شرعية الدعاء على الكافرين
وذكر أهم الفوارق بينهم وبين المسلمين
ردًا على القرضاوي الزائغ المهين
تأليف أبي عبد الرحمن
يحيى بن علي الحجوري حفظه الله
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:
فأصل هذه الرسالة المختصرة؛ خطبتا جمعة لنا، كانت في: (الحادي والعشرين، من شهر الله المحرم عام: خمسة وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
ثم أضفت إليها بعض ما يتعلق بها بين مغرب وعشاء من ذلك اليوم، قصدت بذلك الرد على إحدى مكيدات يوسف القرضاوي للإسلام والمسلمين، في قوله: (إنه لا يشرع الدعاء على عموم الكافرن، وأنهم إخواننا، لهم مالنا، وعليهم ما علينا، وربما تعلل بحديث: باطل، وهو: أن النبي ? قال: «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا» يعني أهل الذمة
قال العلامة الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1102): (باطل لا أصل له) و قد اشتهر في هذه الأزمنة المتأخرة, على ألسنة كثير من الخطباء و الدعاة و المرشدين, مغترين ببعض الكتب الفقهية , مثل «الهداية» في المذهب الحنفي ,
فقد جاء فيه , في آخر البيوع: و أهل الذمة في المبايعات كالمسلمين, لقوله عليه السلام في ذلك الحديث, «فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين, و عليهم ما عليهم».
فقال الحافظ الزيلعي في تخريجه «نصب الراية»: (4/55): لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف, و لم يتقدم في هذا المعنى إلا حديث معاذ, و هو في كتاب الزكاة, و حديث بريدة و هو في كتاب السير, و ليس فيهما ذلك.
و وافقه الحافظ في «الدراية» (ص 289).(1/1)
قلت: فقد أشار الحافظان إلى أن الحديث لا أصل له عن رسول الله ?, و أن صاحب «الهداية» قد وهم في زعمه، ورود ذلك في الحديث. و هو يعني - والله أعلم - حديث ابن عباس; و هو الذي أشار إليه الزيلعي: أن النبي ? بعث معاذا إلى اليمن فقال: «إنك تأتي قوما أهل كتاب, فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله, و أني رسول الله, فإن هم أطاعوك, فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم..» الحديث. و هو متفق عليه، فليس فيه - و لا في غيره - ما عزاه إليه صاحب «الهداية».
بل قد جاء ما يدل على بطلان ذلك , و هو قوله ? في الحديث الصحيح: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله .. فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم و أموالهم إلا بحقها, لهم ما للمسلمين , و عليهم ما على المسلمين».
و إسناده صحيح على شرط الشيخين كما بينته في «الأحاديث الصحيحة» (299).
فهذا نص صريح على أن الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجملة: «لهم ما لنا, وعليهم ما علينا».
ليس هم أهل الذمة الباقين على دينهم, و إنما هم الذين أسلموا منهم, و من غيرهم من المشركين!
و هذا هو المعروف عند السلف , فقد حدث أبو البختري: أن جيشا من جيوش المسلمين - كان أميرهم سلمان الفارسي - حاصروا قصرا من قصور فارس, فقالوا: يا أبا عبد الله ألا تنهد إليهم? قال: دعوني أدعهم كما سمعت رسول الله ? يدعو, فأتاهم سلمان, فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي, ترون العرب يطيعونني, فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا, و عليكم مثل الذي علينا, و إن أبيتم إلا دينكم, تركناكم عليه, و أعطونا الجزية عن يد, و أنتم صاغرون ..
أخرجه الترمذي و قال: حديث حسن، و أحمد ( 5/440 و 441 و 444 ) من طرق عن عطاء بن السائب عنه.(1/2)
ولقد كان هذا الحديث و نحوه من الأحاديث الموضوعة و الواهية سببا لتبني بعض الفقهاء من المتقدمين, و غير واحد من العلماء المعاصرين, أحكاما مخالفة للأحاديث الصحيحة, فالمذهب الحنفي مثلا يرى أن دم المسلمين كدم الذميين, فيقتل المسلم بالذمي, و ديته كديته مع ثبوت نقيض ذلك في السنة على ما بينته في حديث سبق برقم ( 458 ).
و هذا الحديث الذي نحن في صدد الكلام عليه اليوم طالما سمعناه من كثير من
الخطباء و المرشدين يرددونه في خطبهم, يتبجحون به, و يزعمون أن الإسلام سوى بين الذميين و المسلمين في الحقوق, و هم لا يعلمون أنه حديث باطل لا أصل له عن رسول الله ?! فأحببت بيان ذلك, حتى لا ينسب إلى النبي ? ما لم يقل!.
و نحوه ما روى أبو الجنوب قال: قال علي رضي الله عنه: من كانت له ذمتنا, فدمه كدمنا, و ديته كديتنا.
أخرجه الشافعي (1429) و الدارقطني (350 ) و قال: و أبو الجنوب ضعيف. و أورده صاحب «الهداية» بلفظ: إنما بذلوا الجزية؛ لتكون دماؤهم كدمائنا, وأموالهم كأموالنا.
و هو مما لا أصل له, كما ذكرته في «إرواء الغليل» (1251) اهـ.
وجاء مثله في البطلان حديث: «دية ذمي دية مسلم»، قال العلامة الألباني في «السلسلة الضعيفة» (458):منكر، أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1/45 ـ 46/780 ) و الدارقطني في «سننه» (ص343, 349) و البيهقي (8 /102) من طريق أبي كرز القرشي عن نافع عن ابن عمر مرفوعا, و ضعفه الدارقطني بقوله: لم يرفعه عن نافع غير أبي كرز، و هو متروك, و اسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري, و ذكر الذهبي في ترجمته من «الميزان» أن هذا الحديث من أنكر ما له اهـ.
