شرح الورقات
في أصول الفقه
بقلم
عبد الله بن صالح الفوزان
المدرس بجامعة الإمام محمد بن سعودا لإسلامية
فرع القصيم
تقديم
أحمد بن عبد الله بن حميد
عضو هيئة التدريس
بكلية الشريعة الدراسات الإسلامية
بجامعة أم القرى
الطبعة الثالثة
بها زيادات كثيرة
(
تقد يم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن علم أصول الفقه مما عني به المتقدمون والمتأخرون وهو المنهج الشرعي للتعرف على حكم الله فيما يجد ويحدث من قضايا ونوازل، ونحن ولله الحمد نعيش صحوة ما كنا نعهدها في سنوات خلت، إقبال على طلب العلم الشرعي، ثني للركب في حلقات المشايخ، حفظ لكتاب الله، استيعاب لسنة رسول الله ( فهم لأصول الاستنباط ، إحاطة بما يقيم اللسان ، استغلال أمثل للأوقات، والأمثلة من هؤلاء النجباء كثيرة والشواهد حية (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32 ) ((1).
إن غاية إرسال الرسل وإنزال الكتب هي عبادة الله وحده لا شريك له وفق المنهج الذي شرعه سبحانه، ومن هنا كانت معرفة حكم الله في المسألة هي ثمرة العلوم الشرعية على مختلف فنونها، غير أن معرفة حكم الله في المسألة لم تكن ضربة هوى ولا رمية حظ، وما كان سبيلها الانتقاء والتخرص، بل كان وفق معايير وأسس صاغها علماء الإسلام، واستمدوها من كتاب الله وسنة رسول الله ( لغة العرب التي نزل بها القرآن وبها جاءت السنة.(1/1)
وكان واضع أسس هذا العلم، وناهر مائه الإمام اللغوي المحدث الفقيه محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ) رحمه الله، ثم تتابع العلماء بعده كل يدلي بدلوه في هذا الفن، فبوبوا الأبواب ورتبوا الفصول وهذبوا المسائل وضبطوا التعاريف ومن هؤلاء الأعلام الإمام الجليل أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني (ت 478هـ) رحمه الله(2) فألف في أصول الفقه "متن الورقات" وهو رسالة مختصرة تعتبر بداية لمن يطلب العلم، وقد اهتم به العلماء كثيراً، فله شروح وحواشٍ ومنظومات، وكلما كثرت الشروح الحواشي على كتاب علمنا مقداره وأهمته.
والمتأمل في مؤلفات الأصول يلاحظ أمرين جديرين بالاهتمام:
الأمر الأول:
أن علم الأصول اختلط بمنهج المتكلمين وآرائهم، بل لحقه شيء من منطق اليونان، وهذا واضح في كتاب البرهان لأبي المعالي الجويني، والمتستصفى لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ) وبعض من جاء من بعدهم . والغزالي بعد أن أدرك بنفسه وقوعه في هذا المنهج - خلط علم الأصول بالكلام - اعتذر بأن الفطام عن المألوف شديد(3).
وهكذا سار علم الأصول مثقلاً بآراء المتكلمين وطرقهم مما أثر في سيره فلم يؤد دوره المرجو منه.
ومما يجدر ذكره أن التنبيه على خطأ هذا المسلك - إدخال علم الكلام في الأصول - وتنقيه مما علق به قام به عدد من علماء الأمة قديماً وحديثاً، وكان منهم الإمام الجليل أبو حامد الإسفرايني (406هـ)(4)، والإمام النظار أبو إسحاق الشيرازي (ت 476هـ)(5)، وجاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وأبو إسحاق الشاطبي ومحمد الأمين الشنقيطي، وغيرهم من الأئمة رحم الله الجميع.
الأمر الثاني:(1/2)
…أن مؤلفات علم الأصول اهتمت بالجانب النظري دون التطبيقي - في الغالب - بمعنى أنهم يهتمون بتقرير القاعدة الأصولية ودفع الاعتراضات الواردة عليها دون الاهتمام بالأمثلة التي توضح القاعدة وتبين كيفية استخدامها بحيث ترتبط القاعدة الأصولية بنصوص الشارع ارتباطاً قوياً.
ونصيحتي لمن يطلب علم الأصول أن يعود نفسه على تطبيق ما فهمه من القواعد الأصولية على ما يمر به من الآيات والأحاديث، فيتأمل ما فيها من عموم وخصوص، ومنطوق ومفهوم، ونص وظاهر، ونص على العلة أو إيماء إليها، وغير ذلك، ذلك أن أي آية أو حديث لا يكاد يخلو من تعلق ببعض القواعد الأصولية.
أما الكتاب الذي بين يديك فهو شرح لورقات أبي المعالي الجويني - رحمه الله - وهو شرح يستحق الوصف بالكلمة المشهورة "ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل" جمع بين جزالة اللفظ وسهولة العبارة، ودقة الأصوليين، أبرز فيه أقوال أئمة السلف كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ومما يتميز به هذا الشرح اشتماله على عدد من الأمثلة التي تقرب المعنى من الكتاب والسنة الصحيحة قد لا تجدها في كتب الأصول، وكان موفقاً في ترجيحاته أجزل الله له الأجر والثواب.(1/3)
أما المؤلف الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان فقد زاملته في كلية الشريعة بالرياض، وتوثقت صلتي به فهو من أقرب الناس إليَّ، عرفته وعرفه زملاؤه بالحرص على طلب العلم وقوة الفهم، ولا عجب أن كان مرجع كثير من زملائه فيما يشكل عليهم، وكم كنت أراه في أروقة الكلية آنذاك مع عدد من الزملاء يستوضحون منه ما أشكل عليهم من مسائل علمية. وبعد تخرجه من الكلية فضل التدريس في المعهد العلمي، اعتذر عن البقاء في الكلية معيداً فيها، وقد نفع الله به في معهد بريدة العلمي نفعاً كبيراً فكان مرجع مدرسي المعهد في القضايا العلمية، وتخرج على يديه عدد كبير من الطلاب، وله في نفوسهم منزلة كبيرة، فقد رزقه الله أسلوباً حسناً في التدريس ومحبة لدى طلابه، ثم انتقل أخيراً للتدريس في كلية الشريعة واللغة العربية في القصيم، وكان له دروس مستمرة في المسجد في فنون متنوعة يحضرها عدد من طلبة العلم.
اسأل الله أن يجزي مؤلفة خير الجزاء، وأن يبارك في علمه وجهوده، وأن ينفع به الإسلام وأهله كما أسأله أن يعلي كلمته، وأن يعز جنده، وأن يرد المسلمين إلى دينه ردّاً جميلاً، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
أحمد بن عبد بن حميد
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى
15/12/1412هـ
…(
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين. وأصلي وأسلم على خاتم المسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه الطبعة الثانية لكتابنا "شرح الورقات" تقوم [دار المسلم] بإعادة طبعه، لنفاد الطبعة الأولى وطلب كثير من أصحاب المكتبات. وقد حظي الكتاب - بفضل الله تعالى - بثناء من يعتبر ثناؤهم وإقبال كثير من الطلاب عليه. وما كنت أتوقع شيئاً من ذلك.
وقد أعدت النظر في الكتاب إما لزياد بعض الفوائد التي عرضت لي بعد طبعه، وإما لتصحيح ما وقع من أخطاء في الطبعة الأولى.(1/4)
وأسأل الله أن يوفق الجميع لعلم نافع وعمل صالح، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المؤلف
في 2/2/1414هـ
…(
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله رب العالمين. وأصلي وأسلم على خاتم المسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه الطبعة الثالثة لكتابنا "شرح الورقات" تقوم [دار المسلم] بإعادة طبعه، لنفاد الطبعة الثانية، وقد بذلنا في هذه الطبعة جهداً ووقتاً يظهر فيما يلي:
1) مقابلة نص الورقات على عدد من المخطوطات التي حصلنا عليها.
2) زيادات مهمة في كثير من الأبواب.
3) صياغة كثير من الموضوعات صياغة جديدة. مصدر بكلمة: قوله: (كذا . . . .) ثم تأتي عبارة الشرح.
4) وضع المراجع المهمة في الهامش ليتصل الكلام وقد كانت موجود في صلب الشرح.
5) ذكر قائمة المراجع التي سقطت من الطبعة السابقة.
6) تصحيح الأخطاء التي وقعت في الطبعة الثانية مع أنها قليلة والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
مساء الأحد
في 3/12/1416هـ
…(
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. .
أما بعد:
فهذا شرح وجيز على ورقات إمام الحرمين في أصول الفقه، راعيت فيه سهولة الأسلوب، وإيضاح العبارة بإيراد الأمثلة.
وأصل هذا الشرح دروس ألقيتها على بعض الطلبة في المسجد، فرغب إليًّ عدد من الأخوة أن أقوم بطباعتها، فاعتذرت لهم بكثرة شروح الورقات وحواشيها، ولكنهم ألحوا عليّ مبدين بعض المزايا، فاستعنت بالله تعالى في تلبية هذا الطلب.(1/5)
وأصول الفقه علم جليل القدر غزير الفائدة، يتمكن متعلمه من القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص على أسس سليمة وقواعد صحيحة، وعلم الفقه قائم على الأصول، ولا يمكن للفقيه، وكذا المحدث والمفسر.
والعالم بالأصول يشعر بالثقة والاطمئنان لما دونه فقهاء الإسلام، وأن ذلك مبني على قواعد وأسس سليمة.
وأول من ألف في أصول الفقه وجمعه كفن مستقل الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله المولود سنة 150هـ، والمتوفى سنة 204هـ، ذكره الإسنوي في التمهيد ص45 وحكى الإجماع فيه، ثم تتابع العلماء بالتأليف ما بين مختصر ومطول، ومنثور ومنظوم، حتى صار فنّاً مستقلاً رتبت أبوابه وحررت مسائله وصار كالتوحيد والفقه والحديث.
ومؤلف هذه الورقات هو شيخ الشافعية أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، نسبة إلى (جوين) من نواحي نيسابور. ولد سنة 419هـ وتفقه على والده في صباه، ورحل إلى بغداد ثم إلى مكة وجاور بها أربع سنين، وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس فلقب بإمام الحرمين، ثم عاد إلى نيسابور فبنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية فدرس فيها وكان يحضر دروسه أكابر العلماء.
وكان أبو المعالي في بداية أمره على مذهب أهل الكلام في باب الأسماء والصفات من المعتزلة والأشاعرة، وكان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم المعتزلي، قليل المعرفة بالآثار فأثر فيه مجموع الأمرين، لكنه رجع عن ذلك إلى مذهب السلف كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(6).
وقد ورد عن أبي المعالي نفسه ما يدل على رجوعه حيث صرح بعقيدته في باب الأسماء والصفات وقال في رسالته النظامية (والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة . .)(7).
مات أبو المعالي سنة 478هـ بنيسابور رحمه الله، وله عدة مؤلفات في أصول الدين والفقه والخلاف وأصول الفقه.(1/6)
وكتبه
عبد الله بن صالح الفوزان
مبادئ علم أصول الفقه
لما كان (أصول الفقه) فناً مستقلاً ناسب ذكر مبادئه العشرة التي ينبغي لقاصد كل فن أن يعرفها. لتصور ذلك الفن قبل الشروع فيه.
وقد جمعها بعضهم بقوله:
إن مبادئ كل علم عشرة ……الحدّ والموضوع ثم الثمرة
ونسبة فضله والواضع……والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى……ومن درى الجميع حاز الشرفا
زاد بعضهم: المبدأ الحادي عشر، وهو: شرفه(8).
وعليه فهذه مبادئ (علم أصول الفقه):
1) فحده: علم يبحث في أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها. وحال المستفيد. وسيأتي شرح هذا التعريف إن شاء الله.
2) وموضوعه: الأدلة الموصلة إلى معرفة الأحكام الشرعية وأقسامها. واختلاف مراتبها. وكيفية الاستدلا بها، مع معرفة حال المستدل.
3) وثمرته وفائدته، منها:
أ ) القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن المقصود من أصول الفقه أن يفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة)(9).
ب ) معرفة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان. وأنها قادرة على إيجاد الأحكام لما يستجد من حوادث على مر العصور.
ج ) العالم بالأصول يشعر بالثقة والاطمئنان لما دونه فقهاء الإسلام. وأنه مبني على قواعد ثابتة مقررة شرعاً، ممحصة بحثاً.
د) …ليست الفائدة من علم أصول الفقه قاصرة على الفقه فقط. بل تتعداه إلى غيره من العلوم من التفسير والحديث والتاريخ وغيرها(10).
4) ونسبته إلى غيره: أي مرتبته من العلوم الأخرى. أنه من العلوم الشرعية. وهو للفقه. كأصول النحو للنحو. وعلوم الحديث للحديث.
5) وفضله: ما ورد في الحث على التفقه في دين الله تعالى ومعرفة أحكام شرعه. وهذا متوقف على أصول الفقه. فيثبت له ما ثبت للفقه من الفضل. إذ هو وسيلة إليه.
6) واضعه: هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله. وذلك بتأليف كتاب (الرسالة) وقد ذكرت ذلك في المقدمة.(1/7)
7) اسمه: علم أصول الفقه.
8) استمداده. من ثلاثة أشياء:
أ ) علم التوحيد: وذلك لتوقف الأحكام الشرعية على معرفة الله تعالى. وصدق رسوله ( فيما جاء به من الأحكام، لأنه المبلغ عن الله.
ب ) علم اللغة العربية: فلابد أن يعرف الأصولي قدراً صالحاً من اللغة يتمكن به من معرفة الكتاب والسنة. لأنهما بلسان عربي.
ج)…الأحكام الشرعية: فلابد أن يعرف قدراً صالحاً من الفقه يتمكن من إيضاح المسائل. وضرب الأمثل.
9) حكمه: فرض كفاية. وذكر في (المسوّدة) أنه فرض عين على من أن أراد الاجتهاد والحكم والفتوى(11).
10) مسائلة: مباحثه التي يلتزمها المجتهد. ويستفيد منها ويستنبط الأحكام الشرعية على ضوئها.
11) شرفه: هو علم شريف لشرف موضوعه، وهو العلم بأحكامه الله تعالى المتضمنة للفوز بسعادة الدارين.
…(
مقدمة الورقات(12)
…(هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه وذلك مؤلف من جزءين مفردين أحدهما: الأصول. والثاني: الفقه).
…قوله: (هذه ورقات) الورقات جمع ورقة وهو جمع مؤنث سالم من جموع القلة(13) عند سيبويه(14)، وقد يأتي للكثرة. وعبر بذلك لقصد التسهيل على المبتدئ، ليشط على قراءتها والإلمام بما فيها.
وقوله: "تشتمل على معرفة فصول" أي على معرفة أنواع من المسائل كل نوع منها يسمى (فصلاً) لانفصاله عن غيره.
والفصول: جمع فصل وهو قطعة من الباب مستقلة بنفسها منفصلة عما سواها، تشتمل على مسائل غالباً، والباب أعم من الفصل لأنه اسم الملة مختصة من العلم، تشتمل على فصول ومسائل غالباً، والكتاب أعم لأنه اسم لجملة مختصة من العلم تشتمل على أبواب وفصول ومسائل غالباً.
وإنما يفعل المصنفون ذلك لتنشيط النفس وبعثها على التحصيل والاستمرار في الطلب بما يحصل لها من السرور بالختم والابتداء، كالمسافر إذا قطع مرحلة من سفره شرع في أخرى.
قوله: (من أصول الفقه) أي من هذا الفن المسمى بأصول الفقه.(1/8)
قوله: (وذلك مؤلف من جزءين . . . إلخ) الإشارة إلى أصول الفقه فهو مؤلف من جزءين. من مضاف وهو كلمة (أصول) ومضاف إليه وهو كلمة: (الفقه) فهو من المركب الإضافي، ولهذا لابد له من تعريفين:
الأول: باعتبار مفردية. أي كلمة (أصول) وكلمة (الفقه)، لأن المركب لا تمكن معرفته إلا بعد معرفة ما تركب منه.
الثاني: باعتباره علماً على هذا الفن المعين.
وقوله: (مفردين) المراد بالإفراد هنا ما يقابل التركيب لا ما يقابل التثنية والجمع، لأن أحد الجزءين وهو لفظ (أصول) جمع، فدل على أن المفرد ما ليس بمركب.
وإنما قال: (مفردين) ليبين أن التأليف قد يكون من جزءين مفردين كما هنا. وقد يكون من جملتين نحو: إن قدم الضيف أكرمته. فإن الفعل والفاعل (قدم الضيف) جملة و(أكرمته) جملة أخرى. والله أعلم.
تعريف أصول الفقه باعتبار مفردية
(فالأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبني على غيره. والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد).
…هذا التعريف الأول لأصول الفقه وهو تعريفه باعتبار مفردية، فالأصول جمع أصل والأصل لغة: ما يبني عليه غيره، كأصل الجدار وهو أساسه المستتر في الأرض المبني عليه الجدار. وأصل الشجرة وهو طرفها الثابت في الأرض. قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)((15) وهذا أحسن ما قيل في تعريف الأصل.
وأما في الاصطلاح فيطلق على معان منها:
1) الدليل: كقولنا: أصل وجوب الصوم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام((16) أي دليله.
…ومنه أصول الفقه: أي أدلته.
2) القاعدة المستمرة: كقولنا: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل.
3) المقيس عليه: وهذا في باب القياس حيث إن الأصل أحد أركان القياس.
…وأما الفرع: فهو ما يبنى على غيره، مثل فروع الشجرة فهي مبنية على أصلها، وفروع الفقه مبنية على أصوله.(1/9)
وإنما عرف الفرع - مع أنه ليس أحد الجزءين - لأنه مقابل لأحدهما وهو الأصل، والشيء يتضح غاية الاتضاح إذا ذكر مقابله. أو يقال: قصد المؤلف التنبيه على أن الفقه مبني على أصوله، وأن الجزء الأول وهو أصول مبني عليه، والجزء الثاني وهو الفقه مبني، فليس ذكر الفرع استطرادا كما قال بعضهم.
…وأما الجزء الثاني من المركب فهو (الفقه) والفقه لغة: الفهم أي فهم غرض المتكلم من كلامه. قال الجوهري: الفقه: الفهم. تقول: فقه الرجل الكسر، وفلان لا يفقه ولا ينقه(17)، ثم خص به علم الشريعة. والعالم به فقيه. وقد فقه بالضم فقاهة وفقهه الله وتفقه إذا تعاطى ذلك. أ هـ.
…والفقه اصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد.
شرح التعريف:
قوله: معرفة: المعرفة تشمل اليقين - وهو ما أدرك على حقيقته كمعرفة أن الصلوات خمس، وأن الزنا محرم، والظن وهو ما أدرك على وجه راجح كما في كثير من مسائل الفقه(18). مثل معرفة أن الوتر سنة على مذهب الجمهور. وأن الزكاة غير واجبة في الحلي المباح على أحد الأقوال. والمراد بالمعرفة هنا الظن؛ لقوله: (التي طريقها الاجتهاد). فهو صفة للمعرفة، لا للأحكام الشرعية إذ لو كان صفة للأحكام لدخل في التعريف معرفة المقلد، فإذا جعلناه صفة للمعرفة خرج المقلد إذ يصير التعريف:
الفقه: هو المعرفة التي طريقها الاجتهاد. والمقلد ليست معرفته عن طريق الاجتهاد بل عن طريق التقليد، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الورقات.
وقوله: (الأحكام الشرعية) أي المأخوذة من الشرع المبعوث به النبي (. كالوجوب والاستحباب والحرمة وغيرها.
وقيد (الشرعية) خرج به الأحكام العقلية، كمعرفة أن الواحد نصف الاثنين، والأحكام الحسية كمعرفة أن النار حارة، والعادية كنزول المطر بعد الرعد والبرق.(1/10)
وقوله: (التي طريقها الاجتهاد) تقدم أنه صفة للمعرفة. والمعنى: التي طريق ثبوتها وظهورها الاجتهاد الذي هو بذل الجهد لإدراك حكم شرعي مثل: النية واجبة في الوضوء والفاتحة واجبة في الصلاة السرية والجهرية على أحد الأقوال، وغير ذلك من مسائل الخلاف. وأما ما طريقة القطع مثل الصلاة الواجبة والزنا محرم وغير ذلك من المسائل المصنف، لأن معرفة ذلك يشترك فيها الخاص والعام. فالفقه بهذا التعريف لا يتناول إلا فقه المجتهد.
هذا هو تعريف أصول الفقه باعتبار مفردية. وأما التعريف الثاني وهو تعريفه باعتباره علماً على هذا الفن المعين فسيذكره المصنف بعد الكلام على الأحكام الشرعية. والله أعلم.
الأحكام الشرعية
(والأحكام سبعة: الواجب، والمندوب، والمباح، والمحظور، والمكروه، والصحيح، والباطل).
المراد بالأحكام: الأحكام الشرعية التي تقدم ذكرها في تعريف الفقه، والأحكام جمع حكم. وهو لغة: المنع. ومنه قيل: للقضاء حكم، لأنه يمنع من غير المقضى. والحكم: القضاء. قال ابن الأثير: (الحكم: العلم الفقه والقضاء بالعدل) أ هـ. وعلى المعنى الأول جاء قول جرير:
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم…… إني أخاف عليكمو أن أغضبا
ويظهر من هذا المعنى اللغوي أننا إذا قلنا: حكم الله في هذه المسألة الوجوب فمعناه أنه قضى فيها بالوجوب ومنع المكلف من مخالفته.
والحكم اصطلاحاً: ما دل(19) عليه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع.
ومثاله قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة( فهذا خطاب من الشرع دل على وجوب إقامة الصلاة، وهذا الوجوب هو الحكم.
والمراد بخطاب الشرع: الكتاب والسنة.
وقولنا: بأفعال المكلفين: المراد به: جميع أعمال الجوارح وإن كانت الأفعال تقابل بالأقوال في الإطلاق العرفي، وهذا يخرج ما تعلق بذواتهم فليس مقصوداً كقوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم((20)، وخرج به ما تعلق بالاعتقاد فليس حكماً بها الاصطلاح. والمكلفون: يشم نوعين:(1/11)
1) المكلف الآن. ويراد به كل بالغ عاقل.
2) ليس مكلفاً الآن ولكنه منطبقة المكلفين، وهذا يراد به الصغير والمجنون، فكل منهما من طبقة المكلفين، ولكن وجد مانع من التكليف وهو الصغر وفقدان العقل، فإذا زالا جرى عليه التكليف.
والتكليف لغة: إلزام ما فيه كلفة أي مشقة. واصطلاحاً طلب ما فيه مشقة.
وقولنا: من طلب: الطلب نوعان:
1) طلب فعل وهو الأمر، إن كان على سبيل الإلزام فواجب وإلا فمندوب.
2) طلب ترك وهو النهي، إن كان على سبيل الإلزام فمحرم وإلا فمكروه.
وقولنا: أو تخيير: يراد به المباح.
وقولنا: أو وضع: يراد به الحكم الوضعي. وذلك أن الأحكام نوعان:
1) أحكام تكليفية: وهي ما دل عليه خطاب الشرع من طلب فعل أو ترك أو تخيير، وهي خمسة: الواجب، والمندوب والمحظور، والمكروه، والمباح، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان وجه إدخال المباح مع الأحكام التكليفية مع أنه لا تكليف فيه.
2) أحكام وضعية: وهي ما دل عليه خطاب الشرع من أسباب وشروط وموانع. تعرف عند وجودها أحكام الشرع من فعل أو ترك. ويترتب على ذلك الصحة والفساد. فرؤية الهلال سبب وجوب الصيام. والوضوء شرط للصلاة. والحيض مانع منها، وذكر المصنف من الأحكام الوضعية: الصحيح والباطل.
وأعلم أن ظاهر كلام المصنف أن الفقه هو العلم بهذه السبعة، لأنه لما عرف الفقه بأنه معرفة الأحكام الشرعية قال: والأحكام سبعة. وأظهر في مقام الإضمار توضيحاً للمبتدئ، لكن يعلم أن الفقه ليس معرفة حقيقة الواجب والمندوب . . إلخ، لأن هذا من أصول الفقه؛ وإنما المقصود أن الفقه معرفة جزئياتها. والمراد الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والأفعال الصحيحة والفاسدة والله أعلم.
أقسام الحكم التكليفي
1) الواجب
(فالواجب: ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه)(1/12)
…هذا القسم الأول من أقسام الحكم التكليفي وهو الواجب. وهو لغة: الساقط واللازم، لأن الساقط يلزم مكانه، فسمي اللازم الذي لإخلاص منه واجباً. قال في القاموس: وجب يجب وجبة سقط. والشمس وجباً ووجوباً: غابت. والوجبة السقطة مع الهدة أو صوت الساقط أ هـ. قال تعالى: (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها((21). أي سقطت قال الشاعر:
أطاعت بنو عوف أميراً نهاهمو……عنا لسلم حتى كان أول واجب
وأما الواجب اصطلاحاً: فاكثر الأصوليين يعرفه بالحد أي ببيان الحقيقة والماهية. وبعضهم يعرفه بالرسم وهو تعريفه ببيان الثمرة والحكم والأثر(22). والأول أدق لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولهذا قال في شرح التحرير: (إن حده بحكمه يأباه المحققون) واستحسن هذا القول الفتوحي في شرحه على الكوكب المنير(23) وقد جرى المصنف على الثاني فذكر الوصف الذي اشتركت فيه جميع الواجبات، وهو الثواب على الفعل والعقاب على الترك.
وأما على الأول فالواجب: ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً كالصلاة والزكاة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالوعد والصدق.
وخرج بالقيد الأول المحرم والمكروه والمباح، وبالقيد الثاني المندوب.
وحكم الواجب فعلاً وتركاً ما ذكره المصنف من أن فاعله يثاب وتاركه يعاقب، وهذا يحتاج إلى أمرين:
الأول: قيد الامتثال للثواب أي يثاب على فعله امتثالاً(24).(1/13)
الثاني: لو عبر بقوله: (ويستحق تاركه العقاب) بدل (ويعاقب) لكان أحسن لأن من الواجبات مالا يلزم من تركه العقاب، بل هو تحت المشيئة مثل بر الوالدين، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء((25)، وقد أجاب بعض شراح الورقات عن استقامة العبارة بجوابين. فقد قال جلال الدين المحلي: (ويكفي في صدق العقاب وجوده لواحد من العصاة مع العفو عن غيره، ويجوز أن يريد: ويترتب العقاب على تركه. كما عبر به غيره فلا ينافي العفو)(26) أ هـ. والجواب الثاني أحسن لأن ترتب العقاب لا يلزم فيه حصول العقاب والله أعلم.
وللجواب تقسيمات أهمها ثلاثة:
التقسيم الأول: باعتبار الفعل. وهو نوعان:
1) معين، وهو الأكثر. وهو الواجب الذي لا يقوم غيره مقامه كالصلاة والصوم ونحوهما.
2) مبهم. في أقسام محصورة يجزي فعل واحد منها كخصال الكفارة من عتق أو إطعام أو صوم.
التقسيم الثاني: باعتبار الوقت. وهو نوعان:
1) واجب مضيق. وهو ما تعين له وقت لا يزيد على فعله كصوم رمضان.
2) واجب موسع. وهو ما كن وقته المعين يزيد على فعله كالصلاة.
التقسيم الثالث: باعتبار الفاعل. وهو نوعان:
1) واجب عيني: وهو مالا تدخله النيابة مع القدرة وعدم الحاجة كالصلوات الخمس، فما دامت القدرة موجودة وجب على المكلف أن يفعل بنفسه أما مع عدم القدرة ففي المسألة تفصيل حسب نوعية العبادة. .
2) واجب كفائي: وهو ما يسقطه فعل البعض ولو مع القدرة وعدم الحاجة كالصلاة على الميت ودفنه فالواجب الكفائي يتحتم أداؤه على جماعة المكلفين، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين(27). والله أعلم.
2-3 المندوب والمباح
(والمندوب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. والمباح مالا يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه).
القسم الثاني: المندوب. وهو لغة: اسم مفعول من الندب وهو الدعاء إلى الفعل، وقيده بعضهم بالدعاء إلى أمر مهم، قال الشاعر:(1/14)
لا يسألون أخاهم حين يندبهم……في النائبات على ما قال برهانا
واصطلاحاً: ما طلب الشارع فعله طلباً غير جازم كالسواك والرواتب والتطيب يوم الجمعة.
والقيد الأول لإخراج المحرم والمكروه والمباح. والقيد الثاني لإخراج الواجب.
والمندوب كما قال المصنف يثاب المكلف على فعله وذلك بقصد الامتثال، ولا يعاقب على تركه.
والمندوب خادم للواجب فهو دافع قوي على الالتزام بالواجبات إضافة إلى أنه يجبر النقص فيها كما دلت السنة على ذلك(28) يقول الشاطبي رحمه الله (المندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم وجدته خادماً للواجب، لأنه إما مقدمة له أو تذكار به كان من جنسه الواجب أو لا. فالذي من جنسه الواجب كنوافل الصلوات مع فرائضها، والذي من غير جنسه كالسواك وتعجيل الإفطار وتأخير السحور . .)(29)، ومعنى كلامه - رحمه الله - أن من حافظ على المندوبات حافظ على الواجبات ومن قصر في المندوبات فهو عرضة لأن يقصر في الواجبات .
وجمهور الأصوليين على أن المندوب مأمور به حقيقة كما تقدم في التعريف، لأن المندوب طاعة، والطاعة تكون بامتثال أمر الله تعالى، فكان المندوب مأموراً به حقيقة. قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان((30) وهذا أمر عام يشمل الواجب والمندوب، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الأمر انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر استحباب والله أعلم.
ويسمى المندوب: سنة ومستحباً وتطوعاً ونفلاً. وهذا على رأي الجمهور خلافاً للأحناف الذين جعلوا المندوب مرادفاً للنفل ولا كراهة عندهم في تركه، وفرقوا بين السنة والنفل، فجعلوها أعلى منه رتبة. فإن كانت مؤكدة فتركها مكروه تحريماً، وإن كانت غير مؤكدة فتنزيها(31).
والقسم الثالث: المباح
…وهو لغة: المعلن والمأذون فيه. يقال: باح فلان بسره: أظهره، وأباح الرجل ماله: أذن في الأخذ والترك. واستباح الناس العشب: أقدموا على رعيه.(1/15)
…واصطلاحاً: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالاغتسال للتبرد، والمباشرة ليالي الصيام، وخرج بالقيد الأول وهو ( ما لا يتعلق به أمر) الواجب والمندوب لأنه مأمور بهما.
…وخرج بالقيد الثاني وهو (ولا نهي) المحرم والمكروه لأنه منهي عنهما.
…وخرج بالقيد الثالث وهو (لذاته) ما إذا كان المباح وسيلة لمأمور به، فإنه يتعلق به أمر لكن لا لذات المباح، بل لكونه صار وسيلة، أو كان المباح وسيلة لمنهي عنه فإنه يتعلق به نهي، لكن لا لذاته وإنما لكونه صار وسيلة. ومثال الأول: الأكل فهو مباح في الأصل لكن لو توقف عليه بقاء الحياة صار مأموراً به لما تقدم. ومثال الثاني: أكل الفاكهة - مثلاً - فهو مباح لكن لو أدى تفويق صلاة الجماعة في المسجد صار منهياً عنه كما تقدم.
ومن تعريف المباح يتضح أنه ليس مأموراً به، لأن الأمر يستلزم إيجاب الفعل أو ترجيحه، ولا ترجيح للفعل على الترك في المباح، بل هما سواء.
وأما حكم المباح فهو كما ذكر المصنف لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه، وهذا مذهب جمهور الأصوليين، والمراد بذلك المباح الباقي على وصف الإباحة، أما المباح الذي يكون وسيلة لمأمور به أو منهي عنه فهذا حكمه حكم ما كان وسيلة إليه كما ذكرنا.
وثبت الإباحة بصيغ كثيرة وردت في النصوص الشرعية ومنها:
1) نفي الإثم والجناح والحرج(32) كقوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم((33) وقوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج((34)، وقوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه((35).
2) النص على الحل كقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم((36).
3) عدم النص على التحريم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم)(37).(1/16)
4) الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من الأفعال كقوله تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين((38).
5) القرائن التي تصرف الأمر من والوجوب إلى الإباحة كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا((39) ويأتي هذا في باب الأمر إن شاء الله.
ويطلق على المباح لفظ الحلال والجائز.
فإن قيل: ما وجه إدخال المباح في الأحكام التكليفية مع أنه لا كلفة فيه؟
فالجواب: ما قاله جمهور الأصوليين من أن إدخال المباح في الأحكام التكليفية إنما هو على سبيل التغليب. وهذا استعمال مألوف معروف في اللغة العربية وأساليبها مثل: (الأسودان) للتمر والماء. و(الأبوان) للأم والأب(40) والله أعلم.
4-5 المحظور والمكروه
(والمحظور ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله. والمكروه: ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله).
الرابع من أقسام الحكم التكليفي: المحظور.
وهو لغة: اسم مفعول من الحظر بمعنى المنع يقال حظرت الشيء إذا حرمته، وهو راجع إلى المنع ومنه قوله تعالى: (وما كان عطاء ربك محظوراً((41).
واصطلاحاً: ما طلب الشرع تركه طلباً جازماً من الأفعال كعقوق الوالدين وإسبال الثياب، أو الأقوال كالغيبة والنميمة، أو أعمال القلوب كالحقد والحسد.
والقيد الأول: لإخراج الواجب والمندوب والمباح.
والقيد الثاني: لإخراج المكروه.
والحرام ضد الحلال. يقال: هذا حلال وهذا حرام، كما قال تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب((42). وأما قول الأصوليين (الحرام ضد الواجب) فإنما هو باعتبار تقسيم أحكام التكليف فيعرّف الحرام بضد تعريف الواجب كما ذكرنا.(1/17)
وحكم المحرم ما ذكره المؤلف من أنه يثاب على تركه لكن بقصد الامتثال، وذلك بان يكف نفسه عن المحرم امتثالاً لنهي الشرع قاصداً بذلك وجه الله تعالى، فلو تركه لنحو خوف من مخلوق أو حياء أو رياء أو عجز، سَلِمَ من الإثم لأنه لم يرتكب حراماً، ولكن لا أجر له، لأنه لم يقصد وجه الله بالترك للحرام(43).
وأما فاعل المحرم بلا عذر فهو مستحق للعقاب ولا يلزم تحققه فهو تحت المشيئة، وتقدم الكلام على ذلك في الواجب.
ويسمى المحرم محظوراً كما عبر به المصنف.
قوله: (والمكروه ما يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله) هذا الخامس من الأحكام التكليفية وهو (المكروه) وهو لغة اسم مفعول مشتق من الكراهة وهو البغض فالمكروه بمعنى المبغض بوزن اسم المفعول.
واصطلاحاً: ما طلب الشرع تركه طلباً غير جازم كالالتفات في الصلاة بالرقبة والأخذ والإعطاء بالشمال.
والقيد الأول لإخراج ما تقدم في المحظور. والقيد الثاني لإخراج المحظور.
والمكروه يثاب تاركه امتثالاً ولا يعاقب فاعله.
واعلم أن للمكروه ثلاثة اصطلاحاً عند العلماء:
الأول: ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو ما تقدم تعريفه لأن الأحكام أربعة، وكل واحد قد خص باسم غلب عليه، فينبغي أن المكروه إذا أطلق ينصرف إلى مسماه دون غيره مما قد يستعمل فيه.
الثاني: الحرام. وهو غالب إطلاقات المتقدمين كالإمام أحمد والشافعي رحمهما الله حيث يعبرون عن الحرام بلفظ الكراهة تورعاً وحذراً من الوقوع في النهي عن القول هذا حلال وهذا حرام، لقوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب((44) ولكن كثيراً من المتأخرين غلطوا على أئمتهم ففسروا لفظ الكراهة في كلامهم بكراهة التنزيه وهذا لم ترده الأئمة، ومن كلام الإمام أحمد رحمه الله: (أكره المتعة والصلاة في المقابر) وهما محرمان، وفي مختصر الخرقي: (ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة).(1/18)
قال ابن قدامة: (أراد بالكراهة التحريم، ولا أعلم فيه خلافاً) أ هـ(45). وذلك لقيام الدليل على التحريم.
أما إذا ورد لفظ الكراهة في كلام الإمام أحمد من غير أن يدل دليل من خارج على إرادة التحريم أو التنزيه فقيل يحمل على كراهة التحريم. وقيل: على كراهة التنزيه. وهو قول الطوفي. قال في شرح الكوكب المنير: (واختاره أكثر الأصحاب) أ هـ(46). ومن ذلك قول الإمام أحمد رحمه الله: (أكره النفخ في الطعام وإدمان اللحم والخبز الكبار) وكراهة ذلك للتنزيه(47) والله أعلم.
والثالث من الاصطلاحات في لفظ المكروه: ترك الأولى. وهذا أهمله جمهور الأصوليين. وذكره الفقهاء وهو واسطة بين الكراهة والإباحة. والفرق بين المكروه وخلاف الأولى: أن ما ورد فيه نهي مقصود يقال فيه مكروه كما تقدم. وما ليس فيه نهي مقصود يقال فيه: خلاف الأولى، ولا يقال مكروه كترك سنة الظهر - مثلاً - قال في البحر المحيط بعد أن عرض أقوال العلماء (والتحقيق أن خلاف الأولى قسم من المكروه ودرجات المكروه تتفاوت كما في السنة ولا ينبغي أن يعد قسماً آخر وإلا لكانت الأحكام ستة وهو خلاف المعروف أو كان خلاف الأولى خارجاً عن الشريعة وليس كذلك(48).
بعض الأحكام الوضعية
(والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به. والباطل: ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به)
…الصحيح والباطل من أقسام الحكم الوضعي لأنهما حكم من الشارع على العبادات والعقود وتبني عليهما الأحكام الشرعية.
…والصحيح لغة: السليم من المرض. قال الشاعر:
وليل يقول المرء من ظلماته……سواء صحيحات العيون وعورها
…واصطلاحاً: ما يتعلق به النفوذ ويعتد به عبادة كان أم عقداً.
فالعقود توصف توصف بالنفوذ والاعتداد، وأما العبادة فتوصف بالاعتداد فقط. فالاعتداد لفظ يصدق على كل منهما، ولو اكتفى به المؤلف لكان أخصر إلا أن يقال: إنه جمع بينهما لقصد الإيضاح للطالب المبتدئ.(1/19)
ولا يعتد بالعبادة أو العقد إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، فيحكم بالصحة، فمن صلى صلاة مجتمعة شروطها وأركانها منتفية موانعها فهي صحيحة أي معتد بها شرعاً. ومن باع بيعاً كذلك فهو نافذ ومعتد به.
والنفوذ لغة: المجاوزة، وأصله من نفوذ السهم، وهو بلوغ المقصود من الرمي.
واصطلاحاً: التصرف الذي لا يقدر متعاطيه على رفعه.
وذلك مثل عقد البيع والإجارة والنكاح ونحوها. فإذا وقع العقد على وجه صحيح لم يقدر أحد المتعاقدين على رفعه.
واعلم أن العبادة لها أثر وهو براءة ذمة المكلف وسقوط الطلب. والعقد له أثر وهو الثمرة المقصودة من العقد. فإذا حكم بصحة العبادة والعقد ترتب الأثر على الفعل فبرئت الذمة في باب العبادات وترتبت الآثار في باب العقود فكل عقد له ثمرة خاصة، فالبيع - مثلاً - ثمرته نقل الملكية، والإجارة استيفاء المنفعة لأحد المتعاقدين، واستحقاق الأجر للآخر ونحو ذلك.
والباطل لغة: الذاهب ضياعاً وخسراً.
واصطلاحاً: عكس الصحيح كما ذكره المصنف، فهو الذي لا يتعلق به نفوذ ولا اعتداد، وذلك بأن يختل شرط من الشروط أو يوجد مانع من الموانع.
وفي الباطل لا تترتب الآثار على الفعل، ففي الصلاة لا تبرأ ذمة المكلف ولا يسقط الطلب، وفي العقد لا تترتب الثمرة المقصودة من العقد على العقد.
