|
تم استيراده من نسخة : عبد الحميد بن عبد الستار
تم استيراده من نسخة : عبد الحميد بن عبد الستار
15 ـ باب المحافظة على الأعمال
قال الله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) (الحديد:16) ، وقال تعالى : ( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) (الحديد:27) ، وقال تعالى : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً ) (النحل:92) ، وقال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) .
وأما الأحاديث ؛ فمنها حديث عائشة : وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه وقد سبق في الباب قبله .
الشرح
قال المؤلف رحمه الله : باب المحافظة على الأعمال : يعني الأعمال الصالحة .
لما ذكر ـ رحمه الله ـ باب الاقتصاد في الطاعة ، وأن الإنسان لا ينبغي أن يشق على نفسه في العبادة وإنما يكون متمشياً على هدى النبي صلى الله عليه وسلم أعقبه بهذا الباب الذي فيه المحافظة على الطاعة ، وذلك أن كثيراً من الناس ربما يكون نشيطاً مقبلاً على الخير فيجتهد ، ولكنه بعد ذلك يفتر ثم يتقاعس ويتهاون .
(16/1)
وهذا يجري كثيراً للشباب ، لأن الشاب يكون عنده اندفاع قوي أو تأخر شديد ؛ إذ إن غالب تصرفات الشباب إنما تكون مبنية على العاطفة دون التعقل ، فتجد الواحد منهم يندفع ويشتد في العبادة ، ثم يعجز أو يتكاسل فيتأخر ، ولهذا ينبغي للإنسان ـ كما نبه المؤلف رحمه الله ـ أن يكون مقتصداً في الطاعة غير منجرف ، وأن يكون محافظاً عليها لأن المحافظة على الطاعة دليل على الرغبة فيها ، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ، فإذا حافظ الإنسان على عبادته واستمر عليها ؛ كان هذا دليلاً على محبته وعلى رغبته في الخير .
وقد ذكر المؤلف عدة آيات ، منها قوله تعالى : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً ) (النحل:92) ، امرأة تغزل ، فغزلت غزلاً جيداً قوياً متيناً ، ثم بعد ذلك ذهبت تنقضه أنكاثاً ، حتى لم يبق منه شيء ، كذلك بعض الناس يشتد في العبادة ويزيد ، ثم بعد ذلك ينقضها فيدعها .
وكذلك ذكر ـ رحمه الله ـ عن بني إسرائيل قول الله عز وجل : (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) أي ما استمروا عليها ولا رعوها ، ولكنهم أهملوها ، وقال تعالى : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) (الحديد:16) ، يعني طال عليهم الأمد ـ أي الزمن ـ بالأعمال ، فقست قلوبهم وتركوا الأعمال والعياذ بالله ، فالمهم أن الإنسان ينبغي له أن يحافظ على العمل ، وألا يتكاسل وألا يدعه ، بل يستمر على ما هو عليه .
(16/2)
وإذا كان هذا في العبادة فهو أيضاً في أمور العادة ، فينبغي ألا يكون للإنسان كل ساعة وجهة ، وكل ساعة فكر ، بل يستمر ويبقى على ما هو عليه ما لم يتبين الخطأ ، فإن تبين الخطأ فلا يقر الإنسان نفسه على خطأ لكن ما دام الأمر لم يتبين فيه الخطأ ؛ فإن بقاءه على ما هو عليه أحسن ، وأدل على ثباته ، وعلى أنه رجل لا يخطو خطوة إلا عرف أين يضع قدمه وأين ينزع قدمه .
وبعض الناس لا يهتم بأمور العادة ، فتجد كل يوم له فكر ، وكل يوم له نظر ، وهذا يفوت عليه الوقت ولا يستقر نفسه على شيء ، ولهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أنه قال : من بورك له في شيء فليلزمه ، كلمة عظيمة ، يعني إذا بورك لك في شيء ، أي شيء يكون ؛ فالزمه ولا تخرج عنه مرة هنا ومره هنا ، فيضيع عليك الوقت ولا تبني شيئاً ، نسأل الله أن يثنتنا وإياكم على الحق ، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره .
*…*…*
153 ـ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن حزبه من الليل ، أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه من الليل ) رواه مسلم(193) .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقضاه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، يعني فكأنما صلاه في ليلته .
هذا فيه دليل على أن الإنسان ينبغي له إذا كان يعتاد شيئاً من العبادة أن يحافظ عليها، ولو بعد ذهاب وقتها.
(16/3)
والحزب معناه : هو الجزء من الشيء ، ومنه أحزاب القرآن ، ومنه أيضاً الأحزاب من الناس ، يعني الطوائف منهم ، فإذا كان الإنسان لديه عادة يصليها في الليل ؛ ولكنه نام عنها ، أو عن شيء منها فقتضاه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ؛ فكأنما صلاه في ليلته ، ولكن إذا كان يوتر في الليل ؛ فإنه إذا قضاه في النهر لا يوتر ، ولكنه يشفع الوتر ، أي يزيده ركعة ، فإذا كان من عادته أن يوتر بثلاث ركعات فليقض أربعة ، وإذا كان من عادته أن يوتر بخمس فليقض ستاً ، وإذا كان من عادته أن يوتر بسبع فليقض ثماني وهكذا .
ودليل ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غلبه نوم أو وجع من الليل ؛ صلى من النهار تنتي عشرة ركعة (194)، والقضاء فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر مقيد بأحاديث تدل على أن صلاة الفجر لا صلاة بعدها حتى تطلع الشمس ، ولا بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح ، فيقيد عموم هذا الحديث الذي ذكره المؤلف بخصوص الحديث الذي ذكرناه ، وأن القضاء يكون من بعد ارتفاع الشمس قيد رمح ، وقد يقال بأنه لا يقيد ، لأن القضاء متى ذكره الإنسان قضاه ، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، ولا كفارة لها إلا ذلك )(195) .
(16/4)
ويؤخذ من الحديث الذي ذكره المؤلف أنه ينبغي للإنسان المداومة على فعل الخير ، وألا يدع ما نسيه إذا كان يمكن قضاؤه ، أما ما لا يمكن قضاؤه فإنه إذا نسيه سقط ، مثل سنة دخول المسجد التي تسمى تحية المسجد ، إذا دخل الإنسان المسجد ، ونسى وجلس وطالت المدة ؛ فإنه لا يقضيها ؛ لأن هذه الصلاة سنة مقيدة بسبب ، فإذا تأخرت عنه سقطت سنتها ، وهكذا كل ما قيد بسبب ؛ فإنه إذا زال سببه لا يقضى ، إلا أن يكون واجباً من الواجبات ؛ كالصلاة المفروضة ، وأما ما قيد بوقت فإنه يقضى إذا فات ؛ كالسنن الرواتب ؛ لو نسيها الإنسان حتى خرج الوقت فإنه يقضيها بعد الوقت ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك لو فات الإنسان صيام ثلاثة أيام من الشهر ـ الأيام البيض ـ فإنه يقضيها بعد ذلك ، وإن كان صيام ثلاثة أيام من الشهر واسعاً ؛ فتجوز في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره ، لكن الأفضل في الأيام البيض: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر . والله الموفق .
*…*…*
154 ـ وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) متفق عليه(196).
155 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ) رواه مسلم(197) .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( يا عبد الله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل ) ساق المؤلف هذا الحديث في باب الاستقامة على الطاعة ودوامها ، وأن الإنسان لا يقطعها .
(16/5)
وقد وصى النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عمرو ألا يكون مثل فلان ويحتمل هذا الإبهام أن يكون من النبي عليه الصلاة والسلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب ألا يذكر اسم الرجل ، ويحتمل أنه من عبد الله بن عمرو أبهمه لئلا يطلع عليه الرواة ، ويحتمل أنه من الراوى بعد عبد الله بن عمرو .
وآياً كان ففيه دليل على أن المهم من الأمور والقضايا القضية نفسها دون ذكر الأشخاص ، ولهذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أراد أن ينهي عن شيء فإنه لا يذكر الأشخاص ، وإنما يقول : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا وما أشبه ذلك .
وترك ذكر اسم الشخص فيه فائدتان عظيمتان :
الفائدة الأولى : الستر على هذا الشخص .
الفائدة الثانية : أن هذا الشخص ربما تتغير حاله ؛ فلا يستحق الحكم الذي يحكم عليه في الوقت الحاضر ؛ لأن القلوب بيد الله ، فمثلاً : هب أنني رأيت رجلاً على فسق ، فإذا ذكرت اسمه ، فقلت لشخص : لا تكن مثل فلان ؛ يسرق أو يزني أو يشرب الخمر ، أو ما أشبه ذلك ، فربما تتغير حال هذا الرجل ، ويستقيم ، ويعبد الله ، فلا يستحق الحكم الذي ذكرته من قبل ، فهذا كان الإبهام في هذه الأمور أولى وأحسن ، لما فيه من ستر ، ولما فيه من الإحتياط إذا تغيرت حال الشخص .
وفي قوله عليه الصلاة والسلام ( كان يقوم من الليل فترك قيام الليل ) التحذير من كون الإنسان يعمل العمل الصالح ثم يدعه ، فإن هذا قد ينبئ عن رغبة عن الخير ، وكراهة له ، وهذا خطر عظيم ، وإن كان الإنسان قد يترك الشيء لعذر ، فإذا تركه لعذر ، فإن كان مما يمكن قضاؤه قضاه وإن كان مما لا يمكن قضاؤه فإن الله ـ تعالى ـ يعفو عنه ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً(198) ، وكذلك إذا تركه لعذر فإنه يقضه .
(16/6)
وفي حديث عائشة الذي ساقه المؤلف ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ترك القيام الليل من وجع أو غيره ، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بإحدى عشر ركعة ، فإذا قضي الليل ولم يوتر لنوم أو شبهه ؛ فإنه يقضي هذه الصلاة ، لكن لما فات وقت الوتر صار المشروع أن يجعله شفعاً ، بناء على ذلك : فمن كان يوتر بثلاث ونام عن وتره فليصل في النهار أربعاً ، وإذا كان يوتر بخمس فليصل ستاً ، وإن كان يوتر بسبع فليصل ثماني ، وإن كان يوتر بتسع فليصل عشراً ، وإن كان يوتر بإحدى عشرة ركعة فليصل اثنتي عشرة ركعة ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله .
وفي هذا دليل على فائدة مهمة وهي : أن العبادة المؤقتة إذا فاتت عن وقتها لعذر فإنها تقضى ، أما العبادة المربوطة بسبب ؛ فإنه إذا زال سببها لا تقضى ، ومن ذلك سنة الوضوء مثلاً ؛ إذا توضأ الإنسان فإن من السنة أن يصلي ركعتين ، فإذا نسى ولم يذكر إلا بعد مدة طويلة سقطت عنه ،وكذلك إذا دخل المسجد وجلس ناسياً ، ولم يذكر إلا بعد مدة طويلة فإن تحية المسجد تسقط عنه ؛ لأن المقرون بسبب لابد أن يكون موالياً للسبب ، فإن فصل بينهما سقط ، والله الموفق .
* * *
(193) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض ، رقم (747).
(194) أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، رقم (746) .
(195) أخرجه البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب من نسى صلاة فليصل إذا ذكر، رقم (597) ،ومسلم ، كتاب المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها ،رقم (684) .
(196) أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب ما يكره من ترك قيام الليل ، رقم (1152) ،ومسلم ،كتاب الصيام ، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... ،رقم (1159) .
(197) تقدم تخريجه .
(198) رواه البخاري في الأدب المفرد (1/176) .
(16/7)
16 ـ باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها
قال الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (الحشر:7) وقال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم:3،4) وقال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(آل عمران:31) ، وقال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها ، السنة : يراد بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي طريقته التي كان عليها في عباداته وأخلاقه ومعاملاته ، فهي أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته ، هذه هي السنة . ويطلق الفقهاء السنة على العمل الذي يترجح فعله على تركه ، وهو الذي يثاب على فعله ، ولا يعاقب على تركه .
ولا شك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعثه الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق . والهدى : هو العلم النافع ودين الحق : هو العمل الصالح ، فلابد من علم ، ولابد من عمل ، ولا يمكن أن يحافظ الإنسان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن يعلمها ، وعليه فيكون الأمر بالمحافظة على السنة أمراً بالعلم وطلب العلم .
وطلب العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : فرض عين ، وفرض كفاية ، وسنة .
أما فرض العين : فهو علم ما تتوقف العبادة عليه . يعني العلم الذي لا يسع المسلم جهله ، مثل العلم بالوضوء ، بالصلاة ، بالزكاة ، بالصيام ، بالحج ، وما أشبه ذلك ، فالذي لا يسع المسلم جهله ؛ فإن تعلمه يكون فرض عين . ولهذا نوجب على هذا الشخص أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ذو مال ، ولا نوجب على الآخر أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ليس ذا مال .
(17/1)
كذلك الحج : نوجب على هذا أن يتعلم أحكام الحج لأنه سوف يحج ، ولا نوجب على الآخر أن يتعلمها ؛ لأنه ليس بحاج .
أما فرض كفاية : فهو العلم الذي تحفظ به الشريعة ، يعني هو العلم الذي لو ترك لضاعت الشريعة ، فهذا فرض كفاية ، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين ، فإذا قدر أن واحداً في البلد قد قام بالواجب في هذا الأمر وتعلم ، وصار يفتي ويدرس ، ويعلم الناس ، صار طلب العلم في حق غيره سنة وهو القسم الثالث .
إذن طالب العلم يدور أجره بين أجر السنة ، وأجر فرض الكفاية ، وأجر فرض العين . والمهم أنه لا يمكن أن نحافظ على السنة وآدابها إلا بعد معرفة السنة وآدابها .
ثم ذكر المؤلف من كتاب الله عز وجل ، منها قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (آل عمران:31) ، هذه الآية يسمها بعض العلماء آية المحنة ، أي آية الامتحان ، لأن الله ـ تعالى ـ امتحن قوماً ادعوا أنهم يحبون الله ، قالوا : نحن نحب الله ، دعوى يسيرة ، لكت على المدعي البينة ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) فمن ادعى محبة الله ، وهو لا يتبع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فليس صادقاً . بل هو كاذب ، فعلامة محبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تتبع رسوله صلى الله عليه وسلم .
واعلم أنه بقدر تخلفك عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون نقص محبتك لله ، وما نتيجة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ جاء ذلك في الآية نفسها (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وهذه الثمرة ؛ أن الله يحبك ، لا أن تدعي محبة الله . فإذا أحبك الله ؛ فإنه لن يحبك إلا إذا أتيت ما يحب ، فليس الشان أن يقول القائل : أنا أحب الله ، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون الله عز وجل ـ يحبه . نسأل الله عز وجل ـ أن يجعلنا وإياكم من أحبابه . وهذا هو الشأن .
(17/2)
وإذا أحب الله الشخص ، يسر الله له أمور دينه ودنياه ، ورد في الحديث : ( أن الله إذا أحب شخصاً نادى جبريل : أني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماوات : أن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماوات ، ثم يوضع له القبول في الأرض )(199) فيحبه أهل الأرض ، ويقبلونه ، ويكون إماماً لهم ، إذاً محبة الله هي الغاية ، ولكنها غاية لمن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غاية كمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله .
وذكر المؤلف قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(الحشر:7) وهذه الآية في سياق قسمة الفيء ؛ يعني المال الذي يؤخذ من الكفار . يقول الله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ) يعني ما أعطاكم من المال فخذوه ولا تردوه ، (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) أي لا تأخذوه .
ولهذا بعث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على الصدقة في سنة من السنوات ، فلما رجع أعطاه فقال : يا رسول الله تصدق به على من هو أفقر مني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما جاءك من هذا المال ، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك )(200) فما أعطانا الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نأخذه ، وما نهانا عنه فإننا لا نأخذه .
وهذه الآية ـ وإن كانت في سياق قسمة الفيء ـ فإنها كذلك بالنسبة للأحكام الشرعية ، فما أحله النبي صلى الله عليه وسلم لنا فإننا نقبله ونعمل به على أنه حلال ، وما نهانا عنه فإننا ننتهي عنه ، ونتركه ولا نتعرض له ، فهي وإن كانت في سياق الفيء فهي عامة تشمل هذا وهذا .
(17/3)
ثم ذكر أيضاً قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يعني بالأسوة : القدوة . والحسنة : ضد السيئة ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو أسوتنا وقدوتنا ، ولنا فيه أسوة حسنة ، وكل شيء تتأسى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خير وحسن .
ويشمل قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) معنيين :
المعنى الأول : هو أن كل ما يفعله فهو حسن ، فالتأسي به حسن .
الثاني : أننا مأمورون بأن نتأسى به أسوة حسنة ، لا نزيد على ما شرع ولا ننقص عنه ، لأن الزيادة أو النقص ضد الحسن ، ولكننا مأمورون بأن نتأسى به وكل شيء نتأسى به فيه فإنه حسن .
وأخذ العلماء من هذه الآية أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حجة يحتج بها ويقتدى به فيها ، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به ، فما قام الدليل على أنه خاص به فهو مختص به ، مثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ) إلى أن قال ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الأحزاب:50) ، فما كان من خصائصه فهو من خصائصه .
(17/4)
ومن ذلك أيضاً : الوصال في الصوم ، أي أن يسدد الإنسان صوم يومين بلا فطر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل ، يعني فكيف تنهانا ؟ فقال : ( إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقي )(201) وفي لفظ : ( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )(202) يعني يطعمه الله ويسقيه بما يمده به من ذكره ، وتعلق قلبه به حتى ينسى الأكل والشرب ولا يطلبه . ونحن نعلم الآن أن الرجل لو شغل بأمر من أمور الدنيا نسى الأكل والشرب حتى أن الشعراء يتمثلون بهذا بقولهم :
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
يعني أن أحاديثها بك إذا قامت تتحدث ؛ ألهاها ذلك عن الشراب وعن الزاد .
فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقوة تعلقه بربه ، إذا قام من الليل يتهجد ، فإن الله ـ تعالى ـ يعطيه قوة بما يحصل له من الذكر ، تكفيه عن الأكل والشرب . أما نحن فلسنا كهيئته ، ولهذا منع الوصال ، وبين أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم .
*…*…*
وذكر المؤلف قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
الشرح
(17/5)
ساق المؤلف رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الدالة على المحافظة على السنة وآدابها قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما) هذه الآية لها صلة بما قبلها وهي قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59) ، فأمر الله ـ تعالى ـ بطاعته ، وبطاعة رسوله وأولي الأمر منا .
وأولو الأمر : يشمل العلماء والأمراء ، لأن العلماء ولاة أمورنا في بيان دين الله ، والأمراء ولاة أمرنا في تنفيذ شريعة الله ن ولا يستقيم العلماء إلا بالأمراء ، ولا الأمراء إلا بالعلماء . فالأمراء عليهم أن يرجعوا إلى العلماء ليستبينوا منهم شريعة الله . والعلماء عليهم أن ينصحوا الأمراء ، وأن يخوفوهم بالله ، وأن يعظوهم حتى يطبقوا شريعة الله في عباد الله عز وجل .
(17/6)
ثم قال : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) يعني : إن اختلفتم في شيء من الأشياء ، فليس قول بعضكم حجة على الآخر ، ولكن هناك حكم الله ـ عز وجل ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم فعليكم بالرجوع إلى حكم الله ـ تعالى ـ وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أما الرجوع إلى الله فهو الرجوع إلي كتابه، القرآن العظيم،أما الرجوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم إن كان حياً بمراجعه شخصياً ، وإن كان ميتاً فبمراجتة ما صح من سنته صلى الله عليه وسلم ، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ) وهذا حث على الرجوع إلى الله ـ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن الرجوع إلى الله ورسوله من مقتضيات الإيمان .
( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) يعني أحسن عاقبة ، فالرجوع إلى الله ورسوله خير للأمة وأحسن عاقبة ، مهما ظن الظان أن الرجوع إلى الكتاب والسنة يشكل أمراً قد يعجز الناس ، وقد لا يطيقون ذلك ، فهذا ظن خاطئ لا قيمة له ، فبعض الناس يظنون أن الرجوع إلى الإسلام الذي كان في صدر هذه الأمة لا يتناسب مع الوقت الحاضر والعياذ بالله ، ولم يعلم هؤلاء أن الإسلام حاكم وليس محكوماً عليه ، وأن الإسلام لا يتغير باختلاف الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص ، الإسلام هو الإسلام ، فإن كنا نؤمن بالله واليوم الأخر ؛ فلنرجع إلى الكتاب والسنة ( ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) أي : أحسن مآلاً وعافية .
(17/7)
ثم قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (النساء:60) ، والاستفهام هذا للتعجب ح يعني ألا تتعجب من قوم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل عليك ، وبما أنزل من قبلك ، ولكنهم لا يريدون التحاكم إلى الله ورسوله ، إنما يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ؛ وهو كل ما خالف شريعة الله .
ومن هؤلاء القوم ما ابتلى الله به المسلمين من بعض الحكام الذين يريدون أن يرجعوا في الحكم بين الناس إلى قوانين ضالة بعيدة عن الشريعة ، وضعها فلان وفلان من كفار ، لا يعلمون عن الإسلام شيئاً ، هم أيضاً في عصر قد تختلف العصور عنه ، وفي أمة قد تختلف عنها الأمم الأخرى .
لكن ـ مع الأسف ـ إن بعض الذين استعمروهم الكفار من البلاد الإسلامية ، أخذوا هذه القوانين ، وصاروا يطبقونها على الشعب الإسلامي ، غير مبالين بمخالفتها لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله صلى اله عليه وسلم وهم يزعمون أنهم آمنوا بالله ورسوله ، كيف ذلك ؟ وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به ، أمروا أمراً من الله أن يكفروا بالطاغوت ، ومع ذلك يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت ، ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (النساء:60) ، يريد الشيطان أن يضلهم عن دين الله ضلالاً بعيداً ليس قريباً ، لأن من حكم غير شريعة الله فقد ضل أعظم الضلال ، وأبعد الضلال .
(17/8)
قال الله عز وجل : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء:61) ، أي إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله ؛؛ وهو القرآن ، وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً ، ولم يقل : رأيتهم لأجل أن يبين أه هؤلاء منافقين ، فأظهر في وضع الإضمار لهذه الفائدة . ولأجل أن يشمل هؤلاء وغيرهم من المنافقين ، فإن المنافق ـ والعياذ بالله ـ إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض وصد .
( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) ، يعني كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة وكشفت عوراتهم واطلع عليها ، ثم جاءوك يحلفون بالله وهم كاذبون : ( إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ) يعني ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة وبين القوانين الوضعية ، ولا يمكن أن يكون هناك توفيق بين حكم الله وحكم الطاغوت أبداً ، حكم الطاغوت لو فرض أنه وافق حكم الله ؛ لكان حكماً لله لا للطاغوت ؛ ولهذا ما في القوانين الوضعية من المسائل النافعة ، فإنها سبق إليها الشرع الإسلامي .
ولهذا قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63) ، يعني : هؤلاء هم الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، وإن أظهروا للناس أنهم يؤمنون بالله ، وأنهم يريدون الإحسان والتوفيق بين الأحكام الشرعية والأحكام القانونية ، هؤلاء هم الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، وماذا أرادوا لأمتهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) وهذا الأمر بالإعراض عنهم تهديد لهم ( وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) أي قل لهم قولاً بليغاً يبلغ إلى أنفسهم ليتعظوا به .
(17/9)
ثم قال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) يعني ما أرسلنا الرسل لتقرأ أقوالهم ويتركون ، بل ما أرسلت الرسل إلا ليطاعوا، وإلا فلا فائدة من إرسالهم .
الرسالة معناها ومقتضاها أن الرسول يطاع : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) يعني لو أنهم إذا ظلموا أنفسهم بما أضمروه في نفوسهم من الباطن ، جاءوك فاستغفروا الله : يعني طلبوا من الله المغفرة ، واستغفرت لهم أنت ؛ لوجدوا الله تواباً رحيماً ، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ بقوا على نفاقهم وعلى عنادهم .
وهذه الآية استدل بها دعاة القبور الذين يدعون القبور ويستغفرونها حيث قالوا : لأن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) فأنت إذا أذنبت ، فأذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، واستغفر الله ليستغفر لك الرسول .
(17/10)
ولكن هؤلاء ضلوا ضلالاً بعيداً ؛ لأن الآية صريحة قال : ( إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) ولم يقل : إذا ظلموا أنفسهم جاءوك ، فهي تتحدث عن شيء مضى وانقضى ، يقول : لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بما أحدثوا ، ثم جاءوك في حياتك ، واستغفروا الله ، واستغفر لهم الرسول ، لوجدوا الله توباً رحيما ، أما بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ فإنه لا يمكن أن يستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد ؛ لأنه انقطع عمله ، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )(203) فعمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بعد موته لا يمكن ، لكنه صلى الله عليه وسلم يكتب له أجر كل ما عملته الأمة ، فكل ما عملنا من خير وعمل صالح من فرائض ونوافل ، فإنه يكتب أجره للرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه هو الذي علمنا ، فهذا داخل في قوله : ( أو علم ينتفع به ) .
الحاصل أنه لا دلالة في هذه الآية على ما زعمه هؤلاء الداعون لقبر النبي عليه الصلاة والسلام .
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه اله ـ قوله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) هذه الآية ذكرها الله ـ عز وجل ـ عقب قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) وهذه الآية فيها إقسام من الله ـ عز وجل ـ بربوبيته لمحمد صلى الله عليه وسلم ، الدالة على عنايته به صلى الله عليه وسلم عناية خاصة ، وذلك لأن الربوبية هنا ربوبية خاصة .
(17/11)
ولله ـ عز وجل ـ على خلقه ربوبيتان : ربوبية عامة لكل أحد ، مثل قوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2) ، وربوبية خاصة لمن اختصه من عباده مثل هذه الآية : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) . وقد اجتمع النوعان في قوله ـ تعالى ـ عن سحرة آل فرعون : ( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) (الأعراف:122) ، فرب العالمين عامة ، ورب موسى وهارون خاصة .
والربوبية الخاصة تقتضي عناية خاصة من الله عز وجل ، فاقسم ـ سبحانه وبحمده ـ بربوبيته لعبده محمد صلى الله عليه وسلم فسماً مؤكداً بلا في قوله : ( فَلا وَرَبِّكَ ) و( لا ) هذه يراد بها التوكيد ولو قال: فوربك لا يؤمنون ؛ لتم الكلام ، ولكنه أتي بلا للتوكيد، كقوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (القيامة:1) ، ليس المراد النفي أن الله لا يقسم بيوم القيامة ، بل المراد التوكيد ، فهي هنا للتوكيد والتنبيه .
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) أي يجعلونك حكماً فيما حصل بينهم من النزاع ؛ لأن معنى ( شجر ) أي حصل من النزاع ( حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) يجعلوك أنت الحكم فيما حصل بينهم من النزاع ، في أمور الدين ، وفي أمور الدنيا .
ففي أمور الدين : لو تنازع رجلان في حكم مسألة شرعية ؛ فقال أحدهما : هي حرام ، وقال الثاني : هي حلال ، فالتحاكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ فلا يؤمن أحد منهما ـ أي من المتشاجرين ـ إلا إذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(17/12)
ولو تنازع الناس في أمر دنيوي بينهم ، كما حصل بين الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ وجاره الأنصاري ، حين تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ماء الوادي ، فحكم بينهما ، فهذا تحاكم في أمور الدنيا ، المهم أنه لا يؤمن أحد حتى يكون تحاكمه في أمور الدين والدنيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم إن الإيمان المنفي هنا ، إن الإنسان لا يرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً ، فهو نفى للإيمان من أصله، لأن من لا يرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً كافر ، ـ والعياذ بالله ـ خارج عن الإسلام، وإن كان عدم الرضا بالحكم في مسألة خاصة ، وعصى فيها ، فإنها ـ إذا لم تكن مكفرة ـ فإنه لا يكفر .
وقوله عز وجل : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) لو قال قائل : كيف يكون تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ؟ فالجواب أن نقول : يكون تحكيمه بعد موته بتحكيم سنته صلى الله عليه وسلم .
فالشيء الأول : ( لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) .
والشيء الثاني : ( ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ، يعني أن الإنسان قد يحكم الكتاب والسنة ، ولكن يكون في قلبه حرج ، يعني ما يطمئن أو ما يرضى إلا رغماً عنه، فلابد من أن لا يجد الإنسان في نفسه حرجاً مما قضى الله ورسوله .
الشيء الثالث : ( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) أي ينقادوا انقياداً تاماً ، ليس فيه تأخر ولا تقهقر ، فهذه شروط ثلاثة لا يتم الإيمان إلا بها .
أولاً : تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثاني : أن لا يجد الإنسان في نفسه حرجاً مما قضاه الرسول صلى الله عليه وسلم .
والثالث : أن يسلم تسليماً تاماً بالغاً .
(17/13)
وبناءً على هذا نقول : إن الذين يحكمون القوانين الآن ، ويتركون وراءهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما هم بمؤمنين ؛ ليسوا بمؤمنين، لقول الله تعالى:( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ولقوله : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (المائدة:44) ، وهؤلاء المحكمون للقوانين لا يحكمونها في قضية معينة خالفوا فيها الكتاب والسنة ، لهوى أو لظلم ، ولكنهم استبدلوا الدين بهذا القانون ، وجعلوا هذا القانون يحل محل شريعة الله ، وهذا كفر ؛ حتى لو صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا ، فهم كفار ما داموا عدلوا عن حكم الله ـ وهم يعلمون بحكم الله ـ وإلى هذه القوانين المخالفة لحكم الله .
( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) ، فلا تستغرب إذا قلنا : إن من استبدل شريعة الله بغيرها من القوانين فإنه يكفر ولو صام وصلى ؛ لأن الكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله ، فالشرع لا يتبعض ، إما تؤمن به جميعاً ، وإما أن تكفر به جميعاً ، وإذا آمنت ببعض وكفرت ببعض ، فأنت كافر بالجميع ، لأن حالك تقول : إنك لا تؤمن إلا بما لا يخالف هواك . وأما ما خالف هواك فلا تؤمن به . هذا هو الكفر . فأنت بذلك اتبعت الهوى ، واتخذت هواك إلهاً من دون الله .
(17/14)
فالحاصل أن المسألة خطيرة جداً ، من أخطر ما يكون بالنسبة لحكام المسلمين اليوم ، فإنهم قد وضعوا قوانين تخالف الشريعة وهم يعرفون الشريعة ، ولكن وضعوها ـ والعياذ بالله ـ تبعاً لأعداء الله من الكفرة الذين سنوا هذه القوانين ومشى الناس عليها ، والعجب أنه لقصور علم هؤلاء وضعف دينهم ، أنهم يعلمون أن واضع القانون هو فلان بن فلان من الكفار ، في عصر قد اختلفت العصور عنه من مئات السنين ، ثم هو في مكان يختلف عن مكان الأمة الإسلامية ، ثم هو في شعب يختلف عن شعوب الأمة الإسلامية ، ومع ذلك يفرضون هذه القوانين على الأمة الإسلامية ، ولا يرجعون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأين الإسلام ؟ وأين الإيمان ؟ وأين التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول إلى الناس كافة ؟ وأين التصديق بعموم رسالته وأنها عامة في كل شيء ؟.
كثير من الجهلة يظنون أن الشريعة خاصة بالعبادة التي بينك وبين الله ـ عز وجل ـ فقط ، أو في الأحوال الشخصية من نكاح وميراث وشبهه ، ولكنهم أخطئوا في هذا الظن ، فالشريعة عامة في كل شيء ، وإذا شئت أن يتبين لك هذا ؛ فسال ما هي أطول آية في كتاب الله ؟ سيقال لك إن أطول آية هي: آيه الدين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ....) (البقرة: 282) كلها في المعاملات ، فكيف نقول إن الشرع الإسلامي خاص بالعبادة أو بالأحوال الشخصية . هذا جهل وضلال ، إن كان عن عمد فهو ضلال واستكبار ، وإن كان عن جهل فهو قصور ، والواجب أن يتعلم الإنسان ويعرف ، نسأل الله لنا ولهم الهداية .
المهم أن الإنسان لا يمكن أن يؤمن إلا بثلاثة شروط :
الأول : تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : ألا يجد في صدره حرجاً ولا يطيق صدره بما قضى النبي عليه الصلاة والسلام .
(17/15)
والثالث : أن يسلم تسليماً ، وينقاد انقياداً تاماً . فبهذه الشروط الثلاثة يكون مؤمناً ، وإن لم تتم فإنه إما خالي من الإيمان مطلقاً ، وإما ناقص الإيمان ، والله الموفق .
* * *
وقال تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) .
الشرح
ثم ينقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في سياق الآيات في باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها قوله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه) من يطع الرسول محمد صلى اله عليه وسلم فقد أطاع الله .
والطاعة : موافقة الأمر ، سواء كان ذلك في فعل المأمور أو ترك المحذور ، فإذا قيل طاعة ومعصية فالطاعة لفعل المأمور والمعصية لفعل المحذور .
أما إذا قيل : طاعة على سبيل الإطلاق ، فإنها تشمل الأوامر والنواهي ، يعني أن امتثال الأوامر طاعة واجتناب النواهي طاعة ، فالذي يطيع النبي صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه ، أي إذا أمره امتثل ، وإذا نهاه اجتنب ، فإنه يكون مطيعاً لله عز وجل ، هذا منطوق الآية ، ومفهومها : أن من يعص الرسول فقد عصى الله .
وفي هذه الآية دليل على أن ما ثبت في السنة ، فإنه كالذي ثبت في القرآن ، أي أنه من شريعة الله ويجب التمسك به ، ولا يجوز لأحد أن يفرق بين الكتاب والسنة ، ولقد أخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ محذراً ؛ حينما قال : ( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من عندي فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه )(204) ، يعني إنه يحذر من أنه ربما يأتي زمان على الناس يقولون : لا نتبع إلا ما في القرآن ، أما ما في السنة فلا تأخذ به .
(17/16)
وهذا أمر قد وقع ، فوجد من الملاحدة من يقول : لا نقبل السنة ، لا نقبل إلا القرآن ، والحقيقة لأنهم كذبة ، فإنهم لم يقبلوا لا السنة ولا القرآن ، لأن القرآن يدل على وجوب اتباع السنة ، وأن ما جاء في السنة كالذي جاء في القرآن ، ولكنهم يموهون على العامة ، ويقولون : إن السنة ما دامت ليست قرآناً يتلى ويتواتر بين المسلمين ، فإن ما فيها قابل للشك ، وقابل للنسيان ، وقابل للوهم وما أشبه ذلك . والله الموفق .
* * *
وقال تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
الشرح
ذكر المؤلف قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 63) ، وهذا تحذير من الله ـ عز وجل ـ للذين يخالفون عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعني يرغبون عن أمره فيخالفونه ، ولهذا لم يقل : يخالفون أمره ، وإنما قال : ( يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي يرغبون عنه فيخالفونه ، حذرهم من أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، قال الإمام أحمد : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك والعياذ بالله .
أي أنه إذا رد شيئاً من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ، فربما يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك . ويهلك لبس هلاكاً بدنياً ، بل هلاكاً دينياً. والهلاك الديني أشد من الهلاك البدني مثآل كل حي ، طالت به الحياة أم قصرت ، لكن الهلاك الديني خسارة في الدنيا والآخرة والعياذ بالله .
وقوله (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يعني أنهم يعاقبون قبل أن تحل بهم الفتنة تسأل الله العافية ، ففي هذا دليل على وجوب قبول أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الذي يخالف عنه مهدد بهذه العقوبة ( أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
(17/17)
* * *
وقال الله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
الشرح
نقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ذكره من الآيات التي صدر بها باب المحافظة على اتباع السنة وآدابها قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبره الله ـ عز وجل ـ أنه يهدي إلى صراط مستقيم ؛ يعني يدل إليه ويبينه للناس ، والصراط المستقيم بينه الله في قوله : (صِرَاطِ اللَّهِ ) يعني الصراط الذي نصبه الله ـ تعالى ـ لعباده ، هو شريعته ، وأضافه الله إلى نفسه ، لأنه هو الذي نصبه ، لأنه يوصل إليه ، كما أنه أضافه في سورة الفاتحة إلى الذين أنعم الله عليهم ، لأنهم هم الذين يسلكونه .
فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يهدي الناس إلى الصراط ، ويدلهم عليه ، ويدعوهم إليه ، ويرغبهم في سلوكه ، ويحذرهم من مخالفته ، وهكذا من خلفه في أمته من العلماء الربانيين ، فإنهم يدعون إلى الصراط المستقيم ، صراط الله العزيز الحكيم .
فإذا قال قائل : ما الجمع بين هذه الآية : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وبين قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص:56) ، فإن هذه الآية نزلت حين اغتم النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ، وكان عمه أبو طالب مشركاً ، ولكنه كان يدافع عنه ، ويرفع منزلته ، ويذب عنه ، ويقول فيه المدائح والقصائد العظيمة ، ولكنه حرم خير الإسلام والعياذ بالله ، ومات على الكفر .
(17/18)
قال أهل العلم : الجمع بينهما أن الآية التي وفيها إثبات الهداية يراد بها هداية الدلالة ، يعني أنك تدل الخلق ، وليس كل من دل على الصراط اهتدى ، وأما الهداية التي نفى الله عن رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فهي هداية التوفيق ، لا أحد يستطيع أن يوفق أحد للحق ، ولو كان أباه ، أو أبنه أو عمه ، أو أمه ، أو خاله ، أو جدته ، أبداً ، من يضلل الله فلا هدي له .
ولكن علينا أن ندعو عباد الله إلى دين الله ، وأن نرغبهم فيه ، وأن نبينه لهم ، ثم إن اهتدوا فلنا ولهم ، وإن لم يهتدوا فلنا وعليهم ، قال الله تعالى : ( طسَمَ (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء :1-3) ، يعني لعلك تهلك نفسك بالهم والغم ، إذا لم يكونوا مؤمنين ، فلا تفعل ، إن الهداية بيد الله ، بل أدّ ما عليك وقد برئت ذمتك ، والله الموفق .
* * *
وقال الله تعالى : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) .
الشرح
ختم المؤلف الآيات بقوله تعالى : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (الأحزاب:34) ، والخطاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات الطيبات ، هؤلاء النسوة هن أطهر زوجات على وجه الأرض منذ خلق أدم .
(17/19)
وقد حاول المنافقون أن يدنسوا فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك في قصة الإفك ؛ التي نسجوا خيوطها ورموا بها الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها ، حيث اتهموها بما هي بريئة منه ، فأنزل الله في براءتها عشر آيات من كتابه تتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى : ( نَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ ) إلى قوله تعالى : ( تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11) ، فنساء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة ما يتلى ، يتلوه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويتلونه هن أيضاً ، فيقول عز وجل : اذكرن هذا ، اذكرن ما يتلى في البيوت ، والتزمن بالسنة ، وقمن بما يجب ، لأن الذي يتلى في بيته الكتاب والحكمة ، لا شك أنه قد حصل على خير كثير ، وعلم غزير ، وأنه مسئول عن هذا العلم ، فكل من آتاه الله علماً وحكمة ، فإنه مسئول عنه أكثر ممن جهل ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى العلم والحكمة . إنه جواد كريم .
* * *
156ـ فالأول عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) متفق عليه (205) .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( دعوني ما تركتكم ) قاله النبي عليه الصلاة والسلام ؛ لأن بعض الصحابة من حرصهم على العلم ومعرفة السنة ، كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء قد لا تكون حراماً فتحرم من أجل مسألتهم ، أو قد لا تكون واجبة ، فتجب من أجل مسألتهم ، فلهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه ، أن يتركوا ما تركه ما دام لم يأمرهم ولم ينههم ، فليحمدوا الله على العافية .
(17/20)
ثم علل ذلك بقوله : (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) يعني أن الذين من قبلنا أكثروا المسائل على الأنبياء ، فشدد عليهم كما شددوا على أنفسهم ، ثم اختلفوا على أنبيائهم أيضاً ، فليتهم لما سألوا فأجيبوا قاموا بما يلزمهم ، ولكنهم اختلفوا على الأنبياء .
والاختلاف على الإنسان يعني مخالفته ، وهنا مثال جاء به القرآن مصدقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، اختلف بنو إسرائيل في قتيل قتل بينهم ، فادعت كل قبيلة أن الأخرى هي التي قتلته ، وادارءوا فيها ، وتنازعوا فيها ، ورفعوا الأمر إلى نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام ، فقال لهم : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (البقرة:67) ، اذبحوا بقرة وخذوا عضواً من أعضائها واضربوا به القتيل وسيخبركم القتيل من الذي قتله .
فقالوا له : ( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ) أي : أتضحك علينا ؟ وما صلة البقرة برجل قتل ؟ وكيف يحيا القتيل بعد موته ؟ وهذا من جبروت بين إسرائيل وعنادهم ، ورجوعهم إلى العقول دون النص ، هؤلاء رجعوا إلى عقولهم الوهمية دون النص ، ولو أخذوا بالنص لسلموا من هذا ( قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) لأن الذي يسخر بالناس جاهل معتد عليهم ، والجهل هنا بمعنى العدوان ، أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .
(17/21)
فلما رأوا أنه صادق ، وهو صادق عليه الصلاة والسلام : ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ) لو أنهم أخذوا أي بقرة من السوق وذبحوها لحصل المقصود ، لكن تعنتوا ، وتشددوا فشدد الله عليهم ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ ) ؛ لا فارض : يعني لا طاعن في السن كبيرة ، ولا بكر : يعني صغيرة ( عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ) (البقرة:68) ، أمرهم أن يفعلوا ، وهذا تأكيد للأمر السابق : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) لكنهم أبوا ، ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ) عرفنا سنها فأخبرنا ما هو لونها ، ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة:69) ، شدد عليهم مرة ثانية ، لو ذبحوا أي بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك لكفى ، لكن تشددوا فشدد عليهم . من يجد بقرة على هذه الصفة ؟ صفراء فاقع لونها تسر الناظرين ، لونها جميل صاف بين .
ومع ذلك ما امتثلوا : ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ) يعني ما عملها ؟ ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا ) ليس فيها عيب : ( قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ) أعوذ بالله من الضلال ، وتحكم العقول على النصوص ، الآن جئت بالحق ، وقبل ما جاء بالحق !! لكن أهواءهم وعقولهم أنكرت ذلك . (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) يعني ما قاربوا أن يفعلوا ، ولكن بالإلحاح والمساءلات فعلوا .
(17/22)
ثم أخذوا جزءاً منها . فضربوا به القتيل فأحياه الله ثم قال : الذي قتلني فلان وانتهت المشكلة . المهم أن كثرة السؤال للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قد تسبب شدة الأمر على الأمة .
ومن ذلك ما وقع للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في قضية الأقرع بن حابس . الأقرع بن حابس من بني تميم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا ) فرض الحج مرة ، وحيث لم يطلب منا أن نكرر فيكفي مرة واحدة ، فقال الأقرع : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فهذا السؤال في غير محله . قال : ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من قبلكم : كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) (206).
هذا أيضاً من التشديد ، ففي عهد الني صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يسأل عن شيء مسكوت عنه ، ولهذا قال : ( دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ) أما في عهدنا ، وبعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم فسأل ، اسأل عن كل شيء تحتاج إليه ؛ لأن الأمر مستقر الآن ، وليس هناك زيادة ولا نقص ، أما في عهد التشريع فيمكن أن يزاد ويمكن أن ينقص ،وبعض العوام يفهم من قوله تعالى : ( لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (المائدة: من الآية101)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (دعوني ما تركتكم ...) يفهم من ذلك فهماً خاطئاً فتجده يفعل الحرام ، ويترك الواجب ولا يسأل ، حتى إن بعضهم يقال له : هذا حرام ، اسأل العلماء ، فيقول لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم ، وهذا لا يجوز .
فالواجب على الإنسان أن يتفقه في دين الله . قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )(207).
ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم ) فعمم في النهي وخص في الأمر .
(17/23)
أما في النهي فقال : ( ما نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه ) . فأي شيء ينهانا عنه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإننا نتجنبه ، وذلك لأن المنهي عنه متروك ، فالنهي أمر بالترك ليس فيه مشقة . كل إنسان يستطيع أن يترك وليس عليه مشقة ولا ضرر ، فما نهانا عنه فإننا نتجنبه ، إلا أن هذا مقيد بالضرورة ، فإذا اضطر الإنسان إلى شيءٍ محرم ، وكان لا يجد سواه ، وتندفع به ضرورته ، فإنه حلال لقول الله تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه) (الأنعام: من الآية119) ، ولقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ... ) إلى قوله : ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3) .
فيكون قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه ) يكون مقيداً بحال الضرورة ، يعني أنه وجدت ضرورة إلى شيءٍ محرم صار هذا المحرم حلالاً بشرطين :
الشرط الأول : أن لا تندفع ضرورته بسواه .
الشرط الثاني : أن يكون مزيلاً للضرورة . وبهذين القيدين نعرف أنه لا ضرورة إلى دواء محرم ، يعني لو كان هناك ولكنه محرم ، فإنه لا ضرورة إليه .
فلو قال قائل : أنا أريد أن أشرب دماً أستشفي به ، كما يدعي بعض الناس أنه إذا شرب من دم الذئب شفي من بعد الأمراض ، نقول : هذا لا يجوز .
أولاً : لأن الإنسان ربما يشفى بغير هذا المحرم ؛ إما من الله ، وإما بدعاء ، وإما بقراءة ، وإما بدواء آخر مباح
وثانياً : أنه ليس يقيناً أنه إذا تداوى بالدواء يشفى ، فما أكثر الذين يتداوون ولا يشفون ، بخلاف من كان جائعاً وليس عنده إلا ميتة ، أو لحم خنزير ، أو لحم حمار ، فإنه يجوز أن يؤكل في هذه الحالة ؛ لأننا نعلم أن ضرورته تندفع بذلك ، بخلاف الدواء .
(17/24)
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : ( وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) . فهذا يوافق قول الله عز وجل : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (التغابن: من الآية16) ، يعني إذا أمرنا بأمر ، فإننا نأتي منه ما استطعنا ، وما لا نستطيعه يسقط عنا ، مثلاً : أمرنا بأن نصلي الفرض قياماً ، فإذا لم نستطع صلينا جلوساً ، فإذا لم نستطع صلينا على جنب ، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن حصين : ( صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ن فإن لم تستطع فعلى جنب )(208).
…وتأمل قوله : (إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) بخلاف النهي ، لأن الأمر فعل وإيجاب ، قد يكون شاقاً على النفس ولا يستطيع الإنسان أن يقوم به ، فلهذا قيده بقوله : (فأتوا منه ما استطعتم ) ، مع ذلك فإن هذا الأمر مقيد بقيد آخر ، وهو ألا يوجد مانع يمنع ، فإذا وجد مانع يمنع ، فهذا يدخل في قوله:(فأتوا منه ما استطعتم). ولهذا قال العلماء : لا واجب مع عجز ، ولا محرم مع الضرورة . والشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) فإن هذا يدخل في المحافظة على السنة وآدابها .
…وأما ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فهو عفو ، وهذا من رحمة الله . فالأشياء إما مأمور بها ، أو منهي عنها ، أو مسكوت عنها ، فما سكت الله ورسوله فإنه عفو لا يلزمنا فعله ولا تركه ، والله الموفق .
…
* * *
(17/25)
…157ـ الثاني : عن أبي نجيح العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : ( أوصيكم بتقوى الله . والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي(209)، وقال حديث حسن صحيح .
…( النواجذ ) بالذال المعجمة : الأنياب ، وقيل الأضراس .
الشرح
…قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله في باب الأمور بالمحافظة على السنة وآدابها ، عن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منا القلوب وذرفت منها العيون ) وهذا من دأبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس بالمواعظ أحياناً على وجهٍ راتب ، كما في يوم الجمعة ، خطب يوم الجمعة ، وخطب العيدين . وأحياناً على وجهٍ عارض ، إذا وجد سبب يقضي الموعظة ، قام ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوعظ الناس .
…ومن ذلك موعظته صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف ، فإنه خطب ووعظ موعظة عظيمة بليغة ، من أحب أن يرجع إليها فعليه بكتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله .
…أما هنا فيقول : (وعظنا موعظة بليغة، وجلت منا القلوب ، وذرفت منها العيون ) . وجلت : يعني خافت . وذرفت العيون من البكاء ، فأثرت فيهم تأثيراً بالغاً ، حتى قالوا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا ؛ لأن المودع إذا أراد المغادرة ، فإنه يعظ من خلفه بالمواعظ البليغة التي تكون ذكرى لهم فلا ينسونها ، ولهذا تجد الإنسان إذا وعظ عند فراقه لسفر أو غيره ، فإن الموعظة تمكث في قلب الموعوظ وتبقى ، لهذا قالوا : كأنها موعظة مودع فأوصنا .
(17/26)
…فقال صلى الله عليه وسلم : (أوصيكم بتقوى الله ) وهذه الوصية التي أوصى بها الله ـ عز وجل ـ عباده ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) (النساء: من الآية131) ، والتقوى كلمة جامعة من أجمع الكلمات الشرعية ، ومعناها : أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله ، ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي ، ولا يكون فعل الأوامر واجتناب النواهي إلا بعلم الأوامر والنواهي . إذاَ فلابد من علم ، ولابد من عمل ، فإذا اجتمع للإنسان العلم والعمل ، نال بذلك خشية الله ، وحصلت له التقوى .
…فتقوى الله إذن : أن يتخذ الإنسان وقاية من عذابه ، بفعل أوامره ، واجتناب نواهيه ، ولا وصول إلى ذلك إلا بالعلم . وليس المراد بالعلم أن يكون الإنسان بحراً في العلم ، بل المراد به العلم بما يعين عليه من أوامر الله . والناس يختلفون في ذلك : فمثلاً من عنده مال يجب أن يعلم أحكام الزكاة ، ومن قدر على الحج وجب عليه أن يعلم أحكام الحج ، وغيرهم لا يجب عليهم ، فعلوم الشريعة فرض كفاية إلا ما تعين على العبد فعله، فإن علمه يكون فرض عين .
(17/27)
…قال صلى الله عليه وسلم : (والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) . السمع والطاعة، يعني لولى الأمر ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) ، سواء كانت إمرته عامة ، كالرئيس الأعلى في الدولة ، أو خاصة كأمير بلدة ، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك . وقد أخطأ من ظن أن المراد بقوله : ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي) أن المراد بهم الأمراء الذين دون الولي الأعظم الذي يسميه الفقهاء الإمام الأعظم ، لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى ، وهي الإمامة وما دونها ؛ كإمارة البلدان ، والمقاطعات والقبائل وما أشبه ذلك . ودليل هذا أن المسلمين منذ تولى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يسمون الخليفة ( أمير المؤمنين ) فيجعلونه أميراً . وهذا لا شك فيه ، ثم يسمى أيضاً إماماً ، لأنه السلطان الأعظم ، ويسمى سلطاناً . لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمونه ( أمير المؤمنين ) .
…وقوله : ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) يعني حتى ولو لم يكن من العرب ، لو كان من الحبشة ، وتولى ، وجعل الله له السلطة ، فإن الواجب السمع والطاعة له ، لأنه صار أميراً ، ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له ، لأصبح الناس فوضى ، كلٌ يعتدي على الآخر ، وكلٌ يضيع حقوق الآخرين ، وقوله : (والسمع والطاعة ) هذا الإطلاق مقيد بما قيده به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( إنما الطاعة في المعروف )(210) ثلاث مرات ، يعني فيما يقره الشرع ، وأما ما ينكره الشرع ، فلا طاعة لأحد فيه حتى لو كان الأب أو الأم أو الأمير العام أو الخاص ، فإنه لا طاعة له .
…فمثلاً لو أمر ولي الأمر بأن لا يصلي الجنود ، قلنا : لا سمع ولا طاعة ، لأن الصلاة فريضة ، فرضها الله على العباد وعليك أنت أيضاً ، أنت أول من يصلي ، وأنت أول من تفرض عليه الصلاة ، فلا سمع ولا طاعة .
(17/28)
…ولو أمرهم بشيء محرم ، كحلق اللحى مثلاً . قلنا : لا سمع ولا طاعة ، نحن لا نطيعك ، إنما نطيع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( اعفوا اللحى ، وحفّوا الشوارب )(211).
…وهكذا كل ما أمر به ولي الأمر ، إذا كان معصية لله ، فإنه لا سمع له ولا طاعة ، يجب أن يعصى علناً ولا يهتم به ، أن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله ، فإنه لا حق له في السمع والطاعة . لكن يجب أن يطاع في غير هذا . يعني ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقاً . لا . إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعين الذي هو معصية لله . أما ما سوى ذلك ، فإنه تجب طاعته ، وقد ظن بعض الناس أنه لا تجب طاعة ولي الأمر إلا فيما أمر الله به ، وهذا خطأ ، لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفذه ونفعله ، سواء أمرنا به ولي الأمر أم لا .
…فالأحوال ثلاثة : إما أن يكون ما أمر به ولي الأمر مأموراً به شرعاً، كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلاً ، فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر ولي الأمر . وأما أن يأمر ولي الأمر بمعصية الله ، من ترك واجب أو فعل محرم ، فهنا لا طاعة له ولا سمع . وأما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعي ولا معصية شرعية ، فهذا تجب طاعته فيه ، لأن الله قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) فطاعة ولي الأمر في غير معصية طاعة لله ولرسوله . والله الموفق .
(17/29)
…ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم ، فسيرى اختلافاً كثيراً ) يعني أن من يعش منكم ويمد له في عمره ، فسيرى اختلافاً كثيراً ؛ اختلافاً كثيراً في الولاية ، واختلافاً كثيراً في الرأي ، واختلافاً كثيراً في العمل ، واختلافاً كثيراً في حال الناس عموماً ، وفي حال بعض الأفراد خصوصاً ، وهذا الذي وقع ؛ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة في مقتل عثمان رضي الله عنه ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبلها مقتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ .
(17/30)
…والذي يجب علينا ـ نحن إزاء هذه الفتن ، أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، وألا نخوض فيه ، وألا نتكلم فيه ؛ لأنه كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : هذه دماء طهر الله سيوفنا منها ، فيجب أن نطهر ألسنتنا منها , وصدق رضي الله عنه ، فما فائدتنا أن ننبش عما جرى بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما ، أو بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ـ من الحروب التي مضت وانقضت ، ذكر هذه الحروب وتذكرها لا يفيدنا إلا ضلالاً ؛ لأننا في هذه الحال نحقد على بعض الصحابة ، ونغلو في بعض ، كما فعلت الرافضة حين غلوا في آل البيت ، فزعموا أنهم يوالون آل البيت ، وبالله العظيم إن آل البيت لبرآء من غلوهم ، وأول من تبرأ من غلوهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإن السبئية أتباع عبد الله بن سبأ ، وهو أول من سن الرفض في هذه الأمة ، وكان يهودياً ، أظهر الإسلام ليفسد الإسلام ، كما قال شيخ الإسلام أبن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو العلم الذي قد سبر حال القوم وعرفها ، قال : إن عبد الله بن سبأ يهودي دخل في الإسلام ليفسده ، كما دخل بولس في دين النصارى ليفسده ، هذا الرجل ـ أعني عبد الله بن سبأ ـ عليه من الله ما تولاه ـ تظاهر بأنه يحب آل البيت ، وبأنه يدافع عنهم ، ويدافع عن علي بن أبي طالب ، حتى أنه قام بين يدي علي بن أبي طالب يقول له : أنت الله حقاً ، قاتله الله ،لكن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أمر بالأخدود ؛ يعني بالحفر فحفرت ، ثم ملئت حطباً ، ثم دعا بأتباع هذا الرجل ثم أوقد فيهم النار ، أحرقهم بالنار ؛ لأن ذنبهم عظيم والعياذ بالله ، ويقال : إن عبد الله بن سبأ أفلت منه وهرب إلى مصر . والله أعلم .
(17/31)
…قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حينما بلغه الخبر : إن علي بن أبي طالب أصاب في قتلهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وهؤلاء بدلوا دينهم ؛ ولكن لو كنت إياه لم أحرقهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله )(212) فبلغ ذلك علي بن أبي طالب فقال : ما أسقط ابن أم الفضل على الهنات يعني : العيب ، كأنه ـ رضي الله عنه ـ صوب ما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهم .
إنني أقول : إن من مذهب أهل السنة والجماعة ؛ أن نسكت عما شجر بين الصحابة ، فلا نتكلم فيه ، نعرض بقلوبنا وألسنتنا عما جرى بينهم ، ونقول : كلهم مجتهدون ، المصيب منهم له أجران ، والمخطئ منهم له أجر واحد ، تلك أمة قد خلت ، لما ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ، لو قرأ إنسان التاريخ حول هذه الأمور ؛ لوجد العجب العجاب ، وجد من ينتصر لبي أمية ، ويقدح في علي بن أبي طالب وآل النبي ، ووجد من يغلو في علي بن أبي طالب وآل النبي ويقدح قدحاً عظيماً في بني أمية ؛ لأن التاريخ يخضع للسياسة .
لذا يجب علينا ـ نحن ـ فيما يتعلق بالتاريخ ألا نتعجل في الحكم ، لأن التاريخ يكون فيه كذب ، ويكون فيه هوى وتغيير للحقائق ، ينشر غير ما يكون ، ويحذف ما يكون ، كل هذا تبعاً للسياسة ، ولكن ـ على كل حال ـ ما جرى بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يجب علينا أن نكف عنه . كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، حتى لا يكون في قلوبنا غل على أحد منهم . نحبهم كلهم ، ونسأل الله أن يميتنا على حبهم ، نحبهم كلهم ونقول : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم .
(17/32)
قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ : (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) وهذا هو الذي وقع . ولكن هل هذه الجملة تنزل على كل زمان ، بمعنى أن من عاش من الناس فسوف يرى التغير ، أو أن هذا خاص بمن خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ . نقول : إنه ينطبق على كل زمن ، فالذين عمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم ، فمن عاش ومد له في العمر ؛ رأى التغير العظيم في الناس ، رأى التغير لأنه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) قد وقع ، وحصل خلاف بين الأمة في السياسة ، وفي العقيدة ، وفي الأفعال ، والأحكام العملية ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم حث عند هذا الاختلاف على لزوم سنة واحدة فقال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا ـ عندما نرى هذا الاختلاف ـ أن نلزم سنته ، فقال: ( عليكم بسنتي ) يعني ألزموها. وكلمة :عليكم ، يقول علماء النحو : أنها جار ومجرور محول إلى فعل الأمر ، يعني: ألزموا سنتي .
وسنته عليه الصلاة والسلام هي : طريقته التي يمشي عليها ، عقيدة ، وخلقاً ، وعملاً ، وعبادةً وغير ذلك ، نلزم سنته ، ونجعل التحاكم إليها ، كما قال الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) ، فسنة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع ، وهي ـ ولله الحمد ـ موجودة في كتب أهل العلم الذين ألفوا في السنة ، مثل الصحيحين للبخاري ومسلم ، والسنن والمسانيد وغيرها مما ألفه أهل العلم وحفظوا به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(17/33)
وقوله : ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) . الخلفاء جمع خليفة : وهم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علماً وعملاً ودعوة وسياسة ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين الأربعة ؛ أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، وألحقنا بهم في جنات النعيم ، هؤلاء الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من خلفاء الأمة ، الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته ، هم الذين أمرنا باتباع سنتهم ، ولكن ليعلم أن سنة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلو تعارضت سنة خليفة من الخلفاء مع سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الحكم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم لا لغيرها ؛ لأنها ـ أعني سنة الخلفاء -تابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا ؛ لأنه قد جرى نقاش بين طالبين من طلبة العلم في صلاة التراويح ، أحدهما يقول : السنة أن تكون ثلاثاً وعشرون ركعة . والثاني يقول : السنة أن تكون ثلاث عشرة ركعة ، أو إحدى عشرة ركعة . فقال الأول للثاني :هذه سنة الخليفة عمر بن الخطاب أنها ثلاث وعشرون ، يريد أن يعارض بهذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الآخر : سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة ، هذا إن صح عن عمر أنها ثلاث وعشرون ، ومع أن الذي صح عن عمر بأصح إسناد ، رواه مالك في الموطأ أنه أمر تميماً الداري وأبي بن كعب أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة لا ثلاث وعشرون ، هذا الذي صح عنه رضى الله عنه . على كل حال لا يمكن أن نعارض سنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بسنة أحد من الناس ، لا الخلفاء ولا غيرهم ، وما خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوال الخلفاء ، فإنه يعتذر عنه ولا يحتج به ، ولا يجعل حجة على سنة الرسول صلى اله عليه وسلم .
(17/34)
المهم أن سنة الخلفاء الراشدين تأتي بعد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر !! هذا وهما أبو بكر وعمر فكيف بمن عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول من دون أبى بكر وعمر بمراحل .
يوجد بعض الناس إذا قيل له : هذه هي السنة ، قال : لكن قال العالم الفلاني كذا وكذا ، من المقلدين المتعصبين . أما من احتج بقول عالم وهو لا يدري عن السنة فهذا لا بأس به ، لأن التقليد لمن لا يعلم بنفسه جائز ولا بأس به .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تمسكوا بها ) أي تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، (عضوا عليها بالنواجذ ) والنواجذ : أقصى الأضراس ، وهو كناية عن شدة التمسك ، فإذا تمسك الإنسان بيديه بالشيء وعض عليه بأقصى أسنانه ، فإنه يكون ذلك أشد تمسكاً مما لو أمسكه بيد واحدة ، أو بيدين بدون عض ، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نمسك أشد التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وحث علة التمسك بها ، والعض عليها بالنواجذ ، قال : ( وإياكم ومحدثان الأمور ) . يعني أحذركم من محدثات الأمور ، أي من الأمور المحدثة ،وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، والأمور المحدثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه : المحدثات في دين الله . وذلك لن الأصل قيما يدين به الإنسان ربه ، ويتقرب به إليه ، والأصل فيه المنع والتحريم ، حتى يقوم دليل على أنه مشروع .
(17/35)
ولهذا أنكر الله ـ عز وجل ـ على من يحللون ويحرمون بأهوائهم؛ فقال تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) (النحل: من الآية116) ، وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به ؛ فقال : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) (الشورى: من الآية21) ، وقال ( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس: من الآية59) .
أما الأمور العادية وأمور الدنيا ، فهذه لا ينكر على محدثاتها إلا إذا كان قد نص على تحريمه ، أو كان داخلاً في قاعدة عامة تدل على التحريم ، فمثلاً السيارات والدبابات وما أشبهها ، لا نقول إن هذه محدثة لم توجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز استعمالها ، لأن هذه من الأمور الدنيوية ، الثياب وأنواعها ، لا نقول لا تلبس إلا ما كان يلبسه الصحابة ، البس ما شئت مما أحل الله لك ؛ لأن الأصل الحل ، إلا ما نص الشرع على تحريمه ، كتحريم الحرير والذهب على الرجال ، وتحريم ما فيه الصورة وما أشبه ذلك .
فقوله صلوات الله وسلامه عليه : (وإياكم ومحدثان الأمور) يعني في دين الله ، وفيما يتعبد به الإنسان لربه ، ثم قال : ( فإن كل بدعة ضلالة ) يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة ، وإن ظن صاحبها أنها خير ، وأنها هدى ، فإنها ضلالة لا تزيده من الله إلا بعداً .
وقوله صلوات الله وسلامه عليه : ( كل بدعة ضلالة ) يشمل ما كان مبتدعاً في أصله ، وما كان مبتدعاً في وصفه . فمثلاً : لو أن أحد أراد أن يذكر الله بأذكار معينة بصفتها أو عددها ، بدون سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنا ننكر عليه ولا ننكر أصل الذكر ، ولكن ننكر ترتيبه على صفة معينة بدون دليل .
(17/36)
فإن قال قائل : ما تقولون في قول عمر ـ رضي الله عنه ـ حين أمر أبي بن كعب وتميماً الداري ـ رضي الله عنهما ـ أن يقوما بالناس في رمضان في تراويحهم ، وأن يجتمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا أوزاعاً ، فخرج ذات ليلة والناس خلف إمامهم فقال : ( نعمت البدعة هذه ) فأثنى عليها ووصفها بأنها بدعة ، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول : ( كل بدعة ضلالة ) .
قلنا : إن هذه البدعة ليست بدعة مبتدأة ، لكنها بدعة نسبية ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ليال أو أربع ليال في رمضان ، يقوم بهم ، ثم تخلف في الثالثة أو الرابعة ، وقال : ( إني خشيت أن تفرض عليكم )(213) فصار الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن تركها خزفاً من أن تفرض علينا .
ثم بقيت الحال ما هي عليه ، يصلي الرجلان والثلاثة والواحد على حده ؛ في خلافة أبي بكر وفي أول خلافة عمر رضي الله عنهما جمع الناس على إمام واحد ، فصار هذا الجمع بدعة بالنسبة لتركه في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي عهد أبي بكر ، وفي أوا خلافة عمر رضي الله عنهما ، فهذه بدعة نسبية ، وإن شئت فقل : إنها بدعة إضافية ، يعني بالنسبة لترك الناس لها هذه المدة آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخلافة أبي بكر وأول خلافة عمر . ثم أنه بعد ذلك استؤنفت هذه الصلاة ، وإلا فلا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) عام ، وهو صادر من أفصح الخلق وأنصح الخلق ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو كلام واضحة ، كل بدعة مهما استحسنها مبتدعها ، فإنها ضلالة . والله الموفق .
* * *
160ـ الخامس : عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) متفق عليه(214).
(17/37)
وفي رواية لمسلم : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح ، حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً ، فقام حتى كاد أن يكبر ، فرأى رجلاً بادياً صدره فقال : ( عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) (215).
الشرح
قال المؤلف رحمة الله تعالى ، فيما نقله عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتسون صفوفكم ، أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) .
الجملة الأولى : مؤكدة بثلاثة مؤكدات ؛ بالقسم المقدر ، واللام ، ونون التوكيد ، ( أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ، يعني إن لم ننسو الصفوف ؛ خالف الله بين وجوهكم ، وهذا الجملة أيضاً مؤكدة بثلاثة مؤكدات : بالقسم ، واللام ، والنون .
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى مخالفة الوجه .فقال بعضهم : إن المعنى أن الله يخالف بين وجوههم مخالفة حسية ، بحيث يلوي الرقية ، حتى يكون وجه هذا مخالفاً لوجه هذا ، والله على كل شيء قدير ، فهو عز وجل قلب بعض بني أدم قردة ، قال لهم : كونوا قردة ، فكانوا قردة ، فهو قادر على أن يلوي رقبة لإنسان حتى يكون وجهه من عند ظهره ، وهذه عقوبة حسية .
وقال بعض العلماء : بل المراد بالمخالفة : المخالفة المعنوية ، يعني مخالفة القلوب ؛ لأن القلب له اتجاه ، فإذا اتفقت القلوب على وجهة واحدة حصل في هذا الخير الكثير ، وإذا اختلفت تفرقت الأمة . فالمراد بالمخالفة مخالفة القلوب ، وهذا التفسير أصح ؛ لأنه قد ورد في بعض الألفاظ : ( أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) . وفي رواية : ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) .
وعلى هذا فيكون المراد بقوله : ( أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ، أي بين وجهات نظركم ، وذلك باختلاف القلوب . وعلى كل حال ، ففي هذا دليل على وجوب تسوية الصفوف ، وأنه يجب على المأمومين أن تسوى صفوفهم ، وأنهم إن لم يفعلوا ذلك ، فقد عرضوا أنفسهم لعقوبة الله والعياذ بالله .
(17/38)
وهذا القول ـ أعني وجوب تسوية الصف ـ هو الصحيح ، والواجب على الأئمة أن ينظروا في الصف ، فإذا وجدوا فيه اعوجاجاً أو تقدماً أو تأخراً ، نبهوا على ذلك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ـ أحياناً -يمشي على الصفوف يسويها بيده الكريمة ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، من أول الصف لآخره ، ولما كثر الناس في زمن الخلفاء ، أمر عمر بين الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رجلاً يسوي الصفوف إذا أقيمت الصلاة ، فإذا جاء وقال إنها قد سويت كبر للصلاة ، وكذلك فعل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، وكل رجلاً يسوي صفوف الناس ، فإذا جاء وقال قد استوت كبر . وهذا يدل على اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بتسوية الصف .
ولكن مع الأسف الآن نجد أن المأمومين لا يبالون بالتسوية ، يتقدم إنسان ويتأخر إنسان ولا يبالي ، وربما يكون مستوياً مع أخيه في أول الركعة ، ثم عند السجود يحصل من الاندفاع تقدم أو تأخر ، ولا يساوون الصف في الركعة الثانية ، بل يبقون على ما هو عليه ، وهذا خطأٌ ، فالمهم أنه يجب تسوية الصف .
فإذا قال قائل : إذا كان هناك إمام ومأموم فقط ، فهل يتقدم الإمام قليلاً ، أو يسوي المأموم ؟
فالجواب : أنه يساوي المأموم ؛ لأنه إذا كان إمام ومأموم ، فالصف واحد ، لا يمكن أن يكون المأمون خلف الإمام وحده ، بل هم صف واحد ، والصف الواحد يسوى فيه خلافاً لما قال بعض أهل العلم إنه يتقدم الإمام قليلاً ؛ لأن هذا لا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، وهو أن يسوي بين الإمام والمأموم إذا كانا اثنين .
ثم قال في رواية : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا كأنما يسوي بها القداح ) .
(17/39)
والقداح : هي ريش السهم ، كانوا يسوونها تماماً ، بحيث لا يتقدم شيء على شيء ، مثل مشط البندق ، يكون مستوياً ، فكان يسوي الصفوف كأنما يسوي بها القداح ، حتى إذا رأى أنا قد عقلنا عنه ، يعني فهمنا وعرفنا أن التسوية لابد منها ، خرج ذات يوم فرأى رجلاً بادياً صدره ، فقال : ( عباد الله ، لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) , فدل هذا على سبب قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لتسون صفوفكم ) ، لأن سببه أنه رأى رجلاً بادياً صدره فقط ، يعني ظاهراً صدره قليلاً من على الصف ، فدل ذلك على أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتفقد الصف ، وأنه يتوعد من تقدم على الصف بهذا الوعيد : ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) .
