومطاردة المجرم، وكشف ما في الزوايا المظلمة ومراقبة التجمعات المشبوهة، والوعي بمخاطر المخدرات والمسكرات والأفلام الخبيثة… وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.(1/92)
أخي رجل الأمن إياك أن تبقى متفرجاً على انحراف الشباب وتجمعاتهم دون مراقبة ومتابعة وتقدير للمخاطر المستقبلية، وإذا نصحت بأن لا تكون فظاً غليظاً في المعاملة، فإياك أن تغلبك العاطفة وترضى بالاعتذار الخادع، وقدر سعة انتشار الداء إذا لم تسارع بالحزم في اختيار الدواء.. ولا تنس أنك عضو في هذا المجتمع مسؤول عن وقايته حتى وإن كنت لحظة رؤياك الانحراف مدنياً، رعاك الله وسددك ونفع بك وآجرك على قدر إخلاصك ومتابعتك.
رجالات الهيئة الأعزاء مهمتكم لا تقف عند حدود النهي عن المنكر، فهذا على أهميته جزء من رسالتكم، ولكن الجزء الآخر يتمثل في الأمر بالمعروف والدعوة للخير.. وما أروع الرسالة حين تلحظ تجمعاً مشبوهاً للشباب فتصطحبهم للهيئة وتحدثهم برفق، وتثير فيهم كوامن الخير، وتذكرهم بقيمة أسرهم في المجتمع، وعظيم الفضيحة لهم ولأهليهم إذا وقع منهم المكروه. وتشعرهم بقربهم منك وعطفك عليهم، ثم تختم ذلك بإهدائهم شريطاً موجهاً أو كتيباً نافعاً، أو مطوية مفيدة مختصرة.
إخوة الإيمان وهكذا تتكامل عناصر التوجيه، وتساهم الجهات والأفراد – كل حسب اختصاصه – بالتوعية والمتابعة.
وما بلغ الشباب في مجتمعنا – والحمد لله – مبلغاً من الشر والفساد والعناد، حداً لا يمكن ضبطهم أو يصعب توجيههم ولكنها طفرة النعمة، وآثار الفراغ، وقلة المتابعة، وعدم التجديد في الوسائل المصلحة بإذن الله للشباب.. أعو بالله من الشيطان الرجيم: { فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود: من الآية 116-117).
الخطبة الثانية(1/93)
الحمد لله رب العالمين يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } (الأنعام: من الآية125).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.
إخوة الإسلام حين نتحدث عن انحراف بعض الشباب ونشرك في المسؤولية عدداً من الجهات والأشخاص، فلا بد أن نستحضر ما لوسائل الإعلام – بكافة قنواتها – من أثر بالغ على انحراف الشباب أو استقامتهم، كيف لا وهي تخاطب عقولهم، وتحرك عواطفهم، وبإمكانها أ، تختار النماذج الخيرة أو الساقطة لتبرزها مجالاً للقدوة أمام ناظريهم وكم افتتن شاب أو شابة بصورة خليعة أو مشهد مثير فحركت كوامن الشباب فيهم، وهيجت عواطفهم فراحوا يبحثون عن إشباعها بطرق غير مشروعة.
وكم لوث فكرهم مقال نشر وفيه تمجيد للرذيلة أو محاربة للفضيلة، وكيف نلوم الشباب على الانحراف إذا كنا نمجد نماذج ساقطة تتمرغ في أوحال الرذيلة في فكرها المعطى.. وفي شعرها المكتوب.. ويقل أن نسوق نماذج عالية في أخلاقها، قمماً في سلوكها..
ألم تمجد وسائل الإعلام الإسلامية الهالكة ديانا من قبل.. ومعلوم ما تمتلكه هذه من وسائل الدعاية والشهرة؟ وهي بكل حال لا تتفق وقيمنها وأخلاقنا!
ثم راحت تمجد الهالك نزار قباني من بعد.. وهو شاعر الفسق و الإلحاد، حتى أخذت الغيرة بعض كتابنا، واستشعروا مسؤولية الكلمة، وخافوا على شباب الأمة أن يخدعوا بزخرف القول غرورا فكتب أحدهم في جريدة الجزيرة في اليوم الحادي عشر من شهر الله المحرم مقالاً جميلاً بعنوان "مسؤولية الكلمة".
وعلى مسامعكم أقرأ هذا المقال الجميل القصير، وجزى الله كاتبه خيراً وأكثر من أمثاله.(1/94)
يقول الكاتب/ عبد العزيز بن فهد الفيصل الفرحان آل سعود (1): عجيب أمر صحفنا نراها تطرب لما يطرب له الآخرون.. وتحزن لما يحزن له الآخرون..
كنت أظن أن لنا خصوصية: في إعلامنا وفي جميع شؤون حياتنا.. أين منطلقنا العقدي الذي رسمناه لأنفسنا راضين مطمئنين؟!
أين منطلقنا الشرعي الذي نزن به الأقوال، ونعرف من خلاله الرجال؟ نعم مات نزار وأفضى إلى خالقه.. وفي كل يوم يموت أناس ويولد آخرون؟!
هل يحتاج موته إلى كل هذا النعيق في صحفنا؟! هل حلت بنا الطامة الكبرى بموته؟!
بالأمس القريب مات الغزالي ومات شيخ الأزهر ومات في هذا البلد من علمائنا الأجلاء من مات.. فخرست ألسنة، نراها اليوم ثرثارة، وجفت أقلام نراها اليوم سيالة.
من منا يصدق عندما تمنحه إحدى صحفنا زاوية تعد أسطرها بعد أن يجاز نشرها!؟
ومن منا يصدق أن صفحات بأكملها تمنح للآخرين مجاناً!!
ماذا أهدت صحفنا لموت نزار يوم الجمعة الموافق 5/1/1419هـ.
إن الأمر لم يكن بالحسبان أن تنطلق أقلام بتمجيد هذا الشاعر الذي تعدى في شعره على الذات الإلهية والأنبياء الكرام.
وانطلقت إحدى الصحف لتعبر عن (فجيعة الأمة العربية) بقولها: رحل صوت العرب وقلب الشباب النابض…
أتدرون ماذا قال أحد كتاب تلك الصحيفة؟ قال: إذا مات نزار. ثم تدارك أمره فقال: لا.. نزار لم يمت.. لا تصدقوا فهذه إشاعة.. أو هو إبريل يرمي علينا كذبته الكبرى قبل أن يودعنا!!
أي جرأة هذه؟!… أي تطاول على سنن الله في خلقه هذا؟!
أقول: نعم لمسئولية الكلمة وأقول: لا لحرية الكلمة التي تخالف مبادئ تعاليم ديننا إذا كان هؤلاء أشباه كتابنا!!
أنا لا أنكر شاعرية نزار ولا جودة صناعته الشعرية.. أنا أنكر على الذين ينساقون وراء التيار هم ليسوا بسباحين..
أنا أنكر على الذين ينسون أعداءهم بسرعة: إن قلب الشباب النابض الذي تندبه تلك الصحيفة هو من قال بالتحلل والالحاد..
__________
(1) جريدة الجزيرة بتاريخ 11/1/1419هـ.(1/95)
لا تغرنكم قصائده السياسية، إن هي (أو معظمها) إلا حق أريد به باطل!
هل تريدون أن أحدثكم عن فقيدكم يا من مجدتموه؟
إنه يقتات من مفاتن النساء وينام على أعتابهن!!
إن هذا الذي تمجدونه قد مجد نفسه فلا يهمه مدحكم، ألم يقل وقوله الزور:
كتبت شعراً لا يشابه سحره إلا كلام الله في التوراة!؟
ولا أعرف من زكى نفسه سوى إبليس!
بل يذهب شاعركم إلى أبعد من ذلك حيث يقول:
مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي!؟
هل أزيدكم تعريفاً بصاحبكم يا أهل تلك الصحيفة.
تعالوا فاسمعوا إلى كفره البواح حين يقول:
حين وزع النساء على الرجال وإعطاني إياك..
شعرت… أنه انحاز بصورة مكشوفة إلي
وخالف كل الكتب السماوية التي ألفها
فأعطاني النبيذ، وأعطاهم الحنطة
إلى أن يقول: حين عرفني الله عليك…
وذهب إلى بيته.. فكرت.. أن أكتب له رسالة على ورق أزرق.. أبدؤها بعبارة: يا صديقي!!
أبعد هذا زندقة؟! أبعد هذا يستحق صاحبكم كل هذا العناء الصحفي؟!
هل تريدون المزيد؟!
يقول، واستغفر الله مما يقول:
لأنني أحبك.. يحدث شيء غير عادي..
في تقاليد السماء..
يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب..
ويتزوج الله.. حبيبته!!؟
ومرة أخرى أقول: أنا لا أتكلم عن فنه الشعري فذاك أمر آخر.
أخيراً لا أجد ما أختم سوى قول الله تعالى: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } (الشعراء: من الآية 224-226).
أما تتمة الآيات فإنها لا تصدق على شاعر تلك الصحيفة.
إن الكلمة أمانة.. إنها مسؤولية.. نعم لمسؤولية الكلمة.. لا لحرية الكلمة المتجردة من تعاليم ديننا.(1/96)
وخليق بأدبائنا وشعرائنا أن يتفق أدبهم مع أدب دينهم وحري بالصحافة السعودية المسلمة أن تربأ بما ينشر على صفحاتها بما يتنافى وعقيدتنا الإسلامية وتراثنا وعاداتنا التي تتميز عن عادات وتقاليد الآخرين، إنها نابعة من ديننا الإسلامي، وليست مبنية على عادات جاهلية أو حضارات بائدة.
صحيح أن حكومتنا الرشيدة قد منحت أبناءها الثقة ليكتبوا ما بدا لهم، لكن الأبناء مطالبون أن يكونوا في مستوى هذه الثقة.
قال تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (الاسراء:36).
أيها المسلمون أن الأمر عظيم، والخطب جليل.. ما أعظم الكارثة حين ينحرف الشباب وهم عماد الأمة وأملها في المستقبل.. وما عاد الانحراف يخفى ونحن بين الفينة والأخرى نسمع عن جرائم خلقية يندى لها الجبين، ونحن مسؤولون أمام الله عن هؤلاء الشباب
الذين تفشت بينهم المخدرات وحطمت مستقبلهم في الدنيا وجعلتهم على شفير الهاوية في الآخرة.. كما نحن مسؤولون عن انتشار الفاحشة في عدد منهم تلك التي تذهب رجولتهم، وتهدر طاقتهم، وتذهب حياءهم وتقتل طموحات الرجال في نفوسهم.. الخطب كبير حين يمتلك هؤلاء المراهقون أسلحة فتاكة فيوجهونها إلى الأبرياء من حولهم ولربما قتلوا بها أقرب الناس إليهم.. بل ربما اعتدوا بها على أنفسهم.
لا بد من قومة صادقة لله وتوعية شاملة للمخاطر تشمل الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات ورجالات الأمن والحسبة، والأئمة والخطباء والشباب الغيور على دينه وأبناء أمته.. ورجالات الإعلام والمفكرين والأدباء القادرين على الكتابة ومخاطبة جمهور الأمة وشبابها وشاباتها على الخصوص.(1/97)
ولا بد مع ذلك من الحزم في العقوبة لمن لا يجدي معه النصح ولا يستفيد من التوعية ولا شك أن العقوبات في الإسلام ذات أهداف جليلة وإن ظنها الجهلة للوهلة الأولى شديدة على من أقيمت عليه.. ولا ضير أن يهلك شخص في سبيل حياة الآخرين والله يقول: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:179).
وكما ندعو إلى معاقبة أصحاب الجرائم الخلقية بما يكفل عدم انتشارها وتدميرها للشباب ندعو كذلك إلى التشديد في توفير السلاح عند الأحداث والمراهقين الذين لا يحسنون استخدامها.
الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله أيها الناس، واخشواً يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاء عن والده شيئاً، إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/1/1419هـ.(1/98)
أيها المسلمون.. ويهيم المحبون للدنيا بمحبتهم طرائق قدداً، فذاك متيم القلب لمحبوبته.. وذاك صريع العشق لمن استبلت فؤاده، وثالث محب مفتون بماله أو ولده ورابع مغرور بملكه وسلطانه أو حرثه ونسله ولا تكاد تخرج هذه وتلك عن شهوات الدنيا الفانية، من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، وعنها قال تعالى: { ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } (آل عمران: من الآية14).
وتبلغ المحبة دركات الحضيض حين يتخذ الناس أنداداً من دون الله يحبونهم كحب الله…
أما المؤمنون.. فلهم في المحبة شأن آخر، فهم وإن أحبوا المال والأهل والولد، وأنسوا بما لذ وطاب مما أحل الله من متاع الدنيا، فهم مقتصدون في حبهم لها، وهم أشد حبا لله منها، يأنسون بذكره ويستلذون بطاعته يستكثرون به من قلة، ويأنسون به حين الوحشة، وتطيب في جنح الظلام مناجاتهم له، محبة الله غايتهم، ورضاه عنهم أحلى آمانيهم، يحبون ما يحبون لله.. ويبغضون ما يبغضون في ذات الله.
عباد الله: ومحبة الله تعالى في الإيمان ومقاماته كواسطة العقد بين حباته، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس والرضى، ولا قبل المحبة مقام إلا وهو من مقدماتها كالتوبة والصبر، والزهد، وغيرها (1).
المحبة يزكو بها العمل القليل، ويبارك بها في الجهد اليسير فلا المجتهد السابق مستغن عنها، ولا القاصد أو المقصر مفلح بغيرها.
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة ص322.(1/99)
أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "بينما أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجين من المسجد، فلقينا رجلاً عند سدة المسجدة، فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"ما أعددت لها؟" قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله: ما أعددت كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت".
وفي رواية – لمسلم – قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإنك مع من أحببت".
قال أنس: فأنا أحب الله ورسول وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم (1).
هذه المحبة – يا أخا الإسلام – هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، هي الحياة فمن حرمها فهو من جملة الأموات وهي النور فمن فقدها فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء فمن عدمها حلت بقلبه جميع الأسقام..
كيف لا وهذا المحب صلوات ربي وسلامه عليه يقول: "أتاني ربي عز وجل" – يعني في المنام – (ورؤيا الأنبياء حق) "فقال لي يا محمد؛ قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك"(2).
__________
(1) خ6171، الفتح 10/573، ومسلم 2639، 4/2032.
(2) الحديث رواه ابن خزيمة في التوحيد، والطبراني في الكبير، وأحمد، والحاكم والترمذي وحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/98، وانظر شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى ص9.(1/100)
يا عبدالله.. يا من تبحث عن حلاوة الإيمان.. فلن تجد طعمه حتى يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما – ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه – كما يكره أن يلقى في الناء".
فإن قلت: وما السبيل إلى محبة الله، وما الأسباب الجالبة لها؟
أجابك ابن القيم يرحمه الله في مدارج السالكين، بقوله: الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها عشرة هي:
قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنه توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
دام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينهما وبين الوصول إلى المحبوب.
مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبة الله.
وهو من أعجبها: إنكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.(1/101)
مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
ثم قال ابن القيم يرحمه الله: فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة. وبالله التوفيق (1).
يا أخا الإيمان.. ولا يجتمع في القلب محبة الله ورسوله، وبغض الصالحين، ومعاداة أولياء الله المتقين والتحريش بهم، بل يلاحق الوعيد الإلهي من عادى لله وليا.. وفي مقابل ذلك تبدو آثار المحبة على من تقرب إلى محبوبه في سلوكياته واضحة جلية. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه"(2).
أيها المسلمون.. ولا عجب أن تتعلق قلوب الناس بأولياء الله من عباده الصالحين، وإن لم يمنحوهم من مغريات الدنيا فتيلاً، ذلكم لأن واهب المحبة هو الله العليم الخبير، ومقادير المحبة تنزل من السماء، ولا توزع من الأرض.. والفرق كبير بين السماء والأرض، وفي دنيا الواقع يجد الناس مصداق قول رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - :"إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال إني أحب فلاناً فأحبه، فيجبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض" وذكر في بعض الروايات في المبغض من قبل الله عكس ذلك"(3) أعوذ بالله.
الخطبة الثانية
__________
(1) المدارج 3/17،18.
(2) المدارج 3/25.
(3) المدارج 3/25.(1/102)
الحمد لله صاحب الفضل والنعم والإحسان، أحمده تعالى وأشكره ولا نحصي ثناء عليه.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله للناس مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين.
إخوة الإسلام.. وليست محبة الله دعاوى تجوز على كل لسان، أو أماني وظنون يوصف بها كل إنسان، وإن كان فضل الله واسعاً لا يستطيع حجره كائن من كان ولكن الدعاوى تصدقها الأعمال أو تكذبها.
ومن براهن المحبة الصادقة لله اتباع شرع الله والرضا به والتسليم دون حرج أو تململ، وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر به أو نه، وفيما أحبت النفس أو كرهت.
قال تعالى – وقوله الفصل - { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران:31).
قال ابن كثير يرحمه الله: هذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله (1). فإذا حصل الموجب الحقيقي للمحبة بالاتباع، كانت المحبة، بل كان ما هو أعظم منها، وهو محبة الله للمحب، ولهذا قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تحب.
هذه الآية – معاشر المسلمين – فيها امتحان لمحبة العبد لربه، كما قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية (2).
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/562.
(2) ابن كثير 1/562.(1/103)
عباد الله ومن براهن محبة الله.. أن يكون المحب متواضعاً لإخوانه المؤمنين، متذللاً لهم، رحيماً بهم، يحبهم لله، ويواليهم فيه – وإن لم يكن بينه وبينهم نسب أو حسب – لكنها رابطة العقيدة وأخوة الإسلام توجب عليه إلا بحقرهم ولا يخذلهم ولا يظلمهم.
وفي مقابل ذلك يكون المحب الصادق عزيزاً على عدوه وخصمه، شديداً عليهم ويبغضهم لله، ويعاديهم لكفرهم به، وتطاولهم على شرع الله.
وهو في ذلك محتاج إلى المجاهدة في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الحق، ودفع الباطل وأهله.
فهل يصدق الحب من شخص لا يغار لمحارم الله؟ وهل يصدق الحب لله ممن لا يتمعر وجهه لفشو الباطل وكثرة المبطلين؟!
إن محبة الشيء تعني الدفاع عنه، والدعوة إليه.. والدفاع عن الحق، والدعوة للخير الذي يحبه الله.. هو برهان على محبة الله.. وأنى لشخص يدعي محبة الله، وهو ناصب نفسه للدعوة للشر، ومحاربة الخير، وأهله! والمحبون الصادقون لا تأخذهم في دعوتهم وجهادهم للخير لومة لائم.. أو إرجاف مرجف – أو تخذيل مخذل –إقرؤوا بتمعن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (المائدة:54).
وفي فترات ضعف الأمة تتبدل المفاهيم، وتنتكس الأحوال ولربما أصبح العدو صديقاً، والصديق عدواً.
ولكن ذلك لا يؤثر على حقائق القرآن، ولا يغير سلوكيات أهل الإيمان، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.(1/104)
إنها قافلة محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه، تتجدد ما بقي القرآن حياً في قلوب الأجيال تردد { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود } (الفتح: من الآية29).
يا أخا الإيمان كن من دعاة الخير يحبك الله، فإن لم تستطع فأحب الخير حيث يحبه الله. وكن من أهل الخير فهم أولياء الله وأحباؤه فإن لم تستطع اللحاق بهم، فأحبهم وتمن اللحاق بهم يحبك الله ويعينك.. فالمرء مع من أحب.. والرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فهو معهم.. فضلاً من الله ورحمة، ليكن حبك لله وفي الله، وفق شرع الله وإياك أن تكون محبتك حيث يحب دهماء الناس فمن يحبون أو يبغضون وفقاً للأهواء والشهوات ليس إلا.
يا أخا الإيمان وإذا أردت أن تعلم درجة حبك له فعد لهذه الأسباب العشرة التي ذكرها العلماء.. وانظر في نفسك ومدى قربك أو بعدك منها، وسدد ما فاتك منها.. فلا أراني وإياك إلا في أشد الحاجة إليها في اليوم قبل الغد لنستجمع منها لأنفسنا زاداً أثناء السفر وبعد انتهاء السفر حيث القرار في دار المستقر.
ابدأ – يا أخا الإسلام – من الآن في بناء مستقبلك الحقيقي هناك، أما المستقبل هنا فمجاز وألغاز، ولعب ولهو وزينة وتفاخر، ابدأ من الآن في البناء شاباً كنت أو هرماً، رجلاً كنت أو امرأة.. واجتهد في إيداع الأرصدة هناك فالليل والنهار خزانتان تملآن هنا وتفتحان هناك، فاجتهد في ملء تلك الخزائن ببراهين المحبة لله وعناوين الإخلاص، ودلائل الطاعة له.
ولا تنس الاستعانة بالله، وقل كما قال محمد - صلى الله عليه وسلم - :"اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك".(1/105)
وكلما فتر عزمك أو ضعف سيرك تذكر قرب الرحيل إلى ربك، واتخذ من أصحاب الخير عوناً لك في طريقك.. رعاك الله وسددك وجعلنا وإياك من أحبابه العالمين بكتابه، والسائرين على منهاجه. هذا وصلوا.
العناية بالقرآن (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خص هذه الأمة بأفضل كتبه، وخاتم أنبيائه ورسله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
أيها المسلمون: كتاب الله طريق للتقوى وسبيل لمحبة الله تعالى، وهو يهدي للتي هي أقوم هو – كما وصفه علي - رضي الله عنه - : (الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى، ونقصان من عمى.. إلى أن يقول: واعلموا أنه شافع ومشفع، وقائل ومصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبه عمله غير حرثة القرآن).
"فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم"(2).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/3/1419هـ.
(2) أحكام القرآن، الكيا الهراسي 1/6.(1/106)
عباد الله وفي هذا الزمان يكثر في المسلمين هجرة القرآن إما حساً أو معنى.. أو كليهما.. إذ لا يقيمون وزناً لتلاوته ولا يتدبرون آياته.. ولا يعملون بتوجيهاته، ولا ينتهون عند حدوده ومحارمه.. حتى وإن قبلوه عند التلاوة.. أو رفعوه في أمكنة علية، أو ابتدأوا به في مناسباتهم العامة، أو قرؤوه على موتاهم!
ويوجد في المسلمين أيضاً من يحفظون كتاب الله، ويكثرون تلاوته.. ولكن يقل فيهم المتأدب بآدابه، والمستشعر لفضل الله ونعمته عليه به، ويقل فيهم العامل به، ويكاد يصدق في المسلمين اليوم مقولة ابن عمر - رضي الله عنه - وهو يقارن بين السلف والخلف في العمل بالقرآن إذ يقول: كان الفاضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به (1).
أخوة الإسلام لقد استشعر السابقون من أهل الإيمان والتقى قدر القرآن، وعنهم قال الحسن بن علي - رضي الله عنه - : "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويعتقدونها في النهار"(2).
واعتبر من بعدهم تلاوة القرآن شرفاً وكرامة، حتى قال ابن الصلاح – يرحمه الله – قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وإنها حريصة على استماعه من الإنس (3).
__________
(1) القرطبي. الجامع لأحكام القرآن 1/40.
(2) التبيان في آداب حملة القرآن، النووي 28.
(3) الإتقان، للسيوطي 1/29.(1/107)
وليس يخفى أن أهل القرآن هم خيار الأمة.. بل هم أهل الله وخاصته، ففي قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس } (آل عمران: من الآية110)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". وقوله في حديث آخر: "إن الله عز وجل أهلين من الناس"، قيل من هم يا رسول الله؟ قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته"(1). في هذا كله ما يؤكد أن أهل القرآن خيار من خيار، وأنهم خاصة الخاصة.
"وصاحب القرآن حامل لواء الإسلام كما قال القاضي عياض يرحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلغو مع من يلغو ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو تعظيماً لله تعالى"(2).
__________
(1) رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 178).
(2) مختصر منهاج القاصدين 45.(1/108)
يا حمل القرآن أخلص في حمله، واعمل بما فيه، وأبشر بالخير والمثوبة عاجلاً وآجلاً، وردد، وقف، وتمعن قوله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (يونس:58) قال ابن عباس - رضي الله عنه - : فضل الله ودونك هذا الحديث – وما فيه من فضائل وكرامة لصاحب القرآن – فقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، حديثاً وإن كان فيه ضعف فيحتمل التحسين – كما قال بعض أهل العلم عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر وراء تجارته، وإني لك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والده حليتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان، بم كسينا هذا؟ فيقال بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال اقرأ واصعد في درجة الجنة غرفها، فهو في صعود ما كان يقرأ هذا كان أو ترتيلاً"(1).
أيها المسلمون: كما يكرم ذو الشيبة المسلم، وذو السلطان المقسط.. فكذلك ينبغي أن يكرم حامل القرآن. فذلك من إجلال الله.
فقد صح في الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط"(2).
__________
(1) صحيح سنن ابن ماجه (3048)، وأحمد (348).
(2) صحيح سنن أبي داود (4053) 3/918.(1/109)
عباد الله ما أضاع وقته من صرفه لحفظ القرآن أو تدبره أو أكثر من تلاوته، وما مرض قلب عاش مع القرآن، وبم يترنم من لم يتغن بالقرآن.. وبم يناجب ربه من لم يكن معه شيء من القرآن.. ألا وإن الذي ليس معه شيء من القرآن كالبيت الخرب.. ما هزمت أمة كان دستورها القرآن وما خاف الأعداء من شيء كخوفهم من القرآن، وما أقض مضاجعهم أكثر من عودة المسلمين للقرآن.
أيها المسلمون: عظموا كتاب ربكم واستشفوا به من أدوائكم، واطلبوا النصر به على أعدائكم، وميزوا به بين أعدائكم وأصدقائكم.. تأدبوا بآداب تلاوته ويرحم الله أقواماً كانوا إذا تثاؤبوا وهم يقرؤون كتاب الله أمسكوا عن القرآن تعظيماً له حتى يذهب عنهم التثاؤب، كما قال مجاهد يرحمه الله (1) وأنى لقوم تلك همهم وآدابهم أن يتشاغلوا حين تلاوته.. أو ينشغلوا عن تلاوته وتدبره.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } (فاطر: من الآية 29-30).
نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين يمن على من يشاء بفضله، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا.. ولكن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكرمه ربه إذ أنزل عليه القرآن وكان خلقه القرآن. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1/27.(1/110)
أخوة الإيمان: لا تجارة أعظم من تجارة الإيمان وعمل الصالحات، وتلاوة كتاب الله ضمن التجارة التي وعد الله أنها لن تبور.. وهنيئاً لقراء القرآن لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } (فاطر:29)، قال قتادة: كان مطرف بن عبدالله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء (1).
ومع فضل الجهاد فقد سئل سفيان الثوري يرحمه الله، عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
ويروى أن بعض فقهاء مصر دخلوا على الشافعي – يرحمه الله – وهو في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: "شغلكم الفقه عن القرآن، إني لأصلي العتمة، وأضع المصحف بين يدي، فما أطبقه حتى الصبح"(2).
وبقدر ما تكشف هذه النصوص عن قدر القرآن وقيمته وصرف الهمم له عند هؤلاء الأخيار، فهي تكشف عن جلدهم وطول مكثهم في تلاوته وتدبره، كيف لا والمشغول بالقرآن يعطى أفضل ما يعطى السائلون، ففي الحديث القدسي يقول الرب تبارك وتعالى: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"(3).
عباد الله وقيمة التلاوة للقرآن بتدبره والتأثر به، وإنما أنزل القرآن ليتدبر ويعمل به، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (صّ:29).
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/532.
(2) البرهان في علوم القرآن 1/462.
(3) رواه الترمذي، (القرطبي 1/ 4).(1/111)
قال البقاعي – يرحمه الله – في تفسير هذه الآية، أي لينظروا في عواقب كل آية وما تؤدي إليه، وما توصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها، وكان جديراً بأن يضيع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً"(1).
وفي قوله تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (محمد:24)، وقوله: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } (النساء:82). قال القرطبي: دلت هذه الآيات على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه (2).
أيها المسلمون: إذا كانت قلة التدبر ظاهرة فاشية فينا، فإنما أتينا من غفلتنا عن أهمية التدبر من جانب، ورغبتنا أحياناً لكثرة القراءة على أي حال كانت مع إنهاء السورة من جانب آخر، حتى قال أحد العارفين: إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها"(3).
أما المنافقون فمن سيماهم الإعراض عن تدبر القرآن والتماس الهداية منه، وذلك لأن قلوبهم مريضة بالشهوات والشبهات ولذا عاب الله عليهم بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر في معانيه (4).
__________
(1) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي 16/3375.
(2) تفسير القرطبي 5/290.
(3) البرهان 1/471، شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى ص20.
(4) القرطبي 5/290.(1/112)
يا أخا الإيمان فإن قلت فما السبيل لتدبر القرآن وكمال الانتفاع به؟ وجدت ذلك في قاعدة جليلة جعلها ابن القيم – رحمه الله – على رأس الفوائد في كتاب الفوائد من حيث قال: "إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعة وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } (قّ:37) إلى أن قال: فإذ حصل المؤثر – وهو القرآن – والمحل القابل، وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر"(1).
يا أيها الشيخ الكبير ماذا معك من القرآن، وما نصيبك من تلاوته وتدبره، ولئن فاتك منه شيء فيما مضى فاستدرك ما فاتك، فإن لم تستطع فشجع أولادك على حفظ كتاب الله والعناية به، ففضل الله واسع.
أيها الموظف والمدرس والعامل النشط ترى هل تستثمر شيئاً من نشاطك وفراغك في تلاوة كتاب الله وحفظ ما استطعت من حفظه، فالقوة يعقبها الضعف، والفراغ يعقبه الشغل، وتحية للمعلمين أو الموظفين وغيرهم الذين يجتمعون على حفظ كتاب الله وتدبره.
أيها الشاب الفتي ما نصيبك من كتاب الله حفظاً.. وما نصيبك منه تدبراً، إياك أن يغلبك الفتيان في الحفظ في أيامك الأولى فتندم بعد على التفريط ولات ساعة مندم.
أيها المسلمون – رجالاً ونساءً – استوصوا بكتاب الله خيراً، وأحلوه بالمنزلة التي أرادها الله له تفلحوا في الحياتين وتسعدوا في الدارين.
أما أنتم معاشر الحفاظ لكتاب الله فلي معكم حديث آخر يسره الله، اللهم أعنا جميعاً على العناية بكتابك وتدبره، واجعله لنا في الدنيا رفيقاً.
__________
(1) الفوائد ص3، شرح الأسباب العشرة ص24.(1/113)
يا حامل القرآن (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
أيها المسلمون لا ينتهي الحديث عن القرآن عند حد معين وعجائب القرآن لا تنتهي، والموعظة بالقرآن لا تقتصر على جيل دون جيل، ولا عن فئة من الناس دون أخرى، لقد جعل الله القرآن مأدبته الأخيرة من السماء، لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات، والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة وذلك لتتلقاه الأمة بالحفظ ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليل والفطن، والبليد والذكي والفارغ والمشغول، والأمي وغير الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظاً ولفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف (2).
عباد الله لقد نزل في وصف كتاب الله قوله تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم } (العنكبوت: من الآية49).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/4/1419هـ.
(2) الرازي، فضائل القرآن 49.(1/114)
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : "إنما بعثك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان"(1).
وعلق النووي رحمه الله على الحديث بقوله: فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليها الذهاب، بل يبقى على مر الزمان (2).
يا حافظ القرآن هنيئاً لك بحفظ القرآن إذ كنت في عداد العلماء، فانظر يا هذا ماذا علمك القرآن؟ وماذا تعلم من علوم القرآن، وأسراره، وحكمه؟
يا حافظ القرآن.. لك البشرى إذا كنت في طليعة أمة جاء وصفها في الكتب المتقدمة بأن أناجيلهم في صدورهم (3).
ألا ويح الأناجيل المكرمة إن لم تغن عن أصحابها شيئاً ألا ويح القراء والحفاظ، إن حملوا ما لم يعظموا، أو جهلوا بما حملوا، أو لم يعملوا بما علموا؟
يا حافظ القرآن جاء في وصف القرآن الذي تحمله في صدرك قوله - صلى الله عليه وسلم - : "لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق"(4).
وقد فسره بعض أهل العلم بأن المقصود بذلك حافظ القرآن، وقال أبو أمامة "اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله لا يعذب النار قلباً وعي القرآن"(5).
وقال أبو عبيدة: "وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن"(6) ألا فاغتبط بهذا الفضل، وعظم كتاب الله، وما أسعدك حين تكون في عداد الناجين – برحمة الله – من النار. وفي لفظ: "لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار"(7).
__________
(1) رواه مسلم 2865.
(2) شرح مسلم 17/204.
(3) تفسير ابن كثير، عند آية العنكبوت 3/689.
(4) روه أحمد والدارمي وغيرهما.
(5) فضائل القرآن للرازي 155، 156، محمد الدويش: حفظ القرآن 24.
(6) فضائل القرآن: 23.
(7) صحيح الجامع 5/62.(1/115)
يا حافظ القرآ، وأنت مغبوط، بل محسود على حفظ كتاب الله وتلاوته، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه أناء الليل وآناء النهار…"(1) الحديث.
فهلا قدرت هذه النعمة، وهل تقوم بحقها فتتلو كتاب الله آناء الليل وآناء النهار.. تقرأه حضراً وسفراً راكباً أو ماشياً أو قاعداً أو نائماً.. ويظل يسرج في قلبك حتى تضيء منه على الآخرين.. ويظل يمدك بالنور فتكشف به آمارات الطريق لمن ضلوا السبيل.
أجل لقد نزل القرآن أول ما نزل، ومهمته إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأوحى الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحى: { الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (ابراهيم:1).
وسائل نفسك يا حامل القرآن – ما نصيبك من إخراج من عمي في الضلالة إلى نور الهداية.. إن القرآن حجة لك أو عليك وأنت مؤتمن في حمله، ومسؤول عن العمل به، والدعوة إلى هديه.
__________
(1) ح 5026.(1/116)
يا حافظ القرآن وخليق بك أن تعرف بخشوعك في صلاتك إذ بعض الناس عن صلاتهم ساهون، وبحسن سمتك إذا بدأ بعض القوم في حديث الباطل يخوضون، وببكائك وخوفك إذا ما الناس يضحكون وعن أهوال يوم القيامة غافلون، وبصدق أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، إذا عمت البلوى بالمداهنة، وضعف جانب الأمر والنهي بين العامة والخاصة يا أهل القرآن أو تروا وليطل قيامكم بالقرآن، ولتمتلئ محاريبكم بالدموع خوفاً من الرحمن، وحزناً على واقع أمة القرآن وأين هممكم من همة الشاب عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - - وقصته مشهورة في الصحيحين وغيرهما – قال: كنت أصوم الدهر واقرأ القرآن كلي ليلة، فإما ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما أرسل لي، فأتيته فقال: "ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟" قلت: بلى يا نبي الله، ولم أرد إلا الخير، قال: "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"، إلى أن قال: "واقرأ القرآن في كل شهر"، قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "فاقرأه في كل عشرين"، قال قلت: أ نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً.." الحديث (1).
يا أيها الحافظ فإن تقاصرت همتك عن هؤلاء، وقلت في نفسك تلك أمة قد خلت، ولا سبيل لمحاكاة رجالها.. ويصعب التعلق بقصص أولي العزم فيها؟ قلت دونك وفي همم المعاصرين ما يشحذ العزائم، ويجدد ذكرى السابقين وقد حدثني من أثق به أن الله فتح عليه وأعانه في مرحلة من مراحل عمره، فكان يختم القرآن كل ليلة، وما انقضت العشر الأواخر من رمضان حتى أتم معها عشر ختمات للقرآن. وكم لله من فضل على عباده وكم في المحن من منح إلهية، وفيما تكره النفس خيراً كثيراً.
__________
(1) انظر صحيح مسلم ح1159.(1/117)
إنها فتوحات ربانية، وعزائم بشرية صادقة.. تقوي العزائم وتجدد الهمم، وتثبت أ، في النفس قدرة على العطاء إذا ما أخذت بالجد، واستعانت بالواحد الأحد.. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ومن لم يستطع أن يبلغ ما بلغه أولو العزائم فليتشبه بهم، وليحدث نفسه بسيرهم، وليحافظ على ما استطاع من ورده من القرآن فالعمل القلي الدائم يحبه الله، وهو وصية وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس في القرآن قليل،والآيتان منه خير من ناقتين كوماوين والثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل، كذا قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لأهل الصفة في الغدو إلى المسجد وتلاوة كتاب الله (1).
أعوذ بالله: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الأنعام:155).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب لينذر به وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى منزلة القرآن بين كتبه المنزلة، وجعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أمره ربه بقراءة القرآن على مكث، كما أوحى الله: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } (الاسراء:79) فقام به - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه، واستن بسنته أصحابه والتابعون وخيار الأمة سلفاً وخلفاً ولن تزال العناية بالقرآن حتى ينقضي الليل والنهار تحقيقاً لوعد الله بحفظ كتابه: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9).
أيها المسلمون عموماً.. وأيها الحافظون لكتاب الله خصوصاً استشعروا عظيم نعمة الله عليكم بالقرآن، وإياكم أن يكون أغلى ما عند الناس أرخص ما لديكم.
__________
(1) رواه مسلم (803).(1/118)
ومن وصايا الأئمة أسوق لكم قول الفضيل – يرحمه الله - : "ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى حد من الخلق وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه، وحامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يغلو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو" (1).
ووصية الآجري – هي الأخرى – ذات قيمة فاعقلوها واعملوا بها، يقول – يرحمه الله -: فأول ما ينبغي لحافظ القرآن أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، بصيراً بزمانه وفساد أهله فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً للسانه، مميزاً لكلامه، همه في درس القرآن إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، ليس همته: متى أختم السورة؟ بل همته: متى استغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين، متى أكون من المتوكلين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين..الخ الصفات الحميدة والخلال الكريمة التي يسائل نفسه متى يبلغها؟ (2).
أما أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - وهو من يعرف بحسن التلاوة لكتاب الله، فقد روي أنه جمع الذين قرأوا القرآن – وهم قريب من ثلاثمائة، فعظم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخراً وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من ابتع القرآ، هبط به على رياض الجنة، ومن ابتعه القرآ نزه به في قفاه فقذفه في النار"(3).
__________
(1) الآجري، أخلاق أهل القرآن (37)، أبو نعيم 8/92.
(2) الآجري، أخلاق أهل القرآن (79)، محمد الدويش، حفظ القرآن 61.
(3) الدارمي (3328)، والآجري (3)، وانظر: حفظ القرآن 61.(1/119)
يا حامل القرآن إياك أن ترائي بحمله، أو تتكبر فتغمط أحداً حقه أن آتاك الله القرآن.. ولا خير فيك إن لم يهذب القرآن خلقك، ويحببك للناس ويحبب الناس إليك، بل وينبغي أن تسجد لله شكراً أن آتاك القرآن، وتحمده سراً وجهراً وظاهراً وباطناً أن جعلك من أهل القرآن، فلم تحفظه بحولك وقوتك، ولا بفرط ذكائك وقوة صبرك بل بحول الله وتوفيقه وإعانته.. فهناك من يفوقك في هذه الصفات كلها ولم تمكنه هذه القدرات كلها في حفظ كتاب الله. فاعقل وثمن نعمة الله عليك واعلم أنك ممتحن فيها، فاشكر الله عليها، وأد حق الله فيها، وليرى الناس فيك أخلاق القرآن، وصفات المؤمنين، وسيما الخاشعين فيعلموا بها وبآثارها إنك من أهل القرآن وإن لم يجزموا أنك من حفاظ كتاب الله.
يا حامل القرآن من حق الله عليك في هذه النعمة أن تعلم القرآن من احتاج إلى تعليمه.. وتذكر بقيمة تلاوته وتيسير حفظه من ظن ذلك أو توهمه أمراً عسيراً.. لتكن مصباحاً يضيء حيثما حل أو ارتحل، ولتكن نموذجاً للعلم والوعي تذود عن حياض الإسلام سهام الموتورين، وتذود عن لغة القرآن كيد الكائدين.
أيها المسلمون كباراً وصغاراً، ذكراناً وإناثاً. هذه بعض مزايا وفضائل حفظ كتاب الله.. إلا وإن الفرصة لا تزال متاحة لمن فاته الركب في سني عمره الأولى.. فلا حد للحفظ وإن كان في زمن الصبا أولى وأحرى بالثبات.. ولكن التاريخ يثبت والواقع يشهد بأن مجموعة من الناس حفظوا كتاب الله على كبر، إنها الهمة الصادقة والعزيمة القوية والاستعانة بالله وحده تذلل الصعاب وتجعل العسير سهلاً والمستحيل أمراً واقعاً.. فجدوا معاشر المسلمين في طلب كتاب الله وحفظه..(1/120)
واحرصوا معاشر الآباء والأمهات على تنشئة أبنائكم وبناتكم على حفظ كتاب اله والعناية به، فمن أسرار القرآن وإعجازه أن الصبي قد يتهيأ لحفظ كتاب الله وهو بعد لا يعرف للحرف شكلاً، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلمات محدودة.. ثم ما يلبث زمناً إلا وقد حفظ كتاب الله.
معاشر المسلمين لا يغب عن بالكم وأنتم تحاولون حفظ كتاب الله أو تحفيظه لأولادكم أن تذكروا قوله تعالى: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر:17).
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من اراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه"(1).
اللهم يسر لنا حفظ كتابك، وأعنا على تدبره والعلم به، والعمل بمقتضاه.. اللهم اجعلنا من أهل القرآن.. اللهم حكمه فينا وفي المسلمين.
آية محكمة ودلالتها (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة:35).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 17/134.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/4/1419هـ.(1/121)
عباد الله، تنطوي هذه الحياة الدنيا على مسرات وأحزان وشدة ورخاء، وليست المسرات والرخاء علائم خير دائماً، وليست الأحزان والشدائد دليل شر أو سخط على العبد، كلا وفي الناس من يتقلب في النعيم ويعيش معظم حياته في لهو ولعب، قد ترك لنفسه العنان لتقوده من شهوة إلى أخرى ومن الناس أيضاً من يكابد المرض، أو تتوالى عليه النوازل والمحن وإنك لتعجب أن ترى الصنف الآخر المبتلى أكثر أنساً وسعادة من الصنف الأول. فكيف يقع ذلك؟ وللإجابة باختصار أقول: إن الإيمان إذا وقر في القلب لم يعد للمرء من منغص في هذا الحياة، وصاحبة يرى مسكنه في الدنيا أعلى المنازل وإن كان مسكنه كوخاً مجمعاً.. أو بناءً صغيراً متواضعاً تمر بصاحب الإيمان الشدة أو الحاجة والمرض فيصير لها راضياً محتسباً فيعيش مطمئناً حينها، ثم تفرج الشدة وتقضى الحاجة ويزول المرض فيستبشر ويشكر، ويعيش في مسراتها أكثر مما عاشه المترفون طول حياتهم نعيماً وأنساً.
أجل يا عباد الله الأنس أنس الإيمان، والشقوة لأهل الكفر والفسوق والعصيان، وأن هملجت بهم البراذين وطقطت بهم البغال هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
هذه حقيقة ينبغي أن نعيها وأن اختلت موازين البشر في تقييمها.. لكنها أمر محكم، وقيمة ربانية.
ولتأكيد هذه الحقيقة تعالوا بنا لنقف على آية محكمة من كتاب الله طالما فرح بها المؤمنون، وأثر عن بعض السلف أنهم كانوا يقرأونها ويرددونها ويبكون لها حتى الفجر. تلكم الآية قوله تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (الجاثية:21).
"عن مسروق أن تميماً الداري - رضي الله عنه - قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية"(1).
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/241.(1/122)
وقال بشير: بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي، فمر بهذه الآية فمكث ليلة حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد، كما كان الفضيل بن عياض – يرحمه الله – كثيراً ما يقرأ هذه الآية ويرددها من أول الليل إلى آخره – كذا نظائرها – ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟
وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة (1).
يا أخا الإيمان أما نظائر هذه الآية فكثير في كتاب الله اقرأ وتمعن قوله تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ *أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } (السجدة: من الآية 18-20).
واقرأ وتدبر قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (صّ: من الآية 72-28).
وقف وقفة خاشع مصدق بقوله تعالى: { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } (الحشر:20).
أيها المسلمون ومن عدل الله ورحمته ألا يسوي بين الأخيار والفساق، ومن باب أولى ألا يسوي بين المؤمنين والكفاء سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة.
__________
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 16/166.(1/123)
وإذا علم عظيم الفرق في الجزاء في الآخرة، بما لا يمكن أن يتصوره المرء في مخيلته من أنواع النعيم، أو دركات الجحيم، والله يقول: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (السجدة:17).
وفي سؤال موسى – عليه السلام – ربه عن أدنى وأعلى أهل الجنة منزلة ما يكشف طرفاً من هذا النعيم، قال يا رب ما أدنى أهل الجهة منزلة؟ قال: هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي، فيقول لك مثله، ومثله معه، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة رضيت رب، فيقال هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذة عينك، فيقول رضيت رب (فهذا أدنى أهل الجنة منزلة).
قال موسى: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقة من كتاب الله قوله تعالى: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (السجدة:17) (1).
فإذا قارنت هذه الصورة بصورة معاكسة قال الله في بيانها: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } (فاطر: من الآية 36-37).
__________
(1) رواه مسلم.(1/124)
أدركت عظيم الفرق بين الفئتين، وتباين الصورتين وتفاوت المنزلتين – ولكن ينبغي أن تعلم – يا أخا الإسلام – أن فضل الله واقع ونعمته حاصلة لأهل الإيمان في الحياة الدنيا، قبل بلوغهم ما وعدوا به في الآخرة.. وآية الجاثية تقرر هذا وتؤكده والله يقول: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (الجاثية: من الآية 21-22). فهم سعداء في حياتهم وبعد مماتهم وقيل إن الضمير في قوله (محياهم ومماتهم) يعود على الكفار، والمعنى: محياهم محيا سوء، ومماتهم ممات سوء.
وقال مجاهد: "المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً"(1).
وقوله تعالى: { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء ما ظنوا بنا وبعد لنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار (2).
أخوة الإسلام والمتأمل في آيات القرآن يلحظ الحديث عن عدل الله وبيان حكمته من خلق السماوات والأرض أو مؤخراً حين الحديث عن فروق الجزاء بين الكفار والمؤمنين وبين المتقين والفجار، وحيث جاء ذكر العدل مؤخراً في آية الجاثية السابقة، فقد جاء مقدماً في آيات (ص) كما في قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (صّ: من الآية 27-28).
__________
(1) تفسير القرطبي 16/165، 166.
(2) تفسير ابن كثير 4/241.(1/125)
أيها المسلمون وهذه الآيات ونظائرها داعية للإيمان مؤنسة للمؤمنين، وفهيا الوعيد للكفار، وهي تكشف عن نوع الحياة التي يعيشها الفريقان في الحياتين، وفيها مبشرات عاجلة لأهل الإيمان لا تبديل لكلمات الله، ولا مغير لحكمه، وحري بأهل الإيمان أن يفرحوا بهذه الآيات ونظائرها، قال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (يونس: من الآية 62-64).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أجزل المثوبة لأهل الإيمان، وحكم بعدله وقضائه بالخيبة والخسران لأهل الكفر والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه النجدين.. فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآيات الله يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وما قبضه الله حتى ترك الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغعنها إلا هالك.. ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ويرزقه العمل والاستعداد ليوم الدين، اللهم صل عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين.
أيها الناس يشهد الناس مصداق كتاب الله في واقع الحياة إذ يرون فقيراً مدقعاً، أو مريضاً، أو مبتلى من أهل الإيمان ولكن حياته أنس وطمأنينة ورضا وصبر وشكر، قانع بما آتاه الله، راض بما قسم له، صابر على ما أصابه.
ويرون ذا نعمة موسراً معافى ولكن الهموم تتناوشه، والأمراض النفسية تحيط به، ذلكم لقلة الشكر والذكر عند هؤلاء، وفي القرآن إشارة إلى غلبة التكذيب والبطر عند أهل النعمة: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } (المزمل:11).(1/126)
{ كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } (العلق: من الآية 6-8).
وجاءت إشارات القرآن كذلك إلى ربط الرضى والصبر والشكر عند أهل الإيمان والبلوى { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } (الانبياء: من الآية 83-84).
أخوة الإيمان هنا أتوقف عند ذكر الرحمة في هذه الآية إثر ما ابتلى الله به نبيه أيوب عليه السلام، حتى امتدحه الله بالصبر عليها في آية أخرى فقال: { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (صّ: من الآية44).
وأقول إن القلة من الناس من يرى رحمة الله بعباده من خلال ابتلائهم بأنواع البلوى، ولذا قال العارفون: إن من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنع من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه وقد جاء في الأثر: إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟
وفي أثر آخر: إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمي أحدكم مريضه.
فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه.(1/127)
ومن رحمته سبحانه بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعظهم وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، كما قال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (آل عمران: من الآية30) كما قال غير واحد من السلف "من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به"(1).
أيها المسلمون ألا إن الذين يشهدون هذه المشاهد ويشعرون بهذه المشاعر هم المؤمنون حقاً، فهم يأنسون بذكر الله، ويشكرون أنعمه، ويصبرون محتسبين على أقداره وأولئك أهل الإيمان، وأصحاب الطمأنينة، وعنهم قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (الرعد:28).
اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما غيرهم فيتأفف لكل نازلة، ويضيق بأي بلوى تصيبه إعراضه عن الله دائم، ونعم الله عليه تتوالى، فلا هو على النعم شكر، ولا عن التضجر عن مصائب الدنيا ازدجر، أولئك يعيشون حياة الضنك في الدنيا، ويحشرون يوم القيامة على وجههم عمياً { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } (طه: من الآية 124-126).
__________
(1) ابن القيم، إغاثة اللهفان 2/252، 253.(1/128)
وعلى قدر البعد عن الله ونسيان آياته، والإعراض عن ذكره يكون الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
يا أهل الإيمان اعرفوا ربكم – بأسمائه وصفاته – حق المعرفة، وقدروا ن عمة الإيمان، واشكروه على نعمة الإسلام، وتحلوا بآداب الإسلام وقيمه، وقدموها للناس بسلوككم راضين مطمئنين شاكرين، ذاكرين، متطلعين إلى دار البقاء، متجافين عن دار الغرور، ألا فأكثروا من زاد التقوى فالسفر طويل، وخففوا أحمال السيئات فالعقبة كؤود وأخلصوا العمل فالناقد بصير، وتفقدوا قلوبكم بالإيمان { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (التغابن: من الآية11).
إلا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.. اللهم أصلح فساد قلوبنا، وردنا والمسلمين إليك رداً جميلاً.
واجبنا مع بدء العام الدراسي (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين يقلب الليل والنهار، وتتعاقب بإذنه الأمم والأجيال، وكل يوم هو في شأن، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك الملك، وما بكم من نعمة فمن الله، وإذا مسكم الضر فإليه تجأرون وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، الأمين على وحيه، والشافع المشفع للأمة، صاحب الحوض المورود وسيذاد عنه أقوام أحوج ما يكونوا إليه، وحين يسأل عنهم نبي الرحمة ويقول أمتي أمتي.. يجاب إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
اللهم ألهمنا العلم بسنته، وارزقنا الثبات على الحق الذي جاء به، حتى نلقاك ربنا وأنت راض عنا.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/5/1419هـ.(1/129)
اتقوا الله معاشر المسلمين في سركم وعلانيتكم وإياكم أن يطلع الله في قلوبكم، خلاف ما تتحدث به ألسنتكم فالله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وسويداء القلب صمام الأمان.. إذا صلحت المضغة صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله..، وغداً تبلى السرائر، وتكشف الخبايا، والناجون هم الصادقون المتقون { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
عباد الله ابتدأ العام الدراسي، والمسافة بين امتحانات الفصل الماضي، وبدء الدراسة في هذا الفصل الحالي وإن كانت قصيرة في عمر الزمن.. فهي طويلة في حساب المكاسب والخسائر.
أجل لقد غنم فيها قوم وغبن آخرون.. كانت مكاسب لمن اغتنموها بالجد وعمل الصالحات، والقراءة النافعة ونحوها من أعمال قد لا يتوفر الوقت لها أثناء موسم الدراسة.. أما الصنف المغبون فهم أولئك المفرطون لطاقاتهم، القاتلون لأوقاتهم، هؤلاء ظنوا الإجازة سهراً وصخباً، وخيل لهم أنهم يعيشون أحلى الليالي مع برامج ساقطة وعبر شاشات وقنوات هابطة ثم انقشع الصبح وإذا بالسراب خادع.. وانتهت اللذة وهيجت الشهوة.. واستحكمت الغريزة، فعاش المشاهد لحظات الحسرة والندامة، والصريع الأكبر من قادته هذه المشاهد إلى اقتراف المحرم، فاخترق الحمى، وتجاوز الخطوط الحمراء!!(1/130)
معاشر الطلبة والطالبات عدتم إلى مقاعد الدراسة، والعود أحمد إن شاء الله.. فكيف بدأتم هذا العام.. هل جددتم إخلاص النية لله في طلب العلم، وهل اتخذتم من الإجازة محطة للتقوية والترويح البريء، الذي يسهم في تقبلكم للمعلومة المفيدة، هل تحتاجون إلى من يذكركم أدب طلب العلم، وهل تمارسون الأدب مع معلميكم وزملائكم وهل تتذكرون يوم أن تسعود كل صباح إلى أماكن الدراسة قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" وتستحضرون تقوى الله في طلبكم العلم والله يقول: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه } (البقرة: الآية 282).
أخي الطالب أختي الطالبة ما نوع الزملاء والأصدقاء الذين تختارونهم لرفقتكم أثناء الدراسة وخارجها، هل هم من النوع الذي يعينكم على الخير، ويساهم في تذليل المصاعب ويشجع على الطموح؟ أم هم من النوع الذي يجركم إلى الوراء كلما حاولتم الصعود إلى الأمام، ويدعوكم إلى الرذيلة، ويسخر من الفضائل والمكارم.. ألا ففروا من المجذوم فراركم من الأسد.. واحرصوا على الجليس الصالح فهذا إن لم تبتع منه، أحذاك من رائحته الطيبة.. ويكفيك أنه محل وصية نبي الهدى والرحمة.. وأنت خبير بالفرق بين حامل المسك ونافخ الكير.. واختر لنفسك ما تشاء!!(1/131)
أيها المعلمون والمرشدون وأيتها المعلمات والمرشدات.. وحين تتوافد عليكم هذه المجموع المتجددة من الطلبة والطالبات، فماذا أعددتم لهم وبم تستقبلونهم؟ كيف وما ستعلمونهم؟ إنهم أمانة في أعناقكم فقدروا الكلمة التي تقولونها وزنوا الحركة قبل أن تتحركوها. واعلموا أن الدارسين والدارسات يسمعون بأعينهم أ:ثر من سماعهم رآذانهم.. نعم إنها القدوة لا يكفي بها مجرد الكلام.. بل تحتاج إلى ممارسة الأفعال، والعلم ليس مجرد نصوص تحفظ.. ولكنها الممارسة والتطبيق العملي الذي يجعل من النصوص أشكالاً تتحرك، وأشخاصاً تترجمها إلى واقع عملي فتنساب في أذهان الدارسين والدارسات ويتيسر عليهم هضمها والاستفادة منها.
أيها المدرسون والمدرسات مهنتكم من أعز المهن، وقد قيل: كاد المعلم أن يكو رسولاً، فجملوها بالإخلاص، واحموها بالجد والمتابعة ومهما كان نوع رقابة البشر عليكم، فضعوا رقابة الله دائماً نصب أعينكم وتذكروا دائماً قوله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (قّ:18). اعلموا أن الغرس الذي تغرسونه اليوم سيثمر غداً، ولا يكن شبح الامتحان همكم الوحيد، أو معوقاً لرسالتكم التربوية النبيلة، واستثمروا فرص النشاط اللامنهجية التي تبعث بها إداراتكم إليكم، وبأخلاقكم العالية ومعاملتكم الطيبة تصلوا إلى قلوب الطلاب قبل أن تصل كلماتكم إلى أسماعهم.(1/132)
أيها المدراء الفضلاء أنتم على رأس المسؤولين في مدارسكم فكونوا عند حسن الظن بكم، وما أجمل الرئيس يجمع بين الحزم والحلم، وبين الضبط الإداري والمرونة في التطبيق، شجعوا المدرس والطالب المجد، وخذوا بأيدي الكسالى وساهموا في صعودهم أعلى، وليكن أسوأ ما عندكم آخر سهم في جعبتكم، عالجوا الأخطاء بحكمة، وإياكم والتساهل بعلاج الأخطاء أو الانحرافات فور وقوعها.. حتى لا تتسع دائرتها، ويتعاظم خطرها، اجمعوا بين اليقظة والثقة، وليكن لكم جولات ولقاءات متتابعة، انصفوا المظلوم، وخذوا على أيدي الظالم.. وأشركوا البيت في مهمتكم، وتعاونوا ورجالات الحي في كل ما يحقق النجاح لرسالتكم، شكلوا من المدرسة أسرة صالحة بمعلميها وطلابها وإدارييها.. واجعلوا من تقوى الله، والإخلاص لله سنداً يمدكم الله بعونه، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويجعل الله من أمره يسراً.
ومثل ذلك يقال للمديرات الفاضلات.. وكل بحسبه.
معاشر الأولياء، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها.. ولا ينتهي دوركم عند تأمين اللوازم المدرسية للطلبة والطالبات.. وإيقاظهم في الصباح ولا ينبغي أن يكون آخر عهدكم بالمدرسة تسجيلهم فيها.. لا بد من متابعة الأبناء والبنات والسؤال عن حالهم وزيارة المدرسة بين الفينة والأخرى للسؤال عن الأبناء والمساهمة في رأي أو اقتراح مفيد لعموم الدارسين.(1/133)
معاشر الأولياء كم هو مؤلم أن تجحد عناية من الأسرة لجانب من جوانب الطلبة، وترى إهمالاً في جوانب آخرى.. وقولوا لي: بربكم هل أدى الأمانة من حرصه على استيقاظ ابنه للدراسة مقدم على حرصه على الصلاة.. وتحسره على فوته الدراسة أشد من تحسره على فوت وقت الصلاة.. إنها مماراسات خاطئة يحس الطلبة والطالبات فيها بنوع من التناقض بين ما درسوه في المدرسة وما يجدونه في المنزل.. فعظموا أمر الله – معاشر الأولياء – في نفوس الناشئة، ومروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع.. وإياكم وإشغالهم بمشاهد يطول سهرهم عليها فيأتون للمدارس وما بهم قدرة على التركيز والتحصيل وإن كانت هذه المشاهد محرمة فالأمر أدهى وأمر.
معاشر الأولياء تشكو المدارس من ضعف قوامة بعض البيوت على أبنائهم وبناتهم. وتلك مصيبة دواء عضال ولا سيما إذا كان منشأه قلة الاهتمام والانشغال بأمور الدنيا.. وكل ذلك له آثاره على ضعف الطلبة والطالبات دراسياً.. وانحرافهم – لا قدرة الله – خلقياً فتنبهوا لذلك معاشر الأولياء، وتذكروا دائماً قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } (التحريم:6).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السموات والأرض، وهو وحده الممسك لهما أ، تزولا.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ترك الناس على المحجة البيضاء.. فتفرقت ببعضهم السبل – لضعف في الثبات على طريق الهدى.. أو لغلبة الهوى – الموفق من عصمه الله من الفتن.. وسار على طريق محمد ومن بسنته اقتفى.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.(1/134)
أيها المسلمون المباني الدراسية ذات شأن في العملية التعليمية، فتهيئة المكان المناسب، وتوفير وسائل التبريد والتدفئة – ووجود ساحات ينطلق فيها الطلاب يروحون عن أنفسهم، وتوفر المعامل اللازمة لتدريب الطلبة، ووجود مكتبة عامرة يأوي إليها الطلاب والطالبات وينهلون من علومها، ويستعيرون منها مالاً يسعفهم وقت المدرسة بقراءته.. إلى غير ذلك من أمور تسهم في مسيرة العملية التعليمية بحيوية وراحة ونشاط.
أما المناهج الدراسية فهي والطالب المقصودة أساساً بالتعليم ولهما يوفر المعلمون والمعلمات،ومن أجلهما تنشأ المباني وتوفر المعامل.. وتنفق النفقات ولذا فحري بنا معاشر المدراء والمعلمين والأولياء والطلبة.. أن نوليها من العناية ما تستحق، وأن نهتم مع جهات الاختصاص دائماً في مزيد العناية بها وتطويرها للأفضل.
ومحور التطوير ينبغي أن يقوم على الأصول والثوابت وأن يبرز الهوية، ويصون القيم، وأن يقدر تأريخ الأمة في فترات عزها ويسعى لتحقيقه، ويسبر أغوار ضعف الأمة ويجنب الناشئة سلوكه كما ينبغي أن تقوم المناهج كذلك على استثمار وسائل التقنية الحديثة، وطرق التربية النافعة وأن تصل الطالب بماضيه ولا تفصله عن حاضره، وأن تبني هذه المناهج في الدارسين قوة العلم واليقين، والقدرة على تحدي ومنافسة الآخرين، بسلاح العلم والثقافة وأن تخرج أجيالاً قادرة على التفكير، مستعدة للعطاء، نافعة لنفسها وللمجتمع من حولها.
أجل إن المناهج الدراسية بإلزاميتها للجميع قادرة على رفع مستوى الأمة، إذا توفر لها مخططون مخلصون، يرون مواقع الضعف فيعالجونها.. ومواقع القوة الغائبة عن النشء فيعيدونها عبر المناهج بالوسائل المختلفة.(1/135)
وإذا كان زماننا زمان صراع حضاري وعقائدي بين الأمم فإن من علائم إخلاص ووع المعنيين بالمناهج.. اعتبار هذا التحدي والتركيز على المنطلقات العقدية والفكرية الصحيحة في بناء المناهج وصياغتها، وتوزيع التخصصات فيها، وحجم الساعات المقدرة لكل منها.
وعلينا مدراء، ووكلاء ومعلمين، ومرشدين، وطلبة نابهين أن نسهم بالرأي والمشورة، من خلال تجاربنا وتدريسنا أو إشرافنا أو اطلاعنا على هذه المواد، وبوركت الأمة المتناصحة فيما بينها، وبوركت الجهود المبذولة من هنا وهناك والقرار في النهاية لأولي الأمر و العلم والاختصاص كان الله في عونهم وسدد على طريق الخير خطاهم، وجنبهم الزلل وأقال عثرتهم، ونفع الأمة بجهودهم.
أيها المسلمون بقيت همسة لطيفة، فقد تشتد ظروف الحياة على بعض الدارسين أو الدارسات.. وقد يشق عليهم توفير ما يستطيع نظراؤهم توفيره.. فهل يجد هؤلاء من المدرسة رعاية خاصة وبطريقة مناسبة، لا تجرح شعورا ًولا تقلل قدراً.. لكنها تحسن وتبر وتتخذ من المدرسة جسراً للمحبة والوصال والنصحية. بل وما أجمل المدرسة تكون مصدر إشعاع لأهل الحي تعين الضعيف،وتقوم المنحرف، وتعلم الجاهل، وتبصر الأسرة المحتاجة لسلوك الطريق القويم.
إنها رسالة المدرسة التربوية المتكاملة، ينبغي أن يحس بها ويعمل لها العاملون المخلصون. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً وما فتئ المسؤولون في التعليم يقولون: إن من الخسارة ألا يستفاد من المباني المدرسية إلا بضع ساعات، ومن هنا جاء تأكيدهم على افتتاح مراكز الأحياء، وافتتاح المراكز الرمضانية في المدارس.. فهل نستفيد من المدارس بأكبر حجم ممكن – اللهم اهدنا لليسرى.
إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه..(1)
الخطبة الأولى
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/5/1419هـ.(1/136)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وتلك وصية الله لكم ولمن قبلكم: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه } (النساء: من الآية131).
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } (الطلاق: من الآية5).
ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه وهو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أ/ه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"(1).
أيها المسلمون.. في هذا الحديث سر عظيم من أسرار الحياة والأحياء،وقدرة إلهية عظيمة تتكرر وتتجدد عبر القرون، ويشهد بها الناس في أنفسهم وذراريهم ومن حولهم، وإن لم يقفوا على سرها.
__________
(1) البخاري ح6594، مسلم 1847 (المنذري) وهذا لفظه.(1/137)
والتأمل في هذا الخلق العجيب، والنظر في هذه الأطوار المتعاقبة لجنين حتى يخرج إلى الوجود يزداد لها المؤمنون إيماناً وتقطع دابر الشك، وتفحم أهل الإلحاد المنكرين لوجود الخالق جل جلاله..
إن هذه النطفة بتشكلها وأطوارها واحدة من دلائل الإيمان بالخالق جل جلاله، فهي لا تختلف في أسبابها، ولا تنقطع عن الوجود بتكررها، وهي آية كبرى تدل على عظمة من خلق فسوى والسر الأعظم أن هذا الإنسان المدرك فيما بعد، صاحب القوى والقدرات، والطاقات والانفعالات.. أصله من ماء مهين التقى فيه ماء الرجل مع ماء المرأة، فتولى الله خلقه وتكوينه عبر مراحل وأطوار، لا يعلم بها أقرب الناس إليها – إلا بعد تحركها ونفخ الروح فيها فتبارك الله أحسن الخالقين.
هذه النطفة يعلم الله بدءها وهو الذي يصورها ويعلم ما ستكون إليه، { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (آل عمران:6).
ولا يقف علمه – سبحانه – بكونها ذكراً أو أنثى، بل يعلم قدرها وأجلها وفقرها وغناها، وشقاها وسعادتها، وحيث أطلق علم الله فيها بقوله: { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَام } (لقمان: من الآية34). فهو شامل لكل ما يتعلق بهذه النطفة منذ بدء تكوينها إلى نهاية حياتها،وإلى أن تنتهي إلى المصير المقدر لها في الجنة أو في النار، وهذا ما يقف البشر عاجزين عن معرفته مهما تقدمت بهم وسائل المعرفة، إذ هو من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله وهذه النطفة بما فيها من أسرار وإعجاز، وكثرة وانتشار في الأمم الخالية واللاحقة هينة على الله في خلقها وفي بعثها وكأنه لم يخلق إلا نفساً واحدة: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (لقمان:28).(1/138)
وفي ذلك رد على المنكرين للبعث، الذين جاءوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون إن الله خلقناً أطواراً، نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم تقول: إنا نبعث خلقاً جديداً جميعاً في ساعة واحدة، فأنزل الله هذه الآية، والله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، بل يقول للقليل والكثير كن فيكون (1).
عجباً لك يا ابن آدم إذا اشتد عودك، وكملت قواك، نسيت الذي خلقك من ضعف، وبدأت تجادل وتخاصم ناسياً أو متناسباً أصل خلقتك، وسر العظمة في بداية تكوينك، { أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّس: من الآية 77-79).
وعجباً لك يا ابن آدم، ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، ثم أنت بعد تكذب أو تشك في يوم الدين، وإن لم تقل هذا بلسانك، فلسان حالك يشهد بإضاعتك للواجبات وارتكابك لكثير من المحرمات وقد لا تشعر بخطئك، وقليلاً ما تستغفر ربك، فأين ما يستلزمه الإيمان بالدين من خالص المحبة لله والتوكل عليه، والخوف منه، والرغبة إليه.
__________
(1) تفسير القرطبي 14/78.(1/139)
أيها المسلمون الإيمان بعظمة الخالق وقدرته من خلال بدء الخلق وتصوير الأجنة ينبغي أن يقود لمزيد الإيمان بالبعث والجزاء، وكثيراً ما تأتي آيات الخلق وانتشار الأحياء في الحياة الدنيا، يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } (الحج: من الآية 5-7).
بل يقرر الله أن إعادة الخلق للبعث أهون عليه من بدئه – وله المثل الأعلى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (الروم:27).
عباد الله في هذا الحديث الذي بين أيدينا إ×بار صادق بتقدير الرزق وتحديد الأجل لابن آدم وهو بعد في بطن أمه، فعلام الجشع في طلب الرزق إلى حد يتجاوز المرء الحلال إلى الحرام؟ أو إلى درجة يشغله هذا الرزق المضمون عن المصير المحمود في الجنان وهو غير مضمون.(1/140)
ولماذا التخوف على الحياة إلى درجة يخشى الناس فيها أكثر من خشية الله، ولربما قال الإنسان باطلاً أو كنتم حقاً، تخوفاً أو تحسباً أو توهماً من الشيطان والله يقول: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران:175)، ويقول في آية أخرى: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } (لأعراف:34).
يا عبدالله لا يعني ذلك بحال ترك فعل الأسباب المأمور بها شرعاً ولا التقحم في المهلكات والمنهيات، ولكن اليقين والتوكل، والصدق مع الله، والإيمان بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، بهذا جفت الأقلام وطويت الصحف وجرى قدر الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ } (الواقعة: من الآية 58-62).
الخطبة الثانية
الحمد لله الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى وهو العزيز الحكيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى إخوانه وآله، ورضي عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(1/141)
إخوة الإيمان لا ينتهي الإعجاز الإلهي في خلق النطفة وتكوينها وتسويتها، بل تتكاثر هذه النطفة حتى ينشأ عنها الأنساب والأصهار، فهو في بداية أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهراً، م يصير له أصهار وأختان وقرابات وكل ذلك من ماء مهين، ودليل على قدرة رب العالمين، كما قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } (الفرقان:54).
وسر آخر أن هذه النطفة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة حين استقرارها في الرحم تحمل معها مواصفات وموروثات الجنين بعد.
أما السر الثالث فهو أن هذا الجنين يعيش ويتشكل في ظلمات ثلاثة ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، كما قال تعالى: { َيخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } (الزمر: من الآية6).
والله تعالى وحده يتولى رعايتها، ويهيء لها غذاءها، والظروف المناسبة لنموها، ثم بقدرته بعد يتولى إخراجها بعد اكتمال قواها وقدرتها على العيش خارج هذا الجو الذي ألفته.. فتبارك الله الخالق، ونعم القادر المقدر، { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } (المرسلات:23).
إخوة الإسلام في نهاية الحديث لفتة ووقفة عند حسن الخاتمة أو سوئها، والثبات على الحق إلى الممات أو الزيغ عنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور، والضلالة بعد الهدى، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.(1/142)
قال ابن أبي حمزة – يرحمه الله - : هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ماهم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم (1). ترى من منا تخيفه نهاية هذا الحديث فيظل دائباً في عمل الصالحات خائفاً من الزيغ قبل الممات.. سائلاً ربه دائماً حسن الختام، والخوف والمصيبة حين يقل عملنا ويقل خوفنا، وحين ندعو "اللهم أحسن خاتمتنا" فهل ترانا نستحضر، ما جاء في نهاية هذا الحديث؟
وما أحرانا أن نتأمل ما جاء في الرواية الأخرى من حديث أنس عند أحمد وصححه ابن حبان بلفظ "لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً.."الحديث (2).
إخوة الإيمان في الحديث تذكير وتأكيد على الإيمان بالقضاء والقدر وهو أحد الأركان الستة للإيمان فلا يتم إيمان العبد إلا به، وهو التسليم والرضا لأقدار الله على العبد، وفي الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعاً: "إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه"(3).
__________
(1) الفتح 11/488.
(2) الفتح 11/487، 488.
(3) الفتح 11/490.(1/143)
وكيف يجزع المرء ويتسخط من شيء قد كتبه الله عليه سلفاً وهو في بطن أمه، ولكن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض مع فعل الأسباب المشروعة ولا ينبغي أن يقعد بالإنسان عن العمل. فهذه كذلك من أقدار الله والعبد مأمور بفعلها، ولهذا فحين سأل الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فائدة العمل مع تقدم القدر أجابهم بقوله: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" فقد أخرج البخاري في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - قال: كنا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه عود ينكت به في الأرض فنكس وقال: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة"، فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر"، ثم قرأ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } (الليل:5) (1).
وفي هذا الحديث وأمثاله رد على شبه القدرية الذين يتعلقون بالقدر ويتركون العمل، أو الجبرية الذين يقولون إن الإنسان مجبر على ما يقوم به ولا خيار له ولا مشيئة، ومذهب أهل السنة والجماعة أ، كل ما تحدث في الوجود بقضاء الله وقدره، ولكنهم يثبتون للعبد مشيئة وإرادة بها يتجه للخير أو للشر، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله كما قال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه } (الانسان: من الآية30).
وخلاصة هذه النظرة عبر عنها العلماء بقولهم: "إن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته فمن عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سر من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ"(2).
أين الإرهاب؟ (3)
الخطبة الأولى
__________
(1) ح6605، الفتح 11/494.
(2) الفتح 11/498.
(3) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/5/1419هـ.(1/144)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
أيها المسلمون: تفنى الأمم وتدمر الحضارات حين تكون القوة لغة التفاهم بين مجتمعاتها، ويختل الأمن ويتراجع المد الحضاري حين يسهل استخدام وسائل التدمير في غير موضعها. ومن سنن الله في كونه تعجيل نهاية الدول حين تستعلي بقوتها، وتمتد مساحة ظلمها، ويتعاظم فسوق المترفين فيها: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (هود:102). { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الاسراء:16).(1/145)
لقد قص الله علينا في كتابه العزيز نماذج لدول سادت ثم بادت، وحضارات شيدت في سهول الأرض، ونحت أصحابها من الجبال بيوتاً فارهين، فلما استكبروا وطغوا واغتروا بقوتهم أهلك الله الظالمين منهم، وعادت قراهم حصيداً كأن لم تغن بالأمس، يقول تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ
* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِا لْمِرْصَادِ } (الفجر: من الآية 6-14).
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك ملكه، والخلق خلقه، والقوة قوته، والأرض له يورثها من يشاء من عباده، والويل لمن غرته قوته واستصغر من دونه، ومنطق الجهل والغرور يحيق بأهله وفي التنزيل: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } (فصلت: من الآية 15-16).(1/146)
أيها الناس: الإرهاب مرفوض في شريعة الإسلام، ذلكم الإرهاب الذي يفضي إلى قتل النفس بغير حق، ويخيف الآمنين، ويدمر المنشآت ويبدد الطاقات، ولكن الإشكالية في تحديد مفهوم الإرهاب، ومن يوصفون بالإرهاب، وأين يكون الإرهاب ومصيبتنا في هذا الزمن أن تحديد المصطلحات متروك للدول الكبرى تتلاعب فيه كيف شاءت، وتصف به من تشاء، ونتج عن هذا أن ألصقت التهم بالعرب والمسلمين الذين يرفضون سياسات الغرب وحلقائهم في المنطقة العربية والعالم الإٍسلامي، ويكشفون الخبث والعداء السافر فيها ولهذا سحب اليهود والنصارى وأشياعهم مصطلحات: الإرهاب، والتطرف، والأصولية، ونحوها، على أبناء الأمة العربية الإسلامية، وهي في أصولها الحديثة مصطلحات نابعة من بيئاتهم ولها وجود وأثر في حياتهم وبين شعوبهم، والهدف من تحوير المصطلحات وتحبيرها تشويه صورة المنتمين للإسلام من جانب، وستر سوات الكفار وتطرفهم من جانب آخر.
أخوة الإسلام تعالوا بنا لنرى نوعاً من الممارسات والسياسات للدول ذات النفوذ في المنطقة، ونسأل أذلك من الإرهاب أم لا؟ فماذا يقال عن قتل الأبرياء في مسجد الخليل، وتبييتهم وهم ركع سجد لله والعمل الإجرامي المتمثل بالمحاولة الصهيونية في حرق المسجد الأقصى؟(1) وماذا يقال عن تطويق الإسلام ومحاصرة المسلمين وإعلان الحرب عليهم في كل من البوسنة والهرسك والشيشان، وكوسوفو؟ أليس من الإرهاب مشاركة الغرب في عزل الإسلام عن الحياة في تركيا، ونتحية الحزب الإسلامي عن الحكم حتى ولو جاء بإرادة الشعب واختياره؟.
__________
(1) الجزيرة 3/5/1419هـ.(1/147)
يرى المراقبون أن لأمريكا دوراً في تأزيم العلاقات بين الهند وباكستان،وبين حركة طالبان وإيران ودول آسيا الوسطى وإذا حكم العقلاء – أن هذا – ومثله كثير – نوع من الإرهاب العقدي والسياسي، فثمة إرهاب فكري يصدره الغرب وفي مقدمته أمريكا، ومؤتمر المرأة في بكين نموذج صارخ لهذا الإرهاب الذي يتجاهل فيه المخططون للمؤتمر تعاليم السماء عامة فضلاً عن الاعتداء والسخرية بتعاليم الإسلام خاصة، بل لقد نجح إرهابيو الغرب وحلفاؤهم في عقد مؤتمر الإسكان في قلب العالم الإسلامي متحدين بذلك مشاعر المسلمين، وموقنين بأن فساد المرأة بوابة لفساد المجتمع، وأن تحديد نسل المسلمين أقصر الطرق لشل قوة المسلمين، ومنع تناميهم مستقبلاً، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ومن الإرهاب العقدي والسياسي والفكري إلى الإرهاب الاقتصادي حيث يتحكم الغرب في اقتصاد العالم، ومن جراء هذا التلاعب دخلت دول جنوب شرق آسيا مرحلة السبات الطويل نتيجة الخسائر المتلاحقة لاقتصادها، الذي أثر بدوره على ذلك الاقتصاد العالمي والرأسمالية الأمريكية والغربية سبب مؤثر في ذلك (1).