فإذا صلى بدون طهارة فصلاته باطلة، وإذا باع مالاً يملك فالبيع باطل، لاختلال شرط الصلاة والبيع. ولو صلى نفلاً مطلقاً في وقت نهي فالصلاة باطلة، أو باع بعد النداء الثاني يوم الجمعة على وجه لا يباح فالبيع باطل على القول الصحيح، كما نص عليه القرطبي في تفسيره(49) وذلك لوجود المانع من الصحة.
والباطل والفاسد بمعنى واحد على قول الجمهور إلا في مسائل فرقوا فيها بين الفاسد والباطل، وأشهرها مسألتان(50):(1/20)
1) في الحج فرقوا بينهما، فقالوا الفاسد ما وطئ فيه المحرم قبل التحلل الأول، والباطل ما ارتد فيه عن الإسلام، ففي الأول يفسد حجة ويلزم الإتمام، وفي الثاني يبطل إحرامه ويلزمه الخروج منه.
2) في النكاح: فقالوا: الفاسد: ما اختلفت العلماء في فساده كالنكاح بلا ولي، والباطل ما أجمع العلماء على بطلانه كنكاح المعتدة أو نكاح خامسه. والله أعلم.
تعريف العلم والجهل
(والفقه أخص من العلم: والعلم معرفة العلوم على ما هو به في الواقع. والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به في الواقع).
المراد بالفقه هنا المعنى الشرعي لا المعنى اللغوي، لأن الفقه في الاصطلاح معرفة الأحكام الشرعية كما تقدم، والعلم أعم منه، لأنه يصدق على العلم بالتفسير والحديث والنحو والبلاغة وغير ذلك، فصار الفقه أخص من العلم، فكل فقه علم وليس كل علم فقهاً.
قوله: (والعلم: معرفة العلوم على ما هو به)(51).
والمراد بالمعرفة: الإدراك والمراد بالمعلوم: أي ما من شأنه أن يعلمن وهذا التعريف فيه قيدان وبقي قيد ثالث وهو معرفة جازمة(52). فالقيد الأول: (معرفة المعلوم) وهذا يخرج عدم الإدراك أصلاً وهو الجهل البسيط، كأن يقال: عرّف المندوب. فيقول: لا أدري.
والقيد الثاني: (على ما هو به) أي على الذي هو عليه في الواقع. وهذا القيد يخرج معرفة الشيء على وجه يخالف ما هو عليه وهو الجهل المركب. وقد عرفه بقوله: (تصور الشيء على خلاف ما هو به) وفي بعض النسخ: (على خلاف ما هو عليه في الواقع) وهذا أوضح.
والمراد بالتصور: الإدراك الخالي عن الحكم، وتأمل كيف عبر عن العلم بقوله: (معرفة)(53) وفي الجهل بقوله: (تصور) لأن الجهل ليس بمعرفة، وإنما هو حصول الشيء في الذهن فهو تصور.
ومثال الجهل المركب: هل تجوز الصلاة بالتيمم عند عدم الماء؟ فيقول: لا تجوز.(1/21)
وسمي جهلاً مركباً لأن صاحبه يعتقد الشيء ويتصوره على خلاف ما هو عليه فهذا جهل، ويعتقد أنه يعتقده على ما هو عليه فهذا جهل آخر. ففيه جهلان: جهل بالمدرَك وجهل بأنه جاهل، وأما البسيط ففيه عدم الإدراك بالكلية(54).
وأما القيد الثالث: فهو لإخراج المعرفة غير الجازمة، فإن تساوي الأمران فهو شك، وإن ترجح أحدهما على الآخر فالراجح ظن، والمرجوح وهم. وسنذكر ذلك قريباً إن شاء الله.
أقسام العلم
(والعلم الضروري ما لا يقع عن نظر واستدلال كالعلم الواقع بإحدى الحواس الخمس وهي السمع والبصر والشم واللمس والذوق أو بالتواتر. وأما العلم المكتسب فهو ما يقع عن نظر واستدلال. والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه. والاستدلال طلب الدليل. والدليل هو المرشد إلى المطلوب).
…لما عرف العلم ذكر أقسامه. والمراد علم المخلوق فهو قسمان:
1) العلم الضروري: وهو ما لا يقع عن نظر واستدلال. وذلك إذا كان إدراك المعلوم ضرورياً لا يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بأن النار حارة، وأن الكعبة قبلة المسلمين،وأن محمداً ( رسول الله.
ومن العلم الذي لا يحتاج إلى نظر واستدلال: العلم الواقع بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وهي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق فإنه يحصل العلم بها بدون نظر ولا استدلال، فلو سمع صهيل فرس علم أنه صوته أو رأى لوناً أبيض أو مس جسماً علم أنه ناعم أو خشن. أو شم رائحة علم أنها طيبة أو كريهة أو ذاق طعاماً علم أنه حامض أو حلو.
……وقوله (أو بالتواتر) أي: العلم الحاصل بالتواتر من العلم الضروري. وأشار بذلك إلى أن من العلم الضروري أشياء لا تدرك بالحواس بل يستند فيها إلى خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب كعلمنا بوجود بلد لم نره ووقوع الوقائع في الأزمنة الماضية ونحو ذلك.(1/22)
2) العلم النظري: ويسمى المكتسب: وهو ما يقع عن نظر واستدلال فقوله: (ما يقع) أي ما يحصل من العلم فـ (ما) جنس في التعريف وقوله: (عن نظر). قيد يخرج العلم الضروري، لأنه حاصل عن غير نظر، مثل العلم بأن المذي نجس، وأن طواف الوداع واجب، وأن الإجارة عقد لازم.
ثم عرف النظر والاستدلال لأنهما واقعان في تعريف العلم الضروري نفياً والمكتسب إثباتاً.
فالنظر لغة: يطلق على معانٍ منها: رؤية العين، ومنها الفكر وهو المراد هنا.
واصطلاحاً عرفه بقوله: (هو الفكر في حال المنظور فيه) أي: التفكير في الشيء المنظور فيه طلباً لمعرفة حقيقته. لأن النظر هو الطريق إلى معرفة الأحكام الشرعية إذا تمت شروطه، وهي أن يكون الناظر كامل الآلة كما سيأتي إن شاء الله في الاجتهاد، وأن يكون نظره في دليل لا في شبهة وأن يستوفي الدليل ويعرف شروط الاستدلال.
قوله: (والاستدلال: طلب الدليل): السين والتاء للطلب كالاستنصار طلب النصرة، والمراد بالدليل: ما يستدل به من نص أو إجماع أو غيرهما. والنظر والاستدلال بمعنى واحد، وهو أن كلا منهما يؤدي إلى المطلوب، وجمع بينهما المصنف في تعريف العلم الضروري والمكتسب تأكيداً. وقال بعضهم: النظر أعم من الاستدلال، لأنه يكون في التصورات والتصديقات، والاستدلال خاص بالتصديقات(55) والله اعلم.
قوله: (والدليل هو المرشد إلى المطلوب) الدليل فعيل بمعنى (فاعل) من الدلالة وهي الإرشاد، فالدليل هو المرشد إلى المطلوب. وهذا تعريف لغوي لأنه عام. فقد يكون الدليل مرشداً للمطلوب، ولا يسمى دليلاً في الاصطلاح.
واصطلاحاً: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
وقولنا: ما: اسم موصول، أي الذي يمكن التوصل . . .
بصحيح النظر: هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف أي النظر الصحيح.
فيه: أي في ذلك الشيء.(1/23)
إلى مطلوب خبري، أي تصديقي، كأن يقال في الدلالة على تحريم النبيذ. النبيذ مسكر وكل مسكر حرام لقوله ( (كل مسكر حرام)(56) فيلزم عنه: النبيذ حرام.
واعلم أن الدليل اسم لما كان موجباً للعلم كالمتواتر والإجماع وما كان موجباً للظن كالقياس وخبر الواحد ونحو ذلك، وأما ما اشتهر عند كثير من مؤلفي الأصول بأن الليل هو ما أفاد العلم. وأما ما يفيد الظن فهو أمارة. والأمارة أضعف من الدليل. فهو غير صحيح - والظاهر أن هذه التفرقة جاءت من المعتزلة ومن وافقهم من نفاة الصفات - لأن الدليل هو ما أرشدك إلى المطلوب. فقد يرشدك مرة إلى العلم ومرة إلى الظن. فاستحق اسم الدليل في الحالين. والعرب لا تفرق بين ما يوجب العلم. وما يوجب الظن في إطلاق اسم الدليل وقد تعبدنا الله بكل منهما(57) والله اعلم.
تعريف الظن والشك
(والظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر، والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر).
لما فرغ المصنف من تعريف العلم وبيان أقسامه ذكر ما يقابله وهو الظن إذ ليس هو من العلم. لأن العلم هو الإدراك الجازم كما تقدم. والإدراك غير الجازم لا يخلو من حالين:
الأول: أن يتساوى الأمران، فلا يترجح أحدهما على الآخر عند المجوّز (بكسر الواو)، وإن كان أحدهما أرجح عند غيره أو في الواقع. وهذا هو الشك. كأن يقول: لا أدري طفت ثلاثة أشواط أو أربعة.
الثاني: أن يترجح عنده أحد الأمرين على الآخر. فالراجح ظن، والمرجوح وهم: كأن يقول: طفت أربعة أشواط ويحتمل أنها ثلاثة، والظن درجات أعلاها غلبة الظن كما سيأتي إن شاء الله.
والشك ضد اليقين جاء في لسان العرب(58) (اليقين العلم(59) وإزاحة الشك وتحقيق الأمر. واليقين ضد الشك. . وهو في الأصل بمعنى الاستقرار. يقال: يقن الماء في الحوض إذا استقر ودام).
والشك في الأصل الاتصال وللزوق، ومنه حديث الغامدية (أمر بها فشكت عليها ثيابها ثم رجمت)(60) أي شدت عليها وجمعت.(1/24)
ثم صار هذا اللفظ يطلق على التردد في شيئين بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما. وقول المصنف رحمه الله: (والظن تجويز . . .) فيه مسامحة فإن الظن ليس هو تجويزاً، وإنما هو الطرف الراجح المقابل للطرف المرجوح، وهو الوهم كما ذكرنا.
وأما غلبة الظن فهو قوة الظن فإن الظن يتزايد ويكون بعض الظن أقوى من بعض. قال أبو هلال العسكري: (غلبة الظن عبارة عن طمأنينة الظن، وهي رجحان أحد الجانبين على الجانب الآخر رجحاناً مطلقاً يطرح معه الجانب الآخر. أ هـ)(61).
والظن وغلبة الظن كل منهما يقوم مقام اليقين عند الفقهاء، ويجوز بناء الأحكام الشرعية عليه إذا فقد اليقين الذي قلما يحصل عند الاجتهاد(62) ولهذا يجب العمل بخبر الواحد إذا كان ثقة، ويجب العمل بشهادة الشاهدين وخبر المقومين إذا كانا عدلين. ويجب استصحاب حكم الحال السابق حال الشك، مثل الشك في الحدث بعد الطهارة، لأن الظاهر بقاؤه، وعدم حدوث المشكوك فيه، قال العلامة ابن فرحون في كتابه (تبصرة الحكام)(63): (تنبيه: وينزل منزلة التحقيق الظن الغالب، لأن الإنسان لو وجد وثيقة في تركة مورثة أو وجد ذلك بخطه، أو بخط من يثق به، أو أخبره عدل بحق، المنقول جواز الدعوى بمثل هذا، والحلف بمجرده. وهذه الأسباب لا تفيد إلا الظن دون التحقيق، لكن غالب الأحكام والشهادات إنما تنبني على الظن، وتنتزل منزلة التحقيق). أ هـ.
وفي الفقه مسائل عديدة حكم فيها بالصحة بناء على ما في ظن المكلف(64).
وأما ما ورد من النهي عن العمل بالظن. فهو الظن المرجوح الذي لا يقوم عليه دليل. بل هو قائم على الهوى والغرض المخالف للشرع قال تعالى: (إن يتّبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا((65) وقال تعالى: (إن يتّبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى((66) والله أعلم.
تعريف أصول الفقه وأبوابه(1/25)
(وعلم أصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال وكيفية الاستدلال بها. وأبواب أصول الفقه: أقسام الكلام، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والأفعال والناسخ والمنسوخ، والإجماع والأخبار، والقياس، والحظر والإباحة، وترتيب الأدلة، وصفة المفتي والمستفتي، وأحكام المجتهدين).
…هذا هو التعريف الثاني لأصول الفقه، وهو باعتباره لقباً لهذا الفن، وقد تقدم تعريفه باعتبار مفرديه.
…قال: (علم أصول الفقه: طرقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها).
…فقوله: (طرقه) أي طرق الفقه. والمراد أدلة الفقه الإجمالية. وهي القواعد العامة التي يحتاج إليها الفقيه مثل الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والإجماع حجة، ونحو ذلك من المسائل الكلية التي تبحث في أصول الفقه. أما الأدلة التفصيلية فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل والإيضاح مثل قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة((67) للأمر. مثل: صلاته ( في الكعبة(68) يمثل به للفعل في أنه لا يعم أقسامه، ومثل الإجماع على أن بنت الابن تأخذ السدس مع بنت الصلب حيث لا معصب لهما.
وعبر المصنف كغيرة بقوله: (طرق الفقه) دون قوله (أدلة الفقه) بناء على المشهور عندهم، وهو التفريق بين الدليل والإمارة وأكثر أصول الفقه ليست أدلة بل هي إمارات. وقد ذكرنا ضعف هذا الرأي فيما تقدم.
وقوله: (وكيفية الاستدلال بها) هذا معطوف على قوله: (طرقه) أي أن موضوع أصول الفقه أدلة الفقه الإجمالية، وكيفية الاستدلال بها على الأحكام. وبقي أمر ثالث وهو معرفة حال المستدل، وهو المجتهد، وإنما تركه المصنف لأن كيفية الاستدلال تجرّ إلى صفات من يستدل بها، فاكتفى بذكر كيفية الاستدلال عن ذكر صفات من يستدل بها وهو المجتهد. وسيذكر ذلك في آخر الورقات. حيث قال: (ومن شروط المفتي أن يكون عالماً بالفقه . . إلخ).(1/26)
والمراد بقوله: (وكيفية الاستدلال بها) أي كيفية الاستدلال بطرق الفقه الإجمالية، وذلك بمعرفة دلالات الألفاظ، وشروط الاستدلال. فمن دلالات الألفاظ العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، وشروط الاستدلال كحمل المطلق على المقيد، وتخصيص العام، ومعرفة الترجيح عند التعارض ونحو ذلك مما يبحث في أصول الفقه.
ثم ذكر المصنف الأبواب التي تضمنها أصول الفقه، لأجل أن ينشط لها القارئ ويستعد لها، ولم يذكر المطلق والمقيد لأنه سيذكرهما في الكلام على العام والخاص للمناسبة بينهما. والله أعلم.
الكلام
(فأما أقسام الكلام فأقل ما يتركب منه الكلام: اسمان، أو اسم وفعل، أو فعل وحرف، أو اسم وحرف).
يعنى أهل الأصول بمباحث الكلام وأقسامه، وهي مباحث نحوية وبلاغية، وذلك لأنها هي المدخل إلى أصول الفقه حيث إن الأصول يعتمد على الكتاب السنة، والاستدلال بهما متوقف على معرفة اللغة العربية لأنهما بلسان عربي مبين، ومن لا يعرف اللغة لا يمكنه استنباط الأحكام من الكتاب والسنة استنباطاً صحيحاً.
قوله: (فأما أقسام الكلام . . إلخ).
الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى.
واصطلاحاً: اللفظ المفيد مثل: الله ربنا، ومحمد ( نبينا.(1/27)
ولم يذكر المصنف تعريف الكلام، بل اكتفى بأقل ما يتركب منه، فذكر أن أقل ما يتركب منه الكلام اسمان كما مثلنا، أو اسم وفعل مثل: جاء الحق، وزهق الباطل. فهذا فعل وفاعل، ومثل وقضي الأمر. فعل ونائب فاعل أو فعل وحرف مثل: ما قام ولم يقم. وهذا أثبته قوم منهم المصنف، فلم يعدوا الضمير في قام ولم يقم الراجع إلى زيد - مثلاً - لم يعدوه كلمة لعدم ظهوره ووجوده. وعده النحويون كلمة في حكم الملفوظ الموجود، وتتوقف الفائدة الكلامية عليه، وهو ضمير مستتر، والمستتر كالثابت وقوله (أو اسم وحرف) هذا في النداء مثل: يا الله. وهذا فيه نظر. لأن الكلام هو المقدر من الفعل وفاعله لأن تقديره: أدعو الله. وحرف النداء نائب عنه، فيرجع ذلك إلى صورة الاسم مع الفعل. وغرض المصنف وغيره من الأصوليين بيان أقسام الجمل ومعرفة المفرد من المركب، فلذلك لم يأخذوا فيه بالتحقيق الذي يسلكه النحويون.
والكلام جمع كلمة. وهي اسم وفعل وحرف. ووجه الحصر في الثلاثة أن الكلمة إما أن تدل على معنى في نفسها أو لا. فإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف مثل: الطلاب في الفصل. وإن دلت على معنى في نفسها وأشعرت هيئتها بزمن فهي الفعل كقام ويقوم وقم، وإن لم تشعر هيئتها بزمن فهي الاسم مثل محمد.
والأسماء والأفعال والحروف تمس الحاجة إلى معرفتها، فإن الأسماء من النظرة الأصولية ثلاثة أنواع:
1) ما يفيد العموم كالأسماء الموصولة والنكرة في سياق النفي.
2) ما يفيد الإطلاق كالنكرة في سياق الإثبات.
3) ما يفيد الخصوص كالأعلام. وتفصيل ذلك يأتي في محله إن شاء الله وكذا ما يتعلق بالفعل. وأما الحروف فالفقيه بحاجة إلى معرفتها كالواو والفاء وعلى الجارة وغيرها.
هذا ما يتعلق بأقسام الكلام من حيثية ما يتركب منه، والله أعلم.
أقسام الكلام باعتبار مدلوله
(والكلام ينقسم إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار. وينقسم أيضاً: إلى تمن وعرض وقسم).(1/28)
…لما فرغ المصنف من ذكر أقسام الكلام باعتبار ما يتركب منه شرع في ذكر أقسامه باعتبار مدلوله.
…قوله: (والكلام ينقسم إلى أمر) وهو ما يدل على طلب الفعل نحو: أطع والديك.
…قوله: (ونهي) وهو ما يدل على طلب الترك. نحو: لا تكذب في حديثك.
…قوله: (وخبر) وهو ما يحتمل الصدق والكذب نحو: سافر خالد.
…قوله: (واستخبار) وهو الاستفهام. وهو طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل. نحو: هل فهمت المسألة؟ أحضر خالد أم عاصم؟
…قوله: (وينقسم أيضاً إلى تمنّ) وهو طلب الشيء المحبوب الذي لا يرجى حصوله إما لكونه مستحيلاً نحو: ليت الشباب يعود يوماً. أو بعيد المنال كقول منقطع الرجاء: ليس لي مالاً فأحج به.
…وقوله: (وعرض) بسكون الراء. هو الطل برفق نحو: ألا تنزل عندنا.
…وقوله: (وقسم) بفتح القاف والسين، هو الحلف نحو: والله لأفعلن الخير.
…وإنما قال المصنف (وينقسم أيضاً . . ) مع أن ما قبله وما بعده تقسيم الأول. وأنه يرد عليه التقسيم الثاني. وأن الجميع تقسيم واحد(69).
وهناك تقسيم أخصر من هذا، كما عند البلاغيين، وهو أن الكلام قسمان:
1) خبر: وتقدم تعريفه، ويأتي شرحه إن شرحه إن شاء الله في باب الأخبار.
2) إنشاء: وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب، كقولك: اكتب. لأن مدلوله لا يحصل إلا بالتلفظ به، فلا يقال: إنه صدق أو كذب.
ومن الإنشاء: الأمر والنهي والاستفهام والتمني ومنه العرض. وهذا هو الإنشاء الطلبي، ومنه القسم وهو الإنشاء غير الطلبي.
وأهم هذه الأنواع: الأمر والنهي. وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله، وأما بقية الأنواع فلا يترتب عليها في الأصول كبير فائدة والله أعلم.
أقسام الكلام باعتبار استعماله
(ومن وجه آخر ينقسم إلى: حقيقة ومجاز. فالحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه، وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة. والمجاز: ما تجوز عن موضوعه. والحقيقة إما لغوية وإما شرعية وإما عرفية).(1/29)
ينقسم الكلام باعتبار استعمال اللفظ إلى قسمين:
الأول: حقيقة. ……الثاني: مجاز.
فالحقيقة: ما بقي في الاستعمال على موضوعه.
مثل كلمة: أسد للحيوان المفترس. فإذا قلت: رأيت أسداً. فهي حقيقة لأنها لفظ بقي في الاستعمال على ما وضع له وهو الحيوان.
وهذا التعريف يرد عليه أنه خاص بالحقيقة اللغوية، فلا يشمل الشرعية والعرفية كما سيأتي، وعليه فهما من المجاز عند المصنف.
ثم ذكر المصنف تعريفاً آخر للحقيقة وهو: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة. فقوله: ما: أي لفظ.
وقوله: استعمل: مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر يعود على ما.
وقوله: فيما: أي في معنى.
وقوله اصطلح عليه: مبني للمجهول. وما بعده نائب فاعل. أي اصطلح على أن هذا المعنى لذلك اللفظ.
وقوله: من المخاطبة: بكسر الطاء على زنة اسم الفاعل. أي من الجماعة المخاطبة غيرها. أي خاطبت غيرها بذلك اللفظ وعينته للدلالة على ذلك المعنى بنفسه، سواء بقي اللفظ على موضوعه اللغوي أو لم يبق على موضوعه اللغوي، بأن بقي على موضوعه الشرعي أو العرفي.
والاصطلاح معناه: اتفاق قوم على استعمال شيء في شيء معلوم عندهم. كاتفاق أهل الشرع على استعمال الصلاة في التعبد لله تعالى بأفعال وأقوال أولها التكبير وآخرها التسليم. واتفاق أهل اللغة على استعمال الصلاة بمعنى الدعاء. وهكذا الدابة عند أهل العرف تطلق على ذوات الأربع فقط كالفرس.
وهذا التعريف يعم أنواع الحقيقة الثلاثة. وقد أثبت المصنف الحقيقة الشرعية والعرفية وهذا يدل على اختياره لهذا التعريف وإن كان تقديمه للتعريف الأول يقتضي ترجيحه والله أعلم.
وهناك تعريف أخصر وأشمل وهو: الحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له(70).
فقوله: (اللفظ): جنس في التعريف يشمل المعرف وغيره.
وقوله: (المستعمل): قيد في التعريف يخرج المهمل. وهو الذي ليس له معنى مثل ديز مقلوب زيد.
وقوله: (فيما وضع له): قيد ثان يخرج المجاز، لأن المجاز في غير ما وضع له.(1/30)
ثم ذكر المصنف أن الحقيقة ثلاثة أنواع:
1) حقيقة لغوية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة. مثل الصيام فهو في اللغة الإمساك. قال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
…………تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجما
……أي خيل ممسكة عن الجري والحركة. وقيل: عن العلف.
2) حقيقة شرعية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع. كالصلاة معناها: التعبد لله تعالى بأفعال وأقوال أولها التكبير وآخرها التسليم على الصفة المخصوصة.
3) حقيقة عرفية: وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف. وهي نوعان:
أ ) عرفية عامة: وهي ما تعارف عليه عامة أهل العرف، مثل لفظ الدابة فهي في اللغة اسم لكل ما يدب على الأرض غير أن العرف خصصه بذوات الأربع كما تقدم.
ب ) عرفية خاصة: وهي ما تعارف عليه بعض الطوائف من الألفاظ التي وضعوها لمعنى عندهم. مثل الجزم فهو في اللغة القطع كما في القاموس. وعند النحويين نوع من الإعراب.
فالحقيقة العرفية العامة هي التي لم يتعين ناقلها من المعنى اللغوي. والخاصة عكسها.
هذا وقد أشار ابن بدران رحمه الله إلى الفائدة من معرفة أقسام الحقيقة فقال: (ومتى ورد اللفظ وجب حمله على الحقيقة في بابه لغة أو شرعاً أو عرفاً)(71) أ هـ.
هذا ما يتعلق بالحقيقة. وأما المجاز فقد عرفه بقوله: (ما تجوز عن موضوعه): فقوله: (ما تجوز) بضم التاء والجيم وتشديد الواو مكسورة مبني للمجهول، ويصح فتح التاء مبنياً للفاعل. أي ما تعدى به عن موضوعه. فنقل في الاستعمال عن معناه الأصلي إلى معناه المجازي ومثاله: رأيت أسداً يرمي، فكلمة أسد تعدى بها عن موضوعها الأول وهو الحيوان المفترس، ونقلت إلى الرجل الشجاع.(1/31)
وهذا التعريف مبني على التعريف الأول للحقيقة وهو (ما بقي في الاستعمال على موضوعه) وأما على التعريف الثاني للحقيقة فيكون المجاز: (ما استعمل في غير ما اصطلح عليه من المخاطبة) وعلى التعريف الذي ذكرناه يكون المجاز: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. وهذا أوضح. والله أعلم.
أنواع المجاز
(والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة. فالمجاز بالزيادة مثل قوله تعالى: (ليس كمثله شيء((72) والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى: (وسئل القرية((73) والمجاز بالنقل كالغائط فيما يخرج من الإنسان. والمجاز بالاستعارة كقوله تعالى: (جداراً يريد أن ينقض((74)).
لما ذكر المصنف أنواع الحقيقة بعد تعريفها ذكر هنا أنواع المجاز بعد تعريفه. والمجاز نوعان:
1) مجاز بالكلمة: وهو ما تقدم تعريفه. حيث تنقل الكلمة من معناها الأصلي إلى المعنى المجازي.
2) مجاز بالإسناد: وهو المجاز العقلي. حيث يكون التجوز بالإسناد، فيسند الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له في الحقيقة، ولابد من علاقة مع وجود قرينة تمنع من إرادة المعنى الأصلي مثل: بني الأمير قصراً. وليس لهذا ذكر في الأصول، وإنما يذكر في علم البيان وذكرته لتكميل القسمة.
وشرط المجاز بالكلمة وجود علاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المجازي، ووجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي. كما في المثال المتقدم: رأيت أسداً يرمي.
قوله: (والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة): ذكر أن المجاز بالكلمة أربعة أنواع:
1) مجاز بالزيادة: ومثاله قوله تعالى: (ليس كمثله شيء((75) فقالوا: إن الكاف زائدة لتوكيد نفي المثل، ولو لم تكن زائدة لكانت بمعنى (مثل) وهذا باطل لما يلزم عليه من إثبات المثل لله تعالى إذ يصير المعنى: (ليس مثل مثله شيء) والمنفي مثل المثل، فيكون المثل ثابتاً وهذا باطل لأن القصد نفيه(76).(1/32)
2) مجاز بالنقصان: أي بالحذف. ومثاله قوله تعالى: (واسأل القرية( أي أهل القرية ففيه حذف، للقطع بأن المقصود سؤال أهل القرية لا سؤال القرية، لأنها عبارة عن الأبنية المجتمعة وسؤالها وإجابتها من المحال(77).
فإن قيل: تعريف المجاز لا يصدق على المجاز بالزيادة والنقصان لأنه لم يستعمل اللفظ في غير موضعه.
فالجواب: أنه منه، حيث استعمل نفي مثل المثل في نفي المثل وسؤال القرية في سؤال أهلها، وقال البلاغيون: إنه مجاز من حيث إن الكلمة نقلت عن إعرابها الأصلي إلى نوع آخر من الإعراب(78).
3) مجاز بالنقل: ومثاله كلمة (الغائط) فهو في أصل الوضع اسم للمكان المطمئن من الأرض، تقضي فيه الحاجة طلباً للستر. ثم نقل وصار يطلق على الفضلة الخارجة من الإنسان، والعلاقة المجاورة. لأنها تجاور المكان المطمئن غالباً(79).
4) مجاز بالاستعارة: ومثاله قوله تعالى: (جدار يريد أن ينقض((80) حيث شبه ميل الجدار إلى السقوط بإرادة السقوط التي هي من صفات الحي، بجامع القرب من الفعل في كلٍّ. ثم استعير اللفظ الدال على المشبه به للمشبه، ثم اشتق منه (يريد) بمعنى (يميل) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية..
وظاهر عبارة المصنف في قوله (أو نقل) توهم أن النقل قسم من المجاز ومقابل للأقسام الأخرى وليس كذلك، فإن النقل يعم جميع أنواع المجاز بالكلمة كما تقدم في تعريفه.
وهذا ومحل الحقيقة والمجاز كتب البلاغة (علم البيان) والأصوليون يذكرون ذلك، لأن البحث في دلالات الألفاظ من أهم موضوعات علم الأصول، ودلالة اللفظ على المعنى قد تكون حقيقة وقد تكون مجازاً.(1/33)
واعلم أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز هو المشهور عند المتأخرين في القرآن وغيره، ومنهم من قال لا مجاز في القرآن، وهو قول ابن خويز منداد من المالكية، وقول الظاهرية وابن القاص من الشافعية، ومن أهل العلم من قال لا مجاز في القرآن ولا في غيره وبه قال أبو إسحاق الأسفراييني وأبو علي الفارسي من المتقدمين كما عزاه لهما ابن السبكي في جمع الجوامع(81)، ومن المتأخرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في رسالة خاصة بهذا(82)، وقد نصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وبين شيخ الإسلام أن هذا التقسيم اصطلاح حادث بعد القرون المفضلة لم يتكلم به أحد من الصحابة والتابعين ولا أحد من الأئمة ولا علماء اللغة، والظاهر أن المجاز إنما جاء من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين ليكون سلما لنفي كثير من صفات الله تعالى بإدعاء أنها مجاز، وهذا من أعظم وسائل التعطيل.
كما بين الشيخ - أيضاً - بطلان هذا التقسيم، وأن من ذهب إلى ذلك فقد تكلم بلا علم وابتدع في الشرع وخالف العقل، ومما يدل على بطلان ذلك أنه لا أحد يثبت أن العرب وضعت ألفاظاً لمعان ثم استعملت هذا الوضع في معان أخر، ومن ادعى أنه يعلم وضعاً تقدم ذلك فهو مبطل(83).
وكل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازاً فهو عند من يقول بنفي المجاز أسلوب من أساليب اللغة العربية المتنوعة، بعضها يتضح المراد منه بلا قيد، وبعضه يحتاج إلى قيد وكل منهما حقيقة في محله.
الأمر
(والأمر استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب،والصيغة الدالة عليه: افعل. وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه إلا ما دل الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة فيحمل عليه).(1/34)
باب الأمر والنهي من الأبواب المهمة في أصول الفقه، لأن مدار التكليف على الأوامر والنواهي. فلابد من معرفة أحكامهما وما يترتب على مخالفتهما، يقول السرخسي في أصوله(84): (فأحق ما يبدأ به في البيان الأمر والنهي لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتها تتم معرفة الأحكام ويتميز الحلال من الحرام). أ هـ.
قوله (الأمر: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب) هذا تعريف الأمر. وهو من أحسن التعاريف.
وقوله: استدعاء: أي طلب وهذا جنس يشمل الأمر والنهي، والمراد بالفعل: الإيجاد ليشمل الفعل المأمور به مثل: (وءاتوا الزكاة((85) والقول المأمور به مثل: (واذكروا الله كثيراً((86).
والمعنى أن الأمر طلب إيجاد فعل أو إيجاد قول. وهذا القيد يخرج النهي لأنه استدعاء الترك كما سيأتي.
وقوله: بالقول: أي باللفظ الدال عليه. والمراد صيغ الأمر وهذا قيد ثان لإخراج الإشارة فإنها وإن أفادت طلب الفعل، لكنها لا تسمى أمراً.
وقوله (ممن هو دونه) أي دون الطالب في الرتبة، وهذا قيد ثالث خرج به استدعاء الفعل ممن ساواه وهذا التماس. أو ممن هو فوقه وهذا دعاء وسؤال. وعلى هذا فطلب الفعل يسمى أمراً مع العلو(87).
قال الأخضري:
أمر مع استعلا وعكسه دعا ……وفي التساوي فالتماس وقعا
وقول المصنف: (على سبيل الوجوب) هذا متعلق بقوله: (استدعاء) وهذا قيد رابع لإخراج الندب والإباحة وغيرهما، وفيه بيان أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب، وهذا عند الإطلاق، أي التجرد من القرائن الصارفة للأمر عن الوجوب إلى غيره.
والظاهر أن المؤلف يرى أن المندوب ليس مأموراً به لعدم وجوبه وتحتمه، والمحققون على أن المندوب مأمور به لأنه طاعة إجماعاً، والطاعة فعل مأمور به، وإن كان غير واجب، فيكون الأمر أمر إيجاب وأمر استحباب. وتقدم ذلك في الكلام على المندوب.(1/35)
قوله: (على سبيل الوجوب) صيغة الأمر إما أن تكون مجرد عن القرينة، وإما أن تكون مقيدة، فإن كانت مجردة فالمختار ما ذكره المصنف من أنها تقتضي الوجوب كقوله تعالى: ( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة((88) فهذا يحمل على الوجوب لعدم قرينة تصرفه عنه ونسب في شرح الكوكب المنير هذا القول إلى الجمهور من أرباب المذاهب الأربعة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وأمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب)(89).
والأدلة على ذلك كثيرة جداً منها قوله تعالى: (فيحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم((90).
ووجه الدلالة: أن الله تعالى توعد المخالفين لأمر الرسول ( بالفتنة وهي الزيغ، أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل على أن أمر الرسول ( المطلق يقتضي الوجوب. قال القرطبي: (بهذه الآية استدل الفقهاء على أن الأمر للوجوب . . )(91).
وقوله: (والصيغة الدالة عليه: افعل) أي أن الأمر لابد له من صيغة تدل عليه وهي (افعل) مثل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس((92) والمراد بذلك كل ما يدل على طلب الفعل من أي صيغة، فيشمل افعلي وافعلوا ونحوهما، ومما يدل على طلب الفعل اسم فعل الأمر كقوله تعالى: (عليكم أنفسكم((93)، والمصدر النائب عن فعل الأمر مثل قوله تعالى: (وبالوالدين إحساناً((94) والمضارع المقرون بلام الأمر كقوله تعالى: (وليكتب بينكم كاتب بالعدل((95).
وهناك صيغ أخرى تدل على طلب الفعل ومنها:
1) التصريح بلفظ الأمر كقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان((96) وحديث ابن عباس في وفد عبد القيس وفيه (آمركم بأربع . . )(97).
2) لفظ فرض أو وجب أو كتب ونحوها. قال تعالى: (كتب عليكم الصيام((98) وحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله ( زكاة الفطر في رمضان)(99).(1/36)
3) وصف الفعل بأنه طاعة أو يمدح فاعله أو يذم تاركه أو يرتب على فعله ثواب أو على تركه عقاب وغيرها، كقوله ( (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وقال بالسبابة والوسطى)(100).
قوله: (وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تحمل عليه إلا ما دلَّ الدليل على أن المراد منه الندب أو الإباحة فيحمل عليه) هذا بيان النوع الثاني من الأوامر وهو ما اقترن بقرينة فيصرف الأمر حسب هذه القرينة، لأن صيغة الأمر لا تحمل على غير الوجوب إلا إذا وجد دليل صارف عن الوجوب إلى غيره. كالندب، ومثاله: حديث عبد الله المزني أن النبي ( قال: (صلوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء . . )(101).
أو الإباحة ومثاله قول تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا((102). والقرينة الصارفة في الأول قوله (لمن شاء) وفي الثاني هي أن الأمر بعد الحظر للإباحة لأن الاصطياد في الإحرام حرام، لقوله تعالى: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً((103) أي محرمين.
ومن هنا قال الأصوليون: الأمر بعد الحظر للإباحة واحتجوا بأن هذا النوع من الأمر للإباحة في أغلب استعمالات الشرع، كما مثلنا. وكقوله تعالى: (فإذا تطهّرن فأتوهن من حيث أمركم الله((104) بعد قوله تعالى: (ولا تقربوهنّ حتى يطهرن((105)، وقد يكون في مقام يتوهم فيه الحظر كقوله ( (افعل ولا حرج)(106) في جواب من سألوه في حجة الوداع عن تقديم أفعال الحج التي تفعل يوم العيد بعضها على بعض وكقوله في قصة اللديغ (اقسموا واضربوا لي بسهم)(107).(1/37)
ويرى آخرون أن الأمر بعد الحظر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، قال ابن كثير عند تفسير آية المائدة: (وإذا حللتم فاصطادوا((108): (والصحيح الذي يثبت على السبر(109) أنه يردُّ الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي. فإن كان واجباً رده واجباً، وإن كان مستحباً فمستحب، أو مباحاً فمباح، ومن قال: إنه على الوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال: إنه للإباحة يردُّ عليه بآيات أخر. والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه، كما أختاره بعض علماء الأصول والله أعلم)(110) أ هـ.
فمثال: أمر بعد نهي عاد إلى الوجوب حديث: "فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي"(111).
فالأمر بالصلاة للوجوب، لأن الصلاة قبل امتناعها بالحيض واجبة، ومثاله أيضاً قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين((112) فالأمر بقتل المشركين كان واجباً قبل دخول الأشهر الحرم فمنع من أجلها، ثم أمر به بعد انسلاخها، فيرجع إلى ما كان عليه قبل المنع وهو الوجوب.
ومثال الاستحباب حديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"(113) فالزيارة مستحبة قبل المنع ثم نهي عنها، ثم أمر بها فعاد الأمر إلى الاستحباب.
وتقديم مثل ما كان مباحاً ثم نهي عنه ثم أمر به.
وهذا القول هو المختار، لأن الحظر كان لعارض، فإذا ارتفع العارض عاد الأمر إلى ما كان عليه.
ثم إن هذا القول فيه جمع بين الأدلة، كما أشار إليه الحافظ ابن كثير رحمه الله، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، ورجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله. ونسبه الطوفي في مختصر الروضة إلى الأكثرين. والله أعلم(114).
من مسائل الأمر
(ولا يقتضي التكرار على الصحيح إلا إذا دل الدليل على قصد التكرار، ولا يقتضي الفور. والأمر بإيجاد الفعل أمر به، وبما لا يتم الفل إلا به كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة المؤدية إليها. وإذا فعل خرج المأمور عن العهدة).(1/38)
المسألة الأولى قوله: (ولا يقتضي التكرار): اعلم أن صيغة الأمر تقتضي فعل المأمور مرة واحدة قطعاً ولا خلاف في ذلك وإنما الخلاف فيما زاد على المرة وهو التكرار، بمعنى فعل المأمور به كلما قدر عليه المكلف، فالأمر من حيث التكرار وعدمه له ثلاث صور:
1) إما أن يقيد بما يفيد الوحدة، فهذا يحمل على ما يقيد به، ولا يقتضي التكرار كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا((115) فظاهر الآية وجوب تكرار الحج بتكرار الاستطاعة، لكن سئل رسول الله (: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأجاب بما يدل على أنه في العمر مرة واحدة(116) فيحمل الأمر في الآية على الواحدة لهذا الدليل من السنة.
2) أن يقيد بما يفيد التكرار، وهذا فيه خلاف(117) والصحيح أنه يحمل على ما قيد به من إرادة التكرار كما رجحه المصنف. والقيد قيد يكون صفة وقد يكون شرطاً، فالشرط كقوله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطّهّروا((118) فكلما حصلت الجنابة وجب التطهر بالغسل منها.
والصفة كقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما((119) فكلما حصلت السرقة وجب القطع، ما لم يكن تكرار السرقة قبل القطع.
وهذا فيما إذا كان كل من الشرط والصفة علة ثابتة كما مثلنا. فيكون التكرار لوجود العلة، بمعنى أنه كلما وجدت العلة وجد الحكم(120). فإن لم يكن علة ثابتة فلا تكرار مثل: إن جاء زيد فاعتق عبداً من عبيدي. فإذا جاء زيد حصل ما علق عليه الأمر، لكن لا يتكرر بتكرر مجيئه.