فإلى الموضوع والله المستعان.
المقدمة(1/3)
الحمد لله، نحمده ونتستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ}[آل عمران:19].
ويقول سبحانه في كتابه الكريم: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }[المائدة:3].
ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85] .
ويقول عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً}[الكهف: 103-106].(1/4)
في هذه الآيات، فضل الإسلام، وأهله، و ذم الكفر وأهله، وهذا من أعظم الفوارق بين الإسلام والكفر، وبين المسلمين والكفار، فالمؤمن المسلم يعبد الله، والكافر يعبد الطاغوت، قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60] .
وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 21-22].
وأهل الكفر ينددون بالله سبحانه وتعالى، ويشركون به، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة: 23-24].
ومن الفوارق أن النار قد أعدت للكافرين، من مات على كفره فله النار، ليس له مالنا وعليه ما علينا، في الدنيا ولا في الأخرى، وأن الجنة قد أعدت للمؤمنين وهذا من أعظم الفوارق بين المؤمنين والكفار، ، ، ثبت في الصحيح أن النبي ? قال: »لا تدخل الجنة إلا نفس مسلمة«، وأخرج مسلم في «صحيحه» أن النبي ? قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا».(1/5)
وربنا يقول: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [لأعراف:50-51].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
وربنا عز وجل يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] .
وقال في كتابه الكريم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج: 19-21].
وقال: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:37].(1/6)
وقال سبحانه: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى}[الأعلى: 10-13].
وقال النبي ?: «أما أهل النار، الذين هم أهلها، فهم لا يموتون فيها ولا يحيون».
وقال: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة يوم من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه«.
وفي «صحيح البخاري» من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي لله عنه، أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ? فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟» فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ? ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ?: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».
هذا من أعظم الفوارق بين الإسلام والكفر، والمسلمين والكفار، التي لا يكاد يفرق بها بعض من طمس الله بصيرته، وأعمى الله قلبه، في هذه الفوارق التي من أجلها قامت السموات والأرض، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [صّ:27] .
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[الانبياء:16].
وقال: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] .(1/7)
ومنها: الفرق بين الحق والباطل، والمحق والمبطل، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم: 35-36].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ:28].
ولا يستوي حي وميت، ولا من يعيش في نور، ومن يعيش في ظلمات الكفر والشرك، قال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:122] .
فالكافر ميت، والمسلم حي، أخرج البخاري في «صحيحه» من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي ? قال: «مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، كمثل الحي والميت».
المسلم يعبد الله، ويمتثل ما أراده الله منه، بالتوحيد، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56]، والكافر لم يحقق ما أراده الله منه، ويصير عابداً للأوثان، وللأصنام، ولغير الله سبحانه وتعالى، قال عزوجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}[التوبة: 30-32] .(1/8)
أمِثْلُ هذه الفوارق الذي قام بها دين الله، وأُنزلت من أجلها الكتب، وأرسل من أجلها الرسل، يجهلها بعض الضلال، ويتعامى عنها، ويدعو إلى مودة الكفار، وإلى أن المسلم له ما للكافر، والكافر له ما للمسلم، فيكون لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وهذه والله إنها لخطر عظيم، وهدم لدين الله؛ أن يساوى بين المسلمين والكفار، فالمشركون أنجاس، والمسلمون أطهار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }[التوبة:28].
.وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ? قال: «إن المسلم لا ينجس».
وقال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
المؤمنون يطوفون بالبيت العتيق، وهم مأمورون بذلك، والكفار محرم عليهم ذلك، وقد بعث رسول الله ? أبا بكر أميراً على الحج، قبل حجة الوداع، وأمره أن يؤذن هو ومن معه، ألا يحج بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريان.
الكفار: أنجاس بالشرك والوثنية، والمؤمنون طاهرون بالتوحيد والإسلام لرب البرية، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222].
المشركون لا يصلون، قال الله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر: 42-46].(1/9)
والمسلمون يصلون، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:1-6].
المشركون لا يأتون الزكاة، ولا تصح منهم، وإن أدوها، قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[فصلت: 6-7].
وقال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:1-7].
وفي »الصحيحين« من حديث ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي ? لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال: »إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فأول ما تدعوهم إليه أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، من أغنياء المسلمين تؤخذ، وترد على فقراء المسلمين، ولا تؤخذ من كافر ولا تعطى لكافر».(1/10)
وسواء زكاة مال، أو زكا الفطر من رمضان، ففي «الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي ? فرض زكاة الفطر، صاع من تمر ، أو صاعاً من شعير، على الذكر والأنثى والحر والعبد، والصغير والكبير، من المسلمين.
لا يلغي هذه الفوارق في هذه الأدلة ويتجاهلها؛ إلا منافق مارق عن دين الله، مخادع لله، ولدينه، ولعباده المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}[النساء: 142-143].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}[النساء:145].
وقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}[النساء: 138-139].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11-12].(1/11)
شأن المنافقين، وديدنهم في كل زمان ومكان، حماية الكفر وأهله، والوقيعة في الإسلام وأهله، سواء كان هؤلاء من الرافضة، أو من غيرهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما اختصم خصمان في ربهم إلا كانوا مع اليهود والنصارى، الذين يدعون إلى التقارب مع الكفار، وإلى مودتهم، وإلى مثل ذلك المقالة التي سمعتموها: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
والله قد قال في المنافقين: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}[الأحزاب:61] .