فعلينا أن نبين هذه المسألة لأئمة المساجد ، وكذلك للمأمومين حتى ينتبهوا لهذا الأمر ويعتنوا بشأن تسوية الصف ، ولا يحصل تهاون بين الناس . والله الموفق
*…* …*
161ـ السادس : عن أبي موسى رضي الله عنه قال : احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل ، فلما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنهم قال : ( إن هذه النار عدو لكم ، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ) متفق عليه(216).
الشرح
ذكر المؤلف في باب الحث على اتباع السنة وآدابها هذا الحديث ؛ الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أن قوماً احترق عليهم بيتهم في الليل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ) .
(17/40)
هذه النار التي خلقها الله ـ عز وجل ـ وأنشأ شجرها ، امتن الله بها على عباده ؛ فقال سبحانه وتعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) (الواقعة:71-72)، والجواب ؛ بل أنت يا ربنا الذي أنشأتها : ( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ) (الواقعة:73) تذكرة يتذكر بها الإنسان جهنم ، فإن هذه النار جزء من ستين جزءاً من نار جهنم ، كل نار الدنيا الشديدة الحرارة والخفيفة ، كلها جزء من ستين جزءاً من نار جهنم ، أعاذني الله وإياكم منها .
فجعلها الله تذكرة ؛ حتى إن بعض السلف كان إذا هم بمعصية ذهب إلى النار ، ووضع إصبعه عليها ؛ يعني يقول لنفسه : اذكري هذه الحرارة ؛ حتى لا تتجرأ نفسه على المعصية التي هي سبب لدخول النار نسأل الله العافية .
ومن هذا يقول تعالى : (وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ) يعني جعلناها متاعاً للمسافرين وغيرهم من المحتاجين إليها ، يتمتعون بها ، ويستدفئون بها في الشتاء ، ويسخنون بها مياههم ، ويطبخون عليها أطعمتهم ، فهي مصلحة ، ولكن قد تكون مضرة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( إن هذه النار عدوٌ لكم ) فهي عدو إذا لم يحسن الإنسان ضبطها وقيدها ، وصارت عدواً إذا فرط فيها أو تعدى ، فرط فيها بأن لم يبعد ما تكون سبباً لاشتغاله ، أو تعدى فيها بأن أوقدها حول ما يشتعل سريعاً ، كالبنزين والغاز وما أشبه ذلك ، فإنها تكون عدواً للإنسان .
وفي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يتخذ الاحتياط في الأمور التي يخشى شرها، ولهذا أمر الإنسان عند النوم أن يطفئ النار ولا يقول هذه سهلة أنا آمن من ذلك ، ربما يظن هذا الظن ولكن يحدث مالا يخطر على باله .
(17/41)
ومن ذلك أيضاً صمامات الغاز التي حدثت في عصرنا الحاضر ، فصمامات الغاز يجب على الإنسان أن يتفقدها ؛ لئلا يكون فيها شيء من التسريب ؛ فتملأ الجو من الغز ، فإذا أشعل النار احترق المكان كله .
ومن ذلك أيضاً أفياش الكهرباء ، ينبغي على الإنسان أن يكون حريصاً عليها ومتفقداً لها ، وأن يكون الذي يركبها شخصاً عارفاً مهندساً ؛ حتى لا تركب على وجه الخطأ ؛ فيحصل بذلك الاحتراق ، إما احتراقاً كلياً للبيت كله أو لجزء منه . المهم أن الإنسان يجب عليه الاحتراز من كل ما يخشى ضرره .
وإذا كان هذا في نار الدنيا ، فكذلك يجب أن يحترس مما يكون سبباً لعذاب النار في الآخرة ، من أسباب المعاصي ، ووسائلها ، وذرائعها ولهذا قال أهل العلم رحمهم الله : إن الوسائل لها أحكام المقاصد ، وأن الذرائع يجب أن تسد إذا كانت ذريعة إلى محرم ، خشية من الوقوع في الهلاك . والله الموفق .
*…*…*
162ـ السابع : عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة ، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا . وأصاب طائفة منا أخرى ، أنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه بما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) متفق عليه (217) .
( فقه ) بضم القاف على المشهور ، وقيل بكسرها ، أي صار فقيهاً .
الشرح
(17/42)
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم فقال (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ) الغيث : يعني المطر ، فكانت هذه الأرض ثلاثة أقسام : قسم رياض : قبلت الماء ، وأنبتت العشب الكثير والزرع ، فانتفع الناس بها ، وقسم آخر قيعان : أمسكت الماء وانتفع الناس به فاسقوا مه ورووا منه ، والقسم الثالث : أرض سبخة : ابتلعت الماء ولم تنبت الكلأ .
فهكذا الناس بالنسبة لما بعث الله به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى ، منهم من فقه في دين الله ، فعلم وعلم ، وانتفع الناس بعلمه. وانتفع هو بعلمه، وهذا كمثل الأرض لتي أنبتت العشب والكلأ فأمل الناس منها ، وأكلت منها مواشيه .
والقسم الثاني : في قوم حملوا الهدى ، ولكن لم يفقهوا في هذا الهدى شيئاً ، بمعنى أنهم كانوا رواة للعلم والحديث ، لكن ليس عندهم فقه ، فهؤلاء مثلهم مثل الأرض التي حفظت الماء ، واستقى الناس منه ، وشربوا منه ، لكن الأرض نفسها لم تنبت شيئاً ؛ لأن هؤلاء يروون أحاديث وينقلونها ، ولكن ليس عندهم فيها فقه وفهم .
والقسم الثالث : من لم يرفع بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى رأساً ، وأعرض عنه ، ولم يبال به ، فهذا لم ينتفع بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، ولم ينفع غيره ، فمثله كمثل الأرض التي بلعت الماء ولم تنبت شيئاً .
وفي هذا الحديث دليل على أن من فقه في دين الله ، وعلم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعلم فإنه خير الأقسام ، لأنه علم وفقه لينتفع وينفع الناس ، ويليه من علم ولكن لم يفقه ، يعني روى الحديث وحمله لكن لم يفقه منه شيئاً ، وإنما هو رواية فقط ، يأتي في المرتبة الثانية في الفضل بالنسبة لأهل العلم والإيمان .
(17/43)
والقسم الثالث : لا خير له ، رجل أصابه من العلم والهدى الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكنه لم يرفع به رأساً ولم ينتفع به ، ولم يعلمه الناس ، فكان ـ والعياذ بالله ـ كمثل الأرض السبخة التي ابتلعت الماء ولم تنبت شيئاً للناس ، ولم يبق الماء على سطحها حتى ينتفع الناس به .
وفي هذا الحديث دليل على حسن تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام ، ذلك بضرب الأمثال لأن ضرب الأمثال الحسية يقرب المعاني العقلية أي : ما يدرك بالعقل يقربه ما يرك بالحس ، وهذا مشاهد ؛ فإن كثيراً من الناس لا يفهم ، فإذا ضربت له مثلاً محسوساً فهم وانتفع ، ولهذا قال الله تعالى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (العنكبوت:43) وقال تعالى: ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) (الروم: 58) فضرب الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم . والله الموفق .
163ـ الثامن : عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلتون من يدي ) رواه مسلم (218).
( الجنادب ) : نحو الجراد والفراش ، هذا هو المعروف الذي يقع في النار ، و( الحجز ) : جمع حجزة ، وهي معقد الإزار والسراويل .
الشرح
(17/44)
قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن جابر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ) أراد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذا المثل أن يبين حاله مع أمته عليه الصلاة والسلام ، وذكر أن هذه الحال كحال رجل في برية ، أوقد ناراً ، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها . والجنادب : نزع من الجراد ، أما الفراش فمعروف ، ( يقعن فيها ) لأن هذه هي عادة الفراش والجنادب والحشرات الصغيرة ، إذا أوقد إنسان ناراً في البر ؛ فإنها تأوي إلى هذا الضوء . قال : ( وأنا آخذ بحجزكم ) يعني لأمنعكم من الوقوع فيها ، ولكنكم تفلتون من يدي .
ففي هذا دليل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم ـ جزاه الله عنا خيراً ـ على حماية أمته من النار ، وأنه يأخذ بحجزها ويشدها حتى لا تقع في هذه النار ، ولكننا نفلت من ذلك ، ونسأل الله أن يعاملنا بعفوه . فالإنسان ينبغي له أن ينقاد لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون لها طوعاً ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدل على الخير واتقاء الشر ، كالذي يأخذ بحجزة غيره ، يأخذ بها حتى لا يقع في النار ، لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما وصفه الله في كتابه : ( لقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) ، صلوات الله وسلامه عليه .
(17/45)
ومن فوائد هذا الحديث : أنه ينبغي للإنسان ـ بل يجب ـ أن يتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به ، وفي كل ما نهى عنه ، وفي كل ما فعله ، وفي كل ما تركه ، يلتزم بذلك ، ويعتقد أنه الإمام المتبوع صلوات الله وسلامه عليه ، لكن من المعلوم أن من الشريعة ما هو واجب يأثم الإنسان بتركه ، وما هو محرم يأثم بفعله ،ومنها ما هو مستحب ؛ إن فعله فهو خير وأجر ، وأن تركه فلا أثم عليه . وكذلك من الشريعة ما هو مكروه كراهة تنزيه ؛ إن تركه الإنسان فهو خير له ، وإن فعله فلا حرج عليه ، لكن المهم أن تلتزم بالسنة عموماً ، وأن تعتقد أن أمامك ومتبوعك هو محمد صلى الله عليه وسلم وأنه ليس هناك سبيل إلى النجاة إلا باتباعه ، والسير في طريقه ، والتمسك بهديه .
ومن فوائد هذا الحديث : بيان عظم حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ، وأنه كان لا يألو جهداً في منعها وصدها عن كل ما يضرها في دينها ودنياها ، كما يكون صاحب النار التي أوقدها وجعل الجنادب والفراش تقع فيها وهو يأخذ بها .
وبناءً على ذلك ، فإذا رأيت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ؛ فأعلم أن فعله شر ، ولا تقل هل هو للكراهة أم هو للتحريم ، اترك ما نهى عنه ، سواء كان للكراهة أو للتحريم ، ولا تعرض نفسك للمساءلة لأن الأصل في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه للتحريم ، إلا إذا قام دليل على أنه للكراهة التنزيهية .
…وكذلك إذا أمر بشيءٍ ، فلا تقل هذا واجب أو غير واجب ، افعل ما أمر به ، فهو خير لك ، إن كان واجباً فقد أبرأت ذمتك ، وحصلت على الأجر ، وإن كان مستحباً فقد حصلت على الأجر ، وكنت متبعاً تمام الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إتباعه ظاهراً وباطناً .
* * *
…164ـ التاسع : عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال : ( إنكم لا تدرون في آيه البركة ) رواه مسلم(219) .
(17/46)
…وفي رواية له : ( إذا وقعت لقمة أحدكم . فيأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ، ولا يدعها للشيطان ، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة )(220) .
وفي رواية له : ( إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى فليأكلها ، ولا يدعها للشيطان )(221) .
الشرح
…ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم في آداب من آداب الأكل ، منها : إن الإنسان إذا فرغ من أكله فإنه يلعق أصابعه ويلعق الصفحة ، يعني يلحسها حتى لا يبقى فيها أثر الطعام ، فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ، فهذان أدبان :
الأول : لعق الصفحة ، والثاني : لعق الأصابع ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يأمر أمته بشيء إلا وفيه الخير والبركة .
ولهذا قال الأطباء : إن في لعق الأصابع من بعد الطعام فائدة ؛ وهو تيسير الهضم ؛ لأن الأنامل فيها مادة ـ بإذن الله ـ تفرزها عند اللعق بعد الطعام تيسر الهضم ، ونحن نقول : هذا من باب معرفة حكمة الشرع فيما يأمر به ، وإلا فالأصل أننا نلعقها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، كثير من الناس لا يفهمون هذه السنة ، تجده ينتهي من الطعام وحافته التي حوله كلها طعام ، تجده أيضاً يذهب ويغسل دون أن يلعق أصابعه ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ نهى أن يمسح الإنسان يديه بالمنديل حتى يلعقها وينظفها من الطعام ، ثم بعد ذلك يمسح بالمنديل ، ثم بعد ذلك يغسلها إذا شاء .
(17/47)
كذلك أيضاً من آداب الأكل : أن الإنسان إذا سقطت لقمه على الأرض فإنه لا يدعها ؛ لأن الشيطان يحضر للإنسان في جميع شؤونه ، كل شؤونك من أكل ، وشرب ، وجماع ، أي شيء يحضر الشيطان ، فإذا لم تسم الله عند الأكل شاركك في الأكل ، وصار يأكل معك ؛ ولهذا تنزع البركة من الطعام إذا بم تسم عليه ، وإذا سميت الله على الطعام ، ثم سقطت اللقمة من يدك فإن الشيطان يأخذها ، ولكن لا يأخذها ونحن ننظر ، لأن هذا شيء غيبي لا نشاهده ، ولكننا علمناه بخبر الصادق المصدوق ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأخذ الشيطان فيأكلها ، وإن بقيت أمامنا حسياً ، لكنه يأكلها غيباً ، هذه من الأمور الغيبية التي يجب أن نصدق بها .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دلنا على الخير فقال : ( فليأخذها وليمط ما بها من أذى ، وليأكلها ، ولا يدعها للشيطان ) خذها وأمط ما بها من أذى ـ من تراب أو عيدان أو غير ذلك ـ ثم كلها ولا تدعها للشيطان . والإنسان إذا فعل هذا امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعاً لله عز وجل وحرماناً للشيطان من أكلها ؛ حصل على هذه الفوائد الثلاثة : الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والتواضع ، وحرمان الشيطان من أكلها. هذه فوائد ثلاث ، ومع ذلك فإن أكثر الناس إذا سقطت اللقمة على السفرة أو على سماط نظيف تركها ، وهذا خلاف السنة .
وفي هذا الحديث من الفوائد : أنه لا ينبغي للإنسان أن يكل طعاماً فيه أذى ، لأن نفسك عندك أمانة ، لا تأكل شيئاً فيه أذى ، من عيدان أو شوك أو ما أشبه ذلك ، وعليه فإننا نذكر الذين يأكلون السمك أن يحتاطوا لأنفسهم ، لأن السمك لها عظام دقيقة مثل الإبر ، إذا لم يحترز الإنسان منها ، فربما تخل إلى بطنه وتجرح معدته أو أمعاءه وهو لا يشعر ، لهذا ينبغي للإنسان أن يراعي نفسه ، وأن يكون لها أحسن راع ، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
* * *
(17/48)
165 ـ العاشر : عن أبن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : ( يا أيها الناس ، إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلاً ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104) ، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ؛ فأقول : يا رب أصحابي ؛ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) إلى قوله ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (المائدة:117-118) فيقال لي : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) متفق عليه(222) .
( غرلاً ) : أي غير مختونين .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ؛ وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل من هدي النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه كان يخطب أصحابه الخطب الراتبة والخطب العارضة .
أما الخطب الراتبة : فمثل خطبة الجمعة ، خطبة العيد ، خطبة الاستسقاء ، خطبة الكسوف . هذه خطب راتبة ، كلما وجد سببها خطب عليه الصلاة السلام ؛ في الجمعة يخطب خطبتين قبل الصلاة ، وفي العيد خطبة واحدة بعد الصلاة ، وكذلك في الاستسقاء ، وفي كسوف خطبة واحدة بعد الصلاة .
أما الخطب العارضة : فإنها تكون إذا وجد سبب عارض ؛ فيقوم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خطيباً يخطب الناس .
(17/49)
فمن ذلك : أن رجلاً بعثه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاملاً على الصدقة يأخذها من أهلها ، فرجع إلى المدينة ومعه أبل فقال : هذه لكم وهذه أهديت إلى . فخطب النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : ( ما بال أحدكم نستعمله على العمل ، فيرجع ويقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ؟ )(223) .
وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه لم يهد لهذا العمل الذي هو تابع للدولة إلا من أجل أنه عامل ، لو كانوا يريدون أن يهدوا إليه لشخصه ، لأهدوا إليه في بيت أبيه وأمه .
ومن هذا الحديث نعرف عظمة الرشوة ، وأنها من عظائم الأمور التي أدت إلى أن يقوم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خطيباً يخطب في الناس ، ويحذرهم من هذا العمل ؛ لأنه إذا فشا في قوم الرشوة هلكوا ، وصار كل واحد منهم لا يقول الحق ، ولا يحكم بالحق ، ولا يقوم بالعدل إلا إذا رشي والعياذ بالله .
والرشوة ملعون آخذها ، وملعون معطيها ، إلا إذا كان الآخذ يمنع حق الناس إلا برشوة ، فحينئذ تكون اللعنة على هذا الآخذ لا على المعطي ؛ لأن المعطي إنما يريد أن يعطي لأخذ حقه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بدفع الرشوة ، فهو معذور . كما يوجد ـ والعياذ بالله ـ الآن في بعض المسئولين في الدول الإسلامية ؛ من لا يمكن أن يقضي مصالح الناس إلا بهذه الرشوة والعياذ بالله ، فيكون آكلاً للمال بالباطل ، معرضاً نفسه للعنة . نسأل الله العافية .
والواجب على من ولاه الله عملاً أن يقوم به بالعدل ، وأن يقوم بالواجب فيه بحسب المستطاع .
(17/50)
ومن ذلك أيضاً : أن بريرة وهي أمة لجماعة من الأنصار ، كاتبها أهلها على تسع أوراق من الفضة ، فجاءت إلى أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ تستعينها ؛ تطلب منها العون لتقضي كتابتها ، فقالت : إن شاء أهلك أن أعدها لهم ، يعني أنقدها نقداً ، ويكون ولاؤك لي فعلت ، فذهبت بريرة إلى أهلها ، يعني أسيادها، فقالت لهم ذلك . فقالوا : لا . الولاء لنا . فرجعت بريرة إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأخبرتها بأن أهلها قالوا : لابد أن يكون الولاء لنا . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ) فأخذتها واشترطت الولاء لهم ، ثم خطب الناس عليه الصلاة والسلام وقال : ( ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق )(224) .
ومن ذلك أيضاً : أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع ، تقول للناس : أعيروني شيئاً ، فيعيرونها المتاع ؛ القدر والقربة وما أشبه ذلك من متاع البيت ، ثم بعد ذلك تقول : ما أعرتموني شيئاً !! تجحد ذلك ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها ؛ لأنها سارقة ، هذه سرقة ، فاهتمت قريش لهذا الأمر ؛ كيف تقطع يد مخزومية من بني مخزوم ، من كبار قبائل العرب ، فطلبوا من يشفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فأرسلوا أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب أباه ، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تلك المرأة يشفع لها ، فقال النبي عليه الصلاة السلام : ( أتشفع في حد من حدود الله ؟) يقول منكراً عليه ، لأن حدود الله ليس فيها شفاعة ، فإذا وصلت للسلطان فلعن الله الشافع والمشفع له .
(17/51)
ثم قام في الناس يخطب ، فقال : ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه . وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ) . وأخبر أن هذا هو الذي أهلك الأمم السابقة . ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( وايم الله ـ يعني أحلف بالله ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )(225) فهل هذه المخزومية أفضل أم فاطمة بنت محمد ؟ فاطمة أفضل منها ، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها ) .
فهذه من الخطب العارضة ، فكان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من هديه أنه يخطب الناس لأمور راتبة ولأمور عارضة ، وسبق لنا حديث العرباض بن سارية قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون .
والخلاصة : أنه يستفاد من هذا الحديث أنه ينبغي للإنسان من قاض ، أو مفتٍ ، أو عالم ، أو داعية ، أن يخطب الناس في الأمور العارضة التي يحتاجون فيها إلى بيان الحق ، وفي الأمور الراتبة ، مثل الجمعة ، والعيدين ، والاستسقاء ، والكسوف كما مر ، وهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن تبليغه ، لأن الشيء إذا جاء في وقته عند حاجته صار له قبول أكثر .
وقد نقل المؤلف ـ رحمة الله ـ عن أبن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً ، وهذه من خطبه العارضة صلى الله عليه وسلم ، فقد قام فيهم خطيباً وقال : ( إنكم محشورون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ) . محشورون : يعنى مجمعون في صعيد واحد النبي صلي الله عليه وسلم ليس فيه جبال، وليس فيه أودية، ولا بناء ، ولا أشجار ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، يعني لو دعاهم داع لأسمعهم جميعاً ؛ لأنه ليس هناك ما يحول بينهم وبين إسماعهم وينفذهم البصر أي يدركهم جميعاً .
(حفاة عراة غرلاً ) وفي رواية : ( بهماً ) .
حفاة : ليس عليهم نعال ، ولا خفاف ، ولا يقوون به أرجلهم .
(17/52)
عراة : ليس عليهم كسوة ، بادية أبشارهم .
غزلاً : يعني غير مختونين .
والختان هو : قطع الجلدة التي تكون على الحشفة ، وتقطع من أجل تمام الطهارة كما سنبينه إن شاء الله .
بهماً : قال العلماء بهماً : أي ليس معهم مال ، فيكون الإنسان مجرداً من كل شيء ، ثم استدل لذلك بقوله تعالى ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: من الآية104) ، يعني أن الله يحشرهم كما بدأهم أول خلق ، يخرجون من بطون الأرض كما خرجوا من بطون أمهاتهم ، حفاة عراة غرلاً ؛ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) . ثم قال عز وجل : (وَعْداً عَلَيْنَا ) أي مؤكداً ، أكده الله على نفسه ، لأن هذا المقام يقضي التوكيد ، فإن من البشر من كذب بالحشر والعياذ بالله ، وقال :( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون:37) ، فقال عز وجل : (وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .
حدث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذا الحديث ، فقالت عائشة رضى الله عنها : واسوءتاه . الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة ، الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك)(226) الأمر عظيم ، ما ينظر أحد لأحد ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).
حتى الرسل ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند عبور الصراط فدعاؤهم : اللهم سلم ، اللهم سلم ، لا يدري أحد أينجو أم لا .الأمر عظيم . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك ) ثم قال : ( ألا وأن أول من يكسى إبراهيم ) إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، هو أول مي يكسى يوم القيامة .
(17/53)
وهذه الخصيصة ـ أنه يكون أول من يكسى لا تدل على التفضيل المطلق ، وأنه أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام ، لأن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والرسل ، سيد ولد أدم يوم القيامة ، لا يؤذن لأحد يشفع للخلائق يوم القيامة إلا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في قوله تعالى : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (الإسراء: من الآية79) ، لكن قد يخص الله بعض الأنبياء بشيء لا يخص به الآخر ، مثل قوله تعالى : ( يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) (الأعراف:144) .
فالرسالات كانت موجودة في غيره ، لكن في وقته كان هو الرسول لبني إسرائيل ، كذلك أيضاً قد يخص الله أحد من الأنبياء أو غيرهم بخصيصة يتميز بها عن غيره ، ولا يوجب ذلك الفضل المطلق .
( ألا وإن أول من يكسى إبراهيم ) عليه الصلاة والسلام ، ولا يقال : لماذا كان أول من يكسى ، لأن الفضائل لا يسأل عنها ، كما قال الله تعالى : ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (الحديد: من الآية21) ، لا يسأل عنها ؛ لأن الإنسان قد يصل فيها إلى نتيجة وقد لا يصل ، فكما أن الله تعالى ـ فضل بني أدم بعضهم على بعض في الرزق ، وفي كمال الأخلاق والآداب ، وكذلك فضل بعضهم على بعض في العلم ، وكذلك في البدن والفكر وغير ذلك ، فالله ـ تعالى ـيؤتي فضله من يشاء .
وفي هذا الحديث دليل على أن الناس يكسون بعد أن يخرجون حفاة عراة غرلاً . ولكن بأي طريق يكسون؟ الله أعلم بذلك ، ليس هناك خياطون ، ولا هناك ثياب تفصل ولا شيء ، فالله أعلم بكيفية ذلك . الذي خلقهم هو الذي يكسوهم سبحانه وتعالى ، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام عن الحديث .
(17/54)
وفي هذا الحديث إشارة إلى الختان ، في قوله : ( غرلاً ) فالأغرل هو الذي بقيت عليه جلدة الحشفة ؛ أي لم يختن . والختان اختلف العلماء في وجوبه ، فمنهم من قال : إنه واجب على الذكور والإناث ، وأنه يجب أن تختن البنت كما يختن الولد .
ومن العلماء من قال : أنه لا يجب الختان لا على الرجال ولا على النساء ، وأن الختان من الفطرة المستحبة ، وليس من الفطرة الواجبة .
ومنهم من توسط بين القولين فقال : الختان واجب في حق الذكور ، وسنة في حق النساء ، وهذا القول أوسط الأقوال وأعدلها ، فإنه واجب في حق الرجال ، لأن الرجل إذا بقيت هذه الجلدة فوق حشفته ، فإنها ستكون مجمعاً للبول ، فيكون في ذلك تلويث للرجل ، وربما يحدث إثر هذا التهابات فيما بين الجلدة والحشفة ، ويتضرر الإنسان . فالصحيح أن الختان واجب على الذكور ، وسنة في حق الإناث ، وهو أعدل الأقوال وأحسنها .
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يؤتي برجال من أمته فيؤخذ بهم ذات الشمال ، أي إلى طريق أهل النار والعياذ بالله . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصحابي ) أي يشفع إلى ـ الله سبحانه وتعالى ـ فيهم ، فيقال له : ( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم كما قال العبد الصالح ؛ يعني به عيسى بن مريم ؛ حين يقول يوم القيامة إذا قال الله تعالى له: ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كما يزعم النصارى الذين يقولون : أنهم متبعون له : ( قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) (المائدة:116) لأن الألوهية ليست حقاً لأحد إلا الله رب العالمين .
(17/55)
ثم يقول : ( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة :116-117) .
فإذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ، قال كما قال عيسى بن مريم : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .
ثم يقال للرسول عليه الصلاة والسلام : ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) فيقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( سحقاً سُحقاً ) .
قوله : ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) تمسك به الرافضة الذين قالوا : إن الصحابة كلهم ارتدوا عن الإسلام والعياذ بالله ، ومنهم أبو بكر ، عمر ، وعثمان رضي الله عنهم . أما على وآل البيت ـ رضي الله عنهم ـ فهم لم يرتدوا على زعمهم .
ولا شك أنهم في هذا كاذبون ، وأن الخلفاء الأربعة كلهم لم يحصل منهم ردة ب'جماع المسلمين ، وكذلك عامة أصحاب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يحصل منهم ردة بالإجماع المسلمين ، إلا قوماً من الأعراب كانوا حديثي عهد بالإسلام لما مات النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ افتتنوا ، وارتدوا على أدبارهم ، ومنعوا الزكاة ، حتى قاتلهم الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه ، وعاد أكثرهم إلى الإسلام .
ولكن الرافضة من شدة حنقهم وبغضهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تمسكوا بظاهر هذا الحديث .
(17/56)
أما أهل السنة والجماعة فقالوا : إن هذا الحديث عام يراد به الخاص ، وما أكثر العام الذي يراد به الخاص . فقوله : ( أصحابي ) يعني ليسوا كلهم ، بل الذين ارتدوا على أدبارهم ، لأن هكذا قيل للرسول عليه الصلاة والسلام : ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) . ومعلوم أن الخلفاء الراشدين ، عامة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، لم يرتدوا بالإجماع ، ولو قدر أنهم ارتدوا لم يبق لنا ثقة بالشريعة . ولهذا كان الطعن في الصحابة يتضمن الطعن في شريعة الله ، وستضمن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتضمن الطعن بالله رب العالمين .
الذين يطعنون في الصحابة تضمن طعنهم أربعة محاذير ومنكرات عظيمة والعياذ بالله : الطعن في الصحابة ، والطعن في الشريعة ، والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ، والطعن في رب العالمين تبارك وتعالى ، لكنهم قوم لا يفقهون ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون ) (البقرة: من الآية171) .
أما كونه طعناً في الشريعة : فلأن الذين نقلوا إلينا الشريعة هم الصحابة ، وإذا كانوا مرتدين ، والشريعة جاءت من طريقهم ، فإنها لا تقبل لأن الكافر لا يقبل خبره ، بل الفاسق أيضاً ؛ كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6) .
وأما كونه طعناً برسول الله صلى الله عليه وسلم : فيقل : إذا كان أصحاب النبي بهذه المثابة من الكفر والفسوق ، فهو طعن بالرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن القرين على دين قرينه ، وكل إنسان يعاب بقرينه إذا كان قرينه سيئاً ؛ يقال : فلان ليس فيه خير ؛ لأن قرناءه فلان وفلان وفلانٌ من أهل الشر . فالطعن في الأصحاب طعن بالمصاحب .
(17/57)
وأما كونه بالله رب العالمين فظاهر جداً : أن يجعل أفضل الرسالات وأعمها وأحسنها على يد هذا الرجل الذي هؤلاء أصحابه ، وأيضاً أن يجعل أصحاب هذا النبي الذي هو أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ـ مثل هؤلاء الأصحاب الذين زعمت الرافضة أنهم ارتدوا على أدبارهم . ولهذا نعتقد أن هذه فرية عظيمة على الصحابة رضي الله عنهم ، وعدوان على الله ورسوله وشريعة الله ؛ ولا شك أننا نكن الحب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولآل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، ونرى أن لآله المؤمنين حقين : حق الإيمان ، وحق قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (الشورى: من الآية23) ، يعني إلا أن تودوا قرابتي على أحد التفاسير . والتفسير الآخر لقوله تعالى : ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) أي إلا أن تودوني لقرابتي منكم .
وعلى كل حال ، فهذا الحديث ليس فيع مطمع للرافضة في القدح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يصدق إ لا على من ارتدوا ، أما من بقوا على الإسلام ، وأجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ؛ فإنهم لا يدخلون في هذا الحديث ، ويقال : إن الذي خصص هذا الحديث إجماع المسلمين على أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يرتدوا ، وإنما ارتدت طائفة قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ورجع أكثرهم إلى الإسلام . والله الموفق .
* * *
166 ـ الحادي عشر : عن أبي سعيد عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف وقال : (إنه لا يقتل الصيد ، ولا يتكأ العدو ، وإنه يفقأ العين ، ويكسر السن) متفق عليه (227).
(17/58)
وفي رواية : أن قريباً لابن مغفل حذف ؛ فنهاه وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال : ( إنها لا تصيد صيداً ) ثم عاد فقال : أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، ثم عدت تحذف !؟ لا أكلمك أبداً (228).
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن مغفلٍ ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف ، وقال : ( إنه يقتل صيداً ) وفي لفظ : ( لا يصيد صيداً ) ( ولا ينكأ عدواً ، وإنما يفقأ العين ويكسر ) .
والحذف : قال العلماء : معناه أن يضع الإنسان حصاه بين السبابة والإبهام ، فيضع على الإبهام حصاة يدفعها بالسبابة ، أو يضع على السبابة ويدفعها بالإبهام . وفد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعلل ذلك بأنه يفقأ العين وكسر السن إذا أصابه ، ( ولا يصيد الصيد ) لأنه ليس له نفوذ ( ولا ينكأ العدو ) يعني لا يدفع العدو ؛ لأن العدو إنما ينكأ بالسهام لا بهذه الحصاة الصغيرة .
ثم إن قريباً له خرج بخذف ، فنهاه عن الخذف وقال : أخبرتك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ، ثم إنه رآه مرة ثانية يخذف فقال له : ( أخبرتك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ، فجعلت تخذف !! لا أكلمك أبداً ) فهجره ؛ لأنه خالف نهي النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا كما فعل عبد بن عمر في أحد أبنائه ، حين حدث أبن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) . فقال أحد أبنائه وهو بلال بن عبد الله بن عمر : ( والله لنمنعهن ) ؛ لأن النساء تغيرت بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والناس تغيروا ، فقال بلال:( والله لنمنعهن ) . فأقبل عليه أبوه عبد الله ابن عمر ، وجعل يسبه سباً عظيماً ، ما سبه مثله قط ، وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن (229).
(17/59)
ثم هجره حتى مات ، لم يكلمه ، فدل هذا على عظم تعظيم السلف الصالح لأتباع السنة .
فهذا عبد الله بن مغفل أقسم أن لا يكلم قريبه ؛ لأنه حذف ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف ، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يعظم سنة النبي عليه الصلاة والسلام .
ولكن إذا قال قائل : هل مثل الأمر يوجب الهجر وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هجر المؤمن فوق ثلاث ؟ (230).
فالجواب عن هذا : أن هذين الصحابيين ـ وأمثالهما ممن فعل مثل فعلهما ـ فعلا ذلك من باب التعزير ، ورأيا في هذا تعزير لهذين الرجلين ، وإلا فالأصل أن المؤمن إذا فعل ذنباً وتاب منه ، فإنه يغفر له ما سلف ، حتى الكفار إذا تابوا غفر الله لهم ما سبق .
قال الله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) (الأنفال: من الآية38) كل ما مضى .
ولكن نظراً لأن هذين الصحابيين رضي الله عنهما ، أرادا أن يعزرا من خالف أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، إما بقوله وما بفعله ، ولو عن اجتهاد لأن بلال بن عبد الله بن عمر ، إنما قال ذلك عن اجتهادٍ ، لكن لا ينبغي للإنسان أن يعارض قول الرسول هذه المعارضة الظاهرة ، ولو أنه قال مثلاً : لعل النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهن في زمن كانت النيات فيه سليمة ، والأعمال مستقيمة ، وتغيرت الأحوال بعد ذلك ، وأتى بالكلام على هذا الوجه ، لكان أهون .
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ـ وهي فقيهة ـ :لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنع النساء من بعده لمنعهن ـ يعني من المساجد ـكما منعت بنو إسرائيل نساءها . ولكن على كل حال ما فعله عبد الله بن مغفل ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، يدل على تعظيم السنة ، وأن الإنسان يجب أن يقول في حكم الله ورسوله : سمعنا وأطعنا . والله الموفق .
* * *
(17/60)
167 ـ وعن عباس بن ربيعة قال : ( رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر ـ يعني الأسود ـ ويقول : ( إني أعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) متفق عليه(231) .
الشرح
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في باب الأمر باتباع السنة وآدابها ، فقد كان ـ رضي الله عنه ـ يطوف بالكعبة ، فقبل الحجر الأسود ، والحجر كما نعلم حجر من الأرض جعل في هذا الركن(232) .
وشرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ لعباده أن يقبلوه ؛ لكمال الذل والعبودية ، ولهذا قال عمر ـ رضي الله عنه ـ حين قبله ( إني لأعلم حجر أنك لا تضر ولا تنفع ) . وصدق رضي الله عنه ، فإن الأحجار لا تضر ولا تنفع . الضرر والنفع بيد الله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ (المؤمنون: 88-89).
ولكن بين ـ رضى الله عنه ـ أن تقبيله إياه لمجرد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ( ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) يعني فأنا أقبلك اتباعاً للسنة ، لا رجاء للنفع ، أو خوف الضرر ؛ ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . ولهذا لا يشرع أن يقبل شيء من الكعبة المشرفة إلا الحجر الأسود فقط ، أما الركن اليماني فيستلم ـ يعني يمسح ولا يقبل . والحجر الأسود أفضل شيء أن يمسحه بيده اليمني ويقبله ، فإن لم يمكن استلمه وقبل يده ، فإن لم يمكن أشار إليه بشيء معه أو بيده ، ولكن لا يقبل ما أشار به ، لأن هذا الذي أشار به لم يمس الحجر حتى يقبله .
(17/61)
أما الركن اليماني فليس فيه إلا استلام فقط ، ويكون الاستلام باليد اليمنى . ونرى بعض الجهال الذين لا يدرون لماذا استلموا هذا الحجر يستلم باليد اليسرى ، واليد اليسرى كما قال أهل العلم : لا تستعمل إلا في الأذى ، في القذر والنجاسات وما أشبهها ، أما أن تعظم بها شعائر الله فلا .
ثم أن بقية الأركان : الركن الشامي ، والعراقي ، يعني الشمالي الشرقي والشمالي الغربي ، هذان الركنان لا يقبلان ولا يمسحان ، وذلك لأنهما ليس على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك أن قريشاً لما أرادوا بناء الكعبة ، قالوا : لن نبنها إلا بمال طيب ، لا نبتها بأموال الربا ، وانظر كيف عظم الله بيته حتى على أيدي الكفار ، فجمعوا المال الطيب ، فلم يكف لبنائها على قواعد إبراهيم ، ثم فكروا من أي جانب ينقصوها . قالوا ننقصها من الشمال ؛ لأن الجانب اليماني الجنوبي فيه الحجر الأسود ، ولا يمكن أن ننقصها من جانب الحجر الأسود ، فتقصوها من هناك ، قلم تكن على قواعد إبراهيم عليه الصلاة السلام ، لذلك لم يقبل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يمسح الركن الشمالي الشرقي ولا الركن الشمالي الغربي .
(17/62)
ولما طاف معاوية ـ رضي الله عنه ـ ذات سنة ، وكان معه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، جعل معاوية يمسح الأركان الأربعة ؛ الحجر الأسود، والركن اليماني ، والشمالي ، والغربي ، فقال له أبن عباس : كيف تمسح الركنين الشماليين ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يمسح إلا الركن اليماني والحجر الأسود . ؟ فقال معاوية : إنه ليس شيء من البيت مهجوراً . يعني البيت لا يهجر ، كله يحترم ويعظم ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو أفقه من معاوية قال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (الأحزاب: من الآية21) ، وما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح إلا الركنين اليمانيين ، يعني ركن الحجر الأسود والركن اليماني , فقال له معاوية : صدقت ورجع إلى قوله(233). لأن الخلفاء فيما سبق ـ وإن كانوا كالملوك في الأبهة والعظمة ـ لكنهم كانوا يرجعون إلى الحق ، ولهذا رجع معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى الحق ، وقال له : صدقت ، وترك مسح الركنين الشمالي الشرقي والشمالي الغربي .
وهذا الحديث الذي ذكره المؤلف عن عمر ـ رضي الله عنه ـ دليل على جهالة اؤلئك القوم الذين نشاهدهم ، يقف أحدهم عن الركن اليماني فيمسحه بيده ، ويكون معه طفل فد حمله ، فيمسح الطفل بيده يتبرك بالركن ، وكذلك لو تيسر له لمسح على الحجر الأسود ، مسح الطفل للبركة ، وهذا لا شك أنه بدعة ، وأنه نوع من الشرك الأصغر ؛ لأن هؤلاء جعلوا ما ليس سبباً سَبباً ، والقاعدة : أن كل أحد يجعل شيئاً سبباً لشيء بدون إذن من الشارع فإنه يكون مبتدعاً ، ولهذا يجب على من رأى أحداً يفعل هذا أن ينصحه ، يقول له : ( هذا غير مشروع ، هذا بدعة ) حتى لا يظن الناس أن الأحجار تنفع أو تضر ، ثم تتعلق قلوبهم بها في شيء أكبر وأعظم من هذا .
(17/63)
وقد بين أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه لا يفعل ذلك إلا اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فإنه يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ، وفي هذا دليل على أن كمال التعبد أن ينقاد الإنسان لله عز وجل ، سواء عرف السبب والحكمة في المشروعية أم لم يعرف . فعلى المؤمن إذا قيل له أفعل ؛ أن يقول : سمعنا وأطعنا ، وإن عرفت الحكمة فهو نور على نور ، وإن لم تعرف فالحكمة أمر الله ـ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ولهذا قال الله في كتابه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (الأحزاب: من الآية36) . وسئلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة ، فقالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، كأنها ـ رضي الله عنها تقول : إن وظيفة المؤمن أن يعمل بالشرع ، سواء عرف الحكمة أم لم يعرفها ، وهذا هو الصواب .
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يتوفانا عليها ، وأن يحشرنا في زمرته ، إنه جواد كريم .
* * *
(199) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب ، باب المقة من الله تعالى،رقم (6040) ، ومسلم كتاب البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه عباده رقم (2637) .
(200) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة،رقم (1473) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ...رقم ( 1045) .
(201) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب الوصال ، رقم (1962)، ومسلم ، كتاب الصيام ، باب النهي عن الوصال في الصوم ، رقم (1103) .
(202) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب التنكل لمن أكثر الوصال، رقم (1965) ،ومسلم، كتاب الصيام ، باب النهي عن الوصال في الصوم ،رقم (1103) .
(203) تقدم تخريجه .
(17/64)
(204) أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ، رقم (4605)، والترمذي ، كتاب العلم ، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، رقم ( 2663) وقال : حديث حسن صحيح .
(205) أخرجه البخاري ، كتاب الاعتصام ، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم (7288) ، ومسلم ، كتاب الحج ، باب فرض الحج مرة في العمر ، رقم ( 1337) .
(206) تقدم تخريجه .
(207) أخرجه البخاري ، كتاب العلم ، باب من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ، رقم (71) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب النهي عن المسألة ، رقم (1037) .
(208) تقدم تخريجه .
(209) أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ، رقم (4607)، والترمذي ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة ، رقم (2676)، وابن ماجه ، المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، رقم (42) .
(210) أخرجه البخاري ، كتاب الأحكام ، باب السمع والطاعة للإمام ...، رقم (7145) ، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ، رقم (1840) .
(211) أخرجه البخاري كتاب اللباس ، باب تقليم الأظفار ، رقم (5892) ، ومسلم ، كتاب الطهارة ، باب خصال الفطرة ، رقم (259) .
(212) أخرجه البخاري ن كتاب استتابة المرتدين ، باب حكم المرتد ...، رقم (6922) .
(213) أخرجه البخاري ، كتاب صلاة التراويح ، باب فضل من قام رمضان ، رقم (2012) ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب الترغيب في قيام رمضان ... ، رقم (761) .
(214) أخرجه البخاري ، كتاب الأذان ، باب تسوية الصفوف عند الأقامة وبعدها ، رقم (717) ، ومسلم ، كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف وإقامتها رقم ( 436) .
(215) أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف وإقامتها ، رقم (436) .
(17/65)
(216) أخرجه البخاري ، كتاب الاستئذان ، باب لا تترك النار في البيت عند النوم ، رقم ( 6294) ، ومسلم ، كتاب الأشربة ، باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء رقم ( 2016) .
(217) أخرجه البخاري ، كتاب العلم ، باب فضل من علم وعلم ، رقم (79) ومسلم كتاب الفضائل ، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم رقم (2282) .
(218) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ، باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ... ، رقم (2285) .
(219) أخرجه مسلم ، كتاب الأشربة ، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة ... ، رقم (2033) .
(220) أخرجه مسلم ، كتاب الأشربة ، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة ... ، رقم (2033) .
(221) أخرجه مسلم ، كتاب الأشربة ، باب استحباب لعق الأصابع والقصعة ... ، رقم (2033) .
(222) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى : ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ، رقم (3349) ، ومسلم ، كتاب الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، رقم (2860) .
(223) أخرجه البخاري ، كتاب الحيل ، باب احتيال العامل ليهدى إليه ، رقم (6979)، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب تحريم هدايا العمال رقم (1832) .
(224) أخرجه البخاري ، كتاب الشروط في الولاء ، رقم ( 2729) ، ومسلم ،كتاب العتق ، باب إنما الولاء لمن أعتق ، رقم (1504) .
(225) أخرجه البخاري ، كتاب الحدود ، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان ، رقم (6788)، ومسلم ، كتاب الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره ...، رقم ( 1688) .
(226) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب الحشر ، رقم (6527) ، ومسلم ، كتاب الجنة باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة رقم ( 2859) .
(227) أخرجه البخاري ،كتاب الأدب ، باب النهي عن الخذف ، رقم (6220) ، ومسلم كتاب الصيد والذبائح ، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو وكراهة الخذف ، رقم (1954) .
(17/66)
(228) أخرجه البخاري ، كتاب الذبائح والصيد ، باب الخذف والبندقة ، رقم (5479)، ومسلم ، كتاب الصيد والذبائح ، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو وكراهة الخذف ، رقم (1954) . واللفظ لمسلم .
(229) أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد ,,, ، رقم (442) .
(230) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب باب الهجرة ، رقم (6076 ، 6077) ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب النهي عن التباغض والتحاسد والتدابر ، رقم (2559) .
(231) أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب تقبيل الحجر ، رقم ( 1610) ، ومسلم ، كتاب الحج ، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف ، رقم (1270) .
(232) وفي الشرح الممتنع (7/268) قال فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ : يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن ، ولكن سودته خطايا بني آدم ) أخرجه الإمام أحمد ، (4/223) والترمذي ، كتاب الحج ، باب ما جاء في فضل الحجر الأسود ، (877) وقال : حسن صحيح ، والنسائي ، كتاب مناسك الحج ، باب ذكر الحجر الأسود ( 2935) .
فإن كان صحيحاً فلا غرابة أن يكون نازلاً من الجنة ، وإن لم يكن الحديث صحيحاً فلا إشكال فيه . أه .
(233) أخرجه بهذا السياق أحمد في المسند ، رقم (1/217) وأصله في البخاري ، كتاب الحج باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين رقم ( 1608) .
(17/67)
17 ـ باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى
وما يقوله من دعي إلى ذلك وأمر بمعروف أو نهى عن منكر
قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
وقال الله تعالى : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51) .
وفيه من الأحاديث حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب قبله وغيره من الأحاديث فيه .
(18/1)
168 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية284) ، أشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الإعمال ما نطيق : الصلاة والجهاد والصيام والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) قالوا :سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما اقترأها القوم ، وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله تعالى في أثرها : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285) ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى ؛ فأنزل عز وجل : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال : نعم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قال : نعم ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال : نعم ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286) ، قال: نعم ) رواه مسلم(234) .
الشرح
(18/2)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ : ( باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى ... ) ثم ذكر آيتين سبق الكلام عليهما ، منهما قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) ( النساء : 65) .
ثم ذكر حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما نزل الله على نبيه هذه الآية ( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: 284) ، كبر ذلك عليهم وشق عليهم ذلك ؛ لأن ما في النفس من الحديث أمر لا ساحل له ، فالشيطان يأتي الإنسان ويحدثه في نفسه بأشياء منكرة عظيمة ، منها ما يتعلق بالنفس ، ومنها ما يتعلق بالمال ، أشياء كثيرة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان , الله عز وجل يقول : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة:284) فإذا كان كذلك ؛ هلك الناس .
فجاء الصحابة ، رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجثوا على ركبهم ، وقد فعلوا ذلك من شدة الأمر . فالإنسان إذا نزل به أمر شديد يجثو على ركبتيه ، وقالوا : يا رسول الله ؛ إن الله تعالى أمرنا بنا نطيق ؛ الصلاة ، والجهاد ، والصيام ، والصدقة ، فنصلي ، ونجاهد ، ونتصدق ، ونصوم . لكنه أنزل هذه الآية : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: 284) وهذه شديدة عليهم لا أحد يطيق أن يمنع نفسه عما تحدثه به من الأمور التي لو حوسب عليها لهلك .
(18/3)
فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ) أهل الكتابين هم اليهود والنصارى . فاليهود كتابهم التوراة ، وهي أشرف الكتب المنزلة بعد القرآن . والنصارى كتابهم الإنجيل وهو متم للتوراة . واليهود والنصارى عصوا أنبياءهم وقالوا :سمعنا وعصينا ، فهل تريدون أن تكونوا مثلهم ؟ ( ولكن قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) . هكذا يجب على المسلم إذا سمع أمر الله ورسوله أن يقول : ( سمعنا وأطعنا ) ويمتثل بقدر ما يستطيع ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وكثير من الناس اليوم يأتي إليك يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكذا ، هل هو واجب أو سنة ؟ والواجب أنه إذا أمرك فافعل ؛ إن كان واجباً فقد أبرأت الذمة ، وحصلت خيراً ، وإن كان مستحباً فقد حصلت خيراً أيضاً . أما أن تقول : أهو واجب أو مستحب ؟! وتتوقف عن العمل حتى تعرف ، فهذا لا يمون إلا من إنسان كسول لا يحب الخير ولا الزيادة فيه . أما الإنسان الذي يحب الزيادة في الخير ، فهو إذا علم أمر الله ورسوله قال : سمعنا وأطعنا ثم فعل ، ولا يسال أهو واجب أو مستحب ، إلا إذا خالف ، فحينئذ يسأل ، ويقول : أنا فعلت كذا وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكذا فهل على من إثم ؟ ولهذا لم نعهد ولم نعلم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر قالوا : يا رسول الله ؛ أعلى سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب ؟ ما سمعنا بهذا ، كانوا يقولون : سمعنا وأطعنا ويمتثلون .
فأنت افعل وليس عليك من كونه مستحباً أو واجباً ، ولا يستطيع الإنسان أن يقول إن هذا الأمر مستحب أو واجب إلا بدليل ، والحجة أن يقول لك المفتي : هكذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام .
(18/4)
ونحن نجد ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لما حدث ابنه بلالاً قال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تمنعوا نساءكم المساجد ) وقد تغيرت الحال بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ، قال بلال : ( والله لنمنعهن) فسبه عبد الله بن عمر سباً شديداً (235)، لماذا يقول : والله لنمنعهن والرسول يقول لا تمنعونهن ثم إنه هجره حتى مات .
وهذا يدل على شدة تعظيم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أما نحن فنقول : هل هذا الأمر واجب أم مستحب ، هذا النهي للتحريم أم للكراهة ، لكن إذا وقع الأمر فلك أن تسأل حينئذ هل أثمت بذلك أم لا ؟ لأجل أنه قيل لك : أنك آثم تجدد توبتك ، وإذا قيل إنك غير آثم يستريح قلبك ، أما حين يوجه الأمر فلا تسأل عن الاستحباب أو الوجوب ، كما أدب الصحابة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، يفعلون ما أمر ، ويتركون ما عنه نهى وزجر .
لكن مع ذلك نحن نبشركم بحديث فيه قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )(236). الحمد لله ، رفع الحرج ، كل ما حدثت به نفسك ، لكنك ما ركنت إليه ، ولا عملت ، ولا تكلمت ، فهو معفو عنه ، حتى ولو كان أكبر من الجبال . فاللهم لك الحمد .
حتى إن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قالوا : يا رسول الله ، نجد في نفوسنا ما نحب أن نكون حمَمَةً ـ يعني فحمة محترقة ـ ولا نتكلم به قال : (ذاك صريح الإيمان )(237) يعني ذاك هو الإيمان الخالص ؛ لأن الشيطان لا يلقي مثل هذه الوساوس في قلب خرب ، في قلب فيه شك ، إنما يتسلط الشيطان أعاذنا الله منه على قلبٍ مؤمن خالص ليفسده .
(18/5)
ولما قيل : إن اليهود إذا دخلوا في الصلاة لا يوسوسون ، قال : وما يصنع الشيطان بقلب خرب . فاليهود كفار ، قلوبهم خربة ، فالشيطان لا يوسوس لهم عند صلاتهم ، لأنها باطلة من أساسها ، إنما الشيطان يوسوس للمسلم الذي صلاته صحيحة مقبولة ، ليفسدها ، فيأتي للؤمن صريح الإيمان ليفسد هذا الإيمان الصريح ، ولكن ـ والحمد لله ـ من أعطاه الله تعالى طب القلوب والأبدان ، محمد صلى الله عليه وسلم وصف لنا لهذا طباً ودواءً ، فأرشد إلى الاستعاذة بالله والانتهاء (238)، فإذا أحسن الإنسان بشي من هذه الوساوس الشيطانية ، فإنه يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولينته ويعرض عنها ولا يلتفت إليها ، ويمضي فيما هو عليه ، فإذا رأى الشيطان أنه لا سبيل إلى فساد هذا القلب المؤمن الخالص ، نكص على عقبيه ورجع .
ثم إنهم لما قالوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ، ولانت لها نفوسهم ، وذلت لها ألسنتهم أنزل الله بعدها : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ( البقرة 285) يعني : والمؤمنون آمنوا ( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285) ، فبين الله عز وجل في هذه الآية الثناء على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى المؤمنين ؛ لأنهم قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
(18/6)
ثم أنزل الله ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (البقرة:286) ، فالذي ليس في وسع الإنسان لا يكلفه الله به ، ولا عرج عليه فيه ، مثل الوسواس التي تهجم على القلب ، ولكن الإنسان إذا لم يركن إليها ، ولم يصدق بها ، ولم يرفع بها رأساً فإنها لا تضره ، لأن هذه ليست داخلة في وسعه ، والله عز وجل يقول : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) ( البقرة 286) .
فقد يحدث الشيطان الإنسان في نفسه عن أمور فظيعة عظيمة ، ولكن الإنسان إذا أعرض عنها واستعاذ بالله من الشيطان ومنها ، زالت عنه ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال نعم . يعني قال الله نعم لا أؤخذكم إن نسيتم أو أخطأتم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قال : نعم , ولهذا قال الله تعالى في وصف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (الأعراف:157) ، ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال الله نعم .
ولهذا لا يكلف الله تعالى في شرعه ما لا يطيقه الإنسان ، بل إذا عجز عن الشيء انتقل إلى بدله إذا كان له بدل ، أو سقط عنه إن لم يكن له بدل ، أما أن يكلف ما لا طاقة له فإن الله تعالى قال هنا : نعم ، يعني لا أحملكم ما لا طاقة لكم به ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (البقرة:286). قال الله : نعم .
(18/7)
(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا ) هذه ثلاث كلمات ، كل كلمة لها معنى ، (وَاعْفُ عَنَّا ) يعني تقصيرنا في الواجب (وَاغْفِرْ لَنَا ) يعني انتهاكنا للمحرم (وَارْحَمْنَا ) يعني وفقنا للعمل الصالح . فالإنسان إما أن يترك واجباً أو يفعل محرماً ، فإن ترك الواجب فإنه يقول : اعف عنا ، أي اعف عنا ما قصرنا فيه من الواجب ، وإن فعل المحرم ، فإنه يقول : اغفر لنا ، يعني ما اقترفنا من الذنوب ، أو يطلب تثبيتاً وتأييداً على الخير في قوله (وَارْحَمْنَا ) .
(أَنْتَ مَوْلانَا ) أي متولي أمورنا في الدنيا والآخرة ، فتولنا في الدنيا وانصرنا على القوم الكافرين (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) قد يتبادر للإنسان أن المراد أعداؤنا من الكفار ، ولكنه أعم حتى أنه يتناول الانتصار على الشيطان ؛ لأن الشيطان رأس الكافرين .
إذاً نستفيد من هذه الآيات الكريمة الأخيرة أن الله ـ سبحانه وتعالى لا يحملنا ما لا طاقة لنا به ، ولا يكلفنا إلا وسعنا ، وأن الوساوس التي تجول في صدورنا إذا لم نركن إليها ، ولم نطمئن إليها ، ولم نأخذ بها ، فإنها لا تضر ، والله الموفق .
* * *
(234) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان قوله تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ) ، رقم (125)
(235) تقدم تخريجه .
(236) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان والنذور ، باب إذا حنث ناسياً في الإيمان ، رقم (6664) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب تجاوز الله عن حديث النفس ... ، رقم (127) .
(237) أخرجه مسلم كتاب الإيمان ، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها ، رقم (132) .
(238) أخرجه البخاري ، كناب بدء الخلق ، باب صفة إبليس وجنوده ، رقم (3276) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها ، رقم (132) .
(18/8)
18 ـ باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ ( باب النهي عن البدع ومحدثات الأمور ) والبدع هي الأشياء التي يبتدعها الإنسان ، هذا هو معناها في اللغة العربية ، ومنه قوله تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117) ، أي خالقها على غير مثال سبق ، يعني لم يسبق لهما نظير ، بل ابتدعهما وأنشأهما أولاً .
والبدعة في الشرع كل من تعبد لله سبحانه وتعالى بغير ما شرع عقيدة أو قولاً أو فعلاً ، فمن تعبد لله بغير ما شرعه الله من عقيدة أو قول أو فعل فهو مبتدع .
فإذا أحدث الإنسان عقيدة في أسماء الله وصفاته مثلاً فهو مبتدع ، أو قال قولاً لم يشرعه الله ورسوله فهو مبتدع ، أو فعل لم يشرعه الله ورسوله فهو مبتدع .
وليعلم أن الإنسان المبتدع يقع في محاذير كثيرة :
أولاً : أن ما ابتدعه فهو ضلال بنص القرآن والسنة ، وذلك أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق ، وقد قال الله تعالى : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) (يونس:32) ، هذا دليل القرآن . ودليل السنة قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة )(239) ، ومعلوم أن المؤمن لا يختار أن يتبع طريق الضالين الذين يتبرأ منهم المصلي في كل صلاة ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:6،7) .
ثانياً : أن في البدعة خروجاً عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) (آل عمران:31) ، فمن ابتدع بدعة يتعبد لله بها فقد خرج عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرعها ، فيكون خارجاً عن شرعة الله فيما ابتدعه .
(19/1)
ثالثاً : أن البدعة التي ابتدعها تنافي تحقيق شهادة أن محمد رسول الله ؛ لأن من حقق شهادة أن محمداً رسول الله فإنه لا يخرج عن التعبد بما جاء به ، بل يلتزم شريعته ولا يتجاوزها ولا يقصر عنها ، فمن قصر في الشريعة أو زاد فيها قصر في ابتاعه ، إما بنقص أو زيادة ، وحينئذ لا يحقق شهادة أن محمداً رسول الله .
رابعاً : أن مضمون البدعة الطعن في الإسلام ، فإن الذي يبتدع تتضمن بدعته أن الإسلام لم يكمل , أنه كمل الإسلام بهذه البدعة ، وقد قال الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة:3) ، فيقال لهذا المبتدع : أنت الآن أتيت بشريعة غير التي كمل عليها الإسلام ، وهذا يتضمن الطعن في الإسلام وإن لم يكن الطعن فيه باللسان ، لكن الطعن فيه هنا بالفعل ، أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أين الصحابة عن هذه العبادة التي ابتدعها ؟ أهم جهل منها ؟ أم في تقصير عنها ؟ إذاً فهذا يكون طعناً في الشريعة الإسلامية .
خامساً : أنه يتضمن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأن هذه البدعة التي زعمت أنها عبادة أما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بها ، وحينئذ يكون جاهلاً ، وإما أن يكون قد علم بها ولكنه كتمها ، وحينئذ يكون كاتماً للرسالة أو بعضها ، وهذا خطير جداً .
(19/2)
سادساً : أن البدعة تتضمن تفريق الأمة الإسلامية ؛ لأن الأمة الإسلامية إذا فتح الباب لها في البدع صار هذا يبتدع شيئاً ، وهذا يبتدع شيئاً ، وهذا يبتدع شيئاً ، كما هو الواقع الآن ، فتكون الأمة الإسلامية كل حزب منها بما لديه فرح كما قال تعالى : ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 32) ، كل حزب يقول الحق معي ، والضلال مع الآخر ، وقد قال الله تعالى لنبيه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُون َ) (الأنعام:159،160) .
فإذا صار الناس يبتدعون تفرقوا ، وصار كل واحد يقول الحق معي ، وفلان ضال مقصر ، ويرميه بالكذب والبهتان وسوء القصد وما أشبه ذلك .
ونضرب لهذا مثلاً بأولئك الذين ابتدعوا عيد ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام ، وصاروا يحتفلون بما يدعون أنه اليوم الذي ولد فيه ، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، أتدرون ماذا يقولون لمن لا يفعل هذه البدعة ؟ يقولون هؤلاء يبغضون الرسول ويكرهونه ، لهذا لم يفرحوا بمولده ، ولم يقيموا له احتفالاً ، وما أشبه ذلك ، فتجدهم يرمون أهل الحق بما هم أحق به منهم .
والحقيقة أن المبتدع بدعته تتضمن أنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يدعي أنه يحبه ؛ لأنه إذا ابتدع هذه البدعة والرسول عليه الصلاة والسلام لم يشرعها للأمة ، فهو كما قلت سابقاً إما جاهل وإما كاتم .
(19/3)
سابعاً : أن البدعة إذا انتشرت في الأمة اضمحلت السنة ، لأن الناس يعملون ؛ فإما بخير وإما بشر ، ولهذا قال بعض السلف : ما ابتدع قوم بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها ، يعني أو أشد . فالبدع تؤدي إلى نسيان السنن واضمحلالها بين الأمة الإسلامية .
وقد يبتدع بعض الناس بدعة بنية حسنة ، لكن يكون أحسن في قصده وأساء في فعله ، ولا مانع أن يكون القصد حسناً والفعل سيئاً ، ولكن يجب على من علم أنه فعله سيئ أن يرجع عن فعله ، وأن يتبع السنة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثامناً : من المفاسد أيضاً : أن المبتدع لا يحكم الكتاب والسنة ؛ لأنه يرجع إلى هواه ، يحكم هواه ، وقد قال الله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (النساء:59) (إِلَى اللَّهِ ) أي كتابه عز وجل ، (وَالرَّسُولِ ) أي إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه ، والله الموفق .
169 ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه(240) .
الشرح
أما حديث عائشة هذا فهو نصف العلم ؛ لأن الأعمال إما ظاهرة وإما باطنة ، فالأعمال الباطنة ميزانها حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى )(241) ، وميزان الأعمال الظاهرة حديث عائشة هذا : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي مردود على صاحبه غير مقبول منه .
(19/4)
وقول : ( أمرنا ) المراد به ديننا وشرعنا ، قال الله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) (الشورى:52) ، فأمر الله المراد به في هذا الحديث شرع الله ، من أحدث فيه ما ليس منه فهو رد ، وفي هذا دليل واضح على أن العبادة إذا لم نعلم أنها من دين الله فهي مردودة ، ويستفاد من هذا أنه لابد من العلم ؛ لأن العبادة مشتملة على الشروط والأركان ، أو غلبة الظن إذا كان يكفي عن العلم ، كما في بعض الأشياء ، مثلاً الصلاة إذا شككت في عددها وغلب على ظنك عدد فابن على ما غلب على ظنك ، الطواف بالبيت سبعة أشواط ، وإذا غلب على ظنك عدد فابن على ما غلب على ظنك ، كذلك الطهارة إذا غلب على ظنك أنك أسبغت الوضوء كفى .
فالمهم أنه لابد من العلم أو الظن إذا دلت النصوص على كفايته وإلا فالعبادة مردود ة . وإذا كانت العبادة مردودة فإنه يحرم على الإنسان أن يتعبد لله بها ؛ لأنه إذا تعبد لله بعبادة لا يرضاها ولم يشرعها لعباده صار كالمستهزئ بالله والعياذ بالله .
حتى إن بعض العلماء قال : إن الإنسان إذا صلى محدثاً متعمداً خرج من الإسلام ؛ لأنه مستهزئ ، بخلاف الناسي فإنه لا إثم عليه ويعيد .
وفي اللفظ الثاني : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )(242) وهو أشد من الأول ؛ لأنه قوله : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ) يعني لابد أن نعلم بأن كل عمل عملناه عليه أمر الله ورسوله وإلا فهو مردود ، وهو يشمل العبادات ويشمل المعاملات ، ولهذا لو باع الإنسان بيعاً فاسداً ، أو رهن رهناً فاسداً، أو أوقف وقفاً فاسداً ، فكله غير صحيح ومردود على صاحبه ولا ينفذ ، والله أعلم .
* * *
(19/5)
170 ـ وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : ( صبحكم ومساكم ) ويقول : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين إصبعيه ؛ السبابة والوسطى ، ويقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي ) رواه مسلم(243) .
الشرح
نقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ في باب التحذير من البدع ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا خطب ) يعني يوم الجمعة ، ( احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه ) وإنما كان يفعل هذا لأنه أقوى في التأثير على السامع ، فكان صلى الله عليه وسلم يكون على هذه الحال للمصلحة ، وإلا فإنه من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقاً وألينهم عريكة ، لكن لكل مقام مقال ، فالخطبة ينبغي أن تحرك القلوب ، وتؤثر في النفوس ، وذلك في موضوعها ، وفي كيفية أدائها .
(19/6)
وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين السبابة والوسطى ، يعني بين الإصبعين ، السبابة وهي التي بين الوسطى والإبهام ، والوسطى ، وأنت إذا قرنت بينهما وجدتهما متجاورين ، ووجدت أنه ليس بينهما إلا فرق يسير ، ليس بين الوسطى والسبابة إلا فرق يسير مقدار الظفر أو نصف الظفر ، وتسمى السبابة لأن الإنسان إذا أراد أن يسب أحد أشار إليه بها ، وتسمى السبابه أيضاً لأن الإنسان عند الإشارة إلى تعظيم الله عز وجل يرفعها ، ويشير بها إلى السماء ، والمعنى أن أجل الدنيا قريب وأنه ليس ببعيد ، وهذا كما فعل صلى الله عليه وسلم ذات يوم حيث خطب الناس في آخر النهار ، والشمس على رؤوس النخل ، فقال : ( إنه لم يبق من ديناكم إلا مثل ما بقي من هذا اليوم )(244) .
فإذا كان الأمر كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم الآن مات له ألف وأربعمائة سنة ولم تقم القيامة دل هذا على أن الدنيا طويلة الأمد ، ولكن ما يقدره بعض الجيولوجيين من عمر الدنيا الماضي بملايين الملايين فهذا خرص ، لا يصدق ولا يكذب ، فهو كأخبار بني إسرائيل ؛ لأنه ليس لدينا علم من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في مقدار ما مضى من الدنيا ، ولا في مقدار ما بقى منها على وجه التحديد ، وإنما هو كما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمثال ، والشيء الذي ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة وهو من أخبار ما مضى ، فإنه ليس مقبولاً ، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما شهد الشرع بصدقه ، فهذا يقبل لشهادة الشرع به .
القسم الثاني : ما شهد الشرع بكذبه ، فهذا يرد لشهادة الشرع بكذبه .
(19/7)
القسم الثالث : ما ليس فيه هذا ولا هذا ، فهذا يتوقف فيه ، إما أن يكون حقاً ، وإما أن يكون باطلاً ، ويدل لهذا قوله تعالى:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ )(إبراهيم: 9) فإذا حصر الله جل وعلا العلم في نفسه فإنه لا يتلقى علم هؤلاء إلا من وحيه عز وجل ، لا يعلمهم إلا الله ، فأي أحد يدعي شيئاً فيما مضى مما يتعلق بالبشرية أو بطبيعة الأرض أو الأفلاك أو غيرها فإننا لا نصدقه ولا نكذبه ، بل نقسم ما أخبره به إلى الأقسام الثلاثة السابقة .
أما المستقبل فالمستقبل ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما أخبر الشرع بوقوعه ، فهذا لابد أن يقع مثل أخبار يأجوج ومأجوج ، وأخبار الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أشبه ذلك ، مما ثبت في الكتاب والسنة .
القسم الثاني : ما لم يرد به كتاب ولا سنة ، فهذا القول فيه من التخمين والظن ، بل لا يجوز لأحد أن يصدقه فيما يستقبل ؛ لأنه من علم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل .
ثم يقول : ( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) ، وقد سبق الكلام على هذه الجمل .
ثم يقول : ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ) كما قال ربه عز وجل : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (الأحزاب:6) فهو أولى بك من نفسك ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم عليه الصلاة والسلام ، ثم يقول : (من ترك مالاً فلأهله ) يعني من ترك من الأموات مالاً فلأهله ؛ يرثونه حسب ما جاء في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم . (ومن ترك ديناً أو ضياعاً ) ، يعني أولاداً صغاراً يضيعون ( فإلي وعلي ) ، يعني فأمرهم إلي ، أنا وليهم ، والدين علي أنا أقضيه ، هكذا كان صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه .
(19/8)
أما قبل ذلك فكان يؤتي بالرجل ليصلي عليه فيسأل : ( هل عليه دين ؟ ) إن قالوا : نعم وليس له وفاء ترك الصلاة عليه ، فجيء إليه في يوم من الأيام برجل من الأنصار فتقدم ليصلي عليه ، ثم سأل عليه دين ؟ قالوا : نعم ثلاثة دنانير ، فتأخر وقال : ( صلوا على صاحبكم ) فعرف ذلك في وجوه القوم . ثم قام أبو قتادة رضي الله عنه وقال : ( صل عليه يا رسول الله وعلي دينه ، فالتزمهما أبو قتادة رضي الله عنه ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى (245).
وفي هذا دليل على عظم الدين وأنه لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، لا يستدين لا لزواج ، ولا لبناء بيت ، ولا لكماليات في البيت ، كل هذا من السفه ، يقول الله عز وجل ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور:33) ، هذا في النكاح فما بالك بما هو دونه بكثير .
وكثير من الجهال يستدين ليشتري مثلاً فراشاً للدرج ، أو فراشاً للساحة ، أو باباً ينفتح بالكهرباء أو ما أشبه ذلك ، مع أنه فقير ، ويأخذه بالدين فهو إن اشترى شيئاً بثمن مؤجل فهو دين ؛ لأن الدين عند العلماء كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع أو قرض أو أجرة أو غير ذلك ، فإياكم والديون احذروها فإنها تهلككم ، إلا شيئاً ضرورياً فهذا شيء آخر ، لكن ما دمت في غنى فلا تستدن .
وكثير من الناس يستدين مثلاً أربعين ألفاً ، فإذا حل الأجل قال : ليس عندي شيء ، فيستدين للأربعين ألفاً التي عليه ستين ألفاً ، ثم يستدين السنة التالية ، ثم تتراكم عليه الديون الكثيرة من حيث لا يشعر ، والله الموفق .
* * *
(239) أخرجه مسلم ، كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة و الخطبة ، رقم (867) .
(240) أخرجه البخاري ، كتاب الصلح ، باب إذا اصطلحوا على صلح جور ... رقم (2697) ومسلم ، كتاب الأقضية ، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور ، رقم (1718) .
(241) تقدم تخريجه .
(19/9)
(242) أخرجه مسلم ، كتاب الأقضية ، باب الأحكام الباطلة ، رقم (1718) .
(243) أخرجه مسلم ، كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة ، رقم (867) .
(244) أخرجه الترمذي ، كتاب الفتن ، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة ، رقم (2191) ، وأحمد في المسند (3/19)، وقال الترمذي : حسن صحيح .
(245) تقدم تخريجه .
(19/10)
19 ـ باب فيمن سن سنة حسنة أو سيئة
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74) وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (الأنبياء:73).
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه اله تعالى ـ هذا الباب ( باب فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة ) ليبين أن من الأشياء ما يكون أصله ثابتاً ، فإذا فعله الإنسان وكان أول من يفعله كان كمن سنه وصار له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة .
وقد سبق لنا أن الدين الإسلامي ولله الحمد كامل ، لا يحتاج إلى تكميل ، ولا إلى بدع ؛ لأن الله تعالى قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة:3) .
ثم استشهد المؤلف بآيتين من كتاب الله ، أولاهما : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) (الفرقان:74) ، هذا من جملة ما يدعو به عباد الرحمن ، الذين ذكر الله أوصافهم في آخر سورة الفرقان ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) إلى أن قال ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) (الفرقان :63،74) .
( هَبْ لَنَا ) يعني أعطنا ، و( الأزواج ) جمع زوج ، وهو صالح للذكر والأنثى ، والزوج الذكر يسمى زوجاً ولهذا تجد في الأحاديث : عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه هي اللغة الفصحى أن المرأة تسمى زوجاً ، لكن أهل الفرائض ـ رحمهم الله ـ جعلوا للرجل زوج وللمرأة زوجة ، من أجل التفريق عند قسمة المواريث ، أما في اللغة العربية فالزوج صالح للذكر والأنثى .
(20/1)
فهذا الدعاء ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) كما هو صالح للرجال صالح للنساء أيضاً .
( قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) في المرأة أنك إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وفي ولدك ، وإذا بحثت عنها وجدتها قانتة لله ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) (النساء:34)، فهذه تسر زوجها .
وكذلك أيضاً الذرية إذا جعلهم الله تعالى قرة عين للإنسان ، يطيعونه إذا أمر ، وينتهون عما نهاهم عنه ، ويسرونه في كل مناسبة ، ويصلحون فهذا من قرة الأعين للمتقين .
والجملة الأخيرة : (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) هي الشاهد لهذا الباب ، يعني اجعلنا للمتقين أئمة ، يقتدى بنا المتقون في أفعالنا وأقوالنا ، فيما نفعل وفيما نترك ، فإن المؤمن ولا سيما أهل العلم يقتدى بهم ؛ بأقوالهم وأفعالهم ، ولهذا تجد العامة إذا أمرتهم بشيء أو نهيتهم عن شيء ، قالوا : هذا فلان يفعل كذا وكذا ، ممن جعلوه إماماً لهم .
والأئمة تشمل الأئمة في الدين الذي هو العبادة الخاصة بالإنسان ، والأئمة في الدعوة ، وفي التعليم ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من شعائر الدين وشرائعه ، اجعلنا للمتقين إماماً في كل شيء .
(20/2)
أما الآية الثانية فقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (الأنبياء:73) ، أي صيرناهم أئمة علماء يهدون الناس ، أي يدلونهم على دين الله بأمر الله عز وجل ، ولكن ليت المؤلف ذكر آخر الآية؛ لأن الله بين أنه جعلهم أئمة بسبب ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) (السجدة:24)، لما صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصية الله ، وصبروا على أقدار الله ؛ صبروا على طاعة الله ففعلوا ما أمر ، وصبروا عن معصية الله فتركوا ما نهى عنه ، وصبروا على أقدار الله التي تأتيهم من أجل دعوتهم إلى الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ؛ لأن الإنسان إذا نصب نفسه داعية للحق آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ، فلابد أن يصيبه من الأذى ما يصيبه ، لأن أكثر الذين يكرهون الحق سوف يكونون أعداء له فليصبر ، وكذلك أقدار الله التي تأتي بدون هذا أيضاً يصبرون عليها .
( وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) يوقنون بما أخبرهم الله به ، ويوقنون بالجزاء الذي يحصل لهم في فعل الأوامر ، وترك النواهي ، وفي الدعوة إلى الله ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي أنهم يعملون وهم يوقنون بالجزاء ، وهذه نقطة ينبغي لنا أن ننتبه لها ، أن نعمل ونحن نوقن بالجزاء ، كثير من الناس يعملون ، يصلون ويصومون ويتصدقون بناء على أن هذا أمر الله ، وهذا طيب ولا شك أنه خير ، لكن ينبغي أن تدرك وأن تستحضر بأنك إنما تفعل هذا رجاء الثواب وخوف العقاب ، حتى تكون موقناً بالآخرة .
وقد أخذ شيخ الإسلام ـ رحمه الله من هذه الآية عبارة طيبة ، فقال : ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) أخذها من قوله تعالى : (لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة :24) ، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين . أسأل الله أن يجعلني وإياكم أئمة في دين الله ، هداة لعباد الله مهتدين ، إنه جواد كريم .
(20/3)
* * *
171 ـ عن أبي عمرو ، جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار ، أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر : فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن وأقام ، فصلى ثم خطب : فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إلى آخر الآية : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) ، والآية الأخرى التي في آخر الحشر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر:18) تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة ) فجاء ، رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) . رواه مسلم (246).
(20/4)
قوله ( مجتابى النمار ) هو بالجيم وبعد الألف باء موحده ، والنمار : جمع نمرة ، وهي : كساء من صوف مخطط ، زمعنى ( مجتابيها ) أي :لابسيها قد خرقوها في رؤوسهم ( والجوب ) : القطع ومنه قوله تعالى : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) (الفجر:9) ، أي : نحتوه وقطعوه . وقوله ( تمعر ) هو بالعين المهملة ، أي تغير ، وقوله : ( رأيت كومين ) بفتح الكاف وضمها ؛ أي صبريتين . وقوله : ( كأنه مذهبة ) هو بالذال المعجمة ، وفتح الهاء والباء الموحدة . قاله القاضي عياض وغيره . وصحفه بعضهم فقال : (مدهنة ) بدال مهملة وضم الهاء والنون ، وكذا ضبطه الحميدي ، والصحيح المشهور هو الأول . والمراد به على الوجهين : الصفاء والاستنارة .
الشرح
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها حديث جرير بن عبد اله البجلي رضي الله عنه ، وهو حديث عظيم يتبين منه حرص النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته صلوات الله وسلامه عليه ، فبينما هم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار إذا جاء قوم عامتهم من مضر أو كلهم من مضر مجتابي النمار ، مقلدي السيوف رضي الله عنهم ، يعني أن الإنسان ليس عليه إلا ثوبه قد اجتباه يستر به عورته ، وقد ربطه على رقبته ، ومعهم السيوف استعداداً لما يؤمرون به من الجهاد رضي الله عنهم .
(20/5)
فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم يعني تغير وتلون لما رأى فيهم من الحاجة ، وهم من مضر ، من أشرف قبائل العرب ، وقد بلغت بهم الحاجة إلى هذا الحال ، ثم دخل بيته عليه الصلاة والسلام ، ثم خرج ، ثم أمر بلالاً فأذن ، ثم صلى ، ثم خطب الناس عليه الصلاة والسلام ، فحمد الله صلى الله عليه وسلم كما هي عادته ، ثم قرا قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) (النساء:1)، وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18) .
ثم حث على الصدقة ، فقال : ( تصدق رجل بديناره ، وتصدق بدرهمه ، تصدق بثوبه ، تصدق بصاع بره ، تصدق بصاع تمره ، حتى ذكر ولو شق تمرة ) وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحرص الناس على الخير ، وأسرعهم إليه ، وأشدهم مسابقة ، فخرجوا إلى بيوتهم فجاءوا بالصدقات ، حتى جاء رجل بصرة معه في يده كادت تعجز يده عن حملها ، بل قد عجزت من فضة ثم وضعها بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام .
ثم رأى جرير كومين من الطعام والثياب وغيرها قد جمع في المسجد ، فصار وج النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن تعمر ، صار يتهلل كأنه مذهبة ، يعني من شدة بريقه ولمعانه وسروره عليه الصلاة والسلام لما حصل من هذه المسابقة التي فيها سد حاجة هؤلاء الفقراء ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة قوليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) .
(20/6)
والمراد بالسنة في قوله صلى الله عليه وسلم : (من سن في الإسلام سنة حسنة ) ابتدأ العمل بسنة ، وليس من أحدث ؛ لأن من أحدث في الإسلام ما ليس منه فهو رد وليس بحسن ، لكن المراد بمن سنها أي صار أول من عمل بها ؛ كهذا الرجل الذي جاء بالصرة رضي الله عنه ، فدل هذا على أن الإنسان إذا وفق لسن سنة في الإسلام سواء إليها أو أحياها بعد أن أميتت .
وذلك لأن السنة في الإسلام ثلاثة أقسام :
سنة سيئة : وهي البدعة ، فهي سيئة وإن استحسنها من سنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة )(247) .
وسنة حسنة : وهي على نوعين :
النوع الأول : أن تكون السنة مشروعة ثم يترك العمل بها ثم يجدها من يجددها ، مثل قيام رمضان بإمام ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته في أول الأمر الصلاة بإمام في قيام رمضان ، ثم تخلف خشية أن تفرض على الأمة ، ثم ترك الأمر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي أو خلافة عمر ، ثم رأى عمر رضي الله عنه أن يجمع الناس على إمام واحد ففعل ، فهو رضي الله عنه قد سن في الإسلام سنة حسنة ؛ لأنه أحيا سنة كانت قد تركت .
والنوع الثاني : من السنن الحسنة أن يكون الإنسان أول من يبادر إليها ، مثل حال الرجل الذي بادر بالصدقة حتى تتابع الناس ووافقوه على ما فعل .
فالحاصل أن من سن في الإسلام سنة حسنة ، ولا سنة حسنة إلا ما جاء به الشرع فله أجره وأجر من عمل بها من بعده .
وقد أخذ هذا الحديث أولئك القوم الذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه ، فيبتدعون أذكاراً ويبتدعون صلوات ما أنزل الله بها من سلطان ، ثم يقولون : هذه سنة حسنة ، نقول : لا ، كل بدعة ضلالة وكلها سيئة ، وليس في البدع من حسن ، لكن المراد في الحديث من سابق إليها وأسرع ، كما هو ظاهر السبب في الحديث ، أو من أحياها بعد أن أميتت فهذا له أجرها وأجر من عمل بها .
(20/7)
وفي هذا الحديث الترغيب في فعل السنن التي أميتت وتركت وهجرت ، فإنه يكتب لمن أحياها أجرها وأجر من عمل بها ، وفيه التحذير من السنن السيئة ، وأن من سن سنة سيئة ؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، حتى لو كانت في أول الأمر سهلة ثم توسعت ، فإن عليه وزر هذا التوسع ، مثل لو أن أحداً من الناس رخص لأحد في شيء من المباح الذي يكون ذريعة واضحة إلى المحرم وقريباً ، فإنه إذا توسع الأمر بسبب ما أفتى به الناس فإن عليه الوزر ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، نعم لو كان الشيء مباحاً ولا يخشى منه أن يكون ذريعة إلى محرم ، فلا بأس للإنسان أن يبينه للناس ، كما لو كان الناس يظنون أن هذا الشيء محرم وليس بمحرم ، ثم يبينه للناس من أجل أن يتبين الحق ، ولكن لا يخشى عاقبته ، فهذا لا باس به ، أما شيء تخشى عاقبته ، فإنه يكون عليه وزره ووزر من عمل به . والله أعلم .
* * *
(246) أخرجه مسلم ، كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ... رقم (1017) .
(247) تقدم تخريجه .
(20/8)
20 ـ باب في الدلالة على خير
والدعاء إلى هدى أو ضلالة
قال تعالى : ( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) (الحج:67) ، وقال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ ) (النحل:125) .
الشرح
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى : ( باب في الدلالة على خير والدعاء إلى هدى أو ضلالة ) الدلالة على الخير هي أن يبين الإنسان للناس الخير الذي ينتفعون به في أمور دينهم ودنياهم ، ومن دل على خير فهو كفاعله ، أما الدعوة إليه فهي أخص من الدلالة ؛ لأن الإنسان قد يدل فيبين ولا يدعو ، فإذا دعا كان هذا أكمل وأفضل ، والإنسان مأمور بالدعوة إلى الخير أي : الدعوة إلى عز وجل ، كما قال تعالى : ( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ) وآخر الآية : (إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (الحج:67).
وقال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125) ، وقال تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:104 ،105) .
فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الإنسان ينبغي له أن يكون داعياً إلى الله ولكن لا يمكن أن تتم الدعوة إلا بعلم الإنسان بما يدعو إليه ؛ لأن الجاهل قد يدعو إلى شيء يظنه حقاً وهو باطل ، وقد ينهى عن شيء يظنه باطلاً وهو حق ، فلابد من العلم أولاً فيتعلم الإنسان ما يدعو إليه .
(21/1)
وسواء كان عالماً متبحراً فاهماً في جميع أبواب العلم ، أو كان عالماً في نفس المسألة التي يدعو إليها ، فليس بشرط أن يكون الإنسان عالماً متبحراً في كل شيء ، بل لنفرض أنك تريد أن تدعو الناس إلى أقام الصلاة ، فإذا فقهت أحكام الصلاة وعرفتها جيداً فادع إليها ولو كنت لا تعرف غيرها من أبواب العلم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بلغوا عني ولو آية )(248) .
ولكن لا يجوز أن تدعو بلا علم ابداً ؛ لأن ذلك فيه خطر ؛ خطر عليك أنت ، خطر على غيرك ، أما خطره عليك فلأن الله حرم عليك أن تقول على الله ما لا تعلم ، قال الله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33) ، وقال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) (الإسراء:36) ، أي لا تتبع ما ليس لك به علم ، فإنك مسئول عن ذلك ، ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) .
(21/2)
ولابد أيضاً من أن يكون الإنسان حكيماً في دعوته ، ينزل الأشياء في منازلها ، ويضعها في مواضعها ، فيدعو الإنسان المقبل إلى الله عز وجل بما يناسبه ، ويدعو الإنسان الجاهل بما يناسبه ، كل أناس لهم دعوة خاصة حسب ما يليق بحالهم ، ودليل هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب )(249) ، فأعلمه بحالهم من أجل أن يستعد لهم وأن ينزلهم منزلتهم ؛ لأنهم إذا كانوا أهل كتاب صار عندهم من الجدل بنا عندهم من العلم ما ليس عند غيرهم ، فالمشركين جهال ضلال لكن أهل الكتاب عندهم علم ، يحتاجون إلى استعداد تام ، وأيضاً يجابهون بما يليق بهم ؛ لأنهم يرون أنفسهم أهل كتاب وأهل علم ـ فيحتاج الأمر إلى أن يراعوا في كيفية الدعوة ، ولهذا قال له : ( إنك تأتي قوماً أهل كتاب ) .
ولنضرب لهذا مثلاً واقعياً : لو أن رجلاً جاهلاً تكلم وهو يصلي ، يظن أن الكلام لا يضر ، فهذا لا نوبخه ولا ننهره ولا نشدد عليه ، بل نقول له إذا فرغ من صلاته : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ، لكن لو علمنا أن شخصاً يعلم أم الكلام في الصلاة حرام ويبطلها ، لكنه إنسان مستهتر والعياذ بالله ؛ يتكلم ولا يبالي فهذا نخاطبه بما يليق به ونشدد عليه وننهره ، فكل مقام مقال .
ولهذا قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ) والحكمة أن تضع الأشياء في مواضعها ، وتنزل الناس في منازلهم ، فلا تخاطب الناس بخطاب واحد ، ولا تدعوهم بكيفية واحدة ، بل أجعل لكل إنسان ما يليق به .
فلابد أن يكون الإنسان على علم بحال من يدعوه ؛ لأن المدعو له حالات : إما أن يكون جاهلاً ، أو معانداً مستكبراً ، أو يكون قابلاً للحق ولكنه قد خفي عليه مجتهداً متأولاً ، فلكل إنسان ما يليق به .
(21/3)
ثم ذكر المؤلف قوله تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وسبيل الله هي دينه وشريعته التي شرعها الله لعباده ، وأضافها إلى نفسه لسببين :
السبب الأول : أنه هو الذي وضعها عز وجل للعباد ، ودلهم عليها .
السبب الثاني: أنها موصلة إليه ، فلا شيء يوصل إلى الله إلا سبيل الله التي شرعها لعباده على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم .
وقوله : ( بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ ) الحكمة قال العلماء : إنها من الأحكام وهو الإتقان ، إتقان الشيء أن يضعه الإنسان في موضعه فهي وضع الأشياء في مواضعها ، وأما الموعظة فهي التذكير المقرون بالترغيب أو الترهيب ، فإذا كان الإنسان معه شيء من الأعراض فإنه يوعظ وينصح ، فإن لم يفد فيه ذلك فيقول تعالى : ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) فإذا كان الإنسان عنده شيء من المجادلة فيجادل ، والمجادلة بالتي هي أحسن أي من حيث المشافهة ، فلا تشدد عليه ولا تخفف عنه ، انظر ما هو أحسن ، بالتي هي أحسن أيضاً من حيث الأسلوب ، والإقناع ، وذكر الأدلة التي يمكن أن يقتنع بها ؛ لأن من الناس من يقتنع بالأدلة الشرعية أكثر مما يقتنع بالأدلة العقلية ، وهذا هو الذي عنده إيمان قوي .
(21/4)
ومن الناس من يكون بالعكس لا يقتنع بالأدلة الشرعية إلا إذا ثبت ذلك عنده بالأدلة العقلية، فتجده يعتمد على الأدلة العقلية أكثر مما يعتمد على الأدلة الشرعية، بل ولا يقتنع بالأدلة الشرعية إي حيث تؤيدها عنده الأدلة العقلية، وهذا النوع من الناس يخشى عليه من الزيغ والعياذ بالله ؛ إذا كان لا يقبل الحق إلا بما عقله بعقله الفاسد فهذا خطر عليه، ولهذا كان أقوى الناس إيماناً أعظمهم إذعاناً للشرع أي: للكتاب والسنة، فإذا رأيت من نفسك الإذعان للكتاب والسنة والقبول والاقتياد ؛ فهذا يبشر بخير، وإذ رأيت من نفسك القلق من الأحكام الشرعية إلا حيث تكون مؤيدة عنك بالأدلة العقلية؛ فاعلم أن في قلبك مرضاً؛ لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) يعني: لا يمكن أن يختاروا شيئاً سوى ما قضاه الله ورسوله، ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (الأحزاب:36) .
وقوله: ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )جاء في آية العنكبوت (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ )(العنكبوت: 46) ، فهؤلاء لا تلينوا معهم إذا كانوا ظالمين، فقاتلوهم بالسيف حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وعلى هذا فتكون المراتب أربعة: الحكمة، الموعظة، المجادلة بالتي هي أحسن، المجادلة بالسيوف لمن كان ظالماً ، والله الموفق.
* * *
وقال تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ )(آل عمران:104).
الشرح
(21/5)
ذكر المؤلف – رحمه الله – في باب الدلالة على الخير، قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)، وهذا أمر من الله – عزّ وجلّ – بأن يكون منا هذه الأمة ، والامة بمعنى الطائفة ، وترد الأمة في القرآن الكريم على أربعة معان: أمة بمعنى الطائفة، وأمة بمعنى الملة، أمة بمعنى السنين، وأمة بمعنى القدوة، فمن الطائفة هذه الآية (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) أي طائفة ( يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ .....)(آل عمران: 104) إلى آخره.
والأمة بمعنى الملة مثل قوله تعالى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) (المؤمنون:52) أي دينكم دين واحد.
والأمة بمعنى السنين مثل قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) (يوسف:45) أي بعد زمن.
والأمة بمعنى القدوة والإمام مثل قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً ) (النحل:120)
فقوله هنا (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) اللام في قوله للأمر (وَلْتَكُنْ) ، " ومن" في قوله: (مِنْكُمْ) فيها قولان لأهل العلم: منهم من قال إنها للتبعيض، ومنهم من قال إنها لبيان الجنس، فعلى القول الأول يكون الأمر هنا أمراً كفائياً، أي أنه إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين؛ لأنه قال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) يعني بعض منكم يدعون إلى الخير، وعلى القول الثاني يكون الأمر امراً عينيناً، وهو أنه يجب على كل واحد أن يكرس جهوده لهذا الأمر.. يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
(21/6)
الدعوة إلى الخير تشمل كل شيء فيه مصلحة للناس في معاشهم و معادهم؛ لأن الخير كما يكون في عمل الآخرة يكون في عمل الدنيا ، كما قال الله تعالى: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) (البقرة:201)
وما ينفع الناس من الأمور الدنيوية فهو خير، ولهذا سمى الله – سبحانه وتعالى- المال خيراً، فقال (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:8)
وقوله : : (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران:104)، المعروف ما عرفه الشرع وأقره، المنكر ما أنكره ونهى عنه، فإذا يكون الأمر بالمعروف هو الأمر بطاعة الله،والنهي عن المنكر هو النهي عن معصية الله، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
لكن لابد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الآمر أنه الناهي عالماً بأن هذا معروف يأمر به، وهذا منكر ينهى عنه، وهذا، لم يكن عالماً فإنه لا يجوز أن يأمر أو ينهى، لقوله تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36)، والتحريم والتحليل لا يكون بحسب العاطفة؛ لأنه لو كان بحسب العاطفة والهوى لوجدنا من الناس من يكره كل شيء يستغربه، حتى لو حصل شيء ينفع الناس وهو مستغرب له قال هذا منكر، ومن الناس من هو بالعكس يتهاون ويرى أن كل شيء معروف، فالمعروف والمنكر أمرهما إلى الشارع.
(21/7)
كذلك أول ما ظهرت مكبرات الصوت أنكرها بعض الناس، وقال: إن هذا منكر، كيف نؤدي الصلاة أو الخطبة بهذه الأبواق التي تشبه بوق اليهود؟ ومن العلماء المحققين كشيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله قال: إن هذه من نعمة الله؛ أن الله يسَّر لعباده ما يوصل أصوات الحق إلى الخلق، وأن مثل هذه كمثل نظارات العين، فالعين إذا ضعف النظر تحتاج إلى تقوية بلبس النظارات ، فهل نقول لا تلبس النظارات؛ لأنها تقوي النظر وتكبر الصغير؟ لا ، لا نقول هكذا.
فالحاصل أ المعروف والمنكر أمرهما إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لا إلى ذوق الإنسان ، أو هوى الإنسان ، أو فكر الإنسان.
إذاً لا بد أ يكون الإنسان عالماً بأن هذا معروف وأن هذا منكر ، هذا معروف يأمر به، وهذا منكر ينهى عنه، ولكن ما الطريق إلى معرفة ذلك؟ الطريق إلى معرفة ذلك الكتاب والسنة فقط ، و إجماع الأمة، أو القياس الصحيح ، وإجماع الأمة والقياس الصحيح كلاهما مستند إلى الكتاب والسنة، ولولا الكتاب والسنة ما عرفنا أن الإجماع حُجة، وأن القياس حُجة.
الشرط الثاني: أن يعلم بوقوع المنكر من الشخص المدعو، أو بتركه للمعروف، فإن كان لا يعلم فإنه يرجم الناس بالغيب، مثلا ذلك : لو أن رجلاً دخل المسجد وجلس، فإن الذي تقتضيه الحكمة أن يسأله: لماذا جلس ولم يصل؟ ولا ينهاه أو يزجره، بدليل أن النبي صلة الله عليه وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة فدخل رجل فجلس ، فقال له :" أصليت" قال: لا، قال:" قم فصل ركعتين"[248] ، فلم يزجره حين ترك الصلاة؛ لأنه يحتمل أن يكون صلى والنبي عليه الصلاة والسلام لم يره.
(21/8)
كذلك أيضاً إذا رأيت شخصاً يأكل في نهار رمضان أو يشرب في نهار رمضان فلا تزجره، بل اسأله ربما يكون له عذر في ترك الصيام. قل له لماذا لم تصم؟ فقد يكون مسافراً، وقد يكون مريضاً مرضاً يحتاج معه إلى شرب الماء بكثرة؛ مثل أوجاع الكلى تحتاج إلى شرب ماء كثير، ولو كان الإنسان صحيحاً فيما يظهر للناس، فالمهم أنه لابد أن تعرف أنه ترك المعروف حتى تأمره به ، ولا بد أيضاً أن تعرف انه وقع في المنكر حتى تنهاه عنه؛ لأنه قد لا يكون واقعاً في المنكر وأنت تظنه واقعاً.
مثال ذلك: إذا رأيت رجلاً في سيارة ومعه امرأة فهناك احتمال أن المرأة أجنبية منه، وهناك احتمال أن تكون المرأة من محارمه، أو أنها زوجته. إذاً لا تنكر عليه حتى تعلم أنه فعل منكراً، وذلك بقرائن الأحوال، لو فرضن امثلاً أن الإنسان رأى ريبة من هذا الشخص لكونه أهلاً لسوء الظن، ورأى حركات، والإنسان العاقل البصير يعرف، فهذا ربما نقول: يتوجه ويسأله: من هذه المرأة التي معك؟ أو لماذا تحمل امرأة في سيارتك ليست من محارمك؟ ولكن ليس لك لمجرد أن ترى رجلاً يمشي مع امرأة أو حاملاً امرأة في سيارته تنكر عليه وأنت لا تدري هل هذا منكر أم لا.
وعلى كل حال خلو المرأة بالسيارة وهو غير محرم منكر ، لكن لا تدري لعل هذه المرأة من محارمه.
فالمهم أنه لابد من العلم بأن هذا معروف وأن هذا منكر ، ولابد من العلم أن هذا ترك المعروف أو فعل المنكر.
الشرط الثالث: أن لا يتحول المنكر إذا نهى عنه إلى ما هو أنكر منه وأعظم . مثال ذلك: لو رأين ا شخصاً يشرب الدخان، وشرب الدخان حرام لا شك ومنكر يجب إنكاره، لكننا لو أنكرنا عليه لتحول إلى شرب الخمر، يعني أنه ذهب إلى الخمارين وشرب الخمر فهنا لا ننهاه عن منكره الأول؛ لأن منكره الأول أهون، وارتكاب أهون المفسدتين واجب إذا كان لابد من ارتكاب العليا.
(21/9)
ودليلُ هذا الشرط قول الله عز وجلّ: فسبُ آلهة المشركين من الأمور المطلوبة شرعاً، ويجب علينا أن نسب آلهة المشركين، وأن نسب أعياد الكفار، وأن نحذر منها، وأن لا نرضى بها، وأن نبصر إخواننا الجهال السفهاء بأنه لا يجوز مشاركة الكفار في أعيادهم؛ لأن الرضا بالكفر يخشى أن يوقع صاحبه في الكفر والعياذ بالله، هل ترضى أن شعائر الكفر تقام وتشارك فيها؟ لا يرضى بهذا أحد من المسلمين ، لهذا قال ابن القيم – رحمه الله- وهو من تلاميذ شيخ الإسلام البارزين: إن الذي يشارك هؤلاء في أعيادهم ويهنئهم فيها، إن لم يكن أتى الكفر فإنه قد فعل محرماً بلا شك، وصدق رحمه الله، ولهذا يجب علينا أن نحذر إخواننا المسلمين من مشاركة الكفار في أعيادهم، لأن مشاركتهم في أعيادهم أو تهنئتهم فيها، مثل قول : عيد مبارك، أو هنأك الله بالعيد وما أشبه ذلك، لا شك أنه رضاً بشعائر الكفر والعياذ بالله.
أقول: إن شب آلهة المشركين وشعائر المشركين وغيرهم من الكفار الكتابيين أمر مطلوب شرعاً، ولكن إذا كان يؤذى إلى شيء أعظم منه نكراً فإنه يُنهى عنهن يقول الله عزّ وجلّ(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) يعني الأصنام لا تسبوها ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ )(الأنعام:108) يعني عدواناً منهم بغير علم، أما أنتم إذا سببتم آلهة المشركين فإنه بعدل وعلم، لكن سبهم لإلهكم عدوان بلا علم ، فأنتم لا تسبوهم فيسبوا الله.
إذاً نأخذ من هذه الآيات الكريمة أنه إذا كان نهي الإنسان عن منكر ما يوقع الناس فيما هو أنكر منه، فإن الواجب الصمت، حتى يأتي اليوم الذي يتمكن فيه من النهي عن المنكر ليتحول المنكر إلى معروف.
(21/10)
ويُذكر أن شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله- مرّ في الشام ومعه صاحب له على قوم من التتار- والتتار أمة معروفة تسلطت على المسلمين في سنة من السنوات، وحصل بهم فتنة كبيرة عظيمة – وهم يشربون الخمر فسكت وما نهاهم ، فقال له صاحبه: لماذا لم تنه عن هذا المنكر؟ قال له: إن نهيناهم عن هذا الشيء ذهبوا يفسدون نساء المسلمين بالزنا ، ويستبيحون أموالهم، وربما يقتلونهم ، وشرب الخمر أهون ، وهذا من فقه رحمه الله ورضي عنه، فإذا كان الإنسان يخشى أن يزول المنكر ويتحول إلى ما هو أنكر منه؛ فإن الواجب الصمت.
ومن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وليس من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان أول فاعل للمعروف وأول منتهٍ عن المنكر- بمعنى أنه لا يأمر بالمعروف ثم لا يفعله، أو لا ينه عن المنكر ثم يقع فيه؛ لأن هذا داخل في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2-3) ، وفي الحديث الصحيح :" إنه يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه"، يعني أمعاءه، وتندلق : ينعى تتفجر:" فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون له: ما لك يا فلان ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر. فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه[249]"
فمن آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان أول ممتثل للأمر ، وأول منتهٍ عن النهي.
(21/11)
وذكر أن ابن الجوزي- رحمه الله- الواعظ المشهور وهو من أصحاب الإمام أحمد – رحمه الله – يعني ممن يقلدون الإمام أحمد، وكان واعظاً مشهوراً بالوعظ يوضع له كرسي يوم الجمعة ويلقي المواعظ، ويحضره مئات الآلاف ، وكان من شدة تأثيره على القلوب أن بعض الحاضرين يصعق ويموت، من شدة تأثيره على القلوب، فجاءه ذات يوم عبد رقيق، فقال له: يا سيدي، إن سيدي يتعبني، ويشق علي ويأمرني بأشياء ما أطيقها، فلعلك تعظ الناس وتحثهم على العتق فيُعتقني ، فقال: نعم أفعل فبقي جمعة أو جمعتين أو ما شاء الله ولم يتكلم عن العتق بشيء ، فجاء إليه العبد ، وقال له: يا سيدي أنا قلت لك تكلم عن العتق منذ زمن، ولم تتكلم إلى الآن، قال : نعم، لأني لست أملك عبداً فأعتقه، ولا أحب أن أحث على العتق وأنا لم أعتق- سبحان الله- فلما منّ الله عليّ بعبد وأعتقته صار لي مجال أن أتكلم في العتق ، ثم تكلم يوماً من الأيام عن العتق فأثر ذلك نفوس الناس فأعتق الرجل عبده.
فالحاصل أن هذا من آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الداعين إلى الخير الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، إنه جواد كريم.
* * *
174- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من دعا إلى هُدى كان لهُ من الأجر مثل أجوز من تبعهُ لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعهُ لا ينقصُ ذلك من آثامهم شيئاً" رواه مسلم[250].
الشرح
(21/12)
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا إلى هدى؛كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" من دعا إلى هدى: يعني بيّنه للناس ودعاهم إليه، مثل أن يبين للناس أن ركعتي الضحى سنة، وأنه ينبغي للإنسان أن يصلي ركعتين في الضحى، ثم تبعه الناس وصاروا يصلون الضحى، فإن له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً؛ لأن فضل الله واسع.
أو قال للناس مثلاً: اجعلوا أخر صلاتكم بالليل وتراً، ولا تناموا إلا على وتر إلا من طمع أن يقوم من آخر الليل فليجعل وتره في آخر الليل، فتبعه ناس على ذلك فإن له مثل أجرهم يعني كلما أوتر واحد هداه الله على يده؛ فله مثل أجره، وكذلك بقية الأعمال الصالحة.
" من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"، أي إذا دعا إلى وزر وإلى ما فيه الإثم ، مثل أن يدعو الناس إلى لهو أو باطل أو غناء أو ربا أو غير ذلك من المحارم، فإن كل إنسان تأثر بدعوته فإنه يُكتب له مثل أوزارهم؛ لأنه دعا إلى الوزر، والعياذ بالله.
وأعلم أن الدعوة إلى الهدي والدعوة إلى الوزر تكون بالقول؛ كما لو قال أفعل كذا أفعل كذا، وتكون بالفعل خصوصاً من الذي يُقتدي به من الناس، فإنه إذا كان يُقتدي به ثم فعل شيئاً فكأنه دعا الناس إلى فعله، ولهذا يحتجون بفعله ويقولون فعل فلان كذا وهو جائز، أو ترك كذا وهو جائز.
فالمهم أن من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل وزر من تبعه.
وفي هذا دليلٌ على أن المتسبب كالمباشر، فهذا الذي دعا إلى الهدى تسبب فكان له مثل أجر من فعله، والذي دعا إلى السوء أو إلى الوزر تسبب فكان عليه مثل وزر من اتبعه.
(21/13)
وقد أخذ العلماء الفقهاء- رحمهم الله- من ذلك قاعدة : بأن السبب كالمباشرة، لكن إذا اجتمع سببٌ ومباشرة أحالوا الضمان على المباشرة؛ لأنه أمس بالإتلاف، والله أعلم.
175- وعن أبي العباس سهل بن سعدٍ الساعدي- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:" لاُعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله في يديه، يحبُ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسولهُ" فبات الناسُ يدوكُون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلهم يرجو أن يعطاها، فقال :"أين على بن أبي طالب؟" فقيل : يا رسول الله هو يشتكي عينيه قال:" فأرسلوا إليه" فأتى به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا لهُ، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع فأعطاهُ الرايةُ، فقال على- رضي الله عنه-: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:" انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يحبُ عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمرِ النعم" متفق عليه [251].
الشرح
قوله صلى الله عليه وسلم :" لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسولهُ" هذا يتضمن بشرى عامة، وبشرى خاصة، أما العامة فهي قوله:" يفتح اله على يديه" وأما الخاصة فهي قوله: " يجب الله ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه".
(21/14)
وخيبر مزارع وحصون لليهود، كانت نحو مائة ميل في الشمال الغربي من المدينة، وسكنها اليهود كما سكن طائفة منهم المدينة نفسها؛ لأن اليهود يقرؤون في التوراة أنه سيُبعث نبي، وسيكون مهاجره إلى المدينة، وتسمى في العهد القديم يثرب، لكنه نهى عن تسميتها يثرب، وأنه سيهاجر إلى المدينة وسيقاتل وينتصر على أعدائه ، فعلموا أن هذا حق، وذهبوا إلى المدينة وسكنوها، وسكنوا خيبر ، وكانوا يظنون أن هذا النبي سيكون من بني إسرائيل ، فلما بُعث من بني إسماعيل من العرب حسدوهم، وكفروا به، والعياذ بالله، بعد أن كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه)(البقرة: 89) وقالوا ليس هذا هو النبي الذي بُشرنا به.
وحصل منهم ما حصل من العهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم الخيانة، وكانوا في المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكلهم عاهد النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام، ولكنهم نقضوا العهد كلهم.
فهزمهم الله- والحمد لله- على يد النبي صلى الله عليه وسلم وكان آخرهم بني قريظة الذين حكم فيهم سعد بن معاذ- رضي الله عنه- بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى نساؤهم وذريتهم، وتغنم أموالهم، وكانوا سبعمائة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسل بقتلهم فحصدوهم عن آخرهم فهكذا اليهود أهل غدر وخيانة ونقض للعهود، منذ بُعث فيهم موسى عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، هم أغدر الناس بالعهد، وأخونهم بالأمانة، ولذلك لا يوثق منهم أبداً ؛ لا صرفاً ولا عدلاً، ومن وثق بهم ، أو وثق منهم. فإنه في الحقيقة لم يعرف سيرتهم منذ عهد قديم.
قوله صلي الله عليه وسلم :" لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه اللهُ ورسولُه" هاتان منقبتان عظيمتان.
(21/15)
الأولى : أن يفتح الله على يديه ؛ لأن من فتح الله على يديه نال خيراً كثيراً، فإنه إذا هدى الله به رجلاً واحداً، كان خيراً له من حمر النعم: يعني من الإبل الحمر وإنما خص الإبل الحمر؛ لأنها أغلى الأموال عند العرب.
الثانية: يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وفي ذلك فضل لعلى بن أبي طالب – رضي الله عنه- لأن الناس في تلك الليلة جعلوا يدوكون يعني يخوضون ويتكلمون من هذا الرجل؟
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أين علي بن أبي طالب؟" فقيل : هو يشتكي عينيه، يعني أن عينيه تؤلمه ويشتكيها، فدعا به فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع، وهذه من آيات الله عزّ وجلّ فليس هناك قطرة ولا كي وإنما هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه يجوز للناس أن يتحدثوا في الأمر ليتفرسوا فيمن يصيبه ؛ لأن الصحابة صاروا في تلك الليلة يدوكون ليلتهم: من يحصل هذا؟ وكل واحد يقول : لعله أنا.
وفيه أيضاً دليلٌ على أن الإنسان قد يهبه الله تعالى من الفضائل ما لم يخطر له على بال ، فعلي ليس حاضراً وربما لا يكون عنده علم بأصل المسألة ومع ذلك جعل الله له هذه المنقبة ففي هذا دليلٌ على أن الإنسان قد يحرم الشيء مع ترقبه له، وقد يُعطى الشيء مع عدم خطورته على باله.
" فأعطاه الراية" الراية يعني العلم الذي يكون علماً على القوم في حال الجهاد ، لأن الناس في الجهاد يقسمون هؤلاء إلى جانب وهؤلاء إلى جانب ، وهذه القبيلة وهذه القبيلة، أو هذا الجنس من الناس كالمهاجرين مثلاً والأنصار، كل له راية أي : علم يدل عليه.
(21/16)
فقال علي رضي الله عنه " يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا" يعني أقاتلهم حتى يكونوا مسلمين أم ماذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم" ومل يقل له قاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وذلك لأن الكفار لا يقاتلون على الإسلام ويرغمون عليه ، وإنما يقاتلون ليذلوا لأحكام الإسلام فيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو يدخلوا في الإسلام.
وقد اختلف العلماء – رحمهم الله – هل هذا خاص بأهل الكتاب أي مقاتلتهم حتى يعطوا الجزية- أو أنه عام لجميع الكفار؟ فأكثر العلماء يقولون : إن الذي يقاتل حتى يعطي الجزية أو يسلم هم أهل الكتاب اليهود والنصارى، وأما غيرهم فيقاتلون حتى يسلموا ولا يقبل منهم إلا الإسلام، واستدلوا بقوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).
والصحيح أنه عام، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسمل أخذ الجزية من مجوس هجر ، وهم ليسوا أهل كتاب كما أخرجه البخاري [252]، ودليلٌ آخر [253]: حديث بريدة بن الحصيب الذي أخرجه مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه ومن معه من المسلمين خيراً وذر في الحديث ا،ه يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فالجزية فإن أبوا يقاتلهم والصحيح أن هذا عام. ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين سأله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، نعم قاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وإنما أرشده أن يفعل ما أمره به، وأن يمشي على رسله، حتى ينزل بساحتهم.
(21/17)
قوله:" على رسلك" أي لا تمسي عجلاً فتتعب أنت، ويتعب الجيش ، ويتعب من معك، ولكن على رسلك حتى تنزل بساحتهم أي يجانبهم ، قوله صلى الله عليه وسلم :" ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه" فأمره صلى الله عليه وسلم بأمرين:
الأمر الأول: الدعوة إلى الإسلام: بان يقل لهم : أسلموا إذا كانوا يعرفون معنى الإسلام ويكفي ذلك، وإن كانوا لا يعرفونه، فإنه يبين لهم أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، أن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
الأمر الثاني: قال:" وأخبرهم بما يحب عليهم من حق الله تعالى فيه" وهو السمع والطاعة لأوامر الله ورسوله، لأجل أن يكون الداخل في الإسلام داخلاً على بصيرة، لأن بعض الناس يدخل في الإسلام على أنه دين ولكن لا يدري ما هو ثم إذ بينت له الشرائع ارتد والعياذ بالله، فصار كفره والثاني أعظم من كفره الأول؛ لأن الردة لا يُقر عليها صاحبها، بل يقال له: إما أن ترجع لما خرجت منه، وإما أن نقتلك.
ولهذا ينبغي لنا في هذا العصر لما كثر الكفار بيننا من نصارى وبوذيين ومشركين وغيرهم ، إذا دعوناهم إلى الإسلام أن نبين لهم الإسلام أولاً، ونشرحه شرحاً يتبين فيه الأمر، حتى يدخلوا على بصيرة، لا تكتفي بقولنا: اسلموا فقط لأنهم لا يعرفون ما يجب عليهم من حق الله تعالى في الإسلام فإذا دخلوا على بصيرة صار لنا العذر فيما بعد إذا ارتدوا أن نطلب منهم الرجوع إلى الإسلام أو نقتلهم، أما إن بين لهم إجمالاً هكذا، فإنها دعوة قاصرة، والدليل على هذا حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – الذي نشرحه.
(21/18)
وفي الحديث ، في قوله صلى الله عليه وسلم :" فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" يهديه: أي يوفقه بسببك إلى الإسلام فإنه خير لك من حمر النعم يعني من الإبل الحمر، وذلك لأن الإبل الحمر عند الغرب كانت من أنفس الأموال، إن لم تكن أنفس الأموال، ففعل رضي الله عنه ونزل بساحتهم ، ودعاهم إلى الإسلام ولكنهم لم يسلموا.
ثم في النهاية كانت الغلبة – ولله الحمد – وللمسلمين، ففتح الله على يدي علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- والقصة مشهورة في كتب المغازي والسير ، ولكن الشهاد من هذا الحديث: أنه أمرهم أن يدعوهم إلى الإسلام، وأن يخبرهم بما يحب عليهم من حق الله تعالى فيه.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
ظهور آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه لما بصق في عيني على بن أبي طالب رضي الله عنه برىء حتى كأن لم يكن به وجع.
وفيه أيضاً آية أخرى: وهي قوله" يفتح الله علي يديه" وهي خبر غيبي، ومع ذلك فتح الله علي يديه.
وفيه أيضاً من الفوائد: أنه ينبغي نصب الرايات في الجهاد، وهي الأعلام ، وأن يُجعل لكل قوم راية معينة يعرفون بها كما سبقت الإشارة إليه.
وفيه أيضاً من الفوائد: تحري الإنسان للخير والسبق إليه لأن الصحابة جعلوا في تل الليلة يدوكون ليلتهم، يدوكون ليلتهم، يدوكون ليلتهم يعني يدوكون في ليلتهم، في منصوبة على الظرفية، يعني انهم يبحثون من يكون.
وفيه أيضاً: أن الإنسان قد يعطى الشيء من غير أن يخطر له على بال، وأنه يحرم من كان متوقعاً أن يناله هذا الشيء، لأن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه – كان مريضاً في عينيه، ولا أظن أنه يخطر بباله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعطيه الراية، ومع ذلك أدركها وفضل الله تعالى يؤتيه من يشاء والله الموفق.
* * *
(21/19)
176- وعن أنس – رضي الله عنه- أن فتى من اسلم قال : يا رسول الله إني أريد الغزو وليس معي ما اتجهز به؟ قال :" أئت فلاناً فإنه قد كان تجهز فمرض" فقال: يا فلانةُ أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسى منه شيئاً، فواالله لا تحبسين منه شيئاً فيبارك لك فيه " رواه مسلم[254].
الشرح
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف فيه الدلالة على الخير، فإن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسم ليطلب منه أن يتجهز إلى الغزو، فأرشده النبي صلى الله عليه وسمل ودله على رجل كان قد تجهز براحلته وما يلزمه لسفره ولكنه مرض، فلم يتمكن من الخروج إلى الجهاد، فجاء الرجل إلى صاحبه الذي كان قد تجهز فأخبره بما قال النبي صلى الله عليه وسمل ، فقال لامرأته: أخرجي ما تجهزت به ولا تحبسي منه شيئاً ، فو الله لا تحبسين منه شيئاً فيُبارك لنا فيه.
ففي هذا دليلٌ على أن الإنسان إذا دلّ أحداً على الخير فإنه يثاب على ذلك، وقد سبق أن " من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله" [255].
وفيه دليلٌ أيضاً على أن من أراد عملاً صالحاً فحبسه عنه مرض، فإنه ينبغي أن يدفع ما بذله لهذا العمل الصالح إلى من يقوم به حتى يكتب له الأجر كاملاً؛ لأن الإنسان إذا مرض وقد أراد العمل وتجهز له، ولكن حال بينه وبين العمل مرضه، فإنه يكتب له الأجر كاملاً ولله الحمد، قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ )(النساء: 100).
(21/20)
وفيه دليلٌ أيضاً من كلام الصاحبة – رضي الله عنهم – أن الإنسان إذا بذل الشيء في الخير فإن الأفضل أن ينفذه، فمثلاً لو أردت أن تتصدق بمال، وعزلت المال الذي تريد أن تتصدق به أو تبذله في مسجد، أو في جمعية خيرية أو ما أشبه ذلك، فلك الخيار أن ترجع عما فعلت؛ لأنه ما دام الشيء لم يبلغ محله فهو بيدك، ولكن الأفضل أن تنفذه وألا ترجع فيما أردت من أجل أن تكون من السباقين إلى الخير ، والله الموفق.
* * *
248) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل ، رقم (3461) .
(249) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة رقم (1458) ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام ، رقم (19) .
249 تقدم تخريجه ص (163)
250 أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة ، رقم (3267، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله،,,, رقم (2989).
251 أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة... ، رقم (2674)
252 أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب...، رقم (3701) ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل على بن أبي طالب...، رقم (2406).
253 أخرجه البخاري، كتاب الجزية والموادعة باب الجزية مع أهل الذمة رقم (3156، 3157).
254 أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته رقم (1731).
255 أخرجه مسلم ، كتاب الجهاد باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، رقم (1894)
256 أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله ، رقم (1893).
(21/21)
21- باب التعاون على البر والتقوى
قال الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى )(المائدة:2)، وقال تعالى: (وَالْعَصْرِ) (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:1-3)
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – كلاماً معناه :إن الناس – أو أكثرهم – في غفلة عن تدبر هذه السورة.
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى- : "باب التعاون على البر والتقوى" التعاون معناه : التساعد، وأن يعين الناس بعضهم بعضاً على البر والتقوى فالبر : فعل الخير ، والتقوى : اتقاء الشر وذلك أن الناس يعملون على وجهين : على ما فيه الخير، وعلى ما فيه الشر، فأما ما فيه الخير فالتعاون عليه أن تساعد صاحبك على هذا الفعل وتيسر له الأمر؛ سواء كان هذا مما يتعلق بك أو مما يتعلق بغيرك، وأما الشر فالتعاون فيه بأن تحذر منه، وأن تمنع منه ما استطعت، وأن تشير على من أراد أن يفعله بتركه وهكذا، فالبر فعل الخير ، والتعاون عليه والتساعد على فعله، وتيسيره للناس، والتقوى اتقاء الشر والتعاون عليه بأن تحول بين الناس وبين فعل الشر وأن تحذرهم منه؛ حتى تكون الأمة أمة واحدة.
والأمر في قوله ( وتَعَاوَنُوا) أمر أيجاب فيما يجب ، واستحباب فيما يستحب ، وكذلك في التقوى أمر إيجاب فيما يحرم ، وأمر استحباب فيما يكره.
(22/1)
وأما الدليل الثاني في التعاون على البر والتقوى، فهو ما ذكره المؤلف – رحمه الله- من سياق سورة العصر، حيث قال الله تعالى: فأقسم الله (وَالْعَصْرِ) (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر فأقسم الله – تعالى- بالعصر الذي هو الزمن ، والناس فيه منهم من يملؤه خيراً ومنهم من يملؤه شراً، فاقسم بالعصر لمناسبة المقسم به للمقسم عليه ، وهو من أعمال العباد فقال (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) الإنسان عام؛ يشمل كل إنسان، من مؤمن وكافر ، وعدل وفاسق، وذكر وأنثى ، كل الإنسان في خسر، خاسر كل عمله، خسران عليه، تعبٌ في الدنيا وعدم فائدة في الآخرة، إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) فأصلحوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ، وأصلحوا غيرهم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
فالإيمان : هو الإيمان بكل ما يجب الإيمان به، مما أخبر به الله ورسوله ، وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:" الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته، وكتبه ، ورسلهن واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره"[257] ستة أركان.
وأما عمل الصالحات، فهو كل ما يقرب إلى الله ، ولا يكون العمل صالحاً إلا بشرطين، هما: الإخلاص لله عزّ وجلّ والمتابعة لرسول صلى الله عليه وسلم .
الإخلاص لله: بمعنى ألا تقصد بعملك مراءاة عباد الله، لا تقصد إلا وجه الله والدار الآخرة.
(22/2)
وأما المتابعة: فهي المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا تأت ببدعة؛ لأن البدعة وإن أخلص الإنسان فيها مردودة " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"[258]،، والعبادة التي فيها الاتباع ولكن فيها رياء مردودة ايضاً، لقوله تعالى:" أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه"[259]وهو حديث قدسي.
وأما قوله : (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) يعني أن بعضهم يوصي بعضهم بالحق ، وهو ما جاءت به الرسل (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) لأن النفس تحتاج إلى صبر لفعل الطاعات وترك المحرمات، وأقدار الله المؤلمة.
قال الإمام الشافعي- رحمه الله-: لو لم ينزل الله على عباده سورة غير هذه السورة لكفتهم؛ لأنها جامعة مانعة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المؤمنين العاملين الصالحين، المتواصين بالحق، المتواصين بالصبر . إنه سميع قريب.
?…* *
177- عن أبي عبد الرحمن زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في أهله بخيرٍ فقد غزا " متفق عليه[260].
الشرح
ذكر المؤلف – رحمه الله – في باب التعاون على البر والتقوى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:" من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" وهذا من التعاون على البر والتقوى ، فإذا جهز الإنسان غازياً ، يعني براحلته ومتاعه وسلاحه، ثلاثة أشياء: الراحلة، والمتاع، والسلاح، إذا جهزه بذلك فقد غزا، أي كتب له أجر الغازي ، لأنه أعانه على الخير.
وكذلك من خلفه في أهله بخير فقد غزا، يعني لو أن الغازي أراد أن يغزو ولكنه أشكل عليه أهله من يكون عند حاجاتهم، فانتدب رجلاً من المسلمين وقال : أخلفني في أهلي بخير، فإن هذا الذي خلفه يكون له أجر الغازي ؛ لأنه أعانه.
إذن فإعانة الغازي تكون على وجهين:
الأول: أن يعينه في رحله ، ومتاعه، وسلاحه.
(22/3)
والثاني: أن يعينه في كونه خلفاً عنه في أهله؛ لأن هذا من أكبر العون، فإن كثيراً من الناس يشكل عليه من يكون عند أهله يقوم بحاجتهم ، فإذا قام هذا الرجل بحاجة أهله وخلفه فيهم بخير فقد غزا.
ومن ذلك ما جرى لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه- حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله في غزوة تبوك، فقال : يا رسول الله ، اتدعني مع النساء والصبيان ، فاق لله:" أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"[261] يعني أن أخلفك في أهلي، كما خلف موسى هارون في قومه، حينما ذهب إلى ميقات ربه.
ويؤخذ من مثال الغازي أن كل من أعان شخصاً في طاعة الله فله مثل أجره ، فإذا أعنت طالب علم في شراء الكتب له، أو تأمين السكن، أو النفقة، أو ما أشبه ذلك، فإن لكل أجراً مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيئاً ، وهكذا – أيضاً لو أعنت مصلياً على تسهيل مهمته في صلاته في مكانه وثيابه ، أو في وضوئه، أو في أي شيء فإنه يكتب لك في ذلك أجر.
فالقاعدة العامة: أن من أعان شخصاً في طاعة من طاعة الله كان له مثل أجره ، من غير أن ينقص من أجره شيئاً، والله الموفق.
* * *
179- وعن ابن عباس – رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال( من القوم) " قالوا : المسلمون ، فقالوا : من أنت؟ قال :" رسول الله" فرفعت إليه امرأةٌ صبياً فقالت : ألهذا حجٌ ! قال:" نعم ولك أجرٌ" رواه مسلم[262].
الشرح
(22/4)
قال المؤلف – رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ملقي ركباً بالروحاء والروحاء مكان بين مكة والمدينة، وكان هذا في حجة الوداع، فقال لهم:" من القوم؟" قالوا: المسلمون، فقالوا: فمن أنت؟ قال:" أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: لهذا حج؟ قال " نعم ولك أجر" ففي هذا الحديث من الفوائد ما ساقه المؤلف من أجله، وهو أن من أعان شخصاً على طاعة فله أجر؛ لأن هذه المرأة سوف تقوم برعاية ولدها إذا أحرم، وفي الطواف، وفي السعي ، وفي الوقوف، وكل شيء ، قال : له حج ولك أجر.
وهذا كالذي سبق فيمن جهز غازياً أو خلفه في أهله فإنه يكون له أجر الغازي.
وفي هذا الحديث من الفوائد أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عما يجهله إذا دعت الحاجة إلى ذلك ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل: "من القوم؟" يخشى أن يكونوا من العدو فيخونوا أو ويغدروا، أما إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك فلا حاجة أن تسأل عن الشخص، فتقول : من أنت؟ لأن هذا قد يكون داخلاً فيما لا يعنيك، و " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (1)لكن إذا دعت الحاجة فاسأل حتى تكون على بينة من الأمر وعلى بصيرة.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن وصف الإنسان نفسه بالصفات الحميدة إذا لم يقصد الفخر وإنما يقصد التعريف لا بأس به؛ لأن هؤلاء الصحابة لما سئلوا: من أنتم؟ قالوا: مسلمون ، والإسلام لا شك أنه وصف مدح ، لكن إذا أخبر الإنسان به عن نفسه، فقال : أنا مسلم ، أنا مؤمن، وما أشبه ذلك لمجرد الخبر لا من أجل الافتخار فإن ذلك لا بأس به، وكذلك لو قاله على سبيل التحدث بنعمة الله فلو قال: الحمد لله الذي جعلني من المسلمين، وما أشبه ذلك فإنه لا بأس به، بل يكون محموداً إذا لم يحصل فيه محظور.
(22/5)
ومن فوائد هذا الحديث : أن الإنسان إذا وصف نفسه بصفة هي فيه بدون فخر ، فإنه لا يعدُ هذا من باب مدح النفس وتزكية النفس الذي نهى عنه في قوله: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(لنجم:32).
وفيه دليلٌ أيضاً على أن الإنسان ينبغي له أن يغتنم وجود العالم؛ لأن هؤلاء القوم لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله ، جعلوا يسألونه ، فينبغي للإنسان أن يغتنم فرصة وجود العالم من أجل أن يسأله عما يشكل عليه.
ومن فوائده أيضاً: أن الصبي إذا حج به وليه فله أجر، والحج يكون للصبي لا للولي، وقد اشتهر عند عامة الناس أن الصبي يكون حجة لوالديه، وهذا لا أصل له ، بل حج الصبي له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما قالت المرأة ؟ ألهذا حج؟ قال:" نعم ولك أجر" ، فالحج له ، وليعلم أن الصبي بل كل من دون البلوغ يكتب له الأجر ولا يكتب عليه الوزر.
واستدل بعض العلماء بقوله: " نعم له حج" أنه إذا أحرم الصبي لزمه جميع لوازم الحج؛ فيلزمه الطواف ، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمرات، فليعل ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه يُفعل عنه، إلا الطواف والسعى فإنه يطاف ويُسعي به.
(22/6)
وقال بعض أهل العلم: لا بأس أن يتحلل الصبي ولو بدون سبب؛ لأنه قد رفع عنه القلم ، وليس بمكلف ، ولا يُقال: إن نفل الحج كفرضه، لا يجوز الخروج منه، وهذا الصبي متنفل فلا يجوز له أن يخرج، لأن أصل الصبي من غير المكلفين، فلا نلزمه بشيء وهو غير مكلف ، وهذا مذهب أبي حنيفة – رحمه الله- أن الصبي لا يلزم بإتمام الحج، ولا بواجبات الحج، ولا باجتناب محظوراته، وأن ما جاء منه قُبل ، وما تخلف لا يسأل عنه، وهذا يقع كثيراً من الناس الآن، حيث يحرمون بصبيانهم، ثم يتعب الصبي ويأبى أن يكمل ويخلع إحرامه، فعلى مذهب جمهور العلماء لا بد أن نلزمه بالإتمام ، وعلى مذهب أبي حنيفة وهو الذي مال إليه صاحب الفروع رحمه الله، من أصحاب الإمام أحمد- رحمه الله- ومن تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله- أنه لا يلزم لأنه ليس أهلاً للتكليف.
وفي هذا الحديث أيضاً ما يدل على أن الصبي وإن كان غير مميز فإنه يصح منه الحج، ولكن كيف تصح نيته وهو غير مميز، قال العلماء : ينوي عنه وليه بقلبه أنه أدخله في الإحرام، ويفعل وليه كل ما يعجز عنه.
وفي هذه المناسبة نودٌّ أن نبين هل يجب على من دخل في الحج أن ينوي الطواف بنية مستقلة، والسعي بنية مستقلة، والرمي كذلك، أو لا يشترك؟
هذا المسألة فيها خلاف بين العلماء ، من العلماء من قال: إذا أحرم الإنسان بالحج وطاف وسعى على النية الأولى، يعني لم يجدد نيته عند الطواف ولا عند السعي، فإن حجه صحيح ، قال تعليلاً لقوله: إن الطواف والسعي والوقوف والرمي والمبيت كلها أجزاء من عبادة فتكفي النية الأولى، كما أن الإنسان إذا صلى ونوى عند الدخول في الصلاة أنه دخل في الصلاة، فإنه لا يلزمه أن ينوي الركوع ولا السجود ولا القيام ولا القعود؛ لأنها أجزاء من العبادة، فكذلك الحج.
(22/7)
وهذا القول ينبغي أن يؤتى به عند الضرورة، يعني لو جاءك مُستفتٍ يقول: أنا دخلت المسجد الحرام وطفت، وفي تلك الساعة لم تكن عندي نية، فهنا ينبغي أن يفتي بأنه لا شيء عليه، وأن طوافه صحيح، أما عند السعة فينبغي أن يقال : إنك إذا نويت أحسن، وهو على كل حال لابد أن ينوي الطواف، ولكن أحياناً يغيب عن ذهنه أنه طواف الركن، أو طواف التطوع، وما أشبه ذلك، والله أعلم.
* * *
180- وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الخازن المسلم الأمينُ الذي ينفذ ما أمره به فيعطيه كاملاً موفرا، طيبة به نفسهُ فيدفعه إلى الذي أمر له به أحدُ المتصدقين" متفق عليه[263].
وفي رواية :" الذي يُعطي ما أمر به" وضبطوا " المتصدقين" بفتح القاف مع كسر النون على التثنية، وعكسه على الجمع، وكلاهما صحيحٌ.
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فما نقله عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الخازنُ المسلمُ الأمينُ الذي ينفذُ ما أمر به ، فيعطيه كاملاً موفراً، طيبةً به نفسه فيدفعُه إلى الذي أُمر به أحدُ المتصدقين" متفق عليه.
الخازن مبتدأ ، وأحد المتصدقين خبر، يعني أن الخازن الذي جمع هذه الأوصاف الأربعة: المسلم ، الأمين ، الذي ينفذ ما أمر به ، طيبة بها نفسه.
(22/8)
فهو مسلم احترازاً من الكافر، فالخازن إذا كان كافراً وإن كان أميناً وينفذ ما أُمر به ليس له أجر؛ لأن الكفار لا أجر لهم في الآخرة فيما عملوا من الخير، قال الله تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) ، وقال تعالى : ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة: 217) ، أما إذا عمل خيراً ثم أسلم فإنه يسلم على ما أسلف من خير ويعطى أجره.
الوصف الثاني: الأمين يعني الذي أدى ما ائتمن عليه، فحفظ المال ، ولم يفسده، ولم يفرط فيه، ولم يعتد فيه.
الوصف الثالث: الذي ينفذ ما أمر به يعني يفعله؛ لأن من الناس من يكون أميناً لكنه متكاسل ، فهذا أمين ومنفذ يفعل ما أمر به، فيجمع بين القوة والأمانة.
الوصف الرابع: أن تكون طيبة به نفسه، إذا نفذ وأعطى ما أمر به أعطاه وهو طيبة به نفسه، يعني لا يمن على المعطى، أو يظهر أن له فضلاً عليه بل يعطيه طيبة به نفسه، فهذا يكون أحد المتصدقين مع أنه لم يدفع من ماله فلساً واحداً.
مثال ذلك: رجل عنده مال، وكان – أمين صندوق للمال- مسلماً أميناً، ينفذ ما أمره به، ويعطيه صاحبه طيبة به نفسه، فإذا قال له صاحب الصندوق: يا فلان أعطِ هذا الفقير عشرة آلاف ريال،فأعطاه على الوصف الذي قال النبي صلي الله عليه وسلم فإنه يكون كالذي تصدق بعشرى آلاف ريال من غير أن ينقص من أجر المتصدق شيئاً ، ولكنه فضل من الله عزّ وجلّ.
ففي هذا الحديث دليلٌ على فضل الأمانة ، وعلى فضل التنفيذ فيما وُكل فيه وعدم التفريط فيه، ودليلٌ على أن التعاون على البر والتقوى يكتب لمن أعان مثل ما يكتب لمن فعل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، والله الموفق.
(22/9)
257 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، رقم(8)من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
258 سبق تخريجه ص (333)
259 أخرجه مسلم ، كتاب الزهد ، باب من أشرك في عمله غير الله ، رقم (2985).
260 أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير ، باب فضل من جهز غازياً...، رقم (2843) ومسلم كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله ، رقم (1895).
261 أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، باب مناقب علي..، رقم (3706)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل على بن أبي طالب، رم (2404).
262 أخرجه مسلم ، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي ، وأجر من حج به، رقم (1336).
(1) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بما الناس، رقم (3317)، وابن ماجه، كتاب الفتن، كف اللسان في الفتنة (3967).
263 أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة، باب أجر الخادم إذا تصدق بأمر صحابه..، رقم (1438)، ومسلم كتاب الزكاة، باب أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت، رقم (1023).
(22/10)
22- باب النصيحة
قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةَ) (الحجرات:10) ، وقال تعالى إخباراً عن نوح صلى الله عليه وسلم : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ )(لأعراف:62)، وعن هود صلى الله عليه وسلم : (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)(لأعراف:68).
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى-: " باب النصيحة" النصيحة : هي بذل النصح للغير، والنصح معناه أن الشخص يحب لأخيه الخير ، ويدعوه إليه، ويبينه له، ويرغبه فيه، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصحية ، فقال " الدين النصيحة " ثلاث مرات، قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال :" لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" [264]وضد النصيحة المكر والغش والخيانة والخديعة.
ثم صدر المؤلف هذا الباب بثلاث آيات.
الآية الأولى: قوله تعالى : ِ(إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةَ) (الحجرات:10)، مثل أي: إذا تحقق فيهم الأخوة واتصفوا بها، فإنه لابد أن تكون هذه الأخوة مثمرة للنصيحة.
والواجب على المؤمنين أن يكونوا كما قال الله عزّ وجلّ : : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةَ) وهم إخوة في الدين، والأخوة في الدين أقوى من الأخوة في النسب، بل إن الأخوة في النسب مع عدم الدين ليست بشيء، ولهذا قال الله – عزّ وجلّ – لنوح لما قال : ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ) قال تعالى : ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(هود:45،46).
أما المؤمنون فإنهم وإن تباعدت أقطارهم وتباينت لغاتهم، فإنهم إخوة مهما كان ، والأخ لابد أن يكون ناصحاً لأخيه ، مبدياً له الخير ، مبيناً ذلك له، داعياً له.
أما الآية الثانية: فهي قول نوح ، وهو أول الرسل، يقول لقومه حين دعاهم إلى الله تعالى( وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(لأعراف: 62)، يعني لست بغاش لكم ، ولا خادع ، ولا غادر ، ولكني ناصح.
(23/1)
أما الآية الثالثة: فقول الله تعالى عن هود: ( وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)(لأعراف:68) .
وعلى كل حال يجب على المرء أن يكون لإخوانه ناصحاً مبدياً لهم الخير ، داعياً لهم إليه ، حتى يحقق بذلك الأخوة الإيمانية، والله الموفق.
وأما الأحاديث : 181- فالأول عن أبي رقية تميم بن أوسٍ الدارس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحةُ" قلنا: لمن؟ قال:" لله، ولكتابه ، ولرسوله، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم" رواه مسلم[265].
الشرح
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى – في باب النصيحة ثلاثة أحاديث : الحديث الأول عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الدين النصيحة ، الدين النصيحة، الدين النصيحة" كررها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم لأجل أن ينتبه المخاطب والسامع حتى تتلقى ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم بانتباه . قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال :" لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" خمسة أشياء هي محل النصيحة.
والنصيحة لله- عزّ وجلّ- تكون بالإخلاص لله تعالى، والتعبد له محبة وتعظيماً ؛ لأن الله عزّ وجلّ يتعبد له العبد محبة ، فيقوم بأوامره طلباً للوصول إلى محبته عزّ وجل، وتعظيماً فينتهي عن محارمه خوفاً منه سبحانه وتعالى.
ومن النصيحة لله: أن يكون الإنسان دائماً ذاكراً لربه بقلبه ولسانه وجوارحه، أما القلب فإنه لا حدود لذكره، والإنسان يستطيع أن يذكر الله بقلبه على كل حال، وفي كل ما يشاء، وفي كل ما يسمع؛ لأن في كل شيء لله تعالى آية تدل على وحدانيته وعظمته وسلطانه، فيفكر في خلق السماوات والأرض، ويفكر في الليل والنهار، ويفكر في آيات الله من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك ، فيحدث هذا ذكراً لله عزّ وجلّ في قلبه.
(23/2)
ومن النصيحة لله أن تكون غيرته لله فيغار لله عزّ وجلّ إذا انتهكت محارمه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا ينتقم لنفسه أبداً ، مهما قال الناس فيه، لا ينتقم لنفسه، ولكنه إذا انتهكت محارم الله صار أشد الناس انتقاماً ممن ينتهك حرمات الله تعالى[266]، فيغار الإنسان على ربه؛ فلا يسمع أحداً يسب الله أو يشتم الله أو يتسهزىء بالله إلا غار من ذلك وأنكر عليه حتى ولو رفع أمره لولي الأمر ؛ لأن هذا من النصيحة لله عزّ وجلّ.؟
ومن النصيحة لله : أن يدب عن دين الله تعالى الذي شرعه لعباده، فيبطل كيد الكائدين، ويرد على الملحدين الذين يعرضون الدين وكأنه قيود تقيد الناس عن حرياتهم، والحقيقة أن الدين قيود حرية؛ لأن الإنسان يتقيد لله عزّ وجلّ، وبالله ، وفي دين الله، ومن لم يتقيد بهذا تقيد للشيطان؛ وفي خطوات الشيطان ، لأن النفس همامه دائماً، فلا تسكن نفس أحد أبداً، بل لابد أن تكون لهما همم في أي شيء: إما في خير ، وإما شر.
وما أحسن قول ابن القيم رحمه الله في النونية، حيث قال:
هربوا من الرق الذي خلقوا له
……………وبلوا برق النفس والشيطان
هربوا من الرق الذي خلقوا له وهو عبادة الله ، قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)
، ولكنهم هربوا من هذا الرق الذي هو كمال الحرية وكمال السعادة إلى رق النفس والشيطان والنفس- نعوذ بالله من شرها- تسترق الإنسان وتملي عليه الهوى فيكون خاضعاً لهواها، وإذا غلب الهوى ؛ زال العقل ، وكما قال الشاعر:
سُكرانِ : سُكر هوى وسُكر مدامة
………………فمتى إفاقة من به سكران
يصف شخصاً يشرب الخمر والعياذ بالله ، فيقول : إنه فيه سكران، سكر الهوى وسكر المدامة، فمتى إفاقة من به سكران؟ وواضح أن هذا لا ترجى له إفاقة.
فالحاصل أن الإنسان يتعبد لله عزّ وجلّ لا للنفس ولا للشيطان، حتى يتحرر من القيود التي تضره ولا تنفعه.
(23/3)
ومن النصيحة لله عزّ وجلّ : أن يكون باثاً دين الله في عباد الله؛ لأن هذا مقام الرسل كلهم، فهم دُعاة إلى الله يدعون الناس إلى الله عزّ وجلّ، كما قال الله تعالى عنهم : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةَُ) (النحل:36) ، وقوله تعالى: (فَمِنْهُمْ) أي من الأمة التي بعث فيها الرسول. نسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم :"ولكتابه" يعني أيضاً من الدين النصيحة لكتاب الله عزّ وجلّ ، وهذا يشما كتاب الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أُنزل من قبل، والنصيحة لهذه الكتب بتصديق أخبارها، أي أن ما أخبرت به يجب أن نصدقه.
أما بالنسبة للقرآن فظاهر؛ لأن القرآن- ولله الحمد- نُقل بالتواتر من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى أن يرفعه الله عزّ وجلّ في آخر الزمان، يقرؤه الصغير والكبير، وأما الكتب السابقة فإنها قد حرفت وغيرت وبدّلت ، لكن ما صحّ منها فإنه يجب تصديق خبره واعتقاد صحة حكمه، لكننا لسنا متعبدين بأحكام الكتب السابقة إلا بدليل من شرعنا.
(23/4)
ومن النصيحة لكتاب الله: أن يدافع الإنسان عنه، يدافع من حرفه تحريفاً لفظيّاً ، أو تحريفاً معنويّاً ، أو من زعم أن فيه نقصاً، أو أن فيه زيادة، فالرافضة مثلاً يدّعون أن القرآن فيه نقص، وأن القرآن الذي نزل على محمد أكثر من هذا الموجود بين أيدي المسلمين. فخالفوا بذلك إجماع المسلمين، والقرآن – ولله الحمد- لم ينقص منه شيء، ومن زعم أنه قد نقص منه شيء؛ فقد كذّب قوله تعالى:" (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) ، فالله عزّ وجلّ تكفل بحفظه، ومن ادعى أنه قد نقص حرفاً واحداً اختزل منه؛ فقد كذّب الله عزّ وجلّ، فعليه أن يتوب ويرجع إلى الله من هذه الردة.
