مقدمة الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال : الحمد لله نحمده ونستعينه على ماله من الأسماء الحسنى ، والصفات الكاملة العليا ، وعلى أحكامه القدرية العامة لكل مكون وموجود ، وأحكامه الشرعية الشاملة لكل مشروع ، وأحكام الجزاء بالثواب للمحسنين ، والعقاب للمجرمين .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في الأسماء والصفات والعبادة والأحكام ، وأشهد أن محمداً عبده الذي بيّن الحكم والأحكام ووضح الحلال والحرام، وأصّل الأصول وفصلها حتى استتم هذا الدين واستقام ، اللهم صلّ وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ، خصوصاً العلماء والأعلام.
أما بعد : فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه ، سهلة الألفاظ ، واضحة المعاني ، معينة على تعلم الأحكام لكل متأملٍ معاني ، نسأل الله أن ينفع بها جامعها وقارئها إنه جوادٌ كريم .
ابتدأ المؤلف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداءً بكتاب الله فإنه مبدوء بالبسملة ، وأيضاً: اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ، عليه الصلاة والسلام كان يبدأ كتبه ومراسلاته بالبسملة.
قوله : ( بسم الله ) :
الباء : حرف جر ، واسم : اسم مجرور ، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف يقدر بما يناسب المقام وعلى هذا إذا أردت أن تقرأ وقلت بسم الله أي: بسم الله أقرأ.
وإنما .... هذا المتعلق فعلاً لأنه الأصل في العمل هو الأفعال وأيضاً : قدر بما يناسب المقام لأنه أدلُّ على المراد وقدر مؤخراً تبركاً بالبداءة بسم الله عز وجل.
قوله : ( الله ) : معناها : ذو الألوهية والربوبية على خلقه أجمعين، والله أصلها: الإله فحذفت الهمزة وأدغمت اللام باللام فقيل: الله ، والله من الأسماء التي اختص الله بها وأعرف المعارف.. إلخ .
قوله : ( الرحمن ) : أي ذو الرحمة الواسعة ، والرحمن من الأسماء التي اختص الله بها لا يسمى بها غيره .(1/1)
قوله : ( الحمد لله ) ابتدأ المؤلف رحمه الله خطبته بالحمد لله وهذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يبتدئ خطبه الراتبة أو العارضة إلا بالحمد لله .
والحمد لله اختلف في تفسيرها :
فقيل الحمد : وصف المحمود بالصفات الجميلة والأفعال الحسنة .
وقيل : الحمد : وصف المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
والفرق بين الحمد والمدح :
أن الحمد : يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم .
بخلاف المدح : فقد يكون هناك مدح لكن ليس هناك محبة أو ليس هناك تعظيم.
وقوله : لله : سبق تفسير لفظ الجلالة ، واللام هنا : للاختصاص والاستغراق ، فالذي يختص بالمحامد المطلقة هو الله ، الخلوق يحمد لكنه حمداً مقيداً.
قوله : ( وعلى أحكامه القدرية العامة لكل مكون موجود، وأحكامه الشرعية الشاملة لكل مشروع، وأحكام الجزاء بالثواب للمحسنين والعقاب للمجرمين) .
أي : أن الأحكام من الله تعالى ثلاثة :
الأول : أحكام قدرية وهي ما يجري في هذا الكون مما يتعلق بكل مكوّن وموجود من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والعز والذل والفقر والغنى ونحو ذلك.
الثاني : أحكام شرعية وهي : ما يتعلق بالمكلفين من الأحكام العلمية والعملية.
الثالث : أحكام أخروية : وهي ما يتعلق بالدار الآخرة من أحكام الجزاء على الأعمال بالثواب أو العقاب.
قوله : ( وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له... ) .
( أشهد ) يعني : أقر موقناً بقلبي ناطقاً بلساني ألاّ معبود حق إلا الله، و(أن): مخففة من الثقيلة ، و(لا ) : نافية للجنس . و ( إله ) اسمها الخبر محذوف تقديره حرفه يعني : لا إله حقٌ ، لا معبود حقٌ إلا الله ، الله لفظ الجلالة بدل من الخبر المحذوف.
قوله : ( وحده ) تأكيدٌ للإثبات ، إثبات الألوهية لله عزوجل .(1/2)
قوله : ( لا شريك له ) : تأكيدٌ لنفي ألوهية من سوى الله عز وجل.
قوله : ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) :
أشهد : أقر موقناً بقلبي ناطقاً بلساني أن محمداً عبده ورسوله ، وقد فسر الشيخ محمد بن عبدالوهاب : شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر .
قوله : ( الذي بيّن الحكم والأحكام ، ووضح الحلال والحرام ، وأصل الأصول وفصلها حتى استتم هذا الدين واستقام ) .
هذا الكلام من المؤلف رحمه الله يسميه المؤلفون ببراعة الاستهلال وذلك أن يضمن المؤلف خطبة كتابه بما يدل على مراده بالتأفيف ، وهنا يفهم من خطبة المؤلف رحمه الله أنه سيكتب في الأصول ... وقواعد الحلال والحرام .. وقواعد الأحكام وهو ما ذكره في هذه الرسالة ..
قوله : ( اللهم صلي وسلم على محمد ) .
( الصلاة ) اختلف العلماء رحمهم الله في تعريفها ، وأحسن ما يقال في تعريفها ما نقله البخاري رحمه الله عن أبي العالية : أن الصلاة من الله عز وجل ثناؤه على عبده في الملك الأعلى عند الملائكة المقربين .
( وسلم ) : دعاءٌ بالسلامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، في حال حياته بسلامة بدنه وشرعه، وبعد مماته بسلامة شرعه وسنته من تأويل الغالين وتحريف المبطلين ، وأيضاً : تدعو له بالسلامة من أهوال يوم القيامة فإنه ما من نبي إلا ويجفوا على ركبتيه يوم القيامة يقول : ( اللهم سلم سلم ) .
وإذا اجتمعت الصلاة والسلام يكون معناها : الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب ، بالسلامة تحصل النجاة من المرهوب ، وبالصلاة يحصل الفوز بالمطلوب.
وقوله : ( وعلى آله وأصحابه وأتباعه ) :(1/3)
آل النبي - صلى الله عليه وسلم - اختلف أهل العلم في تفسيرها : والصواب في ذلك : أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم : أتباعه على دينه ، إلا إذا دلت البراهين على أن المراد به : أقاربه المؤمنون فإذا قيل : اللهم صلي على محمد وآله وأصحابه وأتباعه كما قال المؤلف رحمه الله : المراد بآله أقاربه المؤمنون ، أما إذا قيل اللهم صلي على محمد وآله: فالمراد هنا: أتباعه على دينه وهذا هو الصواب .
قوله : ( وأصحابه ) :
أصحاب : جمع صاحب والصحابي هو : كل من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك ، ولو لم تطل الصحبة وهذا من خصائص صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكون الصاحب صاحب الشخص حتى تطول الملازمة والصحبة.
قوله : ( أما بعد ) :
وهي : كلمة يؤتى بها للفصل بين مقدمة الكلام ومضمون الكلام.
( أما ) : حرف تفصيل مضمنٌ معنى الشرط ، ومعناها : مهما يكن من شيء بعد.
( بعد ) : ظرف مبني على الضم .
اختلف أهل العلم رحمهم الله في الفائدة من هذه الكلمة ( أما بعد ) :
فقيل : بأنه يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى أسلوب .
وقيل : بأنه يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى صلب الموضوع.
وهذا هو الأقرب .
واختلف أهل العلم في أول من قالها :
فقيل : بأن أول من قالها داود .
وقيل : بأن أول من قالها يعقوب.
وقيل : بأن أول من قالها كعب بن لؤي .
قوله : ( فهذه رسالة لطيفة في أصول الفقه ... ) :
المؤلف رحمه الله وصف الرسالة بأنها لطيفة ، واللطيف من الكلام رقيقة ، ثم تبين ميزات هذه الرسالة :
الأولى : سهلة الألفاظ . الثانية : واضحة المعاني . الثالثة : معينة على تعلم الأحكام لكل متأملٍ معاني.
قوله : ( نسأل الله أن ينفع بها جامعها ، وقارئها إنه جواد كريم ) :(1/4)
ختم الشيخ رحمه الله خطبة الرسالة بهذا الدعاء الجامع النافع ، وهو أن ينفع الله تعالى بهذه الرسالة جامعها وقارئها ، وأنا أقول : وشارحها ، وقارئ شرحها إنه قريبٌ مجيد ، جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
( 1 ) فصل
تعريف أصول الفقه وفائدته
قال : " فصل " أصول الفقه : هي العلم بأدلة الفقه الكلية ، وذلك أن الفقه إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة ، وإما دلائل يستدل بها على هذه المسائل .
فالفقه : هو معرفة المسائل والدلائل ، وهذه الدلائل نوعان ، كلية تشمل كل حكم من جنسٍ واحد من أول الفقه إلى آخره ، كقولنا : الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم ، ونحوهما، وهذه هي أصول الفقه ، وأدلة جزئية تفصيلية تفتقر إلى أن تبنى على الأدلة الكلية ، وإذا تمت حُكِم على الأحكام بها فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية ، والأدلة التفصيلية مضطرة إلى الأدلة الكلية وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه وأنها معينة عليه ، وهي أساس النظر والاجتهاد في الأحكام .