3) الأمر المطلق الذي لم يقيد. فهذا فيه خلاف هل يقتضي التكرار أو لا؟(1/39)
فمنهم من قال يقتضي التكرار، وهذا حكاه الغزالي عن أبي حنيفة، وابن القصار عن مالك، وهو رواية عن أحمد اختارها أكثر أصحابه(121)، لأن الأمر كالنهي في أن النهي أفاد وجوب الترك والأمر أفاد وجوب الفعل، فإذا كان النهي يفيد الترك على الاتصال أبداً، وجب أن يكون الأمر يفيد وجوب الفعل على الاتصال أبداً وهذا معنى التكرار، والمراد به: حسب الإمكان.
والقول الثاني أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار لأن ما قصد به من تحصيل المأمور به يتحقق بالمرة الواحدة والأصل براءة الذمة مما زاد عليها، بل يخرج المكلف من عهدته بمرة واحدة، ولا يلزمه تكراره والمداومة عليه، وذلك لأن صيغة الأمر لا تدل إلا على مجرد إدخال ما هية الفعل(122) في الوجود لا على كمية الفعل، ولو قال السيد لعبده: ادخل السوق واشتر تمراً، لم يعقل منه التكرار، ولو كرر العبد ذلك لحسن لومه، ولو سيده على عدم التكرار لعد السيد مخطئاً.
وهذا هو اختيار المصنف - هنا - فإنه قال: (ولا يقتضي التكرار على الصحيح) أي عند الإطلاق كما يدل عليه ما بعده، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو يعلى وتلميذه أبو الخطاب، وهو الصحيح عند الحنفية، ورجح ذلك الطوفي، وما إليه ابن قدامة، واختاره ابن الحاجب(123).
أما ما قاله الأولون من أن الأمر كالمنهي فغير صحيح للفرق بن الأمر والنهي، لأن الانتهاء عن الفعل أبداً ممكن، أما الاشتغال به أبداً فغير ممكن فظهر الفرق.
وأما ما فيه التكرار فذلك لنصوص أخر وقرائن وأسباب توجب ذلك، كالصلاة فإن تكرارها في كل يوم وليلة خمس مرات ليس لأجل الأمر بها، وإنما لتكرار أسبابها وهي الأوقات. ومما يتعلق بهذا البحث مسألة إجارة مؤذن بعد مؤذن فهل يكتفي بالأول لأن الأمر لا يقتضي التكرار؟ أو يجيب كل مؤذن من باب تعدد السبب؟ فيه احتمال(124).(1/40)
المسألة الثانية: قوله: (ولا تقتضي الفور) أي عند الإطلاق بخلاف: سافر الآن. فهي للفور، وسافر رأس الشهر.فهي للتراخي لوجود قرينة.
والفور معناه: المبادرة بالفعل عقب الأمر في أول وقت الإمكان. والتراخي: تأخير الفعل عن أول وقت الإمكان. والقائلون بأن الأمر للتكرار يتفقون على أنه للفور. لأن التكرار لا يتحقق بدون المبادرة.
وأما القائلون بأن الأمر ليس للتكرار. فاختلفوا في ذلك على قولين:
الأول: أنها لا تقتضي الفور، وبه قال أكثر الشافعية وأكثر الأحناف، وهو رواية عن الإمام أحمد، بل الأمر لمجرد الطلب فلا يقتضي الفور ولا التراخي، وقد يقتضي لأن الغرض إيجاد الفعل ولو مرة واحدة من غير اختصاص بالزمن الأول أو الثاني بل في أي زمان وجد فيه أجزأ.
والقول الثاني: أنها تقتضي الفور. وهو قول المالكية وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة(125). وهذا هو القول الراجح إن شاء الله لما يلي:
1) آيات من كتاب الله تعالى فيها الأمر بالمبادرة إلى امتثال أوامر الله تعالى والثناء على من فعل ذلك كقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين((126) وقوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات((127) وقال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات((128).
2) ما جاء في قصة الحديبية، وفيها: (قال رسول الله ( لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا) قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لهاما لقي من الناس . . . الحديث)(129)، ووجه الدلالة: أنه لو لم يكن الأمر للفور ما دخل الرسول ( على أم سلمة مغضباً ولا قال لها: (ألا ترين إلى الناس! إني آمرهم بالأمر فلا يفعلون) كما في رواية ابن إسحاق.
3) أن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ للذمة، وأدل على الطاعة، والتأخير له آفات، ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز الإنسان عنها.(1/41)
4) وكما أن الشرع دل على اقتضاء الأمر الفور، كذلك اللغة فإن السيد لو أمر عبده بأمر فلم يمتثل فعاقبه فاعتذر العبد بأن الأمر على التراخي لم يكن عذره مقبولاً.
المسألة الثالثة: قوله: (والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم الفعل إلا به) أي: أن ما توقف عليه وجود الواجب بطريق شرعي لتبرأ منه الذمة فهو واجب إذا كان ذلك في مقدور المكلف، وتحت هذه القاعدة صورتان، وذلك بناء على دخول المندوب في الأمر:
1) مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة، والأمر بستر العورة أمر بشراء ما يسترها(130).
ووجه هذه الصورة: أنه لو لم تجب الطهارة - مثلاً - لوجوب الصلاة لجاز تركها، ولو جاز تركها لجاز ترك الواجب المتوقف عليها واللازم باطل.
2) ما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب، فالأمر بالتطيب يوم الجمعة كما في حديث ابن عباس (وأصيبوا من الطيب)(131) أمر بشراء الطيب ندباً لا وجوباً.
وهذه الصورة لا تدخل - على رأي المصنف - لأنه لا يرى أن المندوب مأمور به، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله: (وإذا فعل خرج عن العهدة): (فعل) بالبناء للمجهول أي: فعل المأمور به، والعهدة: بضم العين تعلق الأمر بالمأمور. والمعنى: أن المأمور إذا فعل ما أمر به على وجه صحيح فإنه يخرج عن عهده ذلك الأمر ويوصف ذلك الفعل بالإجزاء. والإجزاء معناه: براءة الذمة وسقوط الطلب. أما الإثابة على الفعل فليست من لوازم الامتثال فقد يحصل الإجزاء وبراءة الذمة ولا يحصل الثواب، وقد يكون مثاباً ولا تبرأ الذمة.
فمثال الأول: قول الزور والعمل به في الصيام. فقد قال النبي ( (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)(132) فقول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثماً يقابل ثواب الصوم. وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به والعمل المنهي عنه، فبرئت الذمة للامتثال ووقع الحرمان للمعصية.(1/42)
والثاني: كأن يفعل فعلاً ناقصاً عن الشرائط والأركان، فيثاب على ما فعل ولا تبرأ الذمة إلا بفعله كاملاً، فإذا أخرج الزكاة ناقصة فإنه يخرج التمام وإذا ترك شيئاً من واجبات الحج كالمبيت بمزدلفة فإنه يجبره بالدم، وإذا ضحى بمعيبة وجبت عليه سليمة. وإذا فوت الجمعة بقي في العهدة. فالنقص إما أن يجبر بجنسه أو ببدله أو بإعادته كاملاً أو يبقى في العهدة فيأثم صاحبه(133) والله أعلم.
من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل
(يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون. والساهي والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب، والكفار مخاطبون بفروع الشرائع وبما لا تصح إلا به وهو الإسلام، لقوله تعالى: (قالوا لم نك من المصلين((134)).
ذكر المصنف في هذا المبحث من يدخل في أوامر الشرع ونواهيه ومن لا يدخل، ولو أخر هذا الموضوع بعد مبحث النهي لكان أحسن.
قوله: (يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون) المراد بخطاب الله: الخطاب التكليفي المتضمن لطلب الفعل أو الترك كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة((135)، وقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا((136).
والمراد بالمؤمنين: المكلفون من ذكر وأنثى ممن آمن بالله ورسوله. لدخول النساء في جمع الذكور إذا وجدت قرينة كما هنا. والمكلف هو البالغ العاقل.
قوله: (والساهي والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب) الساهي اسم فاعل من (سها يسهو سهواً فهو ساهٍ) قال في اللسان: (السهو والسهوة: نسيان الشيء والغفلة عنه. وذهاب القلب إلى غيره . .)(137).
فالساهي في حال سهوة غير مكلف لأن مقتضى التكليف فهم المكلف لما كلف به. وهذا لا يتم غلا بالانتباه. ولهذا لم يجب سجود السهو على من سها في صلاته إلا بعد التذكر وزوال العذر، وحينئذ يكون مكلفاً.
وقوله (والصبي) هو الإنسان من الولادة إلى أن يفطم، ويطلق على الصغير دون الغلام(138).
والصبي غير مكلف سواء كان مميزاً على القول الراجح، أو غير مميز وهذا بالإجماع.(1/43)
وقوله: (والمجنون) هو فاقد العقل. وهو من لا يطابق كلامه وأفعاله كلام وأفعال العقلاء(139).
وهو غير مكلف لقوله (: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر. وفي رواية حتى يحتلم وفي رواية: حتى يبلغ. وفي رواية حتى يشب. وعن المجنون حتى يعقل)(140).
فجعل الشارع البلوغ علامة لظهور العقل وفهم الخطاب ومن لا يفهم لا يصح تكليفه. لعد قصد الامتثال.
فإن قيل: كيف تقولون: إن الصبي والمجنون غير مكلفين مع وجوب الزكاة وأوروش الجنايات وقيم المتلفات في ماليهما؟
فالجواب: أن هذا ليس من خطاب التكليف، وإنما هو من خطاب الوضع، وهو لا يشترط فيه التكليف بالبلوغ والعقل. وتوضيحه: أن هذا من باب ربط الأحكام بأسبابها، بمعنى أن الشرع وضع أسباباً تقتضي أحكاماً تترتب عليها تحقيقاً للعدل في خلقه ورعاية لمصالح العباد، فمتى وجد السبب وجد الحكم، فإذا وجد النصاب وجبت الزكاة، سواء كان النصاب لبالغ عاقل أو لصبي أو لمجنون، وكذا نقول إذا وجد الإتلاف وجب الضمان إذا لم يرض صاحب الحق بإسقاط حقه مهما كان المتلف، والله أعلم.
قوله: (والكفار مخاطبون بفروع الشرائع . .) المراد بالفروع الأحكام العملية من الأوامر كالصلاة والزكاة، والنواهي كالزنا وشرب الخمر. ولو عبر به المصنف لكان أولى(141).
فهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم. وما ذكره المصنف ن أنهم مخاطبون.
هو القول الراجح لقوة دليله، وأما كونهم مخاطبين بالإسلام فهذا لا خلاف فيه.
قال تعالى: ( ما سلككم في سقر(42) قالوا لم نك من المصلين(43) ولم نك نطعم المسكين(44) وكنّا نخوض مع الخائضين(45) وكنّا نكذّب بيوم الدين(46) حتى آتانا اليقين(47) ((142). وقال تعالى: (فلا صدّق ولا صلّى(31) ولكن كذّب وتولّى(32)((143)، ومن الأدلة أيضاً التمسك بالعمومات كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا((144) وقوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد((145).(1/44)
ومع أن الكافر مخاطب بالأوامر فإنه لا يصح منه فعل المأمور به حال كفره قال تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله((146) فالإيمان شرط لصحة الفعل، ولا يعارض هذا ما تقدم من أنهم مخاطبون حال كفرهم، لأن المراد هنا أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، والمراد هنا أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم ولا تنفعهم.
وإذا أسلم الكافر لا يؤمر بقضاء الماضي لقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف((147).
ولقول النبي ( لعمرو بن العاص: (أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله)(148) ولأن في ذلك ترغيباً له في الإسلام، فإنه إذا علم أنه لا يطالب بقضاء ما ترك فإنه يرغب في الإسلام إذ لو كلف بالقضاء لنفر عن الإسلام(149) والله أعلم.
هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟
(والأمر بالشيء نهي عن ضده. والنهي عن الشيء أمر بضده)(150).
لا خلاف أن صيغة الأمر (افعل) مغايرة الصيغة النهي (لا تفعل) فيكون الأمر بالشيء نهياً عن ضده من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، فالطلب له تعلق واحد بأمرين هما: فعل الشيء، ولكف عن ضده. فباعتبار الأول هو أمر، وباعتبار الثاني هو نهي. فإذا قال له: اسكن. فهذا أمر بالسكون، نهي عن ضده وهو الحركة. قال تعالى: : (يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله((151). فالأمر بالثبات نهي عن عدم الثبات أمام الكفار، وقد دل على ذلك قوله تعالى: : (يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم الذي كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار((152) ومثاله - أيضاً - الأمر بالقيام في الصلاة نهي عن ضده وهو الجلوس، فإذا جلس من قيامه أثناء صلاة الفرض عمداً لغير عذر بطلت صلاته، لأن أمره بالقيام نهي له عن الجلوس.
والنهي عن الشيء أمر بضده من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، فإذا قال له: لا تتحرك. فهذا نهى عن التحرك أمر بضده وهو السكون.(1/45)
والأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، فإذا قال له: قم. فإن له أضداده من قعود وركوع وسجود واضطجاع وهو منهيُّ عن ذلك كله.
والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فقط، فالنهي عن القيام أمر بواحد من أضداده من القعود أو الاضطجاع وغيرهما لحصول الامتثال بذلك الواحد.
واعلم أن هذه المسألة من المسائل التي كثرت فيها آراء الأصوليين والفقهاء، وتنوعت مذاهبهم، والصواب فيها ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ورجحه الشنقيطي رحم الله الجميع أن الأمر بالشيء ليس هو عين النهي عن ضده، ولكنه يستلزمه. لأن طلب الشيء طلب له بالذات ولما هو من ضرورته باللزوم من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فقولك: أسكن. يستلزم نهيك عن الحركة، لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده.
والنهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده. لأنه النهي عن الشيء طلب لتركه بالذات ولفعل ما هو من ضرورة الترك باللزوم، فقولك: لا تتحرك يستلزم أمرك بالسكون، لأن المنهي عنه لا يمكن وجوده مع التلبس بضده والله أعلم(153).
النهي
(والنهي: استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب، ويدل على فساد المنهي عنه، وترد صيغة الأمر والمراد به الإباحة أو التهديد أو التسوية أو التكوين).
النهي: استدعاء الترك بالقول ممن هو دونه على سبيل الوجوب، وشرح التعريف يستفاد مما تقدم في شرح تعريف الأمر.
وقوله: (على سبيل الوجوب) أي وجوب الترك. وهذا القيد لإخراج الصيغة المستعملة في الكراهة.(1/46)
وللنهي صيغة واحدة هي المضارع المقرون بلا الناهية، كقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنى((154) وقد يستفاد النهي بغير هذه الصيغة، وذلك مثل الجمل الخبرية التي وردت بلفظ التحريم، كقوله تعالى: (حرِّمت عليكم أمهاتكم((155)، أو نفي الحل كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها((156)، أو لفظ (نهى) كحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله ( عن صوم يوم الفطر ويوم النحر)(157)
قوله: (على سبيل الوجوب . . . ) اعلم أن صيغة النهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة تقتضي أمرين:
الأول: تحريم المنهي عنه، وهو معنى قول المصنف (على سبيل الوجوب) أي وجوب الترك، ومن لازم وجوب الترك تحريم المنهي يقتضي التكرار والفور، فإذا نهى الشرع عن شيء وجبت المبادرة بالترك وألا يفعل المنهي عنه في أي وقت من الأوقات، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا((158) فأمر الله تعالى بالانتهاء عن المنهي عنه. فيكون الانتهاء واجباً. لأن الأمر يقتضي الوجوب كما تقدم.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (أصل النهي من رسول الله ( أن كل ما نهى عنه فهو محرم، حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم)(159).
ومثال ذلك: الصلاة إلى القبور فهي محرمة بدليل النهي الذي ورد في حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها)(160).
ومثال مجيء النهي لغير التحريم قوله (: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول)(161) فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري عن الجمهور: أن النهي للكراهة، لأن الذكر بضعة من الإنسان لحديث (هل هو إلا بضعة منك)(162).(1/47)
الأمر الثاني مما تقتضيه صيغة النهي: فساد المنهي عنه، فلا تبرأ الذمة، ولا بسقط الطلب إن كان عبادة، ولا يترتب الأثر المقصود من العقد على العقد إذا كان معاملة كما تقدم في الكلام على الباطل، والقول بالفساد هو قول الأئمة الأربعة وغيرهم لحديث عائشة رضي الله عنها؛ أن النبي ( قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(163)، ووجه الدلالة منه: أن ما نهى عنه الشرع فليس عليه أمر النبي ( فيكون مردوداً، وما كان مردوداً على فاعله فكأنه لم يوجد لأنه فاسد.
فالشارع نهى عن الصلاة بلا طهارة ولغير القبلة وبدون ستر العورة، ونهى عن بيع الغرر، وعن بيع ما لا يملك، فإن وقع ذلك حكم بفساده، وقد لا يقتضي النهي الفساد إذا وجد دليل مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( قال: "لا تصرّوا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر"(164) فلا يدل النهي على أن البيع فاسد بدليل أنه جعل الخيار للمشتري(165).
ثم ذكر المؤلف أن صيغ الأمر تأتي للإباحة وقد تقدم الكلام على ذلك، وليس هذا تكراراً، لأن المقصود هناك بيان أن الصيغة لا تخرج عن الوجوب إلا بدليل، والمراد هنا بين ما استعملت فيه الصيغة من المعاني.
وتأتي للتهديد مثل قوله تعالى: (قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار((166) والقرينة الصارفة إلى التهديد أن ذلك الوعيد يدل على التهديد.
أو للتسوية كقوله تعالى: (فاصبروا أو لا تصبروا((167). أو للتكوين وهو الإيجاد من العدم بسرعة كقوله تعالى: (كونوا قِردة خاسئين((168).
والأولى ذكر هذه المعاني في الكلام على الأمر عند ذكر الإباحة والندب كما تقدم.
العام(1/48)
(وأما العام فهو ما عم شيئين فصاعداً، من قولك: عممت زيداً وعمراً بالعطاء. وعممت جميع الناس بالعطاء وألفاظه أربعة: الاسم الواحد المعروف باللام، واسم الجمع المعرف باللام، والأسماء المبهمة كمن فيمن يعقل، وما فيما لا يعقل، وأي في الجميع، وأين في المكان، ومتى في الزمان، وما في الاستفهام والجزاء وغيره، ولا في النكرات كقولك: لا رجل في الدار، والعموم من صفات النطق، ولا تجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه).
اعلم أن البحث في دلالات الألفاظ من حيث الشمول وعدمه من المباحث الأصولية المهمة، فإن هناك من الألفاظ ما لا يدل إلا يدل إلا على فرد معين، ومنها ما يدل على فرد غير معين، ومنها ما يدل على أفراد لا حصر لها. كل ذلك جاء في نصوص الكتاب والسنة.
وإذا كان استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة لا يتم إلا بمعرفة شروط الاستدلال كما تقدم كان لزاماً على الأصولي والفقيه أن يعني بدراسة دلالات الألفاظ، ويستفيد من قواعدها وضوابطها.
والعام لغة: الشامل.
واصطلاحاً: ما عم شيئين فصاعداً.
وقوله: ما: أي لفظ، وهي جنس في التعريف تشمل ما يراد تعريفه وغيره.
وقوله: عم شيئين: أي تناول شيئين دفعة واحدة، وهذا قيد يخرج ما لا يتناول إلا واحداً كالعلم مثل زيد، والنكرة المفردة في سياق الإثبات(169) مثل: (رجل) فهو لفظ يصلح لكل واحد من رجال الدنيا لكن بدون استغراق ومنه قوله تعالى: (فتحرير رقبة((170).
وقوله: فصاعداً: حال حذف عاملها وصاحبها، أي فذهب المعدود صاعداً عن الشيئين. وهذا قيد لإخراج المثنى النكرة في الإثبات كرجلين.
وبقي على التعري قيد آخر وهو (بلا حصر)(171) لإخراج اسم العدد كمائة وألف، لأنها تشمل اثنين فصاعداً ولكنها بحصر، والعام بلا حصر. فاسم العدد والعام كل منهما يدل على الكثرة لكن الكثرة في العام غير محصورة، وفي العدد محصورة.(1/49)
وقوله: (من قولك عممت زيداً وعمراً بالعطاء . . إلخ) أي أن العام مأخوذ من قولك: (عممت بالعطاء) أي شملت المذكورين، ففي العام شمول، أو يكون مثالاً للعام الذي يتناول شيئين، والعام الذي يتناول جميع الجنس(172).
ثم ذكر المصنف أن صيغ العموم أربع. وهذا ليس على سبيل الحصر، لأنها أكثر من ذلك، وإنما حصرها بأربع مراعاة للطالب المبتدئ. وصيغ العموم كما يلي:
1) الاسم الواحد المعرف بالألف واللام. والمراد بالواحد المفرد، والمراد بالألف واللام (أل) الاستغراقية فإن تعالى: (إن الإنسان لفي خسر(2) إلا الذين ءامنوا((173) فهذا عام بدليل الاستثناء.
2) اسم الجمع المعرف باللام التي ليست للعهد. والمراد الجمع بالمعنى اللغوي، وهو اللفظ الدال على جماعة فيشمل الجمع وهو ماله مفرد، واسم الجمع وهو ما ليس له مفرد من لفظه، واسم الجنس الجمعي. فالأول كقوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون(1)((174) وقوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فيستئذنوا((175). والثاني مثل كلمة (النساء) في قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء((176). والثالث: اسم الجنس الجمعي وهو ما يدل على أكثر من اثنين، ويفرق بينه وبين مفرده بالتاء كقوله تعالى: (إن البقر تشابه علينا((177) ومفرد بقرة، أو بالياء كقوله تعالى: (غلبت الروم(2)((178) ومفرده رومي.
………وأما المعرف بأل العهدية فيكون عامّاً إذا كان المعهود عامّاً كقوله تعالى: (إذ قال ربُّك للملائكة إني خالق بشراً من طين(71) فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين(72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون)(73)((179) فإن كان المعود خاصّا فالمعرف خاص كقوله تعالى: (كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً(15) فعصى فرعون الرسول((180).(1/50)
3) الأسماء المبهمة: وذلك كأسماء الشرط كقوله تعالى: (من يعمل سوءاً يجز به((181)، وأسماء الاستفهام كقوله تعالى: (فأين تذهبون(26)((182) والأسماء الموصولة كقوله ( (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)(183).
ومن للعموم في العاقل كما مثلنا، سواء كانت شرطية أو استفهامية أو موصولة. و (ما) للعموم في غير العاقل كقوله تعالى: (وما تفعلوا من خير يعلمه الله((184) وقوله تعالى: (وما عند الله خير للأبرار(198)((185) وقوله تعالى: (ماذا أجبتم المرسلين(65)((186).
ومعنى الإبهام في أسماء الشرط والاستفهام أنها لا تدل على معين، وفي الأسماء الموصولة افتقارها إلى صلة تعين المراد.
وقول المصنف: (وأي في الجميع) أي أن (أيّا) تكون شرطية نحو قول تعالى: (أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان علىّ((187)، واستفهامية كقوله تعالى: (لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا(12)((188). وموصولة كقوله تعالى: (ثمّ لننزعنّ من كل شيعة أيّهم أشدُّ على الرحمن عتيّا(69)((189) وتكون لغير العاقل كالمثال الأول، وللعاقل كالمثال الثاني والثالث.
وقوله: (وأين في المكان، ومتى في الزمان): أي أن (أين) تكون استفهامية للسؤال عن المكان كما تقدم، وتأتي شرطية كقوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت((190)؟ (ومتى) تأتي استفهامية كقوله تعالى: (متى نصر الله((191)؟ وشرطية نحو: متى تسافر أسافر.
وقوله: (وما في الاستفهام والجزاء وغيره): أي أن (ما) تأتي استفهامية وتأتي للجزاء أي: الشرط، وتقدم مثالهما. وفي بعض نسخ الورقات (والخبر) يدل (والجزاء) والمراد بها الموصولة وتقدم مثالها أيضاً. وقول المصنف (وغيره) أي غير المذكور الذي هو الاستفهام والجزاء على نسختنا، والاستفهام والخبر على النسخة الثانية وذلك كالخبر على النسخة الأولى، والجزاء على الثانية.(1/51)
4) النوع الرابع من صيغ العموم: لا. في النكرات، والمراد أن (لا) المركبة مع النكرة تفيد العموم كقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج((192). فالنكرة في سياق النفي تفيد العموم، وكذا في سياق النهي أو الشرط أو الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا(18)((193) وقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله((194) وقوله تعالى: (من إله غير الله يأتيكم بضياءٍ((195).
وبقي صيغ أخرى لم يتعرض لها المصنف ومنها:
1) لفظ: كل . وهي من أقوى صيغ العموم، لأنها تشمل العاقل وغيره، المذكر والمؤنث، المفرد والمثنى والجمع. قال تعالى: (كلُّ نفس ذائقة الموت((196) وقال (: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها(197).
ويلحق (بكل) ما دل على العموم بمادته مثل جميع ومعشر ومعاشر وعامة كافة ونحوها.
2) المضاف لمعرفة، سواء كان مفرداً أو جمعاً كقوله تعالى: (وإن تعدّوا نعمت الله لا تحصوها((198) وقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم((199).
3) النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم بدليل قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا(48)((200) لأن العموم يتناسب مع الامتنان وكقوله تعالى: : (فيهما فاكهة ونخل ورمّان(68)((201).
4) النكرة في سياق الإثبات تفيد العموم بدليل قوله تعالى: (علمت نفس ما أحضرت(14)((202) والدليل قوله تعالى: (هنالك تبلوا كلُّ نفس مّا أسلفت((203).(1/52)
وقوله: (والعموم من صفات النطق): النطق مصدر بمعنى اسم المفعول، أي: المنطوق. والمنطوق هو اللفظ لأنه ينطق به لاشتماله على الحروف. فالعموم من صفات الألفاظ. فيقال: لفظ عام. لأن العام له صيغ تستعمل في العموم لا يستفاد بدونها - كما تقدم في الأمثلة - فإذا وردت الصيغة مجردة عن القرائن دلت على استغراق الجنس، فالعموم من مفهوم لسان العرب. هذا مذهب السلف من صدر هذه الأمة. ومن تابعهم ممن بعدهم. فكانوا يستدلون ويحتجون بنصوص العموم. فيوافق المخالف منهم على صحة الاستدلال. ولنذكر مثالين لذلك:
الأول: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم((204) قال أصحاب النبي (: وأينا لم يظلم. فنزلت (إن الشرك لظلم عظيم(13)((205)، (206) ففهم الصحابة رضي الله عنهم العموم في الآية إما من الاسم الموصول (والذين آمنوا( أو من النكرة في سياق النفي (يظلم( ولم ينكر عليهم النبي ( ذلك الفهم. بل جاء البيان أن المراد بالظلم الشرك(207). قال في فتح الباري: (وفيه الحمل على العموم حتى يرد دليل الخصوص)(208).
المثال الثاني: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (: (من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. فقالت أم سلمة رضي الله عنها: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخينه شبراً. فقالت: إذن تنكشف أقدامهن: قال: فيرخينه ذراعاً ولا يزدن عليه)(209).
ففهمت أم سلمة رضي الله عنها من لفظ (مَنْ) تفيد العموم بدون قرينة. لأن العموم من صفات الألفاظ)(210).(1/53)
وقوله: (ولا يجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري مجراه) الضمير في قوله: (غيره) يعود إلى ليس من صيغ العموم. وهذا يراد به الفعل المثبت نحو: والله لآكلنّ طعاماً. فإذا أكل طعاماً واحداً برًّ بيمينه. أما الفعل في سياق النفي فهو من صيغ العموم، فإذا حلف لا يبيع حنث بأي بيع كان، وسرّ الفرق بين النوعين هو أن الفعل ينحل عن مصدر وزمن. فالمصدر كامن في معناه إجماعاً. فإن كان مثبتاً فالمصدر مثبت. والنكرة في سياق الإثبات لا تعم إلا في مقام الامتنان كما تقدم. وإن كان منفيّا فالمصدر منفي، والنكرة في سياق النفي تعم كما مضى، ومثال الفعل المثبت قول بلال رضي الله عنه (صلى رسول الله ( داخل الكعبة)(211)، فهذا لا يعم الفرض والنفل، إذ لا يتصور أن هذه الصلاة فرض ونفل معاً. ومثال الفعل المنفي قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها((212) أي لا قدرة لكم عليها. فهو نفي لجميع أنواع القدرة(213).
والمراد بقوله: (وما يجري مجراه) كالقضايا المعينة مثل حديث أبي رافع رضي الله عنه قال: (قضى رسول الله ( بالشفعة للجار)(214).
فهذا لا يعم كل جار، لاحتمال الخصوصية في ذلك الجار. والراوي نقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم، هكذا مثل شراح الورقات، وهو رأي أكثر الأصوليين.
ويرى آخرون ومنهم ابن الحاجب والعضد والأمدي والشوكاني أن هذا يعم كل جار، لأن الصحابي الراوي عدل عارف باللغة، فلا ينقل صيغة العموم وهي كلمة (الجار) المعرفة بلام الجنس إلا إذا علم أو ظن العموم. ومثل هذا يفيد العموم، لأن اللام غالباً للاستغراق فحملها على اللام العهدية خلاف الظاهر وخلاف الغالب(215) وهذا هو الراجح.
قال الشوكاني: (فرجحان عمومه وضعف دعوى احتمال كونه خاصّا في غاية الوضوح)(216)، ولأنه مؤيد بعموم الشريعة لكل الناس. والنبي ( إذا حكم بقضاء في واقعة معينة، ثم حدث لنا مثلها وجب إلحاقها بها، لأن حكم المثلين واحد، وهو إلحاق باللفظ لا بالقياس، والله أعلم.(1/54)
الخاص
(والخاص يقابل العام. والتخصيص: تمييز بعض الجملة. وهو ينقسم إلى: متصل ومنفصل، فالمتصل: الاستثناء والشرط، والتقييد بالصفة).
لما فرغ من العام ذكر الخاص لأن العام يدخله التخصيص، ولأن العام قد يطلق ويراد به الخاص، وقد ذكر أن الخاص يقابل العام.
فالخاص لغة: لفظ يدل على الانفراد وقطع الاشتراك يقال: خص فلان بكذا. انفرد به فلم يشاركه فيه غيره. والخاصة ضد العامة.
واصطلاحاً: اللفظ الدال على محصور.
فهو يقابل العام، فإذا كان العام هو اللفظ الشامل لجميع أفراده بلا حصر. فالخاص يدل على الحصر: إما بشخص كالأعلام مثل: جاء محمد. أو الإشارة نحو: هذا مخلص في عمله. أو بعدد كأسماء الأعداد نحو: عندي عشرون كتاباً.
قوله: (والتخصيص، تمييز بعض الجملة) عرف التخصيص لأنه هو المقصود بهذا البحث. والتخصيص: لغة: الإفراد، واصطلاحا: تمييز بعض الجملة. فالتمييز بمعنى الإخراج. والمراد بالجملة: العام. فكأنه قال: إخراج بعض العام.
وقيل: التخصيص: إخراج بعض أفراد العام. أي جعل الحكم الثابت للعام مقصوراً على بعض أفراده بإخراج البعض الآخر عنه. وهذا التعريف أوضح فإذا قلت: حضر الضيوف إلا خالداً. فإن (خالداً) فرد من أفراد العام. وقد أخرج عن حكم العام فلم يثبت له الحضور، وهذا الإخراج بواسطة الاستثناء. والعام إذا دخله التخصيص يسمى العام المخصوص أو المخصص، والدليل الذي حصل به الإخراج يسمى (المخصص) بزنة اسم الفاعل وهو المراد عند الأصوليين، ويطلق المخصص أيضاً على فاعل التخصيص وهو الشارع.
قوله: (وهو ينقسم إلى متصل ومنفصل) الضمير يعود على المخصّص المفهوم من التخصيص فهو نوعان:
1) متصل: وهو الذي لا يستقل بنفسه، بل يكون العام والمخصّص في نص واحد:
كقوله تعالى: (ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا((217)، فقوله (من استطاع) بدل من الناس، فيكون وجوب الحج خاصّا بالمستطيع، وقوله ( عن ربه (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم)(218).(1/55)
2) منفصل: وهو الذي يستقل بنفسه بأن يكون العام في نص، والمخصص في نص آخر، كقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين((219). خص بقوله (: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)(220).
قوله: (فالمتصل الاستثناء والشرط والصفة) أي أن المخصص المتصل هو الاستثناء نحو: هذا وقف على أولادي إلا الغني، والشرط نحو: إن قدم بكر فأكرمه، والصفة نحو: أكرم العلماء العاملين، وسنفصل القول في ذلك إن شاء الله.
المخصص المتصل
1) الاستثناء
(والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام. وإنما يصح بشرط أن يبقى من المستثنى منه شيء، ومن شرطه: أن يكون متصلاً بالكلام. ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه، ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره).
هذا النوع الأول من المخصص المتصل وهو الاستثناء، وهو لغة: مأخوذ من الثني أي العطف والصرف. تقول: ثنيت الحبل أثنيه: إذا عطفت بعضه على بعض. وتقول: ثنيته عن الشيء: إذا صرفته عنه.
واصطلاحاً: إخراج ما لولاه لدخل في الكلام، بإلا أو إحدى أخواتها.
كقوله (: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً)(221).
وقوله: (إخراج): المراد بالإخراج: الطرح بإسقاط ما بعد أداة الاستثناء من المعنى الذي قبلها. فيخالف ما بعدها ما قبلها فيما تقرر من حكم مثبت أو منفي.
وقوله: (ما لولاه) الضمير عائد على الإخراج أي لولا ذلك الإخراج موجود.
وقوله: (لدخل في الكلام) أي لدخل ذلك المخرج في حكم الكلام السابق، نحو: جاء القوم إلا زيداً. فلولا الاستثناء لدخل (زيد) في حكم الكلام السابق وصدق عليه المجيء.
وقولنا: بإلا أو إحدى أخواتها: هذا قيد لإخراج المخصصات المتصلة الأخرى كالشرط والصفة، لأن تعريف المصنف يصدق عليها، ولعل المؤلف سكت عن هذا القيد لظهوره والله أعلم.(1/56)
واعلم أن المعنى اللغوي للاستثناء متحقق في المعنى الاصطلاحي، لأن المستثنى معطوف عليه بإخراجه من حكم المستثنى منه، أو لأنه مصروف عن حكم المستثنى منه.
والاستثناء له شروط منها:
1) أن يبقى من المستثنى منه شيء. كأن يقول: له علي عشرة إلا خمسة. فيلزمه خمسة، فإن قال: له علي عشرة إلا عشرة، بطل الاستثناء بالإجماع، كما نقله الرازي في المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى لإفضائه إلى العبث، وكونه نقضاً كليّاً للكلام إلا في قول شاذ، وإذا بطل الاستثناء لزمته العشرة كلها.
……أما إذا استثنى الأكثر كأن يقول: له علي عشرة إلا ستة. ففيه خلاف فأكثر الأصوليين على الجواز ورجحه الشوكاني، ومنعه آخرون منهم الإمام أحمد وأصحابه، وهو قول للشافعي(222) وهذا الخلاف فيما إذا كان الاستثناء من عدد.
……أما إذا كان الاستثناء من صفة فيصح استثناء الأكثر أو الكل. ومنه قوله تعالى لإبليس: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتّبعك من الغاوين(42)((223) فاستثنى الغاوين وهم أكثر من غيرهم بدليل قوله تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين(103)((224) ولو قال: أعط من في البيت إلا الأغنياء. فتبين أن الجميع أغنياء صح الاستثناء ولم يعطوا شيئاً.
……أما استثناء أقل من النصف فهو جائز بالإجماع، نقله الشوكاني في الإرشاد(225)، وأما استثناء النصف ففيه الخلاف والصحيح، الجواز كالمثال المتقدم وهو قول الجمهور من الشافعية والمالكية والحنفية، والراجح عند الحنابلة.
2) الشرط الثاني من شروط الاستثناء أن يكون متصلاً بالكلام: إما حقيقة أو حكماً، فالأول أن يكون المستثنى عقب المستثنى منه مباشرة بأن يقول: اعتق عبيدي إلا سعيداً. والثاني أن يحصل فاصل اضطراري كالعطاس والسعال ونحوهما فيحكم له بالاتصال ويصح الاستثناء.(1/57)
وعلى هذا فإن حصل فاصل بينهما من سكوت أو كلام بطل الاستثناء عند الجمهور، وقيل يصح مع السكوت أو الفاصل إذا كان الكلام واحداً، واستدل هؤلاء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما. أن النبي ( قال يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه. فقال العباس يا رسول الله: إلا الأذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم. فقال: إلا الأذخر)(226) وهذا قوله وجيه لقوة دليله كما ترى.
قوله: (ويجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه) أي لوقوعه في كلام العرب وغرض المصنف بيان أنه لا يشترط في صحة الاستثناء تأخير المستثنى عن المستثنى منه في اللفظ، بل يجوز تقديمه وهو قول الجمهور. ومنه قوله (: (إني - والله - إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)(227)، هكذا يمثل بعض الأصوليين وليس فيه استثناء بالمعنى المتقدم، ولعله مبني على ما جاء في المسوّدة (في أصول الفقه من أن الاشتراط بالمشيئة هو استثناء في كلام النبي ( والصحابة، وليس استثناء في العرف النجوى)(228) أ هـ.
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الإيمان والنذور فقال: (باب الاستثناء في الإيمان) ثم أورد الحديث: فالاستثناء عند الفقهاء أعم، ومنه: لك هذا المنزل ولي هذه الغرفة.
قوله: (ويجوز الاستثناء من الجنس ومن غيره) الاستثناء من الجنس هو الاستثناء المتصل نحو: قام القوم إلا زيداً. وهو من المخصصات. والاستثناء من غير الجنس هو المنقطع نحو: جاء القوم إلا فرساً. وله عليّ ألف دينار إلا ثوباً. فيصح الاستثناء وتسقط قيمة الثوب من الألف على القول بصحة الاستثناء المنقطع.
ووجه اشتراط كون المستثنى من جنس المستثنى منه، لأن الاستثناء إخراج بعض ما دخل في المستثنى منه، وغير جنسه لم يدخل حتى يحتاج إلى إخراج. ولا خلاف في جواز الاستثناء من الجنس.(1/58)
وأما من غير جنسه فاكثر الأصوليين على جوازه لوروده في القرآن الكريم وفي كلام العرب. قال تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم((229) وقال تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما((230) وقال الراجز:
وبلدة ليس بها أنيس ……إلا اليعافير وإلا العيس
واليعافير: وهي أولاد بقر الوحش. والعيس وهي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة. ليس واحد منها من جنس الأنيس . .
والقول بالجواز هو الصحيح لقوة مأخذه، وهو قول أكثر الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة. وأما الصحيح من الروايتين عند الإمام أحمد رحمه الله فهو القول بالمنع، واختار الغزالي(231) وقال الآمدي (ومنع منه الأكثرون)(232).
وعلى هذا فقوله: له عليّ ألف دينار ثوباً. على القول بالجواز تسقط قيمة الثوب من الألف كما تقدم. وعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله: إلا ثوباً. لغواً وتلزمه الألف كاملة. جاء في مختصر الخرقي: (ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلاً(233) . .) والله أعلم.
2) الشرط
(والشرط يجوز أن يتأخر عن المشروط، ويجوز أن يتقدم على المشروط).
هذا النوع الثاني من المخصص المتصل وهو الشرط، والمراد به الشرط اللغوي فهو المخصص للعموم. وأما الشرط الشرعي الذي يذكر في الأحكام الوضعية كاشتراط الطهارة للصلاة، والشرط العقلي وهو مالا يمكن المشروط في العقل بدونه كالحياة للعلم. فلا تخصيص بهما.