ومن النصيحة لكتاب الله: أن ينشر الإنسان معناه بين المسلمين؛ المعني الصحيح الموافق لظاهره، بحيث لا يكون فيه تحريف ولا تغيير، فإذا جلس مجلساً فإن من الخير والنصيحة لكتاب الله أن يأتي بأية من كتاب الله عزّ وجلّ يبينها للناس، ويوضح معناها، ولا سيما الآيات التي تكثر قراءتها بين المسلمين؛ مثل الفاتحة، فإن الفاتحة ركن من أركان الصلاة في كل ركعة؛ للإمام والمأموم والمنفرد، فيحتاج الناس إلى معرفتها ، فإذا فسرها بين يدي الناس وبيّنها لهم؛ فإن هذا من النصيحة لكتاب الله عزّ وجلّ.
(23/5)
ومن النصيحة لكتاب الله: أن تؤمن بأن الله تعالى تكلم بهذا القرآن حقيقة، وأنه كلامه عزّ وجلّ؛ الحرف والمعنى، ليس الكلام الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، بل إنه كلام الله لفظاً ومعنىً تكلم به وتلقاه منه جبريل عليه السلام، ثم نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:192، 195)، وتأمل كيف قال: (عَلَى قَلْبِكَ ) مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمعه بأذنيه، ولكن الأذن إن لم يصل مسموعها إلى القلب؛ فإنه لا يستقر في النفس، فلا يستقر في النفس إلا ما وصل إلى القلب عن طريق الأذن، أو عن طريق الرؤيا بالعين، أو المس باليد ، أو الشم بالأنف، أو الذوق بالفم، فالمهم القرار وهو القلب، ولهذا قال (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وعلى هذا فليس من النصيحة أن يقول القائل: إن هذا القرآن عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، أو أن يقول : إنه خلق من مخلوقات الله ، أو ما أشبه ذلك، بل من النصيحة أن تؤمن بأنه كلام الله حقا: اللفظ والمعنى.
ومن النصيحة لكتاب الله عزّ وجل أن يقوم الإنسان باحترام هذا القرآن العظيم، فمن ذلك أن لا يمس القرآن إلا وهو طاهر من الحدثين: الأصغر والأكبر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يمسّ القرآن إلا طاهر"[267] أو من وراء حائل؛ لأن من مس من وراء حائل فإنه لم يمسه في الواقع، وينبغي لا على سبيل الوجوب أن لا يقرأ القرآن ولو عن ظهر قلب إلا متطهراً ؛ لأن هذا من احترام القرآن.
(23/6)
ومن النصيحة لكتاب الله عزّ وجلّ : أن لا تضعه في موضع يمتهن فيه، ويكون وضعه فيه امتهاناً له، كمحل القاذورات وما أشبه ذلك، ولهذا يجب الحذر مما يصنعه بعض الصبيان إذا انتهوا من الدروس في مدارسهم ، ألقوا مقرراتهم والتي من بينها الأجزاء من المصحف في الطرقات أو في الزبالة أو ما أشبه ذلك ، والعياذ بالله.
وأما وضع المصحف على الأرض الطاهرة الطيبة، فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه ؛ لأن هذا ليس فيه امتهان للقرآن، ولا إهانة له، وهو يقع كثيراً من الناس إذا كان يصلي ويقرأ من المصحف وأراد السجود يضعه بين يديه، فهذا لا يعد امتهاناً ولا إهانة للمصحف فلا بأس به ، والله اعلم.
وأما الثالثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ولرسوله" والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتضمن أشياء:
الأول: الإيمان التام برسالته، وأن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلق: عربهم وعجمهم، بل إنسهم وجِنّهم ، قال الله تعالى ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً)(النساء: 79)، وقال تعالى : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1)، والآيات في هذا كثيرة، فتؤمن بأن محمداً رسول الله إلى جميع الخلق من جن وإنس.
ومن النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : تصديق خبره، وأنه صادق مصدوق صادق فيما يخبر به، مصدوق فيما أخبر به من الوحي، فما كذب ولا كذَّب صلى الله عليه وسلم .
(23/7)
ومن النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الاتباع له، بحيث لا تتجاوز شريعته ولا تنقص عنها، فتجعله إمامك في جميع العبادات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو إمام هذه الأمة وهو متبوعها، ولا يحل لأحد أن يتبع سواه، إلا من كان واسطة بينه وبين الرسول، بحيث يكون عنده من علم السنة ما ليس عندك، فحينئذ لا حرج أن تتبع هذا الرجل بشرط أن تكون معتقداً بأنه واسطة بينك وبين الشريعة، لا أنه مستقل؛ لا أحد يستقل بالتشريع إلا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله ، أما من سواه فهو مبلّغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " بلغوا عني ولو آية" [268].
ومن النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : الذب عن شريعته وحمايتها، فالذب عنها بأن لا ينتقصها أحد، والذب عنها بأن لا يزيد فيها أحد ما ليس منها ، فتحارب أهل البدع القولية والفعلية والعقدية؛ لأن البدع كلها باب واحد كلها حقل واحد، كلها ضلالة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" كل بدعة ضلالة"[269] لا يستثنى من هذا بدعة قولية ولا فعليه ولا عقدية، كل ما خالف هدي النبي صلى الله علي وسلم وما جاء به في العقيدة أو في القول أو في العمل فهو بدعة، فمن النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحارب أهل البدع بمثل ما يحاربون به السنة؛ إن حاربوا بالقول فبالقول، وإن حاربوا بالفعل فبالفعل، جزاء وفاقأً ؛ لأن هذا من النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(23/8)
ومن النصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم احترام أصحابه وتعظيمهم ومحبتهم ؛ لأن صحب الإنسان لا شك أنهم خاصته من الناس وأخص الناس به ، ولهذا كان الصحابة- رضي الله عنهم- خير القرون؛ لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن سبّ الصحابة أو أبغضهم، أو لمزهم، أو أشار إلى شي يبهتهم فيه، فإنه لم ينصح للرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن زعم أنه ناصح للرسول فهو كاذب، كيف تسب أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتبغضهم وأنت تحب الرسول صلى الله عليه وسلم وتنصح له؟ وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"[270] فإذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يسبهم الساب المفترى الكذاب فإنه في الحقيقة قد سبّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم ينصح له، بل هو في الحقيقة قدح في الشريعة؛ لأن حملة الشريعة إلينا هم الصحابة رضي الله عنهم، فإذا كانوا أهلاً للسبّ والقدح لم يوثق بالشريعة؛ لأن نقلتها أهل ذم وقدح، بل إن سبّ الصحابة رضي الله عنهم- سبّ لله عزّ وجلّ- نسأل الله العافية- وقدح في حكمته أن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ولحمل دينه من هم أهلٌ للذم والقدح، إذاً من النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم محبة أصحابه واحترامهم وتعظيمهم ، فهذا من الدين.
الرابع : قال " ولأئمة المسلمين" الأئمة جمع إمام ، والمراد بالإمام من يقتدي به ويؤتمر بأمره، وينقسم إلى قسمين : إمامة في الدين ، وإمامة في السلطة.
(23/9)
فالإمامة في الدين: هي بيدي العلماء ، فالعلماء هم أئمة الدين الذين يقودون الناس لكتاب الله ، ويهدونهم إليه، ويدلونهم على شريعة الله ، قال الله تبارك وتعالى في دعاء عباد الرحمن ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74)، هم ما سألوا الله إمامة السلطة والإمارة، بل سألوا الله إمامة الدين؛ لأن عباد الرحمن لا يريدون السلطة على الناس ولا يطلبون الإمارة، بل قد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه – " لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها" (1)لكنهم يسألون إمامة الدين، التي قالهم الله عنها: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) فقال: (ائِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا).
(23/10)
والنصح لآئمة المسلمين في الدين والعلم ، وهو أن يحرص الإنسان على تلقي ما عندهم من العلم، فإنهم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أمته، فيحرص على تلقى العلم منهم بكل وسيلة، وقد كثرت الوسائل في وقتنا ولله الحمد من كتابة وتسجيل وتلقّ وغير ذلك، فليحرص على تلقي العلم من العلماء ، وليكن تلقيه على وجه التأني لا على وجه التسرع؛ لأن الإنسان إذا تسرع في تلقي العلم فربما يتلقاه على غير ما ألقاه إليه شيخه وقد أدب الله النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب ، فقال تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة:16-19) ، لأن النبي صلى الله وعليه وسلم كان يبادر جبريل عليه السلام إذا ألقى عليه القرآن فيقرأ، فقال الله تعالى(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) يعني لا تحرك اللسان- ولا سراً – حتى ينتهي جبريل من القراءة ، ثم بعد ذلك اقرأه.
(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة:18-19) ، تكفل الربّ عزّ وجلّ ببيانه يعني أنك لن تنساه ، مع أن المتوقع أن الإنسان إذا سكت حتى ينتهي الملقي من إلقائه ربما ينسى بعض الجمل ، لكن قال الله عزّ وجلّ:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) .
ومن النصح أيضاً لعلماء المسلمين : أن لا يتتبع الإنسان عوراتهم وزلاتهم وما يخطئون فيه؛ لأنهم غير معصومين، قد يزلون وقد يخطئون، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولا سيما من يتلقى العلم فإنه لا يجب أن يكون أبلغ الناس في تحمل الأخطاء التي يخطئ بها شيخه، وينهه عليها، فكم من إنسان انتفع من تلاميذه؛ ينبهونه على بعض الشيء؛ على الخطأ العلمي، أو على الخطأ العملي، وعلى أخطاء كثيرة؛ لأن الإنسان بشر.
(23/11)
لكن الشيء المهم أن لا يكون حريصاً على تلقي الزلات ، فإنه جاء في الحديث :" يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه فضحه الله ولو في بيت أمه" [271]، هذا وهم مسلمون عمامة فيكف بالعلماء.
إن الذين يلتقطون زلات العلماء ليشيعوها ليسوا مسيئين للعلماء شخصياً وحسب، بل مسيئون للعلماء شخصياً، ومسيئون إلي علمهم الذي يحملونه، ومسيئون إلي شريعة التي تتلقى من جهتهم ؛ لأن العلماء إذا لم يثق الناس فيهم، وإذ اطلعوا على عوراتهم التي قد لا تكون عورات إلا على حسب نظر هذا المغرض، فإنه تقل ثقتهم بالعلماء وبما عندهم من العلم، فيكون في هذا جناية على الشرع الذي يحملونه من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
لذلك من نصيحتك لأئمة المسلمين من أهل العلم أن تدافع عن عوراتهم، وأن تسترها ما استطعت، وأن لا تسكت إذا سمعت شيئاً بل نبّه العالم ، وابحث معه واسأله، ربما ينقل عنه أشياء غير صحيحة، وقد نُقل عنا وعن غيرنا أشياء غير صحيحة، لكن الناس- نسأل الله العافية- إذا كان لهم هوى وأحبوا شيئاً وعرفوا أحداً من أهل العلم يقبل الناسُ قوله، نسبوه لهذا العالم، ثم إذا سألت نفس الذي نسب إليه القول، قال أبداً ما قلت كذا، وقد يخطئ السائل مثلاً في صيغة السؤال، فيجب العالم على قدر السؤال ويفهمه السائل على حسب ما في نفسه هو ، فيحصل الخطأ وقد يجيب العالم بالصواب بعد فهم السؤال لكن يفهمه السائل على غير وجهه فيخطئ في النقل.
(23/12)
وعلى كل حال من النصيحة لأئمة المسلمين في العلم والدين أن لا يتتبع الإنسان عوراتهم، بل يلتمس العذر لهم، اتصل وقل سمعت عنك كذا وكذا هل هذا صحيح فإذا قال : نعم ، قل : أظن أن هذا خطأٌ غلط حتى يبين لك وربما يشرح شيئاً لا تعرفه وتظن أنه أخطأ فيه، وربما قد خفي عليه شيء فتنبهه أنت، وتكون مشكوراً على هذا، وقد قال أول إمام في الدين والسلطة في هذه الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله عنه، حيث خطب أول خطبة ، قال للناس وهو يخاطبهم يتحدث عن نفسه: إن اعوججت فأقيموني. وذلك لأن الإنسان بشر.
فقوّم أخاك ولا سيما أهل العلم، لأن العالم خطره عظيم، الخطر الزللي، والخطر الرفيع، لأن كلمة الخطر تكون للعلو والنزول ، فهو خطره عظيم، إن أصاب هدى الله على يده خلقاً كثيراً، وإن أخطأ ضلّ على يد خلق كثير فزلة العالم من أعظم الزلات.
ولهذا أقول: يجب أن نحمي أعراض علمائنا، وأن ندافع عنهم ، وأن نلتمس العذر لأخطائه من ولا يمنع هذا أن نتصل بهم، وأن نسألهم ، وأن نبحث معهم، وأن نناقشهم حتى نكون مخلصين ناصحين لأئمة المسلمين.
النوع الثاني من أئمة المسلمين: أئمة السلطة وهم الأمراء، والأمراء في الغالب أكثر خطأ من العلماء ؛ لأنه لسطته قد تأخذه العزة بالإثم فيريد أن يفرض سلطته على الصواب والخطأ، فالغالب من أئمة المسلمين في السلطة وهم الأمراء أن الخطأ فيهم أكثر من العلماء إلا ما شاء الله.
والنصيحة لهم هي أن نكف عن مساوئهم، وأن لا ننشرها بين الناس، وأن نبذل لهم النصيحة ما استطعنا، بالمباشرة إذا كنا نستطيع أن نباشرهم أو بالكتابة إذا كنا لا نستطيع، أو بالاتصال بمن يتصل بهم إذا كانا لا نستطيع الكتابة؛ لأنه أحياناً لا يستطيع الإنسان الكتابة لهم، ولو كتب لم تصل إلى المسؤول ، فيتصل بأحدٍ يتصل بالمسؤول وينبهه، فهذا من النصح.
(23/13)
أما نشر مساوئهم فليس فيه عدوان شخصي عليهم فقط، بل هو عدوان شخصي عليهم وعلى الأمة جميعاً؛ لأن الأمة إذا امتلأت صدورها من الحقد على وُلاة أمورها عصت الولاة، ونابذتهم، وحينئذ تحصل الفوضى، ويسود الخوف، ويزول الأمن، فإذا بقيت هيبة ولاة الأمور في الصدور صار لهم هيبة، وحميت أوامرهم ونظمهم التي لا تخالف الشريعة.
فالمهم أن أئمة المسلمين تشمل النوعين، أئمة الدين وهم العلماء، وأئمة السلطان وهم الأمراء، وإن شئت فقل أئمة البيان، وأئمة السلطان، وأئمة البيان وهم العلماء الذين يبيّنون للناس ، وأئمة السطان وهم الأمراء الذين ينفذون شريعة الله بقوة السلطان، إذاً أئمة المسلمين سواء أئمة العلم والبيان، أو أئمة القوة والسلطان يجب علينا أن نناصحهم، وأن نحرص على بذل النصيحة لهم، في الدفاع عنهم وستر معايبهم، وعلى أن نكون معهم إذا أخطئوا في بيان ذلك الخطأ لهم بيننا وبينهم؛ لأنه ربما نعتقد أن هذا العالم مخطئ أو أن هذا الأمير مخطئ وإذا ناقشناه تبين لنا أنه غير مخطئ، كما يقع هذا كثيراً.
كذلك أيضاً ربما تنقل لنا هذه الأشياء عن العالم أو عن الأمير على غير وجهها، وإما لسوء القصد من الناقل؛ لأن بعض الناس- والعياذ بالله – يحب تشهير السوء بالعلماء وبالأمراء ، فيكون سيىء القصد ينقل عليهم ما لم يقولوه، وينسب إليهم ما لم يفعلوه، فإذا سمعنا عن عالم أو عن أمير ما نرى أنه خطأً فلابد من تمام النصيحة مناقشته، وبيان الأمر وتبيُّنه حتى نكون على بصيرة.
(23/14)
أما آخر الحديث فيقول:" وعامتهم" يعني النصح لعامة المسلمين، وقدم الأئمة على العامة؛ لأن الأئمة إذا صلحوا صلحت العامة؛ فإذا صلح الأمراء صلحت العامة، وإذا صلح العلماء صلحت العامة، لذلك بدأ بهم، وليُعلم أن أئمة المسلمين لا يّراد بهم الآئمة الذين لهم الإمامة العظمى، ولكن يُراد به ما هو أعم، فكل من له إمرة ولو في مدرسة فإنه يعتبر من أئمة المسلمين، إذا نوصح وصلح، صلح من تحت يده.
والنصيحة لعامة المسلمين بأن تحب لهم ما تجبُ لنفسك، وأن ترشدهم إلى الخير، وأن تهديهم إلى الحق إذا ضلوا عنه، وأن تذكرهم به إذا نسوه، وأن تجعلهم لك بمنزلة الأخوة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" المسلم أخو المسلم"[272] ، وقال :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُ بعضه بعضاً " [273]، وقال :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى" [274]، فأنت إذا أحسست بألم في أطرف شيء من أعضائك، فإن هذا الألم يسري على جميع البدن، كذلك ينبغي أن تكون للمسلمين هكذا، إذا اشتكى أحد من المسلمين فكأنما الأمر يرجع إليك أنت.
وليُعلم أن النصيحة هي مخاطبة الإنسان سراً بينك وبينه؛ لأنك إذا نصحته سراً بينك وبينه أثرت في نفسه، وعلم أنك ناصح، لكن إذا تكلمت أمام الناس عليه ؛ فإنه قد تأخذه العزة بالإثم فلا يقبل النصيحة، وقد يظن أنك إنما تريد الانتقام منه وتوبيخه و وحطّ منزلته بين الناس فلا يقبل ، لكن إذا كانت النصيحة بينك وبينه صار لها ميزانٌ كبير عنده وقيمة ، وقبل ذلك، والله المسؤول أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
* * *
182- الثاني : عن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: " بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم" متفقٌ عليه[275].
(23/15)
183- الثالث: عن أنس – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبٌ لنفسه" متفق عليه [276] .
الشرح
قال المؤلف رحمه الله – عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم؛ هذه ثلاثة أشياء : حق محض لله، وحق للآدمي محض، وحق مشترك ، أما الحق المحض لله ؛ فهو قوله" أقام الصلاة".
ومعني " إقام الصلاة " أن يأتي بها الإنسان مستقيمة على الوجه المطلوب ، فيحافظ عليها في أوقاتها، ويقوم بأركانها وواجباتها وشروطها ، ويتمم ذلك بمستحباتها.
ومن هذا بالنسبة للرجال إقامة الصلاة في المساجد مع الجماعة، فإن هذا من إقامة الصلاة، ومن تخلف عن الجماعة بلا عذر فهو آثم، بل هو عند بعض العلماء – كشيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله – إذا صلى بدون عذر مع غير الجماعة؛ فصلاته باطلة مردودة عليه، لا تقبل منه، ولكن الجمهور هو على أنها تصح مع الإثم، وهذا هو الصحيح، فمن ترك صلاة الجماعة بلا عذر ؛ فصلاته صحيحة ولكنه آثم، وهذا هو القول الراجح وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد- رحمه الله – وهو الذي عليه جمهور من قالوا بوجوب صلاة الجماعة.
ومن إقامة الصلاة: الخشوع فيها ، والخشوع هو حضور القلب وتأمله بما يقوله المصلي وما يفعله ، وهو أمر مهم؛ لأن الصلاة بلا خشوع كالجسد بلا روح ، فأنت إذا صليت وقلبك يدور في كل وادٍ فإنك تصلي حركات بدنيه فقط، فإذا كان قلبك حاضراً تشعر كأنك بين يدي الله عزّ وجلّ، تناجيه بكلامه ، وتتقرب إليه بذكره ودعائه، فهذا هو لبُّ الصلاة روحها.
(23/16)
وأما قوله :" إيتاء الزكاة" يعني : إعطاءها لمستحقها، وهذه جامعة بين حق الله وحق العباد، أما كونها حقاً لله فلأن الله فرض على عباده الزكاة وجعلها من أركان الإسلام، وأما كونها حقاً للآدمي فلما فيها من قضاء حوائج المحتاجين، وغير ذلك من المصالح المعلومة في معرفة أهل الزكاة.
وأما قوله:" النصح لكل مسلم" فهذا هو الشاهد من الحديث للباب، أي: أن ينصح لكل مسلم: قريب أو بعيد ، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى.
وكيفية النصح لكل مسلم هي ما ذكره في حديث أنس- رضي الله عنه-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" هذه هي النصيحة أن تحب لإخوانك ما تحب لنفسك، بحث يسرك ما يسرهم، ويسوءك ما يسوؤهم، وتعاملهم بما تحب أن يعاملوك به، وهذا الباب واسع كبير جداً.
فنفى النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه في كل شيء، ونفي الإيمان قال العلماء : المراد به نفي الإيمان الكامل، يعني لا يكمل إيمانك حتى تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، وليس المراد انتفاء الإيمان بالكلية.
(23/17)
ويذكر أن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه حين بايع النبي عليه الصلاة والسلام على النصح لكل مسلم، أنه اشترى فرساً من شخص بدراهم، فلما اشتراه وذهب به وجد أنه يساوي أكثر، فرجع إلى البائع وقال له: إن فرسك يساوي أكثر، فأعطاه ما يرى أنها قيمته، فانصرف وجرّب الفرس فإذا به يجده يساوي أكثر مما أعطاه أخيراً، فرجع إليه وقال له : إن فرسك يساوي أكثر فأعطاه ما يرى أنها قيمته، وكذلك مرة ثالثة حتى بلغ من مائتي درهم إلى ثمان مائة درهم؛ لأنه بايع الرسول صلى الله عليه وسمل على النصح لكل مسلم، وإذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم أحد على شيء لا يختص به فهو عام لجميع الناس، كل الناس مبايعون الرسول عليه الصلاة والسلام على النصح لكل مسلم؛ بل على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم ، والمبايعة هنا بمعنى المعاهدة؛ لأن المبايعة تطلق على البيع والشراء، وتطلق على المعاهدة تطلق على البيع والشراء، وتطلق على المعاهدة، كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ )(الفتح: 10) ، وسميت مبايعة ؛ أن كلاًّ من المتبايعين يمدُ باعه إلى الآخر ، يعني يده من أجل أن يمسك بيد الآخر ، ويقول : بايعتك على كذا وكذا، والله الموفق.
264 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (55)
265 تقدم تخريجه ص (382)
266 لحديث عائشة رضي الله عنها ، أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام واختياره..، رقم (2328)
267 أخرجه مالك في الموطأ (1/199).
268 تقدم تخريجه ص (348)
269 تقدم تخريجه ص (328)
270 أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجلس، رقم (4833) ، والترمذي، كتاب الزهد، باب رقم (45) ، حديث رقم (2378)، وقال : حسن غريب.
(23/18)
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان والنذور ، باب قوله تعالي، (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْو) ، رقم (6633) ومسلم، كتاب الإيمان، باب ندب من ولو يمنياً فرأي غيرها خيراً، رقم (1653).
271 أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، رقم (1032)، من حديث بن عمر، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم(4880)، من حيث أبي برزة الأسلمي، وأحمد في المسند (4/ 321/ 424) من حديث أبي برزة، وأخرجه أيضاً (5/ 279) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
272 أخرجه البخاري ، كتاب المظالم ، باب لا يظلم المسلم المسلم...، رقم (2442)، ومسلم كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم ، رقم (2580).
273 أخرجه البخاري، كتاب الأدب باب تعاون المؤمنين...، رقم (6026) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم، رقم (2585).
274 أخرجه البخاري كتاب الأدب ، باب رحمة الناس والبهائم ، رقم (6011) ، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم ، رقم (2586)
275 أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم :" الدين النصيحة"، رقم (57)، ومسلم ، كتاب الإيمان ، بيان أن الدين النصيحة ، رقم (56)
276 تقدم تخريجه ص (184)
(23/19)
23- باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) ، وقال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(آل عمران:110)، وقال تعالي: )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199) وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)(التوبة:71) ، وقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79).
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى-: " باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فالمعروف كل ما عرفه الشرع وأقره من العبادات القولية والفعلية، الظاهرة ، والباطنة، والمنكر: كل ما أنكره الشرع ومنعه من أنواع المعاصي؛ من الكفر ، والفسوق ، والعصيان، والكذب، والغيبة، والنميمة، وغير ذلك.
(24/1)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب وفرض كفاية، إذا قام به من يكفي حصل المقصود، وإذا لم يقم به من يكفي ؛ وجب على جميع المسلمين، كما قال الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فبدأ بالدعوة إلى الخير، ثم ثّنى بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذلك لأن الدعوة إلى الخير قبل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير هي بيان الخير للناس، بأن يدعوهم إلى الصلاة وإلى الزكاة ، وإلى الحج، وإلى الصيام، وإلى بر الوالدين، وإلى صلة الأرحام ، وما أشبه ذلك، ثم بعد هذا يأتي دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيأمر ويقول: صّل ، إما على سبيل العموم، أو على سبيل الخصوص، بأن يمسك برجل متهاون بالصلاة فيقول له: صلِّ.
وهناك مرحلة ثالثة وهي التغيير الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده" ولم يقل فلينه عنه؛ لأن هذه مرحلة فوق النهي،" فإن لم يستطع فبلسانه" وإن لم يستطع فبقلبه"[277] اللسان هو مرحلة النهي عن المنكر الثانية، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يتكلم فإنه ينكر بقلبه، بكراهته وبغضه لهذا المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى أمور:
(24/2)
الأمر الأول: أن يكون الإنسان عالماً بالمعروف والمنكر، فإن لم يكن عالماً بالمعروف فإنه لا يجوز أن يأمر به ، لأنه يأمر بماذا ؟ قد يأمر بأمر يظنه معروفاً وهو منكر ولا يدري، فلابد أن يكون عالماً أن هذا من المعروف الذي شرعه الله ورسوله، ولابد أن يكون عالماً بالمنكر، أي : عالماً بأن هذا منكر، فإن لم يكن عالماً بذلك ؛ فلا ينه عنه؛ لأنه قد ينهى عن شيء هو معروف فيترك المعروف بسببه، أو ينهى عن شيء وهو مباح فيضيق على عباد الله، بمنعهم مما أباح الله لهم، فلابد أن يكون عالماً بأن هذا منكر، وقد يتسرع كثير من إخواننا الغيورين، فينهون عن أمور مباحة يظنونها منكراً فيضيقون على عباد الله.
فالواجب أن لا تأمر بشيء إلا وأنت تدري أنه معروف، وأن لا تنه عن شيء إلا وأنت تدري أنه منكر.
الأمر الثاني: أن تعلم بأن هذا الرجل تارك للمعروف أو فاعل للمنكر، و لا تأخذ الناس بالتهمة أو بالظن، فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا)(الحجرات:12) ، فإذا رأيت شخصاً لا يصلي معك في المسجد، فلا يلزم من ذلك أنه لا يصلي في مسجد آخر؛ بل قد يصلي في مسجد آخر، وقد يكون معذوراً ، فلا تذهب من أجل أن تنكر عليه حتى تعلم أنه يتخلف بلا عذر.
نعم لا بأس أن تذهب وتسأله، وتقول : يا فلان ، نحن نفقدك في المسجد، لا بأس عليك، أما أن تنكر أو أشد من ذلك أن تتكلم فيه في المجالس، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري؛ ربما أنه يصلي في مسجد آخر، أو يكون معذوراً.
(24/3)
ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يستفهم أولاً قبل أن يأمر ، فإنه ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس ولم يصل تحية المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أصليت؟" قال: لا ، قال:" قم فصل ركعتين" [278]، ولم يأمره أن يصلي ركعتين حتى سأله : هل صلى أم لا؟ مع أن ظاهر الحال أنه رجلٌ دخل وجلس ولم يصل، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام خاف أن يكون قد صلى وهو لم يشعر به، فقال :" أصليت؟" فقال: لا ، قال " قم فصل ركعتين".
كذلك في المنكر لا يجوز أن تنكر على شخص إلا إذا علمت أنه وقع في المنكر، فإذا رأيت امرأة مع شخص في سيارة مثلاً، فإنه لا يجوز أن تتكلم عليه أو علي المرأة؛ لأنه ربما تكون هذه المرأة من محارمه؛ زوجة، أو أم ، أو أخت، أو ما أشبه ذلك ، حتى تعلم أنه قد أركب معه امرأة ليست من محارمه، أو وجدت شبهة قوية، وأمثال هذا كثيرٌ. المهم أنه لابُد من علم الإنسان بأن هذا معروف ليأمر به، أو منكر لينهى عنه، ولا بد أن يعلم أيضاً أن الذي وجّه إليه الأمر أو النهي قد وقع في أمر يحتاج إلى أمر فيه أو نهي عنه.
ثم أن الذي ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون رفيقاً بأمره في نهيه؛ لأنه إذا كان رفيقاً أعطاه الله سبحانه وتعالى ما لا يعطي على العنف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" [279]فأنت إذا عنَّفت على من تنصح ربما ينفر، وتأخذه العزة بالإثم ، ولا ينقاد لك، ولكن إذا جئته بالتي هي أحسن فإنه ينتفع.
(24/4)
ويُذكر – قديماً – أن رجلاً من أهل الحسبة- يعني من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- مرّ على شخص يستخرج الماء من البئر على إبله عند أذان المغرب، وكان من عادة هؤلاء العمال أن يحدوا بالإبل ، يعني يُنشدون شعراً من أجل أن تخف الإبل ؛ لأن الإبل تطرب لنشيد الشعر، فجاء هذا الرجل ومعه غيره، وتكلم بكلام قبيح على العامل الذي كان متعباً من العمل وضاقت عليه نفسه فضرب الرجل بعصا طويلة متينة كانت معه- فشرد الرجل وذهب إلى المسجد والتقى بالشيخ- عالم من العلماء من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- وقال: إني فعلت كذا وكذا ، وإن الرجل ضربني بالعصا، فلما كان من اليوم الثاني ذهب الشيخ بنفسه إلى المكان قبل غروب الشمس، وتوضأ ووضع مشلحه على خشبه حول البئر، ثم أذن المغرب فوقف كأنه يريد أن يأخذ المشلح ، فقال له : يا فلان... يا أخي جزاك الله خيراً، أنت تطلب الخير في العمل هذا، وأنت على خير، لكن الآن أذن للمغرب، لو أنك تذهب وتصلي المغرب وترجع ما فاتك شيء، وقال له كلاماً هيناً، فقال له: جزاك الله خيراً، مرّ علىّ أمس رجل جلف قام ينتهرني، وقال لي كلاماً سيئاً أغضبني، وما ملكت نفسي حتى ضربته بالعصا، قال : الأمر لا يحتاج إلى ضرب، أنت عاقل ، ثم تكلم معه بكلام لين، فأسند العصا التي يضرب بها الإبل ثم ذهب يصلي بانقياد ورضا.
وكان هذا لأن الأول عامله بالعنف، والثاني عامله بالرفق، ونحن وإن لم تحصل هذه القضية فلدينا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول :" إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" (1)ويقول صلى الله عليه وسلم :" ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما ينزع من شيء إلا شانه" (279)فعلى الآمر أن يحرص على أن يكون أمره ونهيه رفيقاً.
(24/5)
الشرط الثالث: أن لا يزول المنكر إلى ما هو أعظم منه، فإن كان هذا المنكر لو نهينا عنه ، زال إلى ما هو أعظم منه، فإنه لا يجوز أن ننهى عنه، درءاً لكبرى المفسدتين بصغريهما؛ لأنه إذا تعارض عندنا مفسدتان وكان إحداهما أكبر من الأخرى ؛ فإننا نتقي الكبرى بالصغرى.
مثال ذلك: لو أن رجلاً يشرب الدخان أمامك فأردت أن تنهاه وتقيمه من المجلس، ولكنك تعرف أنك لو فعلت لذهب يجلس مع السكارى، ومعلوم أن شرب الخمر أعظم من شرب الدخان، فهنا لا ننهاه ؛ بل نعالجه بالتي هي أحسن لئلا يؤول الأمر إلى ما هو أنكر وأعظم.
ويُذكر أن شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله عليه- مرّ بقوم في الشام من التتار ووجدهم يشربون الخمر، وكان معه صاحب له، فمرّ بهم شيخ الإسلام ولم ينههم، فقال له صاحبه: لماذا لم تنهمم؟ قال : لو نهيناهم لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين وينهبون أموالهم، وهذا أعظم هذا شربهم الخمر، فتركهم مخافة أن يفعلوا ما هو أنكر وأعظم ، وهذا لا شك أنه من فقهه رحمه الله .
الشرط الرابع: اختلف العلماء- رحمهم الله- هل يشترط أن يكون الآمر والناهي فاعلاً لما أمر به، تاركاً لما نهى عنه أو لا؟ والصحيح أنه لا يشترط، وأنه إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ولم كان لا يفعل المعروف ولا يتجنب المنكر، فإن ذنبه عليه، لكن يجب أن يأمر وينهى، لأنه إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفعل المأمور ولا يترك المحظور، لأضاف ذنباً إلى ذنبه، لذا فإنه يجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن كان يفعل المنكر ويترك المعروف.
ولكن في الغالب بمقتضى الطبيعة الفطرية أن الإنسان لا يأمر الناس بشيء لا يفعله ، بل يستحي، ويخجل، ولا ينهى الناس عن شيء يفعله. لكن الواجب أن يأمر بما أمر به الشرع وإن كان لا يفعله وأن ينهي عما نهي عنه الشرع ، وأن كان لا يتجنبه؛ لأن كل واحد منهم واجب منفصل عن الآخر، وهما متلازمين.
(24/6)
ثم إنه ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقصد بذلك إصلاح الخلق وإقامة شرع الله، لا أن يقصد الانتقام من العاصي ، أو الانتصار لنفسه ، فإنه إذا نوى هذه النية لم ينزل الله البركة فلي أمره ولا نهيه؛ بل يكون كالطبيب يريد معالجة الناس ودفع البلاء عنهم ، فينوى بأمره ونهيه أولاً : إقامة شرع الله ، وثانياً : إصلاح عباد الله ، حتى يكون مصلحاً وصالحاً ، نسأل الله أن يجعلنا من الهُداة المهتدين المصلحين إنه جواد كريم.
وفي ختام الآية يقول الله عز وجل : (ُوَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (وَأُولَئِكَ) المشار إليهم تلك الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والمفلح هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه.
وهنا قال : (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وهذه الجملة تفيد عند أهل العلم باللغة العربية الحصر ، أي أن الفلاح إنما يكون لهؤلاء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويدعون إلى الخير.
ثم قال الله عزّ وجلّ بعدها : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات) (آل عمران:105)، والنهي عن التفرق بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على أن ترك الأمر بالمعروق والنهي عن المنكر سب للتفرق ، وذلك أن الناس إذا كانت لهم مشارب متعددة مختلفة تفرقوا، فهذا يعمل طاعة، وهذا يعمل معصية، وهذا يسكر، وهذا يصلي، وما أشبه ذلك، فتتفرق الأمة، ويكون لكل طائفة مشرب، ولهذا قال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا).
(24/7)
إذن لا يجمع الأمة إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو أن الأمة أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، وتحاكمت إلى الكتاب والسنة، ما تفرقت أبداً، ولحصل لهم الأمن، ولكان لهم أمن من أشد من كل أمن. كما قال الله تعالى(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82)، الدول الكبرى والصغرى- الآن- كلها تكرس جهوداً كبيرةً جبارة لحفظ الأمن، ولكنّ كثيراً من المسلمين غفلوا عن هذه الآية ، الأمن التام موجود في هاتين الكلمتين: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) إذا تحقق الإيمان في الشعب، ولم يلبس إيمانه بظلم فحينئذ يحصل له الأمن.
وأضرب مثلاً قريباً للأفهام بعيداً في الأزمان ، في صدر هذه الأمة المباركة كان أكبر مسؤول فيها ينام وحده في المسجد، ويمشي في السوق وحده، لا يخاف إلا الله ، عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – يكوم الحصبة في المسجد وينام عليها، ليس عنده حارس ولا يحتاج لأحد يحرسه؛ لا في السوق ولا في بيته ولا في المسجد؛ لأن الإيمان الخالص الذي لم يلبس بظلم ، إي لم يخلط بظلم كان في ذلك الوقت، فكان الناس آمنين.
ثم ذهب عهد الخلفاء الراشدين وجاء عهد بني أمية ، وصار في أمراء بني أمية من حاد عن سبيل الخلفاء الراشدين ، فحصل الاضطراب، وحصلت الفتن ، وقامت الخوارج، وحصل الشر.
ثم جاء عهد عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- فاستتب الأمن ، وأصبح الناس يسافرون ويذهبون ويجيئون وهم آمنون ، ولكن الله – عزّ وجلّ- من حكمته لم يُمد له في الخلافة، فكانت خلافته سنتين وأشهرا. فالمهم أن الأمن كل الأمن ليس بكثرة الجنود، ولا بقوة السلاح، ولا بقوة الملاحظة والمراقبة، ولكن الأمن في هذين الأمرين فقط (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).(الأنعام).
(24/8)
ثم ذكر المؤلف – رحمه الله – في سياق الآيات قول الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71)، المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، كل واحد يتولى الثاني، ينصره ويساعده، وأنظر إلى هذه الآية في المؤمنين حيث قال (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) وفي المنافقين قال (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ )(التوبة:67) وليسوا أولياء لبعض؛ بل المؤمن هو ولي أخيه، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وفي هذه الآية دليلٌ على أن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست خاصة بالرجال، بل حتى النساء عليهن أن يأمرن بالمعروف وينهين عن المنكر، ولكن في حقول النساء ، ليس في مجامع الرجال وفي أسواق الرجال، لكن في حقول النساء ومجتمعات النساء؛ في أيام العرس، وفي أيام الدراسة ، وما أشبه ذلك، إذا رأت المرأة منكراً تنهى عنه، وإذا رأت تفريطاً في واجب تأمر به؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل مؤمن ومؤمنه (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71)، نسأل الله أن يعمنا وإياكم برحمته ومغفرته.
* * *
(24/9)
ذكر رحمه الله هذه الآية : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78)، اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله والعياذ بالله، ولا يستحقه إلا من فعل كبيرة من كبائر الذنوب.
وبنو إسرائيل هم بنو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فإسرائيل هذه لقب ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، إبراهيم له ولدان: إسماعيل وإسحاق، إسماعيل هو الولد الأكبر وهو الذي أمره الله بذبحه، ثم منّ الله عليهما جميعاً برفع هذا الأمر ونسخه، وفداه الله عزّ وجلّ بذبح عظيم ، وأما إسحاق فهو الولد الثاني إبراهيم وهو من زوجته ، وأما إسماعيل فهو من سريته هاجر- رضي الله عنها- فبنو إسرائيل هم من نسل يعقوب بن إسحاق ، وأرسل الله إليهم الرسل الكثيرة ، وكان منهم المعتدون الذين يقتلون الأنبياء بغير حق، والعياذ بالله.
وكانوا أيضاً لا ينهون عن منكر فعلوه، بل يرى بعضهم المنكر ولا ينهى عنه، وقصة القرية التي كانت حاضرة البحر مشهورة معلومة في القرآن الكريم، وهم قوم من اليهود حرّم الله عليهم الصيد من البحر يوم السبت، فكان في يوم السبت تأتي الحيتان شرعاً على وجه الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، فطال عليهم الأمد، فقالوا: لابد أن نتخذ حيلة نتوصل بها إلى الصيد فقالوا: نضع شِِباكاً في البحر، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت مسكتها الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذناها ففعلوا ذلك، فكان منهم قومٌ يعظمون وينهون عن هذا المنكر ، وقوم ساكتون، وقوم فاعلون، فعاقبهم الله عزّ وجلّ وقال: ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين)، فكانوا – والعياذ بالله- قردة، بنو آدم انقلبوا قردة خاسئين أذلة.
(24/10)
والشاهد من هذا أن فيهم قوماً لم يعطموا ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم من النهي عن المنكر ، فكانوا ممن دخلوا في هذه اللعنة، ولهذا قال )(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78) ، وداود متأخر عن موسى بكثيرة وعيسي بن مريم كذلك، فهذان النسيان الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه، وقد حكى الله ذلك عنهما مقراً ذلك، فصار من لا يتناهى عن المنكر من الملعونين، والعياذ بالله.
وفي ذلك دليلٌ على وجوب النهي عن المنكر، وعلى أن تركه سبب للعن والطرد عن رحمة الله.
* * *
وقال تعالى(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)، وقال تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (الحجر:94) ، وقال تعالى : ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(لأعراف: 165)، والآيات في الباب كثيرة معلومة.
الشرح
ثم قال المؤلف – رحمه الله – فيما ساقه من الآيات: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر)(الكهف:29) ، الحق من الله عزّ وجلّ ، من الرب الذي خلق الخلق، والذي له الحق في أن ، يوجب على عباده ما شاء ، الحق منه فيجب علينا قبوله.
(24/11)
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر)هذه الجملة ليست للتخيير، وأن الإنسان مخير إن شاء آمن وإن شاء كفر، ولكنها للتهديد، والدليل على هذا آخر الآية، وهو قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)، فمن شاء فليؤمن ؛ فله الثواب الجزيل، ومن شاء فليكفر؛ فعليه العقاب الأليم، ويكون من الظالمين كما قال تعالى: ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة:254)، ففي هذا تهديد لمن لم يؤمن بالله عزّ وجلّ ، وأن الحق بينٌ وظاهرٌ جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من رب العالمين، فمن اهتدى فقد وفق ، نسأل الله لنا الهداية، ومن ضلّ - والعياذ بالله- فقد خُزي ، والله المستعان.
ثم قال المؤلف- رحمه الله تعالى – فيما ذكره من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ساق- رحمه الله تعالى – قوله عزّ وجلّ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94)، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليعلم أن الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين:
قسم خاص به وقسم له ولأمته، والأصل أنه له ولأمته ؛ لأن لأمته أسوة حسنة فيه عليه الصلاة والسلام، لكن إذا وجدت قرينة تدل على أن الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام كان خاصاً به، مثل قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1) ، ومثل قوله تعالى: (والضُّحَى) (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)(الضحى:1-3) ، فهذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام.
(24/12)
أما القسم القاني : فمثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكٌَ) (التحريم:1)، فهذا له ولأمته، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ)(الطلاق:1)، فهذا له ولأمته، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(المائدة: 67)، فهذا له ولأمته، لقوله صلى الله عليه وسلم :" بلغوا عني" [280].
فهنا يقول الله عزّ وجلّ لرسوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )،(الحجر:94) يعني أظهر ما تؤمر به وبيّنه، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وهذا له ولأمته، كل الأمة يجب عليها أن تصدع بما أمرها الله به؛ تأمر به الناس، وأن تصدع بما نهى الله عنه؛ تنهي عنه الناس؛ لأن النهي عن الشيء أمر بتركه )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94) يعني لا تهتم بهم، في حالهم ولا فيما يأتي من أذاهم، يعني لا تحزن لعدم إيمانهم كما قال الله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف:6).
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(الشعراء:3) يعني لعلك مهلك
نفسك إذا لم يؤمنوا بك، يعني لا تبالي بهم؛ بل أعرض عنهم فيما يحصل منهم من أذى، فإن العاقبة لك، وفعلاً صارت العاقبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، صبر وظفر.
(24/13)
فإنه عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً مختفيا، يخشى على نفسه ، قد جعلت قريش لمن يأتي به وبصاحبه أبي بكر مائتين من الإبل ، عن كل واحد مائة، ولكن الله تعالى أنجاهما، وبعد مضي سنوات قليلة رجع النبي عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة ظافراً مظفراً، كانت له المنة على الملأ من قريش ، حتى وقف على باب الكعبة يقول :" يا معشر قريش، ما ترون إني فاعل بكم؟"[281] كلهم تحته أذلة، قالوا : خيراً . أخ كريم وابن أخ كريم، قال:" فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء. فمن عليهم عليه الصلاة والسلام بعد أن كان قادراً عليهم.
فالحاصل : أن قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) يشمل أمرين: أعرض عن المشركين لا تهتم بحالهم إذا لم يؤمنوا ولا تحزن عليهم، وأعرض عن المشركين فيما يحصل لك من أذى ، فإنه سوف تكون العاقبة لك، وهذا هو الواقع، ولهذا قال بعد الآية نفسها: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:95-99)
وتأمل كيف أمر الله تعالى بتسبيحه بحمده بعد أن قال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (الحجر97) لأن المقام هنا مقام يحتاج إلى تنزيه الربّ عزّ وجلّ وحمده، من هذه الضائقة التي تصيب النبي عليه الصلاة والسلام من قريش، يعني نزهه عن كل ما لا يليق به، واعلم أن الذي أجراه الله جل وعلا فهو في غاية الحكمة، هو كذلك، فإنه صار في غاية الحكمة وفي غاية الرحمة التي يُحمد عليهما عزّ وجلّ.
(24/14)
ثم قال في آخر ما ساقه من الآيات : قال الله عزّ وجلّ :( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165)، هذه هي قصة القرية التي أشرنا إليها من قبل، وهي قرية على البحر حرّم الله عليهم أن يصطادوا السمك يوم السبت وإبتلاهم عز وجل فصار السمك السبت يأتي بكثرة شُرعاً على سطح الماء، وفي غير يوم السبت لا يأتي، فطال عليهم الأمد فقالوا: كيف نترك هذا السمك ، فتحيلوا بحيلة لم تنفعهم شيئاً، فوضعوا شبكاً في يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعن في هذا الشبك، فإذا صار يوم الأحد أخذوا هذه الحيتان.
فكان النكال من الله – عزّ وجلّ- أن قال لهم ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) قال لهم قولاً قدرياً : كونوا قردة خاسئين، فأصبحوا قردة، ولو قال : كونوا حميراً لكن قال: كونوا قردة؛ لأن القرد أشبه ما يكون بالإنسان ، وفعلهم الخبيث أشبه بالحلال لأنه حيلة، فالذي يراهم ظاهرياً يقول ما صادوا يوم السبت ، بل وضعوا الشبك يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد فصورة ذلك صورة حلال لكنه حرام، فصارت العقوبة مناسبة تماماً للعمل.
وفي هذا قاعدة ذكرها الله – عزّ وجلّ- في كتابه أن الجزاء من جنس العمل، فقال : (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ)(العنكبوت: 40) ، كل إنسان يؤخذ بمثل جريمته، فهؤلاء قبل لهم كونوا قردة خاسئين فأصبحوا قردة يتعاوون والعياذ بالله في الآسواق.
(24/15)
وعلى الجانب الآخر قال تعالى: ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ )(لأعراف: 165) وهم انقسموا ثلاثة أقسام: قسم فعل الحيلة، وقسم سكت، وقسم نهى، وكان الذين سكتوا يقولون للذين ينهون عن السوء( لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً )(لأعراف: 164) ، يعني اتركوهم ، هؤلاء مُهلكون، لا تعظوهم، لا تنفع فيهم الموعظة (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(لأعراف:164)، قالوا يعني دعونا نستفيد فائدتين المعذرة إلى الله بأن يكون لنا عذر عند الله عزّ وجلّ، ولعلهم يتقون، كما قال الله تعالى في فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44)، فهنا قال (َلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ولكن سكت الله عزّ وجلّ عن هذه الطائفة الثالثة.
قال الله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165) ، فاختلف العلماء : هل الطائفة الساكتة أخذت بالعذاب أم أنها نجت؟ والذي ينبغي علينا أن نسكت كما سكت الله ، نقول : أما التي نهت فقد نجت، وأما التي وقعت في الحرام فقط هلكت وأخذت بالعذاب، وأما الساكتة فقط سكت الله عنها ويسعنا ما في كتاب الله عزّ وجلَّ.
* * *
186- الرابع : عن أبي الوليد عُبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسرِ ، والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهلهُ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لؤمة لائم" متفق عليه[282].
(24/16)
" المنشط والمكره بفتح ميمهما: أي في السهلِ والصعبِ." والأثرةُ": الاختصاص بالمشترك، وقد سبق بيانها. " بواحا" بفتح الباء الموحدة بعدها واوٌ ثم ألفٌ ثم حاءٌ مهملةٌ: أي ظاهراً لا يحتملُ تاويلاً.
الشرح
قال رحمه الله تعالى فيما نقله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال : بايعنا رسول الله صلى الله علي وسلم ، أو " بايعنا" رسول الله صلى الله على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا . (بايعنا) أي بايع الصحابة رضي الله عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يعني لمن ولاه الله الأمر ؛ لأن الله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء:59).
وقد سبق لنا بيان من هم أولو الأمر، وذكرنا أنهم طائفتان : العلماء والأمراء، لكن العلماء أولياء أمر في العلم والبيان، وأما الأمراء فهم أولياء أمر في التنفيذ والسطان.
يقول: بايعناه على السمع والطاعة، ويستثنى من هذا معصية الله عزّ وجلّ فلا يبايع عليها أحد؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولهذا قال أبو بكر- رضي الله عنه-حين تولى الخلافة:" أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" فإذا أمر ولي الأمر بمعصية من المعاصي فإنه لا يجوز لأحد أن يسمع له أو يطيع ؛ لأن ملك الملوك رب العالمين عزّ وجلّ، لا يمكن أن يُعصى سبحانه وتعالى لطاعة من هو مملوك مربوب؛ أن كل من سوى الله فإنهم مملوكون لله عزّ وجلّ، فكيف يقدم الإنسان طاعتهم على طاعة الله؟ إذا يستثنى من قوله السمع والطاعة ما دلت عليه النصوص من أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(24/17)
وقوله:" في العسر واليسر" يعني سواء كنا معسرين في المال أو كنا مؤسرين، يجب علينا جمعياً أغنيائنا وفقرائنا أن نطيع وُلاة أمورنا ونسمع لهم، وكذلك في منشطنا ومكرهنا، يعني سواء كنا كارهين لذلك لكونهم أمروا بما لا نهواه ولا نريده، أو كنا نشيطين في ذلك، لكونهم أمروا بما يلائمنا ويوافقنا. المهم أن نسمع ونطيع في كل حال إلا ما استثني مما سبق.
قال: " وأثرة علينا" أثرة يعني استئثاراً علينا ، يعني لو كان وُلاة الأمر يستأثرون على الرعية بالمال أو غيره ، مما يرفهون به أنفسهم ويحرمون من ولاهم الله عليهم، فإنه يجب علينا السمع والطاعة ، لا نقول : أنتم أكلتم الأموال ، وأفسدتموها، وبذرتموها فلا نطيعكم؛ بل نقول : سمعاً وطاعة لله رب العالمين ولو كان لكم استئثار علينا، ولو كنا نحن لا نسكن إلا الأكواخ، ولا نفترش إلا الخلق من الفرش، وأنتم تسكنون القصور، وتتمتعون بأفضل الفرش، لا يهمنا هذا؛ لأن هذا كله متاع الدنيا وستزولون عنه، أو يزول عنكم، أما هذا أو هذا، أما نخن فعلينا السمع والطاعة، ولو وجدنا من يستأثر علينا من وُلاة الأمور.
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:" اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك[283]" واعلم أنك سوف تقتص يوم القيامة من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئات من ظلمهم، ثم طرح عليه ثم طرح في النار والعياذ بالله. فالأمر مضبوط ومحكم لا يضيع على الله شيء.
ثم قال:" وألا ننازع الأمر أهله" يعني لا ننازع وُلاة الأمور ما ولاهم الله علينا، لنأخذ الإمرة منهم، فإن هذه المنازعة توجب شراً كثيراً ، وفتناً عظيمة وتفرقا بين المسلمين، ولم يدمر الأمة الإسلامية إلا منازعة الأمر أهله، من عهد عثمان- رضي الله عنه- إلى يومنا هذا، ما أفسد الناس إلا منازعة الأمر أهله.
(24/18)
قال:" إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان" ثلاثة شروط ، إذا رأينا هذا وتمت الشروط الثلاثة فحينئذ ننازع الأمر أهله، ونحاول إزالتهم عن ولاية الأمر، لكن بشروط:
الأول: أن تروا ، فلابد من علم ، أما مجرد الظن، فلا يجوز الخروج على الأئمة.
الثاني: أن نعلم كفراً لا فسقاً. الفسوق، مهما فسق وُلاة الأمور لا يجوز الخروج عليهم؛ لو شربوا الخمر ، لو زنوا، لو ظلموا الناس ، لا يجوز الخروج عليهم ، لكن إذا رأينا كفراً صريحاً يكون بواحاً.
الثالث : الكفر البواح: وهذا معناه الكفر الصريح، البواح الشيء البين الظاهر، فأما ما يحتمل التأويل فلا يجوز الخروج عليهم، يعني لو قدرنا أنهم فعلوا شيئاً نرى أنه كفر، لكن فيه احتمال أنه ليس بكفر، فإنه لا يجوز أن ننازعهم أو نخرج عليهم، ونولهم ما تولوا.
لكن إذا كان بواحاً صريحاً، مثل : لو أن ولياً من وُلاة الأمور قال لشعبه: إن الخمر حلال . اشربوا ما شئتم، وإن اللواط حلال ، تلوطوا بمن شئتم، وإن الزنى حلال ازنوا بمن شئتم، فهذا كفر بواح ليس فيه إشكال، هذا يجب على الرعية أن يزيلوه بكل وسيلة ولو بالقتل؛ لأن هذا كفر بواح.
الشرط الرابع: عندكم فيه من الله برهان ، يعني عندنا دليل قاطع على أن هذا كفر، فإن كان الدليل ضعيفاً في ثبوته، أو ضعيفاً في دلالته، فإنه لا يجوز الخروج عليهم؛ لأن الخروج فيه شر كثير جداً ومفاسد عظيمة.
وإذا رأينا هذا مثلاً فلا يتجوز المنازعة حتى يكون لدينا قدرة على إزاحته، فإن لم يكن لدينا قدرة فلا تجوز المنازعة؛ لأنه ربما إذا نازعنا وليس عندنا قدرة يقضي على البقية الصالحة، وتتم سيطرته.
(24/19)
فهذه الشروط شروط للجواز أو للوجوب – وجوب الخروج على ولي الأمر- لكن بشرط أن يكون لدينا قدرة، فإن لم يكن لدينا قدرة، فلا يجوز الخروج ؛ لأن هذا من إلقاء النفس في التهلكة. أي فائدة إذا خرجنا على هذا الولي الذي رأينا عنده كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، ونحن لا نخرج إليه إلا بسكين المطبخ، وهو معه الدبابات والرشاشات أي فائدة؟ لا فائدة، ومعنى هذا أننا خرجنا لنقتل أنفسنا، نعم لابد أن نتحيل بكل حيلة على القضاء عليه وعلى حكمه، لكن بالشروط الأربعة التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام: أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان. فهذا دليلٌ على احترام حق ولاة الأمور، وأنه يجب على الناس طاعتهم في اليسر والعسر، والمنشط والمكره والأثرة التي يستأثرون بها، ولكن بقي أن نقول : فما حق الناس على ولاة الأمر؟
حق الناس على ولاة الأمر أن يعدلوا فيهم ، وأن يتقوا الله تعالى فيهم، وأن لا يشقوا عليهم، وأن لا يولوا عليهم من يجدون خيراً منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم من ولي من أمر امتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه"[284]. دعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام: أ من ولي من أمور المسلمين شيئاً صغيراً كان أم كبيراً وشق عليهم، قال:" فاشقق عليه"، وما ظنك بشخص شقّ الله عليه والعياذ بالله، إنه سوق يخسر وينحط، وأخبر النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام أمة :" ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"[285]
إن من ولّى أحداً من المسلمين على عصابة وفيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين؛ لأنه يجب أن يولي على الأمور أهلها بدون أي مراعاة ، يُنظر لمصلحة العباد فيولي عليهم من هو أولى بهم.
(24/20)
والولايات تختلف، فإمام المسجد مثلاً أولى الناس بهم من هو أقرأ لكتاب الله ، والأمور الأخرى كالجهاد أولى الناس بها من هو أعلم بالجهاد، وهلم جرّا. المهم أنه يجب على ولي المسلمين أن يولي على المسلمين خيراهم، ولا يجوز أن يولى على الناس أحداً وفيهم من هو خير منه؛ لأن هذا خيانة.
وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه :" ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة"[286] والعياذ بالله.
فولاة الأمور عليهم حقوق عظيمة لمن ولاهم الله عليهم، كما على المولى عليهم حقوقاً عظيمة يجب عليهم أن يقوموا بها لولاة الأمر، فلا يعصونهم حتى وإن استأثر وُلاة الأمور بشيء، فإن الجواب لهم السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، إلا إذا كان ذلك في معصية الله، يعني لو أمروا بمعصية الله، فإنه لا يجوز أن يأمروا بمعصية الله ، ولا يجوز لأحد أن يطيعهم في معصية الله.
وأما قول بعض الناس من السفهاء: إنه لا تجب علينا طاعة وُلاة الأمور إلا إذا استقاموا استقامة تامة، فهذا خطأ، وهذا غلط، وهذا ليس من الشرع في شيء، بل هذا من مذهب الخوارج، الذين يريدون من وُلاة الأمور أن يستقيموا على أمر الله في كل شيء، وهذا لم يحصل منذ زمن فقد تغيرت الأمور.
(24/21)
ويذكر أن أحد ملوك بني أمية سمع أن الناس يتكلمون فيه وفي خلافته، فجمع أشراف الناس ووجهاءهم وتكلم فيهم، وقال لهم: إنكم تريدون منا أن نكون مثل أبي بكر وعمر؟ قالوا: نعم: أنت خليفة وهم خلفاء، قال: كونوا أنتم مثل رجال أبي بكر وعمر؛ نكن نحن مثل أبي بكر وعمر، وهذا جواب عظيم، فالناس إذا تغيروا لابد أن يغير الله وُلاتهم، كما تكونون يولى عليكم. أما أن يريد الناس من الولاة أن يكونوا مثل الخلفاء وهم أبعد ما يكونون عن رجال الخلفاء، هذا غير صحيح، الله حكيم عزّ وجلّ (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129) .
وذكروا أن رجلاً من الخوارج الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب جاء إلى عليّ ، فقال له : يا عليّ ، ما بال الناس قد تغيروا عليك ولم يتغيروا على أبي بكر وعمر، قال : لأن رجال أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورجالي أنت وأمثالك، وهذا كلام جيد ، يعني أنك لا خير فيك، فلذلك تغير الناس علينا، لكن في عهد أبي بكر وعمر رجالهم مثل علي بن أبي طالب وعثمان ابن عفان وغيرهم من الصحابة الفضلاء، فلم يتغيروا على وُلاتهم.
وكذلك أيضاً يجب على الرعية أن ينصحوا لولي الأمر، ولا يكذبوا عليه ، ولا يخدعوه ، ولا يغشوه، ومع الأسف أن الناس اليوم عندهم كذب وتحايل على أنظمة الدولة، ورشاوى وغير ذلك مما لا يليق بالعاقل فضلاً عن المسلم ، إذا كانت الدول الكافرة تعاقب من يأخذ الرشوة ولو كان من أكبر الناس، فالذي يعاقب من يأخذ الرشوة هو الله عزّ وجلّ، نحن نؤمن بالله وما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لعن الراشي والمرتشي" [287]وعقوبة الله أشد من عقوبة الآدميين.
(24/22)
وكذلك تجد الكذب والدجل من الناس على الحكومة، مثل أن يأتي المزارع ويدخل زرع غيره باسمه وهو كاذب ، ولكن من أجل مصلحة من أجل أن يأكل بها ، أحياناً قد تكون الدولة قد استلمت الحب، ولم يبق إلا الدراهم عند الدولة، فيأتي الإنسان يبيعه على آخر، يبيع دراهم بدراهم مع التفاضل ومع تأخير القبض، إلى غير ذلك من المعاصي التي يرتكبها الشعب، ثم يريدون من وُلاتهم أن يكونوا مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فهذا ليس بصحيح.
فولاة الأمور عليهم حقوق يجب عليهم النصح بقدر ما يستطيعون لله عزّ وجلّ ولمن ولاهم الله عليهم، والشعب أيضاً يجب عليهم حقوق عظيمة لولاة الأمور، يجب عليهم أن يقوموا بها.
ومن الأمور التي يهملها كثير من الناس انهم لا يحترمون أعراض وُلاة الأمور ، تجد فاكهة مجالسهم – نسأل اله العافية وأن يتوب علينا وعليهم – أن يتكلموا في أعراض وُلاة الأمور، ولو كان هذا الكلام مجدياً وتصلح به الحال لقنا لا بأس وهذا طيب، لكن هذا لا يجدي، ولا تصلح به الحال، وإنما يوغر الصدور على وُلاة الأمور ، سواء كانوا من العلماء أو من الأمراء.
تجد الآن بعض الناس إذا جلس في المجلس لا يجد أُنسه إلا إذا تعرض لعالم من العلماء، أو وزير من الوزراء، أو أمير من الأمراء، أو من فوقه ليتكلم في عرضه، وهذا غير صحيح، ولو كان هذا الكلام يجدي لكنا أول من يشجع عليه، ولقلنا لا بأس ، المنكر يجب أن يزال ، والخطأ يجب أن يصحح، لكنه لا يجدي، إنما يوغر الصدور ويكره وُلاة الأمور إلى الناس، ويكره العلماء إلى الناس، ولا يحصل فيه فائدة.
(24/23)
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كلمة جامعة مانعة- جزاه الله عن أمته خيراً-:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [288]والعجب أن بعض الناس لو أردت أن تتكلم في شخص عادي من الناس قالوا: لا تغتبه، هذا حرام، ولا يرضى أن يتكلم أحد في عرض أحد عنده، لكن لو تكلمت في واحد من وُلاة الأمور فإنه يرى أن هذا لا بأس به!!
وهذه مسألة مرض به كثير من الناس، وأنا أعتبرها مرضاً- نسأل الله أن يعافينا وإياكم من هذا الذي ابتُلي به كثير من الناس.
ولو أن الناس كفوا ألسنتهم ونصحوا لولاة أمورهم ، ولا أقول: اسكت على الخطأ، لكن اكتب لوُلاة الأمور، اكتب كتاباً إن وصل فهذا هو المطلوب، وإذا انتفعوا به فهذا أحسن، وإذا لم ينتفعوا به فالإثم عليهم، إذا كان خطأ صحيحاً، وإذا لم يصل إليهم فالإثم على من منعه عنهم.
قوله رضي الله عنه فيما بايعوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم :" وأن نقول بالحق أينما كنا" يعني أن نقوم بالحق الذي هو دين الإسلام وشرائعه العظام أينما كنا، يعني في أي مكان؛ سواء في البلد، أو في البر، أو في البحر، أو في أي مكان؛ سواء في بلاد الكفر، أو في بلاد الإسلام ، نقوم بالحق أينما كنا.
قوله:" لا نخاف في الله لومة لائم" يعني لا يهمنا إذا لامنا أحد في دين الله ؛ لأننا نقوم بالحق.
(24/24)
فمثلاً لو أراد الإنسان أن يطبق سنة يستنكرها العامة، فإن هذا الاستنكار لا يمنع الإنسان من أن يقوم بهذه السنة، ولنضرب لهذا مثلاً: تسوية الصفوف في صلاة الجماعة؛ أكثر العوام يستنكر إذا قال الإمام استووا، وجعل ينظر إليهم، ويقول : تقدم يا فلان، تأخر يا فلان، أو تأخر الإمام عن الدخول في الصلاة حتى تستوي الصفوف، يستنكرون هذا ، ويغضبون منه، حتى إن بعضهم قيل له مرة من المرات: يا فلان تأخر إنك متقدم ، فقال من شدة الغضب: إن شئت خرجت من المسجد كله وتركته لك، نعوذ بالله، فمثل هذا الإمام لا ينبغي له أن تأخذه لومة لائم في الله، بل يصبر ويمرن الناس على السنة، والناس إذا تمرنوا على السنة أخذوا عليها وهانت عليهم، لكن إذا رأي أن هؤلاء العوام جفاة جداً، ففي هذه الحال ينبغي أن يعلمهم أولاً ، حتى تستقر نفوسهم ، وتألف السنة إذا طبقت، فيحصل بذلك الخير .
ومن ذلك أيضاً: أن العامة يستنكرون سجود السهو بعد السلام، ومعلوم أن السنة وردت به إذا كان السهو عن زيادة، أو عن شك مترجح به أحد الطرفين ، فإنه يُسجد بعد السلام لا قبل السلام ، هذه هي السنة حتى إن شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله- قال : إنه يجب أن يسجد بعد السلام إذا كان السجود بعد السلام، وقبل السلام إذا كان السجود قبله، يعني لم يجعل هذا على سبيل الأفضلية؛ بل على سبيل الوجوب.
(24/25)
سجد أحد الأئمة بعد السلام لسهو سهاه في صلاته؛ زاد أو شك شكاً مترجحاً فيه وبنى على الراجح ، فسجد بعد السلام، فلما سجد بعد السلام ثار عليه العامة ما هذا الدين الجديد؟ هذا غلط، قال رجلٌ من الناس: فقلت لهم: هذا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، سلم الرسول عليه الصلاة والسلام من ركعتين ثم أخبروه فأكل صلاته ثم سلم ثم سجد للسهو بعد السلام، قالوا: أبدا ، ولا نقبل ، قيل : من ترضون من العلماء؟ قالوا: نرضى فلاناً وفلاناً؟ فلما ذهبوا إليه قال لهم: هذا صحيح ، وهذا هو السنة، فبعض الأئمة يأنف أن يسجد بعد السلام وهو يعلم أن السنة أن السجود بعد السلام خوفاً من ألسنة العامة، وهذا خلاف ما بايع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه عليه، قم بالحق ولا تخف في الله لومة لائم.
كذلك أيضاً فيما يتعلق الصدق في المعاملة؛ بعض الناس إذا أخبر الإنسان بما عليه الأمر بحسب الواقع، قالوا ، هذه وساوس، وليس بلازم أن أعلم الناس بكل شيء، مثلاً عيب في السلعة، قالوا: هذا سهل والناس يرضونه، والواجب أن الإنسان يتقي الله عزّ وجلّ ويقوم بالعدل ويقوم باللازم، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولكن كما قلت أولاً : إذا كان عند عامة جفاة ، فالأحسن أن يبلغهم الشرع قبل أن يطبق ، من أجل أن تهدأ نفوسهم ، وإذا طُبق الشرع بعد ذلك إذا هم قد حصل عنده معلم منه ، فلم يحصل منهم نفور.
* * *
187- الخامس عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله لعيه وسلم قال: " مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " رواه البخاري" [289].
الشرح
(24/26)
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله عن النعمان بن بشير الإنصاري رضي الله عنهما ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل القائم في حدود الله والواقع فيها" القائم فيها يعني الذي استقام على دين الله فقام بالواجب ، وترك المحرم، والواقع فيها أي في حدود الله، أي الفاعل للمحرم أو التارك للواجب، كمثل قوم استهوا على سفينة يعني ضربوا سهماً، وهو ما يسمى بالقرعة، أيهم يكون الأعلى؟"فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء" يعني إذا طلبوا الماء ليشربوا منه " مروا على من فوقهم" يعني الذين في أعلاها؛ لأن الماء لا يقدر عليه إلا من فوق، " فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا" يعني لو نخرق خرقاً في مكاننا نستقي منه، حتى لا نؤذي من فوقنا، هكذا قدروا وأرادوا.
قال النبي عليه الصلاة والسلام:" فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً" لأنهم إذا خرقوا خرقاً في أسفل السفينة دخل الماء، ثم أغرق السفينة " وإن أخذوا على أيديهم" ومنعوهم من ذلك " نجوا ونجوا جميعاً"، يعني نجا هؤلاء وهؤلاء.
(24/27)
وهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسمل هو من الأمثال التي لها مغزّى عظيم ومعنى عال، فالناس ف يدين الله كالذين في سفينة في لجة النهر، فهم تتقاذفهم الأمواج، ولابد أن يكون بعضهم إذا كانوا كثيرين في الأسفل وبعضهم في أعلى، حتى تتوازن حمولة السفينة وقد لا يضيق بعضهم بعض، وفيه أن هذه السفينة المشتركة بين هؤلاء القوم إذا أراد أحد منهم أن يخربها فإنه لابد أن يمسكوا على يديه، وأن يأخذوا على يديه لينجوا جميعاً، فإن لم يفعلوا هلكوا جميعاً، هكذا دين الله، إذا أخذ العقلاء وأهل العلم والدين على الجهال والسفهاء نجوا جميعاً وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25).
وفي هذا المثل دليلٌ على أنه ينبغي لمعلم الناس ا، يضرب لهم الأمثال ، ليقرب لهم المعقول بصورة المحسوس، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت:43)، وكم من إنسان تشح له المعنى شرحاً كثيراً وتردده عليه فلا يفهم ، فإذا ضربت له مثلاً بشيء محسوس يفهمه ويعرفه.
(24/28)
وانظر إلى المثل العجيب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأعراب، صاحب بادية إبل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا رسول الله ، إن زوجتي ولدت غلاماً أسود- يعني وأنا أبيض والمرأة بيضاء. من أين جاءنا هذا الأسود؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" هل لك من إبل؟ قال : نعم قال: " ما ألوانها؟" قال: حمر. قال :" هل فيها من أورق؟" يعني أسود ببياض.قال: نعم. قال" من أين جاءها ذلك؟" قال: لعله نزعه عرق ، يعني ربما يكون له أجداد أو جدات سابقة لونها هكذا، فنزعة هذا العرق ، قال: " فابنك هذا لعله نزعه عرق" [290]، لعل واحداً من أجداده أو جداته أو أخواله أو آبائه لونه أسود فجاء الولد عليه ، فاقتنع الأعرابي تمام الاقتناع، لو جاءه النبي عليه الصلاة والسلام يشرح له شرحاً فهو اعرابي لا يعرف ، لكن أتاه بمثال من حياته التي يعيشها ، فانطلق وهو مقتنع.
وهكذا ينبغي لطالب العلم، بل ينبغي للمعلم أن يقرب المعاني المعقولة لأذهان الناس بضرب الأمثال المحسوسة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا الحديث إثبات القرعة وأنها جائزة. وقد وردت الآيات والأحاديث بالقرعة في موضعين من كتاب الله ، في ستة مواضع من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الموضعان من كتاب الله فالموضع الأول في سورة آل عمران: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران:44)، والموضع الثاني في سورة الصافات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات:139-144).