قوله : ( أصول الفقه : هي العلم بأدلة الفقه الكلية ... ) :
المؤلف رحمه الله عرف أصول الفقه باعتباره علماً على هذا الفن .
والعلماء رحمهم الله يعرفون أصول الفقه باعتبارين :
الأول : باعتباره مركباً .
فالأصول : جمع أصل ، وهو في اللغة : ما يبنى عليه غيره أو ما يتفرع منه غيره وذلك مثل : أساسات الجدران فهي : أصول يبنى عليها غيرها ، وأيضاً : أصل الشجرة الثابت في الأرض يتفرع منها غيرها ، وأيضاً : الأب وإن علا هذا أصل يتفرع منه غيره ...
وأما في الاصطلاح : فإن الأصل يطلق على عدة معاني :
الأول : الدليل وهذا هو الغالب في أصول الفقه ، فيقولون : الأصل في كذا وكذا يعني – الدليل في كذا وكذا ، فمثلاً : الأصل في وجوب الصيام قول الله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... } .(1/5)
الثاني : القاعدة المستمرة : كقولهم : إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل.
الثالث : المقيس عليه : وهذا من باب القياس .
الفقه في اللغة : الفهم ، وقيل : بأنه الفهم الدقيق .
وأما في الاصطلاح فهو : معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، وقيل: بأنه معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية.
قولنا : معرفة : هذا يشمل اليقين والظن .
اليقين : كمعرفة أن الصلوات الخمس واجبة هذا معلوم من الدين بالضرورة.
والظن : معرفة أن الوتر سنة مؤكدة .
قولنا : معرفة الأحكام الشرعية : الشرعية : يخرج الأحكام العادية والأحكام فهذه ليست داخلة في الفقه ، وإنما الذي داخل في الفقه معرفة الأحكام الشرعية.
قولنا : بأدلتها التفصيلية : هذا يخرج أصول الفقه فإن أصول الفقه يبحث في أدلة الفقه الإجمالية.
الثاني : باعتباره علماً على هذا الفن :
قال المؤلف : هي : العلم بأدلة الفقه الكلية ، هكذا عرفه المؤلف .
وأحسن من هذا أن يقال : أن أصول الفقه : أنه أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد .
وقولنا : أدلة الفقه الإجمالية : يشمل الأدلة المتفق عليه . والأدلة المختلف فيها:
الأدلة المتفق عليها مثل : الكتاب والسنة ، والإجماع، والقياس.
الأدلة المختلف فيها مثل : قول الصحابي ، الاستحسان ، الاستصحاب ، المصالح المرسلة ...
وقولنا : وكيفية الاستفادة منها : أي كيفية استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية ، وكيف نستفيد الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية؟ وذلك: بمعرفة طرق الاستنباط ففي أصول الفقه يدرس العام والخاص، وكيف تستفيد الحكم الشرعي من العام والخاص والمطلق والمقيد...
قولنا : وحال المستفيد : المستفيد هو : المجتهد ويدخل في ذلك دراسة مباحث التعارض والترجيح ، ودراسة أحكام الفتوى وأحكام التقليد والمقلد.
قوله : ( وذلك أن الفقه إما مسائل يطلب الحكم عليها بأحد الأحكام الخمسة ) .(1/6)
المسائل : جمع مسألة وهي : ما يبرهن له في العلم :
الأحكام الخمسة هي : الأحكام التكليفية الوجوب والتحريم والاستحباب والكراهة والإباحة.
والأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين :
الأول : أحكام تكليفية : وهي هذه الأحكام الخمسة .
الثاني : أحكام وضعية : وهي ما يتعلق بالشرط والسبب والمانع والصحة والفساد.
قوله : ( فالفقه هو معرفة المسائل والدلائل ) .
عرف المؤلف رحمه الله الفقه في الاصطلاح وهو تعريف مختصر ومفيد وهو: معرفة المسائل والدلائل : يعني – معرفة المسألة أن الوتر حكمه سنة ، دليل ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أوتروا يا أهل القرآن " ، وسبق أن عرفنا الفقه .
قوله : ( وهذه الدلائل نوعان : كلية تشمل كل حكم من جنس واحد من أول الفقه إلى آخره ، كقولنا : الأمر للوجوب ، والمنهي للتحريم ونحوهما ؛ وهذه هي أصول الفقه ، وأدلة جزئية تفصيلية .... " .
أي : أنّ الدلائل التي يقوم عليها الفقه نوعان :
الأول : أدلة كلية : وهي القواعد العامة التي تضمنها أصول الفقه مثل : الأمر للوجوب حتى تصرفه قرينة ، والنهي للتحريم حتى تصرفه قرينة ، والعام شامل لجميع أفراده حتى يثبت تخصيصه ، ويحمل بالمطلق حتى يثبت تقييده ... وهكذا. فأدلة أصول الفقه أدلة كلية عامة شاملة تشمل كل الأبواب..
الثاني : أدلة جزئية : وهي كل دليل يختص بمسألة معينة كقوله تعالى : (وأقيموا الصلاة) فهو يختص بوجوب إقامة الصلاة وقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فهو يختص بحرمة الزنى، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" يختص باستحباب السواك وهذه الأدلة تحتاج إلى أن تبنى على الأدلة الكلية يتم استنباط الحكم من الدليل بواسطة هذه الأدلة.(1/7)
وقد دل كلام الشيخ رحمه الله على أن الفقه يقوم على الأدلة الكلية ، وهي قواعد الأصول ، وعلى الأدلة الجزئية التي تستنبط منه الأحكام وهي الكتاب والسنة وما يستند إليهما من الإجماع والقياس ، وهو بهذا يؤكد على أن الفقه يحتاج إلى الأدلة الكلية ، وأن الفقه بالمعنى الصحيح لابد أن يؤسس على قواعد الأصول، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "الفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً، ويقول: (الفقه لا يكون فقهاً إلا من المجتهد المستدل) .
قوله : ( فالأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية ، والأدلة التفصيلية مضطرة إلى الأدلة الكلية ) .
هذا توضيح لما سبق ، والمعنى : أن أي حكم شرعي لابد له من دليل يدل عليه وهو الدليل التفصيلي أو الجزئي، وهذا الدليل التفصيلي مفتقر إلى الأدلة الكلية في أصول الفقه إذ لا يتم الاستدلال والاستنباط إلا بواسطة الأصول وهذا قد يكون واضحاً في مسائل الأوامر والنواهي المشهورة ولكنه يحتاج إلى تأمل ونظر في أبواب العام أو المطلق أو المفهوم وغير ذلك من مباحث دلالات الألفاظ، وقواعد الاستنباط.
قوله : ( وبهذا نعرف الضرورة والحاجة إلى معرفة أصول الفقه ، وأنها معينة عليه، وهي أساس النظرة والاجتهاد في الأحكام ) .
ذكر المؤلف رحمه الله فائدة من فوائد معرفة أصول الفقه وهذه الفائدة بينها بقوله : الأحكام مضطرة إلى أدلتها التفصيلية والأدلة التفصيلية مضطرة إلى الأدلة الكلية.
وهناك فوائد أخرى لمعرفة أصول الفقه منها :
الأولى : ضبط أصول الاستدلال ببيان الأدلة الصحيحة من غيرها.
الثانية : بيان الوجه الصحيح للاستدلال ، أنت قد تستدل بدليل لكن على غير وجهه لكن بمعرفة أصول الفقه تتمكن من أن تستدل بهذا الدليل على وجهه الصحيح.
الثالثة : تيسير عملية الاجتهاد وإعطاء الحوادث الجديدة والنوازل ما يناسبها من الأحكام الشرعية.(1/8)
الرابعة : بيان ضوابط الفتوى .
الخامسة : صيانة الفقه الإسلامي من الانفتاح المترتب على وضع مصادر جديدة للتشريع لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة.
وكذلك أيضاً : صيانته من دعوى الجمود المترتب على إغلاق باب الاجتهاد، فيصون الفقه من إيجاد أدلة لم ترد، وأيضاً : من فوائده الدعوة إلى اتباع الدليل.
(2) فصل
الأحكام التي يدور عليها الفقه
قال : الواجب : الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، والحرام : ضده، والمسنون: الذي ثياب فاعله ولا يعاقب تاركه، والمكروه : ضده ، والمباح : مستوى الطرفين .
وينقسم الواجب : إلى فرض عين ، يطلب فعله من كل مكلف بالغ عاقل ، وهو جمهور أحكام الشريعة الواجبة، وإلى فرض كفاية: وهو الذي يطلب حصوله وتحصيله من المكلفين، لا من كل واحد بعينه ، كتعلم العلوم والصناعات النافعة والأذان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك).
الأحكام : جمع حكم : وهو في اللغة : يطلق على معان منها: القضاء والفصل والمنع وفي ذلك : قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } أي: لتقضي، وقوله تعالى : { فاحكم بين الناس } يعني – أقضي وافصل بين الناس لكي تمنع عدوان بعضهم على بعض .
وأما في الاصطلاح فهو : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.