ومن الفوارق أنه لا قصاص بين المسلم والكافر، ففي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي جحيفة رضي الله عنه، أنه قال لعلي رضي الله عنه: هل عندك غير القرآن؟ قال: لا، ما عندنا إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، وسهم أعطيه مسلم، قال: فقلت: ما بهذه الصحيفة؟ قال: فيها العقول، وأسنان الإبل، شيء من العقول، وكذلك أحكام الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.(1/12)
ومن الفروق بينهم في الشهادة: قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}[الطلاق:2]، فقد أمر الله أن الشهادة إنما تكون ممن يرضى، وتكون من المسلمين، فالكفار لا تصح شهادتهم، ولا تقبل شهادتهم، ولا روايتهم ما داموا على الكفر، إنما في حال الوصية في السفر، بقيود ذكرناها في كتابنا «ضياء السالكين في أحكام وآداب المسافرين» وهذا نصها: عند عدم وجود المسلم، وما لم يضهر كذبه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:106-107].
قال القرطبي في قوله: {وآخرون من غيركم} أي: أو شهادة آخرين من غيركم، فـ {من غيركم} صفة لآخرين، هذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:(1/13)
الأولى: أن الكاف والميم في قوله: {منكم} ضمير للمسلمين، {أو آخران من غيركم} للكافرين، فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية وهو الأشبه بسياق الآية مع ما تقرر من الأحاديث وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود(1)، وابن عباس.
فمعنى الآية من أولها إلى أخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين، فإن كان في سفر -وهو الضرب في الأرض- ولم يكن معه أحد من المؤمنين فلْيُشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق ما كتما فيه شهادة، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، وهذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري، و سعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر، وسعيد بن جبير، و أبي مجلز، وإبراهيم، و شريح، و عبيدة السلماني، و ابن سيرين، و مجاهد، و قتادة، والسدي، وابن عباس وغيرهم، وقال به من الفقهاء: سفيان الثوري، والقاسم بن سلام، وأحمد بن حنبل، كلهم يقولون: {من غيركم} يعني الكفار.اهـ من «الجامع لأحكام القرآن» (6/328-329)
__________
(1) في «تفسير القرطبي» وبعبد الله بن قيس، وهو خطأ والتصويب من «تفسير بن كثير».(1/14)
القول الثاني: أن قوله سبحانه: {أو آخران من غيركم} منسوخة، هذا قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة ومن أدلتهم قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282]، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز، والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم، قال القرطبي: وما ذكروه صحيح، إلا أن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصرة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم، وقال ابن جرير وابن كثير وغيرهم ممن تقدم ذكره: الآية محكمة ومن ادعى نسخها فعليه البيان. اهـ من «تفسير ابن كثير».
القول الثالث: أنها محكمة، لكن معنى {منكم} أي: من عشيرتكم وقرابتكم، {وآخران من غيركم} أي: من غير القرابة العشيرة، نُقِل هذا عن الحسن، وعكرمة، والزهري.
قلت: وفيه بُعد وتكلف ترده الآية نفسها، فإن في أولها نادى الله عزوجل المؤمنين بقوله: {يا أيها الذين آمنوا}، وعلى هذا القول فمن غيركم لا يكونون عدولًا؛ لأنه قال: {ذوا عدلٍ منكم}
وعليه أيضًا أنه يلزم الشاهدين من الؤمنين اليمين بعد الصلاة على شهادتهما تلك، ومع ذلك ينتظر ظهور كذبهما، فإن ظهر حلف من أولياء الميت الموصي جلان وتهدر شهادة المسلمين الأولين، وهذا لا نظير له في الشريعة الإسلامية، فما أبعده من قول!، ولا أراه يثبت عن هؤلاء الأئمة، فإن ثبت فهو خطأ منهم واضح جلي، فعُلِم ثبوت القول الأول الذي تكاثرت عليه الآثار، والأقوال الثابتة عن الصحابة وغيرهم، وذلك بالشروط المذكروة في الآية:
1) أن يكون في السفر دون الحضر.
2) أن يكون في الوصية خاصة.
3) عند عدم وجود المسلمين.
4) أن يحلفا عند قدومهما بعد الصلاة على صدق شهادتِهما إذا حصل شك فيهما.
5) أنَّهما إن عثر منهما كذب أو خيانة حلف رجلان من أولياء الميت الموصي، وهدرت شهادتُهما، وغرما ما أخذا من الوصية، وانظر «تفسير ابن جرير» و«ابن كثير» وغيرهما من التفاسير عند الآية [المائدة:107].(1/15)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا(1) مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ?، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ}
أخرجه البخاري في الوصايا (5/409) رقم: (2780) وأبو داود (3606) والترمذي (4/101) وهو مذكور في «أسباب النْزول» لشيخنا حفظه الله عند الآية، وأخرج أبو داود نحوه برقم (3605) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وسنده قوي.
إلى غير ذلك من الشروط والقيود المذكورة عند المفسرين وغيرهم من أهل العلم.
__________
(1) الجام الإناء(1/16)
من الفوارق بين المسلم والكافر في قتل الخطأ، فإن الكافر إذا قتل خطأً ليس فيه كفارة، والمسلم فيه كفارة، وفيه الدية، لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}[النساء:92]، ففي هذه لآيات:
1)أن من قتل مؤمنًا فعليه الكفارة؛ تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ودية مسلمة إلى أهله، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} الآية [النساء:92]، إلا أن يعفون عن القاتل؛ صدقة منهم بذلك.