أيها المسلمون من المسؤول عن تجويع شعب العراق المسلم، وأي نوع من الإرهاب يكون موت آلاف الأطفال وانتشار الأمراض لدى شعب العراق العربي المسلم؟ وإذا فسدت القيادة وشذ الحزب الحاكم بالظلم والطغيان والفساد.. فهل يسحب ذلك على الشعب العراقي بأكمله؟ إنها نوع من الممارسات الإرهابية للشعوب المسلمة، تختلق الأزمة فيه لتكون مبرراً لما وراءها.
__________
(1) جريدة الرياض 2/5/1419ه، الافتتاحية.(1/148)
عباد الله لمن يكتف الغرب الكافر بخنق السودان وحصاره اقتصادياً وعزله سياسياً – وهو البلد العربي المسلم – بل زاد في إرهابه بضرب منشآت صحية فدمرها وألحق الأضرار البالغة فيها فأين الإنسانية.. وأين حقوق الإنسان.. وأين الإسهام في نشر الأمن والسلام في العالم من قبل راعية السلام المزعوم؟! وهبوا أنه كان مصنعاً لنوع من الأسلحة كما زعموا.. فهل يبرر ذلك ضربه – وهل يجوز إقامة المصانع العملاقة الحربية في مكان ويحظر في مكان آخر..؟ وهل كتب على العرب والمسلمين تحريم الصناعات، وهو حل للغرب وحليفتهم إسرائيل؟.
إخوة الإيمان، إذا كلفت الضربة الأمريكية الأخيرة للسودان والمخيمات في الأفغان مائة وخمسين مليون دولار كما يقال، فهل ذلك قمع للإرهاب أم هو بذاته نوع من الإرهاب واستفزاز للمشاعر في العالمين العرب والإسلامي وخلق لأجواء الإرهاب؟
معاشر المسلمين لا بد أن نفهم المصطلحات وما وراءها، ولا بد أن نعي الأهداف من وراء الضربات، وإذا نظر البعض إليها على أنه محاولة لستر السوءات وتغطية الفضائح، فهناك نظرة أكثر عمقاً لهدف هذه الضربات والممارسات وغيرها وتقضي بكونها حرباً عقائدية مسيسة تقف اليهودية والنصرانية في طرف، والإسلام طرف آخر.. ومن استبعد هذه النظرة. فليراجع كتاب الله فيه من أمثال قوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم } (البقرة: من الآية120).(1/149)
وليراجع تصريحات أبي الله إلا أن تفلت بها ألسنة القوم وهي تكشف عن الأهداف المبيتة والتخوف من الإسلام وأهله، ومن أواخر تصريحاتهم ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية بعيد ضرب السودان والأفغان، قالت: "عندما تتعرض الولايات المتحدة لاعتداء سواء في الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الباردة، فإننا نحتاج إلى جهد متواصل ضد ما يمثل التهديد الرئيس في نهاية القرن الحالي، وبداية القرن المقبل.."(1).
ويفهم من هذا التصريح أن الإسلام يمثل الخطر الرئيس الذي يهدد الغرب ولذا فلا بد من جهد متواصل لحربه، والحرب مع أبنائه طويلة الأجل وليست هذه المناوشات والضربات والتهديدات إلا حلقة في سلسلة الصراع الطويل (وقد صدقت وهي كذوبة).
فهل ترفع هذه التصريحات الغشاوة عن أعين طالما أصيبت بالرمد وتستنير أفكار طالما ظللتها الشعارات المضللة وأوهمتها المصطلحات المصطنعة، واستجابت للناعقين وهم يفتكرون بإخوانهم، وهم في الطريق إليهم إلا أن أتموا المسيرة معهم، ودخلوا جحر الضب الخرب حيث دخلوا، فأولئك منهم وإن حسبوا على المسلمين في عدادهم؟
اللهم اكشف الغمة وأصلح أحوال الأمة، وانصر أبناء الملة المسلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (الممتحنة: من الآية 2-3). نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية:
__________
(1) الحياة، السبت 30/4/1419هـ ص6.(1/150)
الحمد لله القوي العزيز، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وهو شديد المحال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه بعثه الله رحمة للعالمين، وكانت رسالته خاتمة رسالات السماء وناسخة لها، فلا يقبل الله من أحد غير الإسلام ديناً، فهو دين الله الخالد، وشريعته هي الصالحة للتطبيق إلى يوم القيامة والمسلمون هم خلفاء الله في أرضه والمؤتمنون على تبليغ دينه. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله.
عباد الله ويشهد على إرهاب الغرب إرهابيو الشرق، فقد وصفت روسيا الإجراء الأمريكي الأخير (بضرب السودان والأفغان) بأنه إرهاب دولي، وقال مدير مكتب (إف، بي، آي) إن قرار واشنطن ضرب مواقع في أفغانستان والسودان لا يتعلق بالضرورة بالتحقيقات الجارية في تفجير سفارتي نيروبي، ودار السلام.. (1).
أيها المسلمون بقدر ما يستهين اليهود والنصارى والشيوعيون بدماء المسلمين تراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا تعرض فرد منهم للقتل، وكلما زاد عدد القتلى تعاظم الأمر عندهم فهل دماء المسلمين بهذه المنزلة المهينة عند القوم؟ وهل كتب القتل علينا والسلامة لغيرنا؟ إنها نوع من الغطرسة والكبرياء لا مبرر لها إلا شعورهم الكاذب بالتميز علينا.. وقديماً قال أسلافهم وكذبهم القرآن: { َيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران: من الآية75).
ولا يزال اليهود ينظرون إلى أنفسهم على أنهم شعب الله المختار.
إخوة الإسلام: من خلال الوقائع والأحداث المتلاحقة تبرر عدة دروس حري بالمسلمين أن يعوها ومنها:
إن الحرب قائمة بين الإسلام وملل الكفر ولا بد من الاستعداد لها والشعور الحي بأسباب الهزيمة ومقومات النصر.
__________
(1) الحياة، السبت 30/4/1419هـ.(1/151)
ولا بد من الوعي بتحوير المصطلحات والهدف من تصديرها وإلصاقها بالمنتمين الصادقين للإسلام.
وإذا استهدف الغرب بضرباته مجموعات صغيرة لا تقارن قوتها المادية بقوته، ولا تقنياتها بتقنياته دل ذلك على عظمة هذا الدين وتخوف الغرب من أبنائه ولو لم يبلغوا من القوة مبلغاً كبيراً.. وهذا يدعو لمزيد التمسك بالإسلام والشعور بالعزة ولو تفوق عليهم عدوهم سياسياً واقتصادياً.
ومن جانب آخر ففي الأحداث الجارية إيحاء ظاهر بتخوف الغرب رغم قواهم.. وإذا أخافتهم قوى صغيرة فماذا لو اجتمع المسلمون واتحدت كلمتهم وقواهم؟
وينبغي أن يعلم أن العدو اتخذ من ضعف المسلمين وتفككهم وتفرق كلمتهم مناخاً مناسباً لكيل الضربات هنا وهناك وتصدير الأفكار الهزيلة في عدد من القضايا، وتلك واحدة من ضرائب الفرقة والشتات في العالم الإسلامي والعربي.
وإذا اتحد الأعداء – رغم خلافاتهم – على حرب المسلمين تحت شعارات خادعة.. أفلا يدعو ذلك المسلمين إلى اجتماع الكلمة وتوحيد الصفوف، فهم بالاجتماع أحرى وأولى، والله تعالى يأمرهم بالوحدة على شرع الله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (آل عمران: من الآية103). وينهاهم عن الفرقة والاختلاف: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105).
وللإعلام دور مؤثر في توضيح الصورة دون مخادعة، وعلى الإعلاميين كفل كبير في كشف الحقائق لعامة الأمة، وفي مثل هذه الظروف تبرز الهوية ويتحدد نوع الفكر.. ويتبين الصادقون ومن يتحملون أمانة الكلمة، والموتورون ومن في قلوبهم مرض، ولسان حالهم يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة ويقول غيرهم { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } (المائدة: من الآية52).(1/152)
وفرق بين من يأوون إلى ركن شديد فيتوكلون على الله ويستمدون النصر منه وحده، وبين من يعلقون آمالهم على بشر لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ومثل هؤلاء: { كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (العنكبوت: من الآية41).
إخوة الإسلام: وعلى صعيد الواقع تنكشف الحقيقة في دعوى أمريكا محاربة الإرهاب، فإن كانت صادقة في محاربة الإرهاب فماذا صنعت بإرهاب الصرب النصارى، وإذا ثبت للعالم كله أ، بعض قادة الصرب مجرمو حرب فهل ضربت أمريكا مواقعهم في سبيل مكافحة الإرهاب؟
وإذا ثبت للعالم كذلك تغطرس الصهاينة اليهود في الأراضي المحتلة بتدنيس المقدسات والاعتداء على حرماتها، وقتل الأبرياء، والاستمرار في بناء المستوطنات، واحتضان أنواع الأسلحة الكيماوية وغيرها.. وكل ذلك من الإرهاب، فماذا صنعت الدول الغربية – وفي مقدمتها أمريكا – لإيقاف هذا المد الإرهابي الصهيوني المتنامي؟ إنها لعبة مكشوفة يغض الطرف فيها عن إرهاب اليهود والنصارى، وتتركز التهم وتضخم القضايا على المسلمين وإذا كان الذئب لا يلام في عدوانه، فالمأساة أن تروج هذه الشائعات على بعض أبناء المسلمين ومع ذلك كله فعسى أن تكون هذه الأحداث موقظة للمسلمين وباعثة لهممهم وموحدة لصفوفهم، وعسى أن تكروها شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.
فابتغوا عند الله الرزق (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله واهب النعم، ومحل النقم، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو خير الرازقين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/7/1417هـ.(1/153)
أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمُونَ } (آل عمران:102).
عباد الله يظل الرزق حبلاً ممدوداً بين السماء والأرض: { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } (الذريات:22). برهم وفاجرهم ونعمة ورحمة يتفضل الله بها على الخلق أجمعين: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (الذريات:58).
والله هو المقت لكل شيء: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً } (النساء: من الآية85). أي: مقتدرا يعطي كل إنسان قوته (1).
لا إله إلا الله ينفرد وحده بالربوبية والألوهية، ويختص وحده ببسط الرزق أو تقديره: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (سبأ:36).
ولا إله إلا الله امتد رزقه فضلاً عن العقلاء، فرزق الطير في أوكارها، والسباع في جحورها، والحيتان في قاع البحار والمحيطات، وشمل رزقه الدواب بأنواعها وصدق الله: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (هود:6).
معاشر المسلمين تأملوا عظمة الله وإحسانه وكمال قدرته فالذي لا يحمل الرزق يحمل له، والذي لا يملك قوت يومه أو غده ييسره الله له: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (العنكبوت:60).
__________
(1) شرح السنة؛ للبغوي 14/245.(1/154)
ومن لطائف ما يذكر في تفسير الآية: أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض خرجوا وهم بيض، فإذا راهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش فيظل الفرخ فاتحا فاه يتفقد أبويه، فيقيض الله تعالى طيوراً صغاراً كالبرغش فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفروا عنه، فإذا رأوه قد أسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق (1).
أرأيتم كيف يتولى الله رزق الضعفاء حين يتخلى عنه أقرب الأقرباء الرحماء؟ إنها منتهى الرحمة وكمال الربوبية؛ رحماك بي، تمتلئ بطوننا، وتمتد ثرواتنا، وتتضخم أرصدتنا، ولا نزال نلهث وراء الدنيا،وربما خرجنا ولم نستمتع بما جمعنا، وربما صعب علينا إنفاق القليل منها.. ولو كان في ذلك الخير لنا ما هذا السعار، وما هذا اللهاث..
أين نحن من قوم هانت عليهم الدنيا، والتفتوا بهمم عالية إلى الأخرى.. وربما خروا على الأرض صرعى من الفاقة، والمخمصة فيظن الغريب أن بهم مسا من الجنون، وما هو إلا الجوع، عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة – وهم أصحاب الصفة – حتى يقول الأعراب هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف إليهم فقال: "لو تعلمون مالكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة"(2).
أين التوكل على الله والرضا بما قسم، والشكر على ما أنعم في الحاضر، والثقة برزق الله في المستقبل: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً"(3).
__________
(1) تفسير ابن كثير للآية: 3/699.
(2) الحديث رواه الترمذي وقال حديث صحيح (رياض الصالحين 194).
(3) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 5/60).(1/155)
ألا ما أحوجنا – جميعاً – إلى أن نأخذ هذا المال بسخاوة وطيب نفس، فذلك الذي يبارك له فيه، أما الشره والطمع والحرص والشح؛ فتلك تورد المرء موارد الردى، وهل تروي البحار ظمأ العطش؟ تلك وصية من وصايا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى.."(1).
أيها المسلمون ويظل أقوام فقراء لما في قلوبهم من الهلع والجزع والحرص على الدنيا، وإن كانوا في عداد الأغنياء ويظل آخرون أغنياء يتعففون ويتكففون ولا يسألون الناس إلحافاً،وإن باتوا لا يجدون من الدنيا ما يطعمون لو شاءوا لكانوا من ذوي الثروة والغناء.
صلى عليك الله يا علم الهدى وأنت تربط على بطنك الحجرين من شدة الجوع والإعياء، ولو سألت ربك لأحال لك الصفا ذهباً، وأنى لك أن تسأل هذا وأنت القائل: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً"(2)، والقوت ما يسد الرمق – عند أهل اللغة.
وأبو هريرة - رضي الله عنه - يقول عنك: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"(3)، كان غنى النفس هو مفهوم الغنى الحق عندك، وكذلك أورثت أصحابك، ولقد خرجت والمؤمنون معك بعد ثلاث سنوات من الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش عليكم في الأرزاق والمناكح، وأنتم أصلب عوداً، وأشد على المبدأ الحق ثباتاً، وأن أكل المسلمون ورق الشجر، وإن كان أحدهم ليضع كما تضع الشاة ماله خلط.. لكنه الإيمان والصبر واليقين تندك له الصخور الراسيات، وتستجيب له القلوب وإن لم تتخلص بعد من حمأة الجاهلية، ولم يسلم أصحابها مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه.
__________
(1) الحديث متفق عليه (رياض الصالحين 201).
(2) متفق عليه، رياض الصالحين ص191.
(3) رواه البخاري (رياض الصالحين 188).(1/156)
أجل لقدى تنادى قوم مشركون بنقض الصحيفة الآثمة الظالمة وكانت ترد بين الفينة والأخرى الإبل محملة بالأرزاق من المحسنين إلى حيث يحصر المسلمون، فأنهي الحصارن وأنزلت الصحيفة، وانتصر الحق، وخسر المبطلون في هذا اللون من الحصار على المسلمين، وكذلك يرزق صاحب التقوى من حيث لا يحتسب { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق: من الآية 2-3).
وكذلك تفلس وسيلة الحصار في الرزق التي عمدت إليها قريش في شعب أبي طالب، قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة، وفي ذلك درس وعبرة.
ألا فلنتق الله جميعاً في طلب أرزاقنا "اتقوا الله وأجملوا في الطلب" ولنثق بما عند الله لنا { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (طه: من الآية131)، ولنشكر الرازق على ما حبانا { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَه } (سبأ: من الآية 15)، ولنثق بالخلف بعد الإنفاق { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } (سبأ: من الآية 39).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (طه:132).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون واستغفروا الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله يطعم ولا يطعم، وأشكره على جزيل النعم، { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له رزقه ما له من نفاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رضي من الدنيا بالكفاف، وخرج منها ودرعه مرهونة عند يهودي.. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.(1/157)
أيها المسلمون إذا كان غنى مفهوماً شرعياً وعقلياً للغنى الحقيقي، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس"(1).
فثمة مفهوم آخر ينبغي أن يستقر في أذهان المسلمين فيقنعون وهم يطلبون الرزق من الله، ويقول عنه - صلى الله عليه وسلم - : "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافاً في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"(2).
الله أكبر توفير قوت يوم يعدل حيازة الدنيا بحذافيرها.. ألا ما أعظم القناعة في هذا الدين.. وما أجمل الرضا والثقة برزق رب العالمين.
وهاكم وصية ثالثة من وصايا خير المرسلين في الرزق ما أحوجنا إلى فهمها، وإقناع النفس بها، يقول عليه الصلاة والسلام: "قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه"(3).
أتدرون ما الكفاف؟ قيل: "هو الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص"(4).
وسئل سعيد بن عبد العزيز: ما الكفاف من الرزق؟ قال: "شبع يوم وجوع يوم"(5).
وإذا كان ذلك كذلك فهل علمتم أن رزق آل محمد - صلى الله عليه وسلم - كفاف، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس - رضي الله عنه - بسند حسن: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير"(6).
__________
(1) متفق عليه (شرح السنة 14/243).
(2) رواه الترمذي وحسنه، وحسنه غيره (صحيح الجامع 5/245).
(3) الحديث رواه مسلم (رياض الصالحين 194).
(4) جامع الأصول 10/138، وانظر: النهاية 4/191 مع اختلاف يسير).
(5) شرح السنة للبغوي 14/245.
(6) رياض الصالحين 194، صحيح الجامع الصغير 4/254.(1/158)
عباد الله فإن قلتم فما الطريق إلى القناعة والرضا بما قسم الله أجبتكم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه" (1)، وفي رواية لمسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"(2). وإليكم نموذجاً عملياً قال عون بن عبدالله بن عتبة: كنت أصحب الأغنياء، فما كان أحد أكثر هماً مني، كنت أرى دابة خيراً من دابتي، وثوباً خيراً من ثوبي، فلما سمعت هذا الحديث صحبت الفقراء فاسترحت" كذا جاء في رواية عن رزين (3).
أيها المسلمون.. هذه المفاهيم الشرعية وأمثالها ينبغي أن يتذكرها المسلمون دائماً وأبداً وهم يطلبون الرزق، فتريحهم من العناء، وتصلهم بالأخرى وحين تختل هذه المفاهيم، وتنسى هذه القيم، يصاب الناس بأدواء الدنيا المهلكة، فتسود المنافسة والشحناء، ويسري الحسد والبغضاء، وتتحقق خشية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "..فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوهاكما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"(4).
__________
(1) أخرجه البخاري.
(2) جامع الأصول 10/142، 143.
(3) جامع الأصول 10/143.
(4) متفق عليه (رياض الصالحين 179، فضل الزهد في الدنيا..).(1/159)
أو يكون الرزق داعياً للكبر والخيلاء والعلو والفساد،وينسى هذا المسكين أن الرزق لا يعني الرضا، وإنما هو فتنة وامتحان للمعطى وفي نموذج "قارون" عبرة وذكرى، { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } (القصص:78) إلى قوله تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } (القصص:83).
عباد الله.. كما ينتج عن هذه المفاهيم الخاطئة في طلب الرزق الغفلة عن ذكر الله، والله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } (المنافقون:9).
أو عن الصلاة، والله يقول: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } (الماعون: من الآية 4-5).(1/160)
أما بيع الذمم، وضياع الدين بسبب الدنيا.. والمداهنة في بيان الحق ضماناً لحصول العيش وتوفر الرزق فذلك الذي توعد الله عليه بالويل { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة:79). وأصحابه لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (آل عمران:77).
أيها المسلمون إياكم أن يكون طلبكم للرزق مفضياً إلى الكسب الحرام من ربا أو غش أو خداع أو قمار أو نحوها مما يتحصل به على الحرام ففي الحلال غنية عن الحرام، والله يقول: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة:188).
إياكم واتباع خطوات الشيطان في رزق الله { كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (الأنعام: من الآية142).(1/161)
وإياكم أ، تون هذه الأرزاق من الله لكم سبيلاً للفساد في الأرض أو الصدود عن سبيل الله أو منع ما أوجب الله، وقد جاءكم النذير منه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } (التوبة:34).
وبالجملة فما أحرانا للتنبه لمخاطر الدنيا وفتنتها وأن ندرك أننا مستخلفون فيها يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"(1).
ذكرى وتنبيهات للصائمين (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، بلغنا شهر الصيام، وأسبغ علينا نعمة الأمن والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده خزائن السماوات والأرض، وشهر رمضان شهر الجود والإحسان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان حين يدارسه جبريل القرآن. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فاتقوا الله معاشر الصائمين واعلموا أن الصيام سبب ووسيلة للتقوى كما قال ربنا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183).
__________
(1) رواه مسلم (رياض الصالحين 179).
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/9/1417هـ.(1/162)
ويتذكر المتقون بتقواهم منازلهم وما قدموا لها وهم على يقين أن الله مطلع على ما يعملون: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
أيها المسلمون بشراكم شهر الصيام، وهنيئاً لكم إدراك شهر رمضان، وحق للمسلمين أن يفرحوا ويغتبطوا بشهر القرآن، وكيف لا يفرح المسلم بشهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، ويفرح المشمرون لأن الفرصة تتجدد لهم، ولأن أبواب الخير تهيأ لهم، ويستبشر أولوا العزائم لأن ميداناً فسيحاً للمسارعة للخيرات يفتح أمامهم، وواعظ القرآن يغذو سيرهم { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } (المطففين: من الآية26). { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } (آل عمران: من الآية133)، كما يفرح المبطئون لأن الحسنة تضاعف لهم، ومردة الجان التي تعيق سيرهم تصفد ويضعف أثرهم يستبشر المذنبون والمقصرون بشهر الصيام لأنهم يجدون فيه عوناً على التوبة وتطهير النفوس وإصلاح القلوب وما منا إلا وله ذنب وخطايا، وفي شهر رمضان فرصة للخلاص منها، والاستزادة من الحسنات الماحيات، والحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين.
أيها الصائمون.. يا من أدركهم شهر الصيام وهم يتمتعون بالصحة والعافية هلا تذكرتم إخواناً لكم أقعدهم المرض عن الصيام مع المسلمين، وحبسهم العذر عن الصلاة والقيام مع المصلين، وهلا قادكم ذلك إلى شكر المنعم واستثمار الصحة بتقديم الصالحات، فقد يمرض الصحيح، ويضعف القوي، وحينها يتمنى على الله الأماني.
ويا من أدركهم شهر الصيام وهم آمنون في أوطانهم، مطمئنون بين أهليهم وعشيرتهم هلا تذكرتم نفراً من المسلمين ساد الرعب والقلق بلادهم، وحل الخوف محل الأمن بين شعوبهم هل ترونه يهدأ بال الخائف، أم ترونه يطمئن في عبادته الذي لا يأمن على نفسه ومن تحت يده..؟؟(1/163)
إن الذين يهيء الله لهم نعمة الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان، والفراغ مما يشغل بال الإنسان ثم لا يستثمرون هذه النعم في مرضاة الله هم مغبونون بكل حال يقول عنهم عليه الصلاة والسلام: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".
أيها الصائم أدرك نعمة الله عليك وتدارك نفسك وتقرب إلى مولاك، وأضمر جيادك، والملتقى في جنان الخلد إن قبلت منا صلاة وطاعات وإحسان!!
يا أخا الإيمان افتح قلبك الخيرن ولا يصدنك الشيطان وأنت في شهر الصيام فتقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، أتدري لم سمي رمضان برمضان؟ قال العلماء: لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة – من الإرماض وهو الإحراق.
وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفطرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حرارة الشمس (1).
فما نصيبك أيها الصائم من هذه وتلك، ذلك سؤال أطرحه على نفسك، وأنت في بداية الشهر، وأجب عليه في نهايته وإياك أن تظلم نفسك بنفسك، وسيقال لك يوماً من الأيام { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } (الاسراء:14).
يا أخا الإيمان أسوق لك أنموذجاً صالحاً للاعتبار في (الصيام أو القيام، وفي حياة السلف عموماً عبر توقظ الغافلين وهمم تشد أصحاب العزائم الصادقين.
وقد روي أن قوماً من السلف باعوا جارية لهم لقوم آخرين، فلما أقبل رمضان أخذوا يتهيأون بألوان المطعومات والمشروبات فلما رأت الجارية منهم ذلك قالت: ولم نصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من قوم السنة عندهم كلها رمضان، ولا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم ورجعت إلى سيدها الأول.
__________
(1) تفسير القرطبي 2/291.(1/164)
وفي قيام الليل يروى أن الحسن بن صالح رحمه الله – وكان معدوداً في الأخفياء الأتقياء – كان يقول الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، فلما ماتت أمه تناصف هو وأخوه الليل، فلما مات أخوه صار يقوم الليل كله (1).
يا أخا الإيمان جدد إيمانك في شهر الصيام وقد قيل للمؤمنين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا } . واستمر في إحداث التوبة والزم الاستغفار ولا سيما في شهر القرآن، ونبيك - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إني لأتوب إلى الله تعالى في اليوم سبعين مرة"(2).
وفي حديث آخر صحيح: "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة"(3).
وإياك أن تستثقل شيئاً من تكاليف الإسلام، أو تتبرم بشهر رمضان، وكم هي نهاية مؤلمة تلك الحادثة لسفيه يروى إنه ضاق ذرعاً حين أقبل رمضان، فأنشد:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر
فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم عدة مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر (4).
يا أخا الإسلام: لا يغب عن بالك شفاعة الصيام والقرآن لأصحابهما، روى الإمام أحمد والحاكم بسند حسن عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان"(5).
أيها الصائمون يا من تستعيذون بالله دائماً من النار، تذكروا أن الصيام جنة من النار، قال عليه الصلاة والسلام: "الصوم جنة يستجن بها العبد من النار"(6).
__________
(1) دروس رمضان؛ سلمان العودة 6،7.
(2) حديث صحيح رواه النسائي وابن حبان (صحيح الجامع 2/324).
(3) صحيح الجامع 2/325.
(4) دروس رمضان 8.
(5) المسند 2/174، مستدرك الحاكم 1/554.
(6) رواه الطبراني في الكبير بسند حسن (ح3867).(1/165)
وتأمل عظيم فضل الله، ورسوله يقول في الحديث المتفق على صحته: "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" فكيف بمن صام شهراً كاملاًن وكيف إذا كان هذا الشهر شهر رمضان؟ اللهم لا تحرمنا فضلك، ولا تلهنا عن ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان } (البقرة: من الآية185).
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد المنان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون: هذه جمة من التنبيهات والوصايا أذكر بها نفسي وإخواني الصائمين، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، والله يقول { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } (الأعلى: من الآية 9-11) فكن من أهل الخشية ولا تكن من الأشقياء!
التنبيه الأول: احفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وإذا صمت لله فلتصم منك الجوارح كلها عما حرم الله، وكم هو غريب وعجيب أن نلحظ بعض الصائمين قد امتنع عما أحل الله له مؤقتاً من المطعم والمشرب والمنكح – تقرباً لله – ولكن فاته أن يمنع نفسه عما حرم الله عليه أبداً من الغيبة والنميمة وقول الزور أو سماع المحرم، أو رؤيته، وقد صح في الخبر "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(1).
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وغيرهما (صحيح الجامع 5/356.(1/166)
التنبيه الثاني: يروعك أكثر في حياة بعض الصائمين ازدواجية مشينة في الشخصية، وفهم غريب للحكمة من العبادة فتراه يظل صائماً نائماً عن الصلوات المكتوبة، وربما أخر الصلاة حتى يفوت وقتها، وربما جمع الصلاتين مع بعضهما، أما صلاة الجماعة فزهده بها شمل رمضان إلى شعبان وشوال.. ترى أيجهل هذا الصنف أم يتجاهل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183) وهل من التقوى في شيء النوم عن الصلاة المفروضة، أو الزهد في صلاة الجماعة؟!
ثالثاً: هذه رسالة أوجهها للصائمين عموماً وللشباب خصوصاً لاستثمار أوقاتهم وحفظ صيامهم ولا سيما في هذه الإجازة وهي نعمة وفضل لمن أحس بقيمتها وسابق إلى الخيرات فيها وأولى ما ينبغي أن تتجه إليه الهمم تلاوة كتاب الله وحفظه وتدبره، وليحمد الله أولئك الشباب الذين توفر لهم الوقت،والمطعم والمشرب، والصحة والأمن ما لم يتوفر مثله لآبائهم من قبل، وما قد لا يتوفر لأمثالهم في بلاد أخرى من بلاد المسلمين!!
أخي الشاب أتراه يليق بك أن تصفد مردة الشياطين في رمضان، وتظل أنت تؤذي المسلمين وهم يصلون أو وهم نائمون.
وإذا شملت هذه الإجازة المعلمين، فليسأل المربون أنفسهم عن كيفية استثمار أوقاتهم، وإذا كانوا قادرين على توجيه غيرهم فلا أظنه يعجزهم أن يوجهوا أنفسهم، ولكنها مجرد تذكير لهم بقيمة الوقت وفضل الزمن.(1/167)
على أن استثمار الوقت في رمضان أو غيره شامل للموظفين ورجالات الأعمال.. وكل بحسب همته، بل ربما رأيت أمياً أحرص على وقته من متعلم وربما أبصرت جاهلاً أكثر خشية لله وتقرباً من عالم، وهذا وإن كان خلاف ما ينبغي أن يكون عليه العالم والمتعلم ففضل الله يؤتيه من يشاء، ورحمته ليست حكراً على أحد من خلقه، ومن علم شيئاً من أمور الدين على حقيقته، وعمل به وفق ما شرع الله ورسوله، فهو المسلم الموفق حقاً أياً كان تعلمه، ومهما كانت منزلته.
رابعاً: معاشر المسلمين يفرط بعض الصائمين بأمر عظيم وهو في حقيقته يسير على من وفقه الله، ألا وهو الدعاء، ولا سيما في ساعات الاستجابة، وهل علمت أيها الصائم أ، لك دعوة مستجابة، فقد روى الإمام أ؛مد بسند جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان" وقد جاء في عدة أحاديث أن هذه الدعوة عند الإفطار (1)، فلا يفوتنك هذا المغنم أيها الصائم واسأل الله فيه من خيري الدنيا والآخرة ولا تنس والديك وذريتك والمسلمين – لا سيما المستضعفين – بدعوة في ظاهر الغيب فقد تبلغ الدعوة الصادقة مبلغها وإن لم يحتسبها كذلك الداعي بها!!
__________
(1) دروس رمضان 22.(1/168)
خامساً: وللمرأة المسلمة يوجه النداء بالحفاظ على الصيام من اللغو وقول الزور والعمل به، وصيانة نفسها في بيتها وعدم التعرض لفتنة الرجال في الأسواق فإن قدر لها الخروج للمسجد فليكن بآداب الإسلام، وهي حرية بالحفاظ على وقتها والإكثار من الذكر والتلاوة وسائر الطاعات.. بل وفي خدمة زوجها وأبنائها فهي مأجورة مع حسن القصد بكل حال، وتتضاعف الحسنات في رمضان، والناصح لها بقول إياك أختاه بإضاعة الوقت في كثرة ما يطبخ فيستهلك وقتك وتكونين سبباً في التخمة والإسراف لأهل البيت، وهذا ينافي الحكمة من الصيام الواردة في قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال القرطبي رحمه الله قيل: معناه: "تضعفون فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي، وهذا وجه مجازي حسن ثم ذكر معاني أخرى"(1).
اللهم ارزقنا التقوى، واسلك بنا سبل الهدى، وجنبنا الشرور والأذى.. هذا وصلوا.
عظمة القرآن (2)د
الخطبة الأولى
الحمد لله الرحمن، على القرآن خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصنا بخيرة رسله وأفضل كتبه، فكأنت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ ما أنزل من ربه وعصمه الله وحفظه، فما زاد ولا نقص مما أوحى الله إليه شيئاً، ولو كان كاتماً شيئاً من الوحي – وحاشاه لكنتم مثل قوله تعالى: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه } (الأحزاب: من الآية37).
ومثل قوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } (عبس: من الآية 1-2).
__________
(1) تفسير القرطبي 2/276.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/9/1417هـ.(1/169)
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1)، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
إخوة الإيمان يطيب الحديث عن القرآن في كل كوقت وآن، فكيف إذا كان الحديث عن القرآن في شهر القرآن؟ { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } (البقرة: من الآية185).(1/170)
قال المفسرون: يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – فقد روى الإمام أحمد بسنده عن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان" كما روي أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة والباقي كما تقدم (1).
أيها المسلمون كذلك أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا في رمضان وفي ليلة القدر منه، كما قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } (الدخان:3) وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } (القدر:1).
أما تنزيله على محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان في رمضان وغير رمضان، وعلى ما يزيد على عشرين عاماً، وكان الله فيه يحدث لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وكان في ذلك تثبيتاً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكما قال تعالى في حكمة نزول القرآن منجماً: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } (الفرقان: من الآية 32-33).
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/336، 337.(1/171)
أيها المسلمون إذا كان نزول القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - متأخراً عن الكتب السماوية الأخرى، فقد جعله الله مصدقاً لكتب قبله، ومهيمناً عليها { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } (المائدة: من الآية48).
أجل لقد نزل كتاب الله مصدقاً لما أخبرت به الكتب السماوية، وأخبر به الأنبياء السابقون، ولهذا لم يستنكره المؤمنون العالمون من أهل الكتاب بل خروا له سجداً { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } (الاسراء: من الآية 107-109).
وفي موضع آخر يقول عن قساوسة ورهبان النصارى الذين لا يستكبرون: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } (المائدة: من الآية 83-84).
أيها المسلمون إذا تطاولت النصارى – اليوم – واليهود من باب أولى على كتاب الله، وخالفوا أمره ونهيه، وآذوا المؤمنين به، وسخروا بأتباعه فذلك جزء من نكثهم للعهد الذي أخذ عليهم وعلى من قبلهم كما تشهد كتبهم التي سلمت من التحريف.. وه ناتج عن الحسد والكبرياء { ا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } (البقرة: من الآية89).(1/172)
وعلى المسلمين أن يعوا أهداف اليهود والنصارى من إضمار العداوة والبغضاء، فهي ليست جهلاً لكن حسداً وتكبراً ويفقهوا: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (البقرة:109).
يا أهل القرآن كما أن القرآن عظيم ومهيمن وشاهد ومؤتمن على الكتب قبله حين نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهو عظيم كذلك عند الله وهو في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } (الزخرف:4).
قال ابن كثير في معنى الآية: بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض"(1).
أفيليق بنا – معاشر المسلمين – أن يعظم كتاب الله أهل السماء ويتغاضى أو يعرض عنه أو يهجره أهل الأرض؟ إن الذين لا يقفون عند حدود القرآن ولا يعظمون أمره ولا ينتهون عند نهيه أولئك عنه معرضون.. وإن الذين تنقطع صلتهم بالقرآن إلا في شهر رمضان له هاجرون.
معاشر المسلمين: أينا يجهل أن هذا القرآن شرف لنا، وكلنا سنسأل عنه، ولولا رحمة الله لرفعه حين رد أول مرة، وتأملوا آيتين الأولى قوله تعالى في كتاب الله: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } (الزخرف:44).
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد: المعنى: شرف لك ولقومك، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه (2).
وقيل المعنى: تذكير لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم أما قوله: { وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } أي عن هذا القرآن، وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له (3).
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/195.
(2) تفسير ابن كثير 4/206.
(3) المصدر السابق 4/206.(1/173)
والأخرى، قوله تعالى: { أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ } (الزخرف:5).
والله لو أن القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله تعالى عاد بعائداته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، واستحسن ابن كثير رحمه الله هذا القول لقتادة فقال: وقول قتادة لطيف المعنى جداً، وحاصله أنه يقول فيما معناه أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم – وهو القرآن – وإن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته وتقوم الحجة على من كتب شقاوته (1).
أيها المؤمنون لقد كان اصطفاء هذه الأمة علىالأمم قبلها جزءاً من فضائل القرآن وأثره، حيث أورثهم القرآن، والقرآن مصدق للكتب قبله، وإن تفاوتت مراتبهم بين الظالم لنفسه والسابق للخيرات بإذن ربه والمقتصد، { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } (فاطر:32).
أمة الإسلام عظموا كتاب الله تلاوة وتدبراً في شهر رمضان وفي سائر الأيام، وتعلموه وعلموه تحصلوا على الخيرية التي وعد بها رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".
وقفوا عند حدوده، واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وإياكم وهجر القرآن، فإن ترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره، من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من هجرانه، كذا قال أهل التفسير في تأويل قوله تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } (الفرقان:30).
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/196.(1/174)
أمة القرآن ولا تفوتنكم تجارة القرآن، والله يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } (فاطر: من الآية 29-30).
وقد ورد في فضائل القرآن يقال لصاحب القرآن: إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة (1) وليس يخفى حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :"لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار"(2) وفي الحديث الآخر: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه"(3).
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } (فصلت: من الآية 1-4).
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً..
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بتدبر القرآن فقال جل قائلاً عليماً: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (محمد:24).
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/914.
(2) متفق عليه.
(3) رواه الترمذي وحسنه، وانظر التبيان، للنووي ص9.(1/175)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أوحى إليه ربه فيما أوحى { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الواقعة: من الآية 77-80).
وتكفل الله له بحفظه ما بقي الليل والنهار، وكانت تلك معجزة من معجزات هذا النبي وهذا القرآن: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } (الاسراء:9).
فأين المتلمسون لهدي القرآن ليقودهم لأقوم الطرق وأوضح السبل، وإذا لجت البشرية في طغيانها، واستحكمت الظلمة على أهل الأرض في برها وبحرها وسادت الحيرة والضياع فئاماً من البشر في مشرق الأرض ومغربها، كان للمؤمنين بهذا القرآن منجاة ومخرج ونور يضيء الطريق، ويبدد ظلمات الحيرة والشك، فهل يعقل المسلمون – قبل غيرهم – هداية القرآن، وهل يستشفون به من كل داء، والله يقول: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً } (الاسراء:82).
أجل إنه القرآن يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق والشرك والزيغ والميل، وهو رحمة يحصل فهيا الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه، ولكن ليس ذلك إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه، كذا قال العارفون (1).
وهو أحسن الحديث: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (الزمر: من الآية23).
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/99.(1/176)
أفيليق يا عباد الله أن تتصدع الجبال الراسيات لعظمة القرآن، وتخشع الحجارة الصم لو نزل عليها هذا القرآن، وتظل قلوب البشر صلدة لا تهزها قوارع القرآن، ولا تؤثر فيها مواعظ الذكر الحكيم، ويختم المسلم كتاب الله ويهذه هذا الشعر وربما لم تنزل منه دفعة أو يقشعر له جلد، فضلاً عن إصلاح حياته، أو تهذيب سلوكه وفق توجيهات القرآن، ولو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (الرعد:31) (1).
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاهم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت، فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به"(2).
__________
(1) سورة الرعد، آية: 31، وانظر تفسير ابن كثير عندها 4/381.
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير 1/96).(1/177)
أيها المسلمون أين النصح في دين الله لكتاب الله، والمصطفى - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح: "الدين النصيحة" – ثلاثاً – قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: "لله عز وجل ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين وعامتهم"(1).
أتدرون ما النصح لكتاب الله؟ قال العلماء: أما النصيحة لكتابه فشدة حبه وتعظيم قدره إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية في تدبره والوقوف عند تلاوته لطلب معاني حب مولاه أن يفهمه عنه أو يقوم به له بعد ما يفهمه، والخشوع عند تلاوته والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، والاعتناء بمواعظه والتفكر في عجائبه، ونشر علومه، والدعاء إليه..(2).
يا حملة القرآن تمثلوا هدي القرآن في ذوات أنفسكم، واحملوه إلى غيركم، علموه الأبناء، وادعوا إليه الآباء، واعقدوا له الحلق في المدن والقرى، واصبروا وصابروا على ما ينالكم في سبيله من اللأواء، وليكن الإخلاص رائدكم، والمتابعة لهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - منهجاً في حياتكم، وخذوا من همم السلف الصالحين ما يقوي عزائمكم (3).
__________
(1) رواه مسلم.
(2) انظر: ابن رجب: جامع العلوم والحكم ص78، 79، التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص97.
(3) أخرجه ابن سعد في طبقاته، والبخاري في تاريخه الصغير بسند رجاله ثقات.(1/178)
كتب يزيد بن أبي سفيان إلى عمر - رضي الله عنه - يقول: إن أهل الشام قد كثروا وملأوا المدائن،واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعني برجال يعلمونهم، فدعا عمر الخمسة الذين جمعوا القرآن.. فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير – يعنون أبا أيوب – وأما هذا فسقيم يعنون أبي بن كعب، فخرج معاذ، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، فقال عمر ابدأوا بحمص فإنكم ستجدون الناس فيها على وجوه مختلفة، فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، قال فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادة إلى فلسطين وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات.. رضي الله عنهم وأرضاهم (1).
وهكذا تكون الجدية في تعليم كتاب الله والدعوة لدينه والنفع للخلق، حتى ولو تغرب عن الأوطان المعلمون وتحملوا الموت في سبيل الغاية النبيلة عند المجاهدين الصادقين.
يا أهل الدثور، ويا أصحاب الولايات والمسؤوليات في بلاد المسلمين، إنه لشرف لكم أن تساهموا في تعليم كتاب الله بأموالكم أو بجاهكم، وكم هو عظيم أن تشمل الخيرية التي وعد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" اللهم اجعل لنا في الخير نصيباً وافراً، واجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقاً، وفي القبر مؤنساً وفي عرصات القيامة شافعاً. هذا وصلوا.
الحزن الممنوع والمشروع (2)
الخطبة الأولى
__________
(1) الطبقات 2/356، التاريخ الصغير 1/41، عن سير أعلام النبلاء 2/344.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/11/1417هـ.(1/179)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
أيها المسلمون يقول الحق تبارك وتعالى: { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (العنكبوت:64).
إنها حقيقة لا مرية فيه، حقارة الدنيا، وزوالها وانقضاؤها، وغايةما فيها لهو ولعب، أما الحياة الأبدية الباقية فهي حياة الآخرة، ومن علم ذلك وأيقن به آثر الباقية على الفانية، وبذلك ختمت الآية "لو كانوا يعلمون".
هذه الدنيا الدنية حكم الله بفنائها، وقدر على الإنسان نصيبه من الكبد فيها، وليس يسلم أحد من همومها وأكدارها ومنغصات العيش فيها، ومن رام غير ذلك فيها فهو مكلف الأيام ضد طباعها، ومن عيون الشعر وحكمه قول الشاعر:
حكم المنية في البرية جاري ماهذه الدنيا بدار قرار
جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هاري
فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري(1/180)
والنفس إن رضيت بذلك أوأبت منقادة بأزمة المقدار
فاقضوا مآربكم عجالا إنما أعماركم سفر من الأسفار
ليس الزمان وإن حرصت مسالماً خلق الزمان عداوة الأحرار
عباد الله وحديثي إليكم اليوم عن حالة نفسية، وخطرات قلبية تمر بنا جميعاً، ومنا المكثر فيها ومنا المقل، وتختلف لها الدوافع والمواقف، إنه حديث عن الحزن المرادف للهم، فما يعني الحزن؟ وماذا يجوز من الحزن وماذا يمنع؟ وما يحمد منه وما يذم؟ وكيف نتقي الحزن المذموم وندفعه؟
قال العارفون: الهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كل على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم.
والحزن انخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة لتأسف على فائت أو توجع للمتنع، وهو من وعارض الطريق، وليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين، ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط، ولا أثنى عليه، بل نهى عنه في غير موضع، قال تعالى: { وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران:139).
وقال تعالى: { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } (النحل: من الآية127).
وقال تعالى: { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم } (الحديد: من الآية23). ومثل ذلك كثير..(1).
بل لقد قيل عن الحزن: إنه بلية من البلايا التي نسأل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } (فاطر: من الآية34).
وكان الحزن مما استعاذ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن.." الحديث"(2).
__________
(1) انظر: الفتاوى لابن تيمية 10/16، طريق الهجرتين.. لابن القيم ص502، 503.
(2) متفق عليه.(1/181)
يا ابن آدم عجباً لك تضيق بك المهاجر وتقتلك الهموم، وتؤرقك الأحزان – كل ذلك أسفاً على فائت حقير، أو خوفاً من مستقبل لا تدري ما الله صانع به؟ أين ثقتك بالله وخزائنه ملئى ويده سحاء الليل والنهار، وأين إيمانك بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (التغابن:11).
يا أخا الإسلام، وإنما ينهى عن الحزن لأنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر به الله (1).
وينهى عن الحزن لأن فيه نسيان المنة لرب العالمين بما أنعم عليكم من نعم قد تغيب عنك كلها أو بعضها حال حزنك، فلا تتذكر إلا هذه المصيبة في نظرك، وقد يكون فيها هي الأخرى خير لك وأنت لا تدري، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.
وينهى عن الحزن لأن فيه بقاء في رقة الطبع، وحبساً للنفس في سجن التضجر والتشكي، والنفس مولعة بحب العاجل، وهي كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم (2).
يا أخا الإيمان.. وينهى عن الحزن لأنه يضعف القلب، ويوهن العزم ويضر الإرادة، وهو بهذا مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره.
__________
(1) الفتاوى 10/16.
(2) بتصرف من طريق الهجرتين ص502.(1/182)
وهل علمت أن الحزن مدخل من مداخل الشيطان على الإنسان يحزنه ليقعد به عن عمل الصالحات وهو يكثر عليه الهواجس والخطرات، ثم يتركه صريع الهم، ممتلئاً بالحزن.. لا تقوى نفسه على عمل الصالحات وتضعف في مقاومة الشهوات، وليس بمقدور الشيطان أن يضر أحداً إلا بإذن الله وعلى من أصيب بشيء من ذلك أن يستشعر عظمة الله ويتوكل عليه { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (المجادلة:10).
يا أخا الإيمان فإن قلت وما بال المؤمن لا يحزن وهو يشعر بتقصيره في حق الله، وما باله لا يأسف هو يرى عمره ينقرض في تحقيق الملذات، دون أن يعمل عملاً لائقاً لجنة عرضها الأرض والسموات؟
وما بال المؤمنين لا يحزنون، ومصائب إخوانهم المسلمين تترى، وقضاياهم تتحكم فهيا الأهواء، ويسوسهم فهيا الأعداء وأنى لقلب لا يحزن، وكلمة الحق، وأصوات المحقين تكاد تخنق، بينما يملأ الآفاق ضجيج الباطل، ويكثر سواد المبطلين.
وما بال قلب عمرته الرحمة لا يحزن لمصاب عزيز، وأي عين لا تدمفع لفقد حبيب وتلك رحمة جعلها الله في قلوب العباد؟
إن قلت ذلك أو عددت غيره مما يدعو للأسى والحسرة والهم والحزن أجبت بأن الحزن لا يحمد لذاته وإنما يحمد لسببه ومصدره ولازمه دون أن يفضي به الحزن إلى القعود عن فعل الأسباب الموصلة إلى الله يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عموماً، فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك إلى قوله: ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهي عنه.(1/183)
إلى أن يقول: وما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به كان مذموماً عليه من تلك الجهة وإن كان محموداً من جهة أخرى (1).
يا أخا الإسلام وإذا حزنت على شيء تكرهه فلا تتسخط ولا تعترض على أقدار الله، وسلم وارض وافعل الأسباب الدافعة لهذا الهم وكذلك كان هدي المصطفى، تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"(2).
ومع الهم والحزن توكل على الله وبث الشكاية إليه، وارفع الدعوات له فذلك شأن الصالحين { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } (يوسف: من الآية86).
وإياك واليأس من روح الله، والإحباط المذل للنفوس وكذلك يلازم المؤمن الصبر وقوة الرجاء وعدم اليأس حين الشدائد والضراء والمحن { يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } (يوسف:87).
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال"(3)، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك إنك كنت غفاراً.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين كتب على ابن آدم حظه من السعادة والشقاء والفقر والغنى فهو مدرك ذلك لا محالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يشاء ويختار وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان أعظم الناس مسؤولية وأحسنهم خلقاً اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
__________
(1) الفتاوى، 10/17.
(2) صحيح الجامع 3/38.
(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.(1/184)
أما بعد إخوة الإسلام فإذا اهتم لشيء من محقرات الدنيا فاتتهم،أو حزن آخرون على مرتبة من مراتب هذه الحياة لم ينالوها، أو بات القلق منكداً لحياة فئام من الناس وقد لا يحددون مصدره،÷ فثمة فئة أخرى تعد من خواص الناس ونبلائهم تحزن على تفريطها وتقصيهرا في خدمة ربها وعبوديته، أو تحزن على تورطها في مخالفته ومعصيته وضياع الأيام والأوقات، وهذا دليل على صحة الإيمان في القلب وكلما كان القلب أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى.. ولكن الحزن وحده لا يجدي عليه بل يضعفه، والذي ينفعه أ، يستقبل السير، ويجد، ويشمر، ويبذل جهده.
وأخص من هؤلاء من يحزن على جزء من أجزاء قلبه، كيف هو خال من محبة الله، وعلى جزء من أجزاء بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله (1).
أيها الإخوة المؤمنون، إذا عرفتهم الحزن المذموم، والممدوح فكيف يدفع الحزن، وكيف يتحول إلى عمل مثمر ويتجاوز صاحبه السلبية والقلق؟
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يذكر حزن الخواص من الناس والتي سبقت الإشارة إلى شيء منها: "فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق، ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله على الفكرة في الأسباب التي يدفعها به فأورثها الحزن، وإن كانت نفساً كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها فإن علمت منه مخرجاً فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه وإن علمت أنه لا مخرج منه فكرت في عبودية الله فيه وكان ذلك عوضاً لها من الحزن.
__________
(1) ابن القيم: طريق الهجرتين ص504، 505.(1/185)
عباد الله وإذا كان هذا مخرجاً عملياً من الأحزان، فثمة مقدمة وأساس لهذا المخرج لا بد من توفره، وبه يعان المرء على تجاوز أحزانه ألا وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته، والتوكل عليه، وحده، وعدم قطع حبل الرجاء معه، قال بعض العارفين: معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة" فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبداً – مهما ادلهمت الخطوب، واشتد الخصوم.
أليس خير البرية يقول لصاحبه "لا تحزن إن الله معنا".
والكفار يطاردون محمداً - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه حتى يقفوا على فم الغار الذي يختفي فيه وحينها يقول أبو بكر - رضي الله عنه - : "والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا" فيرد عليه { لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم } (التوبة: من الآية40).(1/186)
ويوسف عليه السلام يؤذى من أقرب الناس إليه، ويباع ويشترى بأبخس الأثمان وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ثم يؤذى في عرضه وتلحقه التهمة وهي البريء العفيف الطاهر، ويصر الملأ على سجنه من بعد ما رأوا الآيات حتى لا تنفضح امرأة العزيز، ويأسف أبوه لحاله ويقول: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } (يوسف: من الآية84)، ومع مكوثه في السجن بضع سنين يظل صابراً محتسباً، بل ويظل خيراً صادقاً داخل السجن كما كان خارجه ويعترف له من بالسجن بالصلاح والتقى وفضل العلم والهدى وينادى بـ"أيها الصديق"، ولا يمنعهم سجنه أن يستفتوه فيما أشكل عليهم حين أراد الله براءته وإخراجه من السجن على الملأ، بل لقد ظل عليه السلام داعياً إلى الله، لم تقعده به الأحزان أو تقطعه الهموم عن مواصلة السير إلى الله: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (يوسف:39).
وهكذا فمن تأمل حياة الأنبياء أو حياة أتباعهم من المجاهدين الصادقين لم يجد للحزن واليأس في قلوبهم طريقاً مع شدة البلوى وعظيم المصاب.
إخوة الإسلام، وهاكم مخرجاً ثالثاً شرعياً من مخارج الهم والغم أرشد إليه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بكلمات نافعة، حين دخل المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة – جالساً فيه – فقال: "يا أبا أمامة: مالي أراك جالساً في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: ألا أعلمك كلاماً إذا قتلها أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، فقلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني"(1).
__________
(1) أخرجه أبو داود وهو حديث حسن (جامع الأصول 4/295، 296).(1/187)
وفي رواية عند النسائي: "كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوات لا يدعهن، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل.." الحديث (1).
يا أخا الإسلام وهاك دعاءً آخر خاصاً بإذهاب الهم والحزن، قال عليه الصلاة والسلام: "ما أصاب عداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضي في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونوري صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً"(2).
أفيعجزك يا أخا الإسلام إذا نزل بك هم أو حزن لذات نفسك أو لقضايا المسلمين من حولك أن ترفع يديك إلى السماء، وتدعو دعاء المضطر، الواثق بالإجابة، وبهذه الأدعية وسواها..؟
وخلاصة القول فلا تشغلك هموم الدنيا عن السير إلى الله والاهتمام بمنازل الآخرة، ولا يقعد بك الحزن على مصائب المسلمين عن العمل والدعوة لدين الله، وكن بالله عارفاً، وعليه متوكلاً، وبنصره وتفريجه للكربات واثقاً.. فإن مع العسر يسرا، وإن مع العسر يسرا، ولن يغلب عسر يسرين.
اللهم اهدنا ووفقنا لليسرى، اللهم جنبنا العسرى، اللهم اكفنا ما أهمنا، وعظم أجورنا، وارزقنا الصبر والاحتساب على ما أصابنا هذا وصلوا..
طرق السعادة (3)
الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قسم الخلق – بعلمه وحكمته – إلى أشقياء وسعداء ففريق في الجنة وفريق في السعير.
__________
(1) المصدر السابق 4/352.
(2) رواه أحمد وغيره، وحسنه الحافظ. الدعاء من الكتاب والسنة، سعيد القحطاني ص4،5.
(3) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/11/1417هـ.(1/188)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، حمل رسالة الخير إلى أمته ففاز بالاتباع أهل السعادة، وانتكس أهل الفسوق والشقوة ولا يظلم ربك أحداً.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين ومن سار على هديهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
أما بعد إخوة الإسلام فإن السعادة مطلب العقلاء، ومبتغى الكبراء، وحلم يراود الضعفاء، ولكن الناس متفاوتون في فهم حقيقتها، ومتباينون في طرق الوصول إليها، منهم من يراها في المال والولد، ومنهم من يراها في الجاه والمنصب، ومنهم من يراها في توفر الشهوات يعب منها عباً، غير آبه بما يحل وما يحرم، ولا فرق عنده بين ممنوع ومشروع، ومنهم من يراها في السبق في مجال الصناعة والاختراع ومنهم من يراها في القصور الفارهة، والحسان الغانية، والخيل المسمومة والأنعام والحرث، وكل ذلك من متاع الحياة الدنيا الفانية، ولكن ثمة ما هو أنفع وأبقى.
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } (آل عمران:15).(1/189)
أجل لقد أخطأ طريق السعادة فرعون الذي ظن الملك والجبروت طريقه الآمن الدائم، فقال قولته الظالمة الآثمة "يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي" وأعلن على الملأ عقيدته الجائرة { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى } (النازعات: من الآية 24-25) وجعل فيه عبرة وكان لمن خلفه آية وأبصر هو وجنده المخدوعون به آثار الشقوةوهم بعد لم يفارقوا الدنيا، أعلن الندم والتوبة ولكن هيهات (1) { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } (يونس: من الآية 91-92).
أيها المسلمون حين أضل طريق السعادة فرعون ومن على شاكلته في الكفر والطغيان، وجدها فتية مستضعفون آمنوا بربهم واعتزلوا معبودات قومهم، وكان نصيبهم من الأرض – حين العزلة – كهفاً تقل مساحته في الأرض وتضيق منافذه الظاهرة نحو السماء، حتى إن الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، ولو اطلعت عليهم داخله لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، ومع ذلك فالسعادة تحيط بهم، والرحمة منشورة عليهم، والعقبى كانت لهم تلك ثمرات الإيمان وذلك طريق السعادة لمن رام الجنان.
__________
(1) انظر: خطب الفوزان 1/184.(1/190)
أيها المؤمنون لقد جاء في كتاب الله تحديد طريق السعادة والفلاح فمرة باتباع هدى الله { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } (طه: من الآية123) { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة: من الآية38) ومرة بالإيمان وعمل الصالحات { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل:97). ومرة بتزكية النفس وتحليها بالصفات الحميدة وإبعادها عن الصفات المذمومة: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (الشمس:10). ومرة بالقيام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (المؤمنون: من الآية 1-11).(1/191)
أيها المسلمون إذا كانت الحيرة والشك والضلال عذاباً وجحيماً لا يطاق في الدنيا، والآثار في الآثار في الآخرة أشد وأبقى، فإن الإيمان واليقين سبيل للسعادة في الآخرة والأولى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } (مريم:96). { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام:82)، { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } (طه:112).
محال أن يجد السعادة أصحاب الخنى والغناء، والكؤوس المحرمة، وأهل الريب والرذيلة والمعاصي مهما أوتوامن حظوظ الدنيا، إن لم يهتدوا ويتوبوا، ذلكم لأن ذل المعصية يحيط بهم ويقعد بهم السعادة الحقيقية: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذلك المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"(1).
وإذا أفلس من السعادة أرباب الأموال العظيمة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وقارون نموذج للانتكاسة والشقوة، ولمن يمنعه ماله، وقد أتاه الله من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولو القوة فقد خسف الله به وبداره الارض فهو يتجلجل بها إلى يوم القيامة.
إذاً أفلس هؤلاء ووجد السعادة وحققها بكل معانيها من اتصلوا بالله وأطاعوه، ولو كان نصيبهم من العيش كفافاً، ولو كان فرشهم حصيراً يبقى لها بعد النوم في الجنوب أثر.
عباد الله إن للإيمان والاستقامة على الحق أثراً حميداً حاضراً ومستقبلاً، والله يقول: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } (فصلت:30).
__________
(1) كذا قال الحسن البصري يرحمه الله (ابن القيم، الداء والدواء ص113).(1/192)
وطاعة الله ورسوله سبب للفوز والفلاح كما قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية71).
وتأمل يا أخا الإسلام نعيم الأبرار، وجحيم الفجار الوارد في قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار: من الآية 13-14).
يقول ابن القيم رحمه الله: ولا تظن أن قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } مختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب، وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته، والعمل على موافقته، وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم، وهو الذي سلم من الشرك والغل والحق والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد (1).
قال بعض العارفين وهو يستشعر محبة الله ويتنعم بعبادته: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة فإني إذا في عيش طيب (2).
أيها المؤمنون للرضا بالمقدور والقناعة بالميسور أثر في السعادة في الدنيا والمثوبة في الآخرة والله يقول: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه" وهذا حوار لطيف في مسكن السعادة وطرق جلبها، قيل: للسعادة أين تسكنين؟ قالت: في قلوب الراضين قيل: فيم تتغذين؟ قالت: من قوة إيمانهم قيل: فبم تدومي؟ قالت بحسب تدبيرهم قيل فبم تستجلبين؟ قالت: أن تعلم النفس أن لن يصيبها إلا ما كتب الله لها، قيل فبم ترحلين؟ قالت: بالطمع بعد القناعة وبالحرص بعد السماحة، وبالهم بعد السرور وبالشك بعد اليقين (3).
__________
(1) الداء والدواء باختصار ص218، 219.
(2) ابن القيم، زاد المعاد 2/25.
(3) السباعي، هكذا علمتني الحياة ص103.(1/193)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } (هود: من الآية 106-108). نفعني الله وإياكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ومن على من شاء بالعبادة والهدى فشرح صدرهم للإسلام فهو على نور من ربه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حجب نوره عن المعرضين المعاندين فعاشوا حياة العمى وإن كانوا مبصرين، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحي إليه ربه فيما أوحى { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } (النور: من الآية40).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد – إخوة الإسلام – فإن هذا الدين سبب للسعادة والهداية وغيره من الأديان والنحل سبب لنكد والشقوة، قال الله تعالى: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (الزمر:22).
والقرآن طريقك للهدى وهو مذكر لك لحصول السعادة ومحذر من طرق الغواية والردى، ومن أعرض عنه باتت حياته ضنكاً، وإن خيل للآخرين غير ذلك ظاهراً وكذلك حكم ربنا { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } (طه: من الآية 124-126).(1/194)
يا أخا الإسلام، إذا كان الإيمان واليقين وعمل الصالحات، والاستقامة على الحق، وسلامة القلب من الأمراض الخبيثة، والاهتداء بهدي القرآن.. كل ذلك من أسباب السعادة، فهناك أسباب أخرى فلا يفوتنك العلم بها والعمل، والعلم الشرعي باب واسع للسعادة وأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً، أما الجهل فهو يورث الضيق والحصر والحبس وصدق الله "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".
أيها المسلمون: من أسباب السعادة أيضاً دوام ذكر الله على كل حال، فبذكر الله تطمئن القلوب، وتورث الغفلة ألواناً من الضيق والعذاب، وهي طريق إلى موت القلوب "ومثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت" ومصيبة أن يميت الإنسان نفسه وهو يعد في عداد الأحياء؟
وأعظم ممن ذلك أن يرضى المرء بقرين الشيطان عوضاً عن الأنس بالله، والله يقول: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } (الزخرف:36).
ونفع الخلق والإحسان إليهم بالمال أو الجاه أو البدن كل ذلك يورث السعادة، فإن المحسنين الكرماء أشرح الناس صدراً وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، أما البخلاء فهم أضيق الناس صدراً وأنكدهم عيشاً..(1/195)
عباد الله، إذا أورث الكرم السعادة وانشراح الصدر، فكذلك الشجاعة تورث السعادة، فالشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان أضيق الناس صدراً وأحصرهم قلباً أيها المؤمنون إن لذة الحياة وجمالها وقمة السعادة وكمالها لا تكون إلا في طاعة الله، ومهما ابتغيت السعادة بغير ذلك فهي وهم زائف، وما أهون الحياة الدنيا على الله وقد حكم على متاعها بالقلة مهما تكاثر أو تطاول في أعين الجاهلية "قل متاع الدنيا قليل" وتأمل هوانها على الله في قوله: { وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (الزخرف: من الآية 33-35).
وحذار يا أخا الإسلام أ، تغرك سعادة لحظة عن السعادة الأبدية، أو تفتن بلذة عاجلة تعقبها ندامة آجلة، احذر أن تكون في حضيض طبعك محبوساً وقلبك عما خلق له مصدوداً منكوساً، حذار أن ترعى مع الهمل، أو تستطيب لقيعات الراحة والبطالة، وتستلين فراش العجز والكسل، فتبصر حين تبصر وإذا بجياد الآخرين قد استقرت في منازلها العالية وأنت دون ذلك بمراحل وتود الرجعة لتعوض ما فات ولكن هيهات.
يا أخا الإسلام كيف ترجو السعادة وتأمل النجاة ولم تسلك مسالكها، وهل رأيت سفينة تجري على اليبس؟
حاسب نفسك على الصلاة ولا تأمل السعادة وأنت ساه مضيع لها والله يقول: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون".(1/196)
ولقد أخطأت الفهم حين قدرت أن سماع الغناء المحرم وسيلة لسعادة والأنس في هذه الحياة، وفي ذلك ضلال عن طريق الهدى والله يقول: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } (لقمان:6).
وكيف ترجو السعادة إن كنت من أهل الكسب الحرام، وإن خيل لك ذلك وأنت تتعاطى الربا مثلاً فاقرأ قوله تعالى "يمحق الله الربا..".
وليست عقوبة الآخرة أقل من الدنيا { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ } (البقرة: من الآية275).
ابن آدم بشكل عام احذر خطوات الشيطان تكن سعيداً في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، واتخذه عدواً.. تشعر بالسعادة عاجلاً وأنت واجد ذلك آجلاً والله يقول: { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (البقرة: من الآية168).(1/197)
يا ابن آدم في طباع النفس من الهلع والجزع والشح والبخل ما يقعد بها عن السعادة، وفي تعاليم الإسلام ووصايا القرآن ما يهذبها وتضمن سيرها إلى الله { إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ } (المعارج: من الآية 19-35) اللهم اجعلنا من أهل الجنة.
عبرة في هجرة الحبشة (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن صحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة في 19/11/1417هـ.(1/198)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أما بعد إخوة الإسلام فما أروع سيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وسير أصحابه، حيت تطالع أو تروى، والمسلمون يجدون فيها في كل زمان ومكان المرشد الهادي في حال عزهم وسؤددهم كما يجدون فيها السلوى وطرائق للثبات في حال ضعفهم وتسلط الأعداء عليهم.
ولا شك أن الحديث عن محمد - صلى الله عليه وسلم - حديث عن خير البرية والحديث عن صحابته حديث عن خير القرون، وسأتذكر وإياكم نموذجاً للفتنة التي أصابت هؤلاء الصفوة، وكيف خرجوا منها سالمين منتصرين، وفي قصصهم عبرة، وفي حياتهم وجهادهم أسوة للمسلمين.
أخوة الإيمان وفي السنة الخامسة لبعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - جن جنون قريش لظهور الإيمان وكثرة الداخلين في الإسلام، واشتد أذاها على محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وما من وسيلة ترى فيها حرباً للإسلام وتقليلاً من شأن المسلمين إلا واستخدمها – وليس هذا موطن التفصيل فيها – وتحدثنا كتب السير أنها استخدمت فيما استخدمت – سلاح القبيلة – أسلوباً في النكال بالمسلمين يقول الإمام الزهري يرحمه الله: فلما كثر المسلمون وظهر الإيمان فتحدث به ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم، فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للذين آمنوا به تفرقوا في الأرض، قالوا: فأين نذهب يا رسول الله؟ قال: هاهنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة (1).
__________
(1) المغازي للزهري ص96، الطبقات لابن سعد 1/203.(1/199)
أيها المسلمون لقد كانت هجرة الحبشة فراراً بالدين، كانت صعبة على المهاجرين، وفي جوار جرى بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وبين إحدى المهاجرات إلى الحبشة تتضح صورة المعاناة وألم الغربة، فقد روى البخاري في صحيحه أن أسماء بنت عميس - رضي الله عنه - وكانت إحدى المهاجرات دخلت على حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومهم من الحبشة، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر لأسماء: سبقناكم بالهجرة – يعني إلى المدينة – فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث (1).
وكيف لا تكون الهجرة صعبة عليهم وهم يهاجرون إلى أرض لم يألفوها، لغة الأحباش عبر لغتهم، وعوائدهم تختلف عن عوائدهم، ودينهم غير دينهم، وشوق الأهل وحنين الديار وغربة المقام كل هذه وتلك تشكل ضغطاً نفسياً عليهم، ولكن الأمن من الفتنة في الدين، والسلامة من أذى المشركين، والرغبة في نشر هذا الدين تخفف من آلام غربتهم، وتحفزهم على البقاء في أرض البعداء البغضاء.
أيها المسلمون وبرغم ارتياح المهاجرين بالحبشة وطمأنينتهم وفي ظروف الفتن تروج الشائعات، ولم يطل مكث المسلمين بالحبشة حتى بلغهم أن قريشاً قد أسلمت، فرجعت طائفة منهم إلى مكة.. ولكنهم أدركوا حين اقتربوا من مكة أن الخبر كاذب وأن قريشاً أشد في أذاها بعد هجرتهم، ولم يستطع أحد من هؤلاء العائدين من الحبشة أن يدخل مكة إلا بإجارة – أو كفالة – أحد المشركين، ومن بين هؤلاء عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى إيذاء المشركين للمسلمين – وهو آمن – رد على الوليد جواره ولم تطب نفسه أن يرى المسلمين يعذبون وهو آمن.
__________
(1) الفتح 7/484.(1/200)
وبينما هم في مجلس لقريش، وفد عليهم لبيد بن ربيعة قبل إسلامه فقعد ينشدهم من شعره فقال:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان: صدقت.
ثم قال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان: كذبت.
نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: متى كان يؤذى جليسكم يا معشر قريش؟ فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه فلامه الوليد على رد جواره فقال: قد كنت في ذمة منيعة فقال عثمان: إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة. فقال الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى.
إخوة الإيمان – قال بعض كتاب السيرة معلقاً على هذا الحديث: إن دعوة هذا بعض رصيدها من المفاهيم لن تقهر ولن تغلب وإن ديناً هذه بعض سمات رجاله لحري بالظهور والتمكين (1).
إنه الثبات على دين الله رغم المحن واللؤى، إنه الشعور بعزة الإسلام رغم المسكنة والضعف؟
وكم هو عجيب هذا الجيل في صدقه مع الله وثباته على الدين الحق ويطول عجبك حين تعلم صوراً من ثبات المهاجرين للحبشة تجاوزت الرجال إلى النساء، وأم حبيبة - رضي الله عنه - ثبتت على إسلامها وهي في أرض الغربة رغم ردة زوجها عبيد الله بن جحش ودخوله في النصرانية، وهي بذلك تضرب نموذجاً رائعاً للمرأة المسلمة، وتستحق على ذلك عظيم المكافأة، فقد عقد عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بعد في أرض الحبشة، وكانت واحدة من أمهات المؤمنين، فور انقضاء عدتها.
__________
(1) من معين السيرة ص57.(1/201)
وإذا رأيت ثم رأيت دلائل الصدق وعظيم الصبر من المهاجرين في أكثر من موقف وحادثة زال عجبك من تهاوي أركان الجاهلية على أيدي هؤلاء، ولم تستغرب تغير قناعة قريش بهذا الدين وإعجابهم بالمسلمين حتى إذا أتيحت الفرصة المناسبة أعلن عدد من قادة قريش إسلامهم وانضموا إلى صفوف المسلمين وكان حدثاً عظيماً في الزمان وتغيراً كبيراً في الأذهان يوم أن أسلم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص وغيرهم كثير، وما دام الحديث متصلاً عن هجرة الحبشة وآثارها فدونكم خبر إسلام عمرو بن العاص وهو سفير قريش لرد المهاجرين أولاً، والمسلم على يد النجاشي آخر يقول عمرو عن نفسه: كنت للإسلام مجانباً معانداً، حضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت في نفسي: كم أوضع؟ والله ليظهرن محمد على قريش، فلحقت بمالي بالرهط، ثم بدا لي فلحقت مع رفقة لي بالحبشة بعد صلح الحديبية وقلت نلحق بالنجاشي أحب إلينا أن نكون تحت يد محمد، وأن تظهر قريش فنحن من قد عرفت، فلحقنا به، وذات يوم جاءها عمرو بن أمية الضمري بكتاب من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليزوجه أم حبيبة، فلما خرج من عنده دخلت عليه وقلت: أيها الملك خرج من عندك رجل هو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطنيه فأقتله – يقول عمرو وإنما أردت بذلك أن أتخذ يداً عند قريش بقتل رسول محمد – فلما قلت له ذلك غضب النجاشي ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدرت منخراي، وجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذي مالو انشقت بي الأرض لدخلت فهيا فرقاً منه، ثم قلت أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك، قال: فاستحيا، وقال: يا عمرو: تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى لتقتله؟ قال عمرو فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والجم وتخالف أنت؟(1/202)
ثم قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أتبايعني له على الإسلام؟
قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم وكساني ثياباً..(1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } (الأنعام:36).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، الملك ملكه، والدين دينه، والنصر من عنده، وهو مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وبعد:
فلا تظنن – أيها المسلم – أن هجرة الحبشة كانت سياحة يرغب المهاجرون فيها التنعم بالراحة والتلذذ بشهوات الدنيا حيث لا تتوفر مثلها في مكة.
ولا يدور بخلدك أن المهاجرين استسلموا للراحة حيث ابتعدوا عن المحنة، بل وافتهم في أرض الحبشة صعوبات، وتعرضوا فيها أكثر من مرة لمخاطر ومساءلات – وكانت حواراتهم صادقة، يعظمون فيها الإسلام وإن لم يكن ثمة مسلمون غيرهم، ويلتزمون بهدي القرآن، وإن كان الحكم هناك للإنجيل، ويحافظون على صلواتهم وعباداتهم وإن لم يشاركهم فيها غيرهم، بل تحدثنا كتب السير أن جعفراً كان بالحبشة يجمع أصحابه ويحدثهم (2)، كما نقل ذلك الذهبي.
__________
(1) البداية والنهاية 4/264.
(2) سير أعلام النبلاء 1/437.(1/203)
إخوة الإسلام الإسلام الذي هاجر المهاجرون من أجله، ظل في أرض الغربة عزيزاً عندهم، واستطاعوا بصدقهم وصبرهم وتوفيق الله لهم أن يدخلوا الآخرين فيها، ولو لم يكن من آثار هجرتهم إلا إسلام النجاشي ملك الحبشة لكان ذلك كافياً وأثراً عظيماً، ولئن كان قارئ السيرة يعجب بعقل النجاشي وعدله، وهو الذي لم يأخذ المسلمين بالظنة ولا صدق فيهم التهم الباطلة، التي روجتها قريش ضدهم حتى استدعاهم وسمع منهم، وأعجبه حديث جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن أسباب هجرتهم واختيارهم أرضه حين قال: "…فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك فقال النجاشي: هل معك مما جاء به محمد عن الله من شيء؟ قال: نعم فقرأ عليه جعفر صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة (1).
يا أخا الإسلام إذا كان يعجبك هذا الموقف المتعقل من النجاشي للمسلمين المهاجرين إليه، وتسر لإسلام النجاشي حين أصبح في عداد المسلمين، وتغتبط إذ يصلي عليه الرسول صلاة الغائب حين مات في أرض الحبشة ولم ير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يره الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فيزداد عجبك بالنجاشي حين تعلم أن العدل مبدأ أرسى عليه دعائم ملكه منذ أن صار إليه أمر الأحباش، ولقد رد هدايا قريش عليهم حين تبين له صدق المسلمين، وما هم عليه من حق تذكر أن الرشوة لم تؤخذ منه من قبل فيأخذها هو، وقال قولته المشهورة: ردوا عليهما – يعني مبعوثي قريش – هداياهما، فلا حاجة له بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي وآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه (2).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 1/359.
(2) السيرة لابن هشام 1/361.(1/204)
يا أخا الإسلام، النجاشي بهذه المقولة يتذكر فضل الله عليه حين حسده الحاسدون وباعوه رقيقاً، ثم مكنه الله نتيجة صدقه وعدله وصلابته في دينه وتروي قصته العجيبة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - وتقول:
إن أبا أصحمة النجاشي كان ملك قومه، ولم يكن له من الولد إلا النجاشي (أصحمة) وكان له عم له من صلبه اثنا عشر رجلاً، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام وإن لأخيه اثني عشر ولداً فتوارثوا ملكه من بعده، فبقيت الحبشة بعده دهراً، فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه، فمكثوا على ذلك، ونشأ (النجاشي، أصحمة) مع عمه، وكان لبيباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله إنا لنتخوف أن يملكه، ولئن ملكه علينا ليقتلنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه، فمشوا إلى عمه فقالوا له: إما أن تقتل هذا الفتى، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفنا على أنفسنا منه، قال: ويلكم: قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به فباعوه من رجل تاجر بست مائة درهم، ثم قذفه في سفينة، فانطلق به حتى إذا السماء من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحاب الخريف، فخرج عمه يستمطر تحتها، فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هم حمقى ليس في ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلمون والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه، قال: فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فأخذوه من التاجر، ثم جاءوا به، وأقعدوه على سرير الملك وملكوه، فجاءهم التاجر فقال إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك، فقالوا: لا نعطيك شيئاً، قال إذا والله لأكلمنه، قالوا: فدونك، فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك(1/205)
ابتعت غلاماً من قوم بالسوق بست مائة درهم فأسلموه إلي وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي، فقال لهم النجاشي لتعطينه دراهمه أو ليسلمن غلامه في يده، فليذهبن به حيث يشاء؟ قالوا: بل نعطيه دراهمه.. فذلك حين يقول النجاشي: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه (1).
أيها المسلمون هذه وقفة عاجلة عند حدث من أحداث السيرة، وكم في قصص الماضين من عبرة وكم فيها من تسلية للنفس وتسرية، وما أحوج المسلمين لقراءة السيرة النبوية قراءة واعية وفيها دروس عظيمة، وسيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهديه هي الطريق الآمن لمسيرة الأمة، وهي السبيل السوي لنشر هذا الدين، وقبل ذلك فهي النموذج الحي للثبات على هذا الدين وفهمه فهماً صحيحاً، اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وأعنا على الاقتداء بسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، هذا وصلوا…
الحج والتوحيد (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله حق التقوى واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ألا وإن تقوى الله أمان من كل خوف، وغنى ما بعده فقر، وسعادة لا شقوة فيها – ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب – ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 1/ 429، 430.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/12/1417هـ.(1/206)
أيها المسلمون عاد حجاج بيت الله بعد أن طوفوا بالبيت العتيق، وقفوا على صعيد عرفات خاشعين متذللين مبتهلين إلى الله والله غني كريم أفاضوا من حيث أفاض الناس وذكروا الله عند المشعر الحرام، ورموا الجمار، وتقربوا إلى الله بالهدي وهم على يقين أن الله لن يناله شيء من لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم.
ألا ما أعظم رحلة الحج حين تذكر المسلم بقضايا العقيدة الكبرى فالتوحيد الخالص شعار الحجاج من أول وهلة وهم يلبون عند عقد الإحرام "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك".