قولنا : خطاب الشارع : هذا هو الحكم الشرعي يخرج الحكم العقلي والحكم العادي .
الحكم العقلي : ما يعرف العقل فيه نسبة أمر لأمر أو نفيه عنه ، يعني النسبة تعرف بالعقل وذلك مثل: الكل أكبر من الجزء.
الحكم العادي : ما تعرف فيه النسبة عن طريق العادة مثل : الخبز مشبع.
قولنا : المتعلق بأفعال المكلفين أو بفعل المكلف :
المكلف هو : البالغ العاقل ، فغير البالغ ليس كالصبي ، غير العاقل كالمجنون ليس مكلفاً.(1/9)
بالاقتضاء : يعني – بالطلب ، وهذا الطلب قد يكون طلب فعل وقد يكون طلب ترك، طلب الفعل : قد يكون على وجه اللزوم وقد لا يكون على وجه اللزوم، فإذا كان على وجه اللزوم فإنه يسمى بالواجب، وإذا كان على غير وجه اللزوم فإنه يسمى بالمستحب.
طلب الترك : قد يكون على وجه اللزوم وقد يكون على غير وجه اللزوم، فإن كان على وجه اللزوم فهذا المحرم وإن كان على غير وجه اللزوم فهذا المكروه.
قولنا : أو التخيير : هذا هو المباح . فهذه الجمل إلى هنا هذا ما يسمى بالحكم التكليفي، فالأحكام التكليفية خمسة : الواجب المحرم، المستحب، المكروه، المباح.
قولنا : أو الوضع : هذه هي الأحكام الوضعية وذلك بأن يرو الخطاب بنصب سبب أو مانعٍ أو شرطٍ أو كون الفعل رخصة أو عزيمة ، هذا هو الحكم الشرعي.
قوله : الواجب : الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه .
الواجب في اللغة : الساقط ومن ذلك قول الله : { فإذا وجبت جنوبها } يعني – سقطت .
ثم عرفه المؤلف بقوله : الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، والمؤلف رحمه الله عرفه بثمرته وهذا التعريف فيه نظر، فلابد أن تقيد هذه الثمرة بأن يقال: الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه امتثالاً .
والصواب أن يقال : هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الفعل على وجه اللزوم .
قولنا : بطلب الفعل : هذا يخرج المكروه والمحرم لأن المكروه والمحرم طلب ترك.
وقولنا : على وجه اللزوم : يخرج المستحب لأن المستحب لا على وجه اللزوم.
وأمثلة الواجب كثيرة : مثل : الصلاة ، الزكاة ، الصيام ..
قوله : والحرام : ضده :
الحرام في اللغة : الممنوع.
وضده على تعريف المؤلف : الذي يعاقب فاعله ويثاب تاركه.
والصواب أن يقال : في تعريفه : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الترك على وجه اللزوم .
قولنا : طلب الترك : يخرج الواجب والمستحب ، فالواجب والمستحب طلب فعل.
وقولنا : على وجه اللزوم : يخرج المكروه لأن المكروه طلب للترك لا على وجه اللزوم.(1/10)
قوله : والمسنون : الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
السنة في اللغة : الطريقة .
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف : الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وهذا فيه نظر .
والصواب أن يقال في تعريفه : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الفعل لا على وجه اللزوم .
قولنا : بطلب الفعل : يخرج المحرم والمكروه ، فإن المحرم والمكروه كل منهما طلب ترك .
قولنا : لا على وجه اللزوم : يخرج الواجب ، فإن الواجب طلب فعل على وجه اللزوم .
قوله : والمكروه : ضده .
المكروه في اللغة : المبغض .
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله : ضده ، أي: الذي يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ، وهذا فيه نظر .
والصواب أن يقال في تعريفه : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الترك لا على وجه اللزوم .
قولنا : طلب الترك : يخرج الواجب والمستحب .
وقولنا : لا على وجه اللزوم : يخرج المحرم فإن المحرم طلب ترك على وجه اللزوم .
قوله : والمباح : مستوى الطرفين :
يقول المؤلف : المباح مستوى الطرفين .
فقول المباح : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير .
وقال بعض العلماء : المباح : مالا يتعلق بفعله مدح ولا ذم .
قوله : وينقسم الواجب إلى : فرض عين ، يطلب فعله من كل مكلف بالغ عاقل وهو جمهور أحكام الشريعة الواجبة الواجب يفهم في النصوص بعدة طرق ، منها :
الأمر والتصريح بالإيجاب مثل : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" ، وقد يفهم بالفرض والكتب وبالوعيد على تركه وبذم تاركه وبأنه حق على المؤمنين وبإحباط العمل بتركه وعدم فعله .
والواجب له عدة تقسيمات ، من هذه التقسيمات ما ذكره المؤلف رحمه الله.(1/11)
الأولى : فرض عين : وهو الذي لا تدخله النيابة مع القدرة وعدم الحاجة بل يطلب فعله من كل مكلف ، وهو البالغ العاقل كالطهارة والصلوات الخمس وبر الوالدين وصلة الأرحام ونحو ذلك ، فما دامت القدرة موجودة وجب على المكلف أن يفعل بنفسه ، أما مع عدم القدرة ففي المسألة تفصيل حسب نوعية العبادة.
وأفاد المؤلف رحمه الله بأن فرض العين هو جمهور أحكام الشريعة الواجبة : أي أن فرض العين أكثر من فرض الكفاية وهذا ظاهر.
الثاني : فرض كفاية : وهو ما يسقطه فعل البعض ولو مع القدرة، وعدم الحاجة، لأن المطلوب حصوله وتحصيله من المكلفين ، لا من كل واحدٍ بعينه، كتعلم العلوم والصناعات النافعة، والأذان ، وتجهيز الميت، والصلاة عليه، ودفنه، والقضاء والإفتاء ، ونحو ذلك.
وقد يكون فرض الكفاية فرض عين كقاضي واحد في البلد أو سباح واحد لإنقاذ غريق ، أو طبيب واحد لم يكن غيره لإسعاف مريض ، ونحو ذلك مما يتعين فيه الفعل على شخصٍ بعينه .
كالنهي عن القران في التمر ، أو الانتقال وهو قائم، فما كان عقابه أعظم كان النهي عنه أوكد ؛ لأن العقاب ثمرة ونتيجة لأصل التحريم ، ولأن الترجيح بين الفعلين المحرمين ثابت ، فما زال أهل العلم يقدمون أخف الضررين والمفسدتين عند التعارض ولو تساويا من كل وجه لامتنع ذلك الترجيح.
قوله : فما كانت مصلحته خالصة أو راجحة ....
أي : أن المأمورات والمنهيات ترجع إلى أقسام أربعة ، اثنان في المأمورات ، واثنان في المنهيات :
الأول : أن تكون المصلحة خالصة ، وهي التي لا يشربها أي مفسدة كالتوحيد والإخلاص والعدل والإحسان وبر الوالدين وصلة الأرحام وفعل المعروف ونحو ذلك، فهذا يأمر به الشرع أمر إيجاب أو أمر استحباب، حسب نوعية المأمور به.(1/12)
الثاني : أن تكون المصلحة راجحة ، وهي التي تخالطها مفسدة ولكن المصلحة هي الأغلب ، كالجهاد، فإن فيه إعلاء كلمة الله ونصرة دينه مع ما فيه من التعرض للقتل ، وهذه يأمر بها الشرع أيضاً أمر إيجاب أو استحباب ؛ لأن العبرة بالغالب ولا ينظر إلى ما فيها من المفسدة لضعف أثرها وغلبة المصلحة عليها.
الثالث : أن تكون المفسدة خالصة ، وهي التي لا يخالطها مصلحة كالشرك والظلم وعقوق الوالدين ، ونحو ذلك مما لا مصلحة فيه ، فهذه ينهى عنها الشرع نهي تحريم أو كراهة حسب نوعية المنهي عنه.
الرابع : أن تكون المفسدة راجحة، وهي التي تضمنت مصلحة ولكن جانب المفسدة أغلب ، مثل : الخمر والميسر والربا والظلم ونحو ذلك ، فإن هذه المذكورات فيها مصالح كسب المال وما يحصل لفاعلها من اللذة ، لكن مفاسدها أعظم، قال تعالى : { يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } وهذه ينهى عنها الشرع نهى تحريم أو كراهة، لأن العبرة بالغالب ، ولا ينظر إلى ما فيها من المصلحة ، لضعف أثرها وغلبة المفسدة عليها.
يقول ابن القيم رحمه الله : ولما كانت خاصة العقل النظر فيه إلى العواقب والغايات كان أعقل الناس أتركهم لما ترجحت مفسدته في العاقبة ، وإن كانت فيه لذة ومنفعة يسيرة بالنسبة إلى حضرته.
قال : وأما المباحات : فإن الشارع أباحها وأذن فيها ، وقد يتوصل بها إلى الخير فتلحق بالمأمورات، وإلى الشر فتلحق بالمنهيات .
فهذا أصل كبير أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، وبه نعلم : أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وما يتوقف الحرام عليه فهو حرام ، ووسائل المكروه مكروهة .