(24/29)
يونس عليه السلام أحد الأنبياء ركب مع قوم في سفينة فضاقت به، وقالوا: إن بقينا كلنا على طهرها هلكنا وغرقت، لابد أن ننزل بعضنا في البحر . فمن ننزل؟ أول راكب، أم أكبر راكب، أم أكبر بدناً؟ فعملوا قرعة، فصارت القرعة على جماعة منهم يونس، أو هو وحده؛ لأن الآية تقول (نساهم وكان من : إذا معه ناس ، نزلوهم ، والذين معه الله أعلم بهم لا نعرف ماذا صار لهم.
أما هو فالتقمه حوت عظيم، أي ابتلعه بلعاً دون أن يعلكه فصار في بطن الحوت، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلفظه الحوت على سيف البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين( يقطين) قال العلماء : إنها قرع النجد. قَرع النجد لين وأوراقه لينة كالإبريسم ، ومن خصائصه أنه لا يقع عليه الذباب فأنبت الله عليه شجرة من يقطين حتى ترعرع بعد أن بقي في بطن الحوت، ثم أنجاه الله عزّ وجلّ.
والقرعة من الأمور المشروعة الثابتة بالكتاب والسنة وقد ذكر أبن رجب رحمه الله في كتابه القواعد الفقهية، قاعدة في الأشياء التي تستعمل فيها القرعة ، من أول الفقه إلى آخره.
* * *
188-السادس : عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة رضية الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برى، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" قالوا : يا رسول الله ، ألا نقاتلهم؟ قال:" لا ،ما أقاموا فيكم الصلاة" رواه مسلم [291].
معناه : من كره بقلبه ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان فقد برى من الإثم، وأدى وظيفتهُ، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بفعلهم وتابعهم، فهو العاصي.
الشرح
(24/30)
في هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، أخبر عليه الصلاة والسلام " أنه يستعمل علينا أمراء" يعني يولون علينا من قبل ولي الأمر" فتعرفون وتنكرون" يعني أنهم لا يقيمون حدود الله، ولا يستقيمون على أمر الله ، تعرف منهم وتنكر ، وهم أمراء لولي الأمر الذي له البيعة، فمن كره فقد برىء ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع يعني أنه يهلك كما هلكوا. ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم : ألا نقاتلهم؟ قال :" لا، ما أقاموا فيكم الصلاة".
فدلّ هذا على أ،هم – أي الأمراء- إذا رأينا منهم ما ننكر، فإننا نكره ذلك، وننكر عليهم، فإن اهتدوا فلنا ولهم، وإن لم يهتدوا فلنا وعليهم، وأنه لا يجوز أن نقاتل الأمراء الذين نرى منهم المنكر؛ لأن مقاتلتهم فيها شر كثير، ويفوت بها خيرا كثير؛ لأنهم إذا قوتلوا أو نوبذوا لم يزدهم ذلك إلا شر، فإنهم أمراء يرون أنفسهم فوق الناس، فإذا نابذهم الناس أو قاتلوهم ؛ ازداد شرهم، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط ذلك بشرط، قال :" ما أقاموا فيكم الصلاة" فدل على أنه إذا لم يقيموا الصلاة فإننا نقاتلهم.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن ترك الصلاة كفر، وذلك لأنه لا يجوز قتال وُلاة الأمور إلا إذا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، فإذا إذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقاتلهم إذا لم يقيموا الصلاة ، دل ذلك على أن ترك الصلاة كفر بواح عندنا فيه من الله برهان.
وهذا هو القول الحق؛ أن تارك الصلاة تركاً مطلقاً ، لا يصلي مع الجماعة ولا في بيته كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة في الجنة، أو أنه مؤمن، أو أنه ناج من النار، أو ما أشبه ذلك .
فالواجب إبقاء النصوص على عمومها في كفر تارك الصلاة. ولم يأت أحدٌ بحجة تدل على أنه لا يكفر إلا حُججاً لا تنفع؛ لأنها تنقسم إلى خمسة أقسام:
1-…إما أنه ليس فيها دليلٌ أصلاً.
(24/31)
2-…وإما أنها مقيدة بوصف لا يمكن معه ترك الصلاة.
3-…وإما أنها مقيدة بحال يعذر فيه من ترك الصلاة.
4-…وإما أنها عامة خُصت بنصوص كفر ترك الصلاة.
5-…وإما أنها ضعيفة.
فهذه خمسة أقسام لا تخلو أدلة من قال إنه لا يكفر منها أبداً.
فالصواب الذي لا شك فيه عدي: أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة وأنه أشد كفراً من اليهود والنصارى؛ لأن اليهود والنصارى يُقرون على دينهم، وأما هو فلا يُقر ؛ لأنه مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قُتل.
* * *
189- السادس:عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقولُ: لا إله إلا الله" ويل للعرب من شرً قد أٌقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت:يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحُون؟ قال:" نعم إذا كثر الخبثُ" متفقٌ عليه [292].
الشرح
قال المؤلف رحمه الله – فيما نقله عن أم المؤمنين زينب بنت جحش- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم محمراً وجهُه يقول:" لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شر قد اقترب" دخل عليها بهذه الصفة ، متغير اللون، محمر الوجه يقول: لا أله إلا الله" تحقيقاً للتوحيد وتثبيتاً له؛ لأن التوحيد هو القاعدة التي تبنى عليها جميع الشريعة. قال الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) .
فتوحيد الله بالعبادة ، والمحبة ، والتعظيم، والإنابة، والتوكل ، والاستعانة، والخشية، وغير ذلك ، هو أساس الملة.
(24/32)
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" لا إله إلا الله " في هذه الحال التي كان فيها فزعاً متغير اللون، تثبيتاً للتوحيد وتطميناً للقلوب. ثم حذر العرب فقال : " ويل للعرب من شر قد اقترب" وهم حاملو لواء الإسلام فالله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم في الأميين، في العرب: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الجمعة:2-3)، فبين النبي عليهال صلاة والسلام هذا الوعيد للعرب ؛ لأنهم حاملوا لواء الإسلام.
وقوله: " من شر قد اقترب" الشرّ هو الذي يحصل بيأجوج ومأجوج ، ولهذا فسره بذلك فقال:" فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " وأشار بالسبابة والإبهام ، يعني انه جزء ضعيف ومع ذلك فإنه يهدّد العرب.
فالعرب الذين حملوا لواء الإسلام من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، مُهددون من قبل يأجوج ومأجوج المفسدين في الأرض، كما حكى تعالى عن ذي القرنين أنه قيل له: ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْض) فهم أهل الشر وأهل الفساد. ثم قالت زينب :" يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:" نعم إذا كثُر الخبث" الصالح لا يهلك وإنما هو سالمٌ ناج، لكن إذا كثر الخبث هلك الصالحون؛ لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25)، والخبث هنا يُراد به شيئان:
الأول: الأعمال الخبيثة.
والثاني: البشر الخبيث.
(24/33)
فإذا كثرت الأعمال الخبيثة السيئ في المجتمع ولو كانوا مسلمين، فإنهم عرضوا أنفسهم للهلاك. وإذا كُثر فيه الكفار فقد عرضوا أنفسهم للهلاك أيضاً. ولهذا حذّر النبي عليه الصلاة والسلام من بقاء اليهود والنصارى والمشركين في جزيرة العرب ، حذر من ذلك فقال:" أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب"[293]
وقال في مرض موته:" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"[294]
وقال في آخر حياته:" لئن عشتُ لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب"[295]
وقال:" لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً" [296] هكذا صحّ عنه عليه الصلاة والسلام . ومع الأسف الشديد الآن تجد الناس كأنما يتسابقون إلى جلب اليهود والنصارى والوثنيين إلى بلادنا للعمالة، ويدعي بعضهم أنهم أحسن من المسلمين. نعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
هكذا يلعب الشيطان بعقول بعض الناس حتى يفضل الكافر على المؤمن، والله عزّ وجلّ يقول: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(البقرة:221) .
فالحذر الحذر من استجلاب اليهود النصارى والوثنيين من البوذيين وغيرهم إلى هذه الجزيرة؛ لأنها جزيرة إسلام ، منها بدأ وإليها يعود ، فكيف نجعل هؤلاء الخبث بين أظهرنا وفي أولادنا ، وفي أهلنا ، وفي مجتمعنا . هذا مؤذنٌ بالهلاك ولابد.
ولهذا من تأمل أخوالنا اليوم وقارن بينها وبين أحوالنا بالأمس ، وجد الفرق الكبير ، ولولا الناشئة الطيبة التي من الله عليها بالالتزام ، والتي نسأل الله أن يثبتها عليه ، لولا هذا لرأيت شراً كثيراً ولكن لعل الله أن يرحمنا بعفوه، ثم بهؤلاء الشباب الصالح الذين لهم نهضة طيبة آدام الله عليهم فضله، وأعاذنا وإياهم من الشيطان الرجيم.
* * *
(24/34)
190- السابع: عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" إياكم والجلوس في الطرقاتِ" فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بدٌ ؛نتحدث فيهاّ ! فقال رسول اله صلى الله عليه وسلم :" فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حقٌ الطريق يا رسول الله قال:" غضٌ البصر، وكف الأذى، وردُّ السلام والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكرِ" متفقٌ عليه [297].
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله – فيما نقله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والجلوس في الطرقات" هذه الصيغة صيغة تحذير، يعني أحذركم من الجلوس على الطرقات، وذلك لأن الجلوس على الطرقات يؤدي إلى كشف عورات الناس؛ الذاهب والراجع، وإلى النظر فيما معهم من الأغراض التي قد تكون خاصة مما لا يحبون أن يطلع عليها أحد، وبما يفضي أيضاً إلى الكلام والغيبة فيمن يمر، إذا مرَّ من عندهم أحد أخذوا يتكلمون في عرضه.
المهم أن الجلوس على الطرقات يؤدي إلى مفاسد ، ولكن لما قال" إياكم والجلوس في الطرقات" وحذرهم . قالوا : يا رسول الله ، ما لنا من مجالسنا بدّ، يعني أننا نجلس نتحدث، ويأنس بعضنا ببعض، ويألف بعضنا بعضاً، ويحصل في ذلك خير.
فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام أنهم مصّممون على الجلوس قال:" فإن أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" ولم يشدّد عليهم عليه الصلاة والسلام، ولم يمنعهم من هذه المجالس التي يتحدث بعضهم فيها إلى بعض، ويألف بعضهم بعضاً، ويأنس بعضهم ببعض، ولم يشق عليهم في هذا ، وكان عليه الصلاة والسلام من صفته أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم فقال: " إن أبيتم إلا المجلس" يعني إلا الجلوس " فاعطوا الطريق حقه " قالوا: وما حقه يا رسول الله ؟ قال " غض البصر، وكفٌ الأذى ، وردُ السلام، والأمرُ بالمعروف ، والنهي عن المنكر" خمسة أشياء:
(24/35)
أولاً : غض البصر: أن تغضوا أبصاركم عمن يمر، سواء كان رجلاً أو امرأة، لأن المرأة يجب أن يغض الإنسان من بصره عنها. والرجل كذلك ، تغض المرأة البصر عنه، لا تُحد البصر فيه حتى تعرف ما معه. وكان الناس في السابق يأتي الرجل بأغراض البيت يومياً فيحملها في يده، ثم إذا مرّ بهؤلاء شاهدوها وقالوا: ما الذي معه؟ وما أشبه ذلك، وكانوا إلى قوت غير بعيد إذا مرّ الرجل ومعه اللحم لأهل بيته صاروا يتحدثون : فلان قد أتى اليوم بلحم لأهله، فلان أتي بكذا ، فلان أتى بكذا، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بغض البصر.
ثانياً: كف الأذى: أي كفّ الأذى القولي والفعلي.
أما الأذى القولي فبأن يتكلموا على الإنسان إذ مرّ، أو يتحدثوا فيه بعد ذلك بالغيبة والنميمة.
والأذى الفعلي : بان يضايقوه في الطريق ، بحيث يملؤون الطريق حتى يؤذوا المارة، ولا يحصل المرور إلا بتعب ومشقة.
ثالثاً: ردُ السلام: إذا سلم أحد فردوا عليه السلام، هذا من حق الطريق ؛ لأن السنة أن المار يسلم على الجالس، فإذا كانت السنة أن يسلم المار على الجالس فإذا سلم فردوا السلام.
رابعاً : الأمر المعروف: فالمعروف هو كلّ ما أمر الله تعالى به أو أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تأمر به، فإذا رأيتم أحداً مقصراً سواء كان من المارين أو من غيرهم فأمروه بالمعروف ، وحثوه على الخير ورغبوه فيه.
خامساً: النهي عن المنكر: فإذا رأيتم أحداً مرّ وهو يفعل المنكر، مثل أن يمرّ وهو يشرب الدخان أو ما أشبه ذلك من المنكرات، فأنهوه عن ذلك ، فهذا حق الطريق.
ففي هذا الحديث يُحذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من الجلوس على الطرقات، فإن كان لابد من ذلك ، فإنه يجب أن يعطى الطريق حقَّه.
(24/36)
وحق الطريق خمسة أمور؛ بينها النبي عليه الصلاة والسلام وهي :" غضُّ البصر ، وكف الأذى ، وردُ السلام، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " . هذه حقوق الطريق لمن كان جالساً فيه كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.
* * *
191- الثامن : عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجلٍ ، فنزعهُ فطرحهُ وقال:" يعمدُ أحدكم إلى جمرةٍ من نارٍ فيجعلها في يدهّ" فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم :" خذ خاتمك ؛ انتفع به قال: لا والله لا آخذهُ أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم [298].
الشرح
أتى المؤلف- رحمه الله – بهذا الحديث في باب :" الأمر المعروف والنهي عن المنكر"؛ لأن فيه تغيير المنكر باليد، فإن لباس الرجل الذهب محرم ومنكر، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الذهب والحرير ، أنهما أُحلا لنساء أمتي وحُُرما على ذكروها [299].
فلا يجوز للرجل أن يلبس خاتماً من ذهب ، ولا أن يلبس قلادة من ذهب، ولا أن يلبس ثياباً فيها أزرّةٌ من ذهب، ولا غير ذلك ، يجب أ ن يتجنب الذهب كله، وذلك أن الذهب إنما يلبسه من يحتاج إلى الزينة والتجمل، كالمرأة تتجمل لزوجها حتى يرغب فيها. قال الله عزّ وجلّ : (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف:18)، يعني النساء. فالنساء ينشأن في الحلية ويرُبين عليها (فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي عييّة لا تفُصح.
على كل حال : الذهب يحتاج إليه الناس للتجمل للأزواج، والرجل ليس بحاجة إلى ذلك. الرجل يتجملُ له ولا يتجملُ لغيره، اللهم إلا الرجل فيما بينه وبين زوجه، كل يتجمل للآخر ، لما في ذلك من الألفة ، ولكن مهما كان، فإن الرجل لا يجوز له أن يلبس الذهب بأي حال من الأحوال.
(24/37)
وأما لباس الفضة فلا بأس به، فيجوز أن يلبس الرجل خاتماً من فضة، ولكن بشرط أن لا يكون هناك عقيدة في ذلك، كما يفعله بعض الناس الذين اعتادوا عادات النصارى في مسألة " الدّبلة"، التي يلبسها البعض عند الزواج.
يقولون عن الدبلة : إن النصارى إذا أراد الرجل مهم أن يتزوج، جاء إليه القسيس وأخذ الخاتم ووضعه في أصابعه: إصبع بعد إصبع ، حتى ينتهي إلى ما يريد ثم يقول: هذا الرباط بينك وبين زوجتك، فإذا لبس الرجل هذه الدبلة معتقداً ذلك فهو تشبه بالنصارى، مصحوب بعقيدة باطلة، فلا يجوز حينئذ للرجل أن يلبس هذه الدبلة.
أما لو لبس خاتماً عادياً بغير عقيدة، فإن هذا لا بأس به.
وليس التختم من الأمور المستحبة؛ بل هو من الأمور التي إذا دعت الحاجة إليها فعلت وإلا فلا تفعل، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان لا يلبس الخاتم لكنه لما قيل له: إن الملوك والرؤساء لا يقبلون الكتاب إلا بختم، اتخذ خاتماً نقش في فصِّه :" محمد رسول الله " حتى إذا انتهى من الكتاب ختمه بهذا الخاتم.
وفي هذا الحديث دليلٌ على استعمال الشدة في تغيير المنكر إذا دعت الحاجة إلى ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له: إن الذهب حرام فلا تلبسه، أو فاخلعه؛ بل هو بنفسه خلعه وطرحه في الأرض.
ومعلوم أن هناك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين تغيير المنكر ؛ لأن تغيير المنكر يكون من ذي سلطة قادر، مثل الأمير من جعل له تغييره، ومثل الرجل في أهل بيته، والمرأة في بيتها وما شابه ذلك. فهذا له السلطة أن يغير بيده، فإذا لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.
أما الأمر فهو واجب بكلّ حال، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجب بكل حال؛ لأنه ليس فيه تغيير، بل فيه أمر بالخير ونهي عن الشر، وفيه أيضاً دعوة إلى الخير والمعروف وإلى ترك المنكر، فهذه ثلاث مراتب : دعوة ، وأمر ونهي، وتغيير.ن، يعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الهدى.
(24/38)
وأما الأمر : فإن يأمر أمراً موجهاً إلى شخص معين، أو إلى طائفة معينة . يا فلان احرص على الصلاة، واترك الكذب ، اترك الغيبة، وما أشبه ذلك.
أما التغيير : فإن يغير هذا الشيء، يزيله من المنكر إلى المعروف ، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين نزع الخاتم من صاحبه نزعاً ، وطرحه على الأرض طرحاً .
وفيه أيضاً دليلٌ على جواز إتلاف ما يكون به المنكر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام طرحه لما نزعه من يده ولم يقل له: خذه وأعطه أهلك مثلاً، ولهذا كان من فقه هذا الرجل أنه لما قيل له : خذ خاتمك، قال : لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه فهم أن هذا من باب التعزيز وإتلافه عليه ؛ لأنه حصلت به المعصية، والشيء الذي تحصل به المعصية أو ترك الواجب، لا حرج على الإنسان أن يتلفه انتقاماً من نفسه بنفسه، كما فعل نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام ، حين عُرضت عليه الخيل الجياد، ولهى بها حتى غربت الشمس فاشتغل بها عن صلاة العصر ففاتته، ثم دعا بها عليه الصلاة والسلام وجعل يضربها، يعقرها ويقطع أعناقها، كما قال تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (صّ:33)، أتلقها انتقاماً من نفسه ، لرضا الله عزّ وجلّ.
فإذا رأى الإنسان أن شيئاً من ماله ألهاه عن طاعة الله، وأراد أن يتلفه أنتقاماً من نفسه وتعزيزاً لها، فإن ذلك لا بأس به.
(24/39)
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن لبس الذهب موجب للعذاب بالنار والعياذ بالله ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :" يعمد أحدكم على جمرة من نار فيضعها في يده" فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا جمرة من نار، يعني يعذب بها يوم القيامة، وهو عذاب جزئي أي على بعض البدن، على الجزء الذي حصلت به المخالفة. ونظير قوله صلى الله عليه وسلم فيمن جرّ ثوبه أسفل الكعبين قال:" ما أسفل من الكعبين ففي النار"[300] ونظيره أيضاً حين قصر الصحابة في غسل أرجلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ويلٌ للأعقاب من النار" [301]
فهذه ثلاثة نصوص من السنة كلها فيه إثبات أن العذاب بالنار قد يكون على جزء معين من البدن.
وفي القرآن أيضاً من ذلك كقوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) (التوبة:35) ، ومواضع معينة، فالعذاب كما يكون عاماً على جميع البدن، قد يكون خاصاً ببعض أجزائه وهو ما حصلت به المخالفة .
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً : بيان كمال صدق الصحابة رضي الله عنهم في إيمانهم ، فإن هذا الرجل لما قيل له: خذ خاتمك انتفع به. قال : لا آخذ خاتماً طرحه النبي عليه الصلاة والسلام ، وذلك من كمال إيمانه رضي الله عنه . ولو كان ضعيف الإيمان ، لأخذه وانتفع به؛ ببيعٍ أو بإعطائه أهله أو ما أشبه ذلك.
(24/40)
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً : أن الإنسان يستعمل الحكمة في تغيير المنكر، فهذا الرجل استعمل معه النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام شيئاً من الشدة . لكن الأعرابي الذي بال في المسجد لم يستعلم معه النبي عليه الصلاة والسلام الشدة [302]، ولعل ذلك لأن هذا الذي لبس خاتم الذهب علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان عالماً بالحكم ولكنه متساهل، بخلاف الأعرابي، فإنه كان جاهلاً لا يعرف ، جاء ووجد هذه الفسحة في المسجد ، فجعل يبول، يحسب نفسه أنه في البر!! ولما قال إليه الناس يزجرونه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وكذلك استعمل النبي صلى الله عليه وسلم اللين مع معاوية بن الحكم السلمي- رضي الله عنه – حين تكلم في الصلاة، وكذلك مع الرجل الذي جامع زوجته في نهار رمضان ، فلكلّ مقام مقال.
فعليك- يا أخي المسلم – أن تستعمل الحكمة في كل ما تفعل وكل ما تقول، فإن الله تعالى يقول في كتابه : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)، نسأل الله أن يجعلنا ممن أوتي الحكمة ونال بها خيراً كثيراً.
* * *
193- العاشر : عن حذيفة رضي الله عنهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" والذي نفسي بيده، لتأمرون بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجابُ لكم" رواه الترمذي، وقال : حديثٌ حسنٌ [303].
الشرح
(24/41)
قوله عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده" هذا قسم، يقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالله؛ لأنه هو الذي أنفُس العباد بيده جل وعلا، يهديها إن شاء ، ويضلها إن شاء ، ويميتها إن شاء، ويبقيها إن شاء، فالأنفس بيد الله هدايةً وضلالة ، وإحياءًً وإماتة، كما قال الله تبارك وتعالى : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس:7، 8) ، فالأنفس بيد الله وحده، ولهذا أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يقسم كثيراً بهذا القسم: (والذي نفسي بيده) وأحياناً يقول:" (والذي نفس محمد بيده) ؛ لأن نفس محمد صلى الله عليه وسلم أطيبُ الأنفس ، فأقسم بها لكونها أطيب الأنفس.
ثم ذكر المقسم عليه ، وهو أن نقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو يعمنا الله بعقاب من عنده حتى ندعوه فلا يستجيب لنا. نسأل الله العافية.
وقد سبق لنا عدة أحاديث كلها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحذير من عدمه، فالواجب علينا جميعاً أن نأمر بالمعروف ، فإذا رأينا أخاً لنا قد قصّر في واجب أمرناه به وحذرناه من المخالفة، وإذا رأينا أخاً لنا قد أتى منكراً نهيناه عنه وحذرناه من ذلك، حتى نكون أمة واحدة؛ لأننا إذا تفرقنا وصار كل واحد منا له مشرب؛ حصل بيننا من النزاع والفرقة والاختلاف ما يحصل ، فإذا اجتمعنا كلنا على الحق؛ حصل لنا الخير والسعادة والفلاح.
وفي هذا الحديث دليلٌ على جواز القسم دون أن يُطلب من الإنسان أن يقسم ، ولكن هذا لا ينبغي إلا في الأمور التي لها أهمية ولها شأن، فهذه يقسم عليها الإنسان، أما الشيء الذي ليس له أهمية ولا شأن ، فلا ينبغي أن تحلف عليه إلا إذا استحلفت للتوكيد فلا بأس.
(24/42)
فهذا دليلٌ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فرض، وهو من أهم واجبات الدين وفروضه، حتى إن بعض العلماء عدّه ركناً سادساً من أركان الإسلام. والصحيح أنه ليس ركناً سادساً، لكنه من أهم الواجبات وأفرض الفروض. والأمة إذ لم تقم بهذا الواجب، فإنها سوف تتفرق بها الأهواء، وسيكون كل قوم لهم منهاج يسيرون عليه، لكنهم إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، اتفق منهاجهم وصاروا أمة واحدة كما أمرهم الله بذلك: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110)،(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:104-105) .
ولكن على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلاحظ مسألة مهمة، وهي أن يكون قصده بذلك إصلاح أخيه، لا الانتقام منه والاستئثار عليه؛ لأنه ربما إذا قصد الانتقام منه والاستئثار عليه يُعجب بنفسه وبعمله، ويحقر أخاه، وربما يستبعد أن يرحمه الله، ويقول : هذا بعيدٌ من رحمة الله ، ثم ذلك يحبط عمله. كما جاء ذلك في الحديث الذي صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رجلاً قال لرجل آخر مسرف على نفسه:" والله لا يغفر الله لفلان" فقال الله عزّ وجلّ :" من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرتُ له، وأحبطت عملك[304].
فانظر إلى هذا الرجل ؛ تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، هلك كلّ عمله وسعيه؛ لأنه حمله إعجابه بنفسهن وإحتفاره لأخيه، واستبعاده رحمة الله على أن يقول هذه المقالة ، فحصل بذلك أن أوبقت هذه الكلمة دنياه وآخرته.
(24/43)
فالمهم أنه يجب على الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يستحضر هذا المعنى، أن يكون قصده الانتصار لنفسه أو الانتقام من أخيه ، بل يكون كالطبيب المخلف قصده دواء هذا المربض، الذي مرض بالمنكر فيعمل على أن يعالجه معالجة تقيه شر هذا المنكر، أو ترك واجباً فيعالجه معالجةً تحمله على فعل الواجب. وإذا علم الله من نيته الإخلاص، جعل في سعيه بركة، وهدى به من شاء من عباده، فحصل على خير كثير، وحصل منه خير عظيم، والله الموفق.
* * *
194- الحادي عشر: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أفضلُ الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائرٍ" رواه أبو داود ، والترمذي [305]، وقال : حديث حسنٌ.
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله- فيما نقله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند سلطان جائر".
فللسطان بطانتان: بطانة السوء، وبطانة الخير.
بطانة السوء: تنظر ماذا يريد السلطان ، ثم تزينه له وتقول : هذا هو الحق ، هذا هو الطيب، وأحسنت وأفدت، ولو كان – والعياذ بالله – من أجور ما يكون، تفعل ذلك مداهنة للسلاطين وطلباً للدنيا.
أما بطانة الحق: فإنها تنظر ما يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وتدل الحاكم عليه ، هذه هي الباطنة الحسنة.
وكلمة الباطل عند سلطان جائر، هذه – والعياذ بالله- ضد الجهاد.
وكلمة الباطل عند سلطان جائر، تكون بأن ينظر المتكلم ماذا يريد السلطان فيتكلم به عنده ويزينه له.
وقول كلمة الحق عند سلطان جائر من أعظم الجهاد. وقال :" عند سلطان جائر" لأن السلطان العادل، كلمة الحق عنده لا تضر قائلها؛ لأنه يقبل ، أما الجائر فقد ينتقم من صاحبها ويؤذيه.
فالآن عندنا أربع أحوال:
1-…كلمة حق عند سلطان عادل، وهذه سهلة.
2-…كلمة باطل عند سلطان عادل، وهذه خطيرة؛ لأنك قد تفتن السلطان العادل بكلمتك، بما تزينه له من الزخارف.
(24/44)
3-…كلمة حق عند سلطان جائر، وهذه أفضل الجهاد.
4-…كلمة باطل عند سلطان جائر، وهذه أقبح ما يكون.
فهذه أقسام أربعة، لكن أفضلها كلمة الحق عند السلطان الجائر .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يقول الحق ظاهراً وباطناً على نفسه وعلى غيره.
* * *
197- الرابع عشر : : عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنهُ- قال: يا أيها الناسُ أنكم لتقرؤون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمَْ) (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" رواه أبو داود والترمذي[306]، والنسائي بأسانيد صحيحة.
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى-فيما نقله عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: إما بعد أيها الناس، فإنكم تقرؤون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمَْ) (المائدة: 105)، وهذه الآية ظاهرها أن الإنسان إذا اهتدى بنفسه فإنه لا يضره ضلالُ الناس؛ لأنه استقام بنفسه، فإذا استقام بنفسه فشأن غيره على الله عزّ وجلّ. فقد يفسرها بعض الناس ويفهم منها معنى فاسداً، يظن أن هذا هو المراد بالآية الكريمة وليس كذلك، فإن الله اشترط لكون من ضلّ لا يضرنا أن نهتدي فقال: (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمَْ).
(24/45)
ومن الاهتداء : أن نأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فإذا كان هذا من الاهتداء، فلابد أن نسلم من الضرر، وذلك بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال رضي الله عنه : وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أو فلم يأخذوا على يد الظالم ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" يعني أنهم يضرهم من ضلّ إذا كانوا يرون الضال ولا يأمرونه بالمعروف، ولا ينهونه عن المنكر، فإنه يوشك أن يعمهم الله بالعقاب؛ الفاعل والغافل، الفاعل للمنكر، والغافل الذي لم ينه عن المنكر.
وفي هذا دليلٌ على أنه يجب على الإنسان العناية بفهم كتاب الله عزّ وجلّ، حتى لا يفهمه على غير ما أراد الله، وأن الناس قد يظنون المعنى على خلاف ما أراد الله في كتابه ، فيضلوا بتفسير القرآن، ولهذا جاء في الحديث الوعيد على من قال في القرآن برأيه، أي فسره بما يرى ويهوى ، لا بمقتضى اللغة العربية والشريعة الإسلامية، فإذا فسر الإنسان القرآن بهواه ورأيه فليتبوأ مقعده من النار.
أما من فسره بمقتضى اللغة العربية، وهو ممن يعرف اللغة العربية، فهذا لا إثم عليه؛ إن القرآن نزل باللسان العربي، فيفسر بما يدل عليه .وكذلك إذا كانت الكلمات قد نقلت من المعنى اللغوى إلى المعنى الشرعي، وفسرها بمعناها الشرعي فلا حرج عليه.
فالمهم أنه يجب على الإنسان أن يكون فاهماً لمراد الله عزّ وجلّ في كتابه ، وكذلك لمراد النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، حتى لا يفسرهما إلا بما أراد الله ورسوله، والله الموفق.
* * *
277 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم (49).
278 تقدم تخريجه ص (163).
279 أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق...، رقم (2593)
(1) تقدم تخريجه (ص
280 تقدم تخريجه ص (348).
281 أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة أبن هشام (4/78) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/141- 142).
(24/46)
282 أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم :" سترون بعدي أموراً..." رقم (7056) وكتاب الأحكام ، باب كيف يبايع الإمام الناس ، رقم (7199-7200)، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ، رقم (1709م).
283 أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، رقم (1847).
284 أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل..، رقم (1828).
285 أخرجه مسلم، كتاب الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل، رقم (142م)
286 أخرجه البخاري، كتاب الأحكام ، باب من استرعى رعية فلم ينصح، رقم (7150)، ومسلم ،كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل...، واللفظ له ، رقم (142م).
287 أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في كراهية الرشوة، رقم (3580)، والترمذي ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي، رقم (1337)، وابن ماجه ، كتاب الأحكام، باب التغليظ في الحيف والرشوة، رقم (2313) وأحمد في المسند (2/164، 190)، والترمذي : حسن صحيح.
288 أخرجه البخاري، كتاب الأدب ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر...، رقم (6018)، ومسلم ، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيق ولزوم الصمت ، رقم (47)
289 أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، رقم (2493).
290 أخرجه البخاري ، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، رقم(5305) ومسلم، كتاب اللعان، رقم(1500).
291 أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع رقم (1854)
292 أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب إخراج يأجوج ومأجوج، رقم (7135) ، ومسلم ، كتبا الفتن، باب اقتراب الفتن..، رقم (1880).
(24/47)
293 قال الحافظ في " تلخيص الحبير" ( 4/139) عن هذا اللفظ :متفق عليه بلفظ: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أ .هـ ولم يشر رحمه الله إلى هذا اللفظ أو إلى مكان وجوده في شيء من المصنفات. والله أعلم.
294 أخرجه البخاري ، كتاب الجزية ، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، رقم (3168)، ومسلم ، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه ، رقم (1637).
295 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/32) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
296 أخرجه مسلم ، كتاب الجهاد والسير باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، رقم (1767).
297 أخرجه البخاري، كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها..، رقم (2465)، ومسلم ، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات، رقم (2121).
298 أخرجه مسلم ، كتاب اللباس والزينة، باب في طرح خاتم الذهب، رقم (2090).
299 رواه النسائى، كتاب الزينة، باب تحريم الذهب على الرجال رقم (5145).
300 أخرجه البخاري كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، رقم (5787).
301 أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، رقم (60) وكتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، رقم (163) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما ، رقم (241).
301 أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، رقم (60) وكتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، رقم (163) ، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما ، رقم (241).
302 أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، رقم (220) ومسلم ، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات...، رقم (284)
303 أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (2169).
304 أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة، باب النهي من تقنيط الإنسان من رحمة الله، رقم (2621).
(24/48)
305 أخرجه أبو داود، كتاب الفتن والملاحم باب الأمر والنهي ، رقم (4344) ، والترمذي ، كتاب الفتن، باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ، رقن (2174).
306 أخرجه أبو داود ، كتاب الفتن والملاحم، باب الأمر والنهي، رقم (4338) ، والترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر ، رقم (2168) ، وقال حديث صحيح ، وابن ماجه ، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (4005)، وأحمد في المسند (1/2).
(24/49)
24- باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهي عن منكر وخالف قوله فِعله
قال الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44) ، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3) ، وقال تعالى إخباراً عن شُعيب صلى الله عليه وسلم : ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ )(هود:88).
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى-: باب تغليظ عقوبة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر وخالف فعله قوله" لما كان الباب الذي قبله في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كان المناسب ذكر هذا الباب في تغليظ عقوبة من أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله – والعياذ بالله – وذلك أن من هذه حالة ، لا يكون صادقاً في أمره ونهيه؛ لأنه لو كان صادقاً في أمره، معتقداً أن ما أمر به معروف، وأنه نافع؛ لكان هو أول من يفعله لو كان عاقلاً. وكذلك لو نهى عن منكر وهو يعتقد أنه ضار، وأن فعله إثم؛ لكان أول من يتركه لو كان عاقلاً. فإذا أمر بمعروف ولم يفعله، أو نهى عن منكر وفعله؛ علم أن قوله هذا ليس مبنياً على عقيدة والعياذ بالله .
ولهذا أنكر الله على فعل ذلك فقال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة:44) والاستفهام هنا للإنكار ، يعني : كيف تأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم فلا تفعلونه، وأنتم تتلون الكتاب وتعرفون البر من غير البر ( أَفَلا تَعْقِلُونَ؟)هذا الاستفهام للتوبيخ؛ يقول لهم : كيف يقع منكم هذا الشيء؟ أين عقولكم لو كنتم صادقين؟
(25/1)
مثال ذلك : رجل يأمر الناس بترك الربا، ولكنه يتعامل به أو يفعل ما هو أعظم منه فهو يقول للناس مثلاً: لا تأخذوا الربا في معاملات البنوك، ثم يذهب هو فيأخذ الربا بالحيلة والمكر والخداع، ولم يعلم أن ما وقع هو فيه من الحيلة والمكر والخداع أكبر ذنباً ، وأعظم إثماً، ممن أتى الأمر على وجهه.
ولهذا قال أيوب السختياني- رحمه الله – في أهل الحيل والمكر : " أنهم يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون" وصدق رحمه الله .
كذلك أيضاً رجل يأمر الناس بالصلاة، ولكنه هو نفسه لا يصلي!! فيكيف يكون هذا؟ كيف تأمر بالصلاة، وترى أنها معروف ، ثم لا تصلي؟ هل هذا من العقل ؟ ليس من العقل فضلاً أن يكون من الدين ، فهو مخالف للعقل ، وسفه في الدين نسأل الله العافية.
* * *
وقال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)(الصف:2-3)
الشرح
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) خاطبهم بالإيمان ؛ لأن مقتضى الإيمان ألا يفعل الإنسان هذا، وألا يقول ما لا يفعل، ثم وبخهم بقوله: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) ثم بيّن أن هذا الفعل مكروه عند الله ، مبغضٌ عنده أشد البعض، فقال: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) والمقت: قال العلماء: هو أشد البغض، فالله تعالى يبغض الرجل الذي هذه حاله؛ يقول ما لا يفعل ، ويبين الله عزّ وجلّ لعباده أن ذلك مما يبغضه من أجل أن يبتعدوا عنه؛ لأن المؤمن حقاً يبتعد عما نهى الله عنه.
(25/2)
وقال عن شعيب: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْه)(هود:88) ، يعني انه يقول لقومه : لا يمكن أن أنهاكم عن الشرط، وأنهاكم عن نقص المكيال والميزان وأنا أفعله، لا يمكن أبداً؛ لأن الرسل عليهم السلام هم أنصح الخلق للخلق ، وهم أشد الناس تعظيماً لله، وامتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه، فلا يمكن أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه فيفعله.
وفي هذا دليلٌ على أن الإنسان الذي يفعل ما ينهى عنه، أو يترك ما أمر به مخالف لطريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم لا يمكن أن يخالفوا الناس إلى ما ينهونهم عنه. وستأتي الأحاديث إن شاء الله في بيان عقوبة من ترك ما أمر به، أو فعل ما نهى عنه، والله الموفق.
* * *
198- وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " يؤتى بالرجل يوم القيامة فليقي في النار ، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدورُ الحمارُ في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى كنت أمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه" متفق عليه .(1)
قولهُ" تندلقُ" هو بالدلٍ المهملة ، ومعناه تخرجُ و " الأقتابُ " : الأمعاءُ، واحدُها قتب.
الشرح
هذا الحديث فيه التحذير الشديد من الرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه ، وينهى عن المنكر ويأتيه، والعياذ بالله .
يقول: " يؤتى بالرجل يوم القيامة" أي تأتي به الملائكة ، فيلقى في النار إلقاء ، لا يدخلها برفق، ولكنه يلقى فيها كما يلقى الحجر في اليمّ، وتندلق أقتاب بطنه، يعني أمعاءه، الأقتاب : جمع قتب وهو المعني، ومعنى تندلق : تخرج من بطنه من شدة الإلقاء- والعياذ بالله .
(25/3)
" فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا" وهذا التشبيه للتقبيح، شبهه بالحمار الذي يدور على الرحا، وصفة ذلك: أنه في المطاحن القديمة قبل أن توجد هذه المعدات الجديدة ، كان يُجعل حجران كبيران وينقشان فيما بينهما أي ينقران، ويوضع للأعلى منها فتحة تدخل منها الحبوب ، وفيها خشبة تربط بمتن الحمار، ثم يستدير على الرحا، وفي استدارته تطحنُ الرحا.
فهذا الرجل الذي يلقى في النار يدور على أمعائه- والعياذ بالله – كما يدور الحمار على رجاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون له : ما لك؟ أي شيء جاء بك إلى هنا ، وأنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول مقراً على نفسه:" كنت آمر بالمعروف ولا آتيه" يقول للناس " صلوا ولا يصلي. ويقول لهم : زكوا أموالكم ولا يزكى. ويقول : بروا الوالدين ، ولا يبر والديه، وهكذا يأمر بالمعروف ولكنه لا يأتيه.
" وأنهى عن المنكر وآتيه" يقول للناس: لا تغتابوا الناس ، لا تأكلوا الربا، لا تغشوا في البيع، لا تسيئوا العشرة، لا تسيئوا الجيرة، وما أشبه ذلك من الأشياء المحرمة التي ينهى عنها ، ولكنه يأتيها والعياذ بالله ، يبيع بالربا، ويغش، ويسيء العشرة، ويسئ إلى الجيران وغير هذا، فهو بذلك يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه – نسأل الله العافية- فيعذب هذا العذاب ويخزى هذا الخزي.
فالواجب على المرء أن يبدأ بنفسه فيأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر؛ لأن أعظم الناس حقاً عليك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسك.
ابدأ بنفسٍك فانهها عن غيها
………………فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
ابدأ بها ثم حاول نصح إخوانك ، وأمرهم بالمعروف ، وانههم عن المنكر ، لتكون صالحاً مصلحاً. نسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصالحين المصلحين، إنه جواد كريم.
* * *
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق ، باب صفة النار وأنها مخلوقة ، رقم (3397)، ومسلم، با عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله…، رقم (3989).
(25/4)
25- باب الأمر بأداء الأمانة
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء:58)
الشرح
قال المؤلف رحمه الله – : باب الأمر بأداء الأمانة.
الأمانة : تطلق على معان متعددة، منها ما ائتمنه الله على عباده من العبادات التي كلفهم بها ، فإنها أمانة اتئمن الله عليها العباد.
ومنها : الأمانة المالية، وهي الودائع التي تعطى للإنسان ليحفظها لأهلها ، وكذلك الأموال الأخرى التي تكون بيد الإنسان، لمصلحته أو مصلحة مالكها، وذلك أن الأمانة التي بيد الإنسان ؛ إما أن تكون لمصلحة مالكها ، أو لمصلحة من هي بيده ، أو لمصلحتهما جميعاً .
فأما الأول: فالوديعة؛ الوديعة تجعلها عند شخص ، تقول مثلاً : هذه ساعتي عندك احفظها لي، أو هذه دراهم احفظها لي وما أشبه هذا ، فهذه وديعة بقيت عنده لمصلحة مالكها.
وأما التي لمصلحة من هي بيده: فالعارية يعطيك شخص شيئاً يعيرك إياه من إناء ، أو فراش، أو ساعة، أو سيارة، فهذه بقيت في يدك لمصلحتك.
أما التي لمصلحة مالكها ومن هي بيده: فالعينُ المستأجرة، فهذه مصلحتها للجميع؛ استأجرت مني سيارة ، وأخذتها ، فأنت تنتفع بها في قضاء حاجتك، وأنا أنتفع بالأجرة. وكذلك البيت والدكان وما أشبه ذلك. كل هذه من الأمانات.
ومن الأمانة أيضاً: أمانة الولاية وهي أعظمها مسؤولية، الولاية العامة والولايات الخاصة، فالسلطان مثلاً الرئيس الأعلى في الدولة، أمين على الأمة كلها ، على مصالحها الدينية ومصالحها الدنيوية، على أموالها التي تكون في بيت الماس، لا يبذرها ، ولا ينفقها في غير مصلحة المسلمين وما أشبه ذلك.
وهناك أمانات أخرى دونها، كأمانة الوزير مثلاً في وزارته، وأمانة الأمير في منطقته ، وأمانة القاضي في عمله، وأمانة الإنسان في أهله، المهم أن الأمانة باب واسعٌ جداً وأصلها أمران:
أمانة في حقوق الله : وهى أمانة العبد في عبادات الله عزّ وجلّ.
(26/1)
وأمانة في حقوق البشر" وهي كثيرة جداً ، وقد أشرنا إلى شيء منها، وكلها يؤمر الإنسان بأدائها: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ، تأمل هذه الصيغة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ) صيغة قوة وسلطان لم يقل: أدوا الأمانة ، ولم يقل : إني آمركم ولكن قال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ) بأمركم بألوهيته العظيمة، يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، فأقام الخطاب مقام الغائب تعظيماً لهذا المقام ولهذا الأمر ، وهذا كقول السلطان – ولله المثل الأعلى – إن الأمير يأمركم ، أن الملك يأمركم ، فذها أبلغ وأقوى من قوله : إني آمركم كما قال ذلك علماء البلاغة.
(أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)ومن لازم الأمر بأداء الأمانة إلى أهلها الأمر بأداء الأمانة إلى أهلها ؛ الأمر بحفظها ؛ لأنه لا يمكن أداؤها إلى أهلها إلا بحفظها . وحفظها إلا يتعدى فيها ولا يفرك، بل يحفظها حفظاً تاماً ليس فيه تعدّ ولا تفريط، حتى يؤديها إلى أهلها .
وأداء الأمانة من علامات الإيمان: فكلما وجدت الإنسان أميناً فيما يؤتمن عليه ، مؤدياً له على الوجه الأكمل ؛ فاعلم أنه قوي الإيمان . وكلما وجدته خائناً ؛ فاعمل أنه ضعيف الإيمان.
ومن الأمانات : ما يكون بين الرجل وصاحبه من الأمور الخاصة التي لا يحب أن يطلع عليها أحد، فإنه لا يجوز لصاحبه أن يخبر بها، فلو استأمنك على حديث حدثك به ، وقال لك : هذا أمانة، فإنه لا يحلّ لك أن تخبر به أحداً من الناس، ولو كان أقرب الناس إليك. سواء أوصاك بأن لا تخبر به أحداً، أو عُلم من قرائن الأحوال أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد .ولهذا قال العلماء: إذا حدثك الرجل بحديث والتفت فهذه أمانة، لماذا؟ لأنه كونه يلتفت ، فإنه يخشى بذلك أن يسمع أحدٌ ، إذاً فهو لا يحب أن يطلع عليه أحد، فإذا ائتمنك الإنسان على حديث ، فإنه لا يجوز لك أن تفشيه.
(26/2)
ومن ذلك أيضاً : ما يكون بين الرجل وزوجته من الأشياء الخاصة ، فإن شر الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة، الجل يفضي على امرأته وتفضي إليه، ثم يتحدث بما جرى بينهما، فلا يجوز للإنسان أن يتحدث بما جرى بينه وبين زوجته.
وكثيرٌ من الشباب السفهاء يتفكهون في المجالس بذكر تلك الخصوصيات ، يقول الواحد منهم: فعلت بامرأتي كذا وكذا، من الأمور التي لا تحب هي أن يطلع عليها أحد. وكذلك كل إنسان عاقل له ذوقٌ سليم، لا يحب أن يطلع أحد علي ما جرى بينه وبين زوجته.
إذاً علينا أن نحافظ على الأمانات، وأول شيء أن نحافظ على الأمانات التي بيننا وبين ربنا، لأن حقّ ربنا أعظم الحقوق علينا ، ثم بعد ذلك ما يكون من حقوق الخلق الأولى فالأولى.
( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) فأثنى الله عزّ وجلّ على ما يعظنا به من الأوامر التي يريد منا فعلها ، والنواهي التي يريد منا تركها، ثم ختم الآية بقوله:( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(النساء:58)، سميعاً لما تقولون، بصيراً بما تفعلون ، وختم الآية بهذين الاسمين الكريمين المتضمنين لشامل سمع الله وبصره يقتضي التهديد، فهو يهدد عزّ وجلّ من لم يقم بأداء الأمانات إلى أهلها ، والله الموفق.
وقال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72)
الشرح
(26/3)
ذكر المؤلف- رحمه الله – قوله تعالى: : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) عرض الله الأمانة وهي التكليف والإلزام بما يجب ، على السموات والأرض والجبال، ولكنها أبت أن تحملها لما فيها من المشقة، ولما تخشى هذه الثلاثة – الأرض والجبال والسموات – من إضاعتها .
فإن قال قائل: كيف يعرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال ، وهي جماد ليس لها عقل ولا تشعر.
فالجواب: أن كلّ جماد فهو بالنسبة لله عزّ وجلّ عاقل يفهم ويمتثل. أرأيت إلى قوله تعالى فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله تعالى لما خلق القلم قال له " اكتب". فخاطب الله القلم وهو جماد ، وردّ عليه القلم قال: " وماذا اكتب؟" لأن الأمر مجمل، ولا يمكن الامتثال للأمر المجمل إلا ببيانه ، قال " اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" فكتب القلب بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة[306]. هذا أمر وتكليف وإلزام.
فهنا بين الله عزّ وجلّ أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال ، فأبت أن تحملها.
وقال تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت:11)
(26/4)
، فخاطبها بالأمر وقال: ائتيا طوعاً أو كرهاً ، فقالتا : أتين طائعين. ففهمت السموات والأرض خطاب الله ، وامتثلتا وقالتا : أتينا طائعين ، وعصاه بني آدم يقولون: سمعنا وعصينا.وفضله به على كثير ممن خلق تفصيلا. والرسل الذين أرسلهم الله عز وجل للإنسان . ويبينوا لهم الحق من الضلال، فلم يبق لهم عذر، ولكن مع ذلك وصف الإنسان بأنه مظلوم جهول، فاختلف العلماء هل " الإنسان" هنا عام ، أم خاصّ بالكافر، فقال بعض العلماء : إنه خاص بالكافر ، فهو الظلوم الجهول. أما المؤمن فهو ذو عدل وعلم وحكمة ورشد. وقال بعض العلماء: بل هو عام والمراد الإنسان بحسب طبيعته ، أما المؤمن فإن اله من عليه بالهداية ، فيكون مستثنى من هذا ، وإياً كان فمن قام بالأمانة انتفى عنه وصف الظلم والجهالة التي في قول الله تعالى ( وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(الأحزاب:72)
فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على أداء ما حملناه ، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم.
* * *
189- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسمل قال:" آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان" متفقٌ عليه[307] .
وفي رواية :" وإن صام وصلى وزعم انهُ مسلمٌ"[308].
الشرح
الآية: يعني العلامة، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) (الشعراء:197) ، يعني أو لم يكن لهم علامة على صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحة وشريعته، وأن هذا القرآن حق : (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ) ويعلمون انه هو الذي بشّر به عيسى عليه الصلاة والسلام، وكذلك قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (يّس:41) آية يعنى علامة. فعلامة المنافق ثلاث.
(26/5)
والمنافق هو الذي يسرٌ الشر ويظهر الخير. ومن ذلك : أن يسر الكفر ويظهر الإسلام . وأصله مأخوذ من نافقاء اليربوع.اليربوع- الذي نسميه الجربوع- يحفر له جحراً في الأرض ويفتح له باباً ثم يحفر في أقصى الجُحر خرقاً للخروج، لكنه خرق خفي لا يعلم به، بحيث إذا حجره أحد من عند الباب ، ضرب هذا الخرق الذي في الأسفل برأسه ثم هرب منه. فالمنافق يظهر الخير ويبطن الشر ، يظهر الخير ويبطن الكفر.
وقد برز النفاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر، لما قُتلك صناديد قريش في بدر ، وصارت الغلبة للمسلمين ، ظهر النفاق ، فأظهر هؤلاء المنافقون أنهم مسلمون وهم كفار ، كما قال الله تعالى (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة:14)، وقال الله تعالى (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة:15)، وقال عنهم أيضاً : (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه) يؤكد كلامهم بالشهادة و "بأن" و " اللام" فقال الله تعالى : (ِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1 ).
فشهد شهادة اقوى منها بأنهم لطاذبون في قولهم :( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) في أن محمداً رسول الله ، ولهذا استدرك فقال: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) .
والمنافق له علامات ، يعرها الذي أعطاه الله تعالى فراسة ونوراً في قلبه، يعرف المنافق من تتبع أحواله.
(26/6)
وهناك علامات ظاهرة لا تحتاج إلى فراسة؛ منها هذه الثلاث التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا حدث كذب" يقول مثلاً: فلأن فعل كذا وكذا، فإذا بحثت وجدته كذب، وهذا الشخص لم يفعل شيئاً، فإذا رأيت الإنسان يكذب؛ فاعمل أن في قلبه شعبة من النفاق.
الثاني: " إذا وعد أخلف" يعدك ولكن يخلف، يقول لك مثلاً: سآتي إليك في الساعة السابعة صباحاً ولكن لا يأتي، أو يقول : سآتي إليك غداً بعد صلاة الظهر ولكن لا يأتي .؟ يقول : أعطيك كذا وكذا ، ولا يعطيك، فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا وعد أخلف "، والمؤمن إذا وعد وفى، كما قال الله تعالى : ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)(البقرة: 177)، لكن المنافق يعدك ويغرك ، فإذا وجدت الرجل يغدر كثيراً بما يعد، ولا يفي، فاعلم أن في قلبه شعبة من النفاق والعياذ بالله.
الثالث: " إذا اؤتمن خان" وهذا الشاهد من هذا الحديث للباب . فالمنافق إذا ائتمنته على مال خانك، وإذا ائتمنته على سر بينك وبينه خانك ، وإذا ائتمنته على أهلك خانك، وإذا ائتمنته على بيع أو شراء خانك. كلما ائتمنته على شيء يخونك والعياذ بالله ، يدلّ ذلك على أن في قلبه شعبة من النفاق .وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر لأمرين:
الأمر الأول: أن نحذر من هذه الصفات الذميمة ؛ لأنها من علامات النفاق، ويخشى أن يكون هذا النفاق العملي مؤدياً إلى نفاق في الاعتقاد والعياذ بالله ، فيكون الإنسان منافقاً نفاقاً اعتقادياً فيخرج من الإسلام وهو لا يشعر فأخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام لنحذر من ذلك.
(26/7)
الأمر الثاني: لنحذر من يتصف بهذه الصفات ، ونعلم أنه منافق يخدعنا ويلعب بنا ، ويغرنا بحلاوة لفظه وحسن قوله، فلا نثق به ولا نعتمد عليه في شيء؛ لأنه منافق والعياذ بالله، وعكس ذلك يكون من علامات الإيمان . فالمؤمن إذا وعد أوفى. والمؤمن إذا ائتمن أدى الامانة على وجهها ، وكذلك إذا حدّث كان صادقاً في حديثه مخبراً بما هو الواقع فعلاً.
ومن الأسف فإن قوماً من السفهاء عندنا إذا وعدته بوعد يقول:" وعد انجليزي ام وعد عربي" يعني أن الإنجليز هم الذين يوفون بالوعد، فهذا بلا شك سفه وغرور بهؤلاء الكفرة، والإنجليز فيهم مسلمون ومؤمنون ولكن جملتهم كفار، ووفاؤهم بالوعد لا يبتغون به وجه الله ، لكن يبتغون به أن يحسنوا صورتهم عند الناس ليغتر الناس بهم.
والمؤمن في الحقيقة هو الذي يفي تماماً فيمن أوفي بالوعد ؛ فهو مؤمن ، ومن أخلف الوعد ؛ كان فيه من خصال النفاق.
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النفاق العملي والعقدي، أنه جواد كريمٌ.
* * *
(26/8)
200-وعن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما ، وأنا انتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعملوا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال:" ينام الرجل النومة فتقبض الأمانةُ من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومةً، فتقبض الأمانةُ من قلبهِ فيظلُ أثرها مثل المجلِ، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراهُ منتبرا وليس فيه شيءُ" ثم أخذ حصاة فدحرجه على رجلهِ" فيصبح الناسُ يتبايعون، فلا يكادُ أحدٌ يؤدي الأمانة حتى يقالَ: إن في بني فُلانٍ رجُلاً أميناً ، حتى يقال للرجل : ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، ولقد أتى علي زمانٌ وما أُبالي أيكم بايعتُ: لئن كان مسلماً ليردنه على دينهُ، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه على ساعيه، وأما اليوم فما كنتُ أُبايع منك إلا فُلاناً وفُلاناً " متفق عليه [309].
قوله :" جذر" بفتحِ الجيمِ وإسكان الذالِ المعجمةِ: وهو أصلُ الشيء. و "الوكت" بالتاء المثناة من فوقُ: الأثر اليسيرُ،" والمجلُ" بفتح الميم وإسكان الجيم، وهو تنفظ في اليد ونحوها من أثرِ عمل وغيره .قوله:" منتبرا" مُرتفعاً قوله:" ساعيه" الوالي عليه.
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى – فيما نقله عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه – قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه أحياناً بما يراه مناسباً، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا حدث بشيء، فإنه حديث له وللأمة إلى يوم القيامة. وحذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- يُقال له: صاحب السر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسمل حدثه عن قوم من المنافقين، علهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر بهم حذيفة، وكانوا نحو ثلاثة عشر رجلاً ، سماهم بأسماءهم.
(26/9)
وكان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – لشدة خوفه من الله، يلتقى بحذيفة فيقول: أنشدك الله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من سمى من المنافقين؟ هذا وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي هو أفضل هذه الأمة بعد نبيها وأبي بكر بضي الله عنهم أجمعين، فهو الثاني بعد الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة، وله من اليقين والمقامات العظيمة ما هو معلوم ، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام:" إن يكن فيكم محدثون فعمر" [310]يعني إن كان فيكم أحد ملهم للصواب فهو عمر، يمدحه ويثني عليه لموافقته للصواب، وإيمانه رضي الله عنه معروف مشهور ومع ذلك يقول : " أنشدك الله هل سماني لك رسول الله مع من سماهم من المنافقين؟ فيقول حذيفة: لا . ولا أزكي بعدك أحداً [311].
فذكر رضي الله عنه ما حدثه به النبي صلى الله عليه وسلم من نزع الأمانة من قلوب الرجال، فقوله صلى الله عليه وسلم : "إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال" يعني في أصلها ، ثم أنزل عليهم من القرآن والسنة ما يثبت ويؤيد هذا الأصل ، فجاء القرآن والسنة مؤيداً الفطرة التي فطر الناس عليها ، وعلموا من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فازدادوا بذلك إيماناً وثباتاً وأداءً للأمانة.
ولكن أخبر بالحديث الثاني أن هذه الأمانة سوف تنزع من قلوب الرجال والعياذ بالله ، تنزع فيصبح الناس يتحدثون أن في بني فلان رجلاً أميناً، يعني أنك لا تكاد تجد في القبيلة رجلاً واحداً أميناً ، والباقي كلهم على خيانة ، لم يؤدوا الأمانة.
ولقد شاهد الناس اليوم مصداق هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تستعرض الناس رجلاً رجلاً حتى تبلغ إلى حدّ المائة أو المئات، لا تجد الرجل الأمين الذي أدى الأمانة كما ينبغي في حق الله ولا في حقِّ الناس.
(26/10)
قد تجد رجلاً أميناً في حق الله ، ويؤدي الصلاة ، ويؤدى الزكاة ، ويصوم ، يحج، يذكر الله كثيراً ، يسبح ، لكنه في المال ليس أميناً، إن وكل إليه عملٌ حكومي فرط وصار لا يأتي للدوام إلا متأخراً، ويخرج قبل انتهاء الوقت، ويضيع الأيام الكثيرة في أشغاله الخاصة، ولا يبالي ، مع أنك تجده في مقدمة الناس في المساجد، وفي الصدقات ، وفي الصيام، وفي الحج، لكنه ليس أميناً من جهة أخرى.
كذلك تجد الرجل أميناً في عبادة الله ، يقيم الصلاة ، ويؤتى الزكاة ويصوم ، ويحج، ويتصدق ، لكنه ليس أميناً في وظيفته، يعرف أنه لا يجوز للموظف أن يتاجر أو يفتح محل تجارة، ولكنه لا يبالي ، ويفتح محل تجارة، إما باسمه صريحاً ، أو باسم مستعار، وإما برجل أجنبي يجعله في هذا الدكان وما أشبه ذلك. فيكذب ، ويخون الدولة، ويأكل المال بالباطل، ويكون هذا المال الذي يكسبه من كسب حرام مانعاً من إجابة دعوته ، والعياذ بالله.
قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(المؤمنون:51)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، اشعث أغبر يمدُ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام، وغُذي بالحرام ،فإني يستجاب لذلك" [312].
(26/11)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" أني يستجاب لذلك" بعيد أن يستجيب الله لهذا الرجل، الذي هو أشعث أغبر ، يمد يديه للسماء : يا رب يا رب، ومع ذلك يبعد أن الله يستجيب له؛ لأنه يأكل الحرام. هذا الذي يكون موظفاً بمقتضى عقد الوظيفة فإنه يمنع من مزاولة التجارة، ثم يزاول التجارة، فكلُ كسب كسبه من هذه التجارة فهو حرام عليه، سحت والعياذ بالله ولا يبالي، نقول لمثل هذا : أنت الآن بالخيار؛ إن شئت أن تبقي على الوظيفة فاترك التجارة، وأن رأيت أن التجارة أنسب لك وأكثر فائدة فاترك الوظيفة.
أمران لا يجتمعان حسب العهد الذي بينك وبين الدولة، أنت تعرف أن الدولة تمنع من مزاولة التجارة فلماذا تتاجر؟
قال الله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة:1) ، (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً)(الاسراء:34)، يتعلل بعض الناس فيقول: كيف تمنعوني من التجارة وهناك وزراء يتاجرون بالأراضي وعندهم شركات كبيرة، فنقول : إذا ضلّ الناس لم يكن ضلالهم هدى، وإذا كانوا هم ضالين ظالمين بما صنعوا فلا تضل أنت، فإذا قال مثلاً: هذه النظم جاءت من تحت أيديهم، هم الذين شرعوها فكيف يخالفونها؟ نقول : حسابهم على الله ، سيكونون هم أول من يحزن ويتحسر على ما صنع يوم القيامة، حيث لا مال عندهم يفدون به أنفسهم ، ولا خدم ولا حراس يحجزون عنهم، ولا نسب ولا قرابة تنفعهم. فأنت لا تتخذ من مخالفات الناس دليلاً وسلماً لمعصية الله، ولكن عليك بالوفاء بما عاهدت غيرك عليه، وإن كان غيرك يخالف ذلك فليس لك أن تخالفه أنت.
نسأل الله لنا ولكم الهداية، وأن يجعلنا وإياكم من الأمناء المؤدين للأمانة في حق الله وحق عباده.
* * *
(26/12)
201-وعن حذيفة ، وأبي هريرة- رضي الله عنهما – قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنةُ، فيأتُون آدم صلواتُ الله عليه، فيقولُون : يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقولُ: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئةُ أبيكم ! لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى إبني إبراهيم خليل الله ، قال : فيأتون إبراهيم فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليما، فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك؛ اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانةُ والرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمر أولكم كالبرقِ" قلتُ: بأبي وأمي، أي شيءٍ كمر البرقِ؟ قال :" ألم تروا كيف يمرُ ويرجعُ في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ثم كمر الطيرِ، وشد الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائماٌ على الصراط يقول: رب سلم سلم ، حتى تعجز أعمالُ العبادِ حتى يجيء الرجلُ لا يستطيع السير إلا زحفا، وفي حافتي الصراط كلاليبُ معلقةٌ مأمورةٌ بأخذ من أمرت به ، فمخدوشٌ ناجٍ ونكردسٌ في النار" والذي نفسُ أبي هريرة بيدهِ إنّ قعر جهنم لسبعون خريفاً" رواه مسلم [313].
قوله :" وراء وراء" هو بالفتح فيهما وقيل : بالضم بلا تنوين ومعناه: لست بتلك الدرجة الرفيعة، وهي كلمةٌ تذكرُ على سبيل التواضُعِ. وقد بسطت معناها في شرح صحيح مسلم، والله أعلم.
الشرح
(26/13)
قال المؤلف رحمه الله – فيما نقله عن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما في حديث الشفاعة. وذلك أن النبي صلى الله عيه وسلم وعده ربهُ أن يبعثه مقاماً محموداً فقال جل وعلا: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) (الاسراء:79)، وإذا جاءت "عسى" من الله فهي واجبة، بخلاف "عسى" من الخلق، فإنها للترجي. فإذا قلت: عسى الله أن يهديني، عسى الله أن يغفر لي، عسي الله أن يرحمني، فهذا رجاء. أما إذا قال الله " عسى" فهذا وعد لذلك قالوا:" عسى من الله واجبة" مثل قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) (النساء:99)، وقوله (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِه)(المائدة:52)، وما أشبه ذلك.
فالله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبعثه مقاماً محموداً ، أي مقاماً يحمد فيه الأولون والآخرون ، وذل من عدة أوجه: منها حديث الشفاعة، فإن الناس يُبعثون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ، حفاة ليس عليهم نعال، وعرأة ليس عليهم ثياب وغرلاً أي غير مختونين، يعني أن الجلدة التي تقطع في الختان للطهارة تعود يوم القيامة كما قال تعالى: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ )(الانبياء:104).
فيجمع الله الخلائق، والشمس فوقهم قدر ميل، أهوال عظيمة ، يشاهدون الجبال تمر مرّ السحاب، تكون هباءً منثوراً، فيلحقهم من الهمّ والغمّ ما لا يطيقون ، فيقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون من يشفع لنا عند الله ، فيذهبون إلى آدم فيطلبونه للشفاعة، فيذكر خطيئته التي وقعت منه.
(26/14)
والخطيئة التي وقعت منه هي أن الله سبحانه وتعالى قال له ولزوجه حين أسكنهما الجنة : ( وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)(البقرة:35)، شجرة عيَّنها الله عزَّ وجلّّ وليس لنا في معرفة نوعها كبير فائدة، ولهذا فنحن لا نعرف نوع هذه الشجرة؛ هل هي من شجر الزيتون ، أم من الحنطة، أم من العنب، أم من النخل، لا ندري، فالواجب أن نبهمها كما ابهمها الله عزّ وجلّ، ولو كان لن في تعيينها فائدة لعينها الله عزّ وجلّ.
فقال عزّ وجلّ لآدم وحواء: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)(البقرة:35)، فأتاهما الشيطان فوسوس لهما، ودلاهما بغرور ، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، وهكذا يفعل في بني آدم، يغرهم ويغريهم ويوسوس لهم ويقسم إني ناصح وهو كذوب.
(26/15)
فيذكر خطيئته هو وزوجته أنه أكل من هذه الشجرة ، فأمرهم الله عزّ وجلّ أن يهبطا من الجنة الي الأرض؛ فهبطا إلى الأرض وكانت منهم هذه الذرية التي منها الأنبياء والرسل والشهداء والصالحون، ثم يعتذر بهذا العذر، وفي هذا الحديث – أعني حديث الشفاعة- أن آدم يعتذر بأكله من الشجرة دليلٌ على أن القصة التي رويت عن أبن عباس أن حواء حملت فجاءها الشيطان فقال: سمي الولد عبد الحارث أو لأجعلن له قرن إيل فيخرج من بطنك فيشقه فأبيا أن يطيعا، وجاءهم في المرة الثانية، فأبيا أن يطيعا، فجاءهما في المرة الثالثة فأدركهما حبّ الولد فسمياه عبد الحارث. وجعل ذلك تفسيراً لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (لأعراف:189-190)، فإن هذه القصة قصة مكذوبة ليست بصحيحة، من وجوه:
الأول:أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه القصة من الأخبار التي لا تتلقى إلا عن طريق الوحي.
الثاني: أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء.
الثالث: أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة فيعتذر بأكله من الشجرة وهو معصية، ولو وقع منه الشرك لكان اعتذاره به أقوى و أولى وأحرى. فهذه الوجوه وغيرها تدل على أنه لا يجوز أن يعتقد أن آدم وحواء يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال.
(26/16)
يعتذر آدم عن الشفاعة فيأتي الناس نوحاً عليه السلام وهو أول رسول أرسله الله إلى الأرض، فيخاطبه الناس بهذه المنقبه فيقولون له: أنت أول رسول بعثه الله إلى الأرض اشفع لنا عند ربك[314] فيعتذر؛ لأنه سأل ربه ما ليس له به علم وذلك حين قال: ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(هود: من الآية45) .
وكان لنوح ولد كافر به. والده رسول ولكنه كفر بالرسول والعياذ بالله ؛ لأن النسب لا ينفع الإنسان. فابن العالم لا يأتي عالماً، بل قد يكون جاهلاً ، وكذلك ابن العابد لا يأتي عابدأً، وقد يكون فاسقاً فاجراً ، ابن الرسول لا يكون مؤمناً بل هذا ابن نوح عليه السلام أحد أبنائه كان كافراً كان أبوه يقول : ( يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)(هود: 42) فيجيبه قائلاً: ( سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (هود:43) .
غرق الولد مع الكافرين- والعياذ بالله – وكان نوحٌ قد قال ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين.
فيعتذر نوح بأنه سأل ما ليس له به علم ، والشافع لا يكون بينه وبين المشفوع إليه جفوة؛ بل لا بد أن يكون بينهما صلى قوية لا يخدشها شئ مع أن نوحاً عليه الصلاة والسلام غفر الله له، وآدم غفر الله له، اجتباه ربُه فتاب عليه ، فغفر الله له، ولكن لكمال مرتبتهم وعلو مقامهم ، جعلوا هذا الذنب الذي غفر لهم جعلوه مانعاً من الشفاعة، كل هذا تعظيماً لله عزّ وجلّ وحياء منه، وخجلاً منه.
(26/17)
ثم يأتون إلى إبراهيم خليل الله عزّ وجلّ عليه الصلاة والسلام ، فيعتذر ويقول : إنه كذب في ذات الله ثلاث كذبات، وهذه الكذبات التي كذبها ليست كذباً في الواقع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد تأوّل فيها ، والتأول ليس بكذب، لكن لشدة لله عزّ وجلّ، رأى أن هذا مانع للشفاعة أي من أن يتقدم للشفاعة لأحد.
ثم يأتون موسى عليه الصلاة والسلام ويقولون له: إن الله كلمك ، وكتب لك التوراة بيده، فيعتذر بأنه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها ، وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام كان من أشد الرجال وأقواهم ، فمرّ ذات يوم برجلين يقتتلان، هذا من شيعته ، يعني من بني إسرائيل، وهذا من عدوه يعني من آل فرعون من القبط، فاستغاثة الذي من شيعته على الذي عدوّه، يعني طلب منه أن يغيثه وأن يعينه على هذا الرجل، فوكزه موسى إي وكز الذي من عدوه فقضى عليه ، أي هلك ومات بوكزة واحدة؛ لأنه كان قوياً شديداً عليه الصلاة والسلام. فقال ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)(القصص:15)
وفي الصباح وجد صاحبه الذي كان بالأمس وجده يتنازع مع شخص آخر ، قال تعالى (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (القصص:18)
، يعني بالأمس كنت تنازع رجلاً واليوم تنازع آخر، فهم موسى أن يبطش بالذي هو عدو لهما فقال الإسرائيلي (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ)(القصص: 19)وكان الناس يتحسسون من الذي قتل الرجل بالأمس؟ ففطن لذلك الفرعوني، فأخبر الناس أن موسى قاتله ، فالشاهد من ذلك أن موسى عليه السلام يعتذر إلى الخلق يوم القيامة؛ لأنه قتلك نفساً لم يؤمر بقتلها.
ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ويقولون له : أنت كلمة الله وروحه.
كلمة الله : يعني إنك خُلقت بكلمة الله.
(26/18)
وروحه: أي أنك روح من أرواح الله عزّ وجلّ التي خلقها ، فيعتذر ولكنه لا يذكر ذنباً ، أو لا يذكر شيئاً يعتذر به، فيحيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسمل فيقوم فيؤذن له ، فيشفع . فيشفع في الناس حتى يُقضى بينهم.