والتوحيد كذلك أساس بناء البيت العتيق، والهدف من بنائه ودعوة الناس للوفود إليه، كذلك أوحى الله لخليله إبراهيم عليه السلام وكذلك سار على خطاه محمد عليه الصلاة والسلام: { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } (الحج: من الآية 26-27).
وذكر الله في الحج وهو مظهر من مظاهر التوحيد لا يكاد يفارق الحجاج فهم يذكرون الله ويكبرونه وهم يطوفون حول البيت، وحين يسعون بين الصفا والمروة وحين يهلون بالحج أو العمرة أو كليهما، وخير ما قال النبيون الأولون والآخرون "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير".
ويذكرون الله ويكبرونه وهم يرمون الجمار، وينحرون الهدى والأضاحي وأدبار الصلوات المكتوبة، أو قبلها، وكذلك يرتفع اسم الله في مناسك الحج، وكذلك ينبغي أن يشهد الحجاج منافع الحج { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } (الحج: من الآية28).(1/207)
ويبدو ذكر الله واضحاً لمن تأمل في مناسك الحج كلها.. كيف لا والحق تبارك وتعالى يقول في سياق آيات الحج { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } (البقرة: من الآية198).
إنه التذكير بالوحدانية وإدامة ذكره وحده، وتذكير كذلك بنعمة الله على من نزل عليهم القرآن حيث كانوا من قبل يتمرغون في أوحال الشرك والوثنية والضلال "وإن كنتم من قبله لمن الضالين" وسواء أكان المقصود بذكر الله عند المشعر الحرام الصلاتين جميعاً أم ما هو أعم من ذلك (1).
فإن ذك الله سمة بارزة في الحج وهي مظهر من مظاهر التوحيد ويستمر الحجاج يلهجون بذكر الله حتى يتموا حجهم كما قال تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا } (البقرة: من الآية200).
وهنا لفتة وخروج عن تقاليد أهل الجاهلية في الذكر وهي تسير في إطار التوحيد وتحقيق العبودية، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم، فأنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ } (البقرة: من الآية200) فحثوا على ذكر الله والتعلق به أشد من ذكرهم وتعلقهم بآبائهم.."(2).
إنها نقلة في المفاهيم.. وتبعة من تبعات هذا الدين الحق، عقلها المسلمون أول ما نزلت وينبغي أن يعقلها المسلمون وهم يتلون كتاب الله، ويؤدون شعائر الحج، فيديموا ذكر الله ويتعلقون به أكثر من تعلقهم بغيره، ولو كان المتعلق به أقرب الناس نسباً.
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير عن الآية: 1/378.
(2) تفسير ابن كثير 1/381.(1/208)
عباد الله يلخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعمال الحج والهد منها بإقامة ذكر الله ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله"(1).
أيها المسلمون تظل ظاهرة الذكر معلماً بارزاً في أيام الحج لمن تأمل والله يقول: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } (البقرة:203).
وفي سبل الدعوة للتوحيد وإعلاء شأنه عاتب الله قريشاً يوم أن كانوا سدنة البيت فأشركوا معه في العبادة غيره، وصدوا الناس عنه { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } (الحج: من الآية25).
ونفى عنهم الولاية: { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } (لأنفال: من الآية34).
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي بسند حسن (جامع الأصول 217:3).(1/209)
أيها المسلمون حين تدرك أهمية التوحيد في شعيرة من شعائر الله، وركن من أركان الإسلام، فليس يخفى أثر التوحيد وأهميته في شعائر الإسلام الأخرى وأركانه الأساسية أو ليست كلمة التوحيد هي الركن الأول من أركان الإسلام، وأولسنا في كل قيام للصلاة نردد { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فضلاً عن إعلان التوحيد وإعلاء شأن الذكر في أعمال الصلاة كلها، وليس التشهد إلا مظهراً من مظاهرهاً بل ويظهر التوحيد في مقدمات الصلاة من الأذان والوضوء، وهكذا الشأن في بقية أركان الإسلام أو لا يقودنا ذلك كله إلى تعظيم شأن التوحيد والاهتمام به والبعد عن الشرك دقيقة وجليله، أوليس الحق تبارك وتعالى بقول: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } (النساء:48).
ومن وصايا العبد الصالح لابنه: { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (لقمان: من الآية13).
وفي واحة التوحيد ورياض الإيمان يكون الهدى ويتوفر الأمن في الدنيا والآخرة وذلك ذكرى للذاكرين: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام:82). أجل لقد أشكلت هذه الآية على الصحابة وقالوا: أينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم، قال: "ليس كما تقولون، ذاك الشرك".(1/210)
وتأمل يا أخا الإسلام عظيم فضل الله ومغفرته للذنوب، ما لم يقع العبد في الشرك، وفي ذلك أعظم دليل على أهمية التوحيد في حياة المسلم يقول عليه الصلاة والسلام: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب من شبراً تقربت منه ذراعاً ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هؤولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة"(1).
فتأملوا هذا الشرط "لا يشرك بي شيئاً".
يقول ابن القيم رحمه الله في معنى الحديث: ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك مالاً يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً ربه بقراب الأرض خطايا، أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي (2).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } (الشعراء: من الآية 88-89).
اللهم سلم قلوبنا من الشرك قليله وكثيره صغيره وكبيره، اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه.. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره ,اثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
__________
(1) رواه أحمد ومسلم (5/172)، (2687).
(2) فتح المجيد ص61.(1/211)
أما بعد فاذكروا الله – معاشر المسلمين – يذكركم، اذكروه ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً، اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم، وتعرفوا إلى الله في حال الرخاء يعرفكم في حال الشدة إياكم والغفلة عن ذكره وشكره { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (الزمر: من الآية22).
{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } (الزخرف:36).
معاشر المسلمين استقيموا على طاعة ربكم، واتخذوا من فرص الخير ومواسمه محطات تتزودون بها للقاء ربكم، واعلموا أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار.. ما أهون الخلق على الله ما أضعف حيلهم إذا حزبت الأمور، وعصفت العواصف وحل بهم شيء من أقدار الله.. ولقد عاد كثير من الناس بذاكرته إلى الوراء يتذكر ما قدم يوم أن وقع في اليوم الثامن ما وقع في منى.. وربما خيل لبعضهم أن القيامة قاب قوسين أو أدنى، وبلغ الرعب والهلع أن قتل بعض الناس بعضاً ولقيت ربها نفوس قد تجردت من الدنيا، ولم يكن عليها إلا لباس تشبه أكفان الموتى، وسلم الله من سلم ليمتحنهم في بقية أعمارهم في الدنيا، ونسأل الله أن يتغمد أموات المسلمين بواسع رحمته، وأن يجعلها تذكرة لمن أنجاه الله منها وأن يقي المسلمين الشرور والفتن وأن يكشف الباطل وأهله، وأن ينزل شفاءه العاجل على مرضى المسلمين.
أيها المؤمنون ما فتئ القرآن يذكرنا بنار جهنم وشدة حرها وسمومها.. فهي نزاعة للشوى، وهي لواحة للبشر وأصحابها لا يقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها وهم يصطرخون فيها ويستغيثون بمالك خازنها { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } (الزخرف:77).
وكلما فنيت فيها الجلود أبدلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب أي نفس تطيق هذا العذاب – وأي أقدام لها جلد وصبر على النار.(1/212)
ألا فلننقذ أنفسنا من النار، ولنحملها على طاعة الله فما أصبر الكافرين على النار؟ وصدق الله { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ } (الواقعة:73).
وصدق الله إذ يقول: { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } (الزخرف: من الآية 74-76).
عباد كم نركن إلى هذه الدنيا وهي غرارة وكم نفس حملت ما حملت من الأضغان والأحقاد وأضمرت من الشرور والفسوق والعصيان، وأنفاسها معدودة، ولربما كانت ورقتها ذابلة، وقد محيت من اللوح المحفوظ، وويل لمن لقي الله وهو غاش لنفسه، أو غاش لمن استرعاه الله عليه، تذكروا عباد الله هول المطلع يوم العرض على الله، وتذكروا سرعة النقلة وفجأة الموت فلا تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
وتأملوا هذه الوصية من الحسن إلى عمر بن عبدالعزيز وقد كتب إليه يقول: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها أدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة.. الخ كلامه يرحمه الله (1).
أيها المسلمون حققوا التوحيد ولا تصرفوا شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، فمن حقق التوحيد دخل الجنة.
وخافوا على أنفسكم من الشرك كبيره وصغيره، وقد خافه - صلى الله عليه وسلم - على أمته وقال: "أخوف ما أخاف عليك الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء"(2).
__________
(1) إغاثة اللهفان، 1/61.
(2) رواه أحمد بسند صحيح 5/428، 429.(1/213)
وإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ كذا قال العالمون (1).
حافظوا على الصلوات فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأقيموا الواجبات، واجتنبوا المحرمات، ولا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ولا تنخدعوا بطول الأمد فتقسو قلوبكم..
معاشر المسلمين حجاجاً ومقيمين عادت صحائفكم بيضاء نقية، "فمن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" ومن صام عرفة كفر الله عنه سنة ماضية وقابلة.. ألا فحافظوا على هذه الصحائف بيضاء وتزودوا لآخرتكم فإن خير الزاد التقى.. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.. هذا وصلوا..
المرأة في الإسلام (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن أصحابه وآله وأزواجه أمهات المؤمنين، ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين والمسلمات فتلك وصية الله لكم ولمن سبقكم { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } (النساء:131).
__________
(1) فتح المجيد ص82.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/4/1416هـ.(1/214)
أيها الإخوة المؤمنون لا عجب أن يكثر الحديث عن المرأة، فهي تمثل نصف المجتمع أوتزيد، وهي الأم والبنت والزوج والأخت هي قمة شماء وصخرة صماء إذا صلحت واستقامت تحطمت على أسوارها المنيعة مكائد الكائدين، وهي نافذة واسعة، وبوابة مشرعة للفساد إذا خلص إليها المغرضون، أمر الله لهن بحسن العشرة في محكم التنزيل فقال { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } (النساء: من الآية19). وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهن خيراً وقال: "استوصوا بالنساء خيراً.."(1).
ونزل القرآن الكريم معلياً شأنهن ومؤكداً حقوقهن من مثل قوله تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض } (آل عمران: من الآية195).
بل نزلت سورة كاملة من القرآن تحمل اسمهن، وتعالج قضاياهن ومع ذلك كله فهن موضع للفتنة، وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وخاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من النساء فقال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"(2).
لا عجب والحالة تلك أن يكثر الحديث عنهن، وأن توضح الصورة المتميزة التي حددها الشرع لهن، ولا عجب أن يكثر الحديث عن المرأة في زمن كثرت أصوات الناعقين، وامتلأت الأجواء ضجيجاً وزوراً وباطلاً باسمهن ومخادعة لهن.
__________
(1) متفق عليه، رياض الصالحين ص140.
(2) صحيح الجامع 5/138.(1/215)
ومع كثرة اللقاءات والمؤتمرات التي عقدت فيما مضى أو تعقد اليوم، أو يخطط لعقدها مستقبلاً، سواء ما يسر به أو يعلن على الملأ.. فإنا على ثقة أن هذه الصيحات الفاجرة الظالمة التي تنادي بتحرير المرأة مساواتها وتدعو إلى خروجها واختلاطها، وتئد كرامتها وفتها بعد نزع حجابها والتخلي عن حيائها.. إنا على ثقة أنها لن تؤثر – إن أثرت – إلا على صنفين من النساء، الصنف الأول: امرأة عفيفة في نفسها، لكنها جاهلة بحقوقها ومكانتها في الإسلام، غافلة غائبة عما يريده لها أعداء الإسلام، فتلك يختلط عليها الحق بالباطل، ولا تميز بين أصوات المؤمنين والمنافقين، يخدعها السراب وتبهرها الأنوار الكاشفة الكاذبة حتى إذا أطفئت عنها فجأة وقعت في ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
أما الصنف الآخر فهن نساء لديهن حظ من العلم والمعرفة الدنيوية، لكنهن في سلوكهن متهتكات مستهترات، أو فيهن استعداد لهذا وذاك.
هؤلاء لا يرين في الاختلاط عيباً، ولا في السفور بأساً، قد فتنتهن وغرتهن الدنيا بزينتها فهي محل تفكيرهن ومحط آمالهن وغاية طموحاتهن أما الآخرة بنعيمها وسرمديتها فتمر بهن أحياناً كالطيف، حين العزاء أو في مناسبات إسلامية عامة كشهر رمضان والحج أو ما شابهها. ومع ذلك فباب الهداية مفتوح غير موصد، وطريق الإنابة والرشد ميسور ليس دونه أبوب تغلق.. ومن أوسع أبوابه العلم والخشية فبالعلم النافع تكون الخشية { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (فاطر: من الآية28) وبالخشية تحصل المنعة من الفتنة بإذن الله.(1/216)
أيها المؤمنون والمؤمنات على طريق العلم والمعرفة وحيث سبق الحديث عن نماذج من امتهان المرأة في الجاهليات الأولى، وما كانت تلاقيه من مسخ وخسف وذلة ومهانة، أعرض لكم اليوم شيئاً من عناية الإسلام بالمرأة وبيان مكانتها الحقيقية في شرع الله، وبضددها تتميز الأشياء وأعتذر لكم سلفاً عن الاختصار بما يقتضيه المقام، ومن رام التفصيل فدونه مطولات الكتب، ومؤلفات أهل الإسلام ففيها الإيضاح والبيان فيقرر الإسلام ابتداءً وحدة الأصل بين الذكر والأنثى، وأن المرأة كالرجل في الإنسانية سواء بسواء ويقول تعالى في محكم التنزيل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } (النساء: من الآية1).
ويقول عليه الصلاة والسلام: "إنما النساء شقائق الرجال"(1).
ثانياً: ضمن لها الإسلام الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا والآخرة إن هي ضلت السبيل، كالرجل، فقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل:97).
ثالثاً: كما ساوى الإسلام في تكليفها بالعبادات – مع الرجل – فلها ثواب الطاعة إن عملتها، وعليها عقوبة المعصية إن وقعت فيها.
__________
(1) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي (صحيح الجامع الصغير 2/281).(1/217)
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } (الأحزاب:35).
وقال تعالى – في الجانب الآخر - { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } (النور: من الآية2).
وقال تعالى مخاطباً الجنسين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ } (الحجرات: من الآية11).
وفي سبيل وقاية النوعين من الوقوع في الرذيلة قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ } (النور: من الآية31).
رابعاً: حرم الإسلام التشاؤم بالمرأة والحزن لولادتها كما كان شائعاً عند العرب فقال تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } (النحل:58) إلى قوله تعالى: { أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (النحل: من الآية59).
كما حرم وأدها وشنع على ذلك فقال: { وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } (التكوير: من الآية 8-9).
وقال تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم } (الأنعام: من الآية140).(1/218)
خامساً: كما ضمن الإسلام الأهلية للمرأة في الحقوق المالية، مهما كان نصيبها قال تعالى: { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً } (النساء:7).
قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً. فأنزل الله هذه الآية (1).
بل فوق ذلك جعل الإسلام للمرأة الرعاية في بيت زوجها وحملها مسؤولية رعايته "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها".
فأين ذلك من بعض تشريعات البشر وقوانينهم التي تعتبر المرأة مع الصغير والمجنون محجوراً عليهم؟ كما في القانون الروماني والفرنسي سابقاً (2).
سادساً: واعتنى الإسلام بتعليم المرأة، وقال لها وللرجل: "قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون".
وخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - للنساء يوماً يعلمهن مما علمه الله، وكن خير معينات على العلم والتعليم، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا، فاجتمعن فأتاهن فعلمنهن مما علمه الله"(3).
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/191.
(2) الإسلام والمرأة: إقبال المسلم، دانه الفليح ص4-6، (السباعي: المرأة بين الفقه والقانون ص43).
(3) عناية النساء بالحديث النبوي مشهور آل سلمان ص6.(1/219)
وأفلح تعليم المرأة المسلمة في عصور الإسلام الزاهية فكانت نوابغ النساء في كافة الفنون، تشهد بذلك مدونات الإسلام، ويفتخر عدد من الرجال بمشيخة عدد من النساء، مع كمال الحشمة والعفة والوقار، وظلت المرأة المسلمة نموذجاً يحتذى في العلم والفقه والعزة بالإسلام، لا في عصر النبوة فحسب بل فيما تلاها من القرون أيضاً وإذا تجاوزنا أمثال عائشة - رضي الله عنه - نموذج العلم والفقه الأول، فهذه بنت سعيد بن المسيب رحمهما الله. حين دخل بها زوجها وكان من طلبة والدها، وأصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج قالت له زوجه – بنت سعيد – إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: أجلس أعلمك علم سعيد (1).
وهذه أم الشافعي رحمهما الله كانت باتفاق النقلة من العابدات القانتات، ومن أذكى الخلق فطرة، شهدت مع أم بشر المريسي بمكة عند القاضي، فأراد أن يفرق بينهما ليسألهما منفردتين عما شهدتا به استفساراً، فاعترضت عليه أم الشافعي وقالت أيها القاضي ليس لك ذلك لأن الله يقول: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } (البقرة: من الآية282) فلم يفرق بينهما (2).
تلك نماذج وغيرها كثير تفاخر بها المرأة المسلمة، ويعترف بها غير المسلمين وهذا غوستاف لوبون صاحب حضارة العرب – يذكر أنه كثر في العهد العباسي في المشرق، وفي ظل الأمويين في الأندلس اللواتي اشتهرن بمعارفهن العلمية والأدبية، وبعد ذلك من الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب"(3).
__________
(1) الحلية لأبي نعيم 2/167، 168، عناية النساء بالحديث، آل سلمان ص121.
(2) عناية النساء بالحديث، ص131.
(3) حضارة العرب ص489، عن المصدر السابق ص7.(1/220)
فهل تعيد المرأة المعاصرة تاريخ ومجد أسلافها من المؤمنات العاملات ليس ذلك على الله بعزيز، ولا يقف مد الإسلام وفي الأرض مسلم ومسلمة يقولان لا إله إلا الله محمد رسول الله، أعوذ بالله { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً } (النساء: من الآية 123-124).
هذه عناية الإسلام بالبنت حتى تغادر البيت معززة مكرمة فأين هذا من الحضارة المزعومة المعاصرة التي ترمي بالبنت في قارعة الطريق لتبحث عن مأوى آخر، وتهيم على وجهها في صحراء مهلكة تحيط بها الذئاب من كل جانب؟
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير وأشهد أن محمداً عبده ورسوله علم الناس الخير ودعاهم إليه، وبين لهم الشر وحذرهم منه.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وعلى الآل والأصحاب والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون والمسلمات.. لا تقف عناية الإسلام بالمرأة عند هذه الحدود السابقة، بل يأمر الإسلام بإكرام المرأة أماً، وبنتاً، وزوجة وأختاً، وعمة، وخالة، منذ ولادتها وحتى مماتها.(1/221)
فعندما تكون بنتاً ضعيفة لا حول لها ولا طول يأمر أباها وأمها وبحسن رعايتها وتوفير حاجاتها، ويرتب على ذلك من الأجر والمثوبة ما يدفع للخدمة والرعاية دون ضجر أو ملل، ويقول عليه الصلاة والسلام – فيما يقول – "من ولدت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده – يعني الذكر – عليها أدخله الله بها الجنة"(1).
وفي الحديث الآخر: "من كن له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن، أدخله الله الجنة برحمته إياهن، فقال رجل وابنتان يا رسول الله قال: وابنتان قال رجل يا رسول الله وواحدة، قال: وواحدة"(2).
ويبلغ عائل الجاريتين القمة والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول له: "من عال جارتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين" وضم أصابعه"(3).
وحين تشب البنت عن الطوق وتصبح زوجة يوليها الإسلام عنايته، ويعتبر بها والأنس معها أفضل ما في الدنيا: "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة"(4).
وجعل الإسلام الحياة الزوجية ترتكز على دعائم قوية من المودة والرحمة تعجز الأنظمة البشرية أن تبلغه بتشريعاتها فهو آية من آيات الله كما قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الروم:21).
وإذا كان أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، ما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ففي بقية الحديث نفسه قال عليه الصلاة والسلام: "وخياركم خياركم لنسائهم"(5).
__________
(1) رواه الحاكم في مستدركه 4/177 وصححه ووافقه الذهبي.
(2) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 4/176 وقال هذا حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(3) رواه مسلم وغيره (رياض الصالحين ص138).
(4) رواه مسلم 1467، رياض الصالحين ص143.
(5) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان وغيره، رياض الصالحين ص143.(1/222)
فإذا كانت المرأة أماً، فهي المنزلة التي لا تدانيها منزلة، وهي أحق ما في الوجود بحسن الصحبة والرعاية، والإحسان لها وللأب يقرن بحق الله في العبودية "وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً..".
والوصية بهما تنزيل من السماء { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } (الاحقاف: من الآية15).
ويلفت النظر إلى حق الأم لزيادة مشقتها: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا } (الاحقاف: من الآية15).
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يرددها ثلاثاً: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة"(1).
ولقد فقه سلف الأمة وخيراها هذه الحقوق فرعوها حق رعايتها بأقوالهم وأفعالهم فهذا ابن عباس - رضي الله عنه - يقول (2) "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة" وهذا ابن عمر - رضي الله عنه - يشهد رجلاً يمانياً يطوف بالبيت وقد حمل أمه وراء ظهره ويقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: "يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة"(3).
وفي صحيح مسلم قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبل الله، والحج، وبر أمر لأحببت أن أموت وأنا مملوك، قال أحد رواة مسلم: وبلغنا أن أبا هريرة - رضي الله عنه - لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها"(4).
فأي تشريع غير الإسلام يبلغ بالمرأة هذه المنزلة، وأي حقوق يمكن أن يهبها لها البشر فوق ما حباها به رب البشر؟
__________
(1) رواه مسلم (2551) رياض الصالحين ص157.
(2) كما في صحيح الأدب المفرد ص34.
(3) صحيح الأدب المفرد للألباني ص36.
(4) صحيح مسلم 3/1285.(1/223)
ولولا أن يطول الحديث لاستكملت عناية الإسلام بالمرأة أختاً، وعمة وخالة وقريبة أم بعيدة.. وألتفت بعد ذلك إلى صوت نسائي منصف تعد صاحبته في طليعة المتعلمين.. وإن كان كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب القبر أعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت عن مالك.
وتقول الدكتورة بنت الشاطئ (عائشة عبدالرحمن) عن قضية المرأة:
إننا لمن نكن في حاجة إلى فهم هذه القضية ومثلها كما نحن الآن، إذ يعوز المرأة لكي تعرف حقيقة مكانها في عالم اليوم، وتميز دورها فيه – أن تستكمل وعيها لذاتها، وأن تفهم مقومات وجودها، وجوهر شخصيتها ومحال أن يتحقق شيء من ذلك إذا بترنا من ماض لنا بعيد طويل، وجهلنا ما تأصل في أعماقنا من تراث لنا، فكري وروحي ومادي – ظل يتناقل جليلاً بعد جيل وخلفاً بعد سلف متغلغلاً في كياننا، متحكماً في سلوكنا الفردي والجماعي، موجهاً أساليب تناولنا للحياة، وفهمنا لها، وسيرنا فيها..
إلى أن تقول: أجل لقد سمع الله شكوى شاكية منا وغضب سبحانه لواحدة أخرى أفتري عليها ظلماً وبهتاناً، فجعل براءتها آية تتلى وقرآناً يتعبد به من يؤمن بالله واليوم الآخر… إلى أن تقول:
ولو لم يصنع الإسلام غير هذا لكن حسبنا نحن المسلمات، ولو لم يكن لنا من القرآن الكريم سوى هذه الآيات من سورة المجادلة والنور لرضينا بها حظاً ونصيباً.. أي صنيع يمكن للإنسانية الكريمة أن تطمع فيه للأنثى أسمى من صون حصانتها، وحماية سمعتها من أراجيف المبطلين.
وبعد عرضها لنماذج من حقوق النساء في الإسلام عادت لتردد على المغرضين المتشبثين بقضايا زعموا أن فيها إجحافاً بحق المرأة.
وتقول: "أفأحتاج بعد هذا إلى إطالة الوقوف عند الذين زعموه مجحفاً بنا من إباحة تعدد الزوجات، والطلاق، واحتساب نصيب الأنثيين في الميراث كنصيب الذكر الواحد، وشهادة الأثنيين مكان شهادة الرجل؟(1/224)
كلا فحكمة الإسلام في كل مسألة من هذه المسائل تبدو واضحة لا يجحدها إلا جاهل أو مكابر، تعدد الزوجات تقضي به أحياناً ضرورة قاهرة ويضبطه الإسلام بحدود مادية وأدبية – ولا يزال الكلام للكاتبة – والطلاق لا محيد عنه إذا لم تعد الحياة الزوجية مستطاعة ولا محتملة، وهو مع ذلك أبغض الحلال عند الله، وإعطاء الأنثى نصف الذكر من الميراث يقابله إعفاؤها من أعباء النفقة حتى مع ثرائها وفقر زوجها وشهادة الاثنتين بدلاً من شهادة رجل منظور فيها إلى عاطفية المرأة التي هي جوهر أنوثتها (1).
أيتها الأخت المسلمة مع الفارق في الحقوق التي منحها الحكيم الخبير للمرأة، والتخبط المشين لأدعياء حقوق المرأة فإن هناك فارقاً آخر ألمح إليه الدكتور السباعي في كتابه "المرأة بين الفقه والقانون" وقال: كان التشريع الإسلامي نبيل الغاية والهدف حين أعطىالمرأة حقوقها من غير تملق لها أو استغلال لأنوثتها، ففي الحضارتين اليونانية والرومانية، وفي الحضارة الغربية الحديثة، سمح لا بالخروج وغشيان المجتمعات للاستمتاع بأنوثتها، لا اعترافاً بحقوقها وكرامتها بينما حد الإسلام من نطاق اختلاطها بالرجال وغشيانها المجتمعات حين أعطاها حقوقها وبعد أن أعطاها وصانها وأعلن كرامتها راعى في كل ما رغب إليها من عمل وما وجهها إليه من سلوك أن يكون ذلك منسجماً مع فطرتها وطبيعتها وأن لا يرهقها من أمرها عسراً (2).
أما الحضارات المادية القائمة.. أما جهد المرأة وضياعاها.. أما حسرتها وقلقها.. فلعلي أقص عليكم من نبأ ذلك في خطبة لاحقة بإذن الله.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً.. وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. هذا وصلوا.
المرأة في الحضارة المادية المعاصرة (3)
الخطبة الأولى
__________
(1) الأخت المسلمة أساس المجتمع الفاضل: محمود الجوهري ص93-100.
(2) المرأة بين الفقه والقانون ص44.
(3) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/4/1416هـ.(1/225)
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال – وهو أصدق القائلين: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } (طه: من الآية 124-126).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أوصى أبا ذر - رضي الله عنه - أن يتعوذ من شياطين الجن والإنس، فقال أبو ذر: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: "نعم"(1).
اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر المرسلين، وراض اللهم عن الآل الطيبين و الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102)، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71)، { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً } (النساء:131).
__________
(1) الحديث رواه أحمد والنسائي.(1/226)
أيها الإخوة المؤمنون.. أيتها الأخوات المؤمنات، قد آن الأوان للحديث عن وضع المرأة في ظل الحضارة المادية المعاصرة، بعد سبق الحديث عن وضع المرأة وكرامتها وصون حقوقها في الإسلام، وسبق الحديث كذلك عن وضع المرأة وقيمتها في ظل الجاهليات القديمة في شرق الأرض ومغربها ولست أدري من أين أبدأ حديثي عن المرأة في ظل الحضارة المادية المعاصرة أبدأه من صيحات أساتذة الجامعات؟ أم من تحذير الكاتبات الشهيرات؟ أم يكون الحديث دراسة واعية للأرقام المذهلة والإحصاءات ونتائج الدراسات؟
أم يكون جلاء لانتكاسة دور السينما وانتحار أشهر الممثلات أم يكون حديثاً عن بداية الضياع ورصيد خط الانحراف. أم يكون تشخيصاً للأسباب، ورصداً للنتائج، وتوصيفاً للعلاج؟
ولئن لم يف الحديث بهذه أو تلك فمرد ذلك أن الخطبة ليست للإسهاب والتفصيل بقدر ما هي للإشارة والتذكير، وهذا يعني أن وراء القلي المذكور الكثير الذي لم يتسع المقام لذكره.
وخلاصة القول إن المرأة في ظل هذه الحضارة المادية المعاصرة بدأت تشعر بحجم قضيتها، وفداحة وضعها، وخداع الرجال لها.
لقد قيل لها – زوراً وبهتاناً – أنت إنسانة حرة يجب أن تتمتعي بحريتك وتهتمي بجمالك وتختلطي بالرجال في صداقات بريئة حتى لا تتعقدي ولا تكوني فريسة للأمراض النفسية والانهيارات العصيبة فلما مشت في هذا الطريق عشرات السنين اكتشفت أخيراً الفرية الكبرى والفضيحة العظمى من مراكز القيادة، واكتشفت أن حريتها لم تكن إلا لتصبح متعة للرجل ومستقراً لشهوته، إذ هو يخادعها في الخلوات، ويجلس معها في البارات، يراقصها في الحلبات، ويسبح معها على شواطئ الأنهار والبحار.. كل ذلك دون أن يرتبط معها بمسؤولية الحياة الزوجية والسكون العائلي.
لقد اكتشفت المرأة بعد التجارب المريرة أنها غدت وردة ذابلة تدوسها المادة ولا يشعر بمأساتها أحد؟(1/227)
أجل لقد انهارت سعادتها البيتية، وضاعت أمومتها الحانية، وفقدت كيانها وإرادتها وشخصيتها، وغدت حامل الطفل اللقيط تبحث في شرق البلاد وغربها عن مستشفيات الوضع، تمزقها المأساة وتحمل مع آلام الحمل ظلم الرجال على كتفها ويزيد من لوعتها وحسرتها تأوهات الطفل كلما صرخ: ماما أين أبي؟ لماذا ليس لي أب كسائر الأطفال؟(1).
إخوة الإسلام إنها الصورة الحقيقية – باختصار – للمرأة في ظل ظلم وجور هذه الحضارة العصرية المزعومة للمرأة؟ هذا الظلم والجور للمرأة لم يعد سراً، بل أزعج المنظمات والهيئات الدولية فقد بدأت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمام المتحدة تشعر بهذا الانحراف الخطير فنشرت قبل ما يزيد على عشرين عاماً مشروع قانون جديد على الدول الأعضاء لإزالة التمييز ضد النساء بمناسبة عام المرأة العالمي عام خمسة وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد (1975م) ومما جاء فيه أن أي مشروع يوضع لتنظيم قضايا المرأة في العالم ويحدد علاقتها بالرجل يجب أن يراعي الواجب الأساسي للمرأة في الحياة الاجتماعية، وهو الأمومة وتربية الأطفال، وتهيئة الجو المناسب لإنشاء البيت السعيد (2).
مع ما في هذه التوصية من تخفيف لآلام المرأة وتقدير لمنزلتها قد جاء مؤتمر المرأة الأخير في بكين ليقضي على هذا الحلم للمرأة ولذلك حين يتخبط البشر في أنظمتهم يهدم اللاحقون ما استصلحه السابقون، ويخرب العابثون بيوتهم بأيديهم فاعتبروا يا أولي الأبصار؟.
إخوة الإسلام استمعوا إلى حصاد الحرية المزعومة تعلن قاضية سويدية كلفتها الأمم المتحدة بزيارة البلاد الغربية لدراسة مشاكلها والتعرف على أوضاعها الاجتماعية والقانونية..
__________
(1) المرأة في ظل الحضارة الغربية د. محسن عبدالحميد 3،4.
(2) السابق: 5.(1/228)
فتحدثت القاضية السويدية (بريجيت أوف هاهر) عن المأساة التي خلفتها أوضاع الحرية في السويد – أرقى بلاد الحضارة الغربية – وتشير إلى زيادة نسبة الانتحار سنة بعد سنة بين النساء، ثم تقول: "إن المرأة السويدية فجأة اكتشفت أنها اشترت وهماً هائلاً – هو الحرية – بثمن مفزع هو سعادتها الحقيقية، ولهذا فإنها تستقبل العام العالمي لحقوق المرأة (1975) بفتور مهذب، وتحن إلى حياة الاستقرار العائلية المتوازنة جنسياً وعاطفياً ونفسياً، فهي تريد أن تتنازل عن معظم حريتها في سبيل كل سعادتها.
وتذهب القاضية السويدية في تقريرها أبعد من هذا وتقول: "إن النتيجة على مستوى الأمة مذهلة حقاً وتذكر نسباً مخيفة للمرضى النفسيين والمصابين عقلياً، والمصابين بأمراض الشذوذ الجنسي"(1).
أيها المسلمون أيتها المسلمات.. أما ثمار الاختلاط فتتحدث عنه بمرارة الكاتبة الانجليزية الشهيرة "أنا رورد" حين تقول: "ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف رداء، إنه عار على بلاد الإنجليز أن نجعل بناتنا مثلاً للرذائل بكثرة مخالطتهن للرجال فمالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية بما يوافق القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها وحفاظاً على أنوثتها…"(2).
وفي أمريكا تعترف الدكتورة "أيدي ألين" أن سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسبب كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف من دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق.. إلى أن تقول الكاتبة: عن التجارب أثبتت أ، عودة المرأة إلى بيتها هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل من التدهور الذي يسير فيه.
__________
(1) المرأة في ظل الحضارة الغربية 6،7.
(2) المرأة بين البيت والعمل 24.(1/229)
وفي ألمانيا قامت مظاهرة نسائية تدعو إلى تحرر المرأة من العمل وتفريغها للبيت وشؤونه، ونادت النساء الألمانيات في هذه المظاهرة أن ينص عند عقد الزواج على عدم مزاولة المرأة للعمل وأن تكون رسالتها الزوجية والأمومة لا مزاحمة الرجال في المكاتب والمصانع والمرافق الحكومية"(1).
تجتمع هذه النذر وتتلاقى هذه الصيحات لما نتج عن عمل المرأة وخروجها واختلاطها من انتكاسة في القيم والأخلاق، حتى قال العالم الإنجليزي (سامويل سمايلي) في كتابه "الأخلاق" "إن النظام الذي يقضي بأن تشتغل المرأة في المعامل ودور الصناعات مهما نشأ عنه من الثروة، فإن النتيجة هادمة لبناء الحياة المنزلية…"(2).
أيها المسلمون والمسلمات – لماذا لا تعلن الصيحات، ومأساة المرأة في الحضارة المادية المعاصرة لم تقف عند حدود المعمل والمصنع الشارع والشاطئ، بل حاصرت المرأة في دور العلم، ولم تسلم المرأة المتعلمة من حصار الرجل وظلمه حتى والمرأة تحضر أعلى الدرجات العلمية، تقول إحدى الدارسات الحاصلات على درجة الدكتواره في علم النفس إن رئيسها المباشر في الجامعة ابتدأ في معاكستها، وهي لا تستطيع أن ترفض طلبه لأن مستقبلها الدراسي بين يديه، تقول الدارسة: ولولا رضوخي لما كانت هناك امرأة في هذه الدرجة العلمية!!(3).
أفبعد هذا يبقى مكان للقيم والشيم؟ وقد شاعت الفاحشة في دور العلم، وشمل المثقفين، ووقع في شراكه المعلمون والمربون؟
__________
(1) المرأة بين البيت والعمل 25، 26.
(2) بدرية العزاز، المرأة، ماذا بعد السقوط 147.
(3) العزاز – المرجع السابق 143.(1/230)
إن الكارثة لا تنتهي عند هذا الحد، وسوس الفساد ينخر في المجتمع بسبب إفساد المرأة، وقد صدر كتاب "الابتزاز الجنسي" لمؤلفه "لين فارلي" عام 1978م ليفضح استغلال الرجل للمرأة جنسياً وفي الاستفتاء الذي قامت به جامعة "كورنل" بين عدد من العاملات في الخدمة المدنية، جاء من نتائج الاستفتاء أن سبعين في المائة من النساء تعرضن للاعتداء الجنسي عليهن، وأن ستة وخمسين بالمائة منهن اعتدي عليهن اعتداءات جسمانية.. الخ التقرير الخطير (1).
فأي حضارة تلك، وأي قيمة للمرأة في ظلها.. أين وقع المصطلحات الرنانة كالحرية، المساواة، وأين صيانة حقوق المرأة؟!
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة، وأجلها نعمة الإسلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع لنا من الدين أحسنه وأنزل علينا أفضل كتبه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، به تمت رسالات السماء وكان خير المرسلين.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
إخوة الإسلام لضراوة الجاهلية المعاصرة، وظلم المرأة في ظل هذه الحضارة المادية المعاصرة، فقد استيقظت وتستيقظ أحياناً فطر أكثر النساء لهواً وضياعاً.. إنهن الممثلات العاريات، ورائدات دور السينما الفاتنات المفتونات.. تستيقظ أولئك النسوة على ضياعهن واستغلال الرجال لهن وفي فرنسا مثلاً – نشرت جرائد العالم في حينها – قصة الممثلة الفرنسية الداعرة، التي كانت تمثل مشهداً عارياً أمام الكاميرا، وفجأة ثارت ثورة عارمة وصاحت في وجه الممثل والمخرج تقول: أيها الكلاب، أنتم الرجال لا تريدون منا نحن النساء إلا أجسادنا، حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا، ثم انفجرت تبكي..".
وقبلها انتحرت الممثلة الأمريكية "مارلين…" وكتب كلمات تندب فيها حظها وتحذر بنات جنسها من مثل مصيرها (2).
__________
(1) السابق: 142.
(2) المرأة في ظل الحضارة الغربية؛ د. محسن عبدالحميد 10-11.(1/231)
أيها المسلمون والمسلمات أكتفي بهذه الإطلالة السريعة على واقع المرأة في الحضارة المادية المعاصرة لأقف مستنتجاً العبر والدروس الآتية:
أولاً: أن هذا الواقع المشين لم تبلغه المرأة دفعة واحدة، ولم تجر إليه بين عشية أو ضحاها، وإنما كان هذا نتيجة تخطيط ماكر مسبق استخدمت فيه الألفاظ البراقة الخادعة من جهة، وروجت له وسائل الإعلام وقنواتها المختلفة من جهة المرأة، ومع هذا الضجيج والخداع فقد اكتشفت المرأة أخيراً اللعبة ولكن أنى لها الرجوع وقد أدخلت في النفق المظلم ولا تعلم طريق الخروج، فالاختلاط مثلاً عاد عليها بالويل والثبور وعرض أجسادهن لنهش الذئاب وفتك السباع، والحرية المزعومة لم تكن إلا غطاء لخروجها دون حسيب أو رقيب وكان سبباً لتقويض بيت الزوجية الهادئة، ومعولاً لمشاعر الأم الحنونة، وسيفاً مصلتاً على العفة والكرامة والحياء أما المساواة فليس لها من المصطلح إلا رنين العبارة وجمال التسمية، وكيف تتاح المساواة مع الرجل في بيئات تشتد المنافسة في العمل بين جنس الرجال وأنى لهن أ، يتحملن منافسة الجنس الآخر، والعطالة على أشدها، والانهيار الاقتصادي شبح مخيف!(1/232)
ثانياً: هذه الموجة الغازية وهذا الفساد المستشري لم يقف عند حدود البلاد الكافرة ولو كان كذلك لهان الخطب وقيل هذه أمة لا تهتدي بهدي الله ولا تظللها شريعة السماء، والمرأة هناك لا تستند على حقوق معتبرة كتلك التي ضمنتها الشريعة الإسلامية للمرأة المسلمة.. ولكن المصيبة أن يصل الخداع إلى المرأة المسلمة، فتنزع حجابها، وتختلط بالرجال، وتطالب بالحرية والمساواة وتحشر نفسها في النفق المظلم الذي دخلته المرأة الكافرة وهي الآن تصرخ باحثة عن المخرج، إنه عار على المرأة المسلمة أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وإذا كان للمرأة الكافرة ما يفسر مطالبتها دون تبرير، فأي تفسير لانتهاك القيم ونزع الحياء والجلباب من المرأة المسلمة.. إن المرأة المسلمة أهل للقيادة والريادة فكيف ترضى أن تقاد، وكيف يسهل عليها أن تكون في مؤخرة القافلة، بدل أن تتصدرها؟
ثالثاً: ينبغي أن يعلم أن خط الانحراف في إفساد المرأة عموماً والمرأة المسلمة خصوصاً لا يأتي جملة واحدة. ولا يعلن المنفذون عن أهدافهم الحقيقية ببساطة، فالتدرج أسولب متبع والتذرع بالنصح للمرأة والمدافعة عن حقوقها بات وسيلة مكشوفة للمرأة قبل الرجل، فالحجاب مثلاً لا ينزع في البداية جملة، وإنما يكتفى بكشف الوجه ثم يتدرج إلى كشف شيء من الشعر ثم الذراعين، ثم الصدر وهكذا حتى يصل المخطط نهايته، والاختلاط لا ينبغي أن يصدم به المجتمع في الجامعات أو حتى في الثانويات والمتوسطات، على حد تعبير هؤلاء وإنما يطرح الاختلاط في الصفوف الأولى الابتدائية لتستمرأه النفوس وتخف النفرة من كلمة الاختلاط، فينتقل المخطط بعد حين إلى مرحلة أخرى وهكذا حتى يبلغ المخطط نهايته.(1/233)
ومنافسة المرأة للرجل في الوظيفة ومشاركته في العمل تبدأ بافتتاح مجالات واسعة لتعليم الفتاة في غير مجالها الذي يناسبها، ثم بعد ذلك حثها وحث وليها على المطالبة بتوظيفها، فتوفر وظائف كثيرة للنساء، حتى إذا امتلأت الأماكن الخاصة بالنساء، وبقيت طوابيراً أخرى من النساء كانت الخطوة الجريئة بعد ذلك، بتوظيف المرأة بوظائف خاصة بالرجال والرجل أحوج ما يكون إليها، وربما كانت مع الرجل في مكتب واحد أو بينهما حجاب خفيف في البداية سرعان ما يخترق وتزال الحجب.. فتنبهوا معاشر المسلمين والمسلمات للخطر واستفيدوا من حصاد تجربة الآخرين والسعيد من وعظ بغيره.
رابعاً: أيتها المرأة المسلمة حذار أن يخدعك المنافقون، أو يؤثر فيك أصوات المأفونين، ولن تجدي أصدق من كتاب الله خطاباً إليك، ولا أرحم من شريعة الله بك، وليسعك ما وسع الأمهات الطيبات الطاهرات، ونساء المؤمنين الخيرات { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما } (الأحزاب:59).
ولقد قيل لمن هو خير منك وأزكى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (الأحزاب: من الآية 32-33).(1/234)
أما الناعقون بحريتك والمنادون بمساواتك، والحريصون على اختلاطك، ما أجد من أصد العبارات التي قيلت بشأنهم "المرأة وذئاب تخنق ولا تأكل" وهو عنوان كتاب صدر لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري – عفا الله عنا وعنه – يقول في تحليل العنوان: الخنق رمز جوع جنس باعثه التداوي من الإثم بالإثم، وإيحاش القلب بالسلوك الرديء، وجبن وتقاعس عن الالتزام بمسؤوليات الزواج"(1).
إنني أحمل المرأة مسؤولية الدفاع عن نفسها، والاعتراف بدينها، واكتشاف النصحة من المتاجرين بقضيتها.. وأدعوها لمزيد من العلم بشريعة ربها، والوعي بإسلامها.. والتنبه لمخططات الأعداء لها.. ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
خامساً: وفي سبيل وقاية نسائنا عمل وصلت إليه المرأة الغربية من تعاسة وانتكاسة، أذكر بمسؤولية الجميع في الحفاظ على حياء وعفة المرأة المسلمة، وعدم اختلاطها، أو الاستجابة لنزع جلبابها تحت أي شعار، وبأي أسلوب خادع طرح، لا بد من التنبه لمخاطر الطروحات المغلفة بغلاف المصلحة المزعومة، والحاجة القائمة.. ونحوها.
ومصيبة أن يفاجأ الخيرون والخيرات بالستار يزاح عن مصيدة للمرأة حبكت فصولها في الخفاء، تلك مسؤولية العلماء والدعاة، ورجال الفكر، وأولي الأمر كافة.
عبودية السراء (الشكر) (2)
الخطبة الأولى
__________
(1) ص9 ط1411هـ.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/6/1418هـ.(1/235)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } (فاطر: من الآية 1-3).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعمه لا تقدر ولا تحصى، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، يرضى لعباده الشكر ويكره منهم الكفر، وهو الغني الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان عبداً شكوراً، وقام حتى تفطرت قدماه وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اتقوا الله عباد الله وبذلك أوصاكم كما أوصى الذين من قبلكم { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه } (النساء: من الآية131).
إخوة الإسلام حديث اليوم عن عبادة قلبية وهي من مقامات القلوب وإن شملت الجوارح.. وهي يسيرة على من يسرها الله عليه، ولكنها في الخلق قليل، تمثلها الأنبياء عليهم السلام وانتفع بها السالكون لنهجهم، وأهلك الله بإنكارها أمماً، وقصم جبارين ما رعوها حق رعايتها، إنها عبودية السراء، قرنها الله بذكره فقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } (البقرة:152).(1/236)
أيها المسلمون ما أعظم الخطب حين يقول الله عن الشكر: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (سبأ: من الآية13) وحين يقول: { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } (السجدة: من الآية9). ويتعاظم الأمر حين تسمع آثار الشكر وعاقبة كفر النعم { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } (ابراهيم: من الآية7).
ترى من هم الفئة القليلة الشاكرة، وما معنى الشكر وحقيقته، وما هي آثار الشكر، وعواقب الجحود، وهل من صور ونماذج للشكر والشاكرين، وأخرى للجاحدين والمتكبرين.. وأمور أخرى سآتي على ذكرها في باب الشكر.. تذكيراً بأنعم الله علينا، ودعوة للشكر لما أولانا، واستنقاذاً لأنفسنا من هلكة الجحود والبطر وإن لم نقلها بألسنتنا لكن واقع حالنا يشهد بها علينا.
إخوة الإيمان ولعظيم قدر الشكر قرنه الله بالإيمان وجعله سبباً مانعاً من عذابه فقال: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } (النساء: من الآية147).
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "الشكر نصف الإيمان" (1).
وقال الشعبي: الشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله"(2).
وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه وأمره، بل هو الغاية التي خلق عبيده لأجلها { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (النحل:78).
__________
(1) الإحياء للغالي 2203.
(2) ابن القيم: عدة الصابرين 195.(1/237)
وإذا كان الشكر غاية الخلق، فهو غاية إرسال رسوله { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } (البقرة: من الآية 151-152). كيف لا وقد أثنى الله على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال عن نوح عليه السلام { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } (الاسراء:3).
قال ابن القيم: وفي تخصيص نوح ها هنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به، فإنه أبوهم الثاني، فإن الله لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلاً إلا من ذريته كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } (الصافات:77)، فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر فإنه كان عبداً شكورا (1).
عباد الله كم من آية في كتاب الله عن الشكر نمر عليها ونحن غافلون، فهل عقلنا إنما يعبد الله من شكره { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } (البقرة: من الآية172). وهل علمنا أن أول وصية وصى الله بها الإنسان بعدما عقل عنه بالشكر له وللوالدين { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (لقمان:14).
ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في الخلق فقال: { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (لأعراف:17).
وقطع الله بالمزيد مع الشكر ولم يستثن { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } (ابراهيم: من الآية7).
__________
(1) عدة الصابرين 189.(1/238)
والشكر خلق من أخلاق الربوبية { وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيم } (التغابن: من الآية17)، وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } (الزمر: من الآية74)، وقال { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (يونس: من الآية10).
أيها المسلم والمسلمة تأمل معنى الشكر في اللغة، وهو: الظهور، من قولهم: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف.
ومن معانيه عند العلماء؛ الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، وقيل: هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم، وقيل: الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال (1).
ولا بد للشكر من أركان ثلاثة، ولا يكون العبد شكوراً إلا بمجموعها: أحدها اعترافه بنعمة الله عليه، والثاني الثناء على الله بها، والثالث: الاستعانة بها على مرضاته (2).
والشكر يتعلق بثلاثة أشياء، بالقلب للمعرفة والمحبة وباللسان للثناء والحمد، وبالجوارح لاستعماله في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه، على حد قول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وهذا يصحح الفهم عند بعض الناس حين يظنون أن الشكر مجرد حديث اللسان، فهذا مع أهميته فلا بد من صدق القلب ومحبته لمن يشكره وخوفه من عقابه والجوارج تصدق هذا أو تكذبه.
__________
(1) تفسير القرطبي 1/398.
(2) ابن القيم: عدة الصابرين 234.(1/239)
يروى أن وفداً قدم على عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله، فقام شاب ليتكلم، فقال عمر: الكبر الكبر، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسنمنك، فقال تكلم، فقال: لسنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة، أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك، وإنما نحن وفد الشكر، جئنا نشكرك باللسان وننصرف، قال الغزالي: فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته (1).
نعم إخوة الإيمان إن مجرد الثناء باللسان شكر، وهو وإن كان وحده لا يكفي، والفرق كبير بينه وبين التشكي والتضجر وإظهار الحزن دائماً، فهذا ازدراء لنعم الله ولذا كان من هدي السلف أنهم كانوا يتساءلون كلما التقوا – ولو كان العهد قريباً – وذلك لإظهار نعمة الشكر، قال ابن عمر - رضي الله عنه - : "لعلنا نلتقي في اليوم مراراً يسأل بعضنا عن بعض، ولم يرد بذلك إلا ليحمد الله عز وجل"(2).
وهذه لطيفة حمال فاعقلوها، رأى بكر بن عبدالله المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله، أستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ قال (الحمال) بلى، أحسن خيراً كثيراً اقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب فأحمد الله على نعمه السابغة وأستغفره لذنوبي، فقلت: الحمال أفقه من بكر (3).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } (النحل: من الآية 120-122).
الخطبة الثانية
__________
(1) الإحياء 2208، 2209.
(2) عدة الصابرين 206.
(3) عدة الصابرين 196.(1/240)
الحمد لله رب العالمين يستحق الحمد والثناء، اللهم لك الحمد بما خلقتنا ورزقتنا، وهديتنا وأنقذتنا وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت.
وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أيها المؤمنون والشاكرون أطيب الناس قلباً، وأهنأهم عيشاً، وأوصلهم لما أمر الله به أ، يوصل الشاكرون يقنعون باليسير، ويستجلبون بالشكر المزيد، يعلم الشاكرون أنهم وإن حرموا شيئاً فقد أعطوا أشياء، وإن اشتكوا مرضاً في جانب من جسدهم فقد أصح لهم جوانب كثيرة أخرى.
والشاكرون لا يشكون المصائب وينسون النعم، بل ينسون مصائبهم في مقابل ما وهبهم الله من نعم، ولسان حالهم يقول:
يا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم
إلى متى وأنت وحتى متى تشكو المصيبات وتنسى النعم (1)
ويدرك الشاكرون أن الشكر سبيل لرضى من يستحق الرضى والشكر، ثبت في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها"(2).
وهو طريق للمزيد من النعم، كذا جاء الخبر مؤكداً في كتاب الله { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } (ابراهيم: من الآية7) قال الحسن البصري: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء، فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً".
ولهذا كانوا يسمون الشكر بـ(الحافظ) لأنه يحفظ النعم الموجودة، (والجالب) لأنه يجلب النعم المفقودة.
__________
(1) عدة الصابرين 195.
(2) 4/89).(1/241)
يا أخا الإيمان، الشكر وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن أ؛ب، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "والله إني أحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"(1).
والشكر سبب للثبات على الإيمان وعدم الانقلاب على الأعقاب حين تزلزل الأقدام، وتأمل موقف الشاكرين حين ارتد من ارتد من العرب يوم توفي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } (آل عمران:144).
إخوة الإسلام إن منزلة الشكر عظيمة، ويكفي أن صاحبها يبلغ مبلغ الصائم الصابر، قال عليه الصلاة والسلام: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر"(2).
ونقيض الشكر من الجحود وتناسي فضل المنعم يورد صاحبه موارد الهلكة، ولهذا السبب كانت النساء أكثر أهل النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط"(3).
فإذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج، وهي في الحقيقة من الله، فكيف بمن ترك شكر نعمة الله؟
يا ابن آدم كم لله عليك من نعمة تدرك شيئاً وتغيب عنك أشياء، فبأي شيء تراك قابلت هذه النعم؟
تنسك رجل فقال: لا آكل الخبيص، لا أقوم بشكره فقال الحسن: هذا أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟(4).
__________
(1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم.
(2) أخرجه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح (صحيح سنن الترمذي 2/304).
(3) متفق عليه.
(4) عدة الصابرين 197-198.(1/242)
وجاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله فقال له يونس: "أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، قال فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا.. قال: فذكره نعم الله عليه ثم قال له يونس؟ أرى عندك مئين الألوف، وأنت تشكو الحاجة؟!(1).
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه".
عباد الله وما بالنا ونعم الله تترى علينا نضيق بنازلة يسيره، ونغتاط لمرض يسير ألم بنا، ونكره لفوات محبوب من ملاذ الدنيا فات علينا – ولئن حرمنا القليل فقد أعطينا الكثير، ولئن ألم بنا مرض يسير فقد متعنا الله بالصحة عمراً طويلاً.
أين الشكر على نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "من أصبح آمناً في سربه معافاً في بدنه، عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
أين الشكر على نعمة الجوارح وسلامته؟ وأين الشكر على نعمة الأمن والرخاء، وأين الشكر على نعمة العقل والإرادة وأين الشكر على نعمة الأموال والأزواج والبنين. وقبل ذلك وأين الشكر على نعمة الإسلام والإيمان.. إنها وغيرها نعم تستحق الشكر باللسان والقلب والجوارح.
وقفات من معركة القادسية (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة له ولرسوله وللمؤمنين، وجعل الذل والصغار على الكافرين والمنافقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يديل على المؤمنين فترة ثم ينصرهم، ويمكن للظالمين حيناً ثم يأخذهم وربك يحكم ما يشاء ويختار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله استخرج الله به الأمة من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله المؤمنين وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) عدة الصابرين 207.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/6/1416هـ.(1/243)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
أما بعد إخوة الإيمان فيطيب لي أن أنتقل وإياكم نقلتين بعيدتي الزمان والمكان، إحداهما أبعد من الأخرى – أما الزمان فإلى ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة – وبالتحديد ما بين أربعة عشر وستة عشر للهجرة، أما المكان فيتردد ما بين طابة الطيبة، وتخوم العراق حيث وقعت معركة القادسية.(1/244)
لقد بلغ الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هزيمة المسلمين في وقعة الجسر التي قتل فيها خلق من المسلمين وفي مقدمتهم قائدهم أبو عبيد رحمهم الله جميعاً ورض عنهم، ما بلغ الخليفة – أيضاً – انتظام شمل الفرس تحت قيادة يزدجرد، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، وإيذاء المؤمنين وإخراج العمال من بين أظهرهم.. وبلغت الغضبة العمرية لله مداها، وقرر الخروج بنفسه غازياً للفرس في العراق، ولو كان يدير أمور الأمة كلها ومع أنه ركب ونزل على ماء يقال له صرار، واستصحب معه عثمان وسادات الصحابة، واستخلف علياً على المدينة.. إلا أن بعض المسلمين أشار عليه أن يبعث غيره وأن يعود هو إلى المدينة، وفي هذا يقول عبدالرحمن بن عوف: إني أخشى إن كسرت أن يضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض.. فيرعوي عمر للمصلحة الكبرى ويقتنع المسلمون بمشورة ابن عوف - رضي الله عنه - أجمعين، وينتدب لهذه المهمة العظيمة الأسد في براثنه كما قال المشير ابن عوف: سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مع سابقة سعد وشريف نسبه، وصدق جهاده وبلائه، فقد أوصاه عمر وذكره الله قائلاً: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، والله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الأمر"(1).
__________
(1) البداية والنهاية 7/39.(1/245)
ألا ما أعظمه من تجرد.. وأصدقها من نصيحة، وأصعبها من مهمة يستجيب سعد للمهمة وهو يرى أنه سهم من سهام الإسلام مستعد لأن يرمى به في أي نحر من نحور الأعداء، ويقود المعركة العظيمة وإن بقي متكئاً على صدره فوق وسادة لا يستطيع الركوب ولا الجلوس، فقد أصيب بمرق عرق النساء، وأصاب جسده دمامل في فخذيه وإليته.
عباد الله إذا صدق القادة والأمراء انسحب ذلك على الجند وإن كانوا من أولي الأعذار والضعفاء، أوليس الأعمى من أولي الضرر الذين استثناهم الله في قوله: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه } (النساء: من الآية95). مع ذلك أثبتت القادسية بطولات لرجال كانوا من أولي الضرر قل أن يجود الزمان بمثلها.
قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - رأيت يوم القادسية عبدالله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي"(1). وهو الذي كان يقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين"(2).
يقال إنه استشهد يوم القادسية (3) رضي الله عنه وأرضاه.
أمة الإسلام إذا قام أهل الأعذار بما أعفاهم الله من القيام به، أفيليق بالأسوياء الأقوياء أن يفرطوا بما أوجب الله عليهم من تكاليف هذا الدين؟
ألا إنها الهمم العالية لا ترضى بأصحابها دون أعالي الجنان وسيطرة الهوى والشهوة يوردان المرء موارد الردى.
__________
(1) تفسير القرطبي 4/266.
(2) سير أعلام النبلاء 1/364.
(3) السابق 1/365.(1/246)
أيها المسلمون وثمة مواقف وعبر تلفت نظر المتأمل في هذه الوقعة العظيمة، وما أولانا بالاستفادة منها فهل من مذكر؟ وتحمل لنا الروايات التاريخية أنه كان عند سعد في قصره رجل مسجون على الشراب، كان قد حد فيه مرات متعددة.. فأمر به سعد فقيد وأودع في القصر، فلما رأى الخيول تجول حول حمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال قال:
كفىحزناً أن تدحم الخيل بالفتى وأترك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة وقد تركوني مفرداً لا أخاليا
ثم سأل من "زبراء" أم ولد سعد أن تطلقه، وتعيره فرس سعد، وحلف لها أن يرجع آخر النهار، فيضع رجله في القيد، فأطلقته، وركب فرس سعد وخرج فقاتل قتالاً شديداً، وجعل سعد ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويشبه الفارس بأبي محجن، ولكن يشك لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع (الفارس الموثق) من رحلة الجهاد فوضع رجله في قيدها – وفاء بالعهد ونزل سعد فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا؟ فكذروا له قصة أبي محجن، فرضي عنه وأطلقه - رضي الله عنه - "(1).
__________
(1) البداية والنهاية 7/49،50.(1/247)
أيها المؤمنون.. وليست الخطيئة ضربة لازب لا يستطيع المخطئ الفكاك عنها، وليس المخطئون عناصر فاسدة في المجتمع لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولا تقال عثراتهم كلا، وليس يكتب على المرء – في ظل شريعة الإسلام – الشقاوة أبد الدهر إن هو قصر يوماً أو استنزله الشيطان وحثه فعمل محظوراً، فالخطيئة تداوى بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها، ومن مراغمة الشيطان عدم الاستسلام لنزغاته حين مقارفة الذنب، أو توهينه وتيئيسه بعد الوقوع في الذنب، فالله كريم يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومن تمام عقل الإنسان وتوفيق الله له أن يزداد في الحسنات كلما أحس من نفسه ضعفاً وارتكاباً للخطيئات، والله تعالى يقول: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (هود: من الآية114)، بل ربما تحولت السيئة إلى حسنة بفضل الندم على فعلها وكثرة الاستغفار منها، ومحاولة التعويض عنها، وعكس ذلك الحسنة التي يعجب بها صاحبها ويمن بها على الله وربما كانت سبباً لغروره وقعوده عن عمل الصالحات، ودونكم هذه المقولة لأحد السلف يقول سعيد بن جبير يرحمه الله: "إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصيب عينيه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينيه فيستغفر الله ويتوب إليه منها.."أ.هـ(1).
__________
(1) الفتاوى 10/45.(1/248)
ألا فلا تقعدن بكم الخطايا – معاشر المسلمين – عن عمل الصالحات ولا يصدنكم الشيطان معاشر المخطئين عن المساهمة مع المسلمين في الدفاع عن حياض الدين ومجاهدة المشركين والمنافقين، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وربما ارتفع سهم الغيرة لدين الله ومحارمه عند شخص يرى أنه مسرف على نفسه بالمعاصي، فكانت تلك الغيرة سبباً لانعتاقه من أسر الخطيئة أولاً، وطريقاً إلى سلوكه صراط الله المستقيم وثباته على شرعه القويم، ومجاهدتهم في سبيل الله بما يستطيع ثانياً، وفضل الله يؤتيه من يشاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } (العنكبوت:69).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
أيها المسلمون، ومن وقفات معركة القادسية حديث عن الأتقياء الأخفياء أولئك الذين وضعوا نصب أعينهم الآخرة ونعيمها فعملوا ما في وسعهم لها، واستشعروا محبة الله فعملوا بطاعته والبحث عن رضاه، لم تقعد بهم جراحات المعركة عن حزبهم من قيام الليل وتلاوة كتاب الله، ولم ينقص من جهادهم أن الخليفة لايعرفهم بأعيانهم أولئك أقوام يستشعرون رقابة الله فتكفيهم عن رقابة سواه، ويدركون دورهم في الحياة ومسؤوليتهم الفردية أمام الله فيدفعهم ذلك إلى أن يكونوا آساداً بالنهار، رهباناً بالليل.. يصفهم سعد - رضي الله عنه - في رسالته التي بعث بها إلى الخليفة عمر يخبره بالفتح ثم يقول:(1/249)
وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ، وفلان، وفلان ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم"(1).
أيها المسلمون بهذه النوعية من الجند انتصر المسلمون وبهذه العناصر الجادة في الجهاد والعبادة فتحت البلاد والقلوب، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وامتد رواق الإسلام شرقاً وغرباً، تلك من إيحاءات وقعة القادسية التي لم يكن عدد جيش المسلمين فيها مقارباً لجيش الفرس، فقد نقل أن جيش المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن جيش الفرس كانوا أربعين أو ستين ألفاً، وقيل كانوا ثمانين ألفاً، وقيل كانوا في مائة ألف وعشرين ألفاً"(2). وأيا ما كان العدد والفرق كبير بين الجيشين عدداً وعدة، ومع ذلك كتب الله النصر للمسلمين، وكانت بداية الأفول لإمبراطوية الفرس الكبرى. وذلك يدعونا إلى الحديث عن الغثائية في مجتمع المسلمين في الأزمنة المتأخرة، زمان التردي والضعف والانحسار حين يكثر عددهم ويقل صدقهم، وتتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم، فيسومهم العدو سوء العذاب، ويستولي على بلادهم، ويهيمن على مقدراتهم أين نحن من أهل القادسية، أين رجالاتنا من رجالاتهم، وأن نساؤنا وصبياننا من نسائهم وصبيانهم، وتلك هو الوقفة الأخيرة التي تتعلق بالمرأة وحشمتها وعفافها، مع مساهمتا في الجهاد ونكاية الأعداء، ودونكم هذه الرواية فتأملوها وحري بنسائنا وبناتنا وأخواتنا أن يفقهنها، ويسرن على منوالها.
__________
(1) البداية والنهاية 7/51.
(2) سير أعلام النبلاء 1/365، البداية والنهاية 7/42، 48.(1/250)
عن أم كثير امرأة همام بن الحارث النخعي قالت: "شهدنا القادسية مع سعد مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنوليهم ذلك – تعنى استلابهم – لئلا يكشفن عن عورات الرجال"(1).
وهكذا تشكل المرأة المسلمة لبنة مهمة في كيان المجتمع المسلم، ويشارك الرجال همتهم في الجهاد ونكاية الأعداء، دون أن تتجاوز أنوثتها أو تتنازل عن شيء من حشمتها وعفافها، فهي لم تشترك إلا حين فرغ الناس من القتال وانحازت الصفوف وبقي من يحتاج إلى المساعدة من المسلمين فيسقى، ومن به رمق من المشركين ولا يستطع الحراك فينهى.
وقبل الإقدام على هذه الخطوة تشد الثياب فلا يبين منها عورة، ولا يطمع الذي في قلبه مرض بنظرة أو شهوة وتترفع الحرائر العفيفات عن كشف عورات الرجال، وتترك للصبيان مهمة الاستلاب وأخذ ما مع الأعداء من عدة أو سلاح.
ألا ما أروع الصورة، وأنظف المسؤولية، ودقة الأداء مع كمال الحشمة والحياء..
__________
(1) البداية والنهاية 7/51.(1/251)
أين هذا من نساء يلهثن وراء الدعوة للاختلاط، ورجال يرون الحشمة والحجاب مظهراً من مظاهر التخلف وعهود الظلام؟ الفرق كبير بين نساء يساهمن في نشر الإسلام والتمكين لحضارة المسلمين والقضاء على الظلم والجهل والاستعباد وبين نساء أو رجال يتمنطقون بالعلمنة والتغريب ويريدون لأمتهم أن تكون ذيلاً في ركب الأمم التائهة في بيداء الظلام ويريدون لنسائهم أن يكن رقماً ملحقاً بالغانيات الراقصات المائلات المميلات، وعلى الأقل يكن من النساء المترجلات فلا حشمة ولا حياء ولا عزلة عن الرجال الأجانب يدفع الفتن والشرور ولا قرار في البيوت يتيح للمرأة إيجاد المحاضن المسلمة، إنها لسعار المحموم والتقليد الأبله وإفساد المرأة باسم المطالبة بحقوقها، وإذابة القيم باسم التقدم والحرية وليس يخفى فحيح الأفاعي على أولي الأحلام والنهى، ومن فضل الله علنيا أن نساء هذه البلاد تربت وستظل بإذن الله على الحشمة والحياء رافضة موجات التقليد، ودعوات الاختلاط والسفور والناس بعمومهم يدركون الفرق بين المفسدين والمصلحين، وإن قال المفسدون إنما نحن مصلحون.
إخوة الإيمان أخت الحديث عن هذه الوقفات باهتمام الخليفة عمر بأمور الإسلام والمسلمين في نهاية المعركة كما كان مهتماً في بدايتها.. رحمك الله يا عمر وأنت تخرج من المدينة إلى ناحية العراق تستنشق الخبر، وفي ذات يوم أبصر راكباً يلوح من بعد، فاستقبله عمر واستخبره فأخبره أن الله فتح على المسلمين بالقادسية وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجل يحدث عمر وهو لا يعرفه، وعمر ماش تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة فعرف الرجل عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا علمتني أنك الخليفة؟ فقال عمر: لا عليك يا أخي"(1).
__________
(1) البداية والنهاية 7/49.(1/252)
هكذا إخوة الإيمان تبدو صورة المجتمع المسلم في القادسية نموذجاً للصدق والإخلاص والجهاد والتفاني والتواضع والحشمة والحياء، بأمرائه ومأموريه، بقادته وجنده، برجاله ونسائه وصبيانه.. وإذا أراد المسلمون العزة اليوم فلا بد أن يتخذوا من تاريخ المجاهدين الصادقين نموذجاً يحتذى به وسلماً للوصول.. اللهم أصلح أحوال المسلمين واجمع كلمتهم على الحق والدين..
بين التطير والتفاؤل (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله ورضي عن صحابته وأتباعهم إلى يوم الدين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
أما بعد فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه في السر والعلن، وبتقوى الله تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس شؤون دينهم ودنياهم.
ألا وإن صلاح المعتقد سبب للصلاح والطمأنينة في الدنيا والفوز بالنعيم والسعادة في الآخرة.
وحين يكون الخلل في العقيدة يبتدع الناس عوائد ما أنزل الله بها من سلطان، ويتلبسون بسلوكيات تنغص عليهم حياتهم وتجعلهم نهباً لإيحاءات شياطين الجن والإنس.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 29/5/1417هـ.(1/253)
لقد جاءنا الله بهذا الدين لتمتلئ قلوبنا بتعظيم الله، والتوكل عليه ولتقر أعيننا بتطبيق شرائع الإسلام وأخلاقه العالية، في وقت كانت ولا زالت الجاهليات نهباً للأهواء، قلقاً حائراً تطارده الهموم، ويسيطر عليه التشاؤم، وربما بلغ به القلق مبلغه، والتشاؤم نهايته فأنهى حياته بنفسه، ظن ليستريح والحق أنها بداية للشقوة الأبدية.
لقد كان العرب قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظلام وشقوة ليست الطيرة إلا واحدة من سلوكياتها الخاطئة.
والطيرة هي التشاؤم واشتقاقها من الطير، إذا كانوا يتطيرون منن الغراب والأخيل ونحوهما، وكان الواحد منهم إذا خرج لأمر ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وكانوا يسمون الطائر ذات اليمين بالسانح ويستبشرون به ويستدلون به على نجاح سفرهم وقضاء حوائجهم، كما يسمون الذي يأخذ بالشمال (البارح) فيتشاءمون به، وقد يرجعون عن السفر بسببه، أو يتوقفهون عن عمل بدؤوه (1).
وإذا كانت الجاهليات قديماً وحديثاً تلتقي في كثير من صور الانحراف فإن التطير وجد عند الأمم السابقة ما قص الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من أخبارهم في القرآن، منكراً لها ومشنعاً على معتقداتها وإذا كان التطير كله مرفوضاً.. فإنه يتعاظم حين يكون الأمير خيراً واقعاً.. أو يكون المتطير منه نبياً مرسلاً.
__________
(1) عالم السحر والشعوذة، الأشقر 298.(1/254)
أجل لقد تطير فرعون وقومه المجرمون بموسى ومن معه من المؤمنين { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } (لأعراف:131). كما تطير أهل القرية برسلهم الناصحين وهددوهم بالرجم والعذاب الأليم { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } (يّس:18).
وتطيرت ثمود بنبيها صالح عليه السلام وقد طلب إليهم ألا تستعجلوا للسيئة قبل الحسنة، وأوصاهم بالاستغفار لعلهم يرحمون: { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } (النمل:47).
عباد الله لم لا يكون التطير حراماً وهو يصور لصاحبه الخير شراً والحق باطلاً، وربما دفع بصاحبه إلى فعل المكروه أو الإحجام عن فعل المحبوب، وهو أولاً وآخراً لا ينجي من المقدور، وليس بمقدور صاحبه أن يكتشف الغيب المستور ولذا رفضه بعض عقلاء الجاهلية وقال شاعرهم:
الزجر والطير والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال
وقال الرقشي:
ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيامن والأيامن كالأشائم
وكذلك لا خير ولا شر على حد بدائم
لا يمنعنك من بغاء الخير تعقاد التمائم (1)
أما المسلم فيمنعه من التشاؤم عدة أمور رضاه بقضاء الله وقدره وثقته بأن ما يقدره الله له فيه خير فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.
__________
(1) الطيرة والفأل في الكتاب والسنة؛ محمود الجاسم ص13، 15.(1/255)
واعتقاده الجازم بأن المستقبل غيب لا يعلمه إلا علام الغيوب { قل لا يعمل من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } ، ومعرفته بأن الطيرة والتشاؤم نوع من السحر، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "العيافة والطرق والطيرة من الجبت"(1).
والجبت هو السحر عند جمع من أهل العلم، ووجه كون العيافة والطرق والطيرة سحراً، لما فيها من دعوة علم الغيب، ومنازعة الله تعالى في ربوبيته.. إضافة إلى أن بعضهم يعتقد أن تلك الأشياء تنفع أو تضر بغير إذن الله تعالى (2).
ومن أعظم ما يدعو المسلم للبعد عن التشاؤم والتطير خوفه من الشرك إذ هي باب من أبوابه وطريق موصل إليه، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: "الطيرة شرك، الطيرة شرك" الحديث (3).
وورد في حديث آخر: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" قالوا فما كفارة ذلك قال: "أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك"(4).
يقول ابن القيم رحمه الله: فالطيرة باب من الشرك وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها، وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا ألقى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره..
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود، وحسن النووي وابن تيمية إسناده (رياض الصالحين ح1672، الفتاوى 35/192، وانظر: نواقض الإيمان؛ العبد اللطيف 522).
رواه البخاري عن عمر - رضي الله عنه - معلقاً ووصله ابن جرير، وقال ابن حجر وإسناده قوي (الفتح 8/252، النواقض 523).
(2) نواقض الإيمان القولية والفعلية، العبد اللطيف 523.
(3) رواه أبو داود والترمذي وصححه، ورواه غيرهم (تيسير عبد العزيز الحميد 383).
(4) تيسير العزيز الحميد 385، وصحح إسناده الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/295.(1/256)
أيها المسلمون يدعو المسلم كذلك للبعد عن التطير والتشاؤم قطع وساوس الشيطان، وبعده عما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه وتأمل هذا الوصف الرائع من عالم فقيه، لحال المتطير المتشائم يقول ابن القيم رحمه الله: "واعلم أن من كان معتنياً بها- يعني الطيرة – قائلاً بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه.. إلى أن يقول: وحال من تطير وتشاءم كحال من غلبته الوساوس في الطهارة فلا يلتفت إلى علم ولا إلى ناصح، وهذه حال من تقطعت به أسباب التوكل وتقلص عنه لباسه، بل تعدى منه، ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع، والمصائب به أعلق، والمحن له ألزم، ثم ينتهي إلى توصيفه بقوله والمتطير متعب القلب، منكر الصدر، كاسف البال، سيء الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه، أشد الناس خوفاً، وأنكدهم عيشاً وأضيق الناس صدراً وأحزنهم قلباً، كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظ، ومنعها من رزق، وقطع عليها من فائدة"(1).
__________
(1) مفتاح دار السعادة 2/230، 231.(1/257)
أيها المسلم ربما ندم المتطير مما تطير منه، واعتذر استحياء ممن تطير به، ومن طريف ما يروى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهماته، فاستقبله رجل أعور، فتطير به وأمر به إلى الحبس، فلما رجع من مهمته ولم يلق شراً أمر بإطلاقه، فقال له (المحبوس) سألتك بالله ما كان جرمي الذي حبستني لأجله؟ فقال له الوالي: لم يكن لك عندنا جرم، ولكن تطيرت بك لما رأيتك، فقال: ما أصبت في يومك برؤيتي؟ فقال الوالي: لم ألق إلا خيراً، فقال الرجل، أيها الأمير: أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي الشر والحبس، وأنت رأيتني فلقيت في يومك الخير والسرور فمن أشأمنا، والطيرة بمن كانت؟ فاستحيا منه الوالي ووصله (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (الحديد: من الآية 22-23).
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه – اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء.
أيها المؤمنون ربما تساءل البعض وبماذا يقع التطير وما أكثر ما يتطير منه قديماً وحديثاً؟ ولئن كانت الطيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، فمما يقع من التطير:
الطيور كالغراب والأخبل، والبومة بشمل أخص، وهي التي جاء ذكرها في الحديث باسم (الهامة) قال عليه الصلاة والسلام: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر"(2).
__________
(1) مفتاح دار السعادة 2/231.
(2) متفق عليه.(1/258)
قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إلي نفسي أو أحداً من أهل داري، ومعنى الحديث السابق لا شؤم بالبومة ونحوها (1).
الشهور: وخاصة صفر.. إذ كان أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ويقولون إنه شهر مشؤوم، وربما امتنعوا عن النكاح فيه، قال ابن رجب: وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينتهي عن السفر فيه، والتشاؤم فيه هو من جنس الطيرة المنهي عنها (2).
الأيام: فهناك من يتشاءم ببعض الأيام وينسب إليها النحس والشؤم، كمن يتشاءم بيوم الأربعاء، وذلك من تلاعب الشيطان بالجهال (3).
وهناك من يتشاءم بالأعداد، كما تكره الرافضة لفظ العشرة، أو فعل شيء يكون فيه عشرة فلا يبنون بعشرة أعمد مثلاً، قال ابن تيمية وذلك لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة (4). وكثير من الناس في الغرب يتشاءمون برقم ثلاثة عشر، وربما حذفته بعض شركات الطيران في ترقيم المقاعد (5).
__________
(1) الفتح 10/241، الطيرة والفأل.. الجاسم ص20).
(2) تيسير العزيز الحميد ص380، الطيرة والفأل في الكتاب والسنة ص21.
(3) تيسير العزيز الحميد ص380.
(4) منهاج السنة 1/10.
(5) عالم السحر والشعوذة، الأشقر ص229.(1/259)
التشاؤم في المركب والمسكن والمرأة.. وربما تعلق هؤلاء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس"(1). وقد أجاب العلماء على هذا الحديث بأجوبة عدة، ومن أجملها ما قاله ابن القيم: أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالشؤم في هذه الثلاث ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعياناً منها مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤوم ولا شر، والله خلق الخير والشر ولاسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعوداً مباركة يسعد بها من قاربها، ويخلق بعضها نحوساً ينحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضاء الله وقدره.. والفرق بين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون والطيرة لون..أ.هـ(2).
فإن قيل هذا جار في كل مشؤوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ فجوابه: أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر (3).