والشرط: هو تعليق شيء بشيء بإن الشرطية أو بإحدى أخواتها. مثل: إن زرتني أكرمتك. ففيه تعليق الإكرام بالزيارة بإن، فإن وجدت الزيارة وجد الإكرام.(1/59)
والشرط المخصص يجوز أن يتأخر عن المشروط، لأن المخصص شأنه أن يتأخر كقوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد((234). فالشرط وهو عدم الولد قصر استحقاق الأزواج نصف المال على حالة عدم الولد، ولو لا هذا الشرط لاستحق الأزواج النصف في كل الأحوال.
ويجوز أن يتقدم على المشروط كقوله تعالى: (وإن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عليهنَّ حتى يضعن حملهنَّ((235) والمراد التقدم والتأخر في اللفظ، وأما في الوجود الخارجي فيجب أن يتقدم الشرط على المشروط، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. فلابد من تقدم الدخول حتى يقع الطلاق، وكالطهارة للصلاة أو يقارنه كاستقبال القبلة فيها.
وهذا النوع من الشرط هو الذي يذكره الفقهاء في الطلاق والعتق ونحوهما فيقولون: العتق المعلق على شرط، والطلاق المعلق على شرط. والله أعلم.
المطلق والمقيد
(والمقيد بالصفة يحمل عليه المطلق، كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع، وأطلقت في بعض المواضع، فيحمل المطلق على المقيد).
هنا بحثان:
الأول: في المخصص الثالث وهو الصفة. الثاني: في المطلق والمقيد.
أما الأول: فالمراد بالصفة والمخصصة للعام: الصفة المعنوية وليس النعت المذكور في علم النحو.
وهي: ما أشعر بمعنى يتصف به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال(236).
فمثال النعت: هذا وقف على أولادي المحتاجين.ومنه قوله (: (من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)(237).
فقوله (مؤبراً) صفة للنخل. ومفهومها أن النخل إن لم تؤبر فثمرتها للمشتري. ومثال البدل: هذا وقف على أولادي المحتاجين منهم، ومنه قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا((238) فقوله (من استطاع( بدل من (الناس( فيكون وجوب الحج على المستطيع منهم.
ومثال الحال: قوله تعالى في جزاء الصيد: (ومن قبله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم((239).(1/60)
فقوله (متعمداً) حال من المضمر المرفوع في (قتله) وهو يدل على أن الجزاء خاص بالعامد دون المخطئ والناسي، وهذا على أحد القولين في المسألة وهو الأظهر إن شاء الله، والله أعلم.
أما المبحث الثاني فهو: في المطلق والمقيد، وإنما ذكره هنا لأن المطلق شبيه بالعام والمقيد شبيه بالخاص، لكن عموم العام شمولي وعموم المطلق بدلي على المشهور. فإذا قيل: أكرم الطلاب. فالمراد الشمول فهذا عام. وإذا قيل: أكرم طالباً. فهذا فيه عموم من جهة أنه لا يخص فرداً بعينه بل هو شائع في جميع الأفراد، لكن لا الجمع. فإذا أكرم زيد - مثلاً - لم يكرم غيره.
والمطلق لغة: ما خلا من القيد. واصطلاحاً: ما دلّ على شائع في جنسه بلا قيد.
فقولنا: (ما) أي لفظ. وهذا يشمل المطلق والمقيد وقولنا (على شائع في جنسه) يخرج العلم كزيد. والعام لأنه يستغرق جميع أفراد الجنس لا على أنه شائع فقط، وقولنا: بلا قيد: يخرج المقيد.
وأكثر مواضع المطلق النكرة في سياق الإثبات نحو: أكرم طالباً. ومنه قوله تعالى: (والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا((240).
والمقيد لغة: ما وضع فيه قيد من إنسان أو حيوان.
واصطلاحاً: ما دل على شائع في جنسه مقيد بصفة من الصفات. نحو: أكرم طالباً مهذباً فـ (طالباً) فرد شائع في جنس الطلاب. قيد هنا بما يقلل شيوعه. فالمقيد هو مطلق لحقه قيد أخرجه عن الإطلاق إلى التقييد.
واعلم أن الألفاظ في هذا الباب ثلاثة أقسام:
الأول: ما جاء بلا قيد. فهذا يجب العمل به على إطلاقه. كقوله تعالى: (وأمهات نسائكم( فهذا نص مطلق لم يقيد بالدخول فيعمل به على إطلاقه، فتحرم أم الزوجة بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أم لم يدخل(241).(1/61)
الثاني: ما جاء مقيداً فيلزم العمل بموجب القيد الوارد فيه ولا يصح إلغاؤه، كقوله تعالى في كفارة الظهار (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا( فورد الصيام مقيداً بالتتابع وبكونه قبل التماس والاستمتاع، فيعمل به على تقييده بهذين القيدين(242).
الثالث: أن يرد اللفظ مطلقاً في نص ومقيداً في نص آخر، فيحمل المطلق على المقيد، ومعنى حمل المطلق عليه أن يقيد المطلق بقيد المقيد. وذلك إذا كان الحكم واحداً. ومثاله: ما ذكره المصنف من أن الرقبة قيدت بالإيمان في كفارة القتل في قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة((243) وأطلقت في كفارة الظهار في قوله تعالى: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا((244) والحكم واحد وهو تحرير رقبة، فيحمل المطلق على المقيد، ويشترط الإيمان في كفارة الظهار على أحد القولين في المسألة.
فإن اختلف الحكم عمل بكل منهما على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد. ومثاله: آية الوضوء قيدت فيها الأيدي إلى المرافق، كما قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق((245) وفي آية التيمم جاءت مطلقة، قال تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه((246) والحكم مختلف لأنه في الوضوء غسل، وفي التيمم مسح. فلا يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، وقد دلت السنة على أن المسح في التيمم للكفين، والله أعلم.
هذا وللمطلق والمقيد أحوال أخرى وقع فيها الخلاف أيضاً تجدها في المطولات.
المخصص المنفصل
(ويجوز تخصيص الكتاب الكتاب، وتخصيص الكتاب بالسنة، وتخصيص السنة بالكتاب، وتخصيص السنة بالسنة، وتخصيص النطق بالقياس، ونعني بالنطق قول الله تعالى وقول الرسول ( ).
لما فرغ من المخصص المتصل وذكر المطلق والمقيد ضمناً شرع في بيان المخصص المنفصل، وهو الذي يستقل بنفسه كما تقدم، والمخصص المنفصل ثلاثة:(1/62)
1) الحس: والمراد به المشاهدة والإدراك بالحواس ومثاله: قوله تعالى عن ريح عاد: (تدمر كل شيء بأمر ربها((247) فالآية عامة دخلها التخصيص بالحس حيث دل على أن الريح لم تدمر السموات والأرض والجبال.
2) العقل: ومثاله قوله تعالى: (الله خالق كل شيء((248) فإن العقل دل على أن ذات الله تعالى غير مخلوقة مع أن لفظ شيء يتناوله سبحانه، قال تعالى: (كل شيء هالك إلا وجهه((249) وقال تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله((250).
………ومنع بعض العلماء أن يكون هذا وما قبله من باب التخصيص، وهو إخراج بعض أفراد العام، وقالوا: إن ذلك من باب العام الذي أريد الخاص، وهو أن يكون المخصوص غير مراد عند المتكلم ولا المخاطب، بمعنى أنه غير داخل في العام أصلاً بحيث يحتاج إلى إخراج.
………على أن بعضهم قال: إن التخصيص قد يفهم من قوله تعالى: (بأمر ربها((251) وقوله تعالى: (ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم((252)، والله أعلم.
3) الشرع: وهذا هو الذي بينه المصنف، وهو المراد في أصول الفقه. وتحته قسمان:
الأول: تخصيص الكتاب. والمخصص له أربعة: كتاب مثله، أو سنة، أو إجماع، أو قياس.
1) تخصيص الكتاب بالكتاب: أي تخصيص بعض آياته العامة ببعض آخر.
وقوله (يجوز) أي بدليل وقوعه. ومثاله قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء((253) فهذه الآية عامة في المدخول بها وغير المدخول بها، فخصت بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها((254) فخرجت غير المدخول بها من عموم الآية الأولى فلا عدة عليها لهذه الآية.
2) تخصيص الكتاب بالسنة: ومثاله: قوله تعالى: (وأحل لكم ما ورآء ذلكم((255). خص بحديث: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)(256).(1/63)
3) تخصيص الكتاب بالإجماع: وهذا لم يذكره المصنف وإنما كان الإجماع مخصصاً لأنه بمثابة نص قاطع شرعي. أما العام فهو ظاهر ظني عند الجمهور، فيقدم القاطع. قال ابن بدران (والحق أن التخصيص يكون بدليل الإجماع لا بالإجماع نفسه)(257) ومثلوه بقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة((258) فالآية عامة في الحر والرقيق، فخصت بالإجماع على أن العبد القاذف يجلد على النصف من الحر.
ولكن هذا التمثيل فيه نظر، لأنه ثبت الخلاف في المسألة فقد ذكر القرطبي(259) رحمه الله. أن من أهل العلم من يرى أنه يجلد ثمانين كالحر، ومنهم ابن مسعود رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رحمه الله، وإذا ثبت الخلاف فلا إجماع. ولأنه قد يكون المخصص للآية هو القياس، ومن الأمثلة: قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله( فإنهم أجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة(260).
4) تخصيص الكتاب بالقياس: ومثاله قوله تعالى (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة((261) فإن عموم الزانية خص بالكتاب وهو قوله تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب((262) فيقاس العبد الزاني على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور.
القسم الثاني: تخصيص السنة. والمخصص لها كتاب أو سنة مثلها أو قياس.
1) تخصيص السنة بالكتاب: ومثاله قوله (: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)(263) خص بقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون((264).
2) تخصيص السنة بالسنة: ومثاله قوله (: (فيما سقت السماء العشرة)(265) فهذا عام في القليل والكثير. خص بقوله (: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)(266).(1/64)
3) تخصيص السنة بالقياس: ومثاله قوله (: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)(267) فخص من الحديث العبد قياساً على الأمة التي ثبت تنصيف الحد عليها بالقرآن كما تقدم. فيجلد العبد خمسين جلدة كما ذكرنا في تخصيص الكتاب بالقياس.
وتخصيص الكتاب والسنة بالقياس هو المراد بقول المصنف (وتخصيص النطق بالقياس) ثم بين أن المقصود بالنطق: الكتاب والسنة. وإنما جاز تخصيص الكتاب والسنة بالقياس لأن القياس يستند إلى نص من كتاب أو سنة، فكأن المخصص هو ذلك النص، فرجع الأمر إلى تخصيص الكتاب والسنة بمثلهما والله أعلم.
المجمل ولمبين
(والمجمل ما افتقر إلى البيان. والبيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي. والنص مالا يحتمل إلا معنى واحداً. وقيل: ما تأويله تنزيله، وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي).
اعلم أن اللفظ من حيث الدلالة على المعنى له حالتان:
1) أن يدل على معنى واحد. وهذا هو النص كما سيأتي إن شاء الله.
2) أن يحتمل معنيين فأكثر. فإن كانا على حد سواء فهذا مجمل، وإن كان أحدهما أظهر من الآخر وأرجح فحمله على الراجح هو الظاهر، وحمله على المرجوح هو المؤول.
والمجمل لغة: المجموع، ومنه أجمل الحساب إذا جمع وجعل جملة واحدة، ويطلق على المبهم من أجمل الأمر أي أبهم. والمبهم أعم من المجمل عموماً مطلقاً، فكل مجمل مبهم، وليس كل مبهم مجملاً. فإذا قلت لشخص: تصدق بهذا الدرهم على رجل. فهذا فيه إبهام. وليس فيه إجمال لأنه معناه لا إشكال فيه.
والمجمل اصطلاحاً عرفه بقوله: (ما افتقر إلى بيان) فقوله (ما) أي لفظ (افتقر) أي احتاج إلى بيان إما بقول أو بفعل، لأن المراد منه لم يتضح، وقيل: ما احتمل معنيين أو أكثر لا مزية لأحدهما أو أحدها على الآخر.
وأسباب الإجمال ثلاثة:(1/65)
1) عدم معرفة المراد، ومن أسبابه الاشتراك في الدلالة: وهذا إما في المركب أو في المفرد. فالمركب: وهو ما كان الإجمال فيه بالنظر إلى المطلوب من التركيب كقوله تعالى: (إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح((268) لاحتمال أن يكون الزوج وأن يكون الولي، والمفرد إما اسم كقوله تعالى: (والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء((269) فالقرء متردد بين معنيين: الطهر والحيض. ولذا وقع الخلاف بين العلماء: هل تكون الثلاثة قروء هذه حيضات أو أطهاراً؟ وقد يكون المفرد فعلاً كقوله تعالى: (والليل إذا عسعس((270) لتردده بين أقبل وأدبر، أو حرفاً كقوله تعالى: (فتيمموا صعيداً طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه((271) لتردد (من) بين ابتداء الغاية أي مبدأ المسح من الصعيد الطيب فلا يتعين ما له غبار. أو تكون للتبعيض، فيتعين التراب الذي له غبار يعلق باليد. ولذا وقع الخلاف في ذلك، ولا يزول الإجمال فيما ذكر إلا بتعيين المراد.
2) عدم معرفة الصفة. ويزول الإجمال ببيان الصفة، ومثاله قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة((272) فإن صفة إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان، فحصل بيانها بالقول والفعل من الرسول (.
3) عدم معرفة المقدر. ويزول الإجمال ببيان المقدار. ومثاله قوله تعالى: (وءاتوا الزكاة((273) فإن مقدار الزكاة يحتاج إلى بيان فحصل بيانه بقول الرسول (.
واعلم أن الإجمال وإن كان قد ورد في الشريعة وأنه نوع من تعبد الله تعالى للعباد، فإنه لم يبق فيها مجمل، لأن النبي ( قد بين لأمته جميع شريعته، كما قال ( "لقد تركتم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك"(274) ولم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً. فإن وقع للمجتهد شيء من ذلك فقد يكون لعدم اطلاعه على المبيّن لهذا الإجمال. فيكون نسبيّاً والله أعلم.(1/66)
قوله: (والبيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي) لما عرف المجمل. عرف البيان لافتقار المجمل إليه. وهو لغة: الظهور والوضوح يقال: بان الأمر وتبين بمعنى اتضح وانكشف.
وأما في الاصطلاح فهو يطلق على التبيين وهو فعل المبين. ويطلق على الدليل الذي حصل به البيان، ويطلق على العلم الذي يستفاد من الدليل، والمصنف جرى على الأول وهو الأشهر، فعرفه بأنه إظهار المعنى للمخاطب وإيضاحه فقال (إخراج الشيء . . إلخ).
وهذا التعريف مبني على ما درج عليه أكثر الأصوليين حيث خصوا البيان بإيضاح ما فيه خفاء. ومنهم من يطلقه على كل إيضاح، سواء تقدمه خفاء أم لا.
وقد انتقد المصنف نفسه هذا التعريف في كتابه (البرهان)(275) وذلك لورود عبارات لا ينبغي إيداعها التعاريف مثل: الحيز، وذلك أن التبيين أمر معنوي، والمعنى لا يوصف بالاستقرار في الحيّز، لأن الحيّز هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شيء، وهو من ألفاظ المتكلمين.
وممن انتقده الآمدي(276) لأنه غير جامع، فإن المبيّن ابتداء: الذي لم يسبق بإجمال مثل: سماء، أرض، جدار. لا يدخل في هذا التعريف مع أنه بيان. فيكون التعريف خاصّاً ببيان المجمل كما ذكرنا.
قوله: (إخراج الشيء): المراد بالإخراج إظهار معنى المبيّن للمخاطب وإيضاحه، وهذا على أن البيان يطلق على فعل المبيّن، وهو التبيين كما قدمنا.
وقوله: (من حيز الإشكال): أي من صفة وحال الإشكال. والإشكال: هو خفاء المراد بحيث لا يدرك المقصود من اللفظ.
قوله: (إلى حيز التجلي): أي الظهور والوضوح. وذلك يتم ببيان الصفة أو المقدار أو تعيين المراد كما تقدم.
قوله: (والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً) لما عرف المجمل وعرف البيان ذكر النص، لأنه هو المبين للمجمل. وهو لغة: عبارة عن الظهور، ومنه سمي كرسي العروسة منصة، لظهورها عليه، وسيذكر المصنف ذلك.(1/67)
والنص اصطلاحاً عرفه بقوله: (ما يحتمل إلا معنى واحداً). فقوله: (ما) أي لفظ. وقوله (لا يحتمل إلا معنى واحداً) أي يدل على معنى واحد قطعاً، ولا يحتمل غيره. وهذا هو النص الصريح.
ومثاله قوله تعالى: (محمد رسول الله( فالآية نص صريح في أن محمداً ( رسول الله. وقوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر((277) فالآية نص في قدرة مدة التربص.
قال القاضي أبو يعلى: (والصحيح أن يقال: النص ما كان صريحاً في حكم الأحكام وإن كان اللفظ محتملاً في غيره، وليس من شرط ألا يحتمل معنى واحداً، لأن هذا يعزّ وجوده . .) والظاهر أن هذا النص غير الصريح، والله أعلم.
ويطلق النص عند الفقهاء على كل ما ورد في الكتاب والسنة أنه نص، فيقال لنا النص والمعنى، ونصوص الشريعة متضافرة بذلك . . وهو بهذا الاصطلاح يقابل الإجماع والقياس(278).
وقوله: (وقيل ما تأويله تنزيله) هذا تعريف آخر للنص.
وقوله: (تأويله): أي حمله على معناه وفهم المراد منه.
(تنزيله): أي بمجرد نزوله يفهم معناه، ولا يتوقف فهم المراد على تأويل أي: على تفسير. لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً كما تقدم(279).
والتعريف الأول الذي ذكره المصنف أدق من هذا، لأنه قد يدخل فيه الظاهر، لأنه بمجرد سماعه يفهم منه معناه الظاهر من غير احتياج إلى شيء آخر، وإن احتمل غيره مرجوحاً.
قوله: (وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي) يشير بذلك إلى أن النص في وضوحه يشبه العروس الجالسة على مرتفع لا تخفى على أحد. ولا يحتمل أن تكون غيرها هي، فكذلك النص في ظهوره الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً.
والظاهر أن المراد بقوله: (وهو مشتق من منصة العروس) الاشتقاق المعنوي وهو الارتفاع والظهور. لا الاشتقاق اللغوي. لأن (منصة) بكسر الميم اسم آلة مشتقة من المصدر وهو النص. وليس النص مشتقاً منها. والله أعلم.
الظاهر والمؤول(1/68)
(والظاهر ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر. ويؤول الظاهر بالدليل، ويسمى الظاهر بالدليل).
الظاهر لغة: الواضح. وقال بعضهم: لفظه يغني عن تفسيره. واصطلاحاً عرفه بقوله: (ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر).
فقوله: (ما): أي لفظ.
وقوله: (احتمل أمرين): أي معنيين أو أكثر، لأن الظاهر قد يكون له عدة احتمالات، هو في أحدهما أظهر. وهذا يخرج النص لما تقدم.
وقوله: (أحدهما): أي أحد المعنيين، وهو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن بمجرد السماع، وهذا يخرج المجمل لأنه لا يتبادر فيه واحد من المعنيين.
وقوله: (أظهر من الآخر): للظهور أسباب منها:
1) الحقيقة ويقابلها المجاز. نحو: رأيت أسد. فهو يحتمل أن يكون المراد الحيوان المفترس، وهو الظاهر لأنه موضوع له، ويحتمل الرجل الشجاع، وحمله عليه تأويل لا يقبل إلا بقرينة.
2) الاكتفاء وعدم التقرير، لأن هذا هو الأصل، فقوله تعالى: (وجاء ربك((280) ظاهره أن الله تعالى يجيء بنفسه، وادعاء أن المراد (جاء أمر ربك) تأويل على خلاف الظاهر.
3) الإطلاق وعدم التقييد كقوله تعالى في كفارة الظهار: (فتحرير رقبة((281) الظاهر أن الرقبة غير مقيدة بالإيمان، وتقدم ذلك في باب المطلق والمقيد.
4) العموم. فألفاظ العموم ظاهرة فيه مع احتمال الخصوص. وحملها على الخصوص تأويل(282) ومن أمثلة الظاهر ما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله ( عن الوضوء من لحوم الإبل. فقال: "توضأوا منها . . " الحديث(283).
فإن الظاهر من الحديث أن المراد غسل الأعضاء الأربعة، لأن الوضوء حقيقة شرعية يحمل في كلام الشرع على مراده، ولا يصح حمله على المعنى الثاني وهو النظافة إلا بدليل ولا دليل، فيكون ظاهراً في المعنى الأول.(1/69)
قوله: (ويؤول الظاهر بالدليل): أي يصرف اللفظ عن ظاهره بالدليل. وهذا يفيد أن حكم الظاهر أنه لا يعدل عنه إلا بدليل صحيح يصرفه عن ظاهره، ويكون الدليل أقوى من الظاهر، وإلا فيجب العمل بالظاهر.
وحمل اللفظ على المعنى الظاهر لا يحتاج إلى دليل، لأن هذا هو الأصل، ولأن العمل بالظاهر طريقة السلف الصالح من هذه الأمة، ولأنه أحوط وأبرأ للذمة، وأقوى في التعبد، وأدل على الانقياد. فإذا صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صار مؤولاً.
والمؤول لغة: مأخوذ من الأول مصدر آل يؤول أولاً: إذا رجع. نقول: آل الأمر إلى فلان. أي: رجع إليه.
واصطلاحاً: حمل اللفظ على المعنى المرجوح.
أي: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنى مرجوح غير متبادر للذهن. ومثاله قوله تعالى: (فقولى إني نذرت للرحمن صوما((284) فلفظ الصوم في الآية يحتمل معنيين: أحدهما وهو الظاهر بمعنى الصوم الشرعي وهو الإمساك عن المفطرات. والثاني وهو المرجوح بمعنى الإمساك عن الكلام. وهذا هو المراد من الآية بدليل (فلن أكلم اليوم إنسيّا((285).
وهذا هو التأويل في اصطلاح الأصوليين(286). وهو لا يكون صحيحاً مقبولاً إلا بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون اللفظ قابلاً للتأويل. بأن يكون المعنى المرجوح مما يحتمله اللفظ. فصرف العام - مثلاً - عن عمومه وإرادة بعض أفراده بدليل هو تأويل صحيح، لأن العام يحتمل الخصوص فقوله تعالى: (حرّمت عليكم الميتة((287) نص ظاهر في تحريم جلد الميتة. لكن صرف هذا العموم عن ظاهر قوله (: "هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به"(288).
فإن كان اللفظ لا يحتمل المعنى المرجوح أصلاً فهو تأويل فاسد مردود، كقوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى((289) فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علوّاً خاصّا يليق بالله عز وجل. وهذا وهو المراد. وصرفه إلى معنى الاستيلاء والملك باطل، لأنه لا يعرف في اللغة الاستواء بمعنى الاستيلاء والملك.(1/70)
الشرط الثاني: أن يقوم دليل صحيح على صحة صرف اللفظ عن ظاهره، إلى المعنى المرجوح، فلا يصح التأويل بمجرد الاحتمال. لأن الأصل العمل بالظاهر وعدم صرف الدليل عن ظاهره - كما تقدم - فالعام على عمومه. ولا يقصر على بعض أفراده إلا بدليل. والمطلق على إطلاقة ولا يعدل عن إطلاقة إلى تقييده إلا بدليل. وظاهر الأمر الوجوب فلا يحمل على الندب أو غيره إلا بدليل. وظاهر النهي التحريم فلا يحمل على الكراهة - مثلاً - إلا بدليل.
فإن لم يوجد دليل أصلاً فهو تأويل فاسد مردود، لأنه دعوى بلا برهان، كقولك: رأيت أسداً. تريد رجلاً شجاعاً.
وهذا النوع من التأويل تمتلئ به كتب الشيعة والباطنية. حيث فسروا ألفاظ القرآن بما لا تحتمله من قريب ولا بعيد. وحرفوها عن مدلولها الحقيقي إلى مدلولات لا وجود لها إلا في عقول أصحابها، فيفسرون (النور) في قوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا . . .((290) بأن المراد: نور الأئمة من آل البيت. وفي قوله تعالى: (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحدٌ((291) قالوا: يعنى بذلك ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد. وغير ذلك كثير(292).
ومن التأويل الفاسد المردود تأويل المعطلة في باب الأسماء والصفات، لأنه تأويل ليس عليه دليل صحيح.
الشرط الثالث: أن يكون هناك موجب للتأويل. بأن يكون ظاهر النص مخالفاً لقاعدة مقررة معلومة من الدين بالضرورة، أو مخالفاً لنص أقوى منه سنداً. ومثال ذلك. قوله (: "الجار أحق بصقبه"(293). والصقب: القرب والملاصقة. وهو المعنى الراجح. ويحتمل أن المراد الشريك. وهو المرجوح. فلما جاء حديث "إذا وضعت الحدود وصرّفت الطرق فلا شفعة"(294) منع إرادة الجار الملاصق، وتعين حمل الحديث الأول على الشريك، لأنه لا ضرب لحدود ولا صرف لطرق إلا في الشركة. أما الجيران فكل على حدوده، وطرقه. فمن حمله على الشريك قال: لا شفعة لجار، والله أعلم.(1/71)
قوله: (ويسمى الظاهر بالدليل) أي أن المؤول يصير ظاهراً بسبب الدليل، لأن الظاهر نوعان: ظاهر من جهة اللفظ، وظاهر من جهة الدليل، فهو ظاهر مقيد، ويفهم منه أن الدليل لابد أن يكون قويّاً ليكون المرجوح راجحاً، لأن مالا يصيره الدليل راجحاً لا يكون ظاهراً. والله أعلم.
الأفعال
(فعل صاحب الشريعة لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة أو غير ذلك، فإن دلّ الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص، وإن لم يدلّ لا يختص به، لأن الله تعالى يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة((295) فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا. ومن أصحابنا من قال: يحمل على الندب. ومنهم من قال: يتوقف فيه. فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا).
أفعال الرسول ( من أقسام السنة، لأن السنة هي قوله ( وفعله وتقريره. وقد ذكر هنا الأفعال ثم الإقرار وأما الأقوال فذكرها فيما بعد في باب (الأخبار) وكان الأولى بالمصنف أن يجمعها في باب مستقل كما هي طريقة كثير من الأصوليين.
وقد عني الأصوليون بالأفعال، وأفردوا فيها مصنفات مستقلة، لأنها من أدلة الأحكام الشرعية، ولا خلاف في ذلك.
قوله: (فعل صاحب الشريعة) أي النبي (.
قوله: (لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة والطاعة . . . إلخ) أي أن الأفعال لها حالتان:
الأولى: أن يكون فعلها على وجه القربة والطاعة.
الثانية: ألا يكون على وجه القربة والطاعة(296).
فإن كان على وجه القربة والطاعة فلا يخلو من حالين:
الأولى: أن يدل دليل على الاختصاص به.
الثانية: ألا يدل دليل على الاختصاص به.(1/72)
قوله: (فإن دل الدليل على الاختصاص به يحمل على الاختصاص) أي: يحكم بالخصوصية لوجود الدليل، وليس لأحد أن يفعله مثله، وذلك كزيادته في النكاح على أربع نسوة لقوله تعالى: (يا أيها النبي إنّا أحللنا أزواجك((297) وكن أكثر من أربع، وكالوصال في الصوم، والنكاح بلفظ الهبة، وغير ذلك مما يدل عليه القرآن أو السنة(298).
قوله: (وإن لم يدل لا يختص به) أي إن لم يدل الدليل على أن هذا الفعل خاص به لم يحكم بالخصوصية، وهذا هو الأصل، أعني عدم الخصوصية إلا بدليل. لأن الأصل التأسي به ( لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة((299) فيكون هذا النص معمولاً به حتى يقوم الدليل المانع، وهو ما يوجب الخصوصية.
وقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة((300) الأسوة: بضم الهمزة وكسرها لغتان. قرئ بهما في السبعة بمعنى القدوة. قال ابن كثير رحمه الله: (هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله ( في أقواله وأفعاله وأحواله)(301).
قوله: (فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا . . إلخ) أي: فإذا كان الفعل على وجه القربة والطاعة ولا دليل على الاختصاص ففيه خلاف، ومثاله ما ورد عن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة رضي الله عنها: بأي شيء كان يبدأ الرسول ( إذا دخل بيته. قالت: بالسواك(302).
فالسواك عند دخول البيت فعل مجرد لم يرد به قول، وفعله على وجه القربة، فهذا فيه خلاف على أقوال ذكر المصنف منها ثلاثة:(1/73)
قوله: (فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا) هذا القول الأول وهو وجوب اتباع الأمة له. وقوله (عند بعض أصحابنا) أي الشافعية. يعني ابن سريج وابن أبي هريرة - وهما من كبار الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها أبو يعلى وهو قول الإمام مالك. ودليلهم قوله تعالى: (وما ءاتاكم الرسول فخذوه((303). واستبعد هذا القول إمام الحرمين في البرهان. وأما الآية فمعناها: ما أمركم به الرسول ( فخذوه بدليل (وما نهاكم عنه فانتهوا((304) وعلى القول بأن الآية ظاهرة في غرض المستدل، لكن تطرق الاحتمال يضعف الاستدلال.
وقوله: (ومن أصحابنا من قال: يحمل على الندب) هذا القول الثاني وهو أنه يستحب للأمة اتباعه فيما فعله على وجه القربة. وهو قول لبعض الشافعية كما ذكر المصنف، وقول الظاهرية وهو قول أكثر الحنفية، ورواية عن الإمام أحمد. ذكرها القاضي أبو يعلى. ورجح هذا إمام الحرمين في البرهان، وتبعه الغزالي في المنخول، ورجحه الشوكاني في الإرشاد، لأنه أقل ما يتقرب به هو المندوب، ولا دليل يدل على زيادة على الندب، فوجب القول به(305).
قوله: (ومنهم من قال يتوقف فيه) هذا هو القول الثالث، وهو التوقف لعدم معرفة المراد ولتعارض الأدلة. وهذا أضعف الأقوال، قال الشوكاني: (وعندي أنه لا معنى للوقف في الفعل الذي قد ظهر فيه قصد القربة. فإن قصد القربة يخرجه عن الإباحة إلى ما فوقها. والمتيقن مما هو فوقها الندب) أ هـ(306).
والراجح - والله أعلم - هو القول بالندب، لأن القربة، طاعة وهي غير خارجة عن الواجب والمندوب، والقدر المشترك بينهما ترجيح الفعل على الترك، وهذه حقيقة المندوب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وما فعله النبي ( على وجه التعبد فهو عبادة، يشرع التأسي به فيه، فإذا خصص زماناً أو مكاناً بعبادة كان تخصيصه تلك العبادة سنة . . . )(307).(1/74)
قوله: (فإن كان على غير وجه القربة والطاعة فيحمل على الإباحة في حقه وحقنا). هذه هي الحال الثانية للأفعال النبوية. وهو الذي لم يظهر فيه قصد القربة. ويدخل تحت هذا نوعان(308).
1) ما فعله بمقتضى الجبلة والبشرية كالقيام والقعود والنوم والأكل والشرب، فهذا لا حكم له في ذاته لأنه ليس من باب التكليف، لأن التكليف فيما يمكن فعله وتركه، وهذه الأفعال ليست مشروعة لذاتها أو مقصوداً بها التأسي، لأن كل ذي روح من البشر لا يخلو عنها إلا إذا كان هذا الفعل له هيئة معينة، كصفة أكله وشربه ونومه ونحو ذلك، فهذا له حكم شرعي، كما دلت عليه النصوص.
2) ما فعله وفق العادات، وذلك كلباسه ( فهذا النوع مباح لم يقصد به التشريع فلا استحباب للمتابعة، لأن اللباس منظور فيه إلى العادة التي اعتادها أهل البلد، ولهذا لم يغير الرسول ( لباسه الذي كان يلبسه قبل النبوة(309)، وإنما وضع الإسلام شروطاً وضوابط للباس الرجل والمرأة تستفاد من الكتاب والسنة.
وبقي من الأفعال نوع آخر وهو ما فعله ( بياناً لمجمل، فهذا حكمه حكم المجمل، فإن كان واجباً فالفعل واجب. وإن كان مندوباً فالفعل مندوب. لكنه واجب على الرسول ( مطلقاً حتى يحصل البلاغ، ثم يكون حكمه كحكم الأمة في ذلك.
فمثال الواجب: مسحه الرأس كله(310) بياناً لقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم((311).
ومثال المندوب: صلاته ( ركعتين عند المقام بعد طوافه(312) بياناً لقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى((313) وقد نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري الإجماع على جواز ركعتي الطواف على أي جهة من جهات الكعبة(314) والله أعلم.
الإقرار
(وإقرار صاحب الشريعة على القول هو قول صاحب الشريعة. وإقراره على الفعل كفعله. وما فعل في وقته في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره، فحكمه حكم ما فعل في مجلسه).(1/75)
لما بين حكم الفعل ذكر بعده الإقرار، لأنه من السنة كما تقدم، وصورته أن يسكت النبي ( عن إنكار قول أو فعل بين يديه أو في عصره وعلم به، فكل أمر أقر الرسول ( عليه ولم ينكر على فاعله، فإن كان قولاً فهو كقوله (، وإن كان فعلاً فهو كفعله (، لأنه ( معصوم عن أن يقر أحداً على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع.
مثال الإقرار على الفعل: إقراره ( الحبشة يلعبون في المسجد من أجل التأليف على الإسلام، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله ( يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد. الحديث(315).
ومثاله - أيضاً - إقراره ( قيس بن عمرو رضي الله عنه على قضاء ركعتي الفجر بعد الصلاة مع أن الوقت وقت نهي(316). ومثال الإقرار على القول: إقراره ( أبا بكر رضي الله عنه على قوله بإعطاء سلب القتيل لقاتله(317).
قوله: (وما فعل في وقته في غير مجلسه . . إلخ) أي: وما فعله المكلف أو قاله (في وقته) أي زمان حياته ( (في غير مجلسه) أي: بحيث لا يشاهده، ولكنه (علم به ولم ينكره فحكمه ما فعل في مجلسه) أي في دلالته على جواز ذلك الفعل أو القول، وهذا يشمله ما تقدم في قوله (وإقرار صاحب الشريعة . . .) لكنه صرح به للإيضاح، ودفع توهم الاختصاص بما في مجلسه. ومثال ذلك: قصة معاذ رضي الله عنه حيث كان يصلي العشاء مع النبي ( ثم ينصرف إلى قومه ويصلي بهم(318)، فهي له تطوع ولهم فريضة، وهذا ليس في القوة كالواقع بين يديه ( لاحتمال أنه لم يبلغه ( وإن كان الغالب على الظن أن رسول الله ( كان يعلم الأئمة الذين يصلون في قبائل المدينة، ومما يؤكد ذلك قصة الأعرابي الذي شكا إلى النبي ( تطويل معاذ، كما في حديث جابر رضي الله عنه(319).
وقد استدل بحديث معاذ من أجاز صلاة المفترض خلف المتنقل، وهي مسألة خلافية. والله أعلم بالصواب.
النسخ(1/76)
(وأما النسخ فمعناه لغة: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل: إذا أزالته. وقيل معناه: النقل. من قولهم: نسخت ما في هذا الكتاب أي نقلته.
…وحده: هو الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه).
النسخ في اللغة يطلق على معنيين:
1) الرفع والإزالة. يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. ونسخت الريح الأثر: أزالته. قال تعالى: (فينسخ الله ما يلقى الشيطان((320).
2) النقل: يقال: نسخت ما في الكتاب أي نقلته مع بقائه في نفسه. لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة، قال تعالى: : (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون((321).
قوله: (وحده: الخطاب الدال على رفع الحكم . . إلخ) حده: أي معناه الاصطلاحي، وهذا تعريف الناسخ، لأنه هو الخطاب، لا تعريف النسخ الذي هو رفع الحكم أو اللفظ، لكن يؤخذ منه تعريف النسخ، لأنه يلزم من كون الناسخ هو الخطاب الدال على الرفع أن يكون مدلول الخطاب هو النسخ الذي هو رفع الحكم، فالرافع هو الخطاب. والرفع هو النسخ. فهما متلازمان إذ لا رفع إلا بخطاب.
قوله: (الخطاب) المراد به: الكتاب والسنة. فالناسخ هو الكتاب والسنة، ولا نسخ بالإجماع ولا القياس، أما الإجماع فلأنه لا ينعقد إلا بعد وفاته (، وبعد وفاته لا يمكن النسخ لأنه تشريع، وإنما يقع النسخ بمستند الإجماع. وأما القياس فلأن النص مقدم عليه. ولا يصار إليه إلا عند عدم النص.
والناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ويطلق على النص الناسخ، فيقال: هذه الآية ناسخة لكذا.
قوله: (الدال على رفع الحكم) المراد برفع الحكم تغييره من إيجاب إلى إباحة كنسخ الصدقة عند مناجاة الرسول ( كما سيأتي إن شاء الله. أو من إباحة إلى تحريم كنسخ إباحة الخمر المنصوص عليه في قوله تعالى: (تتخذون منه سكرا ورزقاً حسناً((322) وغير ذلك. وقد يكون النسخ برفع اللفظ - كما سيذكره المصنف. وإنما اقتصر على نسخ الحكم لأنه هو الغالب.(1/77)
قوله: (الثابت بالخطاب المتقدم): هذا صفة للحكم المنسوخ. وبالخطاب: متعلق بالثابت. والمتقدم: أي في الورود إلى المكلفين. فهو متقدم على الخطاب الدال على الرفع.
وهذا القيد لإخراج رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية فليس بنسخ، ذلك أن ابتداء العبادات في الشرع مزيل لحكم البراءة الأصلية، وهي عدم التكليف، وليس هذا نسخاً، لأن البراءة لم تثبت بخطاب من الشرع.
وقوله: (على وجه لولاه لكان ثابتاً): وجه بمعنى: حال. والضمير في قوله (لولاه) يعود على الخطاب الثاني. واسم كان: هو الحكم. أي حال كونه على وجه لولا ذلك الخطاب لكان ذلك الحكم ثابتاً.
وقوله: (مع تراخيه عنه): أي مضي مدة بين الناسخ والمنسوخ، وهذا القيد لإخراج ما إذا كان الخطاب الثاني غير متراخ، بل كان متصلاً بالأول، فلا يكون نسخاً بل يكون بياناً كالشرط والصفة والاستثناء.
فقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا((323) فيه رفع حكم وجوب الحج عن غير المستطيع، ولكنه ليس بنسخ، لأنه لم يتراخ عنه، بل هو متصل. هكذا قال بعض الأصوليين.وهذا فيه نظر لأن التخصيص بالمخصص المتصل - وهو البدل هنا - ليس رفعاً للحكم، وإنما هو بيان أن المخرج غير مراد بالحكم، والله أعلم.
وهذا التعريف مطول لا يليق بالمختصرات. مع ما يرد عليه من اعتراضات. منها: أنه عرف الناسخ دون النسخ. ومنها: أنه غير جامع، لأنه لم يذكر نسخ اللفظ - كما سيأتي - ومنها: أن قوله (على وجه . . إلخ) زيادة محضة. وقد ذكر المصنف هذا التعريف في كتابه (البرهان)(324) ثم زيفه.
ولو قيل في تعريفه: هو رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب أو السنة(325)، لكان أوضح وأخصر، والله أعلم.
أقسام النسخ باعتبار المنسوخ
(ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم. ونسخ الحكم وبقاء الرسم. والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل، وإلى ما هو أغلظ وإلى ما هو أخف).(1/78)
المنسوخ: هو الحكم الشرعي الذي انتهى بالدليل المتأخر. وقد يسمى الدليل الأول منسوخاً. وهو المراد هنا. وهذا الدليل إما قرآن. أو سنة.
قوله (ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم) هذا النوع الأول. فينسخ اللفظ ويبقى الحكم معمولاً به. وقد ذكر الآمدي رحمه الله أن العلماء متفقون على جواز نسخ الرسم دون الحكم خلافاً لطائفة شاذة من المعتزلة(326).
ومثال ذلك: آية الرجم. فعن عمر رضي الله عنه أنه قال: "كان فيما أنزل آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها. ورجم رسول الله ( رجمنا بعده . . . الحديث"(327).