قوله : ( وأما المباحات فإن الشارع أباحها وأذن فيها .... إلخ ) .(1/13)
هذا النوع الثاني من نوعي المباح ، وهو المباح الذي صار وسيلة لمأمور به أو منهي عنه ، فيكون حكمه حكم ما كان وسيلة إليه، فإن كان المباح يتوصل به إلى الخير فهو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، ويثاب على ذلك بحسب نيته فمثلاً : النوم مباح ، فإذا كان وسيلة للتقوي على طاعة الله تعالى أو كسب الرزق صار مستحباً يثاب عليه المكلف . وإن كان المباح يتوصل به إلى منهي عنه فهو منهي عنه نهي تحريم أو كراهة ، فمثلاً : يحرم بيع المباحات لمن يعمل فيها معصية، كبيع العنب إلى من يتخذه خمراً ، والأكل والشرب من الطيبات مباحان لكن الإسراف فيهما إلى حد التخمة مكروه، واللهو مباح في غير محرم فإن أدى إلى تفويت الصلاة أو التعدي على الغير صار محرماً ، وهكذا ...
قوله : ( فهذا أصلٌ كبير أن الوسائل لها أحكام المقاصد ... ) .
الوسائل : جمع وسيلة وهي : الطريق إلى الشيء .
والمقاصد : جمع مقصد وهو : ما يقصده المكلف من فعل مأمور به أو ترك منهيٌ عنه .
والمعنى : أن ما يثبت للمقصود من حكم يثبت مثله للوسيلة الموصلة إليه، فوسائل المأمورات مأمور بها ، ووسائل المنهيات منهي عنها ، فإن كان تحقيق المقصود واجباً فإن الأخذ بالوسيلة الموصلة إليه يكون أمراً واجباً ومثال ذلك: الصلاة فهي من حيث أداؤها مقصد، والمشي إليه ا: وسيلة ، وبما أن الصلاة واجبة فالوسيلة إليها واجبة وهكذا يقال في المندوب وغيره كما سيأتي إن شاء الله.
ودليل ذلك : قول الله : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عملٌ صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع حسنة " رواه مسلم .(1/14)
وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة " رواه مسلم .
فهذه القاعدة يندرج تحتها أربعة فروع ، كما ذكر الشيخ رحمه الله وهي:
الأول : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب : والمراد بذلك: ما يدخل تحت قدرة المكلف وهو مأمور به كالمشي إلى الصلاة والسعي إلى الجمعة والسفر إلى مكة لأداء الحج أو العمرة ، وكنقل الأقدام إلى زيارة الوالدين أو صلة الأرحام وكذا طلب الماء للوضوء ، أو شراؤه بثمن المثل أو زيادة لا تضر، أو شراء ثوب لستر العورة ونحو ذلك .
لكن لا يفهم من ذلك أن هذه القاعدة تكون دليلاً لإثبات وجوب حكم لم يرد بوجوبه دليل ، وإنما هي مسألة قسمت عليها فقد مات الواجب – وهي ما يتوقف عليها وجود الواجب – وعلى ذلك فإن حقد مات الواجب واجبه بنفس دليل ذلك الواجب ، كما في الأمثلة ، وقد يرد دليلع لى ما لا يتم الواجب إلا به، كقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } ، وقد لا يرد كإفراز المال لإخراج الزكاة، ومنه بعض ما تقدم .
الثاني : ما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون : كالسواك والتطيب يوم الجمعة، فإذا توقف تحقيق ذلك على شراء السواك أو الطيب كان ذلك الشراء مسنوناً ، أي مندوباً إليه بواسطة المنسوب نفسه ، وهكذا يقال في نوافل الصلاة والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من المنسوبات .(1/15)
الثالث : ما يتوقف الحرام عليه فهو حرام : ومن ذلك : الشرك الأكبر، وهو الشرك في العبادة، فكل قولٍ أو فعلٍ يفضي إليه فهو محرم ، وكذا الشرك الأصغر ووسائله كالحلف بغير الله – تعالى – إن لم يعتقد أن عظمة المخلوق به كعظمة الله، ونحو ذلك ، وكالسعي إلى المعاصي كالزنا والخمر ونحو ذلك، أو الخلوة بالمرأة الأجنبية المفضية إلى الفاحشة ولو في إقراء القرآن أو السفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين ، وكذا قيادة المرأة للسيارة فإنها تفضي إلى مفاسد كثيرة لا يمكن حصرها فتكون القيادة محرمة لذلك .
الرابع : وسائل المكروه مكروهة : كما لو أمسك شيئاً بيساره ليمسك ذكر بيمينه ، فإمساك الذكر باليمين مكروه ، فتكون هذه الوسيلة مكروهة أيضاً.
(3) فصل
الأدلة التي يستمد منها الفقه
قال : الأدلة التي يستمد منها الفقه أربعة : الكتاب والسنة وهما الأصل خوطب به المكلفون وانبنى دينهم عليه، والإجماع والقياس الصحيح، وهما مستندات إلى الكتاب والسنة .
فالفقه من أوله إلى آخره لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة وأكثر الأحكام المهمة تشتمل عليها الأدلة الأربعة تدل عليها نصوص الكتاب والسنة، ويجمع عليها العلماء ويدل عليها القياس الصحيح ، لما فيها من المنافع والمصالح ، إن كانت مأموراً بها ، ومن المضار إن كانت منهياً عنها، والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء ، وأقربهم إلى الصواب فيها من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة :
هذا الفصل عقده الشيخ رحمه الله لبيان أدلة الأحكام الشرعية إجمالاً ، وسيتكلم عن كل واحد منها بشيء من التفصيل .
والأدلة : جمع دليل ، وهو في اللغة : ما فيه دلالة وإرشاد إلى أمر من الأمور.
واصطلاحاً : ما يستدل بالنظر الصحيح فيه على حكم شرعي عملي على سبيل القطع أو الظن .
والأدلة تنقسم إلى قسمين :
الأول : أدلة متفق عليها وهي : القرآن والسنة والإجماع والقياس .(1/16)
الثاني : أدلة مختلف فيها وهي : قول الصحابي والاستحسان والاستصحاب، وشرع من قبلن أن وإجماع أهلا لمدينة ، والمصالح المرسلة.
قوله : ( التي يستمد منها الفقه ) أي : تؤخذ منها الأحكام الشرعية العملية التي تتعلق بالمكلفين ، وهي الكتاب والسنة والإجماع ، وهذه أدلة نقلية ، والرابع: القياس وهذا دليل عقلي ؛ لأن مرده إلى النظر والرأي المستند إلى النقل.
قوله : ( وهما الأصل الذي خوطب به المكلفون ) أي : أن الكتاب والسنة هما الأصل في خطاب المكلفين بالأحكام الشرعية ، والإجماع والقياس والإجماع مستندان إليهما لأن الإجماع لابد أن يستند إلى نص ، والقياس مسلك اجتهادي في حدود نصوص الكتاب والسنة بضوابط معينة، بل إن الأدلة الثلاثة كلها راجعة إلى القرآن ؛ لأن العمل بالسنة إنما دل عليه القرآن ، كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } ، ولأن السنة جاءت لبيان القرآن وتفسيره وتفصيل ما أُجمل فيه ، قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين لناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون } .
قوله : ( فالفقه في أوله إلى آخره لا يخرج عن هذه الأصول الأربعة ) .
هذا ظاهر أي : أن جميع مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويُفتون بها ثابتة بهذه الأدلة الأربعة ، ومن استقرأ كلام أهل العلم رحمهم الله يجد أنهم يستدلون بهذه الأدلة الأربعة التي أشار إليها المؤلف ، وكذلك : مما عداها مما أشرنا إليه كقول الصحابي والاستحسان وإجماع أهل المدينة والمصالح المرسلة .
قوله : ( وأكثر الأحكام المهمة تجتمع عليها الأدلة الأربعة تدل عليها نصوص الكتاب والسنة ... ) .(1/17)
أي : أن أكثر الأحكام الشرعية التي لابد للناس من العلم بها، مما يجب عليهم ويحرم ويباح ، تجتمع عليها الأدلة الأربعة ، لأنها من قبيل المعلوم المقطوع به، وذلك كوجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج واستقبال القبلة ووجوب الوضوء والغسل من الجناية وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والعدل ، والصدق ، وتحريم الزنا والخمر والفواحش والظلم وعقوق الوالدين وغير ذلك.
قوله : ( والقليل من الأحكام يتنازع فيها العلماء ) :
أي : أن الأحكام التي حصل فيها خلاف بين العلماء قليلة بالنسبة للأحكام المهمة، لأن من هذه الأحكام المختلف فيها ماهو مسائل مقدرة غير واقعة، ومنها ماهو تفاريع فقهية على بعض الأحكام المهمة، وهذا الاختلاف له أسباب، كعدم سماع الحديث ، أو عدم ثبوته ، أو الاختلاف في فهمه، أو كيفية الاستدلال به، أو اعتقاد عدم معارض للدليل ، أو نحو ذلك مما هو معروف في محله.