الاستقسام بالأزلام، ويه القداح، كان الرجل في الجاهلية إذا أراد سفراً أو زواجاً أو أمراً مهماً أدخل يده في وعاء يضع فيها القدح، فأخرج منه (زلماً) فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف ولم يفعل (4).
وذلك نوع من التطير المنهي عنه، كما في قوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } (المائدة: من الآية3). وفي الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لن يلج الدرجات العلى من تكهن، أو استسقم، أو رجع من سفر تطيراً"(5).
__________
(1) الحديث متفق عليه (جامع الأصول 7/631).
(2) تيسير العزيز ص377.
(3) تيسير العزيز الحميد ص377.
(4) النهاية 1/311.
(5) أخرجه الطبراني وجود إسناده الألباني (الصحيحة 2161، وانظر: الطيرة والفأل؛ محمود الجاسم ص32.(1/260)
إخوة الإسلام: ومن الاستسقام بالأزلام في هذا العصر: ضرب الرمل والودع (1)، وفتح الكتاب والكوتشينة، وقراءة الفنجان، وكل ما كان من هذا القبيل حرام منكر في الإسلام (2).
إخوة الإيمان احذروا التطير والتشاؤم في أمور حياتكم كلها فإنه مفسدة للدين والدنيا، ولما لم يكن في ترك التطير إلا تحقيق التوحيد لكان هذا كافياً، ودونكم هذا الحديث العظيم فتأملوه، واحرصوا على العمل به، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حصين بن عبدالرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا، ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكن لدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة" فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط (دون العشرة)، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي هذا موسى - صلى الله عليه وسلم - وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حسان ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما
__________
(1) الودع: خرز بيض تخرج من البحر تتفاوت في الصغر والكبر، الواحدة منها (ودعة) مختصر الصحاح ص714، ولا أدري أهي المقصود بذلك أم لا؟
(2) الحلال والحرام ص230، عن الطيرة والفأل، الجاسم ص33.(1/261)
الذي تخوضون فيه؟" فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة"(1).
وهكذا يحقق التوحيد من لا يتطيرون.. ويكونون ضمن من يدخلون الجنة بغير حسان ولا عذاب.. جعلنا الله منهم والمسلمين..
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله ضعف قوله في الحديث "لا يرقون" وقال إنها وهم من الراوي ولم يقلها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الراقي محسن إلى أخيه، وكذلك ضعفها تلميذه ابن القيم رحمهما الله، ومما يؤيد ذلك أنها لم ترد في رواية البخاري، بل ولا في الروايات الأخرى عند مسلم، وإنما الثابتة في الصحيحين "لا يسترقون" فقط والله أعلم (2).
أيها المؤمنون ويبقى بعد ذلك حديث عن دفع التطير، ووسائل الخلاص منه، وحديث عن الفأل ومعناه وأثره في حياة المسلم، وهذه وتلك مجال الحديث في الجمعة القادة بإذن الله.
بين التطير والتفاؤل (3)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين من توكل عليه كفاه ومن لاذ به سلمه وعافاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء بقدر، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعا الأمة إلى كل خير وحذرها من كل شر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وآل بيته الطاهرين، ورضي عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
__________
(1) صحيح مسلم 1/199، 200 ح220.
(2) تيسير العزيز الحميد ص84.
(3) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/6/1417هـ.(1/262)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
إخوة الإسلام، وسبق الحديث عن التطير والتشاؤم، وما فيهما من خلل في المعتقد والسلوك، دون أن يدفعا مكروهاً أو يجلبا محبوباً.
ومن حق الذين سمعوا التحذير والنهي عن باب من أبواب الشرك وسلوك يعقد الحياة، ويشل حركة الأحياء، ويصيبهم بنوع من الإحباط والضيق.. من حق هؤلاء أن يسمعوا وسائل دفع التطير وكيف يتقون التشاؤم، ألا وإن من أعظم الأسباب التي يدفع بها التطير:
التوكل على الله، قال أبو السعادات: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلا فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلان فلاناً إذا استكفأه أمره ثقة بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه، والتوكل المشروع فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد..، ولقد أمر الله به في غير آية، وأعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطاً في الإيمان والإسلام ما في قوله تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (يونس: من الآية84).
وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، والمتأمل يلحظ أن الله يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية، فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل (1).
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص437-439 باختصار.(1/263)
وكيف يتطير أو يتشاءم من يعي قوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه } (الطلاق: من الآية3)، أي كافية قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال: ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ولم يقل فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض وما فيهن لجعل له مخرجاً وكفاه ونصره (1).
يا أخا الإسلام، إذا انفتح عليك باب للتطير والتشاؤم وأوغر الشيطان صدرك بالقلق والوساوس، فافتح على نفسك باب التوكل على الله ثقة بما عنده، ورضاً بما يقسمه، واعتماداً عليه في تفريج الكربات ومن توكل على الله كفاه.
العلم بأن كل شيء يسير بقدر الله، قال الله تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49)، وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (الحديد:22).
ومن حكم ذلك حتى لا يشتد فرح الإنسان لما آتاه الله فقد يكون فيه حتفه، ولا تذهب نفسه حسرات على ما فاته، فقد يكون فيه نجاته وهنا تنقطع مادة التطير ويحس المسلم بالطمأنينة والرضا، يقول عليه الصلاة والسلام: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" والمعنى أن كل شيء بتقدير الله في الأزل ولا بد أن يقع ما قدره الله، والمراد بالعجز: التقصير فيما يجب فعله بالتسويف، وهم عام في أمور الدنيا والدين (2).
__________
(1) المصدر السابق ص442، 443.
(2) النهاية ص3/186.(1/264)
والكيس: هو النشاط والحذق، أو كمال العقل وشدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضر والنفع (1) وهذا الشعور بتقدير الله الأزلي لما يحدث في هذا الكون ينبغي أن يشعره بالرضا واليقين وأن يدفع عنه الطيرة والتشاؤم، دون أن يقعد به عن فعل الأسباب المأمور بها شرعاً، فالعلم والتوكل شيء، والجهل والتواكل شيء آخر فليعلم.
ومما يعين على دفع التطير – بإذن الله – أن يدافع ما يجد في نفسه من تطير أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، والطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل"(2)، والمعنى: وما منا إلا ويعتريه التطير، ولكن من وقع له ذلك وسلم الله، ولم يعبأ بالطيرة. فلا يؤاخذ بما عرض لها (3).
وعلى المسلم في سبيل علاج التطير ألا يتابع هذه الخطرات، ولا يستسلم للوساوس وألا تصده عما هم به، فقد جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: كنا نتطير، قال: ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم"(4).
والاستخارة المشروعة يدفع الله بها وينفع، وهي من تمام التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وهي خير بديل عن الطيرة والتشاؤم، والمراد بالاستخارة: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما (5)، وهي مشروعة في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها أما ما هو معروف خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا حاجة للاستخارة فيها (6).
__________
(1) الطيرة والفأل؛ الحاكم ص83 والسنة إلى فيض القدير 4/22.
(2) رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وجعل آخره من كلام ابن مسعود (كتاب التوحيد، محمد بن عبدالوهاب ص57).
(3) الأشقر، السحر والشعوذة ص300.
(4) صحيح مسلم 4/1748.
(5) الفتح 11/183، الجاسم ص85.
(6) التحفة 2/593 عن الجاسم، الطيرة والفأل ص86.(1/265)
عباد الله مع عظيم فضل الله علنيا في هذه الاستخارة، وشدة حاجتنا إليها في كثير من أمورنا، فما أعظم تفريط بعض الخلق فيها، وزهدهم في دعائها، وهذا جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إنت كنت تعلم أ، هذا الأمر – ويسميه – خير لي في ديني ومعاشري وعاقبة أمري – أو قال في عاجل أمري وآجله – فاقدره لي. وإن كنت تعلم أ، هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال في عاجل أمري وآجله – فاصرفه عني واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمى حاجته"(1) قال النووي يرحمه الله: وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره (2).
__________
(1) رواه البخاري واللفظ له (الفتح 11/183) ورواه غيره (الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة ص267.
(2) الأذكار 3/355.(1/266)
أيها المسلم والمسلمة، الدعاء بشكل عام عبادة مشروعة، ولا يرد القضاء إلا الدعاء – كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) وهو طريق من طرق دفع التطير، كيف لا، وقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء ندعو به، لدفع التطير في المرأة، والدابة، والخادم، فقد روى البخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي في عمل اليوم والليلة والبغوي في شرح السنة، وابن ماجه في سننه، والحاكم صححه ووافقه الذهبي والنووي في الأذكار وصححه، وجود إسناده العراقي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا تزوج أحدكم امرأة: أو اشترى خادماً فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك"(2).
الانتقال من المكان الذي يظن أنه مشؤوم، وذلك لإبطال الوهم بالشؤم، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رجل يا رسول الله إنا كنا في دار كثير فيها عددنا، كثيرة فيها أموالنا، فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا، وقلت فيها أموالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ذورها ذميمة"(3)، قال ابن عبدالبر: وعندي أنه إنما قاله خشية عليهم التزام الطيرة (4).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه.. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.
__________
(1) في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي والحاكم (صحيح الجامع 6/230).
(2) انظر: السحر والشعوذة، الأشقر ص310.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (132) وأبو داود، وغيرهم بإسناد حسن (السلسلة الصحيحة للألباني 2/433، الطيرة والفأل، الجاسم ص87.
(4) أوجز المسالك 15/195 عن الفأل والطيرة، الجاسم ص89.(1/267)
إخوة الإسلام يبقى بعد ذلك علاج عملي لدفع الطيرة والتشاؤم ألا وهو الفأل الحسن فحين نهى الشارع عن الطيرة والشؤم جعل الفأل البديل والعلاج، والسبب في ذلك أن الطيرة سوء ظن بالله تعالى، والفأل حسن ظن بالله، والمسلم مأمور بحسن الظن بربه، والفأل خلق من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - تمثله في حياته ودعى الناس إليه، وفي الحديث: كان - صلى الله عليه وسلم - يحب الفأل ويكره الطيرة"(1). والفأل هو الكلمة الحسنة يسمعها الإنسان ويستبشر بها وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفأل، ففي الحديث المتفق على صحته عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل: قال "كلمة طيبة"، وفي لفظ: "الكلمة الحسنة"(2).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه وحسنه ابن حجر في الفتح 10/214، 215.
(2) انظر: جامع الأصول 7/631.(1/268)
والمتأمل في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد فيها نماذج للفأل، والبعد عن التشاؤم والتطير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قال عليه الصلاة والسلام عن جبل أحد "هذا جبل يحبنا ونحبه"(1)، ومن المعلوم أن وقعة أحد الشهيرة كانت عند هذا الجبل، وبها أصيب المسلمون كما قال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم } (آل عمران: من الآية165)، فقد انجلت المعركة عن سبعين شهيداً من المسلمين (2)، ولم يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين في هذه الغزوة إذ كسرت رباعيته، وشج في وجهه، وسال دمه، وكسرت البيضة على رأسه، كما ثبت ذلك في الأخبار الصحاح (3). ومع ذلك كله فلم يتشاءم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يتطير من هذا المكان – بل قال حين رجع من الحج، أو حين عاد من تبول وأشرف على المدينة "هذا جبل يحبنا ونحبه"(4).
قال السهيلي يرحمه الله، كان - صلى الله عليه وسلم - يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مشتق من "الأحدية" قال: ومع كونه مشتقاً من الأحدية، فحركات حروفه الرع أحد، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي - صلى الله عليه وسلم - به لفظاً ومعنى فخص من بين الجبال بذلك والله أعلم (5).
__________
(1) رواه البخاري (الفتح 7/377، باب: أحد جبل.. كتاب المغازي).
(2) البخاري، ح4043.
(3) البخاري ومسلم، انظر: مهدي رزق الله 1/390، 397.
(4) الفتح 7/378.
(5) الفتح 7/378، وهو في الروض الأنف 5/449، 450 أطول من هذا.(1/269)
إخوة الإسلام، قد يسأل سائل عن الفرق بين الفأل والتطير عن السر في استحباب الأول وتحريم الثاني، وقد أجاب عن ذلك ابن الأثير يرحمه الله (1) فقال: الفأل فيما يرجى وقوعه من الخير، ويحسن ظاهره ويسر والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة من الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي، فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أملوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خير معجل، ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر؟
فأما الطيرة فإن فيها سوء الظن، وقطع الرجاء، وتوقع البلاء، وقنوط النفس من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه من جهة الشرع.أ.هـ.
ألا فتفاءلوا معاشر المسلمين وأملوا خيراً وأحسنوا الظن بربكم، وقدموا بين يدي هذا الفأل عملاً صالحاً تتقربون به إلى بارئكم، ومهما أظلمت الدنيا في وجوهكم أو حاول الشيطان أن يقنطكم.. فثقوا أن فرج الله قريب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين، وأن الله يبلو الناس بالشر والخير فتنة ليعلم الصابرين والشاكرين، وليميز الخبيث من الطيب..
وإذا اغتر بعض الخلق برحمات الخلق وأعطياتهم، انفرد المؤمنون بالتعلق برحمة الله ووثقوا بحسن عطائه فالله هو المعطي وهو المانع، والله يقول وهو أصدق القائلين: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (فاطر:2)، ويقول جل شأنه: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (يونس:58).
__________
(1) جامع الأصول 7/631.(1/270)
إخوة الإيمان بالفأل الحسن والعمل الصالح يشرق وجه الحياة، وترفرف رايات السعادة على الأحياء، بهذا الفأل الصالح تنشرح الصدور، وتزول الكآبة عن النفوس، وبه ينجلي الضيق، وتنقشع سحب الوهم والتشاؤم، ويكون ذلك عوناً لحسن علاقة العبد مع ربه، وعلاقة الخلق مع بعضهم.. وكل ذلك طرف من هدي الإسلام، ولون من ألوان خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولذا فالمسلون أحق بهذا الفأل من غيرهم من شعوب الأمم الأخرى، فهل يفقه المسلمون دينهم، وهل يتجنبون مواطن الخلل في عقائدهم وسلوكياتهم ذلك المرتجى – الله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل – هذا وصلوا…
فهرس الخطب
الموضوع الصفحة
المرأة والهمة والوقت
العقيدة الحية وما يناقضها
الخير المكروه
خير القرون
المسلمون والإعلام
عبودية السراء
اليقظة ورقة القلب
بين الآباء والأبناء
دروس من جلا بني قينقاع
الأيام الفاضلة والأضاحي
الأمل والأجل بين عامين
انحراف الشباب مسؤولية من
الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله
العناية بالقرآن
يا حامل القرآن
آية محكمة ودلالتها
واجبنا مع بدء العام الدراسي
إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه
أين الإرهاب
فابتغوا عند الله الرزق
ذكرى وتنبيهات للصائمين
عظمة القرآن
الحزن الممنوع والمشروع
طرق السعادة
عبرة في هجرة الحبشة
الحج والتوحيد
المرأة في الإسلام
المرأة في الحضارة المادية المعاصرة
عبودية السراء (الشكر)
وقفات من معركة القادسية
بين التطير والتفاؤل (1)
بين التطير والتفاؤل (2)(1/271)
شعاع من المحراب
(7)
تأليف
الدكتور سليمان بن حمد العودة
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
الدين الحق ودعوة وحدة الأديان (1)
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه الكتاب ولم يجعل له عوجاً، بعثه برسالة الإسلام، وختم به النبوات، وانقطع بموته الوحي من السماء، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
عباد الله: وبين آونة وأخرى يرد الحديث عن صراع الحضارات، ويرد أكثر عن حوار الحضارات، كما يرد الحديث ويتجدد – منذ زمن – عن تقارب الأديان ووحدتها، وربما أطلق البعض أن لا فرق بين أصحاب الملل والأديان – ما داموا يؤمنون بالله – ولو اختلفت شرائعهم، أو اختلفوا في أتباع أنبيائهم، إلى غير ذلك من طروحات ومفاهيم يلبس فيها الحق بالباطل، وربما أحدثت خللاً أو شكاً في المعتقد الصحيح، ولرفع اللبس وبيان الحق، وكشف الباطل وتجلية الحقائق، فلا بد من الحديث – ولو بشكل مجمل – عن المفردات التالية:
الإسلام بوصفه الدين الحق والرسالة الأخيرة للخلق.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/7/1420هـ.(1/1)
وعن القرآن بوصفه الكتاب المصدق للكتب قبله، والمهيمن عليها، والحافظ لأصول الشرائع السماوية كلها، والناسخ لما نسخ الله منها، وبوصفه الوحي الإلهي الوحيد المحفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان.
وعن محمد - صلى الله عليه وسلم - باعتبار عموم رسالته وختمها لرسالات السماء.
وعن أمة الإسلام باعتبارها أمة وسطاً، وخيريتها مقطوع بها، وشهادتها على الناس بنص الوحيين كما سترى.
أيها الناس: أما الإسلام فهو الدين الحق الذي شرع الله ورضيه لنا ديناً: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ } (آل عمران: من الآية19).
وهو دين الله ودين رسله، وهو رسالته الأخيرة إلى الناس كافة.
وهو الانقياد لله وحده ظاهراً وباطناً بما شرع على ألسنة رسله (1).
وهو الدين الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل عليهم السلام، فنوح عليه السلام قال لقومه: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (يونس: من الآية72).
وإبراهيم عليه السلام: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (البقرة: من الآية 131-132).
وحين اختصم اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام جاء الفصل من الله حاكماً بإسلام إبراهيم: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً } (آل عمران: من الآية67).
ويوسف عليه السلام – كان من دعائه -: { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } (يوسف: من الآية101).
وموسى عليه السلام يدعو قومه للإسلام: { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (يونس: من الآية84).
__________
(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمان: 1/366.(1/2)
والسحرة حين اهتدوا قالوا لفرعون: { وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (لأعراف:126).
وعن أنبياء بني إسرائيل قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } (المائدة: من الآية44).
وقال عن إسلام ملكة سبأ وسليمان عليه السلام: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (النمل: من الآية44).
وعيسى عليه السلام تبرأ من كفر النصارى، وأعلن والحواريون مع الإسلام لله: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (آل عمران:52).
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } (المائدة:111).
ثم جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ليقول للناس كافة: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85).
وحين بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم آمن به واتبع دينه أهل الكتاب، وهم المؤمنون الذين لم يحملوا الحقد والحسد، ولم يحرفوا أو يبدلوا أو يشتروا بالدين ثمناً قليلاً، بل أعلنوا إيمانهم وإسلامهم، كما قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } (القصص: من الآية 52-53).(1/3)
بل كان منهم من إذا سمع ما أنزل إلى الرسول: { َرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (المائدة: من الآية83)، ومنهم من إذا تلي عليهم القرآن { يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً } (الاسراء: من الآية107)، { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } (الاسراء:109).
أما الفريق الآخر فكذبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم، وهؤلاء لا تنقصهم معرفة الحق، ولكن طغى عليهم البغي والحسد، وهؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى: { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (آل عمران:86).
وهم الموصفون بقوله تعالى: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } (البقرة: من الآية89).
وهم المختلفون بعد العلم: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } (آل عمران: من الآية19).(1/4)
عباد الله: وأهل الدين الحق في الماضي والحاضر هم المسلمون لله رب العالمين، والمهتدون بهدي المرسلين، فلا شرك ولا ظلم ولا فجور ولا فسوق، ولا سوء أدب مع الله، ولا مع أنبيائه. وأين الإسلام ممن قالوا: { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه } (المائدة: من الآية18)، وربنا لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأين الإسلام ممن قالوا: المسيح ابن الله، والله يقول: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (المائدة:72).
أين الإسلام والإيمان ممن قالوا: { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } (آل عمران: من الآية181).
وقالوا: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } (المائدة: من الآية64).
وأين الإسلام والإيمان ممن قالوا: { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } (المائدة: من الآية73).
وأين الإسلام ممن اتخذوا عيسى عليه السلام وأمه إلهين من دون الله.
أيها الناس: وهل يصح أن يطلق الإيمان والإسلام على أهل الكتاب المحرفين من اليهود والنصارى والله يقول عنهم: { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } (المائدة: من الآية43).
ويصفهم الله بالكفر صراحة بقوله: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } (البينة:1).
ويصف الله أكثريتهم بالفسق بقوله: { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } (المائدة: من الآية59).(1/5)
وينفي عنهم الإيمان بقوله: { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (المائدة:81).
ويصفهم بالظلم، ويشبههم بما يتفق وإضاعته الأمانة بقوله: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (الجمعة:5).
بل كيف يقال بإيمان من اعترفوا على أنفسهم بالكفر: { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (آل عمران:72).
وإذا زاغ اليهود عن الحق الذي جاءهم به موسى عليه الصلاة والسلام – وهو نبيهم – فكيف يظن بهم اتباع غيره وتقديره: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } (الصف:5).
أما النصارى فقد قال لهم نبيهم عيسى عليه السلام: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } (الصف: من الآية6).
وهكذا – إخوة الإسلام – ينفرد المسلمون بالإيمان الحق والتزكية الإلهية والتصديق الجازم وتقدير الأنبياء والمتابعة لهم.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (الجمعة: من الآية 2-4).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلى على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين الذين قاموا بالحق وبه كانوا يعدلون.
أما بعد: وبناء على ما سبق، فهل يستوي الإسلام الحق واليهودية والنصرانية الزائغة؟ وهل يصح التوحيد فيها؟ وهل يجوز الدعوة لمقاربة الأديان؟ هناك دعوات وطروحات غريبة نسمعها بين الحين والآخر… وهذه وتلك وردت للجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
واسمعوا التساؤلات، واعقلوا الفتوى، وكونوا على حذر من الفتن العمياء؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى وحدة الأديان: دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء: مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد، إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب. وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي:(1/7)
أولاً: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام، وأنه خاتمة الأديان، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبق على وجه الأرض دين يتعبد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85). والإسلام بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان.
ثانياً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: "القرآن الكريم" هو آخر كتب الله نزولاً وعهداً برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمن عليها، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سوى: القرآن الكريم. قال الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَق } (المائدة: من الآية48).
ثالثاً: يجب الإيمان بأن (التوراة والإنجيل) قد نسخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان، كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُم } (المائدة: من الآية13).(1/8)
وقوله جل وعلا: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة:79). وقوله سبحانه: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران:78).
ولهذا، فما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غضب حين رأى مع عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - صحيفة فيما شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام: "أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". رواه أحمد والدارمي وغيرهما.(1/9)
رابعاً: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين كما قال الله تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } (الأحزاب: من الآية40). فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حياً لما وسعه إلا اتباعه - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك – كما قال الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } (آل عمران:81).
ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحاكماً بشريعته. وقال الله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ } (لأعراف: من الآية157).
كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة للناس أجمعين، قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (سبأ:28)، وقا لسبحانه: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } (لأعراف: من الآية158)، وغيرها من الآيات.(1/10)
خامساً: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً. وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين. وأنه من أهل النار كما قال تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } (البينة:1)، وقال جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } (البينة:6)، وغيرها من الآيات. وثبت في "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار".
ولهذا: فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: "من لم يكفر الكافر فهو كافر".
سادساً: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية، فإن الدعوة إلى: "وحدة الأديان" والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة، والغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وج أهله إلى ردة شاملة، ومصداق ذلك في قوله سبحانه: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } (البقرة: من الآية217). وقوله جل وعلا: { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } (النساء: من الآية89).(1/11)
سابعاً: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (التوبة:29)، ويقول جل وعلا: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (التوبة: من الآية36).
ثامناً: أن الدعوة إلى "وحدة الأديان" إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
تاسعاً: وتأسيساً على ما تقدم:
فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيع عليها، وتسليكها بين المسلمين، فضلاً عن الاستجابة لها، والدخول في مؤتمراتها وندواتها والانتماء إلى محافلها.
لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد!! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك من الجميع بين الحق "القرآن الكريم" والمحرف، أو الحق المنسوخ "التوراة والإنجيل".(1/12)
كما لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة: "بناء مسجد وكنيسة ومعبد" في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة: لأهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال، لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك!! كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس بيوت الله وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله، لأنها عبادة غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85). بل هي: بيوت يكفر فيها بالله. نعود بالله من الكفر وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوي" 22/162: "ليست – أي: البيع والكنائس – بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يكفر فيها بالله، وإن كان قدر يذكر فيها، فالبيوت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفار".(1/13)
عاشراً: ومما يجب أن يعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، قال الله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (آل عمران:64). أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عرى الإسلام ومعاقد الإيمان، فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون، والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى: { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } (المائدة: من الآية49).
وإن اللجنة إذ تقرر وتبينه للناس، فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاته، والكفر وأهله، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة: "وحدة الأديان". ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سبباً في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم: نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راض عنا.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين…
الدين الحق (1)
(2)
الخطبة الأولى
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/7/1420هـ.(1/14)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } (لقمان:33).
عباد الله: وفي سبيل استبانة سبيل المجرمين، ولبيان الحق في زمن صراع الحضارات، وغزو الأفكار، الذي بات ينتشر أكثر هذه الأيام.. ومن المتوقع أن يزيد انتشاره مع بداية الألفية الثالثة، جرى في الجمعية الماضية حديث عن الإسلام مقارناً بالأديان الأخرى – لا سيما اليهودية والنصرانية – وعلم حكم الشرع وفتوى العلماء في دعوة وحدة الأديان… و اليوم أستكمل الحديث عن القرآن مقارناً بالكتب السماوية الأخرى، وعن محمد - صلى الله عليه وسلم - وحديث الأنبياء عنه، وعن الأمة المسلمة مقارنة بالأمم الأخرى.(1/15)
أيها الناس: ومن الإسلام بمفهومه الحق عبر القرون – إلى القرآن الكريم بوصفه آخر الكتب المنزلة، مصدقاً لما بين يديه من الكتب، ومهيمناً عليها، اختصه الله من بين كتبه بالحفظ، فلا تستطيعه أيدي التحريف والتبديل، والوعد بذلك إلهي، والتأكيد رباني: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر:9). شملت آياته وصايا السابقين ولم تغفل شرائع المرسلين، وزادت عليها أحكاماً وشرائع وهدى حتى أكمل الله به الدين، وانقطع الوحي من السماء بعد موت المنزل عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فيه الهدى والنور والشفاء، وما به عوج ولا افترا بل قص الله فيه على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وحين استمع الجن إليه قالوا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } (الجن: من الآية 1-2). ما كان للقرآن أن يفترى من دون الله، قصصه أحسن القصص ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكان بهذا خليقاً.(1/16)
منه السبع والمثاني وكله قرآن عظيم… ولو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله… حوى من أخبار الأنبياء والأمم الماضية ما لم تحفل به الكتب السابقة عليه، ومن أخبار اليهود والنصارى ما لم يعلموا به من كتبهم، ولو لم يحفظ لنا القرآن هذه الأخبار والمغيبات لم نجده في أي كتاب آخر يوثق به. يقرأه الصغير والكبير، والذكر والأنثى، ويتفق على ألفاظه وكلماته وحروفه أهل المشرق وأهل المغرب، وتتواتر روايته عبر القرون، وأين هذا من الأناجيل والتوراة المختلفة والمحرفة – ماذا بقي منها يوثق به لم تحرف – وأي فقرة من هذه الكتب يمكن الاطمئنان إليها على أنها من وحي السماء؟ والله يقول عن أصحابها: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } (المائدة: من الآية13)، ويقول عنهم أيضاً: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة:79).
عباد الله: ولو قارنا كتاب الله القرآن المحفوظ في الصدور والمحوط من الزيادة والنقصان، بآخر كتاب سماوي نزل قبله، وهو الإنجيل المنزل على عيسى – عليه السلام – لأدركنا الفرق في الحفظ بين الكتابين، فمن كتب الإنجيل؟ ما الأناجيل الموجودة؟ وهل كتبها أو أمر بكتابتها المسيح عليه السلام؟(1/17)
يجيب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" ويقول في "الجزء الثاني ص11"، وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى، فهي أربعة أناجيل: إنجيل متى، ويوحنا، ولوقا، ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا. وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منها إنجيلاً، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله التي ليست قرآناً.. أهـ. هذا إذا سلمت هذه الأناجيل من تحريف المحرفين وزيادات المبطلين – عبر العصور.
وإذا قيل هذا عن الأناجيل – مع قرب العهد بها – فماذا يقال عن التوراة والتلمود وهي أقدم عهداً، واليهود أكثر تحريفاً؟! كيف وقد حوت هذه الكتب سوء أدب مع الله وإساءة للأنبياء عليهم السلام وإتهاماً لهم في أخلاقهم وأعراضهم؟! ومن نماذج ذلك تصويرهم لوطأ عليه السلام سكيراً وعاهراً يزني بابنتيه في حال السكر – جاء ذلك في سفر التكوين، الإصحاح التاسع عشر.
ويصورون يعقوب – عليه السلام – بأنه محتال سرق النبوة من أخيه البكر بأسلوب قذر "كما جاء عندهم في سفر التكوين الإصحاح السابع والعشرين".(1/18)
أما عيسى - عليه السلام – فيقول اليهود في تلمودهم بأنه ابن غير شرعي، حملته أمه سفاحاً وهي حائض من العسكري باندارا. إلى غير ذلك من خزعبلات، لولا بيان باطلهم لنزهت أسماعكم وبيت الله من ذكرها (1). إن هذه الكتب لا يمكن الاعتماد عليها على أنها كتب منزلة من السماء – وإذا نهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاروق وهو يقلب صحيفة من التوراة ويقول له: "والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي"… فماذا يقال لغير عمر ممن هو أقل إيماناً وفقهاص منه، حين يفكر في قراءة شيء من هذه الكتب المحرفة؟! أما كتاب ربنا وعهده الأخير للناس، والمعجز بحفظه، وبما حواه فيكفيه شهادة الله له بالتصديق لما قبله، والهيمنة على الكتب السابقة عليه، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَق } (المائدة: من الآية48).
عباد الله: أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو خاتم الأنبياء – عليهم السلام – وأفضلهم، بعثته للناس كافة، وبه ختم الله رسالات السماء، هو دعوة أبيه إبراهيم علبيه السلام حين قال وابنه إسماعيل: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } (البقرة: من الآية129)، وهو بشارة عيسى – عليه السلام – حين قال: { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } (الصف: من الآية6).
__________
(1) "السيرة في ضوء المصادر الأصلية" ص86-87، د.مهدي رزق الله أحمد.(1/19)
والأنبياء كلهم أخذ عليهم الميثاق لئن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم أحياء ليؤمنن به ولنصرنه كما قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } (آل عمران:81).
لا يسوغ لأحد – مهما كان جنسه وديانته – أن يخرج عن شريعته ويتبع نبياً غيره، ومن فعل ذلك فهو من أهل النار. روى مسلم في "صحيحه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار".
ومن نواقض الإيمان – كما قرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر (1).
وهل يعلم أهل الكتاب وغيرهم أن عيسى – عليه السلام – حين ينزل آخر الزمان يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ روى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمكم منكم".
قال أحد الرواة في معنى "فأمكم منكم" قال: بكتاب ربكم وسنة نبيكم (2).
قال العلماء: هذا صريح في أن عيسى – عليه السلام – يحكم بشريعتنا ويقضي بالكتاب والسنة، لا بالإنجيل ولا غيره. "تعليق الألباني على المنذري".
__________
(1) مجموعة الرسائل في التوحيد والإيمان ص79.
(2) مختصر المنذري لمسلم ح: 2060.(1/20)
وأين حماة الصليب من هذا؟ ورسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يقسم: "والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية…"(1).
بل وأين أهل الكتاب من شهادة بعضهم على بعض بصدق رسولنا؟ وقد أخرج أبو حاتم في "صحيحه" عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: خرج جيش من المسلمين - أنا أميرهم – حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم: أخرجوا إلي رجلاً يكلمني وأكلمه، فقلت: لا يخرج إليه غيري، قال: فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه، فقال: ما أنتم؟ قلت: نحن العرب… وأخبره عمرو عن حالتهم قبل البعثة وبعدها كيف ظهر عليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - … فلما انتهى عمرو قال عظيم الإسكندرية: إن رسولكم قد صدق، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاءكم به رسولكم، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم، لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، ولن يشارككم أحد إلا ظهرتم عليه، وإن فعلتهم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم، لم تكونوا أكثر عدداً منا، ولا أشد منا قوة (2).
__________
(1) الحديث رواه مسلم في "صحيحه" ح: 2059.
(2) الجواب الصحيح: 1/100.(1/21)
أيها المسلمون: ولم تكن بعثته – عليه الصلاة والسلام – نعمة على المسلمين وحدهم، بل بعثته نعمة على أهل الأرض كلهم، ففي شريعته - صلى الله عليه وسلم - من اللين والعفو و الصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل، وفيها من الشدة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين، أعظم مما في التوراة – وهذا هو غاية الكمال – كذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – وأضاف يقول: ومن استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إنعامه بإرساله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الذين ردوا رسالته، هم ممن قال الله فيهم: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } (ابراهيم:28) (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } (آل عمران:144).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا خير كتبه، وجعل أمتنا خير الأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان: وإذا تقرر أن ديننا خير الأديان، وكتابنا مهيمن على الكتب قبله، ونبينا خاتم الرسل، وقد أم الأنبياء في رحلة الإسراء، وعرج به إلى السماوات العلى. فماذا يقال عن أمة الإسلام، وما الفرق بينها وبين الأمم الأخرى؟
__________
(1) الجواب الصحيح: 3/243-244.(1/22)
لقد حكم الله بخيرية هذه الأمة – إذا استقامت على شرع الله، وقامت بواجبات الأمر والنهي، فقال: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (آل عمران:110).
وفي الحديث: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيارها وأكرمها على الله"، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - .
وجعلها أمة وسطاً شاهدة على الناس بالعدل: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس } (البقرة: من الآية143).
وهذه الوسطية والشهادة على الناس ينبغي أن تثير فينا الاعتزاز والشعور بالكرامة، والمسؤولية والتبعة في آن واحد، ولا ينبغي أن يتخلف الشاهد عن مستوى المشهود عليه…
وإليك نموذجاً لشهادة هذه الأمة على الأمم السابقة: أخرج البخاري في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ.
ومن عدل أمة الإسلام عدلها ونظرتها لأخبار أهل الكتاب، فهي لا تردها جملة وتفصيلاً، ولا تقبل بها دون تمحيص، بل تذكرها للاستشهاد، لا للاعتقاد، وتصنفها على ثلاثة أقسام:
إحداها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، فذاك كذب.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذه القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - :"… وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"(1).
__________
(1) الفتاوى: 13/366.(1/23)
عباد الله: وتمتاز أمة محمد ط على أمم اليهود والنصارى بصحة النقل، إذ النقل عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مدته قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى عليه السلام، فإن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما زالوا كثرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين، منصور على الأعداء بخلاف بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهم في أثناء المدة لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود عليه السلام، ونقص عدد من نقل دينهم حتى قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد، والمسيح عليه السلام لم ينقل دينه إلا عدد قليل (1).
أيها المسلمون: كما تمتاز هذه الأمة المسلمة على الأمم الأخرى بالعفو والتسامح والمغفرة، والله يقول لهم: { قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (الجاثية:14)، ويقول في صفاتهم: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } (الفرقان: من الآية63)، ويدعوهم إلى الصبر والتقوى في مقبل فتنة الآخرين وأذيتهم: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (آل عمران:186).
أجل إن الأمة أمرت بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون…
__________
(1) الجواب الصحيح: 1/127، 128.(1/24)
لكن هذا القتال ليس تعصباً ولا استعلاء في الأرض بغير الحق، ولكنه الرحمة بالخلق لدعوتهم للحق، ولذا فقبل القتال تكون الدعوة وتكون المجادلة بالحسنى، وفي وفد نصارى نجران علق ابن حجر بقوله: وفيه من الفوائد: جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته (1). فإذا قامت الحجة لم تغن المجادلة – كان الجهاد أو دفع الجزية.
وأين هذه الأخلاق الإسلامية، والآداب من العفو والصفح والمجادلة بالحسنى… أين هذا من تعصب أهل الكتاب وانغلاقهم، وشعورهم بالتميز، وغيرهم بالدونية. يقول الأمير شكيب أرسلان: إن الروح الصليبية لم تبرح كامنة في صدور النصارى كمون النار في الرماد، وروح التعصب لم تنفك معتلجة في قلوبهم حتى اليوم كما كانت في قلب بطرس الناسك من قبل، وأن ما يدعوه الفرنجة عندنا في الشرق تعصباً مذموماً هو عندهم في بلادهم العصبية الجنسية المباركة، والقومية المقدسة (2).
__________
(1) الفتح: 8/95.
(2) حاضر العالم الإسلامي: 1/137، وانظر: التعصب الأوروبي أو الإسلامي/ محمد العبدة: 11-14.(1/25)
عباد الله: إن على المسلم أن يعلم موقعه في هذا العالم، وإذا أعجب كل ذي رأي برأيه، وكل أصحاب نحلة او دين بنحلهم وديانتهم، فحسب المسلم أن يرضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً رسولاً، وأن يكون القرآن دليله وهاديه، وأن يكون في عداد الأمة المرحومة.. أمة الخير والعد والوسط، وعلى المسلم أن يحذر من الشعارات الخادعة، والدعوات الفاتنة التي لبس الحق فيها بالباطل، ويتفوق فيها المبطل على المحق في زمن ضعفت فيه مقدرات المسلمين، وغزاهم في قعر دارهم الكافرون، وبات الغزو مقنناً عبر الفضائياًت والشبكات ونحوها، بل أصبح التأثير العقدي يمارس عبر دهاليز السياسة، ومن بوابات الاقتصاد، ويغطى بمصطلحات العولمة، والنظام العالمي، ويمرر عبر قرارات الهيئات والمنظمات المسيسة، فهل يواجه المسلمون التحدي؟ وهل يحسون بحساسية المرحلة~؟ وهل يتجاورون التبعية؟ ذاك المأمول والمرتجى، والله غالب على أمره.
المحبة المشروعة (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله المؤمنين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى الله أقوم وأقوى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/7/1417هـ.(1/26)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: من الآية 70-71).
أيها المسلمون: بالمحبة والإخاء تصفو الحياة، ويسعد الأحياء، وتغيب الإحن، وتتوارى الأثرة والبغضاء، وليست هناك دواع معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتاً متناكرين، ووحوشاً متنافرين، بل إن الدواعي القائمة على الحق والعاطفة السليمة تعطف البشر بعضهم على بعض، وتهيئ لهم مجتمعاً متكافلاً تسوده المحبة، ويمتد به الأمان على ظهر الأرض.
أجل: لقد رد الله أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ليجعل من هذه الرحم الماسة ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق، ولكن على أساس من البر والتقوى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13).
فالتعارف لا التنافر، والمحبة لا التباغض، أساس العلائق بين البشر، ولكن قد تطرأ عوائق تمنع هذا التعارف الواجب، وتلك المحبة المشروعة، وفي زحام البشر على موارد الرزق، وفي اختلافهم على فهم الحق وتحديد الخير قد يثور نزاع ويقع صدام، بيد أن هذه الأحداث الطارئة وتلك التصرفات المشينة لا ينبغي أن تنسي الروابط المشروعة والحقوق الواجبة، ولا ينبغي أن تعصف بأوتاد المحبة وأواصر الأخوة.
إن المحبة طعم الحياة، وسر سعادتها، ومساكين من فارقوا الدنيا ولم يتلذذوا بأطيب ما فيها من محبة الله والشوق إلى لقاه، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسير على هداه، ومحبة المؤمنين والقيام لهم بحقوقها من الموالاة والنصرة والنصح وتقديم المعونة.(1/27)
أيها المؤمنون: وجبل الناس – كل الناس – على محبة المال والوالد والولد، والأهل والعشيرة، والقناطير والمقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ولكن ذلك كله متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المآب.
وما يبقى خير مما يفنى، والله يقول في وصف الباقي وصفات أهله: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } (آل عمران: من الآية 15-17).
عباد الله: إن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق – عليه الصلاة والسلام – والحب في الله والبغض في الله هو الذي يتجاوز أغراض الدنيا، ويقيم صاحبه وزناً للقيم، وتضبط فهي العواطف، ويوزن بميزان الشرع المطهر، أساسه الصلاح والتقى، ولو كان المحب في المال صعلوكاً وفي النسب نازلاً، وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين.
إن محبة اللذة والشهوة الرخيصة تفنى وتنتهي في الآخرة إلى العداوة والبغضاء. أما محبة الدين فتثمر وتبقى وهي في الآخرة علامة التقوى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } (الزخرف:67).(1/28)
وإذا زين للمبطلين اتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله، فالذين آمنوا أشد حباً لله، له وحده يعبدون، وعليه يتوكلون، وإذا كان لكل شيء حقيقة، فحقيقة محبة الله اتباع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (آل عمران: من الآية31).
أما محبة خلق الله فتكون بتقديم الخير لهم، ودفع الشر عنهم، وعدم الاعتداء على حرماتهم، فكل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه، ألا ما أجمل الحب والطاعة حين يرتفعان بصاحبهما إلى درجات النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً } (النساء: من الآية 69-70).
ورد في سبب نزول هذه الآية الكريمة عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي،وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلت عليه: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول } (النساء: من الآية69) الآية. رواه ابن مردويه، والمقدسي في "صفة الجنة" وقال: لا أرى بإسناده بأساً (1).
عباد الله: وإذا كان هذا نموذجاً لمحبة الأصحاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فهاك نموذجاً آخر لمحبة الأصحاب بعضهم بعضاً وما فهي من مغنم:
__________
(1) تفسير ابن كثير: 2/310-311.(1/29)
عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا والناس حوله، فإذا اختلفواف ي شيء أسندوه إليهوصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت إليه، فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك في الله، فقال: الله؟ فقلت: الله، فقال: الله؟ فقلت: الله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في". أخرجه مالك في "الموطأ"، والحاكم وصححه، وابن عبدالبر وغيرهم (1).
يا أخا الإسلام: أفلا يقودك هذا الحديث ومثله إلى محبة الخيرين والقرب منهم والجلوس إليهم، والله تعالى يقول يوم القيامة: "أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي". أخرجه مسلم ومالك في "الموطأ"(2).
ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله". قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". وقرأ هذه الآية: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (يونس:62). أخرجه أبو داود، وفي سنده انقطاع، ولكن رواه ابن حبان في "صحيحه" بسند حسن، وأورد المنذري في "الترغيب" حديثاً بمعناه وحسن أسناده، والحاكم وقال: صحيح الإسناد (3).
__________
(1) جامع الأصول، لابن الأثير: 6/551-552.
(2) جامع الأصول: 6/550.
(3) جامع الأصول: 6/553.(1/30)
يا أخا الإسلام: وإن قعدت بك همتك عن مجاراة الخيرين في طاعاتهم وعباداتهم، فلا تنفك عن محبتهم والتشبه بهم، وهاك هذه البشارة فاعقلها وعض عليها بالنواجذ: روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: كيف ترى في رجل أحب قوماً ولما يلحق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "المرء مع من أحب"(1).
وإذا كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فرحوا بها واستبشروا، حتى قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث (2). أفلا يدعوك ذلك للفرح والبشرى ومحبة الخير لأهله صدقاً وعدلاً، لا نفاقاً أو رياء؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } (الفتح: من الآية29).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحب الفاحش المتفحش ولا يحب البذيء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخبر أن عطاء الله لعبد من أمور الدنيا لا يعني المحبة والرضا فقال: "إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج" رواه أحمد وغيره بسند صحيح (3).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
__________
(1) جامع الأصول: 6/558.
(2) تفسير ابن كثير: 2/312، جامع الأصول: 6/557.
(3) صحيح الجامع الصغير: 1/214.(1/31)
أيها المسلمون: ومن عظمة هذا الدين أنه يشيع المحبة بين المسلمين فيجزي على الابتسامة المؤنسة: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة". ويهدي لاختيار أطيب عبارة حين المحادثة، ويرتب عليها المثوبة: "والكلمة الطيبة صدقة" ويدعو إلى النظرة الهادفة لتأليف القلوب، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك – كما قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - (1).
كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - بسط النفس ومداعبة من يحتاج إلى المداعبة… وكل ذلك تشريع للأمة ودعوة لها إلى مكارم الأخلاق، وإشاعة المحبة والخير بين المسلمين. بل دعا إلى إظهار المحبة بين المتحابين؛ لأنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: "إذا أحب أحدكم أخاه في الله، فليعلمه، فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة"، رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن، عن مجاهد مرسلاً (2). بل لقد ورد في بعض روايات الحديث: "إذا أحب أحدكم صاحبه، فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله". رواه أحمد والضياء بسند صحيح (3).
أيها المسلمون: وثمة ما يستدعي النظر ويستحق الوقفة، فبعض الناس يظن التعبيس في وجوه الآخرين ديناً بتقرب إلى الله، أو ربما ظنه بعض الخيرين تأكيداً للولاء والبراء المشروعين… وليس الأمر كذلك، فليس من هدي الإسلام إزدراء الناس واحتقار أعمالهم في مقابل تزكية النفس، وليس من هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - الانقباض عن الناس وشدة القول ورديء الكلام ولو كانوا أصحاب سوء.
__________
(1) مختصر الشمائل 181 بسند حسن.
(2) صحيح الجامع: 1/137.
(3) صحيح الجامع: 1/137.(1/32)
وفي "صحيح البخاري" من حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت: استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله: قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول، فقال: "أي عائشة: إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه"(1).
هكذا ساقه البخاري في كتاب الأدب، باب: المدارة مع الناس. وساقه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب مدارة من يتقى فحشه (2).
ولقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأدب ومغزاه وتمثلوه ودعوا إلى دين الله من خلاله، وهذا أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم (3).
قال الحافظ ابن حجر يرحمه الله: هذا الحديث أصل في المداراة (4).
وقال ابن بطال يرحمه الله موضحاً معنى المدارة والفرق بينها وبين المداهنة: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط، لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق بينهما: أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على لاشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء – يعني المداهنة – بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرف بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك (5). ألا ما أنفس هذا الكلام وأحرى للمسلم بالعمل به.
__________
(1) صحيح البخاري: 7/102.
(2) صحيح مسلم: 3/2002.
(3) الصحيح مع الفتح: 10/528.
(4) الفتح: 10/454.
(5) الفتح: 10/528-529.(1/33)
عباد الله: ولا يعني إشاعة المحبة بين الناس إضاعة الدين أو تذويب الفوارق بين المؤمنين والكافرين والمنافقين، كلا فمبدأ الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين عقيدة يحفظها المسلمون من كتاب ربهم وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ويعمل بها المؤمنون، وهم يقرأون: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه } (المجادلة: من الآية22).
ويقرأون قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } (المائدة:55) الآيات. وقوله: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض } (التوبة: من الآية71).
بل لقد قسم أهل العلم الناس في الحب والبغض إلى ثلاثة أصناف:
الأول: من يحب جملة، وهو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام علماً وعملاً واعتقاداً، وأخلص في أفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره، وانتهى عن نواهيه.
الثاني: من يحب من وجه، ويبغض من وجه، فهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيحب ويوالي على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادي على ما معه من الشر.
الثالث: من يبغض جملة، وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنكر البعث أو شيئاً من أمور الدين الثابتة، أو استحل ما عليه أهل البدع والأهواء المضللة… فليفهم هذا جيداً.
أيها المسلمون: والموفق من وفقه الله لطاعته وحسن عبادته، وهل علمتم أن توفيق العبد لذلك دليل محبة الله له، وإذا كان الله يعطي الدنيا من أحب ومن لم يحب، فالله لا يعطي الدين إلا من أحب..(1/34)
وثمة علامة أخرى لمحبة الله للعبد، وذلك بإشاعة حبه بين الناس. روى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن اللح يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"(1).
ورواه مسلم وزاد: "وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"(2).
وفي "مسلم" أيضاً ذكر هذه الصورة العملية للحب، فعن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمر عمر بن عبدالعزيز وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليها فقلت لأبي: يا أبت إني أرى الله يحب عمر بن عبدالعزيز، قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحب في قلوب الناس، قال: فأنبئك؟ إني سمعت أبا هريرة يحث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - …، ثم ذكر الحديث السابق (3)، وأخرجه الترمذي بمثل حديث مسلم وزاد: فذاك قول الله: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } (مريم:96)(4).
اللهم اجعلنا من أحبابك، ووفقنا لطاعتك وحسن عبادتك، وثبتنا إلى أن نلقاك وأنت راض عنا يا ذا الجلال والإكرام.. هذا وصلوا..
الرحمة (5)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علماً، ورحمته وسعت كل شيء، ورحمة ربك خير مما يجمعون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأحرص الناس على هداية أمته، وجاء في صفته: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة: من الآية128).
__________
(1) كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل: 13/387.
(2) كتاب البر والصلة: ح 2637،4/2030.
(3) السابق: 4/2031.
(4) جامع الأصول: 6/555.
(5) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/7/1418هـ.(1/35)
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، الذين كانوا رحمة مهداة من الله لأممهم، أنقذ الله بهم من شاء من الغواية إلى الهدى، ومن دركات الجحيم إلى درجات الجنان، ومن يضلل الله فما له من هاد، وارض اللهم عن آل محمد المؤمنين وعن صحابته أجمعين و التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين امتثالاً لأمر الله ووحيه:
{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (الزمر:10).
أيها المسلمون: والرحمة كلمة ندية، رخية في لفظها، وهي ذات مفاهيم ومدلولات كبيرة في معناها، بها ينتشر الود، ويتحقق الإخاء، ويسود القسط. وبالرحمة ترعى كرامة بني الإنسان، وينتشر العدل، بها تستعلي النفوس إلى أصل فطرتها، وبفقدها يهوي الإنسان وترتكس فطرته إلى منازل الجماد الذي لا يعي ولا يهتز.
أجل إن الرحمة كمال في الطبيعة، وجمال في الخلق، يرق صاحبا لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم وجنوحهم، فيترحم عليهم ويتمنى لهم الهداية والرحمة.
أما القسوة فتبلد في الحس، وارتكاس في الخلق، وغلظة في الطبع، وغرور وكبرياء، لا يكاد تفكير أصحاب هذا الطبع أن يتجاوز دوائرهم الضيقة، وذواتهم المريضة. بالرحمة أو خلافها يتميز الناس إلى رحماء يرحمهم الرحمان، وقساة قلوب لهم الويل في الحياة وبعد الممات.
إخوة الإسلام: ويطيب الحديث عن الرحمة في كل آن، ولكنه يجمل ويتأكد حين يستعلي الكبراء، ويتغطرس الأقوياء، حين تبقى فئة من البشر تتحكم في الموارد والأرزاق، فتعطي وتشترط، وتمنع وتحاصر، تهدد بالحصار العسكري تارة، وبالحصار الاقتصادي أخرى، وبين هذا وذاك تعمل بكل ما أوتيت من قوة في سبيل الحصار الفكري والتعبير الثقافي في المجتمع العالمي.(1/36)
وحين تفقد الرحمة تموت آلاف من الأطفال حتف نفسها جوعاً أو عرياً – وتشرد آلاف أخرى من البشر عن ديارها وتباح لغيرها ظلماً وعدواناً، ويعتدي على النساء بغياً، بل وتبقر بطون الحوامل لاستخراج ما في أرحامها همجية وحقداً.
أين هذا من شرع السماء وهدي الأنبياء عليهم السلام؟ والرحمة في أفقها الأعلى صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، وملائكة السماء تشهد بذلك وتتضرع إلى خالقها: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } (غافر: من الآية7).
بل الله أرحم الراحمين، ويشهد برحمته كل من قرأ: "الرحمن الرحيم" أو يقرأ: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء } (لأعراف: من الآية156).
إنها رحمة من يقتدر على الأخذ بقوة: { فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (الأنعام: من الآية147).
وهي رحمة لا يستطيع كائن إمساكاً لها أو إرسالاً: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (فاطر:2).
أيها المسلمون: ورحمة ربي شاملة للحياة والأحياء لبني الإنسان والجن والحيوان، للمتقين والفجار، للأولين والآخرين، وفي الدنيا والآخرة.
وظواهر هذه الرحمة يدركها من يتأمل كتاب الله أو ينظر في ملكوت الله.
من مظاهرها: تسخير الكائنات: { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (القصص:73). { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } (الاسراء:66).(1/37)
ويمتد التسخير للمركوب والمأكول، ويربط ذلك برحمة الله كما قال تعالى: { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (النحل: من الآية 5-7) إلى قوله تعالى: { وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ } (النحل: من الآية8).
ومن مظاهر الرحمة: رفع البلاء، وإن جحد المبتلون: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا } (يونس: من الآية21). { وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } (يّس: من الآية 43-44).
وفرق بين من يقال عنهم: { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (المؤمنون:75)، وبين من قيل عنه: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } (الانبياء: من الآية 83-84).
أجل إنها رحمة وذكرى كما قال ربنا، ولكنها لمن؟ للعابدين.(1/38)
عباد الله: ومن مظاهر رحمة الله رفع الحرج لمن به علة أو حاجة: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (التوبة:91)، { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (البقرة: من الآية173).
ومن مظاهرها: قبول التوبة للمذنبين: { فتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (البقرة:37)، وليست قصراً على آدم وحده، بل تشمل غيره: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (المائدة:74)، { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (يوسف:92).
يا أخا الإسلام: وهل علمت أن هبة الله الأهل، والذرية الصالحة من رحمة الله { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } (مريم: من الآية 49-50)، { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } (مريم:2)، { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (صّ:43).
وأن إنزال الغيث رحمة من الله: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } (الشورى: من الآية28)، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } (الروم: من الآية46).(1/39)
ترى أي حد لرحمة الله، وتقديرها أزلي في كتاب عنده فوق العرش كما قال عليه الصلاة والسلام: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي" رواه البخاري ومسلم (1).
وأثرها يمتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو في الآخرة أعظم، والحاجة إليها أكبر فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - : "إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وفيها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة"(2). رواه مسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (يونس:58).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شمل بفضله ورحمته الإنس والجان والمتقين والفجار، وشهد جوده وآلاءه أولو الألباب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ناله من رحمة ربه ما ألان قلبه لمن حوله فاجتمعوا إليه، ولو كان فظاً غليظاً لانفضوا من حوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون: وإذا كانت الرحمة بمفهومها العام شامة للخلق حتى تقوم الحياة ويبتلى الأحياء، ويتميز الشاكرون المؤمنون عن الكافرين الجاحدين، فثمة نوع من الرحمة رجح ابن القيم أن المقصود بها النعمة، فرحمته: نعمته. ثم قال: فالهدى والفضل، والنعمة والرحمة متلازمان، لا ينفك بعضها عن بعض (3).
__________
(1) جامع الأصول 4/518-519.
(2) جامع الأصول: 4/ 520.
(3) الفوائد: 170-171.(1/40)
ونقل القرطبي عن السلف تفسير فضل الله بالقرآن، والرحمة بالإسلام. عن أبي سعيد الخدري وابن عباس: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن (1).
هذه الرحمة ينالها طائفة من عباد الله بعمل الصالحات والمجاهدة والإحسان، والمتتبع لآيات القرآن يجد بيان ذلك واضحاً… فبم تنال هذه الرحمة؟ إن مما تنال به الرحمة المجاهدة في سبيل الله، قال تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } (التوبة: من الآية 20-21).
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (النحل:110).
كما تنال الرحمة بالصبر: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } (البقرة: من الآية 156-157).
وتنال بالإحسان كما قال تعالى: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } (لأعراف: من الآية56)، { إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } (النمل:11).
__________
(1) تفسير القرطبي: 8/353.(1/41)
وتنال الرحمة بالإيمان والتقى والطاعة لله والرسول وأداء الواجبات: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (آل عمران:132)، { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ } (النساء: من الآية175)، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } (الحديد: من الآية28).
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } (لأعراف: من الآية 156-157).
كما أن للقانتين آناء الليل كفلاً من رحمته: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر:9).
عباد الله: ومن علائم السعادة أن تسود الرحمة مجتمعالمسلمين إذا شقي غيرهم بالغلظة والأنانية والجفاء، ورحمة الخلق سبب لرحمة الخالق، قال عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.." رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح بشواهده (1).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس"(2).
إن نزع الرحمة من علائم الشقاء كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "لا تنزع الرحمة إلا من شقي". حديث حسن أخرجه الترمذي وأبو داود (3).
__________
(1) "جامع الأصول": 4/515.
(2) السابق: 5/516.
(3) جامع الأصول: 4/516.(1/42)
وإذا كانت القسوة في خلق الأفراد دليل نقص كبير، فهي في تاريخ الأمم دليل فساد خطير، وهي علة الفسوق والفجور كما قال تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (الحديد:16).
أيها المسلم والمسلمة: إن أحدنا قد يهش لأصدقائه حين يلقاهم، وبكل تأكيد يرق لأولاده وأحبائه حين يراهم،وتلك جوانب من الرحمة، بيد أن المفروض في المؤمن أن تكون دائرة رحمته أوسع، فهو يبدي بشاشته، ويظهر مودته واحترامه لعامة المسلمين (1).
فالمؤمنون إخوة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأقرب الناس منزلة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاسنهم أخلاقاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير في من لا يؤلف.
بل شملت الرحمة في الإسلام الحيوان فضلاً عن الإنسان، فقد شكرا الله وغر للرجل أو المرأة البغي الذي سقى الكلب الذي كان يأكل الثرى من العطش. متفق عليه (2). ودخلت النار امرأة بسبب هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. متفق عليه (3).
وإذا انتكست الفطر سحق الإنسان، وبات يحوم حول المزابل بحثاً عن طعام أو شراب، أو شلت أعضاؤه من ويلات الحروب وقنابل الدمار، هذا إن كان في عداد الأحياء. وباتت القطط والكلام مدللة إلى حد الترف في المطعم والمشرب والمسكن، وملازمة لأصحابها في الحل أو الترحال، وأين هذا والرحمة في شريعة الإسلام؟
أيها المؤمنون: وليس من الرحمة في الإسلام ترك الأدب لمن به حاجة إليه، حتى وإن بدا فيه قسوة على المؤدب ظاهراً.
__________
(1) الغزالي "خلق المسلم" 255. وفي هذا الكتاب كلام جميل عن الرحمة، وقد استفدت منه في هذه الخطبة.
(2) جامع الأصول: 4/523.
(3) جامع الأصول: 4/525.(1/43)
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
وليس من الرحمة تعطيل حدود الله على من يقترف محظوراً يستحق العقاب: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } (النور: من الآية2).
ومن بلاغة القرآن أن عبر عن قتل القصاص بالحياة لما في ذلك صيانة الأحياء واستمرار الحياة: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:179).
إن الرحمة يا عباد الله – في الإسلام – ليست حناناً لا عقل معه، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا إنها عاطفة متزنة ترعى الحقوق كلها وتقيم وزناً لمصلحة الفرد والمجتمع والأمة… وبهذه وتلك فاقت رحمة الإسلام كل رحمة، وانتشر صيت رحمة المسلمين في الآفاق، ودخلت أمم في الإسلام لم يقهرها السيف، ولم يستهوها الدرهم والدينار – لكنها القناعة بشريعة الإسلام والإعجاب بأخلاق المسلمين… على حين أفلست الحضارة المادية المعاصرة رغم تشدقها بالعبارات الخادعة، لم يشفع لها بريق الهيئات والمنظمات الكاذبة… فحقوق الإنسان. ومنظمات العدل الدولية، وهيئات الأمم… وما شاكلها، كل هذه وتلك عند واقع الحال وحين يتعلق الأمر بالمسلمين بالذاب، ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد؟
وما أحوج الدنيا إلى شرع السماء وهدي الأنبياء، وتلك مسؤولية المسلمين شعوباً وحكومات: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } (الرعد: من الآية17).
اللهم أصلح أحوال المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً.
اللهم هب لنا من رحمتك ما تصلح به أحوالنا في الدنيا، وترحمنا يوم العرض عليك في الآخرة؛ فأنت أرحم الراحمين.(1/44)
وصايا لقمان وسنن وبدع شعبان (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
فأما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن تقوى الله أقوم وأقوى، وهي للخير قائد ودليل، وعن الشر سياج منيع، هي وصية الله لكم فاعقلوها واعملوا بها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/8/1418هـ.(1/45)
أيها المسلمون: وفي وصايا لقمان الحكيم متسع للحديث، وفيها عبر ودروس للأبناء والآباء. وحين مضى التعريف بلقمان، ووصيته لابنه بالبعد عن الشرك بالله لعظيم خطره، وتنبيهه لمراقبة الله، وبيان شيء من قدرته، فلا يزال لقمان يوصي ابنه بإقامة الصلاة: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة } (لقمان: من الآية17) والصلاة صلة بين العبد وخالقه، وفيها عون للمرء على حوائج دينه ودنياه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة } (البقرة: من الآية153)، ولم تكن الوصية بالصلاة قصراً على الحكماء، بل أوصى بها الأنبياء، وأمر بها المرسلون عليهم السلام: { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } (مريم: من الآية31)، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } (الانبياء:73)، { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (الكوثر:2).
وأمر بها المرسلون أهليهم وأممهم: { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } (مريم:55)، { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } (طه: من الآية132).
وفي ساحات الوغى لم يعذر المسلمون بترك الصلاة، بل نزل تشريع صلاة الخوف، ثم قيل لهم: { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } (النساء: من الآية103).(1/46)
أيها المسلمون: ويبلغ الاهتمام بالصلاة عند عباد الله الصالحين إلى درجة تنحر الجياد من الخيل، إذا ألهت عن الصلاة في وقتها، ولو كان عددها كثيراً، ولو كان الهدف منهاجليلاً، وكذلك أثنى الله على سليمان – عليه السلام – وأعاضه عن الخيل بالريح المسخرة، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غذواً ورواحاً (1).
أيها المتكاسلون عن أداء الصلاة في وقتها، اسمعوا ثناء الله على سليمان – عليه السلام – بشان الصلاة: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ " فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } (صّ: من الآية 30-33).
واستمر للصلاة وزنها وقيمتها عند الأخيار على تعاقب الأجيال، واعتبرها العلماء ميزاناً لأخذ العلم عن الرجال أو تركه، وهذا أبو العالية الريحاني العالم الثقة كان يرحل لسماع الحديث عند بعض أهله، فإذا وصل إلى صاحب الحديث أخذ يتفقد صلاته، فإن وجده يحسن صلاته أقام عنده، وإن وجد فيه تضييعاً رحل ولم يسمع منه وهو يقول: من ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع (2).
عباد الله: ولقد أوصى لقمان ابنه بإقام الصلاة، وليس مجرد أدائها وإقامتها، أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها (3).
__________
(1) تفسير القرطبي: 15/196.
(2) أبطال ومواقف، عقيلان: 192.
(3) تفسير ابن كثير: 3/710.(1/47)
والويل لمن هم عن صلاتهم ساهون: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } (الماعون: من الآية 4-5)، والحذر الحذر يا عبدالله أن تكون ممن قال الله فيهم: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً } (مريم: من الآية 59-60)، وليس من الرحمة للأبناء ضعف أمرهم بالصلاة، إذ كانوا نائمين – أو كان الجو بارداً، أو الليل قصيراً.
أيها المسلمون: وحين يبلغ لقمان في وصيته لابنه هذا المبلغ فيربيه على عدم الإشراك بالله، وعلى دوام المراقبة والخوف من الجليل ودوام الصلة والعبادة… فهو لا يقصره على ذلك، بل يعلمه نشر الخير للآخرين ويقول له: { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَر } (لقمان: من الآية17)، وكذلك تربى النفوس على حب الخير والدعوة إليه، وكذلك أثنى الله على هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: من الآية110).(1/48)
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحقق الفلاح للآمر والمأمور، وتصفان سفينة المجتمع من الغرق، هو علامة خير، ودليل الإيمان، وهو مؤشر للغيرة على دين الله وحرماته، والذين يرون المنكرات تسري في المجتمعات، فلا تتمعر وجوههم لله… أولئك في إيمانهم ضعف، وفي إحساسهم نوع من التبلد، والذين بإمكانهم أن يشيعوا الخير ويأمروا بالمعروف ثم لا يفعلوا، أولئك محرومون من فضل الله، فالكلمة الطيبة صدقة، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، ولئن اختص الله بهداية القبول والتوفيق للخير، فهداية الدلالة والإرشاد بوسع البشر أن يؤدوها، ولولا ذلك لتعطلت نصوص الشرع في الأمر والنهي والدعوة والجهاد في سبيل الله، فصححوا الفهم الخاطئ، وفرقوا بين هداية التوفيق والقبول، وهداية الدلالة والإرشاد.
إخوة الإيمان: وإذا تعاظم أجر الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين للخير والناهين عن الشر… فذلك أمر لا تطيقه بعض النفوس لأنه محتاج للصبر والمصابرة على التواء النفوس وعنادها، وانحراف القلوب وإعراضها، ويقل من الناس من يصبر على الأذى، تمتد به الألسنة، وربما امتدت به الأيدي، أو يصبر على الابتلاء في المال أو النفس أو الأهل والولد عند الاقتضاء..
ولهذا لم ينس لقمان وصية ابنه بالصبر على ما يصيبه في طريق الخير: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } (لقمان: من الآية17).
ويخطئ الذين يظنون أن بإمكانهم أن يدعوا للخير وينهوا عن الشر ثم تسم أعراضهم… أولا يصيبهم ضر في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم، أو مصالحهم المادية بعامة… وإذا لم يسلم الأنبياء والمرسلون فغيرهم من باب أولى… وصدق الله: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (العنكبوت: من الآية 2-3).(1/49)
ولكن عزاء الصابرين على الدعوة للخير أن العاقبة حميدة، فالعاقبة للمتقين، كما حكم ربنا، وأن ذلك من عزم الأمور كما قال تعالى في وصايا لقمان: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان: من الآية17).
قال ابن عباس في تأويل ذلك: يعني من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره (1).
أيها الداعي للخير: وإذا أردت أن تروض نفسك على هذا الطريق فاقرأ قوله تعالى: { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:52)، وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(2). متفق عليه.
ولكن ذلك لا يعني بحال أن تعرض نفسك للبلاء فوق ما تطيق أو تستحمل الخطأ، أو تذل نفسك، فقد نهى عن ذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه: يتعرض للبلاء ما لا يطيق" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن حذيفه بسند صحيح (3).
عباد الله: ولا بد مع الصبر على المكاره من عد الكبر والخيلاء، وتلك واحدة من وصايا لقيمان لابنه، فالدعوة للخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم للخير، ومن باب أولى أن يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل (4).
__________
(1) تفسير القرطبي: 14/69.
(2) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء: 6/514، مسلم، كتاب الجهاد والسير غزوة أحد: 3/1417.
(3) صحيح الجامع: 6/253.
(4) الظلال: 5/2790.(1/50)
{ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } (لقمان:18). أي: لا تتكبر فتحتقر عباد الله أو تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك (1)، ولا يظهر في مشيتك الكبر والخيلاء… وتذكر أن بدايتك من ماء مهين، وأنك مهما بلغت من الجاه والسلطان، واجتمع لك من الأموال والأولاد فنهايتك إلى التراب، وقد قيل: أن القبر يكلم صاحبه إذا وضع فيه ويقول: يا ابن آدم ما غرك بي، ألم تعلم أني بيت الوحدة، ألم تعلم أني بيت الظلمة، ألم تعلم أني بيت الحق. يا ابن آدم ما غرك بي، لقد كنت تمشي حولي فداداً – والمعنى: ذا مال كثير وذا خيلاء.
فهل يتكبر العقلاء الذين يتذكرون المبدأ والمنتهى؟
ألا إن في آيات الذكر عبرة… وفي وصيا لقمان عظة… { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } (الاسراء:97).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله..
الخطبة الثانية
الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/710.(1/51)
عباد الله: وحين ينهى لقمان ابنه عن التكبر والخيلاء في الهيئة أو المشية، وفي التعامل مع الناس أو تعاظم النفس وغرورها وعجبها، فهو يأمره بالاعتدال في مشيه والقصد فيه: { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِك } (لقمان: من الآية19)، والمعنى: امش مشياً مقتصداً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، ومشية متواضعة، هي وسط بين مشية المرح والبطر والتكبر، ومشية التماوت والتباطؤ، فالمشية المحمودة وسط بين مشيتين مذمومتين، وعلى المربين أن يعوا هذه اللفتة التربوية، فيمنعون ما يحرم، ويقدمون البديل الحلال، كما أن عليهم نزع الخلق المذموم قبل إعطاء البديل المحمود، فالتخلية قبل التحلية كما يقال.
أيها المسلمون: ولا ينسى لقمان – في وصاياه لابنه – أن يعلمه أدب الحديث إذا نطق: { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } (لقمان: من الآية19)، والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعق أو يغلظ في الخطاب – دون حاجة – إلا سيء الأدب، أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق (1).
وحتى يقبح رفع الصوت ويستهجن إغلاظه يضرب لذلك مثل تشمئز منه النفوس، إنه صوت الحمار: { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان: من الآية19)، فعلو صوت الحمار لم يحسنه بل قبحه وشانه، ولذلك ينبغي أن يخفض العقلاء أصواتهم حين حديثهم… وما من شك أن الكلمة الطيبة تبلغ مبلغها وينفع الله بها – وإن كانت هادئة – والكلمة الخبيثة تضل وتسيء وإن بالغ أصحابها في رفع أصواتهم،… وإذا عد في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجالس الكرماء… أفيليق التشبه به برفع الصوت في النطق، ذلك توجيه ينبغي أن يعيه الآباء والأبناء.
__________
(1) الظلال: 5/2790.(1/52)
وبعد: - أيها المؤمنون – فهذه وصايا نافعة جداً، وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم ليتمثلها الناس ويقتدوا بها كما قال الحافظ ابن كثير (1).
ألا ما أحوج الآباء والمربين إلى الوقوف عندها طويلاً لفهمها والعمل بمقتضاها، وخليق بمن أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها – وخليق بالعقلاء أن يستفيدوا من حكم الحكماء… كيف لا وقد أصبحت قرآنا يتلى، وتوجيهاً إلهياً… فهل يعقل الآباء هذه الوصايا… وهل يستفيد الأبناء منها، ذلك هو المؤمل والمرتجى، والله من وراء القصد.
أيها المسلمون: وأنتم تعيشون شهر شعبان، فيحسن التذكير بشيء مما جاء فيه عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
فقد كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - كثرة الصيام في شعبان. فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم شهراً أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله…"(2).
وأخرج النسائي – بسند حسن – من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله: لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان قال: "ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"(3) ولمزيد توضيح ذلك قال ابن القيم يرحمه الله في "تهذيب السنن":
وفي صومه - صلى الله عليه وسلم - شعبان أكثر ممن غيره ثلاث معان:
أحدهما: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شغل عن الصيام أشهراً، فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض.
الثاني: أنه فعل ذلك تعظيماً لرمضان، وهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيماً لحقها.
__________
(1) التفسير: 3/735-737.
(2) جامع الأصول: 6/317.
(3) جامع الأصول: 6/319، الصحيح المسند من أحكام الصيام: 37.(1/53)
الثالث: أنه شهر ترفع فهي الأعمال، فأحب - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع عمله وهو صائم، ثم يقول: والحديث يدل على فضل الصوم في شعبان. وقول عائشة: "وكان يصوم شعبان كله" المراد بالكل: أكثره، كما جاء في الرواية الأخرى: "كان يصوم شعبان إلا قليلاً".
إلى أن يقول: ولا تعارض بين هذه الأحاديث، وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وحديث: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" وهو حديث على شرط مسلم، بأن يحمل النهي على من لم تكن له عادة في الصيام من أول شعبان، فجاء النصف الثاني وأراد أن يصوم هذا في التطوع، أما إن كان عليه قضاء أو نذر فيجوز له القضاء ولو بعد النصف الثاني.
وأحاديث الجواز تحمل على من اعتاد الصوم من أوله، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : "إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه" متفق عليه. انتهى كلامه يرحمه الله (1).
أيها المؤمنون: وحتى لا تختلط السنة بالبدعة، فلا بد من الحذر من تخصيص يوم النصف من شعبان بالصيام، أو الاجتماع ليلة النصف منه للصلاة، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية يرحمه الله:
"فأما صوم يوم النصف مفرداً فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسماً تصنع فيه الأطعمة، وتظهر فيه الزينة، هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها، وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية – هي التي تقرأ فيها بـ:"قل هو الله أحد" ألف مرة – في المساجد الجامعة، ومساجد الأحياء والدروب والأسواق، فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة قصيرة بزمان وعدد وقدر من القراءة لم يشرع مكروه، فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أ هل العلم بالحديث… إلى آخر كلامه يرحمه الله (2).
__________
(1) تهذيب السنن: 7/99، "عون المعبود عن الصحيح المسند من أحكام الصيام" محمد السلفي: 36.
(2) في الاقتضاء: 2/632.(1/54)
والشيخ يرحمه الله، قبل ذلك أبان عن فضل ليلة النصف من شعبان… ومن كان من السلف يخصها بالصلاة، ومن كان يكره ذلك ويطعن في الأحاديث الواردة فيها… ثم قال: لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد (1)…
ألا فاستمسكوا – عباد الله – بالهدي والسنن، واحذروا البدع ومحدثات الأمور… فإن كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار… وفي السنن كفاية عن البدع… والشيطان حريص على ابتداع المبتدعين… وربما نشطهم لها ويثبطهم عن اتباع السنة… وليس يخفى أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً… وإياكم والتعبد محاكاة وتقليداً… فمن عمل عملاً ليس عليه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو رد… والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً… اللهم وفقنا لاتباع السنن، وهجر البدع – واسلك بنا السبيل الهداة المهتدين، وجنبنا طرائق الضالين المضلين.
الحسبة والمحتسب (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وتابعيهم لهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب:71).
__________
(1) الاقتضاء: 2/631.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/6/1419هـ.(1/55)
عباد الله: ثبت من حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمة متممة لسبعين أمة قبلها… وهي خيرها: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل".
ولكن هذه الخيرية بشروط ومواصفات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقدمتها، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه } (آل عمران: من الآية110).
وفي موطن آخر من كتاب الله، قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عمود الإسلام الصلاة، وأعظم ركن بعد الشهادتين، وعلى الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام، فقال تعالى في وصف المؤمنين: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (التوبة:71)، فما السر؟ ما المعنى يا ترى في تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة على الإيمان، وتارة على الصلاة والزكاة ونحوها؟
قال سماحة الشيخ ابن باز يحفظه الله: لا شك أنه قدم لعظم الحاجة إليه، وشدة الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمة ويكثر فيها الخير، وتظهر فيها الفضائل، وتختفي فيها الرذائل… وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت… ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل (1).
__________
(1) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص4، نشر دار طليطلة.(1/56)
أيها المسلمون: ولا غرو بتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هما شاملان للدعوة لكل خير، والتحذير من كل شر، وذلك أساس دعوة الرسل، ولأجله أنزلت الكتب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله (1).
وجاء النص عليه في وصف رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث } (لأعراف: من الآية157).
إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين، وتظهر أعلام الشريعة، وتغشو أحكام الإسلام، وبارتفاع سهمه يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، يورث القوة والعزة في المؤمنين، ويذل أهل المعاصي والأهواء، وترغم أنوف المنافقين.
قال سفيان رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق"(2).
يا عباد الله: وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتميز أهل الإيمان عن المنافقين، فمن سيما المؤمنين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (التوبة: من الآية71)…
ومن علامات المنافقين والمنافقات: أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } (التوبة: من الآية67).
__________
(1) الاستقامة: 2/198-199.
(2) صالح بن حميد، توجيهات وذكرى: 1/46.(1/57)
إياك يا أخا الإيمان أن تخرج عن دائرة المؤمنين بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا يقول الغزالي: فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين (1).
وإياك أن تظن أن ترك الأمر والنهي من الكياسة والبعد عن الفضول، فتلك من عدوى مخالطة أهل النفاق لأهل الإيمان، وفي هذا يقول الإمام أحمد يرحمه الله: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله، فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً (2).
أيها المسلمون: وتتعاظم مسؤولية المسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلما تعاظم الفساد وكثر المفسدون، وكلما قل عدد المنكرين، أو ضعف أثرهم، أو كان حجم الشر والفساد فوق طاقتهم، أو تعجز عن الإحاطة به إمكاناتهم.
وإذا كان العلماء قد قرروا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه – كما نقل الجصاص وغيره (3).
فقد قرروا كذلك أنه فرض على الكفاية – إذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين.
__________
(1) ابن حميد، ذكرى: 1/46.
(2) ابن حميد، ذكرى: 1/47.