2) وإذا كان المقتول خطأ أؤلياؤه كفارًا أعداء ومحاربون للمسلمين، ففيه تحرير رقبة مؤمنة فقط، وليس لأوليائه دية، لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء:92]، ولم يأمر الله تعالى لهم بالدية؛ حتى لا يتقووا بها على حرب المسلمين.
3) إذا كان المقتول خطأ مؤمنًا وأولياؤه أهل ذمة أو هدنة، وليسوا محاربين، ففيه تحرير رقبة مؤمنة، ولهم دية قتيلهم؛ لكونهم أمن منهم التقوي بها على حرب المسلمين.(1/17)
4) فإن كان المقتول خطأ كافرًا فليس فيه كفارة قتل الخطأ، فإن كان أولياؤه حربيين فليس لهم دية، أو غير حربيين فلهم الدية؛ لأنه حق لهم، أما الكفارة فتسقط، لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً}[النساء:92]، فاشترط في الكفارة أن تكون في حق المؤمن.
ومن التفاوت في العتق، فإن جمهور أهل العلم على أنه لا يجزئ عتق الكافر في الكفارات، لقول رسول الله ? كما ثبت عنه في « صحيح مسلم »، من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، أنه لما أوتي بتلك المرأة الجارية، وكان قد لطمها معاوية، صكها صكة، فندم على ذلك وسأل رسول الله ?، فقال: »ائتني بها«، فؤتي بها فقال: »أين الله؟«، قالت: في السماء، قال: »من أنا؟«، قالت: أنت رسول الله ?. قال: »اعتقها فإنها مؤمنة«.
أي أنه لا يستحق التحرير والعتق إلا المؤمن، وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي ? قال: »من أعتق رقبة مؤمنة، أعتق الله بكل عضو منه، عضواً منه حتى فرجه بفرجه«.(1/18)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه «زاد المعاد» (3/309) وأيضا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغه لعبادة ربه، وتخليصه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق، ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع محبوب له، فلا يجوز إلغاؤه، وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغ العبد لعبادته وحده، وتفريغه لعبادة الصليب، أو الشمس والقمر والنار؟ وقد بين سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل، وأحال ما سكت عنه على بيانه، كما بين اشتراط العدالة في الشاهدين وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بينه، وكذلك غالب مطلقات كلامه سبحانه ومقيداته لمن تأملها وهي أكثر من أن تذكر فمنها قوله تعالى فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وفي موضع آخر بل مواضع يعلق الأجر بنفس العمل اكتفاء بالشرط المذكور في موضعه، وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] وفي موضع يعلق الجزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاء بما علم من شرط الإيمان وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد، انتهى.
الكفار لا وزن لهم عند الله، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:103-105].(1/19)
وفي «الصحيحين» من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن النبي ? قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»، وَقَالَ: «اقْرَءُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}».
الخطبة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فمن أعظم الفوارق أن المسلم معصوم الدم، والمال والعرض، قال عليه الصلاة والسلام: كما في «الصحيحين» من حديث ابن عمر: »أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله«.
وفي «الصحيحين» من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي ? قال: »إن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم«.
والكافر لا حرمة لعرضه، فقد نقل الإجماع على ذلك أنه لا حرمة لعرض كافر، من حيث الكلام عليه، والغيبة فيه.
ومنها: لا يجوز النكاح بين مسلم وكافرة، ولا بين مسلمة وكافر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}[البقرة:221].(1/20)
وقال تعالى: { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الممتحنة:10].
ففي هذا دليل على أن الكافر ليس كفؤ للمسلمة، ولا يجوز زواج كافر بمسلمة.
ويجوز زواج مسلم بكتابية محصنة، لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ }[المائدة:5].
ولا يجوز زواج الكتابي بالمسلمة للأدلة السابقة، ومن قال بزواج المسلمة من الكتابي فهو زنديق؛ لأنه أبطل حكم الله.
ومن الفوارق العظيمة، أنه لا ولاية لكافر على ابنته أو أخته، أو قريبته التي له الولاية عليها لو كان مسلمًا، ما دام كافراً؛ لقول الله سبحانه: { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}[النساء:90]، وقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ولقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة:71]
ونقل الإجماع ابن المنذر وغيره، أن الكافر ليس له ولاية، على قريبته.(1/21)
ومن أعظم الفوارق أن الكافر محبوط العمل، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [ابراهيم:18].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39-40]. وقال{ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88].
وقال:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65].
وقال:{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
وأخرج مسلم في «صحيحه» من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النبي ? قال: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنْ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللَّهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ».(1/22)
وأخرج مسلم في «صحيحه» من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه دخل على رسول الله ? وقد نام على حصير، قد أثر الحصير في حنبه، قال: فابتدرت عيناي فقال: «مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ؟ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ?، وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمْ الدُّنْيَا؟» قُلْتُ: بَلَى.
فالكفار خاسرون، والمؤمنون مستثنون من الخسارة، والكفار في أسفل سافلين، قال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}[التين:1-6].
والكفار شر البرية، والمؤمنون خير البرية قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[البينة:6-8].
وفي «الصحيحين» أن النبي ? قال: «يا عائشة، إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئكِ شرار الخلق عند الله».(1/23)
وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأنفال: 55-57]، {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال: 22-23].
ويقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}[المائدة: 78-80].
ومن الفوارق أن الكفار لا يُبدؤن بالسلام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: »لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا وجدتموهم في الطريق فاضطرهم إلى أضيقه«.
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ».
وفي هذا أمران:
الأمر الأول: أنهم لا يبدأون بالسلام.