قوله : ( وأقربهم إلى الصواب من أحسن ردها إلى هذه الأصول الأربعة):(1/18)
أي : أن هذه المسائل المختلف فيها لابد لها من دليل ، قد يكون نصاً ، وقد يكون استنباطاً ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: ( قلّ فاختلفوا فيه إلا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله أو سنة رسوله ا, قياساً عليهما أو على واحد منهما) وأقرب العلماء إلى الصواب في هذه المسائل المختلف فيها من أحسن استنباط حكمها الشرعي من نص أو إجماع أو قياس ، ولابد في ذلك في الإحاطة بدلالات الألفاظ وقواعد الاستنباط ، قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً } قال الشيخ في تفسيره : أي كتاب الله وسنة رسوله، فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية ، إما بصريحهما أو عمومهما ، أو إيماء أو تنبيه أو مفهوم أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه لأن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهما بناء الدين ولا يستقيم الإيمان إلا بهما ، فالرد إليهما شرطٌ في الإيمان .
(4) فصل
في الكتاب والسنة ( ودلالتهما )
الدليل الأول : الكتاب :
قال : أما الكتاب : فهو القرآن العظيم ، كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلب محمد رسول الله ليكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين ، للناس كافة ، في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم وهو المقروء بالألسنة ، والمكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور ، الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد } .
هذا الفصل عقده المؤلف لبيان معنى الكتاب والسنة وكيفية استنباط الحكم من هذين الدليلين .
قوله : ( أما الكتاب فهو القرآن العظيم ) .(1/19)
عرف الشيخ رحمه الله القرآن وهو أن يشهر من أن يعرف لكنه تبع الأصوليين في ذلك ، ولعل في تعريفه إظهار بعض خصائصه التي جعلته المصدر الأول للتشريع في كل زمان ومكان ، وهو حجة الله تعالى على جميع البشر ، قال تعالى: { وأوحي إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله تعالى به .
قوله : ( كلام رب العلامين ، نزل به الروح الأمين على قلب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .
هذه أول خصائص القرآن ، وهو أنه كلام الله تعالى حقيقة ، وهو اللفظ والمعنى جميعاً ، المنزل على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، نزل به جبريل عليه السلام، وهذا دليل على تعظيم هذا القرآن وشدة الاهتمام فيه ، فإنه نزل من الله لا من غيره، ويخرج بذلك الكتب التي أنزلت على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - كالتوراة والإنجيل والزبور فهي ليست قرآناً ، بل القرآن مختص بنبينا - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : ( بلسانس عربيٍ مبين ) :
هذه الثانية من خصائص القرآن ، وهي أنه نزل باللسان العربي ، فحروفه هي الحروف التي تتكلم بها العرب ، ليس فيها زيادة حرف واحد ، واللسان العربي أفضل الألسنة ، فقد نزل بلغة من بحث إليهم ، قال تعالى : { وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه } .
مسألة : هل في القرآن ألفاظٌ أعجمية ؟
هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : رأي الجمهور قالوا : القرآن ليس فيه ألفاظٌ أعجمية وإنما قال الله { بلسان عربي مبين } ، وقال الله : { وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم } ولسان العرب الذين أرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو اللسان العربي.
الرأي الثاني : ذهب إليه بعض الأصول قالوا : بأن في القرآن ألفاظ أعجمية مثل: الاستبرق ، المشكاة ، سندس ، هذه ليست من لغة العرب .
وأجيب عن ذلك بجوابين :(1/20)
الأول : أنه لا يسلم أنها ليست عربية فإذا لم يعرف عن بعض العرب أنه نطق بها فإنه لا يلزم من ذلك أن ينطق بها آخرون من غير العرب.
الثاني : على تسليم أنها ليست عربية فإن العرب تكلمت بها وعربتها وعلى هذا يكون كما قال الشافعي : أنه ليس في القرآن لفظٌ ليس عربي.
قوله : ( للناس كافة في كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم): أشار الشيخ رحمه الله بذلك إلى أن القرآن يشتمل على كل ما يحتاجه الناس، وهو ثلاثة أنواع :
الأول : أحكام اعتقادية : وهي المتعلقة بالعقيدة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
الثاني : أحكام أخلاقية سلوكية ، وهي المتعلقة بتهذيب النفس وتزكيتها ، كأعمال القلوب ، ومكارم الأخلاق كالمحبة والخوف والرجاء والصدق والشكر وبر الوالدين وصلة الأرحام والصبر والعفو والإصلاح بين الناس وكف الأذى والوفاء بالعهد ، وغير ذلك .
الثالث : أحكام عملية ، وهي المتعلقة بأفعال المكلفين ، وهي نوعان :
أ – عبادات ، وهي ما بين العبد وربه ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج.
ب – معاملات ، وهي اسم يطلق على ما سوى العبادات ، ويراد بها: ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات كأحكام البيوع والنكاح والطلاق والجنايات والحدود والسياسة الشرعية .
وتسميتها بالمعاملات اصطلاح للعلماء ، وليس معنى ذلك خلوها من معنى العبادة، لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، وقد يوجد فيها معنى العبادة كما في البيع والنكاح ونحو ذلك .
قوله : ( وهو المقروء بالألسنة ، المكتوب في المصاحف ، المحفوظ في الصدور... ) .(1/21)
ذكر الشيخ أربعاً من خصائص القرآن إضافة إلى ما تقدم ، وهي : أولاً : أنه المقروء بالألسنة ، أي : المتعبد بتلاوته في الصلاة وغيرها، فهو الذي تتعين القراءة به في الصلاة ، قال تعالى : { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } وقراءته عبادة ورد فيها ثواب عظيم ، كما في حديث ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول : ( آلم ) حرف ، ولكن ( ألف ) حرف و (لام) حرف ، و(ميم) حرف".
الثاني : انه مكتوب في المصاحف ، وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وذلك من مناقبه الجليلة ، وحسناته العظيمة ، بعد استشارته الصحابة رضي الله عنه ، وقد رتبت سوره كما هو الآن.
الثالث : أنه محفوظ في الصدور ، فإن الله تعالى اختص هذه الأمة بذلك ، وهو أن القرآن محفوظ في صدورهم يقرأونه عن ظهر قلب ، وقد ورد في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته : " ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني ... " ، إلى أن قال : " وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء " رواه مسلم ، أي : لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء ، بل يقرأ على كل حال ، بخلاف أهل الكتاب فإنهم لا يقرأونه كل إلا نظراً.
الرابع : أنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان ، لقوله تعالى:
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ، وقوله تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } أي : لا يقربه شيطان من شياطين الجن والإنس ( من بين يديه ) أي : بزيادة عليه ، ( ولا من خلفه) أي: بنقصان منه ، لأنه محفوظ ( تنزيلٌ من حكيم ) أي ذو حُكم وحكمة ، وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، ( حميد ) أي : محمود على جميع ما يأمر به وينهى عنه ، ومحمود لكثرة خيره وسعة جوده وكرمه .
الدليل الثاني : السنة :
((1/22)
قال : وأما السنة : فإنها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأفعاله ، وتقريراته على الأقوال والأفعال ) .
السنة في اللغة : هي السيرة ، حميدةً كانت أو ذميمة ، قال لبيد:
من معشر سنَّت لهم آباؤهم ... ولكل قومٍ سنةٌ وإمامُها
وأما في الاصطلاح : فلها ثلاثة معان :
الأول : ما يقابل الواجب ، ويرادف المندوب ، فهي من أسمائه .
الثاني : ما يقابل البدعة ، فيراد بها ما وافق القرآن أو حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في ذلك سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .
الثالث : ما يقابل القرآن ، وهو المراد هنا : فيراد بها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو فعله أو تقريره ، ويضيف المحدثون أو وصفه في خُلُقه فمعناها عندهم أعم لأنهم أهل العناية برواية الأخبار .
والسنة يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين :
الأول : باعتبار ذاتها ، وهذا أنواع :
الأول : القولية مثل : حديث عمر رضي الله عه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... " .
الثاني : الفعلية مثل : صفات العبادات التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام بيّن الصلاة بفعله وقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وبيّن الحج بفعله وقال : " خذوا عني مناسككم " .
الثالث : تقريراته : مثل : حديث معاوية بن الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جارية: " أين الله ؟ " فقالت : في السماء فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
الثاني : باعتبار علاقتها مع القرآن ، وهذا أنواع :
الأول : مؤكدة للقرآن مثل : أن يأتي الحكم في القرآن ثم تأتي السنة بتأكيده، من ذلك : قول الله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ثم جاءت السنة بتأكيد هذا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بني الإسلام على خمس : .... ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ... " .(1/23)
الثاني : أنها مبينة للقرآن ، من ذلك : قول الله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ثم جاءت السنة بتبيين الصلاة وكيفية إقامتها ، وبتبيين مقادير الزكاة وما هي الأموال الزكوية ...
الثالث : أن تكون مستقلة أو زائد ، على ما في القرآن كأحكام الشفعة، وميراث الجدة، ونحو ذلك.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على وجوب اتباع ما ثبت من سنته - صلى الله عليه وسلم - ، والأدلة من الكتاب والسنة متظاهرة على ذلك، قال تعالى: { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } وجه الدلالة : أن الله تعالى ساوى بين طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى } .
وجه الدلالة : أن الآية دلت على استواء السنة مع القرآن في كونهما وحياً من الله تعالى ، إلا أن السنة موحى بها بالمعنى فقط .