وفي هذا الحديث الذي ذكره المؤلف رحمه الله: أنّ الأمانة والرحم تقفان على جانبي الصراط.
والصراط: جسر ممدود على متن جهنم. واختلف العلماء في هذا الجسر، هل هو جسر واسع أو هو جسر ضيق، ففي بعض الروايات أنه أدق من الشعر وأحدُ من السيف[315]، ولكن الناس يعبرون عليه ، والله على كل شيء قدير. وفي بعض الروايات ما يدل على أنه طريق دخض ومزلة[316].
وعلى هذا الجسر كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ، فمن الناس من يخطف فيلقى في النار، ومنهم من يمر سريعاً كلمح البرق، ومنهم من يمر كركاب الإبل أو كالريح حسب درجاتهم وأعمالهم ، تجرى بهم أعمالهم ، كل من كان في هذه الدنيا أسرع إلى التزام صراط الله عز وجل واتباع شريعته ،كان على هذا الصراط أسرع مروراً ، ومن كان متباطئاً عن الشرع في الدنيا ، كان سيره هناك بطيئاً ، ودعا الرسل يومئذ:" اللهم سلّم سلّم" كلٌّ يخاف على نفسه؛ لأن الأمر ليس بهين، الأمر شديد .الناس فيه أشد ما يكونون خوفا ًووجلاً حتى يعبر هذا الصراط إلى الجنة.
ومن الناس من يكردس في نار جهنم ويعذب على حسب عمله.
أما الكفار الخلص فإنهم لا يصعدون على هذا الصراط ولا يمرون عليه، بل يذهب بهم إلى جهنم قبل أن يصعدوا هذا الصراط، ويذهبون إلى جهنم ورداً، إنما يصعده المؤمنون فقط، لكن من كان له ذنوب لم تغفر فإنه قد يقع في نار جهنم ، ويعذب بحسب أعماله ، والله أعلم.
* * *
306 أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4700) ، والترمذي، كتاب القدر، باب رقم (17)حديث رقم (2155)، والإمام أحمد في المسند (5/317)
(26/19)
307 أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق ، رقم (33) ، ومسلم، كتاب الإيمان ، باب بيان خصال المنافق، رقم (59)
308 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق ، رقم (59)
309 أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة ، رقم (6497)، ومسلم ، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب ...، رقم (143)
310 أخرجه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب مناقب عمر بن الخطاب رقم (3689)، ومسلم ، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر...، رقم (2398).
311 أخرجه الخرائطي في مساوىء الأخلاق رقم (309).
312 أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، رقم (1015).
313 أخرجه مسلم كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، رقم (195)
314 في هذه الرواية التي ذكرها النووي رحمه الله ، أحالهم آدم عليه السلام على إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر نوح عليه السلام، وفي حديث الشفاعة المطول المتفق عليه أحالهم آدم عليه السلام على نوح، انظر البخاري، كتاب التفسير باب ( ذرية من حلمنا مع نوح..) ، رقم (4712) ، ومسلم ، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، رقم (194)
315 رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (183).
316 رواه مسلم ، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية ، رقم (183).
(26/20)
26- باب تحريم الظلم والأمر بردّ المظالم
قال الله تعالى( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاع)(غافر:18) وقال تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)(الحج:71).
وأما الأحاديثُ فمنها حديث أبي ذر رضي الله عنه المتقدمُ في آخر باب المجاهدة[317].
203- وعن جابر – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتقوا الظلم فإن الظلم ؛ ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" [318]رواه مسلم.
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى-: "باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم" يعني إلى أهلها . هذا الباب يشتمل على أمرين:
الأمر الأول: تحريم الظلم
والأمر الثاني: وجوب ردّ المظالم.
واعلم أن الظلم هو النقص، قال الله تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (الكهف:33) ، يعني لم تنقص منه شيئاً، والنقص إما أن يكون بالتجرؤ على ما لا يجوز للإنسان، وإما بالتفريط فيما يجب عليه . وحينئذٍ يدور الظلم على هذين الأمرين، إما ترك واجب ، وإما فعل محرم.
والظلم نوعان: ظلم يتعلق بحق الله عز وجلّ ، وظلم يتعلق بحق العباد ، فاعظم الظلم هو المتعلق بحق الله تعالى والإشراك به، فإن النبي صلى الله عليه وسمل سئل: أي الذنب أعظم؟ فقال :" أن تجعل لله نداً وهو خلقك ويليه[319] الظلم في الكبائر، ثم الظلم في الصغائر.
(27/1)
أما في حقوق عباد الله فالظلم يدور على ثلاثة أشياء، بينها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع ، فقال :" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا [320]، في بلدكم هذا" الظلم في النفس هو الظلم في الدماء، بأن يعتدي الإنسان على غيره، بسفك الدماء أو الجروح أو ما أشبه ذلك، والظلم في الأموال بأن يعتدي الإنسان ويظلم غيره في الأموال، إما بعدم بذل الواجب، وإما بإتيان محرم، وإما بان يمتنع من واجب عليه ، وإما بأن يفعل شيئاً محرماً في مال غيره.
وأما الظلم في الأعراض فيشمل الاعتداء على الغير بالزنا، واللواط ، والقذف ، وما أشبه ذلك.
وكل الظلم بأنواعه محرم ، ولن يجد الظالم من ينصره أما الله تعالى قال الله تعالى ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً إي صديقاً ينجيه من عذاب الله ، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيُطاع؛ لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه، فالظالم لن يجد من ينصره يوم القيامة، وقال تعالى ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(البقرة: 270)، يعني لا يجدون انصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم.
(27/2)
ثم ذكر المؤلف –رحمه الله – حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال :"اتقوا الظلم" اتقوا : يعني احذروا، والظلم هو كما سبق يكون في حق الله، ويكون في حق العباد ، فقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الظلم " أي : لا تظلموا أحداً، لا أنفسكم ولا أنفسكم ولا يغركم،" فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" ويوم القيامة ليس هناك نور إلا من أنار الله تعالى له، وأما من لم يجعل الله له نواراً فما له من نور، والإنسان إن كان مسلماً فله نور بقدر إسلامه، ولكن إن كان ظالماً فقد من هذا النور بمقدار ما حصل من الظلم، لقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة".
ومن الظلم: مطل الغني يعني أن لا يوفى الإنسان ما عليه وهو غني به لقوله صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظُلم [321]" وما أكثر الذين يماطلون في حقوق الناس ، يأتي عليه صاحب الحق فيقول : يا فلان أعطني حقي فيقول : غداً ، فيأتيه من غدٍ فيقول: بعد غدٍ وهكذا، فإن هذا الظلم يكون ظلمات يوم القيامة على صاحبه.
" وأتقوا الشحَّ" الحرص على المال" فإنه أهلك من كان قبلكم" لأن الحرص على المال- نسأل الله السلامة- يوجب للإنسان أن يكسب المال من أي وجه كان، من حلال أو حرام؛ بل قال النبي عليه الصلاة والسلام: " حملهم" إي حمل من كان قبلنا" على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" يسفك الشحيح الدماء إذا لم يتوصل إلى طمعه إلا بالدماء ، كما هو الواقع عند أهل الشحّ، يقطعون الطريق على المسلمين ، ويقتلون الرجل ، ويأخذون متاعه، ويأخذون بعيره، وكذلك أيضاً يعتدون على الناس في داخل البلاد ، يقتلونهم ويهتكون حجب بيوتهم ، فيأخذون المال بالقوة والغلبة.
(27/3)
فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من أمرين: من الظلم ومن الشحّ . فالظلم هو الاعتداء على الغير ، والشح هو الطمع فيما عند الغير . فكل ذلك محرم ، ولهاذ قال الله تعالى في كتابه: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9) ، فدلت الآية على أن من لم يوق شح نفسه فلا فلاح له. المفلح من وقاه الله شحّ نفسه. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الظلم، وأن يقينا شح أنفسنا وشرورها.
* * *
204- وعن أبي هريرة رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لتؤدون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم [322].
الشرح
في هذا الحديث أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق بغير قسم . أقسم أن الحقوق ستؤدى على أهلها يوم القيامة، ولا يضيع لأحد حقٌ ، الحق الذي لك إن لم تستوفه في الدنيا استوفيته في الآخرة ولابد، حتى إنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
الجلحاء: التي ليس لها قرن.
والقرناء: التي لها قرن. والغالب أن التي لها اقرن إذا ناطحت الجلحاء التي ليس لها قرن تؤذيها أكثر، فإذا كان يوم القيامة قضى الله بين هاتين الشاتين، واقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
هذا وهي بهائم لا يعقلن ولا يفهمن ؛ لكن الله عزّ وجلّ حكم عدل، أراد أن يُري عباده كمال عدله حتى في البهائم العجم، فكيف ببني آدم!!
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن البهائم تُحشر يوم القيامة وهو كذلك ، وتحشر الدوابّ، وكل ما فيه روح يحشر يوم القيامة، قال الله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)(الأنعام:38)، أمم كثيرة، أمة الذر، أمة الطيور، أمة السباع، أمة الحيّات وهكذا ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام:38).
(27/4)
وكل شيء مكتوب ، حتى أعمال البهائم والحشرات مكتوبة في اللوح المحفوظ ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير:4-5)، يحشر يوم القيامة كل شيء ، يقضى الله تعالى بينهم بحكمه وعدله ، وهو السميع العليم، يقتص من البهائم بعضها مع بعض، ومن الآدميين بعضهم مع بعض، ومن الجن بعضهم مع بعض، ومن الجن والإنس بعضهم مع بعض، لأن الإنس قد يعتدون على الجن، والجن قد يعتدون على الإنس، فمن عدوان الجن على الإنس الشيء الكثير، من عدوان الإنس على الجن أن يستجمر الإنسان بالعظم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بالعظام وقال:" إنها زاد إخوانكم من الجن [323]" الجن يجدون العظام ، فإذا استجمر أحد بها فقد اعتدى عليهم وكدرها عليهم، ويخشى أن يؤذوه إذا أذاهم بها.
على كل حال ففي يوم القيامة يُقتص للمظلوم من الظالم ، ويؤخذ من حسنات الظالم إلا إذا نفدت حسناته؛ فيؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه . قال النبي عليه الصلاة والسلام :" من تعدون المفلس فيكم" – أي الذي ليس عنده شيء- قالوا: المفلس من لا درهم عنده ولا متاع. قال:" المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل الجبال ، فيأتي وقد ضرب هذا ، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء، وإلا أخذ من سيئاتهم فطُرحت عليه ، ثم طرح في النار [324]".
لابد أن يقتص للمظلوم من الظالم ، ولكن إذا أخذ المظلوم بحقه في الدنيا ، فدعا على الظالم بقدر مظلمته، واستجاب الله دعاءه فيه، فقد اقتص لنفسه قبل أن يموت ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ:" واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [325]"
(27/5)
فإذا دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا واستجيب لدعائه فقد اقتصّ منه في الدنيا، أما إذا سكت فلم يدع عليه ولم يعفف عنه فإنه يتقصّ له منه يوم القيامة، والله المستعان.
* * *
205- وعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: كنا نتحدث عن حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجةُ الوداع، حتى حمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأثني عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، وقال :" ما بعث الله من نبي إلا أنذره أمتهُ: أنذرهُ نوح والنبيون من بعده، وإنه إن يخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم، إن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى، كان عينه عنبةٌ طافيةٌ. ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، إلا هل بلغت؟ " قالوا: نعم ، قال :" اللهم أشهد – ثلاثاً – ويلكم، أو ويحكم، انظروا : لا ترجعُوا : بعدي كفاراً يضربُ بعضكم رقاب بعضٍ" رواه البخاري [326]. وروى مسلم بعضه[327].
الشرح
(27/6)
قال المؤلف – رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: ما حجة الوداع، ولا ندري ما حجة الوداع، وحجة الوداع هي الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، وودعّ الناس فيها وقال:" لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا[328]" ولم يحجّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا هذه المرة فقط، وقد ذُكر أنه حجّ قبل الهجرة مرتين، ولكن الظاهر- والله أعمل – أنه حج أكثر؛ لأنه كان هناك في مكة ، وكان يخرج في الموسم يدعو الناس والقبائل إلى دين الله عزَّ وجلّ فيبعد أنه يخرج ولا يحجّ، وعلى كل حال الذي همنا أنه صلى الله عليه وسلم حجّ في آخر عمره في السنة العاشرة من الهجرة، ولم يحج قبلها بعد هجرته ، وذلك لأن مكة كانت بأيدي المشركين إلى السنة الثامنة، ثم خرج بعد ذلك إلى الطائف، وغزا ثقيفاً وحصلت غزوة الطائف المشهورة ، ثم رجع بعد هذا ونزل في الجعرانة، وأتي بعمرة ليلاً، ولم يطلع عليه كثير من الناس، ثم عاد إلى المدينة . هذا في السنة الثامنة.
وفي السنة التاسعة كانت الوفود تردُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كل ناحية ، فبقي في المدينة ، ليتلقى الوفود، حتى لا يثقل عليهم بطلبه ، حتى إذا جاء الوفود إلى المدينة وجدوا النبي صلي صلى الله عليه وسلم ولم يتعبوا في طلبه ويحلقونه يميناً وشمالاً ، فلم يحجّ في السنة التاسعة لتلقي الوفود. هذا من وجه.
(27/7)
ومن وجه آخر: في السنة التاسعة حجَّ مع المسلمين المشركون؛ لأنهم لم يمنعوا من دخول مكة، ثم منعوا من دخول مكة، وانزل الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )(التوبة:28) ، وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. وكان أمير الناس في تكل الحجة- أعني حجة سنة تسع- أبا بكر رضي الله عنه- ثم أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيحج، وقدم المدينة بشرٌ كثير يقدّرون بنحو مائة ألف، والمسلمون كلهم مائه وأربعة وعشرون ألفاً، أي لم يتخلف عن المسلمين إلا القليل ، فحجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحجة التي سميت" حجة الوداع" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها بقوله:" لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" فصار الأمر كذلك، فإنه تُوفي بعد رجوعه من المدينة في ربيع الأول، أي بعد حجه . فمضي محرم وصفر وأثنا عشر يوماً من ربيع الأول صلوات الله وسلامه عليه.
كان صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يخطب الناس . فخطبهم في عرفة ، وخطبهم في منى، فذكر المسيح الدجال، وعظّم من شأنه، وحذر منه تحذيراً بالغاً ، وفعل ذلك أيضاً في المدينة، ذكر الدجال وحذر منه، وبالغ في شأنه ، حتى قال الصحابة : كنا نظنُّ أنه في أفراخ النخل أي قد جاء ودخل، من شدة قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنه ما من نبي إلا أنذره قومه ، فكل الأنبياء ينذرون قومهم من الدجال، يخوفونهم ويعظمون شأنه عندهم.
(27/8)
وإنما كانوا ينذرون قومهم الدجال مع أن الله يعلم أنه لن يكون إلا في آخر الدنيا، من أجل الاهتمام به ، وبيان خطورته، وأن جميع الملل تحذر منه، لأن هذا الدجال- وقانا الله وإياكم فتنته وأمثاله- يأتي إلى الناس، يدعوهم إلى أن يعبدوه، ويقول : أنا ربكم ، وإن شئتم أريتكم أني ربكم ، فيأمر السماء يقول لها : أمطري فتُمطر، ويأمر الأرض فيقول لها : أنبتي فتنبت ، أما إذا عصوا أمر الأرض فأمحلت، والسماء فقحطت، وأصبح الناس ممحلين. هذا لا شك أنه خطر عظيم ، لاسيما في البادية التي لا يتعرف إلا الماء والمرعى، فيتبعه أناسٌ كثيرون إى من عصم الله .
ومع هذا فله علامات بينة تدل على أنه كذاب.
منها: أنه مكتوب بين عينيه كافر ( ك. ف.ر.)[329] يقرؤها المؤمن فقط وإن كان لا يعرف القراءة، ويعجز عنها الكافر وإن كان يقرأ؛ لأن هذه الكتابة ليست كتابة عادية، إنما هي كتابة إلهية من الله عزّ وجلّ.
ومن علاماته: أنه أعور العين اليمنى: والرب عزّ وجلّ ليس بأعور، الرب عزّ وجلّ كامل الصفات، ليس في صفاته نقص بوجه من الوجوه. أما هذا فإنه أعور، عينه اليمنى كأنها عنبة طافية. وهذه علامة حسية واضحة كل يعرفها .
فإن قال قائل : إذا كان فيه هذه العلامة الظاهرة الحسية فكيف يفتتن الناس به؟
نقول: إن الله قال في كتابه: (وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)، الذين أضلهم الله لا تنفعهم علامات الضلال تحذيراً، ولا علامات الهدى تبشيراً، ولا يستفيدون وإن كانت العلامات ظاهرة.
ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه العلامات لا تخفى على أحد، وبين في حديث آخر أنه إن خرج والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم فهو حجيجه دونهم ، يحجه النبي صلى الله عليه وسلم ويكشف زيغه وضلاله قال: " وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيجُ نفسه، والله خليفتي على كلّ مسلم[330]" فوكّل الله عزّ وجلّ.
(27/9)
فالحاصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام حذر من الدجال تحذيراً بالغاً ، وأخبر[331] أن الدجال الأكبر يخرج في آخر الزمان، ويبقى في الأرض أربعين يوماً فقط، ولكن اليوم الأول كسنة " اثنا عشر شهراً"
تبقى الشمس في أوج السماء ستة أشهر من المشرق إلى المغرب ما تغيب هذه الفترة الطويلة، وتبقى غائبة ليلاً ستة اشهر، هذا أول يوم. واليوم الثاني كشهر، والثالث كجمعة، وبقية الأيام سبعة وثلاثون يوماً كسائر الأيام، ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بهذا الحديث ، لم يستشكلوا كيف تبقى الشمس سنة كاملة لا تدور على الأرض، وهي تدور عليها في كل أربع وعشرين ساعة، فقدرة الله فوق ذلك ، والله على شيء قدير.
والصحابة لا يسألون في الغالب عن المسائل الكونية والقدرية؛ لأنهم يعلمون قدرة الله عزّ وجلّ ، لكن يسألون عن الأمور التي تهمهم ، وهي الأمور الشرعية ، فلما حدثهم بأن اليوم الأول الذي كسنة: قالوا: يا رسول الله اليوم الذي كسنة. هل تكفينا فيه صلاة واحدة؟ قال :" لا، اقدروا له قدره" يعني قدروا ما بين الصلاتين وصلوا.
فمثلاً إذا طلع الصبح نصلى الصبح، وإذا مضى الوقت ما بين الصبح والزوال صلينا الظهر، حتى لو كانت الشمس في أول المشرق ، وهي تكون أول المشرق؛ لأنها تبقى ستة أشهر كاملة، فيقدرون له قدره، إذاً نصلي في اليوم الأول صلاة سنة، والصيام نصوم شهراً، ونقدر للصوم ، والزكاة كذلك، وهذا ربما يلغز بها فيقال :" مال لم يمض عليه إلا يوم وجبت فيه الزكاة".
(27/10)
كذلك اليوم الثاني نقدّر فيه صلاة شهر، والثالث صلاة أسبوع، والرابع تعود الأيام كما هي، وفي إلهام الله للصحابة أن يسألوا هذا السؤال عبرة؛ لأنه يوجد الآن في شمالي الأرض وجنوبي الأرض، أناسٌ تغيب عنهم الشمس ستة أشهر، لولا هذا الحديث لأشكل على الناس، كيف يصلي هؤلاء، وكيف يصومون، لكن الآن نطبّق هذا الحديث على حال هؤلاء فنقول: هؤلاء الذين تكون الشمس عندهم ستة أشهر كاملة يقدرون للصلاة وقتها ، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في أيام الدجال.
* * *
206- وعن عائشة رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه ُمن سبع أرضين" متفق عليه [332] .
5/207- وعن أبي موسى – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليملي للظالم فإذا أخذهُ لم يفلتهُ ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَة)(هود:102)متفق عليه [333].
الشرح
نقل المؤلف- رحمه الله – عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ظلم من الأرض قيد شبر طُوقه يوم القيامة من سبع أرضين" هذا الحديث يتناول نوعاً من أنواع الظلم وهو الظلم في الأرضي. وظلم الأراضى من أكبر الكبائر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن من غير منار الأرض" [334].
قال العلماء : منار الأرض حدودها؛ لأنه مأخوذ من " المنور" وهو العلامة، فإذا غير إنسان من هذه الأرض، بأن أدخل شيئاً من هذه الأرض إلى أرض غيره، فإنه ملعون على لسان النبي صلى الله عليه وسل م.
واللعنة: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
(27/11)
وثمة عقوبة أخرى، وهو ما ذكره في هذا الحديث ؛ أنه إذا ظلم قيد شبر طُوقه يوم القيامة من سبع أرضين؛ لأن الأرضين سبع ، كما جاءت به السنة صريحاً، وكما ذكره الله تعالى في القرآن إشارة في قوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ )(الطلاق:12) ، ومعلوم أن المماثلة هنا ليست في الكيفية؛ لأن بين السماء والأرض من الفرق كما بينهما من المسافة، السماء أكبر بكثير من الأرض، وأوسع ، وأعظم . قال الله تعالى (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍَ) (الذريات:47) أي بقوة، وقال تعالى (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً) (النبأ:12) أي قوية.
فالإنسان إذا ظلم قيد شبر من الأرض فإنه يطوق من سبع أرضين يوم القيامة، أي يجعل له طوقاً في عنقه والعياذ بالله ، يحمله أمام الناس أمام العالم ، يخزي به يوم القيامة ، ويتعب به . وقوله :" قيد شبر من الأرض" ليس هذا على سبيل القيد، بل هو على سبيل المبالغة، يعني فإن ظلم ما دونه طُوقه أيضاً ، لكن العرب يذكرون مثل هذا للمبالغة، يعني ولو كان شيئاً قليلاً قيد شبر فإنه سيطوقه يوم القيامة.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن من ملك الأرض ملك قعرها إلى الأرض السابعة، فليس لأحد أن يضع نفقاً تحت أرضك إلا بإذنك، يعني لو فرض أن لك أرضاً مسافتها ثلاثة أمتار بين أرضين لجارك، فاراد جارك أن يفتح نفقاً بين أرضيه ويمر من تحت أرضك، فليس له الحق في ذلك؛ لأنك تملك الأرض وما تحتها إلى ألأرض السابعة، كما أن الهواء لك إلى السماء، فلا أحد يستطيع أن يبني على أرضك سقفاً إلا بإذنك. ولهذا قال العلماء: الهواء تابع للقرار، والقرار ثابت إلى الأرض السابعة، فالإنسان له من فوق ومن تحت، لا أحد عليه يتجرأ.
(27/12)
قال أهل العلم : ولو كان عند جارك شجرة ، فامتدت أغصانها إلى أرضك، وصار الغصن على أرضك، فإن الجار يلويه عن أرضك، فإن لم يمكن ليه فإنه يقطع ، إلا بإذن منك وإقرار ؛ لأن الهواء لك وهو تابع للقرار.
أما حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه – فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله ليملي للظالم ، فإذا أخذه لم يفلته" يملي له: يعني يُمهل له حتى يتمادى في ظلمه والعياذ بالله ، فلا يعالجه العقوبة ، وهذا من البلاء نسأل الله أن يعيذنا وإياكم . فمن الاستدراج أن يملى للإنسان في ظلمه ، فلا يعاق له سريعاً حتى تتكدس عليه المظالم، فإذا أخذه الله لم يفلته، أخذه أخذ عزيز مقتدر. ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) .
فعلى الإنسان الظالم أن لا يغتر بنفسه ولا بإملاء الله له، فإن ذلك مصيبة فوق مصيبته؛ لأن الإنسان إذا عوقب بالظلم عادلاً ، فربما يتذكر ويتعظ ويدع الظلم، لكن إذا أملي له واكتسب آثاماً أو ازداد ظلماً، ازدادت عقوبته والعياذ بالله فيؤخذ على غرة، حتى إذا أخذه الله لم يفلته، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاعتبار بآياته وأن يعيذنا وإياكم من ظلم أنفسنا ومن ظلم غيرنا ، إنه جواد كريم.
* * *
208-وعن معاذ – رضي الله عنهُ- قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعُوا لذلك، فاعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلةٍ فإنهم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردٌ على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متفق عليه [335].
الشرح
(27/13)
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله من حديث معاذ بن جبل- رضي الله عنه – قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وكانت بعثته إياه في ربيع من السنة العاشرة من الهجرة، بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وكانوا أهل كتاب، وقال له:" إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب" أخبره بحالهم لكي يكون مستعداً لهم؛ لأن الذي يجادل أهل الكتاب لابد أن يكون عنده من الحجة أكثر وأقوى مما عنده للمشرك؛ لأن المشرك جاهل، والذي أوتي الكتاب عنده علم، وأيضاً أعلمه بحالهم ، لينزلهم منزلتهم، فيجادلهم بالتي هي أحسن.
ثم وجّهه عليه الصلاة والسلام إلى أول ما يدعوهم إليه : التوحيد والرسالة ، قال له :" ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" أن يشهدوا أن لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق الله سبحانه وتعالى ، فهو المستحق للعبادة ، وما عداه فلا يستحق للعبادة، بل عبادته باطلة، كما قال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (لقمان:30).
" وأني رسول الله "، يعني مرسلهُ الذي أرسله إلى الإنس والجن، وختم به الرسالات ، فيمن لم يؤمن به فإنه من أهل النار.
ثم قال له:" فإن هم أجابوك لذلك" يعني شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله " فاعلهم أن الله افترض عليه م خمس صلوات في كلّ يوم وليلة" وهي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء ، والفجر، لا يجب شيء من الصلوات اليومية إ لا هذه الخمس، فالسنن الرواتب ليست بواجبة، والوتر ليس بواجب ، وصلاة الضحى ليست بواجبة، وأما صلاة العيد والكسوف فإن الراجح هو القول بوجوبهما ، وذلك أمر عارض له سببٌ يختص به.
(27/14)
ثم قال له:" فن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردُ في فقرائهم" وهذه هي الزكاة، الزكاة صدقة واجبة في المال تؤخذ من الغني وترد في الفقير. الغني هنا من يملك نصاباً زكوياً ، وليس الغني هنا الذي يملك المال الكثير، بل من يملك نصاباً فهو الغني، ولو لم يكن عنده إلا نصابٌ واحد ، فإنه غني. وقوله :" تردٌ في فقرائهم" أي تصرف في فقراء البلد؛ لأن فقراء البلد أحق من تصرف إليهم صدقات أهل البلد.
ولهذا يخطئ قوم يرسلون صدقاتهم إلى بلاد بعيدة، وفي بلادهم من هو محتاج ، فإن ذلك حرامٌ عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" تؤخذ من أغنيائهم فتردٌ إلى فقرائهم" ولأن الأقربين أولى بالمعروف ، ولأن الأقربين يعرفون المال الذي عندك، ويعرفون أنك غني، فإذا لم ينتفعوا بمالك فإنه سيقع في قلوبهم من العداوة والبغضاء ، ما تكون أنت السبب فيه ، ربما إذا رأوا أنك تخرج صدقة إلى بلاد بعيدة وهم محتاجون ، ربما يعتدون عليك، ويفسدون أموالك، ولهذا كان من الحكمة أنه ما دام في أهل بلدك من هو في حاجة أن لا تصرف صدقتك إلى غيره.
ثم قال له صلى الله عليه وسلم" فإن هم أطاعوا لذلك" يعني انقادوا ووافقوا،" فإياك وكرائم أموالهم" يعني لا تأخذ من أموالهم الطيب، ولكن خذ المتوسط ولا تظلم ولا تُظلم " واتق دعوة المظلوم" يعني انك إذا أخذت من نفائس أموالهم ، فإنك ظالم لهم، وربما يدعون عليك، فاتق دعوتهم" فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" تصعد إلى الله تعالى ، ويستجيبها، هذا هو الشاهد من هذا الحديث في الباب الذي ذكره المؤلف فيه، أن الإنسان يجب عليه أن يتقي دعوة المظلوم.
(27/15)
ويُستفاد من هذا الحديث فوائد كثيرة، منها ما يتعلق بهذا الباب ، ومنها ما يتعلق بغيره، فينبغي أن يعلم أولاً أن الكتاب والسنة نزلا ليحكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، والأحكام الشرعية من الألفاظ، مما دلت عليه منطوقاً ومفهوماً وإشارة. والله سبحانه وتعالى يفضل بعض الناس على بعض في فهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ولهذا لما سأل أبو جُحيفة على بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عهد إليكم رسولُ اله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال :لا؟ إلا فهما يؤتيه الله تعالى من شاء في كتابه وما في هذه الصحيفة ، وبين له ما في تلك الصحيفة فقال: العقل ، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلمٌ بكافر" الشاهد قوله:" إلا فهما يؤتيه من شاء في كتاب الله ".
فالناس يختلفون ، والذي ينبغي لطالب العلم خاصة، أن يحرص على استنباط الفوائد والأحكام من نصوص الكتاب والسنة؛ لأنها هي المورد المعين ، فاستنباط الأحكام منها بمنزلة الرجل يردُ على الماء فيستقي منه في إنائه فمقلّ ومستكثر.
وهذا الحديث العظيم الذي بين فيه معاذ بن جبل رضي الله عنه بماذا بعثه النبي صلى الله عليه وسمل إلى أهل اليمن فيه فوائد كثيرة منها:
اولاً: وجوب بعث الدعاة إلى الله ، وهاذ من خصائص ولي الأمر، يجب على ولي أمر المسلمين أن يبعث الدعاة إلى الله في كل مكان ، كل مكان يحتاج إلي الدعوة، فإن على ولي أمر المسلمين أن يبعث من يدعو الناس إلى دين الله عزّ وجلّ؛ لأن هذا دأب النبي صلى الله عليه وسلم وهديه أن يبعث الرسل يدعون إلى الله عزّ وجلّ.
(27/16)
ومنها : أنه ينبغي أن يُذكر للمبعوث حال المبعوث إليه ، حتى يتأهب لهم ، وينزلهم منازلهم ، لئلا يأتيهم على غرة، فيوردون عليه من الشبهات ما ينقطع به، ويكون في هذا مضرة عظيمة على الدعوة. فينبغي على الداعي أن يكون على أُهبة واستعداد لما يلقيه إليه المدعوون، حتى لا يأتيه الأمر على غلة، فيعجز وينقطع، وحينئذٍ يكون في ذلك ضررٌ على الدعوة.
ومنها : أن أول ما يدعى إليه الناس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وذلك قبل كل شيء. لا تقل للكفار مثلاً إذا أتيت لتدعوهم: اتركوا الخمر اتركوا الزنا ، اتركوا الربا ، هذا غلط ، أصلِ الأصل أولاً، ثم فرع الفروع، فأول ما تدعو : أن تدعوا إلى التوحيد والرسالة؛ أن يشهدوا أن لا إليه إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم بعد ذلك عليك ببقية أركان الدين الأهم فالأهم.
ومنها: أنه إذا كان المدعو فاهماً للخطاب، فإنه لا يحتاج إلى شرح، فإنه قال:" أن تدعوهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله" ولم يشرحها لهم؛ لأنهم يعرفون معناها، لسانهم لسانٌ عربي، لكن لو كنا نخاطب بذلك من لا يعرف المعنى، وجب أن نفهمه المعنى؛ لأنه إذا لم يفهم المعنى لم يستفد من اللفظ، ولهذا لم يرسل الله تعالى رسولاً إلا بلسان قومه ولغتهم حتى يبين لهم، فمثلاً إذا كنا نخاطب شخصاً لا يعرف معنى لا إليه ألا الله ، فلابد أن نشرحها له، ونقول: معنى لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله كلٌ ما عبد من دون الله ، فهو باطل، كما قال تعالى(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) (لقمان:30)
(27/17)
كذلك أيضاً :" أن محمداً رسول الله " لا يكفي أن يقولها الإنسان بلسانه أو يسمعها بأذنه ، دون أن يفقهها بقلبه، فبين له معنى أن محمداً رسول الله ، فيقال مثلاً: محمد هو ذلك الرجل الذي بعثه الله عزّ وجلّ من بني هاشم ، بعثه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، أرسله بالهدى ودين الحق، فبين للناس كلّ خير، ودعاهم إليه، وبين لهم كل شر وحذرهم منه، وهو رسول الله الذي يجب أن يصدق فيما أخبر ، ويُطاع فيما أمر ، ويترك ما عنه نهى وزجر.
ويبين له أيضاً بأنه رسول وليس برب ، وليس بكذاب ، بل هو عبدٌ لا يُعبد ، ورسول لا يكذّب صلوات الله وسلامه عليه .
ويبين له أيضاً أن هاتين الشهادتين هما مفتاح الإسلام، ولهذا لا تصح أي عبادة إلا بشاهدة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .
ومن فوائد هذا الحديث: أن أهم شيء بعد الشهادتين هو الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة.
ومن فوائده : أن الوتر ليس بواجب ؛ لأن النبي صلى الله عليه لم يذكره ، ولم يذكر إلا خمس صلوات فقط، وهذا القول هو القول الراجح من أقوال أهل العلم . ومن العلماء من قال: إن الوتر واجب، ومنهم من فصّل وقال : من كان له وردٌ من الليل وقيام من الليل، فالوتر عليه واجب، ومن لا فلا. والصحيح أنه ليس بواجب مطلقاً ؛ لأنه لو كان واجباً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومن فوائد هذا الحديث: أن الزكاة واجبة ، وهي فرض من فروض الإسلام، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، والثاني بعد الشهادتين.
ولهذا قال :" أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم".
ومن فوائد هذا الحديث : أن الزكاة واجبةٌ في المال لا في الذمة .لكن الصحيح أنها واجبة في المال، ولها تعلق بالذمة، ويتفرع على هذا فوائد منها:
(27/18)
لو قلنا: إنها واجبة في الذمة لسقطت الزكاة على من عليه دين؛ لأن محل الدين الذمة، وإذا قلنا : محل الزكاة الذمة، وكان عليه ألف وبيده ألف، ولم تجب عليه الزكاة ؛ لأن الحقين تعارضا. والصحيح أنها واجبة في المال لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً )(التوبة:103)، وقال في هذا الحديث :" أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم" لكن لها تعلق الذمة، بمعنى أنها إذا وجبت وفرط والإنسان فيها فإنه يضمن، فلها تعلق بالذمة.
ومن فوائد هذا الحديث أيضاً: أن الزكاة لا تجب على الفقير ، لقوله : " من أغنيائهم فترد في فقرائهم" ولكن من هو الغني؟ أهو الذي يملك ملايين؟ الغني في هذا الباب هو الذي يملك نصاباً. إذا ملك الإنسان نصاباً فهو غني تجب عليه الزكاة، وإن كان فقيراً من وجه آخر، لكنه غني من حيث وجوب الزكاة عليه.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الزكاة تصرف في فقراء البلد؛ لقوله: فتردّ في فقرائهم" ولا تُخرج عن البلد إلا لسبب، أما ما دام في البلد مستحقون فإنهم أولى من غيرهم .وقد حرم بعض العلماء إخراج الزكاة عن البلد إذا كان فيهم مستحقون، واستدل بهذا الحديث ، وبأن فقراء البلد تتعلق أنفسُهم بما عند أغنيائهم، وبأن الأغنياء إذا صرفوها إلى خارج البلد ربما يتعدي الفقراء عليهم ويقولون: حرمتمونا من حقّنا ، فيتسلطون عليهم بالنهب والإفساد، ولا شك أنه من الخطأ أن يخرج الإنسان زكاة ماله إلى البلاد البعيدة ، مع وجود مستحق في بلده؛ لأن الأقرب أولى بالمعروف . والمراد بالصدقة في هذا الحديث هي الزكاة، وهي بذل النصيب الذي أوجبه الله تعالى في الأموال الزكوية.
(27/19)
وسميت صدقة لأن بذل المال دليلٌ على صدق باذله، فإن المال محبوب إلى النفوس، كما قال الله تعالى : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20) ، والإنسان لا يبذل المحبوب إلا لما هو أحب منه، فإذا كان هذا الرجل أو المرأة بذل المال مع حبه له، دلّ ذلك على أنه يحب ما عند الله أكثر من حبه لماله، وهو دليلّ على صدق الإيمان، وفي قوله :" تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" دليلٌ على أن لولي الأمر أن يأخذ الزكاة من أهلها ويصرفها في مصارفها ، وأنه إذا فعل ذلك برئت الذمة.
ولكن لو قال قائل: أنا لا آمن أن يتلاعب بها من ياخذها ثم يصرفها في غير مصرفها ، نقول له : أنت إذا أديت ما عليك ؛ فقد برئت ذمتك سواء صُرفت في مصارفها أم لم تصرف، لكن قال الإمام أحمد: إذا رأى أن الإمام لا يصرفها في مصرفها، فلا يعطه إلا إذا طلب منه ذلك ، وألزمه به، وحينئذ تبرأ ذمته، وبناء على هذا فلا بأس أن يخفي الإنسان شيئاً من ماله إذا كان الذي يأخذها لا يصرفها في مصارفها ، لأجل أن يؤدي هو نفسه الزكاة الواجبة عليه.
وإذا قدر أن ولي الأمر أخذ أكثر مما يجب، فإن ذلك ظلم لا يحل لولي الأمر، أما صاحب المال فعليه السمع والطاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" [336].
وإذا قدر أن ولي الأمر أخذ دون الواجب ، وجب على صاحب المال أن يخرج البقية، ولا يقول إنه أخذ مني وبرئت الذمة؛ لأنه إذا كانت الزكاة ألفا وأخذ ثمانمائه أن تكمل المائتين فتخرجها.
(27/20)
ومن فوائد هذا الحديث : أنه يجوز صرف الزكاة في صنف واحد من أصناف الزكاة، وأصناف ثمانية: الفقراء ، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، فإذا أداه المزكي إلى صنف من هذه الأصناف أجزأ، بل إذا أداها إلى فرد في نوع من هذه الأنواع أجزأ. مثل لو أعطى مُزكٍّ زكاته كلها فقيراً واحداً فلا حرج، فلو قدر مثلاً أن شخصاً عليه مائة ألف ريال ديناً ، وزكاتك مائة ألف ريال وقضيت دينه كله فإن ذمتك تبرأ بهذا.
وعليه فيكون معني قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)الآية (التوبة: 60)، بيان المصارف فقط، ولا يجب أن تعطي كل الأصناف الثمانية، ولا يجب أن تعطي ثلاثة من كل صنف، بل إذا أديتها لواحد من صنف واحد أجزأ ذلك كما في هذا الحديث.
ويُستفاد منه أن الزكاة تصرف في بلدها أي في بلد المال ، وقد سبق ذكر ذلك وبيان انه لا يجوز أن تخرج الزكاة عن البلد الذي فيه المال، إلا إذا كان هناك مصلحة أ و حاجة أكثر، وأما ما دام فيه مستحقون فلا يخرجها ، بل يؤد الزكاة في نفس البلد.
وفي الحديث أيضاً دليلٌ على تحريم الظلم ، وأنه لا يجوز للساعي على الزكاة أن يأخذ اكثر من الواجب، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً ، فقال له :" إياك وكرائم أموالهم" والكرائم جمع كريمة وهي الحسنة المرغوبة.
وفيه دليلٌ على أن دعوة المظلوم مستجابة ؛ لقوله :" فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
وفيه دليلٌ على أنه يجب على الإنسان أن يتقي الظلم ويخاف من دعوة المظلوم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ، قال :" اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" .
* * *
(27/21)
210- وعن أبي هريرة – رضي الله عنهُ- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيٍ ، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالحٌ أخذ منهُ بقدر مظلمتهِ، وإن لم يكن لهُ حسناتٌ أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" رواه البخاري [337].
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله – فيما نقله عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من كان عنده مظلمة لأخيه؛ من عرضه أو من شيء؛ فليتحلله منه اليوم- يعني في الدنيا – قبل ألا يكون دينار ولا درهم"، وذلك يوم القيامة ، فإنه في الدنيا يمكن أن يتحلل الإنسان من المظالم التي عليه بأدائها إلى أهلها ، أو استحلالهم منها ، لكن في الآخرة ليس هناك شيء إلا الأعمال الصالحة، فإذا كان يوم القيامة أقتص من الظالم للمظلوم من حسناته ؛ يؤخذ من حسناته التي هي رأس ماله في ذلك اليوم ، فإن بقي منه شيء وإلا أخذ من سيئات المظلوم وحملت على الظالم والعياذ بالله ، فازداد بذلك سيئات إلى سيئاته.
وظاهر هذا الحديث أنه يجب على الإنسان أن يتحلل من ظلم أخيه حتى في العرض، سواء علم أم لم يعلم ، وذلك كأن المظالم إما أن تكون بالنفس ، أو بالمال ، أو بالعرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم" [338].
فإن كانت بالنفس مثل أن يكون قد جني عليه، أو ضربه حتى جرحه، أو قطع عضواً من أعضائه، أو قتل له قتيلاً ، فإنه يتحلل منه بأن يمكن صاحب الحق من القصاص، أو من بذل الدية إذا لم يكن القصاص .
(27/22)
أما إن كانت في المال فإنه يعطيه ماله، إذا كان عنده مال لأحد، فالواجب أن يعطيه صاحبه ،فإن غاب عنه ولم يعرف مكانه وأيس منه فإنه يتصدق به عنه، والله سبحانه وتعالى يعلم ويؤدي إلى صاحب الحق حقه، وإن كان قد مات أي صاحب الحق ، فإنه يوصله إلى ورثته؛ لأن المال بعد الموت ينتقل إلى الورثة، فلابد أن يسلمه للورثة، فإن لم يعلمهم بأن جهلهم ولم يدر عنهم تصدق به عنهم، والله تعالى يعلمهم ويعطيهم حقهم.
أما إن كانت في العرض مثل أن يكون قد سب شخصاً في مجلس أو أغتابه، فلابد أن يتحلل منه إذا كان قد علم بإنه سبّه، فيذهب إليه ويقول: إنا فعلت كذا وفعلت كذا، وأنا جئتك معتذراً، فإن عذره فهذا من نعمة الله على الجميع؛ لأن الله يقول : (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(الشورى:40) ، وإن لم يعف فليعطه مالاً، ليشبعه من المال حتى يحلله، فإن أبى فإن الله تعالى إذا علم أن توبة الظالم توبة حقيقية ، فإنه سبحانه وتعالى يرضي المظلوم يوم القيامة.
وقال بعض العلماء في مسألة العرض: أن كان المظلوم لم يعلم فلا حاجة أن يعلمه، مثل أن يكون قد سبه في مجلس من المجالس ، وتاب فإنه لا حاجة أن يعلمه، ولكن يستغفر له ويدعو له، ويثني عليه بالخير في المجالس التي كان يسبه فيها ، وبذلك يتحلل منه.
ألا إن الأمر خطير، وحقوق الناس لابد أن تعطى لهم ، إما في الدنيا وإما في الآخرة.
* * *
211- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجرُ من هجر ما نهى الله عنهُ" متفق عليه [339].
الشرح
قال المؤلف رحمه الله – فيما رواه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
(27/23)
والمسلم يطلق على معانٍ كثيرة: منها المستسلم ، المستسلم لغيره يُقال له مسلم ، ومنه على أحد التفسيرين قوله تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا )(الحجرات:14)، أي قولوا: استسلمنا ، ولم نقاتلكم ، والقول الثاني في الآية : إن المراد بالإسلام الإسلامُ لله عزّ وجلّ وهو الصحيح.
والمعني الثاني يطلق الإسلام على الأصول الخمسة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإسلام ، فقال : " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت[340].
ويطلق الإسلام على السلامة، يعني أن يسلم الناس من شر الإنسان، فيقال: أسلم بمعنى دخل في السلم أي المسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناس ، ومنه هذا الحديث :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
سلم المسلمون من لسانه فلا يسبهم ، ولا يلعنهم ، ولا يغتابهم، ولا ينم بينهم ، ولا يسعى بينهم بأي نوع من أنواع الشر والفساد، فهو قد كفّ لسانه ، وكف اللسان من أشد ما يكون على الإنسان ، وهو من الأمور التي تصعب على المرء وربما يستسهل إطلاق لسانه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل :" أفلا أخبرك بملاك ذلك كله"؟ قلت: بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه وقال:" كفّ عليك هذا" قلت: يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، يعني هل نؤاخذ بالكلام؟ فقال :" ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم" .(1)
فاللسان من أشد الجوارح خطراً على الإنسان ، ولهذا إذا أصبح الإنسان فإن الجوارح : اليدين والرجلين والعينين، كل الجوارح تكفر اللسان، وكذلك إيضاً الفرج، لأن الفرج فيه شهوة النكاح، واللسان فيه شهوة الكلام، وقل من سلم من هاتين الشهوتين.
(27/24)
فالمسلم من سمل المسلمون من لسانه أي كف عنهم؛ لا يذكرهم إلا بخير ، ولا يسب ، ولا يغتاب ، ولا ينم ، ولا يحرش بين الناس، فهو رجلٌ مسالم ، إذا سمع السوء حفظ لسانه، وليس كما يفعل بعض الناس- والعياذ بالله- إذا سمع السوء في أخيه المسلم طار به فرحاً ، وطار به في البلاد نشراً- والعياذ بالله- فإن هذا ليس بمسلم .
الثاني: من سلم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضرب، أو الجرح، أو أخذ المال، أو ما أشبه ذلك ، قد كف يده لا يأخذ إلا ما يستحقه شرعاً، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو المسلم.
وعلم من هذا الحديث أن من لم يسلم الناس من لسانه أو يده، فليس بمسلم، فمن كان ليس لهم همٌ إلا القيل والقال في عباد الله ، وأكل لحومهم وأعراضهم، فهذا ليس بمسلم، وذلك من كان ليس لهم همٌ إلا الاعتداء على الناس بالضرب، وأخذ المال ، وغير ذلك مما يتعلق باليد، فإنه ليس بمسلم.
هكذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وليس إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد أن نعلم به فقط ، بل لنعلم به ونعمل به، وإلا فما الفائدة من كلام لا يعمل به، إذا فاحرص إن كنت تريد الإسلام حقاً على أن يسلم الناس من لسانك ويدك، حتى تكون مسلماً حقاً، أسال الله تعالى أن يكفنا ويكف عنا، ويعافنا ويعفو عنا، إنه جواد كريم.
* * *
(27/25)
213- وعن أبي بكرة نفيع بن الحارث- رضي الله عنهُ- عن النبي صلى الله عليه وسل مقال:" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعةٌ حُرم : ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم ، ورجبُ مُضرَ الذي بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم " فسكت حتى ظننا أنهُ سيسميه بغير اسمه، قال أليس ذا الحجة ؟ قلنا : بلى : قال " فأي بلد هذا؟: قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنهُ سيسميه بغر اسمه قال:" اليس بالبلدة"؟ قلنا بلى. قال " فيُ يوم هذا؟" قلنا : الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:" أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى قال :" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، إلا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، إلا ليبلغ الشهاد الغائب ، فلعل بعض من يلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" ثم قال إلا هل بلغتُ، ألا هل بلغتُ؟ قلنا نعم.قال :" اللهم اشهد" متفق عليه[341] .
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم يوم النحر ، وذلك في حجة الوداع، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، يعني أن الزمان وإن كان قد غير وبدل فيه لما كانوا يفعلون في الجاهلية، حين كانوا يفعلون النسيء فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ولكن صادق في تلك السنة أن النسيء صار موافقاً لما شرعه الله عزّ وجلّ في الأشهر الحرم.
(27/26)
ثم بين عليه الصلاة والسلام أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً ، هي : المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادي الأولى، وجمادي الثانية، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، هذه هي الأشهر الاثنا عشر شهراً، التي جعلها الله أشهراً لعباده منذ خلق السموات والأرض، كانو في الجاهلية يحلون المحرم، ويحرمون صفر.
وبين عليه الصلاة والسلام، أن هذه الاثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متوالية وواحد منفرد، الثلاثة المتوالية هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، جعلها الله تعالى أشهرا محرمة، يحرم فيها القتال، ولا يعتدي فيها أحد على أحد، لأن هذه الأشهر هي أشهر سير الناس إلى حج بيت الله الحرام، فجعلها الله عزّ وجلّ محرمة لئلا يفع القتال في هذه الأشهر والناس سائرون إلى بيت الله الحرام، وهذه من حكمة الله عزّ وجلّ.
والصحيح أن القتال ما زال محرماً ، وأنه لم ينسخ إلى الآن ، وأنه يحرم ابتداء القتال فيها.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام:" ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" وهو الشهر الرابع ، وكانوا في الجاهلية يؤدون العمرة فيه فيجعلون شهر رجب للعمرة، والأشهر الثلاثة للحج ، فصار هذا الشهر محرماً يحرم فيه القتال ، كما يحرم في ذي القعدة وذي الحجة والمحرم.
إذاً الأشهر السنوية التي جعلها الله لعبادة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، كما في القرآن الكريم: ذو القعدة، وذو الحجة، المحرم، ورجب.
ثم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام : أي شهر هذا؟ وأي بلد لهذا؟ وأي يوم هذا؟ سألهم عن ذلك من أجل استحضار هممهم، وانتباههم؛ لأن الأمر أمرٌ عظيمٌ فسألهم :" أي شهر هذا؟" قالوا : الله ورسوله أعلم؛ أنهم استبعدوا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسمل عن الشهر وهو معروف أنه ذو الحجة، ولكن من أدبهم رضي الله عنهم أنهم لم يقولوا: هذا شهر ذي الحجة؛ لأن الأمر معلوم ، بل من أدبهم أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم.
(27/27)
ثم سكت لأجل أن الإنسان إذا تلم ثم سكت انتبه الناس: ما الذي أسكته؟ وهذه طريقة متبعة في الإلقاء، أن الإنسان إذا رأى من الناس الذين حوله عدم إنصات يسكت حتى ينتبهوا؛ لأن الكلام إذا كان مسترسلاً فقد يحصل للسامع غفلة ، لكم إذا توقف فإنهم سينتبهون لماذا وقف؟
وسكت النبي عليه الصلاة والسلام ، يقول أبو بكر : حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، ثم قال: أليس ذا الحجة؟" قالوا : بلى ، ثم قال عليه الصلاة والسلام:" إي بلد هذا؟" قالوا : الله ورسوله أعلم، هم يعلمون أنه مكة، لكن لأدبهم واحترامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقولوا : هذا شيء معلوم يا رسول الله . كيف تسأل عنه ؟ بل قالوا: الله ورسوله أعلم .
ثم سكت حتى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال:" اليس البلدة؟" والبلدة أسم من أسماء مكة. قالوا : بلى . ثم قال:"أي يوم هذا؟" قالوا الله ورسوله أعلم ، مثل ما قالوا في الأول ، قال :" اليس يوم النحر؟ قالوا: بلى يا رسول الله ، وهم يعلمون أن مكة حرام، وأن شهر ذي الحجة حرام، وأن يوم النحر حرامٌ ، يعني كلها حرم محترمة.
فقال عليه الصلاة والسلام:" إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا" فأكد عليه الصلاة والسلام تحريم هذه الثلاثة: الدماء والأموال والأعراض، فكلها محرمة، والدماء تشمل النفوس وما دونها، والأموال تشمل القليل والكثير، والأعراض تشمل الزنا واللواط والقذف ، وربما تشمل الغيبة والسب والشتم .فهذه الأشياء الثلاثة حرامٌ على المسلم أن ينتهكها من أخيه المسلم .
فلا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة[342].
(27/28)
الأموال أيضاً حرام، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ )(النساء: 29).
والأعراض أيضاً محترمة،لا يحل للمسلم أن يغتاب أخاه أو أن يقذفه ، بل إن القاذف إذا قذف شخصاً عفيفاً بعيداً عن التهمة وقال : يا زانٍ ، أو أنت زانٍ ، أو أنت لوطي، أو ما اشبه ذلك ،فإما أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون على الزنا صريحاً ، وإلا فإن هذا القاذف يعاقب بثلاث عقوبات:
العقوبة الأولى: أن يجلد ثمانين جلدة.
والعقوبة الثانية: ألا تقبل له شهادة أبداً كلما شهد عند القاضي ترد شهادته ، سواء شهد بالأموال ، أو شهد بالدماء، أو شهد برؤية الهلال، أو شهد بأي شيء آخر، يرفض القاضي شهادته ويردها .
العقوبة الثالثة: الفسق، أن يكون فاسقاً بعد أن كان عدلاً، فلا يزوج ابنته ولا أخته ولا يتقدم إماماً في المسلمين عند كثير من العلماء ، ولا يولى أي ولاية؛ لأنه صار فاسقاً، هذه عقوبة من يرمي شخصاً بالزنا أو اللواط.
(27/29)
إلا أن يأتي بأربعة شهداء، قال الله تعالى ?َوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النور:13)، حتى لو فرض أن هذا الرجل من أصدق الناس ولم يأتِ بأربعة شهداء، فإنه يجلد ثمانين جلدة، ولهذا شهد أربعة من الرجال على رجل بأنه زنى عند عمر بن الخطاب، فجاء بهم عمر فسألهم ، قال للأول : تشهد أنه زنى؟ قال : نعم ، قال : تشهد أنك رأيت ذكره في فرجها غائباً كما يغيب المرواد في المكحلة؟ قال: نعم، فجاء بالثاني، قال : نعم ، فجاء بالثالث: قال : نعم ، فجاء بالرابع فتوقف، فقال: أنا لا أشهد بالزنا، لكني رأيت أمراً منكراً ، قال: رأيت رجلاً على امرأة يتحرك كتحرك المجامع لكن لا أشهد، فجلد الثلاثة الأولين على ثمانين جلدة؛ لأنه تبين أنهم كذبة وأطلق الرابع.
فالأعراض من أشد الأشياء حرمة، ولهذا كما سمعتم قال الله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (النور:4) هذه هي العقوبة الأولى (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً) (النور:4)وهذه هي الثانية ، ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4)وهذه هي الثالثة (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور:5) ، يعني لا يكونون فساقاً، لكن بشرط التوبة والإصلاح، لا يكفي أن يقول : أنا تائب حتى ننظر هل الرجل أصلح أو لم يصلح؟
وعلى هذا فإنه جدير بمن كانت هذه حاله أن يؤكده النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة العظيمة، في مشهد الصحابة، في يوم النحر في منى، يقو عليه الصلاة والسلام:" إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
(27/30)
ثم قال:" ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" لأن المسلمين لو صاروا يضرب بعضهم رقاب بعض صاروا كفاراً؛ لأنه لا يستحل دم المسلم إلا الكافر، فالمسلم لا يمكن أن يشهر السلاح على أخيه ، لكن لا أحد يشهر السلاح على المسلم إلا الكافر، ولهذا وصف النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام المسلمين إذا اقتتلوا بأنهم كفاراً فقال:" ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض" .
وهذه المسألة بحسب النصوص فيها تفصيل ؛ إن قاتل المسلم مستحلاً لقتله بغير إذن شرعي فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة وإن قاتله بتأويل ، أو لقصد رئاسة، أو لقصد سلطان فهذا لا يكفر كفر ردة، ولكنه كفر دون كفر، ودليل ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:9،10)، هذا هو الجمع بين هذه الآية وبين الحديث ، فيقال : إن تقاتل المسلمون مستحلاً كل واحد دم أخيه؛ فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، وإن كان لرئاسة أو عصبية أو حمية أو ما اشبه ذلك، فإنه لا يكفر كفر ردة، بل يكون كفره كفراً دون كفر ، وعليه أن يتوب ويستغفر.
(27/31)
ثم قال عليه الصلاة والسلام : " إلا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟" يسأل الصحابة رضي الله عنهم. قالوا : نعم ، أي بلغت، فتأمل كيف يقرر النبي عليه الصلاة والسلام أنه بلغ في المواطن العظيمة الكثيرة الجمع، في عرفة خطبهم عليه الصلاة والسلام ، قال :" ألا هل بلغت؟ قالوا : نعم ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها إلى الناس، يقول اللهم أشهد عليهم أنني بلغتهم ، وكذلك أشهد ربه على أنه بلغ أمته وأقروا بذلك في يوم النحر.
ونحن نشهد ونشهد الله وملائكته ومن سمعنا من خلقه أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين ، وأنه بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح الأمة، فما ترك خيراً إلا ودلّ أمته عليه ، ولا شراً إلا وحذرهم منه، وأنه ترك أمته على المحجة البيضاء، وأنه ما بقي شيء من أمور الدين أو الدنيا تحتاجه الأمة إلا بينه عليه الصلاة والسلام، ولكن الخطأ ممن يبلغهُ الخبر، فهو الذي قد يكون قاصراً في فهمه، وقد يكون له نية سيئة فيحرم الصواب، قد يكون هناك أسباب أخرى، وإلا فالرسول عليه الصلاة والسلام بلغ بلاغاً تاماً كاملاً . جزاه الله عن أمته خير الجزاء.
والصحابة رضي الله عنهم بلغوا جميع ما سمعوه منه عليه الصلاة والسلام ولم يكتموا من سنته شيئاً، وبلغوا ما جاء به من الوحي، ولم يكتموا منه شيئاً، فجاءت الشرعية- ولله الحمد – كاملة من كل وجه، بلغها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، ثم بلغها الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم ، ثم التابعون عمن قبلهم ، هكذا إلى يومنا هذا، ولله الحمد والمنة.
(27/32)
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يبلغ الشاهد الغائب، يعني يبلغ من شهده وسمع خطبته باقي الأمة ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه ربما يكون مبلغ أوعى للحديث من سامع ، وهذه الوصية من الرسول عليه الصلاة والسلام، وصية لمن حضر في ذلك اليوم ، ووصية لمن سمع حديثه على يوم القيامة، فعلينا إذا سمعنا حديثاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام أن نبلغه إلى الأمة.
ونحن محملون بأن نبلغ، ومنهيون بأن نكون كاليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، وقد وصفهم الله بإبشع وصف ، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(الجمعة:5)، فالحمار إذا حمل أسفاراً – يعني كتابً – فإنه لا ينتفع منها، إذا كان الحمار يحمل أسفاراً لا ينتفع منها؛ فالذي يحمل القرآن أو السنة ولا ينتفع منها كمثل الحمار يحمل أسفاراً . نسأل الله أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
ويُستفاد من هذا الحديث تحذير النبي عليه الصلاة والسلام أمته من قتال بعضهم بعضاً ، ولكن مع الأسف أنه قوع بينهم السيف، وصارت الفتن منذ عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى يومنا هذا، وما زالت الفتن قائمة بني الناس، فأحياناً تشتعل اشتعالاً واسعاً ، وأحياناً تكون في مناطق معينة نسأل الله العافية.
ولكن الواجب على المسلم أن يتقى دم أخيه ما أتستطاع، نعم إذا بلى الإنسان بنفسه وصيل عليه، ضد نفسه أو ماله أو حرمته، فله أن يدافع عن نفسه، ولكن بالأسهل فالأسهل، فإن لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتله ، فإن قتله فالصائل في النار، وإن قُتل المدافع فهو شهيد،كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
(27/33)
وفي هذا الحديث تحذيرٌ من أعراض المسلمين ، وأنه لا يجوز للمسلم أن ينتهك عرض أخيه، لا صادق ولا كاذباً ؛ لأنه إن كان صادقاً فقد اغتابه، وإن كان كاذباً فقد بهته، وأنت إذا رأيت من أخيك شيئاً تنتقده فيه في عباداته أو في أخلاقه أو في معاملاته، فعليك بنصيحته ، فهذه من حقوقه عليك ، وتنصحه فيما بينك وبينه مشافهة أو مكاتبة، وبهذا تبرأ ذمتك.
لكن هنا شيء لابد منه؛ وهو أنك إذا أردت أن تناصحه بالمكاتبة فلابد أن تذكر اسمك ، ولا تخف ولا تكن جباناً ، اذكر وقل : من فلان إلى أخيه فلان بن فلان... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد... فأنا انتقد عليك كذا وكذا وكذا، من أجل أنه إذا عرف اسمك دعاك أو أتي إليك وناقشك في الأمر. أما أن تكون جباناً ، وترمي من رواء جدار، فهذا لا يليق بالمسلم ، ليس هذا بنصح؛ لأنك ستبقى حاملاً عليه في قلبك فيما تراه أنه أخطأ فيه ، وهو سيبقى ويستمر على ما هو فيه ؛ لأن الذي كتب له بالنصيحة ليس أماه حتى يشرح له وجهة نظره، ويستفسر منه عن وجهة نظره هو الآخر، فيبقى الشر على ما هو عليه ، الخطأ على ما هو عليه .
لكن إذا كتب اسمه كان مشكوراً على هذا وكان بإمكان المكتوب إليه المنصوح أن يخاطبه، وأن يبين له ما عنده، حتى يقتنع أحد الرجلين بما عند الآخر.
* * *
216- وعن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلانٌ شهيدٌ ، وفلانٌ شهيدٌ، حتى مروا على رجل فقالوا: فلانٌ شهيدٌ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كلا إني رأيتهُ في النار في بُردةٍ غلها – أو عباءة" رواه مسلم [343].
(27/34)
217- وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي- رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم ، فذكر لهم إن الجهاد في سبيل الله ، والإيمان بالله أفضل الأعمال ، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله ، أريت أن قتلتُ في سبيل الله ، تكفرُ عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبر" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كيف قلت؟" قال : أرابت إن قتلتُ في سبيل الله ، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نعم وأنت صابرٌ محتسبٌ ، مقبلٌ غير مدبرٍ إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك" رواه مسلم [344].
الشرح
قال المؤلف –رحمه الله – في بيان فضيلة الجهاد في سبيل الله والشهادة، فالجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، وكذلك إذا غلّ الإنسان شيئاً مما غنمه يعني أخفاه وجحده، ففي الحديث الأول أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أقبلوا – يعني على النبي صلى الله عليه وسلم – وهم يقولون: فلان شهيد، فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كلا..." الحديث .
(27/35)
والبردة نوع من الثياب، العباءة معروفة ، غلها : يعني كتمها ، غنمها من أموال الكفار وقت القتال ، فكتمها يريد أن يختص بها لنفسه، فعُذب بها في نار جهنم، وانتفت عنه هذه الصفة العظيمة وهي الشهادة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" كلا" ، يعني ليس بشهيد؛ لأنه غلّ هذا الشيء البسيط، فأحبط جهاده ، نسأل الله العافية، وصار في النار، قال الله تعالى : (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران:161) ، ففي هذا دليلٌ على أنه لا ينبغي لنا أن نحكم على شخص بأنه شهيد، وإن قُتل في معركة بين المسلمين والكفار، لا نقول : فلان شهيد لاحتمال أن يكون غل شيئاً من الغنائم أو الفيء، ولو غلّ قرشاً واحداً، أو مسماراً زال عنه اسم الشهادة، وكذلك لاحتمال أن تكون نيته غير صواب، بأن ينوي بذلك الحمية أو أن يُرى مكانُه.
ولهذا سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل يُقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانُه. أي ذلك في سبيل الله ؟ قال :" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " [345]، والنية أمر باطنى في القلب لا يعلمه إلا الله.
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" ما من مكلوم يكلم في سبيل الله "، أي ما من مجروح يجرح في سبيل الله ، " والله أعلم بمن يكلم في سبيله"، انتبه لهذه القضية جيداً، قد نظن أنه يقاتل في سبيل الله ونحن لا نعلم ، والله أعمل بمن يكلم في سبيله ،" إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك"[346].
ولهذا ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه قال : باب لا يُقال فلان شهيد، يعني لا تعين وتقول فلان شهيد إلا إذا عينه الرسول عليه الصلاة والسلام ،أو ذكر عند الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره ، فحينئذ يحكم بشهادته بعينه، وإلا فلا تشهد لشخص بعينه.
(27/36)
ونحن الآن في عصرنا هذا أصبح لقب الشهادة سهلاً ويسيراً، كل يُعطى هذا الوسام ، حتى لو قتل ونحن نعلم أنه قتل حمية وعصبية، ونعلم عن حاله بأنه ليس بذاك الرجل المؤمن، مع ذلك يقولون : فلان شهيد، استشهد فلان.
وقد نهى عمر رضي الله عنه أن يقال: فلان شهيد، قال : إنكم تقولن: فلان شهيد ، فلان قُتل في سبيل الله ، ولعله يكون كذا وكذا، يعني غلّ، ولكن قولوا : من قتل في سبل الله أو مات فهو شهيد. عمم ، أما قول فلان شهيد، وإن كان في المعركة يتشحط بدمه ،فلا تقل شهيداً، علمه عند الله، قد يكون في قلبه شيء لا نعلمه. ثم نحن شهدنا أو لم نشهد، أن كان شهيداً عند الله فهو شهيد وإن لم نقل إنه شهيد، وإن لم يكن شهيداً عند الله فليس بشهيد وإن قلنا إنه شهيد، وإذا نقول: نرجو أن يكون فلان شهيداً، أو نقول عموماً: من قتل في سبيل الله فهو شهيد وما أشبه ذلك.
أما الحديث الثاني ففيه دليلٌ على أن الشهادة إذا قاتل الإنسان في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر فإن ذلك يكفر عنه خطيئاته وسيئاته إلا الدّين، إذا كان عليه دين فإنه لا يسقط بالشهادة؛ لأنه حق آدمي، وحق الآدمي لابد من وفائه.
وفي هذا دليلٌ على عظم الدين، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتساهل به، ومع الأسف أننا في عصرنا الآن يتساهل الكثير منا في الدين،فتجد البعض يشترى الشيء وهو ليس في حاجة إليه، بل هو من الأمور الكمالية، يشتريه في ذمته بالتقسيط أو ما أشبه ذلك، ولا يهمه هذا الأمر.
وقد تجد إنساناً فقيراً يشترى سيارة بثمانين ألفاً أو يزيد، وهو يمكنه أن يشتري سيارة بعشرين ألفاً، كل هذا من قلة الفقه في الدين، وضعف اليقين، احرص على ألا تأخذ شيئاً بالتقسيط، وإن دعتك الضرورة إلى ذلك فاقتصر على أقل ما يمكن لك، الاقتصار عليه بعيداً عن الدين. نسأل الله أن يحمينا وإياكم مما يغضبه ، وأن يقضي عنا وعنكم دينه ودين عباده.
(27/37)
218- وعن أبي هريرة – رضي الله عنهُ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أتدرون ما المفلسُ؟" قالوا": المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:" إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ، ثم طُرح في النار" رواه مسلم [347].
الشرح
قال المؤلف- رحمه الله تعالى – فيما نقله عن أبي هريرة – رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أتدرون ما المفلس؟" الاستفهام هنا للاستعلام الذي يراد به الإخبار؛ لأن المستفهم تارة يستفهم عن جهل ولا يدري فيسأل غيره، وتارة يستفهم لتنبيه المخاطب لما يلقى إليه، أو لتقرير الحكم ، فمثال الثاني قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر:" أينقص إذا جفّ؟" يعني الرطب، قالوا :" نعم" فنهى عن ذلك [348].
أما في هذا الحديث فسيخبر الصحابة عن أمر لا يعلمونه ، أو لا يعلمون مراد النبي صلى الله عليه وسمل به، قال : أتدرون من المفلس؟ ، قالوا يا رسول الله ، المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع ، يعين ليس عنده نقود ولا عنده متاع، أي : أعيان من المال، أي أن المفلس يعني الفقير، وهذا هو المعروف من المفلس بين الناس ، فإذا قالوا: من المفلس؟ يعني الذي ليس عنده نقود، ولا عنده متاع ، بل هو فقير.
(27/38)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة" ، وفي رواية : " من يأتي بحسان مثل الجبال" أي يأتي بحسنات عظيمة، فهو عنده ثروة من الحسنات لكنه يأتي وقد شتم هذا ، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، أي اعتدى على الناس بأنواع الاعتداء، والناس يريدون أخذ حقهم ، ما لا يأخذونه في الدنيا يأخذونه في الآخرة، فيقتص لهم منه؛ فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته بالعدل والقصاص بالحق، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار، والعياذ بالله.
تنقضي حسناته ، ثواب الصلاة ينتهي، وثواب الزكاة ينتهي، وثواب الصيام ينتهي، كل ما عنده من حسنات ينتهي، فيؤخذ من سيئاتهم ويطرح عليه، ثم يطرح في النار، العياذ بالله..
وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا هو المفلس حقاً ، أما مفلس الدنيا فإن الدنيا تأتي وتذهب ، ربما يكون الإنسان فقيراً فيمسي غنياً ، أو بالعكس، لكن الإفلاس كل الإفلاس أن يفلس الإنسان من حسناته التي تعب عليها ، وكانت أمامه يوم القيامة يشاهدها، ثم تؤخذ منه لفلان وفلان.
وفي هذا تحذير من العدوان على الخلق ، وأنه يجب على الإنسان أن يؤدي ما للناس في حياته قبل مماته، حتى يكون القصاص في الدنيا مما يستطيع ، أما في الآخرة فليس هناك درهم ولا دينارٌ حتي يفدي نفسه، ليس فيه إلا الحسنات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :" فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه وطرح في النار"
ولكن هذا الحديث لا يعني أنه يخلد في النار، بل يعذب بقدر ما حصل عليه من سيئات الغير التي طرحت عليه، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة؛ لأن المؤمن لا يخلد في النار، ولكن النار حرها شديد، لا يصبر الإنسان على النار ولو للحظة واحدة، هذا على نار الدنيا فضلاً عن نار الآخرة، أجار الله وإياكم منها.
* * *
(27/39)
219- وعن أم سلمة- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أنا بشرٌ ، وإنكم تختصمون إلى ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمعُ، فمن قضيت له بحقٌ أخيه فإنما أقطعُ لهُ قطعة من النارِ" متفق عليه [349].
" ألحن" أي : أعلم .
الشرح
ذكر المؤلف – رحمه الله – باب تحريم الظلم ووجوب رد المظالم إلى أهلها عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أنا بشرٌ مثلكم ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أو يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار".
ففي هذا الحديث دليلٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا، ليس ملاكاً من الملائكة ، بل هو بشر يعتريه ما يعتري البشر بمقتضى الطبيعة البشرية ، فهو صلى الله عليه وسلم يجوع ويعطش، ويبرد ويحتر، وينام ويستيقظ، ويأكل ويشرب، ويذكر وينسى، ويعلم ويجهل بعض الشي كالبشر تماماً ، يقول صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشرٌ مثلكم".
