شرح
لامية ابن الوردي
تأليف:أبي عبد الرحمن
مختصر ترجمة أبي حفص عمر بن مظفر بن الوردي
الحلبي الإمام الفقيه الشافعي /
قال عبد الحي بن العماد في »شذارت الذهب« (6/161) ناب في الحكم بحلب عن الشيخ شمس الدين بن النقيب، ثم عزل نفسه، وحلف لا يلي القضاء لمنام رآه، وكان ملازما للأشغال والاشتغال بالتصنيف شاع ذكره، واشتهر بالفضل اسمه، لازم الشيخ تقي الدين وغيره، وكان دينًا خيرًا حسن الأخلاق متواضعًا بشوش الوجه متثبتًا قال: لم أقض قضية إلا أعددت لها الجواب بين يدي الله، ذكره الذهبي في المختصر فقال: عالم ذكي خيّر، متواضع بصير بالفقه والعربية، سمع الكثير وتخرج بابن تيمية وغيره.
وقال السبكي في »طبقات الشافعية«: (10/374) له فوائد فقهية منظومة، وأرجوزه في تعبير المنامات، واختصار ملحة الإعراب وغير ذلك، وشعره أحلى من السكر (المكرر) وأغلى قيمة من الجوهر.
وقال ابن حجر في »الدرر الكامنة« (3/272) خطيب جِبرين بحلب ونظم البهجة الوردية في خمسةَ آلاف بيت وثلاثة وستين بيتًا، أتى على الحاوي الصغير (للماوردي) وأقسم بالله العظيم لم ينظم أحد بعده الفقه إلا قصّر دونه.
وقال الكتبي في »فوات الوفيات« (3/383) نظمه جيد إلى الغاية، وفضله بلغ النهاية
وذكر من جميل شعره قوله:
بالله يا معشر اصحابي ... اغتنموا علمي وآدابي
فالشيب قد حل براسي ... وقد اقسم ألا يرحل إلا بي
وذكر يوسف بن تغري بردي في النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (10/240) والسبكي وغيرهما أنه توفي في سابع ذي الحجة سنة (749) بالطاعون بعد أن تجاوز من العمر ستين عامًا فعليه رحمة الله.
أثبت إليه هذه اللامية الجبرتي في عجائب الآثار (2/154) عند ترجمة الشيخ علي الشهير بالطحان، وسليمان بن عمر البجيرمي في حاشيته (2/67).(1/1)
هذا ومن أجل ما ذكر به من الخير، وما في «لاميته» هذه من الآداب الجميلة، والنصائح الجلية، وشحذ الهمم عند طلبة العلم؛ فقد طلبت من الولد: حسين بن أحمد بن علي الحجوري –بارك الله فيه، ونفع به- أن يقابلها على عدة نسخ، ويجعلها في ورقات، ففعل ذلك مشكورًا، ووزعت على إخواني طلبة العلم، وحفظها أكثر الأبناء الصغار وغيرهم.
ثم يسر الله لي تدريسها عبارة عن نصائح بعد درسنا المعتمد بين مغرب وعشاء، فتحصل من ذلك عدة أشرطة، فرغت في هذا الجزء، فهذبتها، ثم أذنت بنشرها.
أسأل الله أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ونافعًا لعباده المسلمين.
كتبه: أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
بتاريخ ( الجمعة /27 ذو الحجة/1426)
نص اللامية
قال رحمه الله:
اعتزلْ ذِكرَ الأغاني والغَزَلْ ... وقُلِ الفَصْلَ وجانبْ مَنْ هَزَلْ
ودَعِ الذِّكرَ لأيامِ الصِّبا ... فلأيامِ الصِّبا نَجمٌ أفَلْ
إنْ أهنا عيشةٍ قضيتُها ... ذهبتْ لذَّاتُها والإثْمُ حَلّ
واترُكِ الغادَةَ لا تحفلْ بها ... تُمْسِ في عِزٍّ [رفيعٍ وتُجَلّ](1)
(2)وافتكرْ في منتهى حُسنِ الذي
أنتَ تهواهُ تجدْ أمراً جَلَلْ
واهجُرِ الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً
كيفَ يسعى في جُنونٍ مَنْ عَقَلْ
واتَّقِ اللهَ فتقوى الله ما
جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ
ليسَ منْ يقطعُ طُرقاً بَطلاً
إنما منْ يتَّقي الله البَطَلْ
صدِّقِ الشَّرعَ ولا تركنْ إلى
رجلٍ يرصد [في](3) الليل زُحلْ
حارتِ الأفكارُ في حكمةِ مَنْ
قد هدانا سبْلنا عزَّ وجَلْ
__________
(1) في (م، ش) وترفع وتجل. ...
(2) في (م، ش) زيادة ثلاثة أبيات، وهي: ... وَعَنِ الأْمْرَدِ مُرْتَجٌ اْلَكَفلْ
0@وَالْهُ عَنْ آلَةِ لَهْوٍ أًطْرَبَتْ
إِنْ تَبَدَّى تَنْكَسِف ْشَمْسُ الضُّحى ... وَإِذَا ما مَاسَ يُزْرِي بِالأَسَلْ
زَادَ إِنْ قِسنَاهُ بِالبَدْرِ سَنَى ... أَوْ عَدَلْنَاهُ بِغُصْنٍ فَاعْتَدَلْ
(3) في نسخة (ش) بالليل
(3) في نسخة (ش) جمع.(1/2)
كُتبَ الموت على الخَلقِ فكمْ
فَلَّ من [جيشٍ](1) وأفنى من دُوَلْ
أينَ نمرودُ وكنعانُ ومنْ
مَلَكَ الأرضَ وولَّى وعَزَلْ
أين عادٌ أين فرعونُ ومن
رفعَ الأهرامَ من يسمعْ يَخَلْ
أينَ من [سادوا وشادوا](2) وبَنَوا
هَلَكَ الكلُّ [ولم](3) تُغنِ القُلَلْ
أينَ أربابُ الحِجَى أهلُ النُّهى
أينَ أهلُ العلمِ والقومُ الأوَلْ
سيُعيدُ الله كلاً منهمُ
وسيَجزي فاعلاً ما قد فَعَلْ
إيْ بُنيَّ اسمعْ وصايا جَمعتْ
حِكماً خُصَّتْ بها خيرُ المِللْ
أطلبُ العِلمَ ولا تكسَلْ فما
أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكَسَلْ
واحتفلْ للفقهِ في الدِّين ولا
تشتغلْ عنهُ بمالٍ وخَوَلْ
واهجرِ النَّومَ وحصِّلهُ فمنْ
يعرفِ المطلوبَ يحقرْ ما بَذَلْ
لا تقلْ قد ذهبتْ أربابُهُ
كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى
وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ
جَمِّلِ المَنطِقَ بالنَّحو فمنْ
يُحرَمِ الإعرابَ بالنُّطقِ اختبلْ
انظُمِ الشِّعرَ ولازمْ مذهبي
[في اطَّراحِ الرَّفد لا تبغِ النَّحَلْ](4)
فهوَ عنوانٌ على الفضلِ وما
أحسنَ الشعرَ إذا لم يُبتذلْ
ماتَ أهلُ الفضلِ لم يبقَ سوى
مقرف أو من على الأصلِ اتَّكلْ
أنا لا أختارُ تقبيلَ يدٍ
قَطْعُها أجملُ من تلكَ القُبلْ
إن جَزتني عن مديحي صرتُ في
رقِّها أو لا فيكفيني الخَجَلْ
أعذبُ الألفاظِ قَولي لكَ خُذْ
وأمَرُّ اللفظِ نُطقي بِلَعَلّْ
مُلكُ كسرى [عنهُ تُغني](5) كِسرةٌ
وعنِ البحرِ اجتزاءٌ بالوَشلْ
اعتبر نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم
تلقهُ حقاً وَبِالْحَقِّ نَزَلَ
ليس ما يحوي الفتى من عزمه
لا ولا ما فاتَ يوماً بالكسلْ
اطرحِ الدنيا فمنْ عاداتها
تخفِضُ العاليْ وتُعلي مَنْ سَفَلْ
__________
(2) في نسخة (ش) أين من شادوا وسادوا.
(3) في نسختي (م، ش) فلم.
(4) في نسخة: ش (فاطراح الرفد في الدنيا أقل).
(5) في نسختي (م، ش) ملك كسرى (تغني عنه)(1/3)
عيشةُ [الرَّاغبِ](1) في تحصيلِها
عيشةُ [الجاهلِ](2) [فيها أو أقلْ](3)
كَمْ جَهولٍ [باتَ فيها](4) مُكثراً
وعليمٍ [باتَ](5) منها في عِلَلْ
كمْ شجاعٍ لم ينلْ [فيها](6) المُنى
وجبانٍ نالَ غاياتِ الأملْ
فاتركِ الحيلةَ فيها [واتَّكِلْ](7)
إنما الحيلةُ في تركِ الحِيَلْ
[أيُّ](8) كفٍّ لمْ [تنلْ منها المُنى] (9)
فرماها اللهُ منهُ بالشَّلَلْ
لا تقلْ أصلي وفَصلي أبداً إنما
أصلُ الفَتى ما قد حَصَلْ
قدْ يسودُ المرءُ من [دونِ](10) أبٍ
وبِحسنِ السَّبْكِ قدْ [يُنقَى](11) [الدَّغّلْ](12)
إنما الوردُ منَ الشَّوكِ وما
[يَنبُتُ](13) النَّرجسُ إلا من بَصَلْ
[غيرَ](14) أني أحمدُ اللهَ على
نسبي إذ بأبي بكرِ اتَّصلْ
قيمةُ الإنسانِ ما يُحسنُهُ
أكثرَ الإنسانُ منهُ [أمْ](15) أقَلْ
أُكتمِ الأمرينِ فقراً وغنى
واكسَب الفَلْسَ وحاسب من بَطَلْ
وادَّرع جداً وكداً واجتنبْ
صُحبةَ الحمقى وأرباب الخَلَلْ
بينَ تبذيرٍ وبُخلٍ رُتبةٌ
وكِلا هذينِ إنْ [زادَ](16) قَتَلْ
لا تخُضْ في [حق](17) سادات مَضَوا
إنهم ليسوا بأهلِ للزَّلَلْ
[وتغاضى](18) عن أمورٍ إنه
لم يفُزْ بالحمدِ إلا من غَفَلْ
__________
(1) في نسخة (ش) الزاهد
(2) في نسختي (م، ش) الجاهد.
(3) في نسخة (ش) بل هذا أذل
(4) في نسختي: (م، ش) (وهو مُثْرٍ مُكْثِرٌ)
(5) في نسختي: (م، ش) مات.
(6) في نسخة: (ش) منها.
(7) في نسختي: (م، ش) (واتئد).
(8) في نسخة (ش) وأي.
(9) في نسختي: (م، ش) لم تفد مما تفد.
(10) في نسختي: (م، ش) غير
(11) في نسختي (م، ش) ينفي وهو الصواب.
(12) في نسختي (م، ش) الزغل.
(13) في نسختي: (م، ش) يطلع.
(14) في نسحتي: (م، ش) مع.
(15) في نسختي: (م، ش) أو.
(16) في نسخة: (م) داما وفي: (ش) دام.
(17) في نسختي: (م، ش) سب
(18) في نسختي: (م، ش) وتغافل.(1/4)
ليسَ يخلو المرءُ مِنْ ضدٍّ [ولَو](1)
حاولَ العُزلةَ في راسِ [الجبَلْ](2)
مِلْ عن النَمَّامِ [وازجُرُهُ](3) فما
بلّغَ المكروهَ إلا من نَقَلْ
دارِ جارَ السُّوءِ [بالصَّبرِ](4) وإنْ
لمْ تجدْ صبراً فما أحلى النُّقَلْ
جانِبِ السُّلطانَ واحذرْ بطشَهُ
لا [تُعانِدْ](5) مَنْ إذا قالَ فَعَلْ
لا تَلِ [الأحكامَ](6) إنْ هُمْ سألوا
رغبةً فيكَ وخالفْ مَنْ عَذَلْ
إنَّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ
وليَ الأحكامَ هذا إن عَدَلْ
فهو كالمحبوسِ عن لذَّاتهِ
وكِلا كفّيه في الحشر تُغَلْ
إنَّ للنقصِ والاستثقالِ في
لفظةِ القاضي لَوَعظا [أو](7) مَثَلْ
لا [تُوازى](8) لذةُ الحُكمِ بما
ذاقَهُ الشخصُ إذا الشخصُ انعزلْ
فالولاياتُ وإن طابتْ لمنْ
ذاقَها فالسُّمُّ في ذاكَ العَسَلْ
نَصَبُ المنصِبِ أوهى [جَلَدي](9)
وعنائي من مُداراةِ السَّفلْ
قَصِّرِ الآمالَ في الدنيا تفُزْ
فدليلُ العقلِ تقصيرُ الأملْ
إن منْ يطلبهُ الموتُ على
غِرَّةٍ منه جديرٌ بالوَجَلْ
غِبْ وزُرْ غِبَّاَ تزِدْ حُبَّاً فمنْ
أكثرَ التَّردادَ [أقصاهُ](10) المَلَلْ
[لا يضرُّ الفضلَ إقلالٌ كما
لا يضرُّ الشمسَ إطباقُ الطَّفَلْ
خُذْ بنصلِ السَّيفِ واتركْ غِمدهُ
واعتبرْ فضلَ الفتى دونَ الحُلُلْ](11)
حُبّكَ الأوطانَ عجزٌ ظاهرٌ
فاغتربْ تلقَ عن الأهلِ بَدَلْ
فبمُكثِ الماءِ يبقى آسناً
وسَرى البدرِ بهِ البدرُ اكتملْ
__________
(1) في نسختي: (م، ش) وإن.
(2) في نسختي: (م، ش) جبل، بدون الألف واللام.
(3) في (ش) واهجره.
(4) في (ش) إن جار
(5) في نسخة: (ش) تخاصم.
(6) في نسختي: (م، ش) الحكم.
(7) في نسختي: (م، ش) و.
(8) في (ش) تساوي.
(9) في (ش) جسدي.
(10) في (ش) أضناه.
(11) في نسختي: (م، ش) تقديم بيت خذ بنصل السيف... على ما قبله والمعنى ينسجم بما هنا.(1/5)
أيُّها العائبُ قولي [عبثاً](1)
إن طيبَ الوردِ مؤذٍ [للجُعلْ](2)
عَدِّ عن أسهُمِ [قولي](3) واستتِرْ
لا يُصيبنَّكَ سهمٌ من ثُعَلْ
لا يغرَّنَّكَ لينٌ من فتىً
إنَّ للحيَّاتِ ليناً يُعتزلْ
أنا مثلُ الماءِ سهلٌ سائغٌ
ومتى [أُسخِنَ](4) آذى وقَتَلْ
أنا كالخيزور صعبٌ كسُّرهُ
وهو [لدنٌ](5) كيفَ ما شئتَ انفتَلْ
غيرَ أنّي في زمانٍ مَنْ يكنْ
فيه ذا مالٍ هو المولَى الأجلّ
واجبٌ عند الورى إكرامُهُ
وقليلُ المالِ فيهمْ يُستقلْ
كلُّ أهلِ العصرِ غمرٌ وأنا
منهمُ، فاترك تفاصيلَ الجُمَل(6)
[وصلاةُ اللهِ ربي كُلّما
طَلَعَ الشمسُ نهاراً وأفلْ
للذي حازَ العُلى من هاشمٍ
أحمدَ المختارِ من سادَ الأوَلْ
وعلى آلٍ وصحبٍ سادةٍ
ليسَ فيهمْ عاجزٌ إلا بَطَلْ](7)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ?، تسليماً كثيراً أما بعد:
__________
(1) في نسختي: (م، ش) عابثًا.
(2) في نسختي: (م، ش) بالجعل.
(3) في نسختي: (م، ش) لفظي.
(4) في نسختي: (م، ش) سخن.
(5) في نسختي: (م، ش) لين.
(6) في نسخة: (م) انتهت الأبيات إلى هنا.
(7) هذه الثلاثة الأبيات مختلفة في نسخة (ش) ففيها البيت الأول:
وصلاة وسلام أبدًا ... للنبي المصطفى خير الدول
وعلى الآل الكرام السعدا ... وعلى الأصحاب والقوم الأول
ما نوى الركب بعشاق إلى ... أيمن الحي وما غنى رمل
=(1/6)
فإن هذه لامية للإمام أبي حفص عمر بن محمد بن الوردي كما تقدمت ترجمته الحافلة بالخير والدين والاستقامة، والورع ، وهو من تلاميذ ذلك النحرير: شيخ الإسلام ابن تيمية، وممن تخرج عليه، ونظم هذه اللامية نصيحة ويا لها من نصيحة، وستمر بكم بإذن الله عز وجل بما فيها من الفوائد والنصائح التي لا يستغني عنها طالب علم، وغيره، والنصح مفيد لمن أخذ به، وانتفع به، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66-68].
وما أحسن ما قيل:
ولقد نصحتك إن قبلت نصحي ... والنصح أغلى ما يباع ويوهب
وديننا مبني على النصح، قال النبي ?: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»، أخرجه مسلم، وعلقه البخاري، من حدث تميم الداري، ولم يثبت فيما ذكر ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»؛ إلا من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
وبدأ نصحه هذا الإمام بقوله:
اعتزلْ ذِكرَ الأغاني والغَزَلْ ... وقُلِ الفَصْلَ وجانبْ مَنْ هَزَلْ
والمقصود بالأغاني هنا: النساء، يقال: الغانيات، والغواني جمع غانية، ومما يؤيد ذلك، أحد شواهد ابن عقيل في شرح «ألفية ابن مالك»:
داعاني الغواني عمهن وخلتني ... لي اسم لا أدعى به وهو أول
ومن شواهد ابن عقيل أيضاً:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
وقد يتساءل الإنسان: لماذا بدأ هذا النصح باعتزال ذكر الغانيات؟ والمتوقع والله أعلم، أن هذا احتاج له أهل بلده، وهو نصح لسائر المسلمين.(1/7)
إذ أن فتن النساء مقرونة بفتنة الدنيا، قال النبي ?: «ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها؛ فجرته إلى ما هاجر إليه»، وقال عليه الصلاة والسلام: «ما تركت على أمتي: فتنة أضر من النساء على الرجال»، وقد روى الإمام مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي ? قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وأن الله مستخلف فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»، ففتنة الدنيا والنساء هي أم الفتن.
هكذا الذين فتنوا من الشعراء؛ مثل قيس صاحب ليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة، وما إلى ذلك، كثير منهم فتن عن طريق التغزل بالنساء.
والتغزل معناه: كلام بين النساء وبين الرجال.
وعلى كل على الإنسان أن يجتنب ما يتعلق بالتغزل، وما يتعلق بتذكر صفات النساء؛ يثير الغرائز، ويؤدي إلى الفتنة، والأصل في ذلك ما ثبت عند البخاري، ووهم النووي رحمه الله، فعزاه إلى الصحيحين، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي ? قال: « لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها».
وقد ذهب أهل العلم إلى أن هذا يعتبر أصلاً في سد الذرائع، وأن التغزل بالنساء ذريعة إلى فتنة القلب، فبذكر المرأة تلك المرأة، ومحاسن تلك المرأة لزوجها، قد يفتن، ويؤدي إلى طلاقها، واحتقارها، بجانب تلك المرأة التي وصفت له، ولهذا نهى عنه.
وهكذا على المسلم أن يلازم العفة، {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام، كما في «الصحيحين»: «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءٌ خير وأوسع من الصبر».(1/8)
فمن أسباب الغنى الحسي والمعنوي: هي العفة، ولا تكاد تجد صيناً ديناً يشغل نفسه بالنساء، والتغزل بهن، إنما يكون هذا عن طريق من علمتم من الشعراء، ومن فُتن من الناس، وإلا فأهل الصيانة والديانة، مشغولون بما هو أهم من ذلك، وأنت تعلم أنه قد يحصل العشق بمجرد السماع؛ رب أعمى يفتن بالصوت، إذا حصل خضوع، وهو أعمى، قال بعضهم:
لقد سمعنا بأوصاف لكم عظمت ... فسرنا ما سمعنا وأحيانا
من قبل رؤيتكم نلنا محبتكم ... والأذن قد تعشق قبل العين أحيانا
ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
ويقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
وفي «الصحيحين» من حديث عقبة رضي الله عنه، أن النبي ? قال: «إياكم والدخول على النساء» قالوا: أرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت»؛ لأن هذا ذريعة للفتنة.
وقوله: (وقل الفصل) في كلامك، فإن الإنسان إذا عود نفسه كثرة المزاح، ربما أدى به إلى المجون، والماجن هو الذي لا يبالي بما يصنع، وربما أدى به كثرة مزاحه إلى كلام يغضب الله عليه، ولهذا مدح الله كلامه عزوجل: أنه فصل وليس بالهزل.
(وجانب من هزل)، قل الفصل ولازم الحق، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53].(1/9)
قل الفصل، وقل الحق، وجانب الهازلين، الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، قال الله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70] الآيات.
ولما قالوا لموسى: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]، ولما قال ذلك الرجل: والله يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، كان يقرأ عليه النبي ?: قول الله عزوجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
ولقد استرسل كثير من الناس في الهزل، وفي المزاح، وربما قال كلمة يريد أن يضحك الناس، فيغضب بها رب العالمين عليه.
«إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، إلى يوم يلقاه، وإن العبد: ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه»، وثبت أن النبي ? قال: «ويل للذي يكذب؛ ليضحك الناس، ويل له، ثم ويل له».
والمزاح المباح: جائز، وقد مزح رسول الله ?، بمزح عظيم الفائدة، فقد ثبت عند أبي داود، وعند البخاري في «الأدب المفرد» أن رجلًا أتى إلى النبي ? يستحمله، قال: «لأحملنك على ابن الناقة»، قال يا رسول الله، ما ذا أصنع بابن الناقة؟ يظن أنه صغير، قال: «وهل تلد النوق، إلا الإبل»، هذا مزح، لكنه حق.
ومزح النبي ? مع أبي عمير، قال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟»، الحديثان عن أنس رضي الله عنه، وكلاهما صحيح.
والمزاح الذي يضيق الصدر، ويكدر البال يجتنب، ويبتعد عنه، فطالب العلم أرفع من ذلك:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فأربع بنفسك أن ترعى مع الهمل(1/10)
قال ابن الوردي رحمه الله:
ودَعِ الذِّكرَ لأيامِ الصِّبا ... فلأيامِ الصِّبا نَجمٌ أفَلْ
وهذه نصيحة قيمة، من هذا الإمام بقوله: (دع الذكرى لأيام الصبا): أي لا تتبجح بما حصل فيها من الذنوب؛ فإن أيام الصبا قد مضت.
أفل: نجمها وقد مضى، ومن شروط التوبة: أن يندم التائب على ما فرط، وعلى ما حصل منه من سوء، وأن يعزم على ألا يعود إلى ذلك بعد أن يقلع عن الذنب، أما المفتخر بالذنب الذي فعله، فهذا يدل على عدم صحة توبته، فالواجب على مقترف الذنب أن يتحسر، قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
والافتخار بالذنوب من المجاهرة، والنبي ? يقول: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»، متفق عليه.
وفي بعض النسخ: (الذكرى) بألف مطوية، وهذا ما هو صحيح، والصحيح: بغير ألف (ودع الذكر) براء فقط، (لأيام الصبا) أي: دع تذكر ما مضى.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله، في رسالة له بعنوان: «تنبيه النائم الغمر على مواسم العمر» أن مواسم العمر خمسة: من أيام الولادة، إلى الخامسة عشره، يقال: غلام، ومن تلك السن إلى الخامسة والثلاثين: سن الشباب، ومن الخمس والثلاثين إلى الخمسين: تعتبر كهولة، وقد يقال: كهل لما قبل ذلك، ومن الخمسين إلى السبعين: شيخوخة، ومن السبعين حتى ينتهي العمر تعتبر هذا سن الهرم.
وارتباط هذا البيت بالذي مضى (اعتزل ذكر الأغاني. وقل الفصل وجانب من هزل)، أن الهزل غالبًا يحصل في تلك السن خاصة في مثل الذين غير متورعين، فلهذا عقبه بهذا البيت.
قال رحمه الله:(1/11)
إنْ أهنا عيشةٍ قضيتُها ... ذهبتْ لذَّاتُها والإثْمُ حَلّ
أي: أيها المخاطب، أيها المذنب، انظر إلى الذين قضوا عيشتهم في رغدٍ مع المعاصي، كيف ذهبت حياتهم، وبقيت الذنوب عليهم، قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25-28].وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].وقال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} إلى آخر الآيات، [القصص:76].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44-45].
فلا تنبهر بما يحصل من العيش الذي أنت فيه، واتخذ منه زادًا للآخرة، وهذا العيش الذي أنت فيه، مهما كان فهو زائل.
*إنْ أهنا عيشةٍ قضيتُها ... ذهبتْ لذَّاتُها والإثْمُ حَلّ
واترُكِ الغادَةَ لا تحفلْ بها ... تُمْسِ في عِزٍّ [رفيعٍ وتُجَلّ](1)
(الغادة) قالوا: المرأة الجميلة.
إن قصد بذلك الزنى، فواضح أنه معصية من المعاصي، وإن قصد بذلك عدم الفتنة بالحلال فواضح أيضًا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
__________
(1) في (م، ش) وترفع وتجل. ...(1/12)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].
وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
فلا شك أن كثيرًا من الناس فتن عن طريق زوجته، احتفل بها كثيرًا فأبعدته عن الاستقامة، والمثال على ذلك: عمران بن حطان، سبب انحرافه زوجته؛ قد فتن بها، والجميلة: تفتن أكثر، كان على خير، فتزوج بتلك المرأة من أجل أن يردها عن فكرها الخارجي، وردته إلى الفكر الخارجي، وبعد ذلك: صار يهجوا علي بن أبي طالب، ويمدح قاتل علي رضي الله عنه، ويقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوان
إني لأذكره يومًا فأحسبه ... أرقى البرية عند الله ميزانا
والنبي ? يقول: «تنكح المرأة لأربع: لجمالها، ولمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»، وهذا وصية من رسول الله ?، يفلح من أخذ بها، والذي ما يأخذ بها؛ يناله قسطه بسبب البعد عن هذه الوصية.
فإذا تزوج امرأة غادة، من أجل جمالها، ما يدري إلا وهي تتبجح عليه؛ تقول: ما أخذتك إلا أنا، وتواضعت من أجلك.
وأيضًا: قد تبعده عن الاستقامة؛ تارة تريد رحلة، وتارة تريد مصاريف، وتارة تريد موديلات جدد، فتنة يسلطها الله عليه؛ لأنه ما أخذ بوصية رسول الله ?، من حيث (ذات الدين) ما ظفر، وجنب الظفر.
وإن تزوجها من أجل مالها، ما تدري إلا وهي تفتخر عليه بمالها، ويسلطها الله عليه، من جانب المال، ولو احتجت إلى إناء من آنيتها كل يوم تقول لك: ها أنت تأكل في الإناء حقي، وبين الحين والآخر وهي تهنجم عليك بإنائها ذاك، فضلًا من أن تكون تعطيك، أو تكرمك، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34].(1/13)
والنبي ? قيل له: يا رسول الله ما حق زوجت أحدنا علينا؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح».
فهي نفقتها عليك، ولو ملكت الشركات، والتركات، ما زالت نفقتها عليك، «كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته»، وقال ?: «ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة»، وقال ?: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول».
وإذا تزوجها من أجل الحسب، ومن أجل التفاخر، قد يسلطهم الله عليه، فيصير بينهم العداء والاختلاف، أو ما يحصل أقل ما فيه ما كان مقصودًا.
وإذا تزوجها من أجل دينها ظفر، «فاظفر بذات الدين تربت يمينك»، حتى ولو لم تكن ذات حسب، ولو لم تكن ذات مال، ولا جمال، فالله سبحانه وتعالى هو الرزاق، والقوة المتين، كم من إنسان تزوج وهو فقير؟ وأغناه لله، {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، والله يقول: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32].
هذا: وعلى الإنسان أن يكون في هذا معتمدًا على الله سبحانه وتعالى، لا على هذه الظواهر، مجرد هذه الظواهر بذاتها، هذه مرغوبات من حيث الجملة، لكن ما يكون كل القصد هو ذلك، هذا غلط، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
(واترك الغادة لا تحفل بها) أي: ما تشغل نفسك بها، تبعدك عن ذكر الله، وتبعدك عن طلب العلم، وتبعدك عن الاستقامة، فتعطيها وتنزلها في المنزل الذي هو أرفع من منزلها، تكون شغلتك فإن هذا يدخل تحت قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، ولدك يشغلك عن طاعة الله يبعدك، أو امرأتك تبعدك؛ هذه تصير محبة شركية.(1/14)
قوله: (تمس في عز رفيع وتجل) ما دمت على طاعة الله عزوجل على أي حال فأنت في عزٍ رفيع، العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين، وهكذا أيضًا أنت مجلل، عند عباد الله الصالحين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7].