(3) أحكام القرآن: 2/592، ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 4/171.(1/58)
وهنا يرد السؤال: وما الحكم إذا لم يقم بواجب الأمر والنهي من يكفي؟ لقد قرر أهل العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتحول إلى الوجوب العيني على كل فرد، ويأثم كل قادر عليه ولم يقم بواجبه، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: "فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه، أثم كل قادر بحسب قدرته، إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته"(1)… ويقول سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز يحفظه الله: وقد يكون هذا الواجب فرض عين على بعض الناس إذا رأى المنكر وليس عنده من يزيله غيره… وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحد وجب عليه عيناً أن يعلم الناس ويدعوهم إلى الله، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حسب طاقته (2)…
يا أخا الإسلام: ولست أغير من الله على شرعه ومحارمه… ولكنك ممتحن في غيرتك لشرع الله ودينه حين ترى منكراً يسيري بين الناس وأنت قادر على إزالته، أو ترى أصحاب منكر يتطاولون بمنكراتهم، ويفتنون الناس بباطلهم وأنت قادر على الإخبار عنهم إن لم تستطع نهيهم، هنا ينكشف إيمانك، وتمتحن غيرتك لدين الله وشرعه، فهل تنضم إلى قافلة المؤمنين الذين علمت أن من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم تلوذ بالمعاذير، وتبحث لنفسك عن المبررات، ثم ترضى لنفسك أن تكون في عداد موتى الأحياء، وقد قيل لابن مسعود - رضي الله عنه - : من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. ثم يعلق ابن تيمية على قول ابن مسعود بقوله: وهذا هو المفتون الموصوف بأن قلبه كالكوز مجخياً، كما في حديث حذيفة في "الصحيحين"(3).
__________
(1) الاستقامة: 2/208.
(2) وجوب الأمر بالمعروف: 15.
(3) الاستقامة: 2/208-209.(1/59)
أيها المسلمون: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبنا جميعاً – وكل بحسبه، إن في بلده، أو قريته، أو أسرته، أو أهله، فإن عجز عن ذلك كله، أو أعيوه ولم يستجيبوا له، فعليه أمر نفسه بالمعروف، ونهيها عن المنكر… ومن الخطأ الاعتقاد بأنه لا يأمر ولا ينهى إلا الكامل في نفسه، فقد قرر أهل العلم أنه لا يشترط في منكر المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلاً لكل أمرن مجتنباً لكل نهي،بل عليه أن يسعى في إكمال حاله، مع أمره ونيه لغيره، واستدلوا على ذلك بقله تعالى في بني إسرائيل: { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } (المائدة: من الآية79)، مما يدل على اشتراكهم في المنكر، ومع ذلك حصل عليهم اللوم علي ترك التناهي فيه.
وفي الحديث المتفق على صحته: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
يا أخا الإيمان: انج بنفسك من غضب الله وعقوبته بالأمر بالمعروف، وقول كلمة الحق، وفي الحديث الحسن قال - صلى الله عليه وسلم - : "ثلاث منجيات" وذكر منها: "وكلمة الحق في الغضب والرضا"(1).
وساهم في نجاة سفينة المجتمع من الغرق والعطب، وأنت خبير بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ودلالته، في مثل القائم بحدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها.
وكن من أهل رحمة الله وأولئك هم الآمرون الناهون الذين قيل عنهم: { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } (التوبة: من الآية71)، وما أسعدك وأطيب عيشك إن كنت من أهل الفلاح الذين قال الله عنهم: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران:104).
اللهم انفعنا بهدي القرآن وسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أقول قولي هذا وأستغفر الله…
الخطبة الثانية
__________
(1) صحيح الجامع الصغير: 3/65.(1/60)
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون: توبوا إلى الله جميعاً لعلكم تفلحون، وحاسبوا أنفسكم ومن تحت أيديكم من قبل أن تحاسبوا، ومروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، قبل أن يضرب الله قلوب بعضكم ببعض، ويرد عليكم دعاءكم، وتطلبون النصر فلا يستجاب لكم.
قال - صلى الله عليه وسلم - : "قال الله تعالى: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم".
وفي لفظ آخر من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم". رواه الإمام أحمد.
أيها العقلاء… أيها النبلاء: وكما أن مسؤولية الدعوة للخير، والتحذير من الشر، مسؤولية وشرف لنا جميعاً، فكذلك تحقيق الأمن ونزول البركات مسؤوليتنا جميعاً، وبالإيمان يتحقق الأمن، وبالإيمان والتقى تفتح بركات السماء، ذلك وعد غير مكذوب.
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام:82).
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (لأعراف:96).(1/61)
ومؤلم أن يتطاول المجرمون بنشر فسادهم، أو السخرية بمن يأمرهم وينهاهم، أو بنوع من الأذية لمن يحاول كشف أوكار فسادهم، وهنا لا بد من تكاتف الجهود، والشجاعة – دون تهور – في الأمر والنهي. والرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، والصبر مطلب رئيس في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقبل ذلك وبعده فلا بد من العلم بما يؤمر به وما ينهى عنه… والحلم على من يؤمر وينهى، وعدم الانتصار للنفس أو الغضب للذات، بل غيرة لدين الله وحرماته، وحرصاً على هادية الآخرين واستقامتهم، وعدم تجاوز منكرهم إلى غيرهم.
ولا بد كذلك من وازع سلطان وقوة حاكم يذل لسطوته المجرمون وينتصر للمظلومين، وقد ثبت عن عثمان - رضي الله عنه - : إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن النهي عن المنكر إقامة الحدود على من خرج من شريعة الله، ويجب على ولي الأمر – وهم علماء كل طائفة وأمراؤها ومشايخها – أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر.. إلى آخر كلامه يرحه الله (2).
__________
(1) ابن باز: وجوب الأمر بالمعروف.
(2) الاستقامة: 2/209.(1/62)
عباد الله: أما وازع القرآن فيملكه كل مسلم ومسلمة قادر على أن يأمر بالمعروف الذي جاء في القرآن، وينهى عن المنكر الذي نهى عنه، وإياكم أخوة الإسلام أ،ت خذلوا أنفسكم وتخذلوا رجال الحسبة، وذلك بزهدكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية كل مسلم ومسلمة – وكل بحسبه – والآثار المترتبة على ترك الأمر والنهي أو ضعفهما تلحق بنا جميعاً، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة للخيرن والتحذير من الشر وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهي باقية في عقبهم وأتباعهم إلى يوم الدين، هي من واجبات العلماء، والقضاة، والدعاة، وطلبة العلم، وهي من مسؤوليات رجالات الفكر والإعلام، وهي جزء من رسالة المدرس في مدرسته والموظف في وظيفته، والتاجر في متجره، وهي من الأمانة التي استرعى الله المسلم والمسلمة في بيوتهم وبين أبنائهم وبناتهم، وذوي رحمهم وجيرانهم… إنها استجابة لدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وهي علامة الإيمان ومؤشر للانضمام في حزب المؤمنين الذين قال الله في وصفهم: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر } (التوبة: من الآية71).(1/63)
إخوة الإيمان: وحين يكتمل وازع القرآن ووازع السلطان ينتشر الخير ويتوارى الشر، ويبلس المجرمون، وهاكم نموذجاً يتحقق فيه صدق الوازعين، وجرت أحداثه أيام الخليفة العباسي المعتضد، والقصة طويلة كما رواها ابن كثير (1)، وخلاصتها: أن أميراً تركياً من أعالي الدولة سطا على امرأة حسناء وتعلق بها ليدخلها في منزله وهي تصيح بأعلى صوتها: يا مسلمون أنا امرأة ذات زوج، وهذا رجل يريدني على نفسي، وقد حلف زوجي بالطلاق ألا أبيت إلا في منزله، فغلبها الأمير فأدخلها، فتحركت الغيرة عند رجل خياط، وكان إماماً لأحد المساجد، فقام فأنكر علىالجاني، فضربه الأمير التركي بدبوس شج رأسه به، فذهب الإمام وغسل الدم وصلى بجماعته العشاء، فأخبرهم الخبر، وطلب الذهاب إليه مرة أخرى، فخرجوا معه، فأخرج إليهم الأمير جماعة من غلمانه فأخذوا يضربون الناس بعصيهم ودبابيسهم، وقصد الجاني الإمام من بينهم فضربه ضرباً شديداً حتى أدماه – مرة أخرى – فجعوا وهم في غاية الإهانة.
__________
(1) البداية والنهاية: 10/101-103.(1/64)
يقول الإمام الخياط: فلما رجعت إلى منزلي وأنا منهك من كثرة الدماء وشدة الوجع، لم تغتمض عيني بنوم، وجعلت أفكر في وسيلة ثالثة استنقذ بها المرأة من ظالمها، فاهتديت إلى أن أذن لصلاة الفجر في منتصف الليل، حتى يظن الأمير أن الفجر قد طلع فيخشى الفضيحة ويخرج المرأة قبل الفجر، فبينا أنا كذلك، وإذا برجالات وشرطة المعتضد يحيطون بي، ويأخذوني إلى الخليفة، فلما وقفت بين يدي المعتضد – وأنا أرتعد من شدة الخوف – قال: أنت الذي أذنت في هذه الساعة؟ قلت: نعم، قال: فما حملك على هذا وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه، فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرهم، فقال: تؤمنني يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت آمن، فأخبره الخبر، فغضب الخليفة غضباً شديداً، وطلب إحضار الأمير والمرأة من ساعته، فبعث بالمرأة إلى زوجها، ثم أقبل على الأمير يسأله عن رزقه، وعدد جواريه وزوجاته، فذكر له شيئاً كثيراً، ثم قال له: ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله، وتجرأت على السلطان، ثم عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر، فضربته وأهننته وأدميته، فلم يحر الأمير جواباً، ثم أمر الخليفة به، فجعل في رجلة قيد وفي عنقه غل، وأدخل في جوالق، ثم أمر ب÷ فضرب بالدبابيس ضرباً شديداً حتى خفت، ثم أمر فألقي في دجلة، فكان ذلك آخر العهد به، ثم التفت الخليفة للرجل المحتسب وقال له: كلما رأيت منكراً صغيراً كان أو كبيراً – ولو على هذا – وأشار إلى صاحب الشرطة – فأعلمني، وإلا فالعلامة بيني وبينك بالأذان إن لم تجدني، فكان هذا الخياط بعد يرهب الأمراء بالتهديد بالأذان إن لم يسمعوا لأمره ونهيه.
أيها الناس: وإذا كان في هذه الحادثة درس في قوة وازع السلطان وأثره، ففيها درس وتسلية للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.(1/65)
ألا وإن من فضل الله علينا في هذه البلاد وجود جهاز للهيئات، وهي سمة تخص بلاد الحرمين دون سواها، وأملنا ورجاؤنا أن تبقى السمة باسمها ومسماها، يدعم رجالها، وتستحدث أجهزتها، وتوسع صلاحيتها، فرجالها مع رجال الأمن عيون ساهرة، دعمهم دعم لنا جميعاً، وضعف أدائهم تحيق آثاره المرة بنا جميعاً. اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أطفالنا ومسؤولية التربية (1) (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (النحل:78).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوحى إلى عبده فيما أوحى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخبر – وهو الصادق المصدوق – أن: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه". متفق عليه (2).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/6/1419هـ.
(2) مسلم: 2658.(1/66)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
أيها المسلمون: حديث اليوم عن فئة تملأ علينا بيوتنا، وتسر لأحاديثهم قلوبنا، نضيق بتصرفاتهم حيناً، ونستملح حركاتهم حيناً، حديث عن حبات القلوب، وفلذات الأكباد، وقرة العيون، ورياض البيوت، وبهجة الحياة.
إنهم أطفالنا، وهبة الرحمن لنا: { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } (الشورى: من الآية 49-50)، تعنى الشعوب كافة بأطفالها، وتعقد الأيام العالمية للطفل، ولكن يظل الإسلام متميزاً في عنايته بالطفل، وتبدأ العناي به قبل وجوده، فأمه تختار من ذوات الدين والنسب: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس".
وفي لقاء الزوج بالزوجة لإلقاء النطفة التي يشاء الله منها الطفل يحث على ذكر الله ودعائه بحفظ هذا المولود من كل مكروه، قال - صلى الله عليه وسلم - : "لو أن أحدهم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد، لم يضره الشيطان".
بل ويحث العقيم على ذكر الله والاستغفار والصدقة، وقد يشاء الله أن يكون ذلك لمجيء الوالد سبباً. روى أبو حنيفة في "مسنده"، عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما أنه جاء رجل من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما رزقت ولداً قط ولا ولد لي، قال - صلى الله عليه وسلم - : "فأين أنت من كثرة الاستغفار، وكثرة الصدقة ترزق بها" فكان الرجل يكثر الصدقة ويكثر الاستغفار، قال جابر: فوله له تسعة ذكور.(1/67)
قال ملا علي في شرح للحديث: "ولعله مقتبس من قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } (نوح: من الآية 10-12) (1).
إخوة الإسلام… وهؤلاء الأطفال الذين يمثلون البراءة وترسم على وجوههم وحركاتهم إشراقة الفطرة الربانية، ماذا صنعنا لهم بعد وجودهم؟ ما هي أخطاؤنا معهم؟ وكيف واقعنا وإياهم، وما هي أنسب الطرق وأفضل الوسائل لتربيتهم؟
إن الطفل ببراءته ونقائه لوحة نظيفة يكتب فيها المربون ما شاؤوا، ولكن ما يكتب اليوم له أثره في مستقبل الطفل غداً… ومن هنا يأتي خطؤنا أحياناً في عدم تقدير النظرة للطفل، فضلاً عن الكلمة، أو السلوك أمام الأطفال بشكل عام…
وما من شك أن هذه النظرة أو الكلمة التي وجهناها للطفل، أو السلوك الذي تعاملنا به معه تظل كلها عالقة في ذهنه، وذات أثر في سلوكه فيما بعد.
ومن أخطائنا – مع أطفالنا – أننا نعنى كثيراً بشكلهم الظاهر، ونوفر لهم أنواع الملابس وأصناف الطعام، وننزعج للمرض يصيب أبدانهم. ويضعف اهتمامنا بتهذيب نفوسهم، وإصلاح قلوبهم، والعناية بأخلاقهم ومتابعة أدبهم، وينشأ عن هذا وذاك نشأتهم معظمين للشكليات، مهتمين بكماليات الحياة، وفهيم ضعف ظاهر في تقدير القيم، وعلوا الهمم، وخوض غمار الحياة مع الحفاظ على محاسن الأخلاق، وجميل السلوكيات.
__________
(1) شرح مسند أبي حنيفة لملا علي، ص587، منهج التربية النبوية للطفل: محمد نور سويد: 47-48.(1/68)
ومن أخطائنا قلة الأوقات المخصصة للجلوس مع الأطفال، وإذا قدر لنا الجلوس فدون برامج مدروسة، وربما غابت أهداف التربية أو عدمنا الوسيلة المناسبة للتربية… ولو أن المربي أو المربية في كل جلسة علموه أدباً، أو حفظوه آية، أو نبهوه إلى خطأ، أو علموه ما يجهل، بأسلوب مناسب، وبقليل من الوقت – لتشكل من ذلك رصيد نافع لهذا الطفل يدعوه للمكارم ويحفظه من المزالق بإذن الله.
وإذا كان هذا من أخطائنا في البيوت؛ فخطأ المدرسة مع الطفل إنما يكون حين تركز على تلقيته المعلومات تحفيظاً، وتقلل من ممارسته لما حفظ سلوكاً عملياً، فيظل الطفل يحفظ ذهنياً، ويمارس سلوكياً غير ما حفظ، وربما حفظ في الصفوف الأولى ما لم يمارسه إلا في الصفوف الأخيرة من الرحلة الابتدائية، وبهذه الطريقة التلقينية المجردة تضيع أو تضعف القيمة التربوية للتعليم، ويتركز الهدف أكثر على النجاح أو الرسوب.
ومن أخطائنا في التربية وعلاج مشكلات الأطفال أننا ننظر إليهم أحياناً على أنهم كبار، يدركون الخطأ ولكنهم يقصدون العناد؛ وبالتالي نحتد في النقاش معهم، ونشتد في ضربهم، وليس كل مخالفة للوالدين، أو خروج عن الأعراف السائدة في المجتمع من قبل الأطفال عنوان شر ورمز شقاوة، بل قد تكون من علائم النجابة مستقبلاً، وفي "نوادر الترمذي": "عرام الصبي نجابة" أي: شدته وشراسته، وفي رواية: "عرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره"(1).
ومن أخطائنا: الاستهانة بنوع الرفيق لهم في مرحلة الطفولة، فقد يرافقون من يبدأ الطفل خطوات الانحراف الأولى برفقتهم، وقد نجهل أن هذا الرفيق يهدم ما نبني، أو يبني ما نهدم.
__________
(1) الطفل المثالي في الإسلام، عبدالغني الخطيب: 129.(1/69)
ومن أخطائنا: ضعف همتنا في تربية أطفالنا على النماذج العالية للأطفال؛ أو عدم قدرتنا على مواصلة التربية حتى يكونوا رجالاً، ومما يشحذ الهمم أن نتصور أن هذا الطفل الضعيف اليوم قد يكون من أفذاذ الرجال غداً… أو تكون هذه البنية المسكينة اليوم من خيار النساء غداً، فلا تأسف على جهد بذلته، ولا تحقرن طفلاً لطفولته، وإذا قرأت في سير العظماء فتيقن أنهم مروا بمرحلة الطفولة حتماً.. ولكن طفولة العظماء، والعناية بهم تنتج – بإذن الله – رجالاً أو نساء عظماء، ويحدثنا الإمام الشافعي رحمه الله عن طفولته ويقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت "الموطأ" وأنا ابن عشر (1).
ونقل الغزالي قول سهل بن عبدالله التستري عن نفسه؛ قال: فمضيت إلى الكتاب، فتعلمت القرآن وحفظته، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين (2).
وأين الأمهات من أم أنس بن مالك - رضي الله عنه - والتي ما فتئت أمه تعلمه وتربيه حتى دفعته وهو صغير للنبي - صلى الله عليه وسلم - لتكتمل على يديه - صلى الله عليه وسلم - تربيته ويحسن تعليمه؟
بل أين الأمهات من تلك المرأة التي دفعت إلى ابنها يوم أحد السيف فلم يطق حمله، فشدته على ساعده بنسعه، ثم أتت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله: هذا ابني يقاتل عندك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أي بني: احمل هاهنا، أي بني احمل هاهنا" فأصابته جراحة فصدع، فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أي بني لعلك جزعت؟" قال: لا يا رسول الله (3).
__________
(1) السيوطي: طبقات الحفاظ ص154، بناء شخصية الطفل المسلم: محمد عثمان جمال: 150.
(2) الإحياء: 3/72.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي، ورد في "كنز العمال" وانظر: محمد عثمان جمال، بناء شخصية الطفل المسلم: 50.(1/70)
والنماذج في هذا أكثر من أن تحصى، وهي شاهدة على همم الأطفال، وأثر تربيتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } (الفرقان: من الآية74).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها الآباء وأيتها الأمهات: وأنتم أصحاب المسؤولية الأولى في تربية الأطفال وتنشئتهم على الخير، وكذلك حملكم الإسلام الأمانة وأنتم مسؤولون عن رعايتها في بيوتكم، وخصكم نبي الهدى والرحمة بالحفاظ على فطرة الله التي فطر الأطفال عليها، وتأملوا في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". إذ ليس فيه ذكر للإسلام، فلم يقل: أو يسلمانه، لأن الإسلام هو الأصل، وهو فطرة الله، وعمل الآباء والمربين إنما ينحصر في الحفاظ على هذه الفطرة سليمة نقية، وفي صقلها وتفجير طاقات الخير، وينابيع الإبداع في أعماقها (1).
ويؤخذ من الحديث كذلك أن اتجاه الطفل الفكري والخلقي والاجتماعي متأثر أولاً وقبل كل شيء ببيئة الوالدين وأفكارهما، وأخلاقهما، وأساليب تربيتهما (2).
__________
(1) الصباغ، أطفالنا: 10.
(2) الخطيب، الطفل المثالي في الإسلام: 123.(1/71)
فهل يقدر الأبوان عظم المسؤولية، ويعرفونهم بالإسلام على حقيقته، ويجنبونهم كل ما يخالف الإسلام؟ أو يبعدهم عن صفاته وسمو مبادئه؟ ألا وإن القدوة مهمة بكل حال، والإسلام ينهى عن مخالفة الأفعال للأقوال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُون * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } (الصف: من الآية 2-3)، والقدوة مع الأطفال من أمضى وسائل التربية، والطفل يجيد التقليد والمحاكاة، وحق على المربين أن يكونوا قدوة صالحة، وليحذروا أن تقع أعين الأطفال منهم على قبيح من القول أو منكر من الأفعال، قال عقبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: وليكن أول ما تبدأ به إصلاح بني: إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت (1).
أيها الآباء والمربون: أيتها الأمهات والمربيات: عودوا الأطفال على الخير فهم يعتادونه، وعلموهم ما ينفعهم فهم يسمعونه. قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - : "عودوهم الخير، فإن الخير عادة".
وأول ما ينبغي تعليمهم إياه كتاب الله منذ نعومة أظفارهم. قال السيوطي: تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام فينشؤون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها، وسوادها بأكدار المعصية والضلال (2).
وما أجمل المربي والمربية وهم يفتحون أذهان الناشئة على عظمة الله والخوف منه، من خلال صفحة الكون وآيات الله الباهرة في الأنفس والآفاق، وبالأسلوب المناسب للطفل… ثم يتدرجون معهم إلى تعليم أركان الإٍسلام، وبعض الواجبات والمستحبات والآداب النافعة في الأكل والشرب والتحية، وفي حال النوم واليقظة، وما فيهما من أذكار وأوراد مستحبة.
__________
(1) الصباغ، أطفالنا حبات القلوب: 53.
(2) بناء شخصية الطفل في الإسلام: 12.(1/72)
فإذا بلغ الطفل سبع سنين أمر بالصلاة تدريباً له على الخير، وربطاً له بالمسجد، وتعريفاً له وتأليفاً مع جماعة المسلمين، ويضرب على التهاون بها إذا بلغ العشر، ويفرق فيها بين الذكر والأنثى في المضاجع، إبعاداً لهم عن الريب، وصوناً لهم من الانحراف، وقد يتهاون البعض بهذه الآداب الإسلامة المشروعة، وقد يظهر آثار التهاون عليه فيما بعد، وقد صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع" حديث حسن أخرجه أحمد والحاكم وأبو داود (1).
ومن هدي السلف تدريب أطفالهم على الصيام، وربما حجوا بهم وهم صبيان، ومما ينبغي أن يعلم أن الأطفال يستجيبون للتعلم والتأديب بشكل عام مع الحوافز المشجعة، والوعود الصادقة بالمكافأة – وإن كانت يسيرة – كما يستجيبون للحكايات والقصص، وقد تؤثر فيهم أسرع من غيرها، وعلى المربي أن يختار القصة ذات الهدف التربوي ويستثمرها في توجيه الأطفال.
وإذا امتلأ كتاب الله بذكر قصص السابقين لأخذ العبرة منها، والتسلية بأحداثها، فلا شك أن للقصص أثراً في صياغة عقل وسلوكيات الأطفال، وقد قال بعض العلماء: "الحكايات جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه"، وشاهده من كتاب الله قوله سبحانه: { وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (هود:120).
ويروى عن أبي حنيفة رحمه: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب غلي من كثير من الفقه، لأنها آداب القوم، وشاهده من كتاب الله قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام: من الآية90)(2).
__________
(1) صحيح الجامع الصغير: 5/207.
(2) منهج التربية النبوية للطفل: محمد نور سويد: 329.(1/73)
أيها المربون، أيتها المربيات: وكم نغفل عن هذا الجانب التربوي مع الأطفال، وفي سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو سير الأنبياء السابقين ماله أعظم الأثر في تربية الأطفال على الفضلية والخير، وكذا سير العلماء والصالحين، أو سير الآباء والأجداد.. والمهم أن تصاغ بأسلوب يفهمه الطفل، وأن يعلق على القصة الموردة بما ينتفع به الطفل من أمر أو نهي أو توجيه.
ولا شك أن اختيار الوقت المناسب للتوجيه مهم بكل حال، ولا سيما مع الأطفال، ففي حال الركوب والأسفار، وحين تنفتح نفسية الطفل للطعام والشراب، أو حين يقعده المرض فتجتمع له سجية الطفل ورقة القلب بالمرض – فهذه الحالات وأمثالها حرية بقبول الطفل للتوجيه أكثر من غيرها، وينبغي للمربين أن يستثمروها، وفي سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يؤكد حسن اختيار الوقت للتوجيه والدعوة، فقد روى البخاري عن أنس - رضي الله عنه - ؛ قال: كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض الغلام فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعده عند رأسه فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم الغلام فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار".
أرأيت كيف اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الوقت المناسب لدعوته، مع إمكانية الدعوة قبل ذلك…
عباد الله: وهناك أساليب أخرى في تربية الأطفال… وهناك محاذير ينبغي أن نتنبه لها، وأمور أخرى تتعلق بالأطفال أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.
أسأل الله أن يصلح نياتنا وذرياتنا… وأن يغفر زلاتنا، ويعيننا على تربية أنفسنا وأبنائنا.
أطفالنا ومسؤولية التربية (2)(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له…
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/6/1419هـ.(1/74)
إخوة الإسلام: وحديث اليوم استكمال لحديث قبله عن أطفالنا، ومسؤولية التربية، وما يقع من أخطاء في تربيتهم، وتنبيهات ومحاذير، أرجو الله أن ينفعنا بها جميعاً، والدين وأولاداً.
وكيف لا نعنى بمثل هذه الأمور مع أطفالنا، وعناية الإسلام بالطفل سبقت وفاقت غيرها من النظم والقوانين البشرية، وإن أعجب البعض منا بالنظريات الحديثة الوافدة.
أجل؛ إن الصلاة المفروضة تخفف لبكاء الأطفال رحمة بهم وبأمهاتهم، يقول عليه الصلاة والسلام: "إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجور في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه ببكائه". متفق عليه (1).
وتفطر الحامل والمرضع إذا خشيت الضرر على أطفالهما، ويرجأ القصاص عن الحامل حتى تضع حملها، والمؤودة تسأل بأي ذنب قتلت؟ ثم إن ختانه، واختيار اسمه، والعق عنه، إلى غير ذلكم من أحكام وضعها الإسلام حماية للأطفال قبل أو بعد ولادتهم.
عباد الله: وكيف لا نعتني بهؤلاء الأطفال صغاراً، وهذه العناية بإذن الله سبب للانتفاع بهم كباراً، وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم اقنطع عمله إلا من ثلاث" وذكر منها ولداً صالحاً يدعو له، علماً بأنه لا مفر من المسؤولية: "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
وإذا كان للوالدين حقوق مشروعة، فعليهم واجبات ومسؤولية، ولئن قيل للأولاد: { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } (الاحقاف: من الآية15)، فقد قيل للآباء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة } (التحريم: من الآية6)، قال مقاتل في معنى هذه الآية: أن يؤدب المسلم نفسه وأهله فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر (2)، بل قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده.
__________
(1) صحيح الجامع الصغير: 2/324.
(2) منهج التربية النبوية للطفل: 26.(1/75)
ويؤكد ابن القيم رحمه الله على أهمية تربية الأولاد، وأثر إهمالهم مستقبلاً فيقول في (تحفة الودود): فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائد الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً…
ويقول الغزالي: فالصبي إذا أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً حسوداً سروقاً، نماماً، ذا فضول، وضحك وكياد مجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب.
أيها المربون والمربيات: وإذ سبق الحديث عن بعض وسائل تربية الأطفال كالقدوة، وتعويد الخير، وتعليم ما ينفع مباشرة، أو عن طريق القصة الهادفة أو الحكايات المفيدة، وتحين الفرص المناسبة للتوجيه، وإشعار الطفل بعظمة الله من خلال التأمل في مخلوقاته، وكل ذلك يندرج تحت بناء العقيدة وتحبيب الطفل للعبادة والخير، فهناك تربية إجتماعية للأطفال، ومن وسائلها: حضورهم مجالس الكبار للاستفادة من أحاديثهم ورصيد تجاربهم، وإرسالهم لقضاء الحاجات لتدريبهم على شؤون الحياة، وإعطائهم الثقة مع المراقبة والتوجيه، وإياك أيها المربي أن تكف الطفل عن الكلام كلما هم بالحديث والتعبير عن وجهة نظره، وإياك أن تزجره إذا رغب في الجلوس مع الكبار، فينشأ الطفل رعديداً يفر من كل غريب، ويتخوف من كل قادم، وفي أخبار الصفوة ما يفيد حضور الغلمان مجالس الشيوخ، بل واستئذانهم في حقوقهم، وهذا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بشراب فيشرب منه، وعن يمينه غلام قيل هو ابن عباس، وعن يساره أشياخ، فلما شرب استأذن الغلام في أن يعطي الأشياخ قبله، فلم يأذن الغلام وهو يقول: لا والله يا رسول الله؛ لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فأعطاه أياه وتله في يده. (متفق عليه).(1/76)
وابن عمرض - رضي الله عنه - يحضر مع أبيه وكبار الصحابة مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شجرة تشبه المسلم، فيخوض الصحابة في عدد من الشجر، ليست هي، ويتبادر إلى ذهن الغلام أنها النخلة (وهي كذلك) فما يمنعه من الحديث إلا الأدب مع الكبار، فلما قال ذلك لأبيه شجعه أكثر، وقال له: لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا.. رواه البخاري في "صحيحه"، ولقد أفاد ابن عباس وابن عمر وأمثالهما من هذه المجالس، فكانوا بعد من قادة الأمة وخيارها.
ومن وسائل التربية الاجتماعية: تعويد الطفل تحية الإسلام، وأدب الاستئذان، وعيادة المرضى، والعطف على الفقراء، وحضور الصلاة، ودفن الموتى.
إخوة الإيمان: وثمة بناء أخلاقي وتربية على جملة من الآداب لا بد للمربين والمربيات أن يرعوها، كالأدب مع الوالدين، ومع العلماء ومع كبار السن، وأدب الاحترام والمحادثة مع الآخرين، والأدب مع الأقارب والجيران، وآداب الطعام واللباس، وآداب المسجد، والمجلس. ونحو ذلك.
ولا بد من تعويده الصدق في الحديث، وحفظ الأمانة، وكتم الأسرار، وسلامة الصدر من الأحقاد، والكرم، والشجاعة، والسماحة، ونحوها من كريم الأخلاق والآداب.
أيها المربون والمربيات: ويحتاج الناس عامة، والأطفال خاصة إلى لين الجانب ورقة العاطفة، فالبناء العاطفي أسلوب مهم من أساليب تربية الأطفال، فالابتسامة، والقبلة، ومسح الرأس، والهدية، والممازحة… كلها تساهم في فتح قلب الطفل لك، وتهيئة لقبول نصحك وتوجيهك.(1/77)
ولقد كان من خلق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ممازحة الأطفال، ومداعبتهم وتقبيلهم، وإن لم يكونوا أبناءه، وفي "صحيح البخاري": باب من ترك صبية غيره حتى تلعب، أو قبلها أو مازحها، وفي الباب عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي وعلي فميص أصفر، فقال: "سنه سنه" ومعناه بالحبشية (حسنة) قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزجرني أبي (أي نهرني) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعها" ثم قال: "أبلي واخلفي، ثم أبلي واخلفي، ثم أبلي واخلفي" الحديث. ولا يدري الناظر في الحديث أيعجب من ثنائه - صلى الله عليه وسلم - على قميص البنية، أم على تركها تعلب بخاتمه، أم بدعائه لها؟ قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: والممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة، إنما يقصد به التأنيس، والتقبيل من جملة ذلك (1)، وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - لغلام صغير يداعبه ويكنيه: "يا أبا عمير ما فعل التغير"(2).
أيها المربون والمربيات: والغلظة مع الأطفال ليست مفخرة، والتصابي لهم وتطيب خواطرهم ليست مذمة ولا ذلة، وقد لام الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أخبره أن له عشرة من الولد لم يقبل أحداً منهم، وقال له: "أو أملك أن أنزع الله الرحمة من قلبك"؟
وروى الحاكم وصححه أن الحسين - رضي الله عنه - جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود، فلما قضيت الصلاة قال الصحابة: أطلت السجود يا رسول الله، حتىظننا أنه قد حدث أمر، فقال: "إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته"(3).
__________
(1) الفتح: 10/425.
(2) أخرجه البخاري، انظر الفتح: 10/582.
(3) الإحياء: 2/218. وقال العارقي: رواه النسائي والحاكم على شرط الشيخين.(1/78)
عباد الله: وما أجمل التصابي أو المداعبة أو حسن الخلق، ولين العاطفة مع الأطفال إذا كانت سبيلاً لدعوتهم للخير، وتحذيرهم من الشر، فتلك وسيلة نافعة بإذن الله للأطفال… ولكنها لا ينبغي أن تكون الدهر كله إذ يحتاج الطفل أحياناً إلى الحزم والعزم لبلوغه المعالي، بل ربما احتاج إلى الضرب،ولكن الضرب له قواعده ومواصفاته، ومتى يكون ومتى يمنع، وهو بكل حال أدب لا انتقام، ولا يحبذ في حال الغضب، ولا يصلح لكل الأطفال: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } (الطلاق: من الآية2).
إخوة الإيمان: ومهما بلغت وسائلنا في تربية أطفالنا فلا غنى لنا عن دعاء ربنا لإصلاحهم والانتفاع بهم، وأنتم واجدون في كتاب الله من دعاء الصالحين لذراريهم من مثل قوله: { قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } (آل عمران: من الآية38)، ومن مثل قوله: { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } (الفرقان: من الآية74).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، خلق الخلق، من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة، يخلق ما يشاء وهو العليم القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أخبر وهو الصادق المصدوق أنه ما نحل والده ولداً خيراً من أدب حسن. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.(1/79)
أيها المسلمون: وهناك وسيلة لطيفة في التربية وذات أثر على الأولاد عموماً: والأطفال منهم على الخصوص، ألا وهي التفاهم بين الزوجين على علاج الخطأ الواقع من الأولاد أو ما يمكن تسميته (باصطناع المرونة)، فإذا اشتدت الأم على الطفل لأن الأب، وإذا عنف الأب لانت الأم، فقد يقع الولد في خطأ فيؤنبه والده تأنيباً يجعله يتوارى خوفاً من العقاب الصارم، فإذا غاب جاءت الأم لتطيب خاطره وفي نفس الوقت لتوضح له خطأه برفق، وحينها يشعر الولد بأن أبويه على حق وصواب، فيقبل من الأب تأنيبه – وربما اعتذر إليه – ويحفظ للأم معروفها – وربما شكرها – والنتيجة أنه سيتجنب الخطأ مرة أخرى (1).
وهذا الأسلوب أنفع من اعتذار أحد الأبوين للطفل عن خطئه، والدفاع عنه حين تأديبه، إذ يشعره ذلك بالدلال السلبي، ويدعوه للتعاظم وإن كان مخطئاً، وعدم القبول ممن وجهه، وإن كان ناصحاً.
أيها الآباء والأمهات: واحتسبوا الجلوس مع أطفالكم على موائد القرآن والسنة والدروس النافعة، فتلك وسيلة مهمة من وسائل تربيتهم، وروضا أنفسكم على سماع شكواهم، وتقدير وجهات نظرهم، وإن كان رأيهم متواضعاً، فذلك ينشئ فيهم الثقة ويدعوهم للإفصاح عما في نفوسهم، والجرأة على التعبير عن آرائهم مع الآخرين مستقبلاً.
وثمة وسيلة مساعدة على تربية الأولاد ألا وهي زيارة الأسر التي تعنى بتربية أولادها، فتلك مفيدة في التربية، وطريق لنقل التجربة الناجحة، والوسيلة المناسبة.
وإذا تم في لقاءات العوائل عمل برامج للأطفال فتلك نافعة بإذن الله تعالى، ومعينة على ترابط الأسرة وتآلفهم.
__________
(1) محمد إبراهيم الحمد، التقصير في تربية الأولاد: 80.(1/80)
أيها المربون والمربيات: هذه أنماط من وسائل التربية للأطفال، وقد تكونون مارستم بعضها أو ما هو أفضل منها، والمهم استشعار المسؤولية مع هؤلاء الأطفال، وتقديم ما نعذر به، أمام الله وأمامهم، ومن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا بد أن يثمر الغرس الطيب جنى طيباً، إن في الدنيا أو في الآخرة، وإياك أن تحقر وسيلة من وسائل التربية، أو تظن أن الطفل لا ينتفع بها، ولربما رأيت أو رأى غيرك ثمار التوجيه الحسن، وقد حدثت أن طفلاً في المرحلة الابتدائية تأخر يوماً في أداء الواجب، فهم مدرسه بضربه، فقال له الطالب: أتحداك أن تضربني، فتعجب المدرس من مقولته هذه وسأله عن السبب، فقال الطفل: لأنني صليت اليوم الفجر مع الجماعة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي" فأنا في ذمة الله، وكان من عقل المعلم ومشاركته في التربية أن ترك الطفل ولم يضربه.
أيها الآباء والأمهات، ويا أيها المربون والمربيات: وبقي أن نعرج على شيء من أخطائنا في تربية أطفالنا… فمن أخطائنا: أطفال الخادمات وذلك حينما نكل للخادمة كل شيء في أمر الأطفال، تربيهم كيف شاءت، وتعودهم من الأخلاق ما تريد، وقد تكون الخادمة كافرة أو ذات معتقد أو مذهب فاسد فتنشئ ناشئتنا أبعد ما تكون عن قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا الإسلامية.
ومن أخطائنا: أطفال الشاشات، وذلك حينما نوفر للطفل ما هب ودب من وسائل اللهو المحرمة، ونهيئ له الفرصة للنظر بكل شاشة فاتنة… فينشأ جيل مغرم باللهو… مفتون بالقنوات، يربيه غيرنا ويتشكل عقله وفكره من بيئات وأمم تضمر العداوة لنا ولأطفالنا، وماذا نتوقع المستقبل لأطفال ربتهم الشاشات الهابطة، وأشربوا حب القنوات الفضائية المعادية؟ وهناك بدائل صالحة في هذا لمن شاء.(1/81)
ومن أخطائنا: الدعاء على أطفالنا، أو لعنهم… وتلك حماقة تصدر من الوالدين أحياناً – وخاصة الأمهات – وهم المتحملون لوزرها، وقد قيل إن الدعوات كالحجارة التي يرمى بها، وقد تصيب وقد تخطئ، ولهذا نهى محمد - صلى الله عليه وسلم - عن الدعاء على الأولاد، وقال: "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم"(1).
ومن الأخطاء: الشماتة بالمبتلين من أولاد غيرنا، وبدل أن نسأل الله لهم العافية، ونشكره على أن أصلح ولدنا، ترى بعض الناس يشمت بهؤلاء ويلوم أهلهم ويعنف عليهم، وقد يكونون مجتهدين، ولكن الله لم يشأ هدايتهم، وربما انتقل الداء إليه عقوبة من الله على شماتته وعدم شكره (2).
أيها الناس: ومن أخطائنا مع أطفالنا استحياؤنا من تعلم أولادنا أحكام البلوغ وعلاماته قبل بلوغهم، ولذا فقد تصوم أو تصلي الفتاة العذراء وهي حائض أو جنب، وقد يصلي الشاب المحتلم وهو جنب… وهكذا.
ومن أخطائنا: عدم تحذير أطفالنا مما نخشاه عليهم أو نحاذر من وقوعهم فيه من قبل، فقد يقعون في شرب الدخان أو المخدرات وهم يظنون ذلك من الرجولة، وقد يختارون رفقاء السوء وهم يحسبونه جليساً صالحاً…
ومن أخطائنا: التفريق بين أولادنا في الأعطيات المادية أو المعنوية فيتولد عندهم الحقد، وينشأ الحسد، ونضع الكرة فيما بيننا وبينهم – وبالعدل قامت السماوات والأرض – وعلى الوالدين قدر الإمكان ألا يظهرا الأولاد على خلافاتهم، وألا يكثروا من الشجار والخصومة بحضرتهم، فذلك مؤثر على نفسياتهم، وقد يؤثر في سلوكياتهم.
ومن أخطائنا: تخويف أطفالنا تخويفاً وهمياً حتى يستجيبوا لمطلبنا، ولكن هذا التخويف قد يخلف آثاراً سيئة على مستقبلهم.
__________
(1) رواه مسلم: 4/2304.
(2) الحمد: التقصير في تربية الأولاد: 37.(1/82)
ومن أخطائنا: ضعف النساء – إلا ما ندر – في تربية الأطفال على معالي الأمور، واشتغالهن أكثر بملبسه وشكله وطعامه، وليتهن يقتدين بالأمهات السابقات، ومن نماذجهن أم سفيان الثوري (فقيه العرب والمسلمين ومحدثهم) وقد ورد عن الإمام أحمد أن أم سفيان قالت له: يا بني، اطلب العلم وأنا أ:فيك بمغزلي، ثم كانت تتعهده بالنصح والتربية، فقد روى أحمد كذلك أنها قالت له يوماً: يا بني: إن كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك (1).
أيها المؤمنون: وخلاصة القول: استجيبوا لنداء ربكم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة } (التحريم: من الآية6)، وقدروا مسؤوليتكم مع أبنائكم "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وأدوا الأمانة التي أئتمنتم عليها وارعوها حق رعايتها، وأياكم أن تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح نياتنا وذرياتنا، وأن يصلح أحوال المسلمين ويردهم إليه رداً جميلاً، وأن يحفظ شبابهم وشاباتهم من كل مكروه ومن كل فتنة.
الأزمات العالمية (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له…
أيها المسلمون: يمر العالم اليوم بأزمات متعددة، وتصاب الشعوب بنكساب مروعة، ولا تزال تلهث بعيدً عن هدى الله، فيتعاظم الخطب، ويتصاعد مؤشر الانحراف، وتطلق صيحات من هنا وهناك محذرة من النهاية البائسة… ولكن أين المجيب؟
__________
(1) محمد الحمد: التقصير في تربية الأولاد: ص45-46.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/8/1419هـ.(1/83)
إن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها عالم اليوم واحدة من نماذج هذه الأزمة الخانقة، ومن عجب أن توجد هذه الأزمة مع تضخم رأس المال، ومخزون النفط، وكثرة الإنتاج في مجال الزراعة والصناعة ووجود أسواق بيضاء وسوداء، ونحو ذلك من الأخذ بأسباب النمو الاقتصادي المعاصر ومع ذلك كله فإن شبح الانهيار الاقتصادي يطارد الدول الكبرى، ترى ما أسباب هذا الانهيار؟
يحلل اقتصاديون متخصصون – وغير مسلمين – هذا الانهيار بارتفاع سعر الفائدة، وكثرة المديونية، والعجز عن السداد، ويرون المخرج من هذا تقليل حجم الفائدة، وباختصار: فهم يرون الربا ومعاملاته الجائزة سبباً رئيساً لهذا الفساد الاقتصادي المهدد بالسقوط.
وهذه حقيقة كشفها القرآن قبل ما يزيد على ألف عام حين أعلن الله حربه على المصرين على التعامل بالربا، وأنى لقوة – مهما كانت – أن تصمد لحرب الله، والله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (البقرة: من الآية 278-279).
إنه جزء من انتقام الله وعد به المرابين: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة: من الآية275)، { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } (المائدة: من الآية95).
ويؤكد الذي لا ينطق عن الهوى في سنته، أن عاقبة الربا إلى قل وإن توهم المرابون خلاف ذلك، وانخدعوا بالورم الخبيث، روى الحاكم بسند صحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل"(1).
__________
(1) صحيح الجامع: 3/186.(1/84)
والمصيبة أن يسير المسلمون في اقتصادهم مسيرة العالم الكافر ويربطوا اقتصادهم باقتصاده، وهم يتلون كتاب الله وفيه مخرج لأزماتهم كلها، ومن بينها الاقتصاد، فهم يؤمنون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويعتقدون أن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، ويدركون السر في قوله تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } (التغابن:17)، وقوله: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة:280).
ولا يخالجهم أدنى شك في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (لأعراف:96)، وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب } (الطلاق: من الآية 2-3).
أين هذا ممن لا يزالون يصرون على الربا… وتنبت أجسادهم وأجساد ذويهم على السحت، وأي جسد نبت على حرام فالنار أولى به، ألا فلينتبه المؤمنون بربهم والتالون لكتابه عن الربا، وليتقبلوا عظة الله: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة: من الآية275).
أيها المؤمنون: وثمة أزمات سياسية وعسكرية، لم تحلها المجالس الكبرى، والمنظمات العالمية، ولم تسهم مخزونات الأسلحة العظمى بحلها، بل زادتها تعقيداً، وكلما انطفأ الفتيل في مكان – وإذا به يشتعل في مكان آخر، وهكذا يختل الأمن وتتصاعد الأزمة، وتتقاسم الدول الكبرى النفوذ، وتتوازع المصالح… فلا يزيدها ذلك إلا ضعفاً وانهياراً وكرهاً من قبل الشعوب الأخرى.(1/85)
والمأساة أن المسلمين لا دور لهم يذكر في إنشاء أو إطفاء هذه الأزمات الكبرى، بل ربما استنفرت طاقاتهم، وحوصرت شعوبهم، وربما خرجوا من المعركة بلا شيء أو بشيء سلبي، وليتهم عادوا إلى إسلامهم، فسيجدون في كتاب ربهم حلاً لأزمة الأمن التي يدفعون ضريبتها في مثل قوله تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (الأنعام:82).
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
وسيظل المسلمون يشاركون غيرهم في الانتكاسة والخوف، ويهددونهم بالحروب حتى يعودوا إلى هويتهم، وينطلقوا من تعاليم دينهم: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
إخوة الإسلام: أما أزمة الأخلاق التي يعيشها عالم اليوم فهي أزمة مدمرة بكل المقاييس، أفل فيها نجم العفة والفضيلة والحياء، وأعلنت الفاحشة على الملأ وانتشر سوق المخدرات، وبات يستعاض بها عن الحروب العسكرية الأخرى، وأصبح الغزو الفكري فناً تمارسه الحضارات المادية على من سواها، فلم يرع جانب الدين والخلق، ولم تقدر الحضارة الإسلامية حق قدرها، وأصبح أتباعها – مع الأسف – يتوارون خجلاً عن الإفصاح عن هويتهم في المحافل الدولية والمؤتمرات الكبرى، إلا من رحم الله.
معاشر المسلمين: ونتج عن هذه الأزمات العالمية وغيرها أن تأثرت بلاد المسلمين، فشاع الفقر، وسلط الأعداء على المسلمين، وفشا الموت، ومنعوا النبات وحبس القطر.. أو أمطرت السماء ولم تنب الأرض.. أو زاد حجم الأمطار.. فكانت الفيضانات المدمرة، أو زادت نسب التصحر في البلاد المسلمة، فهلك الحرث والنسل، وكل ذلك بما كسبت الأيدي كما قال ربنا: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الروم:41).(1/86)
وهو تحقيق لوعد الصدق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وحذر الأمة من آثاره فقال: "خمس بخمس، ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر"(1).
اللهم ألهمنا رشدنا، وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وردنا إليك والمسلمين رداً جميلاً… وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وما بكم من نعمة فمن الله، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبتلي الناس بالشر والخير فتنة وإليه يرجعون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، لم يتوفاه الله حتى دل الأمة على كل خير، وحذرهم من كل شر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: يتبادر إلى أذهان الغيورين حين الحديث عن هذه الأزمات العالمية عدة أسئلة، ومنها:
أين موقع المسلمين في هذه الأزمات؟ وهل يتوفر الصوت الإسلامي الداعي للإنقاذ؟ وما هي مسؤولية المسلمين في حل أزمات إخوانهم المسلمين، إن أعياهم الحل لأزمة العالم كله؟ وبم يكون الحل؟
__________
(1) رواه الطبراني عن ابن عباس بسند حسن، صحيح الجامع الصغير: 3/113.(1/87)
إن سيطرة الجاهلية اليوم، وتنحية الإسلام عن القيادة سبقتها جاهليات أخرى، وفي أزمنة متعددة، ودعونا نستقرئ أحداث التاريخ فيما مضى، وخاصة يوم بعث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد عمت الجاهلية أنحاء الأرض، ونظر الله إلى أهل الأرض – حينها – فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب – كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فكان الفساد العقدي، والوثنية تضرب أطنابها، ليس في عالم الفرس والروم فحسب – بل وبجوار بيت الله الحرام، والأزمات الاقتصادية والعسكرية على قدم وساق، إذ يشيع الربا وأكل أموال الناس بالباطل، ليس فقد عند أهل الوثنية الجاهلية، بل يشاركهم أهل الكتاب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (التوبة: من الآية34)، { وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِل } (النساء: من الآية161).
أما الأزمات العسكرية فشاهدها اشتعال الحروب لأتفه الأسباب، وربما امتدت الحرب عدة عقود، فأفنت الرجال وسبيت الذرية – وربما كان لأهل الكتاب دور في هذه الحروب – وكانت الجزيرة وما حولها مسرحاً للنهب والسلب، لغة القوة فيها هي السائدة، ويعبر عنها الشاعر بقوله:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً(1/88)
وبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وفارس والروم تسيطران على أطراف الجزيرة وما حولها… ولربما قال قائل: وما موقع المسلمين المستضعفين المطاردين في هذا العالم المسيطر؟ ومع صدق الانتماء، وقوة اليقين، وشحذ الهمم والتربية الجادة من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - تأسست شجرة الإيمان وصقلت مواهب المؤمنين… وبدأ البساط يسحب من تحت أقدام الكافرين شيئاً فشيئاً حتى شمل نور الإسلام المعمورة ودخل الناس في دين الله أفواجاً، لا يضير المسلمين في هذا أن يقدموا عدداً من الشهداء، أو تمر بهم عدد من الأزمات فيتجاوزوها، وهنا أذكر بواحدة من الأزمات الاقتصادية التي مرت بالمسلمين في عهد الراشدين، وكيف تجاوزها وتعامل معها الفاروق - رضي الله عنه - بمساعدة المسلمين له، إنها أزمة المجاعة في السنة السابعة عشرة للهجرة، أو ما يعرف بعام الرمادة، تلك التي قال الطبري في وصفها: كانت الرمادة جوعاً أصاب الناس بالمدينة ومن حولها فأهلكهم، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر (1)، وحتى أن الأعرابي ليرد إلى المدينة فيقسم ما أكل سمناً ولا زيتاً، ولا أكلاً منذ كذا وكذا (2)… وحينها تعامل الفاروق مع الحدث بكل جدية وعدالة وصدق، فبعث أمراءه إلىالأمصار يستغيثهم ويستمدهم، ولربما كتب في الكتاب الواحد (الغوث الغوث مائتي مرة)، وأدرك أمراء الأمصار صدق عمر فصدقوا في الاستجابة مع، وقد جاء في رد أحدهم: لبيت، لبيت، لبيت يا عمر، أتاك الغوث، بعثت إليك عيراً أولها بالمدينة وآخرها بالشام (3)، وما بال هؤلاء لا يستجيبون للنداء، وقد ضرب عمر بنفسه نموذجاً رائعاً في مشاركة المسلمين في أزمتهم، فلقد حلف لا يأكل عمر سمناً ولا لحماً حتى يحيا الناس ولربما أشحب لونه، أو سمع قرقرة لبطنه، فألزمها الجوع
__________
(1) التاريخ: 4/223.
(2) ابن سعد: الطبقات: 2/212.
(3) عمر بن شبة، تاريخ المدينة: 2/243.(1/89)
والصبر حتى تنكشف الغمة عن المسلمين؟
ولقد رؤي الفاروق عند جماعة من الناس أقدمهم الجوع وبلغ بهم الجهد مبلغه، ومعهم جلد ميتة مشوية يأكلون9، فما كان من عمر إلا أن نزل وطرح رداءه، ثم طبخ لهم حتى طعموا وشبعوا…(1)
لقد بلغ عمر من الاهتمام بأمر المسلمين مبلغاً قدره له الصحابة والتابعون حين قالوا: "لوم لم يرفع الله المحل والرمادة لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين".(2)
وهكذا يكون الاهتمام بأمر المسلمين – ومع الجهود التي بذلها عمر والمسلمون معه عام الرمادة، فلم ينس عمر ربه في الدعاء لتفريج الكربات، ولقد أشير عليه أن يستسقي بالمسلمين، فخرج عمر بالمسلمين لصلاة الاستسقاء، فصلى بهم ودعا دعاءً كثيراً، واستغفر حتى رؤيت الدموع تسيل على خديه، وقد بكى الناس معه، وكان يقول: لقد طلبت الغيث بمجادف السماء التي بها يستنزل المطر، ثم قرأ: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً } (نوح: من الآية 10-11) (3)، هذا فوق تضرع عمر في خلواته وداخل بيته في هزيع الليل، وقد سمعه ابنه يوماً يقول في دعائه: "اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد علي يدي"(4).
وكذلك يمثل عمر نموذجاً للخليفة الصالح، والرجل الناصح لنفسه وأمته، والمقتدر على المشاركة في حل الأزمة، وتفعيل الأمة لحلها.
وكذلك تخرج الأمة من الأزمات بصدق التوجه إلى الله، والجدية في العمل والتعاون على البر والتقوى.
أذية المسلمين (5)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
__________
(1) ابن سعد: الطبقات: 2/314.
(2) ابن سعد: الطبات: 2/315.
(3) الطبري: 4/225، الطبقات: 3/320.
(4) الطبقات: 3/320.
(5) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/7/1419هـ.(1/90)
إخوة الإسلام: يشيع الإسلام المحبة بين المسلمين، وتوثق شرائعه روابط الود بين المؤمنين، وتنهى تعاليمه عن كل ما يخل بتآلفهم وصفاء نفوسهم، ولكن الشيطان قاعد للإنسان بأطرقه كلها ينزغ، ويوسوس، ويؤز، ويؤلب، وينصب رايته في الإفساد هنا وهناك، ولئن كان كيد الشيطان ضعيفاً، فما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وقليل من عباد الله الشكور.
إن أذية المسلم بأي شكل كانت، وبأي وسيلة تمت، هي من نزغات الشيطان، وهي استجابة يضعف فيها الإنسان، وينسى فيها أو يتناسى رقابة الرحمان، وهي بلاء يبلى بها بعض الناس، ويبتلي الله بها آخرين.
وإذا كانت أذية الذمي (غير المسلم) منهياً عنها في شريعة الإسلام، فما الظن بأذية المسلم لأخيه في الإسلام؟
جاء في الخبر: "من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة".
أما أذية المؤمن فقد عظم الله أمرها، ورتب العقوبة عليها فقال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً } (الأحزاب:58)، والمعنى – كما قال ابن كثير رحمه الله: أي ينسبون إليهم ما هم براء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، ثم ساق الخبر عن عائشة - رضي الله عنه - ، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (الأحزاب: من الآية58) (1).
__________
(1) تفسير ابن كثير: 3/854.(1/91)
لقد أعلنها رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - صريحة مجلجلة:"كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"، بل صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صعد المنبر فنادى بصوت رفيع قال: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"(1).
وفي "صحيح سنن الترمذي" أن ابن عمر نظر يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك (2).
أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى هذا الفهم لقيمة أعراض المسلمين وحرماتهم… ومن لم يخش عقوبة الآخرة فلينتظر عقوبة معجلة في الدنيا، فيفضحه الله في جوف رحله، نسأل الله السلامة والعافية؟
قالت أعرابية توصي ولدها: "إياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضاً، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقلما اعتورت السهام غرضاً حتى يهي ما اشتد من قوته" (3).
وقال الأحنف بن قيس، رحمه الله: "من أسرع إلى الناس فيما يكروهون قالوا فيه ما لا يعلمون".
ومن دعا الناس إلى ذمة ذموه بالحق وبالباطل
إنها أخلاق السوء – نعوذ بالله منها – تجر أصحابها إلى الإساءة للآخرين إن بحق أو بباطل… وتسري آثارهم المدمرة لتدمر ما حولها، ثم تعود لتدمر نفسها في النهاية، وكذا تفرق النميمة بين الأحبة، وتفرق الأمة المجتمعة.
من نم في الناس لم تؤمن عقاربه على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسيل بالليل لا يدري به أحد من أين جاء ولا من أين يأتيه
فالويل للعهد منه كيف ينقضه والويل للود منه كيف يفنيه (4)
__________
(1) صحيح سنن الترمذي: 2/200.
(2) 2/200.
(3) الحمد: سوء الخلق: 107.
(4) ابن حبان، روضة العقلاء ص294-295.(1/92)
يا عباد الله: إياكم والسخرية بالآخرين، والتجسس عليهم، وسوء الظن بهم، فذاك من الأذى المنهي عنه في كتاب الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } (الحجرات: من الآية 11-12).
أيها المسلمون: ومظاهر الأذية للمسلمين لا تقف عند حد الاعتداء على الأعراض – مع خطورتها وعظيم جرمها، وقبح آثارها – فهناك مظاهر أخرى للأذى ومنها أذية المسلمين في بيوتهم كمعاكسات الهاتفية، وكمن يتصل هاتفياً في ساعات محرجة، فإذا فزع أهل البيت وأجابوا النداء وإذا بالسماعة تغلق في وجوههم، ولربما أصابوا دعوة فتحت لها أبواب السماء… فهل هذا من خلق الإسلام، أم هو نوع من الأذى؟
وفي (أدب الهاتف) قال فضيلة الشيخ بكر أبو زيد عن هذه الاتصالات والمعاكسات: فهذا وايم الله حرام حرام وإثم وجناح، وفاعله حري بالعقوبة، فيخشى أن تنزل به عقوبة تلوث وجه كرامته"(1).
وقد تكون الأذية للمسلمين في الشوارع والطرقات، فالقيادة المتهورة، وحركات التفحيط البهلوانية، ورفع أصوات الغناء عند الإشارات المرورية – دون ذوق أو حياء أو تقدير لمشاعر الآخرين – كل ذلك أذية للمسلمين.
__________
(1) ص31-32.(1/93)
كما أن من الأذية للمؤمنين والمؤمنات الجلوس في الطرقات للنظر في النساء، أو تصيد الشباب الحسان، أو التعرض للفتيات حين خروجهن من مدارسهن، ومن قدر له الجلوس في الطرقات لغرض صحيح فلا بد أن يعطي الطريق حقه.
والمماطلة في أداء الحقوق المستحقة نوع من الأذية، ويبلغ الأذى مبلغه بقتل النفس المعصومة بغير حق.
عباد الله: وقد يتحول الأذى إلى المسلمين في مساجدهم، كمن جاء للمسجد وفي فمه رائحة كريهة من ثوم أو بصل أو كراث أو دخان أو نحوها… أو في بدنه أو في ملبسه ما يستنكر ويستقذر وهو قادر على إزالته، ودعوة القرآن: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد } (لأعراف: من الآية31)، والذين يحضرون أطفالاً يلعبون في المسجد ويزعجون ويشغلون المسلمين عن عبادتهم وخشوعهم، يؤذون المسلمين وإن كان قنصدهم حسناً، والذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ليصل إلى مكان متقدم مع تأخره في المجيء يؤذي، وكذا أن يحضر أطفاله فيتحدون والإمام يخطب يؤذي الآخرين ويشوش عليهم. فتنبهوا معاشر المسلمين لهذا كله.
أيها المسلمون: وثمة أذية للمسلمين في الأماكن والمحافل العامة، كمن يشرب الدخان في أماكن التدخين ممنوع فيها، أو يجاهر بمعصية ليستفز المشاعر، أو يطلق عبارات لا زمام لها ولا خطام حين يقدر له الحديث نيابة عن الآخرين، والله يقول: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } (الأنعام: من الآية152) ويقول: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً } (الاسراء:53).
اللهم جنبنا الزلل في القول والفعل، واصرفنا واصرف عنا الأذى، وعن إخواننا المسلمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، فرق بين الناس في أخلاقهم وتعاملهم، كما فرق بينهم في أشكالهم وأرزاقهم، فجعل منهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، وجعل آخرين بضدهم، وهو العليم الحكيم.(1/94)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما أمر بحسن عبادته، أمر بالإحسان إلى خلقه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال للناس يوم الحج الأكبر – فيما قال: "إلا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه…"(1).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: وأذية الجار لجاره نوع من الأذي المنهي عنه، فللجار المسلم حق الجوار، إضافة إلى حق إخوة الإسلام، وسواء كان ذلك بإسماعه ما يكره، أو تتبع عوراته، أو إفشاء أسراره، أو تخوينه فيما هو مؤتمن عليه، وبالجملة فـ"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" رواه مسلم عن أبي هريرة. "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره…" رواه أحمد واتفق عليه الشيخان وغيرهم (2).
ألا احذروا الأذية للخدم والسائقين، والعمالة المستقدمة المكفولين، واعلموا أن أذيتكم لهم تحفر في قلوبهم الكره لكم ولدينكم وإن كنتم لا تشعرون، واجعلوا من هؤلاء سفراء لبلادكم ودعاة إلى الله في بلادهم بحسن تعاملكم وطيب أخلاقكم، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم، ومن سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.
أيها المسلمون: وإذ عرفنا حرمة أعراض المسلمين، وليس أقل منه دماؤهم وأموالهم، وألمحنا إلى أنواع من الأذى – ينبغي أن يترفع عنها.
فما موقف المؤذى ممن تعرض له بالأذى؟
لا بد له من الصبر، والصبر على ما يصيب المسلم من عزم الأمور، ولا بد من احتساب الأجر، والثقة بعدل الله وجزائه إن في الدنيا، أو في الآخرة وهو أعظم وأبقى.
ولا بد من الحلم مع من يؤذي، وعدم مجاراة الجهول بجهله، وقد قيل:
إذ أنا كافيت الجهول بفعله فهل أنا إلا مثله إذ أحاوره
__________
(1) صحيح الجامع الصغير: 6/279.
(2) صحيح الجامع: 5/347.(1/95)
ولكن إذا ما طاش بالجهل طائش علي فإني بالتحلم قاهره
قال آخر:
احفظ لسانك إن لقيت مشاتماً لا تجرين مع اللئيم إذا جرى (1)
من يشتري عرض اللئيم بعرضه يحوي الندامة حين يقبض ما اشترى
ومن الأمور التي تحسن بمن أوذي تجاهل المؤذين حتى لا يضيع الوقت سدى في الهراش معه، وحتى لا يشيع ذكره، وقد يكون تجاهله أقصر الطرق لسقوطه ونهايته وأخمل لذكره، وكم هو جميل قول القائل:
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمة قلت لا يعنيني
وأجمل من ذلك ألا يحمل الحق أو الاشتغال بمعايب من آذاه، بل يدفع عنه على حد قول القائل:
إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم قدحت لهم في كل مكرمة زندا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لا شك أن هذه مرتبة علية لا يستطيعها إلا عظماء الناس؟
إخوة الإيمان: وعلى من أوذي ثم اعتذر إليه أن يقبل العذر، سواء كان المعتذر صادقاً أم كاذباً، وفي هذا روي الحديث: "من اعتذي إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها، كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس"(2).
والحديث وإن ضعفه العلماء فقد قالوا بقبول عذر المعتذر، قال أبو حاتم بن حبان:
"ولا يخلو المعتذر في اعتذاره من إحدى حالتين: إما أن يكون صادقاً في اعتذاره، أو كاذباً، فإن كان صادقاً فقد استحق الغفران، لأن شر الناس من لم يقل العثرات ولا يستر الزلات، وإن كان كاذباً فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته، وخضوع الاعتذار وذلته، ألا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث الذي جاءه في اعتذاره، وليس يعيب على المعتذر إن ذل وخضع في اعتذاره إلى أخيه، وأنشد بعضهم:
أليس الله يستعفى فيعفو وقد ملك العقوبة والثوابا
__________
(1) ابن حبان: روضة العقلاء: 347-348.
(2) روضة العقلاء /303، ضعيف الجامع الصغير: 5/71.(1/96)
أيها المؤذي ومن كمال عقلك وصلاح دينك ودنياك أن تتخذ من نيل الآخرين لك فرصة لإصلاح عيوبك وتسديد نقصك، فلا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب، وتحصين العورات، فلا تتضايق من كل نقد يوجه إليك وإن كان فيه حق، وليكن سبيلك من قال: "رحم الله من أهدى إلي عيوبي"(1).
يا أخا الإسلام: إياك والأذى لعباد الله بأي نوع من الأذى، فأعراض المسلمين كالميتة، ولحوم العلماء مسمومة، وليس يخفاك أن الله يعفو ويصلح ويغفر، أما الخلق فستطلب حقها منك في يوم لا تملك فيه إرضاءهم بالدرهم والدينار فيؤخذ لهم من حسناتك، فإن فنيت قبل قضاء حقوقهم أخذ من سيئاتهم فطرحت عليك ثم طرحت في النار، وذلك منتهى الخزي والخسران، كن عنصراً نافعاً في المجتمع تجمع وتؤلف وتصلح، ولا تفرق وتفسد، وما بالأمة المسلمة حاجة لمزيد الفرقة، وحاجتها إلى الألفة والوحدة والتعاون على الخير ودفع الشرور لا تقل عن حاجتها إلى الطعام والشراب، اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحد كلمتهم على الهدى والدين، اللهم اقطع دابر المفسدين، اللهم لا تشمت بنا عدواً ولا حاسداً…
الأخلاق الفاضلة (1)(2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له.
إخوة الإسلام: والبر حسن الخلق.
وما فتئ المرسلون عليهم السلام يدعون الناس لمكارم الأخلاق ويحذرونهم من مساوئها، حتى جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ليتمم مكارم الأخلاق، ويقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
وجاءت شريعة الإسلام داعية لكل خلق كريم، وناهية عن كل خلق ذميم، وبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة، يأمر أمته بالمعروف ويحل لأمته الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
__________
(1) روضة العقلاء: 306-307.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/7/1419هـ.(1/97)
أما هو فوصفه ربه بكمال الخلق فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم".
وشهد له - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخلق القريب منه والبعيد، والعدو والصديق، ولم يتمالك سيد بني حنيفة في زمنه، ثمامة بن أثال - رضي الله عنه - من الاعتراف بفضله، والشهادة بحسن خلقه، حتى أسلم، وكان قبل مشركاً، محارباً، ثم أعلن له إعجابه بشخصه وبدينه حين قال: يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض غلي من وجهك، وقد أصبح وجهك الآن أحب الوجوه إلي، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إلي من دينك، وقد أصبح دينك الآن أحب الأديان إلي… إلخ كلامه، - رضي الله عنه - .
ترى من أين نشأت هذه المحبة؟ وكيف انقلبت الموازين في حياة ثمامة؟ إنها مكارم الأخلاق، وأدب المعاملة، والعفو مع القدرة على الانتقام… وإذا كانت تلك المعاملة مع الكافر فكيف ترون معاملته - صلى الله عليه وسلم - مع المسلم؟
ويكفي هنا أن نشير إلى مقولة أ،س - رضي الله عنه - : خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، والله ما قال لي أف قط ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا، رواه مسلم. فإذا وضعت في الحسبان طول هذه المدة في الخدمة، وأن الخادم غلام صغير – ومظنة الخطأ منه أكثر من الكبير.. أدركت كم هو عليه - صلى الله عليه وسلم - من مكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة.
معاشر المسلمين: أين التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حسن الخلق، ومن منا يرغب الآخرين في الإسلام من خلال حسن خلقه وطيب معاملته؟ وكم من المسلمين من يدعو للإسلام بسلوكياته الفاضلة وأخلاقه العالية قبل أن يدعو بلسانه ومقاله؟
إنها أزمة أخلاق يعيشها أعداد كثيرة من المسلمين، وكم يخسر العالم بانحطاط أخلاق المسلمين، فوق ما يخسره المسلمون أنفسهم.(1/98)
عباد الله: ومما يدعو إلى حسن الخلق فضله العظيم، ومكانة أصحابه عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين الناس. فصاحب الخلق الحسن من أكمل المؤمنين إيماناً. رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان (1).
وأصحاب الخلق الحسن من خيار المسلمين: "إن من خيركم أحسنكم خلقاً" رواه البخاري في "صحيحه"(2).
وإذا تنافس المتنافسون في الصلاة والصيام فينبغي كذلك أن ي تنافسوا في مكارم الأخلاق، وفي الحديث: "وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة"(3)، وإذا طاشت موازين العبد أثقلها حسن الخلق، يقول عليه الصلاة والسلام: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق"(4)، والجنة مبتغى العاملين المخلصين، وحسن الخلق يوصل العبد إليها بإذن الله، "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسن الخلق"(5)، ومع محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب الأخلاق الفاضلة فهم أقرب الناس إليه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، يقول - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً…"(6).
عباد الله: ولئن ضاقت أموالكم أن تسع الناس فسعوهم بأخلاقكم "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"(7).
__________
(1) الفتح: 10/452
(2) الفتح: 10/425.
(3) رواه الترمذي والبزار وأبو داود والحاكم وغيرهم الفتح 10/458.
(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وصححه وغيرهما: 10/458.
(5) أخرجه الترمذي وابن حبان وصححاه – الفتح: 10/458.
(6) رواه الترمذي وحسنه – جامع الأصول: 4/6.
(7) رواه البزار بسند حسن – الفتح: 10/459.(1/99)
ويح المفلسين لا من الدرهم والدينار… ولكن من رصيد الأخلاق، قال عليه الصلاة والسلام: "ولكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، ونأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"(1).
يا أخا الإسلام: أتقدر هذا الموقف حق قدره وأنت تتعامل مع الناس، ولربما أغواك الشيطان أو زين لك إخوان الشياطين فظننت أن التحيل على الخلق بالإساءة نوع من الشطارة، وأن الغش في المعاملة قدرة فائقة… وويل لمن يأمنه الناس ظاهراً، فإذا به يعذر بهم سراً، وبئس أخو العشيرة من ودعه الناس اتقاء فحشه، وأولئك شر الناس منزلة عند الله، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما أعظم الخطب حين تسوء أخلاق أهل الديانة والفضل والعلم، وأعظم منه حين يمارس الخطأ… ويسوء الخلق وصاحبه يظن ذنلك من الدين… وأين حسن الخلق من تقطيب الجنبين، أو من الشدة في معاملة الآخرين، أو الثورة العارمة لخطأ يقع من جاهل في الدين أو سفيه غره صلف الشباب – وتقويمه ليس عسيراً، وصلاح ليس مستحيلاً؟ وينبغي أن يفرق بين الغيرة لدين الله، والتصرف المحمود حيال المنكر وحسن المعاملة مع المخطئ – وقد يقود الإنكار الخالي من حسن الخلق إلى وجود منكر أكبر… ولقد أوحي إلى خير البرية من ربه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْ } (آل عمران: من الآية159).
__________
(1) رواه مسلم: 2581.(1/100)
أيها المسلم: ومن حسن خلقك أن تفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وإذا كان سهلاً عليك أن تنبسط إلى أصحابك وخلانك… فالامتحان في قدرتك على الانبساط مع الآخرين وحسن تعاملك معهم، وكونهم يألفونك وتألفهم، ويقون بك ويأمنونك على أسرارهم، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
إخوة الإيمان: وتعجز الحضارات المادية المجردة من تعاليم السماء وهدي المرسلين أن ترقى بأصحابها إلى معالي الأخلاق، مهما أوتوا نصيباً من العلم في مظاهر الحياة الدنيا، ويأبى الله لغير شرعه إلا أن يرتكس أصحابه في حمأة الرذيلة، ويتمرغوا في أوحال الفساد ويسقوا كؤوساً مرة في أنواع الجريمة وتكاثرها… وكذلك الحال في واقع هذه الدول الكافرة وليس الخبر كالعيان.
والمصيبة أن هذه الأخلاق الفاسدة من قبل هذه الدول الكافرة بدأت تغزو العالم الإسلامي، وعبر وسائل جديدة، وقل من يتفطن لمخاطرها الخلقية في الحاضر والمستقبل.
أجل: إن فضائيات اليوم في معظمها لا تستحي من نقل الصورة العارية والمسلسل الهابط، والفكر المنحرف، وكل ذلك معاول هدم للقيم والأخلاق… وهي جريمة كبرى بحق القيم والأخلاق يتولى كبرها الدول المصدرة لها.
ولم يبعد عن الحقيقة من قال: "إن الحضارة الغربية ارتكبت أعظم جرم عرفه التاريخ بحق ثقافات العالم وشعوبه لتبني لنفسها حضارة سلطوية شرسة تتجه اتجاهاً كارثياً مخيفاً، ربما يؤدي في النهاية إلى الدمار"(1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الروم:41).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين.
__________
(1) روجيه جارودي، عن: نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر الأشقر ص8.(1/101)
إخوة الإيمان: وبالأخلاق الكريمة جاءت شرائع السماء وبعث المرسلون لعلاج ما فسد من فطر الناس وأخلاقهم، وبالأخلاق الحسنة أوصى الحكماء أبناءهم.
فمما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، ولا شك أن الحياء من أساسيات الأخلاق الفاضلة.
ومن وصايا لقيمان لابنه: { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } (لقمان: من الآية 18-19).
إن الخلق في منابع الإسلام الأولى – من كتاب وسنة – وهو الدين كله وهو الدنيا كلها، فإن نقصت أمة خظاً من رفعة في صلتها بالله، أو في مكانتها بين الناس فبقدر نقصان فضائلها وانهمام خلقها (1).
أجل: إن الأخلاق عماد الأمم، وهي سبب مهم في تماسك الدول وبقائها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهب أخلاقهم ذهبوا
وعلى المسلمين أن يتنبهوا إلى قيمة الأخلاق في صراعهم الحضاري مع الأمم الأخرى… وهل تستطيع أمة أن تثبت وجودها إذا أضاعت مقومات شخصيتها؟ وانهارت أخلاقها؟
ولا غرابة أن تنحى الدول الكبرى منحى جديداً في حرب القيم والأخلاق في سبيل القضاء على خصومها… وذلك أن هذا النوع من الحرب أكثر أثراً وأقل خسارة من الحروب المادية.
وعلى كل مسلم أن يتصور أنه كلما ضعف في انتمائه لدينه، وتمسكه بأخلاقه، فإنما يقلل بسلوكه هذا من جنود المسلمين، ويزرع جندياً آخر غريباً في بلاد المسلمين.
إن فساد الأخلاق طريق لانتهاك الأعراض، وضياع الأموال، وقتل الأنفس بغير حق، وفي حسن الأخلاق ضمان بإذن الله للأمن، وانتشار الخير، وحصول الرخاء.
__________
(1) الغزالي: خلق المسلم: 37.(1/102)
عباد الله: وإذا كانت الأخلاق الكريهة بهذه المثابة من الأجر والأثر، فما أحرانا أن نتعرف عليها أو على شيء منه، ومن جد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فليجاهد نفسه على الإصلاح والاستقامة، وقد يطول بنا المقام لو ذهبنا نحصي الأخلاق الكريمة: كالصدق والصبر والشجاعة والحلم والحياء، والكرم والرفق ونحوها؛ ولكن بعض العارفين أرجع هذه الأخلاق الفاضلة إلى أربعة أصول، هي: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، والسر في ذلك – كما قيل – إن الصبر يحمل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ، وإماطة الأذى، والحلم، والأناة، والرفق وعدم الطيش والعجلة. والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء، وهو ركن كل خير، وتمنعه من الفحش والبخل والكذب والغيبة والنميمة.
والشجاعة تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى (1)، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، كما تحمله الشجاعة كظم الغيظ والحلم، وهذه هي حقيقة الشجاعة، فهي ملكة يقتدر بها على قهر خصومه: "وليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
أما العدل فيحمل صاحبه على اعتدال أخلاقه وتوسطه بين طرفي الافراط والتفريط، فلا يسرف ولا يقتر، ولا يجبن ولا يتهور، ولا يغضب ولا يهان… وهكذا…(2).
يا أخا الإسلام: عد إلى نفسك وتأمل قربك أو بعدك من هذه الأخلاق، واعلم أنها سبب للسعادة في الدنيا وطريق إلى الجنة في الآخرة، فيها رضي الله وقرب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبها تحصل محبة الناس، والعكس بالعكس… وفضل الله يؤتيه من يشاء: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (العنكبوت: من الآية69).
وهنا يرد سؤال مهم، هل يمكن اكتساب هذه الأخلاق الفاضلة… أم أنها فطرية جبلية يقسمها الله وهو أعلم وأحكم؟
__________
(1) الجود.
(2) انظر: عمر الأشقر: نحو ثقافة إسلامية أصيلة ص164.(1/103)
وما الطريق لاكتساب الأخلاق الفاضلة؟
وما الأسباب في انتشار الأخلاق السيئة.
كل ذلك وغيره، أستكمل الحديث عنه في الخطبة القادمة بإذن الله.
اللهم ألهمنا رشدنا، وأصلح أحوالنا، اللهم وكما حسنت خلقنا فحسن خلقنا…
الأخلاق الفاضلة (2)(1)
طرق اكتسابها: أسباب ضعفها
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له.
أيها المسلمون: قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوصني فقال: "اتق الله حيث كنت" قال: زدني، قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها" قال: زدني، قال: "خالق الناس بخلق حسن"(2).
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: "كرم المؤمن دينه، وحسبه حسن خلقه، ومروءته عقله"(3).
وقال الحسن: من ساء خلقه عذب نفسه (4).
وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق، أحب إلي من أن يصحبني عباد سيئ الخلق (5).
ومن وصايا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : "خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال"(6).
وقال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات، وإن قل عمله وعلمه: الحلم، والتواضع، والسخاء، وحسن الخلق، وهو كمال الإيمان (7).
إخوة الإيمان: وحيث مضى حديث عن فضل حسن الخلق وأثره، ونماذج من خلقه - صلى الله عليه وسلم - وإشارة إلى أصول الأخلاق الفاضلة.
فحديث اليوم يرتكز على ثلاث نقاط أساسية:
فطرية بعض الأخلاق واكتساب بعضها.