وهكذا أمره الله عزّ وجلّ أن يعلن للملأ فيقول:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(الكهف:110) ، فلست إلها يُعبد ، ولا رباً ينفع ويضر، بل عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
وبهذا تنقطع جميع شيه الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم ممن يدعونهُ، أو يعبدونه، أو يؤملونه لكشف الضر، أو يؤملونه لجلب الخير، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يملك ذلك (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ)(الجن:21-23)لو أراد الله أن يصيبني بسوء ما أجارني منه أحد؛ إلا بلاغاً من الله ورسالاته.
(27/40)
وفي قوله: " إنما أنا بشر مثلكم" تمهيد لقوله " وإنكم تختصمون إلي" يعني فإذا كنت بشراً مثلكم فإني لا أعلم من المحق منكم ومن المبطل " تختصمون إلي": يعني تتحاكمون إلى في الحصومة، فيكون بعضكم ألحن من البعض الآخر في الحجة، أي أفصح وأقوى كلاماً، يقال: فلان حجيج وفلان ذو جدل، يقوى على غيره في الحجة، كما قال الله تعالى: ( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)(صّ: 23) أي غلبني في الخطاب والمخاصمة، فهكذا هنا ألحن يعني أبين وأفصح وأظهر.
وهذا مشاهد، فقد تجد اثنين يتحاكمان إلي القاضي؛ أحدهما يكون عنده لسان وعنده بيان وحجة وقوة جدل، والثاني دون ذلك وإن كان الحق معه، فيحكم القاضي للأول ، ولهذا قال :" وإنما أٌقضي بنحو ما أسمع" وفي قوله :" أقضي بنحو ما أسمع" فسحة كبيرة للقضاة ، وأنهم لا يكلفون بشيء غاب عنهم ، بل يقضون حسب البيانات التي بين أيديهم ، فإن أخطئوا فلهم أجر، وأن أصابوا فلهم أجران، ولا يكلفون ما وراء ذلك ، بل ولا يحل لهم أن يحكموا بخلاف الظاهر ؛ لأنهم لو حكموا بخلاف الظاهر لأدى ذلك إلى الفوضى، وأدى ذلك إلى الاشتباه وإلى التهمة، ولقيل القاضي يحكم بخلاف الظاهر لسبب من الأسباب.
لهذا كان الواجب على القاضي أن يحكم بالظاهر، والباطن يتولاه الله عزّ وجلّ، فلو ادّعى شخص على آخر بمائة ريال وأتى المدعي بشهود اثنين، فعلى القاضي أن يحكم بثبوت المائة في ذمة المدعى عليه، وإن كان يشتبه في الشهود، إلا أنه في حال الاشتباه يجب أن يتحرى ، لكن إذا لم يوجد قدح ظاهر فإنه يجب عليه أن يحكم ، وإن غلب على ظنه أن الأمر بخلاف ذلك، لقوله :" إنما أقضي بنحو ما أسمع".
(27/41)
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم توعد من قُضي له بغير حق فقال:" فمن قضيت له بحق اخيه فإنما أقطع له قطعة من النار" يعني أن حُكم الحاكم لا يبيح الحرام، فلو أن الحاكم حكم للمبطل بمقتضى ظاهر الدعوى ، فإن ذلك لا يحل له ما حكم له به، بل إنه يزداد إثماً، لأنه توصل إلى الباطل بطريق باطلة، فيكون أعظم ممن أخذه بغير هذه الطريق.
وفي هذا الحديث التحذير الشديد من حكم الحاكم بغير ما بين يديه من الوثائق، مهما كان الأمر ، ولو كان أقرب قريب لك، وأختلق العلماء رحمهم الله : هل يجوز للحاكم أن يحكم بعمله أم لا؟ فقيل: لا يجوز؛ لأنه قال :" فأقضي له بنحو ما أسمع" و لأنه لو قضى بعلمه لأدى ذلك إلى التهمة؛ لأن العلم ليس شيئاً ظاهراً يعرفه الناس حتى يحكم له به، وقال بعض العلماء : بل يحكم بعلمه ، وقال آخرون: بل يتوقف إذا وصلت البينة إلى ما يخالف علمه.
والأصح أنه لا يحكم بعلمه إلا في مسائل خاصة، ومثال ذلك إذا حكم بعلمه بمقتضى حجة المتخاصمين في مجلس الحكم، فمثلاً إذا تحاكم شخصان فأقر أحدهما بالحق، ثم مع المداولة والأخذ والرد أنكر ما أقرّ به أولاً، فهنا للقاضي أن يحكم بعلمه؛ لأنه علمه في مجلس الحكم.
ومثال آخر: إذا كان مشتهراً ، مثل أن يشتهر أن هذا المُلك وقف عام للمسلمين، أو يشتهر أنه ملك فلان، ويشتهر ذلك بين الناس، فهنا له أن يحكم بعلمه؛ لأن التهمة في هذه الحال منتفية، ولا يتهم القاضي بشيء، ولا يمكن أن يتجرأ أحد للحكم بعلمه وهو خاطئ بناء على أنه أمر مشهور.
والقول الصحيح في هذا هو التفصيل ، وإلا فإن الواجب أن يكون القضاء على حسب الظاهر لا على حسب علم القاضي.
(27/42)
ولكن إذا جاء الشيء على خلاف علمه تحول المسألة إلى قاضٍ آخر، ويكون هو شاهداً من الشهود، مثل أن يدعي شخص على آخر بمائة ريال فينكر المدعى عليه والقاضي عنده علم بثبوت المائة على المدعى عليه ، فلا يحكم هنا بعلمه ولا يحكم بخلاف علمه، بل يقول : أحولها على قاضٍ آخر وأنا لك أيها المدعي شاهد، فتحول القضية على قاضٍ آخر، ثم يكون القاضي هذا شهاداً ، فيحكم بيمين المدعى وشهادة القاضي.
* * *
220- وعن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لن يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه ما لم يُصب دماً حراماً" رواه البخاري [350].
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – في باب تحريم الظلم ووجوب التحلل منه، قال فيما نقله عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً" " لا يزال المؤمن في فسحة" : أي في سعة من دينه، " ما لم يصب دماً حراماً" يعني ما لم يقتل مؤمناً أو ذمياً أو معاهدةً أو مستأمناً، فهذه هي الدماء المحرمة، هي أربعة أصناف: دم المسلم ، ودم الذمي، ودم المعاهد، ودم المستأمن ، وأشدها وأعظمها دم المؤمن، أما الكافر الحربي فهذا دمه غير حرام، فإذا أصاب الإنسان دماً حراماً فإنه يضيق عليه دينه، أي أن صدره يضيق به حتى يخرج منه والعياذ بالله ويموت كافراً .
(27/43)
وهذا هو السر في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) ، فهذه خمس عقوبات والعياذ بالله : جهنم ، خالداً فيها وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً ، لمن قتل مؤمناً متعمداً؛ لأنه إذا قتل مؤمناً متعمداً فقد أصاب دماً حراماً ، فيضيق عليه دينه، ويضيق به صدره، حتى ينسلخ من دينه بالكلية، ويكون من أهل النار المخلدين فيها .
وفي هذا دليلٌ على أن إصابة الدم بالحرام من كبائر الذنوب، ولا شك في هذا، فإن قتل النفس التي حرم الله بغير حق من كبائر الذنوب.
ولكن إذا تاب الإنسان من هذا القتل فهل تصح توبته؟
جمهور العلماء على أن توبته تصح؛ لعموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً) (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً) (الفرقان:68-71)، فهنا نص على أن من تاب من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وآمن وعمل عملاً صالحاً، فغن الله يتوب عليه .
وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) .
ولكن بماذا تكون التوبة؟ قتل المؤمن عمداً يتعلق به ثلاثة حقوق : الحق الأول : حق الله ، الحق الثاني: حق المقتول، الحق الثالث: حق أولياء المقتول.
أما حق الله : فإذا تاب منه تاب اله عليه ولا شك في هذا.
(27/44)
وأما حق المقتول: فالمقتول حقه عنده، وهو قد قتل الآن ولا يمكن التحلل منه في الدنيا، ولكن هل توبته تقتضي أن يتحمل الله عنه حق المقتول فيؤديه عنه أم لابد من أخذه بالاقتصاص منه يوم القيامة.
هذا محل نظر؛ فمن العلماء من قال: إن حق المقتول لا يسقط بالتوبة؛ لأن من شروط التوبة رد المظالم إلى أهلها، والمقتول لا يمكن رد مظلمته إليه لأنه قتل، فلا بد أن يقتص من قاتله يوم القيامة، ولكن ظاهر الآيات الكريمة التي ذكرناها في سورة الفرقان يقتضي أن الله يتوب على توبة تامة، وأن الله جل وعلا من كرمه ولطفه وإحسانه إذا علم من عبده صدق التوبة فإنه يتحمل عنه حق أخيه المقتول.
أما الحق الثالث فهو حق أولياء المقتول، وهذا لابد من التخلص منه، لأنه يمكن للإنسان أن يتخلص منه، وذلك بأن يسلم نفسه إليهم ويقول لهم: أنا قتلت صاحبكم فافعلوا ما شئتم، وحينئذ يخيرون بين أمور أربعة: إما أن يعفوا عنه مجاناً ، وإما أن يقتلوه قصاصاً، وأما أن يأخذوا الدية منه، وإما أن يصالحوه مصالحة على أقل من الدية أو على الدية، وهذا جائز بالاتفاق.
فإن لم يسقط حقهم إلا بأكثر من الدية؛ ففيه خلاف بين أهل العلم ، منهم من يقول : لا بأس أن يصالحوا على أكثر من الدية؛ لأن الحق لهم، فإن شاءوا قالوا: نقتل ، وإن شاءوا قالوا: لا نعفو إلا بعشر ديات، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، أنه يجوز المصالحة عن القصاص بأكثر من الدية، التعليل هو ما ذكرنا من أن الحق لهم ، أي لأولياء المقتول، فلهم أن يمتنعوا عن إسقاطه إلا بما تطيب به نفوسهم من المال.
(27/45)
إذن نقول : توبة القاتل عمداً تصح للآية التي ذكرناها من سورة الفرقان، وهي خاصة في القتل، وللآية الثانية العامة : ( إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً )(الزمر: 53). حق الله يسقط- بلا شك – بالتوبة ، وحق المقتول قيل: إنه يسقط ويتحمله الله عزّ وجلّ عمن تاب يوم القيامة، وقيل : لا يسقط، والأقرب : أنه يسقط، وأن الله جل وعلا يتحمل عنه ، أما حق أولياء المقتول فلا بد منه، فيسلم نفسه لآبناء المقتول وهم ورثته ويقول لهم: الآن افعلوا ما شئتم.
وهذا الحديث يدل على عظم قتل النفس ، وأنه من أكبر الكبائر والعياذ بالله ، وأن القاتل عمداً يخشى أن يسلب دينه.
* * *
221-وعن خولة بنت عامرٍ الأنصارية ، وهي امرأة حمزة- رضي الله عنهُ- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" رواه البخاري" [351].
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله – فيما نقله عن خولة زوجة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسمل قال:" إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة" هذا أيضاً مما يدل على تحريم الظلم في الأموال الذي خو خلاف العدل.
وفي قوله: " يتخوضون" دليلٌ على أنهم يتصرفون تصرفاً طائشاً غير مبني على أصول شرعية، فيفسدون الأموال ببذلها فيما يضر، مثل من يبذل أمواله في الدخان، أو في المخدرات، أو ف شرب الخمور، أو ما أشبه ذلك، وكذلك أيضاً يتخوضون فيها بالسرقات ، والغصب ، وما أشبه ذلك، وكذلك يتخوضون فيها بالدعاوى بالباطلة، كأن يدّعي ما ليس له وهو كاذب، وما أشبه ذلك.
(27/46)
فالمهم أن كل من يتصرف تصرفاً غير شرعي في المال- سواء ماله أو مال غيره- فإن له النار –والعياذ بالله- يوم القيامة إلا أن يتوب، فيرد المظالم إلى أهلها ، ويتوب مما يبذل ماله فيه من الحرام؛ كالدخان والخمر وما أشبه ذلك، فإنه ممن تاب الله عليه ، لقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (الزمر:53-59).
وفي هذا الحديث تحذير من بذل المال في غير ما ينفع والتخوض فيه ؛ لأن المال جعله الله قياماً للناس تقوم به مصالح دينهم ودنياهم، فإذا بذله في غير مصلحة كان من المتخوضين في مال الله بغير حق.
* * *
317 يعني الحديث القدسي العظيم " إني حرمت الظلم على نفسي"، أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم (2577)
318 أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم ، رقم (2578)
319 أخرجه البخاري ، كتاب الأدب . باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، رقم (6001) ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب كون الشرك أقبح الذنوب...، رقم (86).
320 تقدم تخريجه ص (117)
(27/47)
321 تقدم تخريجه ص (25).
322 أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم ، رقم (2582)
323 أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح رقم (450)، والترمذي، كتاب الطهارة باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به رقم (18)
324 أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم ، رقم (2581)
325 أخرجه البخاري، كتاب الزكاة ، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، رقم (1496) مسلم، كتاب الإيمان ، الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين، رقم (19)
326 أخرجه البخاري ، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم (4402- 4403).
327 أخرجه مسلم ، كتاب الفتن، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال ، رقم (169).
328 أخرجه مسلم ، كتاب الحج ، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، رقم (1297)، ولفظه :" لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحُجٌ بعد حجتي هذه"، وأخرجه ايضاً البيهقي في سننه ولفظه:" خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا".
329 أخرجه البخاري، كتاب الفتن ، باب ذكر الدجال، رقم (7131) ، ومسلم ، كتاب الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (2933).
330 أخرجه مسلم ، كتاب الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (2937).
331 أخرجه مسلم ، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (2937).
332 أخرجه البخاري ، كتاب المظالم ، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، رقم (2453)، ومسلم، كتاب المساقة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض، رقم (1612).
333 أخرجه البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ )، رقم (4686) مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم ، رقم (2583)
334 أخرجه مسلم ، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله..، رقم (1978).
335 تقدم تخريجه ص (349).
336 تقدم تخريجه ص (421).
(27/48)
337 أخرجه البخاري ، كتاب المظالم ، باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له، رقم (2449)
338 تقدم تخريجه ص (117)
339 أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ، باب المسلم من سلم المسلمون ...، رقم (10)، مسلم ،كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام..، رقم (40)
340 حديث جبريل أخرجه مسلم بتمامه ، كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ، رقم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأخرجه البخاري بنحوه كتاب التفسير، باب قوله : (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، رقم (4777) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1) أخرجه الترذمي ، كتاب باب ما جاء في حرمة الصلاة، رقم (3636)، ابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، رقم (3973)، وأحمد في المسند(5/331) وقال الترمذي: حسن صحيح.
341 أخرجه البخاري ، كتاب المغازي باب حجة الوداع، رقم (4406) ،ومسلم ، كتاب القسامة ، باب تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم (1679)
342 كما جاء ذلك في الحديث أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى:( أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) رقم (6878)، ومسلم، كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم ، رقم (1676).
343 أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب غلظ تحريم الغلول...، رقم (114).
344 أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله ..، رقم (1885).
345 تقدم تخريجه ص (27).
346 تقدم تخريجه ص (28).
347 تقدم تخريجه ص (489).
348 أخرجه أبو داود، كتاب البيوع باب في التمر بالتمر، رقم (3359)، والترمذي ، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة، رقم (1225) ، والنسائي ، كتاب البيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، رقم (4545)، ابن ماجه ، كتاب التجارات، باب بيع الرطب بالتمر ، رقم (2264) ، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.
349 تقدم تخريجه ص (120)
(27/49)
350 أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب قوله الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ) ، رقم (6862).
351 أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ، رقم (3118).
(27/50)
27- باب تعظيم حُرمات المُسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم
قال الله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ )(الحج:30) وقال تعالى:(وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر:88)، وقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً )(المائدة:32).
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى –: " باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم ورحمتهم" فالمسلم له حق على أخيه المسلم ، بل له حقوق متعددة، بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة:
منها : إذا لقيه فليسلم عليه ، يلقي عليه السلام، يقول : السلام عليكم ، ولا يحل له أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
ولكن لك أن تهجره لمدة ثلاثة أيام، إذا رأيت في هذا مصلحة ، ولك أن تهجره أكثر إذا رأيته على معصية أصرّ عليها ولم يتب منها ، فرأيت أن هجره يحمله على التوبة، ولهذا كان القول الصحيح في الهجر أنهم رخصوا فيه خلال ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فينظر فيه للمصلحة؛ إن كان فيه خيرٌ فليفعل، وإلا فلا، حتى لو جاهر بالمعصية، فإذا لم يكن في هجره مصلحة فلا تهجره.
ثم ساق المؤلف عدة آيات منها قوله تعالى : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)(الحج: 30) ، ومن يعظم حرماته: أي ما جعله محترماً من الأماكن أو الأزمان أو الأشخاص ، فالذي يعظم حرمات الله فهو خيرٌ له عند ربه، ومن كان يكره أو يشق عليه تعظيم هذا المكان كالحرمين مثلاً والمساجد، أو الزمان كالأشهر الحرم " ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب" وما أشبه ذلك، فليحمل على نفسه وليكرهها على التعظيم.
(28/1)
ومن ذلك تعظيم إخوانه المسلمين ، وتنزيلهم منزلتهم ، فإن المسلم لا يحل له أن يحقر أخاه المسلم ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"[352].
" بحسب" الباء هنا زائدة والمعنى: حسبه من الشر أن يحقر أخاه المسلم بقلبه، أو أن يعتدي فيوق ذلك بلسانه أو بيده على أخيه المسلم ، فإن ذلك حسبه من الإثم والعياذ بالله ، وكذلك أيضاً تعظيم ما حرمه الله عزّ وجلّ في المعاهدات التي تكون بين المسلمين وبين الكفار، فإنه لا يحل لأحد أن ينقض عهداً بينه وبين غيره من الكفار.
ولكن المعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين أتموا عهدهم فهؤلاء نتمم عهدهم
القسم الثاني: الذين خانوا أو نقضوا، قال الله تعالى:( فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(التوبة:7)، فهؤلاء ينتقض عهدهم كما فعلت قريش في الصلح الذي جرى بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فإنهم وضعوا الحرب بينهم عشر سنين، ولكن قريشاً نقضوا العهد، فهؤلاء ينتقض عهدهم ، ولا يكون بيننا وبينهم عهد، وهؤلاء قال الله فيهم : (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةَ)(التوبة:13) .
والقسم الثالث: من لم ينقض العهد لكن نخاف منه أن ينتقض العهد، فهؤلاء نبلغهم بأن لا عهد بيننا وبينهم ، كما قال تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58) .
(28/2)
فهذه من حرمات الله عزّ وجلّ ، وكل الله من زمان أو مكان أو إيمان فهو من حرمات الله عز وجل فإن الواجب على المسلم أن يحترمه ، ولهذا قال الله تعالى : ( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّه)(الحج: 30)، وقال : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32) .
الشعائر: العبادات الظاهرة سواء كانت كبيرة أم صغيرة؛ مثل الطواف بالبيت، والسعى بين الصفا والمروة، والأذان والإقامة، وغيرها من شعائر الإسلام فإنها إذا عظمها الإنسان كان ذلك دليلاً على تقواه ، فإن التقوى هي التي تحمل العبد على تعظيم الشعائر.أما ألاية الثالثة فهي قوله تعالي: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر: 88) وفي الاية الأخروي: ) لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الشعراء: 215) ، والمعني تذلل لهم لهم في المقال والفعال؛ لأن الؤمن مع أخيه رحيم به، شفيق به، كما قال تعالي في وصف النبي صلي الله عليه وسلم ومن معه: ) أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: 29).
(28/3)
وفي قوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر: 88)، دليلٌ على أن الإنسان مأمور بالتواضع لإخوانه وإن كان رفيع المنزلة، كما يرتفع الطير بجناحه، فإنه وإن كان رفيع المنزلة فليخفض جناحه وليتذلل وليتواضع لإخوانه.وليعلم أن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجلّ، والإنسان ربما يقول لو تواضعت للفقير وكلمت الفقير، أو تواضعت للصغير وكلمته أو ما أشبه ذلك، فربما يكون في هذا وضع لي، وتنزيل من رتبتي، ولكن هذا من وساوس الشيطان، فالشيطان يدخل على الإنسان في كل شيء، قال تعالى عنه: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (لأعراف:16-17).
فالشيطان يأتي الإنسان ويقول له : كيف تتواضع لهذا الفقير؟ كيف تتواضع لهذا الصغير؟ كيف تكلم فلاناً؟ كيف تمشي مع فلان؟ ولكن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجلّ، حتى وإن كان عالماً أو كبيراً أو غنياً، فإنه ينبغي أن يتواضع لمن كان مؤمناً، أما من كان كافراً فإن الإنسان لا يجوز له أن يخفض جناحه له، لكن يجب عليه أن يخضع للحق بدعوته إلى الدين، ولا يستنكف عنه ويستكبر فلا يدعوه، بل يدعوه ولكن بعزة وكرامة ، ودون إهانة له، فهذا معنى قوله: ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر:88).
(28/4)
وفي الآية الثانية: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215)، فهذه وظيفة المسلم مع إخوانه ، أن يكون هيناً ليناً بالقول وبالفعل ؛ لأن هذا مما يوجب المودة والألفة بين الناس، وهذه الألفة والمودة أمرٌ مطلوب للشرع ، ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن كل ما يوجب العداوة والبغضاء، مثل البيع على بيع المسلم[353]، والسوم على سوم المسلم، وغير ذلك مما هو معروف لكثير من الناس، والله الموفق.
* * *
وقال تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً )(المائدة:32)
222- وعن أبي مُوسى – رضي الله عنهُ- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبك بين أصابعه ، متفق عليه [354].
الشرح
(28/5)
سبق ذكر عدة آيات في بيان تعظيم حرمات المسلمين، والرفق بهم، والإحسان إليهم ، ومن جملة الآيات التي فيها بيان تعظيم حرمة المسلم قوله تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)(المائدة: 32)، بين الله في هذه الآية أن من قتل نفساً بغير نفسه أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ؛ لأن حرمة المسلمين واحدة، ومن انتهك حرمة شخص من المسلمين ، فكأنما انتهك حرمة جميع المسلمين، كما أن من كذب رسولاً واحداً من الرسل ، فكأنما كذب جميع الرسل. ولهذا أقرأ قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:105)، مع أنهم لم يكذبوا إلا واحداً ، فإنه لم يُبعث رسولٌ قبل نوح، وما بعد نوح لم يدركه قومه، لكن من كذب رسولاً واحداً فكأنما كذّب جميع الرسل، ومن قتل نفساً محرمة، فكأنما قتل الناس جميعاً ؛ لأن حرمة المسلمين واحدة، ومن أحياها أي سعى في إحيائها وإنقاذها من هلكة؛ فكأنما أحيا الناس جميعاً.
وإحياؤها وإنقاذها من الهلكة تارة يكوم من هلكة لا قبل للإنسان بها فتكون من الله ، مثل أن يشبّ حريق في بيت رجل، فتحاول إنقاذه ، فهذا إحياء للنفس.
وأما القسم الثاني فهم ما للإنسان فيه قبلٌ، مثل أن يحاول رجل العدوان على شخص ليقتله ، فتحول بينه وبينه وتحميه من القتل، فأنت الآن أحييت نفساً. ومن فعل ذلك فكأنما أحيا الناس جميعاً ؛ لأن إحياء شخص مسلم كإحياء جميع الناس.
(28/6)
وقوله عزّ وجلّ : (بِغَيْرِ نَفْسٍ ) يستفاد منه أن من قتل نفساً بنفس فهو معذور و لا حرج عليه . قال الله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ )(المائدة:45) ، فإذا قتل نفساً بحق أي بنفس أخرى فلا لوم عليه ولا إثم ، ويرث القاتل من المقتول إذا قتله بحق، ولا يرث القاتل من المقتول إذا قتله بغير حق.
ولنضرب لهذا مثلاً بثلاثة أخوة قتل الكبير منهم الصغير عمداً ، فالذي يرث الصغير أخوه الأوسط، وأخوه الكبير لا يرثه؛ لأنه قتله بغير حق ثم طاب الأوساط بدم أخيه الصغير ، فقتل أخاه الكبير قصاصاً، فهل يرث الأوسط من أخيه الكبير وهو قاتله؟ نعم يرث؛ لأنه قتله بحق. والكبير الذي قتل الصغير لا يرث؛ لأنه قتله بغير حق.
فالقتل بحق لا لوم فيه وليس له أثر؛ لأنه قصاص، والله تعالى يقول: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:179).
(28/7)
وقوله عزّ وجلّ: (أَوْ فَسَادٍ)والفساد في الأرض ليس معناه أن يسلط الإنسان الحفار فيهدم بيتاً ولو كان ذلك بغير حق. فهذا وإن كان فساداً ، لكن لا يحل به دم مسلم ، والفساد في الأرض إنما يكون بنشر الأفكار السيئة، أو العقائد الخبيثة، أو قطع الطريق، أو ترويج المخدرات أو ما أشبه ذلك، هذا هو الفساد في الأرض. فمن أفسد في الأرض على هذا الوجه فهدمه هدر حلال، يُقتل لأنه ساع في الأرض بالفساد؛ بل إن الله تعالى قال في نفس السورة: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ ٌ) (المائدة:33)، على حسب جريمتهم ، إن كانت كبيرة فبالقتل ، وإن كانت دونها فبالصلب، وإن كانت دونها فبقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى،، وإن كان دون ذلك فبأن ينفوا من الأرض، إما بالحبس مدى الحياة. كما قال بذلك بعض أهل العلم ، وإما بالطرد عن المدن كما قاله آخرون، لكن إذا كان لا يندفع شرهم بطردهم من المدن حبسوا إلى الموت.
فالحاصل: أن من قتل نفساً لإفسادها في الأرض فلا لومه عليه؛ بل إن قتل النفس التي تسعى للإفساد في الأرض واجب، وقتل النفس بالنفس مباح إلا على رأى الإمام مالك رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن قتل الغيلة واجب فيه القصاص، يعني من غافل شخصاً فقتله فإنه يُقتل حتى ولو عفا أولياء المقتول؛ لأن الغيلة شر وفساد، لا يمكن التخلص منها.
مثلاً يجيء إنسانا لشخص أثناء نومه فيقتله، فهذا يقتل على كل حال، حتى ولو قال أولياء المقتول: عفونا عنه ولا نبغي شيئاً، هذا رأي الإمام مالك وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وهو القول الحق، أنه إذا قتل إنسان غيلة فلابد من قتل القاتل، ولا خيار لأولياء المقتول في ذلك:
(28/8)
فالحاصل إن الله بين في هذه الآية أن قتل نفس واحدة بغير نفس أو فساد في الأرض كقتل جميع الناس، وإحياء نفس واحدة كإحياء جميع الناس، وهذا يدل على عظم القتل، ولو أن إنساناً أحصى كم قتل من بني آدم بغير حق لم يقدر، ومع ذلك فكل نفس تقتل فعلى ابن آدم الأول الذي قتل أخاه كِفل منها ، وعليه من إثمه نصيب.
وابن آدم الذي قتل أخاه، قتله حسداً ، حيث كان أول ما جاء آدم من الأبناء اثنين من بني آدم ، وقد قربا قرباناً، قربة إلى الله ، فتقبل الله من واحد ولم يتقبل من الآخر، فقال الثني الذي لم يتقبل منه لأخيه : لأقتلنك، لماذا يتقبل الله منك ولا يتقبل مني؟ حسده على فضل الله تعالى عليه ، فقال له ربه: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة: 27)، يعني اتق الله ويقبل الله منك، كلن من توعد أخاه بالقتل فليس بمتقٍ لله. وفي النهاية قتله والعياذ بالله (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:30)، خسر- والعياذ بالله- بهذه الفعلة الشنيعة التي أقدم عليها.
ويقال : إنه بقي يحمل أخاه الذي قتله أربعين يوماً على ظهره ، ما يدرى ماذا يفعل به، لأن القبور لم تعرف في ذلك لوقت، فبعث الله غراباً يبحث في الأرض، يعني بأظفاره ليريه كيف يواري سوأة أخيه، وقيل إن غرابين أقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر أحدهما للثاني فدفنه، فاقتدى به هذا القاتل ودفن أخاه، وهذا من العجائب ا، تكن الغربان هي التي علمت بني آدم الدفن.
(28/9)
فالحاصل: أن كل نفس تقتل بغير حق؛ فعلى القاتل الأول من إثمها نصيب والعياذ بالله. وهكذا أيضاً من سنّ القتل بعد أمن الناس وصار يغتال الناس وما أشبه ذلك، وتجرأ الناس على هذا من أجل فعله، فإن عليه من الإثم نصيباً؛ لأنه هو الذي كان سبباً في انتهاك هذا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم الدين. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من دُعاة الخير وفاعليه. إنه جواد كريم.
* * *
223-وعن ابي موسى الأشعري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مر في شيء من مساجدنا ، أو أسواقنا ، ومعه نبلٌ فيمسك ، و ليقبض على نصالها بكفه أن يُصيب أحدا من المسلمين منها بشيء" متفق عليه [355].
225- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه – قال :" قبل النبي صلى الله عليه وسمل الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعندهُ الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً ، فنظر اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من لا يرحم لا يرحم" متفق عليه [356].
الشرح
ذكر المؤلف – رحمه الله – جملة من أحاديث الرفق بالمسلمين ، منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من مرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك ، أو ليقبض على نصالها بكفه".
النبل: السهام التي يُرمى بها ، وأطرافها تكون دائماً دقيقة تنفذ فيما تصيبه من المرمي، فإذا أمسك الإنسان بها وقى الناس شرها. وإذا تركها هكذا فربما تؤذي أحداً من الناس، ربما يأتي أحدٌ بسرعة فتخدشه ، أو يمرّ الرجل الذي يمسك بها وهي مفتوحة غير ممسكة فتخدشهم أيضاً.
ومثل ذلك أيضاً العصيّ، إذا كان معك عصّا فامسكها طولاً، يعني اجعل رأسها إلى السماء ولا تجعلها عرضاً؛ لأنك إذا جعلتها عرضاً آذيت الناس الذين وراءك، ربما تؤذى الذين أمامك . ومثله الشمسية أيضاً؛ إذا كان معك شمسية وأنت في السوق فارفعها ، لئلا تؤذي الناس.
(28/10)
فكل شيء يؤذي المسلمين أو يُخشى من أذيته فإنه يتجنبه الإنسان ؛لأن أذية المسلمين ليست بالهينة. قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58).
ومن الأحاديث التي ذكرها المصنف حديث أبي هريرة- رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان عنده الأقرع بن ، والحسن بن على بن أبي طال هو ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجده من أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه على بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبُ الحسن والحسين؛ لأنهما سبطاه، يفضل الحسن على الحسين، لأن الحسن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم :" إن ابني هذا سيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين"[357] فكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما حصلت الفتنة في زمن معاوية، وآلت الخلافة إلى الحسن بعد أبيه على بن أبي طالب رضي الله عنه ، تنازل عنها – رضي الله عنه – لمعاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين؛ لأنه يعلم أن في الناس أشراراً ، وأنهم ربما يأتون إليه ويغرونه كما فعلوا بأخيه الحسين بن علي رضي الله عنهم ، غرّه أهل العراق وحصل ما حصل من المقتلة العظيمة في كربلاء وقُتل الحسين.
أما الحسن رضي الله عنه فإنه تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، فصار ذلك مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين".
(28/11)
كان عند النبي صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس من زعماء بني تميم، والغالب أن أهل البادية وأشباههم يكون يهم جفاء، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحداً منهم ، أعوذ بالله من قلب قاسٍ لا يقبلهم ولو كانوا صغاراً ، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" من لا يرحم لا يُرحم" يعني أن الذي لا يرحم عباد الله لا يرحمه الله ، ويُفهم من هذا أن من رحم عباد الله رحمه الله ، وهو كذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " الراحمون يرحمهم الرحمن"[358]
ففي هذا دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل الرحمة في معاملة الصغار ونحوهم، وأنه ينبغي للإنسان أن يقبّل للإنسان أن يقبل أبناءه، وأبناء بناته، وأبناء أبنائه، يقبلهم رحمة بهم ، واقتداءً برسل الله صلى الله عليه وسلم ، أما ما يفعله بعض الناس من الجفاء والغلظة بالنسبة للصبيان، فتجده لا يمكن صبيه من أن يحضر على مجلسه، لا أن يمكِّن صبيه من أن يطلب منه شيئاً، وإذا رآه
عند الرجال انتهره ، فهذا خلاف السنة وخلاف الرحمة.
كان النبي عيه الصلاة والسلام يصلي بالناس إحدى صلاتي العشي، إما العصر وإما الظهر، فجاءته بنت بنته " أمامة" ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها وهو يصلي بالناس؛ إذا قام حملها ، وإذا سجد وضعها[359] . فأين هذا الخلق من أخلاقنا اليوم؟ الآن لو يجد الإنسان صبيه في المسجد أخرجه فضلاً عن كونه يحمله في الصلاة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام ساجداً فجاءه الحسن أو الحسين فركب عليه – أي جعله راحلة له- فأطال النبي صلى الله عليه السجود ، فلما سلم قال:" إن أبني أرتحلني وإني كرهت أن أقٌوم حتى يقضي نهمته"[360].
(28/12)
وكان صلى الله عليه وسم ليخطب الناس يوماً على المنبر، فأقبل الحسن والحسين وعليهما ثوبان جديدان يعثران بهما، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وحملهما بين يديه وقال: صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن:15)
، نظرت إليى هذين الصبيين يعثران فلم أصبر" يعني فما طابت نفسه حتى نزل وحملهما .
ففي هذا كله وأمثاله دليلٌ على أنه ينبغي للإنسان أن يرحم الصغار، ويلطف بهم ، وأن ذلك سبب لرحمة الله عزّ وجلّ، نسأل الله أن يعمنا وإياكم برحمته ولطفه وإحسانه.
* * *
226- وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:" أتقبلون صبيانكم؟ فقال :" نعم" قالوا : لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟" متفق عليه[361].
227- وعن جرير بن عبد الله – رضي الله عنه – قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لا يرحم لا يرحم الناس لا يرحمه الله " متفق عليه [362].
228- وعن أبي هُريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه ، فليطول ما شاء " متفق عليه وفي رواية :" وذا الحاجة"[363].
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله عن عائشة- رضي الله عنهما – قالت: جاء قوم من الأعراب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا: هل تقبلون صبيانكم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم" . الأعراب كما نعلم جميعاً جفاة، وعندهم غلظة وشدة ولا سيما رعاة الإبل منهم، فإن عندهم من الغلظة والشدة ما يجعل قلوبهم كالحجارة. نسأل الله العافية. قالوا : إنا لسنا نقبل صبياننا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:" أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة"؟ يعني لا أملك لكم شيئاً إذا نزع الله الرحمة من قلوبكم.
(28/13)
وفي هذا دليلٌ على تقبيل الصبيان شفقة عليهم ورقة لهم ورحمة بهم . وفيه دليلٌ على أن الله تعالى قد أنزل في قلب الإنسان الرحمة ، وإذا أنزل الله في قلب الإنسان الرجمة فإنه يرحم غيره، وإذا رحم غيره رحمه الله عزّ وجلّ ، كم في الحديث الثاني حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من لا يرحم لا يرحمه الله " نسأل الله العافية.
الذي لا يرحم الناس لا يرحمه الله عزّ وجلّ ، والمراد بالناس : الناس الذين هم أهل للرحمة كالمؤمنين وأهل الذمة ومن شبابههم، وأما الكفار الحربيون فإنهم لا يُرحمون ، بل يقتلون لأن الله تعالى قال في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح:29)، وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).
ذكر الله تعالى هذه الآية في سورتين من القرآن الكريم بهذا اللفظ نفسه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)ذكرها الله في سورة اللتوبة وفي سورة التحريم ، وقال تعالى: (وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ )(التوبة: 120).
وكذلك أيضاً رحمة الدواب والبهائم فإنها من علامات رحمة الله عزّ وجلّ للإنسان؛ لأنه إذا رق قلب المرء رحم كل شيء ذي روح، وإذا رحم كل شيء ذي روح رحمه الله . قيل : يا رسول الله ؛ ألنا في البهائم أجر؟ قال:" نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر" [364]
(28/14)
ومن الشفقة والرحمة بالمؤمنين أنه إذا كان الإنسان إماماً لهم ، فإنه لا ينبغي له أن يطيل عليهم في الصلاة. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف ، فإن من ورائه السقيم والضعيف وذا الحاجة والكبير" يعني من ورائه أهل الأعذار الذين يحتاجون إلى التخفيف، والمراد بالتخفيف ما وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا هو التخفيف وليس المراد بالتخفيف ما وافق أهواء الناس، حتى صار الإمام يركض في صلاته ولا يظمئن . قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ما صليت وراء إمام قطّ أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فكأن يقرأ في فجر الجمعة" آلم تنزيل" السجدة كاملة في الركعة الأولى. و(هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ)(الانسان:1) كاملة في الركعة الثانية، وكان يقرأ بسورة الدخان في المغرب، ويقرأ فيها بالمرسلات ، ويقرأ فيها بالطور، ربما قرأ فيها بالأعراف ، ومع هذا فهي خفيفة، قال أنس رضي الله عنه: ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم [365].
وليس هذا الحديث حجة للذين يريدون من الأئمة أن يخففوا تخفيفاً ينقص الأجر ويخالف السنة. ثم أعلم أنه قد يكون التخفيف عارضاً طارئاً ، مثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، كان يدخل في الصلاة وهو يريد أن يطيل فيها، فيسمع بكاء الصبي فيوجز مخافة أن تفتتن أمه[366]. فإذا حصل طارئ يوجب أن يخفف الإنسان صلاته فليخفف، لكن على وجه لا يخف بالواجب.
فالتخفيف نوعان:
تخفيف دائم: وهو ما وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم . وتخفيف طارئ يكون أخفّ، وهو ما دعت إليه الحاجة، وهو أيضاً من السنة، فإن النبي صلى الله عليه ولسم كان إذا سمع بكاء الصبي خفف الصلاة حتى لا تفتتن أمه، والمهم أنه ينبغي للإنسان مراعاة أحوال الناس ورحمتهم.
* * *
(28/15)
229- وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل . وهو يحب أن يعمل به ، خشية أن يعمل به الناسُ فيُفرض عليهم" متفقٌ عليه [367]
230- وعنهما رضي الله عنها قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا: إنك تواصل ؟ قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيتُ يُطعمُني ربي ويسقينى " متفق عليه[368].
معناهُ يجعلُ في قوة من أكل وشرب.
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى – فيما نقله عن عائشة – رضي الله عنها – في باب الرفق بالمسلمين والشفقة عليهم ، قالت عائشة – رضي الله عنها -: " إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يفعله؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". قولها :" إن كان" " إن" هذه مخففة من الثقيلة ، وأصلها " إنّ" ، ويقول النحويون : إن اسمها محذوف ويسمونه ضمير الشأن، وجملة ( كان ليدع) خيرها. فالجملة هنا ثبوتية وليست سلبية. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله ، لئلا يعمل به الناس، فيفرض عليهم ، فيشق عليهم.
ومن ذلك ما فعله في رمضان عليه الصلاة والسلام. صلى في رمضان ذات ليلة، فعلم به أُناسٌ من الصحابة، فاجتمعوا إليه وصلوا معه، وفي الليلة الثانية صلوا أكثر، وفي الثالثة أكثر وأكثر، ثم ترك الصلاة في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام:" أما بعد، فإنه لم يخف علىّ مكانكم" يعني ما جرى منهم من الاجتماع " ولكني كرهت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها [369]" فترك هذا القيام جماعة خوفاً من أن يفرض على الأمة وهذا من شفقته صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول: لو لا أن أشق على أمتي لفعلت كذا وكذا، أو لآمرت بكذا وكذا، مثل قوله :" لولا أن أشق على أمتي لأمرته بالسواك عند كل صلاة[370].
(28/16)
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم حين تأخر في صلاة العشاء حتى ذهب عامة الليل ، فقال : " إنه لوقتها"[371] يعني آخر الوقت. ثم قال :" لولا أن أشق على أمتي" فهو عليه الصلاة والسلام كان يدع العمل ويدع الأمر بالعمل ؛ خوفاً من أن يشق على الأمة.
ومن ذلك أيضاً ما روته عائشة رضي الله عنها – أنه نهاهم عن الوصال رحمة بهم، يعني نهى الصحابة عن الوصال. والوصال يعني أن يصل الإنسان يومين فأكثر في الصيام من غير فطر، يعني يصوم الليل والنهار يومين أو ثلاثة أو أكثر، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكنهم رضي الله عنهم فهموا أنه نهاهم رحمة بهم لا كراهة للعمل، فواصلوا ثم واصلوا حتى هل شهر شوال، فقال صلى الله عليه وسلم :" لو تأخر الهلال لزدتكم"[372] يعني لأبقيتكم تواصلون ، قال ذلك تنكيلاً لهم ، حتى يعرفوا ألم الجوع والعطش ، ويكفوا عن الوصال من أنفسهم.
الحاصل أنه نهاهم عن الوصال رحمة بهم . فقالوا : إنك تواصل ونحن نقتدي بك . فقال: " إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقينى" يعني أنه عليه الصلاة والسلام ليس كالأمة، بل هو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، ومعنى ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يتهجد بالليل ، ويخلو بالله عزّ وجلّ بذكره ، وقراءة كلامه، وغير ذلك مما يغنيه عن الأكل والشرب، لأن الإنسان إذا اشتغل بالشيء نسي الأكل والشرب، خصوصاً إذا كان الشيء مما يحبه ويرضاه، ولهذا قال الشاعر في محبوبته:
لها أحاديث من ذكراك تشعلها
……………عن الشراب وتلهيها عن الزاد
(28/17)
يعني أنها إذا قعدت تتحدث عن هذا الرجل تكثر من ذكره حتى يلهيها ذلك عن الطعام والشراب، وهو أمر واقع واضح . حتى إن الإنسان قد يكون في الأشغال يشتغل بها، فيلهو عن الأكل والشرب، مثل طالب العلم الذي يكون منهوماً بالعلم شغوفاً به، ربما يبقى ي مكتبته يطالع من الصباح إلى المساء ، فينسى الأكل والشرب ، ينسى الغداء والعشاء ، وربما ينسي النوم، وكذلك طالب الدنيا منهوم لا يشبع، ربما يبقى في دفاتره وحساباته فينشغل عن الأكل والشرب.
ويذكر أن رجلاً غنياً كان يشتغل بحساباته وبكتاباته وماله وله زوجة، وكان له جار فقير متزوج، وكانوا يشعرون بأن هذا الجار الفقير يعاشر زوجته المعروف ، فغارت زوجة الغني؛ لأن الغني غافل عنها ، فقالت له: ألا تنظر إلى جارنا يعاشر زوجته بالمعروف، ويستأنس مع أهله، ففطن الرجل الغني لهذا ، فدعا الرجل الفقير وقال له : إنك رجلٌ فقيرٌ تحتاج على المال، وأنا سأعطيك مالاً تتجر به، فأعطاه المال يتجر به، فانشغل به الفقير عن اهله، وصال لا يعاشرهم ولا يؤنسهم ، فصار مثل التاجر.
فالإنسان إذا انشغل بالشيء المحبوب إليه أنساه كلّ شيء ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إني ابيت عند ربي يطعمني ويسقين" فلست كهيئتكم، وما زعمه بعض أهل العلم من أن المراد بالإطعام والإسقاء، الإطعام من الجنة والإسقاء من الجنة فليس بصحيح ؛ لأنه لو طعم طعاماً حسياً وشرب شراباً حسياً، لم يكن واصلاً، وإنما المراد بالطعام والسقي ما يشتغل به صلى الله عليه وسلم من ذكر الله بقلبه ولسانه وجوارحه.
والحاصل : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل وينهى أمته على الوصال رحمة بهم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
* * *
(28/18)
231- وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي – رضي الله عنه قال- قال : رسول الله صلى الله عليه وسل :" إني لأقوم إلى الصلاة، وأريدُ أن أُطول فيها فأسمع بُكاء الصبي ، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه" رواه البخاري [373].
232- وعن جُندب بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذكته بشيء يُدركهُ، ثم يكفه على وجهه في نار جهنم " رواه مسلم [374].
الشرح
ذكر المؤلف – رحمه الله تعالى – في باب الرفق بالمسلمين فيما نقله عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري- رضي الله عنه – عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال :" إني لأقوم إلى الصلاة وأريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز كراهية أن أشق على أمه" هذا الحديث من النماذج التي تدل على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، كما وصفه الله تعالى به في قوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
، فهو يدخل في صلاة الجماعة يريد أن يطيل فيها ، والمراد الإطالة النسبية، ليست الإطالة الزائدة عما كان يفعله من قبل، فإذا سمع بكاء الصبي أوجز وخفف مخافة أن يشق على أمه؛ لأن أمه إذا سمعت بكاءه فإنه يشق عليها أن تسمع بكاء ابنها، وربما يشغلها كثيراً عن الصلاة ، فيخفف عليها الصلاة والسلام لأجل ذلك.
ففي هذا الحديث فوائد منها:
أولاً: رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليها.
ثانياً: جواز حضور النساء إلى المساجد ليصلين مع الجماعة، وهذا ما لم تخرج المرأة على وجه لا يجوز، مثل أن تخرج متعطرة أو متبرجه، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مقال:" إيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء" [375].
(28/19)
ثالثاً: جواز إدخال الصبيان المسجد ، هذا إذا كان صبيها معها، وإن كان خارج المسجد قريباً منه فليس فيه دلالة، لكنه يصعب أن تسمع المرآة بكاء صبيها في البيت وهي في المسجد، فالظاهر أن صبيانهن كانوا معهن فيكون فيه دليلٌ على جواز إدخال الصبيان المساجد، لكن بشرط أن لا يحصل منهم أذية لا على المسجد ولا على المصلين ، فإن كان يخشى منهم أذية على المسجد كتلويثه بالبول والنجاسة؛ فإنهم يمنعون ، وكذلك إذا كان يخشى منهم التشويش على الناس بالصراخ والركض والجلبة، فإنهم يمنعون أيضاً . أما إذا لم يكن منهم بأس ؛ فإنه لا بأس أن يؤتى بهم إلى المساجد.
وأما حديث " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم" فهو ضعيف [376].
رابعاً: أنه يجوز للمصلى أن يسمع ما حوله ولا يلزمه أن يسدّ أذنيه، بل له أن يسمع، لكن إن كان ما حوله يشوش عليه إذا سمعه فلا يصلينَّ حوله وإنما يبعد ، كما لو أراد الإنسان أن يصلى في المسجد وحوله حلقة ذكر أو حلقة قرآن، ويخشي أن يشوشوا عليه إذا دنا منهم، فليبعد، وأما إذ لم يشوشوا فلا بأس أن يسمع بخلاف الاستماع فإن المصلي لا يستمع إلا إلى قراءة إمامه.
وعلى هذا إذا كنت تصلي وجاء القارئ يقرأ حديثاً أو موعظة، فلا تشد سمعك إليه، لا تستمع؛ لأن هذا غير مشروع، ولا تجعل تركيزك معه، أما إذا سمعته ولكنك ماضٍ في صلاتك لم تهتم به ولم تلتفت إليه فلا بأس.
خامساً: ومن فوائد هذا الحديث أنه يجوز للمصلي أن يغير نيته من تطويل إلى تخفيف أو بالعكس، إذا وُجد سبب لذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل في الصلاة يريد أن يطيلها فيخفف.
فإذا دخل الإنسان في صلاته وهو يريد أن يطيل ، ثم جاءه شخص وقال له: عند الباب ضيوف أو ما أشبه ذلك؛ فلا بأس أن يخفف ليذهب إلى ضيوفه كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل هذا.
سادساً: ومن فوائد هذا الحديث:
(28/20)
أنه لا حرج على الإنسان إذا شق عليه بكاء ابنه أو ما يؤذي ابنه من ألمٍ أو شبهه؛ لأن هذا من الأمور الفطرية الطبيعية، فإن كل إنسان يشق عليه أن يسمع بكاء أبنه؛ بل إن من الناس من يشق عليه أن يسمع بكاء الصبي مطلقاً حتى ولو لم يكن أبناء له رحمة بالصبيان، ولا شك أن الرحمة بالصبيان ومراعاتهم واتقاء ما يؤذيهم من أسباب الرحمة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قبل :" من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " و " الراحمون يرحمه الرحمن" و " إنما يرحم الله من عباده الرحماء" وأشباه هذه الأحاديث ، فكون الإنسان يشق عليه بكاء الصبيان رحمة لهم، لا شك أن هذا من الخلق المحمود؛ لأنه رحمة بهؤلاء الصغار الذين هم أهل للرحمة ، الله الموفق.
ثم ذكر المؤلف – رحمه الله – حديث جندب بن عبد الله – رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من صلى الفجر فهو في ذمة الله " الفجر هي الصلاة الأولى عند بعض العلماء . وعند بعض العلماء أن الصلاة الأولى هي صلاة الظهر، لكن الأصح أن الصلاة الأولي هي صلاة الفجر، والثانية: الظهر، والثالثة: العصر، وهي الوسطى، والرابعة : المغرب، والخامسة: العشاء..
وصلاة الفجر تأتي وكثيرٌ من الناس نيام، ولهذا يتكاسل عنها المنافقون ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أثقل الصلاة على المنافقين : صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لاتوهما ولو حبوا" [377]
وهي وصلاة العصر أفضل الصلوات الخمس ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسمل :" من صلى البردين دخل الجنة"[378].
و البردان هما : الفجر والعصر؛ لأن الفجر براد الليل، والعصر براد النهار، وقوله:" من صلى الفجر" ظاهره من صلى في جماعة أو غير جماعة.
(28/21)
وقوله:" فهو في ذمة الله " أي في عهده، يعني أنه دخل في عهد الله فكأنه معاهد لله عزّ وجلّ أن لا يصيبه أحد بسوء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :" فلا يطلبنكم الله في ذمته بشيء" يعني لا يترك عهد على من صلى الفجر؛ لأنه في ذمة الله وفي عهده، فإياكم أن يطلبكم الله تعالى من ذمته بشيء، " فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في النار".
ففي هذا دليلٌ على أنه يجب احترام المسلمين الذين صدقوا إسلامهم بصلاة الفجر؛ لأن صلاة الفجر لا يصليها إلا مؤمن، فالمنافقون لا يشهدون الجماعة، ولا يصلون الفجر أبداً ؛ لأنهم إنما يصلون مراءاة للناس، فإذا لم يكن الناس ينتبهون لهم، فإنهم لا يصلون.
والفجر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليست كالفجر في يومنا هذا، بل كان الليل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً حالكاً لا يُرى الناس فيه ، فيأتي الإنسان ويذهب وهو لا يُعرف ، لكن ليلنا الآن – ولله الحمد – كنهارنا بما أنعم الله علينا به من هذه الإضاءة بالكهرباء، لكنها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لظلمتها ومشقتها ؛ كان المنافقون لا يصلون الفجر والعشاء جماعة. والحاصل أن هذا الحديث يدل على وجوب احترام المسلمين الذين برهنوا على إسلامهم بصلاة الفجر، وإنه لا يجوز لأحد أن يعتدي عليهم.
233- وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه: كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة؛ من كرب يوم القيامة، من ستر مسلماً؛ ستره الله يوم القيامة" متفق عليه [379].
الشرح
(28/22)
قال المؤلف رحمه الله تعالى – فيما نقله عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسمل قال:" المسلم أخو المسلم" يعني في الدين، كما قال الله تبارك وتعالى: ( فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً )(آل عمران:م103) وقال الله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)(الأحزاب:5)وهذه الأخوة هي أوثق الأخوات ، أوثق من أخوة النسب، فإن أخوة النسب قد يتخلف مقتضاها، فيكون أخوك من النسب عدواً لك كارهاً لك ، وذلك يكون في الدنيا وفي الآخرة. قال الله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67).
أما أخوة الدين فإنها أخوة ثابتة راسخة في الدنيا وفي الآخرة ، تنفع الإنسان في حياته وبعد مماته، لكن هذه الأخوة لا يترتب عليها ما يترتب على أخوة النسب من التوارث ووجوب النفقة وما أشبه ذلك.
ثم قال : " لا يظلمه ولا يسلمه" لا يظلمه لا في ماله ، ولا في بدنه، ولا في عرضه، ولا في أهله، يعني لا يظلمه بأي نوع من الظلم " ولا يسلمه يعني لا يسلمه لمن يظلمه ، فهو يدافع عنه ويحميه من شره، فهو جامع بين أمرين:
الأمر الأول: أنه لا يظلمه.
والأمر الثاني: أنه لا يسلمه لمن يظلمه بل يدافع عنه.
ولهذا قال العلماء – رحمهم الله -: يجب على الإنسان أن يدافع عن أخيه فعرضه وبدنه وماله. في عرضه: يعني إذا سمع أحداً يسبه ويغتابه ، يحب عليه أن يدافع عنه. وكذلك أيضاً في بدنه : إذا أراد أحد أن يعتدي على أخيك المسلم وأنت قادر على دفعه، وجب عليك أن تدافع عنه، وكذلك في ماله: لو أراد أحد أن يأخذ ماله، فإنه يجب عليك أن تدافع عنه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام:" والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه" يعني أنك إذا كنت في حاجة أخيك تقضيها وتساعده عليها؛ فإن الله تعالى يساعدك في حاجتك ويعينك عليها جزاءً وفاقاً.
(28/23)
ويُفهم من ذلك أن الإنسان إذا ظلم أخاه؛ فإن أخوته ناقصة، وإذا أسلمه إلى من يظلمه؛ فإن أخوته ناقصة، وإذا أسلمه إلي من يظلمه، فإن أخوفه ناقصة، وإذا لم يكن في حاجته، فإن هذا يفوته الخير العظيم، وهو كون الله تعالى في حاجته.
ثم قال:" ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" الكرب ما يضيق على الإنسان ويشق عليه ، ويجد له في نفسه هماً وعماً، فإذا فرجت عن أخيك هذه الكربة؛ فرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة.
وتفريج الكربات يكون في أمور متعددة: إن كانت كربة مالية؛ فبإعطائه المال الذي تزول به الكربة، وإن كانت كربة معنوية؛ فبالحرص على رد معنويته ورد اعتباره حتى تزول عنه الكربة، وإذا كامن كربة هم وغم؛ فبأن توسع عليه وتنفس له ، وتبين له أن الأمور لا تدوم، وأن دوام الحال من المحال، وتبين له ما في هذا من الأجر والثواب العظيم، حتى تهون عليه الكربة.
" ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة" من ستر يعني : غطى عيبه ولم يبينه، فإن الله يستره في الدنيا والآخرة، وهذا ليس على إطلاقه فهناك نصوص تدل على أنه غير مطلق، فالستر قد يكون مأموراً به محموداً، وقد يكون حراماً ، فإذا رأينا شخصاً على معصية ،وهو رجلٌ شرير منهمك في المعاصي، لا يزيده الستر إلا طغياناً؛ فإننا لا نستره، بل نبلغ عنه حتى يُردع ردعاً يحصل به المقصود. أما إذا لم تبدر مه بوادر سيئة، ولكن حصلت منه هفوة ، فإن من المستحب أن تستره ولا تبينه لأحد، لا للجهات المسؤولة ولا لغيرها، فإذا سترته ستر الله عليك في الدنيا والآخرة.
(28/24)
ومن ذلك أيضاً أن تستر عنه العيب الخلقي، إذا كان فيه عيب في خلقته كجروح مؤثرة في جلده أو برص أو بهق أو ما أشبه ذلك، وهو يتستر ويحب ألا يطلع عليه الناس فإنك تستره، إذا سترته سترك الله في الدنيا والآخرة. وكذلك إذا كان سيئ الخلق لكنه يتظاهر للناس بأنه حسن الخلق وواسع الصدر ، وأنت تعرف عنه خلاف ذلك، فاستره . فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة فالستر كما قلت بالنسبة للأعمال السيئة التي يقوم بها الإنسان ينقسم إلى قسمين:
قسم يكون من شخص منهمك في المعاصي مستهتر، فهذا لا نستر عليه.
وقسم آخر حصل منه هفوة، فهذا هو الذي نستر عليه. أما الأمور الأخرى فالستر فيها أكمل وأفضل ، الله المستعان.
* * *
234- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسمل :" المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذلهُ. كل المسلم على المسلم حرامٌ: عرضه وماله ودمهُ، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" رواه الترمذي وقال : حديث حسن[380]
الشرح
قال المؤلف رحمه الله تعالى – فيما نقله عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" المسلم أخو المسلم" وقد تقدم الكلام على هذه الجملة. وأن هذه الأخوة أخوة الإيمان، وأنها أقوى رابطة وأوثق من أخوة النسب ، وبينا وجه ذلك فيما سبق.
وبين هنا في هذا الحديث أنه " لا يظلمه ولا يخونه ولا يكذبه" لا يخونه يعني لا يغدر به في محل الائتمان، إذا ائتمنه على شيء، أو على مال ، أو على سر، أو على غير ذلك فإنه لا يخونه، والخيانة هي الغدر بالشخص في موضع الائتمان، ولا يجوز لأحد أن يخون أخاه المسلم حتى وإن خانه.
(28/25)
يعني وإن خانك أخوك المسلم فلا تخنه ، لقول النبي صلى الله عليه وسمل : أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" [381] فلو فرضنا أن شخصاً خانك في مال؛ بان أقرضته مالاً أي سلفته، ثم أنكر بعد ذلك وقال: لم تقرضني شيئاً ؛ فإنه لا يحل لكل أن تخونه فتقترض منه ثم تنكره، بل أد إليه أمانته وأسال الله الحق الذي لك؛ لقول عليه الصلاة والسلام :" لا تخن من خانك".
كذلك أيضاً " لا يكذبه" أي لا يحدثه بكذب، والكذب حرام، وكلما كان آثاره أسوأ كان أشد إثماً. وليس في الكذب شيء حلالاً ، وأما من ادعاه بعض العامة حيث يقولون: إن الكذب نوعان: أسود وأبيض، فالحرم هو الأسود، و الحلال هو الأبيض، فجوابه : أن الكذب كله أسود ، ليس فيه شيء أبيض، لكن يتضاعف إثمه بحس ما يترتب عليه ، فإذا كان يترتب عليه أكل مال المسلم ، أو غررٌ على مسلم، صار اشد إثماً، وإذا كان لا يترتب عليه أي شيء من الأضرار،فإنه أخف ولكنه حرام.
لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم " إنه رخص في الكذب عند الإصلاح بين الناس وفي الحرب، وفي حديث الرجل امرأته .وحديثها إياه"[382]
ولكن كثيراً من العلماء قال : إن المراد بالكذب في هذا الحديث ليس الكذب الصريح، وإنما هو التورية، والتورية تسمى كذباً ، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يأتي الناس له يوم القيامة ليشفع لهم : إنه كذب ثلاث كذبات[383]، وهو لم يكذب ولكنه ورى تورية، يعني أظهر للمخاطب شيئاً غير الذي يريده نهو ، فبعض العملاء يقول : إن هذا الحديث الذي فيه أن الكذب يجوز في هذه الأشياء الثلاثة، يراد به كذب التورية لا الكذب الصريح، وعلى هذا فلا يستثنى من الكذب شيء، وكل الكذب حرام ، ثم أعلم الكذب يحار فيه الإنسان ويعجز عنه معالجته كما قيل:
لي حيلة في من ينمُّ………وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقولُ………فحيلتي فيه قليله
(28/26)
الذي ينمُّ والذي يلقي النميمة بين الناس ، لي فيه حيلة أي يمكن أن احتال و اتخلص منه ومن شره، لكن الذي يكذب يقول فعلت وفعلت وهو كاذب. ليس في فيه حيلة إذا كان يخلق ما يقول وما شاء قاله، فهذا مشكل ليس لي فيه حيلة، ولهذا قال هنا :" ولا يكذبه".
وفي لفظ " ولا يحقره" يعني لا يحتقره ولا يستصغره، حتى وإن كان اكبر منه سناً، وإن كان أكثر منه مالاً، وإن كان أغزر منه عالماً فلا يحقره.
واحتقار الناس من الكبر- والعياذ بالله – قال النبي صلى الله عليه وسلم :" الكبر بطر الحق، وغمط الناس" [384]بطر الحق يعني ردّه، وغمط الناس يعني احتقارهم وازدراءهم فالمسلم يرى أخاه بعين الإكبار ويحترمه ويعظمه ، والعامة يقولون: احترام الناس يحترمونك، يعني من راي الناي يعني الاحتقار وأوه بعين الاحتقار ظن ومن رآهم بين الإكثار والإجلال، راوه بعين والإجلال، وهذا شيء مشاهد.
ولهذا تجد الرجل المتواضع اللين الهين محترماً عند الناس كلهم، لا أحد يكرهه، ولا أحد يسبه والإنسان الشامخ بأنفه المستكبر المحتقر لغيره، تجده مكروهاً مذموماً عند الناس، ولولا حاجة الناس إليه إذا كانو يحتاجون غليه ما كلمه أحد ؛ لأنهم يحتقرونه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام :" التقوى ها هنا" أشار إلى صدره ثلاث مرات، يعني أن التقوى في القلب فإذا اتقى القلب؛ أتقت الجوارح، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : " ألا وإن ف الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب"[385] فإذا كان في قلب الإنسان تقوى لله عزّ وجلّ وخوفٌ منه وخشيه له، استقامت أعماله الظاهرة؛ لأن الأعمال الظاهرة تتبع القلب.
(28/27)
وقد مثل بعض العلماء ومنهم أبو هريرة رضي الله عن بالقلب بالملك المطاع مع جنوده، فالملك المطاع مع جنوده إذا أمرهم بشيء أطاعوه، ولكن بعض العلماء قال : إن هذا المثال أنقص من قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا صلحت صلح الجسد كله" وذلك لأن الملك مع جنوده وإن كان مطاعاً فإنهم لا يصلحون بصلاحه، لكن القلب إذا صلح صلح الجسد ، وإذا اتقي اتقى الجسد .
واعلم أن من الناس من يجادل بالباطل بهذا الحديث ،فإذا أمرته بمعروف ، أو نهيته عن منكر ، قال ، التقوى هاهنا تقول له: لا تحلق لحيتك فحلق اللحية حرام ، وحلق اللحية من طريقة المجوس والمشركين، وإعفاء اللحية من هدي النبيين والمرسلين وأولياء الله الصالحين. إذا قلت له هذا قال : التقوى هاهنا . التقوى ها هنا . نقول له : كذبت وإنه ليس في قلبك تقوى، لو كان في قلبك تقوى لاتقيت الله ؛ لأن القلب إذا اتقى اتقت الجوارح، وإذا انهمك في معصية الله انهمكت الجوارح.
وفي قوله : "التقوى ها هنا " وإشارته على صدره دليلٌ على أن العقل في القلب الذي في الصدر، وهذا هو المطابق للقرآن تماماً ، قال الله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46) ، فقال: (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) ، ثم قال (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
(28/28)
وليس القلب هو الخ كما يظنه بعض الجهال، فالعقل في القلب. ولكن المخ لا شك أن له اثراً في أعمال العبد، في حركاته، وفي سكناته، لكنهم قالوا: إن المخ مثل الخادم ، يهيئ الأشياء ويطبخها ، ثم يبعث بها إلي القلب ، ثم يصدر القلب الأوامر على المخ من اجل أن المخ يدبر الأعصاب وبقية الجسم، فيكون هذا المخ خادماً للقلب عند تصدير الأشياء إليه واستصدارها منه فالأشياء تمر من القلب ذاهبة وآتيه إلى المخ، والمخ هو الذي يحرك البدن، ولذلك إذا اختل المخ اختل كل شيء.
ثم قال صلى الله عليه وسلم " بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" يعني لو لم يكن من الشر للمسلم إلا أن يحقر أخاه ويستصغره ويستذله، لكان كافياً في الإثم والعياذ بالله ، في هذا التحليل أعظم زاجر من احتقار أخيك المسلم، وأن الواجب عليك أن تحترمه وتعظم بما فيه من الإسلام والإيمان.
ثم قال صلى الله عليه وسلم :" كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه": " كل المسلم على المسلم حرام ، دمه "فلا يعتدي على المسلم بقتل أو جرح او غير ذلك " وماله" فلا يؤخذ ماله ، ولا غصباً ، ولا سرقة، ولا خيانة، ولا دعوى ما ليس له ، ولا غير ذلك بأي طريق، فلا يحل لك أن تأخذ مال أخيك بغير حق فإنه حرامٌ عليك.
" وعرضه" بأن لا تنتهك عرضه ، وتتكلم فيه بين الناس، سواء كنت صادقاً فيما تقول أو كاذباً ؛لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة فقال : " ذكرك أخاك بما يكره" قالوا : يا رسول الله ، أريت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" (1)فالواجب على المسلم أن يحترم أخاه في ماله وعرضه ودمه كما قال صلى الله عليه وسلم " :" كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه".
* * *
(28/29)
235- وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحاسدوا ،ولا تجاسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا ، المسلم أخو المسلم :لا يظلمه ولا يحقره، ولا يخذلهُ ، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" رواه مسلم [386].
" النجش " أن يزيد في ثمن سلعة ينادى عليها في السوق ونحوه ، ولا رغبة له في شرائها بل يقصد أن يغر غيره وهذا حرامٌ" والتدابر " أن يعرض عن الإنسان ويهجره ويجعله كالشيء الذي وراء الظهر والدبر.
الشرح
قال المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله عن أبي هريرة- رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تحاسدوا " أي لا يحسد بعضكم بعضاً . والحسد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره هذا الحسد، ومثاله أن تكره أن الله أنعم على هذا الرجل بالمال ، أو البنين ، أو بالزوجة، أو بالعلم أو بالعبادة ، أو بغير ذلك من النعم سواء تمنيت أن تزول أن لم تتمن.
وإن كان بعض العلماء يقول : إن الحسد أن يتمنى زوال نعمة الله على غيره، ولكن هذا أخبث وأشده، وإلا فمجرد كراهة الإنسان أن ينعم الله على الشخص فهو حسد ،والحسد، من خصال اليهود، فمن حسد فهو متشبه بهم والعياذ بالله ، قال الله تعالى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) (البقرة:109) وقال تعالى فيهم : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء:54)، ولا فرق بين أن تكره ما أنعم الله على غير ليعود هذا الشيء إليك، أو ليرتفع عن أخيك وإن لم يعد إليك.
وأعلم أن في الحسد مفاسد كثيرة:
(28/30)
منها : أنه تشبه باليهود أخبث عباد الله وأخس عباد الله ، الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
ومنها: أن فيه دليلاً على خبث نفس الحاسد ، وأنه لا يحب لإخوانه ما يحب لنفسه؛ لأن من أحب لإخوانه ما يحب لنفسه؛ لم يحسد الناس على شيء؛ بل يفرح إذا أنعم الله عليه غيره بنعمة ويقول : اللهم آتني مثلها ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) (النساء:32).
ومنها : أن فيه إعتراضاً على قدر الله عزّ وجلّ وقضائه، وإلا فمن الذي أنعم على هذا الرجل ؟ الله عزّ وجلّ، فإذا كرهت ذلك فقد كرهت قضاء الله وقدره ، ومعلوم أن الإنسان إذا كره قضاء الله وقدره فإنه على خطر في دينه – نسأل الله العافية-؛ لأنه يريد أن يزاحم ربّ الأرباب جلّ وعلا في تدبيره وتقديره.
ومن مفاسد الحسد: أنه كلما أنعم الله على عباده نعمة ؛ التهبت نار الحسد في قلبه فصار دائماً في حسده وفي غم، لأن نعم الله على العباد لا تحصى ، وهو رجلٌ خبيث كلما أنعم اله على عبده نعمة على ذلك الحسد في قلبه حتى يحرقه.
ومن مفاسد الحسد: انه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب كما قال صلى الله عليه وسلم :" إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب"[387]
ومن مفاسده: أنه يعرقل الإنسان على السعي في الأشياء النافعة؛ لأنه دائماً يفكر ويكون في غم؛ كيف جاء هذا الرجل مالٌ؟ كيف جاءهم علم؟ كيف جاءه ولد؟ كيف جاءه زوجة ما أشبه ذلك ، فتجده دائماً منحسراً منطوياً على نفسه، ليس له هم إلا تتبع نعم الله على العباد واغتمامه بها ، نسأل الله العافية.
ومن مفاسد الحسد: أنه ينبئ عن نفس شريرة ضيقة ، لا تحب الخير وإنما هي نفس أنانية تريد أن يكون كل شيء لها.
(28/31)
ومن مفاسد الحسد أيضاً : أنه لا يمكن أن يغير شيء مما قضاه الله عزّ وجلّ ابدأً ، مهما عملت ، ومهما كرهت. ومهما سعيت لإخوانك في إزالة نعم الله عليهم ، فإنك لا تستطيع شيئاً.
ومن مفاسده: أنه ربما يتدرج بالإنسان إلى أن يصل إلى درجة الذي يحسد الناس ، لأن العائن نفسه شريرة حاسدة حاقدة، فإذا رأى ما يعجبه انطلق من هذه النفس الخبيثة مثل السهم حتى يصيب بالعين، فالإنسان إذا حسد وصار فيه نوع من الحسد ،فإنه يترقى به الأمر حتى يكون من أهل العيون الذين يؤذون الناس بأينهم ، ولا شك أن العائن عليه من الوبال والنقمة بقدر ما ضرّ العباد. إن ضرهم بأموالهم فعليه من ذلك إثم أو بأبدانهم أو بمجتمعهم ، ولهذا ذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى تضمين العائن كل ما أتلف، يعني إذا عان أحداً وأتلف شيئاً من ماله أو أولاده أو غيرهم ، فإنه يضمن، كما أنهم قالوا: إن من اشتهر بذلك، فإنه يجب أن يُحبس إلا أن يتوب ، يحبس أتقاء شره، لأنه يؤذى الناس ويضرهم فيحبس كفاً لشره.