فهذا يدل على نزول آية الرجم. وأنها نسخت. وبقي حكمها لقوله: (ورجمنا بعده).
فإن قيل: ما الحكمة من نسخ الرسم وبقاء الحكم؟ فالجواب ما نقله الزركشي في البرهان عن ابن الجوزي أنه قال: (إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به. فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، أدنى طرق الوحي)(328) أ هـ.
قوله: (ونسخ الحكم وبقاء الرسم) هذا النوع الثاني من أنواع النسخ باعتبار المنسوخ. وهو أن ينسخ الحكم الشرعي ويبقى اللفظ الدال عليه غير معمول به. وهذا أكثر أنواع النسخ.
ومثاله: قوله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون((329) فقد دلت الآية على وجوب مصابرة العشرين من المسلمين المائتين من الكفار. ومصابرة المائة الألف. فنسخ هذا الحكم بقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين((330).
فإن قيل: ما الحكمة من بقاء التلاوة مع نسخ الحكم؟ فالجواب من وجهين:
الأول: بقاء ثواب التلاوة. فإن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه ويعمل به، فهو يتلى ليثاب عليه القارئ.
الثاني: تذكير الأمة بحكمة النسخ، ولا سيما ما فيه تخفيف ورفع المشقة.(1/79)
وبقي نوع ثالث لم يذكره المصنف وهو نسخ الحكم والرسم معاً، ومثاله: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله ( وهن فيما يقرأ من القرآن". وفي رواية: (نزل في القرآن "عشر رضعات معلومات" ثم أنزل أيضاً خمس معلومات")(331).
فآية التحريم بعشر رضعات منسوخ لفظها وحكمها. وهذا معلوم عند الصحابة رضي الله عنهم بدليل أنهم لم يثبتوها حين جمعوا القرآن. وأما آية الخمس رضعات فهي مما نسخ رسمه وبقي حكمه. بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم حين جمعوا القرآن لم يثبتوا رسمها، وحكمها باق عندهم.
وقول عائشة رضي الله عنها: "وهن فيما يقرأ من القرآن" أي يتلى حكمها دون لفظها، وقال البيهقي: المعنى: أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته(332).
قوله: (والنسخ إلى بدل وإلى غير بدل، وإلى ما هو أغلظ وأخف) هذا معطوف على ما قبله. أي: ويجوز النسخ إلى بدل وإلى غير بدل. ومعنى: (إلى بدل) أن يأتي حكم آخر بدل الحكم المنسوخ. وهذا النوع لا خلاف فيه.
ومعنى (إلى غير بدل) أن يزول الحكم السابق ولا يخلفه حكم آخر. وهذا مذهب الجمهور. ومثلوه بنسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي نجوى رسول الله ( في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة((333) نسخت بقوله تعالى: (ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأٌقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة((334).
وقد منع هذا النوع الظاهرية. وأيّد ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، وقال: إن القول بالنسخ إلى غير بدل قول باطل. وإن قال به جمهور العلماء، لأن الله تعالى يقول: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها((335).(1/80)
وأجاب عن آية الصدقة بأن الذي نسخ هو الوجوب، وأما الاستحباب فهو باق لم ينسخ. فالنسخ إلى بدل(336). وورد هذا الجواب عن الكمال بن الهمام صاحب التحرير(337).
والقول بالجواز أظهر لقوة مأخذه. وأما ما استدل به المانعون من الآية الكريمة. فعنه ثلاثة أجوبة:
الأول: أن المراد بالآية - هنا - نظم الجملة ولفظها. لورود ذلك في كتاب الله تعالى في أكثر من موضع. قال تعالى: (يتلوا عليهم آياته ويزكيهم((338) والأصل في الإطلاق الحقيقة، ولا يصرف اللفظ عن ظاهره. إلا بدليل. ولا دليل هنا.
الثاني: سلمنا أن المراد نسخ الحكم. وهذا لا يعارض النسخ إلى غير بدل، لأن الله تعالى عليم حكيم. فقد يكون عدما لحكم خيراً من ذلك الحكم المنسوخ. في نفعه للناس.
الثالث: سلمنا أن المراد نسخ الحكم. لكنه عام دخله التخصيص بما نسخ إلى غير بدل. وتخصيص العموم جائز. والله أعلم(339).
وأما إجابتهم عن آية الصدقة وأنه نسخ الوجوب وبقي الاستحباب. فهذا فيه نظر. فإن الآية (أأشفقتم) لم تثبت حكماً تكليفياً آخر. وكون التصدق مندوباً إليه. إن كان بهذا الناسخ فلا دليل فيه. وإن كان بالأدلة العامة التي ندبت إلى التصديق فهذا مسلم. لكنها خاصة بالموسرين وهي عامة في جميع الأوقات. وتقديم الصدقة عند المناجاة كان واجباً على الأغنياء والفقراء على السواء والله أعلم(340).
قوله: (وإلى ما أغلظ وإلى ما هو أخف) أي: أن النسخ على بدل. قد يكون (إلى بدل أغلظ) أي: إلى حكم أثقل من الحكم المنسوخ. (وإلى بدل أخف) أي: أقل مشقة من المنسوخ. وبقي نوع ثالث وهو: على بدل مساوٍ. فالأنواع ثلاثة.(1/81)
أما الأول: وهو النسخ إلى بدل أثقل. فجوزه الجمهور لوقوعه. ومثاله نسخ التخيير بين صيام رمضان والإطعام في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون((341). نسخ بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه((342) الدال على وجوب الصيام في حق المقيم الصحيح أداء، والمسافر والمريض قضاء. وإيجاب الصيام أثقل من التخيير بينه وبين الإطعام.
ومنع ذلك بعض الظاهرية وبعض الشافعية محتجين بآيات التيسير والتخفيف ورفع الحرج عن هذه الأمة. كقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر((343) وقوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم((344) ولا تخفيف في نسخ الأخف إلى الأثقل، بل هو التثقيل. وإرادة العسر.
ولا دليل في ذلك لأن الحكم الجديد يكون ميسراً على المكلفين لا مشقة فيه. وثقله وصف له بالنسبة إلى ما قبله. مع ما فيه من زيادة النفع. وعظيم الأجر.
وأما الثاني وهو النسخ إلى بدل أخف. فلا خلاف في جوازه، ومثاله: آيتا المصابرة (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين((345) ثم قال سبحانه (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين((346) فمصابرة مسلم واحد لاثنين من الكفار أخفف من مصابرة الواحد لعشرة منهم.
وأما الثالث وهو النسخ إلى بدل مساو فمثاله: نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة كما في حديث البراء رضي الله عنه أنه ( صلى إلى بيت المقدس بعد الهجرة بضعة عشر شهراً(347). نسخ هذا باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره((348) فاستقبال الكعبة مساوٍ لاستقبال بيت المقدس بالنسبة لفعل المكلف. وهذا النوع لا خلاف فيه كالذي قبله.
أنواع النسخ باعتبار الناسخ(1/82)
(ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب، ونسخ السنة بالكتاب وبالسنة، ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر، ونسخ الآحاد بالآحاد وبالمتواتر، ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة. ولا المتواتر بالآحاد، لأن الشيء ينسخ بمثله وبما هو أقوى منه).
…تقدم أن الناسخ هو الله تعالى لأنه هو الرافع للحكم. دل على ذلك خطابه المتأخر الدال على انتهاء الحكم الشرعي. ويطلق الناسخ على الدليل نفسه - وهو المراد هنا - وهو إما كتاب أو سنة.
وقد ذكر المصنف مسائل النسخ بين الكتاب والسنة وبين ما يجوز وما لا يجوز.
قوله: (ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب) هذا النوع الأول من أنواع الناسخ وهو أن يكون قرآنا. والمنسوخ قرآن مثله. وهذا النوع لا خلاف فيه. وتقدمت أمثلته.
قوله: (ونسخ السنة بالكتاب) هذا النوع الثاني وهو أن سكون الناسخ قرآنا والمنسوخ سنة. وهذا قول الجمهور. لأن القرآن والسنة من عند الله تعالى. غير أن القرآن متعبد بتلاوته. والسنة غير متعبد بتلاوتها. ونسخ حكم أحد الوحيين غير ممتنع.
ومثاله: إن المباشرة والأكل والشراب في ليالي الصيام كانت محرمة بالسنة. لما ورد في حديث ابن عباس "كان الناس على عهد رسول الله ( إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة"(349). فنسخ ذلك بقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن((350).
ومنع الشافعي رحمه الله هذا النوع في إحدى روايتيه لقوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم((351) والناسخ بيان للمنسوخ. فلو كان القرآن ناسخاً للسنة لكان القرآن بياناً للسنة. وهذا لا يجوز.
والصحيح قول الجمهور لوقوعه، وأما الآية فلا يتم الاستدلال بها على المنع، لجواز أن يكون المراد من قوله (لتبين): لتبلغ. والتبليغ عام، فحمل الآية عليه أولى.(1/83)
قوله: (وبالسنة) أي ويجوز نسخ السنة بالسنة، وهذا هو النوع الثالث، وهو أن يكون الناسخ سنة والمنسوخ سنة، ومثاله حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي ( قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"(352) فقوله: "كنت نهيتكم" يدل على أن النهي ثابت بالسنة.
قوله: (ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر) أي ويجوز نسخ المتواتر من الكتاب أو السنة. بالمتواتر. فهما قسمان:
الأول: نسخ الكتاب بالسنة بالمتواترة.
الثاني: نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة.
أما الأول فمذهب الجمهور جوازه. وذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه إلى عدم الجواز. احتج الجمهور بأن الكل وحي من الله. واستدل الشافعي بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها((353) والسنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله(354).
والراجح - والله أعلم - الجواز، لأن الناسخ حقيقة هو الله عز وجل على لسان رسول الله ( فإن كل ما صح عن رسول الله ( فأحكامه من الله. قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى(3) إن هو إلا وحي يوحى(4)((355) ومحل النزاع الحكم وليس اللفظ، وعليه فإن لفظ (بخير منها أو مثلها) يكون من السنة كما يكون من القرآن. فالأحكام كلها من الله تعالى (إن الحكم إلا لله) والله أعلم.
وقد مثلوا لذلك بقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين((356) فنسخت هذه الوصية للوالدين بحديث "لا وصية لوارث". فإن الإجماع منعقد على معنى هذا الحديث.
وهذا المثال فيه نظر. فإن الحديث آحاد(357). ثم أن من شروط النسخ تعذر الجمع بين الدليلين، وهنا يمكن الجمع عن طريق التخصيص، بأن يخرج من الآية الوارث منهما فلا وصية له بمقتضى الحديث فتكون الآية في حق غير الوارث، والحديث في حق الوارث. وقد ذكر بعض المحققين أن الناسخ هو آية المواريث. والحديث بيان للناسخ والله أعلم(358).(1/84)
وأما الثاني: وهو نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، فهو مجمع عليه بين القائلين بالنسخ. قال في شرح الكوكب المنير: (وأما مثال نسخ متواتر السنة بمتواترها فلا يكاد يوجد . . )(359).
قوله: (ونسخ الآحاد بالآحاد) أي ويجوز نسخ الآحاد بالآحاد، وهذا مجمع عليه بين القائلين بالنسخ. لاتحاد الناسخ والمنسوخ في المرتبة والقوة. ومثاله تقدم في حديث بريدة رضي الله عنه. قال في شرح الكوكب المنير: (وله أمثله كثيرة)(360).
قوله: (وبالمتواتر): أي يجوز نسخ الآحاد بالمتواتر، لأنه أقوى منه. وهذا - أيضاً - محل اتفاق. قال في شرح الكوكب المنير: (ولكن لم يقع)(361).
قوله: (ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة) هذا هو النوع الرابع، وهو أن يكون الناسخ سنة والمنسوخ قرآناً. والمراد بالسنة هنا: غير المتواترة. لأن نسخ القرآن بالسنة المتواترة تقدم ذكره عند قوله (ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر). فيكون المراد بالسنة هنا: الآحاد. فالآحاد لا ينسخ القرآن، لأن القوي لا ينسخ بأضعف منه كما سيأتي. وهذه العبارة موجودة في بعض نسخ الورقات. ويشكل عليه قوله (ولا يجوز نسخ المتواتر بالآحاد) لأن المتواتر يشمل الكتاب والسنة، فيكون تكراراً إلا أن يكون قوله (المتواتر) خاصاً بالسنة. والله أعلم.
وقد ذهب المؤلف رحمه الله في كتابه (البرهان) إلى جواز نسخ الكتاب والسنة. وذكر ما يؤيد ذلك(362).
قوله: (ولا المتواتر بالآحاد) أي لا يجوز شرعاً نسخ المتواتر كالقرآن والسنة المتواترة بالآحاد. لأنه دونه في القوة، لأن المتواتر قطعي والآحاد ظني، والشيء إنما ينسخ بمثله، أو بما هو أقوى منه. كما تقدم.(1/85)
وهذا مذهب الجمهور. وذهب جماعة من أهل الظواهر منهم ابن حزم إلى جوازه، وهي رواية عن أحمد. وهو الراجح إن شاء الله، لأن القطعي هو اللفظ ومحل النسخ هو الحكم. ولا يشترط في ثبوته التواتر. لأن الدلالة باللفظ المتواتر قد تكون ظنية. لجواز أن يكون المراد غير ذلك فحينئذ لم يرفع الظني إلا بالظني.
ومثال ذلك: ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء في الصلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله ( قد أنزل عليه القرآن. وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)(363).
ووجه الدلالة: أن وجوب التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسنة المتواترة، لأنه لم يوجد في القرآن ما يدل عليه. وهؤلاء قبلوا خبر الواحد وعملوا به في نسخ ما تقرر عندهم بطريق العلم، والنبي ( لم ينكر عليهم، فدل على الجواز. والله أعلم.
التعارض بين الأدلة
(إذا تعارض نطقان فلا يخلو: إما أن يكونا عامين، أو خاصين، أو أحدهما عاما والآخر خاصاً، أو كل واحد منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه. فإن كانا عامين وأمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يمكن الجمع بينهما يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ. فإن علم التاريخ فينسخ المتقدم بالمتأخر، وكذلك إن كانا خاصين. وإن كان أحدهما عاما والآخر خاصاً فيخصص العام بالخاص. وإن كان كل واحد منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه فيخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر).
عني الأصوليون بمباحث التعارض والترجيح بعد مباحث الأدلة الشرعية - الكتاب والسنة والإجماع والقياس - وذلك لأن هذه الأدلة قد يقع بينها تعارض ولا يمكن إثبات الحكم إلا بإزالة هذا التعارض.(1/86)
واعلم أن التعارض بين نصوص الشريعة غير موجود في الحقيقة، لكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد: إما لنقص في علمه أو خلل في فهمه، وهو تعارض في الظاهر لا يمكن أن يقع على وجه لا يمكن فيه الجمع أو النسخ أو الترجيح. وذلك لأن الأحكام الشرعية ما شرعت إلا لجلب المصالح.
وكان الأولى بالمصنف أن يؤخر بحث التعارض إلى نهاية الكلام على الأدلة، كما جرى على ذلك غيره من أهل الأصول، لأن التعارض يتعلق بجميع الأدلة، لكنه خصصه بالكتاب والسنة لقوله (إذا تعارض نطقان) لأن المراد بهما: قول الله تعالى، وقول الرسول ( كما تقدم في المخصص المنفصل.
قوله: (إذا تعارض نطقان) التعارض لغة: تفاعل من العرض - بضم العين - وهو الناحية والجهة. كأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض أي ناحيته وجهته، فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجهه، فهو إذن بمعنى التقابل والتمانع.
واصطلاحاً: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر.
وذلك كأن يكون أحد الدليلين يفيد الجواز، والآخر يدل على المنع، فكل منهما مقابل للآخر ومخالف له.
قوله (فلا يخلو . .) أي الأمر والشأن. من أربع حالات:
الأولى: أن يكون بين دليلين عامين.
الثانية: أن يكون بين دليلين خاصين.
الثالثة: أن يكون بين دليلين أحدهما عام والآخر خاص.
الرابعة: أن يكون بين دليلين كل واحد منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر.
والمراد بقول المصنف (إذا تعارض نطقان) أي نصان من قول الله تعالى أو من قول رسول (.
أما الحالة الأولى فللخروج من التعارض طرق:
الأول: أن يمكن الجمع بين الدليلين المتعارضين، فيجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر. والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، لأن فيه العمل بكلا الدليلين.(1/87)
ومثاله: قوله (: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"(364) أخرجه مسلم عن ابن عباس. وعند أهل السنن "أيما إهاب دبغ فقد طهر"(365). وقوله ( "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" وهو حديث عبد الله بن عكيم، فهذا معارض في الظاهر للأول.
فجمع بينهما بأن الإهاب اسم لما لم يدبغ. وبعد الدبغ يقال له: شن وقربه. فيكون النهي عن الانتفاع بالإهاب ما لم يدبغ، فإذا دبغ لم يسم إهاباً، فلا يدخل تحت النهي. قال في سبل السلام (وهو جمع حسن)(366) وفي المسألة أقوال أخرى.
الثاني: أن يجعل أحدهما ناسخاً للآخر، وهذا إذا علم التاريخ بأن علم السابق منهما، فيكون المتأخر ناسخاً له. ويعمل به دون المتقدم.
ومثاله: قوله تعالى: (فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم((367) فهذه الآية تفيد التخيير بين الصيام والإطعام وترجح الصيام. وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه((368) يفيد تعيين الصيام أداء في حق غير المريض والمسافر وقضاء في حقهما، وهي متأخرة عن الأولى فتكون ناسخة لها بدليل قول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: لما نزلت (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين((369) كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)(370).
الثالث: فإن لم يعلم التاريخ يتوقف فيهما إلى أن يظهر مرجح لأحدهما على الآخر فيعمل به. وهذا هو الطريق الثالث وهو الترجيح، وهو لا يكون إلا بدليل، لأن الترجيح بلا مرجح باطل، والترجيح هو تقوية أحد الطرفين المتعارضين بدليل، وللترجيح طرق كثيرة، بعضها يرجع إلى المتن، وبعضها يرجع إلى السند، وهي مذكورة في المطولات.
ومثاله قوله (: "من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ"(371).
وهذا مروي عن بسرة بنت صفوان وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم وغيرهم.
وحديث قيس بن طلق عن أبيه رضي الله عنه أن النبي ( سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء؟ قال: "لا، إنما هو بضعة منك"(372).(1/88)
فهذان حديثان متعارضان في الظاهر، الأول يوجب الوضوء من مس الذكر، والثاني لا يوجبه. فيرجح الأول على الثاني لما يأتي:
1) أن العمل به أحوط.
2) لأنه أكثر طرقاً ومصححيه أكثر.
3) لأنه ناقل عن البراء الأصلية، وهي عدم إيجاب الوضوء والناقل يقدم على المبقي. لأن مع الناقل زيادة علم حيث أفاد حكمّا شرعيّا ليس موجوداً عند المبقي على الأصل. وهذا عند الجمهور.
والترجيح هو أحد الأقوال في المسألة، ومن العلماء من قال بالنسخ، ومنهم من قال بالجمع(373).
أما الحالة الثانية من أحوال التعارض فهي أن يكون بين دليلين خاصين كما تقدم، وللخروج من التعارض طرق:
الأول: الجمع كما تقدم. ومثاله: حديث جابر في صفة حجة النبي ( أنه ( صلى الظهر يوم النحر بمكة(374) وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه ( صلاها بمنى(375).
قال النووي: (ووجه الجمع بينهما أنه ( طاف للإفاضة قبل الزوال، ثم صلى الظهر بمكة في أول وقتها، ثم رجع إلى منى، فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك . . )(376).
الثاني: فإن لم يمكن الجمع فالثاني ناسخ إن علم التاريخ. ومثاله: قوله تعالى (يا أيها النبي إنّا أحللنا أزواجك التي آتيت أجورهن((377) وقوله تعالى: (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن((378) الآية، فالثانية ناسخة للأولى. فحرم الله تعالى على نبيه ( أن يتزوج على نسائه، والإباحة دلت عليها الآية الأولى. وهذا على أحد الأقوال(379).
الطريق الثالث: إذا لم يمكن النسخ فالترجيح. ومثاله حديث ميمونة رضي الله عنها أن النبي ( تزوجها وهو حلال(380) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( تزوجها وهو محرم(381).
فيرى جمع من أهل العلم ترجيح الأول لما يأتي:
1) أن ميمونة صاحبة القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره. ومن قواعد الترجيح أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره.(1/89)
2) لأن حديثها مؤيد بحديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي ( تزوجها وهو حلال. قال: وكنت الرسول بينهما(382) فأبو رافع رضي الله عنه هو رسوله إليها يخطبها عليه فهو مباشر للواقعة، وابن عباس ليس كذلك.
3) أن ميمونة وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور، وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل، وعند الأصوليين ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله، لأن البالغ أضبط من الصبي لما تحمل(383).
الحالة الثالثة من أحوال التعارض: أن يكون بين دليلين أحدهما عام والآخر خاص، فيخصص العام بالخاص. ومثاله: قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما((384) فهذه الآية دلت على وجوب القطع في القليل والكثير. وحديث: "لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعداً"(385) يدل على تحديد نصاب القطع، فيكون الحديث مخصصاً لعموم الآية على مذهب الجمهور والله أعلم.
الحالة الرابعة: أن يكون التعارض بين دليلين أحدهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه آخر، فيجمع بينهما بأن يخصص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر إن دل على ذلك دليل. ومثاله: قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشرا((386) فهذه الآية عامة في الحامل وغيرها، وخاصة بالمتوفى عنها. وقوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ((387) خاصة بالحامل عامة في المتوفى عنها وغيرها. فيخصص عموم الأولى والثانية، فتخرج الحامل من عموم الأولى، وتكون عدتها وبضع الحمل، سواء كانت متوفى عنها أم غيرها.
وقد دل على هذا التخصيص حديث سبيعة الأسلمية أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فأفتاها النبي ( أن تتزوج(388) فدل ذلك على أن الحامل المتوفى عنها غير داخلة في عموم آية البقرة، والله أعلم.
الإجماع(1/90)
(وأما الإجماع فهو اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة. ونغني بالعلماء: الفقهاء. ونعني بالحادثة: الحادثة الشرعية. وإجماع هذه الأمة حجة دون غيرها، لقوله ( (لا تجتمع أمتي على ضلالة) والشرع ورد بعصمة هذه الأمة).
هذا هو الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها، وهو الإجماع بعد الكتاب والسنة. والإجماع لغة: العزم والاتفاق. واصطلاحاً: اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة.
وقوله: (اتفاق): هذا قيد يخرج وجود خلاف ولو كان المخالف واحداً إذا كان يعتد به فلا ينعقد الإجماع.
قوله: (علماء العصر) فسره بأن المراد بهم الفقهاء وهم المجتهدون،وهذا القيد يخرج المقلدين والعوام، فلا عبرة بهم في الإجماع وفاقاً ولا خلافاً. كما يخرج العلماء غير الفقهاء كالنحويين واللغويين وغيرهم.
وقوله: (على حكم الحادثة) الجار والمجرور متعلق بقوله (اتفاق) والمراد بها هنا الحادثة الشرعية، لأنها محل نظر الفقهاء، وهذا القيد يخرج الاتفاق على حكم غير شرعي كلغوي، فلا مدخل له في الإجماع، لأن الغرض البحث في الإجماع، على أنه من الأدلة الشرعية.
وبقي قيدان:
الأول: علماء العصر من هذه الأمة: لإخراج اتفاق علماء الشرائع السابقة فلا يعتبر كما ذكره المصنف، ولعله تركه لوضوحه أو اكتفاء بذكره مستقلاً.
الثاني: بعد النبي (: لإخراج اتفاق الصحابة في عهد النبي ( فلا يكون إجماعاً من حيث كونه دليلاً، لأن الدليل حصل بسنة النبي ( من قول أو فعل أو تقرير، وإذا قال الصحابي: كنّا نفعل أو كانوا يفعلون كذا على عهد النبي ( كان ذلك من المرفوع حكماً، وليس نقلاً للإجماع.(1/91)
قوله: (وإجماع هذه الآية حجة دون غيرها) أي: والإجماع حجة شرعية، يجب العمل به على كل مسلم. والمراد الإجماع القولي الصريح. وقوله: (دون غيرها) أي غير هذه الأمة من الأمم السابقة، فليس إجماعهم حجة علينا يجب اتباعها، ومن الأدلة على أن الإجماع حجة قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا((389) أي عدولاً، ومقتضى ذلك أنهم عصموا من الخطأ فيما أجمعوا عليه قولاً وفعلاً(390).
ومن الأدلة: قوله ( "لا تجتمع أمتي على ضلالة)(391) ووجه الدلالة: أن عموم الحديث ينفي وجود الضلالة، والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه، فيكون ما أجمعوا عليه حقّا فوجب اتباعه.
من مسائل الإجماع
(والإجماع حجة على العصر الثاني وفي أي عصر كان، ولا يشترط انقراض العصر على الصحيح، فإن قلنا: انقراض العصر شرط يعتبر قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد، ولهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم، والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم، وبقول البعض وبفعل البعض، وانتشار ذلك وسكوت الباقين عنه).
ذكر المصنف بعض مسائل الإجماع ومنها:
قوله: (والإجماع حجة على العصر الثاني . . ) أي أن الإجماع حجة يجب الأخذ به على أهل العصر الثاني بالنسبة لعصر أهل الاجتهاد؛ فإذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم على حكم شرعي فليس للتابعين أن يخالفوا هذا الإجماع، بل هو حجة عليهم وعلى من بعدهم في أي عصر من العصور، لأن الإجماع يمنع من حدوث خلاف.
وقوله: (وفي أي عصر كان) أي: وجد الإجماع من عصر الصحابة فمن بعدهم إلى آخر الزمان(392).
قوله: (ولا يشترط انقراض العصر على الصحيح) أي: لا يشترط انقراض عصر المجمعين، ومعناه: أن يموت أهل الإجماع ثم يبدأ الاحتجاج بإجماعهم، وهذه المسألة فيها قولان:(1/92)
الأول: أنه لا يشترط انقراض العصر وهذا مذهب الجمهور، فينعقد الإجماع بمجرد اتفاق المجتهدين ولو كانوا أحياء، فلا تجوز مخالفته، لأن أدلة حجية الإجماع لا توجب انقراض العصر، ولأن الإجماع هو الاتفاق، وقد حصل فما الذي يمنع من قبوله؟ ولأن التابعين قد احتجوا بإجماع الصحابة قبل انقراض عصرهم، ولو كان ذلك شرطاً لم يحتجوا به.
الثاني: أنه يشترط انقراض العصر، وهو قول بعض الشافعية ورواية عن الإمام أحمد. ووجه اشتراط: احتمال رجوع بعض المجتهدين عن رأيه، فيؤول ذلك إلى الخلاف.
والقول الأول هو الصحيح كما ذكر المصنف لقوة أدلته، ولأن القول باشتراط انقراض العصر يؤدي إلى تعذر الإجماع، لأنه لا يكاد عصر ينقرض حتى يحدث من أولاده من ينشأ ويبلغ درجة الاجتهاد، وله أن يخالف، لأن الإجماع لم ينعقد، وهذا يؤدي إلى إبطال انعقاد الإجماع، وما أدى إلى ذلك فهو باطل. قال القرافي: (وانقراض العصر ليس شرطاً خلافاً لقوم من الفقهاء والمتكلمين لتجدد الولادة كل يوم فيعتذر الإجماع)(393) أ هـ.
قوله: (فإن قلنا انقراض العصر شرط . . إلخ) بين بذلك ثمرة الخلاف. والمعنى. إن قلنا: انقراض العصر بموت أهله (شرط) أي في حجية الإجماع. وهذا القول مقابل للقول الصحيح. (يعتبر) بالجزم على أنه جواب الشرط. أي: يعتبر قول من ولد في عصر المجمعين، وبلغ رتبة الاجتهاد في حياتهم أو في حياة بعضهم. فله أن يخالف. ولا يعد مخالفاً للإجماع. لأنه لم ينعقد.
قوله: (ولهم أن يرجعوا عن ذلك الحكم) هذه ثمرة أخرى. أي: وللمجمعين أو بعضهم - على القول بالاشتراط - أن يرجعوا عن الحكم الذي أجمعوا عليه. ولا يعد ذلك نقضاً للإجماع. لأن لم يستقر.
قوله: (والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم) أي: أن الإجماع ينعقد ويتحقق بقول المجمعين وبفعلهم، أي: بكل منهما، ولهذا أعاد الباء، فإذا قالوا بجواز شيء فهذا إجماع على الجواز، وكذلك إذا فعلوا شيئاً فيدل فعلهم على الجواز لعصمتهم عن الباطل تقدم.(1/93)
والإجماع لابد له من مستند: إما من الكتاب أو السنة. سواء علمناه أو جهلناه، لأن القول في الدين بلا مستند لا يجوز.
قوله: (وبقول البعض وبفعل البعض وانتشار ذلك وسكوت الباقين) هذا إشارة على الإجماع السكوتي، وهو أن يقول بعض المجتهدين قولاً أو يفعل فعلاً مع انتشار ذلك في الباقين وسكوتهم، وهذا فيه خلاف، فأكثر الشافعية والمالكية ورواية عن أحمد أنه إجماع تنزيلاً للسكوت منزلة الرضا والموافقة إذا مضت مدة كافية للنظر في ذلك القول بعد سماعه، وكان قادراً على إظهار رأيه، وهذا ظاهر كلام المصنف.
وقيل: يكون حجة لا إجماعاً. لرجحان الموافقة بالسكوت على المخالفة، وليس إجماعاً لأن حقيقة الإجماع لم تتحقق فيه. وقيل: ليس بحجة ولا إجماع، لأنه لا ينسب لساكت قول. وقيل غير ذلك(394).
وقول المصنف (وانتشار ذلك) مفهومه أنه إذا لم ينتشر في الباقين فليس بإجماع، لاحتمال ذهولهم عنه وعدم اطلاعهم عليه. والله أعلم.
قول الصحابي
(وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة على غيره على القول الجديد، وفي القول القديم حجة).
قول الصحابي من الأدلة المختلفة في حجيتها.
والمراد به: ما أثر عن أحد من أصحاب النبي ( من قول أو فعل أو تقرير في أمر من أمور الدين.
والصحابي: من صحب النبي ( ولو ساعة، أو رآه مؤمناً به وما ت على ذلك.(1/94)
وقول الصحابي إن ثبت له حكم الرفع كقوله أمرنا أو نهينا أو من السنة كذا فهو مرفوع حكماً، وهو حجة كما هو مقرر في علم الحديث، وإن لم يثبت له حكم الرفع فقد أجمع العلماء على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر، لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلوا في كثير من المسائل، ولو كان قول أحدهم حجة على غيره لما تأتي منهم هذا الخلاف. كما أجمعوا عل الأخذ بقول الصحابي فيما لا مجال للرأي أو الاجتهاد فيه، لأنه من قبيل الخبر التوقيفي عن صاحب الرسالة (. كما أنه لا خلاف فيما أجمع عليه الصحابة صراحة أو كان مما لا يعرف له مخالف، كما في توريث الجدات السدس. ومن العلماء من استثنى من الصحابي المعروف بالأخذ عن الإسرائيليات. وإنما الخلاف في قول الصحابي العاري عن كل ما سبق. ففيه قولان:
القول الأول: إنه حجة. وهو مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه، ورواية عن الإمام أحمد، رجحها ابن القيم، وذكر أن الإمام أحمد يأخذ بقول الصحابي، ويعتبره بعد السنة الصحيحة(395).
ومن أدلة هؤلاء قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر((396) قالوا: هو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف، والمعروف يجب قبوله.
ومن الأدلة أن الله تعالى مدح الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما استحق التابعون ذلك لأنهم اتبعوهم في كل شيء سواء من حيث الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو اجتهادهم، أو الاقتداء بهم، لأن الاتباع يجب حمله على فرده الكامل، قال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه((397) ولأن اجتهاد الصحابي أقر إلى الصواب من اجتهاد غيره لمشاهدته الوحي وقربه من الرسول (، كيف والظاهر من حاله أن لا يقول ما قال إلا سماعاً من رسول الله ( لا سيما فيما يخالف القياس.(1/95)
القول الثاني: أنه ليس بحجة. وهو قول الشافعي في الجديد(398) ورواية عن الإمام أحمد، واختيار الغزالي والآمدي وابن الحاجب والمصنف. وذلك لأن الله تعالى لم يجعل قول أحد من الناس حجة إلا قول رسول الله (. والصحابي من أهل الاجتهاد، والمجتهد غير معصوم، فيجوز عليه الخطأ والسهو.
والذي يظهر والله أعلم. أنه يجوز الأخذ بقول الصحابي حيث لا نصّ في الكتاب والسنة ولا إجماع. لاحتمال أن يكون سمع ذلك القول من النبي ( ولكونه أعلم بالله وكتابه ورسوله من التابعين فمن بعدهم، فاحتمال الصواب في اجتهاده كثيراً جداً. لأنه شاهد التنزيل، ووقف على حكمة التشريع. وأسباب النزول. ولازم النبي (. قال ابن القيم: (لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم ولا ينكره منكر منهم. وتصانيف العلماء شاهدة بذلك . . )(399).
ويشترط للأخذ بقول الصحابي شرطان:
1) ألا يخالف نصّاً. فإن خالف نصّاً أخذ بالنص. ومثاله قول عمر رضي الله عنه: إن الجنب لا يتمم، مع أنه ورد في تيمم الجنب حديث عمار رضي الله عنه(400).
2) ألا يخالف قول صحابي آخر. فإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالراجح منهما، ومثاله: صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم ونحوه، فقد روي صيامه عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر رضي الله عن الجميع، وروي عن آخرين عدم صيامه، وهو الراجح لحديث ابن عمر رضي الله عنهما "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" فاجتهاد ابن عمر رضي الله عنه وتفسيره (فاقدوا له) بمعنى: ضيقوا، لا يعارض به ما ثبت من قول الرسول (.
وقول المانعين: إنه غير معصوم كغيره. نقول: هذا صحيح، ولكن انتفاء العصمة لا ينفي إلا الحجية القطعية. ونحن لا نقول بقطعية حجية قول الصحابي. وإنما هو حجة ظنية(401).
ومن أمثلة قول الصحابي قول الراوي، قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟)(402).(1/96)
ومن أمثلة الفعل قول البخاري رحمه الله: (وأم ابن عباس وهو متيمم)(403) والله أعلم.
الأخبار
(وأما الأخبار: فالحبر ما يدخله الصدق والكذب. والخبر ينقسم على قسمين: آحاد ومتواتر. فالمتواتر ما يوجب العلم، وهو أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه، ويكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لا عن اجتهاد).
اعلم أنه جرت عادة الأصوليين بإيراد مباحث من علوم الحديث في أصول الفقه، وذلك لأن الكتاب والسنة هما مدار البحث في علم الأصول. ولما كان القرآن لا يحتاج إلى نظر في سنده، لأنه ثابت ثبوتاً قطعياً بالنقل المتواتر لفظاً ومعنى صار البحث مقتصراً على النظر في دلالة النص على الحكم.
أما السنة فإن المستدل بها يحتاج إلى نظرين:
1) نظر في ثبوتها.
2) ونظر في دلالة النص على الحكم.
لذا أورد الأصوليون هذه الشذرات من علوم الحديث.
قوله: (وأما الأخبار: فالخبر ما يدخله الصدق والكذب): الأخبار: جمع خبر. وهو: ما يدخله الصدق والكذب. أي: يحتمل الصدق والكذب، لكن أورد على هذا التعريف أن من الأخبار ما لا يدخله الكذب، ومنها ما لا يدخله الصدق، فإذا زيد على التعريف كلمة (لذاته) زال هذا الإيراد، إذ يخرج بهذا القيد الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به، فالأول كخبر مدعي الرسالة بعد الرسول (، والثاني كخبر الله تعالى وخبر رسول الله ( الثابت عنه، فإذا قال إنسان: قدم أخوك. فهذا خبر يحتمل الصدق والكذب لذات الخبر، فإن طابق الواقع فهو صدق، وإن خالفه فهو كذب. وذلك إما على السواء إن كان القائل مجهول الحال، أو مع رجحان الصدق إن كان المخبر عدلاً، أو الكذب إن كان فاسقاً.
قوله: (والخبر ينقسم إلى قسمين: آحاد ومتواتر) لما عرف الخبر ذكر أقسامه.
فالخبر باعتبار وصوله إلينا قسمان: 1) آحاد.……2) متواتر.(1/97)
قوله: (فالمتواتر ما يوجب العلم، وهو أن يروي جماعة . . . إلخ) ذكر تعريف المتواتر وبيان ما يفيد، وبدأ المصنف بالمتواتر لطول الكلام على الآحاد ولاعتباره في معنى الآحاد نفي معنى المتواتر.
فالمتواتر لغة: اسم فاعل من تواتر الشيء أي: جاء بعضه في إثر بعض، ومنه تواتر المطر أي: تتابع نزوله. قال الأشياء إلا إذا وقعت بينهما فترة، وإلا فهي مداركة ومواصلة . . .)(404).
واصطلاحاً: أن يروي جماعة لا يقع التواطؤ على الكذب من مثلهم إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه.
هذا تعريف المصنف، وهو تعريف يحتاج إلى تقدير، لأن المتواتر ليس هو رواية الجماعة، بل ما يرويه جماعة، والرواية نفسها هي التواتر فيقدر: حال المتواتر أن يرويه جماعة. ولو قال: (ما رواه جماعة) لكان أحسن.
ومن هذا التعريف وما بعده يتبين أن شروط المتواتر أربعة:
1) أن يرويه عدد، وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله: (أن يروي جماعة) وقد اختلف العلماء في العدد المطلوب على أقوال كثيرة، كلها ضعيفة لتكافئها في الدعوى، ولأن أدلتها لا تعلق لشيء منها بالأخبار، والصحيح ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ونسبه إلى الأكثرين المخبرين، وقد يحصل بصفاتهم لضبطهم ودينهم، وقد يحصل بقرائن تحتف بالخبر يحصل بمجموعها العلم. وقد يحصل بتلقي الأمة له بالقبول، والأمة لا تجتمع على ضلالة، وقد يحصل إذا أجمع أهل الحديث على صحته ونحو ذلك(405).
2) أن تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأشار إليه بقوله: (لا يقع التواطؤ من مثلهم على الكذب).
3) أن يستوي جميع طبقات السند بالشرطين السابقين على أن ينتهي إلى المخبر عنه. وأشار إليه بقوله: (إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه).(1/98)
4) أن يكون مستند خبرهم عن مشاهدة أو سماع كقولهم: "سمعنا أو رأينا" لا عن اجتهاد، لأن الاجتهاد يمكن فيه الغلط بخلاف المشاهدة، فإن من أخبر عن وجود حادثة إخباراً عن مشاهدة لم يجز عليه الغلط. وأشار إليه بقوله: (ويكون في الأصل عن مشاهدة أو سماع لا عن اجتهاد).
قوله (فالمتواتر ما يوجب العلم) أي أن المتواتر يفيد العلم. وهل هو العلم الضروري أو النظري؟ قولان: أرجحهما أن المتواتر يفيد العلم الضروري أي اليقيني الذي يضطر الإنسان إلى التصديق به تصديقاً جازماً، كوجود الأئمة الأربعة، ووجود مكة ودمشق مثلاً بالنسبة لمن لم يرهما، ولو أراد التخلص من العلم بذلك لم يستطع، وقد نسب الشوكاني هذا القول إلى الجمهور، وقال: إنه الحق(406).
وكما يفيد المتواتر العمل يفيد العمل بما دل عليه بتصديقه إن كان خبراً، وتطبيقه عن كان طلباً. ومثال المتواتر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ( (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)(407).
فال المنذري: وهذا الحديث قد روي عن غير واحد من الصحابة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرهما، حتى بلغ مبلغ التواتر، والله أعلم(408).