الأمر الثاني: أنهم إذا سلموا لا يُرد عليهم كما يرد على المسلمين، وإنما يرد عليهم بتلك اللفظة التي أمرنا بها رسول الله ?: (وعليكم.(1/24)
ومن الفوارق وجوب قتال الكفار لاتصافهم بما ذكر الله عزوجل في هذه الآية، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29]. فهذه عدة فوارق في هذه الآية:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، وأنهم يجب قتالهم، والسيف عليهم مسلول، إلا من كان من المعاهدين، أو من المستأمنين، كما أبان الله عز وجل في سورة التوبة.
ومن الفوارق أنها: لا تصح الوصية لعموم الكفار؛ كأن يوصي لليهود، أو يوصي للنصارى، يبنما تصح الوصية لفقراء للمسلمين.
يجب على كل مسلم أن يتقي الله وأن يعرف ما يقول، فرب كلمة يتكلم بها الإنسان يخرج بها من الإسلام، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ».
وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ن النبي ? قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت».
نسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه.
تتمة لخطبتي الجمعة، كانت بين مغرب وعشاء
الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد ان محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] .(1/25)
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: مبيناً شأن الخائنين، {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}[النساء:107] ،{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء:109] .
ولا خيانة أعظم من خيانة المسلمين في دينهم، وفي معتقدهم، وفي ولائهم للحق وأهله، وبرائهم من الباطل وأهله، وإن من خان إنساناً في شيء من متاع الدنيا، يعتبره ذلك الإنسان خائناً؛ لأنه خانه في متاع دنيوي، فكيف بمن يخون المسلمين في عقيدتهم، ويحبب إليهم شر البرية، الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}[البينة:6].
ويضعف عندهم جانب الولاء والبراء، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22].
وهؤلاء أقرب الناس، ومع ذلك لا تجد مؤمناً يحب من حاد الله ورسوله، ولو أقرب قريب.(1/26)
ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة:54]، وهذا يدل على أن صفات المؤمنين فيها العزة، على الكافرين، وليس فيه العزة على بعضهم دون بعض، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً }[فاطر:10]، { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:8].
ويقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}[النساء: 144-145]. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 51-52].
ويقول الله عز وجل: عن المنافقين {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة:47].(1/27)
فعلم أن الناس قد يستمعون لمن يقول، باسم العلم وباسم الدين، وإنه لواجب عظيم على كل ناصح لدين الله، أن يبين سبيل هؤلاء الخونة، الغشاشين للمسلمين، فرسول الله ? يقول: »من غشنا فليس منا«، أخرجه مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قيا لله العجب! من أناس ملأوا الدنيا صراخًا في الخطب والمحاضرات، والجرائد والمجلات؛ تحذيرًا من بعض المشروبات والمنتجات المستوردة وهم يدعون باقوالهم وأفعالهم جدين إلى تلقي أفجر وأخطر منتجات الكافرين؛ من الأفكار الهدامة، والدعوة إلى محبتهم، وعدم الدعاء عليهم، فأي الأمرين أحق بالمقاطعة؟ وأي الفريقين احق بالأمن إن كنتم تعلمون؟ أم إنها المصالح الدنيوية؟ التي مبنى دعوة الإخوان المسلمين عليها، فليعتبر أولوا الأبصار.
وإن من أعظم الغش لما سمعته من شريط للقرضاوي، يقول فيه عن الكفار: (إن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا, وأنه لا يدعى عليهم )، وقد رددنا بما يسره الله عزوجل في خطبة الجمعة، على هذه المقولة البائرة، الظالم صاحبها.
وأيضاً من تلك البلاوي في هذا الشريط الذي يدل على محاماة هذا الرجل عن عن اليهود والنصارى، فينفث سمومه، ويبث فتنته، وينشر بواره، ويوزع على الناس ما يراه من محبة الكافرين، والدفاع عنهم من طرفٍ خفي.
وهذا ليس مبدأ هذا الرجل فحسب، فهو مبدؤه، ومبدأ شيخه حسن البناء، ومبدأ جلّ الإخوان المسلمين، سيما الدعاة منهم؛ فالزنداني عندنا في اليمن يقول في كتابه «التوحيد»، ط. المكتب الثقافي المكون من ثلاثة أجزاء، (ص104) يقول: والإيمان بالكتب السابقة، ينقي روح المؤمن من التعصب الذميم، ضد الديانات، وضد المؤمنين بالديانات، إلى آخر ذلك الكلام المنتن، الذي قد يسر الله بيان بطلانه في كتاب «الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزنداني في كتابه توحيد الخالق»، هذا وللقرضاوي أيضاً بوائق أخرى وضلالات على ما تقدم بيانه منها:(1/28)
أنه في قضية انتخابات في إسرائيل ربا فيها بعضهم على بعض، كفار على كفار، فذهب يخطب الناس ويمجد إسرائيل، وعندي كلامه بنصه في شريط موجود، يقول: لو نزل الله (سبحانه) ما سيكون له هذا العدد وعُرضت هذه الفتوى على فضيلة الشيخ العلامة العثيمين رحمه الله فقال: قائل ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وهكذا ابتلى الله المسلمين بهؤلاء المفتونين، من هذه الفتاوى، وحتى لا يقال إننا نقلنا عنه ما لم يقل، أو حتى لا نكلف الناس شراء هذا الشريط، وهو لا يستحق إلا التحريق، نسمعهم الكلام من شريط للقرضاوي وهو يقول: (هم مواطنون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويرى أن لا ندعو عليهم، هؤلاء المواطنون)، هذا نص كلامه بصوته
والجواب: هل كل هؤلاء المواطنين من يهود ونصارى الذين يتجلد القرضاوي في الدفاع عنهم كفار أم مسلمون؟ وهل هؤلاء المواطنون أيضاً يحبون المؤمنين أم يبغضونهم أشد البغض؟ قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة:120].