ومن مفاسد الحسد: انه يؤدي إلى تفرق المسلمين؛ لأن الحاسد مكروه عند الناس مبغض، والإنسان الطيب القلب الذي يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، تجده محبوباً من الناس، الكل يحبه، ولهذا دائماً نقول: والله فلان هذا طيب ما في قلبه حسد، وفلان رجلٌ خبيثٌ حسود وحقود وما أشبه ذلك.
فهذه عشر مفاسد كلها في الحسد ، وبهذا نعرف حكمة النبي صلى الله عليه وسل حيث قال:" لا تحاسدوا" أي لا يحسد بعضكم بعضاً، فإن قال قائل : ربما يجد الإنسان في نفسه إنه يحب أن يتقدم على غيره في الخير ، فهل هذا من الحسد؟ فالجواب : أن ذلك ليس من الحسد؛ بل هذا من التنافس في الخيرات، قال الله تعالى : (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) (الصافات:61) فإذا أحب الإنسان أن يتقدم على غيره في الخير ، فها ليس من الحسد في شيء الحسد أن يكره الخير لغيره.
(28/32)
واعلم أن للحسد علامات: منها أن الحاسد يحب دائماً أن يخفي فضائل غيره، فإذا كان إنسان ذا مال ، ينفق ماله في الخير من صدقات وبناء مساجد، وإصلاح طرق، وشراء كتب يوقفها على طلبة العلم وغير ذلك فتجد هذا الرجل الحسود إذا تحدث الناس على هذا المحسن يسكت وكأنه لم يسمع شيئاً، هذا لا شك إن عنده حسداً؛ لأن الذي يحب الخير يحب نشر الخير للغير، فإذا رأيت الرجل إذا تكلم عن أهل الخير بإنصاف وأثنى عليهم وقال: هذا فيه خيرٌ وهذا محسن، هذا كريم، فهذا يدل على طيب قلبه وسلامته من الحسد. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الحسد ، ومن منكرات الأخلاق والأعمال.
أما قوله: " ولا تناجشوا" فالنجش هو أن يزيد في السلعة على أخيه وهو لا يريد شراءها ،وإنما يريد أن يضرّ المشتري، أو ينفع البائع ، أو الأمرين جميعأً.
مثال ذلك : عرضت سلعة في السوق فصار الناس يتزايدون فيها، فقام رجل فجعل يزيد فيها وهو لا يريد الشراء، تسام بمائة فقال بمائة وعشرة وهو لا يريد أن يشترى، ولكنه يريد أن يزيد الثمن على المشترى، أو يريد أن ينفع البائع فيزيد الثمن له أو الأمرين جميعاً ، فهذا حرامٌ ولا يجوز لما فيه من العدوان . أما إذا زاد الإنسان في الثمن عن رغبة في السلعة ، ولكن لما ارتفعت قيمتها تركها فهذا لا بأس به ، فإن كثيراً من الناس يزيد في السلعة؛ لأنه يرى أنها رخيصة ، فإذا زادت قيمتها تركها ، فهذا ليس عليه بأس . كما أن من الناس من يزيد في السلعة يريدها ويزيد في ثمنها حتى تخرج عن قيمتها كثيراً.
فالناس على زيادتهم في السلعة على ثلاث أقسام:
القسم الأول: نجش وهو حرام.
الثاني: يزيد فيها لأنه يرى أنها رخيصة، وأنها ستكسبه ، وليس له قصد في عين السلعة ولا يريدها بعينها، لكن لما رأي أنها رخيصة وأنها ستكسبه جعل يزيد ، فلما ارتفعت قيمتها تركها ، فهذا لا بأس به.
(28/33)
الثالث: أن يكون له غرض في السلعة، يريد أن يشتري هذه السلعة ، فيزيد حتى يطيب خاطره ويظفر بها، فهذا أيضاً لا بأس به.
وقوله صلى الله عليه وسلم :" ولا تباغضوا" أي لا يبغض بعضكم بعضاً، وهذا بالنسبة للمؤمنين بعضهم مع بعض، فلا يجوز للإنسان أن يُبغض أخاه أي : يكرهه في قلبه ؛ أنه أخوه ، ولكن لو كان هذا الأخ من العصاة الفسقة، فإنه يجوز لك أن تبغضه من أجل فسقه، ولا تبغضه بغضاً مطلقاً ، لكن أبغضه على ما فيه من المعصية ، وأحبه على ما فيه من الإيمان.
ومن المعلوم أننا لو وجدنا رجلاً مسلماً يشرب الخمر، ويشرب الدخان، ويجر ثوبه خيلاء ، فإننا لا نبغضه كما نبغض الكافر، فمن أبغضه كما يبغض الكافر انقلب على وجهه ، كيف تسوي بين مؤمن عاصٍ فاسق ، وبين الكافر ؟ هذا خطأ عظيم . ربما بعض الناس يكره المؤمن الذي عنده هذا الفسق أكثر مما يكره الكافر ، وهذا – والعياذ بالله – من انقلاب الفطرة فالمؤمن مهما كان خيرٌ من الكافر .
فأنت أبغضه على ما فيه من المعصية وأحبه على ما معه من الإيمان فإن قلت : كيف يجتمع حب وكراهية في شيء واحد؟
فالجواب: أنه يمكن أن وكراهة في شي واحد، أرايت لو أن الطبيب وصف لك دواءاً مراً منتن الرائحة ولكنه قال : أشربه وسوف تشفى بإذن الله ، فإنك لا تحب هذا الدواء على سبيل الإطلاق؛ لأنه مر وخبيث الرائحة، ولكنك تحبه من جهة أنه سبب للشفاء ، وتكرهه لما فيه من الرائحة الخبيثة والطعم المر.
هكذا المؤمن العاصي، لا تكرهه مطلقاً ، بل تحبه على ما معه من الإيمان ، وتكرهه على ما معه من المعاصي، ثم إن كراهتك إياه لا توجب أن تعرض عن نصيحته ، بأن تقول : أنا لا أتحمل أن أواجه هذا الرجل لأني اكره منظره، بل أجبر نفسك واتصل به وانصحهُ، ولعل الله أن ينفعه على يديك ولا تيأس ، كم من إنسان استبعدت هدايته فهداه الله عزّ وجلّ بمنه وكرمه.
(28/34)
والأمثلة على هذا كثيرة في قوتنا الحاضر وفيما سبق ؛ في وقتنا الحاضر يوجد أُناسٌ فسقة يسر الله لهم من يدعوهم إلى الحق فاهتدوا ، وصاروا أحسن من الذي دعاهم، وفيما سبق من الزمان أمثلة كثيرة، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان سيفاً مسلولاً على المسلمين ، ومواقفه في أُحد مشهورة حيث كرّ هو وفرسان من قريش على المسلمين من عند الجبل، وحصل ما حصل من الهزيمة، ثم هداه الله تعالى . وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من أكره الناس لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فهداه الله وكان من أولياء الله ، فكان الثاني في هذه الأمة .
لذلك فلا تيأس ، ولا تقل إنني لا أطيق هذا الرجل لا منفطراً لا مسمعاً ، ولا يمكن أن أذهب إليه ، بل اذهب ولا تيأس، فالقلوب بيد الله عزّ وجلّ، نسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم.
فإن قال قائل: البغضاء هي انفعال في النفس ، والأشياء الانفعالية قد لا يطيقها الإنسان كالحب مثلاً، فالحب لا يملك الإنسان أن يحب شخصاً؛ أو يقلل من محبته، أو أن يزيد في محبته إلا بأسباب ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم بين زوجاته:" اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلومني فيما لا أملك[388]" يعني في المحبة، ومن المعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجب عائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها من زوجاته ، لكن هذا بغير اختيار.
فإذا قال قائل : الغضب انفعال لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليه ، فالجواب: الانفعال يحصل بفعل، فأنت مثلاً لا تحب شخصاً إلا لأسباب : إيمانه ، نفعه للخلق، حسن خلقه، خدمته لك، أو غيرها من الأشياء الكثيرة، تذكر هذه الأسباب فتحبه، ولا تكره شخصاً إلا لسبب، تذكر الأسباب التي توجب الكراهة فتكرهه ، لكن مع ذلك ينبغي للإنسان أن يعرض عن الأسباب التي توجب البغضاء مع أخيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تباغضوا"
(28/35)
لكنى أقول : إن البغضاء لها أسباب ، والمحبة لها أسباب ،فإذا عرضت عن أسباب البغضاء وتناسيتها وغفلت عنها زالت بإذن الله ، وهذا هو الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام بقوله " لا تباغضوا" وهو نظير قوله للرجل الذي قال : يا رسول الله أوصني، قال " لا تغضب" قال : أوصني ، قال " لا تغضب" قال:" اوصني" قال :" لا تغضب" ردد مراراً قال :" لا تغضب"[389].
قد يقول الإنسان عن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم ، كما جاء في الحديث [390]، فلا سبيل اله إلى إخماده، ونقول : بل له سبيل ، افعل الأسباب التي تخفف الغضب حتى يزول عنك الغضب.
قال : " ولا تدابروا " فهل المراد ألا يولي بعضكم دبر بعض من التدابر الحسي؟ بمعني مثلاً أن تجلس وتذر الناس وراءك في المجالس. نعم هذا من المدابرة، ومن المدابرة أيضاً المقاطعة في الكلام حين يتكلم أخوك معك وأنت قد صددت عنه ، أو إذا تكلم وليت وتركته ، فهذا من التدابر وهذا التدابر حسي.
وهناك تدابر معنوي ، هو اختلاف الرأي ، بحيث يكون كل واحد منا له رأى مخالف للآخر ، وهذا التدابر في الرأي أيضاً نهي عنه الرسول علي الصلاة والسلام.
وعندي أن من التدابر ما يفعله بعض الأخوة إذا سلم من الصلاة تقدم على الصف مقدار شبر أو نحوه ، فهذا فيه نوع من التدابر ، ولهذا شكا إلى بعض الناس هذه الحال، قال بعض الناس إذ سلمنا تقدم قليلاً ثم يحول بيني وبين الإمام، لا سيما إذا كان هناك درس فإنه يحول بينى وبين مشاهدة الإمام ، ومعلوم أن الإنسان إذا كان يرى المدرس كان أنبه له وأقرب للفهم والإدراك، فبعض الناس يكره هذا الشيء ، لذا أيضاً ينبغي للإنسان أن يكون ذا بصيرة وفطنة فلا تتقدم على إخوانك وتجعلهم وراءك، إذا كان بودك أن تتوسع فقم وتقدم بعيداً واجلس إذا كنت في الصف الأول، وإن كنت في الصف الثاني تأخر ، أما أن تتقدم على الناس وهم وراء ظهرك، فهذا فيه نوع من سوء الأدب .وفيه نوع من التدابر.
(28/36)
فينبغي في هذه المسألة وفي غيرها أن يتفطن الإنسان لغيره، وأن لا يكون أنانياً يفعل فقط ما طرأ على باله فعله، دون مراعاة للناس ، ودون حذر من فعل ما يُنتقد عليه.
أما الجملة الخامسة فهي قوله :" ولا يبيع بعضكم على بيع بعض " لا بيع بعضكم على بيع بعض ؛ لأن هذا يؤدي إلى الكراهية والعداوة والبغضاء. ومثال بيع الإنسان على بيع أخيه: أن يذهب لمن اشترى سلعة من شخص بمائة فيقول : أنا أعطيك مثلها بثمانين ، أو أعطيك أحسن منها بمائة فيرجع المشتري ويفسخ العقد الأول ويعقد مع الثاني، ففي هذا عدوان ظاهر على حق البائع الأول، وهذا العدوان يوجب العداوة والبغضاء بين المسلمين.
مثال ذلك الشراء على شرائه ، مثل أن يذهب إلي شخص باع سلعة بمائة فيقول له أنا أشتريها منك بمائة وعشرين، فيذهب البائع ويفسخ العقد ويبيع على الثاني، فهذا أيضاً حرامٌ ، لأنه بمعنى البيع على البيع .
ولكن هل هذا خاص في زمن الخيار أو عام؟
الحديث عام انه لا يحل لك أن تبيع على بيع أخيك سواء في زمن الخيار أولا ، و قال بعض العلماء : إنه محمول على ما إذا كان ذلك في زمن الخيار؛ لأنه إذا أنتهي وهن الخيار فإنه لا يستطيع أو يفسد العقل ومثال ذلك: رجل باع عل شخص سيارة بعشرة آلاف ريال، وجعل له الخيار ثلاثة أيام ، فذهب شخص إلى المشترى وقال : أنا أعطيك أحسن منها بعشرة آلاف ريال، فأغري المشترى أن يذهب للبائع ويقول : فسخت العقد، أو يذهب شخص إلي البائع ويقول: سمعت أنك بعت سيارتك على فلان بعشرة الآف ريال، أنا أعطيك أحد عشر ألفاً ، فيفسخ البيع ويرد ويبيعها على الثاني.
(28/37)
أما إذا كان بعد انتهاء المدة فقال بعض العلماء : إنه لا بأس ، يعني بعد أن باعه وجعل له الخيار ثلاثة أيام وانتهت الأيام الثلاثة، فلا بأس أن يذهب إلى الشخص الذي أشتراها ويقول : أنا أعطيك مثلها بأقل ، أو أحسن منها بالثمن الذي اشتريت به، وعللوا ذلك بأنه لا يمكنه حينئذ ان يفسخ البيع لانتهاء زمن الخيار.
ولكن ظاهر الحديث العموم، لأنه وإن كان لا يمكنه أن يفسخ البيع لانتهاء زمن الخيار فإنه قد يحاول أن يوجد مفسدا للعقد ، أو على الأقل يندم على شرائه، ويعتقد أن البائع غبنه وانه لعب عليه ، فيحدث له بذلك العداوة والبغضاء وهذا مع قرب المدة، أما إذا طالت المدة فلا بأس بها ؛ لأنه إذا طالت المدة فإنه من المعتذر أو المتعسر كثيراً أن يفسخ العقد.
والحاصل أن لدينا ثلاث حالات:
الحال الأول: أن يكون البيع أو الشراء على أخيه في زمن الخيار فلا شك في أنه حرام.
والحال الثانية: أن يكون بعد انتهاء زمن الخيار بمدة قريبة ، ففيه خلاف بين العلماء، والصحيح أنه حرام.
والحال الثالثة: أن يكون بعد زمن بعيد ، كشهر أو شهرين أو أكثر فهذا لا بأس به ، ولا حرج فيه ؛ لأن الناس يتبادلون السلع فيما بينهم على هذا الوجه ، وعلى وجوه أخرى.
ومثل ذلك : الإجارة على إجارته مثل أن يذهب شخص إلى آخر استأجر بيتاً من إنسان السنة بألف ريال، قال له أنا عندي لك أحسن منه بثمانمائة ريال ، فهذا حرام لأنه عدوان كالبيع على بيعه.
ومثل ذلك أيضاً : السوم على سومه، وقد جاء صريحاً فيما رواه مسلم[391] ، ويسوم على سومه يعني إذا سام شخص سلعة من آخر ، وركن إليه صاحب السلعة، لم يبق إلا العقد ، مثل أن يقول : بعها على بألف فيركن إليه البائع، ولكن لم يتم العقد، بل يجزم أن يبيع عليه، فيأتي إنسان آخر ويقول :" أنا أعطيك بها ألفاً ومائه، فإن هذا لا يجوز ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يسم على سوم أخيه".
(28/38)
ومثل ذلك أيضا في النكاح ، إذا خطب شخص من آخر فلا يحل لأحد أن يخطب على خطبته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" ولا يخطب على خطبة أخيه" وكل هذا احتراماً لحقوق المسلمين بعضهم على بعض، فلا يحل للإنسان أن يعتدي على حق إخوانه ؛ لا ببيع ولا شراء ولا إجارة ولا سوم ولا نكاح ولا غير ذلك من الحقوق.
بقي الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام :" التقوى هاهنا ويشير على صدره" وقد سبق لنا معنى أن التقوى في القلب ، فإذا اتقى القلب اتقت الجوارح، وإذا زاغ القلب زاغت الجوارح- والعياذ بالله – قال تعالى (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:108) .
واعلم أنه زيغ القلب لا يكون إلا بسبب الإنسان ، فإذا كان الإنسان يريد الشر ولا يريد الخير فإنه يزيغ قلبه- والعياذ بالله – ودليل هذا قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )(الصف: 5)، وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (لأنفال:70) .
فإذا علم الله من العبد نية صالحة وإرادة للخير ، يسر الله له ذلك وأعانه عليه ، قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل:5-7).
(28/39)
وقوله عليه الصلاة والسلام :" بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[392] يعني لو لم يكن للإنسان من الشر إلا أن يحقر أخاه الكان كافياً ، وهذا يدل على كثرة إثم من حقره إخوانه المسلمين؛ لأن الواجب على المسلم أن يعظم إخوانه المسلمين ويكبرهم ويعتقد لهم منزلة في قلبه، وأما احتقارهم وازدراؤهم فإن في ذلك من الإثم ما يكفر- نسأل الله السلامة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم :" كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه".يعني أن المسلم حرام على المسلم في هذه الأمور الثلاثة، أي في كل شيء؛ لأن هذه الأمور الثلاثة تتضمن كل شيء؛ الدم : كالقتل والجراح وما أشبهها، والعرض : كالغيبة ، والمال : وكأكل المال، وأكل المال له طرق كثيرة؛ منها السرقة، ومنها الغصب- وهو أخذ المال قهراً – ومنها أن يجحد ما عليه من الدين لغيره، ومنها أن يدعي ما ليس له وغيره ذلك.
وكل هذه أشياء حرام، ويجب على المسلم أن يحترم أخاه في ماله ودمه وعرضه.
* * *
236- وعن أنس رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسل مقال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه [393].
237- وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " فقال رجلٌ: فإن ذلك نصره" رواه البخاري [394].
الشرح
ذكر المؤلف – رحمه الله تعالى – فيما نقله عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" لا يؤمن : يعني لا يكون مؤمناً حقاً تام الإيمان إلا بهذا الشرط؛ أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، وما يحب لنفسه ،من ترك الشر، يعني ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، هذا هو المؤمن حقاً ، وإذا كان الإنسان يعامل إخوانه هذه المعاملة فإنه لا يمكن أن يغشهم أو يخونهم ، أو يكذب عليهم ، أو يعتدي عليهم ، كما أه لا يحب أن يُفعل به مثل ذلك .
(28/40)
وهذا الحديث يدل على أن من كره لأخيه ما يحبه لنفسه أو أحب لأخيه ما يكره لنفسه فليس بؤمن، يعني ليس بمؤمن كامل الإيمان.
ويدل على أن ذلك من كبائر الذنوب إذا أحببت لأخيك ما تكره لنفسك، أو كرهت له ما تحب لنفسك.
وعلى هذا فيجب عليك أخي المسلم أن تربي نفسك على هذا ، على أن تحب لإخوانك ما تحب لنفسك حتى تحقق الإيمان، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من احب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويحب أن يأتي إلى الناس ما يؤتى إليه "[395] الأول حق الله ، والثاني حق العباد، تأتيك المنية وأنت تؤمن باليوم الآخر- نسأل الله أن يجعلنا وإياكم كذلك- وأن تحب أن يأتي لأخيك ما تحب أن يُؤتى إليك.
وأما حديث أنس الثاني من قول النبي صلى الله عليه وسلم " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " النصر بمعنى الدفاع عن الغير أي دفع ما يضره ، " انصر أخاك" أي ادفع ما يضره ، سواء كان ظالماً أو مظلوماً ، فقال رجل: يا رسول الله ، أرأيت إن كان ظالماً فكيف أنصره؟ ولم يقل : فلا أنصره ، بل قال : كيف انصره ؟ يعني سأنصره ولكن أخبرني كيف أنصره ، قال: " تمنعه- أو قال تحجزه – من الظلم فإن ذلك نصره" فإذا رأيت هذا الرجل يريد أن يعتدي على الناس فتمنعه فهذا نصره أي بأن تمنعه ، أما إذا كان مظلوماً فنصره أن تدفع عنه المظالم.
وفي هذا دليلٌ على وجوب نصر المظلوم وعلى وجوب نصر الظالم على هذا الوجه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
238- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" حق المسلم على المسلم خمسٌ: رد السلام ،وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس" متفق عليه [396].
وفي رواية لمسلم :" حق المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فأنصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه"[397]
الشرح
(28/41)
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى – هنا ما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه في بيان حقوق المسلم على أخيه ، وحقوق المسلم على أخيه كثيرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يذكر أشياء معينة من أشياء كثيرة عناية بها واحتفاءً بها فمن ذلك ما ذكره أبو هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال : "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام" يعني إذا سلّم عليك فردّ عليه ، وفي الحديث الثاني" حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه".
فهذان أمران : ابتداء السلام المأخوذ من قوله " إذا لقيته فسلم عليه عليه"، وردّ السلام المأخوذ من قوله " رد السلام"، فابتداء السلام سنة مؤكدة، وإذا كان الحاصل لتركه الهجُ كان حراماً فيما زاد على ثلاثة أيام ، ما في الثلاثة أيام فأقل فلا بأس أن تهجره، ومن المعلوم أن الإنسان لن يهجر أخاه إلا لسبب، فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام للمسلم أن يهجر أخاه ثلاثة أيام فأقل؛ لأن الإنسان بشر، فقد يكون في النفوس شيء، ولا يتحمل المرء أن يسلم عليه ، أو أن يرد السلام ، فرخص له ثلاثة أيام فأقل.
وابتداء السلام يكون من الصغير على الكبير، ومن الماشي على القاعد، ومن الركاب على الماشي ، كل بحسبه وصيغة السلام المشروعة أن يقول السلام عليكم ، أو السلام عليكم ، كلاهما جائز، والرد أن يقول: عليك السلام أو وعليكم السلام.
بهذا يتضح لن أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من الحقوق التي للمسلم على أخيه السلام ورداً وابتداءً.
وحكم السلام أن ابتداءه سنةٌ وردّه فرضٌ ، فرض عين على من قُصد به، وفرض كفاية إذا قُصد به جماعة ،فإنه يجزئ رد أحدهم ، والسلام حسنة من الحسنات إذا قام به الإنسان فله عشر أمثاله؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها ، يعني إذا سلمت علي أخيك وقلت : السلام عليكم فلك عشر حسنات أجراً باقياً تجده أحوج ما تكون إليه.
(28/42)
ونحن نعلم أنه لو قيل لشخص : كلما لقيت أحداً فسلمت عليه فلك بكل تسليمة درهم واحد، لوجدت الإنسان يطلب الناس ليسلم عليهم ابتغاء هذا الدرهم الواحد، مع أن الدرهم الواحد يفني ويزول ، والأجر والثواب يبقى وتجده أحوج ما تكون إليه . عاملنا الله وإياكم بعفوه وفضله وإحسانه إنه جواد كريم.
فالذي ينبغي لك كلما لقيك أحد من إخوانك المسلمين أن تسلم عليه ، أما غير المسلم فلا تسلم عليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا وجدتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"[398] فاليهودي والنصراني والمشرك والملحد والمرتد كالذي لا يصلي ، والمبتدع بدعة يكفر بها ، كل هؤلاء لا يحل ابتداء السلام عليهم ، ولو كانوا أقرب الناس إليك ، لكن إذا سلموا فرد عليهم بمثل ما سلموا به ، إذا قالوا : أهلاً ومرحباً ، فقل أهلاً ومرحباً ، وإذا قالوا : السلام عليكم قل: وعليكم السلام ، وإذا شككت هل هو يقول : السلام عليكم ، أو يقول السام عليكم ، فقل : وعليكم.
بل إذا لم تتيقن إنه قال : السلام عليكم باللام فقل: وعليكم ، وذلك أن اليهود كانوا يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيسلمون عليه لكن يقولون: السام عليكم يدعمونها ، والسام يعني الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن اليهود إذا لقوكم قالوا: السام عليكم ، فقولوا : وعليكم "[399] أي : إن كانوا يدعون لنا بالسلام فلعيهم السلام، وإن كانوا يدعون علينا بالموت فعليهم الموت، وهذا من العدل (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً)(النساء:86) ولهذا ذكر ابن القيم – رحمه الله – في كتابه " أحكام أهل الذمة" أنهم إذا قالوا : السلام عليكم بكلام بين فلك أن تقول : عليكم السلام.
(28/43)
وأما أهل المعاصي فإن كان في هجرهم فائدة فاهجرهم ، والفائدة أن يقلعوا عن معصيتهم ، وإن لم يكن في هجرهم فائدة فهجرهم حرام؛ لأنهم من المؤمنين ، إذا كانوا من المؤمنين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يحل لأحد أن يهجر أخاه المؤمن فوق ثلاث ، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"[400] ، أما إذا كان الهجر مفيداً، بحيث يرتدعون عن المعصية، وينتهون عنها ، فهو مطلوب ، إما واجب وإما مستحب.
وأنظر إلى ما حصل من فائدة هجر كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه؛ حين تخلفوا عن غزوة تبوك، وماذا حصل لهم من قوة الإيمان والصبر على ما حصل ، وانتظر الفرج من الله عزّ وجلّ ما نالوا به ما هو أعظم المثوبات ، نالوا به كلام رب العالمين، الذي يقرأ في الليل والنهار من كل مسلم حتى في الصلوات . من مِنَ الناس يثني عليه في الصلوات : الفريضة والنافلة؟! (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:118)، وهذا نص ، وإن كانوا لم يذكروا بأسمائهم ، لكن ذكروا بوصف لا ينطبق على من سواهم .
وأما ما ذهب إليه كثير من المفسرين في قوله تعالى : (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) (إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) (وَلَسَوْفَ يَرْضَى) (الليل:19-21) ، بان هذا هو أبو بكر فهذا ليس كالنص الحاصل لهؤلاء الثلاثة، ولذلك لا نعلم أن أحداً من الصحابة أثني عليه بهذا النص مثل ما أثني عليه هؤلاء الثلاثة.
(28/44)
وقد هجرهم النبي عليه الصلاة والسلام أربعين ليلة لا يكلمهم ، وقال للناس: لا تكلموهم ، فلا يكلمهم أحد، وبعد تمام الأربعين أمرهم أن يعتزلوا نساءهم ، ولما جاء الرسول صلى إلى كعب بن مالك – الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتزل امرأته – قال له كعب: أأطلقها – يعني فأنا مستعد- أم ماذا؟ قال الرسول: لا أدري، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرك أن تعتزل امرأتك ولا أدري، فانظر كيف كان هذا الامتثال العظيم مع هذه المحنة العظيمة التي لا ترد على قلب فينجو منها إلا من عصمه الله عزّ وجلّ.
فالحاصل أن هجره إذا كان ينفع في تقليل المعصية أو التوبة منها فإنه مطلوب؛ إما على سبيل الوجوب، أو على سبيل الاستحباب ، أما إذا كان لا ينفع وإنما يزيد العاصي عتواً ونفوراً من أهل الخير فلا تهجره؛ لأن الإنسان مهما كان عنده من المعاصي وهو مسلم فهو مؤمن ، لكنه ناقص الإيمان.
أما الحق الثاني فهو عيادة المرض: المريض إذا مرض وانقطع في بيته فإن له حقاً على إخوانه المسلمين أن يعودوه ويذكروه ما ينبغي أن يذكروه به ، من التوبة، والوصية، وكثرة الذكر، والاستغفار ، وقراءة القرآن ،وغير ذلك من الأعمال الصالحة، وكذلك يدعون له بالشفاء؛ مثل أن يقولوا : لا بأس طهور إن شاء الله ، وما اشبه ذلك.
وعيادة المريض فرض كفاية، لابد أن يعود المسلمون أخاهم، وإذا عاده واحد منهم حصلت به الكفاية، وقد تكون فرض عين إذا كان المريض من الأقارب، وعدت عيادته من الصلة، فإن صلى الأرحام وأجبة فتكون فرض عين.
واعلم أن العلماء – رحمهم الله – ذكروا لعيادة المريض آداباً منها : ألا يكثر العائد لمريض محادثته بالسؤال عن حاله وعن نومه وأكله وشربه وما أشبه ذلك ، إلا إذا كان يأنس بهذا ويُسر به، أما إذا كان يتضجر ولا يحب أن يكثر أحد الكلام معه كما هو حال بعض المرضي، فإنك لا تتبع مع الكلام ولا تضجره بالمساءلات.
(28/45)
لذلك قالوا : ينبغي أن لا يكثر المقام عنده ويطيل ؛ لأنه قد يكون له حاجة مع أهله أو في نفسه، ولا يحب أن يطيل الجلوس عنده أحد ، لكن إذا علمت أنه يستأنس بهذا ويفرح، فإنك تنظر ما فيه المصلحة.
وقالوا: ينبغي أيضاً أن لا يزورة في الأوقات التي يكون الغالب فيها النوم والراحة؛ كالقيلولة والليل وما اشبه هذا؛ لأن ذلك يضجره وينكد عليه ، بل يكون بكره وعشيا حسب ما تقتضيه الحال.
قالوا: ولا ينبغي ايضاً أن يكثر من عيادته ، بحيث يأتيه صباحاً ومساءً، إذا اقتضت الحاجة لذلك .
والحاصل : أن العائد للمريض ينبغي أن يراعى المصلحة في كل ما يكون مع المريض وفي كل ما يترك، ثم إنه إذا كان المرض مما يُعلم أنه له دواء معيناً فينبغي أن تذكر له هذا الدواء؛ لأن الدواء مباح بل هو سنة إذا رُجي نفعه وغلب على الظن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" تداووا ولا تداووا بحرام[401]"
وكذلك ينبغي أن يسأله كيف يصلى؟ لأن كثيراً من المرضى يجهل هل يصلى بالماء أو بالتيمم؟ هل يصلى كل صلاة في وقتها أو يجمع ؟ لأن هذا أمر مهم قد يخفى على بعض المرضى.
حتى إن بعض المرضى يظنون أنه إذا جاز لهم الجمع؛ جاز لهم القصر وهم في بلادهم ، وهذه من الأشياء التي يجب التنبه لها ، نعم إذا كان المريض مسافراً إلى مستشفى في غير بلده، فله أن يقصر ويجمع ، أما إذا كان في بلده فلا يقصر، لكن إن شق عليه أن يصلى كل صلاة في وقتها ؛ فله الجمع ولو كان في بلده، لكنه جمع بلا قصر؛ أن الجمع والقصر لا يتلازمان؛ قد يشرع القصر دون الجمع ، وقد يشرع الجميع دون القصر، وقد يشرعان جميعاً ، فالمسافر الذي يشق عليه أن يصلى كل صلاة في وقتها بحيث يكون قد جدّ بِه السير يُشرع له الجمع والقصر، والمسافر المقيم يشرع له القصر دون الجمع ، وإن جمع فلا بأس ، المقيم الذي يشق عليه الصلاة في كل وقت يشرع له الجمع دون القصر.
(28/46)
أما الحق الثالث فهو : اتباع الجنائز وتشييعها ، فإن من حق المسلم على أخيه أن يتبع جنازته من بيته إلى المصلى- سواء في المسجد أو في مكان آخر – إلى المقبرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من شهد الجنازة حتى يُصلى عليها ؛ فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان" قيل : وما القيراطان يا رسول الله ؟ قال : مثل الجبلين العظيمين"[402] وفي رواية :" أصغرهما مثل أُحد[403] " وهذا فضل عظيم وأجر كبير.
ولما بلغ عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – هذا الحديث قال : لقد فرطنا في قراريط كثيرة، ثم صار بعد ذلك لا يرى جنازة إلا تبعها رضي الله عنه؛ لأن هذه غنيمة؛ غنيمة أن يحصل الإنسان مثل الجبلين العظيمين في عمل يسير ، هذا الأجر متى يلقاه ؟ يلقاه في يوم هو أحوج ما يكون إليه ؛ في يوم ليس عنده درهم، ولا دينار ولا متاع ، ولا قرابة، ولا زوجة تنفعه يوم القيامة الإ العمل الصالح، فهو إذا تبع الجنازة حتى يصلى عليها ، ثم حتى تدفن، فله قيراطان مثل الجبلين العظيمين أصغرهما مثل أحد.
وينبغي لمن أتبع أن يكون خاشعاً ، مفكراً في مآله، يقول لنفسه : يا نفسي أنت مآلك كمآل هذا الذي فوق أعناقنا ، عن قريب أو بعيد وربما يكون عن قريب، ويتذكر هذا الرحيل ، يتذكر إلى حفرته ويدفنه ويتخلى عنه، وأقرب الناس عليك الذي يحملك إلى مدفنك ثم ينصرف عنك ويدعك في هذا اللحد وحيداً بأعمالك ، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولهذا قال العلماء: يكره للإنسان المتبع للجنازة : أن يتحدث في شيء من أمور الدنيا .أو أن يتبسم ويضحك.
(28/47)
وكذلك أيضاً إذا وصلت إلى المقبرة ، جلست تنتظر دفنها، فينبغي أن تفكر في مآلك ،وأمك سوف يُنتظر دفنكم كما انتظر دفن هذا الرجل ، وإذا كان حولك أناس وحدثتهم بما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، حينما خرج في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهي إلى القبر ولما يلحد، فجلس عليه الصلاة والسلام وحوله أصحابه ، وفي يده مخصرة- أي عود – ينكت بها الأرض، يعتبر عليه الصلاة والسلام ويفكر ويحدث أصحابه بما يكون عند الاحتضار وعند الدفن [404]، حتى يكون جامعاً بين الموعظة وبين تشييع الجنازة.
ولكن ليست هذه الموعظة كما يفعله بعض إخواننا الآن في بعض المحلات ؛ حيث يقوم الرجل خطيباً يعظ الناس، فإن هذا ليس معروفاً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عهد أصحابه ، لكن لما جلس النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر لحد هذا الميت وجلس أصحابه حدثهم حديث المجالس بما ينفعهم وبما يناسب.
وكذلك كان عليه الصلاة والسلام حاضراً دفن احدى بناته ، وكان على شفير القبر وعيناه تدمعان، فقال عليه الصلاة والسلام :" ما منكم من أحد وقد كتب مقعدة من الجنة ومقعده من النار " قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على ما كتب لنا ؟ قال : " لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، اما أهل السعادة فيسرون لعمل أهل السعادة،وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة " ثم قرأ قوله تعالى(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل:5-10) نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة الذين يسروا لليسرى وجنبوا العسرى.
(28/48)
فإذا شرعوا في الدفن فينبغي للإنسان أن يشارك في الدفن ؛ بأن يحثو بيديه ثلاث حثيات ثم ينصرف ، وإن شاء شارك إلى انتهاء الدفن، فإذا فرغوا من دفنه وقف عليه ، وإذا كان مطاعاً كالعالم قال للناس استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبت فإنه الآن يسأل[405] ،فإن النبي صلي الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (( استغفروا لأخيكم وأسالوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ، الآن حين فُرغ من دفنه وانتهى الناس منه وسلموه لعالم الآخرة يأتيه عالم الآخرة ؛ يأتيه ملكان يسألانه عن ربه ودينه ونبيه ، فيجيب المؤمن قائلاً : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد – أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يجيب بهذا الجواب.
أما غير المؤمن المرتاب الشاك ، فيقول ها – ها لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ، يعنى: لم يصل الإيمان إلى قلبه والعياذ بالله ، فينبغي لك أن تقف بعد أنتهاء الدفن وتقول : اللهم اغفر له ، اللهم ثبته ، اللهم اغفر له . الله ثبته، الله اغفر له، الله ثبته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثاً [406]. فتدعو ثلاثاً ثم تنصرف ولا حاجة إلى إطالة الوقوف.
(28/49)
وإذا انصرف الناس عن الميت حتى أنه ليسمع قرع نعالهم وهم ينصرفون عنه ، يسمع قرع النعال ، أي ضربه بالأرض وهم ينصرفون عنه، جاءه ملكان، فأجلساه وسألاه عن ربه ودينه ونبيه ، ويجلسانه في القبر وإن كان القبر ضيقاً لكنه يجلس ، كما أن النائم الآن يرى نفسه أنه قائم، وأنه ماشٍ وأنه قاعد، وهو ملتحف في فراشة لم يتحرك منه، لأن أحوال البرزخ أبلغ من أحوال الدنيا وأعظم ، ففيه أشياء لا تنطبق على أحوال الدنيا ، فها هو الميت المؤمن يفسح له في قبره مد البصر والمقبرة كلها ليست بشيء، فهي ليست مل البصر،، لكن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا ، وواجبنا فيما جاء في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور الآخرة ، أن نقول : سمعنا وصدقنا ، وآمنا ، وكل من عند ربنا والله على كل شيء قدير.
الحق الرابع : إجابة الدعوة: فمن حق المسلم على أخيه إذا دعاه أن يجيبه ، والأجابة إلى الدعوة مشروعة بلا خلاف بين العلماء فيما نعلم ، إذا كان الداعي مسلماً، ولم يكن مجاهراً بالمعصية ، ولم تكن الدعوة مشتملة على معصية لا يستطيع إزالتها ، ولكنها لا تجب عند جمهور العلماء إلا في دعوة العرس ؛ إذا دعاه الزوج أول مرة في اليوم الأول فإن الأجابة واجبة إذا عينه بالشروط السابقة التي ذكرناها.
فإن كان الداعي غير مسلم فلا تجب الإجابة ، بل ولا تشرع الإجابة إلا إذا كان في ذلك مصلحة، فإذا كان في ذلك مصلحة كرجاء إسلامه والتأليف فلا بأس بإجابة غير المسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب دعوة يهودي دعاه في المدينة.
(28/50)
وإن الداعي مسلماً مجاهراً بالمعصية كحلق اللحية مثلاً، أو شرب الدخان علناً في الأسواق ، أو غير ذلك من المحرمات ،فإن أجابته ليست بواجبة ، ولكن إن كان في إجابته مصلحة أجابه، وإن كان ليست في إجابته مصلحة نظرت؛ فإن كان في عدم إجابته مصلحة بحيث إذا رأى نفسه أنه قد هُجر ، وأن الناس لا يجيبون دعوته تاب وأناب، فلا تجب دعوته لعل الله يهديه ، وإن كان لا فائدة من ذلك فأنت بالخيار؛ إن شئت فأجب ، وإن شئت فلا تجب.
وإذا كان في الدعوة منكر فإن كان الإنسان قادراً على التغيير وجبت عليه الإجابة من وجهين:
الوجه الأول: إزالة المنكر.
والوجه الثاني: إجابة دعوة أخيه إذا كان في العرس، وكان ذلك في أول يوم .
وأما إذا كان هناك منكر في الدعوة لا تستطيع تغييره كما لو كان في الدعوة شر دخان ، أو شيشه ، أو كان هناك أعانِ محرمة ، فإنه لا يجوز لك أن تجيب.
قال أهل العلم : إلا إذا كان المنكر في محل آخر ، وأنت تجيب إلى محل ليس فيه منكر ، وكان الداعي من أٌقاربك الذين لو تركت إجابتهم لعد ذلك قطيعة، فلا بأس بالإجابة في هذه الحال، وإن كان الهجر يترتب عليه ترك هذه المعصية فاهجره، يعني مثلاً لو دعاك قريبك وأنت تعلم أنه سيكون في الدعوة محرم ، وقبل بذلك فأجب، وأما إن أصر على وجود المحرم فلا تجب؛ لأن حضور المحرم ولو مع كراهة الإنسان له بقلبه يكون فيه الإنسان مشاركاً للفعل لقول الله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (النساء:140) هذا حكم إجابة الدعوة.
(28/51)
والحق الخامس : تشميت العاطس: يعني أن من حقوق المسلم على المسلم أن يشمته إذا عطس ، هكذا في الرواية الأولى التى أخرجها البخاري ومسلم ، وفي الرواية الثانية التى أخرجها مسلم : " إذا عطس فحمد الله فشمته" فقيد ذلك بما إذا حمد الله .
فإذا عطس الرجل وحمد الله وسمعته فشمته، يعني قل : يرحمك الله ، فإذا قلت يرحمك الله ، وجب عليه أن يقول : يهديكم الله ويصلح الكم ، هكذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول في الجواب :" يهديكم الله ويصلح بالكم"[407].
لكن هل تشميت العاطس إذا حمد فرض عين أو فرض كفاية؟ يعني :هل يكفي واحد من الجماعة إذا شمته عن الجماعة، أم لا بد على كل من سمعه أن يشمته؟ والجواب : أنه ذهب بعض العلماء على أن التشميت فرض كفاية ؛ فإذا كنا جماعة وعطس رجل وقال الحمد لله ، فقال أحدنا له : يرحمك الله كفى.
وقال بعض العلماء : بل تشميته فرض عين على كل من سمعه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسم قال :" كان حقاً على كل من سمعه أن يقول يرحمك الله " وظاهر هذا أنه فرض عين ، فعلى هذا كل من سمعه يقول له : يرحمك الله ، ويقول هو : يهديكم الله ويصلح بالكم ، ويكفى منه ردّ واحدٌ على الجميع ، إذا نواه للجميع كفى.
فإن عطس ولم يحمد الله فلا تقل : يرحمك الله، تعزيزاً له على عدم حمده لله عزّ وجلّ ، يعني كما أنه لم يحمد الله فاحرمه هذا الدعاء ، فلا تقل له : يرحمك الله ، ثم هل تذكره وتقول : قل الحمد لله أو لا تذكره ؟ والجواب : من المعلوم أنه يحتمل أنه قد ترك الحمد تهاوناً، ويحتمل أنه تركه نسياناً ،فإن كان تركه نسياناً فذكره وقل له : احمد الله ، وإن كان تركه تهاوناً فلا تذكره ، ولكن أين إلى العلم بذلك ؟ وكيف أعلم أنه نسيان أو انه تهاون؟ ظاهر الحديث " فحمد الله " أنه إذا لم يحمد الله لا تشمته ولا تذكره مطلقاً.
(28/52)
ولكن يمكنك فيما بعد أن تعلمه وتقول له: إن الإنسان إذا عطس فإنه يحمد الله على هذا العطاس؛ لأن العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، العطاس دليلٌ على نشاط جسم الإنسان ، ولهذا يجد الإنسان راحة بعد العطاس.
ثم إن التشميت بقول : يرحمك الله مقيد بثلاث؛ إذا شمته ثلاث مرات يعني عطس فحمد الله ، فقلت يرحمك الله ثم عطس فحمد الله فقلت ، يرحمك الله ، ثم عطس فحمد الله فقلت : يرحمك الله ، ثم عطس الرابعة فقل : عافاك الله ، إنك مزكوم ، تدعو له بالعافية وتبين له أنه مزكوم لئلا يقول : لماذا لا تقول يرحمك الله كنا كنت بالأول تقول يرحمك الله ، فيتبين العلة حين تقول : إنك مزكوم.
وفي هذا تنبيه له على أن يحاول الاحتراز مما يزيد الزكام ، وإلا فإن الزكام في الغالب لا دواء له إذا أصاب الإنسان ، وإنه لا يذهب عنه حتى ينتهي منه، لكن من أسباب تخفيف هذا الزكام عدم التعرض للهواء البارد، وعدم شرب الماء البارد ، وعدم التعرض للبراد بعد الدفء، والإنسان طبيب نفسه .
ثم إن ما يقوله بعض العامة إذا قلت له : يرحمك الله ، يحث يقول: يهدينا ويهديكم الله ، فهذا ليس بصحيح؛ لأن الرجل دعا لك أنت فقال:يرحمك الله ، فكيف تقول : يهدينا ويهديكم الله ، فتدعو لنفسك قبله، نعم لو قال : يرحمنا ويرحمك الله ، فقل: يهدينا ويهديكم الله ، لكنه قال : يرحمك الله كما أمر ، فأنت اجبه كما أمرت؛ فقل يهديكم الله ويصلح بالكم .
(28/53)
وذكر أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي عليه الصلاة والسلام – يعني يتكلفون العطاس من أجل أن يقول لهم : يرحمكم الله[408] ، لأنهم يعلمون أنه نبي وأن دعاه بالرحمة قد ينفعهم ، ولكنه لا ينفعهم ؛ لأن الكفار لو دعوت لهم بالرحمة لا ينفعهم ذلك ، بل لا يحل لك أن تدعو لهم بالرحمة إذا ماتوا ولا بالمغفرة، لقول الله تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة:113).
فإن قيل : اليس إبراهيم استغفر لأبيه ، وإبراهيم على الحنيفية وعلى التوحيد؟ هذا الجواب يتضح في قول الله تعالى : (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة:114).
فهذه الحقوق التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم كلها إذا قام بها الناس بعضهم مع بعض، حصل بذلك الألفة والمودة وزال ما في القلوب والنفوس من الضغائن والأحقاد.
239- وعن أبي عُمارة البراء بن عازب- رضي الله عنهما –قال :" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، وأمرنا بعبادة المريض، واتباع الجنازة ،وتشميت العاطس، وإبرار المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهنا عن خواتيم أو تختم بالذهب ،وعن شر بالفضة، وعن المياثر الحر ، وعن القسي وعن لبس الحرير والإستبراق والديباج" متفق عليه [409].
وفي رواية : وإنشاد الصالة في السبع الأول.
" المياثر " بياء مثناة قبل الألف ، وثاء مثلثة بعدها ، وهي جمع ميثرة ، هي شيءُ يتخذُ من حرير ويحشى قطناً أو غيره ،ويجعل في السرج وكور البعير يجلس عليه الراكبُ.
(28/54)
" القسى" بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة : وهي ثياب تنسج من حرير وكتانٍ مختلطين.
" وإنشاد الضالة" تعريفُها.
الشرح
ذكر المؤلف – رحمه الله – في بيان حقوق المسلم على أخيه حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمرنا بسبع ، ونهانا عن سبع" وقد تقدم الكلام على خمسة من هذه الآمور التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، تقدم الكلام عليها في الحديث السابق فلا حاجة إلى إعادتها ، وفي هذا الحديث من الزيادة على ما سبق قوله " نصر المظلوم"
الحق السادس من حقوق المسلم على أخيه المسلم " نصر المظلوم" : يعني دفع الظلم عنه ؛ سواء كان ظلمه في المال ، أو في العرض، أو في النفس ، فيجب علي المسلم أن ينصر أخاه المسلم ، ولقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام :" أنصر أخاك ظالماً او مظلوماً " قالوا : يا رسول الله ، هذا المظلوم – يعني ندفع عنه الظلم – فكيف نصر الظالم ؟ قال :" تمنعه من الظلم ، فذلك نصره" [410] ؛ لأن الظالم قد غلبته نفسه حتى ظلم ؛ فتنصره أنت على نفسه حتى تمنعه من الظلم.
فإذا رأيت شخصاً يظلم جاره بالإساءة إليه وعدم المبالاة به ، فإنه يجب عليك أن تنصر هذا وهذا: الظالم والمظلوم ، فتذهب إلى الظالم الجار، الذي أخل بحقوق جاره وتنصحه وتبين له ما في إساءة الجوار من الإثم والعقوبة، وما حسن الجوار والمثوبة، وتكرر عليه حتى يهديه الله فيرتدع ، وتنصر المظلوم الجار وتقول له : أنا سوف انصح جارك وسوف أكلمه ، فإن هداه الله فهذا هو المطلوب ، وإن لم يهتد فأخبرني، حتى نكون أنا وأنت عند القاضي أو الحاكم سواء ، نتعاون على دفع ظلم هذا الظالم .
(28/55)
وكذلك إذا وجدت شخصاً جحد لأخيه حقاً تدري أنه جحده ، أن أخيه عليه هذا الحق ، فتذهب إلى هذا الظالم الذي جحد حق أخيه وتنصحه، وتبين له وتنصحه وتبين له ما في أكل المال بالباطل من العقوبة ، وأنه لا خير في أكل المال بالباطل ، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل هو شر ، حتى يؤدى ما عليه . وتذهب إلى صاحب الحق وتقول له : أنا معك وأصبرها نحن ننصحه ، ها نحن نوبخه وهكذا بقية المظالم تنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. والظالم نصرك إياه أن تمنعه عن الظلم .
الحق السابع :" إبرار القسم" يعني إذا أقسم عليك أخوك بشيء فبره ووافقه علي ما حلف عليه ، فإذا حلف قال : والله لتفعلن كذا وكذا ، فإن من حقه عليك أن تبر بيمينه وأن توافقه ، إلا إذا كان في ذلك ضرر عليك ، مثل لو حلف عليك أن تخبر عما في بيتك من الأشياء التي لا تحب أن يطلع عليه أحد فلا تخبره ؛ لأنه معتدٍ ، لكونه يطلب منك أن تبين له ما كان سراً عندك، وإذا كان معتدياً فإن المعتدي جزاؤه أن يُترك ولا يوافق على اعتدائه.
لكن إذا لم يكن عدوان وحلف عليك فإن من حقه أن تبر بيمينه ، وتعطيه ما حلف عليه ، إلا إذا كان معصية ، فإذا كان معصية فلا تجبه، مثل لو أقسم عليك أن تعطيه دراهم يشتري بها دخان ، فهذا لا يلزمك، بل لا يجوز لك أن توافقه ؛ لأنك تعينه على الإثم والعدوان.
(28/56)
أو كان في ذلك ضرر عليك كما مثلنا بمن حلف عليك أن تخبره بما في سر البيت من الأمور التي لا تحب أن يطلع عليها أحد ، أو حلف عليك بشي يضرك ، مثل أن يحلف عليك بشيء يضرك إذا وافقته عليه ، كأن يقول أبوك مثلاً : الله لا تحج البيت ، والحج واجب عليك ، فإنك لا تعطيه، لأن في هذا تركاً للواجب ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أو حلف عليك أن لا تزور أمك التي قد طلقها ، وصار بينه وبينها مشاكل فكرها ، فقال لك : والله لا تذهب إلى أمك ، فلا تطعه وذلك لأنه آثم بكونه يحول بينك وبين صلة الرحم ، صلة الرحم واجبة، وبر الوالدين واجب فلا تطعه.
ومن ذلك أيضاً إذا حلف أن لا تزور أحداً من إخوانك أو أعمالك أو أقاربك فلا تطعه ، ولا تبر بيمينه ولو كان أباك ، لأن صلة الرحم واجبة، ولا يحل له أن يحلف مثل هذا الحلف ، وصلى الرحم إذا قام بها الإنسان فإن الله تعالى يصله ، فقد تعهد الله للرحم ان يصل من وصلها ، وأن يقطع من قطعها ، فإذا انتفت الموانع فإن الأولى أن تبرّ بهن.
وها هنا مسألة وهي أنه ربما يحلف وهو تحلف أنت ، هذا يقع كثيراً في الضيف إذا نزل عليك ، قال : والله ما تذبح لي ، فتحلف أنت وتقول : والله لأذبح لك فهنا من الذي يبرّ الأول أم الثاني؟ يبر الأول ؛ لأن حقه ثابت ونقول للثاني صاحب البيت الذي حلف أن يذبح ، نقول : لا تذبح وكفر عن يمينك ؛ لأن الأول أحق بالبر وأسبق .
وهاهنا مسألة يحب أن يُتفطن لها أيضاً في هذا الأمر، وهي أن بعض السفهاء إذا نزل به ضيف ، طلق الصيف أن لا يذبح له ؛ قال: عليّ الطلاق من امرأتي أو نسائي إن كان له أكثر من امرأة أن لا تذبح لي، فيقول صاحب البيت : وأنا على الطلاق أن أذبح لك ، وهذا خطأ عظيم، قال النبي عليه الصلاة والسلام :" من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " [411] أما الطلاق فلا ، ما ذنب المرأة حتى تطلقها ؟! وهو من الخطأ العظيم.
(28/57)
وأقول لكم إن المفتين اليوم – وأنا منهم – نفتي بأن الإنسان إذا أراد بذلك التهديد أو التأكيد فإنه لا طلاق ، وعليه كفارة يمين، يعني أن حكمه حكم اليمين، ولكني أقول لكم : إن أكثر أهل العلم ، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة على أن هذا طلاق ، وعلى أنه إذا لم يف بما قال طلقت امرأته ، فالمسألة خطيرة، ولا تظنوا أن الناس إذا أفتوا بالأمر السهل أن المسألة سهلة ، بل هي خطيرة جداً ، إذا كان أصحاب المذاهب الأربعة : المالكي ، والشافعي ، والحنفي ، والحنبلي ، كلهم يرون أن مثل هذا يكون طلاقاً، وأنه إذا طلق أن لا تذبح وذبحت طلقت زوجته ، وإذا طلقت أن تذبح ولم تذبح طلقت زوجتك ، وهذه المذاهب الأربعة ليست بهينة، والخلاف في هذا ليس بهين، فلا تستهينوا بهذا الأمر، فهو خطير جداً.
وأنت الآن مثلاً إذا رجعت إلى زوجتك وكانت هذه آخر طلقة ، فأنت تطؤها على المذاهب الأربعة وطئاً حراماً. وعلى القول أنه يمين تكفر عن يمينك وتحل لك ، فالمسألة خطيرة للغاية ، لذلك يجب علينا أن نتناهي عنها ، وأن لا نقول إذا حصل أذهب لابن باز أو لابن عثيمين أو الثاني أو الثالث فهذا لا ينفعك ، فهناك علماء إجلاء أكبر منهم يرون أن هذا طلاق، وأنه إذا كان آخر طلقة، فإن المرأة تبين بها ، ولا تحل لزوجها إلا بعد زوج آخر.
أقول هذا من أجل ان لا تتهاونوا في هذا الأمر فهذا الأمر خطير جداً ، فمن كان حالفاُ فليحلف بالله ، ويقول : والله.
ثم إني أشير عليكم بأمر مهم ؛ أنك إذا حلفت على يمين فقل إن شاء الله ولو لم يسمعها صاحبك ، قل إن شاء الله وإن لم يسمعها صاحبك؛ لأنك إذا قلت إن شاء الله يسر الله لك الأمر حتى تبر بيمينك ، وإذا قدر انه ما حصل الذي تريد فلا كفارة عليك ، وهذه فائدة عظيمة.
(28/58)
فلو قلت لواحد مثلاً : والله ما تذبح لى ، ثم قلت بينك وبين نفسك: إن شاء الله ، ثم ذبح فلا عليك شيء ولا عليك كفارة يمين ، وكذلك أيضاً بالعكس ، لو قلت : والله لأذبح ثم قلت بينك وبين نفسك : إن شاء الله، ولم يسمع صاحبك ، فإنه إذا لم تذبح فليس عليك كفارة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف علي يمين فقال : إن شاء الله لم يحنث[412] " وهذه فائدة عظيمة اجعلها على لسانك دائماً ، اجعل الاستثناء بإن شاء الله على لسانك دائماً حتى يكون فيه فائدتان:
الفائدة الأولى: أن تُيسر لك الأمور.
والفائدة الثانية: أنك إذا حنثت فلا تلزم الكفارة.
أما السبع التي نهى عنها عليه الصلاة والسلام في حديث البراء، فمنها التختم بالذهب ، والتختم بالذهب خاص بالرجال، فالرجل لا يحل له أن يلبس الذهب وأن يتختم بالذهب ،ولا أن يلبس سواراً من ذهب، ولا أن يلبس خرصاً من ذهب ، ولا أن يلبي على رأسه شيئاًُ من الذهب ، كل الذهب حرام على الرجل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل رأي عليه خاتماً من ذهب ، قال :" يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في أصبعه أو قال في يده"[413] ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم فرمي به ، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للرجل: خذ خاتمك ، انتفع به ، قال : لا والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام في حديث على بن أبي طالب :" إن هذين حرام على ذكور امتى حلٌ إناثهم"[414].
وأما تختم المرأة بالذهب فلا بأس به ولا حرج فيه ، فيجوز لهن التختم بالذهب والتسور به ، وأن يلبسن ما شئن منه ، إلا إذا بلغ حد الإسراف ، فإن الإسراف لا يحل ؛ لقول الله تعالى ( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(لأعراف:31).
(28/59)
وقد حكى بعض العلما ء إجماع أهل العلم على جواز لباس المرأة للخاتم والسوار ونحوهما ، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن الذهب المحلق للنساء فهي أحاديث إما ضعيفة ، وإما شاذه تُرك العمل بها ، وتواترت الأحاديث الكثيرة التي فيها إقرار النبي صلى الله عليه وسلم النساء على لبس المحلق من الإسورة وكذلك من الخواتم.
ولكن يجب على المرآة إذا كان عندها ما يبلغ النصاب من الحلي من الذهب أداء زكاته، بان تقومه كل سنة بما يساويه وتخرج منه ربع العشر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من الذهب ، يعني سوارين غليظين ، فقال :" أتؤدين زكاة هذا ؟" قالت :" لا . قال: " أيسرك أن يسورك الله بها سوارين من نار يوم القيامة " فخلعتهما وأعطتهما النبي صلى الله علي وسلم وقالت : هما لله ورسوله.[415]
ونهي أيضا في هذا الحديث " عن الشرب في آنية الفضة" يعني نهانا عن أن نشرب في آنية الفضة، سواء كان الشرب ماءً أو لبناً أو مرقاً أو غير ذلك ، وسواء كان الشارب رجلاً أم امرأة ؛ لأن التحريم الأواني من الذهب والفضة شامل للرجال والنساء، ولا فرق بين الفضة الخالصة وبين المموه بالفضة، كل ذلك حرام .
وأما آنية الذهب فهي أشد وأشد ، وقد ثبت النهي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :"لا تشربوا في آنية الذهب ، ولا تأكلوا في صحافهما ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"[416]
أما المياثر الحمر : فهي مثل المخدة ، يجعل في حشوها قطن ويجعل علي هذا القطن خرقة من الحرير ، وتربط في سرج الفرس او في كور البعير من أجل أن يجلس عليها الراكب فيستريح.
وكذلك القسي وغيرها ، فإنها كلها من أنواع الحرير ، وهي حرامٌ علي الرجال ؛ لأنه لا يجوز للرجل أن يلبس الحرير ، ولا أن يجلس عليه ، ولا أن يفترشه ، ولا أن يلتحفه.
(28/60)
وأما المرأة فيجوز لها لبس الحرير ؛ لأنها محتاجة إلى الزينة والتجمل كما قال الله تعالى (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف:18)، يعني : أو من يرفه في الحلية وهو في الخصام غير مبين كمن ليس كذلك وهم الرجال ، فالرجال لا يرفهون في الحلية ولا ينشئون فيها ؛ لأنهم مستغنون ببطولتهم ورجولتهم عن التزين والتجمل بهذه الأشياء.
وأما افتراش المرأة للحرير والتحافها به وجلوسها عليه ، فقد اختلف فيه العلماء ، منهم من منع وحرم واستدل بعموم هذا الحديث ؛ وأن الرسول عليه الصلاة والسلام نهي عن المياثر الحمر وشبهها ، وقال :إن المرأة يباح لها أن تلبس الحرير لاحتياجها إليه ، أما أن تفترشه فلا حاجة لها إلى أن تفترش الحرير، وهذا القول اقرب من القول بالحل مطلقاً أي يحلّ الحرير للنساء مطلقاً ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجواد وعدماً.
بقي الكلام علي قوله :" وإنشاد الضالة" يعني مما أمرهم به إنشاد الضالة، يعني أن الإنسان إذا وجد ضالة وجب عليه إنشادها ، أي طلب من هي له ، والضالة هي ما ضاع من البهائم ، وقد قسم العلماء رحمهم الله الضالة إلى قسمين:
الأول : قسم يمتنع من الذئاب ونحوها من صغار السباع ، فهذا لا يجوز التقاطه ولا إيواؤه، ومن آوى ضالة فهو ضال مثل الإبل ، أو ما يمتنع بطيرانه مثل الطيور كالصقور والحمام وشبهها، أو ما يمتنع بعدوه كالظباء ونحوها.
فالذي يمتنع من صغار السباع كالذئاب وشبهها ثلاثة أنواع : ما يمتنع من السباع لكبر جثته وقوته مثل الإبل ، وما يمتنع من السباع لطيرانه كالصقور والحمام، وما يمتنع من السباع لعدوه وسرعة سعيه كالظباء.
(28/61)
فهذا لا يجوز للإنسان أن يلتقطها ، ولا يجوز له أن يؤويها بل يطردها من إبله ، ويطردها من حمامه ، إذا أوت إلى حمامه ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ضالة الإبل فقال :" ما لك ولها ؛ معها سقاؤها وحذاؤها ، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها " [417] معها سقاؤها : يعني بطنها تملؤه ماءً، وحذاؤها : يعني خفها تمشي عليه ، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها .
فلا يجوز لك أن تؤوي هذه الضالة ولا أن تلتقطها ، ولو كنت تريد الخير ، اللهم إلا إذا كنت في أرض فيها قطاع طريق تخشى أن يأخذوها ويضيعوها على صاحبها ، فلا بأس أن تأخذها حينئذ ، أو إذا كنت تعرف صاحبها فتأخذها لتردها عليه ، فهذا لا بأس به .
الثاني: ما لا يمتنع من صغار السباع ، يعني الذي يعجز أن يفك نفسه مثل الغنم أو الماعز أو الشياه أو ما أشبه ذلك ، فإنك تأخذها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :" هي لك أو لآخيك أو للذئب" [418]
، ولكن يجب عليك أن تبحث عن صاحبها وقوله ( هي لك) يعني إن لم تجد صاحبها ، ( ) يعني صاحبها إذا عرفته ، " أو للذئب" إذا لم يجدها أحد أكلها الذئب.
فهذه تُؤخذ ويُبحث عن صاحبها ، فإذا تمت السنة ولم يُوجد صاحبها فهي لمن وجدها.
وإنشاد الضالة له معنيان:
المعني الأول: ما ذكرنا وهذا واجب على الإنسان .
المعني الثاني: منهيٌ عنه وذلك مثل ما يقع في المساجد ، وهو أن يطلب الإنسان الضالة فيه ، مثل أن يقول : من رأى كذا وكذا ؟ أو : يا أيها الناس قد ضاعت لي كذا وكذا فمن وجدها ؟
فهذا لا يجوز في المسجد ، وهو محرم ، لأن المساجد لم تبن لهذا ، قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إذا سمعتم أحداً ينشد ضالة في المسجد فقولوا له : لا ردها الله عليك ؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا"[419]
(28/62)
فنحن مأمورون أن ندعوا الله عليه ، فنقول : لا ردها الله عليه ، فنقول : لا ردها الله عليك ، كما أننا إذا سمعنا شخصاً يبيع ويشترى في المسجد فإننا نقول : لا أربح الله تجارتك ؛ لأن المساجد لم تُبن للبيع أو الشراء.
فهذه الأوامر التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم كلها خير ، والنواهي التي نهى عنها كلها شر؛ لأن قاعدة شريعته صلى الله عليه وسلم تأمر بالمصالح وتنهى عن المفاسد، وإذا اجتمع في الشيء مفسدة ومصلحة؛ غُلب الأقوى منها والأكثر ، فإن كان الأكثر المصلحة غُلبت ، وإن كانت المفسدة غُلبت ، وإن تساوى الأمران غلبت المفسدة؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، الله الموفق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
* * *
352 أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، رقم (2564).
353 حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم على بيع المسلم ، أو السوم على سومه، أخرجه البخاري، كتاب البيوع ، باب لا يبيع على بيع أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، رقم (2140).
354 تقدم تخريجه ص (398)
355 أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب المرور في المسجد، رقم (452)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب أمر من مر بسلاح في مسجد، رقم (2615).
356 أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم (5997) ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان، رقم (2318)
357 أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن ...، رقم (7109)
358 أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب في الرحمة، رقم (4941) والترمذي ، كتاب البر والصلة، باب ما جاء ي رحمة الناس، رقم (1924) وقال الترمذي: حديثٌ حسن غريب
359 أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، رقم (516) ومسلم ، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، رقم (543)
(28/63)
360 أخرجه النسائى ، كتاب التطبيق ، باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، رقم (1141) ، وأحمد في المسند (3/494)
361 أخرجه البخاري، كتاب الأدب ، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم (5998) ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال ، رقم (2317)
362 أخرجه البخاري، كتاب الأدب ، باب رحمة الناس والبهائم، رمق (6013) ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال ، رقم (2319) واللفظ لمسلم
363 أخرجه البخاري، كتاب الأذان ، باب إذا صلى لنفسه فليطول...، رقم (703)، ومسلم ، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة، رقم (467)
364 تقدم تخريجه ص (172)
365 أخرجه البخاري، كتاب الأذان ، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي" رقم (708) ، ومسلم ، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة ، رقم (469)
366 أخرجه البخاري، كتاب الأذان ، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، رقم (708) ومسلم ، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة ، رقم (470).
367 أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، رقم (1128) ، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، رقم (718)
363 أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب الوصال ، رقم (1964) ومسلم ، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم ، رقم (1105)
369 أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء..، رقم (924)، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (761)
370 أخرجه البخاري، كتاب الجمعة ، باب السواك يوم الجمعة، رقم (887)، ومسلم، كتاب الطهارة ، باب السواك رقم (252).
371 أخرجه مسلم ، كتاب المساجد ، باب وقت العشاء وتأخيرها ، رقم (638)
(28/64)
372 أخرجه البخاري ، كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، رقم (1965) ومسلم ، كتاب الصيام ، باب النهي عن الوصال ، رقم (1103).
373 أخرجه البخاري ، كتاب الأذان ، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، رقم (707).
374 أخرجه مسلم ، كتاب المساجد، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة ، رقم (657).
375 أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب..، رقم (444)
376 أخرجه ابن ماجه ، كتاب المساجد باب ما يكره في المساجد، رقم (750) وفي الزوائد : فيه الحارث بن نبهان متفق على ضعفه. وقال الهيثمي قي مجمع الزوائد (2/29) رواه الطبراني في الكبير وفيه العلاء بين كثير الليثي الشامي وهو ضعيف
377 تقدم تخريجه ص (53).
378 تقدم تخريجه ص (187)
379تقدم تخريجه ص (397)
380 أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم رقم (1927)
381 أخرجه أبو داود كتاب أبواب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده ، رقم (3543) والترمذى ، كتاب البيوع، باب رقم (38) حديث رقم (1264) وقال الترمذى : حسن غريب
382 أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، رقم (2605)
383 أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قول الله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ،رقم (3357) ومسلم كتاب الفضائل ، باب من فضائل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، رقم (2371)
384 أخرجه مسلم، كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه ، رقم (91)
385 أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم (52) ومسلم كتاب المساقاة ، باب اخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599)
(1) أخرجه مسلم ، كتاب البر ، باب تحريم الغيبة ، رقم (2589)
386 أخرجه مسلم : كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم ..، رقم (2564)
387 أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب باب في الحسد، رقم (4903)
(28/65)
388 أخرجه أبو داود ، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء ، رقم (2134) وابن ماجه ، كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء ، رقم (1971)
389 اخرجه البخاري ، كتاب الأدب باب الحذر من الغضب رقم (6116)
390 اخرجه الترمذي ، كتاب الفتن، باب ما جاء ما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن، رقم (2191) وأحمد في المسند، رقم (3/19، 61) وقال الترمذي حسنٌ صحيح .
391 أخرجه مسلم ، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ...، رقم (1408)
392 تقدم تخريجه ص (541).
393 تقدم تخريجه ص (184)
394 تقدم تخريجه ص (14)
395 أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، رقم (1844)
396 أخرجه البخاري، كتاب الجنائز ،باب الأمر باتباع الجنائز رقم (1240)، ومسلم، كتاب السلام ، باب من حق المسلم على المسلم رد السلام ، رقم (2162)
397 اخرجه مسلم ، كتاب السلام، باب من حق المسلم على المسلم ردّ السلام، رقم (2162)
398 أخرجه مسلم ، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام...، رقم (2167)
399 أخرجه البخاري ، كتاب الاستئذان ، باب كيف يرد علي أهل الذمة السلام، رقم (6257)ومسلم كتاب السلام ، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام...، رقم (2164).
400 أخرجه البخاري كتاب الاستئذان ، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة ، رقم (6237) ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب تحريم الهجر فوق ثلاث...، رقم (2560).
401 أخرجه أبو داود، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة ، رقم (3874).
402 أخرجه البخاري ، كتاب الجنائز باب من انتظر حتى تدفن رقم (1325) ومسلم كتاب الجنائز باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها رقم (945)
403 أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها رقم (945)
404 أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذابه، رقم(4753) وأحمد في المسند، رقم (4/287، 288)
(28/66)
405 أخرجه أبو داود كتاب الجنائز باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف ، رقم (3221)
406 أخرجه مسلم ، كتاب الجهاد والسير ، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين رقم (1794)
407 أخرجه البخاري كتاب الأدب ، باب إذا عطس كيف يشمت ؟، رقم (6224)
408 أخرجه ابو داود الأدب ، باب كيف يشمت الذمي ؟ رقم (5038)، الترمذي ، كتاب الأدب ، باب ما جاء كيف تشميت العاطس . رقم (2739)، وقال حسنٌ صحيحٌ
409 أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز، رقم (1239)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب ..، رقم (2066)
410 تقدم تخريجه ص (14).
411 أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم ، رقم (6646) ، ومسلم كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله رقم (1646)
412 أخرجه الترمذي كتاب النذور والإيمان، باب ما جاء في الاستثناء في اليمين رقم (1531) وقال :حديث حسن . وبنحوه ابو داود كتاب الإيمان والنذور ، باب في الاستثناء في اليمين ، رقم (3262) ، وابن ماجه، كتاب الكفارات باب الاستثناء في اليمين ، رقم (2105)
413 تقدم تخريجه ص (444)
414 أخرجه الترمذي كتاب اللباس باب ما جاء في الحرير والذهب ، رقم (1720) ، وابن ماجة ، كتاب اللباس ، باب لبس الحرير والذهب للنساء ، رقم (3595) ، وقال الترمذي: حسن ٌ صحيحٌ
415 أخرجه ابو داود كتاب الزكاة، باب الكنز ما هو وزكاة الحلي، رقم (1563) والترمذي ، كتاب الزكاة ، باب ما جاء في زكاة الحلى رقم(637)والنسائي ، كتاب الزكاة، باب في زكاة الحلي، رقم (2479)
416 أخرجه البخاري كتبا الأطعمة ، باب الأكل في إناء مفضض، رقم (5426) ومسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة رقم (2067)
417 أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم ..، رقم(91)، ومسلم،كتاب اللقطة ،رقم(1722).
(28/67)
418 جزء من الحديث السابق نفسه .
419 أخرجه مسلم ، كتاب المساجد ، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، رقم (568)
(28/68)