والنبي ? يقول: «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضًا بما يصنع».
فأنت معزز مجلل عند الله، وعند صالحي عباده؛ ما دمت على طاعة الله، وما دمت لم تجرف إلى المعاصي.
قال ابن الوردي رحمه الله:
وَالْهُ عَنْ آلَةِ لَهْوٍ أًطْرَبَتْ ... وَعَنِ الأْمْرَدِ مُرْتَجٌ اْلَكَفلْ
قوله: (واله عن آلة لهو أطربت) يشير إلى النهي عن سماع آلات اللهو من الأغاني وسائر الآلات الملهيات، وتحريم الأغاني اُلفت فيها كتب، ومن أحسن ما ألف فيه كتاب العلامة الألباني عليه رحمة الله »تحريم الآلات اللهو والطرب« فإنه أخذ عن ابن القيم من »إغاثة اللهفان« ومن غيره، وبحث المسألة بحثًا حديثيًا فقهيًا مفيدًا، وهو متمكن في علم الحديث فأتى بأحاديث في النهي عن سماع الأغاني بعضها بمجموع طرقها يحسنها هو عليه رحمة الله.
ومن أشهر أحاديث المعازف حديث الأشعري ط الذي في »صحيح البخاري« من طريق هشام بن عمار، هو ثابت في »السنن« عن النبي ? قال: »ليكونن أقوامًا من أمتي يستحلون الحرى والحرير والمعازف« واستحلال الشيء يكون بعد تحريمه، وقد قرن بأمور محرمة وهي: الحر أي الزنا، والحرير محرم لبسه على الرجال إلا فيما رخص فيه للعلاج الحكة في موضعها، فقوله: »يستحلون« دل على تحريمه.(1/15)
ومن الأدلة على تحريمه قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:31] قال: جماعة من المفسرين: لهُو الحديث الأغاني، ولو نظرت إلى أضرار الأغاني على القلب وعلى الوقت فالنبي ? يقول: »نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ« ويقول ? »ما من ساعة تمر بالعبد لا يذكر الله فيها إلا كانت عليه حسرة وترة«.
فالغناء بريد الزنا، و أشهر من عرف بالأغاني والرقص والتمايل وما يسمونه بالسماع هم الصوفية فهو من دينهم اتخذوه دينًا، حتى ذكروا في ترجمة ملك أربل أول من أحدث المولد في ذلك البلد، أنه دعاهم في أيام المولد على خمسين الألف رأس من الغنم، وعلى عشرة الآلف دجاجة، وعلى ثلاثين ألف طبق من الحلوى، ثم قال: وأتاهم بسماع وكان هو يرقص بنفسه على السماع.
وعلى هذا فسماع الأغاني مع حرمته وإفساده للقلوب، أيضًا: هو تشبه بالفاسقين والضلال المبتدعين، والذين نهى الله عن التشبه بهم قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19]، فلا يجوز التشبه بالكافرين، ولا بالشيعة، ولا بالصوفية، ولا بسائر الفاسقين.(1/16)
وآلة اللهو والطرب انتشرت وتفنن الناس فيها تفننًا من حين إلى آخر قبل أيام أرسل لي بعض الإخوة سؤالًا أنها تخرجت دفعة من (الصيادلة) ويريدون أن يأتوا بحفل موسيقي بمناسبة هذا التخرج، قلنا لهم: أولًا إن الذين كانوا يتعلمون الحِرَف ممن سبق تعلموا حِرَف النجارة، والخياطة، والطب، وحرفًا عديدة، ما كانوا إذا تخرج أحدٌ منهم من حرفه من الحرف ذهب يعمل حفل موسيقي، ثم الحرفة نعمة منه سبحانه وتعالى على العبد امتن الله بالحرفة على نبيه داود قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء 80].
فهي نعمة تقابل بشكر النعمة، لا تقابل بكفران النعمة، على أن منهم من تخرج من الصيدلة ويذهب إلى بعض المعاصي من بيع بعض العلاج المحرم، ومن عدم الصدق في العمل وتضييع بعض الواجبات، ما يُقر على تلك المعاصي، لكن الحرفة الطيبة تعتبر نعمة على العبد.
والموسيقى والأناشيد: نشرها الإخوان المسلمون ونحوهم بين الناس، وهو نوع من شر الأغاني، تجد المحاضر أو الداعي منهم سئل عن حكم الأغاني؟ يقول: أنا أسمع، أنا أشدوا، أنا أرتاح، على أغنية فلان أو فلانة، من تلك المقولات السمجة، الناس يسألونك عن حكم الله في المسألة ما يسألونك عن أذواقك المنحرفة، وما يجوز أن يفتى بحل شيء فيه فتنة على القلب؛ لأن النبي ? يقول: »ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، و إذا فسد القلب كله، ألا وهي القلب«.
وما من شك أن الأغاني فيها مرض للقلوب، وقد خطئوا ابن حزم رحمه الله في إباحتها، هذه من إحدى زلاته عليه رحمة الله، والعلامة الألباني رحمه الله رد ردًا طيبًا، في كتابه «تحريم الآلات اللهو والطرب»، على ابن حزم وغيره من مبيحي هذه المعصية، وقبله ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان» بين تحريم الآلات اللهو والطرب، وتحريم الغناء بيانًا طيبًا، تبرأ من مرضى الأغاني فقال رحمه الله:(1/17)
برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت: يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا
ويكفي في تحريم الغناء حديث أبي مالك، وأبي عامر الأشعري رضي الله عنه، قال البخاري رحمه الله تحت رقم (5590): بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ، أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي، سَمِعَ النَّبِيَّ ? يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ: يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ» -يَعْنِي الْفَقِيرَ- «لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وهو حديث صحيح، وقد صححه وذكر طرقه بن القيم، ولألباني في المصدرين المذكورين هنا، والحافظ في شرح الحديث من «فتح الباري» (10/52) وغيرهم.
وقوله: (وعن الأمرد مرتج الكفل) الأمرد الذي ما نبتت لحيته، ومرتج الكفل: أي مرتج المؤخرة أله عن هذا؛ فإن هذا من أسباب الفتنة، وقد نقل الإجماع على تحريم النظر إلى الأمرد؛ إذا كان بشهوة، ولم يثبت حديث فيما نعلم عن النبي ? في النهي، لكن أي شيء يفتن منه الإنسان يجب أن يجتنبه، ويسد ذريعة الفتنة عليه(1).
__________
(1) وانظر أدلة سد الذرائع والمحرمات والفتن، في كتاب «التحليل» لابن تيمية و«أعلام الموقعين عن رب العالمين» لابن القيم (3/135) إلى آخر المجلد.(1/18)
يعني هذا وسيلة إلى اللواط، وهو جريمة شنعاء أهلك الله بسببها أمة وسماهم عادين قال الله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165-166]، وذمهم الله أشد الذم في كثير من الآيات، وبعض السلف يقول: لو لم يذكر هذا ربنا سبحانه وتعالى في القرآن ما صدقت أن رجلًا يقع على رجل.
وجاء أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه (أنه وُجد رجل يؤتى كما تؤتى المرأة، فكتب إليه أبو بكر الصديق أن يحرقه.
(فما حال القصة يا فهد؟) الجواب: ما هي صحيحة نعم أنكرها الحافظ في »الدراية« ونقلنا إنكاره على تحقيق »إصلاح المجتمع« لكن نقل الإجماع؛ على أنه يقتل اللوطي يقتله ولي الأمر، فهذا فساد متفشي، واختلفوا في كيفية قتله، هل يرمى من فوق جبل؟ أم يقتل بالسيف أم على أي كيفية؟ وحديث »من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول« حديث ضعيف، كما بيناه في تخريجنا على «إصلاح المجتمع» إلا أن الاتفاق نقل على مضمون الحديث.
وقد وجد في بعض الدول فيما شاع بين الناس، وكتب في جرائد، وسجل في أشرطة أن بعضهم يستعمل الهروينات من أجل أن تكبر نهوده يريد أن يظهر على صورة امرأة، يعمل له عملية قطع الذكر، وتصليح فرج، ويغير اسمه من فلان إلى فلانة، ولا يرضى أن يقال له فلان، فهذا من جراء اللواط؛ لما كثر عندهم صار الرجل لا يتشرف أنه رجل، ويصير منهم من يحب أن يكون امرأة يدفع المبالغ الباهظة أنه يصير امرأة نسأل الله السلامة والعافية .(1/19)
فمثل هذا ما حكمه؟! حكمه في الشرع أنه يتوب، أو يقتله ولي الأمر، ما يقال أن المحكمة قررت أنه له الحرية، هذا ما يجوز هذا إقرار منكر عظيم، وإساءة إلى دين الله الحق، وإلى الإنسانية، فالله قد أعطى كل ذي حق حقه، انظروا إلى بلاد الكفار لما أفرطوا في هذا الفعل صار الرجل يتزوج بالرجل، والمرأة تتزوج بالمرأة، فهذه فضائح في الدنيا والأخرى، ما جزاؤه إلا ما قد جاء في ذلك الإجماع
قال رحمه الله:
وافتكرْ في منتهى حُسنِ الذي ... أنتَ تهواهُ تجدْ أمراً جَلَلْ
هذا البيت فيه نصح طيب، فهو يشمل معنيين: يشمل التفكر فيما يقدم عليه الإنسان العفيف الصالح من الجنة وما أعده الله للصالحين فيها، قال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ:31-36].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:17-19] الآية.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 16-17].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54-55].(1/20)
وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} الآيات [محمد:15].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107-108].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9].
وكم في القرآن من وصف ما أعده الله عزوجل للمؤمنين الصالحين، مما هو في منتهى الحسن والجمال، ومما ثبت في السنة في »الصحيحين« عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ? قال: »إن للمؤمن خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلًا للؤمن فيها أهلون يطوف عليه المؤمن لايرى بعضهم بعضًا«.(1/21)
وطوبى تلك الشجرة للمؤمن يصير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها، وفي »الصحيحين« من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ? قال: فيما يرويه عن ربه »أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرؤوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، وروى الإمام مسلم في »صحيحه« أن النبي ? قال: »يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس«.
وأخرج مسلم في »الصحيح« من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي ? قال: »إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ من أهل الجنة خلود بلا موت، أن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وأن لكم أن تناموا فلا تبأسوا أبدا«.
هذا ما هو متوفرُ في الدنيا، هذا نعيم عظيم إذا تفكر الإنسان فيه، فيهن قاصرت الطرف قال الله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] اقرأ سورة الرحمن.
واقرأ قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ} [الواقعة:27-40].(1/22)
وقال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ *لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:56-58]، هذه الآيات إذا تدبرتها كأنك تنظر إلى الجنة.
إن الذين فكروا في حسن ما يهواه المؤمنون، ويهواه النصحاء جندوا أنفسهم لطاعة الله، جندوا أنفسهم لمرضات الله، وتجردوا للحق، ويعتبرون أنفسهم مقصرين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].
يعملون الأعمال ويقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] ويستغفرون الله سبحانه وتعالى على التقصير، هذا البيت يشمل هذا المعنى.
وينبغي للإنسان أن يتفكر في عواقب الأمور، والذي ما يفكر في عواقب الأمور مما يقدم عليه من صراط وميزان وحوض وما إلى ذلك من موت وما بعده هذا غافل، وقد علمتم ذم الغافلين في كتاب الله وسنة رسول الله ? الذين تمحظت في قلوبهم الغفلة أضل من الأنعام قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(1/23)
وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:1-2].
المعنى الثاني: إن الإنسان إذا هوى شيئًا حسنًا مهما كان حسنه عاقبته: الإثم وزوال النعمة التي هو فيها؛ بالمعاصي فالمعاصي سبب زوال النعم، وافتكر في منتهى ما أنت تهواه من ملاذ المحرمات، مهما كان حسنه في الدنيا أولًا: غايته الزوال، ثانيًا: غايته الفتنة، ثالثًا: غايته سوء حالك والضرر الحاصل عليك والله المستعان.
قال رحمه الله:
واهجُرِ الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً ... كيفَ يسعى في جُنونٍ مَنْ عَقَلْ
هذه نصيحة ثمينة من هذا الإمام بترك الخمر، والبعد عنه، من كان قد اقترفه يتركه، ومن لم يقترفه يبتعد منه أكثر كما أمر الله بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
فمن أسباب الفلاح اجتناب الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فإنها رجس، وإنها من عمل الشيطان، كل هذه الثلاث من عمل الشيطان، ومن لم يأخذ بوصية الله في هذه الآية لا يفلح، لا يفلح في إيمانه، ولا يفلح في أخلاقه، ولا يفلح في عقله، ولا يفلح في صحته فقد ثبت عن النبي ? »لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن«.
حتى وإن كان مؤمنًا قبل شرب الخمر فإنه في حال شربه يضعف إيمانه جدًا، وضعف الإيمان من أسباب أضرار كثيرة على القلب وعلى الحياة كلها.
وشاربو الخمر ومروجوها ملاعين، بنص الوحي المبين، وقد لعن النبي ? في الخمر عشرة:(1/24)
قال الإمام الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ، قَال: سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ? فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ، وهو حديث حسن.
شارب الخمر ما يفلح في صحته، وهو يظن أنه يصح وهذا باطل؛ فقد روى مسلم في «صحيحه» من حديث طارق بن سويد رضي الله عنه أنه سأل النبي ? عن الخمر فنهاه، قال: إنما أصنعها للدواء، قال: «إنه ليس بدواء، ولكنه داء»، وكثيرًا ممن يشربون الخمور يبتلون بأضرار في الكبد.
وهكذا ما يفلح في عقله يصير مثل الأبله مجنون إذا شرب الخمر فهو مجنون، خاصة بعد الطفح، قال علي بن أبي طالب: كانت لي شارف(1) من نصيبي من المغنم يوم بدر، وكان رسول الله ? أعطاني شارفًا من الخمس يومئذ؛ فلما أردت أن أبتني(2) بفاطمة بنت رسول الله ? واعدت رجلًا صواغًا من بني قينقاع أن يرتحل معي فنأتي بإذخر، أردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي، فبينا أنا أجمع لشارفي متاعًا من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاي مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت حين جمعت ما جمعت، فإذا بشارفي قد اجتبت(3) أسنمتهما، وبقرت خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر، فقلت: من فعل هذا ؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب، وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار غنته قينة(4) وأصحابه، فقالت في غنائها: ألا ياحمز للشرف النواء
__________
(1) الشارف: المسنة من النوق.
(2) الإبتناء الدخول بالزوجة.
(3) أي قطعت.
(4) الأمة المغنية.(1/25)
فوثب إلى السيف، فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما، قال علي: فانطلقت حتى أدخل على رسول الله ? وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله ? الذي لقيت، فقال رسول الله ?: »مالك؟« قال: قلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وها هو ذا في بيت معه شرب، فدعا رسول الله ? بردائه فارتداه، ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذي فيه حمزة فاستأذن فأذن له، فإذا هم شرب فطفق رسول الله ? يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر حمزة إلى رسول الله ? ثم صعد النظر، فنظر إلى ركبتيه ثم صعد النظر، فنظر إلى سرته ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟.
فيصير الشارب الذي قد طفح مثل المجنون، قد يقع على أمه وعلى أخته، وعلى بنته.
(كيف يسعى في جنون من عقل)؟ شارب الخمر: لا تسعد معه امرأته، ولا يسعد معه أبناءه، ولا يجد لذة الحياة هو نفسه ما يجدها؛ تارة يضارب هذا، وتارة يهينه هذا وتارة يصير من أنذل الناس، ويطغى حتى ربما من كثرة الطفح يظن أنه سيدفع العمارة، أخبرنا بعض إخواننا أنهم رأوا واحدًا سكرانًا وقد الصق دبره في العمارة ويقول: دفوا دفوا.(1/26)
فالذي قد طفح عليه السكر مجنون، سائر أحكام المجانين تنطبق عليه على الصحيح من أقوال أهل العلم، كما في »سبل السلام« للصنعاني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90-91] في هذه الآية تحذير شديد عن الخمر والميسر، قال ابن الأثير في »النهاية«: وكل شيء فيه قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.
والأنصاب: حجارة كان الجاهلية ينصبونها أصنامًا فيعبدونها.
والأزلام: هي قداح مكتوب عل بعضها افعل، والآخر لا تفعل، وكان الرجل من أهل الجاهلية يضعها في وعاء له فإذا أراد سفرًا أو زواجًا أو أمرًا مهمًا أدخل يده فأخرج منها زلمًا، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النهي كف عنه ولم يفعله، كما في »النهاية« لابن الأثير، كل هذه رجس من عمل الشيطان.
ومن أضرارها إيقاع العداوة بين المسلمين؛ شارب الخمر قد يقتل نفسًا بريئة، والميسر أيضًا والأنصاب والأزلام تراهم ربما ما يقومون إلا وقد تخاصموا، وتضاربوا، وتشاتموا، واعتدى بعضهم على بعض.
وشارب الخمر ما تقبل صلاته أربعون يومًا؛ كما ثبت ذلك عن النبي ? من حديث عبد الله بن عمرو كيف إذا مات على هذه الحال؟ يموت و صلاته غير مقبولة.
وقد ثبت حديث في الأمر بقتله في الرابعة عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر ومعاوية وأبو هريرة وديلم الحميري أن النبي ? قال: »إذا شرب فاضربوه، ثم إذا شرب فضربوه، ثم إذا شرب فاضربوه، ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه«.(1/27)
لكن قوله: »وإذا شرب الرابعة فقتلوه« القتل في الرابعة منسوخ؛ بدليل أنه كان يؤتى بذلك قال بعضهم: لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فقال رسول الله ?: »لا تلعنوه لا تعينوا عليه الشيطان« كلمة ما أكثر ما يؤتى بك تدل على أنه كان يؤتى به كثيرًا، ولهذا كان الحد عليه الجلد.
ومهما تكرر منه شرب الخمر فإنه يجلد أربعون جلدة جلد النبي ? في الخمر أربعين جلده، وجلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الخمر ثمانين جلده، وجلد على في الخمر أربعين جلده، يجوز هذا وهذا، من جلد أربعين فهذه سنة رسول الله ?، ومن جلد ثمانين لاينكر عليه؛ لأن هذا عليه جماهير أهل العلم وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما علمتم، والأولى الأخذ بسنة رسول الله ? لقول النبي ?: «ألا وإن خير الهدي هدي محمد رسول الله» والحديث في مسلم، ويجلد حدًا له وزجرًا أمام الناس، والناس ينظرون حتى ينزجر عن المنكر هو ومثله.
ومن ملحقات الخمر الكالونية فإنهم قد علموا فيها أضرارًا وعلموا أنها إذا أضيف إليه شيء آخر صارت مسكره، فتجتنب بيعًا، وشراءً، واستعمالًا.
ومن هذا الباب أيضًا: القات ففيه أضرار دينية ودنيوية، فمن أضراره تضييع الأموال والأوقات، وتخدير آكله، وإضعافه لاقتصاد البلد، وفيه أضرار بالصحة، وهو من أسباب: الرشوة والسرقة والكذب والغش عند كثير من الفقراء الذين قد أدمنوا عليه وغير ذلك من المحاذير الدالة على تحريمه التي قد ألف فيها أهل العلم بحوثًا وكتبًا مستقلة.
قال رحمه الله:
واتَّقِ اللهَ فتقوى الله ما ... جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ
هذه وصية بتقوى الله، ما أعظمها من وصيه، هي وصية الله للأولين والآخرين قال الله عزوجل في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].(1/28)
وأوصى بذلك رسول الله ? كما ثبت في حديث أبي أمامة في خطبة النبي ? بمنى قال: »اتقوا الله ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وحجوا بيت ربكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم«.
وثبت من حديث العرباض بن سارية قال ?: »أوصيكم بتقوى الله، والسمع، والطاعة، و أن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، و إياكم و محدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، و كل بدعة ضلالة« حديث حسن.
وقد أوصى الله نبيه بذلك وهو إمام المتقين قال الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:1-2].
وأوصى الله بها المؤمنين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
فانظر على فوائد تترتب على تقوى الله عزوجل كما في هذه الأية وغيرها يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18-19].(1/29)
من جاورت التقوى قلبه جعل الله له من كل همٍ فرجا، ومن كل ضيقٍ مخرجا، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2-3].
من جاورت التقوى في قلبه جعل الله له بذلك فرقانًا بين الحق والباطل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
من جاورت التقوى قلبه جعل الله له بذلك نورًا وبصيرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
من جاورت التقوى قلبه فاز وأفلح قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:52] وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189].(1/30)
ومن جاورت التقوى قلبه دفع الله عنه كيد الأعداء قال تعال: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120].
من جاورت التقوى قلبه نصره الله على أعداءه قال تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125].
من جاورت التقوى قلبه كان أكرم الناس عند الله عز وجل، لحديث: مِن أكرم الناس يا رسول الله؟ قال: »أتقاهم«، في »الصحيحين« عن أبي هريرة ط، وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
من جاورت التقوى قلبه كان الله معه قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:126-128].
من جاورت التقوى قلبه كان من أحباب الله قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76]، وقال رسول الله ?: »إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي«. عن سعد بن أبي وقاص رواه مسلم.(1/31)
من جاورت التقوى قلبه عاش في سعادة قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقوله: (إلا وصل) يصل بإذن الله ويجاوز الصراط، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72].
وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا} إلى آخر الآيات [النبأ:31-35].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55-54].
وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:51-53].
أي إنسان تراه متقيًا لله سبحانه وتعالى فقد جعل بينه وبين الله عزوجل وقاية من عذاب الله بطاعته قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35] ذكر ابن كثير رحمه الله عليه في أول سورة البقرة بيتًا عن النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
أي جعلت بينها وبينهم وقاية مما تكره، فالتقوى تعريفها: أن تجعل بينك وبين الله وقاية من عذابه بطاعته سبحانه وتعالى، فمن كان على ذلك جاورت التقوى في سره وفي جهاره، وظاهره وباطنه، وفي ليله وفي نهاره، وفي سائر حياته فهو واصل ٌ إن شاء الله إلى كل خير في الدنيا والأخرى.
وقوله رحمه الله:(1/32)
ليسَ منْ يقطعُ طُرقاً بَطلاً ... إنما منْ يتَّقي الله البَطَلْ
من أين له البطولة الذي يقطع الطرق؟ معناه أنه قاطع طريق ظالم؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33] الآيات، نعم، ما هذه بطوله.
وثبت عن النبي ? قال: »ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب« أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
الظلم ليس بطولة، والتقطع في الطرقات ليس ببطولة، وأكل أموال الناس ليس ببطولة، إنما في أفهام الجهلة بعضهم يعلم أبناءه ويربي أبناءه على الغشامة وعلى الظلم وعلى الاعتداء وعلى البطش، وعلى الكبر وهذا ليس ببطولة؛ إنما هو والله رذالة وضعف وخسة في الدنيا والآخرة نسأل الله العافية.
إنما من يتق الله هو البطل؛ هذا الذي يملك نفسه عند الفتن، ويدفع بها إلى طاعة الله بقدر مستطاعه، هذا الذي يتق في أهله وماله، فى جاره، في أخيه، في القريب، في البعيد هذا هو البطل، هذا الذي يثني عليه، هذا الذي يذكر بخير في حياته وبعد موته.
رب إنسان تجده ظالمًا غاشمًا بطاشًا، وضعيفًا جبانًا في قتال الكافرين وأمام الشيطان وأمام الفتن ضعيفًا هزيلًا ما يثبت قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(1/33)
وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ذلك من عند الله وبتوفيقه، وليس مجرد بطولة وشجاعة بغير تقوى الله عزوجل، فما هذا بطل إنما هو ضعيف ركيك، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس:27].
وانظر إلى الذين كانوا يظهرون البطولات؛ مثل فرعون، وهامان، وقارون أولئك الذي ذكرهم الله في كتابه الكريم، ومضت سيرتهم السوداء، كيف كانوا رذالة، وكيف ذمهم الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم ما اتقوا الله عزوجل.
قال رحمه الله:
صدِّقِ الشَّرعَ ولا تركنْ إلى ... رجلٍ يرصد [في] الليل زُحلْ
(صدق الشرع) معنى ذلك خذ بالكتاب والسنة، واعتمد على ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله ?، فالله قد أمر بذلك قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
وقال سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
وقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].(1/34)
وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
وتكذيب الشرع كفر، من لم يصدق الحديث الثابت أو جحد آية واحدة، أو حرفًا واحدًا من كتاب الله كفر؛ قال الله عزوجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:32-34].
وقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28].
ومن رضوان الله إتباع شريعة الله، ومن أعرض أعرض الله عنه كما في »الصحيحين« من حديث أبي واقد الليثي عن النبي ?، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124-126].
صدق الشر ع فيما جاءه به من أحكام؛ قال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
ومن غيب، قال الله تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس:20].(1/35)
ومن قدر قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11] وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
صدق الشرع في كل ما أمرت به، وفي كل ما نهيت عنه، واجتنب قول الخراصين والكهان؛ والمنجمين ولا تركن إليهم فالركون إليهم ركون إلى الظلمة قال الله عزوجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} [هود:113].
تصديق الكذابين يعتبر جناية على الدين فهؤلاء المنجمون كذابون سحره؛ ثبت من حديث ابن عباس ط عند أبي داود، وأحمد وغيره عن النبي ? قال: »من اقتبس علمًا من النجوم؛ اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد« كل ما زاد في التنجيم زاد في السحر، فالمنجم ساحر؛ يرصد في الليل ويستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، والنجوم لم تخلق لذلك، إنما خلقت لما ذكرها الله فقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5].
وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16].
في هذه الآيات أن الله عزوجل خلق الله النجوم لثلاثة أشياء كما قال قتادة رحمه الله: فيما ذكر عنه الإمام البخاري في »صحيحه« خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن قال فيهن غير ذلك فقد أخطاء وأضاع نصيبه وقال مالا علم له.(1/36)
المنجم يأتي بحروف مقطعة ثم يقول: الحاء يساوي كذا حرفًا، والجيم يساوي كذا حرفًا، ثم يجمعها ثم يقول: أنت نجمك السرطان نسأل الله العافية، ويقول للآخر نجمك الثور، والأخر نجمك الجدي، والأخر نجمه العقرب.
وقد عرفت حكمه وأنه سحر والساحر يعتبر كافرًا بنص قول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102] وقد قال ?: »من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد«.
والساحر عنده تكهن فيما يتعلق بالأمور الغيبية، فلقد كثر شر المنجمين والسَّحرة في البلاد اليمنية وغيرها، يجب الإنكار عليهم والتحذير منهم، وأن يربط الناس بشرع الله، ويحثوا على الاعتماد على الله، وأن يحذر من هؤلاء الخونة الذين بعضهم إذا أراد أن يتزوج يذهب للكاهن أو المنجم يقول له: انتظر الآن ساعة فلك لا تعقد ولا تذهب بأهلك إلى بيتك هذه الساعة، ويبقى يراقب النجم ويراقب القمر كل هذا ضلال وعقائد تتعارض مع التوكل على الله سبحانه، وهو القائل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23](1/37)
وفي »الصحيحين« من حديث زيد بن خالد الجهني ط في قال صلى بنا رسول الله ? صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: »هل تدرون ماذا قال ربكم؟« قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: »قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب«.
النجوم: مخلوقه لشيء أراده الله سبحانه وتعالى، والاستسقاء بها شأن الجاهلية، ثبت في »صحيح مسلم« من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي ? قال: »أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم«، دل هذا على أن الاستسقاء بالنجوم وما يفعله كثير من المنجمون من أمور الجاهلية.
وبالمناسبة فإنه يجب على المسلمين البعد والحذر من كتب الدجل والسحر والتنجيم والشعوذة التي منها: «شمس المعارف» لأحمد بن علي بن يوسف البوني الضليل، الذي ألف كتبًا كثيرة في السحر، وانظر «كشف الظنون» (4/88)، وكتاب أبي معشر الفلكي في التنجيم وكتاب «الرحمة في الطب والحكمة» لمهدي بن إبراهيم الصبيري وقد نسب للسيوطي وليس بصحيح، وكتاب «الدر المنظوم في الطلاسم والنجوم» للكشفاوي، وكتاب «المندل السليماني» وأمثال هذه الكتب الخرافية الشركية التي تنضح بالكفر الصراح فتحريقها إزالة منكر وإراحة من استطارة شرها.