العوامل المؤثرة سلباً في الأخلاق.
العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/7/1419هـ.
(2) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح – الإحياء: 8/1428.
(3) روي مرفوعاً، وموقوفاً عن عمر بإسناد صحيح – الإحياء: 1430.
(4) السابق: 4/1433.
(5) 4/1433.
(6) السابق: 4/1433.
(7) الإحياء: 4/1433(1/104)
أما فطرية الأخلاق، وإمكانية تقويمها، فقد ذهب بعض الباحثين والفلاسفة إلى أن الأخلاق غرائز في النفس الإنسانية لا تقبل توقيماً ولاتعديلاً، وهذه نظرة خاطئة، وقد استغلها من ثقلت عليه مجاهدة نفسه فراح يبرر لها ما هو مقيم عليه من ذميم الأخلاق، بأنه ليس في وسعه تغيير ما طبع عليه وجبل.
ولكن الصواب من القول أن من الأخلاق الكريمة ما يطبع عليه صاحبه – فهذا يحمد الله على ما آتاه الله من فضله، ومن الأخلاق الكريمة ما ينال بالاكتساب والمجاهدة.
وفي حديث أشج عبدالقيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: "احلم والأناة" قال: يا رسول الله قديماً كانا في أو حديثاً؟ قال: "قديماً" قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله (1).
قال ابن حجر في شرحه للحديث: فترديده السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب (2).
ويقول القرطبي مشيراً إلى ما في الخلق من جبلة وما يمكن أن يكتسب: الخلق جبلة في نوع الإنسان وهم فيه متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محموداً، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محموداً، وكذا إن كان ضعيفاً فيرتاض صاحبه حتى يقوى (3).
وفي حديث الغزالي في "الإحياء" عن الأخلاق، عقد فصلاً في (بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة)، ومما قاله: (فلو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ، والتأديبات، وما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حسنوا أخلاقكم").
وكيف ينكر هذا في حق الآدمي، وتغيير خلق البهيمة ممكن، إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق… إلخ كلامه الطويل (4).
__________
(1) رواه أحمد والبخاري وغيرهما.
(2) الفتح 10/459.
(3) نقله ابن حجر في الفتح 10/459.
(4) الإحياء: 4/1438-1439.(1/105)
عباد الله: ولو كان تقويم الأخلاق وتهذيبها غير مستطاع لكانت دعوة الشرائع إلى ذلك عبثاً لا طائل تحته – والشريعة الربانية تنزه عن هذا،والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يحملها ما لا تطيق، وقد حثت الشريعة على كريم الأخلاق، كما أنه صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه"(1).
وفي هذا دليل على إمكانية اكتساب الأخلاق الفاضلة، وترويض النفس عليها.
إخوة الإسلام: وقبل أن أعرض للطرق المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة، أقف عند العوامل المؤثرة على سوء الأخلاق، وكيف تتأثر القيم، وتنحدر الطباع.
ومن أقوى العوامل المؤثرة على سوء الخلق: ضعف الإيمان بالله، وضعف اليقين بجزاء الآخرة، وهذا الصنف لا يهمه حسنت أخلاقه أم ساءت، أما الذين يرجون لقاء ربهم فيدللون على ذلك بعملهم الصالحات، والأخلاق جانب مهم منها.
والمتقون لو ضعفوا ومسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون، ولا يتورع المجرمون والمفلسون عن ضرب هذا، وشتم هذه، وأكل مال هذا، والتطاول على عرض ذاك، وهكذا تتراكم سوءات الأخلاق لمن لا خلاق لهم ولا يرجون لقاء ربهم ولا يطمعون في رفيع الدرجات.
ومن العوامل: القرين، فله أثره على قرينه.
ومن العوامل كذلك: حب الدنيا، والطمع فيها والجشع، وكل ذلك يعمي صاحبه من معالي الأمور والتعامل مع الناس بالحسنى، وكم وقع بين الناس بسبب ذلك من قطيعة وخصومة وتنافر، وشحناءن ولربما تسابقوا في سوء الخلق ورديء الكلام، وأين هذا من السخاء والكرم، والصبر والحلم والتواضع والصفح، والتعاون على الخير… وغيرها من خلال كريمة لا يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، ولو هانت الدنيا في قلوبهم لحسنت أخلاقهم، وساد الود والوئام بينهم، وإلى الله المشتكى.
__________
(1) رواه الخطيب بسند حسن عن أبي هريرة، انظر: الأشقر، نحو ثقافة إسلامية أصيلة: 163.(1/106)
ثالثاً: ومن عوامل ضعف الأخلاق: ضعف الرادع، وغياب العقوبة أو ضعفها أحياناً – إذ في النفوس من لا تردعها إلا العقوبة وسلطان الجزاء، وسواء كانت العقوبة حسية أم معنوية – فكل ذلك وازع ومهذب للنفس، ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وعذاب الدنيا عند الجهلة أخوف من عذاب الآخرة.
وقد تؤدي العقوبة المعنوية مثل أو أعظم مما تؤديه العقوبة الحسية، وهاكم نموذجاً من هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج رديء الأخلاق، أخرج الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة (1).
وهذا أسلوب تربوي في علاج الأخطاء على المربين أن يتأملوه ويعملوا به: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (العنكبوت: من الآية 5-6).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يحب الصابرين والمحسنين، ويجزي المتصدقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتقوى والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوه، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صحاباً بالأسواق، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون: أما السبب الرابع من أسباب تلوث الأخلاق ورداءتها، فهو ذلك الركام الهائل الذي تبثه وسائل الإعلام وتدمر به الأخلاق وتهدم القيم.
__________
(1) صحيح الجامع ح: 4675، المسند 6/152.(1/107)
إنها لحرب أعنف وأمضى أثراً من الحروب العسكرية، إذ كانت الحرب فيما مضى قصراً على الرجال المحاربين، أما هذه الحرب الإعلامية فهي شاملة للنساء والأطفال، والشيوخ والشباب، وكنا في حروبنا مع أعدائنا فيما مضى ندافعهم حتى يسقط آخر سهم بأيدينا، أما الآن فنحن نستجلب من الوسائل ما يدمرنا، ونفتعل حروباً مدمرة لأهلينا وأولادنا، داخل بيوتنا.
عباد الله: أليست البرامج الهابطة المثيرة للغرائز سبباً في انتشار فواحش الزنا واللواط، أليست الصورة الفاتنة سبباً للسفور ودعوة لنزع الحجاب؟ أليست الثقافة المسمومة سبباً في الانحراف الفكري والتغريب الثقافي، وهكذا يتردى الناس في الفتن وتتلوث أخلاقهم وهم لا يشعرون، والفتنة أشد من القتل… والقتل – وإن كان بطيئاً – فهو أشد أثراً من الجراح في معركة يتقابل فيها المتحاربون. ألا فانتبهوا عباد الله لأثر هذه الوسائل المدمرة، وحصنوا أنفسكم ومن تحت أيديكم من آثارها، ومن استرعاه الله رعية فمات وهو غاش لها لم يرح رائحة الجبنة.
أيها المسلمون: ولئن سألتم عن العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهي كثيرة… ولكنها محتاجة إلى صدق ويقين وحزم وعزم ومجاهدة للنفس وترويض لها.
وهذه أولى القواعد، وهي منطلقة من قاعدة: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم"، وكم أفلح المروضون لأنفسهم والمزكون لها: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (الشمس: من الآية 9-10).
ولا بد ثانياً من انتزاع معوقات اكتساب الأخلاق الفاضلة من النفس، فإذا كان الطمع والخوف من أهم هذه المعوقات فيمكن استبعادهما بالثقة بما عند الله والتوكل عليه وحده.
وهكذا ينبغي أن ينتزع من النفس كل خلق رديء يعوق عن اكتساب الخلق الحسن.(1/108)
ومن الأمور المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة، تقدير الأمور العامة في التربية والتأكيد عليها، فالأبوان مثلاً عنصر مهم في التربية، وللعلماء دور في قيادة الأمة وتوجيهها، ويوم أن تسقط هيبة الوالدين عند الأولاد أو يقل تقدير العامة لأهل العلم فإن مؤشر الأخلاق ينحدر، وتحطم الحواجز، ويقود السفينة غير ربانها.
وقراءة السير وتراجم النبلاء طريق من طرق اكتساب الأخلاق، ويقال: تراجم الرجال مدارس الأجيال، ومعلوم أن الخير مفرق بين الناس – قديماً وحديثاً – فهذا حليم، وهذا شجاع، وذاك كريم، ورابع يضرب المثل بصبره… وهكذا، والإطلاع على هذه في تراجم أصحابها يدعو الأجيال اللاحقة لمحاكاتها، فتتحسن أخلاقهم، وتتهذب سلوكياتهم، ويتصل أواخر هذه الأمة بأوائلها.
وتقدير مشاعر الآخرين طريق لاكتساب الخلق الفاضل، ومن جليل الحكم: وآت للناس الذي تحب أو يؤتى إليك، وأحب للناس ما تحبه لنفسك. وصاحب هذا الشعور كلما هم بخلق سيئ للآخرين تذكر كرهه هو لإساءة الآخرين له فأقلع عما هم به.
والشكر والاعتراف بما أنعم الله به عليك طريق مهم لاكتساب الأخلاق الفاضلة، ذلك أن في النفس شرهاً وكفراناً للنعم لا تستقيم معه الأخلاق الفاضلة، وتقييدها بلجام الشكر لله على كل نعمة، وسؤاله المزيد من فضله، وتذكر من هو أقل منه، أو من حرم النعمة التي أوتيها كل ذلك يهذب النفس من جانب، ويدعو لمزيد من النعم: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } (ابراهيم: من الآية7).
ولا بد من الاعتدال والتوازن لمن يريد اكتساب الأخلاق الفاضلة، والحد الوسط في الاعتدال كما قيل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وحد الجور: أن تأخذه ولا تعطيه (1).
__________
(1) ابن حزم: الأخلاق والسير.(1/109)
وثمة أمر مهم لاكتساب الخلق الفاضل ألا وهو الدعاء، فلا تجعل بينك وبين الله وسائط في سؤال أي نعمة، ومنها الخلق الحسن، وقد كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - في استفتاح الصلاة: "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت"(1).
فإن كان هذا دعاء من قيل له: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم:4)، فكيف يزهد غيره بالدعاء عامة وفي حسن الخلق خاصة؟!
أفكار في التربية والتعليم مع بدء العام الجديد (2)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
__________
(1) رواه النسائي بإسناد صحيح (صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص74، د. الأشقر، نحو ثقافة: 163).
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/5/1420هـ.(1/110)
عباد الله: انقضت إجازة تعد من أطول الإجازات، طويت فيها صحائف ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد فيها من ولد، وأطل على الدنيا خلالها جيل جديد، وعمر من عمر: { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (فاطر: من الآية11)، ومن جانب آخر: كسب من كسب في هذه الإجازة بحفظ الوقت وصرف الأعمار بطاعة الله وطلب علم أو عمل مفيد لنفسه أو لمجتمعه أو للأمة من حوله، وفرط من فرط بكثرة النوم، أو إضاعة الأوقات دون فائدة، أو صرفها بما يضر في دينه أو دنياه.. وكذلك يتفاوت الناس دائماً في تقدير قيمة الزمن، ومستوى الهمم، وهيهات أن يعود الزمان بعد ذهابه، وسيكون شاهداً للمرء أو عليه… وفي سرعة الزمن عبرة موقظة لذوي البصائر، إذ هو منبه لقصر الآجال، وفناء الأعمار، وما الدنيا كلها بالنسبة للآخرة إلا قليل: { وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } (الحج: من الآية47).
أيها المسلمون: تلك وقفة أولى حول انقضاء الإجازة، أما الوقفة الثانية، فهي التذكير بالحاجبة الملحة إلى وضع برامج مفيدة طوال فترة الإجازة، إذ من الظواهر التي لا تكاد تخفى على مطلع ضياع أوقات الناس – وبخاصة الشباب – من الجنسين – بكثرة النوم او بسفريات غير مدروسة الأهداف، وقليلة الفوائد، وحري بالمؤسسات التربوية، وبالمربين أن يدرسوا هذه الظاهرة ويفكروا في عدد من الوسائل لاستثمار أوقات الشباب بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع، إذ هم عماد الأمة مستقبلاً، وبإعدادهم وتربيتهم يكون تحدي الأمم، ويصنع التاريخ، وبوركت الأمة تعنى بشبابها وفتياتها، وتستثمر أوقاتهم وتهيئ الفرص النافعة لهم.(1/111)
إن المراكز الصيفية والدورات العلمية، والرحلات الهادفة وأمثالها وسائل في الطريق الصحيح لاستثمار الإجازة ولكنها غير كافية، وغير شاملة لعموم الشباب والشابات، وذلك يستدعي مزيداً من التفكير، والتطوير في الوسائل والبرامج حتى تستوعب هذه البرامج أكبر عدد ممكن، وتملأ أوقات الفراغ بالمفيد المنتج، وتسهم بإعداد جيل قادر على التحدي، بل وعلى الصمود في مواجهة الحروب الباردة أو الساخنة، ثابت على المبدأ الحق في زمن غزو الفضائيات، ومشاريع العولمة، ونحوها.
أيها الشباب، أيتها الفتيات: وانقضت الإجازة وبدأ العام الدراسي الجديد، فبأي همة استقبلتم العام الجديد. والمؤمل فيكم استقبال العام بجدية في التحصيل العلمي وإخلاص في طلب العلم، وتزين بأخلاق العلم، وارتداء لبوس العلماء، ولا ينبغي أن يكون الهدف الأول والأخير من العلم الحصول على الشهادة، وتوفر الوظيفة… فهذه وإن كانت مهمة فالعلم أغلى وأجل، ولئن دعت الحاجة في الدنيا إلى الوظيفة والعمل، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرء إلى المنازل العالية في الجنة، وبالعلم النافع يعرف المرء ربه، وبه يتعلم أحكام الدين، وأدب التعامل مع الآخرين، ويكفي العلم فخراً ورفعة أن يقول الله عن أصحابه: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات } (المجادلة: من الآية11)، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } (الزمر: من الآية9).
وإذا كان العلم يرفع بيتاً لا عماد له، فالجهل يهدم بيت العز والشرف.(1/112)
أيها المربون أنتم مؤتمنون على التعليم وعلى رعاية المتعلمين، هيئوا الفرص المناسبة لهم. واعتمدوا الانطلاقة من الثوابت والأصول في شريعة الإسلام، جددوا في الوسائل التعليمية بما يساير العصر – واستحدثوا من البرامج التعليمية ما يجعل أبناءنا في مقدمة الركب، واجعلوا من التعليم أداة للصمود في حرب العقائد وغزو الأفكار والقيم، فالأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه طروحات غريبة، ويمسك بالقيادة غير المسلمين. وفرق بين تطوير التربية والتعليم بما ينفع الأمة في حاضرها ومستقبلها، وبين التضليل وعلمنة التعليم، فتلك هزيمة مبكرة، بل وانتقال من الاستعمار العسكري إلى الاستعمار الثقافي، وليس الآخر بأقل خطراً من الأول.
إنها مأساة حين تختلط في أذهان بعض المثقفين أو المثقفات حتمية العلمنة مع التطوير في أي جانب من جوانب الحياة، ومن أبرزها التربية والتعليم، ومأساة أخرى حين يظن آخرون أن من لوازم الأصالة نفي التطوير ولو كان سليماً نافعاً، ولعل من المفيد أن نتذكر واحدة من توصيات المؤتمر الأول للتعليم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة عام سبعة وتسعين وثلاثة مئة وألف للهجرة، وقد جاء في هذه التوصية: "لا قيود على العلم النظري أو التجريبي في التصور الإسلامي سوى قيد واحد يتصل بالغايات والمقاصد، فلا ينبغي أن يستخدم في إفساد العقيدة والأخلاق، كما لا يجوز أن يكون أداة للإضرار والعدوان (1).
__________
(1) التطوير بن الحقيقة والتضليل د. جمال عبدالهادي، علي أحمد لين ص7.(1/113)
إخوة الإسلام: إن من الفساد والعدوان في تطوير المناهج أن تبرز نظريات في عالمنا الإسلامي تنادي بالمساواة بين المسلم واليهودي والنصراني، وتدعو إلى وحدة الأديان، والأخطر حين ينتقل إلى خطوات عملية، فتحذف من المناهج الدراسية آيات قرآنية محكمة تتحدث عن اليهود أو النصارى بوصفهم أعداء للمسلمين، لا يجوز موالاتهم، أو تنكر نصوص من السنة النبوية الصحيحة تحذر من التبعية لليهود والنصارى، وتكشف عداوتهم للمسلمين، أو تحذف الموضوعات المتعلقة بالجهاد في سبيل الله. أو نحو ذلك. وانكشفت بتعاليمه - صلى الله عليه وسلم - ضلالات أهل الكتاب وتعسفهم وظلمهم وصدق الله: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (المائدة: من الآية 15-16).
معاشر المسلمين: ومن الحق والعدل أن نقول: إن المناهج الدراسية في هذه البلاد المباركة تعد من أفضل المناهج في عالمنا الإسلامي، ورغم وجهات النظر الغريبة التي تطرح أحياناً لتغيير المسار الآمن، فلا يزال عند المسؤولين قناعة بأهمية التميز والأصالة في مناهج بلاد الحرمين، وبما لا يتعارض مع التطوير المثمر والتجديد للأحسن، ولا سيما نحن في زمن باتت الدول تعنى بتراثها وتنطلق من أصولها العقدية والفكرية.(1/114)
ونحن في هذه البلاد نفخر بذكر تجربة في التعليم طبقت أول ما طبقت في بلادنا، ثم عم نورها الأرض من حولنا، تلكم هي التجربة الأولى في التعليم التي قادها محمد - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه رباني: "اقرأ باسم ربك" وحينها كانت أمة العرب أمة أمية، وكانت الأمم من حولها تفاخر بعلمها وحضارتها، ولكن علم هؤلاء وحضارتهم أضاف الكون ظلمة وأسبغ على الشعوب الذلة والمهانة، وساد الظلم وأسنت الحياة، فبعث المعلم الأول بها الحياة من جديد، بمنهج رباني يقوم على تحرير الناس من كل عبودية سوى العبودية لله، وتعليم الناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعلى أضواء هذا العلم الكاشف تلاشت الظلمات، وبدأ بساط الظلم والجهل يطوى وانتشر الخير وعم العدل.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على رسوله أول ما أنزل: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (العلق: من الآية 1-5).
والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي علمه ربه ما لم يكن يعلم، فعلم الأميين، وفاق بأدبه وخلقه وعلمه أهل الكتاب الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
وبعد – إخوة الإسلام – فمن الوقفات مع بدء العام الدراسي الجديد – وقفة مع المعلمين والمعلمات تذكرهم بأمانة التعليم ومسؤولية التربية، وأهمية القدوة والإخلاص في الأداءن وربط المعلومة بالواقع، ومتابعة الطلاب والطالبات، وتشجيع النابهين وإعانة المتخلفين، وتقيم ما انحرف من سلوك، وعدم تكليف الطلاب والطالبات ما يشق عليهم أو أوليائهم.(1/115)
وهنا وقفة أخرى يشترك في ضرورة التنبيه إليها إدارة المدرسة مع المعلمين، مع الأولياء، ألا وهي عدم المبالغة في تأمين الأدوات المدرسية، والإسراف في الطلبات إلى حد يرهق الأولياء، وربما كسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون ما يوفرون به هذه المتطلبات من جانب، ويجدون إلحاحاً من أبنائهم وبناتهم على توفيرها من جانب آخر، ويدخل في هذا الجانب إسراف بعض الأولياء في النقود التي يصرفونها لأبنائهم وبناتهم للفسحة بما يفوق حاجتهم، ويؤثر على نفسيات أبناء الأسر الفقيرة من زملائهم، وتحية للأوليات المقتصدين، ولو كانوا قادرين، واضعيننصب أعينهم مشاعر الآخرين، وهنا اقتراح حري بالدراسة وهو دفع مبلغ من المال محدد من كل طالب وطالبة مع بداية الفصل، وتتولى المدرسة تأمين فسحة يومية مناسبة لكل طالب وطالبة على حد سواء، فذلك يريح الأولياء من جانب، ويشعر الطلاب المواساة من جانب آخر، وربما كان فيه ترشيد للنفقة من جانب ثالث، وتسهم المدرسة فيه بتأليف قلوب الطلبة والطالبات وإشراك بعضهم في خدمة بعض من جانب رابع… وهكذا… وكذلك الأدوات المدرسية لو أمكن تحديدها من قبل المدرسية بشكل جماعي محدد ومقتصد لأراح الأولياء والمدرسة… إنها مشكلة أن يتعلق الطالب أو الطالبة بشكليات التعليم، ويتنافس الأولياء في تأمين أحسن الأنواع، أما لب التعليم والهدف من التحصيل فلا نجد فيه مثل هذه المنافسة.(1/116)
وهنا أقف مذكراً إخواني الطلاب وأخواتي الطالبات بمسألة غاية في الأهمية، بل لعلها الهدف من التعليم أساساً ألا وهي العمل بالعلم واستثمار العلم وسيلة لنهوض الأمة وتقدمها، وتلك مسألة لا ينفرد الطلاب في التنبيه عليها، بل هي جزء من مسؤولية المعلمين والمعلمات، والآباء والأمهات… فما قيمة العلم بلا عمل… إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها وغاياتها أن يحمل الطلاب والطالبات على عواتقهم كماً من المقررات طيلة فصل أو عام ثم يرون أنهم يتخففون منها بأداء الأمتحان..
إن رسالة التعليم لم تبلغ الغاية منها إذا حفظت طالباً أو طالبة نصوصاً في أهمية الصلاة وكيفية أدائها وشروطها وواجباتها، فإذا بالطالب أو الطالبة لا يصلي إلا قليلاً، أو يصليها على غير ما تعلمها، ووظيفةالمعلم والمعلمة لا تكتمل بتلقين الطلبة والطالبات نصوصاً في بر لوالدين واحترام الآخرين، حين يوجد من بين المتعلمين والمتعلمات عدد من العاقين لوالديهم والمتعاملين بنوع من الفظاظة والشدة مع الناس من حولهم، وقل مثل ذلك عن بقية مفردات المناهج في النواحي السلوكية والخلقية، فلا بد من وعي وتأكيد على النواحي العملية وربط التعليم بواقع الطلاب والطالبات، ولا بد كذلك من مشاركة البيت في تطبيق ما تعلمه الدارسون والدارسات في المدرسة، ومثل ذلك يقال عن المناهج العلمية التطبيقية؛ إذ لا بد من تأمين المعامل الكافية في المدرسة، ولا بد من متابعة الجديد في التقنيات الحديثة، ولا بد كذلك من تأمين فرص للتدريب خارج المدرسة، ولا بد من تحفيز النابهين على الاختراع… وهكذا حتى لا تظل الأمة المسلمة دائماً عالة على الآخرين في منتجاتها وسوقاً تروج فهيا بضائع الآخرين، وهي تمتلك عقولاً كعقول الآخرين أو أحسن، ولا تنقصها المادة الممولة للإنتاج والاختراع…(1/117)
وهكذا نستثمر التعليم، ونرقى بمستوى المتعلمين، ونتجاوز الشكليات إلى الجواهر، دون أن نخل بأصولنا ومنطلقاتنا الفكرية، أو نقعد عن مسايرة الركب في بناء الحضارة الحقة، تلك أفكار ووقفات أثق أن المسؤولين في التعليم يقدرونها حق قدرها، وأثق أنها لا تغيب عن بال المعلمين والمعلمات، ويطمع الأولياء أ، يصل إليها أبناؤهم، ويود الطلاب و الطالبات لو استثمروا التعليم بشكل جيد… ولكنها الذكرى، ولنتعاون جميعاً على تحقيقها، وبارك الله في جهد كل عامل مخلص، وربك لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا.
كيف نودع عاماً وبم نستقبل آخر (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين: { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } (المؤمنون: من الآية 79-80).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: { خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (فاطر: من الآية11).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/12/1419هـ.(1/118)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، توفاه ربه بعد أن عمره ما شاء واستكمل أجله، وعلم أمته أن أعمارهم ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (الحشر: من الآية 18-19).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } (الحج:1).
إخوة الإسلام: كيف نودع عاماً، وبم نستقبل عاماً آخر؟ سؤال يفرض نفسه هذه الأيام، ترى كم هم الذين يشغل بالهم هذا السؤال؟ وكم من المسلمين لا يلفت نظرهم على الإطلاق هذا السؤال؟ إلا بفارق السنة الهجرية، أو تذكر العلاوة السنوية؟ ودعونا نحسن الظن بالناس ونقول: إن فئة من المسلمين يشغل بالهم هذا السؤال من ذوات أنفسهم، وفئة أخرى قد تكون غافلة لكنها إذا ذكرت تذكرت… ولنعد إلى السؤال: بم نستقبل وكيف نودع؟
إن نهاية عام تعني ذهاب ثلاث مئة وستين يوماً من عمر الإنسان، وتلك تحوي أعداداً كثيرة من الساعات وأضعافها من الدقائق والثواني، كما تحوي عدداً من الأعمال دقت أو جلت، صلحت أم خبثت، وتحوي في طياتها عدداً من الخطرات، وأنواعاً من الهواجس، وألواناً من الحركات… وهذه فيها الصالح والطالح، وفيها ما هو في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وفيها ما تهوى الأنفس وتلذ الأعين وإن كانت في غير مرضاة الله، ومخالفة لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/119)
في هذه الأيام والساعات والدقائق أعمال صالحة تسر النفس لذكراها، ويود المرء لو كانت حياته كلها على منوالها، وقد يكون فيها من أعمال السوء ما يود صاحبها أن يتناساها، ويرغب أنه لم يقترفها، ويوم القيامة يود لو كان بينه وبينها أمد بعيد…
ترى هذه الأعمال والحركات والرصيد المتجمع خلال عام أليس خليقاً بالمحاسبة والتذكر؟ والمحاسبة النافعة هي التي تقود صاحبها إلى استدامة عمل الخير، وقصر النفس قدر المستطاع عن عمل السوء، والنظر في العواقب تلقيح العقول – كما قيل – ومن أقوال الحكماء: شيئان إذا عملت بهما أصبت خير الدنيا والآخرة. تحمل ما تكره إذا أحبه الله، وتترك ما تحب إذا كرهه الله (1).
وقال العارفون: ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم، وانظر كل عمل كرهت الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت؟(2).
__________
(1) تهذيب سير أعلام النبلاء: 2/524-525.
(2) تهذيب سير أعلام النبلاء ص524.(1/120)
كم تلهينا الدنيا وهي متاع الغرور، فتمر الأيام والأعوام سراعاً بلا تفكير، وكم تفتنا بزينتها، ومتاعها في الآخرة قليل، وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون… وكل نفس مصيرها إلى الموت والفناء… ولكن المهم ما بعد ذلك: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور } (آل عمران:185)، وكم ننخدع بوساوس الشيطان، وقد عسي فلم يضر، وأطيع فما نفع… ويوم القيامة يتبرأ من متبوعيه ويقول حين يقضى الأمر: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (ابراهيم: من الآية22).
من قدوتك في هذه الحياة؟ وما نوع الخليل الذي تتخذه لك صديقاً، والله يقول: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } (الزخرف:67)، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". هل تفكر جاداً في الموت وما بعده؟(1/121)
عباد الله: وكم نتساهل بالذنوب وهي – كما قيل – مهلكات تفوت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، وتحجبه عن معرفة ربه في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة (1): { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } (الانفطار: من الآية 13-14)، ومصيبة حين تتراكم علينا الذنوب ونحن لا نشعر، فيكون الران على القلوب { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ } (المطففين: من الآية 14-16)، ويرحم الله أقواماً كانت ذنوبهم قليلة، وحياتهم عبادة وخشوعاً وزهداً وورعاً، ومع ذلك يقول أحدهم تورعاً وتواضعاً وخشية: "لو كان للذنوب ريح ما جلس إلي أحد"(2) هكذا كان يقول محمد بن واسع الأزدي رحمه الله، الذي قال عنه سليمان التيمي رحمه الله: (ما أحد أحب أن ألقى الله بمثل صحيفته مثل محمد بن واسع)(3).
يا عبدالله: كم في صحائفك الماضية من توبة واستغفار، والله يقول: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } (هود:90)، ويقول: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } (طه:82).
وفي الأثر: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً".
وهذا سيد البشر المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"(4).
كم تراغم الشيطان بالتوبة، وكم تحت الخطايا بالاستغفار، فكيف إذا كانت التوبة واجبة ثابتة بنصوص الكتاب والسنة كما قرر العلماء؟!(5).
__________
(1) الفتح: 11/106.
(2) تهذيب سير أعلام النبلاء: 2/526.
(3) السابق: 526.
(4) رواه البخاري وغيره: 6307.
(5) التوبة وسعة رحمة الله – ابن عساكر/12.(1/122)
وينسب للإمام أحمد رحمه الله قوله (1):
لهونا عن الأيام حتى تتابعت ... ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم ... وخلفت في قرن فأنت فيهم غريب
عباد الله: وفي سبيل محاسبة أنفسكم في نهاية عام وابتداء عام، تذكروا أن أشق شيء على النفوس جمعيتها على الله، وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه، وأن يشغلها بما دونه، فإن حبس النفس على الله شديد، وأشد منه حبسها على أوامره، وحبسها عن نواهيه، فهي دائماً ترضيك بالعلم دون العمل (2)…
__________
(1) مناقب أحمد: 265، 266، طبقات الحنابلة: 1/83، سعة رحمة الله: 23.
(2) المدارج: 3/143.(1/123)
أيها المسلمون: ما أجمل الأعمار تختم بالتوبة والاستغفار، وسبيل المسلم في ذلك أن نختم كل عمل، وكل مجلس، وكل خطأ أو ذنب بالتوبة والاستغفار… ولا يزال الله يعفو ما أحدث العبد توبة وندماً واستغفاراً… فإن نسيت التوبة أو فاتك الاستغفار في شيء من أيام العام، فلا يفوتنك ذلك في نهاية العام، فالأعمال بالخواتيم، وصحائف العام لم تطو بعد، فأشهد ربك على توبتك، ولا تصر على صغيرة، أو تحقرن من الذنوب شيئاً وإن داخلك الشيطان بتعاظم ذنبك وعدم مغفرة ربك، فاعلم أ، رحمة الله وسعت كل شيء، والله يغفر جميعاً… ربنا كريم يحب عبده إذا اقترب منه، ويمحو عنه زلاته، قال الله عز وجل – في الحديث القدسي: "من عمل حسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن عمل سيئة فجزاؤه مثلها، أو أغفر، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة، ومن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت غليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"(1)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } (الزمر: من الآية 53-54).
الخطبة الثانية
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.(1/124)
الحمد لله كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ } (الرحمن: من الآية 26-27)، وأشهد أن محمد الله عبده ورسوله، أدركت سنة الله في المرسلين قبله: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم } (آل عمران: من الآية144).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون: أما العام الجديد فهو صفحة بيضاء ينتظر الحفظة الكاتبون ما أنتم عاملون، ألا فاستقبلوه بعزائم قوية، ونية صادقة على فعل الخير، وسيحفظ لكم النقير والقطمير، ولن تكفروا من أعمالكم شيئاً: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } (الانبياء:94).
تذكروا أن عاماً بأكمله سيجري الله فيه من الأحداث ما يجري ويقدر ما يشاء، ألا فاسألوه من خير هذا العام، واستعيذوا به من شروره وفتنه، فلا يرد القضاء إلا الدعاء، وكم من فتنة حصلت؟ وكم من أمراض ومصائب وشرور حدثت في العام المنصرم؟ فإذا سلمكم الله منها فيما مضى فاسألوه أن يحفظكم منها، ويعيذكم من شورها فيما تستقبلون من عامكم الجديد.
استقبلوا العام الجديد بوضع عدد من التساؤلات والنقاط تحددون بها مساركم، وتقيمون فيها بعدكم أو قربكم من الخير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فمن هذه النقاط في التقويم، ما نوع العلاقة مع الله؟ وما نوع العلاقة مع الخلق؟ كيف أنت في العبادات؟ وكيف أنت في المعاملات؟
ما هي الخطيئة أو الخطايا التي لازمتك في عامك المنصرم وتنوي الخلاص منها في عامك الجديد؟(1/125)
ما في الفضيلة أو الفضائل التي فاتتك في عامك الماضي، وتفكر جاداً ألا تفوتك في العام المقبل؟ كيف أنت وفتنة الأهواء والشهوات والشبهات والفضائيات؟
ما قيمة الوقت عندك؟ وبماذا تستثمره؟ طاقاتك كيف تصرف، وقدراتك بماذا تستثمر؟ مانوع اهتمامك، هل تحمل هم الإسلام؟ وهل تستشعر قضايا المسلمين؟ وبماذا ساهمت فيها؟ ما مدى شعورك بانتصار الحق وأهله؟ وما مدى أسفك لغلبة الباطل وكثرة المبطلين؟ هل تشكل الدعوة إلى الله جزءاً من حياتك، وما نصيب أهلك وأبنائك وذوي رحمك وجيرانك وزملائك وعموم المسلمين منها؟ هل تجدد في أساليب دعوتك، وهل تتحرى الحكمة في قولك وفعلك؟ ما مدى قيامك بواجبك الوظيفي، وعلى أي نحو تؤدي الأمانة التي أؤتمنت عليها في أي موقع كنت؟ حاسب نفسك في نوع مطعمك ومشربك، وملبسك، وماذا تسمع وتبصر، وبم تنطق، وماذا تضمر في فؤادك: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } (الاسراء: من الآية36).
راجع نفسك في أداء الفرائض، وكم قدر الاحتياطي عندك في السنن، فهن مكملات لنقص الفرائض، مسددات للخلل، رافعات للدرجات، مكفرات للسيئات، ما نصيبك من ذكر الله؟ وكيف صلتك بكتاب الله؟ وكيف أنت والنفقات الواجبة والمستحبة؟
أيها المسلمون: هذه وأمثالها مراجعات يحسن بالمرء أن يراجع نفسه ويسألها عنها على الدوام… وهي خليقة بالمحاسبة مع انصراف عام وبدء عام، وإذا أخرجت لنفسك ميزانية في آخر العام عرفت قدر المكاسب فيها والخسران، وإذا علمت ذلك سددت وقاربت قدر الإمكان، وتلك الميزانية والمحاسبة، وربي، أولى من غيرها في موازين الدنيا ومحاسباتها… والغفلة ثورت الهلكة… وما أعظم الحسرة حين يرد الناس يوم القيامة بحسنات كالجبال، ويرد المفرطون الغافلون بالخيبة والخسران، يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.(1/126)
عباد الله: نهاية عام وبدء عام مذكرة بسرعة الأيام وانقضاء الأعمار، فإذا كانت الساعة تشكل قدراً في أجل الإنسان، فكيف مما يزيد على ثمانية آلاف وست مئة ساعة في السنة، والله يقول: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } (لأعراف:34).
يا عبدالله: وبين عام مضى وعام يوافي عبر توقظ الضمير الغافي، وهل نسيت أنه حصل ف بالعام المنصرم علل وأسقام، وفتن وهموم، وفقر وحروب، وأموات رحلت، ودماء أزهقت، وأطفال ونساء تأيمت… فإذا سلمك الله من هذا كله فاحمد الله واشكره، واعلم أن ما تخطاك لغيرك سيتخطى غيرك إليك، فكن مستعداً للقاء ربك، مغتنماً شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلم: ومما يفيدك في المحاسبة – بشكل عام – أن تنظر في أمور دينك إلى من فوقك فذلك أدعى لرفع همتك، وتنظر في أمور دنياك إلى من هو دونك حتى لا تزدري نعمة الله عليك.
إخوة الإسلام: نهاية العام فرصة للتأمل في المتغيرات التي تحصل في المجتمعات فما موقع المسلمين في خارطة العالم، وما نوع القوى التي تحظى بالنفوذ والسيطرة؟ إلى أين يسير الشباب؟ وماذا يراد للمرأة المسلمة؟ وماذا تصنع القنوات، وكم هي ضحايا الخمور والمخدرات؟ وكيف السبيل لتصحيح المسار، والوقاية خير من العلاج.(1/127)
{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (البقرة: من الآية251)، { فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود: من الآية 116-117).
عباد الله: وهذا اليوم – الذي نحن فيه – هو اليوم الموفي للعام المنصرم، أو هو أول أيام العام الجديد، وإذ يوافق يوم الجمعة ومنه ساعة استجابة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئاً من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، فإنني أذكر نفسي وإخواني بقيمة الدعاء فيه، ولا سيما في آخر ساعة منه.
اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، واجمع كلمتنا على الحق والهدى، واغفر لنا ما سلف من ذنوب وأخطاء فيما مضى من عامنا واجعل عامنا الجديد عام خير وبركة ونصر للإسلام والمسلمين، اللهم أعنا فيه على عمل الصالحات وجنبنا الموبقات والمهلكات.
من أنصار المرأة؟(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده…
إخوة الإسلام: المسلم الحق هو الذي يقبل أحكام الإسلام كلها، في حال يسره وعسره، ومنشطه ومكرهه، ولا يجعل لنفسه خيرة فيما اختار الله، ولا يرتاب في صلاحية شرع الله لكل زمان ومكان، امتثالاً لقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب: من الآية36).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/2/1420هـ.(1/128)
واستجابة لقوله تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (النور:51).
وعملاً وأدباً لقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } (الحجرات: من الآية15).
وليس من الإيمان في شيء التحاكم إلى غير شرع الله، بل من شروط الإيمان وصحته، التحاكم، والرضى، والتسليم، وعدم الحرج بحكم الله وشرعه: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65).
إن دعوى الإيمان مع إرادة التحاكم إلى قوانين البشر وطواغيتهم، زعم حكم القرآن ببطلانه، وفضح أصحابه، وحكم عليهم بالضلال، ومتابعة الشيطان بقوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } (النساء:60).
بل تلك سمة من سمات المنافقين، إذ جاء بعدها قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً } (النساء:61).
إنهما حكمان متباينيان لا ثالث لهما: إما حكم الله، أو حكم الجاهلة: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (المائدة:50).(1/129)
أيها المسلمون: وتعالوا بنا لنطبق هذه القواعد الكلية على قضايا المرأة المطروحة هذه الأيام – حتى لا نخدع بأن الخلاف في قضايا فقهية، أو ندع غيرنا ليحدد لنا ميدان المعركة، فغن كان الزاعمون لتحرير المرأة مؤمنين حقاً بأحكام الإسلام وتشريعات القرآن، وهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - فحسبهم أن يذكروا بالنصوص الآمرة والناهية والهادية للمرأة، وهي مبثوثة في كتاب الله، وفي سورتي "النور" و"الأحزاب" على الخصوص شيء عظيم، أما "سورة النساء" فحسب المرأة شرفاً – في الإسلام – أن تسمى سورة باسمهن، بل أكثر من سورة، هذا فضلاً عما في سورتي "النساء" و"مريم" من آداب وأحكام تعجز النظم البشرية – على امتداد تاريخها – أن تبلغ شأوها…
وفي النبوة عدل ووفاء، وبر ورحمة، ودعوة للرفق بالنساء والوصية بهن خيراً، وعدم كسرهن وحسن العشرة لهن وإن كان بهن عوج، فإن كره منها خلقاً رضي منها آخر… وإن لم يرض أدعياء تحرير المرأة بهذا فالخلاف معهم في المنطلقات والأصول ينبغي أن يتفق عليها قبل بدء الحوار في الأمور الأخرى.
عباد الله: وهنا يطرح سؤال مهم: من هم أنصار المرأة حقاً؟ أهم أولئك الذين يريدون أن يرتبط تاريخها بآسية المؤمنة التي خلد القرآن ذكرها، ورفضت ظلم فرعون وعدوانه، وعلت همتها عن متاع الدنيا وزينتها واتصلت بالملأ الأعلى، وكانت الجنة غايتها؟ ومريم ابنة عمران التي أحسنت فرجها، وبارك الله في نسلها وكفاها فخراً أن ينسب إلها نبي الله عيسى ابن مريم.
أم أولئك النفر الذين يريدون أن ينتهي ارتباط المسلمة بالنساء الكاسيات العاريات – تجدهن في المراقص ودور السينما، وبهن تروج أسواق البغاء وتنتشر فاحشة الزنا… وينتهي بهن المطاف إلى المصحات النفسية، ولهن تقام عيادات الإجهاض، فلا يكتفين بقتل حيائهن، بل يساهمن مساهمة كبرى في إهلاك الحرث والنسل.(1/130)
من أنصار المرأة حقاً؟ أهم أولئك الذين يريدون المرأة درة مكنونة وجوهرة مصونة، ناعمة اليدين، يزيدها الخمار جمالاً وهيبة، وتقيها جدران بيتها من السموم والرياح الحارة أو الباردة، وتأمن بعدم اختلاطها من سعار الذئاب الجائعة؟
أم أنصارها أولئك الذين يريدون لها اللهاث وراء السراب الخادع، يتصبب عرقها من جبينها في المصنع، وتتورم يداها، ويتناثر شعرها وتخلق ثيابها في الورشة و المعمل، تؤمر وتنهى، بل يباع عرضها ويشترى حياؤها، وربما هددت بالفصل أو نقص المرتب إذا لم تستجب لمطالب الطامعين فيها؟(1/131)
إن أنصار المرأة حقاً هم الذين يكشفون لها خلاصة تجربة المرأة الغربية – حين خرجت – ببؤسها وتعاستها، وتعالت صيحات العقلاء محذرين من مجاراتها لا أولئك المنهزمين فكرياً، ويريدون للمرأة المسلمة أن تدخل النفق المظلم وتلج جحر الضب الخرب؟ إنه لا يغيب عن ذهن المرأة المسلمة الواعية أننا في زمن (عودة الحجاب) على أثر حصاد تجربة مرة تورطت بها بعض نساء المسلمين حين خرجت واختلطت فعادت تحذر بنات جنسها وتدعو للزوم الحجاب، وثمة نموذج آخر يشهد على وعي المرأة واعتزازها بحجابها، تدور أحداثه طرية في تركيا المسلمة أصلاً… والعلمانية حديثاً، وصاحبته المرأة المحجبة مروة قاوقجي، تلك التي أصرت على لزوم الحجاب، وفرضه على أكبر مؤسسات الدولة، رغم العلمنة والتغريب، وسيطرة العسكر ونفوذ الغرب وبكل حال فستبقى هذه الأفكار المطروحة وثائق تكشف عن التوجهات الفكرية، وتحصي أصحاب الثقة المستوردة، وستحفظ ذاكرة التاريخ، ويشهد الجيل على أولئك الذين أرادوا بمجتمعهم السوء والشرور وإن زعموا الإصلاح، والتحرير، فتلك شنشنات سبقوا إليها واكتشف الناس فيما بعد زيفها. ولعل من أبرز النماذج على ذلك الفكر الذي طرحه قاسم أمين حول (تحرير المرأة) فقد اكتشف الجيل اللاحق له ما في فكره من فساد وانحراف وفتن أكثر مما اكتشفه الجيل المعاصر له. وهكذا تتكشف الحقيقة وإن طيلت بطلاء خادع فترة من الزمن.
اللهم اهد ضال المسلمين، وثبت هداتهم على الحق يا رب العالمين.(1/132)
ترى أيفيق الناس من رقدتهم، وينادي بعضنا ببدء السبات من جديد، أيتحرر المسلمون من ربقة الاستعمار والتبعية والتقليد، ويصر بعض المخدوعين عندنا على استمراء العبودية، والفرق كبير بين الحرية والعبودية، كما الفرق بين لباس التقوى الأصل، ولبوس العارية المصطنع؟ وهنا وفي مجال الانهزامية التي يعيشها البعض، أنقل كلاماً جميلاً لدكتور فهد آل إبراهيم في مقال له بعنوان: (شقائق الرجال) ونشر بجريدة الجزيرة في 25/1/1420، مما جاء فيه قوله: أما أهزوجة ما يسمى بتحرير المرأة التي يترنم بها البعض، فهم إما جاهلون بحقيقة ما تعانيه المرأة من المجتمعات الأخرى، أو منهزمون نفسياً ومتأثرون بالثقافة الغربية، ويرون تطبيقها بصرف النظر عن سلبياتها، وهم يرون في زيف الحضارة الغربية أنموذجا يحتذى بعد أن فتنتهم بريق العيون الزرقاء.. فحجب عنهم رؤية القذارة النابعة من واقع هذا الانحلال الخلقي. واللافت للنظر عند هؤلاء ربطهم غير المنطقي بين دور المرأة ووظيفتها في المجتمع وبين (أضحوكة) قيادتها للسيارة، وكأن الدور المطلوب منها في خدمة دينها ووطنها امتهان وظيفة (سائق)؟! انتهى.
أيها المسلمون والمسلمات: إن أنصار المرأة حقاً هم أولئك الذين يطالبون باستيفاء حق المرأة في العلاج،وحقها في التعليم وصياغة مناهجه، وفق طبيعتها واحتياجاتها، وضمان حقها في أسلوب التعامل معها أو صيانة حقوقها المالية، أو تشغيلها في وظائف نسوية لا يزال الرجال يقومون بها، أو تقوم بها نساء كافرات وافدات لا تؤمن غوائلهن. أو نحو ذلك من أمور – سآتي على تفصيلها.(1/133)
وليس أنصار المرأة أولئك الذين تنتهي طموحاتهم وآمالهم عند حدود نزعها للحجاب وقيادة السيارة، والاختلاط بالرجال، وإشاعة الفاحشة، وتفريق المجتمع، وضياع الأمة وصدق الله: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (النور:19).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأمر أمره، والحكم إليه { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (آل عمران:85)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حذر أمته من الفتن وأخبر أن أخوف ما يخاف على أمته المنافق العليم اللسان.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإيمان: إن أنصار المرأة حقاً هم الذين يطالبون باستيفاء المرأة حقها في العلاج، وذلك بتوفير مستشفيات ومراكز صحية أو عيادات بطاقم نسائي متكامل يتعامل مع المرأة في الإدارة، والتمريض والتطبيب والصيدلة وغيرها من إجراء العمليات القادرة عليها النساء، وذلك كله مذهب للحرج الذي تجده – أحياناً – بعض النساء جراء معاملة الرجال لهن… إنها دعوة للمسؤولين وللقادرين من رجالات الأعمال لتوفير هذا النوع من المستشفيات خدمة للمرأة، وحفاظاً على حرمات الأمة.(1/134)
وأنصار المرأة حقاً هم الذين يطالبون بمزيد من العناية بتعليم المرأة، وذلك بصياغة مناهج تخص المرأة وتلبي مطالبها – التي فطرها الله عليها – وتفي بحاجتها وتتفق ومع ما يراد للمرأة مستقبلاً، إن إشراك الفتاة مع الفتى في مناهج معينة لا تخدمها ولا تحتاج إليها، هدر ينبغي أن يستعاض عنه بأمور تصلح للمرأة وتتفق مع مهمتها الأساسية في الحياة، ومن المناهج إلى المعلمين، فلماذا نحتاج إلى رجل يعلم المرأة عبر الشاشة، ولماذا نحتاج إلى إداريين تتعامل المرأة معهم، أليس بالإمكان توفير طاقم نسائي يتعامل مع المرأة في كافة شؤونها التعليمية؟
وفي التعليم الجامعي يطالب أنصار المرأة الخيرون ويقترحون إيجاد جامعة للنساء تصاغ مناهجها بعناية ويختار لمسؤولياتها من ذوات الخلق والدين والخبرة والكفاءة، وتحدد أقسامها وكلياتها حسب طبيعة المرأة وحاجاته، وبما ينسجم مع وظيفتها في الحياة، وبهذه الجامعة يمكن استيعاب عدد من النساء من جهة، ونقي المرأة من دعوات الاختلاط المحمومة من جهة أخرى.
عباد الله: ومن حقها في التعليم والعلاج إلى حقوقها وواجباتها في الدعوة والحسبة والإرشاد، وقد سبقت الإشارة إلى إمكانية وجود عدد من النساء في الدعوة ليتفرغن لدعوة بنات جنسهن في المساجد، ومدارس البنات، ونحوها من تجمعات النساء.؟
وكذا الأمر في الحسبة، وذلك بتخصيص وظائف في الهيئات لإيجاد فرع نسائي تكون مهمتهن وعظ النساء والإنكار عليهن، وحضهن على المعروف، ومحاورتهن بالحسنى.
وكذا الأمر بالنسبة لتعليم البنات لإيجاد مرشدات للطالبات تكون مهمتهن مراقبة سلوكيات الطالبات، ودعوتهن للخلق القويم، وتحذيرهن من أسباب الانحراف وموجات التبعية والتقليد.(1/135)
إخوة الإسلام: وأنصار المرأة حقاً هم الذين يطالبون برفع أي ظلم أو هضم يقع على المرأة في حقوقها المعنوية أو الحسية، فلا يرضون بإهانتها أو احتقارها، أو ضربها بغير حق انطلاقاً من قوله تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف } (النساء: من الآية19)، وتأسياً بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وهم الذين يقفون في وجه الجهلة المنتقصين لحقوقها المالية في الإرث أو العطاء { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (البقرة: من الآية228) "والنساء شقائق الرجال"، وبالجملة: فلا يهضم لها حق ولا تساوي بالرجل في كل شيء، والله أحكم الحاكمين، وفي شريعته عدل ورحمة للرجل والمرأة، ومن قال إنه سيعطي المرأة أكثر مما أعطاها خالقها فقد ظلم نفسه وأساء الأدب مع ربه، وما أولئك بالمؤمنين.
أيها المسلمون: وأنصار المرأة الوهميون على كثرة مطالبهم للمرأة لم يعنوا كثيراً بهذه الأمور، ولا بالوظائف النسوية التي لا يزال يشغلها رجال أو نساء أجنبيات – لا سيما الكافرات منهن – وقد أجادت د. رقية المحارب حين أحصت ما يقرب من أربعة آلاف مشغل نسائي في الرياض وحدها، وكلها أو معظمها تدار بعمالة وافدة، فأين المطالبة بتوظيف النساء فيها؟
أم المقصود بهذه الدعوات المحمومة أن يأتي اليوم الذي تكون فيه المرأة السعودية المسلمة بائعة شاورما، أونادلة في مقهى إلى منتصف الليل، أو أن ترفع عن ساقيها لتتدحرج الكرة هنا وهناك، كما تقول الكاتبة (هياء المنيع) والتي أحسنت فهم أهداف اللعبة لإفساد المرأة حين قالت: "إن كثرة الفزع على موضوع عمل المرأة يكشف عن قلوب تتسلل لواذاً لدمار هذا المجتمع المحافظ…".(1/136)
إخوة الإسلام: وبهذا يتبين الفرق بين أنصار المرأة الحقيقيين وأنصارها الوهميين، وإننا على ثقة أن المرأة في بلاد الحرمين لديها من الحصافة والوعي والثقة بدينها ما تميز به بين الضار والنافع، والأنصار والخصوم، لكنها الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، كيف لا، ونحن في زمن صحوة شملت النساء إلى الرجال، وفي زمن حرب العقائد والأفكار، والمرأة كالرجل تدرك أنه لا مكان لعمعدوم الهوية الدينية أو مهزوز الثقة بالمبدأ الذي ينتمي إليه، ومن المؤلم حقاً أن يتشبث أصحاب الأديان والنحل الفاسدة بمبادئهم ولو كانت باطلة، ويوجد في المسلمين من تهتز ثقته بدينه ومبادئه، وهي الحق ليس غيره، وصدق الله: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } (فاطر:8).
الغفلة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (الحشر: من الآية 18-19).(1/137)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } (الأحزاب: من الآية 70-72).
أيها المسلمون: كثيرة هي أدواؤنا التي تحتاج إلى الدواء الناجع لعلاجها، ولكن ثمة داء يهيمن على كثير من هذه الأدواء، وربما كان السبب الأكبر لها… وهذا الداء المهيمن تتعدد مظاهره، وتتسع دائرته لتشمل الشيوخ والشباب، والنساء والرجال، وأهل العلم والدعوة، وأصحاب المال والسلطان.. ولا تسأل عن غفلة ما سوى هؤلاء؟ وإن كانت الغفلة نسباً، والناس فيها بين مقل ومستكثر.
إن أعظم قضية يجب أن تشغل بال كل واحد منا – معاشر المسلمين – هي قضية وجوده، والغاية من حياته، ومستقبله الحق، وشقاؤه وسعادته، ومن فضل الله على عباده أن هذه وتلك لا تشترى بالدرهم ولا الدينار، ولكنها تنال بالهمم والجد في عمل الصالحات، والسير إلى الله، والموفق من أيقن واستيقظ لحقائق القرآن، وسائل نفسك: ألي شيء خلق الله الموت والحياة، والجواب حاضر في قوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (الملك: من الآية2)، وبل ولأي شيء خلقت أنت؟ { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذريات:56).
ويتحاشى الناس، كل الناس الخسارة والفشل في الحياة الدنيا، ولكن القلة منهم من يتأمل في الخسران والفشل الأخروي: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } (الزمر: من الآية15).(1/138)
أيها المسلمون: إن الغفلة عن قيمة الحياة، وهدف الوجود سبب للضياع والقلق في هذه الحياة، والنهاية مؤلمة حين الورود على الله، وهاهي الصورة تقرب لك، والمشهد يعرض عليك صباح مساء، فهل أنت مذكر: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } (قّ: من الآية 19-22).
أي عبدالله؛ أ] خير ترتجي، وأي نهاية تنتظر إذا كنت من الغافلين الذين لا يرجون لقاء الله، ورضيت بالحياة الدنيا واطمأننت إليها… تأمل ملياً قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (يونس: من الآية 7-8).
يا ابن آدم: حسبك بالقرآن واعظاً: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } (الانبياء: من الآية 1-3).
إنها آيات تهز الغافلين هزاً، فالحساب يقترب وهم في غفلة، والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى، والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته، وكلما سمعوا الحق قابلوه باللهو والاستهتار، واستمعوه وهم هازلون.
إن النفوس حين تستحوذ عليها الغفلة لا تصلح للنهوض بعبء، ولا للقيام بواجب، تغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة، وحين يهون المرء في نظر نفسه يهون على الآخرين، وحين ينسى العبد ربه، ينساه الله وتحيق به الخسارة في الدارين.(1/139)
أيها المسلم والمسلمة: لقد ميزتم بحواس ومدارك تفضلون بها غيركم، وتدركون بها ما يضركم وما ينفعكم، وحين تعطل هذه الحواس، وتحيط الغفلة بالناس ينحدرون إلى درك الأنعام، بل هم أضل: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } (لأعراف:179).
عباد الله: إن مظاهر الغفلة في حياتنا الانفتان بالدنيا والتخوف والتحوط لها، في مقابل الإعراض عن الآخرة وعدم التفكير بجد في نعيمها أو جحيمها، ومن مظاهر الغفلة الغضب للدرهم والدينار، وضعف الغيرة لدين الله. ومن مظاهر الغفلة في حياتنا الضعف في أداء الواجبات والزهد في عمل المستحبات، والتسامح في مقارفة السيئات، وهتك أستار المحرمات. ومن مظاهر الغفلة تعلق نفوسنا بتوافه الأمور، وعجزها عن التعلق بالمعالي، وكسلها عن جلائل الأعمال الصالحة.
نغفل عن الموت وسكرته، وعن الحساب وشدته، نغفل عن ذوات أنفسنا وما يصلحا أو يفسدها، وآن لنا أن نستيقظ لمخططات أعدائنا وما يريدونه لنا، وأنى لنا أن نكشف النفاق ونميز المنافقين وتلك حالنا.(1/140)
أيها المؤمنون: وكثيرة هي الأسباب الجالبة للغفلة، فأنفسنا الأمارة بالسوء تدعونا للغفلة، وشياطين الجن يقعدون لنا بكل طريق من طرق الخير، وإبليس يعدنا ويمنينا ويخوفنا تارة، ويزين لنا أخرى، ويأتينا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ولكن الله لم يجعل له سلطاناً من فوقنا، وجعل الباب بيننا وبينه مفتوحاً، فمن استعاذ به أعاذه، ومن لاذ بحماه أجاره، ومن استعان به أعانه: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } (الحجر:42)، ويتلمس شياطين الإنس المراصد والوسائل التي بها يصدوننا عن ديننا، وتستحكم الغفلة في قلوبنا، ومن أبرز وسائلهم الفن الرخيص، والرياضة الفاتنة، وكم نسي المسلمون قضاياهم الكبرى بسبب هذه الوسائل الملهية الفاتنة؟ وكم غفلوا عن مخططات أعدائهم في سبيل الترويح عن أنفسهم – كما يقولون -.(1/141)
أيها الناس: وأورثت الغفلة طول الأمل، فقست القلوب، وقل أثر المواعظ في النفوس، وكثر الفسوق والفجور، ودونكم هذا التشخيص لهذا المرض فاعقلوه، يقول ابن قدامة يرحمه الله: واعلم أن السب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، ما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن، فيلهو بذلك عن الموت ولا يقدر قربه، فإذا خطر له الموت في بعض الأحوال، والحاجة للاستعداد له سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخاً، وإن صار شيخاً قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوف ويؤخر إلى أن تتخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته.
السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه ويستبعد قرب الموت مع الشباب، ولو تفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عدوا لما كانوا عشرة؟ لأدرك أنهم إنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي، وقد يغتر بصحته ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، ولو تفكر أن الموت ليس له وقت مخصوص ولا يبعده الشباب أو تدفعه الصحة واكتمال القوى لعظم ذلك عنده واستعد للموت وما بعده (1).
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين: 367 بتصرف ص118-120.(1/142)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } (لأعراف: من الآية 205-206).
الخطبة الثانية
الحمد لله شرح صدور المؤمنين لطاعته وذكره، وتوعد القاسية قلوبهم بالويل والضلال المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بذكره تطمئن القلوب، والمستهترون بآياته حقهم الران على القلوب… ومصيرهم الجحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمره ربه بذكره تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، وألا يكون من الغافلين، وامتثل أمر ربه، وكان قدوة الذاكرين وموقظاً للغافلين، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه المرسلين.
عباد الله: وفي حياتنا اليومية ضروب وأشكال من الغفلة، ومنا من يصبح مع الشيطان ويسمي، وعند الطعام الشراب والكساء، وخيرنا من لا يجد الشيطان عليه سبيلاً. وجماع ذلك وأسبابه الذكر أو الغفلة، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعال عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: "أدركتم المبيت والعشاء"(1).
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستحضراً لذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، مذكراً بأهوال يوم القيامة، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس اكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه"(2).
__________
(1) رواه مسلم، رياض الصالحين/ كتاب آداب الطعام: 329.
(2) الحديث رواه الترمذي بسند حسن، رياض الصالحين: 273.(1/143)
أيها الناس: لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله وعدم الغفلة، قال تعالى: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت } (الكهف: من الآية24).
قال العارفون: في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذبه بالذكر.
وإذا كان الذكر شفاء القلب ودواءه، فالغفلة داؤه وشقاؤه (1).
وهناك صنف من الناس بلغت الغفلة بهم حد قول القائل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور
أيها المسلمون: وإذا كان الذكر علاجاً للغفلة، فقراءة كتاب الله وتدبر آياته ووعده ووعيده، والاتعاظ بقصصه كفيل بيقظة الإنسان وتذكره، قال تعالى: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } (قّ: من الآية45).
ومن وسائل علاج الغفلة مصاحبة الأخيار، وحضور مجالس الذكر، وملازمة العلماء، فذلك – وإن احتاج إلى صبر ومجاهدة – فعاقبته حميدة، ومعالجته للغفلة ظاهرة، قال تعالى – وهو أصدق القائلين: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } (الكهف:28).
__________
(1) المنجد، ظاهرة ضعف الإيمان: 63، 64.(1/144)
ومما يعين على علاج الغفلة زيارة المقابر، قال عليه الصلاة والسلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الموت…" حديث صحيح (1) وتشييع الجنائز، وتذكر ساعة الاحتضار… كل ذلك موقظ من الغفلة لمن في قلبه حياة، ويصف ابن الجوزي ساعة الاحتضار ويقول: "من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف، ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى، فالعاقل من مثل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك"(2)، وصح في الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "عودوا المريض واتبعوا لجنازة تذكركم الآخرة"(3)، وقال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيا لكثرة الباكين، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت"، وحين مرت بالحسن البصري جنازة قال: يا لها من موعظة ما أبلغها وأسرع نسيانها، يا لها من موعظة، لو وافقت من القلوب حياة، ثم قال: يا غفلة شاملة للقوم، كأنهم يرونها في النوم، ميت غد يدفن ميت اليوم (4).
ومن أنفع الأدوية لعلاج الغفلة: المداومة على محاسبة النفس، وحسب العاقل أن يقف في محاسبته لنفسه على قوله تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } (آل عمران:30).
وصدق من قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا…
__________
(1) مسلم/ كتاب الجنائز: 976.
(2) صيد الخاطر: 146.
(3) أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، الأحاديث الصحيحة 1981، صحيح الجامع الصغير ح3988.
(4) لحظات ساكنة/ القاسم: 95.(1/145)
أيها الناس: اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، وقفوا عند قول الحق: { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } (لقمان: من الآية33)، كان مطرف بن عبدالله يقول: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه (1).
هل فكرت في نوع حياتك بعد الممات؟ الله يقول: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (آل عمران:185).
الزكاة، والعشر (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله أغنى وأقنى، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وهو الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خزائنه ملاء، وما كان عطاء ربك محظوراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأكرم الخلق على الله، ومع ذلك عاش حياة الكفاف، وربما ربطا لحجر على بطنه من الجوع، زهداً في الدنيا وطلباً لنعيم الآخرة – اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
__________
(1) صفة الصفوة: 3/224.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/9/1420هز(1/146)
أيها المسلمون: المال من زينة الحياة الدنيا، تسر له النفوس، تفرح إذا أعطيت، وتحزن إذا منعت، وليس العطاء دليل الرضا، ولا المنع علامة الغضب، ومن عباد الله من لا يصلح له إلا الغني، ولو أفقره الله ما صلح له ذلك، ومن عباده من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه الله ما صلح له ذلك، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو الحكيم الخبير.
عباد الله: والمتأمل في نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي يتبين له أنه أعدل نظام عرفته البشرية، فالأغنياء الموسرون في أموالهم حق للسائل والمحروم، يؤجرون على البذل ويبارك لهم في المال مع الصدقة، ويجازون بالإحسان على الإحسان، يعطيهم الله من رزقه ويطلب منهم القرض الحسن للمحتاجين من خلقه، تضاعف لهم الأجور في الصدقات، ويحفظ الله أموالهم من الكوارث والنبكات بإخراج الزكاة وإعطاء الصدقات.
والفقراء يحتاجون فلا يجدون، ويصبرون فيؤجرون، تضن عليهم الحياة، وتلاحقهم هموم الديون وغلبته وقهر الرجال، فيشكون الحاجة إلى خالقهم وينزلونها به دون خلقه، فيجعل لهم بعد العسر يسراً، ومن الهموم فرجاً، كم لهم من الأجر حين يصبرون على شظف العيش وكفاف الحياة… وكم تصفو نفوس الزهاد في الدنيا حين لا يشغل بالهم الصفق بالأسواق، ومتابعة مؤشرات الأسهم… بل يتفرغون لطاعة الله وذكره والتزود لآخرته.(1/147)
عباد الله: والزكوات والصدقات، والعطايا، والهدايا والهبات… كلها إنفاق يؤجر عليه المسلم إذا كان خالصاً لوجه الله… وتلك تخفف معاناة الفقر، وتذهب شح النفوس، وتجعل في الحياة فرصاً للخير والود، والرحمة، وكيف يكون شعور محتاج ضائق بالديون، أو عاجز عن النفقة الاجبة أو شاب رغب العفاف بالزواج وأظلمت الدنيا في وجهه،إذ لا يجد ما يغنيه إذا ما امتدت إليهم يد محسن فأعطاهم ما يغنيهم، وشاركهم في آلامهم، وسرى عنهم همومهم… إنه شعور يفيض بالمحبة والتقدير، ولن ينسى ذلك الفقير المحتاج لهذا الغني المتصدق ما أنفقت يداه… والأجر في الآخرة أعظم، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، و الله في عون العبد ما دام في عون أخيه.
أيها المسلمون: وحين يكون الحديث عن الزكاة الواجبة يمكن لنا أن نقف حيالها الوقفات التالية:
أولاً: تعد الزكاة طهرة لمال الغني، وتزكية لنفسه، وهي تنفيس للفقير وتسلية له، وسد لحاجته.
ثانياً: وفرض الزكاة مرة في العام أعدل ما يكون، إذ لو جعلت كل شهر أو كل أسبوع لضر بأرباب المال، ولو جعلت في العمر مرة لضر بالمساكين، وليس أعدل من حكم الله وجعلها في العام مرة (1).
ثالثاً: ويلحق ضرر بالمساكين المحتاجين، إما من صاحب المال إذا منع ما يجب عليه، أو من الآخذ، إذا أخذ ما لا يستحق أخذه، وهكذا يتولد الضرر من بين هاتين الطائفتين على المساكين وأهل الحاجات الحقيقيين، لا أصحاب الحيل والملحفين بالمسألة، و الله أعلم بما يملكون.
رابعاً: وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحد من أهلها ولم يعرف حاله أعطاه بعد أ، يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (2).
__________
(1) ابن القيم: زاد المعاد 2/6.
(2) زاد المعاد: 2/9.(1/148)
خامساً: والذين يبعثون لأخذ الزكاة لا بد أن يتمثلوا العدل فيما يأخذون أو يدعون، وفي موقف عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - نموذج يحتذى، وقد بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يهود خيبر ليخرص لهم الثمار والزروع، فأراد اليهود أن يرشوه، فقال لهم عبدالله: تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس غلي، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة الخنازير، ولا يحملني بغضي لكم وحبي إياه، أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (1).
سادساً: ولا بد من العدل مع النفس وتربيتها على إخراج الواجب من المال طيبة راضية غير متأففة ولا مانة… ولا ملحقة أذى بمن تعطي…
وإذا هالك أخي الغني كثرة الزكاة من مالك… فانظر في كثرة أصل مالك، واشكر الله على أن أعطاك الكثير وطلب منك القليل، واحمده على أن كنت يداً تعطي لا تأخذ، وتذكر ا،ك مأجور على العطاء… مؤاخذ على الشح والبخل والمنع.
سابعاً: وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لمعطي الزكاة، فتارة يقول له: اللهم بارك فيه وفي إبله، وتارة يقول: اللهم صل عليه.
وكل ذلك تشجيع على العطاء، ودعوة للمنفقين بالحسنى، وكم يسى الغني والمعطي بدعوة الفقير له… أو دعوة الآخذ من ماله ليوصلها إلى غيره من ذوي الحاجات.
__________
(1) رواه مالك في "الموطأ" بسند رجاله ثقات لكنه مرسل. وأبو داود من حديث ابن عباس بسند حسن – زاد المعاد: 2/11 هامش: 2.(1/149)
ثامناً: ولا محاباة في الزكاة، ويخطئ من يحابي بها قريباً، أو يبر بها صديقاً إلا أن يكون محتاجاًن ولا تجب عليه نفقته… فالزكاة حق واجب في المال لفئة محددة، تولى الرب سبحانه قسمتها على الأصناف الثمانية في كتاب الله. قال ابن القيم: ويجمعهم صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجة وهم الفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، و ابن السبيل. والثاني: من يأخذ لمنفعة، وهم العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغرمون لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة (1).
تاسعاً: والويل شديد لمعاني الزكاة، و العقوبة قد تعجل في الدنيا بحصول الكوارث أو محق البركة… ولو سلم من هذا فعذاب الآخرة أشد وأنكى، ومن يشك في وعد الله؟! وأي جسد يتحمل العذاب والله يقول: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } (التوبة: من الآية 34-35).
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار".
عباد الله: ما قيمة المال إذا انتهى بصاحبه إلى هذه النهاية المؤسفة، ومهما تنعم المرء بالمال في الحياة الدنيا، فليس ذلك يقارن بالجحيم والشقاء في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة…
__________
(1) زاد المعاد: 2/9.(1/150)
هذا فضلاً عما تؤدي إليه الزكاة من بركة ونماء وتزكية وتطهير: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } (التوبة: من الآية103).
وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصححه، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه – قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم"(1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } (المؤمنون: من الآية 1-4).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية
الحمد لله تتوالى مننه ورحماته على العباد… وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل يوم هو في شأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اجتهد في طاعة ربه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليكون عبداً شكوراً… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: وما أسرع الزمان… وبالأمس كنا نترقب هلال رمضان… واليوم نترقب دخول العشر الأواخر من الشهر.
عباد الله: ولا زال منادي الرحمن ينادي: أن هلموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
أيها المسلمون: والليالي القادمة غرة في جبين الدهر في فضلها، جاء في القرآن: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } (القدر: من الآية 3-5).
وليلة القدر أمر المسلمون بتحريها في العشر الأواخر من رمضان… ألا وإن من الغبن أن يفرط المرء في ليال عشر يضمن فيها ليلة القدر…
__________
(1) تفسير ابن كثير عند آية التوبة: 35.(1/151)
لقد كان رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهده في سواها، وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - تحكي لنا اجتهاده وتقول – كما في الحديث المتفق على صحته : - "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" وفي رواية: "أحيا الليل، وأيقظه أهله، وجد، وشد المئزر".
واستنبط العلماء من سننه - صلى الله عليه وسلم - - في العشر - ألواناً من العبادة والاجتهاد.. ومن ذلك:
إحياء الليل أو غالبه بالتهجد.
إيقاظ الأهل للصلاة في ليالي هذه العشر.
وكانوا يستحبون في هذه الليالي المباركة - ولا سيما التي ترجى فيها ليلة القدر - كانوا يستحبون التزين والتنظف والطيب، ولبس أحسن الثياب كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد، قال ابن جرير رحمه الله: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر.
وكان بعضهم يلبس ثوبين جديدين ويستجمر.
ومما يشرع في هذه الليالي: الاعتكاف، وفي "الصحيحين" عن عائشة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله.
وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : كان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان الام الذي قبض فيه اعتكف عشرين.
كم في الاعتكاف من خلوة مع الله، وانقطاع عن مشاغل الدنياوصوارف الحياة؟ وما أحوج النفوس في مثل هذا الزمان إلى سويعاتيخول فيها العبد بخالقه، ويجرد نفسه من أطماع الدنيا وفتنة المال والأهل والولد، وفي معتكفه يمارس أنواع الطاعا من صلاة، وذكر، وتلاوة، وتفكر،ويتطلع إلى الجنان وحورها وأنهارها، ويستعيذ بربه خاشعاً خائفاً من النار وسلاسلها وزوقومها..(1/152)
أما الاجتماع في المعتكف والسمر على أحاديث الدنيا، وجعله فرصة للخلوة ببعض الأصحاب وتاذب أطراف الحديث معهم بعيداً عن الذكر والتلاوة والصلاة فما هذا بالاعتكاف المشروع، بل اعتكاف النبي - صلى الله عليه وسلم - لون، وهذا لون آخر.
عباد الله: تتوفر فرص الاعتكاف في هذا الزمان - فالبيوت قريبة من المساجد، وعدد من البيوت فيها من الولد من يقوم بشؤون أهله فترة اعتكاف الأب... أو يكون الولد مكفياً عن شؤون أهله بأبيه أو إخوانه الآخرين، والبعض ليس لديه من مشاغل الدنيا ما يمنعه - شرعاً - من الاعتكاف... ومع ذلك يقل العمل بهذه السنة النبوية، ويرحم الله الزهري إذ قال في زمانه: عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه اله، ولربما تهيب البعض في البداية... ولو أقدم لوجد السهولة والسعادة، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
ويبدأ المعتكف من بعد غروب شمس اليوم العشرين، أو من فجر الواحد والعشرين، وينتهي بعد غروب شمس ليلة العيد.
أيها المسلمون... والدعاء مشروع في كل حين... ولكنه في هذه الأيام والليالي أبلغ وأسمع، سواء كان المسلم معتكفاً أو غير معتكف، ولا سيما في الليالي التي يتحرى فيها ليلة القدر، قال سفيان الثوري رحمه الله: الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة، ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسناً.(1/153)
وليس يخفى أن فضل الله واسع، وهو جواد كريم، وحري بالمسلم أن يسأل من خيري الدنيا والآخرة، له ولأقاربه ولعموم المسلمين. ومما ورد النص عليه في هذه الليالي: "اللم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، وهنا لطيفة نبه إليا بعض العلماء في حكمة سؤال العفو بعد الاجتهاد في الأعمال، قالوا: لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً، ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر (1) .
إخوة الإيمان: والأعمال الصالحة عموماً - وفي هذه العشر خصوصاً - أكثر من أن تحصر... إنها لرحمة من رحمات الله وفضله على هذه الأمة، إذ هيأ لها مثل هذه الفرص... التي يبارك الله فيها لهم بالأعمال والأعمار... وحين قصرت أعمار هذه الأمة عن الأمم السابقة عوضها الله بمثل ليلة القدر التي يعدل العمل فيها، بل هو خير من عمل ثلاث وثمانين سنة، فلا تحرم نفسك يا أخا الإسلام هذه الفرصة - ولا يقعد بك الكسل أو تستجب لنزعات الشيطان، بل قم مع القائمين، وشارك المسلمين في دعواتهم وخشوعهم، وأسال ربك القبول فلا تدري أتشهدها في عام قابل أم تكون في عداد الموتى؟
اللهم لا تحرمنا فضلك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين.
زيارات واستقبالات رمضان (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، يقلب الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بتقديره تنصرم لاشهور والأعوام، وتفنى الأمم وتعقبها أمم وأجيال، وهو وحده الحي القيوم، كل شيء هالك إلا وجهه.
__________
(1) ابن رجب الحنبلي/ لطائف المعارف.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/8/1420هـ.(1/154)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله… كان عمره قصيراً، ولكن حياته كانت مليئة بالجهاد والدعوة و العلم والعمل، والبر والإحسان، وكريم الخصال والأخلاق، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
أيها المسلم والمسلمة: ما نوع تفكيرك في الآخرة، وما مقدار جديتك في السعي لها، وهل تستثمر الفرص وتفرح بالمناسبات التي تصلك بفضل الله ورحمته، وتشرع فيها أبواب الجنة وتغلق أبواب النار… قد تكون الإجابة بالإيجاب… ولكن السلوك العملي هو الذي يحدد الدقة في الإجابة، ويحكم بصدق المتحدث أو كذبه.
قف مع نفسك وقفة صادقة، وتأمل في الدنيا وقصرها، وما في الآخرة من نعيم أو جحيم يطول أمده، ويشتد الفرح أو الحزن له… ودعك من غرور الأماني، وتمثل موقف إبراهيم التميمي رحمه الله، قال سفيان بن عيينة رحمه الله قال إبراهيم التيمي: "مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا، فأعمل صالحاً، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي"(1).
__________
(1) صفوة الصفوة: 3/91-92.(1/155)
يا عبدالله: وحين يقترب شهر الصيام، ويتنافس الصالحون في الطاعات والقربات أدعوك – لتحفيز همتك للخير – إلى زيارات ثلاث، وما لم تستطع زيارته ببدنك فزره على الأقل بخيالك ومشاعرك.