هذا مبدؤهم جماعات وأفراداً، يقول الله سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء:89] .
ويقول سبحانه وتعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة:2-3].
ويقول سبحانه وتعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة:105].(1/29)
لا يستطيع أحد أن يقول: هذا خاص في بعضٍ منهم دون بعض، هذا كلام الله يدل على بغض الكافرين للمؤمنين، وأما قول الله عز وجل في كتابه الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].
فهذا الآية سبب نزولها النجاشي رضي الله عنه، وقد صلى رسول الله ? وقال: »صلوا على أخيكم أصحمة«.
فهو رجل صالح وفيه نزلت الآية، {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83].
ولا يستدل بها على هؤلاء الحاقدين، الذين كما سمعت من الأدلة عليهم أنهم أشد عداوة، والواقع يشهد بذلك.
وقد ظلموا المسلمين أيما ظلم، ظلموا، فاعتدوا على دينهم، واحتقروهم، وحاربوهم عقديًا، وفكريًا واقتصاديًا، وعسكريًا اعتدوا على ممالكم، ومنعوا عنهم كثيرًا من الثروات.
الإنسان يريد أن يزرع بلده، بماله وبعدته، فيمنعونه، إمريكا لن ترضى لِدولة من الدول أن تزرع، بلدها ومزارعها كما تريد.
ويحبون أن تكون لهم المنة زالهيمنة على المسلمين بحيث يتحكمون فيهم، ويشدون الخناق متى شاءوا ، ويرخونه متى شاؤا، على حسب مصالحهم الخاصة، وفي السودان لما زرع أصحاب السودان مزارعهم وكثرت الزراعة، وكادوا يستغنون عن مستوردات إمريكا، ثارت عليها أمريكا، وهكذا في دول شتى معروفة، حتى قال بعض المسئولين، كما أخبر عنه بذلك من سمعه حين نزل في مكان ما، وجلس وقال: الحمد لله الذي لم يجعل لإمريكا على الهواء سبيلاً، فلو استطاعت أن تحجزه على الناس لفعلت.(1/30)
وبعد هذا ألا يحق للمظلوم أن يدعو على من ظلمه؟، وقد قال النبي ? لمعاذ حين بعثه إلى اليمن كما في «الصحيحين»، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: »واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب«.
دل هذا على أن المظلوم له أن يدعو على من ظلمه، وليس للمسلمين إلا الله، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذريات:50]، إلى من يفر الإنسان إذا ظلم إلى الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].(1/31)
وأخرج البخاري ومسلم، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ ? مَا أَخْرِمُ عَنْهَا؛ أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأُخِفُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ، قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ.(1/32)
وثبت في «الصحيحين»، أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا، فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ?؟! قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ?؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ»، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لَا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا، قَالَ: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ، قتلت بسبب دعوة سعيد بن زيد.
ورجل كان يسب علياً، ويقع في علي، فدعا عليه سعد بن أبي وقاص، أرسل الله له ناقة تخبطه، هذه قضايا تدل على جواز دعوة المظلوم على من ظلمه، وإن الكافرين الآن ظلموا المسلمين أيما ظلم، وتكبروا عليهم، فلا يعتبرونهم إلا دراويش.
أبعد هذا كله يحق لإنسان أن يقول: ما يجوز الدعاء على الكافرين، وقد قال خبيب رضي الله عنه، عن أولئك الظلمة من مشركي قريش، (في زمن النبوة): اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بددا، ولا تبقي منهم أحداً.
وهذا ثابت في «صحيح البخاري» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ?، فكان يقنت في في الركعة الأخيرة من الصلوات المكتوبة، يدعو للمؤمنين، ويلعن الكافرين.(1/33)
والدعاء على الكافرين، يزخر به القرآن، والله عز وجل قد أخبر أن عيسى قد لعن الكافرين، وأن داود قد لعن الكافرين، وأن موسى دعا عليهم، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[المائدة: 78-79]، (على لسان داود وعيسى بن مريم)، الله لعن الكفرة على لسان هؤلاء الأنبياء، وقال عن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}[يونس:88].
وعلل دعاءه بأنهم يضلون الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يضلون الناس، في غاية من التحركات في إفساد مجتمعات المسلمين، وفي غاية من الشدة على مبادئهم الهدامة، حتى والله إن في رحلتنا إلى بريطانيا دعوة للمسلمين هناك، وكان معنا في ذلك الحين بعض المترجمين، قلت: للقس: ما تريدون من هذا الصقر؟ صقر موجود في الكنيسة، قال: هذا نتفاءل فيه، على أن التبشير والتنصير يسير إلى الناس في سرعة هذا الصقر.
ويغني عن ذلك، قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، فهم ينفقون أموالهم جادين مسرعين، لإفساد المجتمعات وظلمهم، وإلحاقهم بهم، ومن ذلك فرض الديمقراطية التي هي كفر، يفرضونها على الشعوب المسلمة، وينفقون في نشرها المليارات.(1/34)
يقولون:جمعية الرفق بالحيوان، وهم يضربونها بصعقة حتى تموت، أين الرحمة بالحيوان؟ يقولون: جمعية حقوق الإنسان، وهم يقتلون الإنسان قتلاً ذريعاً، يقتلونهم شعوباً وجماعات، لا يرحمون أمرأة ولا صغيرًا، ولا يحترمون شيخًا كبيرًا، وحادثة أفغانستان، وحادثة العرق أكبر مثالٍ على ذلك.
هذا من الظلم أم ليس من الظلم والخيانة؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13].