الآحاد
(والآحاد: هو الذي يوجب العمل ولا يوجب العلم. وينقسم إلى مرسل ومسند، فالمسند ما اتصل إسناده، والمرسل ما لم يتصل إسناده. فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس بحجة إلا مراسيل سعيد بن المسيب، فإنها فتشت فوجدت مسانيد عن النبي ().
هذا هو النوع الثاني من أنواع الخبر باعتبار وصوله إلينا وهو الآحاد.
والآحاد لغة: جمع أحد كأجل وآجال بمعنى واحد. وهمزته مبدلة من واو فأصله وحد، وخبر الآحاد ما يرويه الواحد.
واصطلاحاً: ما لم يتواتر
أي لم تبلغ نقلته مبلغ الخبر المتواتر، سواء كان المخبر به واحداً أو اثنين أو أربعة أو خمسة أو غير ذلك من الأعداد التي لا تشعر بأن الخبر دخل في حد التواتر.(1/99)
قوله (يوجب العمل) أي يجب العمل بما تضمنه خبر الآحاد بتصديقه إن كان خبراء، وتطبيقه إن كان طلباً، بشرط صحته عن رسول الله ( لا فرق في ذلك بين الأحكام والعقائد على القول الصحيح، لعموم الأدلة في وجوب العمل بخبر الواحد، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن النبي ( قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة(409).
فهذا دليل ظاهر في العمل بخبر الواحد، فإن الصحابة رضي الله عنهم تحولوا عن بيت المقدس على الكعبة بخبر الواحد، فصدقوا خبره، وعملوا به.
ومن الأدلة أن النبي ( كان يبعث الآحاد إلى النواحي والقبائل لتبليغ الأحكام الشرعية، فلولا أنه يجب العمل بخبرهم لم يكن لبعثهم فائدة.
ومن الأدلة أن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا على قبول خبر الواحد والعمل به في وقائع لا يمكن حصرها، فقد رجعوا إلى الغسل من الوطء من غير إنزال إلى قول عائشة رضي الله عنها. وفي توريث الجدة إلى قول المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وغير ذلك كثير(410).
يقول النووي: (وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعية والحجج العقلية على وجوب العمل بخبر الواحد، وقد قرر العلماء في كتب الفقه والأصول ذلك بدلائله، وأبلغوه أبلغ إيضاح، وصنف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنفات مستكثرات في خبر الواحد ووجوب العمل به، والله أعلم)(411).
وقال أيضاً: (فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل . . )(412).(1/100)
واعلم أن التفريق بين العقائد والأحكام في الاستدلال بأحاديث الآحاد قول غريب محدث، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة. بل هو مخالف لما عليه سلف الأمة، فإن الأدلة التي يستدل بها على وجوب الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام الشرعية هي أدلة على وجوب الأخذ بها في العقائد لعمومها، ومن أدعى تخصيصها بالأحكام فعليه الدليل(413).
قوله: (ولا يوجب العلم) هذا قول الجمهور: أن الآحاد لا تفيد العلم، بل تفيد الظن، وهو رجحان صحة نسبتها إلى من نقلت عنه، ويختلف هذا باختلاف رتبتها فالصحيح لذاته ليس كالحسن لغيره. وهكذا.
وذلك بأنه لو أفاد خبر كل واحد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه، ونحن لا تصدق كل خبر نسمعه، فدل على أنه لا يفيد العلم، ولأن أعدل رواة الآحاد يجوز في حقه الكذب والغلط، فالقطع بصدقه مع تجويز الكذب والغلط عليه لا معنى له.
وهناك قول آخر، وهو أن أخبار الآحاد تفيد العلم، وهو مذهب الظاهرية، وقد نصره ابن حزم(414). وهو قول جماعة من أهل الحديث، ولهم أدلة ذكرها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)(415).
والمختار أن أخبار الآحاد تفيد الظن، وربما أفادت العلم بالقرائن مثل أن تتلقاه الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً به، أو كونه مروياً في الصحيحين، ونحو ذلك، والله أعلم.
قوله: (وينقسم إلى مرسل ومسند) أي أن أخبار الآحاد تنقسم إلى مرسل ومسند، وهذا باعتبار اتصال السند وانقطاعه. فالمسند لغة: اسم مفعول من الإسناد، وهو ضم جسم إلى آخر، ثم استعمل في المعاني يقال: أسند الخبر إلى فلان إذا نسبه إليه.
قوله: (فالمسند ما اتصل إسناده) هذا تعريف المسند.
اصطلاحاً: وهو ما اتصل إسناده، والمراد بالاتصال أن يروي شخص عن شخص إلى المخبر عنه.(1/101)
ومثاله: قول البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ( قال: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة)(416).
وتعريف المصنف للمسند فيه عموم، لأنه يشمل كل ما اتصل إسناده من رواية إلى منتهاه، بأن ذكر في السند رواته كلهم فيدخل فيه الموقوف إذا جاء بسند متصل(417).
وأكثر ما يستعمل المسند في المرفوع إلى النبي ( دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم.
قوله: (والمرسل ما لم يتصل إسناده)
المرسل لغة: اسم مفعول مشتق من الإرسال: وهو الإطلاق فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده بجميع رواته.
وأما في الاصطلاح: فذكره بقوله (ما لم يتصل إسناده) وهذا عند الأصوليين.
ومعناه: أن يسقط بعض الرواة، سواء كان الساقط واحداً أو أكثر من أي موضع في السند، ففيه رواية الراوي عمن لم يسمع منه. وعليه فالمرسل في اصطلاح أهل الأصول يشمل أنواع الانقطاع، فيدخل فيه المنقطع والمعضل، كما يدخل فيه مرسل الصحابي.
قال ابن الأثير: (المرسل من الحديث هو أن يروي الرجل حديثاً عمن لم يعاصره) أ هـ(418).
والمنقطع هو الذي سقط من إسناده رجل غير الصحابي. والمعضل هو الذي سقط منه اثنان.
وأما المرسل عند المحدثين فهو ما رفعه التابعي إلى النبي (، وذلك بأن يسقط منه الصحابي. ومن أمثلته ما أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البيوع قال: حدثن محمد بن رافع ثنا حجين ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ( نهى عن المزابنة والمحاقلة(419).
فسعيد بن المسيب تابعي كبير روى هذا الحديث عن النبي ( بدون أن يذكر الواسطة بينه وبين الرسول ( وهو الصحابي.(1/102)
قوله: (فإن كان من مراسيل غير الصحابة فليس بحجة) هذا بيان حكم الاحتجاج بالمرسل. وقد ذكر المصنف حكم مرسل غير الصحابي، وسكت عن مرسل الصحابي وذلك لأنه حجة عند جماهير أهل العلم قال الحافظ: (وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث) أ هـ(420).
وذلك لأن مرسل الصحابي موصول مسند، لأن روايتهم غالباً عن الصحابة، والجهالة بالصحابة لا تضر، لأنهم كلهم عدول.
ولهذا لم يعد ابن الصلاح مرسل الصحابي من الحديث المرسل، لأنه في حكم الموصول المسند فقال: (لم نعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه: مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول اله ( ولم يسمعوه منه، لأن ذلك في حكم الموصول المسند، لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة، لأن الصحابة كلهم عدول، والله أعلم)(421).
ومرسل الصحابي: هو ما أخبر به الصحابي عن قول النبي ( أو فعله ولم يسمعه أو يشاهده، لأنه لم يدرك زمانه إما البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله ( الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . . . الحديث )(422) فهذا من مراسيل الصحابة، لأن عائشة لم تدرك هذه القصة، لأنها ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس سنين(423).
ومثاله - أيضاً - ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن الزبير أنه خطب فقال: قال محمد (: (من لبس الحرير في الدنيا لن يلبسه في الآخرة)(424) فهذا مرسل صحابي لأن عبد الله بن الزبير ولد عام الهجرة(425).
وقد ذكر الحافظ في الفتح(426) أنه تبين من الروايتين اللتين أوردهما البخاري بعد هذا المرسل أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي ( بواسطة عمر رضي الله عنه، وذكر الحافظ أنه لم يقف في شيء من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ (لن) بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ (لم) والله أعلم.(1/103)
قال السيوطي في تدريب الراوي: (وفي الصحيحين من مراسيل الصحابة ما لا يحصى، لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة، وكلهم عدول، ورواياتهم عن غيرهم نادرة، وإذا رووها بينوها، بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة، بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات) أ هـ(427).
هذا هو مراسيل الصحابة. وأما مراسيل غير الصحابة كمرسل التابعي ففيه خلاف، وقد ذكر المصنف أنها ليست بحجة، وذلك للجهل بالساقط في الإسناد لاحتمال أنه تابعي، ثم يحتمل أنه ضعيف. وبتقدير كونه ثقة يحتمل أنه روى عن تابعي أيضاً، ويحتمل أنه ضعيف وهكذا، وهذا قول جمهور المحدثين، وكثير من أهل الأصول والفقهاء. يقول الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه: (والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة)(428) ومثل ذلك حكى ابن عبد البر وابن الصلاح والنووي وغيرهم. قال ابن حجر في شرح النخبة (وإنما ذكر المرسل في قسم المردود للجهل المحذوف) أ هـ(429).
وذهب الأئمة الثلاثة: مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه إلى قبول المرسل إذا كان المرسل ثقة، ولا يرسل إلا عن ثقة، وحجتهم أن التابعي الثقة لا يستحل أن يقول: قال رسول الله ( . . . إلا إذا سمعه من ثقة.
وقال بعض أهل العلم ومنهم الشافعي: يحتج بمراسيل كبار التابعين الذين أكثر روايتهم عن الصحابة كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وذلك بشرط أن يعضده مرسل آخر أو قول صحابي أو قياس أو يفتي بمقتضاه أكثر أهل العلم(430).
وقد مشى المصنف على القول بالمنع ولم يستثن إلا مراسيل سعيد بن المسيب، وعلل ذلك بأنه فتش عنها فوجد أن سعيدا أسقط الصحابي، وعزاها للنبي ( والغالب أن يكون الصحابي هو صهره أبو زوجته أبو هريرة رضي الله عنه. والمفتش لها هو الشافعي رحمه الله على ما نقله المصنف في كتابه (البرهان)(431) والله أعلم.(1/104)
واعلم أن المصنف لما نص على أن مرسل غير الصحابي ليس بحجة فهم منه أن مرسل الصحابي حجة، كما تقدم فيكون ذكر حكم النوعين، والله أعلم.
صيغ أداء الحديث
(والعنعنة تدخل على الأسانيد. وإذا قرأ الشيخ يجوز للراوي أن يقول: حدثني أو أخبرني. وإذا قرأ هو على الشيخ يقول: أخبرني ولا يقول حدثني. وإن أجازه الشيخ من غير قراءة فيقول: أجازني وأخبرني إجازة).
لما فرغ المصنف من بيان أقسام الخبر شرع في ذكر كيفية تحمله وأدائه وللحديث تحمل وأداء. فالتحمل: أخذ الحديث عن الغير. والأداء: إبلاغ الحديث إلى الغير.
قوله: (والعنعنة تدخل على الأسانيد) العنعنة من صيغ أداء الحديث، وهي رواية الحديث بلفظ عن فلان عن فلان دون تصريح بالتحديث أو السماع.
وقوله (تدخل الأسانيد) أي على الأحاديث المسندة، وهذا يفيد أن الحديث المعنعن في حكم الحديث المسند في القبول والعمل به، لا في حكم المرسل في رده وعدم العمل به، وذلك لاتصال سنده في الظاهر، وإنما نبه عليه دون غيره لوقوع الخلاف في حكم المعنعن، فالجمهور على أن المعنعن من المتصل، كما ذكر المصنف بشرطين:
الأول متفق عليه: وهو سلامة معنعنه وبراءته من التدليس، فلا يحكم بالاتصال من مدلس إلا أن يصرح بالتحديث.
الثاني مختلف فيه: وهو لقاء الراوي لمن روى عنه واجتماعهما ولو مرة واحدة، وبه قال البخاري وشيخه ابن المديني وغيرهما من أئمة الحديث. وهذا الرأي هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن، ما قال النووي في شرح مسلم(432): ومنهم من اكتفى بإمكان اللقاء والمعاصرة كالإمام مسلم، والمعنعن كثير في الصحيحين وغيرهما.
ومثاله: ما أخرجه البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله ( قرأ في المغرب بالطور(433).(1/105)
فهذا الحديث صحيح وسنده متصل. وأما العنعنة فهي محمولة على الاتصال، لأن رواته غير مدلسين، فمالك إمام حافظ، وابن شهاب الزهري فقيه حافظ متفق على جلالته وإتقانه، ومحمد بن جبير ثقة.
ثم ذكر المؤلف ألفاظ الرواية من غير الصحابي، ولها مراتب بعضها أقوى من بعض، ومنها:
1) قراءة الشيخ على التلميذ ليروي عنه، فيقرأ الشيخ على الرواة وهم يسمعون. وهذه المرتبة هي الغابة في التحمل، وللراوي في هذه المرتبة أن يقول: حدثني فلان أو أخبرني.
2) قراء التلميذ على الشيخ وهو يسمع. فيقول: نعم أو يسكت. فتجوز الرواية عنه بذلك فيقول التلميذ: أخبرني أو حدثني قراءة عليه. وهل يسوغ له ترك (قراءة عليه)؟
قولان: المصنف ومن وافقه يرى المنع، لأنه لم يحدثه، والقول الثاني: الجواز لأن القصد الإعلام بالرواية عن الشيخ، وكل من الصيغتين صالح لذلك. والأول قال به مسلم وهو مذهب الشافعي وأصحابه ورواية عن أحمد، وبالثاني قال البخاري وبعض أهل العلم.
3) الإجازة: وهي أن يأذن الشيخ للتلميذ أن يروي عنه ما رواه، كأن يقول له: أجزت لك أن تروي عني صحيح البخاري. فيقول التلميذ: أجازني، أو أخبرني إجازة.
وقوله: (من غير قراءة) أي من غير قراءة من الشيخ على الراوي ولا من الراوي على الشيخ. والله أعلم.
القياس
(وأما القياس: فهو رد الفرع إلى الأصل في الحكم بعلة تجمعهما. وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس علة، وقيسا دلالة، وقياس شبه. فقياس العلة: ما كانت العلة فيه موجبة للحكم. وقياس الدلالة: هو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم، ولا تكون موجبة للحكم. وقياس الشبه هو الفرع المتردد بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهاً به، ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله).
هذا هو الأصل الرابع من الأصول التي يستدل بها وهو القياس، وخالف يه الظاهرية وآخرون، وقالوا: ليس من الأصول لأنه لا يفيد إلا الظن.(1/106)
والصواب مع الجمهور، فإن القياس يثير ظنّاً غالباً يعمل به في الأحكام الشرعية، وقولهم: لا يفيد إلا الظن، نقول: خبر الواحد ونحوه لا يفيد إلا الظن في الأصل، ومع هذا يستدل به.
وقد دل على اعتبار القياس دليلاً كتاب الله تعالى وسنة رسوله ( وأقوال الصحابة، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط((434)، الميزان ما توزن به الأمور ويقايس به بينها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والقياس الصحيح من العدل. فإنه تسوية بين متماثلين. وتفريق بين المختلفين . .)(435).
ومن السنة ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي ( فقال: (يا رسول الله ولد لي غلام أسود. فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال. ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق)(436) متفق عليه.
قال ابن العربي: (فيه دليل على صحة القياس والاعتبار بالنظير)(437).
ومن أقوال الصحابة ما ورد في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى قاضيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وفيه (ثم الفهم فيما أدلى عليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قياس الأمور عندك واعرف الأمثال. ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق . . )(438).
ونقل ابن القيم في أعلام الموقعين عن المزني من كبار الشافعية أنه قال: (الفقهاء من عصر الرسول ( إلى يومنا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم) وقال: (وأجمعوا على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل)(439).
قوله: (وأما القياس فهو رد الفرع على الأصل . .).
القياس لغة: التقدير والمساواة. تقول: قست الثوب بالذراع إذا قدرته به، وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساوي به.(1/107)
واصطلاحاً: (رد الفرع إلى الأصل في الحكم بعلة تجمعهما)، والباء في قوله: (بعلة) سببية أي بسبب علة، ومعنى رد الفرع إلى الأصل جعله مساوياً له وراجعاً إليه في الحكم، حيث إن الفرع لم يرد في بيان حكمه نص ولا إجماع، لأن موضوع القياس طلب أحكام الفروع المسكوت عنها، التي لم يرد فيها نص ولا إجماع، فإذا وجدت علة الأصل في الفرع أعطي حكم الأصل.
ومثاله: قياس الأرز على البر في جريان الربا(440)، والعلة التي تجمعهما هي الطعم والكيل مثلاً. وقياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا بجامع الرق في كل منهما. ودليل الأصل آية سورة النساء. كما تقدم في التخصيص.
وأركان القياس أربعة:
1) الفرع، وهو المحل الذي يراد إثبات الحكم فيه، ويسمى المقيس. وهو الأرز في المثال الأول والعبد في المثال الثاني.
2) الأصل، وهو المحل المعلوم بثبوت الحكم فيه، ويسمى المقيس عليه، وهو البر، والأمة.
3) والحكم، وهو الأمر المقصود إلحاق الفرع بالأصل فيه. وهو جريان الربا في المثال الأول. وتنصيف الحد في الثاني.
4) العلة، وهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع المقتضي إثبات الحكم في الفرع. وهي الطعم والكيل مثلاً في الأول، والرق في الثاني.
قوله: (وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام) لما ذكر تعريف القياس شرع في تقسيمه بحسب علته. فذكر أنه ثلاثة: قياس العلة وقياس الدلالة، وقياس الشبه. وعرف كل قسم منها.
قوله (فقياس العلة: هو ما كانت العلة فيه موجبة الحكم).(1/108)
أي: هو ما كانت العلة التي تجمع الفرع والأصل في الحكم (موجبة الحكم) أي: مقتضية للحكم، بمعنى أنه لا يحسن تخلف الحكم عنها في الفرع بأن توجد هي في الفرع ولا يوجد الحكم. ومثاله: قياس ضرب الوالدين أو أحدهما على التأفيف المنصوص عليه في قوله تعالى: (فلا تقل لهما أُفّ((441) والحكم هو التحريم، والعلة هي الإيذاء. فلا يحسن عقلاً تخلف الحكم في الفرع بأن يباح الضرب، ويمنع التأفيف مع وجود العلة في الفرع على أتم وجه(442). وهذا على قول من يرى أن ثبوت الحكم في الفرع في هذا القسم بطريق القياس فيكون بطريق المنطوق ونقل في البرهان(443) عن أكثر الأصوليين أنه بطريق مفهوم الموافقة، وهو أن يوافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم، وقد يكون أولى وقد يكون مساوياً والضرب أولى بالتحريم من التأفيف.
والمشهور أن قياس العلة هو الجمع بين الفرع والأصل بنفس العلة، كما إذا قلنا: يجري الربا في الأرز قياساً على البر بجامع الطعم والكيل مثلاً. وهو إما جلي أو خفي، وما ذكره المصنف هو من قياس العلة الجلي، وهو ما علم من غير معاناة وفكر(444).
قوله: (وقياس الدلالة: هو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ولا تكون موجبة للحكم) قوله: (هو الاستدلال) أي هو أن يستدل بأحد النظيرين على النظير الآخر. والمراد بالنظيرين: الشيئان المتشاركان في الأوصاف كاشتراك الأشنان والبر في وصف الكيل، وقوله: (أن تكون العلة دالة على الحكم) أي على ثبوت الحكم في الفرع.
وقوله: (ولا تكون موجبة للحكم) أي لا تكون مقتضية لثبوت الحكم كما في قياس العلة.
ومثاله: قياس الأشنان(445) على البر في جريان الربا بجامع الكيل. فالعلة وهي الكيل دالة على الحكم، وهو جريان الربا في الأشنان، ولكنها ليست موجبة لثبوت الحكم في الفرع، لجواز خلو الفرع عن هذا الحكم، لاحتمال إيجاد فرق بين الأصل والفرع، بأن البر مطعوم والأشنان غير مطعوم.(1/109)
والمشهور أن قياس الدالة هو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، لا بالعلة نفسها: كالشدة في الخمر أو الرائحة، فإن الشدة أو الرائحة ليست هي العلة. سمي بذلك لأن المذكور دليل العلة. وقد يكون أثر العلة كأن يقال: القتل بمثقل يوجب القصاص: كالقتل بمحدد بجامع الإثم، وهو أثر العلة التي هي: القتل العمد العدوان. وقد يكون حكم العلة كأن يقال: تقطع الجماعة بالواحد، كما يقتلون به بجامع وجوب الدية. وهو حكم العلة، ولا منافاة بين هذا وما ذكر المصنف لجواز تعدد الاصطلاح أو اختلافه والله أعلم(446).
قوله: (وقياس الشبه: هو الفرع المتردد بين أصلين).
مثاله(447): العبد. هل يملك بالتمليك أو لا؟ وهل إذا قتل فيه الدية أو القيمة؟ فهو متردد بين أصلين مختلفي الحكم.
الأول الحر فالعبد يشبه الحر من حيث إنه إنسان مكلف يثاب ويعاقب وينكح ويطلق، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه.
الأصل الثاني: المال أو البهيمة كما عبر بعضهم، فهو يشبه هذا الأصل من حيث إنه يباع ويوهب ويوصى به ويرهن ويورث وغير ذلك من أحوال المال.
فالعبد فرع أشبه الحر فيملك بالتمليك وفيه الدية، وهذا الأصل الأول، وأشبه البهيمة فلا يملك بالتمليك وفيه القيمة. وهذا الأصل الثاني.
قوله: (فيلحق بأكثرهما شبهاً به) أي يلحق هذا الفرع بأكثر الأصلين شبهاً به في صفات مناط الحكم. وهو المال. فيأخذ حكمه . . لأنه يشبهه في الحكم والصفة معاً أكثر مما يشبه الحر فيهما.
قوله: (ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله) هذه العبارة ثابتة في بعض النسخ، ومعناها: أن هذا النوع من القياس أضعف من الذي قبله، فلا يصار إليه مع إمكان القسمين الأولين، إذ ليس بين الفرع والأصل علة مناسبة، سوى أنه يشبهه في أكثر الأحكام، مع أنه ينازعه أصل آخر. والله أعلم.
من شروط القياس(1/110)
(ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً للأصل. ومن شرط الأصل أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين. ومن شرط العلة أن تطرد في معلوماتها فلا تنتقض لفظاً ولا معنى. ومن شرط الحكم أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات. والعلة هي الجالبة للحكم، والحكم هو المجلوب للعلة).
لما ذكر تعريف القياس وأقسامه ذكر بعض شروط أركان القياس.
قوله: (ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً للأصل) أي: ومن شروط الفرع لأنه مفرد مضاف فهو للعموم.(ومِنْ) للتبعيض، لأن له شروطاً أخرى. والأظهر أن المراد بالمناسبة: المناسبة في العلة بأن تكون علة الحكم وصفاً مناسباً لكل من الأصل والفرع، مثل تشويش الفكر وانشغال القلب وصف مناسب لمنع الحاقن من القضاء قياساً على منع الغضبان منه، وكالاستعجال في قياس قتل الموصى له للموصي على قتل الوارث مورثه، وكالإسكار وصف مناسب لتحريم النبيذ قياساً على الخمر(448)، وعلى هذا فيغني عن ذكره ما تقدم في التعريف من قوله (بعلة تجمعهما) إلا أن يقال: إن الشرطية قد لا تستفاد من التعريف؛ لأن هذه الورقات وضعت للطالب المبتدئ الذي هو قريب الغفلة عن استفادة ذلك من التعريف.
ويحتمل أن يراد بالمناسبة كون حكم الفرع مماثلاً لحكم الأصل، كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص. فالحكم في الأصل هو عين الحكم في الفرع، ذكره في غاية المرام(449).
وقد ذكر الشوكاني أن من شروط الفرع مساواة علته لعلة الأصل، ومساواة حكمه لحكم الأصل، فهذا يفسر به كلام المصنف(450). فلا يقاس التفاح على البر في جريان الربا، لأن الفرع ليس مساوياً للأصل في العلة، وهي الكيل مثلاً حيث إن التفاح ليس مكيلاً والله أعلم.(1/111)
قوله: (ومن شرط الأصل أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين) هذا شرط لحكم الأصل كما عبر به غيره، ومعنى ذلك أن يكون حكم الأصل الذي يراد إثباته للفرع ثابتاً بدليل نص أو إجماع، متفق عليه بين الخصمين المتنازعين، لأن البحث بينهما فإذا ذكر المستدل الحكم مقترناً بدليله من نص أو إجمالا لم يشترط موافقة الخصم، لأن دلالة النص الصريح أو الإجماع على الحكم يؤمن معه الانتشار.
وإنما شرط ذلك لئلا يمنع الخصم الحكم فيحتاج الآخر على إثباته فيكون انتقالاً من مسألة على مسألة أخرى، وينتشر الكلام فيفوت المقصود.
ومثاله قول الحنبلي: جلد الميتة نجس فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب. فيقول الحنفي: لا أسلم حكم الأصل، وهو أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغ، بل هو يطهر به عندي.
فحكم الأصل المقيس عليه ليس متفقاً عليه بينهما، فلا يصح القياس، وهذا من القوادح في باب القياس، ويسمى (المنع).
فإن لم يكن خصم، بل أريد مجرد إثبات ذلك الحكم في الفرع، فالشرط ثبوت حكم الأصل بدليل يقول به القائس وهو المثبت للقياس.
قوله: (ومن شرط العلة أن تطرد في معلولاتها).
أي ومن شرط العلة من حيث إلحاق الفرع بالأصل بواسطتها أن تطرد، ومعنى الاطراد: أنه كلما وجدت العلة في صورة من الصور وجد معها الحكم كالإكسار، فكلما وجد الإكسار في شيء وجد التحريك فيه، كالكيل والطعم - مثلاً - فكلما وجد الكيل والطعم في شيء حرم الربا فيه.
والمراد بمعلولاتها الأحكام المعللة بها كتحريم الربا في البر معلل بالكيل والطعم على أحد الأقوال.
وقوله: (فلا تنتقض لفظاً ولا معنى) هذا تفريع على شرطية الاطراد، والانتفاض أن يوجد الوصف في صورة من الصور، ولا يوجد معه الحكم، وهذا من القوادح التي تبطل القياس ويسمى (النقض).(1/112)
ولا حاجة لقول المصنف (لفظاً) لأنه إذا انتقض معنى انتقض لفظاً، بل لو اقتصر المصنف على قوله (فلا تنتقض) لكفى، لأن العلة لا تكون إلا معنى، والألفاظ دالة عليها، ولعله جمع بينهما للإيضاح والتأكيد، أي فلا ينتقض لفظ العلة ولا معناها(451) أو يقال: إن كانت العلة مركبة من عدة أوصاف نظر إلى اللفظ، وإن كانت أمراً واحداً نظر على معنى. وسيأتي إن شاء الله مثال ذلك(452).
واعلم أن المصنف عمم النقض، وهو تخلف الحكم، سواء كان المانع أو لغير مانع، فيفسد القياس، وهو ما مشى عليه في جمع الجوامع(453). ونقله عن الشافعي واختاره جماعة. ويرى آخرون أن تخلف الحكم عن الوصف فيه تفصيل: فإن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة أو لفقد شرط تأثيرها، فلا يكون ذلك مبطلاً للعلة، بل هو تخصيص لها، وإلا فهو نقض وإبطال. وبه قال التلمساني في مفتاح الوصول، ونسبة الشنقيطي لأكثر العلماء(454).
ومثال النقض أن يقال: القتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعاً، لكن ينتقض ذلك بقتل الوالد ولده، فإنه لا يجب القصاص، فلا يقتل به مع وجود العلة، وهي الأوصاف الثلاثة: القتل، والعمد، والعدوان. فيقال: إن العلة تخلفت لمانع وهو الأبوة، لأنها مانعة من تأثير العلة في الحكم، فلا يقال هذه العلة منقوضة لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة، بل هي علة منع من تأثيرها مانع، فلا تبطل في غير الأب، فكلما وجد القتل العمد العدوان من غير الأب ونحوه وجب القصاص، حيث لا مانع من تأثيرها. وهذا نقض على رأي الأولين، وتخصيص على القول الثاني.
ومثال فقد الشرط: الزنا علة الرجم إجماعاً. وشرطه: الإحصان. فإذا تخلف الحكم - وهو الرجم - مع وجود العلة - وهي الزنا - فلا يقال: إنها علة منقوضة، بل علة تختلف شرط تأثيرها.(1/113)
وإن كان تخلفها لغير ذلك لم يصح التعليل بها، كما لو قيل: تجب الزكاة في المواشي قياساً على الأموال بجامع دفع الحكم عنها في الجواهر كاللآلي لصلاحيتها لدفع حاجة الفقير، ومع هذا فلا زكاة فيها، فهي علة منقوضة حيث وجد المعنى المعلل به، وهو دفع حاجة الفقير، ولم يوجد الحكم وهو وجوب الزكاة.
قوله: (ومن شرط الحكم أن يكون مثل العلة في النفي والإثبات) المراد بالحكم حكم الأصل من حيث صحة إلحاق الفرع فيه بسبب علته، أي: ومن شروط الحكم أن يكون تابعاً للعلة في النفي والإثبات أي في الوجود والعدم، فإن وجدت العلة وجد الحكم، وإن انتفت انتفى. وهذا الشرط أعم من الشرط المذكور في العلة، لأن ذاك خاص بوجود الحكم عند وجود العلة، وهذا عام للوجود والانتفاء، فالأول هو الطرد، والثاني هو العكس. وهذا إن كان الحكم معللاً بعلة واحدة: كتحريم الخمر لعلة الإسكار، فمتى وجد الإسكار وجد التحريم، ومتى انتفى الإسكار انتفى التحريم، فإن كلن للحكم علل متعددة لم يلزم من انتفاء علة معينة منها انتفاء الحكم، فيثبت بالعلة الأخرى كالبول والغائط والنوم لنقض الوضوء، فلو عدم البول والغائط ثبت النقض بالنوم.
واعلم أن ظاهر كلام المصنف اشتراط الانعكاس في العلة، ومعناه كلما انتفت العلة انتفى الحكم، ومن يشترط ذلك يمنع تعليل الحكم بعلتين، لأنه إذا انتفت علة لم ينتف الحكم لوجود العلة الأخرى وقيامها مقامها.
والصحيح أن ذلك لا يشترط وإن كان هو الغالب. ونسبه في الشرح الكبر للورقات إلى الجمهور(455)، فيجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين وذلك لوقوعه، ولأن العلة علامة على وجود الحكم، ولا مانع من تعدد العلامات.
ومثاله ما تقدم من تعليل إيجاب الوضوء بالبول والغائط والريح والنوم، ومثاله أيضاً تعليل حرمة النكاح بالقرابة والصهر والرضاع.
قوله: (والعلة هي الجالبة للحكم) هذا أحد تعاريف العلة، وهي الركن الرابع من أركان القياس كما تقدم.(1/114)
ثم إن أريد بالجالبة للحكم أي بذاتها فغير صحيح، لأن الله تعالى لا يحمله على شرع الحكم سوى إرادته جل وعلا، يخلق ما يشاء ويختار.
وإن أريد أن الشارع جعلها جالبة للحكم فهذا لا بأس به. ولكن التعبير (بالمعرفة للحكم) أولى من الجالبة للحكم للاحتمال المذكور، وذلك لأن العلة معرفة لوجود الحكم، فمتى عرفت العلة عرف ثبوت الحكم معها، بسبب أن بينهما مناسبة تقتضي ترتيب الحكم عليها، فالإسكار علة أي أن هذا الوصف علامة معرّفة على حرمة المسكر كالخمر والنبيذ. فالخل قبل أن يصير مسكراً مباح، فإذا ظهرت فيه القوة المسكرة وصار خمراً حرم. فعلة التحريم وهي الإسكار تدل على ترتب الحكم عليها وتعلقه بها، فإن وجدت وجد، وإن لم توجد لم يوجد الحكم.
قوله: (والحكم هو المجلوب للعلة) هذا تعريف الحكم وهو أحد أركان القياس كما تقدم.
ومعنى ذلك أن الحكم هو ما جلبته العلة واقتضته من تحريم وتحليل وصحة وفساد ووجوب وانتفاء ونحو ذلك، فتحريم الخمر حكم شرعي اقتضته العلة وهي الإسكار. وإنما كان الحكم مجلوباً للعلة لمناسبتها له، فإنه ما ثبت حكم الأصل في الفرع إلا بسبب هذه العلة والله أعلم.
الحظر والإباحة
(وأما الحظر والإباحة فمن الناس من يقول: إن أصل الأشياء على الحظر إلا ما أباحته الشريعة. فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة يتمسك بالأصل وهو الحظر. ومن الناس من يقول: بضده، وهو أن الأصل في الأشياء على الإباحة إلا ما حظره الشرع [ومنهم من قال بالتوقف]).
قول (وأما الحظر والإباحة) معطوف على قوله في أول الورقات (وأما أقسام الكلام) فهو من جملة ما أراد تفصيله بعد إجماله.
والمراد بالحظر: المنع. والإباحة ضده. وهذه المسألة(456) وهي مسألة الأعيان المنتفع بها ذكر المصنف فيها ثلاثة أقوال:(1/115)
الأول: أن الأشياء المنتفع بها على الحظر إلا ما دلت الشريعة على إباحته فهو مباح، فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة فإنه يتمسك بالأصل وهو الحظر، واحتج القائلون بذلك بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه.
القول الثاني: أن الأصل في المنافع الإباحة إلا ما حظره الشرع. ومن أدلة قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا((457) ووجه الدلالة: أن الله تعالى امتن على خلقه بما في الأرض جميعاً، ولا يمتن إلا بمباح إذ لا منة في محرم، وخص من ذلك بعض الأشياء وهي الخبائث لما فيها من الضرر لهم في معاشهم أو معادهم، فيبقى ما عدها مباحاً بموجب الآية.
وقال تعالى: (والأرض وضعها للأنام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام (11) والحبّ ذو العصف والريحان (12) ((458) فامتن الله تعالى على الأنام بأن وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي ( قال: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يخرّم فحرم من أجل مسألته)(459).
ووجه الدلالة من وجهين:
1) أن الأشياء لا تحرّم إلا بتحريم خاص لقوله: (لم يحرم).
2) أن التحريم قد يكون لأجل المسألة. فبين بهذا أنها بدون ذلك ليست محرمة.
والقول الثالث: التوقف (وهذا ثابت في بعض النسخ) ودليله أن المباح ما أذن فيه صاحب الشرع، والمحظور ما حرمه صاحب الشرع، فإذا لم يرد الشرع وجب ألا يكون مباحاً ولا محظوراً، فوجب أن يكون على التوقف.
والقول الثاني أرجح الأقوال في المسألة لقوة أدلته. وما علل به الأولون ضعيف لا يقف في مقابلة النصوص. وأما الثالث ففيه نظر، فإن الله تعالى خلق لنا وسخر (ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه((460) نستفيد منها، فالتصرف فيها ينبغي أن يكون مباحاً بهذا الأصل العام، وقد نصر القول بالإباحة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(461).(1/116)
واعلم أن المسألة خاصة بالأعيان المنتفع بها، وكلام المصنف عام حيث عبر بالأشياء، وهي تشمل المنافع والمضار، كما تشمل الأقوال والأفعال، وقد فصل شارح الورقات جلال الدين المحلى وبين حكم المنافع وأنه الحل، والمضار وأنه التحريم، وقال: إن هذا هو الصحيح(462). والله أعلم.
استصحاب الحال
(ومعنى استصحاب الحال: أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي).
الاستصحاب من الأدلة المختلف فيها. وقول المصنف ( ومعنى استصحاب الحال ) يشعر بأن الاستصحاب تقدم له ذكر كغيره من المباحث السابقة. وليس كذلك لأن المصنف لم يذكره في مجمل الأبواب أول الورقات، وكان الأنسب أن يعنون له بمسألة ونحوها.
والاستصحاب لغة: طلب الصحبة كالاستسقاء طلب السقيا، والصحبة مقارنة الشيء ومقاربته.
واصطلاحاً: هو الحكم بأن ما ثبت في الزمن الماضي، فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل.
فإذا ثبت شيء فالمستدل يطلب صحبته في الحال والاستقبال حتى يدل دليل على رفعه.
فلو ادعى شخص على آخر ديناً لم تقبل دعواه. ويكون القول قول المدعى عليه استصحاباً للحال. إذ الأصل براءة الذمة من الحقوق المالية حتى يدل دليل على خلاف ذلك.
والاستصحاب أنواع:
الأول: استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد الدليل الناقل عنه، وهذا النوع هو الذي ذكره المصنف بقوله: (أن يستصحب الأصل عند عدم الدليل الشرعي). والمراد بالأصل: العدم الأصلي. وهو ما يسمى بالبراءة الأصلية. فالأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية حتى يرد دليل شرعي على تغييره: كنفي صلاة سادسة. وعدم وجوب صوم رجب.
وقوله: (عند عدم الدليل الشرعي) المراد بعدم الدليل باعتبار ما يظهر للمجتهد لا بالنظر للواقع ونفس الأمر. فإذا بحث المجتهد ولم يجد الدليل استصحب البراءة الأصلية.(1/117)
وهذا النوع حجة. قال السبكي في الإبهاج شرح المنهاج: (والجمهور على العمل بهذا، وادعى بعضهم الاتفاق) أ هـ(463) وقد ذكر المصنف أنه حجة في كلامه على ترتيب الأدلة كما سيأتي إن شاء الله.
الثاني: الاستصحاب الذي دلّ الشرع على ثبوته ودوامه كاستصحاب الطهارة بناءً على ما مضى من الوضوء حتى يثبت ناقض، واستصحاب بقاء النكاح بناء على عقد الزواج الصحيح شرعاً، وبقاء الملك في المبيع بناء على عقد البيع الصحيح شرعاً، وبقاء شغل ذمة من أتلف شيئاً بناء على ما صدر منه من إتلاف. فالحكم بذلك استصحاب للحكم الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته ودوامه. ولم يقم دليل على تغييره.
وهذا النوع لا خلاف في وجوب العمل به عند الأصوليين على أن يثبت معارض له. قاله الزركشي(464).
النوع الثالث: استصحاب الدليل مع احتمال المعارض. فالعموم يستصحب إلى أن يرد تخصيص. لأن تعطيله بدعوى البحث عن مخصّص تعطيل للشريعة. والنص يستصحب إلى أن يرد نسخ. ومن أمثلة ذلك أن فريقاً من أهل العلم قالوا بجواز نكاح الزانية قبل وضع حملها. والصحيح عدم الجواز لقوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ((465) فيجب استصحاب هذا العموم حتى يثبت تخصيصه بما يدل على جواز الصورة المذكورة(466).
النوع الرابع: استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف، وهذا النوع راجع إلى حكم الشرع. بأن يتفق على حكم في حالة، ثم تتغير صفة المجمع عليه. ويختلف المجمعون فيه. فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال.
ومثال ذلك: استدلال من يقول: إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته. لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك. فاستصحب هذا الإجماع إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة.(1/118)
وهذا النوع هو محل الخلاف. فأكثر الحنابلة وأصحاب أبي حنيفة والشافعي على أنه ليس بحجة. لأن الإجماع إنما دلّ على دوام الصلاة حال العدم. فأما مع وجود الماء فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الاختلاف.
وقال بعض الأصوليين والفقهاء: إنه حجة. وبه قال داود الظاهري واختاره الآمدي وابن الحاجب وابن القيم وغيرهم. قال الشوكاني: (والقول الثاني هو الراجح، لأن المتمسك بالاستصحاب باقٍ على أصل قائم في مقام المنع، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا بدليل يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به)(467).
لكن نوقش ذلك بأن البقاء على الأصل القائم إنما يكون مع النص أو العقل. أما حين يكون دليله الإجماع فلا. لأن الإجماع في مسألة التيمم - مثلاً - مشروط بالعدم. فلا يكون دليلاً عند الوجود. والله أعلم.