وعن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه... " وقد دل هذا الحديث بتمامه على أمرين :
الأول : حجية السنة واستقلالها بتشريع بعض الأحكام ، وأن القرآن لا يغني عن السنة ، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع ، لقوله : " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " ، لأن المراد بالكتاب: القرآن وبالمثل : الكتاب السنة، ومثليتها له في أنه يجب العمل بها كما أنه يجب العمل به.(1/24)
الثاني : في الحديث معجزة باهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذا أورده البيهقي رحمه الله في كتابه "دلائل النبوة" فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن شيء قد وقع، فقد ظهر في زماننا من يرد الاحتجاج بالسنة وينكر العمل بها ولهم في ذلك شبه سموها أدلة ، وماهي إلا محض أوهام ، وهذا ليس بوليد هذا العصر، فإن لكل قومٍ وارثاً ، وسلفهم في ذلك طوائف من أهل البدع ، يقول الشوكاني رحمه الله أو الحاصل أن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية ، ولا يخالف في ذلك إلا من لاحظ له في دين الإسلام .
قال : فالأحكام الشرعية تارة تؤخذ من نص الكتاب والسنة وهو اللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ، وتارة تؤخذ من ظاهرهما ، وهو ما دل على ذلك على وجه العموم اللفظي أو المعنوي .
قوله :( فالأحكام الشرعية تارة تؤخذ من نص الكتاب والسنة وهو اللفظ الواضح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ) .
هذا النوع الأول : النص وهو : الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً مثال ذلك: قول الله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فهذا نص في إقامة الصلاة وإيجاب الزكاة.
ومن ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بني الإسلام على خمس .... " ، فهذا نص في إيجاب هذه الأركان .
وحكم النص : أنه يجب العمل به والمصير إليه .
قوله : ( وتارة تؤخذ من ظاهرهما ، وهو ما دل على ذلك على وجه العموم اللفظي أو المعنوي ) .
هذا النوع المعاني : الظاهر : وهو في اللغة : الواضح .
وأما في الاصطلاح فهو : ما احتمل معنيين أحدهما أرجح من الآخر .
مثال ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " توضؤوا من لحوم الإبل " فهذا الحديث يحتمل معنيين : الأول : الوضوء اللغوي وهو : مجرد النظافة، الثاني : الوضوء الشرعي وهو: التعبد لله عز وجل بغسل الأعضاء الأربعة على وجه مخصوص.(1/25)
فقوله : " توضؤوا " : يحتمل هذين المعنيين لكن أحدهما أظهر من الآخر، وهو حمله على الوضوء الشرعي أظهر من حمله على الوضوء اللغوي، لأن الألفاظ الشرعية تحمل على مراد الشارع.
حكم الظاهر : أنه يجب المصير إلى المعنى الظاهر .
( قال : وتارة تؤخذ من المنطوق ، وهو ما دل على الحكم في محل النطق وتارة تؤخذ من المفهوم ، وهو مادل على الحكم بمفهوم موافقه إن كان مساوياً للمنطوق ، أو أولى منه، أو بمفهوم المخالفة إذا خالف المنطوق في حكمه لكون المنطوق وصف بوصف أو شرط . فيه شرط إذا تخلف ذلك الوصف أو الشرط، تخلف الحكم ) .
قوله : ( وتارة تؤخذ من المفهوم ... ) .
المفهوم هو : ما دل على الحكم ، بمفهوم موافقة .
والمفهوم ينقسم إلى قسمين :
الأول : مفهوم موافقة ، الثاني : مفهوم مخالفة .
مفهوم الموافقة هو : ما وافق المسكوت عنه المنطوق به في الحكم.
ومفهوم الموافقة ينقسم إلى قسمين :
الأول : مفهوم موافقة أولوي ، مثل : قول الله : { فلا تقل لهما أفٍ } فالمنطوق هو التأفيف ، والذي يفهم مفهوم موافقة أوْلوي الضرب ، فالضرب أوْلى من التأفيف ، فالمسكوت عنه الضرب ، فالضرب يوافق التأفيف في الحكم لكن هذا المفهوم أولوي أولى من المنطوق ، فالضرب أشد في التحريم من التأفيف.
الثاني : مفهوم موافقة مساوي : مثل قول الله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } فالمنطوق به أكل مال اليتيم يفهم من ذلك أن ما عدا الأكل يأخذه حكمه أيضاً كما لو شرب ماء اليتيم أو استهلكه بأي شيء آخر فهذا حكمه مساوي في التحريم .
قوله : ( أو بمفهوم المخالفة إذا خالف المنطوق في .... ) .
هذا القسم الثاني : مفهوم المخالفة ، وهو ما خالف المسكوت عنه المنطوق به في الحكم .
ومفهوم المخالفة يقسمها العلماء إلى ستة أقسام :(1/26)
الأول : مفهوم الوصف ، مثاله : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " في كل أربعين سائمة شاة" قوله : " سائمة " : هذا وصف ، ويفهم مفهوم مخالف أن الأربعين التي ليست سائمة لا ترعى المباح أنه لا يجب فيها الزكاة .
الثاني : مفهوم الشرط ، مثاله : قول الله : { وإن كن أولات حملٍ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ، قوله : ( وإن كنّ ) : هذا شرط ، يفهم منه أنّ المرأة إذا طلقت طلاقاً بائناً وليست حاملاً أنه لا نفقة لها.
الثالث : مفهوم العدد : مثاله : قول الله : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } : يفهم من ذلك : أن ما دون الثمانين لا يحصل به إقامة الحد ، وأنه لابد من الثمانين لكي تتحصل به إقامة الحد.
الرابع : مفهوم الغاية : مثاله : قول الله : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ، قوله : ( فإن طلقها ) يعني – طلقها الطلقة الثالثة فجعل الله غاية الحل للزوج الأول أن تنكح الزوجة زوجاً غيره .
الخامس : مفهوم التقسيم : مثاله : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن " ، فيفهم من هذا أن هناك فرقاً بين الثيب وبين البكر وأن الثيب لابد أن تستأذن ولابد أن تنطق ، وأيضاً البكر لابد من رضاها لكن كونها تنطق هذا ليس شرطاً.
السادس : مفهوم اللقب . واللقب عند الأصوليين ضعيف وليس حجة، مثاله: حديث عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء ... فيفهم مما هذا أن الربا لا يكون إلا في هذه الأصناف الستة .(1/27)
قال : والدلالة من الكتاب والسنة ثلاثة أقسام : دلالة مطابقة : إذا طبقنا اللفظ على جميع المعنى ، ودلالة تضمن : إذا استدللنا باللفظ على معناه، ودلالة التزام : إذا استدللنا بلفظ الكتاب والسنة ومعناهما على توابع ذلك ومتمماته وشروطه ، وما لا يتم ذلك المحكوم فيه أو المخبر عنه إلا به .
الدلالة : بكسر الدال وفتحها ، والفتح أحسن ، ومعناها: فهم المعنى من اللفظ، والمراد هنا : الدلالة اللفظية ، وهي ثلاثة أقسام :
الأول : دلالة مطابقة : وهي دلالة اللفظ على جميع معناه الذي وضع له .
الثاني : دلالة التضمن : وهي دلالة اللفظ على جزء من مسماه .
الثالث : دلالة التزام : وهي دلالة اللفظ على أمرٍ خارجٍ من المسمى لكنه لازم.
مثال ذلك : قول الله : ( الله خالق كل شيء ) : دلّ دلالة مطابقة وتضمن والتزام :
دلالة المطابقة هي : دلالة اللفظ على جميع مسماه، فقوله: (خالق) : دلّ على صفة الخلق وصفة الذات جميعاً .
ودلالة تضمن : قوله تعالى : ( خالق ) دلّ على صفة الخلق وحدها فقط، ودلّ على صفة الذات وحدها فقط.
ودلالة التزام : دل صفة العلم والقدرة على أمر خارج لأن الخلق لا يكون إلا بعلم وقدرة وعلى هذا فقس .
وأعلم أن أقسام الدلالة من قسم المنطوق وهو قسمان :
الأول : المنطوق الصريح : وهو دلالة المطابقة ودلالة التضمن .
الثاني : المنطوق غير الصريح : وهو دلالة الالتزام ، وهي ثلاثة :
أ – دلالة الاقتضاء : وهي دلالة الكلام على معنى لا يستقيم الكلام إلا بتقديره ، كقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } أي : فأفطر فعة من أيام أخر ، لأن القضاء لا يلزم بمجرد المرض أو السفر بل لابد من الفطر .(1/28)
ب – دلالة الإيماء والتنبيه : وهي أن يقترن بالحكم وصف لو لم يكن هذا لوصف تعليلاً لهذا الحكم لكان ذكره حشواً في الكلام لا فائدة منه، وألفاظ الشارع تنزه عن ذلك ، مثاله : قوله تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } أي : لبرهم .
ج – دلالة الإشارة : وهي أن يدل اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل ولكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام من أجله ، كقوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } فإن الآية دلت على إباحة إتيان الزوجة ليلة الصيام ، في أي وقتٍ من الليل إلى آخر جزءٍ منه .