قال رحمه الله:
حارتِ الأفكارُ في حكمةِ مَنْ ... قد هدانا سبْلنا عزَّ وجَلْ
وفي بعض النسخ: (في قدرة من) والصواب: (في حكمة من)(1/38)
هذا البيت عقب البيت الذي قبله؛ في النظر في النجوم من أن حكمة الله سبحانه وتعالى لا تدرك لمجرد النظر في النجوم، ولا يبالى ولا يجوز الإلتفات إلى أقوال المنجمين، فلله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة قال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149].
وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220].
فالله يعلم ما لا يعلمه العباد، وما لا يمكن لهم علمه، وعلى العبد الاستسلام، فمن رام علم ما حضر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصحيح المعرفة، وصريح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسًا تائهًا شاكًا، لا مؤمنًا مصدقًا، ولا جاحدًا مكذبًا، كما في »العقيدة الطحاوية«.
ولاشك أن الشرع شرع لحكمة الله، وأن الله ما خلق الكون إلا لحكمة، وقد نعلمها وقد لا نعلمها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ} [ص:27].
الذي يعتقد أن الله خلق هذه الشجرة، أو هذا الحجر، أو هذا المدر، أو هذا الإنسان وهذا الحيوان، عبثًا لغير حكمة هذا كفر؛ تكذيب بآيات الله الكونية وتكذيب بالحق والله يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38-39].
ولو أراد إنسان أن ينظر إلى الحكمة في طول أُذن الحمار عن أذن الجمل، لا يستطيع أن يعرف الحكمة في ذلك.(1/39)
ولو أراد الإنسان أن يعرف ما الحكمة في جعل أربعين من الغنم فيها شاه، والثمانين فيها شاة، إلى بعد تجاوز المائة والعشرين لو عاد الإنسان إلى مجرد عقله ما يستطيع أن يعرف حكمة ذلك، هذا متوقف على الشرع.
إذا نظر الإنسان إلى الحكمة من مسح ظاهر قدميه وإنما باطن القدمين الذي يمس التراب ويمسح ظاهر القدمين قال علي: (ولو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن القدمين أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله ? يمسح على ظاهرهما) وكم من أمور لا يستطيع أن يصل الإنسان إلى الحكمة، ولله فيها حكمة نحن نجهلها.
ولا يجوز أن يظن أن ما فيها لله حكمة، ولكن نقول: لله حكمه في ذلك لا نعلمها، وما سُمينا مسلمين؛ إلاّ للاستسلام: فالإسلام هو الاستسلام والانقياد لله بالتوحيد وبسائر العبادة قال تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:11-12].
فالذين تخبطوا بالخوض بالحكمة والتعليل؛ مثل علماء الكلام وقعوا في الضلال والحيرة، وما أحسن قول الزهري: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، هذا كلام نفيس من علماء السلف، أما أولئك يقرر المقدمة بالليل وينقضها بالنهار حتى قال بعضهم:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ثم قال: يثني على علم الكتاب والسنة:(1/40)
اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر:10] وفي النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] علم ميسر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فصاروا مثل الخفافيش؛ ما يبرزون للعلم الصحيح كما قال بعضهم:
خفافيش أخفاها النهار بضوئه ... ولائمها قطع من الليل باديا
فصالت وجالت حتى إذا ... النهار بدأ استخفيت وأعطت تواريا
فالشاهد من ذلك: أن علماء الكلام ضلوا بعدم الانقياد، ولنا عبرة جمعيًا بالذين يلتمسون الرخص من العلماء في مسألة تصوير ذوات الأرواح، ومسألة الانتخابات والديمقراطية ونحوها، ولو أنهم أخذوا بالدليل لسلموا من هذه الفتن والتخبطات بإذن الله عز وجل، والذي أفتاهم لو رجع عن تلك الفتوى ما رجعوا في تصوير ذوات الأرواح أو غيرها، وإنما تلمسوا الرخص، عدم انقياد للحق، سائر أهل الأهواء أُتوا من قبيل ضعف الاستسلام والانقياد للدليل الحق.
وقوله: (قد هدانا سبلنا عزوجل) الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي العباد سبيلهم؛ سواءً كانت سبل هداية، أو سبل المعاش؛ من الذي علمك تأكل وتشرب وتزرع وتحرث وتتاجر وتكتسب؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي هداك إلى ذلك قال عزوجل: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
هدى حتى الخروف كيف يرضع من ثدي أمه؛ يخرج ولا تدري إلا هو يدور برأسه يريد الثدي، وسائر الحيونات هذه هداية من الله سبحانه وتعالى.
والإنسان من الذي هداه من أدنى الأمور إلى مستوى صناعة الطيارات تحمل أمة من الناس، وتلك البواخر التي هي عبارة عن مدن في البحار، كل هذه هداية من الله سبحانه وتعالى يشترك فيها البر والفاجر.
أما الهداية التوفقيه: من الله سبحانه وتعالى فهي للمؤمنين {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس:9].(1/41)
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
وقال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
وقد أرسل الله رسلًا ويسر نذرًا يدعون الناس ويهدي بهم إليه من أراد توفيقه، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، أي تدل الناس وتدعوهم إلى صراط مستقيم.
وقوله: (سبلنا) طرقنا الذي نستفيد منها.
السبيل: هو الطريق؛ كيف يعيش، كيف يأكل، كيف يعبد الله عزوجل وكل هداية بحسبها.
فله الفضل والمنة {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53]
وما أحسن ما قيل:
إذا كان شكر في نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلاّ بفضله ... ولو طالت الأيام واتصل العمر
وقال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
وأخرج البخاري وبنحوه في مسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: كان النبي ? ينقل التراب يوم الخندق حتى غمر بطنه، وهو يترجز برجز عبد الله بن رواحة يقول:
والله لولا الله ما اهدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ورفع بها صوته: أبينا أبينا.
قال ابن الوردي رحمه الله:
كُتبَ الموت على الخَلقِ فكمْ ... فَلَّ من [جيشٍ](1) وأفنى من دُوَلْ
أينَ نمرودُ وكنعانُ ومنْ ... مَلَكَ الأرضَ وولَّى وعَزَلْ
أين عادٌ أين فرعونُ ومن ... رفعَ الأهرامَ من يسمعْ يَخَلْ
__________
(1) في نسخة (ش) جمع.(1/42)
أينَ من [سادوا وشادوا](1) وبَنَوا ... هَلَكَ الكلُّ [ولم](2) تُغنِ القُلَلْ
أينَ أربابُ الحِجَى أهلُ النُّهى ... أينَ أهلُ العلمِ والقومُ الأوَلْ
سيُعيدُ الله كلاً منهمُ ... وسيَجزي فاعلاً ما قد فَعَلْ
هذه الأبيات فيها تذكير بليغ عظيم بالموت، وبما قد حصل فيمن مضى.
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
وقال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26].
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27].
وقال تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
وقال عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9-11].
__________
(1) في نسخة (ش) أين من شادوا وسادوا.
(2) في نسختي (م، ش) فلم.(1/43)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:33-34].
ويقول الله عزوجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:12-17].
وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30-31].
وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].(1/44)
وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].
ويقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:99-104] إلى آخر الآيات.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36-40].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11].(1/45)
ويقول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ومن حديث أبي عزة يسار بن عبد، عن النبي ? قال: »إن الله إذا أراد قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة« وقد ذكر المناوي رحمه الله عند هذا الحديث في »فيض القدير« أبياتًا طبية:
مشيناها خطًا كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطًا مشاها
وأرزاقٌ لنا متفرقات ... فمن لم تأته مشيًا أتاها
ومن كانت منيته بأرضٍ ... فليس يموت في أرضٍ سواها
كل الناس يموتون؛ من الإنس والجن؛ والملوك والرؤساء وفطاحل العلماء وحذاق الأطباء.
ذكر في ترجمة سنان بن ثابت الطبيب رحمه الله أنه لما مات قيل في رثائه:
قل للذي صنع الدواء بكفه ... أترد مقدورًا عليك قد جرى
مات المداوي والمداوى والذي ... صنع الدواء بكفه ومن اشترى
{يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
وقال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إذا كان الموت حق؛ فانتبه على أي حالٍ تموت؛ قدم لنفسك عملًا صالحًا لا يلهيك التكاثر فقد هدد الله اللاهين بذلك قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2] قدم لنفسك، لا تكن كمن قال تعالى عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].(1/46)
وقال عنهم: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]. داوم على الطاعة
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
فأنت ستموت، لكن على أي حال تموت؟ حاول أنك تستقيم على كتاب الله وسنة رسول الله ? في كل كبيرة وصغيرة؛ فعسى الله أن يتوفاك على الإسلام الحق والسنة الصحيحة؛ وهذه مكرمة من مات على التوحيد وعلى السنة وعلى طلب العلم.
* أينَ نمرودُ وكنعانُ ومنْ ... مَلَكَ الأرضَ وولَّى وعَزَلْ
قوله: (أين نمرود) نمرود بالدال والذال، كما يذكر المفسرون، وذكر ابن كثير في »البداية والنهاية« في المجلد الأول، أنه الذي كان في زمن إبراهيم عليه السلام وحاج إبراهيم في ربه، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، نمرود هذا كان مدعيًا للربوبية، وقد نص القرآن على كفره وظلمه قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
أين هو الآن؟ تحت أطباق الثرى، ويأتيه سموم ولفحات نار اللظى، فماذا أغنى عنه مقامه بحطام من الدنيا؟ انقرض ومضى، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].(1/47)
وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
ويقول الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:24-25].
وقال سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:45-46].
وقال سبحانه وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].(1/48)
كم مات أناس من لدن خلق الله سبحانه وتعالى البرية على أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال الله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103] {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:104-105]
قوله وكنعان: هو أحد أحفاد سام بن نوح.
أين عادٍ الأولى؟ قال ابن كثير في «البداية والنهاية» (1/282): عاد الأولى كانوا عربًا يسكنون الأحقاف؛ وهي جبال الرمل، وكانت باليمن من عمان وحضرموت، بأرض مطلة على البحر، يقال لها: الشحر، واسم واديهم مغيث، وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، أي: عاد إرم، وهم عاد الأولى.
وأما عاد الثانية: فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه، وأما عاد الأولى فهم عاد {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7-8]، أي مثل القبيلة وقيل مثل العمد والصحيح الأول كما بيناه في «التفسير».
ومن زعم أن ارم مدينة تدور في الأرض فتارة في الشام، وتارة في اليمن، وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه...(1/49)
والمقصود أن عادا وهم عاد الأولى كانوا من عبد الأصنام بعد الطوفان، وكان أصنامهم ثلاثة: صدا، وصمودا، وهرا، فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام، فدعاهم إلى الله كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:65-72] اهـ. من «البداية والنهاية».(1/50)
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:21-25].
قال ابن كثير في البداية والنهاية (1/294): وقد ذكر المفسرون وغيرهم ههنا الخبر الذي ذكره الإمام محمد بن إسحق بن بشار، قال: فلما أبو إلا الكفر بالله عز وجل، أمسك عنهم المطر ثلاث سنين، حتى جهدهم ذلك. قال: وكان الناس إذ أجهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج منه، إنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته، وكان معروفًا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له: معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد، واسمها جلهدة ابنة الخيبري، قال: فبعث عاد وفدًا قريبًا من سبعين رجلًا ليستقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، تغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية- وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده، وأخذته شفقة على قومه، واستحيى منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعرًا يعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به، فقال:(1/51)
ألا يا قيل ويحك قم فهيم ... لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادًا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عياما
وإن الوحش يأتيهم جهارا ... ولا يخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما
قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم، وهو قيل ابن عتر، فأنشأ الله سحابات ثلاثا؛ بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب، فقال: اخترت السحابة السوداء؛ فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه منادٍ: اخترت رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدًا، لا والدا تترك ولا ولدًا، إلا جعلته همدًا، إلا بني اللوذية الهمدا، قال: وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم.(1/52)
قال: ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة، قال وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل ابن عتر، بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له: المغيث، فلما رأوها استبشروا، وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:24-25]، أي: كل شيء أمرت به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها: مهد، فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا: ما رأيت يا مهد؟ قالت: رأيت ريحًا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة:7]، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك، قال: واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي، في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود، ويلتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وذكر تمام القصة.(1/53)
وقد روى الإمام أحمد حديثا في «مسنده» يشبه هذه القصة، فقال: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الْمُنْذِرِ سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْبَكْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ? فَمَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ? حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ؟ قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ، وَبِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ?، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا، قَالَ: فَجَلَسْتُ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، أَوْ قَالَ: رَحْلَهُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: «هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ شَيْءٌ؟» قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَكَانَتْ لَنَا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، وَهَا هِيَ بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ حَاجِزًا فَاجْعَلْ الدَّهْنَاءَ، فَحَمِيَتْ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِلَى أَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّمَا مَثَلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: مِعْزَاءُ حَمَلَتْ حَتْفَهَا؛ حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا(1/54)
كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: «هِيهْ، وَمَا وَافِدُ عَادٍ؟»، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ، قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قَحَطُوا، فَبَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيْلٌ، فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا: الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ جِبَالَ تِهَامَةَ، فَنَادَى: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ فَنُودِيَ مِنْهَا: اخْتَرْ، فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ، فَنُودِيَ مِنْهَا خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا، لَا تُبْقِ مِنْ عَادٍ أَحَدًا، قَالَ: فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِمْ مِنْ الرِّيحِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَجْرِي فِي خَاتِمِي هَذَا، حَتَّى هَلَكُوا، قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَصَدَقَ، قَالَ: فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَافِدًا لَهُمْ قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ.
وهكذا رواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به.
ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر، عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجه، وهكذا أورد هذا الحديث، وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين، كابن جرير وغيره(1). اهـ من «البداية والنهاية».
قلت: وليس فيه ولا في غيره من الأدلة الماضية ما ينص على ثبات عاد الثانية.
__________
(1) وهو حديث حسن.(1/55)
بل في سياق آية الأحقاف دليل أنهم عاد الأولى الذين بالأحقاف والنص فيها قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف:25-25].
وهذه الآية نظيرها ما ذكره الله عنهم بقوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:6-7].
وفي حديث الحارث بن حسان البكري قال ابن عبدالبر في «الاستيعاب» (1/350): اختلف في حديثه.
قلت: وعلى القول بتحسينه فيه تأييد لما دلت عليه الآيات من قوله: فمرت سحابات سود فنودي خذها رمادًا رمددًا، وذكر أنه لم يرسل عليهم من الريح إلا قدر هذه الحلقة يعني حلقة الخاتم ثم قرأ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41-42]، فلا مكلف إلى القول بإثبات عاد الثانية على قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم:50]، فإن الأولى صفة كاشفة من باب قول الله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38]، فقوله: {بِجَنَاحَيْهِ} صفة مبينه أن الطائر يطير بهما.
{(1/56)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 50-58].
وقال الله سبحانه وتعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:1-2] وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2].
وقال الله سبحانه: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:6] وقال الله سبحانه: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:15-16]، كم ذكر الله من عاد الأولى كلهم أهلكهم الله.(1/57)
وأين فرعون الذي قال الله عنه: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:23-25]، ادعى الربوبية، ولما أغرقه الله قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الله له: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:91-92].
أين من سادوا وشيدوا البناء؟ (هلك الكل ولم تغن ِ القلل) هلكوا جميعًا ما أغنت القلل والعمائر الكبيرة، والضخامات، سواءٌ أهل سبأ، أو عاد أو غيرهم ما أغنت عنهم؟ قال الله تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:28-31].
* أينَ أربابُ الحِجَى أهلُ النُّهى ... أينَ أهلُ العلمِ والقومُ الأوَلْ
بعد أن ذكر الجبابرة والمتكبرين وأنهم أهلكهم الله بذنوبهم، ذكر العلماء وسادة الفضلاء؛ من أهل الدين أهل العقول الواعية؛ من الأنبياء والصلحاء، عالمًا بعد عالم وصالحًا بعد صالح.
أخرج البخاري في »صحيحه« من حديث مرداس الأسلمي ط أن النبي ? قال: »يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حثالة كحثالة الشعير والتمر لا يباليهم الله باله«.
وقال: »إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له«، رواه مسلم، عن أبي هريرة.(1/58)
وقال رسول الله ?: »يتبع الميت ثلاثة أهله وماله وعمله فيرجع اثنان أهله وماله ويبقى واحد عمله«، متفق عليه من حديث أنس.
* سيُعيدُ الله كلاً منهمُ ... وسيَجزي فاعلاً ما قد فَعَلْ
هذا البيت يقرر المعاد، والبعث، والنشور، والحساب، والجزاء على ما جاءت به الأدلة، في كتابة الكريم، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].
وقال سبحانه وتعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53].
وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42-46].
ويقول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115-116].(1/59)
وقال الله سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36-40].
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15-16].
وقال عزوجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8].
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وقال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:7-15] يحور يعني (إلا يرجع ) {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25].(1/60)
وقال الله سبحانه وتعالى في كتابة الكريم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77-80].
وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93-95].
هذه الأدلة: فيها وجوب الإيمان بالبعث، والحساب والعقاب والميزان، كل ذلك يجب الإيمان به، والجزاء؛ جزاء الكافرين النار، وجزاء المؤمنين الجنة قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] إلى آخر الآيات.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:36-37].
سؤال: هل الكفار والشياطين يمرون على الصراط أم لا؟.
الجواب لا، ماذا تقول في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72].(1/61)
هذا معناه: أنهم يمرون على الصراط فيسقطون، وأيضًا: حديث أبي هريرة ط، وعلى جنبي الصراط حسك، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به؛ فمخدوش ناج، ومكردس على وجهه في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفا. رواه مسلم، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. والظلم هنا: بمعنى الكفر.
وعن الحارث الأشعري ، قال: قال رسول الله ?: »ومن دعا بدعوى الجاهلية؛ فهو من جثى جهنم، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم«.
يدل على أن جثى جهنم هم أهل الجاهلية يمرون ويسقطون، والمنافقون الإعتقاديون كذلك في جهنم يقول الله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء:145].
شيخ الإسلام في »التفسير الكبير« يرى أنهم عند بداء مرورهم يسقطون، وأما بعض أهل العلم: فيرى أنهم ما يمرون البتة لا قليلًا ولا كثيرًا لقول الله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] هذا من نظير هذا، فليس فيه أنهم يساقون ولا يمرون شيئًا ما على الصراط، فما وضع الصراط إلا ليمروا عليه، يمر عليه المؤمنون على قدر أعمالهم، ومن لا عمل له ما يمر عليه باعتبار أنه إذا أراد أن يمر يسقط، وراجع تفسير شيخ الإسلام عند هذه الآية.
قال الناظم رحمه الله:
إيْ بُنيَّ اسمعْ وصايا جَمعتْ ... حِكماً خُصَّتْ بها خيرُ المِللْ(1/62)
قوله: (أي بني) هذا مما بوب عليه الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتاب الأدب من »صحيح مسلم« رحمه الله، قال: (باب قول الرجل يا بني) وذكر أن النبي ? قال لأنس: »يا بني« وقال للمغيرة: »أي بني« لا ينكر فيقال كيف صار ابنك؟ هذا من باب الملاطفة لابأس به.
كذلك يجوز أن يقول الصغير للكبير: (أي عم) كما قال معاذ ومعوذ لعبدالرحمن بن عوف: أي عم أين أبو جهل؟، فأشار لهم إلى أبي جهل) ولا يزال الناس على هذا العمل؛ الكبير يقول للصغير يا أبني أو يا ولدي أو يا بني دون نكير، ويقول لمن في سنه: يا أخي، وهذا من الأدب، التخاطب بذلك مشروع، لا اعتمادًا على حديث لا تنسانا يا أخي من دعائك، فأنه حديث عن عمر، وفيه: عاصم بن عبيد الله المدني؛ ضعيف، ولكن في الباب أدلة كثيرة، ومنها قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وهذه الوصايا سيمر عليها، وما قد ذكره في أول منظومته إلى هذا الموضع عبارة عن تمهيد للوصايا الآتية، والآن يشرع في عدة وصايا، ومنها: الوصية بطلب العلم، والوصية تكون قبل الموت في حالة الصحة، وتكون في مرض الموت، لقول الله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ولقول الني ?: »ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه: يبيت ليلتين، إلا ووصية مكتوبة عند رأسه«، متفق عليه.
فإن كان له شيء، أو عليه شيء لزمته الوصية عند المرض المفجع، وإن لم يكن له ولا عليه فالوصية في حقه ليست واجبه، وبقي التواصي بالخير يجب على المسلم أن يوصي بالخير، وأن يحذر من الشر في سائر حياته.(1/63)
وقوله: (حكمًا) ليس المقصود سننًا الحكمة تأتي بمعنى السنة، وبمعنى وضع الشيء في موضعه فقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:48] أي الكتاب والسنة، وإذا أُفردت الحكمة قد يراد بها وضع الشيء في موضعه، وإذا اجتمعت الحكمة مع الكتاب فالمراد بها: السنة، ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة فمعنى قول ابن الوردي جمعت حكمًا أي نصائح وتوجيهات ومواعظ وعبر في مواضعها ومحلها اللائق بها.
وأشار إلى فضل هذه الأمة وهذه الملة؛ بقوله: (خصت بها خير الملل) والله عزوجل يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] وفي الحديث: »ليس أمة تننظر الصلاة غيركم«، والله يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ? قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وجاء عند ابن ماجة بسند صحيح من حديث ابن عباس مرفوعًا بلفظ: «نحن آخر الأمم وأول من يحاسب يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون» وصح عند الترمذي من حديث رجل من الصحابة رضي الله عنهم أن رسول الله ? قال: «يدخل الجنة بشفاعة رجل من بني تميم أكثر من بني تميم» فقيل: يا رسول الله سواك قال: «سواي» فلما قام، قلت: من هذا الرجل؟ قالوا: ابن أبي الجدعاء، وصح عند أحمد من حديث الصنابحي أن النبي ? قال: «أنا فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم الأمم».
وثبت عند ابن ماجة من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي ? قال: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم».(1/64)
ومن فضائل هذه الأمة أنهم يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء ثبت عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وقد ذكر هذه الأحاديث شيخنا رحمه الله في «جامعه الصحيح».
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أن رسول الله ? قال: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تبارك وتعالى» أخرجه أحمد وهو حديث صحيح.
قال ?: »أن هذه الأمة أقل عملًا وأكثر أجرًا، فيقول اليهود والنصارى: عملنا كثيرًا وأجرنا قليلًا فيقول الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء« الحديث عن ابن عمر في الصحيح، مع أنها آخر الأمم فهي الشهيدة على سائر الأمم قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
فهذه الأمة أفضل من الأمم الماضية، في الجملة ولا مانع أن يوجد من تلك الأمم بعض الأفراد أفضل من بعض الأفراد في هذه الأمة، وأما خصائص هذه الأمة فتشمل الجملة والأفراد من هذه الأمة، فلا يشاركهم فيها غيرهم.
وما أعْْتنت به هذه الأمة أكثر من غيرها من العلم، فالأمم الماضية فيهم علماء، لكن ما كانت عندهم أسانيد، وما كان لهم من العناية بالعلم الشرعي، كما عند هذه الأمة، قلنا هذا لأن الله قال في كتابه العزيز: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:197].
وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71].
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78].(1/65)
وهكذا حصل فيهم الكذب في علمائهم، والخيانة في علمهم ذهبوا يكذبون على الله ويكتبون الكتابة من عند أنفسهم ويقولون: هذا من عند الله قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159].
ويقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79].
قال رحمه الله:
أطلبُ العِلمَ ولا تكسَلْ فما ... أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكَسَلْ
هذه النصيحة تشمل الحث على طلب العلم والتحذير من الكسل.
وزاد الأمر الثالث: تعليل أَضرار الكسل؛ ومن أضراره إبعاد الإنسان عن الخير، وقد قال رسول الله ?: »يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد؛ يضرب مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان«، ففي هذا الحديث أن الكسل يجر الكسل؛ لما كسل عن القيام والذكر والوضوء جر عليه الكسل والخمول وخبث النفس في النهار.(1/66)
وقد استعاذ النبي ? من الكسل في أكثر من حديث من ذلك حديث زيد بن أرقم »اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها« أخرجه مسلم.
والكسل عن طاعة الله شأن المنافقين؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء:142] وصفهم الله بالكسل، الذي أبعدهم عن الخير؛ قال تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
فعلى المسلم أن يكون كيسًا، وأن يحرص على ما ينفعه كما أرشده رسول الله ? بقوله: »المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص علي ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز؛ فإن أصابك شيء فلا تقل لو فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل« وفي حديث ابن عمر: يا رسول الله أي الناس أكيس؟ قال: »أكثرهم ذكرًا للموت«، وهو حديث حسن.
شأن المؤمن الحزم والكيس، قال ?: »لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين«؛ لكياسته وحذره مما يضره.(1/67)
وقال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال ?: »بادروا بالأعمال« وقال الله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران:133] كل هذا من باب الكيس، والحزم، والحرص على ما ينفع، والحذر مما يضر، ونظير هذا البيت قول الآخر:
أطلب ولا تضجر من مطلب ... فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بتكراره ... في الصخرة الصماء قد أثرا
فاجتهد يا طالب العلم ولا تظن أنك إن طلبت بإخلاص وجد واجتهاد أن الله لن يعطيك من فضله، فالله سبحانه وتعالى يقول: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3] أنت مأمور بالقراءة وربك الأكرم: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:4-5] أتى جبريل إلى النبي ? فقال: »اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ« أي لا أحسن، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].
فهكذا يقال لكل إنسان يقول: كيف أكون عالمًا أو هل ممكن أن أكون عالمًا؟ اقرأ وربك الأكرم، أما أن تتكاسل وتقول: ما أصير عالمًا وأنت كسلان؛ هذا من الفتور ما هو صحيح، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]، فاطلب العلم واجتهد فيه، وحصّله، ومن أعطي العلم كله حصل على بعضه كما قيل:
ما حوى العلم جميعًا أحدٌ ... لا ولو مارسه ألف سنه
إنما العلم كبحرٍ زاخرٍ ... فاتخذ من كل شيء أحسنه
وقال آخر:(1/68)
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة إستاذٍ وطول زمان
هذه وصايا العلماء، العلم ما هو مجرد خطف يخطف له من هنا وهنا، ويريد أن يكون عالمًا، هذا شأن الكسالى والمستعجلين.
لا تتعجل يا أخي، فالإمام أحمد رحمه الله يقول: من المحبرة إلى المقبرة، وإذا تحصلت على مكان تتفرغ فيه لطلب العلم فهذه نعمة، أحب شيء إلى أهل الحديث التفرغ لطلب العلم، فقد سئل ابن معين أي شيء أحب إليك؟ قال: بيت خالي، وإسناد عالي.
وأنا أعتبر طلبة العلم حفظهم الله في هذه الدار أنه تسنى لهم التفرغ؛ يستطيع أن يكون بفضل الله عزوجل إن صدق مع الله واجتهد عالمًا، هذا من فضل الله قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53]، ونسأله المزيد من فضله.