الله سبحانه وتعالى لعنهم، بسبب خيانتهم، وبسبب فجورهم، وبسبب دعوتهم إلى الباطل، وبسبب كفرهم، وبسبب معاندتهم للحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، ورسول الله ? ثبت عنه في «الصحيحين»، أنه كان يدعو عليهم: يقول: »اللهم اجعل عليهم سنين كسنين يوسف»، ويقول: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى، «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ»، وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ? صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ«، متفق عليه.(1/35)
وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، أن النبي ? قال: »اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم«، إن الذي نزل عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، هو الذي كان يدعو عليهم بهذا الدعاء، والآية نزلت في أناس علم الله أنهم سيسلمون وأسلموا حقاً وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، حسُن إسلامه، حتى ترك بلده وسافر بعد ذلك للرباط في سبيل الله، وقد كان مشركاً وهو أخو أبي جهل بن هشام، وفي معركة بدر فر، وعيره حسان بن ثابت بقوله:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام
والطمّرة: الخيل، فأجاب بجواب حسن، قال:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وشممت ريح الموت من تلائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدد
فَعلمت أني لن أقاتل واحداً ... أقتل ولا ينكي عدوي مشهدِ
فررت منهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم في عقاب يوم مفسد
وبعد ذلك حسُن إسلامه، والله بكل شيء عليم، ورسول الله ? كان ينزل عليه الوحي، لما قال: »إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله« حقاً إن الله حقق رجاءه، وبعد ذلك أسلم حتى أهل مكة دخل النبي ? فاتحاً، وقال: »من دخل داره فهو آمن«، وأسلموا وسموا مسلمة الفتح، حقق الله رجاء النبي ?.(1/36)
هكذا نبي الله نوح، لما لم يستجب له قومه في حقبة من الزمن، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت:14]، دعاهم سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، كما وصف الله في سورة نوح، بعد ذلك دعا عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27].
فعلل نوح الدعاء عليهم بأنهم يضلون العباد، وهكذا هؤلاء يضلون العباد، والدعاء عليهم مشروع لهذا الدليل، وليس عندنا وحي أنهم سيؤمنون.
إن نبي الله نوح عليه السلام، لما أوحى الله إليه بقوله: {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}[هود:36]، لما تحقق أنهم لاجون في كفرهم دعا عليهم.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[البقرة:126]، مفهوم هذه الآية، أن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر، لن يدعو له نبي الله إبراهيم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} ولم ينكر الله سبحانه وتعالى على إبراهيم، وإنما أخبر إبراهيم أنه سيمتعهم.
فليس باعتداء في الدعاء أن يدعى على الكافرين، الظلمة، الذين ظلموا المسلمين، بسبب فتنتهم ودعوتهم وظلمهم وفجورهم، وبسبب كفرهم، كما دعا عليهم رسول الله ?، الذي أنزل عليه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55-56].
وهذا بعض أقوال أهل العلم في شرعية الدعاء على الكافرين، عند حديث »وحول حماها إلى الجحفة«.(1/37)
قال الخطابي رحمه الله وغيره: كان ساكني الجحفة في ذلك الوقت يهوداً، ففيه دليل للدعاءعلى الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك، وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة وطيب بلادهم، والبركة فيها وكشف الضر، والشدائد عنهم، وهذا مذهب العلماء كافة.
ونقله القاضي عياض، والقرطبي صاحب «المفهم»، والشوكاني في «نيل الأوطار»، في باب القنوت في النوازل، وهذا كلام ابن كثير عند قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}[البقرة: 161-162]، قال: هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل.
قلت: يعني اليهود والنصارى والملاحدة؛ منهم يسبون الله ، ويسبون رسوله، ويسبون دين الإسلام، ولا يحق لمسلم أن يحسن الظن، بواحدٍ منهم، أن يقول: هؤلاء لعلهم طيبين، لا يستحقون الدعاء، كلهم على شر.
وأنه لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره، فأما الكافر المعين، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يُلعن وهو قول الجمهور، (أما بعد موته إذا مات على الكفر فيلعن)، واقرأ «البداية والنهاية» فكم ترى لابن كثير من اللعن لمن مات على الكفر، ربما يقول: عليهم لعنة أجمعون، أبتعون أكتعون، ويقول: عليهم لعائن الله تترى، وعليهم لعائن الله المتتابعة، إلى آخره، الذين ماتوا على الكفر، أما لعن المعين، الذي هو حي لا من المسلمين، ولا من الكافرين، ما يجوز لعن المعين الحي على قول جمهور العلماء، إلا من أبان الله أنه سيموت على الكر؛ كالشيطان، وكأبي لهب، أخبر الله أنه {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].(1/38)
وأما اللعن بالوصف لم يستحق ذلك جائز، لُعن الكافرون في القرآن كما سمعت: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[لأعراف:44]، »ولعن الله شارب الخمر، وعاصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها والمحمولة إليه«، »ولعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده«. »ولعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» إلى آخر الأدلة في اللعن بالوصف، ولايجوز أن يقال لشارب الخمر المعين، لعنك الله، وذلك أنه أوتي برجل إلى النبي ? قد شرب الخمر فلعنوه، فأنكر عليهم النبي ?، و قال: »لا تعينوا على أخيكم الشيطان«، فالمسألة فيها تفصيل لأهل العلم كما ترى.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في «شرح مسلم» (2/659): تحت حديث أبي هريرة الدعاء على الكافرين: وفي دعاءه عليه السلام على من دعا عليهم في الحديث من الكفار، جواز لعن الكفرة، والدعاء عليهم، وتعيين من تعين منهم.