أما الموقع الأول: فهو المقابر، حيث القبور والموتى والرهبة والخشوع… وحين تسلم عليهم وتدعو لهم – سلهم قائلاً: ها نحن في أواخر شعبان، وننتظر شهر رمضان، فما أمانيكم لو عدتم إلى الدنيا هذه الأيام؟ ولا تنتظر منهم إجابة فإنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور؟ ولكن أحداً منهم لو استطاع الإجابة لقال: أما نحن فقد انقطع أملنا في الرجوع إلى الدنيا… ونحن الآن مرتهنون بما سبق وإن عملنا، وبما خلفنا من ولد صالح، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية لنا…(1/156)
ولكن، أنتم معاشر الأحياء، كم لله عليكم من فضل حين يبلغكم شهر الصيام والقيام فتصومون، وتقومون، وتتصدقون، وتذكرون، وتدعون، وتستغفرون، وتسبحون، إلى غير ذلك من قربات تضاعف فيها الحسنات، وتزيد المضاعفة في شهر الصيام… وقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ووددنا لو ازددنا فما وجدنا غير عمل الصالحات بقي لنا يؤنس وحشتنا، ويرفع درجاتنا، وكم يغبن بعضكم – معاشر الأحياء – حين لا يستثمر فرص الطاعة، ولو عرف هؤلاء ما نحن فيه لاختلف سعيهم و تحركت هممهم. ثم قف أيها الزائر متأملاُ في الحفر والقبور، وما تخفيه من أسرار، وما بين أصحابها من تفاوت في المنازل وإن كانوا في القبور سواء، وتصور وكأنك لحقت بهم غداً، فماذا سيكون حالك بينهم… ثم لا تخرج إلا وقد سألت لهم الغفران، وسلهم بدعاء المسلمين لهم، ولا سيما في شهر الصيام والقيام الدعاء… وقبل أن تخرج عاهد نفسك على أن تختار لها أحسن المساكن بينهم، فلا مناص لك عن سكنى هذه الدار، وثمن تلك الدار ليس بالدرهم والدينار… لكنه بعمل الصالحات… واجعل من رمضان فرصة لإحكام البناء، توسيع المسكن، وحبور الدار، واختم ذلك بالدعاء الصادق: اللهم بلغني رمضان وأعني على الصيام والقيام.(1/157)
أيها المسلم والمسلمة: أما الموقع الثاني الذي أدعوكم لزيارته، فالمستشفيات العامة حيث يرقد علىأسرتها البيضاء جموع من المرضى يختلفون في شكواهم… وقد يتفقون أو يتفاوتون في آلامهم… لكن أحداً من هؤلاء المعنيين بالزيارة – لا يستطيع الخروج – على الأقل في شهر رمضان… وأقصد أصحاب الهمم منهم، وسلهم عن مشاعرهم حين يدخل شهر الصيام، ولا تستغرب إن أجابتك العيون بالدموع قبل الألسنة بالكلام، أسفاً على عدم قدرتهم على الصيام، ومشاركة المسلمين في القيام، وحين لا تنس هؤلاء من دعوة بالشفاء العاجل وتعظيم الأجر على المرض والبلوى، فلا تنس كذلك أن تسليهم بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً" (1)، وقبل أ، تخرج من زيارة المريض تذكر نعمة الله عليك بالصحة والعافية، واعلم أنك مغبون فيا أو مغبوط. مغبون إن فرطت وأضعت الوقت بما لا ينفع… ومغبوط إن استخدمت الصحة واستثمرتها في طاعة الله… ولئن كان هناك من يعيشون مع الأحياء الأصحاء وهم في عداد الموتى… فهناك من يعيشون مع الأصحاء وهم في عداد المرضى… وموتى الأحياء، أو مرضى الأصحاء في رمضان – هم من يدخل عليهم الشهر ويخرج ولم تتحرك هممهم للخير، ولم تنشط أنفسهم للطاعة، قعد بهم الشيطان عن مشاركة المسلمين في قيامهم ودعائهم، ولربما قعد ببعضهم عن الصلاة المفروضة، والصيام الواجب وهم أصحاء أقوياء!! وصدق رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
ألا فاغتنم الفرص يا عبدالله، وخذ من صحتك لمرضك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك… وشهر رمضان يستحق أن تستثمر فيه الصحة والفراغ، ومن يدري، فقد يأتي عليك رمضان بعد وأنت طريح الفراش فتتمنى لو كنت صحيحاً معافى… فها أنت كذلك، فماذا أنت صانع.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري – صحيح الجامع: 1/281.(1/158)
أيها المسلمون: أما الزيارة الثالثة فإلى أحد مواقع المسلمين المضطهدين في الجهاد… حيث يحاصرون ويطاردون عن ديارهم… قاذفات الطائرات من السماء، ورصاص المدفعيات من الأرض… وبين نيران السماء والأرض، شدة الجوع حيث يقل الطعام، وشدة البرد حين تتساقط الثلوج في الشتاء، ومع ذلك كله يلف أهل تلك الديار الخوف، ويحيط بهم القلق، ففي كل يوم يفقدون أباً أو ابناً أو يشهدون رضيعاً يتضور جوعاً… أو امرأة ينتهك عرضها – وهكذا من صور المآسي والآلام – وهل بإمكان هؤلاء أن يصوموا أو يقوموا أو يتفرغوا لتلاوة القرآن… أو يتنفسوا عبير شهر الصيام… فإذا تصورت حال هؤلاء في شهر الصيام فأدركهم بصدقة قد تنقذ بها نفساً… وبدعوة صادقة قد يفرج الله بها كرباً… وعد إلى نفسك وأنت آمن في سربك ومعافى في بلدك وبدنك وقل: يا نفس ها قد حل شهر الصيام واقترب، فكوني في قائمة المسارعين للخيرات، والمتسابقين لصنوف الطاعات، وسل ربك العاقبة، وفي حندس الظلام وحين تسجد لله سل لإخوانك المسلمين الخلاص من المحن والنصر على الأعداء… فرمضان شهر الدعاء، كما هو شهر المواساة والصدقات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (البقرة:185).
الخطبة الثانية(1/159)
الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفق من شاء لطاعته، وهدى أولياءها لاستثمار مواسم الخيرات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمر بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الفتن والأسقام أو نحوها من الصوارف والشواغل، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: بم نستقبل رمضان؟
هنا تتفاوت الهمم، وتختلف الإجابة على صعيد الواقع وإن اتفق الناس في الكلام والأماني، ودعونا نتواصى بالصبر والحق – فتلك من علامات المؤمنين – ونتذاكر في عدد من الأمور نستقبل بها هذا الضيف الكريم.
فنستقبله أولاً بالفرح والبشرى، فهو من فضل الله ورحمته علينا، والله يقول: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (يونس:58).
بشرى العوالم أنت يا رمضان ... هتفت بك الأرجاء والأكوان
لك في السماء كواكب وصاءة ... ولك النفوس المؤمنات مكان
2- ونستقبله – ثانياً – بالعزيمة على عمل الطاعات، ثم نتبع ذلك بالمسارعة للخيرات، فرمضان موسم للهدى والخير والبركات، وميدان رحب للتسابق في عمل الصالحات.
3- ونستقبله بالتوبة النصوح من الذنوب والأخطاء، وفتح صفحات أكثر إشراقاً وقرباً إلى الله… وأنت – أيها المسلم والمسلمة – واجد لك في هذا الشهر عوناً على التوبة والإنابة، فالصيام يورث التقوى، ويردع عن الفواحش، ويكسر شهوة البطن والفرج، ومردة الشياطين تصفد، وأبواب الجنة تفتح، وأبواب النار تغلق – وكل ذلك من دواعي التوبة ومعين عليها، ومحروم من دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له".(1/160)
ونستقبله، بل نبدأ الصيام والقيام، بالإخلاص لله ورجاء مثوبته.. فالإيمان والاحتساب شرطان للمغفرة للصائمين والقائمين، وفي الحديث المتفق على صحته: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، :"ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
ونستقبله ونتواصى فيه على الجود وزيادة المعروف والإحسان، وفي رسول الله أسوة حسنة، وكان أجود ما يكون في رمضان، ووصف جوده – حين يلقاه جبريل في رمضان – بأنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة (1).
معاشر الأئمة: واستقبلوا رمضان بحث جماعتكم على الخير، وبحسن تلاوة كتاب الله حين تؤمون المسلمين، وترغيب الناس في التراويح والقيام، ومراعاة أحوال الناس قدر الإمكان، وبما لا يخل بواجب، أو يفوت سنة، واختاروا الكتاب المناسب للقراءة، والموضوعات المفيدة للحديث للجر والمرأة، والصغير والكبير، والخير والراغب في الهداية، ومن الخير أن يكون هذا الإعداد سابقاً لدخول رمضان.
أيها الأخيار في كل حي: وجميل منكم أن تساهموا مع الأئمة وجماعة المسجد على كل خير، لا سيما وجموع من المصلين تفد إلى المساجد في شهر رمضان، فرحبوا جميعاً بمقدمهم، وتعاونوا مع الأئمة على أسباب انقاع من ينقطع بعد منهم، تفقدوا المحاجين.
أيها المحاضرون والمتحدثون – وأنتم خليقون أن تختاروا الكلمة المناسبة في رمضان، وأن تجتهدوا في التحضير الإعداد، وتجددوا في أساليب طرحكم، وتعيشوا هموم الناس، وتجيبوا على تساؤلاتهم. فليس المهم أن تتاح الفرصة للحديث فحسب، بل وبماذا وعن أي شيء تتحدثون!
أيها الأغنياء: واجتهدوا في إحصاء زكاة أموالكم، وأخرجوها راضية بها أنفسكم، وتحققوا في المحتاجين، وليكن للمجاهدين واللاجئين والمنكوبين في العالم الإسلامي نصيب من زكاتكم وصدقاتكم.
__________
(1) متفق عليه، رياض الصالحين/ 480.(1/161)
أيتها المرأة: وإن أخطأت بعض النساء فاستقبلت رمضان بأنواع المآكل والمشارب، أو بالخروج وكثرة التردد على الأسواق، أو بطول النوم، أو الحديث في الغيبة والنميمة، أو سماع المحرم، أو نحو ذلك مما يحرم على المسلم، ويخدش الصيام، فلا تقعي أنت في شيء من هذا، ونبهي أخواتك المسلمات… فالنساء شقائق الرجال، ورمضان فرصة للمسارعة للخيرات للرجال والنساء، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أيها المسلمون: لا تستقبلوا رمضان بصوم يوم قبله تحوطاً إذ لا يجوز صيام يوم الشك، وإذا ثبت دخول الشهر فلا بد من تبييت النية للصوم الواجب، وذلك في القلب، والتلفظ بها بدعة، ولا تشترط النية لصوم النفل، وإذا كانت نوافل الصلاة تجبر مما في الفرائض من خلل فكذلك صيام النفل… هذا فضلاً عما فيها من رفعة الدرجات وتكفير السيئات – ومن صيام النفل الصيام في شهر شعبان، وفي الحديث المتفق على صحته عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله، وفي رواية: كان يصوم شعبان إلا قليلاً (1) ومن لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه، وعليه القضاء عند جمهور العلماء (2). ومن قاتل عدواً وأحاط العدو ببلده، والصوم يضعفه عن القتل، ساغ له الفطر ولو بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر (3).
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً يا رب العالمين، اللهم أهل رمضان علينا وعلى المسلمين بالخير واليمن والبركات…
أصحاب الفيل (4)
الخبطة الأولى
__________
(1) رياض الصالحين: 486.
(2) المنجد مختصر سبعين مسألة في الصيام: 36.
(3) المنجد مختصر سبعين مسألة في الصيام: 31.
(4) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/10/1420هـ.(1/162)
الحمد لله القوي العزيز، أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رد أصحاب الفيل وجعل كيدهم في تضليل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، تزامن مولده مع حادثة الفيل عبرة وعظة.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بلزوم تقوى الله، فلباسها خير لباس، وأصحابها في جنات ونهر، وبالتقوى يجعل الله من كل ضيق مخرجاً، ويرزق من حيث لا يحتسب المرزوق، ومن يتق الله يجعل له فرقاناً ويكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً.
أيها المسلمون: سورة في كتاب الله قليل آيها، كبير حدثها، وعظيم مدلولها، تنبئ عن نهاية الظلم، وهلاك المتكبرين… لا بسلطان البشر وقوتهم، ولكن بقوة الله وحده وجبروته… وتؤكد السورة ألا قوة فوق قوة الله… وأن القوى الظالمة مهما تجبرت وطغت فنهايتها الفناء.
أخرج الحاكم مختصراً وصححه، وزاد غيره – قصة أصحاب الفيل – عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أقبل أصحاب الفيل (عليهم أبو يكسوم صاحب الحبشة) ومعه الفيل، حتى إذا دنوا من مكة (عند الصفاح) استقبلهم عبدالمطلب (جد النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا، ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ قال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع، فأبى إلا أن يدخله، فقال: (عبدالمطلب): إن هذا بيت الله تعالى لم يسلط عليه أحداً، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبدالمطلب فقام على جبريل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال:
اللهم إن لكل إله ... حلالاً فامنع حلالك
لا يغلبن محالهم ... أبداً محالك
اللهم فإن فعلت ... فأمر ما بدا لك(1/163)
فلما انتهى الجيش إلى الحرم برك الفيل وحبسه الله عن مكة فأبى أن يدخل الحرم، فغذا وجه راجعاً أسرع راجعاً، وإذا أريد على الحرم أبى، وجعل الله كيدهم في تضليل، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر طير صغار بيض، أبابيل، لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب، في أفواهها حجارة أمثال الحمص سوداء بها نضح حمرة، كأنها جزع ظفار، في منقار كل واحد منها حجر، وحجران في رجلين (من طين)، فأقبلت حتى أظلتهم فجعلت ترميهم بها، ولا تصيب شيئاً إلا هشمته، فجعل الفيل يعج عجاً، فجعلهم الله كعصف مأكول، فكان لا يقع منها حجر على أحد منهم إلا تفطر مكان، فذلك أول ما كان الجدري، ولم تصبهم كلهم، فأخذتهم الحكة، فكان لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه، فأصيب أبو يكسوم في جسده فهرب، وكلما قدم أرضاً تساقط بعض لحمه، حتى أتى قومه فأخبرهم الخبر ثم هلك.
وأرسل الله إليهم سيلاً فذهب بهم وألقاهم في البحر، وبقي خزق الفيل أخضر محيلاً بعد عام، وكان يقف عله البعض ينظر إليه، ومنهم قباث بن أشيم أخو بني يعمر بن ليث وأمه، وعاش سائس الفيل وقائده بمكة أكثر من خمسين سنة بعد هذه الحادثة، ولكنهما عميا، ورأتهما عائشة - رضي الله عنه - وهما أعميان مقعدان، يستطعمان الناس.
وفي فجر ذلك اليوم العظيم الذي رد الله فيه كيد أصحاب الفيل، ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول (1).
أجل: لقد كانت حادثة الفيل تقدمة بين يدي مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإرهاصاً، ومقدمة لبعثته وما سيكون له من شأن في البلد الحرام.
__________
(1) انظر صحيح السيرة النبوية، ابن طرهوني: 1/143-145.(1/164)
يقول ابن القيم رحمه الله: وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيراً من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصراً لا صنع للبشر فيه، إرهاصاً وتقدمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي خرج من مكة وتعظيماً للبيت الحرام (1).
وكانت حادثة الفيل معجزة من معجزات محمد - صلى الله عليه وسلم - ودليلاً على نبوته، كيف لا وقد نزل عليه الوحي من ربه يخبره عن هذه القصة الواقعة، ويؤكد لأهل مكة ما قد رأوه بأعينهم. قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كانت قبله لأنها كانت توكيداً لأمه وتمهيداً لشأنه، ولما تلا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الفيل كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة ولهذا قال: "ألم تر"(2).
أيها المسلمون: وتؤكد حادثة الفيل أن القوة لله جميعاً… وإن قوة البشر مهما بلغت تتضاءل أمام قوة الله… كما تكشف الحادثة عن ضعف البشر مهما تجبروا وآتوا من قوة أمام سلطان الله.
__________
(1) زاد المعاد 1/76.
(2) الجامع لأحكام القرآن: 20/195.(1/165)
أجل: لقد أرعد وأزبد أبرهة وأقسم ليهدمن الكعبة، وليصرفن العرب في الحج إلى الكنيسة القليس التي بناها في صنعاء، وكتب إلى سيده في الحبشة يقول: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم بين مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب… وحين احتملت الحمية واحداً من العرب، فذهب وأحدث في هذه الكنيسة ما أحدث استشاط أبرهة غضباً، وشكل جيشاً عظيماً تقدمه الفيلة، وزاد من غيظه أنه حين بعث إلى بني كنانة – قبيلة الرجل الذي أحدث في الكنيسة – يطلب منهم الحج إلى كنيسته قتلت بنو كنانة رسوله، فتجهز الأحباش النصارى وساروا بقيادة أبرهة بجيش عرمرم، فتسامعت العرب بمخرجه وهدفه، فعظموا بيت الله ورأوا قتال أبرهة والتصدي له واجباً عليهم، وإن كانوا أقل منه شأناً، وتعرضوا له بالحرب، ولكنه أوقع فيهم وانتصر على كل من خرج عليه منهم، حتى بلغ بيت الله… وانتهت دونه الحماية البشرية ولم تبق إلا قوة اله، ولم يبق من ناصر أو معين قادر على دفع الظالمين… وأنى لقريش بضعف قواها… أو ضعف معتقدها أن تصمد لجيش حطم القوى قبلها… وكان من عقل عبدالمطلب أن يطلب من قومه الخروج من جوار الكعبة، إذ لا قبل لهم بأبرهة وجيشه، ويقول قولته المشهورة: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، وأن توكل حماية البيت إلى ربه والآمر ببنائه، وقد كان، فجاءت جنود السماء تحمل العذاب الأليم لهؤلاء المستكبرين… وكانت النهاية لهؤلاء القوم، ولم تكن نهايتهم بداية الهلاك للأمم والقوى الظالمة، فقد سبقتها قوى حطمت، وقرى أهلكت، وديارها أطلال موحشة تحكى قصتها كما قال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } (القصص:58)، وأصحاب الفيل نموذج من نماذج الظالمين المهلكين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ(1/166)
الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } (الفيل: من الآية 1-5).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ناصر دينه، ومعز أوليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله… نصره ربه بالرعب، فما لقيه أحد إلا هابه وقدره، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
عباد الله: لا تعني حادثة الفيل أن يتعطل المسلمون عن فعل الأسباب المشروعة لمقارعة الباطل وأهله، فالتوجيه واضح: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (لأنفال: من الآية60).
ولكنها تؤكد عدم الاستسلام للباطل مهما انتفش أصحابه، وتؤكد عدم اليأس مننصر الله حين يستضعف المسلمون – إذا ما صدقوا مع خالقهم.
كما تؤكد عدم الإحباط عند رؤية القوى الكبرى تبطش وتقهر، وتحل وتعقد… فربك للظالمين بالمرصاد، وهو يمهل ولا يهمل، وأخذه أليم شديد، ونواميس الكون بيده… وهو واهب القوى، والقادر على نزعها… وما قدر وقضى لحكم قد يعلم البشر بعضها، وقد يخفى عليهم الكثير منها.(1/167)
أيها المسلمون: ومن دلالات حادثة أصحاب الفيل أن الاعتقاد بتخليد قوة مهما بلغت وديمومتها ظن خاطئ يكذبه الواقع، ويشهد بخلافه ناموس الكون بقدرة الله… فأين عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وأين فرعون الذي قال: ما علمت لكم من إله غيري، وقال: أنا ربكم الأعلى؟ وأين قارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، قال: غنما أوتيته على علم عندي؟ أين جحافل التتر الذين عاثوا في الأرض الفساد، يقتلون ويرهبون؟ وأين أصحاب الحملات الصليبية على مدى قرنين من الزمان؟ وأين أصحاب الحربين العالمية الأولى والثانية، وما خلفتاها من دمار؟ بل أين دهاقنة الشيوعية الحمراء؟ وقد أذن الله مؤخراً بسقوط دولة الاتحاد السوفياتي بتمزق الاتحاد دولاً، ولا تزال روسيا تصارع من أجل البقاء… وتصب جام غضبها على المسلمين.
إن تاريخ القوى المحطمة والدول المتتالية في السقوط عبر القرون يؤكد حقيقة الملك لله والتفرد لله… وكلما زاد الظلم تسارع السقوط، وكلما كان الهدى والصلاح عمرت الدول، صدق الله: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود:117).
إخوة الإسلام: ومن دلالات حادثة الفيل أن العرب لا شيء بدون الإسلام، فلم يكن لهم دور في الأرض أو شأن يذكر، بل ولا كيان يرهب قبل الإسلام. لم يستطيعوا حماية البيت، ولم يشأ الله أن يحمي بيته المشركون… ولكنه حين شاء وقدر أن يبعث فيهم رسولاً إلى البشرية وأن تكون الكعبة قبلته حمى بيته، فعظم العرب هذا البيت المحمي من قبل الله… وزاد ذلك من تقدير العرب لقريش حتى إذا بعث النبي منهم كانت حادثة الفيل إرهاصاً لمولده وبعثته.(1/168)
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه، وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب… حملوا عقيدة ضخمة يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بها، ولم يحملوا قومية ولا عصبية… حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها، لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه، وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده، ولم يخرجوا ليؤسسوا امبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ولم يخرجوا الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب، وإنما أخرجوهم من عبودية البشر بعضهم لبعض إلى عبودية رب البشر، عندئذ كان للعرب وجود وقوة وقيمة، وقيادة وقوة ترهب، وسلطان يمتد، وتسارع الناس إلى الدخول في دينهم وتحت حكمهم العادل، وامتد ضياء الإسلام يطوي بساط الظلام.(1/169)
عباد الله: وإذا قيل بالأمس: ما العرب بغير الإسلام؟! أمن القول اليوم وما العرب، بل وما المسلمون بغير الإسلام الحق؟! ويأتيك الجواب عاجلاً ودون تردد: لا شيء لا شيء، أجل وربي، إن العقيدة الحقة هي التي جعلت للعرب بالأمس شأناً يذكر، وهي التي يمكن أن تعيد لهم سلطانهم ودورهم في الأرض اليوم، وما أحوج الوجود إلى عقيدتهم الحقة – بها ينشرون العدل والخير، وبها تطوى صفحات الظلم والهضم، وبها تتساقط القوى الوهمية وتنتهي الشعارات الخادعة، وحين يصدق المسلمون في عقيدتهم وتوجههم لخلاقهم يكفيهم كيد الكائدين، ويدفع عنهم قوى الأرض مهما كان حجمها ونوع قوتها… فالذي دفع أصحاب الفيل وردهم خاسئين وجعل كيدهم في تضليل، قادر على دفع غيرهم من الأمم الكافرة الظالمة. ولم يكن أصحاب الفيل هم القوة الأولى ولا الأخيرة في هذا الكون ممن دمرهم الله وأهلكهم بظلمهم. ووفق سنة الله في الكون فسيظل الهلاك والتدمير لكل من عتى وتسلط وتكبر: { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (الأنعام: من الآية 44-45).
مراتب الجهاد (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، واتقوا الله ويعلمكم الله.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/2/1420هـ.(1/170)
إخوة الإسلام: وهناك شعيرة عظيمة من شعائر ديننا يقل الحديث عنها، أو يقصر في مفهومها، وربما قل أو ضعف العمل فيها، أو في أحد من جوانبها.
إنها شعيرة الجهاد في سبيل الله بمفهومها الواسع، وبأنواع الجهاد ومراتبه المختلفة.
إن عدداً من الناس حين يسمع كلمة الجهاد يتبادر إلى ذهنه جهاد الأعداء بالسيف، وقتال الكفار بالأسلحة المادية، وهذا النوع من الجهاد – وإن كان مهماً ودرجته عالية في الأمة – فليس هو الجهاد كله، فثمة مراتب أخرى من مراتب الجهاد، أوصلها بعض العلماء إلى ثلاثة عشر مرتبة، لا بد من معرفتها والعمل بها.
وهذه المراتب المختلفة والمتفاوتة لا يعفى مسلم ولا مسلمة من المساهمة فيها، وكلما أخذ المرء منها بنصيب أوفر، كان نصيبه من الإيمان والجهاد أكبر، أجل، لقد جاء ذكر الجهاد في كتاب الله كثيراً، وشملت آياته جهاد الكفار، وجهاد المنافقين، وجهاد النفس، وجهاد الشيطان، والجهاد بالمال، وجهاد الحجة والبيان، وكذا جاءت نصوص السنة النبوية مبينة لما أجمل في القرآن، وموضحة فضل ومنازل المجاهدين.
ومما يلفت النظر، ويوسع مفهوم الجهاد في القرآن، أن واحدة من آيات الجهاد نزلت في سورة مكية – أي قبل أن يفرض الجهاد في المدينة. يقول تعالى في سورة الفرقان مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم - وآمراً له بالجهاد من حين بعثه: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } (الفرقان: من الآية 51-52).
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } يعني: بالقرآن، وقال ابن زيد: بالإسلام، وقيل: بالسيف، وهذا فيه بعد لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال – كذا نقل القرطبي، وقال في معنى { جِهَاداً كَبِيراً } أي: لا يخالطه فتور (1).
__________
(1) تفسير القرطبي 13/58، ابن القيم: زاد المعاد 3/5.(1/171)
يا أخا الإسلام: مراتب الجهاد، وسائل نفسك بأي قدر أخذت منها، بل وكم نجحت أو غلبت في شيء منها. قال ابن القيم رحمه الله: الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين، فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
الأولى: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي به سعادة المرء وفلاحه في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى…
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات، والشكوك القادحة في الإيمان. والثانية: جهاد على دفع ما يلقي إليه من الإيرادات الفاسدة والشهوات…
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب، بالقلب، واللسان، والمال، والنفس. وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات فثلاث مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجمز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
فهذه كما يقول ابن القيم رحمه الله – ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد: "ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"(1).
__________
(1) رواه مسلم 1910 انظر: زاد المعاد: 3/9-11.(1/172)
إخوة الإيمان: ويحتاج المسلم والمسلة إلى المعرفة والعمل بهذه المراتب كلها – في كل زمان – ولكن الحاجة إلى ذلك تشتد في مثل هذه الأزمان التي تكاثر فيها الأعداء على المسلمين، فالعدو الخارجي انتهك بلادهم، وقتل وشد، واستباح حرماتهم، والمنافقون باتوا يجمعون فلو لهم وجاؤوا يركضون، وأشغلوا الأمة عن قضاياها المصيرية مع أعدائها بطرح شعارات كاذبة، ودعاوى خبيثة، وفتن مستشرية، هذا مع ما في الأمة من ضعف وخور، وجبن وهلع، وتبعية ممقوتة، وتشبث بمظاهر كاذبة، وتعلق بأشياء تافهة إلا ما شاء الله، والمؤلم إذا سرى في الأخيار منهم داء الوهم والوهن، وأصيبوا بالتلاوم والإحباط، وشغلوا بالدنيا عن الدين، أو بالمهاترات والخلافات الممقوتة، وحصروا أنفسهم في دائرة ضيقة ما كان العدو يطمع أن يصيروا إليها.
عباد الله: ونحتاج لمعرفة هذه المراتب من الجهاد في معركتنا المتجددة مع أنفسنا ومع الشيطان، وفي ظل معركة الشبهات والشهوات، وفي عالم حرب الفضائيات وغزو القنوات.
ونحتاج للعلم والعمل بهذه المراتب الجهادية لانتشار رقعة الفساد، وغربة الإسلام، وموجة التقليد، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وغياب الهدف الأسمى للوجود في هذه الحياة عند فئام من المسلمين.
أيها المسلمون: ويستخلص مما مضى أن أعداء الإنسان المأمور بمجاهدتها أربعة: النفس، والشيطان، والكفار، والمنافقون، وإن هناك حكمة إلهية لتسليط هؤلاء الأعداء على الإنسان، وذلك ليبلو الله الصادقين من الكاذبين، ويميز الخبيث من الطيب، ويمتحن الله من يتولاه ورسله، عمن يتولى الشيطان وحزبه، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } (الفرقان: من الآية20).(1/173)
وقال تعالى: { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض } (محمد: من الآية4). وقال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } (محمد:31).
عباد الله: وفي ظل هذه المعركة، والأعداء المسلطة، لم يترك الله عبده دون مدد، ولم يخله من مدافعة، بل جعل له السمع والبصر والعقل والقوى، وأنزل عليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وأمدهم بملائكته، وقال لهم: { مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } (لأنفال: من الآية12).
وأمرهم بدوام المجاهدة والمصابره، ووعدهم على ذلك رضاه والجنة، وأخبرهم أنه مع المتقين، ومع المحسنين، ومع المؤمنين، ومع الصابرين، وذلك حتى لا يستوحشوا أن يفتروا، بل أخبرهم بدفاعه عنهم: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } (الحج: من الآية38).
ولكن هذه المدافعة بحسب إيمانهم، وثقتهم وتوكلهم ودعائهم لخالقهم… مهما أحاطت بهم الخطوب، وتكاثرت عليهم الأعداء، ومن قبل قال إخوانهم المؤمنون: { وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } (الأحزاب:22)، بل وكان حال الأنبياء السابقين مع النصر كما قال تعالى: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (يوسف:110).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أوحى إلى عبده: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (التوبة:73).(1/174)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاوت بين المجاهدين والقاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر: { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } (النساء:95).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخبر أن طائفة من أمته: "لا تزال تقاتل على الحق، ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال"(1).
اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر أنبياء الله ورسله.
إخوة الإيمان: أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والدنوب"، والحديث صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. "المستدرك": 1/11(2).
وهكذا يتسع مفهوم الجهاد في السنة، ويؤكد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيه على تربية النفس على طاعة الله، والإقلاع عن الذنوب والخطايا… فتلك بدايات أساسية للجهاد في مجالاته الأخرى، قال العارفون: إن مجاهدة النفس مقدم على جهاد العدو في الخارج، فإنه ما لم يجاهدها لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج… بل لا يمكنه الخروج لمنازلة العدو حتى يجاهد نفسه على هذا الخروج (3).
__________
(1) صحيح سنن أبي داود: 2/471.
(2) المسند 6/21، زاد المعاد 3/6 الهامش 1.
(3) زاد المعاد: 3/6.(1/175)
عباد الله: ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجلون رحمة الله هم القائمون بهذه الثلاث كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (البقرة:218).
وكما أن الإيمان فرض على كل أحد، ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد، والإخلاص، والإنابة والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، والتوبة.
وهجرة إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره (1).
وهكذا – إخوة الإيمان – يتسع مفهوم الهجرة كما اتسع مفهوم الجهاد – ويفرض على كل مسلم جهاد نفسه في ذات الله ، وجهاد شيطانه وهذا مما لا ينوب فيه أحد فانظر –أيها العاقل – في نفسك وقومها في باب المجاهدة والهجرة فإن وجدت خيراً فاحمد الله ؛ واسأل ربك الثبات والمزيد ، وإن وجدت خلاف ذلك فتدارك نفسك مادام في الأمر مهله ، وتب مما يثقل كاهلك يوم العرض على الله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً } (النساء: الآية 110).
يا أخا الإسلام : إياك أن تكون عنصر تعويق في أمتك ، واعلم أن معصيتك لله، وانحرافك عن صراطه المستقيم خرق في سفينة الأمه ، وأن ضعفك وتراخيك في مجاهدة نفسك أو مجاهدة الأعداء ، إنما هو ثملة في بنيان أمتك ، ورم الله الخليفة الراشد حينما أوصى قائد جنده السائر للمعركة
بقوله : "واعلم أن ذنوب الجيش أشد عليه من أعدائه "
__________
(1) زاد الميعاد : 3/11-12 .(1/176)
أما طاعتك- أخا الإسلام –وجهادك في سبيل الله فهو رافد لنهضة الأمة ، وسبب من أسباب نصرها ، فإياك أن تحقر نفسك ، أو تهميش دورك ،أو ترحل المسؤولية على غيرك ، فعليك سهم في الجهاد و الدعوة أينما كان موقعك ،ومهما كانت قدراتك : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: من الآية286] ولكن: { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران: من الآية102]، فإن قلت أنك في عداد الضعفاء ، فليس يعجزك أن ترفع يديك إلى السماء داعياً بتسديد سهام المجاهدين ، وإبطال كيد الكائدين وذكر رهبان الليل بسهم الدعاء فهو لا يخطئ ، ولا يغب عن بالك أن الأمه إنما
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102)
{ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج: من الآية78).
قال العالمون: ولم يصب من قال إن الآيتين منسوختان، لظنه أنهما تضمنا الأمر بما لا يطاق، { حَقَّ تُقَاتِهِ } و { حَقَّ جِهَادِه } هو ما يطيقه كل عبده في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة، والعجز، والعلم، والجهل، فحق التقوى وحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء… وفي قوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج } تأكيد على أن الأمر يسع كل أحد، وكل بحسبه (1).
لا مفر – يا أخا الإيمان – من المسؤولية، ولا مناص عن المشاركة ف يالجهاد والدعوة… ولربما فاق درهم ألف درهم، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وصدق الله: { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } (النساء: من الآية104).
__________
(1) زاد المعا: 3/8.(1/177)
فإذا علمت سعة مفهوم الجهاد… وكثرة مراتبه… فسارع إلى المساهمة العاجلة في الخير، وفكر في أي أبواب الجهاد تثمر، وأعمل فكرك، وجدد في وسائل الدعوة ومشاريعها… وأرجو أن أعينك بشيء من ذلك مستقبلاً، نفعك الله ونفعك بك وسدد سهامك، وأقال عثرتك، وشتت شمل عدوك وعدو المسلمين، إنه سميع الدعاء.
ما قبل الزواج (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، خلق الزوجين الذكر والأنثى، من نطفة إذا تمنى، وأن عليه النشأة الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (الروم:21).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، جاءت شريعته حاثة على كل خير، مستجيبة لنداء الفطرة، معالجة لنوازع البشر ورغباتهم، وهو القائل: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة".
اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/3/1420هـ.(1/178)
عباد الله: والحديث عن الزواج حديث تدعو الحاجة إليه عموماً، وفي هذه الأيام على الخصوص، وفيه عدة تنبيهات يحسن الإشارة إليها، وفي الحديث عن الزواج مشاركة لهموم قطاع كبير م الشباب والفتيات، فضلاً عن الكبار من الرجال والعانسات من النساء.
وسأقصر الحديث في هذه الخطبة على (ما قبل الزواج)، فماذا يدور في مخيلة الشباب حين يفكر في الزاج، لماذا يتزوج؟ وبمن يتزوج؟ هل يتزوج لغرض واحد، أم في ذهنه للزواج عدة أغراض، ويفهم للزواج عدة حكم وأهداف، ماذا يخيفه من الزواج؟ وما الشبح الذي يطارها؟ وقد يقعد به عن الزواج.
والفتاة – هي الأخرى – لماذا تتزوج، وما الزوج المفضل لها؟ ولماذا ترفض الزواج – أحياناً – وما المؤثرات التي تؤثر عليها في تأخير الزواج؟ وما أثر هذه التأخير على حياتها ومستقبلها؟ وماذا يقال عن عزوبة الرجال وعنوسة النساء؟
أما المجتمع – سواء كان مجتمع الزوجين القريبين – أو المجتمع الكبير بأسره، فيسأل: ما سبل تيسيره للزواج؟ وما المعوقات والعوائد الاجتماعية التي تثقل بها كاهل الزوجين – من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون بها سبباً لتأخير الزواج.
وفئة رابعة يحسن الحديث عنها وعن أثرها على الزواج، وعلى دورها في ترسيخ مفاهيم خاطئة عن العلاقة بين الجنسين، ومشروعية الزواج وما ينبغي أن يكون لها أو لبعضها من أثر في تيسير الزواج، ونشر المفاهيم الصحيحة لعلاقة الزوجين، والأهداف المشروعة من وراء عقد الزواج، إلى غير ذلك من نشر الوعي وصد الهجمات المعادية.(1/179)
أيها الشباب المسلم: والمفترض أنك حين تهم بالزواج، وفي ذهنك عدة أغراض، وتريد أن تحقق أكثر من هدف للزواج، فإحصان فرجك عن الحرام طريقه الزواج المشروع: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } (المؤمنون: من الآية 5-7). فلا النظرة المحرمة، ولا العادة السرية، ولا الارتماء في أحضان الساقطات… يحقق لك أهداف الزواج.
وتحقيق سنة الأنبياء عليهم السلام – في الزواج – وإكمال الدين هدف ينبغي ألا يغيب عن ذهنك، وقد قال الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّة } (الرعد: من الآية38). وتكثير نسل المسلمين، والسعي لإيجاد ذرة صالحة تعتز بها وتسعد في حياتك، وينفعك الله بها والمسلمين بعد مماتك… هدف جليل ينبغي أن تضعه نصب عينيك، وتسعى في سبيله لاختيار الولود الودود من النساء، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يوصيك بهذا ويقول: "تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".
ومن أهداف الزواج التي يباركها الإسلام، ترابط الأسرة، وتقوية أواصر المحبة بين الزوجين، وتنمية غريزة الأبوة والأمومة، ومزيد الشعور بحق الوالدين من خلال محبة الأطفال ورعايتهم، والشعور بمسؤولية الزواج وما يدفعه إلى العمل وبذل الأسباب في سبيل الاستغناء وإغناء من يعولهم، كل ذلك كإيجابيات وواجبات حث الإسلام عليها.
وكل ذلك لا ينافي الاستمتاع بما أحل الله من ملاذ الدنيا، وقضاء الوطر حسب ما شرع الله: "فالدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" رواه مسلم.(1/180)
وحين تكون هذه الأهداف حاضرة في ذهنك، فإني أنصحك أخي الشاب أن تختار لنطفتك فالعرق دساس، وألا يكون الجمال وحده مؤشر الاختيار عندك، فكم من حسناء تنبث في منابت السوء، فإياك وخراء الدمن، وإذا كان رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - قد حدد الأغراض التي تنكح لها المرأة غالباً، فقد قال في النهاية موصياً: "فاظفر بذات الدين تربت يداك".
وحري بك أن تختار زوجتك من بيئة كريمة، معروفة باعتدال المزاج وهدوء الأعصاب، والبعد عن الانحرافات الخلقية والنفسية فإنه أجد أن تكون هذه المرأة جانية على ولدها، راعية لحق زوجها (1)، قال عليه الصلاة والسلام: "خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج ذات يده" متفق عليه.
أيها الشاب: ونذكرك ألا تكون الشهوة الجنسية – هدفك الأول والأخير – مع حلها لك – كي تبلغ الكمال في رجولتك، وتعدد أغراض الزواج في حاضرك ومستقبلك، لنفسك ولزوجك ولأولادك وللمجتمع من حولك، وإياك أن تسرف في الشروط والموصفات، أو أن تخشى الفقر من زواجك وأولادك، فتلك معوقات وهمية فاحذرها، وإن طاردك شبح غلاء المهور، فعسى أن يجعل الله لك مخرجاً ويرزقك من حيث لا تحتسب، والزم أمر الله: { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } (النور: من الآية33)، وتمسك بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" متفق عليه.
__________
(1) سيد سابق: فقه السنة: 2/21.(1/181)
أيتها الفتاة: ويقال لك ما قيل لشاب في أغراض الزواج وحكمه، ولا يغب عن بالك أنك لبنة مهمة في بناء الأسرة المسلمة، وكم يحرص الأعداء على تقويض هذه الأسرة بوسائل مختلفة، واعلمي أن في تأخيرك الزواج بحجج واهية تأخيراً لبناء الأسرة، وتقليلاً لنسل الأمة المسلمة، واستجابة لأهداف الأعداء، وتأثراً بالغزو الفكري.
أختاه: وفي زمن استشراء صور الإغراء والإغواء، واستهداف المرأة عموماً بالإفساد، يلزم الفتاة ألا ترد خاطباً يرضى دينه، وخلقه، وأمانته، ومن حقها أن تتأكد أو يتأكد لها عن استقراره النفسي، وطيب الأسرة التي ينتمي لها، وخلوه من الموانع الشرعية لمثلها… وألا يكون تركيزها على شكله الظاهر فحسب، أو على نوع وظيفته، ومركزه الاجتماعي. قال عليه الصلاة والسلام: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، غلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"(1).
أيتها الفتاة المسلمة: وفي الزواج المبكر خير لك وللمجتمع من حولك، وهل غاب عنك أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - ، دخل بها سيد المرسلين وهي بنت تسع سنين. متفق عليه.
ولا ينبغي أن تقعد بك مواصلة الدراسة، أو الرغبة في الوظيفة أو مشورة الصديقة، أو رغبة الأهل في التأخير لأسباب غير مشروعة… عن الزواج المبكر.
كما لا ينبغي أن تؤثر فيك وسائل الإعلام الغازية، والمحذرة لك عن الزواج المبكر، فثمة ذئاب تلبس لبوس الضأن وتظهر بمظهر الناصح، والله أعلم بما يكتمون.
أختاه: وحذاري أن يطاردك – في المستقبل – شبح العنوسة بسبب الرفض المبكر، والاعتذار عن الزاج حين يتوارد الخطاب، فأنت الخاسر الأكبر، وستعضين أصابع الندامة، حين ينصرف الشباب عنك، وهل ترغبين أن تكوني مثل هذه المرأة التي قالت: "لا نرجو مالاً، بل نريد أزواجاً، شبح العنوسة يطاردنا"؟.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه: 1090.(1/182)
أختاه: احذري التبذل والسفور ومواطن الريب، ولا تستجري للاختلاط وسيئ الأخلاق… فلك ذلك يجعل الأزواج حذرين من التقدم لخطبتك، فهم يبحثون عن الأمينة العفيفة والجوهرة المصونة، تسره إذا نظر إليها، وتحفظه في نفسها وماله وأولاده إذا غاب عنها، كما ينفر الأزواج من المرأة التي لا تقوم بأعباء الحياة الزوجية وواجباتها، فليكن لك في بيت أهلك مراس في أمور البيت، قبل أن تتحملي المسؤولية كاملة في بيت الزوج.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، جعل الزواج عبادة يتقرب بها العبد إلى مولاه، وامن على عباده بنعمة الزوج والولد فقال تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } (النحل: من الآية72).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخبر وهو الصادق المصدوق، عن قيمة الزواج بقوله: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي" رواه الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها، ولي طول النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة (1).
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وسائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: ويشكل المجتمع عاملاً مساعداً على الزواج أو عائقاً دونه، فبذل المحسنين لمساعدة المتزوجين يسهم في كثرة الزواج ومبادرة الشباب للزواج، واستشعار عدد من الجمعيات الخيرية لدورها في دعم الشباب الراغب في الزواج ومساعدتهم، أو إقراضهم، كل ذلك خطوات إيجابية ومظاهر صحية تشكر عليها هذه الجمعيات، ويشكر القائمون عليها لاستشعارهم بهذا الدور الرائد.
__________
(1) فقه السنة: 2/12، 13.(1/183)
كما أن مما يعد من مشجعات الشباب على الزواج تيسير المجتمع تكاليف الزواج، وتخفيض المهور، والاقتصاد في مؤنه، وإلغاء الموائد المكلفة والتي لم ينزل الله بها من سلطان.
أما ما يعد من معوقات المجتمع للزواج، فمنها: المغالاة في المهور وما يتبعها من تكاليف أخرى، والتشدد أحياناً في الشروط، والمؤسف حين يكون تأخير الزواج سببه عضل الآباء لبناتهم، وعدم رغبتهم في زواجهن، مع كثرة الخطاب الأكفاء لهن، ولا سيما إن كانت موظفة يستفيد من مرتبها، ويخشى انقطاع ذلك بزواجها، وقد يرفض قبل أن يستأذنها.
ومن المعوقات: إجبار الأهل للفتاة أو للفتى، على الزواج ممن لا تتوفر فيه الرغبة، ليس لشيء إلا لصلة القرابة أو نحو ذلك، مما لا يستوجب إكراه الفتى أو الفتاة على الزواج، فتتأخر الفتاة أو الفتى عن الزواج بسبب ذلك.
ومن الأخطاء التي تمارس في المجتمع – أحياناً – عدم استئذان الزوجة في الزوج الذي تريد أن ترتبط معه طيلة حياتها، وشريعة الإسلام، وسنة محمد عليه الصلاة والسلام تأمر باستئذان المرأة، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" متفق عليه.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حكم إجبار البكر البالغة على النكاح، فقال فيه قولان: والصواب عدم إجبارها، ثم يقول: وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعة ومباشرة من تكره مباضعته ومباشرته… إلخ كلامه (1).
__________
(1) الفتاوي 32/22.(1/184)
أيها الولي: ليس من حقك أن تجبر ابنتك أو أختك على الزواج بمن تكرهه، أما إن كان الزوج صاحب فسق مصراً على الفسوق، فلا ينبغي أن يزوج كما قال ابن تيمية (1). قالت عائشة - رضي الله عنه - : "النكاح رق، فلينظر أحدكم أن يضع كريمته"(2).
أيها الأولياء: ومن السنة أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته، ولكن دون خلوة بها، قال - صلى الله عليه وسلم - :"انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، أي: أجدر أن يدوم الوفاق بينكما (3).
قال العلماء: والأحاديث في النظر لم تعين مواضع النظر، بل أطلقت، لينظر إلى ما يحصل له المقصود بالنظر إليه، وليس النظر حكماً مقصوراً على الرجل، بل وللمرأة، لأنه يعجبها ما يعجب الرجال وتكره ما يكرهون (4).
ومما ينبغي التنبيه عليه، ألا يطول أمد الخطبة، وليكن الرد – بعد السؤال والتحري – عاجلاً، إما بالقبول أو بالرد، حتى لا تتأذى المخطوبة، ولا يتعطل الخاطب، ولطول الانتظار ألم ونكد لا يعرفه إلا من كابده، والضرر اشد إن فسخ الخطبة بعد طول انتظار، وبعد أن ينسلخ من عمر المرأة سنون، فذلك أحد أسباب العنوسة (5) ودبلة الخطوبة تقليد غربي، لا أساس له في شريعة الإسلام، إذ لا يتم عقد أواصر الزوجية إلا بعقد الزواج المشروع، والقائم على الإيجاب والقبول، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وينعقد النكاح بما عده الناس نكاحاً، بأي لغة ولفظ وفعل كان (6). قال العلماء: وألفاظ الإيجاب مثل: زوجتك، أنكحتك.
والقبول مثل: قبلت، وافقت، أمضيت (7).
__________
(1) فقه السنة: 2/24.
(2) فقه السنة: 2/24.
(3) السابق: 2/28.
(4) فقه السنة: 2/29.
(5) تأخر سن الزواج، آل نواب ص363.
(6) الاختبارات العلمية: 119.
(7) فقه السنة: 2/36.(1/185)
أيها المسلمون: وإذا كانت وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة أو المرئية، تعمل عملها في الشباب، فعملها في الفتيات أشد، لا سيما القنوات التي بدأت تغزو العقول والأفكار، وتسيء إلى القيم وتهدم الأخلاق، فاحذر أخي الشاب وأختي الفتاة، واحذروا أيها الأولياء من آثارها، فكم هيجت من غرائز، وكم أفسدت من عفيف أو عفيفة، وكم بلبلت من فكر، ولا سيما تلك التي تشوه أحكام الله في النكاح والعشرة، فهذا برنامج يعرض للاختلاط ويحطم الحواجز بين الأجانب من الجنسين ويتحدث الرجل إلى المرأة ويمازحها وكأنه زوجته أو أخته، وتصور الخلوة المحرمة والسفور وكأنه تقدم وحضارة، والحشمة والعفاف وكأنه تقاليد بالية، أما القبلة وما وراءها من سفاسف الأمور المنتهية باللقاءات الجنسية، فكم تغزو أفلامها بلاد المسلمين، وتقع المسؤولية الكبرى على الأولياء حين يوفرون هذه الأطباق العارضة لزبالة أفكار البشر وأخلاقهم، وغزو اليوم غزو أفكار وأخلاق، وعلى المسلمين أن يدركوا ميدان المعركة، وألا يقع أحد منهم في أتونها. وعلى صعيد آخر، فكم تعرض وسائل الإعلام ما يشوه صورة التعدد المباح في الإسلام مثلاً، أو غير ذلك ما جاءت به شريعة الإسلام.
وفي مقابل ذلك يمكن لوسائل الإعلان أن تكون وسيلة توجيه، وإصلاح تعرض لأحكام الله في النكاح، وتوضح سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الزواج، وتبين للزوجين أسس العشرة الصحيحة، وتعرض لأخطاء المجتمع بالنقد، وتنقل الصور الإيجابية ليعم النفع بها، وهكذا تتكامل الوسائل المصلحة، ويعود ذلك بأثره الإيجابي على المجتمع بأسره.
اللهم يسر للشباب والفتيات نكاحهم، وبارك لهما، وبارك عليهما واجمع بينهم بخير.
أفكار في الدعوة إلى الله (1)
الخطبة الأولى
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/4/1420هـ.(1/186)
الحمد لله رب العالمين جعل الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون، واشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء وقدوة الدعاة والمسلحين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
إخوة الإسلام: الحديث عن الدعوة حديث عن دين الله، والحديث عن الدعاة المخلصين حديث عن الصفوة من عباد الله، لئن كان الحديث عن الدعوة والدعاة يطول ويتشعب وهو بمجمله نافع ومفيد، إلا أنني سأقصر الحديث هنا على أمور، منها:
أولاً: قيمة الدعوة وفضل الدعاة، وفي هذا يحكم الحق تبارك وتعالى أن لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت:33).
الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء عليهم السلام، وطريق المؤمنين التابعين يعني لهم إلى يوم الدين: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (يوسف: من الآية108).
وعن فضل الدعوة والدعاة قال عليه الصلاة والسلام: "من دعا إلى هدى كان له من الأجل مثل أجر من تبعه – إلى يوم القيامة – لا ينقص من أجورهم شيئاً".(1/187)
وفي الحديث الآخر: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم".
ثانياً: تجريد الدعوة وإخلاص الدعاة… فلا ينبغي أن تقوم الدعوة لأغراض شخصية أو مطامع دنيوية، ولا يليق بالدعاة أن يأكلوا بدعوتهم، أو يخادعوا الناس في حقيقتهم وواقع أمرهم، أو يتكلفوا ما لم يأذن به الله، وفي التنزيل: { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } (صّ:86)، { اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ } (يّس:21)، وإذا لم يخش أولئك المتزيدون بالدعوة الفضيحة في الدنيا، فليتذكروا الفضيحة الكبرى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثالثاً: تاريخ الدعوة، إن تاريخ الدعوة إلى الخير والقسط قديمة قدم الزمان، ومصاحبة للأمم الخوالي، وقام بها الأنبياء عليهم السلام مع أممهم من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام: { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } (فاطر: من الآية24)، استحقت أن يقتل لها الأنبياء، ويقتل أتباعهم أو يعذبوا، وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى حاكياً نموذجاً من نماذج الدعوة والإيذاء. { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } (آل عمران: من الآية 21-22).
روى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار إلى ساعة واحدة، فقام مئة رجل واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية"(1).
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/46.(1/188)
وما أسوأ المجتمع إذا تحول إلى هذا النموذج السيئ ولذا روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية"(1).
والقرآن يحذر من هذه النماذج حين عرضها، ويحذر من الرضى عن أصحابها، وإن لم يفعلوا كفعلهم، ولهذا وقف القرطبي عند هذه الآية – بعد أن ساق النصوص السابقة متسائلاً، فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبياً. فالجواب عن هذا: انهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته.
رابعاً: أمد الدعوة وأثرها… وعلى الدعاة ألا يحددوا زمناً لأثر دعوتهم، فأمد الدعوة قد يطول، وآثارها قد لا تظهر إلا بعد حين، وحسب الدعاة أن يتسلوا بقوله تعالى عن نوح عليه السلام: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً } (العنكبوت: من الآية14).
وفي هذه القرون المتطاولة من أول الرسل عليه السلام كانت الدعوة مستمرة ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية.
خامساً: لا يأس ولا إحباط… ومهما طال أمد الدعوة أو قل الاستماع للدعاة، فلا ينبغي أن يحبطوا أو ييأسوا، وكيف يحبط الدعاة أو ييأسون وقد قيل للمرسلين قبلهم: { إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغ } (الشورى: من الآية48) وقيل: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء } (القصص: من الآية56)، وكيف يحبطون لقلة الأتباع وقد قيل لأحد المرسلين: { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } (هود: من الآية40).
وفي الحديث يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد.
__________
(1) تفسير القرطبي: 4/46.(1/189)
سادساً: وللدعوة تكاليف، وعلى الدعاة أن يتحملوا الأذى في سبيل الله، وألا يجعلوا فتنة الناس كعذاب الله. وسنة الله في الابتلاء جارية: { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } (العنكبوت:3).
سابعاً: والصبر زاد الدعوة، وهو طريق لتمكين الدعاة: { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } (لقمان: من الآية17)، { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (الكهف: من الآية28).
{ َوجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة:24).
ثامناً: وهناك أدواء مهلكة وعلى الدعاة أن يحذروها كالعجب والرياء، والطمع في السيادة والرئاسة، والحسد والغرور، ونحوها.
تاسعاً: ولا ينبغي أن ترتبط الدعوة بالأشخاص أو تحد بمناهج ضيقة، فالأشخاص يذهبون ويجيئون، والمناهج يطرأ عليها التغيير، وهي الأشخاص عرضة للخطأ، وينبغي أ، يكون المعول في الدعوة على هدى الكتاب والسنة، وينبغي أن يتخذ من منهج الأنبياء عليهم السلام طريقاً في الدعوة، ومن قال الله عنهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام: من الآية90).(1/190)
عاشراً: وإذا كان الجوهر ثميناً فينبغي أن يكون الوعاء الحامل له نظيفاً سليماً، وكذلك الدعوة، ينبغي أن تحمل للناس وتؤدى بالحكمة والموعظة الحسنة، امتثالاً لقوله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: من الآية125)، وليحذر من الغلظة والشدة والفظاظة: { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } (آل عمران: من الآية159)، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
حادي عشر: والدعوة تكون بحق، وقد تكون بباطل، وكما يوجد دعاة إلى الحق، فثمة دعاة للباطل، فهناك دعاة لملل غير الإسلام، هناك دعاة لنحل باطلة – وإن انتسب أصحابها إلى الإسلام – وهناك منافقون يتسترون بالإسلام، ويخفون الكفر والإلحاد، وهناك مبتدعة تختلف مشاربهم وتلتقي أهدافهم لمحاربة الإسلام والسنة، وخاب وخسر من كان في منظومة الدعاة على أبوب جهنم، والمصيبة حين ينشط هؤلاء المبطلون، ويصاب أهل الحق والسنة بالضعف أو الهوان، أو يدعم أولئك، ويضيق على هؤلاء.
ثاني عشر: والتميز بين أصحاب الحق والباطل قديم في الأمم، وفي "صحيح مسلم" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(1).
__________
(1) مختصر المنذري ح:35.(1/191)
ثالث عشر: ولذا فمن أهداف الدعوة ومسؤولية الدعاة تعليم الجاهل، وتذكير الغافل، والحوار مع الشاك والمتردد، ينشر بالدعوة الخير، ويقام العدل، ويحاصر الباطل، وتصحح المفاهيم الخاطئة، ويكشف زيف المبطلين، تنشر بها أعلام السنة، وتقمع البدع، ويحذر من أصحاب الشهوات والأهواء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } (الشورى:15).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخبطة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين.
وعن وسائل الدعوة يقال كلام كثير، ويقترح سائل نافعة بإذن الله، كالمحاضرة والدرس والندوة والموعظة الحسنة، وتوزيع الكتاب، والشريط والمطرية النافعة، والدعوة عبر الرسالة والمراسلة، وفي محيط الأسرة، والجيران، وبين زملاء العمل والدراسة وأصدقاء العمر، وفي المناسبات العامة، وداخل المدن أو في القرى والمناطق النائية، وعبر الكتابة في وسائل الإعلام، أو البرامج المذاعة، وفي التجمعات الشبابية، أو دور الرعاية، وأماكن الإصلاحيات والسجون، والاستفادة من إمكانات الحاسب ومواقع الانترنت، وداخل أروقة المستشفيات، وغرف المرضى، وفي الفنادق والاستراحات المؤجرة، واستثمار الأوقاف الخيرة العامة في الدعوة إلى الله… إلى غير ذلك من الوسائل التي قاربت المئة وسيلة عند بعض المعنيين برصد الوسائل الدعوية، وقد يزيدها آخرون.(1/192)
وفوق ذلك كله فهناك وسائل دعوية قد يغفل عنها مع يسرها، وعدم الكلفة فيها، والاقتدار عليها، وحين يكون الحديث عن وسائل الدعوة لا بد من الإشارة إلى أهمية التجديد في وسائلها بشكل عام، ولا بد من القناعة أن ما صلح لزمن قد لا يكون بالضرورة هو الأصلح لزمان أو مكان آخرين، فحسن تعامل الموظف مع المراجعين، وتيسير أمورهم أسلوب من أساليب الدعوة – إذا أحسن الموظف تقديمه وتوظيفه، والسماحة في البيع والشراء، والنصح وعدم الغش أو المغالاة في السعر أسلوب في الدعوة يملك به الباعة قلوب المشترين، لا سيما إذا قدموه على أنه جزء من تعاليم الإسلام وهديه. والمعلم المخلص في رسالته التعليمية، والمدرك لدوره التربوي، والمنصف لطلابه، والمتأدب الخلوق مع زملائه، هو أحد الدعاة إلى الله – وإن لم يتسم بذلك فلا عبرة بالمسميات – ولكنها الوسائل النافعة ورصيد الأخلاقيات. والمرأة المحتشمة في لباسها، والهادية في طبعها، وتعاملها، والمبتسمة في وجه صويحباتها، والمعرضة عن ما لا يعنيها والداعية للخير بسلوكياتها، هذه تعمل عملها، وربما فاق أثرها حديثاً نظرياً طويلاً.
يا أيها المقتدر على حاجة من حوائج المسلمين، ولربما كان في قضائك لأحدهم حاجة أثر في قبول صاحب الحاجة للخير، وانصرافه عن شر هو واقع فيه، ولربما كانت هذه منك إليه رسالة وأنت لا تدري، ما لم يكن في تقديم هذه الحاجة محظور.
أيها المسؤول: وأنت في موقع مسؤوليتك مهما صغرت أو كبرت تستطيع أ، تقدم الخير، وتدعو إلى دين الله من خلال فرص الخير التي أقدرك الله عليها، وأنت أدرى الناس بها، لا سيما إذالم يكن كرسي المسؤولية هدفك، والتعالي على الناس غروراً لحق بك، والمطامع الشخصية هي المحركة لتصرفاتك.(1/193)
أيها المسلمون: وكم نغفل – أساليب الدعوة إلى دين الله – عن إسعاف مريض، أو نقل مصاب، أو إعانة متعطل في البراري أو الطرق السريعة – وقد يكون أحوج ما يكون لمساعدتك ووقوفك إلى جانبه – ومواقف المعروف والإحسان تبلغ – أحياناً – مبلغها، وتؤثر أثرها في الآخرين، وقد نشعر بذلك وقد لا نشعر… إلى غير ذلكم من وسائل قد لا نقدرها حتى قدرها، وقد تبلغ في آثارها مبلغاً عظيماً، والمهم أن تقدر كل موقف، وتحتسب على الله كل حركة، وتخلص النية وتحسن القصد، وتوظف ذلك في الدعوة لدين الله، وقد كان المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - يحتسب في نظرته وابتسامته ومزاحه، فضلاً عن جده وأمره ونهيه،ولكم في رسول الله أسوة حسنة.
إن من الخطأ – معاشر المسلمين – أن نقصر الدعوة على وسائل محددة، أو نخص بها صنفاً من الناس، لا نجاوزها إلى غيرهم، ففي ذلك غمط لحقوق الآخرين، وتحجير لواسع.
وإذا عدت وسائل الدعوة فينبغي أن تشمل كل جهد خير نفع الله بجهد صاحبه الإسلام والمسلمين. وينبغي أن يتسع مفهوم الدعاة لكل داعية إلى الخير، مهما كان موقعه وأياً كانت وسيلته، ما دامت في إطار الشرع الحنيف، ولربما غاب عن أنظار الناس أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره، ولكنه معدود عند الله في طليعة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكم في ميدان الدعوة من جنود مجهولين وهم من الأخفياء الأتقياء.
أيها المؤمنون: وأنتم مدعوون جميعاً لتكونوا من أنصار الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ } (الصف: من الآية14)، وبالإيمان والعمل الصالح يتحقق لكم الخير، وبالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف تكونون من المفلحين.
وقفات مع الزلزال المدمر (1)
الخطبة الأولى
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/5/1420هـ.(1/194)
الحمد لله رب العالمين، جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، أإله مع الله؟ بل أكثرهم لا يعلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ومن السنة الإلهية والقدرات الربانية أن الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخبر الأمة عن الآيات البينات في الكون والأنفس والآفاق، فآمن المؤمنون وأبى المبطلون، اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين. والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
عباد الله: ومن تأمل أحوال الكون وما فيه من مخلوقات وموجودات أدرك عظمة الله وكمال قدرته، وتفرده بالربوبية والألوهية: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء } (النمل: من الآية88).(1/195)
فالسماء مرفوعة بلا عمد، وهي سقف العالم المرفوع، والأرض مستقر ومستودع، وقد ذللها الله وأرساها ليمشي الناس في مناكبها، ويستخرجوا خيراتها، والشمس والقمر سراجان يزهران، وبهما ضياء الكون ونوره، ولا يتخلف نورهما إلا لعارض يقدره العليم الخبير، والنجوم مصابيح وزينة وأدلة للمسافرين، والجواهر والمعادن مخزونة في هذا العالم العجيب، وأنواع النبات وصنوف الحيوان، كل ذلك مسخر لبني الإنسان… كل ذلك ليستدل به على عظمة الخالق وليعبد الله وحده لا شريك له… ولتعمر الأرض بذكره وشكره…
أيها المسلمون: وفي مفتاح دار السعادة حديث مطول عن بديع خلق الله في الكون، بسمائه وأرضه ونجومه وأحيائه، وهو جدير بالقراءة والتأمل.
إخوة الإسلام: بين عشية وضحاها تحولت مساحة قدرها مئة وإحدى وثلاثون ألف كيلومتر مربع شمال غرب تركيا، إلى ساحة لمأساة مفتوحة، تملؤها مشاهد الموت والدمار، ويلفها الحزن الكئيب، وتعصف بها رياح الفزع والأمطار الحمضية القاتلة، خمسة وأربعون ثانية فقط – من زلزال تركيا المدمر – كانت كافية لوقوع ما يقرب من خمسة وأربعين ألف قتيل وجريح، ومائتي ألف مشرد في العراء، يبحثون عن مأوى، والألم يعتصرهم، ومخاوف المستقبل تحيط بهم، ورائحة الموتى، وحطام المباني، والبحث عن أقاربهم، تبث الرعب في قلوبهم، وتزيدهم هلعاً، إنها ثوان تعصف بالحياة والأحياء، وتخلف خسائر تقدر بخمسة وعشرين مليار دولار، وأعظم منها خسائر الأرواح التي لا تعوض.
سبحان الله… في لحظة من الزمن كان من هو أعلى الأرض في أسفلها، ونقص عدد الأحياء، وارتفع مؤشر الأموات، فضلاً عن الرعب والرهبة، وكيف لا يكون ذلك، وقد ذكر أحد المراصد الأمريكية أن هذا الزلزال يعادل قوة أربع مئة قنبلة ذرية من النوع الذي ألقي على هيروشيما – من قبل – (1).
__________
(1) مجلة المجتمع عدد 1365 20-26/5/1420هـ.(1/196)
عباد الله: ولا غرابة أن يكون الحدث محل اهتمام العالم ومتابعاته، ما حدث في تركيا يفوق الوصف، وتعجز الأقلام وتتعثر الألسن وهي تصف الحدث وأثره، ومن خلال خمس وأربعين ثانية – لم تبلغ الدقيقة – تغير ما على وجه الأرض من الحياة والأحياء، وأسفر الحدث عن آلاف القتلى والجرحى، فضلاً عن المفقودين، واتسعت دائرة الحدث الذي لم يستكمل الدقيقة لتمتد على مساحة ثلاث مئة كيلو طولاً، وما يقرب من أربعين كيلو عرضاً، ولتشمل مجموعة من البشر والمنشآت فتخلفها أجداثاً وأنقاضاً، وتترك ورائها آلافاً من البشر دون مأوى، إلى غير ذلك من أرقام موحشة وأنات موجعة، وخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
ترى ما العبر والدروس والوقفات المهمة وراء الحدث؟
الوقفة الأولى: القدرة الإلهية وضعف البشر، فأي قدرة مهما بلغت لا تستطيع أن تعمل بهذه القدرة والسرعة كالذي حصل في زلزال تركيا وغيرها من الزلازل والبراكين الأخرى، وفي مواقع متعددة من العالم، والحدث مع قوته مفاجأة لا تملك هيئة أو جهة التحذير منه قبل وقوعه بوقت كاف، للإخلاء على الأقل، فضلاً عن أن تملك التحذير قبل فترة تمكن الناس من تقليل الخسائر، إنه قدر الله وتوقيته، ولا أحد يملك العلم أو التدخل، وكفى بالله وكيلاًن ومن جانب البشر تتضاءل قواهم، وينحصر جهدهم في الإنقاذ على بطء، ولربما سمعوا الأنين ولم يستطيعوا الوصول إلى صاحبه إلا بعد مفارقته الحياة، ولربما التهمت الأرض من الموتى ما يقارب من خرجوا أحياء أو في عداد الموتى، بل ويظهر الضعف في البشر بعد وقوع الحدث، فعملية الإنقاذ سارت ببطء في بدايتها، وهول النفاجعة وضعف الإدارة أخر عمليات الإنقاذ لساعات طويلة، حتى خرجت عناوين الصحف التركية منتقدة لهذا الوضع، ومن هذه العناوين: (الدولة تحت الأنقاض)، (أتى الصليب الأحمر، أين الهلال الأحمر)، (أنقرة نمر من ورق)(1).
__________
(1) مجلة المجتمع، عدد: 1365.(1/197)
إنها صورة مكشوفة من صور قدرة الله وضعف البشر أمامها.
الوقفة الثانية: أنفرح للمصاب أم نحزن؟ ولربما فرح البعض لما حصل، وتعليلهم أن في ذلك درساً لكل من يتمرد على شرع الله ويحارب أولياءه، ويضيق الخناق على سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ويستدل هؤلاء بأن تركيا مؤخراً أقامت للعلمانية سوقاً، رائجة، حكمت بموجبها البلاد وطارت العباد، ونحت شرع الله، ومنعت الخيرين من مزاولة الإصلاح ودعوة الناس للخير، وتقام الدنيا من أجل امرأة محجبة دخلت البرلمان، بل ويمنع الحجاب في المدارس والجامعات، وتنحى الأحزاب الإسلامية عن الحكم، وتباح المحرمات كالزنا والخمور ونحوها، إلى غير ذلك من أمور لا شك أنها محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين… ولكن الأمر لا ينتهي إلى ذلك فقط – بل ينبغي أن نستشعر الحزن لما حصل في تركيا، فثمة طوائف من المتضررين من إخواننا المسلمين، ولا حول ولا قوة لهم، بل قد يكونون كارهين لما يقع، وأمر آخر ينبغي أن نستشعره دائماً؛ فما يقع من مصيبة في بلد من بلدان المسلمين هو مصيبة على العالم الإسلامي، بأسره، ينقص فيه من موارده، ويفنى فيه عدد من طاقاته، وأهم من ذلك كله فناء عدد من أبناء الأمة الإسلامية. وهؤلاء أو أبناؤهم من بعدهم هم من جنود الإسلام وحماته، فكيف إذا كان زلزال هنا أو فيضانات هناك، وجفاف في موقع ثالث من عالمنا الإسلامي وهكذا. أفنفرح بالمصاب على إخواننا وننسى أنها مصيبتنا جميعاً؟(1/198)
- الوقفة الثالثة: وفرق بين التشفي والفرح، وبين الاعتبار والتأسف، فحين نعتبر بما يقع بجز من عالمنا، ونصلح ما فينا نحن من خلل، فذلك خير من أن ننشغل بنقد الآخرين والتسلي بأحداثهم، ومن باب الاعتبار نقول: وينبغي ألا ننسى أنه كان لتركيا يوماً من الدهر تاريخ مجيد. لقد كانت موطن الخلافة الإسلامية، ورائدة الفتوح في مشرق الأرض ومغربها، ولا تزال شعوب مسلمة تدين بالفضل بعد الله للأتراك إذ دعوهم للإسلام وأدخلوهم في قوائم المسلمين… ومع ما أخذ على الدولة العثمانية من مآخذ فقد كانت إيجابياتها ظاهرة لكل منصف… وهنا يرد السؤال وهو أيضاً للاعتبار؟ ماذا دهى تركيا في تاريخها المعاصر؛ لماذا استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وهل ينجح المستعمرون في فصل تركيا عن العالم الإسلامي وهي لحمة منه، وعضو فاعل من أعضائه؟.. وهل تحرك هذه المصائب الواقعة مشاعر العقلاء، وهل تكون تلك الخسائر الفادحة نذراً يستيقظ فيها الأتراك المخلصون فيعيدون تاريخ أجدادهم السابقين، وهل يسارع العالم الإسلامي في مساعدة إخوانهم الأتراك في مصابهم، أم تسبقهم الدول الغربية، متخذة من ذلك وسيلة لمزيد من التغريب والعلمنة، في بلد كان يقود العالم الإسلامي بأسره؟ ومما يلفت النظر – في زلزال تركيا – أن تستغل المساعدات الإنسانية لمآرب سياسية، فقد تحدثت صحيفة (معاريف) الصهيونية صراحة عن أن: تل أبيب، وعواصم الاتحاد الأوروبي قررت تقديم الدعم للنظام العلماني التركي في محنته، خوفاً من سقوطه أمام موجة الاستياء الشعبي، وخشية أن يستفيد الإسلاميون من هذه الحالة لتوسيع نفوذهم (1). من هنا ينبغي أن يفكر المسلمون بالفرح أو الحزن لما يجري ويحدث في تركيا، ولا ينبغي أن تغلب العواطف دون نظر عميق وخطوات متزنة وشاملة للتقييم.
__________
(1) مجلة المجتمع: 20-26/1420هـ.(1/199)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (الاحقاف:27).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلى على الظالمين، والصلاة والسلام على سائر أنبياء الله والمرسلين.
أيها المسلمون: أما الوقفة الرابعة فهي بين المصائب والذنوب، فمما لا شك فيه ارتباط العقوبات الإلهية بذنوب البشر وانحرافهم، وهذا لا يخص تركيا وما وقع فيها، بل يعم كل أرض ويشمل جميع البشر، وتلك سنة إلهية مضت وتكرر ليتعظ الناس ويصلحوا أحوالهم: { وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } (يونس: من الآية101).
يقول تعالى مؤكداً هذه السنة: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } (الشورى:30)، ويقول جل ذكره: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (هود:102)، وقال تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الاسراء:16)، إلى غير ذلك من نصوص تخوف المسلم من آثار المعصية وتحسسه بارتباط العقوبة بالذنب، وتنذره قبل يوم الحساب.(1/200)
الوقفة الخامسة: إذا كثر الخبث… والسؤال المطروح: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كثر الخبث" وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده"، ومن هنا تأتي قيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة للخير ومحاربة الفساد، وكشف أوكار المفسدين حتى لا تغرق السفينة ويتساقط الأبرار مع الفجار، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو، فيصبحون قد مسخوا خنازير، وليخسفن بقبائل فيها، وفي دور فهيا حتى يصبحوا فيقولوا: خسف الليلة ببني فلان، خسف الليلة ببني فلان، وأرسلت عليهم حصباء حجارة، كما أرسلت على قوم لوط، وأرسلت عليهم الريح العقيم، فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم بشربهم الخمر، وأكلهم الربا، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم، قال: وذكر خصلة أخرى فنسيتها (رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم".(1/201)
الوقفة السادسة: بينا يكون المرء فيها مخبراً، وإذا به خبر من الأخبار، وسبحان الله كم بين الحياة والممات؟ ما هي إلا عدد من الثواني، وإذا بصفحة الحياة كلها تطوى، وينتقل المرء من حال إلى حال، ومن دار إلى أخرى. تاركاً وراءه نوايا وإرادات وهموماً وأعمالاً عاجلة الأجل دون إتمامها. وهنا يردالسؤال: حين ينام المرء ماذا يبيت من النوايا وهو قد لا يصبح، وحين يستقل سيارته مسافراً ماذا ينوي وهو قد لا يعود من سفره، ولقد أدرك الناس أن زلزال تركيا وقع في الهزيع الأخير من الليل وما من شك أن عدداً ممن قبضت أرواحهم في الحدث كانوا ركعاً لله سجداً، وعدد أكبر كانوا يقضون الليل بسهرات صاخبة بأنواع من المعاصي والسلوكيات المنحرفة، وعدد يؤمنون بيوم المعاد، وعدد آخر يظنون الحياة الدنيا نهاية المطاف… وهكذا: هموم ونوايا… قد يهلك أصحابها جميعاً بحدث عام، ولكنهم يبعثون على نياتهم يوم القيامة.
الوقفة السابعة: والسعيد من وعظ بغيره، وكم ننشغل بأحداث الآخرين وننسى أنفسنا، واله يمهل ولا يهمل، وقد يبتلي قوماً بالضراء ويبتلي غيرهم بالسراء، وقد تكون النازلة في بلد من بلدان المسلمين نذيراً لهم ولمن وراءهم من المسلمين، والسعيد من وعظ بغيره، والمسكين من خدعه الأمل، وغره طول الأجل، وفي القرآن عموماً تذكير مستمر لنا بمن أصبحوا في ديارهم جاثمين، وبمن أصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وبالقرية الآمنة المطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فهل نتعظ بمن مضى ومن لحق…؟(1/202)
الوقفة الثامنة: ولا تعارض بين قدر الله ومعرفة العلماء بالحدث أو تحليل أسبابه، فقد تقع الزلازل في أرض يفسر أهل الاختصاص جيولوجياً سبب وقوعه، وقد يقع الكسوف أو الخسوف وفق حسابات يعلمها الفلكيون بالحساب… لكن أحداً من البشر لا يستطيع أن يقدم موعد الزلازل أو يؤخرها، أو يختار مكانها، أو يحدد خسائرها، فذلك لله وحده، وكذلك الكسوف والخسوف فعلم البشر ينتهي عند حسابه، لكنهم لا يملكون تقديمه أو تأخيره أو اختيار مكانه… وإذا علم هذا فلا ينبغي أن يكون دور وسائل الإعلام الإخبار عن هذه الحادثات الكونية وتجريدها من بأس الله وقوته، وانحراف البشر وعقوبتهم، ولا ينبغي التركيز كذلك على التحذير من عمى الأبصار، وإغفال الحديث عن عمى البصيرة – وهو أشد – وهكذا ينبغي أن يتميز الإعلام الإسلامي بطرق الأحداث جامعاً بين الحقائق العلمية، والسنن الإلهية، وينبغي أن يذكرهم بشدة بأس الله وغيرته حين تنتهك محارمه، وإنه لبالمرصاد، وإن أخذه أليم شديد.
الوقفة التاسعة: هزات أرضية تبعث الحياة، وتلك هي نوع آخر من هزات الأرض نبعث لها الحياة، بخلاف الهزات التي تؤدي إلى الوفاة، وهذه الهزة الباعثة على الحياة برهان للعبث والنشور، وآية على قدرة العزيز العليم، وعن هذا النوع من الهزة ودرسها قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (فصلت:39).(1/203)
الوقفة العاشرة: وفوق ذلك كله، فكثرة الخسوف في الأرض أمارة من أمارات الساعة، وفي الحديث الصحيح عن حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشر آيات: الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، ونزول عيسى ابن مريم، وفتح يأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا". رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
ومن مقاصد الحج وأسراره ومعانيه وعشر ذي الحجة (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله جعل إلى بيته الحرام ركناً من أركان الإسلام، لا يتم إسلام العبد إلا بأدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل التطواف في مشاعر الحج ومناسكه هدياً للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خالف قومه المشركين في عوائدهم في مناسك الحج، واتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/11/1420هـ.(1/204)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: من الآية13)، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (آل عمران: من الآية 102-103).
أيهاالمسلمون: للحج مقاصد جليلة، ومعان عظيمة، وآثار إيجابية كبيرة على الفرد في ذات نفسه، وعلى الأمة المسلمة بمجموعها، وحري بالمسلم أن يعلم شيئاً منها إن حج العام أو أعواماً تليها، حتى تؤتي العبادة غرضها، وتتحقق للحاج منافع الحج التي أخبر عنها المولى بقوله: { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } (الحج: من الآية28).
وإليك – أخير المسلم، أختي المسلمة – شيئاً من مقاصد الحج ومعانيه، ومنها:
مزيد الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن إبراهيم عليه السلام حيث بني البيت، وابنه إسماعيل عليه السلام، إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث عظم البيت، وأعاد له طهره وتوحيده، وحطم الأصنام المحيطة به، ولم يعد للمشركين سلطان عليه، وحين ينزل الحاج في تلك الرحاب الطاهرة يرتبط في ذهنه سر الأنبياء ويتجذر في قلبه الاقتداء بهم، والله يقول: { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام: من الآية90).(1/205)
وفي الحج تحقيق للعبودية لله وإذعان لشرعه، فلا ترى الحاج إلا متذللاً خاضعاً لله، منكسراً بين يديه، متجرداً من ملابسه، مسافراً عن أهله وبلده، تاركاً شهواته وملاذه لله رب العالمين، وتراه في الحج يتنقل من عبادة إلى أخرى، تلبية وذكر وصلاة، ودعاء، طواف… وسعي، رمي وحلق وهدي… وهكذا تتحقق العبودية للحاج بأوفى صورها وأتم معانيها، وحري بهذه العبودية لله أن تستمر في سلوكيات المسلم بعد الحج، وحري بهذه الطاعة لله والاستسلام لشرعه أن تدوم في مكة أو سواها من بلاد الله.
ويتذكر الحاج الفطن بأعمال الحج ومناسكه الموت و الآخرة، ألا تراه يلبس ما يشبه الأكفان حين يحرم، متجرداً عن زينة الدنيا، متخففاً من كل لباس عدا إزار ورداء يلف بهما جسده، ويستر بهما عورته، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، والملك والمملوك، والصغير والكبير… وإذا كان هذا التجرد من الدنيا وزينتها بوابة الآخرة، فالحاج كذلك يتذكر الآخرة وجمعها، حين يجتمع الناس على صعيد عرفات، وحين يبلغ الزحام مبلغه في الطواف والسعي، ورمي الجمار، وقد تكون واحدة من هذه المشاعر بداية نقله إلى الآخرة، فكم من حاج في القديم والحديث قضى نحبه في مشاعر الحج ولم يعد إلى أهله.