العلم يحتاج إلى حرص، أطلب ولا تضجر، ولا تمل من العلم، فإذا فترت من هذا الكتاب انتقلت إلى هذا الكتاب، وإن فترت من الحفظ رجعت إلى المراجعة، وإن فترت من المراجعة رجعت إلى المطالعة، أنت بحاجة إلى هذا جميعًا، هكذا تستفيد من أخيك؛ كنا ما نمشي إلى المزرعة؛ السكن الذي نحن فيه بحمد الله: إلا ونحن نتذاكر مع إخواننا لربما ما نصل إلا وقد حفظنا أو راجعنا أكثر من عشرة أحاديث من «رياض الصالحين»، وكذلك نتذاكر بعض المسائل مع الإخوان الأفاضل حفظهم الله، وهذا من بركة المشي مع المجتهدين في طلب العلم، إذا مشى اثنان أو ثلاثة ما تشغل نفسك بضياع الأوقات وبما لا يعود عليك بفائدة، فلو سمّعت قرآناً ما تصل إلى المزرعة إلا وقد انتهيت من نحو نصف جزء، وكم في هذه من بركة، أيضًا لا تشغل نفسك بالبنايات كل حين وأنت من بيت إلى بيت، أطلب العلم، وكفى بالعلم رفعة درجات لصاحبة: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].(1/69)
ذكر بعض أهل العلم وهو السيوطي أن عدد درجات الجنة على عدد آيات القرآن، وهذا يحتاج إلى دليل واضح، أما حديث: »يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية«، هذا ليس فيه دليل أنها محدودة بهذا القدر، وما جاء أن الوسيلة والله أعلم هي درجة في الجنة لا تنبغي إلا لواحد قال النبي ?: »وأرجوا أن أكون أنا هو«، فهذا يدل على أنها أكثر من هذا القدر، ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
وأنت أدعوا الله أن يزيدك علمًا: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] فالذي منّ على أنبيائه وعلمهم ما لم يعلموا؛ وعلم آدم الأسماء كلها، قادرٌ أن يعلمك قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
فالخير بيد الله سبحانه وتعالى يرفع القسط ويخفضه فلا يأتينك الهبوط، ورب متأخرٍ يفوق متقدم؛ وانظر إلى تراجم شيخ الإسلام، وتراجم شيوخه، وانظر إلى تراجم الألباني وانظر إلى تراجم شيوخه، وانظر إلى تراجم البخاري وانظر إلى تراجم شيوخه، لا يأتينك الهبوط على أنه ما يمكن أن يكون في زمن متأخر عالم كالمتقدمين، أو كبعض المتقدمين، هذا ليس بصحيح، قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32](1/70)
وفي الحديث: »لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها« فإذا أردت أن تنتفع وأن تغيظ أعداءك وسائر الحساد والحاقدين.
فأقبل على العلم ولا تشغل نفسك إلا به، فقد هيأك الله لذلك، وكفاك من فضله، والنبي صل الله عليه وسلم يقول: »احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ«، ويقول: »من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه« هذا أثر مرسل، من مراسيل على بن الحسين زين العابدين، وهو مرسل ثابت إليه عند الإمام مالك، من طريق الزهري عنه.
قال رحمه الله:
واحتفلْ للفقهِ في الدِّين ولا ... تشتغلْ عنهُ بمالٍ وخَوَلْ
احتفل له، واعلم أنك مهما احتفلت للعلم لم تعطه حقه، علم كتاب الله وسنة رسول الله ?، احتفل للفقه في الدين، أما الفقه في أمور الدنيا دراسات دنيوية فلا تصرف الأعمار فيها، فإن شرف العلم بقدر شرف المعلوم؛ فمن كان عنده علم نافع حصل له من الشرف النافع، فتجد أصحاب علوم الدنيا ما لهم كبير مقدار؛ سنين قضوها وأوقات قتلوها، ويؤيد هذا القول حديث معاوية رضي الله عنه الذي في »الصحيحين« »من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين«، وكلمة في الدين تشمل: العقيدة الصحيحة ففقهها هو من أعظم الفقه، وقد نسب إلى أبي حنيفة «الفقه الأكبر»؛ أي فقه العقيدة الصحيحة، فقه المنهج السلفي، فقه دعوة الأنبياء، والذي يفرق بين فقه الداعية وفقه الدعوة وفقه العلم وفقه الأحكام هذا التفريق فيه نظر؛ لأن الذين تبنوا الدعوة الصحيحة وقاموا بها على كواهلهم من الزمن الماضي هم أصحاب الفقه في دين الله، فقه الإحكام وفقه العقيدة وفقه الطهارة وفقه الصلاة وفقه الصيام، هم الذين يدعون الناس على بصيرة قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].(1/71)
ولقد نشأ هذا التقسيم من متعالمين، متطاولين ضررهم قد يكون أكبر من نفعهم، أن واحدًا لا يعرف يصلى كما صلى رسول الله ? يصير داعية، كيف هذا؟ قالوا: هذا عنده فقه في الدعوة، هذه مخالفة للأدلة؛ أين البصيرة؟ البصيرة هي العلم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] الدعوة إلى الله بهذا القيد لا يقوم بها إلاّ من يعرف ما يدعوا به الى الله أما من يدعو بغير علم فيدعو بلا بصيرة ولا فقه للدعوة.
فالفقه في الدين يحتاج إلى جهد منك، قال الزهري رحمه الله: من أعطى العلم كله، أعطاه العلم بعضًا، ومن أعطى العلم بعضه لا يعطيه شيئًا.
واقرأ قصة المحمدين: ابن نصر، وابن أبى حاتم، وابن جرير، وابن خزيمة، هؤلاء كيف كانوا مشتغلين بالعلم؛ حتى قدموه على قوتهم، وما حصل لهم من الجوع، حتى فرج الله عنهم؛ بإرسال الوالي لهم بطعام إثر رؤيا رآها؛ أن واحدًا يقول له: أدرك المحمدين.
وأقرأ قصة ابن عقيل الحنبلي على أنه حصلت له في المعتقد زلات، كان يدخل لقضاء الحاجة ويأمر من يقرأ عليه في الخارج حتى لا يضيع شيء من الوقت، هؤلاء الذين حصّلوا العلم ما اشتغلوا عنه بمال وخول.
أما بعض طلبة العلم الآن فاشتغلوا عنه بأشياء قد تكون كمالية، ما يتعلق بلبسهم وبشعورهم تارة إلى هذا الجانب، وتارة إلى هذا الجانب، وتارة للخلف، وتارة للأمام، يا أخي عندك ما هو أهم، ما اشتغل المحدثون بذلك، عرفوا أنهم شعث.
أبو جعفر المنصور قيل له: هل بقي شيء من لذة الدنيا لم تنله؟ قال: نعم قالوا: وما هو؟ قال: أن أجلس على مصطبة، ويجلس حولي أهل الحديث ويقولون: هات ِيرحمك الله، فاجتمع الندماء أولئك الذين حوله من الغد، وأتوا بالدفاتر والمحابر، وقالوا: هاتِ يرحمك الله، قال المنصور: لستم بأولئك، أولئك المشققه أقدامهم، الدنسة ثيابهم، الشعثة رؤوسهم، برد الآفاق، وحملة الحديث.(1/72)
قد تجد واحدًا ثوبه قد تعطف من الخلف، ولكن: إذا أتيت تذاكره ينفجر عليك مثل البحر في المذاكرة، وقد تجد واحدًا ملمعًا إذا أتيت تذاكره وجدته خاويًا ما عنده شيء.
هذا دين الله سبحانه وتعالى احتفل له، واعلم أن النبي ? يقول: كما في »الصحيحين« من حديث أبي هريرة »خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا«.
الفقه في الدين: لا يزيد العزيز إلا عزًا، والشريف لا يزيده إلا شرفًا، هذا معنى الحديث، بعض أصحاب الوظائف الكبيرة قد يترفع أن يجلس في مثل هذه المجالس؛ لأنه مسئول كبير، يا مسكين: أن جلوسك مع هؤلاء يعتبر من أعظم الشرف لك، والله لهو خير لك من الرتب الراقية، كما يقول الحسن البصري: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف).
وقوله: (بمال وخول) أي لا يشغلك عن العلم شاغل، بحيث أنك إذا شغلت بشيء يسد حاجتك، ولا يكون قصدك التكاثر في المال والمماليك، وجد من المحدثين من هو زيّات، ومن هو خياط، ومن هو عطار، ومن هو في بعض المتاجرة لم يشغل بها حرف معروفه عندهم.(1/73)
قال سفيان: (لولا مهنتي لتمندلوا بي)، فنحن ما نحثك أنك تفرط في أبنائك: »كفى بالمرء أثمًا أن يضيع من يعول« نقول لك: لا تشغل عن العلم كما نصحك هذا الإمام، واجعل ما ييسره الله لك على قدر ما تسير به في طلب العلم، واعلم أن الدنيا يخشى عليك منها، والله لمن تعلم وتفقه وصار عالمًا أنه قد يخشى عليه من الدنيا تنهمر عليه؛ انظر إلى الذين صاروا خطباء، و صاروا مؤلفين، وصاروا محققين، إن لم يماسك نفسه بتقوى الله عزوجل بالزهد ربما ما يدري إلا وقد انفتحت عليه الدنيا، احذر على نفسك، أطلب العلم وبعد ذلك يأتي الله بالخير ويكفيك الله سبحانه وتعالى من فضله؛ فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا فقراء وحصلوا العلم، واحتاجت لهم الأمة، ولهذا صاروا بعد ذلك في سعة، وأبو هريرة رضي الله عنه من أصحاب الصفة عليهم رضوان الله، الذي كان أحدهم يسقط من الجوع، وبعد ذلك تزوج بسرة بنت غزوان، أخت عتبة بن غزوان الأمير، وبعد ذلك يمتخط في المنديل ويقول: بخ، بخ يا أبا هريرة صرت تمتخط في المنديل، أعزهم الله عزوجل.
فمن فتح الله عليه بالعلم يخشى عليه من الدنيا إن لم يتورع، ولا تلهوا بالمال، فجزى الله خيرًا من اتخذ العمل الذي هو فيه وسيلة للعلم، لا يشغل عن درس، ولا يشغل عن تأليف، ولا يشغل به عن خطابه، ولا عن دعوة.
القصد: هو الدعوة، أنت ما جئت إلا من أجل هذا، والخول المقصود بها: المماليك؛ فإذا كان هذا الإمام ينصح أنك لا تشغل بالمماليك فضلًا عن غيرهم، فما بالك بمن يشتغل بأمور تافهة عن طلب العلم، نسأل الله أن يغنينا وإياكم من فضله، ولا يحوجنا إلى أصحاب الدنيا من خلقه، وكان من دعاء النبي ? »اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك«.(1/74)
فوالله من السعادة أن الإنسان يكفيه الله عزوجل بحيث ما تكون لأحد من أصحاب الدنيا منة بدنياهم عليه، يقول كلمة الحق وهو رافع الرأس، لا أحد سيقطع عنه الراتب، ولا أحد سيمن عليه بجمعية، يقول كلمة حق حتى يتوفاه الله سبحانه وتعالى وهو عزيز شريف، لا يمد يده لتاجرٍ ولا يتذلل لمسئول.
وقال رحمه الله تعالى:
واهجرِ النَّومَ وحصِّلهُ فمنْ ... يعرفِ المطلوبَ يحقرْ ما بَذَلْ
المقصود بهجران النوم هنا أنه لا يكثر من النوم، وإلا فلو هجر النوم كليًا ربما يصاب بالخبل، يأتيه الصدع ويبس في الدماغ.
لكن المقصود بهجران النوم؛ بحيث يأخذ القدر المهم منه، والنفس إذا عودت على شيء تعودت، ما تدري إلا وأنت تقوم بدون أن يوقظك أحد.
ولا يجوز هجران النوم مطلقًا، فالنبي ? قال: »لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني«.
وقال: »إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه«.
ولا بأس بالسهر على العلم، بما لا مشقة فيه، كما بوب الإمام البخاري في »صحيحه« باب: السمر في العلم، وذكر حديث اين عمر ط أن النبي ? صلى بهم العشاء في آخر حياته، ثم قال: »أرأيتم ليلتكم هذه؟ فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد«.
وقد علمتم من أقوال جملة من العلماء كما في »جامع بيان العلم وفضله« لابن عبد البر رحمه الله، عن الشافعي وغيره، أن تحصيل العلم أفضل من نوافل العبادة، فإذا كان الإنسان حاله كما قيل:
اليوم شيء وغدًا مثله ... من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمة ... وإنما السيل اجتماع النقط
لا يدري إلا وقد تيسر له علم، الاستمرار في العلم والجد فيه؛ فيه بركة والانقطاع منه مذهبٌ لبركة العلم، ومن أشد ما يذهب بركة العلم: البدع، والتحزب، والإقبال على الدنيا.
مهما بذلت، فإنك في جانب العلم تعتبره حقيرًا؛ إذا رأيت احتياج الناس، وانتفاع الناس، والزمخشري مبتدع معتزلى ومع ذلك يقول:(1/75)
سهري لتنقيح العوم ألذ لي ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربًا لحل عويصة ... أشهي وأغلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها ... أحلى من الدوكاء والعشاق
إلى أن قال:
أأبيت سهران الدجى وتبيته ... نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي
والإمام البخاري رحمه الله ذكروا في ترجمته: أنه كان في كتابته »للتاريخ« يقوم من الليل فيسرج السراج ويعمل فيه يكتب ترجمة رجل، ثم يضع رأسه لينام،فيذكر آخر فيقوم مرة أخرى ويكتبه، والقول في الرجال من أصعب الأمور؛ فالنبي ? يقول: »ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال حتى ينزع عما قال«.
فلا بد من التحري، وهكذا ذكروا عن الإمام مالك رحمه الله أنه ذاكر أحدًا من بعد صلاة العشاء، حتى برق الفجر.
قال رحمه الله:
لا تقلْ قد ذهبتْ أربابُهُ ... كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ
هذه من علو الهمة، وصاحب هبوط الهمة يقول: من أكون أنا في هذا الزمن؟ فلان عالم يكفي، فينبغي أن تكون كما يقال:
إذا أضمئتك أكف الئام ... كفتك القناعة شبعًا وريا
فكن رجلًا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
ومما ذكر ه حسان ط، عن النبي ?:
له هممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهرِ
فعلو الهمة يجعل الإنسان ينشط، كما يقول ابن الوزير رحمه الله في »الروض الباسم«:
إن الدوعي تشد القوى ... والقلوب ليست بسوى
علوا الهمة يُبعدك عن التقليد، فمن هذا الباب أُتيَ المقلدون؛ أنهم هممهم هبطت، حتى رأوا من أنفسهم أنهم لا قدرة لهم على التحصيل ولا الاستنباط، وبعضهم عنده ذكاء خارق، وقدرة على أخذ العلم وفهمه، فعزلوا جانب الاجتهاد، وبقي يقول أحدهم: قال: فلان وفلان.
الإمام أحمد رحمه الله، انتقد على بعضهم تقليد إسحاق، وتقليد سفيان، قال: عجبت لمن يعلم الإسناد وصحته يعمد إلى رأي سفيان!.(1/76)
والإمام ابن القيم رحمه الله ينقل في كتابة »إعلام الموقعين« أن المقلد لا يحسب من العلماء، ليس بعالم اتفاقًا؛ لأن المقلد سقطت همته، حتى رأى نفسه ما له قدرة على الاجتهاد، أنه يقول: قال رسول الله ?، ويأخذ من حيث أخذ القوم، والإمام أحمد يقول: لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذنا، واقرأ مقدمة »صفة صلاة النبي ?« للعلامة الألباني رحمه الله عليه، فقد نقل جملة صحيحة عن الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة، في النهي عن التقليد.
ورأينا المقلدة من الحزبيين قد اختلفوا واضطربوا بسبب عدم قبول نصائح العلماء، والله عزوجل يقول ناهيًا عن الاختلاف: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88]، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران:105]، ويقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، هؤلاء العلماء رحمة الله عليهم، يجلون ويستفاد من علمهم جميعًا، بدون عصبية إلا للحق أينما كان.
* لا تقلْ قد ذهبتْ أربابُهُ ... كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ(1/77)
ابن عباس م، كان يتبع الأحاديث والعلوم من صاحبٍ إلى صاحب، ويمر بجانبه بعض الناس ويقول: يا بن عباس من يحتاج إليك؟ هؤلاء أصحاب رسول الله ? متوافرون، وبعد حين مرَّ من عنده، وعنده حلقة، فقال: والله لقد كان هذا الغلام أعقل مني، وصار ابن عباس حبرًا، وربما فاق بعض كبار الصحابة من حيث الفقه، وحفظ الحديث، قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] وقال: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] ويقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
وأذكر كلمة لشيخنا رحمة الله عليه، كان أحد طلابه الصغار اسمه عصام، يناديه ويتمثل بهذين البيتين:
نفس عاصم سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
حتى علا وجاوزت الأقواما ... وصيرته عالمًا هماما
وكان ذلك الطالب يكررها، شجعه على علو الهمة، والآن ذلك الطالب هداه الله، ذهب إلى الإمارات ولم نسمع عنه بشيء من الهمة في طلب العلم، والتفت الشيخ رحمه الله في الدرس إلى الطالب وقال: أتأمل أن تكون أعلم من الألباني؟ فقال الطالب: نعم ، قال جزاك الله خيرًا، صحيح إذا أنت اجتهدت، ليس ذلك على الله بعزيز أن تكون أعلم من الشيخ الألباني (رحمه الله) أي والله كأنه الآن، إمام يا أخي لاتحقر نفسك إذا فتح الله عليك من فضله لاتحقر نفسك، قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وفي الحديث: «فذلك فضلي أوتيه من أشاء...».(1/78)
معاذ بن جبل رضي الله عنه، لما احتضر قال له رجل: أوصنا، فقال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، والتمسوا العلم عن أربعة رهط، عن أبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود، وعبد الله بن سلام، والأثر حسن، في «الصحيح المسند» للشيخ رحمه الله.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما مات رسول الله ? قرأ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ثم قال: من كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، هكذا علو الهمة وكما يقال:
يبقى الثناء وتنفذ الأموال ... ولكل دهر ٍ دولة ورجال
ما نال إجلال الرجال وشكرهم ... الاّ الصبور عليهم ُ المفضال
وقال هشام بن عروة: يا أبنائي اجتهدوا فإنكم صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبار قوم.
كم ترى من إنسان مختفيًا ما يكاد يعرف، وهو منكب على العلم فيرجع ويقيم دعوة هائلة، وذاك الذي يبقى أيام وسنين وهو ما عنده همه عاليه؛ يرجع ما يستطيع يخطب بهم خطبة، ولا يقيم بهم دعوة، لهبوط همته نسأل الله السلامة.
وآخر يمكث شهرًا ويقيم دعوة أكثر من صاحب السنتين والثلاث والأربع السنين، بمجرد ما يأخذ بعض الدروس، وعنده همه عاليه، ذلك فضل الله.
قال رحمه الله:
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى ... وجمالُ العلمِ إصلاحُ العملْ(1/79)
هذا البيت الثالث ما يتعلق بأن العلم من حفظه أفلج، وأذكر قصة الطبراني رحمه الله، قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ترجمة سليمان بن أحمد الطبراني قال أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي: سمعت الأستاذ ابن العميد يقول: ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شاهدت مذاكرة أبي القاسم الطبراني، وأبي بكر الجعابي بحضرتي، فكان الطبراني يغلب أبا بكر بكثرة حفظه، وكان أبو بكر يغلب بفطنته وذكائه، حتى ارتفعت أصواتهما، ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه، فقال الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هات، فقال: حدثنا أبو خليفة الجمحي، حدثنا سليمان بن أيوب، وحدث بحديث، فقال الطبراني، أخبرنا سليمان بن أيوب، ومني سمعه أبو خليفة، فاسمع مني حتى يعلو فيه إسنادك، فخجل الجعابي، فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني، وفرحت كفرحه، أو كما قال. لما رأى من عزة العلم.
وهكذا ترى أن الذين عندهم همه عاليه ممكن أن يرحل المسافات الطويلة في تلك الأزمنه من أجل تحصيل حديث واحد عن رسول الله ?؛ كما في رحلة جابر بن عبدالله إلى عبدالله بن أنيس، وانظر «رحلة أصحاب الحديث» للخطيب، يذكر رحلة جماعة ممن رحلوا المسافات، ورحل الإمام أحمد وغيره إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني، أهل الحديث لعلو همتهم، وتحصلوا على العلم، وأصحاب الفتور في أزمنتنا هذه بين الكبسات ربما ما يستطيع يرحل من مسافة خمسين كيلوا لتعلم العلم ويستفيد من كتاب الله وسنة رسول الله ?.
فالهمة الحميدة تجعل الإنسان على خير كثير بإذن الله عزوجل، والكسل والفتور ومجالسة الكسالى سبب لضياع الوقت والعمر.
واعلم أنك لو قرأت الكتب الستة، وحفظت القرآن، وتحصلت على علوم عظيمة، ثم أفسدك جلساء السوء؛ فإنك تهبط همتك، وتضيع علومك، قال الله عزوجل: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس27].(1/80)
والله إن من علو الهمة الثبات على الحق، وأنه ما يريد أن يكون ذنبًا لأحد من الناس، وإنما تابع لرسول الله ?، وللسلف الصالح؛ الذين هم خير القرون، لا ذنب حزبي من الحزبيين، أو لدنيا فانية، قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].
وقوله رحمه الله: (وجمال العلم إصلاح العمل) علم بلا عمل: كشجرة بلا ثمر، يقولون: العلم مثل الوالد، والعمل مثل الولد، علم بلا عمل حجه على صاحبه، قال ?: «والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وهو عنده معل، و ثبت في خارج «الصحيح».
علم بلا عمل من أسباب الصرف عن الخير، قال الله عزوجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].(1/81)
علم بلا عمل صاحبه رذيل، فقد ثبت من حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم»، قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم»، قال زيد بن يحيى في تفسير معنى قول النبي ?: «والعلم في رذالتكم»: الرذالة: هم الفساق، وقد قال رسول الله ?: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه» الحديث له طرق عند الآجري في «أخلاق العلماء» وفي «مقدمة الدارمي» يصلح بها للاحتجاج، وثبت في «صحيح مسلم» من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، أن رسول الله ? كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها»، وثبت عن غير زيد بن أرقم خارج «الصحيح» مثله.
الذي لم يعمل بعلمه ليس بعاقل، كما أبان الله سبحانه وتعالى بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيمُ
وفي «الصحيحين» من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله ? يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه»، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].(1/82)
هذا مقتٌ كبير، هل إذا كان عاصيًا أيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟، لا يترك حتى لا يتضاعف عليه الإثم، ومما ذكره ابن النحاس في كتابه «تنبيه الغافلين» أنه يجب على شربة الخمر أن ينكر بعضهم على بعض، لو سكت يأثم على إقراره المنكر وهو قادرٌ على الإنكار، مع أثمه على فعل المنكر.
ولإصلاح العمل أسباب مذكورة في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]، إصلاح العمل من توفيق الله؛ فمن أصلح الله له عمله فقد أراد له الخير، قال صاحب متن الزبد:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عبّاد الوثن
فهذا وإن كان فيه مبالغة، لكن العالم الذي لم يعمل بعلمه، معرّض للعذاب، واليهود لما لم يعملوا بعلمهم؛ غضب الله عليهم، قال الله عزوجل: {أهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7]، والمغضوب عليهم هم: اليهود؛ كانوا أحبارًا لم يعملوا بعلمهم فغضب الله عليهم، والضالون هم: النصارى، رهبانًا بلا علم ضلوا لعدم تعلم العلم، واليهود والنصارى جميعًا ضالون ومغضوبًا عليهم لكن سبب ضلال النصارى وغضب الله عليهم عدم تعلم العلم وسبب ضلال اليهود وغضب الله عليهم عدم العمل بالعلم.
واقرأ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أوائل كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» على هذه السورة العظيمة.
قال رحمه الله:
جَمِّلِ المَنطِقَ بالنَّحو فمنْ ... يُحرَمِ الإعرابَ بالنُّطقِ اختبلْ(1/83)
معنى اختبل: يصير مترددًا في الكلام، هل الصواب: قام زيدٌ، أم قام زيدًا، أم قام زيدٍ؟ لا يدري يرفع تارة، وتارة ينصب، وتارة يخفض، وليس معناه يصاب بالجنون، لكن يصير في كلامه مثل كلام الأخبل.
وقد مدحوا النحو، وأوجبوا تعلمه؛ لأن به يعلم كتاب الله، وسنة رسوله ?، وما لم يتم الواجب إلا به، فهو واجب، أما إنه جاء حديث صحيح عن النبي ? في تعلم العربية، والحث عليها، فلم يثبت في هذا شيء عن النبي ?، والشافعي يقول: أهل العربية جن الإنس؛ يبصرون ما لا يبصر غيرهم، معناه: أن الذي عنده قدرة في العربية يفهم دقائق المسائل، وقد أخرج بعضهم من كتاب الزمخشري «التفسير» الاعتزالات بالمناقيش، وفي البلاغة ألف «أساس البلاغة» ولهذا صار يدس الاعتزال بكلام قد يخفى على من لا بصيرة له بالعربية، فقال: أخرج من كتاب «الكشاف» من الاعتزالات بالمناقيش، فلا ينبغي لطالب العلم أن يهمل النحو، وتلك الأبيات وإن كان فيه مبالغة لا بأس بذكرها هنا:
النحو يصلح من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا أردت من العلوم أجلها ... فأجلها نفعًا مقيم الألسن
ونحن نقول: والمرء تكرمه إن كان صاحب عقيدة صحيحة، ولو حصل عنده لحن، لكن: مع ذلك لا ينبغي إهمال جانب إصلاح النطق، وليس المقصود بالمنطق هنا علم المنطقيين أولئك، كما يقول الذهبي رحمة الله عليه، علم المنطق (علم الكلام) لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد، هذا علم المنطق علم رديء، وبعضهم يقول: الذي لا يتعلم المنطق لا تصح عقيدته، ولا يجوز أن يفتي، ولا، ولا إلى آخر تلك الأقاويل، التي رد عليها السيوطي في رسالة ظمن «الحاوي» ونقل عن شيخ الإسلام في رده على المنطقيين ردًا طيبًا، المهم علم المنطق لا يحتاج إليه أبدًا، علم ضياع.(1/84)
وأشبه علم بالمنطق الإعجاز العلمي؛ علم ضياع؛ كقول بعضهم: أرأيت لو وضع الجمل رجليه إلى أعلى، وظهره أسفل، سيكون فيه إعجاز علمي، وهذا الإعجاز هو في لفظ الجلاله: الله، قالوا: الذيل هو الهاء، ومن ضلالهم ومن ضياعهم قول بعضهم أن الكف اليسرى فيها رقم (81) والكف اليمنى فيها الرقم (18) تساوي (99) وهذا دليل على أسماء الله الحسنى.
قال رحمه الله:
انظُمِ الشِّعرَ ولازمْ مذهبي ... [في اطَّراحِ الرَّفد لا تبغِ النَّحَلْ](1)
هذا نصح طيب في نظم الشعر، فقد قال النبي ? لحسان بن ثابت: «أهجهم وروح القدس معك»، وقال: «إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله ?» وابن رواحة كان يقول الشعر في الحرم، وينافح عن رسول الله ?، يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
والهام: الذي يذكره الشراح للحديث أنه الرؤوس.
فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ?، وفي حرم الله تقول الشعر؟! فقال له النبي ?: «خل عنه يا عمر لهو أشد عليهم من وقع النبل»، وهكذا النفاح عن سننه كالنفاح عنه.
__________
(1) في نسخة: ش (فاطراح الرفد في الدنيا أقل).(1/85)
أما حديث «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرا» الحديث في حق من لا يهتم إلا بالشعر، لا يهتم بدين الله، ليس من جوفه غير الشعر، وفي حق من يسخر الشعر لغير طاعة الله، فقد قالوا الشعر في مسجد رسول الله ?، وما جاء أن النبي ? نهى أن ينشد بالمساجد ضالة، أو ينشد بها شعرًا، المقصود به الشعر القبيح، كما قال البيهقي وغيره، الشعر كالكلام: حسنه حسن، وقبيحه قبيح، قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:224-227]، فهذا استثناء من باب قول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]، وقول الله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:1-6].(1/86)
والرفد والنحل هو العطاء قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، معنى ذلك: أنظم الشعر، ولا يكون الشعر سلمًا لأن تذهب الى الأمراء، وتمدح بباطل من أجل الدنيا، كما كان يفعل أولئك الشعراء الذين قد علمتم في تراجمهم؛ أنهم ذهبوا إلى الأمراء، ورب شاعر يقول في شعره الزور، ومن أجل الرفد من أجل النحل والعطاء، بما فيهم الفرزدق، فابن الوردي ينصح الشاعر أنه يحمل شعره لله ونصرة لدينه وحملة دينه الحق، لا يبتغي به الدنيا، أنظم الشعر ولازم مذهبي؛ في نظم الشعر ملازمة العفة والصيانة.
قال رحمه الله:
فهوَ عنوانٌ على الفضلِ وما ... أحسنَ الشعرَ إذا لم يُبتذلْ
إذا كان الشعر لنصرة الحق؛ هذا عنوان الفضل، ما اتخذه سلمًا لمأكل، ولا للتزلفات، ولا للدخول على الحكام، ولا للثناء على المبطلين، متجنبًا قول الزور، فحسبه أن ينصر الحق، وحسبه أن النبي ? قام يضع الكرسي بنفسه لحسان؛ يجلس عليه ويهجوا الكفار، نافحوا عن رسول الله ? هؤلاء الرجال هذا معنى عنوان الفضل.