ويستفاد من ذلك : صحة صوم من أصبح جنباً ، فإن امتداد الإباحة إلى آخر جزء من الليل يستلزم أن الصائم قد يصبح جنباً ، وهذا المعنى غير مقصود من سياق الآية، فتكون دلالتها عليه بالإشارة .
(5)
( أصول يضطر إليها الفقيه )
( قال : والأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها للوجوب ، إلا إذا دل الدليل أنها للاستحباب أو الإباحة ، والأصل في النواهي : أنها للتحريم ، إلا إذا دلّ الدليل على الكراهة ) .
شرع المؤلف رحمه الله في مباحث الأمر والنهي وهي من المباحث التي أولاها الأصوليون بحثاً وأطالوا في ذلك ، لأن الكتاب والسنة فيه كثير من الأوامر والنواهي .
قوله : ( والأصل في أوامر الكتاب والسنة ... ) :
نقول : الأمر تحته مباحث :
الأول : تعريف الأمر : الأمر في اللغة : استدعاء الفعل .
وأما في الاصطلاح فهو : استدعاء العمل بالقول ممن هو دون على وجه الاستعلاء على سبيل الوجوب .
قولنا : العمل : يشمل القول والفعل : القول كقول الله : { فاذكروني أذكركم } ، والفعل كقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة ... } .
قولنا : ممن هو دوره : يخرج استدعاء العمل ممن هو مساوٍ له فهذا لا يسمى أمراً وإنما يسمى التماساً ، وأيضاً : يخرج استدعاء العمل من الأدنى إلى الأعلى فهذا لا يسمى أمراً وإنما يسمى دعاءً .(1/29)
قولنا : على سبيل الوجوب : هذا يخرج الندب ، فإن الندب طلبٌ لمن هو دونه لكن ليس على سبيل الوجوب ، وإنما على سبيل الاستحباب.
قوله : ( الأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها للوجوب ) : هذا القسم الثاني : هل الأمر يقتضي الوجوب ؟
نقول : الأصل في أوامر الكتاب والسنة أنها تقتضي الوجوب، وهذا قول جمهور أهل العلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أمر الله ورسوله إذا أطلق كان مقتضاه الوجوب .
والأدلة على ذلك كثيرة ، منها : قول الله : { وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } فالله توعد المخالفين لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفتنة وهي : الزيغ ، أو بالعذاب الأليم ، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب ، فدل ذلك على أن أمر الرسول المطلق يقتضي الوجوب.
ومنها : حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء عند كل صلاة" ، كون الأمر تتعلق به المشقة هذا يدل على الوجوب ولو كان الأمر للاستحباب لم يكن هناك مشقة.
قوله : ( إلا إذا دل الدليل على الاستحباب ) .
فإذا دل الدليل على الاستحباب فإنه يحمل على الاستحباب ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا " : هذا أمر لكن الصارف هنا من الوجوب إلى الاستحباب حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات...".
ولو قلنا : بأن الوتر واجب لكانت الفرائض في اليوم والليلة ستاً.
قوله : ( أو الإباحة ) : مثال ذلك : قول الله : { فإذا حللتم فاصطادوا } هذا أمر لكن الصارف هنا من الوجوب إلى الإباحة الإجماع فإن المسلمون مجمعون على أن الصيد مباح .
الثالث : نقول : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب .(1/30)
مثال ذلك : الوضوء هذا واجب لأنه شرط لصحة الصلاة، وشراء الماء للوضوء واجب لأن هذا من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأيضاً : الجماعة واجبة ولا تتم الجماعة إلا بالسعي إليها .
مثلاً : من شروط صحة الحج الاستطاعة ، لا نقول : بأن الإنسان يجب عليه أن يحصل المال حتى يكون مستطيعاً لكي يجب عليك الجمع أو نقول : للفقير : إذهب واجمع المال حتى تكون مستطيعاص لكي يجب عليك الجمع أو نقول للفقير: اذهب واجمع المال حتى تملك نصاباً فإذا ملكت النصاب وجبت عليك الزكاة نقول: هذا لا يجب لأن هذا من باب ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب .
الرابع : الأمر بالشيء أمرٌ به وبجميع لوازمه وشروطه :
مثال ذلك : الأمر بالصلاة ، الله عز وجل أمر بالصلاة ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة، فالأمر بالصلاة أمرٌ بها وبشروطها وبلوازمها، فمن شروط الصلاة الوضوء ومن لوازم ذلك : شراء الماء للوضوء ، والأمر بالصلاة أمرٌ بستر العورة لأنه شرط وأمرٌ بما يترتب على ذلك من شراء الثوب الذي تستر به العورة.
الخامس : هل للأمر صيغة خاصة أو ليس له صيغة خاصة؟
جمهور الأصوليين السلف على أن الأمر له صيغة خاصة وهي افعل للحاضر، وليفعل للغائب.
وعند بعض أهل البدع أن الأمر ليس له صيغة خاصة وهذا يبنونه على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس ويتوصلون بذلك إلى إنكار صفة الله عزوجل.
قال : والأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا دل الدليل على الكراهة.
النهي تحته مباحث :
الأول : تعريفه .
النهي في اللغة : طلب الترك .
وأما في الاصطلاح فهو : استدعاء ترك الفعل ممن هو دونه على سبيل الوجوب.
قولنا : استدعاء ترك الفعل : يعني طلب ترك الفعل فيدخل في ذلك المكروه والمحروم .
وقولنا : ممن هو دونه : يخرج طلب الترك ممن هو أعلا منه وهذا يسمى دعاء ، ويخرج طلب الترك ممن هو مساوٍ وهذا يسمى التماس .(1/31)
وقولنا : على سبيل الوجوب : نخرج الكراهة فإن المكروه طلب ترك الفعل لا على سبيل الوجوب.
قوله : ( والأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا دل الدليل على الكراهة).
هذا المبحث الثاني : الأصل في النواهي أنها للتحريم إلا إذا وُجد دليل يدل على الكراهة ، والدليل على أن الأصل في النواهي التحريم أن كثيراً من النواهي رُتب عليها عقوبات شرعية هذه العقوبات تتنوع مما يدل على أن الأصل في النهي التحريم فمن ذلك : قول الله { ولا يزنون } ومن يفعل ذلك يلقى أثاماً يضاعف له العذاب مع يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ، وقوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباءكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } فوصفه بهذه الأوصاف مما يدل على أنه محرم ولا يجوز ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... " ، وهذا في الصحيحين .
قوله : ( إلا إذا دلّ الدليل على الكراهة ) .
يعني : إلا إذا كان هناك دليل يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة.
من أمثلة ذلك : أن الشارع نهى عن أكل الثوم والبصل ووجد الدليل الذي يدل على أن هذا النهي للكراهة ، وليس على سبيل التحريم وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر أكل هذه البقول وأكلت بحضرته عليه الصلاة والسلام ، فدل ذلك على أن النهي فيها ليس على سبيل التحريم وإنما على سبيل الكراهة .
وأيضاً : قال بعض العلماء : إذا كان مورد النهي للإرشاد والتأديب فإنه لا يراد به التحريم ، وقالوا : يدل على ذلك الاستقراء وأنه يراد التنزه من ذلك ، لهذا لغة العرب وأن مثل هذا في اللغة يراد به أن الإنسان يتنزه عن ذلك وأنه ليس ملزماً بتركه اللهم إلا إذا دل الدليل على أنه للتحريم مثل : الأكل بالشمال وجد الدليل على أن المراد بذلك : التحريم وأنه لا يجوز للإنسان أن يأكل بشماله .
المبحث الثالث : أن النهي عن الشيء يقتضي تحريم كل جزء منه :(1/32)
فالنهي عن الشيء نهيٌ عنه وعن جميع أفراده كما أن الأمر بالشيء أمرٌ به وبكل جزء منه مع الاستطاعة .
من ذلك : قول الله : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } فنهى الشارع المحرم أن يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله يعني وقت حلوله وهو : يوم عيد النحر هذا النهي شاملٌ لكل الرأس ، وأيضاً : شامل لكل فردٍ من أفراد الرأس فلا يجوز للمحرم أن يأخذ ولا شعرة من شعرات رأسه حتى يتحلل التحلل الأول.
مثال (2) : الشارع نهى عن شرب الخمر فيحرم على الإنسان أن يشرب الخمر الذي يسكر ، وأيضاً : يحرم عليه أن يشرب الخمر الذي يسكر ، وأيضاً يحرم عليه أن يشرب مالا يسكر من الخمر حتى ولو شرب نقطة واحدة فنقول : بأن هذا محرم ولا يجوز ويترتب عليه الحد .
مثال (3) : النظر المحرم نقول : يشمل النظر سواء عن طريق المباشر أو طريق غير مباشر كما لو نظر إلى صوره وغير ذلك .
( قال المؤلف : والأصل في الكلام الحقيقة فلا يعدل به إلى المجاز إن قلنا به إلا إذا تعذرت الحقيقة ) .
هذا هو الأصل الثالث من الأصول التي يحتاجها الفقيه وهو يتعلق بالحقيقة والمجاز .
والحقيقة هو : اللفظ المستعمل فيما وضع له .
والمجاز هو : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له .