ومن الأدلة على صحة الاستدلال بالاستصحاب ما عدا النوع الرابع قوله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله((468). ووجه الدلالة: أنه لما نزل تحريم الربا خافوا من الأموال المكتسبة من الربا قبل التحريم، فبينت الآية أن ما اكتسبوا قبل التحريم على البراءة الأصلية، فهو حلال ولا حرج عليهم فيه(469).
ومن الأدلة أن ما ثبت في الزمان الأول من وجود أمر أو عدمه ولم يظهر زواله، فإنه يلزم بالضرورة والبداهة أن يحصل الظن ببقائه كما كان. والعمل بالظن واجب(470).
ومن الأدلة - أيضاً - قيام الإجماع على اعتبار الاستصحاب في كثير من الفروع الفقهية كبقاء الوضوء والحدث والزوجية والملك - ما تقدم - مع وجود الشك في رافعها(471).
هذا وقد استنبط الفقهاء بعض القواعد من الاستصحاب وأدلته ومن ذلك:
1) الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت تغييره.
2) الأصل في الأشياء النافعة الإباحة.
3) الأصل في الأشياء الضارة التحريم.
4) اليقين لا يزول بالشك.
5) الأصل براءة الذمة من التكاليف والحقوق.
6) الأصل في الذبائح التحريم.(1/119)
7) الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع.
وتفصيل ذلك لا يتسع له المقام والله أعلم.
ترتيب الأدلة
(وأما الأدلة فيقدم الجلي منها على الخفي، والموجب للعلم على الموجب للظن، والنطق على القياس، والقياس الجلي على الخفي. فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال).
قوله: (وأما الأدلة) أي وأما ترتيب الأدلة كما ذكر ذلك في أول الورقات.
والأدلة جمع دليل، والمراد به هنا ما تثبت به الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكذا قول الصحابي على أحد القولين، والاستصحاب على القول المختار. ومن المعلوم أن الأدلة الشرعية متفاوتة في القوة فيحتاج إلى معرفة الأقوى ليقدم على غيره عند التعارض، ولهذا كان الأولى بالمصنف أن يذكر هذه الكلمات اليسيرة مع التعارض المتقدم بحثه، لأن ترتيب الأدلة يحتاج إليه عند التعارض، وهذا ما فعله المؤلفون في أصول الفقه، ولعل المصنف أخر موضوع الترتيب إلى هنا، لأنه يجري في الأدلة الأربعة التي آخرها القياس. فلما فرغ من الأدلة شرع في بيان الترجيح بينها.
قوله: (فيقدم الجلي منها على الخفي) أي يقدم من أدلة الكتاب والسنة (الجلي) وهو ما اتضح منه المراد (الخفي). وهو ما خفي المراد منه، وذلك كالظاهر والمؤول، سواء كان الظاهر ظاهراً بنفسه أو بالدليل كما تقدم في بابه، في معناه المجازي، لأن الحقيقي هو الظاهر من اللفظ.
وهذا على القول بوقوع المجاز في القرآن، وتقدم بيان ذلك.
قوله: (والموجب للعلم على الموجب للظن) أي ويقدم ما يفيد العلم وهو اليقين على ما يفيد الظن، وذلك كالمتواتر والآحاد، فإن المتواتر يفيد العلم، والآحاد يفيد الظن، إلا أن يكون المتواتر عامّاً والآحاد خاصّاً. فإن الآحاد يخصص المتواتر، كما في قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم((472) مع حديث "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" وتقدم ذلك في الخاص.(1/120)
قوله: (والنطق على القياس) أي ويقدم النطق على القياس، والمراد بالنطق قول الله تعالى وقول الرسول (، كما تقدم تعريفه في التخصيص، فيقدم ذلك على القياس إلا إن كان النص عامّا فإنه يخصّ بالقياس، ومثاله تقدم في التخصيص.
قوله: (والقياس الجلي على القياس الخفي) القياس الجلي ما نص على علته أو أجمع عليها أو كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الفرع والأصل.
ومن أمثلته قياس إحراق مال اليتيم على أكله المنصوص عليه في آية سورة النساء في التحريم بجامع الإتلاف إذ لا فرق بينهما.
والقياس الخفي ما ثبتت علته بالاستنباط، ولم يقطع بنفي الفارق بين الفرع والأصل، كما تقدم في قياس الأشنان على البر في تحريم الربا بجامع الكيل مثلاً، فإنه لم يقطع بنفي الفارق لاحتمال أن يقال: إن البر مطعوم، والأشنان غير مطعوم.
قوله: (فإن وجد في النطق ما يغير الأصل وإلا فيستصحب الحال): أي أن وجد في الكتاب والسنة ما يغير الأصل وهو البراءة الأصلية عمل بالنص وترك الأصل، وإن لم نجد نصّاً فإننا نعمل بالاستصحاب، وهو العدم الأصلي كما تقدم، والله أعلم.
شروط المفتي
(ومن شرط المفتي أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً، خلافاً ومذهباً، وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها).
لما فرغ المصنف من الكلام على الأدلة شرع يتكلم على صفات من يشتغل بالأدلة وهو المجتهد، فذكر شروطه، وهذا مسلك لبعض الأصوليين، وهو تأخير مبحث الاجتهاد عن مبحث الأدلة، والأكثرون قدموا باب الاجتهاد على مباحث الأدلة، لأنها من عمل المجتهد.
قوله: (ومن شرط المفتي) أي المجتهد، والمفتي: اسم فاعل من أفتى الرباعي، ومصدره الإفتاء. قال في القاموس: (أفتاه في الأمر: أبانه له. والفتيا والفتوى (وتفتح) ما أفتى به الفقيه) أهـ.
والمراد هنا: المخبر عن حكم شرعي.(1/121)
وللمفتي شروط لا يكون صالحاً للإفتاء إلا بها ذكر بعضاً منها.
قوله: (أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً، خلافاً ومذهباً) هذا الشرط الأول من شروط المجتهد، وإنما اشترط علمه بالفقه لأنه المقصود، والمراد بالفقه هنا مسائل الفقه، وليس المراد ما تقدم في أول الورقات، وهو معرفة الأحكام الشرعية لئلا يصير المعنى: أن يكون عالماً بمعرفة الأحكام وهذا غير مراد.
والمراد بقوله: أصلاً وفرعاً: أي أصول الفقه وفروعه. فأصول الفقه أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وفروعه: مسائله الجزئية.
وفي إدخال أصول الفقه في الفقه كما يدل عليه قوله (أن يكون عالماً بالفقه أصلاً) مسامحة، لأن أصول الفقه ليس داخلاً في الفقه، إلا إن كان يريد بالأصل أمهات المسائل التي هي كالقواعد، لكن يفوته التنبيه على معرفة أصول الفقه للمجتهد، إلا أن يدخل في قوله (كامل الآلة) كما سيأتي إن شاء الله(473).
قال ابن الجوزي: (قال العلماء: من الواجب على الفقيه اللازم له طلب الوقوف على حقائق الأدلة وأوضاعها التي هي مباني قواعد الشرع) أ هـ(474).
وقوله: (وفرعاً) أي يعرف المسائل الفقهية التابعة لهذه القواعد وغيرها، وليس المراد حفظها، إنما المقصود أن يحفظ جملة منها، ليتمكن من معرفة ما يرد عليه أثناء الفتوى، إذ لا يتصور العلم بجميعها.
وقوله: (خلافاً ومذهباً) أي يشترط في المفتي مع علمه بالفقه وأصوله أن يكون مطلعاً على خلاف العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ليذهب إلى قول من أقوالهم. كما أنه لابد من معرفة الإجماع، لئلا يفتي بخلاف ما أجمع عليه. فيكون قد خرق الإجماع.(1/122)
والمراد بقوله (ومذهباً) ما يستقر عليه رأيه، وما يسوغ الذهاب إليهن لأن العلم بالخلاف سبب للعلم بما يسوغ الذهاب إليه وهذا إن حمل كلامه على المجتهد المطلق. فإن حمل على المجتهد المقيد فالمراد بالمذهب ما يستقر عليه رأي إمامه. فيجب أن يكون عالماً بقواعد مذهب إمامه، ليجتهد في التخريج على أصوله، أو يجتهد في ترجيح بعض أقوال إمامه على بعض، وذكر في جمع الجوامع(475) أنه لا يشترط علم المجتهد بتفاريع الفقه، لأنها إنما تحصل بعد الاجتهاد فكيف تشترط فيه؟! وهذا خلاف ما عليه المصنف. والظاهر بعض القواعد الفقهية كما تقدم.
وقوله: (وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد) هذا الشرط الثاني من شروط المفتي، والمراد بكمال الآلة: صحة الذهن، وجودة الفهم بعده، فيكون ما بعده شرطاً آخر. أو يريد بكمال الآلة ما ذكره بعده فيكون تفسيراً. وهذا على أنه لا يفتي إلا مجتهد، وبه قال جمع من أهل العلم، ويرى آخرون أن المفتي إذا كان متبحراً في مذهب إمامه، فاهما لكلامه، عالما لراجحه من مرجوحه كفى، ولو لم يكن مستطيعاً استنباط الأحكام من أدلتها، وذلك لأن اشتراط الاجتهاد المطلق في المفتي يفضي إلى حرج عظيم واسترسال الخلق في أهوائهم، ويضاف إلى ذلك ما نشاهده في واقع الأمة الإسلامية من كثرة الجهل بأحكام الدين في كثير من أفرادها، وكثرة مشاغل المتخصصين في أحكام الشريعة مما قد يحول بينهم وبين بلوغ درجة الاجتهاد. والقضاء مع أنه مركز عظيم لا يشترط فيه الاجتهاد، فليكن المفتي كالقاضي الذي ينفذ الأحكام(476) والله أعلم.
قوله: (عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو اللغة) أي: لابد أن يكون المجتهد عالماً بالقدر اللازم لفهم الكلام من اللغة والنحو. أما اللغة فلأن القرآن والسنة بلسان العرب وردا، فلا يفهم نصوصهما من يجهل اللغة. وأما النحو فلأن المعاني تختلف باختلاف الإعراب. فلابد من معرفة النحو والإعراب.(1/123)
قوله: (ومعرفة الرجال) أي: رواة الحديث ليأخذ برواية المقبول منهم دون المجروح.
قوله: (وتفسير الآيات الواردة في الأحكام والأخبار الواردة فيها) أي ومن شرط المجتهد أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة التي لها تعلق بما يجتهد فيه من الأحكام. فيعرف آيات الأحكام وتفسيرها والأحاديث التي تتعلق بها الأحكام. ولا يشترط حفظها بل يكفي معرفة مظانها في أبوابها ليراجعها وقت الحاجة إليها.
ومن كما الآلة عند المجتهد أن يكون على علم بأصول الفقه، لأن هذا الفن هو الدعامة التي يعتمد عليها الاجتهاد، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. ومن شروط الاجتهاد أن يكون المجتهد عالماً بالناسخ والمنسوخ لئلا يعمل ويفتي بالمنسوخ والله أعلم.
ما يشترط في المستفتي
(ومن شرط المستفتي أن يكون من أهل التقليد، فيقلد المفتي في الفتيا. وليس للعالم أن يقلد [وقيل يقلد]).
لما فرغ المصنف رحمه الله من بيان شروط المفتي شرع في بيان ما يشترط في المستفتي، والمستفتي: اسم فاعل من الاستفتاء بمعنى طلب الفتوى، فالسين والتاء للطلب، والمراد هنا: السائل عن حكم شرعي.
قوله: (ومن شرط المستفتي أن يكون من أهل التقليد) أي: أهل جواز التقليد لا من أهل الاجتهاد، فيدخل فيه العامي والمتعلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد.
قوله: (فيقلد المفتي في الفتيا) أي: أن المقلد يجب عليه تقليد المفتي لقصوره عن إدراك الأحكام من أدلتها. وقوله (في الفتيا) أي: في جواب المفتي عن السؤال الموجه إليه من المستفتي. ومعنى تقليده: قبول قوله والعمل به كما سيأتي، وظاهر قوله في (الفتيا) أنه يقلده في الفتوى، ولا يقلده في الفعل، فلو رأى الجاهل العالم يفعل فعلا لم يجز له تقليده فيه حتى يسأله، إذ لعله فعله لأمر لم يظهر للمقلد.(1/124)
قوله: (وليس للعالم أن يقلد) أي: وليس للمجتهد أن يقلد غيره لتمكنه من الاجتهاد إلا إذا اجتهد بالفعل ولم يظهر له الحكم، أو نزلت به حادثة تقتضي الفورية، فيجوز أن يقلد حينئذ للضرورة. أما إذا اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له أن ينتقل عنه، ويقلد غيره من المجتهدين باتفاق.
وقوله: (وقيل: يقلد) هذا ثابت في بعض النسخ. والظاهر أن الخلاف فيمن لم يجتهد، فهل له أن يقلد غيره؟ الأرجح أنه ممنوع من التقليد إلا في الحالتين المذكورتين والله أعلم(477).
واعلم أنه يجب على المستفتي أن يريد باستفتائه الحق والعمل به. فلا يسأل عما لا يعني. أو يتتبع الرخص أو يقصد إفحام المفتي، أو يقول: أفتاني غيرك بكذا. أو نحو ذلك من المقاصد السيئة.
ولا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنه أنه أهل للفتوى، بما يراه من انتصابه للفتيا واحترام الناس له وأخذهم عنه، أو بخبر عدل عنه. وينبغي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً. وقيل: يجب ذلك لأن الغرض حصول ظن الإصابة، وهي إلى الأفضل أقرب، والله أعلم(478).
التقليد
(والتقليد: قبول قول القائل بلا حجة. فعلى هذا قبول قول النبي ( يسمى تقليداً، ومنهم من قال: التقليد: قبول قول القائل وأنت لا تدري من أين قاله. فإن قلنا: إن النبي ( كان يقول بالقياس فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً).
لما بيّن المصنف أن المجتهد لا يقلد بين حقيقة التقليد.
والتقليد لغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به. وذلك الشيء (قلادة) والجمع (قلائد) ويطلق على تفويض الأمر إلى الشخص كأن الأمر جعل في عنقه كالقلادة.
واصطلاحاً عرفه بقوله: (قبول قول القائل بلا حجة) أي بلا حجة يذكرها القائل للسائل.(1/125)
قوله (فعلى هذا قبول قول النبي ( يسمى تقليداً) أي: فعلى هذا التعريف يكون قبول قول النبي ( تقليداً لانطباق التعريف عليه، لأنه ( يذكر الحكم، ولا يذكر دليل الحكم، لكن جاء عن المصنف في (البرهان) خلاف ذلك، فإنه قال: (وذهب بعضهم إلى أن التقليد قبول قول القائل بلا حجة، ومن سلك هذا المسلك منع أن يكون قبول قول النبي ( تقليداً فإنه حجة في نفسه) أ هـ(479). ويظهر أن من أطلق عليه تقليداً قصد المجاز والتوسع، قال الآمدي: ( وإن سمي ذلك تقليداً بعرف الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ) أ هـ(480).
قوله: (ومنهم من قال: التقليد: قبول قول القائل وأنت لا تدري من أي قاله) أي لا تعرف مأخذه. وهذا يخرج أخذ القول مع معرفة دليله فهذا اجتهاد.
ولو قيل في تعريفه هو: (اتباع من ليس قوله حجة) لكان أخصر وأشمل وأوضح. لأن معظم الأصوليين خصصوا حدودهم بالقول، ولا معنى للاختصاص به، فإن الاتباع في الأفعال المبينة كالاتباع في الأقوال(481).
ويخرج به اتباع الرسول ( فليس تقليداً لأنه اتباع للحجة، وكذا اتباع أهل الإجماع لأن الإجماع حجة، وكذا اتباع قول الصحابي على القول بأنه حجة.
قوله: (فإن قلنا: إن النبي ( كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً) هذا تفريع على الحد الثاني الذي ذكره للتقليد. وهو أننا إذا قلنا إن الرسول ( يجوز له أن يحكم بالقياس أي: يجتهد ولا يقتصر على الوحي، وليس المراد خصوص القياس، بل المراد جواز مطلق الاجتهاد كما عبّر في البرهان(482).
قوله: (فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً) أي: لأننا لا نعلم مأخذ قوله من الاجتهاد أو من الوحي، وإن قلنا إنه لا يجوز له أن يجتهد فلا يسمى قبوله تقليداً، لأنا نعلم أن ما يقوله يقوله عن وحي. فلا ينطبق عليه هذا التعريف.
والصحيح أن الرسول ( يجوز له الاجتهاد، ولا يسمى قبول قوله تقليداً كما تقدم.(1/126)
أما الاجتهاد في أمر الدنيا فهو جائز وواقع بالإجماع، كما حكاه ابن حزم وغيره(483) مثل قصة اجتهاده ( في تأبير النخل(484) وأما أمر الشرع فعلى أصح الأقوال لقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر((485) وطريق المشاورة: الاجتهاد. ولأنه قد وقع كما في قصة أسارى بدر(486) وكما في رجوعه ( لقول العباس في قوله: (إلا الأذخر) كما تقدم في مباحث الاستثناء في باب التخصيص، ولو كان ذلك بوحي لم يتغير، فدل على أنه باجتهاد والله أعلم.
الاجتهاد
(وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض. فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد. ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب. ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول [الكلامية] مصيب، لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين. ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً قوله ( "من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد". وجه الدليل: أن النبي ( خطّا المجتهد تارة وصوبه أخرى [والله سبحانه أعلم]).
لما تكلم عن التقليد وشروط المجتهد، وأن الاجتهاد يجب على من اجتمعت فيه شروطه ذكر تعريف الاجتهاد، لأن الاجتهاد يقابل التقليد. وهو لغة: بذل الجهد(487) واستفراغ الوسع لإدراك أمر شاق. ولا يستعمل إلا فيما فيه مشقة. تقول: اجتهد في حمل الصخرة. ولا تقول: اجتهد في حمل العصا.
واصطلاحاً عرفه بقوله: (بذل الوسع في بلوغ الغرض) والوسع: بضم الواو: الطاقة والقوة(488).(1/127)
وهذا تعريف عام، هو التعريف اللغوي أقرب، فلابد من تقييده بالحكم الشرعي، لأن المراد البحث في الاجتهاد الذي هو طريق لإثبات حكم شرعي. فيكون المراد بالغرض: الحكم الشرعي المطلوب. ولو قيده بالفقيه وقال: بذل الفقيه وسعه لبلوغ الغرض لكان كافياً، كما في جمع الجوامع، لأن الفقيه لا يتكلم إلا في الأحكام الشرعية. وللمجتهد شروط تقدم أكثرها في الكلام على المفتي.
قوله: (فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد . . ) أي: محصلاً لجميع آلات الاجتهاد كما تقدم بيانه، فيكون مستقلا بمعرفة الأحكام. والظاهر أن مراده المجتهد المطلق. لأنه هو الذي يكون كامل الآلة، ويكون بذلك احترز من مجتهد المذهب ومجتهد الفتوى(489) وإن لم يتقدم لهما ذكر، وإن كان الذي يظهر جريان الحكم المذكور فيهما، أو يكون لدفع توهم بعض المسامحة في بعض شروط الاجتهاد، وعلى كل فلو أسقط قوله (إن كان كامل الآلة) لكان أولى والله أعلم.
قوله: (فإن اجتهد في الفروع) المراد بها المسائل الفقهية الظنية التي ليس فيها دليل قاطع. لأن هذا هو موضع الاجتهاد.
قوله: (فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) المراد بالإصابة أن يوافق ما أداه إليه اجتهاده ما هو الحكم في الواقع. وقوله: (أجران) أي: نصيبان من الثواب يعلمهما الله كمية وكيفية: أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته الحق، لكونه سنّ سنة يقتدي بها فيتبعه المقلدون، ويظهر الحق. وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور له، لأنه غير مقصود إلا إن قصر في الاجتهاد.
وهذا هو القول الصحيح في المسألة، أنه ليس كل مجتهد نصيباً، بل المصيب واحد، ومن عداه مخطئ. وهو قول مالك وأبي حنيفة في قول، والشافعية والحنابلة.
قوله: (ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب) هذا القول الثاني في المسألة، وهو قول آخر لأبي حنيفة وبعض الشافعية وبعض المالكية وبعض المتكلمين. فيكون له على هذا القول أجران.(1/128)
ومنشأ الخلاف هل لله تعالى في كل واقعة حكم معين في نفس الأمر قبل اجتهاد المجتهد؟ أو ليس له حكم معين، وإنما الحكم فيها ما وصل إليه المجتهد باجتهاده؟ فأصحاب حكمه ما أدى إليه اجتهاد المجتهد، فما غلب على ظنه فهو حكم الله.
وقال الجمهور: إن لله تعالى في كل مسألة حكماً معيناً قبل الاجتهاد فمن وافقه فهو مصيب، ومن لم يوافقه فهو مخطئ.
قوله: (ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب) المراد بالأصول الكلامية: مسائل العقيدة المنسوبة إلى علم الكلام. وهو ما أحدثه المتكلمون في أصول الدين من إثبات العقائد بالطرق التي ابتكروها وأعرضوا بها عما جاء في الكتاب والسنة(490). والمعنى: أنه لا يصح أن يقال كل من اجتهد في أمور العقائد فهو مصيب. بل المصيب واحد، ومن عداه مخطئ، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك. ومخالفة بعضهم لا يعتد بها(491).
قوله: (لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين) هذا تعليل لما تقدم. أي: لأن هذا القول يؤدي إلى تصويب من أخطأ من أهل الضلالة. وأن كل ما أدى إليه اجتهادهم فهو موافق لما هو الحق. وتصويبهم باطل. وما أدى إلى الباطل فهو باطل.
وقوله: (أهل الضلالة) أي: أهل الباطل.
وقوله: (من النصارى) وهم من ينتسبون في ديانتهم إلى شريعة عيسى عليه السلام. وأصلها دين منزل من الله. لكنها حرفت وبدلت. وهم يقولون بالتثليث. ومعناه: أن الله عندهم ثلاثة: الإله الأب. والإله الابن، والإله الروح القدس. تعالى الله عما يقولون.
وقوله: (والمجوس) هم قوم يعبدون النور والنار، والظلمة والشمس والقمر ويزعمون أن للكون إلهين. أحدهما: النور. والثاني:الظلمة.
وقوله: (والكفار) جمع كافر. والكفر: كفر أكبر مخرج من الملة. وهو كفر التكذيب، وكفر الاستكبار، وكفر الإعراض، وكفر الشك، وكفر النفاق. وكفر أصغر لا يخرج من الملة. ويتناول جميع المعاصي(492).(1/129)
وقوله: (والملحدين) مفرده: ملحد وهو من كفر بالأديان كلها.
قوله: (ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً. قوله (: "من اجتهد فأصاب فله أجران . . إلخ"(493) أي من جملة ما استدل به القائلون بأنه ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً. هذا الحديث. ووجه الدلالة: أن الرسول ( جعل المجتهدين قسمين: قسماً مصيباً. وقسماً مخطئاً، ولو كان كل منهم مصيباً لم يكن لهذا التقسيم معنى، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أسماء المراجع
1) الإبهاج في شرح المنهاج، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 756 هـ وولده عبد الوهاب المتوفى سنة 771هـ. دار الكتب العلمية في بيروت. توزيع مكتبة دار الباز.
2) الإحكام في أصول الأحكام. لأبي محمد علي بن محمد بن حزم الأندلسي الظاهري المتوفى سنة 456هـ أشرف على طبعه أحمد شاكر. توزيع دار الاعتصام.
3) الإحكام في أصول الأحكام. لسيف الدين علي بن أبي علي بن محمد الآمدي المتوفى سنة 631هـ. تحقيق د. سيد الجميلي. الناشر دار الكتاب العربي الطبعة الأولى سنة 1404هـ.
4) آداب البحث والمناظرة. للشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ. الناشر مكتبة ابن تيمية القاهرة، ومكتبة العلم بجدة.
5) أدلة التشريع المختلف فيها. د. عبد العزيز الربيعة (معاصر). مؤسسة الرسالة.
6) الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة للقاضي الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري المتوفى سنة 926هـ. تحقيق د. مازن المبارك، دار الفكر المعاصر. بيروت.
7) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول. لمحمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ. دار المعرفة في بيروت.
8) الاستدلال عند الأصوليين. د.علي بن عبد العزيز العميريني (معاصر). مكتبة التوبة.
9) الاستقامة لأبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة 748هـ، تحقيق د. محمد رشاد سالم. طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.(1/130)
10) الإصابة في تمييز الصحابة. لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ تحقيق. د. طه محمد الزيني. الناشر مكتبة الكليات الأزهرية.
11) أصل الاعتقاد. د. عمر بن سليمان الاشقر. (معاصر).
12) أصول السرخسي. لأبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 490هـ تحقيق أبي الوفاء الأفغاني. مطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة (1372هـ).
13) أصول الفقه لمحمد زكريا البرديسي (معاصر) المكتبة الفيصلية بمكة. الطبعة الثالثة.
14) أصول الفقه الإسلامي. د. وهبة الزحيلي (معاصر) دار الفكر.
15) الأصول من علم الأصول. للشيخ محمد بن صالح العثيمين. ط: جامعة الإمام.
16) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. للشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ.
17) أعلام الموقعين عن رب العالمين. شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ.
18) الأم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ. دار الفكر.
19) الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات. لمحمد بن عثمان المارديني المتوفى سنة 871هـ. تحقيق د. عبد الكريم بن علي النملة. الطبعة الأولى.
20) الإيضاح في علوم البلاغة. للخطيب القزويني المتوفى سنة 739هـ المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
21) الإيضاح لقوانين الاصطلاح لأبي محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة 656هـ تحقيق. د. فهد السدحان. مكتبة العبيكان.
22) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. لمكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437هـ تحقيق. د. أحمد حسن فرحات. الطبعة الأولى مطابع الرياض.
23) البحر المحيط في أصول الفقه. لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794هـ الطبعة الثانية وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.(1/131)
24) بدائع الفوائد لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى 751هـ. الناشر: مكتبة القاهرة. الطبعة الثانية 1392هـ.
25) البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ تحقيق عبد العظيم الديب. مطابع دار الوفاء بمصر.
26) بطلان المجاز. لمصطفى عبد الصياصنة. (معاصر) دار المعراج للنشر والتوزيع.
27) تبصرة الحكام لإبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون المتوفى سنة 799هـ مطبوع بهامش (فتح العلي المالك) ومطبوع وحده في مجلد. كتبة دار الباز.
28) التأسيس في أصول الفقه. تأليف أبي إسلام مصطفى بن سلامة (معاصر) الناشر مكتبة خالد بن الوليد بميت عقبة.
29) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي. لعبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري المتوفى سنة 1353هـ. دار الفكر بيروت.
30) تدريب الراوي في شرح تقريب النووي. لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. دار الكتب العلمية. الطبعة الثانية.
31) تسهيل المنطق. لعبد الكريم بن مراد الأثري (معاصر) دار مصر للطباعة.
32) التعريفات. لعلي بن محمد الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816هـ دار الكتب العلمية بيروت. الطبعة الأولى 1403هـ.
33) تفسير القرطبي: الجامع الأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671هـ. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
34) تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774هـ دار الشعب.
35) التقييد والإيضاح. شرح مقدمة ابن الصلاح لزين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة 806هـ. دار الفكر العربي.
36) تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي المتوفى سنة 761هـ تحقيق د. عبد الله آل الشيخ. الطبعة الأولى.(1/132)
37) التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي المتوفى سنة 510هـ دراسة وتحقيق: مفيد محمد أبو عمشة (ج1، 2) ومحمد بن علي بن إبراهيم (ج3، 4) منشورات مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى الطبعة الأولى 1406هـ.
38) التمهيد في تخريج الفروع علي الأصول. لجمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي المتوفى سنة 72هـ. تحقيق محمد حسن هيتو. طبع مؤسسة الرسالة. بيروت.
39) جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. طبع مكتبة الحلواني. مطبعة الملاح. مكتبة دار البيان 1389هـ.
40) جمع الجوامع. لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771هـ. طبع مع (حاشية البناني على شرح المحلي عليه) طباعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
41) حاشية النفحات على شرح الورقات لأحمد الخطيب الجاوي. طباعة مصطفى الحلبي 1357هـ.
42) الحديث المرسل. لمحمد حسن هيتو (معاصر) دار البشائر الإسلامية.
43) الحكم التكليفي. د: محمد أبو الفتح البانوني (معاصر) دار القلم دمشق.
44) الحكم الوضعي عند الأصوليين. سعيد بن علي الحميري. المكتبة الفيصلية مكة المكرمة. ط الأولى.
45) الرسالة للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204هـ. تحقيق أحمد محمد شاكر.
46) رسالة في أصول الفقه للإمام العلامة أبي علي الحسن بن شهاب بن الحسن العكبري الحنبلي المتوفى سنة 428هـ تحقيق د. موفق بن عبد القادر. ط الأولى.
47) روضة الناظر وجنة المناظر. لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620هـ (ومعها شرحها نزهة الخاطر العاطر) لعبد القادر بن بدران. المطبعة السلفية بمصر 1342هـ.
48) سنن أبي داود. لأبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني المتوفى سنة 275هـ. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. المكتبة العصرية.(1/133)
49) سنن ابن ماجه. لأبي عبد الله محمد بن يزيد من ماجه القزويني المتوفى سنة 275هـ تحقي محمد فؤاد عبد الباقي. طباعة مصطفى البابي الحلبي. مصر.
50) سنن الترمذي (جامع الترمذي) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي المتوفى سنة 289هـ. تحقيق محمد أحمد شاكر وتكملة محمد فؤاد عبد الباقي وراجعه إبراهيم عطوة. الناشر دار الحديث بالقاهرة.
51) سنن النسائي. لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي المتوفى سنة 303هـ باعتناء عبد الفتاح أبو غدة. الطبعة الأولى المفهرسة دار البشائر بيروت 1406هـ. وهي مصورة عن الطبعة الأولى المصرية في القاهرة 1348هـ. مع شرح الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى سنة 911هـ. وحاشية أبي الحسن نور الدين بن عبد الهادي السندي الحنفي المتوفى سنة 1138هـ.
52) السنة للحافظ أبي بكر عمر بن أبي عاصم الضحاكبن مخلد الشيباني المتوفى سنة 287هـ.تحقيق الألباني. المكتب الإسلامي.
53) سير أعلام النبلاء. لشمس الدين أبي عبد الله بن أحمد بن قايماز الذهبي المتوفى سنة 74هـ تحقيق مجموعة من الأساتذة بإشراف شعيب الأرناؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت 1402هـ.
54) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول. لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة 684هـ. تحقيق طه عبد الرؤوف سعد . . طبعة مكتبة الكليات الأزهرية. ودار الفكر 1393هـ.
55) شرح صحيح مسلم. لمحي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى سنة 676هـ. مراجعة خليل الميس. دار القلم بيروت.
56) شرح العبادي. أحمد بن قاسم العبادي الشافعي المتوفى سنة 922هـ على شرح الجلال المحلي المتوفى سنة 864هـ. على الورقات بهامش (إرشاد الفحول للشوكاني). دار المعرفة في بيروت.(1/134)
57) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب. للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي المتوفى سنة 756هـ. وبهامشه حاشية التفتازاني المتوفى سنة 791هـ. وحاشية الشريف الجرجاني المتوفى سنة 816هـ. دار الكتب العلمية بيروت.
58) شرح الكوكب المنير. لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار المتوفى سنة 972هـ تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد. طبع مركز البحث العلمي بمكة. جامعة أم القرى. الطبعة الأولى 1408هـ.
59) شرح مختصر الروضة. لنجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716هـ. تحقيق د. عبد الله التركي. مؤسسة الرسالة.
60) شرح الورقات. لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي المتوفى سنة 864هـ. المطبعة السلفية ومكتبتها. مصر. وينظر طبعة مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
61) الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة 393هـ تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. مطابع دار الكتاب العربي بالقاهرة 1377هـ.
62) صحيح البخاري. اعتني به د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير ودار اليمامة في بيروت ودمشق.
63) صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري المتوفى سنة 261هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. دار إحياء التراث العربي.
64) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي لأحمد بن حمدان الحراني الحنبلي المتوفى سنة 695هـ خرج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني. المكتب الإسلامي بدمشق الطبعة الثالثة 1397هـ.
65) ضوابط المعرفة لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. دار القلم بدمشق الطبعة الثالثة 1408هـ.
66) طرح التثريب في شرح التقريب لأبي الفضل عبد الرحيم العراقي المتوفى سنة 806هـ وأكمله ولده أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم المتوفى سنة 826هـ. دار إحياء التراث العربي.(1/135)
67) العدة في أصول الفقه. للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي المتوفى سنة 458هـ تحقيق أحمد سير المباركي ط الثانية 1410هـ.
68) غاية المرام في شرح مقدمة الإمام. لأبي العباس أحمد بن محمد بن زكري التلمساني المالكي المتوفى سنة 899هـ. دراسة وتحقيق الأخ/ خالد بن شجاع العتيبي (رسالة ما جستير).
69) غاية الوصول شرح لب الأصول. لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926هـ طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1360هـ.
70) فتاوى العز بن عبد السلام. عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام عبد الرحمن بن عبد الفتاح. دار المعرفة.
71) فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ. علق على الأجزاء الثلاثة الأولى فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز. توزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء بالرياض.
72) الفروق في اللغة. لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري المتوفى بعد سنة 395هـ. منشورات دار الآفاق الجديدة ببيروت.
73) الفوائد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية المتوفى 751هـ تحقيق بشير محمد عيون. الناشر: مكتبة دار البيان. الطبعة الأولى 1407هـ.
74) القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي المتوفى سنة 817هـ والرجوع إلى (ترتيب القاموس) للأستاذ. الطاهر أحمد الزاوي. دار الكتب العلمية. ودار المعرفة. بيروت.
75) قرة العين في شرح ورقات إمام الحرمين للشيخ محمد بن محمد الرعيني المعروف بالحطاب المتوفى سنة 954هـ دار ابن خزيمة. ومطبوع بهامش (لطائف الإشارات على تسهيل الطرقات لنظم الورقات) طباعة الحلبي.
76) القواعد النورانية الفقهية لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة 1370هـ.(1/136)
77) القواعد والفوائد الأصولية لأبي الحسن علي بن محمد بن عباس الحنبلي الشهير بابن اللحام المتوفى سنة 803هـ تحقيق محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة 1375هـ.
78) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام الزدوي، لعلاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري المتوفى سنة 730هـ الناشر دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة.
79) لسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري المتوفى سنة 711هـ طبعة دار صادر بيروت 14هـ
80) لطائف الإشارات. شرح منظومة العمريطي للورقات. لعبد الحميد بن محمد بن علي قدس. طباعة مصطفى البابي الحلبي 1369هـ.
81) اللمع في أصول الفقه لأبي إسحاق إبراهيم بن علي اليرازي المتوفى سنة 476هـ. تحقيق يوسف المرعشلي ومعه كتاب (تخريج أحاديث اللمع). عالم الكتب ببيروت. الطبعة الأولى 1405هـ.
82) مجموع الفتاوى لتقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني المتوفى سنة 748هـ. جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم الطبعة الأولى بالرياض 1381هـ.
83) المحصول في علم الأصول لفخر الدين أبي عبد الله بن محمد بن عمر بن حسن الرازي الشافعي المتوفى سنة 606هـ، تحقيق طه جابر العلواني، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1399هـ.
84) مختصر الروضة وقد طبع باسم (البلبل في أصول الفقه) لنجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبد القوي الطوفي المتوفى سنة 716هـ، مكتبة الإمام الشافعي بالرياض.
85) مدارج السالكين. لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ تحقيق محمد حامد الفقي. دار الكتاب العربي. بيروت.
86) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل. لعبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران المتوفى سنة 1346هـ تحقيق د. عبد الله التركي مؤسسة الرسالة ببيروت الطبعة الثالثة 1405هـ.(1/137)
87) مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ. ط الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
88) المسائل المشتركة بين أصول الفقه. وأصول الدين، لمحمد العروسي عبد القادر (معاصر). دار حافظ للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1410هـ.
89) المستصفى من علم أصول الفقه لأبي حامد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ دار صادر.
90) مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل المتوفى سنة 241هـ، دار صادر.
91) المسودة في أصول الفقه لآل تيمية. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. مطبعة المدني القاهرة 1384هـ.
92) المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر. لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794هـ تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. دار الأرقم الكويت. الطبعة الأولى 1404هـ.
93) معجم لغة الفقهاء. وضع محمد رواس قلعة جي، حامد صادق قنيبي جار النفائس. الطبعة الثانية 1408هـ
94) المغني شرح مختصر الخرقي. لموفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620هـ. تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو. هجر للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1409هـ.
95) مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول. لأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بالشريف التلمساني المتوفى سنة 771هـ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية بيروت 1403هـ.
96) المنخول من تعليقات الأصول. لأبي حامد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505هـ. تحقيق محمد حسن هيتو. دار الفكر بدمشق الطبعة الثانية 1400هـ.
97) منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز. للشنقيطي. رسالة مطبوعة ضمن الجزء العاشر من أضواء البيان.
98) المنهاج في ترتيب الحجاج. لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ تحقيق عبد المجيد تركي.
99) الموافقات في أصول الشريعة. لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي المتوفى سنة 790هـ تعليق عبد الله دراز. دار المعرفة بيروت.(1/138)
100) نثر الورود على مراقي السعود. للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي المتوفى سنة 1393هـ. تحقيق وإكمال تلميذه محمد ولد سيدي ولد حبيب الشنقيطي. توزيع دار المنارة. الطبعة الأولى 1415هـ.
101) نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر. لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ طبع المكتبة العلمية.
102) النسخ في دراسات الأصوليين. نادية شريف العمري. مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى 1405هـ.
103) نظم المتناثر من الحديث المتواتر. لأبي عبد الله محمد بن جعفر الكتاني المتوفى سنة 1345هـ دار الكتب السلفية بمصر. الطبعة الثانية.
104) النكت على كتاب ابن الصلاح. لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ. تحقيق ربيع بن هادي عمير. دار الراية. الطبعة الثانية 1408هـ.
105) النهاية في غريب الحديث والأثر. لمجد الدين أبي السعادات المبارك بان محمد المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 606هـ تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود الطناحي. المكتبة الإسلامية. الطبعة الأولى 1383هـ.
106) نواسخ القرآن لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى 597هـ تحقيق محمد أشرف علي الملباري. طبع المجلس العلمي لإحياء التراث الإسلامي بالمدينة النبوية.
107) الواضح في أصول الفقه. محمد بن سليمان الأشقر (معاصر) الدار السلفية. الكويت.
108) عدد من المخطوطات للورقات.
فهرس الموضوعات
الموضوع…………………………الصفحة
تقديم
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة الطبعة الأولى
مبادئ علم أصول الفقه
مقدمة الورقات
تعريف أصول الفقه باعتبار مفرديه
الأحكام الشرعية
الواجب
المندوب
المباح
المحظور
المكروه
الصحيح والباطل
الفقه، العلم، الجهل
أقسام العلم
النظر، الاستدلال، الدليل
الظن، الشك
تعريف أصول الفقه باعتباره علماً
أبواب أصول الفقه
الكلام
أقسام الكلام من حيث مدلوله
أقسام الكلام من حيث استعماله(1/139)
الحقيقة وأنواعها
المجاز وأنواعه
الأمر
من مسائل الأمر
من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل؟
هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟
النهي
العام
الخاص
المخصص المتصل
1) الاستثناء
2) الشرط
3) الصفة
المطلق والمفيد
المخصص المنفصل
المجمل والمبين
الظاهر والمؤول
الأفعال
الإقرار
النسخ
أقسام النسخ باعتبار المنسوخ
أقسام النسخ باعتبار الناسخ
التعارض بين الأدلة
الإجماع
من مسائل الإجماع
قول الصحابي
الأخبار
1) المتواتر
2) الآحاد
صيغ أداء الحديث
القياس
من شروط القياس
الحظر والإباحة
الاستصحاب
ترتيب الأدلة
شروط المفتي
شروط المستفتي
التقليد
الاجتهاد
أهم المراجع
(1) سورة التوبة، آية: 32.