(وما أحسن الشعر أن لم يبتذل) أي يمتهن بالمخالفات والدناسات التي أشرنا هنا إلى بعضها.
قوله رحمه الله:
ماتَ أهلُ الفضلِ لم يبقَ سوى ... مقرف أو من على الأصلِ اتَّكلْ
أنا لا أختارُ تقبيلَ يدٍ ... قَطْعُها أجملُ من تلكَ القُبلْ
معنى ذلك: أن هذا الرجل يظهر العزة، ويظهر العفة، فيقول: (مات أهل الفضل لم يبقى سوى مقرفٍ) أي أصحاب اقتراف للذنوب، قال بعضهم:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف ... ثم انتهى ثم ارعوا ثم أعترف
أبشر بقول الله في آياته ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
ونظير ذلك قول بعضهم:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمرٍ منكر
وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضًا ليدفع معولٍ عن معور
سلكوا بنيات الطريق فأصبحوا ... متنكسين عن الطريق الأكبر(1/87)
وهذا ليس على إطلاقه، فالنبي ? يقول: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى قيام الساعة»، ونظير ذلك قول سفيان بن عيينه رحمه الله:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن البلية تفردي بالسؤددِ
ونظير ذلك قول أبي على البصير:
لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرمٍ وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصرّح نبتها رعي الهشيم
كل هذا يعتبر منهم تواضعًا، واعترافًا بالفضل، وليس معناه: أنه ما يحتاج إليهم في أزمنتهم.
لاشك: أنه كل ما تأخر الزمان يذهب الأفاضل، كما قال ?: «يذهب الصالحون، الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة» انفرد به البخاري، من حديث مرداس الأسلمي، وليس له في «الصحيح» إلا هذا، وقول النبي ?: «لا يأتي عام إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم» وهذا في «صحيح البخاري» من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
أن أهل الفضل كلما ذهب زمان؛ ذهب أهل فضله وأهل خيره وعلمه، والطائفة ما زالت باقية إلى قرب قيام الساعة فإنها لا تقوم إلا على شرار الخلق كما صح ذلك عن النبي ?.
قوله رحمه الله:
أنا لا أختارُ تقبيلَ يدٍ ... قَطْعُها أجملُ من تلكَ القُبلْ
معناه: أن تقبيل اليد كان شائعًا في أزمنتهم، ومن الذين تقبّل أيديهم؛ أناس أخذوا بتلك الأيدي ما تستحق بذلك أن تقطع، فهذا الرجل كان يترفع عن تقبيل أيدي هذه الأصناف.
ومسألة: تقبيل يد الفاضل جائز، فقد ألف ابن المقرئ رسالة في ذلك، خلاصتها: جواز ذلك لأهل الفضل.
قوله رحمه الله:
إن جَزتني عن مديحي صرتُ في ... رقِّها أو لا فيكفيني الخَجَلْ
قد يكون المدح بالقول، وقد يكون المدح والثناء بالإجلال، والفعل، والتقبيل وما إلى ذلك، فهو يظهر عزته أنه: ما هو من شأنه التملق والتزلف لهم، ولا تقبيل الأيدي، ولا يبتغي الجزاء منهم، إن أعطوه أذلوه، وإن لم يعطوه صار خجلًا من إهانة نفسه، وتملقه لهم.(1/88)
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
أعذبُ الألفاظِ قَولي لكَ خُذْ ... وأمَرُّ اللفظِ نُطقي بِلَعَلّْ
هذا البيت يشمل ذم المسألة، نحو: لعل فلان يعطيني.
وأيضًا يشمل: فضل العطاء والإنفاق من الخير العلمي، والمالي، بحيث إذا سئل، قال للسائل: خذ، ومن لا يعرف المعلومات يقول: لعله كذا لعله كذا، بغير وثوق مما يقول، والمعنى الأول: أوضح في هذا، أعذب الألفاظ قولي لك خذ وفي الحديث: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» و «خير الصدقة عن ظهر غنى ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله» من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
وقال النبي ?: «يا حكيم: إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس: بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس: لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، متفق عليه.
والمتسوّل يأتي يوم القيامة مسحوت الوجه، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم»، فالتسول حرام قال النبي ?: «يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة حلّت له المسألة؛ حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله، فحلت له المسألة؛ حتى يصيب قوامًا من عيش» أو قال: «سدادا من عيش» أخرجه مسلم، هذا الشرط لا يلزم في كثير من الأحكام، أن يشهد ثلاثة من أهل العقول السليمة الزكية على المسألة؛ لما في المسألة من الغرر وإهانة النفس، ولما في المسألة من أكل أموال الناس بالباطل.(1/89)
الناظم يصف في هذا البيت فضل العطاء، وذم الأخذ، لاسيما ممن يأخذ وليس أهلًا لذلك، أو باستشراف نفس أو تطلع، أما إذا أعطيت من هذا المال، بغير تطلع ولا استشراف؛ فخذه إن شئت فكله، وإن شئت تصدقت به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر، نسأل الله العافية من هذا المرض: الذي صارت له جمعيات، وصارت له مؤسسات وشركات، ومن أردى وأفسد هذه المؤسسات مؤسسة صناع الحياة التابعة لذلك الزائغ: عمرو خالد المصري، وأضرابه من اللصوص على حساب دين الله وما الله بغافل عما يعلمون.
وقوله رحمه الله:
مُلكُ كسرى [عنهُ تُغني](1) كِسرةٌ ... وعنِ البحرِ اجتزاءٌ بالوَشلْ
لله در هذا الناظم، صحيح كما يقول رحمه الله، فالدنيا متاع زائل إذا مات الإنسان ما الذي يتبعه؟ قال النبي ?: «يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان: أهله، وماله، ويبقى واحد: عمله» وقال النبي ?: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك: إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» وقال النبي ?: «إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه».
(ملك كسرى تغني عنه كسرة): من الخبز، ويستوي صاحب الملك، وعدمه؛ من حيث الحياة، وقد يجعل الله البركة لهذا الفقير الذي يأكل الكسرة ويجد لها لذة، ويؤتيه الله الصحة، يعيش مستريحًا، وقد يدفع الله عنه أمراضًا وأسقامًا، والآخر: الذي مع الشحوم والتخوم، ما يدري إلا وقد منعه الأطباء عن بعض المأكولات، يقولون له: قف عن اللحوم، وقف عن العسل، وقف عن كذا وكذا، وإذا به حاله مثل حال ذلك الفقير، ويتمنى أن يكون في الصحة مثله.
بعض الأثرياء نظر إلى بعض الناس، وهو يأكل الخبز اليابس يقطعه تقطيعًا وبغير إدام، فنظر إليه بعض الأثرياء وأصابه بالعين، الثري الذي عنده اللحوم، وأنواع المآكل، قد منع من أكثرها، يصيب ذلك الفقير صاحب الخبز؛ لما يرى عنده من صحة.
__________
(1) في نسختي (م، ش) ملك كسرى (تغني عنه)(1/90)
وكيف إذا كان ثريًا فاجرًا، باغيًا، بخيلًا؟، يكون شأنه كما قال الله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37].
وقال النبي ?: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ?: «من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له الجنة»، أخرجه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه، وقال النبي ?: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» أخرجه مسلم.
القناعة غنى، يا إخوان القناعة غنى وفلاح، وفي «الصحيح» عن النبي ?، أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله ? فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر»، وقال النبي ?: «أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى المسجد، كيف تصنع يا أبا ذر؟»: قال: الله ورسوله أعلم، قال: «تعفف يا أبا ذر» أخرجه أحمد وهو حديث صحيح، فأخبره أن العفة غنى، فالذي عنده شركات: هو يأكل، وأنت تأكل، هو يلبس، وأنت تلبس، هو يسكن، وأنت تسكن، وإنما شغل كثيرًا من الناس التباهي والتفاخر، قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20].(1/91)
وأما الرزق فقد ضمنه الله عزوجل: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60]، وقال: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
ملك كسرى تغني عنه كسرة، عند القناعة، أما الهلع والجشع؛ فمهما كان ملك العبد لا يزال يرى نفسه مقلًا، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي ? قال: «لو أن لابن آدم وادٍ من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ جوفه إلا الترب، ويتوب الله على من تاب»، والله عزوجل يقول: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:19-23].وبعض الأثرياء مبتلى بالبخل، يصاب مع ماله ذلك بشدة البخل، ويكون ذلك الفقير كما يقال: ما جاء به تغدى به، وهو في نعمه، وذلك الثري يجمعها لغيره، ويموت من عندها وهو محروم من الزاد الذي يقدم عليه.
(وعن البحر اجتزاء والوشل): البحر معروف، والوشل: القطرات التي تنبع من الأرض؛ يشربها الإنسان، فالشاهد في ذلك المثال: أن القليل والكثير عند القانع سواء، البحر العذب عنده والماء الذي يشربه يكتفى به سواء، أهم شيء سداد الحال في هذه الدنيا، والله المستعان.
وقوله:
اعتبر نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم ... تلقهُ حقاً وَبِالْحَقِّ نَزَلَ(1/92)
هذا البيت فيه الحث على القناعة، توكيدًا معنويًا لما تقدم قبله فيما يتعلق بالقناعة، مأخوذ من قول الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54].
وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].
وكل ذلك يدل على أن الأمر لله تعالى، وأن الله قسم بين العباد أخلاقهم وأرزاقهم، وقد جاء حديث في ذلك: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم» إلا أنه ضعيف، كما مرّ بنا في تحقيق: «إصلاح المجتمع» والواقع كذلك، للأدلة التي ذكرناه ولقول الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21].
وما أحسن ما يذكر عن الشافعي أنه قال:
ما شئِت كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن(1/93)
وفي حديث ابن مسعود المتفق عليه، قال: حدثنا رسول الله ? وهو الصادق المصدوق: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وجاء حديث: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء؛ ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان» وهذا الحديث ضعيف يرويه دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ودراج ضعيف، ويغني عنه، قول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].(1/94)
إن الله تعالى هو المعطي، قال النبي ?: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله معطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة»، وقال: «اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه «أحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت: فاسأل الله، وإذا استعنت: فاستعن بالله...» وثبت في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: «احرص علي ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء: فلا تقل لو فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».
وقوله: (تلقه حقًا وبالحق نزل): يعني القرآن حق ونزل بالحق، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، وقد نزل القرآن بهذه القسمة من الحق سبحانه وبالحق، أن الله قسم بين الخلائق أخلاقهم وأحوالهم، وأرزاقهم، وطولهم، وقصرهم، وبياضهم، وسوادهم، ومعيشتهم في سائر الحالات، هذا يجعله فقيرًا، وذاك يجعله غنيًا، هذا يجعله بخيلًا، وذاك يجعله جوادًا، هذا يجعله شجاعًا، وذلك يجعله جبانًا؛ ولله تعالى الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ولا يجوز الاعتراض على قسمة الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ولما اعترض ابن الراوندي وأمثاله بتلك الاعتراضات على الله، كفّرهم أهل العلم، ابن الرواندي يقول:
كم عالمٍ عالمٍ أعيت مذاهبه ... وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأذهان حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
فأهل العلم أنكروا عليه إنكارًا شديدا في ذلك، وهكذا أبوالعلاء المعري اعترض على حكمة، وعلم الله وعطاء الله، ومن كلامه القبيح أنه قال:
ولما رأيت آدم وفعاله ... وتزويجه ابنيه بابنتيه في الدنا
علمت بأن الناس من أصل ريبة ... وأن جميع الناس من عنصر الزنا(1/95)
والناس فيهم أنبياء، وصلحاء، فرد عليه بعضهم:
لعمرك أما القول فيك فصادق ... وتكذيب في الباقين من شط أودنا
كذاك إقرار الفتى لازم له ... وفي الغير لغو بذا قد جاء شرعنا
ومنها قوله:
يدٌ بخمس مئين عسجد وُديت ... مابالها قطعت في ربع دينار
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
ِ ردوا عليه بقولهم:
قل للمعري عار أيما عار ... جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار
عز الأمانة أغلها وأرخصها ... ذلُ الخيانة فافهم حكمة الباري
وقال بعضهم: كانت ثمينة لما كانت أمينة فلما خانت هانت، يعترض على أقدار الله، وعلى قسمة الخالق والله سبحانه وتعالى يقول: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وهو سبحانه العليم الحكيم، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
وقوله رحمه الله:
ليس ما يحوي الفتى من عزمه ... لا ولا ما فاتَ يوماً بالكسلْ
معنى ذلك: أن الذي يحصل عليه العبد ما هو بذكاء، ولا هو بدهاء، فحاصل ذلك: أن الأمر لله تعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2-3].
فكم من إنسان ماله خبره في التجاره، ولا ترى إلا وقد صار ثريًا، وكم من إنسان في غاية من الذكاء لم يحصل له من ذلك شيء، فعلى المسلم أن يكون قانعًا بما أتاه الله تعالى، وما أحسن ما قيل:
اقنع بما ترزق ياذا الفتى ... فليس ينسى ربنا نمله
إن أقبل الدهر فقم قائمًا ... وإن تولى مدبرًا نم له(1/96)
الديدان والضفادع وأشياء لا تراها أنت بعينك ولا تعلمها ولا تدري أين هي، والله يرزقها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].
فليس الحرص على جمع المال يضمن حصوله، والنبي ? يقول: «شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع»، وقال رسول الله ?، كما في «الصحيحين»: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» منعًا وهات: يمنع ما أوجب الله عليه، ولا يزال يطلب المزيد، من ابتلي بالجشع، وصار همه الدنيا؛ يصير لاهثًا بعد الدنيا، كما أخبر الله تعالى عن ذلك الذي أتاه الله آياته فانسلخ منها، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
وقوله رحمه الله:
اطرحِ الدنيا فمنْ عاداتها ... تخفِضُ العاليْ وتُعلي مَنْ سَفَلْ
معنى البيت: أن الدنيا ما هي ميزان الرفعة، إلا عند مضارعي قوم قارون، الذين قال الله عنهم: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
ولو كانت الدنيا هي الميزان للرفعة لما مات أنبياء الله، «لم يورثوا دينارًا ولا درهما، إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر».(1/97)
ولو كانت الدنيا هي الميزان للرفعة، لكان أحق بها أكرم الناس على الله تعالى، ولكن قال: «أجوع يومًا، وأشبع يومًا»، وقال رسول الله ? كما في «صحيح مسلم»: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17]، وقال: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183]، وقال: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] وقال: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]، وقال: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى} [الضحى:4].
عادت الدنيا أنها ما هي ميزان، قد يؤتي الله تعالى الدنيا من أحب، وما لم يحب، و أما الدين: فلا يؤتيه الله تعالى إلا لمن أحب، وأعظم كرامة للإنسان دوام الاستقامة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، وما أحسن تلك الأبيات:
هي الدنيا تقول بملئ فيها ... حذاري حذاري من بطشي وفتكي
فلا يغرّنكم مني ابتسام ... فقولي مضحك والفعل مبكي
وأحسن من ذلك حديث رسول الله ? «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»، قال ابن عمر: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.(1/98)
وليس معناه: أن الإنسان لا يضرب في الأرض، ولا يمشي في مناكبها ويطلب الرزق، هذا تواكل وليس توكلًا، قال الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال: {أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، ولكن كما يقول النووي رحمة الله عليه:
إن لله رجالًا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحيٍ وطنا
جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيه سفنا
نسأل الله التوفيق.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
عيشةُ [الرَّاغبِ](1) في تحصيلِها ... عيشةُ [الجاهد] فيها [أو أقلْ](2)
وفي نسخه: (عيشة الجاهل فيها بل أذل) أي: أذل، وهذا الأخير أقرب، أي: عيشة الزاهد فيها، يعيش كما يعيش فيها الجاهل المجتهد في تحصيلها، فكم من إنسان يبذل وسعه في تحصيلها، ويجد ويجتهد فيها، وينصب ويكدح ويتعب، وذلك الزاهد يعيش في الدنيا عيشة رغدة أحسن منه، وبغير ما يتذلل للدنيا وأصحابها، وذلك الذي يجتهد فيها: قد تذله الدنيا ويذله الدرهم، وقد يتذلل لأصحابها، عجيب حال أصحاب الدنيا وتهالكهم عليها! بالربا، والرشوة، والتلصص، كما قال النبي ?: «ليأتين على الناس زمان: لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام» إنك تعجب من جده واجتهاده في ذلك!، وربما لا يزال فقيرًا.
__________
(1) في نسخة (ش) الزاهد
(2) في نسخة (ش) بل هذا أذل(1/99)
وذلك الزاهد يأتيه رزقه الطيب، الذي قد ضمنه الله له، وهو هادئ البال، ومن هذا الباب ما أخبر به النبي ? بقوله: «ما أنا في الدنيا إلا كراكب: استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها» وقال: «وجعل رزقي تحت ظل رمحي، و جعلت الذلة و الصغار على من خالف أمري، و من تشبه بقوم فهو منهم» والصحابة رضوان الله عليهم سلكوا في التربية نفس ذلك المسلك؛ الذي كان عليه رسول الله ? من الزهد، وأكرمهم الله من فضله، وعاشوا في سعادة.
ثبت عن بعض السلف أنه قال: ما تذلل أحد للدرهم إلا أذله الدرهم، ويؤيد هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش»، أخرجه البخاري، وكما قيل:
فكم دقت ورقت واسترقت ... فضول الرزق أعناق الرجال
أقول: إن الإنسان الذي يريد أن يبقى عزيزًا لا تتطلع نفسه إلى عطايا الناس؛ بحيث أنه يزن الناس بالدليل وبالحق، وأما إذا كان يتطلع إلى ما في أيديهم أو لعطاياهم، وما إلى ذلك، هذا الجانب قد يؤثر عليه في أمر دينه، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة الا بالله.
قال رحمه الله:
كَمْ جَهولٍ [باتَ فيها](1) مُكثراً ... وعليمٍ [باتَ](2) منها في عِلَلْ
__________
(1) في نسختي: (م، ش) (وهو مُثْرٍ مُكْثِرٌ)
(2) في نسختي: (م، ش) مات.(1/100)
والله هذه حكمة لله يا أخوان، أن الدنيا ما هي ميزان للصلاح والفساد وللحق والباطل، فربما تجد ظالمًا غاشمًا بل تجد كافرًا زنديقًا قد أعطاه الله منها، من باب: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183]، وقال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ذكروا في ترجمة شعبة بن الحجاج باع بعض قدور أمه؛ من أجل أن يشتري به ما يستعين به على الطلب، وغيره كثير من الصالحين، الذين كانوا في غاية الفقر، قال الله عن الكفار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12].
غالبًا تكون العلل والتنغيصات على أهل الدين والصلاح أكثر، قال النبي ?: «يبتلى الرجل على قدر دينه: فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه» وقال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، وقال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ? قال: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها: إلا كفر بها من خطاياه».
حتى الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم، وعن جابر قال: دخل رسول الله ? على أم السائب فقال: «مالك تزفزفين؟» قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: «لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم»، رواه مسلم.(1/101)
جاء أعرابي فقال النبي ?: «هل أخذتك أم ملدم؟» قال: وما أم ملدم؟ قال: «حر بين الجلد واللحم»، قال: لا، قال: «فهل صدعت؟»، قال: وما الصداع؟ قال: لا، فلما قام قال: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا»، الحديث في «الصحيح المسند» لشيخنا رحمه الله.
وقوله: (كم جهول بات فيها مكثرًا): هذا ليس من باب الإعتراض على أقدار الله، وإنما هو من باب ما هو حاصل في هذه الدنيا، ونظير بيت ابن الوردي هذا، قول الإمام الشافعي رحمه الله المذكور في «الديوان» المنسوب إليه:
تموت الأُسد في الغابات جوعًا ... ولحم الضأن تأكله الكلاب
وعبدٌ قد ينام على فراش ... وذو نسبٍ مفارشه التراب
قال رحمه الله:
فاتركِ الحيلةَ فيها [واتَّكِلْ](1) ... إنما الحيلةُ في تركِ الحِيَلْ
الحيل تنقسم إلى قسمين: حيل ممنوعة، وحيل مشروعة: والإمام البخاري رحمه الله له كتاب الحيل في «صحيحه» وابن بطه له جزاء في: «الحيل» وأجزاء كثيرة ألّفت في الحيل.
والمقصود من كلام الناظم في هذا الموضع: أترك الحيلة المنهي عنها، لا تحتل على محارم الله، قال النبي ?: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل».
والحيلة المشروعة: أن تترك الحيلة المحرمة، هذا من الحيلة التي شرعها الله، الحيلة المشروعة: أن تبتعد عن المحرم؛ فبعدك عن المحرم من أسباب وصول الرزق إليك.
بعدك عن المحرم: من أسباب عزك، لأنه تقوى لله عزوجل والله يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3].
__________
(1) في نسختي: (م، ش) (واتئد).(1/102)
ومن الحيل المحرمة بيع العينة، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» الحديث، وبيع العينة: مثاله أنك أنت تريد عشرة آلاف، هذه السلعة ما تساوى إلا ثمانية الآلف، فأنا سأعطيك ثمانية الآلف قيمة السلعة، وأسجل عليك العشرة، فترجع إليه عين سلعته وربح زيادة مال، أخذ ألفين ظلمًا، وعادت إليه عين سلعته.
والتحليل من الحيل المحرمة: لعن رسول الله ? المحلل، والمحلل له، يطلق امرأته ثلاثًا، تصير بائنة منه، ثم يتواطأ مع آخر، تبيت عنده ليلة، أو ليلتين، وقد يأتيها ويجامعها، لكن يقول: أنا أحللها لك وتعود إليك إن شاء الله، بل لا تزال حرامًا، ولا يزال ملعونًا، كل من تواطأ على ذلك، حتى ولو كان شاهدًا من الشهود، وقد تعاون على الباطل والمعصية والفساد.
ومن الحيل: التصرية؛ تصرية المعزة، أو تصريه البقرة، ثم يعمد بها إلى السوق، على أن هذه حلبة اليوم، بعضهم إذا أراد أن يذهب بجَلبه إلى السوق: يعطشه، ثم إذا عطّشه أعطاه ماء يشرب ماءً كثيرًا، ثم يصب الإبريق في فمها؛ حتى يعبيها ماءًا؛ تذهب وارمه: على أنها مرتاحة، وإذا اشترها: ما هي إلا سويعات وإذا ببطنها يخفق، وهي نحيفة.
وبعض الجزارين عندهم حيل محرمه كثيرة: يذهب يأخذ خصيتين حق كبش، فيخيطها في شاة كبيرة، على أنه كبش، لأنه لو قال هذا لحم شاة كبيرة لا يرغب الناس في شرائه.
و حتى في الدعوة متحايلون، والله على أكل أموال الناس بالباطل، يقولون: عندنا أيتام، وعندنا أرامل، وعندنا حفر آبار، وتزويج شباب، وإفطار صائم، احتيال على تجميع الأموال، وبعض الناس: صاروا ألعوبة في أيدي المحتالين.(1/103)
قوله: (واتكل): أي توكل على الله، قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:81] وقال ?: «إنها لن تموت نفس ٌحتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب»، حديث حسن.
حتى في مسألة التورية: وهي حيلة كما يقال: ما كذب ظريف، ولكن: ليست على إطلاقها، كما في كتاب «الآداب الشرعية» لابن مفلح.
هي جائزة عند الحاجة، كما قال ابو بكر الصديق لما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وسأله بعض الناس من هذا معك؟ فقال: هذا رجل يهديني السبيل، وقال نبي الله إبراهيم لما سئل في بلد ذلك الجبار الذي سياخذ ززوجته من هذه معك؟ قال: هذه أختي وقال لها: ما على وجه الأرض مسلم إلا أنا وأنت، فعنى أنها أخته في الإسلام.
ولا يكون الإنسان ديدنه التورية؛ ما كل الناس يحملون ذلك، على حقائقه يقال مثلًا: أنت ما اسمك قال: أنا عبدالله، ومره من المرات تلقاه تقول: كيف حالك يا عبدالله؟، قلت: إنما أنا أردت أن أوري لك، وإلا أسمي كذا وكذا، سيقول: كذب عليّ.
عليك بالصدق وتعامل تعاملًا صحيحًا، حتى تعرف بالوضوح، من صدق عرف بالصدق، ومن كذب واحتال وجعل ديدنه التوريات عرف بالكذب.
والصدق من صفات الأبرار والأحرار كما في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود: «إن الصدق يهدي إلى البر». وما أحسن ما قيل:
الصدق حلو وهو المر ... والصدق لا يتركه الحر
جوهرة الصدق لها زينة ... يحسدها الياقوت كذا الدر
قال ابن الوردي رحمه الله:
[أيُّ](1) كفٍّ لمْ تفد مما تفد ... فرماها اللهُ منهُ بالشَّلَلْ
والنسخة الآخرى
[أيُّ](1) كفٍّ لمْ تنلْ منها المُنى ... فرماها اللهُ منهُ بالشَّلَلْ
هذا اللفظ الذي فيه: (لم تنل منها المنى) ما يستقيم به المعنى، ما كل كف تعطيك ما تمنيت، ولا يجوز الدعاء على من لا يعطيك ما تمنيت، فهذا لا يقدر عليه الإنسان، والصحيح المعنى الأول.
__________
(1) في نسخة (ش) وأي.(1/104)
ومعنى البيت: أي كف لم تعط مما أعطاها الله فرماها الله منها بالشلل، استفادت مالًا، وهذا المال فيه زكاة فريضة، وفيه أيضًا صدقه تطوع: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39].
وفي «الصحيحين» «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة: فهو يقضي بها ويعلمها» من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي ?.
وفيهما أيضًا: وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ? يقول: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يستطع فبكلمة طيبة»، بشق تمرة: أي بجانب تمرة تتصدق بها، وتطعم بها مسكينًا، قد يدفع الله عنك النار بذلك.
قال رسول الله ?: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا»، في «صحيح مسلم» ووهم النووي رحمه الله في بعض المواضع من «رياض الصالحين» في هذا الحديث، فعزاه إلى خارج مسلم، أن النبي ? قال فيما يرويه عن ربه: «يا ابن آدم: إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»، عن أبي أمامة رضي الله عنه.
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:219] والعفو هنا معناه: الزائد عن قوتك، وقوت عيالك وحاجتك، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?: «قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك»، متفق عليه.(1/105)
فمن أسباب حصول الرزق: النفقة، والصدقة، وهي من مكفرات السيئات ويدفع الله بها المهمات ويكشف بها الكربات، كما في حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه وهو حديث طويل مذكور في «الصحيح المسند» للشيخ رحمه الله وفيه: «إن نبي الله يحيى بن زكريا عليه السلام، قال لقومه: وآركم بالصدق؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا افتدي منكم بالقليل والكثير، ففدا نفسه منهم...» الحديث.
وفي «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ?: «مثل المنفق المتصدق، والبخيل: كمثل رجلين عليهما جبتان؛ فلا ينفق شيئًا إلا سبغت على جلده، حتى تخفي بنانه، و تعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع»، الحديث.
وأخرج البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النبي ? قال: «أربعون خصلة: أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها: إلا أدخله الله بها الجنة»، هذا دليل أن الصدقة من أسباب دخول الجنة، وأن المرء يكون يقوم القيامة في ضل صدقته، فمن أنفق من كسبٍ طيب فإن الله ينميه له كما ينمي أحدكم فلوه، أو فصيله.
فمعنى البيت: أي كفٍ لم تفد: أي لم تعط مما أعطاها الله تبخل بما أوجب الله، وتبخل بما هو مرغوب في النفقة منه؛ فرماها الله منه بالشلل؛ هذه الكف التي لم تحسن مما أحسن الله إليها، دعا عليها أن تصاب بالشلل والله يقول: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].(1/106)
ويقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، والنبي ? ثبت عنه أنه قال: «شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع»، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وثبت عن جابر رضي الله عنه في «صحيح مسلم» أن رسول الله ? قال: «اتقوا الظلم: فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح: فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
قدْ يسودُ المرءُ من [دونِ](1) أبٍ ... وبِحسنِ السَّبْكِ قدْ [يُنقَى](2) [الدَّغّلْ](3)
إنما الوردُ منَ الشَّوكِ وما ... [يَنبُتُ](4) النَّرجسُ إلا من بَصَلْ
[غيرَ](5) أني أحمدُ اللهَ على ... نسبي إذ بأبي بكرِ اتَّصلْ
هذه الأبيات الثلاثة متلازمة، أن المرء الذي يوفقه الله: بالإقبال على طاعة الله من العلم النافع، والعمل الصالح، أن هذا قد يسود على أبيه، ويصير أفضل: علمًا ودينًا من أبيه، وليس معناه: أنه ابن زنى لقيط، ولكن: فيه تقدير محذوف، قد يسود المرء إذا كان على تقوى أكثر من أبيه، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] أي: من غير أب سيد بتلك السيادة، إذ حصل للولد حسن تأديب وحسن تعليم على مؤدب صالح هذا السبك ينفي عنه الدغل الحاصل في أصله من سوء الخلق وغيره.