وأخرج مالك (1/115) بسند صحيح، عن الأعرج أنه قال: ما أدركت الناس إلا وهم يعلنون الكفرة في رمضان. اهـ.
قال ابن عبد البر: أدرك الأعرج جماعة من الصحابة وكبار التابعين، وهم يلعنون الكفرة في رمضان، في قنوت الوتر، اقتداء برسول الله ?.
وقال الزرقاني في تعليقه على »موطأ مالك«: وفيه إباحة لعن الكفرة، سواء كان لهم ذمة أم لا. اهـ.
وأخرج البخاري (697) ومسلم (676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ? قنت في الظهر والعشاء الآخرة، وصلاة الصبح يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار.
وجاء من حديث خفاف بن إيماء، قال: صليت خلف رسول الله ? فلما رفع رأسه من الركوع قال: »أسلم سلمها الله، وغفار غفر الله لها، اللهم العن لحيان وذكوان«.
فجعلت لعنة الكافرين من أجل ذلك.(1/39)
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (15/397): وإلا فقد دعا رسول الله ? على الكفار والمنافقين عند حديث: يا رسول الله، ادعو على المشركين، قال: »إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة«، وقال عند قوله: »اللهم العن لحيان«، وفيه جواز لعن الكفار جملة، أو الطائفة.
قال القرطبي رحمه الله: عند تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}[آل عمران: من الآية128]، (4/200): زعم بعض الكوفيين، أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان يفعله بعد الركوع، إلى أن قال: وليس هذا موضع نسخ وإنما نبه الله تعالى نبيه أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئًا، إلا ما اعلمه، وأن كله لله، يتوب على من يشاء، ويعجل العقوبة لمن يشاء... فلا نسخ. -أي هنا- انتهى.
وقد بوب البخاري في كتاب »المغازي« (باب دعاء النبي ? على كفار قريش)، وبوب في كتاب السير (باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة).
وهذه فتوى للشيخ ربيع حفظه الله قال السائل: كثر السؤال حول موقف السلفيين في هذه الأزمنة، هل يجوز الدعاء على الكافرين في هذه الظروف؟
قال الشيخ حفظه الله: نعم، يجوز الدعاء على الكافرين في هذه الظروف وفي غيرها، يدعى لهم بالهداية، لحديث أبي موسى: كان اليهود يتعاطسون عند النبي ? رجاء أن يقول له: يرحمكم الله، فيقول: »يهديكم الله«.
يدعو لهم بالهداية، ويدعى عليهم بالهلاك، فنسأل الله أن يكف بأس الكافرين، ولا سيما في هذه الظروف نرى الطغيان والبغي الذي تجاوز أقصى حدود البغي والظلم، نسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم. هذه فتوى الشيخ حفظه الله، نشرت على شبكة الانترنت.
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح فصل في الدعاء على الكفار، لمن أحب أن ينظره، والحمد لله رب العالمين.
الفهرس.
تمهيد ... 5
المقدمة ... 9
المسلم يعبد الله تعالى والكافر يعبد الطاغوت ... 9
الجنة أعدت للمؤمنين ولنار أعدت للكافرين ... 10
الكافر ميت، والمسلم حي ... 12(1/40)
المشركون أنجاس، والمسلمون أطهار ... 13
المؤمنون يطوفون بالبيت العتيق، وهم مأمورون بذلك، والكفار محرم عليهم ... 13
الكفار: أنجاس بالشرك والوثنية، والمؤمنون طاهرون بالتوحيد والإسلام لرب البرية ... 14
المشركون لا يصلون، والمسلمون واجبة عليهم ... 14
والمشركون لا يأتون الزكا، والمسلمون واجبة عليهم ... 14
شأن المنافقين حماية الكفار ... 15
لا قصاص بين المسلم والكافر ... 16
الفرق بينهم في الشهادة: ... 16
الفرق بين المسلم والكافر في قتل الخطأ ... 20
الفرق بين المسلم والكافر في العتق ... 21
الكفار لا وزن لهم عند الله ... 22
المسلم معصوم العرض والدم والمال والكافر لا حرمة لعرضه ... 23
لا يجوز النكاح بين مسلم وكافرة، ولا بين مسلمة وكافر ... 23
جواز زواج مسلم بكتابية محصنة، وتحريم زواج كتابي بمسلمة ... 24
الكافر محبوط العمل ... 24
الكفار خاسرون، والمؤمنون مستثنون من الخسارة ... 25
الكافر لا يبدأ بالسلام ولا يرد عليه إذا سلم كما يرد على المسلم ... 26
الفوارق بين المسلم والكافر في قول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... 27
لا يصح أن يوصي لفقراء الكفار، ويصح أن يوصي لفقرء المسلمين ... 27
لا خيانة أعظم من خيانة المسلمين في دينهم ... 28
العزة على الكافرين ... 29
الناس يستمعون لمن يقول، باسم العلم وباسم الدين ... 29
من أعظم الغش قول القرضاوي عن الكفار لهم مالنا، وعليهم ما علينا، وبيان مبدأ الإخوان في محاماتهم عن الكفار ... 30
من بوائق القرضاوي قوله: في انتخابات سرائيل لو نزل الله ما سيكون له هذا العدد ... 30
نقل قول القرضاوي: هم مواطنوان لهم مالنا... والرد عليه ... 31
سبب نزول قول الله تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} ... 32
ظلم الكفار للمسلمين ... 32
بعض دعاء النبي ? على الكفار ... 36
دعاء نبي الله نوح عليه السلام على الكفار ... 37
دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ... 37
أقوال لأهل العلم عند حديث »وحول حماها إلى الجحفة« ... 38(1/41)