(2) رجع الإمام الجويني عن مذهب أهل الكلام إلى مذهب السلف كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية. مجموع الفتاوى (4/61، 73) وانظر سير أعلام النبلاء للذهبي 18/471.
(3) المستصفى 1/10، وانظر الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص14.
(4) الإسفرايني، بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الفاء والراء المهملة وكسر الياء المثناة من تحتها ومن بعدها نون ثم ياء، نسبة إلى إسفراين بلدة بخراسان، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/74.
(5) انظر الإشارة إلى دور هؤلاء الأئمة في هذا المجال في درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/98.
(6) انظر فهارس الفتاوى (2/494).
(7) انظر سير أعلام النبلاء (18/468).
(8) انظر (التأصيل) لبكر أبوزيد ص/37.
(9) مجموع الفتاوى (20/497).
(10) انظر مقالاً في مجلة (أضواء الشريعة) بالرياض العدد السابع. تحدث فيه الدكتور محمد البيانوني عن أهمية الأصول وفوائد ص/411.
(11 ) المسوّدة في أصول الفقه ص/510.
(12) في بعض نسخ الورقات جاء في المقدمة (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين) وأكثرها لم ترد فيه هذه العبارة.(1/140)
(13) جمع القلة: ما كان مدلوله عدداً محدداً لا يقل عن ثلاثة ولا يزيد عن عشرة. وجمع الكثرة: ما وضع للعدد الكثير من أحد عشر إلى مالا نهاية له. ولكل منهما أوزان.
(14) كتاب سيبويه (3/491، 578).
(15) سورة إبراهيم، آية: 24.
(16) سورة البقرة، آية: 183.
(17) قال في القاموس: نقه الحديث: فهمه.
(18) انظر البرهان لإمام الحرمين (1/78).
(19) انظر الحكم التكليفي للدكتور محمد البيانوني ص31.
(20) سورة الأعراف، آية 11.
(21) سورة الحج، آية 36.
(22) انظر شرح الكوكب المنير (1/89).
(23) انظر شرح الكوكب المنير (1/349).
(24) وذلك كالصلاة والصوم، وأما قضاء الدين ورد الودائع والإنفاق على الزوجة فيصح بدون نية. ولكن لا ثواب إلا بنية. انظر (نثر الورود على مراقي السعود 1/54) شرح الكوكب المنير 1/349.
(25) سورة النساء، آية 48.
(26) شرح المحلي ص7.
(27) انظر الحكم التكليفي للبيانوني ص97.
(28) انظر: تحفة الأحوذي (2/462).
(29) الموافقات 1/151.
(30) سورة النحل، آية 90.
(31) انظر الحكم التكليفي ص163، 171.
(32) هذا ليس على إطلاقه. قال الشاطبي رحمه الله: (إذا قال الشارع في أمر واقع "لا حرج فيه" فلا يؤخذ منه حكم الإباحة. إذ قد يكون كذلك وقد يكون مكروهاً. فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه فليتفقد هذا في الأدلة) الموافقات (1/146).
(33) سورة البقرة، آية 198.
(34) سورة النور، آية 61.
(35) سورة البقرة، آية 173.
(36) سورة البقرة، آية 187.
(37) القواعد النورانية ص200.
(38) سورة النحل، آية: 80، بدائع الفوائد (4/6).
(39) سورة المائدة، آية: 2.
(40) الحكم التكليفي للبيانوني ص54.
(41) سورة الإسراء، آية: 20.
(42) سورة النحل، آية: 116.
(43) بل قال بعضهم: يأثم لأن تقديم خوف المخلوق على خوف الله تعالى محرم وكذا الرياء. انظر مجموع الفتاوى (10/720) (14/22)، ففيهما مبحث نفيس حول هذا الموضوع. وانظر (نثر الورود 1/54).(1/141)
(44) سورة النحل، أية: 116.
(45) المغني (1/101).
(46) شرح الكوكب المنير (1/420).
(47) انظر إعلام الموقعين 1/39.
(48) البحر المحيط (1/303) وانظر الحكم التكليفي ص226، الحكم الوضعي عند الأصوليين ص40.
(49) انظر تفسير القرطبي (18/108).
(50) انظر التمهيد للإسنوي ص (59) والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص(110).
(51) يطلق العلم - أيضاً - على مجموعة معارف طنية راجعة ومنها ما هي قطعي بشرط أن تكون منظمة حول موضوع ما كعلم الفقه وعلم الأصول وعلم النحو وعلم البلاغة وغيرها. (ضوابط المعرفة ص124). وانظر (المسائل المشتركة بين أصول الدين وأصول الفقه) ص/35.
(52) انظر الأصول من علم الأصول ص10.
(53) للعلماء كلام طويل في الفرق بين العلم والمعرفة. وهل هما مترادفان أو مختلفان. فانظر مدارج السالكين لابن القيم (3/335) وبدائع الفوائد (2/61). الحدود الأنيقة لزكريا الأنصاري ص/66.
(54) انظر شرح العبادي على الورقات المطبوع بهامش إرشاد الفحول ص39 وشرح الكوكب المنير (1/77).
(55) التصور: إدراك معنى المفرد من غير أن يحكم عليه بنفي أو إثبات كإدراك معنى الإنسان ومعنى الكاتب ومعنى الشجر ونحو ذلك، والتصديق هو إثبات أمر لأمر بالفعل أو نفيه عنه بالفعل. وهو الإسناد الخبري عند البلاغيين، والجملة الاسمية عند النحويين. نحو الكاتب إنسان. فإدراك معنى الإنسان ومعنى الكاتب تصور. وإدراك كون الإنسان كاتباً بالفعل أو ليس كاتباً بالفعل تصديق. ومنه العالم حادث. العالم ليس بقديم. انظر آداب البحث والمناظرة للشنقيطي 1/8، 9.
(56) أخرجه الترمذي برقم 1865 والنسائي (8/297) انظر جامع الأصول (5/91).
(57) انظر العدة لأبي يعلى (1/131، 132) اللمع في أصول الفقه ص49. المسائل المشتركة بين أصول الدين وأصول الفقه ص23.
(58) انظر اللسان (13/457).(1/142)
(59) فرق أبو هلال العسكري بين العلم واليقين فقال: العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به على سبيل الثقة. واليقين هو سكون النفس وثلج الصدر بما علم، أ هـ الفروق في اللغة ص73.
(60) أخرجه مسلم برقم 1696.
(61) الفروق في اللغة ص79.
(62) لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كلام مفيد حول هذا الموضوع فراجعه في كتابه (الاستقامة) ج1 ص47 وما بعدها.
(63) ص129 (بهامش كتاب فتح العلي المالك).
(64) انظر القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص82 والتمهيد للإسنوي ص65.
(65) سورة النجم، آية: 28.
(66) سورة النجم، آية: 23.
(67) سورة البقرة، آية: 43.
(68) أخرجه البخاري برقم (388) ومسلم (برقم 1329) وغيرهما.
(69) انظر البرهان لإمام الحرمين (1/146).
(70) انظر: الإرشاد للشوكاني ص21.
(71) المدخل لابن بدران ص174.
(72) سورة الشورى، آية: 11.
(73) سورة يوسف، آية: 82.
(74) سورة الكهف، آية: 87.
(75) سورة الشورى، آية 11.
(76) أما على القول بنفي المجاز في القرآن فلا مجاز في الآية، لأن العرب تقيم المثل مقام النفس، فيطلقون المثل ويريدون به الذات. فأنت تقول: مثلي لا يفعل كذا. أي: أنا لا أفعل كذلك. قال تعالى (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله([سورة الأحقاف، آية: 10] أي على أن القرآن من عند الله، فيكون معنى الآية (ليس مثل ذات الله شيء) وإذا انتفت المماثلة في الذات انتفت المماثلة في الصفات، لأن القول في الصفات كالقول في الذات (انظر رسالة الشنقيطي "منع جواز المجاز" ص36، بطلان المجاز ص134).(1/143)
(77) أما على القول بنفي المجاز فإن المراد بالقرية مجتمع الناس أو أن المضاف في الآية كأنه مذكور لأنه مدلول عليه بالاقتضاء وما دلّ عليه بطريق الاقتضاء فهو على الحقيقة. أو أن لفظ القرية يدخل في مسماه الحال والمحل. فمن الأول قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك( ومن الثاني: (أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها([انظر المصدرين السابقين].
(78) انظر التلخيص في علوم البلاغة للقزويني ص336.
(79) ليس في الآية مجاز لأن إطلاق (الغاط) على البراز أو الحدث حقيقة عرفية لأن الإنسان في العادة إنما يجيء من الغاط إذا قضى حاجته فصار اللفظ حقيقة عرفية يفهم منها التغوط. (بطلان المجاز ص138).
(80) سورة الكهف، آية: 77.
(81) انظر جمع الجوامع (1/308).
(82) انظر رسالة (منع جواز المجاز) ص8 المطبوعة ضمن الجزء العاشر من أضواء البيان.
(83) انظر فهارس فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (2/13) وراجع كتاب (بطلان المجاز) بقلم: مصطفى عيد الصياصنة.
(84) أصول السرخسي ص11.
(85) سورة البقرة، آية: 43.
(86) سورة الجمعة، آية 10.
(87) انظر غاية المرام في شرح مقدمة الإمام للتلمساني ص71. والعلو معناه: هيئة راجعة إلى الآمر - بكسر الميم - وهي كونه أعلى من المأمور. والاستعلاء: هيئة في الأمر - بسكون الميم - وهو كون الطلب بغلظة وقهر. انظر (نثر الورود 1م173).
(88) سورة البقرة، آية: 43.
(89) القواعد النورانية ص26.
(90) سورة النور، آية 63.
(91) تفسير القرطبي (12/322).
(92) سورة الإسراء، آية: 78.
(93) سورة المائدة، آية: 105.
(94) سورة البقرة، آية: 83.
(95) سورة البقرة، آية: 282.
(96) سورة النحل، آية: 90.
(97) أخرجه البخاري برقم 53 ومسلم برقم 17.
(98) سورة البقرة، آية: 183.
(99) أخرجه البخاري برقم 1423 ومسلم برقم 984.
(100) رواه البخاري (10/436).
(101) أخرجه البخاري برقم 1128.
(102) سورة المائدة، آية: 2.(1/144)
(103) سورة المائدة، آية:96.
(104) سورة البقرة، آية: 222.
(105) سورة البقرة، آية: 222
(106) رواه البخاري رقم 83 ومسلم 1306.
(107) رواه البخاري 2156 ومسلم 2201.
(108) سورة المائدة، آية: 2.
(109) السبر لغة الاختبار ومنه سمي ما يختبر به طول الجرح وعرضه مسباراً، والسبر يذكر غالباً مع التقسيم فيقال: السبر والتقسيم. وهو أحد مسالك العلة في باب القياس ويراد بهما حصر الأوصاف الموجودة في الأصل الصالحة للعلية في عدد ثم إبطال بعضها بدليله فيتعين الباقي فالحصر تقسيم والإبطال سبر (مختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/236، مذكرة الشنقيطي ص257).
(110) تفسير ابن كثير (3/9).
(111) أخرجه البخاري برقم 226، 314 ومسلم برقم 333.
(112) سورة التوبة، آية: 5.
(113) أخرجه مسلم برقم 97.
(114) انظر المسودة في أصول الفقه ص16، شرح الكوكب المنير (3/60) مذكرة الشنقيطي على الروضة ص192، 193، أضواء البيان (2/4) مختصر الروضة ص86.
(115) سورة آل عمران، آية 97.
(116) أخرجه مسلم برقم 1337 وأخرجه أصحاب السنن وأحمد.
(117) نقل صاحب شرح الكوكب المنير (3/46) الاتفاق على أنه للتكرار. مع أن بعض الحنفية خالفوا فانظر كشف الأسرار (1/123).
(118) سورة المائدة، آية: 6.
(119) سورة المائدة، آية: 38.
(120) شرح الكوكب المنير (3/46، 47).
(121) انظر المنخول للغزالي ص108 وشرح الكوكب المنير (3/43).
(122) الماهية بمعنى الحقيقة انظر المعتبر للزركشي ص337 معجم لغة الفقهاء ص398.
(123) انظر روضة الناظر مع شرحها (2/78) مختصر الروضة ص87. مختصر المنتهى (2/81) أصول السرخسي ص20.
(124) انظر شرح المهذب (2/119) فتح الباري (2/92) فتاوى العز بن عبد السلام ص87 التمهيد للإسنوي ص283 حاشية الصنعاني على شرح العمدة (2/188).
(125) انظر مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد (2/84) العدة (1/281) أضواء البيان (5/112).
(126) سورة آل عمران، آية: 133.(1/145)
(127) سورة البقرة، آية: 148.
(128) سورة الأنبياء، آية: 90.
(129) أخرجه البخاري برقم 2581 وانظر فتح الباري (329).
(130) تمثيل المؤلف بالطهارة فيه نظر، لأن فيها دليلاً يخصها، بخلاف الأمر بشراء ما يستر العورة. والله أعلم.
(131) أخرجه البخاري برقم 844.
(132) رواه البخاري (4/116).
(133) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/303 وما بعدها).
(134) سورة المدثر، آية: 43.
(135) سورة البقرة، آية: 43.
(136) سورة الإسراء آية: 32.
(137) اللسان مادة (سها) 14/406.
(138) معجم لغة الفقهاء ص270 القاموس مادة (صبي),
(139) معجم لغة الفقهاء ص407.
(140) أخرجه الترمذي برقم 1423 وأبو داود 4403 وابن ماجه رقم 2041 والنسائي (6/156) وذكره البخاري تعليقاً في الطلاق والحدود (12/120 الفتح) وهو حديث صحيح.
(141) انظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله حول مصطلح الأصول والفروع في الفتاوى 6/56.
(142) سورة المدثر، الآيات 42 - 46.
(143) سورة القيامة، الآيتان 31، 32.
(144) سورة آل عمران، آية: 97.
(145) سورة الأعراف، آية: 31.
(146) سورة التوبة، آية: 54.
(147) سورة الأنفال، آية 38.
(148) أخرجه مسلم رقم 192.
(149) لا داعي للإطالة في هذه المسألة لأنها ليست من أصول الفقه. لأن أثر الخلاف فيها إنما يظهر في الدار الآخرة، حيث يعذب الكافر زيادة على عذاب الكفر، ومسائل أصول الفقه إنما هي دلائل وقواعد تعرف بها الأحكام والتكاليف في هذه الدار. والخلاف في هذه المسألة لا يظهر أثره في الدنيا، لأن الكافر لا تصح منه العبادة حال كفره، وإذا أسلم لا يؤمر بقضاء ما فاته. انظر المحصول (2/2/399 - 1413)، المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين ص94. وانظر كلاماً ماتعاً للشاطبي - رحمه الله - في إدخال مسائل ليست من الأصول في أصول الفقه في الموافقات 1/42.(1/146)
(150) استظهر الشنقيطي رحمه الله أن هذه المسألة مبنية على قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين بالأمر النفسي وهو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة. ولا ريب أنه قول باطل مبني على زعم باطل، وهو أن كلام الله تعالى مجرد المعنى القائم بالذات فلا حروف ولا ألفاظ (راجع مذكرة الشنقيطي ص27).
(151) سورة الأنفال، آية: 45.
(152) سورة الأنفال، آية: 15.
(153) انظر مجموع الفتاوى (10/531) الفوائد لابن القيم ص226 مذكرة الشنقيطي ص27، 28.
(154) سورة الإسراء، آية: 32.
(155) سورة النساء، آية: 23.
(156) سورة النساء، آية: 19.
(157) رواه البخاري (1139) ومسلم (827).
(158) سورة الحشر، آية: 7.
(159) الأم للشافعي (7/305).
(160) أخرجه مسلم رقم 972 وأبو داود رقم 3229 والترمذي رقم 1050 والنسائي (2/67).
(161) رواه البخاري.
(162) انظر فتح الباري (1/253، 254).
(163) أخرجه مسلم رقم 1718 وأخرجه البخاري تعليقاً في البيوع وموصولاً في الصلح، انظر فتح الباري (4/355) وأخرجه أبو داود برقم 4606 وابن ماجه رقم 14.
(164) رواه البخاري برقم 2041 ومسلم برقم 1524 وقوله (لا تصروا): بضم أوله وفتح ثانية بوزن: تزكوا والتصرية: حبس اللبن في الضرع حتى يجتمع.
(165) انظر فتح الباري (4/367) وفي طرح التثريب (6/78) نقل الإجماع على أن بيع المصراة صحيح.
(166) سورة إبراهيم، آية: 30.
(167) سورة الطور، آية: 16.
(168) سورة البقرة، آية: 65.
(169) قد تفيد النكرة في سياق الإثبات العموم كما سيأتي إن شاء الله.
(170) سورة المجادلة، أية: 3.
(171) انظر الشرح الكبير على الورقات للعبادي (2/86).
(172) انظر اللمع للشيرازي ص87.
(173) سورة العصر، الآيتان 2، 3.
(174) سورة المؤمنون، آية: 1.
(175) سورة النور، آية: 59.
(176) سورة النساء، آية: 34.
(177) سورة البقرة، آية: 70.
(178) سورة الروم، آية: 2.
(179) سورة ص، الآيات: 71 - 73.(1/147)
(180) سورة المزمل، الآيتان: 15، 16.
(181) سورة النساء، آية: 123.
(182) سورة التكوير، آية: 26.
(183 ) أخرجه البخاري رثم 5311 ومسلم رقم 2065 عن أم سلمة رضي الله عنها.
(184) سورة البقرة، آية: 197.
(185) سورة آل عمران، آية: 198.
(186) سورة القصص، آية: 65.
(187) سورة القصص، آية: 28.
(188) سورة الكهف، آية: 12.
(189) سورة مريم، آية: 69.
(190) سورة النساء، آية: 78.
(191) سورة البقرة، آية: 214.
(192) سورة البقرة، آية: 197.
(193) سورة الجن، آية: 18.
(194) سورة التوبة، آية: 6.
(195) سورة القصص، آية: 71.
(196) سورة آل عمران، آية: 185.
(197) أخرجه مسلم رقم 223 من حديث طويل.
(198) سورة إبراهيم، آية: 34.
(199) سورة النساء، آية: 11.
(200) سورة الفرقان، آية: 48.
(201) سورة الرحمن، آية: 68.
(202) سورة التكوير، آية: 14.
(203) سورة يونس، آية: 30.
(204) سورة الأنعام، آية: 82.
(205) سورة لقمان، آية: 13.
(206) رواه البخاري (1م87) ومسلم برقم 124.
(207) انظر تلقيح الفهوم للعلائي ص115.
(208) فتح الباري (1/89).
(209) أخرجه البخاري (10/258) ومسلم (14/304) دون قوله: (فقالت . .) وأخرجه الترمذي بتمامه (5/406) والنسائي (8/209) وإسناده صحيح.
(210) انظر تلقيح الفهوم ص114.
(211) تقدم تخريجه.
(212) سورة الفتح، آية: 21.
(213) انظر أضواء البيان (1/452) (3/454).
(214) أخرجه النسائي (7/281) بهذا اللفظ.
(215) انظر الإحكام للآمدي (2/274) شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/119)، إرشاد الفحول للشوكاني ص(125)، شرح الكوكب المنير (3/231)
(216) إرشاد الفحول ص125.
(217) سورة آل عمران، آية: 97.
(218) أخرجه البخاري رقم 1805 ومسلم رقم 1151.
(219) سورة النساء، آية: 11.
(220) أخرجه البخاري رقم 6383 ومسلم رقم 161.
(221) أخرجه الترمذي رقم 1352 بتمامه، وأبو داود على قوله (على شروطهم) رقم 3594 وهو حديث صحيح بشواهده.(1/148)
(222) انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص149.
(223) سورة الحجر، آية: 42.
(224 ) سورة يوسف، آية: 103.
(225) انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص149.
(226) أخرجه البخاري رقم 1736 ومسلم رقم 1353.
(227) أخرجه البخاري رقم 2964 ومسلم رقم 1649.
(228) المسودة ص138.
(229) سورة النساء، آية: 29.
(230) سورة مريم، آية: 62.
(231) المنخول ص159.
(232) إحكام الأحكام (2/313).
(233) مختصر الخرقي ص74 وانظر المغني (7/267).
(234) سورة النساء، آية: 12.
(235) سورة الطلاق، آية: 6.
(236) انظر المدخل ص258.
(237) أخرجه البخاري رقم 2090 ومسلم رقم 1543، وأخرجه أصحاب السنن عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما. والتأبير: تلقيح النخل. بوضع شيء من طلع النخلة الذكر في طلع الأنثى.
(238) سورة آل عمران، آية: 97.
(239) سورة المائدة، آية: 95.
(240) سورة المجادلة، آية: 3.
(241) انظر تفسير القرطبي (5/106).
(242) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا الموضوع انظرها في مجموع الفتاوى (19/235).
(243) سورة النساء، آية: 92.
(244) سورة المجادلة، آية: 3.
(245) سورة المائدة، آية: 6.
(246) سورة المائدة، آية: 6.
(247) سورة الأحقاف، آية: 25.
(248) سورة الزمر، آية: 62.
(249) سورة القصص، آية: 88.
(250) سورة الأنعام، آية: 19.
(251) سورة الأحقاف، آية: 25.
(252) سورة الذاريات، آية: 42.
(253) سورة البقرة، آية: 28.
(254) سورة الأحزاب، آية: 49.
(255) سورة النساء، آية: 24.
(256) أخرجه البخاري رقم 4820 ومسلم رقم 1408.
(257) المدخل ص249، إرشاد الفحول ص160.
(258) سورة النور، آية: 4.
(259) تفسير القرطبي (12/174).
(260) انظر البحر المحيط (3/363).
(261) سورة النور، آية: 2.
(262) سورة النساء، آية: 25.
(263) أخرجه البخاري رقم 25 ومسلم رقم 22.
(264) سورة التوبة، آية: 29.
(265) هذا طرف من حديث صحيح أخرجه البخاري رقم 1412 انظر جامع الأصول (4/611).(1/149)
(266) أخرجه البخاري رقم 1340 ومسلم رقم 979 وهو طرف من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(267) أخرجه مسلم رقم 1690 والترمذي رقم 1434 وأبو داود رقم 4415.
(268) سورة البقرة، آية: 237.
(269) سورة البقرة، آية: 228.
(270) سورة التكوير، آية: 17.
(271) سورة المائدة، آية: 6.
(272) سورة البقرة، آية: 43.
(273) سورة البقرة، آية: 43.
(274) رواه أحمد (4/126) والحاكم (1/96) وابن ماجه رقم 43 وهو حديث صحيح له شواهد فانظر السنة لابن عاصم (1/27).
(275) البرهان (1/124).
(276) إحكام الأحكام (3/30).
(277) سورة البقرة، آية: 226.
(278) انظر العدة لأبي يعلى (1/138) رسالة في أصول الفقه للعكبري ص105، وأصول الفقه للبرديسي ص366 شرح تنقيح الفصول ص36، التأسيس في أصول الفقه لأبي إسلام مصطفى بن سلامة (2/10).
(279) انظر غاية المرام ص140.
(280) سورة الفجر، آية: 22.
(281) سورة النساء، آية: 92.
(282) انظر الواضح في أصول الفقه ص135.
(283) أخرجه أبو داود رقم 184 وغيره وهو حديث صحيح ولمسلم بمعناه. انظر صحيح مسلم رقم 360.
(284) سورة مريم،آية: 26.
(285) سورة مريم، آية: 26.
(286) ويطلق التأويل على التفسير وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به ويطلق على مال الكلام إلى حقيقته. فإن كان خبراً فتأويله وقوع المخبر به وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب.
(287) سورة المائدة، آية: 3.
(288) رواه البخاري (1421) ومسلم(363).
(289) سورة طه، آية: 5.
(290) سورة التغابن، آية: 8.
(291) سورة النحل، آية: 51.
(292) انظر (مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة) 1/214 للدكتور ناصر القفاري.
(293) رواه البخاري (2139).
(294) رواه البخاري (2099) ومسلم (1608).
(295) سورة الأحزاب، آية: 21.
(296) انظر شرح الكوكب المنير (1/385) وانظر غاية المرام ص148.
(297) سورة الأحزاب، آية: 50.
(298) انظر كتاب ( غاية السول في خصائص الرسول ( ) لابن الملقِّن.(1/150)
(299) سورة الأحزاب، آية: 21.
(300) سورة الأحزاب، آية: 21.
(301) تفسير بان كثير (6/392).
(302) أخرجه مسلم رقم 253 وانظر جامع الأصول (7/177).
(303) سورة الحشر، آية: 7.
(304) سورة الحشر، آية: 7.
(305) انظر البرهان لإمام الحرمين (1/322) العدة في أصول الفقه (3/734) شرح تنقيح الفصول ص288 المنخول ص226، إرشاد الفحول ص36.
(306) الإرشاد ص38.
(307) مجموع الفتاوى (10/409).
(308) انظر أصول الفقه الإسلامي (1/480).
(309) للشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - كلام ماتع حول هذا الموضوع في رسالته (إرشاد الطالب إلى أهم المطالب) ص29 وما بعدها.
(310) أخرجه البخاري رقم 183 ومسلم رقم 235 من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
(311) سورة المائدة، آية: 6.
(312) ورد هذا في حديث جابر عن مسلم رقم 1218.
(313) سورة البقرة، آية: 125.
(314) انظر فتح الباري (1/499).
(315) أخرجه البخاري رقم 443 ومسلم رقم 892. والحراب: بكسر الحاء جمع حربة وهي الآلة دون الرمح. انظر كتاب (الحرف والصناعات في الحجاز في عصر الرسول (، ص218 لعبد العزيز بن إبراهيم العمري.
(316) أخرجه الترمذي رقم 422 وانظر الأحوذي (2/487) وهو حديث صحيح بطرقه.
(317) أخرجه البخاري رقم 2973 ومسلم رقم 1751.
(318) أخرجه البخاري رقم 668 ومسلم رقم 465.
(319) أخرجه البخاري رقم 669 ومسلم رقم 465.
(320) سورة الحج، آية: 52.
(321) سورة الجاثية، آية: 29.
(322) سورة النحل، آية: 67.
(323) سورة آل عمران،آية: 97.
(324) انظر البرهان (2/1294).
(325) انظر الأصول من علم الأصول ص33.
(326) الإحكام للآمدي (3/154).
(327) رواه البخاري (6442) ومسلم 1691). وهو حديث طويل. وانظر مقالاً في أسانيد آية الرحم. في مجلة (الحكمة) العدد السابع ص235.
(328) انظر البرهان في علوم القرآن (2/37).
(329) سورة الأنفال، آية 65.
(330) سورة الأنفال، آية: 66.
(331) رواه مسلم 1452.(1/151)
(332) انظر إرشاد الفحول ص189، 190 وشرح النووي على حديث عائشة رضي الله عنها عند رقم 1452.
(333) سورة المجادلة، آية: 12.
(334) سورة المجادلة، آية: 13.
(335) سورة البقرة، آية: 106.
(336) انظر أضواء البيان (3/362) ومذكرة الشنقيطي على الروضة ص79. وإرشاد الفحول ص187.
(337) التحرير (3/386).
(338) سورة آل عمران، آية: 164.
(339) انظر الإحكام للآمدي (3/149، 150)، المحصول للرازي (1/3/479).
(340) انظر كتاب (النسخ في دراسات الأصوليين) ص267، 268.
(341) سورة البقرة، آية: 184.
(342) سورة البقرة، آية: 185
(343) سورة البقرة، آية: 185.
(344) سورة النساء، آية: 28.
(345) سورة الأنفال، آية: 65.
(346) سورة الأنفال، آية: 66.
(347) أخرجه البخاري رقم (40) ومسلم (525).
(348) سورة البقرة، آية: 144.
(349) تحريم الأكل والشرب والمباشرة ورد في حديث ابن عباس مقيداً بصلاة العشاء. وورد في حديث البراء بن عازب الذي رواه البخاري (4/129) تقيد ذلك بالنوم. وهو كذلك في سائر الأحاديث ولعل ذكر صلاة العشاء لكون ما بعدها مظنة النوم غالباً وحديث ابن عباس رواه أبو داود (6/425) عون المعبود).
(350) سورة البقرة، آية: 187.
(351) سورة النحل، آية: 44.
(352) تقدم تخريجه ص86 وانظر تحفة الأحوذي (4/158).
(353) سورة البقرة، آية: 106.
(354) الرسالة للشافعي (1/106، 108) وقد روى ذلك الحازمي عن الشافعي وأحمد بسند متصل إليهما في كتابه (الاعتبار ص57).
(355) سورة النجم، الآيتان: 3، 4.
(356) سورة البقرة، آية: 180.
(357) لكن قالوا: إنه متواتر معنى للإجماع على معناه، انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص167.
(358) انظر نثر الورود (1/346).
(359) شرح الكوكب المنير (5613).
(360) المرجع السابق.
(361) المرجع السابق.
(362) البرهان (2/851).
(363) أخرجه البخاري (395) ومسلم (526).(1/152)
(364) أخرجه مسلم رقم 366 وأبو داود رقم 4123 والترمذي رقم 1728 والنسائي (7/173).
(365) أخرجه أبو داود رقم 4127، 4128 والترمذي رقم 1729 والنسائي (7/175) وهو حديث صحيح.
(366) سبل السلام (1/52).
(367) سورة البقرة، آية: 184.
(368) سورة البقرة، آية: 185.
(369) سورة البقرة، آية: 184.
(370) أخرجه البخاري رقم 4237 ومسلم رقم 1445.
(371) أخرجه الترمذي رقم 82 وأبو داود (181) والنسائي (1/100)، وهو حديث صحيح.
(372) أخرجه أبو داود رقم 182، 183 والترمذي رقم 85 والنسائي (1/101) وهو حديث صحيح.
(373) انظر تحفة الأحوذي (1/275).
(374) أخرجه مسلم رقم 1218 من حديث جابر رضي الله عنه.
(375) أخرجه مسلم رقم 1308. وانظر لزاما فتح الباري (3/567) وتغليق التعليق لابن حجر (3/101).
(376) شرح النووي على صحيح مسلم (8/443).
(377) سورة الأحزاب، آية: 50.
(378) سورة الأحزاب، آية: 52.
(379) انظر الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي ص336.
(380) أخرجه مسلم رقم 1411.
(381) أخرجه البخاري (4824) ومسلم رقم 1410.
(382) أخرجه الترمذي رقم 841 وقال: حديث حسن.
(383) انظر أضواء البيان (5/367).
(384) سورة المائدة، آية: 38.
(385) أخرجه البخاري رقم 6407 ومسلم رقم 1684، واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها.
(386) سورة البقرة، آية: 234.
(387) سورة الطلاق، آية: 4.
(388) أخرجه البخاري رقم 3770 ومسلم رقم 1484.
(389) سورة البقرة، آية: 143.
(390) انظر فتح الباري (13/317).
(391) رواه أبو داود رقم 4253 والترمذي رقم 2167 واللفظ له. وفي سيده ضعف، ولكنه ورد من طرق يقوي بعضها بعضّا، وله شواهد تؤيد معناه. انظر (المعتبر) للزركشي ص57 وانظر السنة لابن أبي عاصم (1/41).(1/153)
(392) اعلم أن الإجماع القطعي وهو ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة. لا أحد ينكر ثبوته. كالإجماع على وجوب الصلاة وتحريم الزنى. وأما الإجماع الظني وهو ما يعلم بالتتبع والاستقراء فهذا مختلف في ثبوته، والأظهر أنه ممكن في عصر الصحابة، وفي غيره متعذر غالباً، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. فقد قال: (ولا يعلم إجماع بالمعنى الصحيح إلا ما كان في عصر الصحابة، أما بعدهم فقد تعذر غالباً). (مجموع الفتاوى 13/341) وقال: (والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة) (العقيدة الواسطية).
(393) التنقيح ص330.
(394 ) انظر إرشاد الفحول ص84.
(395) انظر أعلام الموقعين (4/120).
(396) سورة آل عمران، آية: 110.
(397) سورة التوبة، آية: 100.
(398) لقد نفى ابن القيم نسبة هذا القول للشافعي في كلام ماتع تجده في أعلام الموقعين (4/120) وللزركششي - من بعده - كلام مفادة أن الشافعي في مذهبه الجديد يرى أن قول الصحابي حجة. فيكون له قولان في الجديد واحد موافق للقديم. فانظر البحر المحيط (6/53).
(399) انظر أعلام الموقعين (4/152) مذكرة الشنقيطي ص165 حجية قول الصحابي في مجلة (أضواء الشريعة) العدد الثامن ص365 مجموع فتاوى ابن تيمية (20/582).
(400) انظر أعلام الموقعين (1/29) وانظر طرح التثريب (1/103).
(401) انظر أصول الفقه للبرديسي ص329.
(402) انظر فتح الباري (1/225).
(403) انظر فتح الباري (1/446).
(404) الصحاح للجوهري (2/843).
(405) انظر مجموع الفتاوى (18/16، 148).
(406) إرشاد الفحول ص46.
(407) أخرجه البخاري رقم 110 ومسلم رقم 3.
(408) الترغيب والترهيب (1/111) وانظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني.
(409) أخرجه البخاري رقم 395 ومسلم رقم 526. وتقدم ذكره.
(410) انظر روضة الناظر مع شرحها (1/268).
(411) شرح النووي على صحيح مسلم (1/177).
(412) المصدر السابق (1/246).(1/154)
(413) انظر أصل الاعتقاد ص57 رسالة الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للألباني.
(414) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/107).
(415) انظر أصل الاعتقاد للدكتور عمر الأشقر ص42.
(416) أخرجه البخاري رقم 555 ومسلم رقم 607.
(417) انظر شرح النخبة للحافظ ابن حجر ص58.
(418) جامع الأصول (1/115).
(419) أخرجه مسلم رقم 1539.
(420) النكت على ابن الصلاح (2/548) وانظر المجموع شرح المهذب (1/62).
(421) مقدمة ابن الصلاح ص26.
(422) انظر فتح الباري (1/23).
(423) انظر الإصابة لابن حجر (12/38).
(424) انظر فتح الباري (1/23).
(425) الإصابة (6/83).
(426) فتح الباري (10/289) وقد ذكر الحافظ ثلاثة من مراسيل ابن الزبير فمن أرادها رجع إلها.
(427) تدريب الراوي (1/207).
(428) صحيح مسلم (1/245).
(429) شرح النخبة ص41.
(430) انظر الرسالة للشافعي ص461 وانظر تفصيل هذه الشروط في كتاب (الحديث المرسل) للدكتور محمد حسن هيتو ص36 وما بعدها.
(431) البرهان (1/411).
(432) شرح صحيح مسلم (1/242).
(433) أخرجه البخاري رقم 731 وأخرجه مسلم رقم 463.
(434) سورة الحديد، آية: 25.
(435) مجموع الفتاوى (19/288).
(436) أخرجه البخاري رقم 4999 ومسلم رقم 1500.
(437) فتح الباري (9/444).
(438) هذا الكتاب من عمر رضي الله عنه كتاب جليل القدر تلقاه العلماء بالقبول. وقد شرحه ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين. وفي مجلة البحوث الإسلامية العدد السابع عشر تحقيق هذا الكتاب وبيان ما تضمنه من توجيهات للقضاة للدكتور ناصر الطريفي ص196 - 254.
(439) أعلام الموقعين (1/205).
(440) انظر نثر الورود على مراقي السعود (2/451).
(441) سورة الإسراء، آية: 23.
(442) ويسمى هذا قياس الأولى وهو أن يكون ثبوت الحكم في الفرع أولى منه في الأصل كهذا المثال أو مساوياً له كقياس تحريم إتلاف اليتيم باللبس على تحريم إتلافه بالأكل انظر حاشية البناني (2/224).(1/155)
(443) البرهان (2/573).
(444 ) انظر تفصيل ذلك في البحر المحيط (5/36).
(445) الأشنان: بفتح الهمزة وكسرها شجر معروف كان يستعمل قديماً في غسل الثياب.
(446) انظر الشرح الكبير للورقات للعبادي (2/474).
(447) انظر أمثلة أخرى في شرح الروضة لابن بدران (2/296) ومذكرة الشنقيطي ص266.
(448) يكثر في كتب الأصول ذكر هذا المثال. وفيه نظر لأن النبي ( صرح بأن كل مسكر حرام. ومن شرط الفرع ألا يكون منصوصاً على حكمه. ومن لا يشترط ذلك يجيز هذا القياس فانظر الشرح الكبير (2/287) (أضواء البيان (3/312)).
(449) غاية المرام ص198.
(450) انظر إرشاد الفحول ص209، غاية المرام شرح مقدمة الإمام للتلمساني ص197.
(451) انظر الشرح الكبير (2/493).
(452) انظر قرة العين للحطاب ص75.
(453) جمع الجوامع بحاشية البناني (2/294).
(454) مفتاح الوصول ص142، أضواء البيان (2/258، 3/479).
(455) الشرح الكبير (2/497).
(456) انظر كتاب (المسائل المشتركة بين أصول بين أصول الدين وأصول الفقه) للدكتور محمد العروسي ص84.
(457) سورة البقرة، آية: 29.
(458) سورة الرحمن، الآيات: 10 - 12.
(459) أخرجه البخاري رقم 6859 ومسلم رقم 2358 وأبو داود رقم 4610.
(460) سورة الجاثية، آية: 13.
(461) انظر مجموع الفتاوى (21/535).
(462) شرح الورقات ص29.
(463) الإبهاج (3/168).
(464) البحر المحيط (6/20) وانظر أصول الفقه الإسلامي للزحيلي (2/863).
(465) سورة الطلاق، آية: 4.
(466) انظر أضواء البيان (6/83).
(467) انظر أعلام الموقعين (1/341) رسالة في أصول الفقه للعكبري ص136 إرشاد الفحول ص238 أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها للدكتور عبد العزيز الربيعة ص303 وانظر الشرح الممتع على الزاد للشيخ محمد بن عثيمين (1/341).
(468) سورة البقرة، آية: 275.
(469) مذكرة الشنقيطي ص159.
(470) أصول الفقه الإسلامي (2/869).
(471) المصدر السابق (2/870).
(472) سورة النساء، آية: 11.(1/156)
(473) انظر شرح الحطاب ص80.
(474) الإيضاح ص7.
(475) جمع الجوامع (2/385).
(476) انظر أعلام الموقعين (4/212) وقد رأي هذا الرأي جمع منهم ابن السبكي فيما نقله عنه محمد علي بن حسين المالكي في كتابه (تهذيب الفروق) ج2ص117 وانظر المفتي في الشريعة للدكتور عبد العزيز الربيعة ص12.
(477) انظر غاية المرام ص216.
(478) انظر الأصول من علم الأصول ص56.
(479) البرهان (2/888).
(480) الإحكام (4/227).
(481) انظر الشرح الكبير (2/562).
(482) انظر البرهان (2/888).
(483) انظر الأحكام لابن حزم (2/703) وإرشاد الفحول (ص255).
(484) أخرجه مسلم رقم 2363.
(485) سورة آل عمران، آية: 159.
(486) أخرجه مسلم رقم 1763.
(487) الجهد بالضم الجيم: الطاقة. وبفتحها: المشقة. انظر اللسان (3/133) مادة (جهد).
(488) المصباح المنير (2/659).
(489) المجتهد المطلق من توفرت فيه شروط الاجتهاد. ومجتهد المذهب هو العالم بمذهب إمامه المتمكن من تخريج ما لم ينص عليه إمامه على منصوصه ومجتهد الفتوى. من قصر اجتهاده على ما صح عن إمامه ولم يتمكن من تخريج غير المنصوص [انظر أعلام الموقعين 4/212].
(490) فتح رب البرية بتلخيص الحموية لابن عثيمين ص50.
(491) انظر غابة المرام ص323.
(492) انظر تفصيل ذلك في كتاب (الغلو في الدين) ص252.
(493) رواه البخاري برقم 6919 ومسلم برقم 1716 عن عمرو بن العاص رضي الله عنه واللفظ المذكور لم أقف في الكتب الستة.
??
??
??
??
16(1/157)