قوله رحمه الله:
إنما الوردُ منَ الشَّوكِ وما ... [يَنبُتُ](6) النَّرجسُ إلا من بَصَلْ
__________
(1) في نسختي: (م، ش) غير
(2) في نسختي (م، ش) ينفي وهو الصواب.
(3) في نسختي (م، ش) الزغل.
(4) في نسختي: (م، ش) يطلع.
(5) في نسحتي: (م، ش) مع.
(6) في نسختي: (م، ش) يطلع.(1/107)
بعض الشجر تجد في أساسها شوكًا، وتجد في أعلاها وردًا لها زهرة، ومعناه: أن الفرع قد يكون أحسن من الأصل، وذلك إذا توفرت فيه الشروط الماضية، والحالات الطيبة، وكل هذا يدل على أن المكرمة كلها منوطة بطاعة الله، وبكرم العلم والعمل، وليست منوطة بالأصول والفروع فحسب.
(وهل بنبت النرجس): زهر يخرج من البصل، له رائحة طيبة، جاءت فيه أحاديث ضعيفة أنه ينفع من الصداع، ومن الزكام، وأن له رائحة وله زهرة طيبة.
ولماذا ذكر هذه الأبيات؟ أبان أن هذا الذي ذكره: إنما هي حقائق وعلوم، ليس معناه أنه أراد أن يدفع عن نفسه ضعف نسب، فقال:
[غيرَ](1) أني أحمدُ اللهَ على ... نسبي إذ بأبي بكرِ اتَّصلْ
وأبو بكر: هو ذلك القرشي، الذي هو أفضل هذه الأمة بعد نبيها بإجماع المسلمين، ولكن المقصود: أن من تعزى بعزاء الجاهلية ليس له كرامة في ذلك العزى، قال النبي ?: «من تعزى بعزى الجاهلية؛ فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا».
وأن من كان على طاعة الله وتقواه هو المكرم، ومن كان على ضلال واعوجاج هو المهان، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، العزة لله، ولرسوله، وللمؤمنين.
والمؤمن يحمد الله على ما أعطاه، وأن الحمد يقتضي التواضع والشكر، لا التفاخر والتباهي؛ فهذا من شأن أهل العلم وأدبهم، فهو يقول: أحمد الله على ما يسر من هذا، فإن نسبي يتصل بأبي بكر، وما قلت ذاك دفاعًا عن نسبي، فمن وفقه أو من أعطاه الله مالًا أو جاهًا أو نسبًا من آل البيت أو غير ذلك يحمد الله على ذلك، ولا يفخر قال النبي ?: «إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، و فخرها بالآباء كلكم لآدم وآدم من تراب» وعبية الجاهلية: أي كبر الجاهلية، وغرور الجاهلية، الذين كانوا يفخرون، وربما حصل هجاءٌ من بعض الشعراء لقبائل أخرى على وجد الفخر كقول بعضهم:
فغض الطرف إنك من نميرٍ ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
__________
(1) في نسحتي: (م، ش) مع.(1/108)
وهذا منهي عنه فقد صح عند ابن ماجة من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ? قال: «إن أعظم الناس فرية»، وفي لفظ عند البخاري، في «الأدب المفرد» «جرمًا لرجل هاجى رجلًا، فهجا القبيلة بأسرها، ورجل أنتفى من أبيه وزنّى أمه».
قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، رب أعجمي خير من مئات من العرب، على أن شيخ الإسلام ذكر في «الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم» أن جنس العرب أفضل من جنس العجم في الجملة، أما على الأفراد فكما سبق بيانه، ومن حيث الجملة الرجال أفضل من النساء، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34]، وقد يوجد امرأة تقية أفضل من مئات من الرجال الفجرة، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وفي الحديث: «لهذا خير من ملئ الأرض مثل هذا».
قوله رحمه الله:
أُكتمِ الأمرينِ فقراً وغنى ... واكسَب الفَلْسَ وحاسب من بَطَلْ
قوله: اكتم الأمرين هذه نصيحة طيبة وهي نظير قول الآخر:
ألا تظهرن لعاذر أو عاذل ... حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
فالناس إن أظهرت لهم فقرك احتقروك، وإن أظهرت لهم غناك حسدوك، فاجعل كل أمرك لله سبحانه.
وأختلف العلماء في الكسب الحلال؛ أيهما أفضل وأطيب؟ فقال بعضهم: الزراعة، وقال بعضهم: التجارة، وقال بعضهم: الصناعة، وقال بعضهم: هي المغانم والفيء، وكلها مكاسب طيبة، وبعضهم رجح الزراعة؛ لما يستفاد منها، يستفيد منها الطير والمواشي والسراق والآخذون إلى غير ذلك، والله أعلم.(1/109)
قوله: (وحاسب من بطل) فيما يظهر من ذلك معاني: منها أنك تحاسب أي: تأخذ حقك من الذي هو بطل، ولا تبالي فالحق كما قال النبي ? «فإن لصاحب الحق مقالا»، سواء كان رئيسًا أو مرؤوسًا، أو أميرًا أو مأمورًا، وله عندك حق خذ حقك منه، حاسب من بطل، ولا تهاب طلب الحق الذي لك من إنسان، هذا وجه.
والوجه الثاني: حاسب من بطل، أي: حاسب صاحب البطالة؛ الذين ماذا عنده عمل يكف به نفسه ويكفي به عياله وما إلى ذلك، حاسبه بحيث تنصحه المحاسبة قد تأتي بمعنى المناصحة، تقول: أنت تحاسبني بمعنى تدقق علىَّ، وقد يحمل على نحو الأول وهو وحاسب من بطل ومنع دفع مالك حاسبه وطالبه بحقك وقد يحمل علة وجه ضعيف وهو وحاسب من بطل أي صاهر البطل حتى يكون البطل حسبًا لك فيصير أولاك كذلك، وهذا الوجه الأول أقرب منه.
قوله رحمه الله:
وادَّرع جداً وكداً واجتنبْ ... صُحبةَ الحمقى وأرباب الخَلَلْ
هذا البيت معناه: أنك ما تكون سبهللًا على غيرك، كن جادًا في طلبك للعلم، وجادًا في عزمك، وجادًا في البحث عن رزقك، وجادًا في ثباتك على الحق، وجادًا في كلامك، حتى يكون الجد والعزم من كثرة ملابستك له وملازمتك له كأنه صار درعًا، ملازمًا لك، لا ينفك عنك الجد، لا تكن عبارة عن هزال.
واجتنب ما يستدعي المجون، فالماجن: هو الذي لا يبالي بما صنع، أنا أظن لو أن مائة عالم تكلموا في عمرو خالد، ما بالى؛ لأنه ماجن، وما عنده صيانه لعرضه ولدينه.
ثبت عن عمر، أنه قال: اخشوشنوا؛ فإن النعم لا تدوم، وانظروا إلى الذين تعودوا على الكد من طلبة العلم، يأتي من مزارع أبيه وقد اخشوشنت يده، وصارت حرشاء من المسحة، أو حرشاء من المزرعة، أو متعب من رعية الأبقار والمواشي، أو يشتغل مع أبيه في الحجر والطين، وإذا جاء هنا تجد عنده نشاطًا، يقول: استرحت من ذلك العمل، ويعتبر نفسه مستريحًا.(1/110)
أما الذي تعود على الترف، فإنه يعتبره تعبًا، ومشى النبي ? حافيًا ومنتعلًا، وكان يعمل ويحمل الطين، ويرتجز مع الذين يرتجزون في بناء المسجد، وشارك في حفر الخندق، وعن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي ? فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: «أنا نازل»، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذوقا، فأخذ النبي ? المعول فضرب فعاد كثيبًا أهيل، وهم في حالة من السعادة لا يعلمها إلا الله، حتى في حفر الخندق وهم يعلمون أن قريشًا قد أتت بجحافلها إليهم، ولكن ثبات وعزم، وعدم مبالاة بمكر الكافرين: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]، وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
العزم يأهل السنة، حتى في الردود على أهل الباطل، وعدم المبالاة بهم، يمكن يقومون لك عشرة من الضايعين كل واحد يعمل شريطًا من هنا، وذاك يعمل ملزمة من هنا، وليس قصدهم إلا إشغالك وزعزعتك، خلهم ينتهي مشوارهم، وأنت ما تبالي، فأهل السنة: عودوا أنفسهم على الثبات، وعدم المبالاة بالمبطلين.
قوله: (وكدًا) الكد الكثير متعب للجسم، ولكن المقصود من ذلك: الصناعة، المقصود من ذلك: ما يكفي به الإنسان نفسه، وما يعيش به الإنسان بالرزق الحلال، سواءً كان عاملًا أو زارعًا، أو صانعًا، أو تاجرًا، على أي عمل، المقصود: لا تكن عالة على غيرك، فإن هذا ما هو شأن الذي له همٌ وعزمٌ، ولا يكون همك جمع الحطام، وإنما يكون همك إعزاز نفسك عن الناس.
والنصيحة الثانية: (واجتنب صُحبة الحمقى وأرباب الخلل) الأحمق إذا صاحبته ما يدوم لك، وهو متعب، ويقال: للحمقاء النوكاء.(1/111)
و(أرباب الخلل) يشمل المايعين، لا تصاحبهم؛ لأنهم أرباب خلل، والحزبيون لا تصاحبهم؛ لأنهم أرباب خلل، والمبتدعة لا تصاحبهم؛ لأنهم أرباب خلل، كلهم مخلخلون، هذا مخلخل بالبدعه، وهذا مخلخل بالفكر، فهذه النصحية عليها أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسول الله ?، في البعد عن جلساء السوء، حتى ولو كانت زوجة «فاظفر بذات الدين تربت يمينك»، لا يكن قصدك مجرد الجمال، وعندها خلل ديني؛ من شركيات، وبدع وخرفات وغير ذلك.
وحقيقة الحمق: وضع الشيء في غير موضعه، مع العلم بقبحه، كما في «النهاية» لابن الأثير يقال: استحمق الرجل: إذا فعل الحمق، واستحمقته وجدته أحمق.
قوله رحمه الله:
بينَ تبذيرٍ وبُخلٍ رُتبةٌ ... وكِلا هذينِ إنْ [زادَ](1) قَتَلْ
لا تخُضْ في [حق](2) سادات مَضَوا ... إنهم ليسوا بأهلِ للزَّلَلْ
[وتغاضى](3) عن أمورٍ إنه ... لم يفُزْ بالحمدِ إلا من غَفَلْ
__________
(1) في نسخة: (م) داما وفي: (ش) دام.
(2) في نسختي: (م، ش) سب
(3) في نسختي: (م، ش) وتغافل.(1/112)
هذه ثلاثة أبيات: النصيحة الأولى، أن يكون الإنسان معتدلًا في نفقته، قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29] فلا إسراف وتبذير، ولا بخل وتقتير، الإفراط مذموم، والتفريط مذموم، البخل مذموم، والإسراف والتبذير مذموم، والتبذير هو وضع المال في غير موضعه، المال في الحرام في غير موضعه، وبين الكرم والتبذير فرق؛ الكرم شيء، والتبذير شيء، بعض الناس يرادف بين الكرم والتبذير وهذا غلط، النبي ? يقول: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فحتى لو أكرمه بأنواع الطعام، ما يكون تبذيرًا، التبذير وضع المال في غير موضعه، قال النبي ?: «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة»، أخرجه البخاري من حديث خولة بنت عامر رضي الله عنها ولاسيما إذا كان يلقي المال في المزابل تعافه الكلاب.
أيضًا التخزين للقات من التبذير والإسراف، والدخان من التبذير والإسراف، والتنباك من التبذير والإسراف، وكم ترون في الأعراس والمآتم حتى يتعب أهل البيت، وميتهم متوفى وهم مرهقون من تقديم المدع، وتقديم الدخان والقات، على أن المآتم نفسها التي يقيمها الناس بهذا الاجتماع غير مشروعة، كما قيل:
ثلاث يشقى بها الدار ... العرس والمأتم والزارُ
إن زاد التبذير يقتل بالذنوب، وهو من أسباب الفقر، ويقتل بالمعاصي؛ فإن النبي ? أتاه رجل فقال: هلكت، قال: «وما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائمٌ، فاعتبر تلك المعصية هلكة، والنبي ? حبس الجيش على عقد عائشة، يلتمسون عقد عائشة؛ حتى لا يضيع ذلك المال.(1/113)
وجاء حديث: «لا تسرف بالماء وإن كنت على نهر جار» وهو ضعيف أخرجه ابن ماجة رقم (425) وفيه ابن لهيعة وحيي بن عبدالله المعافري ضعيفان، وله طريق اخرى فيها محمد بن الفضل بن عطيه ضعيف وأبوه كذاب ، قال الله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، مفهوم الآية: أن من أسرف لا يحبه الله، بل يبغضه.
وهناك أنواع من السرف كلٌ بحسبه، قد قال النبي ? كما في «الصحيحين» من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»، وهذه الكراهة ما هي كراهة تنزيه، بل كراهة تحريم.
والحديث فيه: تحريم البخل، والسرف فمنعًا في حق البخيل، وهات في طلب ما ليس له، ما ليس من حقه أن يأخذه.
* بينَ تبذيرٍ وبُخلٍ رُتبةٌ ... وكِلا هذينِ إنْ [زادَ](1) قَتَلْ
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] مفهومه: أن من لم يقه الله شح نفسه أنه ليس بمفلح، وكذ قول النبي ?: «شر ما في الرجل: شح هالع، وجبن خالع» من حديث أبي هريرة، وهو حديث صحيح، وفي «صحيح مسلم» من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ?: «واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
__________
(1) في نسخة: (م) داما وفي: (ش) دام.(1/114)
قال تعالى: {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] وقال عزوجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]، وقال النبي ?: «أنفق يا ابن آدم ينفق عليك ...» الحديث، ويقول: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا»، و النبي ? قال فيما يرويه عن ربه: «يا ابن آدم: إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى»، عن أبي أمامة رضي الله عنه.
قوله رحمه الله:
لا تخُضْ في [حق](1) سادات مَضَوا ... إنهم ليسوا بأهلِ للزَّلَلْ
(لا تخض في حقِ سادات مضوا) من أنبياء الله، ما يجوز الكلام فيهم عليهم الصلاة والسلام، بل يجب الثناء عليهم والصلاة عليهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150-151].
__________
(1) في نسختي: (م، ش) سب(1/115)
وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]الآيات، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مبينًا على أن من عادى نبيًا واحد أو سب نبيًا واحد أو رسولًا واحد أنه يكفر: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] سواءً كان هذا الرسول من البشر، أو رسول من الملائكة، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ} [الحج:75].
ويا هول مصيبة الذين يتنقصون الأنبياء؛ من دعاة الإخوان المسلمين، ومن الرافضة؛ مثل سيد قطب يتنقص نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، يقول: موسى عصبي!، وبعض دعاة الإخوان المسلمين لا يتحاشون من الطعون في الأنبياء والصحابة، نبي الله موسى، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، وغيرهما، أنظر إلى كتاب «خلفاء الرسول» لخالد محمد خالد، كيف ترى فيه من الطعون في عثمان رضي الله عنه.
ويشمل سادات الصحابة رضوان الله عليهم، لا تخض في حقهم، قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله قال : تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فنطهر منها ألسنتنا، فقد رضي الله عنهم جميعًا، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].(1/116)
وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]، وقال رسول الله ?: «لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»، وقال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8-9].
وكم لأصحاب النبي ? من الفضائل، وأنهم أمنه للأمة، كما أن النجوم أمنه السماء، كما في حديث أبي موسى، وقال ?: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أناس: يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن»، متفق عليه، عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن النبي ?.(1/117)
وقوله: (ليسوا بأهل للزلل) هم ماهم أهل للزلل، ولكن الزلل يطرأ على أحدهم، فليسوا معصومين عن الذنوب، لا عن صغائرها، ولا عن كبائرها، أما إجماعهم فمعصوم، وقد جاء حديث أن النبي ? قال: «لا تجتمع الله أمتي على ضلالة»، هذا ثابتٌ، وساق بعض طرقه الشيرازي في «التبصرة» مر بنا، وهكذا أيضًا الخطأ، وإن كان لفظ الخطأ في الحديث: «لا تجتمع أمتي على خطأ» فيه ضعف، لكن هذا المعنى صحيح، أن الأمة ما تجتمع على خطأ، لاسيما ذروة الأمة: وهم أصحاب رسول الله ?، ما يجتمعون على خطأ، والإجماع المتيقن المنضبط: هو أجماع الصحابة، كما بينه ابن تيمية رحمه الله، وحذا حذوه الصنعاني في «مزالق الأصوليين».
وهلالة تراب من قدم معاوية رضي الله عنه، خيرٌ من آلاف ضلال الشيعة، فليس مثل الصحبة شيء، والطحاوي رحمة الله عليه يشيد بالصحابة في «طحاويته» إشادة عظيمة، فيقول: وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
ويشيد بعلماء السلف إشادة عظيمة، فيقول: (وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.(1/118)
أما حديث: «لا تذكروا هلكاكم إلا بخير» وما في هذا الباب من الأحاديث، هذا ليس على إطلاقه، فعند هذا الحديث في «الصحيح» ذكر الحافظ إجماعًا، وكذلك النووي يذكر إجماعًا أنه لا يذكر إذا كان بما ليس بنصيحة للمسلمين، وما إلى ذلك من الأمور خاصة به، لا يذكر إلاّ بخير ويترك أمره إلى الله، أما بيان حاله للمسلمين: فتذكر مثالب المتوفى، ولو كان بعد موته؛ تحذيرًا للمسلمين؛ فيما إذا كان ذلك يضر بالمسلمين السكوت عنها، ولو سكت الناس عن «إحياء علوم الدين» للغزالي لأن الغزالي متوفي؛ لتضرر الناس بكتبه، وبأقواله، فكان من النصيحة: أن من له أضرار أو مخالفات للحق، تبين ولو بعد موته وكل بحسبه، قال ?: «الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم».
* لا تخُضْ في [حق](1) سادات مَضَوا ... إنهم ليسوا بأهلِ للزَّلَلْ
الأصل: أنهم متحرون للحق، وأنهم أتباع الحق، ومن كان من أهل البدع تبين بدعته ويحذر الناس منه، ومن كان من اهل السنة وحصلت منه زلة تجتنب ويحث الناس على إجلاله، وتغمر زلته فيما له من الخير.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
[وتغاضى](2) عن أمورٍ إنه ... لم يفُزْ بالحمدِ إلا من غَفَلْ
__________
(1) في نسختي: (م، ش) سب
(2) في نسختي: (م، ش) وتغافل.(1/119)
الغفله: مذمومة قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، الذين تمخضت في قلوبهم الغفلة؛ أضل من الأنعام، وقال الله سبحانه وتعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:1-3] أبان الله أن الغفله سبب للهو القلوب.
وقال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 19-22] نعوذ بالله من القسوة والغفلة.(1/120)
لكن المقصود من كلام ابن الوردي رحمه الله تعالى في هذه المنظومة النفيسة، (وتغاضي عن أمور) مما يصلح التغاضي فيها، فلا إفراط ولا تفريط، فالحزم مطلوب، قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، وقال الله لموسى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145] وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ?: «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص علي ما ينفعك، واستعن بالله»، وقال النبي ?: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين»، هذا يدل على عدم الغفلة، و على الانتباه واليقظة، وقال النبي ?: «أن المؤمن كيس فطن» والله عزوجل يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]، لابد من الحزم والنباهة، وعدم الغفلة، وهناك أمور: ما يبالي بها الإنسان، ينبغي أن يتغافل ويتغاضى عنها.
ولو يبقى الإنسان يريد أفخر الثياب، ومن أفخر المساكن، تغاضى عن أمور، تارة تحصل على شيء من الطعام الطيب، وتارة تحصل على طعام كما يسر الله تغاضى عنه هي أمور دنيا، قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].
ما يتعلق بالستر على بعض الناس ممن يستحق التغاضي عنه، وأيضًا يحصل عليك خطأٌ وزللٌ منهم تغاضى عن هذا، قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]، وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].(1/121)
التدقيق والمحاسبة في كل شيء تعب؛ عليك وعليهم، فقد ثبت من حديث معاوية رضي الله عنه، عند أبي داود، أن النبي ? قال: «أنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم»، ولا يفهم من ذلك: التغاضي عن البدع، والتميعّ، هذا فهم خاطئ، نعوذ بالله من التغاضي عن أمور لا يصلح التغاضي عنها، قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
لم يفز بالحمد إلا من غفل، تغافل عن أشياء؛ تغاضى عنها مثل زاد الملح، نقص الملح، يزيد البسباس، ينقص البسباس في الطعام؛ هذا يتغاضى عنه.
أيضًا فيما يتعلق بالعشرة: فيما يتعلق بالصبر على الأولاد، فيما يتعلق بحقوق الجوار؛ تحصل أساءه ومضاربه بين الأولاد، ومعناه: أن الإنسان يسايس الناس مسايسة شرعية، هذا معنى تغاضي عن أمور، يسايس أهل العلم مسايسة شرعيه، وطلبة العلم، وجيرانه: يسايسهم مسايسه شرعية، الأنبياء: كانوا يسوسون أممهم، وهكذا يسايس زوجته، و يسايس أبناءه، هذه السياسة الطيبة نسأل الله التوفيق.
وقوله رحمه الله:
ليسَ يخلو المرءُ مِنْ ضدٍّ [ولَو](1) ... حاولَ العُزلةَ في راسِ [الجبَلْ](2)
هذا: لا شك؛ أنه لابد له من ضد، بل وأضداد من الجن والإنس، قال تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وقال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
وما أحسن ما قيل:
ثمانية لا بد منها على الفتى ... ولابد أن تجري عليه الثمانية
سرور وبئس واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثم سقم وعافيه
__________
(1) في نسختي: (م، ش) وإن.
(2) في نسختي: (م، ش) جبل، بدون الألف واللام.(1/122)
وفي الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار»، علق ابن الوزير رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث في «الروض الباسم» قال:
ما سلم الله من بريته ... ولا نبيه نبي الهدى فكيف أنا
وفي «الصحيحين» قال رسول الله ?: «أو مخرجي هم؟»، قال ورقة: نعم، لم يأت رجل بما جئت به إلا عودي، فأمر الأذى أو ما يتعلق بالضد من الناس: تزخر به الأدلة من الكتاب والسنة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
و قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].
و قال الله سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2-3].
وقال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
و قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16].(1/123)
و قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، أدلة يطول ذكرها في هذا الصدد، قال رسول الله ?: «عجبا لأمر المؤمن: إن أمره له كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن!؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له»، والسراء والضراء غالبًا ما يأتي من الأمراض، والأذى، ومن الأولاد، ومن الحاسدين، ومن سائر الفتن.
ليس يخلو المرء من ضد من شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ؛ ربما بالصرع، وربما بإيذاء الجن له، بإيذاء الشياطين له، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، وقال الله سبحانه وتعالى عن الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119]، كل هذه من ضد الشيطان، يعتبر ضد الإنسان، وهو أعظم ضد له.
قوله: (ولو حاول العزلة في رأس الجبل) العزلة فيها تفصيل، فعزلة المعاصي والبدع والشركيات، والإقبال على العلم النافع والعمل الصالح والعبادة، هذه عزله عظيمة جدًا، هذه واجبة، أما اعتزال الناس، وعدم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والبعد عن صلاة الجمعة والجماعة، وعن صلاة الأعياد، وما إلى ذلك، وبيقى في زاوية؛ كما يفعله الصوفيه الضلال، فهذا ضلال بعيد، قال رسول الله ?: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين».(1/124)
وقال رسول الله ?: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام: ثم آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة؛ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار»، وقال: «الذي يخالط الناس، ويصبر على آذاهم، خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم» وقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
أدلة الأمر بالمعروف كثيرة، والعزلة اللازمة أن تعتزل المعاصي، وما نقله الخطابي رحمه الله في كتاب «العزلة»
آنست نفسي بنفسي ... فهي في الوحدة أنسي
وإذا آنست غيري ... فأحق الناس نفسي
فسد الناس فأضحى ... جنسهم غير جنسي
فلزمت البيت إلا ... عند تأذيني لخمسي
هذا فيه: أنه يصلي مع الجماعة، من قوله إلا عند تأذيني لخمسي، وأيضًا فيه أنه مقبل على شأنه بالبيت «من حسن إسلام المرء: تركه مالا يعنيه»، حديث مرسل صحيح، فهذه هي العزلة الصحيحة؛ أنه آنس نفسه بنفسه بالعلم والتعليم، والعبادة، وغير ذلك، وليس معناه: أنه أنزوى، وترك الواجبات.
وكذلك ما فعله ابن الوزير رحمه الله تعالى كما يصفه في هذه الأبيات، هو من العزلة المشروعة، قال رحمه الله:
فحينًا بطود تمطر السحب دونه ... أشم منيف بالغمام مؤزر
وحينًا بشعب بطن وادٍ كأنه ... حشا قلم تمسي به الطير تصفر
إذا التفت الساري به نحو قلة ... توهمها من طولها تتأخر
أجاور في أرجائه البوم والقطا ... فجيرتها للمرء أولى وأجدر
فإن يبست ثم المراعي وأجدبت ... فروض العلى والعلم والدين أخضر
ولا عار أن ينجو كريم بنفسه ... ولكن عارًا عجزه حين ينصر
فقد هاجر المختار قبلي وصحبه ... وفر إلى أرض النجاشي جعفر(1/125)
معناه أنه حين أراد الرافضة قتله عليه رحمة الله، اعتزلهم تارة يذهب إلى جبل، وتارة يذهب إلى شعب، يفر من مكان إلى مكان، ويعبد الله على السنة، وانظر إلى «الروض الباسم» والى «العواصم والقواصم» ترى ما حصل له من شدة الأذى من الرافضة؛ الذين كانوا من الأقارب والأباعد، إذا قرأت في كتبه تعلم أنه كان مجاهدًا حقًا، فهذا معناه: وأنه لم يكن معتزلًا على دأب الصوفية وشأن هؤلاء الضلال، وإنما عزلة صحيحة؛ فرارًا بالدين من الفتن.
وجاءت أحاديث عن النبي ?، تحث على اعتزال فتن الناس مثل حديث: «يوشك أن يكون خير مال المسلم: غنم يتبع بها شغف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»، هذا ولله الحمد لم يتعين، في هذه الأزمنة، فلا يزال الخير موجودًا قال ?: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم إلى قيام الساعة»، ونحن الآن بحاجة إلى المكافحة والمدافعة للباطل، بالدعوة والبيان، والحجة والبرهان.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
مِلْ عن النَمَّامِ [وازجُرُهُ](1) فما ... بلّغَ المكروهَ إلا من نَقَلْ
هذه نصيحة من هذا الإمام؛ أنك لا تركن إلى النمام، بل مل عنه، ولا تنبسط لكلامه، النمام ذو وجهين: يأتيك بوجه، ويأتي الآخر بوجه آخر، قال النبي ?: «شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه»، متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والنميمة تعتبر من الكبائر، وهي: نقل الكلام إلى الغير على جهة الإفساد، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].
__________
(1) في (ش) واهجره.(1/126)
النمام يفسد ما يفسده الساحر أو أعظم، ولهذا ذكروا النميمة في: باب السحر، وذكروا عند ذلك حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله ? : «ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس»، العضة: القطع، فهي تسبب المشاحنة والعداوة والبغضاء، وقطعية الرحم، والتهاجر، فالواجب التثبت كما أمر الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]؛ حتى لا تحصل هذه الأضرار على غير حقيقة، فإن من وراء النميمة أضرار خطيرة كثيرة، ولهذا ثبت في «الصحيحين» من حديث حذيفة رضي الله عنه، أن النبي ? قال: «لا يدخل الجنة قتات» أي نمام.