ومن مقاصد الحج ومعانيه: ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم خمس مرات في اليوم، ومع ارتباط الحج بالصلاة، إذ الكعبة قبلتهم في الصلاة والحج، فالارتباط بالكعبة هنا سر بديع يحقق للمسلمين أصالتهم ويذكرهم بتاريخهم العظيم، وينبغي أن يصرفهم عن التوجه إلى غرب كافر، أو شرق ملحد، وأن يشعرهم هذا التوحد في الاتجاه في أركان الإسلام بالتوحد في الكلمة، والهدف، والقيم الخالدة، وذلك كله مصدر قوة وعزة للمسلمين لو عقلوه وعملوا به.(1/206)
وفي الحج إرهاب لأهل الكفر والضلال بهذا الاجتماع العظيم للمسلمين، فإنه وإن كانوا مفترقين مختلفين، فإن اجتماعهم في الحج وتوحدهم في المشاعر مؤشر إلى إمكانية اجتماعهم وتوحدهم في غير الحج، و اجتماع المسلمين وتوحدهم – لا شك – مقلق للكفار مرهب للأعداء لا سيما وموسم الحج تبرز فيه المفاصلة التامة مع أهل الشرك والكفر يحظر حضورهم لهذه المناسبة بأي شكل من الأشكال منذ نزول قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (التوبة: من الآية28).
ومن أسرار الحج ومقاصده تربية النفوس على جمل من معاني الخير ومكارم الأخلاق، إذ تتدرب نفس الحاج على الصبر و التحمل، والصفح والعفو، والنفقة و البذل والإحسان، وتعليم الجاهل، والدعوة للخير، وهذه المعاني والمكتسبات الخلقية – ونحوها – يمارسها الحاج ويحتاج إلى التعامل بها مع رفقته الأقربين، ومع سائر الحجاج من إخوانه المسلمين، وحري بمن كسب هذه الأخلاق في الحج أن يحافظ عليها بعد الحج.(1/207)
ومن العاني والأسرار اللطيفة في الحج: تعويد النفس على انتظار الفرج بعد الشدة، وفي الحج درس عملي، يقول: إن الشدة لا تطول، وإن الفرج بعد الضيق، وإن مع العسر يسراً، ألا ترى الحجاج وهم يسعون بين الصفا والمروة يتذكرون ما مر بأم إسماعيل من ضيق وشدة وما أعقبه من فرج وفضل ورحمة. بل ألا ترى الحاج يبصر – أحياناً – شدة الزحام في المطاف أو المسعى أو رمي الجمرات، فيضيق صدره، وربما ظن أنه غير مستطيع أداء هذا النسك، ثم لا يلبث إلا قليلاً… وإذا بالضيق يخف شيئاً فشيئاً، والشدة تذهب رويداً رويداً، وبالجموع المخيفة تنفل، وبالرهبة تخف حتى يؤدي المرء ما كان متهيباً من أدائه من قبل، ولربما أضمر المرء حين الشدة أنه لن يحج بعد العام، فلما كان الفرج واليسر زال ذاك الهم، وتبدل العهد والوعد، وهكذا تنتهي الشدائد وتفرج الكربات، لا في مشاعر الحج وحدها، بل وفي كل مكان وزمان، وعلى المسلم ألا ييأس من روح الله… ولا يقنط من فضله ونصر أوليائه.
وفي الحج تذكير بقيمة الزمن وإمكانية استثماره في طاعة الله أمثل استثمار… فالحاج في برهة يسيرة من الزمن يحقق من الطاعات والقربات ما هو جدير بتحفيزه على استمرار استثمار الوقت بما ينفع، فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت أجل ما يصان عن الإضاعة والإهمال، ومن المؤسف أن تضيع أوقات المسلم سدى، ولربما أمضى فترة من عمره وشطراً من حياته في أمور لا تنفعه شخصياً، وتخسر بها الأمة طاقة من طاقاتها… وفي الحج ومناسكه وانتقال المرء فيه من عبادة إلى أخرى ما ينبغي أن يشخذ الهمم، ويقوي العزائم على استثمار الوقت بعد الحج فيما ينفع به نفسه، وتستفيد الأمة المسلمة من ورائه.(1/208)
أيها الحاج: أما مغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات في الجنان فذاك الذي أخبر عنه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم، ويقول - صلى الله عليه وسلم - : "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". رواه مسلم.
يا عبدالله: وإذا كان لك ماض تستحي من ذكره، وتخاف الله من حسابك، فاستغفر الله وتب إليه بالحج، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص - رضي الله عنه - حين جاء مسلماً مشترطاً أن يغفر له: "وإن الحج يهدم ما كان قبله" رواه مسلم.
أيها الحاج: وفي الحج تنبعث عبودية الشكر لله وتقوى، فالحاج يبصر الشيخ الضعيف، والفقير والمسكين، ومن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يبصر الأعرج والأعمى، والمريض والمبتلى والمعاقين والزمنى… وأصنافاً من خلق الله حل بهم ما هو منه سالم معافى، فيدعوه ذلك لشكر أنعم الله عليه، ويتذكر ما هو فيه من نعمة قد لا تتوفر عنده غيره، فيقيد هذه النعم بالشكر، ويلهج لسانة وقلبه بالذكر والشكر، بل وفوق ذلك كله يتذكر نعمة الإسلام التي هو فيها، والأمم والشعوب التي حرمتها فيزيد شكره وتمسكه بدينه، ويعود من رحلة الحج مستمسكاً بالدين الحق، داعياً غيره ممن لم يتذوق نعمة الإيمان واليقين.
حجاج بيت الله: ولا يليق بالمسلم أن يحافظ على الواجبات كالصلوات المفروضة في الحج فحسب، فإذا ما عاد تهاون بها، كما لا يليق بالمسلم أن يمتنع عن المحرمات، فإذا ما انتهى من رحلة الحج مارسها، بل وأطلق لنفسه العنان فيها…
أيها الحاج: ألا فاتخذوا من ذكر الله وتلاوة كتابه – في الحج – والحرص على السنن المشروعة بشكل عام فرصة لتعويد النفس عليها، والمداومة عليها بعد الحج…(1/209)
وإذا ما قدر لك – أي الحاج – أن تطلع على شيء من أحوال إخوانك المسلمين وحوائجهم – في الحج – فليكن ذلك داعياً لك للاهتمام بشأن المسلمين ومتابعة قضاياهم وسد حوائجهم بعد الحج…
وبهذه المشاعر والمعاني و الأحاسيس والمقاصد يعود للحج قيمته وأثره، ويعود الحاج ممتلئاً بأسرار الحج ومنافعه… وإنما شرعت الطاعات والقربات في الإسلام لتهذيب النفوس وتزكيتها، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتحريرها من رق الشهوات، والرقي بها إلى أعلى المقامات والكرامات، ودونك هذه المعاني وأكثر، في قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } (الحج: من الآية 27-30).
الخطبة الثانية
الحمد لله أفاء على عباده من مواسم الخيرات ما يرفع لهم به الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعمه لا تعد ولا تحصى، ومن تأمل في شريعة الإسلام وجد بها السماحة والندى والفضل العظيم لمن أناب واهتدى، أعمال ماحية للذنوب والمعاصي، ومواسم للطاعات يرتفع به العبد درجات… ذكر وشكر، صلاة وصيام، سنن ونوافل، صدقات وصلات، وأضاحي…(1/210)
وأشهد أن محمداً رسول الله، ندب الأمة إلى المسارعة في الخيرات، وخص ربه الفضل أياماً معدودات… والموفق من اغتنم المواسم وسابق الخيرات، اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: وفضله ورحمته تشمل الحجاج وغيرهم، بشراكم معاشر المسلمين بأيام أوشكت أن تعمكم بفضلها، وهنيئاً لمن قدر فضل الزمان فاستثمره بالطاعة، وتقرب إلى مولاه بالعبادة الخالصة…
عشر ذي الحجة أيام فضلها الله على ما سواها، وأقسم بها تعظيماً لشأنها، فقال جل ثناؤه: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } (الفجر: من الآية 1-2). قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: إنها عشر ذي الحجة. قال ابن كثير: وهو الصحيح، ونسبه الشوكاني إلى جمهور المفسرين (1).
وبين المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فضل عمل الصالحات فيها، فقال في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء".
قال ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره (2).
عباد الله: ومن الطاعات المشروعة في هذه العشر الإكثار من الذكر كالتهليل والتكبير والتحميد، وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد"(3).
__________
(1) تفسير ابن كثير: 8/413، فتح القدير: 5/432.
(2) الفتح: 2/460.
(3) رواه أحمد وإسناده صحيح 7/224، 9/14، الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة ص14.(1/211)
قال العلماء: والتكبير في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيد عقيب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان (1).
وقد أخرج البخاري في "صحيحه" معلقاً مجزوماً به أن ابن عمر وأبا هريرة - رضي الله عنه - كان يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما (2) فمن يذكر الناس في هذه الأيام بالتكبير فبه شبه بهذين الصحابيين الجليلين، ومن أحيا سنة نبوية أميتت فله من الأجر مثل من عمل بها من غير أ، ينقص من أجور العاملين شيئاً (3).
أيها المسلمون: والصيام قربة إلى الله في كل زمان، ولا شك أنه في الأزمنة الفاضلة أحب إلى الله وأكثر أجراً، فمن قدر على صيام شيء من هذه العشر فأجره على الله… ومن ضعفت همته فلا أقل من صيام يوم عرفة لغير الحاج، فقد جاء في فضله أنه: "يكفر السنة الماضية والسنة القابلة". رواه مسلم.
أيها المسلم والمسلمة: وإن تيسر لك الحج فهو من أعظم الأعمال في هذه العشر، وإن لم يتيسر فاحرص على الأعمال الصالحة بشكل عام كالذكر وتلاوة القرآن وكثرة السنن – بعد المحافظة على الفرائض – وصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والمحتاجين، والأمر بالمعروف والدعوة للخير وزيارة المرضى، والصلاة على الأموات، وزيارة المقابر، والدعاء للأحياء والأموات… إلى غير ذلك من قربات يجدر بك أن توليها منا لعناية في هذه العشر أكثر مما توليها في سائر الأيام.
أيها المؤمنون والمؤمنات: عشر ذي الحجة غرة في جبين الدهر، لا تتكرر في العام إلا مرة، فكيف ستكون هممكم للطاعة حين تستثار الهمم؟ وأين موقع خيلك أيها المسلم والمسلمة – للسباق حين تضمر جياد الآخرين؟ وما مدى شعورك بقيمة الزمن، وتقديرك لمواسم الطاعة؟ هل تشعر بالفرح وأنت تنتظرها، وهل تكون من العاملين المخلص حين مجيئها؟
__________
(1) المغني 3/256.
(2) الفتح: 2/457.
(3) أخرجه الترمذي بسند حسن.(1/212)
وليس يخفى أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، فإن عجزت أو لم يقدر لك الجهاد، ففي عمل الصالحات – وفي هذه العشر – فرصة للتعويض، ووسيلة لبلوغ أجر المجاهدين، وقد مر بك أن عمل الصالحات فيها أحب إلى الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء من ذلك – وإن كان الجهاد من حيث الجملة أفضل مما سواه – لكن عمل الصالحات في هذه العشر له مزية وفضل (1).
أيها المسلم والمسلمة: وحاذر من المعاصي من كل زمان ومكان، وعظم حرمات الله بشكل عام، والأزمنة الفاضلة بشكل خاص، وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن عقوبة المعاصي في الأزمنة الفاضلة فقال: "والمعاصي في الأيام الفاضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان"(2).
عباد الله: ومما يجدر التنبيه عليه أن من أراد الأضحية فعليه أن يسمك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته وظفره وبشرته منذ دخول العشر حتى يذبح أضحيته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي"، وفي رواية: "فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً" رواه مسلم.
__________
(1) الفتاوى: 24/198/23 بتصرف.
(2) الفتاوى: 34/180.(1/213)
والأمر هنا – كما قال العلماء – للوجوب، والنهي – عن الأخذ – للتحريم، لكن لو تعمد الأخذ فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا فدية عليه إجماعاً، ومن احتاج إلى أخذ شيء من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفر أو جرح عليه شعر يتعين أخذه – أو نحو ذلك – فلا بأس، ولا حرج على الرجل والمرأة أن يغسل رأسه في هذه العشر، فالنهي عن تعمد الأخذ، وينبغي أن يعلم أيضاً أن النهي يخص صاحب الأضحية دون الزوجة والأولاد، إلا إن كان لأحد منهم أضحية تخصه، كما أن النهي لا يشمل الموكل بذبح أضحيته عن حي أو ميت، وإنما يخص صاحب الأضحية فقط. أما من عزم على الحج وله أضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام، لأن هذه سنة عند الحاجة، فيرجح جانب الترك على جانب الأخذ، أما تقصير المتمتع لشعره حين الانتهاء من العمرة فلا بأس به، لأن ذلك نسك، وكذا حلق الرأس يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة (1).
مكفرات الذنوب (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله واهب النعم ومجزل الفضل دافع النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صفوة البشر، وخير من حج واعتمر، اللهم صل وسلم عليه و على سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
__________
(1) عبدالله الفوزان: المجالس: 15-17.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/12/1420هـ.(1/214)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
عباد الله: وعاد حجاج بيت الله سالمين غانمين – إن شاء الله – معافين في أجسادهم، آمنين في أداء مناسكهم، ونسأل الله أن يديم لهذا البيت أمنه، وأن يزيده تشريفاً وتعظيماً، وأن يجزل المثوبة لكل من ساهم في أمنه وتعظيمه، وتيسير السبل، والراحة للحجاج والمعتمرين.
حجاج بيت الله: هنيئاً لمن تقبل الله عمله فعاد من حجه كيوم ولدته أمه، : "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وهل للمسلم غاية أعظم من الجنة، وفي الحج فرصة لإظهار عالميتنا الأصلية، فشعارنا في الحج واحد ومناسكنا واحدة، والعربي والأعجمي والغني والضعيف كلنا في صعيد واحد، يتوحد لباسنا وتتوحد مشاعرنا، وفرق بين هذه العالمية الأصلية والعولمة المصطنعة.
أما من خرج حاجاً أو معتمراً، فأدركته المنية قبل إتمام نسكه، فأجره على الله: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } (النساء: من الآية100)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خرج حاجاً فمات، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة"(1).
وفضل ربي واسع، ومن لم يكتب له الحج هذا العام ووفق لصيام يوم عرفة، كفر الله عنه به السنة الماضية والباقية. (رواه مسلم بمعناه)، وعن أبي يعلى: "من صام يوم عرفة غفر له ذنب سنتين متتابعتين". ورجاله رجال الصحيح (2).
__________
(1) رواه أبو يعلى وصححه بعضهم، كفارات الخطايا/ حامد العقبي: 155.
(2) كفارات الخطايا: 92.(1/215)
بل إن فضل الله واسع، يمتد ليشمل أصحاب الطاعات الخالصة لله، فقد روى أبو داود بسند حسن عن أبي أمامة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين"(1).
إخوة الإسلام: ومن فضل الله على هذه الأمة أن ختام العام في شهر ذي الحجة وفيه مغفرة الذنوب لمن حج البيت، أو صام يوم عرفة – لغير الحاج – وابتداء العام التالي بشهر الله المحرم، وفيه يوم عاشوراء، وصيام عاشوراء يكفر السنة الماضية – كما روى مسلم في "صحيحه"، وبين شهر الله المحرم، وشهر ذي الحجة يأتي شهر رمضان، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
أيها المسلمون: ولا ينقطع فضل ربنا، ولا تنتهي مكفرات الخطايا والذنوب عند أعمال الحج والصيام.
بل توجد مكفرات للذنوب نمارسها في اليوم والليلة، كالصلوات، فالصلوات الخمس، مكفرات لما بينها إذا ما اجتنبت الكبائر، ومساكين من يضيعون هذه الصلوات أو يتهاونون في أدائها، ومكفرات نمارسها متى شئنا في ليل أو نهار، ولا تكلفنا إلا تحريك اللسان واستحضار القلب، كالذكر والاستغفار، وفي الحديث المتفق على صحته قال - صلى الله عليه وسلم - : "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة حطة خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"(2).
__________
(1) صحيح الجامع: 5/288، صحيح سنن أبي داود: 597.
(2) أحمد، البخاري ومسلم وغيرهم صحيح الجامع ح: 6037.(1/216)
دونكم – معاشر المسلمين – ذكراً قد يبدأ به أعداد من المسلمين، فيعاجلهم الشيطان فيقطعونه قبل إتمامه، وإذا عوجل المسلم عن إتمام الذكر… وهو بعد في المسجد؛ فكيف ترى الشيطان يصنع به خارج المسجد، وعن هذا الذكر يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر"(1) إن في ذلك لمزية للمصلين وفضلاً للذاكرين.
أيها المسلمون: ومن مكفرات الذنوب ما نكره وقوعه علينا ظاهراً وإن كان فضلاً من الله ورحمة بنا باطناً، كالأمراض نحاذرها جميعاً، ونتقي أسبابها، فإذا حلت بأحدنا وصبر واحتسب كانت كفارة لسيئاته ورفعة لدرجاته، وكذا المصائب في الأموال والأولاد… وعن هذه وتلك يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى"(2).
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله: إن العبد ليمرض وما له عند الله من عمل خير، فيذكره الله سبحانه بعض ما سلف من خطاياه، فيخرج من عينه مثل رأس الذباب من الدمع من حشية الله، فيبعثه الله إن يبعثه مطهراً، أو يقبضه إن قبضه مطهراً"(3).
__________
(1) رواه أحمد ومسلم في "صحيحه" صحيح الجامع ح: 6162.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود واللفظ له، ووثق ابن حجر رواته إلا واحداً، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: 2/597، وانظر: تحفة المريض: 19. عبدالله الجعيثن.
(3) عدة الصابرين: 102، تحفة المريض، الجعيثن: 23.(1/217)
عباد الله: والهموم والأحزان التي تصيب المسلم هي الأخرى مكفرات للخطايا، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المؤمن من نصب – وهو التعب الشديد – ولا وصب – وهو المرض – ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".
وعن عائشة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له منالعمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه". أخرجه أحمد بسند حسن (1).
يا أخا الإسلام: وثمة أعمال يسيرة ولكنها عند الله عظيمة لمن احتسب أجرها، وهي داخلة في مكفرات الخطايا، فالصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء في فضلها قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من صلى علي واحد صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات"، أخرجه أحمد وغيره بإسناد صحيح (2).
وسلام المسلم على أخيه المسلم من أسباب مغفرة الذنوب، وفي الحديث: "ما من مسلمين يلتقيان فيصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا" أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما بسند حسن (3).
وإدخال السرور على المسلم موجب للمغفرة، قال - صلى الله عليه وسلم - : "إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك المسلم"(4). وهذه – أعني إدخال السرور على المسلم – فوق ما فيها من مغفرة الذنوب، هي نموذج لعظمة الإسلام في بناء العلاقات الحسنة بين المسلمين.
__________
(1) مكفرات الخطايا: 60.
(2) صحيح الجامع الصغير: 5/316ح: 6235.
(3) مكفرات الخطايا: 106.
(4) رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن، السابق: 112.(1/218)
يا أخا الإسلام: وهل أعظم من رب وأسمى من دين تأكل الأكلة فتحمده عليها، فيغفر الله ذنبك، أو تلبس الثوب فتحمده عليه فيغفر ذنبك، وفي هذا يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : "من أكل طعاماً فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوباً فقال الحمد له الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
رواه أحمد والحاكم بسند حسن صحيح (1).
يا عبدالله: ألا ما أعظم فضل الله وأكثر طرق الخير والمغفرة، فسارع إلى الخيرات جهدك، وإياك أن تغتر بعملك، أو تمن على الله بما هداك له، بل الصالحون يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، وأولئك قال الله عنهم: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } (المؤمنون: من الآية 60-61).
جعلنا الله منهم… أقول ما تسمعون وأستغفر الله…
الخطبة الثانية
الحمد لله خلق الخلق لعبادته، ووعد الطائعين جنته، وجعل مصير الكافرين النار، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله… صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله…
إخوة الإسلام: ويتصل بمكفرات الذنوب والخطايا، عيادة المريض، والوضوء، والصلاة…
يقول - صلى الله عليه وسلم - : "ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي" رواه أو داود والحاكم بسند صحيح (2).
__________
(1) صحيح الجامع: 5/256.
(2) صحيح الجامع الصغير: 5/166.(1/219)
وتأمل – يا أخا الإيمان – ما في الوضوء من تكفير للخطايا، فقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويمج ويستنشق فينتثر إلا جرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا جرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه كما أمره الله إلا جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا جرت خطايا رجليه من أطراف أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بالذي هو أهله، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه"(1).
عباد الله: ويومكم هذا يوم عظيم يكفر الله به الخطايا لمن تطهر وأتى المسجد، وأنصت للخطبة، يقول - صلى الله عليه وسلم - : "ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر، ثم يخرج من بيته حتى يأتي الجمعة وينصت حتى تقضى صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة (2)".
يا عبدالله: ويرشدك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى طريق من طرق مغفرة الذنب فيقول: "ما من عبد يذنب ذنباً، فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر الله له" رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح (3).
أيها المسلمون: وطرق الخير لا تنتهي، وكفارات الذنوب أكثر من أن تحصر، وصلاة الضحى واحدة من المكفرات، وفي الحديث: "من قعد في مصلاه حين ينصرف عن صلاة الصبح حتى يصلي ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر". رواه أحمد وأبو داود، وأبو يعلى بسند صحيح (4).
__________
(1) م2/208-210.
(2) رواه النسائي، وصححه الألباني، صحيح الجامع: 5/164.
(3) صحيح الجامع: 5/173.
(4) كفارات الخطايا: 78.(1/220)
وصلاة الليل كذلك مكفرة للسيئات، وفي الحديث: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد". رواه الترمذي وابن أبي الدنيا وابن خزيمة والحاكم وصححه (1).
والطواف بالبيت في عداد المكفرات، وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم بسند صحيح عن ابن عمر - رضي الله عنه - ، قال - صلى الله عليه وسلم - : "من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه، كان كعتق رقبة، لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى، إلا حط الله عنه بها خطيئة كتب له بها حسنة (2)".
إخوة الإسلام: تلك إشارات إلى بعض المكفرات للخطايا يمكن إجمالهن في أكثر من خمسة عشر مكفراً: الحج، والصلاة المفروضة، والنافلة، والصوم، والوضوء، والسلام، وحمد الله عند أكل الطعام أو لبس الثوب، والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والذكر، والأمراض والمصائب، والهم والحزن، وعيادة المريض، والتطهر والإنصات للجمعة وصلاة الليل، والطواف بالبيت وإدخال السرور على المسلم، وإن كان هناك أمور غيرها استوقفت العلماء السابقين واللاحقين فألفوا في مكفرات الخطايا والذنوب، من أمثال المروزي، والمنذري، والأوزاعي وابن حجر العسقلاني، ومن المتأخرين، حامد أحمد، محمد حسين العقبى، لكنني أقف في نهايتها مذكراً بأمرين: أحدهما: أن يحرص المسلم على تجنب أسباب عدم المغفرة كالإشراك بالله، والشحناء بين المسلمين، والسحر، فالله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء } (النساء: من الآية48).
__________
(1) السابق: 79.
(2) صحيح الجامع الصغير: 5/320ح: 6256.(1/221)
ويقول - صلى الله عليه وسلم - عن الشحناء ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا – أي يرجعا عن شحنائهما – فيغفر لهما".
وهؤلاء الثلاثة المعوقات عن المغفرة يشملهن حديث: "ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن فإن الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء، من مات لا يشرك بالله شيئاً، ولم يكن ساحراً يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه"(1)، يضاف إليهن الكبائر بشكل عام، فتركهن كفارات للسيئات، كما قال تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (النساء: من الآية31).
أما الأمر الثاني فهو الحذر من شؤم المعصية، وعدم الاستهانة بالسيئة مهما صغرت، يقول - صلى الله عليه وسلم - "إياكم ومحقرات الذنوب – كقوم نزلوا في بطن واد فجاء (ذا) بعود، وجاء (ذا) بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه"(2).
ومن هذا المعنى حذر الشاعر من الذنوب صغيرها وكبيرها فقال:
خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى (3)
وإذا ابتليت بالذنب فبادر بالتوبة و الاستغفار، وما تعظمت الذنوب إلا بسبب الغفلة وعدم التوبة والندم. قال كعب: إن العبد ليذنب الذنب الصغير ولا يندم عليه ولا يستغفر منه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطور، ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه ويستغفر منه فيصغر عند الله عز وجل حتى يغفر له (4).
__________
(1) أخرجه الطبراني بسند حسن – مكفرات الخطايا: 116ح/370.
(2) أخرجه أحمد وحسنه ابن حجر – الفتح: 11/329.
(3) شؤم المعصية، الدويش: 17.
(4) رواه البيهقي في شعب الإيمان: 7151.(1/222)
قال الفضيل رحمه الله: بقدر ما يصغر الذنب عندك كذا يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك كذا يصغر عند الله (1).
يا عبدالله: وإياك والمجاهرة بالمعصية – إذا سترك الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون". متفق عليه.
يا أخا الإيمان: سائل نفسك أولاً عن ممارسة هذه المكفرات، ثم سائل نفسك ثانياً عن بعدك عن مقومات المغفرة، ثم استيقن أن فضل الله عليك عظيم، وأن فرص الخير لا تقف في زمان أو عند نوع من الأعمال، والموفق من وفقه الله، الله ملا تحرمنا فضلك. ولا تصدنا عن سبيلك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل أعمالنا صائبة ولوجهك خالصة يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا.
عناصر القوة للمسلم (2)
الخطبة الأولى
الحمد لله جل في علاه، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } (التوبة:119).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (الحشر:18).
__________
(1) السابق 7152 عن شؤم المعصية: 17.
(2) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/8/1419هـ.(1/223)
أيها المسلمون: هناك حقيقة يؤكدها القرآن الكريم في أكثر من موضع، ويشهد بها واقع الناس في كل زمان ومكان، ألا وهي: كثرة الخبيث في الأرض، وزيادة أعداد المفسدين، وندرة الإيمان، وقلة المؤمنين.
يقول تعالى: { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } (المائدة: من الآية100) ويقول جل ذكره: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } (يوسف:103)، ويقول: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } (الأنعام: من الآية116)، وقال تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (سبأ:20)، وقال تعالى: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } (سبأ: من الآية13).
قال عليه الصلاة والسلام حين سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث". وفي الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمس" متفق عليه.
وعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنساً فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ، رواه البخاري.
هذه الكثرة للفساد والمبطلين، والقلة لأهل الصلاح والتقوى واليقين لحكمة يعلمها الله { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (يونس:99).(1/224)
والغفلة عن حكمة الله وتقديره في هذا الكون، قد تضعف معها بعض النفوس أحياناً، وقد ينظر المرء أحياناً إلى الفساد يسري في الأرض سريان النار في الهشيم، وإلى المفسدين تتاح لهم من الفرص ما لا تتاح للخيرين… هنا ربما وهن عزم المسلم أو ساورته بعض الشكوك في طريقه إلى الله، ولربما أساء الظن بربه، أو قلل الأدب مع خالقه، فقال بلسان حاله أو مقاله: ولماذا يمكن المفسدون؟ وكيف تكون الغلبة للكافرين، والذلة والتشرذم من نصيب المسلمين؟ والله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولو فتش في نفسه وفي حال إخوانه لوجد من الضعف وعدم الجدية في حمل هذا الدين، ما سبب هذا الواقع المهين، ولا يظلم ربك أحداً، ولا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والمهم أن نتعرف على الأسباب التي تجعل من الضعيف قوياً، ومن القلة ذات أثر فاعل، وإن شئت فقل: ما هي عناصر القوة للمسلم؟ إن أول عناصر القوة: الإيمان الحق بالله، وذلك الإيمان يربي النفوس على عدم الخوف من أحد مهما كان، إلا الله والحد القهار:
{ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (آل عمران: من الآية175).(1/225)
لقد تحدى السحرة بهذا الإيمان فرعون: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } (طه: من الآية 72-73)، وبالإيمان صرح الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ويحث على اتباع المرسلين: { إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } (يّس: من الآية 25-27)، وكذلك استعلى بالإيمان أصحاب الأخدود { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (البروج:8)، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
العنصر الثاني: صدق التوكل على الله، فمنه يستجلب النصر، وبه يدفع الضر، ومع التوكل عليه وحده يبطل كل كيد ويعيش المتوكل قرير العين، متحدياً كل أحد.
وهاك نموذجين لآثار التوكل على الله، قص الله علينا خبرهما عن نوح وهود عليهما السلام، فقال عن الأول: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } (يونس:71)، فهو لا يبالي بهم ولا بقوتهم وكيدهم، ولا يخاف معرتهم، وإن كانوا أشداء أقوياء، ما دام متوكلاً على الله، آوياً إلى ركنه.(1/226)
وفي النموذج الثاني قال تعالى عن هود عليه السلام: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (هود: من الآية 54-56)، إنه بالتوكل على الله يتحداهم أجمعين ودون تأخير، ويقول: فكيف أخاف من ناصيته بيد غيره، وهو في قهره وقبضته؟
عباد الله: إن الإيمان الحق يستلزم التوكل على الله: { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (يونس:84).
جاء في الأثر: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله"(1).
أما العنصر الثالث من عناصر قوة المؤمن فهو تفويض الأمر لله بعد عمل الأسباب الممكنة شرعاً، ولا بد لمن فوض أمره إلى الله أن يهديه ويقيه، ودونكم تفويض مؤمن آل فرعون ونتائجه وهو القائل: { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) (غافر: من الآية 44-45).
__________
(1) ساقه ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } (الزمر: من الآية38).(1/227)
أيها المسلمون: ويكتسب المؤمن قوة وحماية وأمناً من خلال دفاع الله عنه { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } (الحج:38).
وهذا هو العنصر الرابع من عناصر القوة… ومن يستطيع إلحاق الضرر والأذى بمن يتولى الله الدفاع عنه، كلما أجلب الناس عليه…؟!
وكفاية الله لعبده المؤمن عنصر خامس من عناصر قوته، وإن خوف بمن دونه: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } (الزمر:36).
ولا تستطيع قوة من البشر – مهما بلغت – أن تلحق بعبد ضرراً لم يكتبه الله عليه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
بل يجعل الله تعالى من نفسه محارباً لمن عادى وليه المؤمن: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، وهل يقوى على حرب الله أحد؟
ومما يقوي المؤمن ضعف سلطان الشيطان عليه: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } (النحل: من الآية 99-100). { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } (الاسراء:65).
ومحبة الخلق للمؤمن رصيد يسليه ويقويه ويؤنسه: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } (مريم:96).
وصبره على الضراء، وشكره على السراء، فوق ما فيه من تقويته فهو يفوت الفرصة على كل من أراد بالمؤمن سواءً أو فتنة، وهذا الصنف لا تتعلق نفسه بعطاء الدنيا، ولا تضجر للبلاء: "عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
وما أجمل قول القائل:(1/228)
صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ينله أذى ... ومن رجا الله كان حيث رجا (1)
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } (الشرح: من الآية 5-6)، ولن يغلب عسر يسرين، كما قال العلماء.
اللهم اجعلنا من الصابرين، ومن أهل الإيمان واليقين، أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: ومن عناصر قوة المؤمن وأسلحته التي يحتمي بها الدعاء، قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (البقرة:186).
والله تعالى هو المدعو عند الشدائد، والمرجو عند النوازل: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه } (الاسراء: من الآية67)، { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (النمل:62).
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" عنده آية النمل هذه هي وهب بن منبه قال: قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه.
__________
(1) تهذيب السير: 2/925.(1/229)
كما نقل عن الحافظ ابن عساكر الحكاية التالية عن رجل قال: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلدالزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب، فقلت: لاخبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب، فسلكناها، فانتهينا إلى مكان وعر، وواد عميق، وفيه قتلى كثيرة، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر، وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني، ففررت من بين يديه فتبعني، فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل، فقمت أصلي، فارتج علي القرآن، فلم يحضري منح حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه: افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } (النمل: من الآية62) فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده، فخر صريعاً، فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً (1).(1/230)
أيها المسلمون: وكذلك الله يكفي ويشفي ويجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدائد والمحن، وقد يغتر الجاهل بقوته، أو يتمادى في جوره وطغيانه حيث أمهله الله، فإذا به يأخذه على حين غرة، ومن حيث لا يحتسب، ومن نماذج السوء فرعون، فحين بلغ به الطغيان قال: أنا ربكم الأعلى، ونادى في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، وسخر بموسى ومن معه من المؤمنين فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وجعله عبرة للمعتبرين، { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ } (الزخرف: من الآية 55-56).
وكذلك قارون الذي ناءت بحمل مفاتيح كنوزه أولو العصبة من أصحاب القوة… وقال متطاولاً مستكبراً: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص: من الآية78) فكانت النتيجة: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } (القصص:81).
إن الضعيف يقوى إذا احتمى بالله وركن إليه، وأن القوي يضعف وتهن قواه إذا تجبر وطغى.
وينبغي أن يقدر المسلمون أن صلتهم بالله مصدر قوتهم وعزتهم، وأن بداية سقوطهم ضعف صلتهم بالله وتنكرهم لشرعه، واعتمادهم وتوكلهم على غيره.
يا أخا الإسلام: وإياك إياك أن تستوحش من سلوك طريق الخير لقلة السالكين، أو تغتر بسلوك طريق الشر لكثرة الهالكين، فأنت سترد على الله فرداً، وإذا كان لا يغني في موقف العرض الأكبر الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد… فكيف يغني اعتذارك بتقليد من سواهم!!(1/231)
إن مما يسلي المؤمن ويسري عنه أن غربة اليوم والثبات على الحق عاقبتها جنات المأوى، كذا أخبر المصطفى: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" أتدري من هؤلاء الغرباء؟ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي رواية: "يصلحون ما أفسد الناس" فأصلح نفسك إذا فسد الزمان وساهم في إصلاح غيرك، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
اللهم أصلحنا، وأصلح بنا، اللهم احفظنا واحفظ لنا، اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك، والعمل بسنة نبيك… واجعلنا ممن يرد حوضه، وينال شفاعته، ولا تجعلنا ممن يذاد عنه وعنهم، يقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
المعركة المتجددة (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله خلق الخلق لحكمة جليلة، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علماً، وجعل لكل شيء قدراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ وأرشد، وحذر وأنذر، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (المائدة:35).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/21/1421هـ.(1/232)
عباد الله: من طبائع الأمور أن يستعد المرء لعدوه المحارب له بكل وسيلة ممكنة، ويحذره على نفسه ومن تحت يده، ويود لو استطاع دفعه عن إخوانه المسلمين، حتى ولو كلفه ذلك من جهده وماله ووقته، ويسعد إذا انتهت المعركة لصالحه وضد عدوه، لكن ما رأيكم في معركة بل معارك يدور رحاها في كل يوم، بل وفي كل لحظة، والعدو فيها يتسلل إلى قلب الديار فيفسدها، بل إلى أعماق البيوت فيحدث الخلل فيها، بل يصير إلى قلوب العباد، فيعكر صفوها ويضعف إيمانها. وربما قطع صلتها بخالقها.
والعدو هنا يتسلل على مرأى منا، ويفسد حين يفسد بمحض رغبتنا وغلبة شهواتنا وأهوائنا، وتلك من أعظم المصائب وأقسى المعارك.
نعم إن معركتنا مع الشيطان معركة دائمة متجددة يتخذ فيها الشيطان كل أنواع السلاح، ويحيط بالمرء من كافة الجهات، ويراوغه ويمنيه بكافة أنواع المغريات: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } (لأعراف: من الآية 16-17)، { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً } (النساء:120).
أيها المسلمون: ويملك الشيطان في معركته مع بين الإنسان عدداً من الجنود يستخدمهم في المعركة، وتختلط خيالتهم بالرجالة، وهو حريص على مشاركتهم في الأموال والأولاد لإفسادهم.
والشيطان يستنزل ويستفز بصوته الداعي إلى المعصية كل من استطاع وخدع، يقول تعالى: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً } (الاسراء:64).(1/233)
إنها معركة صاخبة تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يرسل فيها الصوت، فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرحهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجهم إلى العراء أخذتهم الخيل وأحاطت بهم الرجال، لكن هذه المعركة – مع شدتها – تهون على أهل الإيمان وعباد الله الصالحين، الذين يعرفون كيده، ولا يستجيبون لندائه وأصواته، ولا ينخدعون بوعوده، أولئك الذين استثنى الله بقوله: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } (الاسراء:65).
إخوة الإيمان: وتجدون راية الشيطان منصوبة في كل مكان.
يا صاحب المال: ستجد راية الشيطان منصوبة، وإن لم تبصرها، في كل مال جمعته من حرام، أو أنفقته في الحرام، أو منعت الإنفاق الواجب منه في الحلال؟ فانظر في مالك من أين جمعته وفيما تنفقه؟
أيها الشاب والشابة: وتنصب راية الشيطان وإن لم تروها حين يستنزلكم الشيطان بقضاء الشهوة المحرمة في الزنا أو اللواط. أو مقدماتهما – فاحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيتها المرأة المسلمة: وتنصب راية الشيطان حين يستشرفك الشيطان بالخروج متزينة متعطرة فتفتنين عباد الله، ويقع بسببك من البلاء والفساد ما يغضب الرحمن، ويطرب له الشيطان، فاتقي الله يا أمة الله، ولا جعلي للشيطان سبيلاً عليك وعلى المؤمنين.
وإذا كانت وسوسته تلازم المسلم وهو في أشرف البقاع حين يقوم للصلاة… فلا تسأل عن وسوسته وغروره وأمانيه خارج المسجد وخارج الصلاة.(1/234)
يا أيها المسلم والمسلمة: وكلما حصل منك فتور عن العبادة أو تراخ عن أداء الواجبات وتساهل في اقتحام المحرمات، فاعلم أن الشيطان حاضر فاستعذ بالله منه تجد من الله عوناً "وكفى بربك وكيلاً"، وكلما ضعفت نفسك أمام الشهوة المحرمة، كالزنا واللواط، والغناء، وشرب المسكرات وتناول المخدرات أو نحوها من المآثم… فاعلم أنك مغلوب في المعركة مع الشيطان. وكلما غلبتك عينك على النظرة المحرمة، أو خانتك أذنك على السماع المحرم، أو مشيت بك رجلك إلى الحرام، أو امتدت يدك إليها فاعلم أنك ضعفت في المقاومة أمام جند الشيطان… وسينقلونك إلى معركة أخرى، وستقع في النهاية ضحية لمكر الشيطان وتلاعبه.
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم… أترضى بغرور الشيطان، وتستسلم لعدوك، وقد أخرج أبويك من الجنة، وأهبطهما إلى الأرض حين استزلهما وأخرجهما مما كانا فيه؟ ولا يغرنك بنصحه فقد قاسم أبويك وهو كذوب: { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } (لأعراف:21) فكانت النتيجة { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } (لأعراف: من الآية22) وما أشد حسرتك حين يوقعك ثم يعود لك لائماً متبرئاً: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } (الحشر:16).
وفي تاريخ البشرية كلها قديما وحاضرها، لم يرفع سلاح بغير حق إلا وكان للشيطان فيه نصيب الإغواء، ولم يقع خلاف بين ابن وأبويه، أو زوج وزوجته أو أخر لأخيه… إلا وكان الشيطان حاضراً مغوياً، ولم يكن ثمة انحراف في الفكر والمعتقد، أو خلل في السلوك وتساقط في الأخلاق، وانهيار في القيم إلا وكان للشيطان فيها خطوات مستدرجة ثم موقعة، ثم تعقبها الحسرة والندامة.(1/235)
أفلا يفكر العقلاء بالنتائج المرة لطاعة الشيطان، إن في الدنيا بالخزي والذل والندامة وشؤم المعصية، أو في الآخرة حيث الإقامة الدائمة والعذاب المهين، والحسرة والندامة، لقد قرع الأسماع تحذير اللطيف الخبير من مكر الشيطان وغدره، ونودي بنو آدم من السماء نداءً صادقاً: { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ } (الأعراف: من الآية27) إلى قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } (لأعراف: من الآية27).
ولا يزالون يذكرون العهد بعداوة الشيطان وأثره في إغواء البشرية { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يّس: من الآية 60-62).
عباد الله: لا بد من الحذر من مكر الشيطان، ولا بد من الاستعداد لهذه المعركة التي لا يخبو أوارها، ولا يسلم أو ييأس محركها… إن الشيطان يحضر غداءكم وعشاءكم، ويقتحم عليكم بيوتكم وفرشكم، وهو معكم في حين خلوتكم أو اجتماعكم، وفي حال فقركم أو غناكم، مع الذكر والأنثى والصغير والكبير… معكم ما دامت أرواحكم في أجسادكم، وما برحت الدماء تسري في عروقكم، وكفى بحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - دقة وتبياناً لحضور الشيطان، حين يقول: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" متفق عليه (1).
__________
(1) انظر صحيح الجامع: 2/75.(1/236)
إنها البلية العظمى والفتنة المستشرية، والمعركة المتجددة، ولكن الله جعل لنا مخرجاً، ويكفي أن يستأنس المؤمنون بقوله تعالى: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } (النساء: من الآية76)، وبقوله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } (الحجر: من الآية42)، ويعترف الشيطان بعجزه عن إغواء المخلصين: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } (ص: من الآية 82-83).
فالله الله أن يتلاعب الشيطان بأحدكم كما يتلاعب الغلمان بالكرة، وإياكم أن تخسروا كل أو معظم المعارك مع الشيطان حتى إذا وردتم على الله محملين بالخطايا والآثام أخلفكم وعده، وصدقكم وهو الكذوب قال الله على لسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (ابراهيم:22).
هناك ما أعظم الحسرة والندامة، ولكن هيهات فقد فات الأوان…
اللهم انفعنا بالقرآن، واكفنا شر إغواء الشيطان، ولا تجعل له علينا سبيلاً، وأعذنا من مكره وشره، أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية
الحمد لله خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقضي بالحق ويحكم بالعدل، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمداً عبده كان له قرين من الجن فأسلم… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.(1/237)
أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: ما هي السبل والوسائل التي يبطل بها كيد الشيطان، وما نوع الأسلحة التي يهزم بها الشيطان وجنده؟
وهنا أعرض مذكراً بعشر وسائل – أو تزيد – للوقاية من كيد الشيطان ومكره، فمنها:
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والتوكل على الله، يقول خالقنا وخالق الشيطان: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (فصلت:36)، { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } (المؤمنون:97)، { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } (الناس: من الآية 1-6).
ويقول جل ذكره: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق: من الآية3).
حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يطول عليك، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال: يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك (1).
ومن الأسلحة الواقية من كيد الشيطان وجنده قراءة القرآن وتدبره { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً } (الاسراء:45)، { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } (الاسراء: من الآية46)، قيل: لييس شيء أطرد للشيطان من القلب من قول: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن… وذلك طارد للمشركين وقيل: للشياطين (2).
__________
(1) القرطبي، التفسير 7/348.
(2) تفسير القرطبي: 10/271.(1/238)
وإذا كانت تلاوة القرآن – عموماً – مبعدة للشياطين، فثمة سور، أو آيات معينة جاء النص عليها أنها تحفظ من الشيطان، فـ(المعوذات) ما استعاذ متعوذ بمثلهما، وحري بالمؤمن أن يقرأهما في الصباح والمساء.
وآية الكرسي حين يقرأها المسلم في فراشه، فلن يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
والآيتان الأخيرتان من سورة البقرة، لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان (1).
والذكر يا عباد الله حصن منيع من الشيطان، وما يزال المرء يذكر الله حتى يطمئن قلبه، وتندفع عنه وساوس الشيطان، وصدق الله: { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } (الرعد: من الآية28).
والاستغفار والتوبة من أمضى الأسلحة لمكافحة الشيطان وقد قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، وقال الرب ووعده حق: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
وقال الشيطان: أحرقت بني آدم بالمعاصي فأحرقوني بالاستغفار.
والتوبة سبيل لإغاظة الشيطان ومراغمته، وما يزال العبد يراغم الشيطان بالتوبة والإنابة حتى يحصل على محبة الله ورضوانه، بل وتستبدل سيئاته حسنات… وذلك أكبر مغيظ للشيطان، وبالجملة فشأن المسلم اللبيب – كلما أحدث ذنباً أحدث لله توبةً وعملاً صالحاً، ففي ذلك مراغمة للشيطان ورد لكيده، وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: "إن المؤمن لينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره"(2).
وحسن الخلق – بشكل عام – جالب للمودة، دافع لنزغات الشيطان… وسوء الخلق داع للرذيلة… وطريق لدخول الشيطان… أرأيت كيف يصنع الأحمق الغضبان من المآثم… وما كان الرفق في شيء إلا زانه.
__________
(1) صحيح الجامع الصغير: 2/123 وهكذا.
(2) مفتاح دار السعادة: 1/295.(1/239)
وإذا كان القول الحسن من جملة الأخلاق الفاضلة، فتأمل أثر نقيضه من فحش القول في نزغ الشيطان، يقول تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً } (الاسراء:53).
عباد الله: والمحافظون على الصلوات أبعد من غيرهم عن كيد الشيطان، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله صراط – وفي الصلاة من الذكر والخشوع والتلاوة والعبودية لله ما يسهم في حماية العبد بإذن الله من مكر الشيطان وكيده.
ومن الأسلحة المكافحة للشيطان أن تعود نفسك كلما عملت سيئة أن تبادر بعمل حسنة أو حسنات بعدها، فتلك تمحوها وتراغم الشيطان، وفي التنزيل: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (هود: من الآية114)، ومن مشكاة النبوة: "وأتبع السيئة الحسنة تمحها".
ومن الأسلحة كذلك أن تحزن للسيئة – إذا بليت بها – ولا تعجب بالحسنة – إذا وفقك الله لها – وإن فرحت بها، فقد تقودك السيئة – مع الحزن على فعلها والندم على مقارفتها – إلى فعل حسنات كثيرة، وتوجد عندك من الذل والعبودية والانكسار لله ما يجلب حسنات كثيرة – تفوق بآثارها هذه السيئة – وفي المقابل قد تقودك هذه الحسنة التي أعجبت بها إلى العجب والكبر والمنة على الله وتزكية النفس… فتحمل بسببها من السيئات ما يهلكك. ومن مأثور كلام السلف: "قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار"(1).
__________
(1) مدارج السالكين: 1/307-308.(1/240)
أيها المسلمة والمسلمة: وحصن نفسك عن مكر الشيطان بتزكيتها { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } (الشمس: من الآية 9-10)، ومن أقوى وسائل تزكيتها: غض ابصر، وحفظ الفروج، كما قال تعالى: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } (النور: من الآية30).
قال ابن تيمية رحمه الله: فجعل سبحانه – غض البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس (1)…
والدعاء سلاح به يتقي المسلمون كيد الشيطان وحضوره، وقد أوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (المؤمنون: من الآية 97-98).
فاستعاذة سواه بالله أولى، والله هو الذي أعطى الشيطان القدرة على الإغواء، وهو وحده القادر على الحماية والحفظ، فلنرفع إليه أكف الضراعة سائلين، وهو قريب مجيب الدعاء.
عباد الله: وثمة وسائل أخرى وأسلحة واقية من مكر الشيطان تذهب أو تخفف من حدة المعركة معه، كقوة العزيمة وتنمية الهمة العالية على فعل الخير واجتناب الشر، وعدم الانخداع بأسر الشهوة الحاضرة، والنظر في عواقبها الوخيمة، والتطلع إلى نعيم الآخرة، وعدم الغرور بالدنيا، والحرص على إصابة السنة في القول والعمل، والحذر من البدعة في المعتقد والعمل، إلى غير ذلك من وسائل يمارسها العارفون، ويحتمى بها من الشيطان عباد الله المخلصون.
أيها المسلم والمسلمة: وإذا علمت أنك في كل لحظة، بل وفي كل خاطرة في معركة مع الشيطان، فانظر في نتائج المعركة معه، ولا يغب عن بالك أن المتقين للمعاصي يمسهم – أحياناً – طائف من الشيطان، لكن الفرق بينهم وبين غيرهم أنهم يتذكرون قدرة الله فينتهون ويبصرون، وغيرهم – من إخوان الشيطان – يتمادون في غيهم ولا تقصر الشياطين عنهم.
__________
(1) العبودية: 100.(1/241)
اقرأ قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } (لأعراف: من الآية 201-202).
فكن من المتقين، لا من إخوان الشياطين.
بشائر بمستقبل الإسلام (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، يعلم السر وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليها المنتهى، وما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان واثقاً بربه مطمئناً إلى نصره، صابراً على البلاء يصيبه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أوصي نفسي وإياكم – معاشر المسلمين – بتقوى الله: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه } (النساء: من الآية131)، { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ { (الطلاق: من الآية 2-3)، { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم } (لأنفال: من الآية29).
أيها المسلمون: هل يخالجكم شك في قوة الله وقدرته على نصرة دينه وأوليائه؟ وهل ترتابون في ضعف كيد الأعداء مهما بلغت قوتهم وكثر جمعهم؟ وهل يتردد مسلم في الاعتقاد بأن العاقبة للتقوى والمتقين، والغلبة في النهاية للإسلام والمسلمين.
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/1/1421هـ.(1/242)
تلك مسلمات لا تقبل الجدل، وأدلتها في الكتاب العزيز والسنة المطهرة أكثر من أن تحصر… وإن كان الله جعل لكل شيء قدراً، وربط الأمور بأسبابها، وجعل للنصر والتمكين شروطاً لا بد من توفرها… ولكن هذه الأسباب والشروط ليست ضرباً من المستحيل، ولا فوق طاقات البشر، لكنها محتاجة إلى صدق وإخلاص وجهاد ونية، وأنتم اليوم – كما كان أسلافكم من قبل – ممتحنون على صدق الجهاد لدينه، والولاء لشريعة وللمؤمنين، والبراءة من الشرك وأهله، وقد قيل لمن هو خير منا: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } (آل عمران: من الآية179).
عباد الله: ودعونا نستبشر ونبشر بنصر الله، ونقارن بين العسر واليسر، ونجدد عزائم النفوس، ونطرد بالأمل والبشرى دواعي الألم والقنوط ومظاهر الإحباط واليأس.
إن الدين دين الله، والحرمات حرماته، والله أغير على دينه وحرماته منا، وهو الذي أنزل الدين، وأرسل الرسل، وتكفل بإظهار دينه { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة:33)، { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } (الفتح:28) ويقول جل قائلاً عليماً: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (الصف:8).(1/243)
ومن قديم الزمن وحديثه والأعداء يتربصون بالمؤمنين الدوائر، ويكيدون لهم، وفي مثل هذا الزمن يبلغ كيد الأعداء مبلغاً ربما ظن معه ضعفاً الإيمان أن المسلمين لن تقوم لهم بعده قائمة ولن ترتفع لهم راية… ولكن العودة إلى آيات القرآن تكشف عن مكر قديم للأعداء، وعن إنفاق الأمور للصد عن سبيله… ومع ذلك باءت هذه المحاولات بالفشل بالنهاية، وكشف الله عن ضعف كيد الأعداء وغلبتهم في النهاية، واقرأ بتمعن هذين النموذجين في زمنين مختلفين.
يقول تعالى عن الأول: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (النمل: من الآية 48-52).
وقال عن النموذج الثاني: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } (لأنفال:36).(1/244)
عباد الله: وينبغي أن لا يغيب عن بالنا ونحن نقاوم أعداء الإسلام أن هؤلاء الأعداء لله قبل أن يكونوا أعداء لنا، تجدون ذلك في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } (الممتحنة: من الآية1)، وإنهم يكذبون بآيات الله قبل أن يكذبوا المرسلين، أو يسخروا بالمسلمين، يقول تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (الأنعام: من الآية33)، والله تعالى أغير على دينه وحرماته… ولكنه القدر الإلهي بامتحان الناس بالشر والخير فتنة، وبالجملة فمهما بلغ كيد الأعداء، فالله موهن كيدهم، والله يمهلهم قليلاً ثم يأخذهم، تأملوا قوله تعالى: { ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } (لأنفال:18)، وقوله: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } (الطارق: من الآية 15-17).
أيها المسلمون: وشرط التمكين لكم والنصر على أعدائكم الإيمان وعمل الصالحات: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور:55).
وإذا تحقق الشرط فوعد الله حق، وهو لا يخلف الميعاد: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } (الروم: من الآية47)، { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } (الصافات: من الآية 171-173).(1/245)
عباد الله: ومنذ نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر: من الآية 1-3)، ودين الله ينتصر، والمسلمون يسيحون في الأرض ينشرون الإسلام، ويبشرون برضوان الله والجنة، حتى بلغ الإسلام مبلغاً لم يبلغه أي دين، ودخل في الإسلام ما لم يدخل في غره من الأديان… ولم تتوقف حركة المد الإسلامي حتى اليوم – وإن كانت بشكل عام تقوى أو تضعف، حسب قوة المسلمين أو ضعفهم، ولكن سورة النصر – بشكل عام – فيها إشارة إلى أن النصر يستمر للدين ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره وشكره، كما نقل ذلك أهل التفسير (1).
أيها المسلمون: ومن آيات القرآن إلى نصوص السنة وبشائرها، إذ تجدون في هدي الذي لا ينطق عن الهوى وعوداً صادقة بنصرة الدين، وبلوغه ما بلغ الليل والنهار، وفي حديث تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر"، رواه أحمد والحاكم وغيرهما بسند على شرط مسلم (2).
وتجدون كذلك وعداً بفتح للمسلمين لم يفتحوه بعد، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي المدينتين تفتح أولاً: أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني: ألقسطنطينية"(3).
__________
(1) السعدي، تفسير كلام المنان: 7/682، 683.
(2) محمد الدويش البشائر بنصرة الإسلام ص18.
(3) رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة، وحسنه المقدسي، وصححه الحاكم، ووافقة الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/8، الدويش البشائر: 26.(1/246)
وعلى ذلك فالمسلمون على وعد بفتح روما – وهي واحدة من قلاع النصارى، وحاضرة كبرى من حواضر النصرانية.
أما اليهود فتجدون وعداً نبوياً آخر صادقاً بوقوع معركة فاصلة مع اليهود، ينتصر فيها المسلمون وتغلب اليهود، ويقول عليه الصلاة والسلام: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمين اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبدالله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود" متفق عليه (1).
أيها المسلمون: وما ترون اليوم من ملل زائغة كاليهودية والنصرانية ونحوها ستنتهي ويبقى الإسلام، وفي آخر الزمان وحين ينزل عيسى عليه السلام لا يحكم بالنصرانية، وإنما يحكم بالإسلام، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في الحديث الصحيح فقال: "والله لينزلن ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية" رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أبي داود: "فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام"(2).
فهل يفقه المسلمون مدلولات هذه الأحاديث؟ وهل تزيدهم ثقة بدينهم، وتدعوهم إلى الدعوة للحق الذي يملكون؟ حتى وإن كان أصحابه اليوم مستضعفين، وتقلل في أذهانهم من شأن اليهود والنصارى وتلقي في روعهم بطلان عقائدهم وإن كانوا اليوم غالبين.
الخطبة الثانية
__________
(1) خ (2926)، (2925)، م(2922)، (2921).
(2) جامع الأصول: (10/328).(1/247)
الحمد لله رب العالمين، { كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } (المجادلة: من الآية21)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد، ووعده حق، بنصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (غافر:51)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بشر أمته بالسناء والنصر والتمكين فقال: "بشر هذه الأمة بالسناء (1) والنصر والتمكين، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب"(2).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: نحتاج إلى التذكير بالمبشرات الصادقة، لندفع بها اليأس والإحباط، ونجدد العزائم وتلمس أسباب النصر، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لهم بعد العسر يسراً، وبعد الضيق والشدة، السعة والفرج. أجل لقد أوحى الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - - فيما أوحى - { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } (الشرح:6).
وقد فهم السلف معنى الآية واعتقدوه، وقالوا: لن يغلب عسر يسرين لأن في الآية عسراً واحداً معرفاً، ويسرين منكرين.
__________
(1) والسنا: ارتفاع المنزلة والقدر عند الله تعالى، كما في النهاية: 2/414 لابن الأثير.
(2) أخرجه أحمد والكاكم وغيرهما فإسناد صحيح المستدرك: 4/318، والدويش: 22.(1/248)
وفهم الخلف – كذلك مدلولات الآية – وقال الشيخ السعدي رحمه الله: في تفسير الآية بشارة عظيمة، إنه كلما وجد عسر وصعوبة فإن اليسر يقارنه ويصاحبه، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر فأخرجه، كما قال تعالى: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } (الطلاق: من الآية7)، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً" ثم قال الشيخ: وتعريف (العسر) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر) يدل على تكراره فلن يغلب عسر يسرين، وفي تعريفه بالألف واللام والدال على الاستغراق والعموم، دلالة على أن كل عسر وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإنه في آخره التيسير ملازم له (1).
عباد الله: وتمثل الشعراء بهذه المعاني القرآنية، وسلوا أنفسهم بالفرج على إثر الشدائد، وقال ابن دريد: أنشدني أبو حاتم السجستاني:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره وامطأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصل بها الفرج القريب
إخوة الإسلام: ومهما تلاحقت الخطوب واشتدت المكاره، وتفنن الأعداء في أساليب العداوة والبغضاء، فلا يغب عن بالكم أن نصر الله قريب، وأن كيد الشيطان ضعيف، وأن الغلبة في النهاية للحق وأهله: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } (الرعد: من الآية17).
__________
(1) تفسير كلام المنان: 7/646.(1/249)
إن الشدة تخفي وراءها فرجاً بإذن الله، والمكروه يحمل الخير القادم بإذن الله، وإن الدلائل والبشائر – من نصوص الكتاب والسنة، ومن واقع الحضارات المادية المنهارة، والآيلة للانهيار، ومن واقع الأمة الإٍسلامية التي باتت الصحوة تسري بين رجالها ونسائها ومثقفيها وعوامها، ومن لم يستطع منهم العمل للإسلام تراه متحسراً على واقع المسلمين داعياً على أعدائهم محاولاً إصلاح شأنه على الأقل ومن يعول. ومن واقع الأعداء كذلك وتآزرهم لضرب الإسلام وخنق المسلمين، كل هذه وغيرها تقول بلسان الحال: إن السلام قادم، وإن الجولة القادمة للمسلمين – إن شاء الله.
فالأيام دول، وحركة التاريخ لم تتوقف عن التغيير، ولم يحدث أن توقفت النوبة عند أ/ة من الأمم لم تتجاوزها إلى غيرها.
يا أخا الإسلام: جند نفسك لخدمة دين الله، وساهم في جهاد أعداء الله، واعلم أنك إنما تنفع نفسك، وإلا فالله غني عنك وعن جهادك: { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (العنكبوت:6).
واعلم كذلك أن الله قادر على الانتقام من أعدائه، والانتصار عليهم، ولكن ليبلو الناس ويميز الصادقين المجاهدين من الكاذبين المتخاذلين { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } (محمد: من الآية4).
إخوة الإيمان: وثمة تساؤل للإسلام والغلبة للمسلمين في مثل هذا الزمن الذي اجتمع فيه الأعداء وتغلبوا على المسلمين، بمقدراتهم ومخترعاتهم المادية؟ كيف ينتصر المسلمون وعدوهم بملك القنابل النووية والأسلحة المتطورة، والمسلمون دون عدوهم في وسائل القتال والتقنية بمراحل؟(1/250)
والجواب أن على المسلمين أن يعدو أنفسهم بما يستطيعون كما قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } (لأنفال: من الآية60)، لكن عليهم أن يدركون أن النصر لهم في النهاية ليس بقوة المسلمين وجهدهم، وإنما بقوة الله ودفعه كما قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } (التوبة: من الآية14).
والمسلمون، إذا صدقوا، سبب لتحقيق قدرة الله وإرادته في عدوه وعدوهم: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (لأنفال: من الآية17).
وكل ذلك لا يدعو المسلمين للتواكل، ولكنه مشعر لهم أن النصر من عند الله، وهو مشعر كذلك ألا يهن المسلمون ويضعفوا وهم يرون ما بالأعداء من قوة، فـ"يد الله فوق أيديهم"، وأمره إذا أراد شيئاً بين الكاف والنون: { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } (القمر:50).
وقد سبق للمسلمين والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم أن هزموا وهم كثرة كما في حنين، وانتصروا وهم قلة كما في بدر، وفي واقعنا المعاصر يشهد الناس نماذج لانتصار المسلمين وهم قلة مستضعفون، واندحار المبطلين وهم كثرة مججون بالسلاح، أفلا يفيق المسلمون ويدركون أسباب النصر وجهته، والله يذكرهم بهذا في كتابه ويقول: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (آل عمران: من الآية126)، ويقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (محمد:7).(1/251)
تلك معان ورؤى لا بد أن نستشعرها في حربنا مع أعدائنا، ولا بد أ، نعيها حين نريد التمكين في الأرض، ولا بد من الإيمان بها ونحن نستشرف المستقبل للإسلام والغلبة للمسلمين إن شاء الله، تحقيقاً لا تعليقاً، ولكن أمد ذلك علمه عند الله، ولكن يقظة المسلمين واجتماع كلمتهم وصدقهم وجهادهم… كل ذلك يعجل النصر ويقرب النهاية للباطل وأهله…
اللهم انصر دينك، واجعلنا من أنصار دينك يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الوهن والوهم، وحب الدنيا وكراهية الموت، اللهم اجمع كلمتنا على الحق، وطهر بلادنا من الفساد والمفسدين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا والمسلمين، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
بين عالميتنا وعولمتهم (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1)، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات:13)، { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (الزمر:10).
__________
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/12/1420هـ.(1/252)
أيها المسلمون: العولمة، والنظام العالمي الجديد، مصطلحات صدرت لنا بمفاهيم فكرية، وأنماط سلوكية معينة، حددها غيرنا، وأريد لنا أن نلبس لبوسها، ونسير في ركاب مهندسيها، وقبل أن نتحدث عن هذه العولمة الغازية… لا بد من العلم والتأكيد بأننا نحن المسلمين عالميون برسالتنا وتعاليم ديننا، وببعثة النبي العالمي الخاتم إلينا… وإن قصرت هممنا، أو قعدت بنا سلوكياتنا عن إطار العالمية الإسلامية المنشودة…
أجل إن كتابنا ذكر للعالمين: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } (يوسف: من الآية104)، { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } (الأنعام: من الآية90)، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الانبياء:107)، ورسالته للناس كافة: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } (سبأ: من الآية28).
وفي إطار تعالم ديننا تتحقق الأخوة للأسود والأحمر، والغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والذكر والأنثى، والصغير والكبير… ولكن بشرط الإيمان الحق: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (الحجرات: من الآية10).
بل وفي ظل مفاهيم الإيمان والإسلام نتجاوز القرون، وتتشكل عالميتنا عبر الأمم السابقة واللاحقة ويجمعنا ربنا بقوله: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (الانبياء:92)، { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (المؤمنون:52).
أجل، إننا معاشر المسلمين، كنا – يوم أن كنا نموذجاً حقاً لإسلامنا – رواد منهج عالمي فائق، واليوم بمقدورنا إذا عدنا لأصالتنا أن نكون كذلك، فلئن غاب الرواد فما زال المنهج حاضراً… ولئن غفونا فترة فبإمكاننا أن نستيقظ على هجمات الغزاة المتسللين.(1/253)
عباد الله: وما من دين على وجه الأرض اليوم يستطيع أن يستوعب البشرية، ويحقق لها العدل والرقي والأمن والسلام… سوى ديننا دين الإسلام. وإذا ما لاح في الأفق قيادات فاجرة، أو ملل ونحل فاسدة. أو أيدلوجيات غريبة… فليس العيب في الإسلام حين يغيب عن معترك الحياة، أو يغيب عن التوجيه والقيادة، وإنما العيب في المنتسبين للإسلام.
لقد سعدت البشرية بالإسلام حيناً من الدهر، وأحس غير المسلمين بعدالة الإسلام، واعترف النصارى بخيرية عمامة المسلمين على تاج البابوية، وقالها الزعيم الديني البيزنطي في القسطنطينية لوكاس ناتوراس صريحة حين أعلن: أنه خير لنا أن نرى العمامة في مدينتنا القسطنطينيةمن أن نرى فيها تاج البابوية (1)، ويعترف المؤرخ البريطاني توينبي وهو غير مسلم بحسن سياسة العثمانيين وعدلهم في أوروبا، وكون الدولة العثمانية أصبحت ملاذاً للهاربين من الاضطهاد الديني في إسباني وأوروبا، ويقولك إنها لأول مرة في التاريخ استطاعت أن تتوحد الكنسية الأرثوذكسية في ظل هذه الدولة التي كانت استراتيجيتها وحد واحكم، بينما كانت الاستراتيجية الاستعمارية تتبنى مبدأ (فرق تسد) (2).
فإذا كان هذا التوحيد بين غير المسلمين، فلا تسأل عن توحيد المسلمين، وإذا كان هذا نموذج الدولة العثمانية فلا تسأل عن دول الإسلام السابقة، ولا سيما في خير القرون… وردد مع الشاعر فخراه واعتزازه:
ملكنا هذه الدنيا قروناً ... وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء ... فما نسي الزمان ولا نسينا
__________
(1) محمد حرب، العثمانيون في التاريخ (71).
(2) انظر مقال د. محمد أمحزون في مجلة البيان عدد 145 رمضان 120 العولمة بين منظورين.(1/254)
أيها المسلمون: وليس الحديث عن عالميتنا وتاريخنا وعدلنا، ولكنه حديث عن العولمة الجديدة – تلك التي نبتت في أرض الغرب وبالتحديد في أمريكا، منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه الموجه إلى الأمة الأمريكية بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج عام تسعين وتسع مئة وألف للميلاد مبادئ وأفكار هذه العولمة المزعومة… ونص على: عالم متحرر من الإرهاب، فعال في البحث عن العدل، والأمن والسلام… ومعلوم ما يريده الغرب بمصطلح الإرهاب، وماذا يعني السلام والرخاء عندهم؟
عباد الله: ونستطيع وصف هذه العولمة الجديدة بأنها غربية الولادة، غربية الفكر والهوية، ولم يبعد عن الحقيقة من قال: إن العولمة باختصار هي: تنميط العالم وترويضه على الحياة الغربية، بقيمه وأنظمته ونظرته للحياة.
وهي لون جديد من ألوان الهيمنة والاستعمار للعالم، لا تتخذ لها الجيوش وسيلة، وإنما تتخذ الفكر والثقافة وسيلة للتذويب والتبعية، والاقتصاد أداة للضغط والتطويع.
أيها المسلمون: والعولمة نظام يدور في إطار العلمانية الشاملة، ولا يقيم وزناً للقيم والأخلاق، ولا أثير فيه للرسالات السماوية، ولا مكان فيها، أو تقدير للضعفاء والأقليات.
إنها العولمة الغازية، ظاهرة تتداخل فيها أمور السياسة والاقتصاد، والثقافة والاجتماع، والسلوك، وتحدث فيها تحولات على مختلف الصور، تؤثر في النهاية على سلوك الإنسان، ونمط حياته على كوكب الأرض التي تصل إليها.
بل هي كما قيل: عصا استعمارية جديد بحكومة عالمية خفية لها مؤسساتها: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ولها أدواتها: منظمة الجات، والسبعة الكبار.(1/255)
إن العولمة الغازية تسير إلى تحقيق هدف غير نزيه، ولئن كانت لا تؤمن بالتعددية والتنوع، ولو كان صالحاً فهي ترتكز على الانحياز إذ هو فكرتها الأولى، ومحركها الأساس، وتنطلق من تعظيم الذات، والتعصب الممقوت، وبالطبع الذات الغربية والقيم الفاسدة، وفيها تجاهل بل تحطيم للآخرين، وفي العولمة إلغاء للحدود والفوارق الجغرافية، والمسلمات التاريخية (1).
إخوة الإسلام: ويتخذ الغرب وسائل ظاهرة، وأخرى خفيةمقنعة في سبيل تحقيق العولمة. فالمقنعة كالتجارة الدولية والمؤتمرات الدولية، كمؤتمر السكان بالقاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين ونحوها، والوسائل الظاهرة كالإعلام وشبكات الاتصال ذات الزخم الإعلامي الكبير لترويج هذه البضاعة المزجاة، وقد بغل هذا الزخم الإعلامي حداً من الانتشار إلى درجة تضايقت فيه أوروبا… وفرنسا على وجه الخصوص من الحضور الأمريكي الطاغي، وارتفعت أصوات تدعو لمقاومة المد الإعلامي الأمريكي الغازي!!(2)
وإذا كان الواقع الإعلامي الغرب، وبالذات الأمريكي منه مؤثراً منتشراً ووعاءً ناقلاً للعولمة، فالمطلعون يحذرون أكثر من مستقبل هذا الإعلام، ويقولون محذرين وموقظين للهمم، لا مخوفين مثبطين عن العمل، يقولون: إن إحدى الشركات الأمريكية بصدد إطلاق قمر صناعي جديد عام 2002م قادر على بث ألف وخمس مئة قناة تلفازية في وقت واحدة ويعاد أداؤه مجموعة من الأقمار الصناعية الحالية.
أما الإنترنت؛ فالشبكة القادمة التي بدأ تطبيقها في بعض الجامعات الأمريكية ستصل سرعتها إلى ألف ميجابيت، أي ما يعادل ألفي ضعف الشبكة الحالية، وعشرة آلاف ميجابيت في غضون بضع سنوات كما يقولون (3).
__________
(1) د. فهد العرابي الحارثي، مقال عن العولمة في الجزيرة: 18/8/1419هـ.
(2) د. مالك الأحمد: العولمة في الإعلام، مقال في البيان، ذو الحجة/ 1420هـ.
(3) د. مالك الأحمد، مقال عن العولمة الإعلامية في البيان.(1/256)
عباد الله: ومع هذا كله فهذه العولمة بصورها المختلفة ووسائلها المتعددة جزء من مكر البشر وكيد الأعداء، وهي ضمن قدر الله وحكمته وتدبيره لهذا الكون، وعلى المسلمين أن يدركوا حقيقة اللعبة، وأن يتجاوزوا المحنة بالعمل الجاد والتعاون المثمر والتخطيط للمستقبل، وأن يثقوا بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن مكر الله أعظم من مكر البشر، ويده فوق أيديهم: { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } (الفتح: من الآية10).
اللهم بصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وقو عزائما على الخير، وادفع عنا كيد الفجار يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الخمد لله كتب العزة له ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، وقضى بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقد تغر الدنيا بزينتها مبهاجها، وقد تكون نهايتها على أثر هذه الزينة بغتة، والله يقول: { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } (يونس: من الآية24).
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حذر أمته من الفتن، وبشر بمستقل للإسلام والمسلمين لم تستكمل بعد مبشراته، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله هذا اليوم حتى يقع ما صح من خبره ومبشراته… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.(1/257)
إخوة الإيمان: ويرى البعض أن العولمة التي نعيشها هذه الأيام هي مرحلة التصفية الروحية أو ما يسمى: بالانتحار الروحي، وقد سبقتها مراحل من العولمة مهدت لها، وهذه المرحلة الأخيرة من العولمة ستترك أثرين متغايرين تماماً: السلببي منهما يكمن في إخارج جيل مشوش الفكر، فاقد للهوية يسخر من لغته ودينه وتاريخه وقيمه، أما الإيجابي فيكمن في إيقاظ روح التحدي، والشعور بأهمية المقاومة والصمود لإثبات الذات، وتأكيد أصالة القيم، وبعث الحماس على استخراج مكنوز الحضارة الإسلامية، والتأكيد على أهمية القيم الإسلامية، والتاريخ الإسلامي والبقاء للأصلح، والزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، تلك سنة إلهية ماضية تتكرر.
عباد الله: وعلى إثر هذه السنة الإلهية والمبشرات النبوية يرد السؤال: هل يمكن أن تستمر هذه العولمة، وإلى أي حد يمكن أن تنجح؟
لا شك أن الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب، ولكن ظاهر الأمر يوحي بأن هذه العولمة قدتحق بعض النجاحات، ولكن بذورها الأولى تحمل هلاكها، إذ فيها مصادمة لفطر البشر، وتجاهل للتاريخ، واغتصاب للثقافة، وتنحية لتعاليم السماء، ومصادمة للمبشرات النبوية بانتصار الحق وغلبة المسلمين وسيادة الإسلام، وتقم العولمة على القهر والاستبداد وتعظيم الأغنياء والأقوياء، وسحق الفقراء والضعفاء، ومن هنا جاءت قوى الرفض لهذه العولمة من قلب الدول الراعية لها، وأفشل مجموعة من الأمريكان مؤتمر سياتل الذي حضرته مئة وثلاثون دولة قبل أن يصل إلى قرارات، بل وقبل أن يحصلوا على توقيعات الدول النامية على توصياته، بل حتى قبل الوصول إلى مقر المؤتمر (1)، وانتشر الرفض للعولمة، وسار قطاره مسرعاً من أمريكا إلى أوروبا إلى غيرها.
إخوة الإسلام: وهنا يرد سؤال وكلنا مطالب بالإجابة عليه، والسؤال يقول: ما موقفنا من هذه العولمة وماذا ينبغي أن تحرك فينا؟
__________
(1) علي حسن شيشكلي، العولمة، الجزيرة 20/10/1420هـ.(1/258)
إننا معاشر المسلمين جميعاً عرباً وعجماً، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، مدعوون إلى إقامة عالمية تقوم على الاجتماع والألفة والأخوة، فالاجتماع قوة، والمؤمنون دون سواهم إخوة، والله يدعونا إلى الاجتماع وينهانا عن الفرقة، ويقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } (آل عمران: من الآية103).
وهذه العالمية التي ندعو لها لا تقارن مصداقيتها بعولمتهم، وهي تختلف في آثارها وأساليبها عن عولمتهم، ودعونا نعقد مقارنة سريعة بين عالميتنا وعولمتهم، فعالميتنا عدل ورخاء، وعولمتهم جور وشقاء، عالميتنا يستخرج بها الناس من ذل العبودية وإزهاق الكرامة، وعولمتهم تكريس للذل و التبعية، وسحق للحرية والكرامة، عالميتنا طهر وعفاف، وعولمتهم عهر وشذوذ وانحراف، وسل مؤتمر بكين للمرأة ينبيك الخبر اليقين، عالميتنا شورى وإقناع، وعولمتهم استبداد وإكراه، عالميتنا تعمير للكون وتسبيح بآلاء الله، وعولمتهم تدمير للحرث والنسل، وفي مؤتمر الإسكان الدولي شاهد لما نقول، عالميتنا سعد بها المسلمون وغير المسلمين، واستظل بظلالها الوارفة القريب والبعيد، وعولمتهم لم تستطع أن تحقق الرخاء للقريب فضلاً عن البعيد، وقامت صيحات المعارضة ضدها من داخل الارض التي نبتت فيها، وأنى لها أن تحقق الخير والسعادة للآخرين، عالميتنا رحمة للعالمين، وعولمتهم نكد وعذاب وظلم واستبداد، عالميتنا لاتسأل الناس أجراً على البلاغ والهدى، وعولمتهم نهب للموجود وتعسف على الفقير، ومن ملامحها كما يقال إنها ستفقر الدول النامية وستزيد الدول الغنية غنى… عولمتهم تتجاهل رسالة السماء المحفوظة، وعالميتنا تتعامل بالعدل مع أصحاب الأديان ولو كانت محرفة، وتنظم حقوقاً خاصة بأهل الذمة، عولمتهم قائمة على الانحياز والتعصب إن شئت في الاقتصاد أو السياسة أو الأخلاق والفكر والقيم، لا يقال هذا عاطفة، بل يؤكده الواقع المشاهد، فأي نوع تمارسه هذه العولمة في(1/259)
الاقتصاد" إنه الاقتصاد الحر من كل قيود، القائم على الربا والاحتكار والجشع الطمع بكل وسيلة، وإن بلغت مبلغاً من الذكاء والتقنية والتخطيط. وأي نوع تمارسه هذه العولمة وأربابها في السياسة؟ تجيبك المآسي القائمة للمسلمين في أرض الشيشان حاضراً، ومن قبل في البوسنة والهرسك وكوسوفا، وفلسطين وغيرها، فأين السلام المنشود؟ وأين تحقيق العدل والأمن الذي يتشدق به قادة هذه العولمة؟ وتكشف أحداث تيمور الشرقية أخيراً، ومن قبل جورجيا وغيرها من الجمهوريات النصرانية عن حقيقة هذا التحيز والتعصب.
فهرس الخطب
الموضوع الصفحة
الدين ودعوى وحدة الأديان (1)
الدين الحق (2)
المحبة المشروعة
الرحمة
وصايا لقمان وسنن وبدع شعبان
الحسبة والمحتسب
أطفالنا ومسؤولية التربية (1)
أطفالنا ومسؤولية التربية (2)
الأزمات العالمية
أذية المسلمين
الأخلاق الفاضلة (1)
الأخلاق الفاضلة (2)
أفكار في التربية والتعليم مع بدء العام الجديد
كيف نودع عاماً وبم نستقبل آخر
من أنصار المرأة
الغفلة
الزكاة والعشر
زيارات واستقبالات رمضان
أصحاب الفيل
مراتب الجهاد
ما قبل الزواج
أفكار في الدعوة إلى الله
وقفات مع الزلزال المدمر
من مقاصد الحج وأسراره ومعانيه وعشر ذي الحجة
مكفرات الذنوب
عناصر القوة للمسلم
المعركة المتجددة
بشائر بمستقبل الإسلام
بين عالميتنا وعولمتهم(1/260)