وأهل العلم يقولون النمام لا يدخل الجنة: إذا كان مستحلًا لها، أما إن كان من أهل التوحيد وليس مستحلًا لما حرم الله فأمره الى الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
النمام: مرتكب لكبيرة من الكبائر، وفي «الصحيحين» من حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال: مر رسول الله ? بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة» ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ فقال: «لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا»، وهذه خصيصة من خصائص النبي ?؛ لأن الله أطلعه على ذلك، أما نحن فلا نعلم أيعذب أم لا.(1/127)
ونقل الكلام على جهة الإفساد بين الناس، من فلان إلى فلان، هذا دأب المنافقين يرجفون به، قال الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60-61].
ولقد تفشى شر النميمة، وشر النقل الباطل المفسد الآن، ومن أشر النمامين، وأوسع باب النميمة: الجرائد والمجلات، وأخبار لندن، وسائر الإذاعات لا يوثق بها؛ ما هي إلا نقولات كلام، وسياسيات دنيوية.
والجرائد مليئة بالنميمة؛ قال فلان، و قال فلان، نقل كلام على جهة الإفساد، فما أشبه أصحاب الجرائد بالكهان الكاتب يخطف له كلمة، ويخلط معها مائة كذبة، ثم يعبئها بالأكاذيب والتركيبات والتحليلات، وما إلى ذلك، فلا يعبأ بهذه الجرائد والمجلات، فإنهم مالهم شأن عند العقلاء.
والجواسيس يا إخوان نمامون، كذبه، خراصون، ينقلون الكلام على جهة الإفساد، ياليت الجواسيس ينقلون الحق والصدق، لكن هو: يريد أن يتزلف عند ذلك المسئول بكذبه، أو يريد أن يرتقي عنده برتبه، زرنا مركز دماج أتيناهم ما كانوا متجاوبين، هذا والله من الكذب المفضوح، يعني: ما يتفاهمون، إيش هم وحوش؟ ما يتفاهمون! أو هم عجم، أو هم صم، أو ما هم؟!، أليسوا فقهاء عندهم علم؟، وهم يفهمون الناس، ويفقّهونهم الحق، وهم أئمة الناس وخطباء الناس، كيف ما يتفاهمون؟!، بعض المسرولين ما يفقه أحكام لباسه، ولا عقيدته، ولا صلاته، يأتي يقول: ما يتفاهمون، والله هذا من البهت، والتطاول، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
لابد من دققه، الأعوج يعدل إلى الحق؛ حتى يستقيم، وتعود الأمور الى نصابها، ما تبقى المفاهيم خاطئة، والحقائق مقلّبه.
قال ابن الوردي رحمه الله:(1/128)
دارِ جارَ السُّوءِ [بالصَّبرِ] وإنْ ... لمْ تجدْ صبراً فما أحلى النُّقَلْ
معنى ذلك: أن جار السوء يحتاج إلى صبر، وسواءً كان هذا الجار في الدار، أو جارًا أجنبيًا؛ صاحبًا بالجنب، أو جارًا في المزرعة، أو جارًا في الدكان، فالجوار أعم من أن يكون في السكن فقط، فإذا ابتليت بجار السوء في مزرعتك، أو جار السوء في بيتك، أو جار السوء في رحلتك، أو غير ذلك فاصبر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وعمر رضي الله عنه يقول: وجدنا خير عيشنا بالصبر، لا بد من الصبر البر، والفاجر، لا بد أن يصبر، وإن لم يصبر يضيق، هذه دنيا، والدنيا أسم على مسمى؛ دنيئة؛ إن ارتحت فيها الآن تضيق بها في وقتٍ آخر، وإن أنعمت فيها الآن، بئست بها في وقت آخر، وإن ذكرت بخير الآن ذكرت بسوء في وقت آخر، وعلى أي حال أنت تتقلب عليك من حين إلى آخر، فهي دنيا، لكن: يمشى فيها كما ييسر الله فيها سبحانه وتعالى، هذا والصبر أحسن ما يتعامل به الإنسان في هذه الدنيا، الصبر على العبادة، والصبر على الأذى، والصبر على المرض، والصبر على أهل السوء، والصبر على الأولاد، والصبر على السراء والضراء.
والمدارة جائزة، والمحرمة هي المداهنة، وقد دارى النبي ? أناسًا فأعطاهم أموالًا فأسلموا وحسن إسلامهم، فنفعوا وانتفعوا، كان الرجل يأتي إلى النبي ? يعطيه غنمًا بين جبلين يتألفه، فيسلم، وربما دارى من ضعف إسلامه بشيء من المال، نحن كما يقال:
لا خيل عندك تعطيها ولا مال ... فليحسن النطق إن لم يحسن الحال
فلا بد من مداراة بقدر ما يستطيع الإنسان.(1/129)
جار السوء: من البلوى، وأنت مأمور بالإحسان إلى الجار، ولو كان يهوديًا، فأبن عمر رضي الله عنه، كان يذبح الشاة، فيقول لأهله: هل أهديتم لجارتنا اليهودية؟ قالوا: ما أكثر ما تذكر جارك اليهودي!، فيقول: سمعت رسول الله ? يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه».
والجار على أنواع: إن كان كافرًا؛ فله حق الجوار فقط، كما هو شأن ابن عمر رضي الله عنه مع جاره اليهودي؛ من حيث الإهداء إليه ونحو ذلك، بدون محبة، وبدون ولاء.
وإن كان مسلمًا فله حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.
وإن كان مسلمًا رحمًا فله ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم، وقد قال رسول الله ?: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره»، وفي حديث أبي شريح: «فلا يؤذي جاره»، وهاتان روايتان، متفق عليهما.
إيذاء الجار: لا يحصل إلا من ضعيف الإيمان، أو من لا إيمان له، والإحسان إلى الجار: من مكارم الأخلاق، الذي هو من زيادة الإيمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله ?: «والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه»، وبوائقه: ظلمه، وغشمه، وأذاه، تارة ينظر إلى نساءه، وتارة يضرب أولاده، وتارة يشتمه، وتارة يتسلّق على بيته.(1/130)
هذه فتنه، نعوذ بالله من جار السوء، في دار المقامة: وعائشة رضي الله عنها تسأل وتقول: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: «إلى أقربهما منك بابا»، أخرجه البخاري، وكل من كان أقرب أحق بالهدية، وبالإحسان، وتحديد ذلك بأربعين بيتًا: ما جاء فيه ما يثبت عن النبي ? في تحديد أن المجورة أربعين بيتًا، هذا أمر اجتهادي، وما استطاع الإنسان فعله من الأقرب فالأقرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر: إذا طبخت مرقة فأكثر مائها، وتعاهد جيرانك»، أخرجه مسلم، وقال النبي ?: «يا نساء المسلمات: لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة»، متفق عليه، الفرسن: هو الظلف، فلا تحتقر هذا؛ لأنه إحسان، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].
ولا ترى محسنًا إلى جاره إلا تراه خيّرًا، ويدل على ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي ? قال: «خير الأصحاب عند الله: خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله: خيرهم لجاره»، هذا خير، فترى الذي يحسن إلى جيرانه ترى عنده خيرًا.
يذكرون من الطرائف: أن بعضهم كان له جار، يحسن إليه، ثم استأذن وأراد أن يبيع داره، وهو آسف وحزين على فراق جاره، فجاء من يشتري البيت، فقال: بيتي بكذا، وجاري بكذا، يعني بنفس قيمة البيت أو أكثر من قيمة البيت، فعلم جاره بما قال، فأدى عنه الدين، وقال ابقى في دارك.(1/131)
دار جار السوء بالصبر، وإذا ما استطعت أن تصبر، فانتقل، سيجعل الله لك مخرجًا، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، وكما قيل:
والصبر مثل اسمه مرٌ مذاقته ... لكن عواقبه أحلى من العسل
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
جانِبِ السُّلطانَ واحذرْ بطشَهُ ... لا [تُعانِدْ](1) مَنْ إذا قالَ فَعَلْ
هذه نصيحة للثوريين، نصيحة للحمقى والمغفلين، نصيحة للانقلابيين.
والله أنه من السفه يا إخوان: الخروج بمسدسه، وأليّه، أو رشاشه، على دولة وحكومة، وشعب، وعلى قوات بريه وبحريه وجوية، وهل جنى أحد ممن خرج على الحكام خيرًا؟، أبدًا، المعلمي رحمه الله يقول: ما يحصل على الخروج على الحكام إلا الشر، على ممر التاريخ، وانظروا بارك الله فيكم «البداية والنهاية» حوادث سنة: أربع وثمانين: ما يتعلق بخروج أولئك على الحجاج، وهو كان أميرًا لابن مروان.
من عقيدة أهل السنة: عدم الخروج على أئمة المسلمين وإن جاروا، قال الطحاوي رحمه الله، في «العقيدة الطحاوية»: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة.
__________
(1) في نسخة: (ش) تخاصم.(1/132)
في «الصحيحين» من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي ? أمر بطاعتهم: «ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وقال ?: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم»، أخرجه مسلم، من حديث وائل بن حجر، قال: سمعت رسول الله ? ورجل سأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ فقال رسول الله ?: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم»، وقال ?: «إنها ستكون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وقال ?: «ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»، من حديث أبي هريرة، متفق عليه، وقال رسول الله ?: «من رأى أميره يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت: إلا مات ميتة جاهلية».
هؤلاء الروافض بخروجهم هذا: يموتون موتة الجاهلية؛ والخوارج، وأصحاب هذا الفكر البطال؛ الذي يسمونه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من معتزله، ومن ممن يستحل السيف على ولاة أمور المسلمين، هذا لا يجوز.
والمنكرات ليست مفروضة علينا، ولا على حكامنا، ولا على بلدنا، ولا على مسلم من المسلمين، قال ?: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
ولا يجوز السكوت على المنكر أبدًا، لكن: إنكار بلا خروج، بلا فتنة، إنكار بغير انقلاب، أنكر الديمقراطية، أنكر الانتخابات، أنكر الحزبية، أنكر البدع والخرفات، أنكر الشركيات، أنكر الخمور، أنكر الزنى، أنكر بنوك الربى، يجب أن ينكرها كل مسلم، بغير فتنة، وفي حديث الحارث الأشعري: «من فارق الجماعة، فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه»، وفي حديث حذيفة: «الزم جماعة المسلمين وإمامهم».(1/133)
الخروج فتنة، وشر، الخروج: فيه تعطيل مساجد المسلمين، فيه تعطيل أسواق المسلمين، فيه تعطيل جماعات المسلمين، ومزارع المسلمين، فيه تعطيل مواشي المسلمين، فيه ترميل النساء، وتيتيم الأطفال، فيه ظلم الأبرياء، كل هذا يحصل من الخروج، كم فيه من الأضرار الدينية والدنيوية؟، فنشهد الله على أننا نبغض الخروج على الحكام من قلوبنا، نبغض الخروج، وننكر المنكر، نبغض الانقلابات، و نبغض التفجيرات؛ التي تضر المسلمين، وبلدان المسلمين، وبأسواق المسلمين، وبدور المسلمين.
التفجيرات: فيها القتل الساحق، فيها الأضرار المهيلة، وظلم الأبرياء، ونبغض المظاهرات الهمجية، وكل ما يضر المسلمين في دينهم ودنياهم، يجب على المسلمين أن يبغضوه.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
أولو الأمر: يشمل أمراء المسلمين، وعلماء المسلمين، والواجب: تضافر الجهود بينهم، أولي الأمر من علماء وأمراء؛ فالعالم يبين الحكم الشرعي، ولوالي ينفذه، والحاكم بحاجة إلى العالم؛ من حيث بيان الأحكام الشرعية، والعالم بحاجة إلى الحاكم من حيث تنفيذ الأحكام الشرعية، وقد ذكر ابن الوردي رحمه الله مناظرة السيف والقلم، كما في «جواهر الأدب» للهاشمي، ثم لم يرجح؛ أيهما أهم وأنفع.(1/134)
وفي الباب حديث: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ? فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ? الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ?، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي: إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ: فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ، وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ؛ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا إذا بايعنا رسول الله ? على السمع والطاعة يقول لنا: «فيما استطعتم»، عن بن عمر قال: قال رسول الله ?: «على المرء السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية؛ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، وحديث أنس رضي الله عنه، في البخاري، أن رسول الله ? قال: «أسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة».(1/135)
إنها تأديبات نبوية؛ تحقن دماء المسلمين، وأعراض المسلمين، وأموال المسلمين، وما حصل من ظلم الوالي؛ والله بسبب ذنوب الناس، هذا مقرر في كتب العقيدة مثل «شرح الطحاوية» لابن أبي العز رحمه الله، أن المسلمين إذا أرادوا أن يرفعوا عن أنفسهم الظلم، وعن غيرهم، لا يتظالمون، والشرك ظلم ٌ عظيم، وهو حاصل، والظلم بين الناس بعضهم بعضًا حاصل، والله عز وجل يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
وإذا حصلت الاستقامة في المسلمين، حصل الخير، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، نسأل الله أن يصلح ولاة أمور المسلمين، وأن يأخذ بنواصيهم للخير، ويرفع عنا وعن سائر المسلمين هذا الذل، من الكفار؛ الكفار مسيطرون، والسبب في ذلك: ذنوب الجميع، ولا يفهم من هذا أن ولاة أمور المسلمين بررة، فعندهم من المعاصي ما عندهم، نسأل الله أن يصلحهم، لكن هذه المعاصي: حصلت من الأمراء في زمن بني أمية، وحصلت المعاصي في زمن الدولة العباسية، وتعالج بالنصح، وتعالج بالصبر، وتعالج بالدعاء، وتعالج بالدعوة إلى الله؛ على بصيرة، إلى كتاب الله، وسنة رسول الله ?، بالحكمة والموعظة الحسنة، وتعالج بالعلم والتعليم، ورد الناس إلى الهدى، تعالج بالفقه الصحيح؛ فإن الفقه يرفع عنك عبئًا، إذا تفقه المجتمع: رفع عن غيره عبئًا فيتعامل بالدليل من الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59].
تعالج بما عالج السلف رضوان الله عليهم بذلك.(1/136)
فأولياء الأمور: تأمن بهم السبل، وتضبط بهم الحقوق، ولو بعض الحقوق وهم القائمون على الحدود، والقصاص، وقطع يد السارق، والقائمون على الأعياد، وهم القائمون على الصيام والفطر، هذه شؤونهم، القائمون على الثغور إن حصل ذلك.
فينبغي أن يعانوا بالدعاء لهم بالصلاح، ويصبر على ظلمهم، ويصبر على ما يحصل منهم، وما حصل منهم من دعوى إلى باطل: بسبب دعوة المبطلين؛ وبسب مجالسة أهل الشر؛ ينصحون في ذلك، ولا يقر المنكر، يبين المنكر للناس يحذرونه، قال ?: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم».
وهذه فوائد ذكرها الإمام ابن كثير في «البداية والنهاية» نذكرها باختصار، قال بعد أن ذكر الذين خرجوا على الوالي، ونائبه الحجاج، هذا في حوادث سنة أربع وثمانين، قال: وإنما ذكر ابن جرير مقتل ابن الأشعث في سنة خمس وثمانين، فالله أعلم، وعبد الرحمن هذا: هو أبو محمد الأشعث بن قيس الكندي الكوفي، قد روى له أبو داود، والنسائي، عن أبيه، عن جده، عن ابن مسعود حديث: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، فالقول ما قال البائع، أو يتفرقا»، وعنه أبو العميس.
ويقال: أن الحجاج قتله بعد التسعين سنه، والله أعلم، والعجب كل العجب: من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة، وليس من قريش، إنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، هذا وإذا استتب الأمر لولي الأمر: لا يجوز الخروج عليه، ولو كان من غير قريش، للأدلة التي ذكرناها، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالأمارة على المسلمين من سنين، فيعزلونه، وهو من صليبة قريش، ويبايعون لرجل كندي؟!، بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد، ولهذا كانت هذه زلة وفلتة، نشأ بسببها شر كبير، هلك فيها خلقٌ كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:(1/137)
لا تَلِ [الأحكامَ](1) إنْ هُمْ سألوا ... رغبةً فيكَ وخالفْ مَنْ عَذَلْ
إنَّ نصفَ الناسِ أعداءٌ لمنْ ... وليَ الأحكامَ هذا إن عَدَلْ
فهو كالمحبوسِ عن لذَّاتهِ ... وكِلا كفّيه في الحشر تُغَلْ
لا تشغل نفسك، وإن قالوا: أنت أهل لذلك: تكون قاضيًا، أو مديرًا، إلى آخره، تلك الأعمال التي يتقادع عليها الناس كتقادع الفراش.
وأقبح من هذا كله: الجاسوسية، الجاسوس يذهب ممكن في أتفه الأماكن؛ من أجل أن يتجسس، ويجعل نفسه في كدافة، وقمامة، يتمرغ فيها، ويظهر نفسه مجنونًا، ولعابه يسيل على ذقنه، ينتف لحيته، ويخرش نفسه؛ يظهر أنه أبله، قد يكون جاسوسًا لبعض الدول الكافرة، الإمام النووي رحمه الله: نقل قول جماهير أهل العلم: على أن الجاسوس للكفار يقتله ولي الأمر.
* لا تَلِ [الأحكامَ] إنْ هُمْ سألوا ... رغبةً فيكَ وخالفْ مَنْ عَذَلْ
في شرح كتاب الأحكام، من «صحيح البخاري» الباب: السادس عشر، نقل الحافظ شروط ولاية القضاء، وهي: شروط عظيمة، ما هي تسلّقات على القضاء؛ بالعسل، وبالرشاوي، أو تخرج من كلية القضاء، ويصير قاضيًا، وهو ما يعرف كوعه من بوعه.
فأنت طلبك للعلم: خيرٌ لك؛ والله من القضاء، وخيرٌ لك والله من أن تكون رئيس دوله، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقول النبي ?: «من يرد الله به خيرًا: يفقهه في الدين»، وقول النبي ?: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وفي رواية: «أفضلكم»، وقول النبي ?: «إن الله عز و جل، و ملائكته، و أهل السموات، و الأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في الماء: ليصلون على معلم الناس الخير».
__________
(1) في نسختي: (م، ش) الحكم.(1/138)
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
إنَّ للنقصِ والاستثقالِ في ... لفظةِ القاضي لَوَعظا [أو](1) مَثَلْ
لا [تُوازى](2) لذةُ الحُكمِ بما ... ذاقَهُ الشخصُ إذا الشخصُ انعزلْ
هذان البيتان: فيهما نصح، وتحذير؛ في البعد عن القضاء، أنت عرضه للعزل عن تلك الوظيفة، وما أحد يستطيع يعزلك عن العلم، يقول: أنت معزول، ما تكون عالمًا أبدًا، ما تعزل كلمتك، كلمة عالم، وكتابك كتاب عالم، وقولك قول عالم، أما الوظيفة ينعزل عنها.
* إنَّ للنقصِ والاستثقالِ في ... لفظةِ القاضي لَوَعظا [أو] مَثَلْ
الاسم المنقوص: ما كان آخره ياء ساكنه، وتقدمها كسر، هذا لا يختص بالقاضي، بل في القاضي، والداعي، والوالي، والحامي، فهذا بلاغة من هذا الإمام، وأيضًا: هو تمثيل، وإلا فهذا النقص والاستثقال ما يختص بالقاضي فقط، والاسم المنقوص في إعرابه: ما تظهر عليه الضمة؛ لثقلها، منع من ظهورها الاسثقال، تقول: جاء القاضيْ، قال الحريري في الملحة:
والياء في القاضي وفي المستشري ... ساكنة في رفعها والجر
وتفتح الباء إذا ما نصب ... نحو لقيت القاضي المهذبا
لأنها: ما تظهر؛ لثقلها في الرفع، وفي الجر، وتظهر عند النصب؛ لخفتها، هذا معنى البيت، أن فيها وعظ، أو مثل؛ لأنها ثقيلة، فالقضاء ثقيل.
وأيضًا: فيه نقص لدينك إن لم تقم به كما أمر الله، فأنتبه لا تنقص دينك به، ولا تثقل على نفسك به، قال النبي ?: «يا أبا ذر: إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، فلا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم».
__________
(1) في نسختي: (م، ش) و.
(2) في (ش) تساوي.(1/139)
وقال رسول الله ?: «ما من والي ثلاثة: إلا لقي الله مغلولة يمينه، فكه عدله، أو غلّه جوره»، الحديث حديث أبي هريرة، وهو ثابت عن النبي ?، كما ثبت من حديث بريدة، عن رسول الله ? أنه قال: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل جار في الحكم، فهو في النار».
أما القاضي الذي في الجنة، فهو الذي عرف الحق وعمل به، وهذا قليل جدًا، كيف حال الذين يقضون الآن: بالقوانين؟ ياهول مصيبتهم، والله يعرفون الحق، وما يقضون بالحق، يقضون: بالقوانين، قوانين وضعية، حكم البشر، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، ويقول: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] ويقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
فالذي يقضي بالقوانين الوضعية، ويترك كتاب الله، وسنة رسول الله ? معرض.
يا أخي: لو تعطى في الشهر الملايين، وأنت تقول غير الحق، وتقضي بغير كتاب الله، وسنة رسول الله ?، أنت خاسر، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
وكما نذكر لإخواننا أن أبا قلابة الجرمي، أمام من أئمة المسلمين، أرادوه للقضاء في الشام، ففر إلى اليمامة.(1/140)
قال أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو تلميذه: لو وليت هذا القضاء فتعدل بين الناس، فتؤجر، قال: إن السابح ماعساه أن يسبح؟، الذي يحسن السباحة في البحر ما عساه أن يسبح؟، كم سيسبح أيامًا، ما يدري إلا وقد غرق، هؤلاء أئمة الدين، الذين كانوا ينظرون نظره أخروية، لما يقدمون عليه.
سفيان الثوري: يدعى إلى القضاء، فيظهر أنه أبله، ويأتي إلى الوالي بعد ذلك ينظر في الفراش، يقول: ما أحسن فراشكم، ثم يقول: بي بول، بي بول، قالوا: أخرج أخرج.
وبعضهم تأتي إليه أمه تعاتبه تقول: أرادك ابن هبيرة على القضاء، وتأبي، وينكس رأسه، يخافون على علمهم، وعلى ما عندهم من الخير، وخافوا من الهدايا والرشاوي، وتلك الأبيات المنسوبة إلى ابن المبارك لها طرق تصلح بها، وفيها موعظة لأحد تلاميذه وهو إسماعيل بن علية لما ولي القضاء وأرسل إلى ابن المبارك يطلب نصحه فأرسل له هذه الأبيات فلما قرأها ابن علية قال: الله الله ارحم شيبتي ثم ترك القضاء وانصرف وهي:
يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين
أحتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا ً بها ... بعدما كنت دواءً للمجانين
أين روايتك فيما مضى ... عن ابن عون وابن سيرين
أين روايتك في سردها ... في ترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فذا باطلٌ ... زل حمار العلم في الطين(1/141)
وشريك القاضي لما ولي القضاء ساء حفظه، فهم يحافظون على علومهم، وإلاّ فهم يمكنونهم من القضاء بالدليل، وربما بعضهم على المذهب، لكن: مع الدليل، إذا عنده دليل يبرزه، الآن يتخرج أحدهم من كلية الصوفي الضليل مرعي صاحب الحديدة؛ التي تخرّج المشعوذين، وتخرج السحرة، وتخرج المتبردقه، تخرج المخزنين المدخنين، ثم يأخذ له نحو أربع سنين، ويذهب قاضيًا، لكن: قاضي خاوي، ما عنده شيء من العلم، قاضي صوفي، متهوك، فمثل هؤلاء القضاة نكد في نكد، وعلى نحو هؤلاء القضاة ألفنا رسالة: «النصيحة المحتومة لقضاة السوء وعلماء الحكومة» هؤلاء القضاة من صوفية، ومن شيعة، ومن أمثال الذين يعبثون بالقضاء، وما معه إلا الميزان فوق رأسه، والحكم خلاف القسط، والميزان.
ويصدق عليهم ما في «إصلاح المجتمع للبيحاني» تلك الأبيات:
قضاة زماننا أضحوا لصوصا ... عمومًا في البرية لا خصوصا
أباحوا أكل أموال اليتامى ... كأنهم رأوا في ذا نصوصا
ولو عند التحية صافحونا ... لسلوا من أصابعنا الفصوصا
ولو أمروا بقسمة ألف ثوبٍ ... لما أعطوا لعريان قميصا
فدعني يا أخي من أناس ... يبيعو دينهم بيعًا رخيصا
ولنا تعقب على قوله: (عمومًا في البرية لا خصوصا) فهذا ما هو على إطلاقه، ونقل قول بعضهم:
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
يا أيها القاضي كم من أرواح تزهق أثر قلمك الآثم؟ وكم من أموال تأخذ أثر قلمك؟ وكم من أعراض تهتك أثر قلمك؟ أتق الله، كل من ولي الحكم يجب عليه أن يتقِ الله في المسلمين: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته»، وفي الحديث الآخر: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة، إلا لم يجد رائحة الجنة».(1/142)
وقول ابن الوردي رحمه الله: (لا تساوي لذة الحكم) معنى ذلك: أن لذة الحكم لا تساوي العزل عن الحكم، الحزن الذي يصيبه، والنكد الذي يصيبه، يكون قد توسع في المطعم والمشرب والمسكن، ثم إذا عزل صار حاله ضيقًا، فهذا يضيق عليه جدًا، لا يستطيع أن يصبر على الحال الذي كان عليه قبل القضاء، وقبل ولاية الحكم، أيضًا يكون أذا خرج يخرج معه الحرس، فإذا عزل يحمل زنبيله ويذهب يتقضى وما معه أحد، هذا يضيق منه ذلك الذي ضعيف إيمان بالقدر، وهو همه الدنيا.
والله هذا درس، يا أخوه: درس لأولئك الانتخابيين الذين إذا فاز في الإنتخابات، كبر رأسه، وتراه يرى الناس عنده، عبارة عن مساكين بالنسبة له، ويفخفخ على تلك السيارة، وعلى ذلك المسكن، ويحسب حساب الانتخابات الثانية، فإذا قدر عليه أنه سقط، يتحطم تحطيمًا، وبعد ذلك يكره الإنتخابات، يقول: هذه الانتخابات صحيح كما يقول أهل السنة، إنها ما فيها خير، قبل ذلك يدافع عنها، ومن تكلم عن الانتخابات يحمر أنفه، المسألة فيها هوى، وفيها دنيا، وليس للتجرد للحق، وإلا فوالله يعلمون أنها باطلة.
فالذي ينعزل عن الحكم، بعد أن كان حاكمًا تزول عنه تلك اللذة التي ذاقها وسعى من أجلها، كما حصل لابن مقلة: أنه كان وزيرًا لثلاثة أمراء من العباسيين، ثم بعد ذلك يعزل عن الحكم من أجل بعض القضايا، ثم يدخل السجن، ثم تقطع يده، بعد أن كبر سنه، وبعد ذلك يقول:
ما سئمت الحياة لكن توثقت بأيمانهم ... توثقت فبانت يميني
بعت ديني لهم بدنياي حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني
ولقد حطت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذة عيشٍ ... يا حياتي بانت يميني فبيني
قطعوا يمينه بعد أن صارت الطيور على بيوته تغرد! وهو في أوسط البساتين، وأنواع الخيول وأنواع، والأبقار بأنواع المواشي، والدنيا بزخرفها عنده، بعد ذلك صار إلى السجن قصة عجيبة ذكرناها في «النصيحة المحتومة».(1/143)
والبرامكة هارون الرشيد نكل بهم أيما تنكيل، قتل بعضهم، وشرد بعضهم، وقد كان منهم من هو من قرابته، ونكل بهم، وصاروا في نكد من العيش.
أما هؤلاء المسئولون الآن: عندهم ذكاء في الدنيا، في خلال سنين يصير مثلًا محافظًا، أو يصير مديرًا، أو يصير قاضيًا، ممكن يجهز له ولولده، فهو يتوقع أنه سينتقل يومًا من الدهر، يتوقع هذا، مهما حصل سواءٌ من هذا المسئول، أو من غيره، يكدس ويجهز له ولولده من الحيل والرشاوي، ومع ذلك ما يجد الراحة الذي كان فيها، أنت في سلامة، يا أخي أنت في خير، في نعمه، كل يوم تزداد علمًا، وكل يوم معنوياتك ترتفع، مع كتاب الله وسنة رسول الله ?، لا أحد ينافسك في الإنتخابات، ولا تنافس أحدًا:
هذا الحمال لا حمال خيبرا ... هذا أبر ربنا وأكبرا
وجاءت: وأطهرا، بدا: وأكبرا.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
فالولاياتُ وإن طابتْ لمنْ ... ذاقَها فالسُّمُّ في ذاكَ العَسَلْ
هكذا يقول ابن الوردي رحمه الله، أن أهل الولايات حتى وإن طابت لمن ذاقها واستراح إليها؛ فإنه عسله مخلوط بسم، العسل إذا خلط بسم يقتل، ما ينفع، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} [الإسراء:82]، وقال: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:69]، لكن مع ذلك ما ينفع من السم الحاصل فيه، دل هذا: على أن الباطل إذا خلط بالحق فيه ضرر، ويذهب نفعه.
وأن الإنسان إذا ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين، كما ثبت عن رسول الله ?: «من ولي القضاء: فقد ذبح بغير سكين».
هذا وفروع القضاء كثيرة، ومن تسند إليه أحكام يقضي فيها بغير الحق، فقد عرض نفسه لهذا الوعيد سواء كان باسم قاضي أو باسم مدير أو غير ذلك من التسميات فالواجب تحري الحق.(1/144)
والسم في الولايات: من حيث الإثم، ومن حيث تضييع الأوقات، من حيث ذهاب الدين، إن لم يذهب دينه كله، بحيث أنه يصير قاضيًا بغير ما أنزل الله، وراغبًا في ذلك وراضيًا، وداعيًا إلى ذلك، فإن كان على جهلٍ، أو كان لشهوة نفس، أو كان لمطمع دنيا، ويقضي على حسب هذه الأحوال؛ فأنه يذهب بعض دينه، ويصير عاصيًا من عصاة المسلمين، فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما دلت على ذلك الأدلة من القرآن والسنة.
ينبغي أن يتداركوا أنفسهم بنصرة الحق، وأن يتداركوا أنفسهم بمجالسة العلماء الناصحين، حتى يكون لهم رفقاء صدق، إن أخطأ أحدهم صوبوه، وإن اعوج قوموه، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب مجلسة هم القراء، وأصحاب مشاورته، ما كان أصحاب مشاورته النساء، ولا كان أصحاب مشاورته الجهال وأصحاب الأهواء والأطماع، وإذا حصلت قضية أشكلت عليه جمع أهل الحل والعقد.
قال ابن الوردي رحمه الله:
نَصَبُ المنصِبِ أوهى [جَلَدي](1) ... وعنائي من مُداراةِ السَّفلْ
قَصِّرِ الآمالَ في الدنيا تفُزْ ... فدليلُ العقلِ تقصيرُ الأملْ
هذان البيتان، أحدهما: أنه يشكو مما حصل له في القضاء، ومما حصل له في المنصب من التعب، وأتعاب والمنصب هو التعب، كما في الحديث: «بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه و لا نصب»، أي: لا تعب فيه، وقال تعالى: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].
نصب المنصب، والمنصب: الذي تولاه هو القضاء كما ذكرنا ذلك في المقدمة، قال: أوهى جسدي، أي: أتعب جسدي، وهى البيت تدهور وانهار.
* نَصَبُ المنصِبِ أوهى [جَلَدي] ... وعنائي من مُداراةِ السَّفلْ
أي: من كثرة النصب، والمعاناة من مدارة السفل تعب، الناظم ذكر التعبين، تعب الجسد، وتعب القلب، الجسد من النصب، وتعب القلب من مداراة السفل، كما قيل:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يجد ... عدوًا له ما من صداقته بد
__________
(1) في (ش) جسدي.(1/145)
الذي يتولى الولايات يحتاج أن يصبر على البليد، ويحتاج أن يصبر على كثير من الكلام، ويحتاج أن يصبر على أنواع الناس، والناس يتفاوتون، فلهذا يتعب، ومما أوهى جسده مداراة السفل، ثم القضاة قد يتولون مهامًا كبيرة، يريد أن يقضي بالحق، ويريد أن ينظر في الأحكام، ويريد أن يفكر في القضايا، ويريد أن يتفرس في الشكاوي، وفي الشاكين، ويريد أن يبحث في الأدلة فيما أشكلت عليه، فكم من قضيه تأتيه مشكلة عظيمة؟ الذي يخاف الله يهاب القضاء فيها، حتى يبحث أو يسأل من في بلده من أهل العلم، وغير ذلك من الأمور، إنما هؤلاء الذين ما يبالون تجد عنده وريقات تسمى القانون يمشي عليها، ومشغول بدنياه.
قوله:
* قَصِّرِ الآمالَ في الدنيا تفُزْ ... فدليلُ العقلِ تقصيرُ الأملْ
هذا البيت: يعتبر موعظة، فتقصير الأمل عن أمور الدنيا هذا دليل أن الإنسان عاقل، وأما الطائشون فعندهم آمال في الدنيا تؤدي بهم إلى الظلم، و آمال تؤدي بهم إلى الغش، والخداع والزور والبهتان، وسائر أنواع الفجور، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وقال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، آمالهم طويلة، ونسيانهم للموت جعلهم لا يتهيبون لما يقدمون عليه، في كثير من الأمور، والنبي ? قال: «أكثروا ذكر هاذم اللذات»، والحديث صحيح بمجموع طرقه، كما بينا طرقه بحمد الله في «جامع الأدلة والترجيحات».(1/146)
ومثله حديث: يا رسول الله أي الناس أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرًا للموت»، وهذا الحديث أيضًا صحيح، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان 33-34].
تقصير الأمل: يعينك على التزود من أعمال الآخرة، وعلى الورع ويعينك على كلمة الحق، ويعينك على كل خير، أما تطويل الأمل في الدنيا، ومطامع الدنيا فغفلة ساحقة.
قصر الأمل، ففي حديث أنس، قال: خط رسول الله ? خطًا، وقال: «هذا الإنسان»، وخط إلى جنبه خطًا، وقال: «هذا أجله» وخط آخر بعيدا منه فقال: «هذا الأمل فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب».
والنبي ? عود أصحابه على تقصر الأمل في أمور الدنيا، رباهم على ذلك، قال لابن عمر: «يا عبد الله، كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»، و النبي ? يقول: «ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»، عن أنس، رواه البخاري.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
إن منْ يطلبهُ الموتُ على ... غِرَّةٍ منه جديرٌ بالوَجَلْ
كل نفسٍ مطلوبة، فهو يطلبها حثيثًا، ومن لم يذقه الآن، يذوقه غدًا، ومن لم يذقه غدًا، سيذوقه بعد غدٍ.(1/147)
وما أحسن تلك القصة التي تذكر عن الحسن البصري، أنه طلبه الحجاج الجبار، ولما دخل عليه الحسن البصري، قال له: يا حجاج كم بينك وبين آدم؟ قال له: قرون كثيرة، قال له: أين هم؟ قال: ماتوا، ثم أطرق، والحسن خرج، أعطاه موعظة بليغة، هؤلاء الذين هلكوا، ما أنت فيهم؟ الله ليس عاجزًا عنك، وما أنت بأعز على الله من هؤلاء الذين قد أهلكهم الله من أمثالك، موعظة باختصار، وهذا يدل أن الحجاج أتعظ، وذكر الموت، بعضهم حتى ما يتذكر الموت، عنده غفلة حتى عن التذكر، والحجاج الراجح من أقوال العلماء أنه مسلمٌ فاجر، بلغ من الفجور عتيًا، ظالم بلغ من الظلم ما يقتل في اليوم كذا وكذا من الناس، من العلماء وغيرهم.
والموت يأت على غرة منك، ما يعطيك موعدًا، يقول: موعدك يوم السبت أزورك في الصباح، أو وقت كذا وكذا، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
وإنما هناك علامات عندك تعرف بها، في قول الله تعالى: {وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]، قال بعضهم: الشيب، وقال بعضهم: النذير رسول الله ?، وليس هو الشيب، والأخير هو الصحيح، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45]، ولا دليل على أن الشيب اسمه النذير، وأيضًا النذير تقوم به حجة، والحجة لا تقوم بالشيب، فتفسير الشيب أنه النذير هذا غلط.(1/148)
حري بالعبد أن يبقى في غاية الخوف والوجل؛ فإنه لا يدري متى يأتيه الموت، وعلى أي حالة يأتيه الموت، وليكن أهم شيء عندك أيها المسلم: أن يأتيك الموت وأنت على خاتمة طيبة، يأتيك الموت قد عسلك الله بأعمال صالحة، قال رسول الله ?: «إذا أحب الله عبدا عسله»، قالوا: وما عسله يا رسول الله؟ قال: «ييسر له عملا صالحا قبل موته، فيقبضه عليه»، وفي نسخه: «غسله» والصواب: «عسله»، أي يكون حاله طيبًا عند الصالحين.
فعليك بالتوبة، حتى ولو كنت من الصالحين، يحتاج أن تجدد التوبة كل يوم، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال النبي ?: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة»، وقال ابن عمر: كنا نعد لرسول الله ? في المجلس الواحد مائة مرة، رب اغفر لي وتب علي، وهو حديث صحيح.
المؤمنون مخاطبون بالتوبة، فما من يوم يمر بك إلا وأنت تقترف الذنوب، عرفت أو لم تعرف، وإن الله عزوجل قد جعل مكفرات من أعظمها التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، ونسأل الله أن يصلح أحوالنا جميعًا.(1/149)
ينبغي للإنسان أن يتذكر الموت، ويتذكر ما يقدم عليه، حث رسول الله ? «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، فحث على زيارة القبور؛ من أجل تذكر الآخرة، وتذكر الموت، فالذي ما يتذكر الموت يغفل، والغفلة خطرٌ عليك، إذا خيمت الغفلة على قلب إنسان وصار من الغافلين، والله عزوجل يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
غِبْ وزُرْ غِبَّاَ تزِدْ حُبَّاً فمنْ ... أكثرَ التَّردادَ [أقصاهُ](1) المَلَلْ
وقد جاء هذا عن عبيد بن عمير عند حديث عائشة رضي الله عنها، حين زارها، فقالت: لِم لم تزرنا أكثر؟ قال: زر غبًا تزدد حبًا، ثم قال: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ?! قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: «يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي»، قلت: والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: وكان جالسًا فلم يزل يبكي ? حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}» [آل عمران:190] الآية.
__________
(1) في (ش) أضناه.(1/150)
وهذا أدب طيب، الإنسان الذي يزور ويكثر الزيارة ما يكون محتفلًا به وبإكرامه وضيافته، كمن يأتي وهو غريب، (زر غبًا تزدد حبًا) والزيارة مرغبٌ فيها من أدلة كثيرة، سواءً كانت عيادة المرض، أو زيارة الأقارب، أو زيارة الأخوة في الله، أو غير ذلك من الزيارات الطيبة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ? قال: «أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك إن الله قد أحبك كما أحببته فيه».
قال رحمه الله:
خُذْ بنصلِ السَّيفِ واتركْ غِمدهُ ... واعتبرْ فضلَ الفتى دونَ الحُلُلْ](1)
هذا فيه توجيه أنهم يذهبون إلى الثغور، ويأخذون بنصل السيف، ولا يبقى الإنسان فاترًا عن ما هو جهاد شرعي واضح، لا ريبة فيه، الناظم يحث على البسالة والشجاعة، وعلى أنه يبقى في الثغور.
(واترك غمده) وأنه يعتبر هذا هو الفضل الصحيح، دون السكنى في المساكن الطيبة والشاهقة، وأن هذا هو فضل الفتى: عبادته، جهاده، نصحه، هذا واعتبر فضل الفتى دون القلل، أما أن يعتبر الإنسان الفضل في مسكن أو ملبس أو بيت أو مركب، فهذه النظرية هابطة، والفضل عائد إلى الدين، والى الورع، والى جهاد الإنسان لنفسه، ولشيطانه، ولأعدائه الكافرين والمنافقين، والله عزوجل يقول لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
ليس بمحمود الضعف، والخور أمام الأعداء، وأمام المبطلين الفاشلين الضايعين، الذين لو ترك لهم المجال لأفسدوا العباد والبلاد، حتى قال بعضهم:
ضعيف النكاية لأعداءه ... يخال الفرارير خي الأجل
__________
(1) في نسختي: (م، ش) تأخير بيت خذ بنصل السيف... على ما بعده والمعنى ينسجم بما هناك.(1/151)
قال ابن الوردي رحمه الله:
[لا يضرُّ الفضلَ إقلالٌ كما ... لا يضرُّ الشمسَ إطباقُ الطَّفَلْ
معنى ذلك أن الفضل سواء أقترن معه مال، أو كان مع الفقر، بل إن بعضهم يفضل الفقير الصابر، على الغني الشاكر، وبعضهم فضل الأعمش، على الزهري، وقال: ثكلْت الأعمش إن قارنته بالزهري فالأعمش فقير صبور، والزهري يدخل على أمراء بني أمية، وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذي وغيره، أن النبي ? قال: «يدخل الفقراء الجنة قبل الغني بخمسمائة عام».
ثم ماذا ضر الأنبياء فقرهم؟ هل ضرهم ذلك؟ أبدًا كان النبي ? يربط على بطنه حجرًا من الجوع، وعن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله ? نار، قلت: يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله ? جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله ? من ألبانها فيسقيناه.
وسائر الأنبياء «لم يورثوا دينارا ولا درهما، ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، كما قال ?، هذا معنى قول زكريا (يرثني ويرث من آل يعقوب) ميراث النبوة، وميراث الدين، وإلا فما عندهم مال يورث، لو كان المقصود به المال لما اختص به واحد دون الآخر، فهذا يشترك فيه سائر الناس، كل من مات وله مورث ورثة من يرثه، فلا يضر الفضل إقلال ولا فقر.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].(1/152)
أهل العلم بالحديث في كل زمان غالبهم فقراء، لكرمهم ولانشغالهم عن أمور الدنيا، وإقبالهم على ما ينفع الناس، ومع ذلك ترى ذكرهم مخلّدًا في بطون الكتب، وأهل الثرى والملك والذهب والفضة والقناطير المقنطرة من أنواع المال: يموت وينتهي ذكره، ربما يذكر بسوء بعد موته، تتراكم التراجم السيئة؛ أنه كان ظالمًا، كان غاشمًا، كان كذا كان كذا مما يعلمونه فيه، ويخافون ذكره في حياته.
الشمس البارزة ما يضرها إطباق الطفل؛ قبل غروب الشمس، قد ذكر بعضهم أسماء النهار: منه الشروق والإشراق، ومنها الضحى، ومنها الزوال، ومنها الغروب، ومنها الطلوع، ومنها الطفل، والطفل قبل غروب الشمس حين أن تكون الشمس غائبة ولم تكن قد غربت، فهذا لا يضرها، ما يزال النهار نهارًا، ولو أطبق عليها شيء من السحاب لا يضرها، فكما لا يضر الشمس إطباق ذلك الضباب أو ذلك الطفل، كذلك لا يضر العالم فقره، ولا يضر العالم السلفي أن يتكلم فيه أهل الأهواء، ولا يضر العالم أن يستهزاء به الجهال.
قال ابن الوردي رحمه الله:
حُبّكَ الأوطانَ عجزٌ ظاهرٌ ... فاغتربْ تلقَ عن الأهلِ بَدَلْ
فبمُكثِ الماءِ يبقى آسناً ... وسَرى البدرِ بهِ البدرُ اكتملْ
يحث على الرحلة وعلى الأسفار، فالأسفار فيها فوائد منها أنه يسفر عن الرجال، فيبين كرمه من بخله، وفهمه من غير ذلك، وذكاءه ومن عدم ذكاءه، وإقدامه وعدم إقدامه، وتجلده وعدم تجلده، وغير ذلك الرجال.(1/153)
وأجلها وأعظمها الأسفار لطلب العلم، ألف الخطيب البغدادي رحمه الله «الرحلة في طلب العلم»، وسافر موسى عليه الصلاة والسلام إلى مجمع البحرين لطلب العلم، وسافر موسى عليه الصلاة والسلام فارًا إلى مدين، ومهاجرًا من مصر إلى أرض مدين، وهكذا إبراهيم عليه السلام سافر إلى مكة، وهاجر النبي ? سافر من مكة إلى المدينة، وانتشر الإسلام، وانتصر بتلك الرحلة، فالأسفار من أهم مقاصدها الحج والعمرة، والهجرة والجهاد، والغزو، وطلب العلم، وهناك مقاصد الأسفار المباحة مثل التجارة، والزيارة، ومنها الأسفار المحرمة السفر إلى غير المساجد الثلاثة؛ كأن يشد الرحال إلى القبور، ففي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد».
والأسفار فيها تفصيل، قد يكون السفر محرمًاكما تقدم، قد يكون واجبًا؛ إذا كان السفر لحج واجب، أو عمرة واجبة، وقد يكون مباحًا إذا كان للتجارة، وقد يكون مكروهًا إذا كان يؤدي إلى مكروه، يضيع فيه الوقت والمال لغير حاجة، وقد يكون مستحبًا إذا كان لزيارة قريب يستحب زيارته، فهو ينطبق عليه الأحكام الخمسة المذكورة في قول العريطي:
الحكم واجب ومندوب وما ... أبيح والمكروه مع ما حرما
وقوله في البيت: (فبمكث المكث يبقى آسنًا) أي يبقى متغيرًا، (وسرى البدر به البدر اكتمل) أي سيره بالليل، وهو السير ليلًا ما تدري إلا قد صار قمرًا مكتملًا، فهو يحث على الرحلة، وعلى الاستفادة، وعلى ملاقاة العلماء، وعلى عدم الركود؛ فإن الركود يسبب الملل والكآبة.
(حبك الأوطان عجز ظاهر) فيه تفصيل، إذا أحب الوطن للدين الحق الذي قام فيه، وأحبهم لما فيهم من الشعائر الظاهرة الشاهرة، فإن هذا الحب حب دين وعبادة، وإذا أحبه تعصبًا للبلد وللوطن كما يستدل بعضهم بحديث: (حب الوطن من الإيمان) هذا حديث باطل، قال السخاوي في «المقاصد الحسنة»: لم أقف عليه.(1/154)
قلت: قد يكون حب الوطن من أبطل الباطل، إذا كان دارًا للكافرين يحارب فيه الله ورسوله فمثل هذا الوطن تجب الهجرة منه، ولا يجوز حبه؛ للمعاصي التي فيه.
قال ابن الوردي رحمه الله:
أيُّها العائبُ قولي [عبثاً](1) ... إن طيبَ الوردِ مؤذٍ [للجُعلْ](2)
عَدِّ عن أسهُمِ [قولي](3) واستتِرْ ... لا يُصيبنَّكَ سهمٌ من ثُعَلْ
معنى البيتين باختصار: أنه يذم الذي يعيب قوله بمجرد العبث، لا بالحق، عبثًا في بعض النسخ: عابثًا حال كونك عابثًا.
هذا الكلام في هذه المنظومة النفيسة هو ورد، وأطيب من الورد، فيها نصائح أغلى من الدرر، فالذي يعيبها يتحرج ويتضايق من الشيء الطيب، كما أن الجعل يستريح في الأماكن النتنة، ويتضايق من الروائح الطيبة، فهو يمثل من يتضايق من الحق ومن العلم النافع ومن النصائح الطيبة، مثل الجعل الذي يتضايق من الريحة الطيبة.
وقوله:
عَدِّ عن أسهُمِ [قولي](4) واستتِرْ ... لا يُصيبنَّكَ سهمٌ من ثُعَلْ
أي: تجاوز ولا تتعرض، وانتبه على نفسك، فإن أسهم قولي هذه ستصيبك إذا اعترضتها تصيبك، هذه الأبيات الشعرية، وهذا النظم من اعترضه أصابه، (لا يصيبنك سهم من ثعل) فهو مثال على الشيء الذي من اعترضه أصابه؛ لأن تلك القبيلة ثعل لا تخطئ في الرمي، فكذلك من اعترض هذا الشعر فإنه ينطبق عليه ولا يخطئه.
قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
لا يغرَّنَّكَ لينٌ من فتىً ... إنَّ للحيَّاتِ ليناً يُعتزلْ
أنا مثلُ الماءِ سهلٌ سائغٌ ... ومتى [أُسخِنَ](5) آذى وقَتَلْ
أنا كالخيزور صعبٌ كسُّرهُ ... وهو [لدنٌ](6) كيفَ ما شئتَ انفتَلْ
__________
(1) في نسختي: (م، ش) عابثًا.
(2) في نسختي: (م، ش) بالجعل.
(3) في نسختي: (م، ش) لفظي.
(4) في نسختي: (م، ش) لفظي.
(5) في نسختي: (م، ش) سخن.
(6) في نسختي: (م، ش) لين.(1/155)
هذه الأبيات بمعنى واحد، فيقول: (لا يغرنك لين من فتى) فإن هذا اللين ربما حصل ما يغضبه، والماء البارد إذا أسخن يصير حارًا قاتلًا، والخيزور وهو العصا الخيزران، كسره صعب، مع أنه لدن لين، (كيف ما شئت أنفتل) وليس مثل العصي الأخرى يكون قاسيًا فإذا ضغط عليه الكسر وفي الحكمة المعروفة: لا تكن قاسيًا فتكسر ولا لينًا فتعصر.
هذا الرجل تلميذ ابن تيمية من أئمة الجرح والتعديل، ففي أبياته هذه حكم وفي آخرها جرح وتعديل وتحقير لمن عارض الحق بأنه كالجعل التي تدافع النتن بأفواهها وتأذى بشدة من الأطياب، وعلى كل مهما كان الكلام لينًا كان أفضل، لكن لا يجوز اعتراض الحق، ومن اعترضه لا بأس بتخشين القول له، حتى ينزجر، كما فعل ابن الوردي وغيره من الأئمة.
قال ابن الوردي رحمه الله:
غيرَ أنّي في زمانٍ مَنْ يكنْ ... فيه ذا مالٍ هو المولَى الأجلّ
واجبٌ عند الورى إكرامُهُ ... وقليلُ المالِ فيهمْ يُستقلْ
كلُّ أهلِ العصرِ غمرٌ وأنا ... منهمُ، فاترك تفاصيلَ الجُمَل(1)
[وصلاةُ اللهِ ربي كُلّما ... طَلَعَ الشمسُ نهاراً وأفلْ
للذي حازَ العُلى من هاشمٍ ... أحمدَ المختارِ من سادَ الأوَلْ
وعلى آلٍ وصحبٍ سادةٍ ... ليسَ فيهمْ عاجزٌ إلا بَطَلْ](2)
__________
(1) في نسخة: (م) انتهت الأبيات إلى هنا.
(2) هذه الثلاثة الأبيات مختلفة في نسخة (ش) ففيها البيت الأول: ... للنبي المصطفى خير الدول
0@وصلاة وسلام أبدًا
وعلى الآل الكرام السعدا ... وعلى الأصحاب والقوم الأول
ما نوى الركب بعشاق إلى ... أيمن الحي وما غنى رمل
=(1/156)
هذا ما هو في زمانه فقط، هذا في زمانه، وزمان قارون، وفي كل الأزمنة، إلا في نظرية من عنده تقوى لله عزوجل، وإلا فميزان أغلبية الناس المولى الأجل صاحب المال، ولو كان صاحب المال ما عنده علم، ولا دين قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37].
وقوله: (كل أهل العصر غمر) ... الغمر الذي ما يجرب الأمور، وهذا تواضع من ابن الوردي رحمه الله، ومثل هذا ولو قيل بين طلبة علم يقدرون ذلك، يقول: أنا ذلك المقصر، أنا ذلك العاصي ولو قال هذا عند الجهال ربما يحتقرونه، فهو بين الجهال يتحفظ بما أتاه الله من الخير، لكل مقام مقال، فمثل هذا الكلام الذي يقرأ على طلبة العلم هم يعرفون مَن ابن الوردي رحمه الله، أحد تلاميذ ابن تيمية صاحب المنظومة التي يقول ابن حجر رحمة الله عليه: أتي على الحاوي -يعني نظمه في البهجة- أقسم بالله ما نظم أحد الفقه مثله، إلا قصر دونه، وشيخ الإسلام كان يقول: ما أنا شيء ولا لي شيء، إلى آخر كلامه ذلك، وفي «مقدمة سنن الدارمي» رحمه الله: حق على العالم أن يتواضع، حتى ولو ذر التراب على رأسه.
وإن لم يتواضع العالم فمن الذي يتواضع؟ والتواضع من العالم للناس دعوة، والتعالي من الجاهل بل ومن العالم نفره، ولا خير في علم تصحبه معصية، ومن المعاصي التكبر، ولا خير في دعوة تقوم على التغطرس، وليس على التواضع والسكينة، ورسول الله ? كان قمة في التواضع، يخصف نعله، ويحلب شاته، ويمشي ويقضي حاجة الأرملة والمسكين، فهذا من التواضع الجليل والخلق الجميل.
(فاترك تفاصيل الجمل) يعني لو فصلنا كم سنفصل من تفصيرنا؟ ربما عندنا تقصير في كذا، وفي كذا، وفي كذا يطول ذكر تفاصيل قصورنا، فنحن كلنا ذلك الرجل المقصر.(1/157)
ثم بعد أن انتهى من ذلك قال: (وصلاة الله ربي كلما طلع الشمس) يقال: طلعت الشمس، وطلع الشمس؛ لأنه ليس مؤنثًا حقيقيًا، والمؤنث غير الحقيقي الذين يسمونه المجازي يجوز أن يذكر ويؤنث، طلع وطلعت صار نهارًا، وأفل الأفول هو الغياب، فلما أفل أي: غاب، وهذه الصلاة من هذا الإمام تدل على بلاغته القوية، فما يعيش الناس إلا في طلوع وأفول، معناه: فأصلي وأسلم في جميع النهار، وفي جميع الليل.
* للذي حازَ العُلى من هاشمٍ ... أحمدَ المختارِ من سادَ الأوَلْ
يعني: ساد جميع الأنبياء ممن قد سبق قبله، قال ?: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر»، وهو صاحب لواء الحمد، وهو صاحب المقام المحمود، فهو سيد البرية وخير البشرية، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، فهو خاتم النبيين، وسيد ولد آدم، به ختمت النبوة والرسالة، لا نبي بعده ولا رسول.
قوله: (من هاشم) قال ?: «واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار» الحديث.
قوله: (أحمد) هذا من أسمائه، وأسمائه مذكورة في حديث جبير بن مطعم، وبنحوه حديث أبي موسى رضي الله عنهما، عن النبي ? قال: «إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي؛ يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب؛ والعاقب الذي ليس بعده نبي...».
ومن قال: إن أسماء النبي ? تبلغ تسعًا وتسعين أسمًا كأسماء الله هذه مجازفة، وليس عليها دليل، فأسماء النبي ? معروفه محصورة، في أدلة صحيحة مشهورة، وأسماء الله عزوجل ليست محصورة.(1/158)
ثم بعد الصلاة على النبي ص، وهذه هي السنة: في الصلاة على النبي ص، لحديث: كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد»، والذي يقول: إن الذي يصلي على الآل مع النبي ص هذا زيدي، قوله هذا باطل، لهذا الحديث: وذكر الأصحاب مع الآل في الصلاة، ليس في حديث صحيح عن النبي ?، ولكن: لا بأس بذلك.
وعلى العموم: كل مسلم يعتبر من آل النبي ?، لقوله: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم...» وفي الحديث: «إن آل أبي فلان ليسوا لي بأوليائي، إنما ولي الله وصالح المؤمنين»، والله يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، هذا من حيث العموم، والآل من حيث الخصوص هم الذين تحرم عليهم الصدقة، آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل العباس، كما في حديث زيد بن أرقم، عند مسلم، أما قول نشوان الحميري فيقول:
آل النبي هم أتباع ملته ... من العجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا قرابته ... صلى المصلى على الطاغي أبي لهب
هذا القول ما هو صحيح، وقد رد عليه بان المقصود بالآل هنا هم قرابته المؤمنون لأن الله عز وجل قال عن ولد نوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
ثم وذكر الأصحاب وأثنى عليهم بقوله: ليس منهم ضعيف، وليس منهم عاجز، بل كلهم أقوياء؛ من حيث الدين، من حيث النصرة، من حيث الهجرة، من حيث الجهاد، وبعضهم يكون أعمى، ويحمل الراية فهو قوي الإيمان بطل، وقد أثنى الله عليهم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].(1/159)
وقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:95]، وقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
بدأ بالحمد والثناء عليه، ثم ختمها بالصلاة على النبي ?، وبذكر ما أكرم الله به الصحابة من البطولة، ومن الشجاعة ومن الخير الكثير، وهذا رد على الرافضة أعداء صحابة رسول الله ?، قاتلهم الله، فهو سبحانه القائل في حديث أبي هريرة القدسي، عند الإمام البخاري: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
انتهى ما أردناه من شرح مختصر على هذه المنظومة ونسأل الله أن ينفع بها ويجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
تم بحمدلله(1/160)