فالأصل في الكلام الحقيقة وقال المؤلف : إن قلنا بالمجاز وهذا إشارة إلى الخلاف في إثبات المجاز : هل في اللغة العربية مجاز أو ليس فيها مجاز؟ هذا فيه ثلاثة آراء للعلماء :
الرأي الأول : إثبات المجاز وأن اللغة العربية فيها مجاز وفيها حقيقة ، فاللفظ المستعمل فيما وضع له هذا حقيقة، واللفظ المستعمل في غير ما وضع له هذا مجاز. مثال ذلك : الدابة في الحقيقة اسم لكل ما يدب على الأرض ، ومجازاً هي : لما يركب من ذوات الأربع، مثال (2) الغائط في الحقيقة : اسمٌ للمنخفض من الأرض ومجاز اسمٌ للخارج المستقذر من الإنسان.(1/33)
الرأي الثاني : أن المجاز ليس في اللغة العربية وإنما يعرف المراد من خلال القرائن ودلالات الأحوال فليس هناك إلا حقيقة .
الرأي الثالث : أن المجاز موجود في اللغة العربية لكنه ليس موجوداً في القرآن والقرآن ليس فيه مجاز وإنما المجاز في اللغة العربية فقط دون كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذه المسألة كبيرة جداً وتكلم عليها العلماء وألف فيها رسائل ومؤلفات مستقلة .
الذين قالوا : بإثبات المجاز قالوا : وجوده في اللغة العربية مثلاً قول الله : { واسأل القرية } ليس المراد أن الإنسان يسأل القرية ، هذا مجاز فالمراد : أن الإنسان يسأل أهل القرية، وقول الله : { فيها جداراً يريد أن ينقض } قالوا: الإرادة هنا ليست من الجماد وإنما هذا مجاز ... فقالوا : هذا دليل على إثبات المجاز.
الذين قالوا : بأن المجاز لا يثبت علتهم في ذلك : أولاً : سد باب على أهل البدعة الذين يقولون : بتعطيل الله سبحانه وتعالى عن صفاته وتحريف هذه الصفات مثلاً : قول الله : { بل يداه مبسوطتان } يقولون : ليس المراد بذلك : الحقيقة وإنما المراد بذلك : المجاز عن النعمة أو القوة ... فلكي يُسد هذا الباب على أهل البدعة قالوا : بأنه ليس هناك مجاز .
وأيضاً قالوا : بأن الكلام يُعرف من خلال القرائن ودلالات الألفاظ والأحوال... فقوله : ( واسأل القرية ) قطعاً أنه ليس المراد هنا : أن يسأل المباني والطرق وإنما المراد أن يسأل أهل القرية فقرينة الحال تبين ذلك .
( قال المؤلف : والحقائق ثلاث : شرعية ولغوية وعرفية : ) .
الحقيقة الشرعية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له شرعاً .
الحقيقة اللغوية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له لغة .
الحقيقة العرفية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له عرفاً .
وأيها يقدم : هل نقدم الحقيقة الشرعية أو اللغوية أو العرفية؟(1/34)
هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله : فبعضهم قدّم الحقيقة الشرعية، وبعضهم قدّم الحقيقة اللغوية ، وبعضهم قدّم الحقيقة العرفية .
والأقرب في ذلك أن يقال : بأن هذه المسألة تنقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن يكون ذلك في العبادات : فهنا نقدم الحقيقة الشرعية لأن هذا هو المتبادر من مراد الشارع ، فمثلاً : لو أن شخصاً حلف قال : والله لأصلينّ هذا اليوم : متى يبر بيمينه ؟
الصلاة لها حقيقة شرعية ولها حقيقة لغوية ، حقيقة الصلاة الشرعية: التعبد لله سبحانه وتعالى بأقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، وأيضاً لها حقيقة لغوية وأن المراد بالصلاة هو : الدعاء فأيها نقدم؟ نقول : ما دام أنه في جانب العبادات نقدم الحقيقة الشرعية ، مثال ذلك : قال : والله لأصلينّ هذا اليوم، نقول: ما يبر بيمينه حتى يصلي صلاة شرعية مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم مستكملة لشروطها وأركانها ، وقال : هذا اليوم : أقل الصلاة ركعتان فلا يبر بيمينه حتى يصلي ركعتين إلا إذا كان هناك سبب أو نية أو عرف ، فإذا كانت نيته بالصلاة الدعاء فالنية مقدمة .
مثال (2) : قال : والله لأصومن هذا الشهر : الصيام له حقيقة شرعية وله حقيقة لغوية : فالحقيقة الشرعية هو : الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، وله حقيقة لغوية وهو : مجرد الإمساك ، فأيهما يقدم؟ نقول: ما دام أنه في جانب العبادات فإننا نقدم الحقيقة الشرعية فلا يبر بيمينه حتى يصوم صوماً صحيحاً عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، إلا إذا كان هناك سبب أو نية أو عرف .
مثال (3) : قال : والله لأعتمرن إلى مكة : والعمر لها حقيقة شرعية ولها حقيقة لغوية : الحقيقة الشرعية هي : زيارة مكة وأداء مناسك العمرة، وأما الحقيقة اللغوية فهي : مجرد الزيارة : حتى يبر بيمينه ؟ نقول : إذا أدى مناسك العمرة.(1/35)
القسم (2) : أن يكون ذلك في جانب العقود : فإننا نقدم الحقيقة الشرعية ولا نقدم الحقيقة اللغوية ولا العرفية .
مثال ذلك : قال : والله لأبيعن هذا اليوم : البيع له حقيقة شرعية وله حقيقة لغوية: الحقيقة الشرعية هو : مبادلة المال بالمال باستكمال شروطه الشرعية، والحقيقة اللغوية هو مطلق المبادلة قد تتوفر الشرائط الشرعية وقد لا تتوفر ، حتى يبر بيمينه ؟
نقول : لا يبر بيمينه حتى يعقد عقد بيع صحيح فلو عقد عقد بيع فاسد ما يبر بيمينه مع أنه وجدت الحقيقة اللغوية وهي : مجرد المبادلة لكن العقد فاسد اختل شرطٌ من شرائط صحته .
القسم (3) : أن يكون ذلك في الأعيان أو الأقوال أو الأفعال :
فإننا نقدم الحقيقة اللغوية وعلى هذا إذا حلف على عينٍ من الأعيان أو على قول من الأقوال أو على فعل من الأفعال فإننا نرجع إلى حقيقة ذلك لغةً مثلاً : لو حلف على فاكهة ( هنا حلف على عين من الأعيان ) ما هي الفاكهة ؟ نرجع إلى حدها في اللغة ، أو حلف أن يأكل لحماً نرجع إلى حده في اللغة وعلى هذا فقس ، أو حلف أن يقول قولاً من الأقوال ما هو حد القول في اللغة ؟ نرجع إليه، أو حلف على فعل أن يركب أو يسافر ... ماهو ضابط ذلك لغةً ؟ نقول: نرجع إلى ذلك ما لم يكن هناك سبب أو نية أو عرف فإذا كان هناك عرف فإنا نرجع إلى الحقيقة العرفية نقدمها على الحقيقة اللغوية لأن الحقيقة العرفية أصبحت الآن كالمهجورة لكن إذا لم يكن هناك عرف فإننا نقدم الحقيقة اللغوية.
( قال المؤلف : فما حكم به الشارع وحده وجب الرجوع فيه إلى الحد الشرعي ، وما حكم به ولم يحده اكتفاءً بظهور معناه اللغوي وجب الرجوع فيه إلى اللغة ، وما لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة رجع فيه إلى عادة الناس وعرفهم ) .
هذا فيما لم يرد له حد في الشرع لأن ما حكم به الشارع هذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول : أن يحده الشارع .
القسم الثاني : ألا يحده الشارع .(1/36)
فإن حده الشارع : نرجع إلى حد الشارع مثال ذلك : الصلاة حدها الشارع بالقيام المعروف والقراءة والركوع والسجود ... فهذا يجب أن نرجع إلى الشرع في هذا الحد ، أيضاً : الصيام حدده الشارع بأنه الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس فما حده الشارع وبينه وفسره فإننا نرجع إلى حد الشارع .
القسم الثاني : ما لم يحده الشارع : فإننا نرجع إلى العرف وهذا له أمثلة :
من ذلك : صلة الرحم : فصلة الرحم أوجبها الله عز وجل { فآتي ذا القربى حقه والمسكين } وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه " ، وقال : " لا يدخل الجنة قاطع رحم "، لكن لم يحد الشارع صلة الرحم فنرجع في تحديدها إلى العرف فقد تكون الصلة بالمال وقد تكون بالزيارة، والزيارة أيضاً : تختلف قد تحتاج الزيارة في كل أسبوع وقد تكون في كل شهر، ومن ذلك: المعاشرة بالمعروف عشرة الزوجة هذه لم يحدها الشارع وإنما أرجعها إلى العرف وقال الله : { فعاشروهن بالمعروف } فيجب على الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف وأن يقوم بالحقوق الواجبة عليه لهذه الزوجة .
ومن ذلك : الحرز في السرقة هذا لم يحده الشارع فيختلف باختلاف الأموال والبلدان والسلطان قوة السلطان وضعف السلطان .
ومن القواعد الخمس الكلية التي يدور عليها الفقه قاعدة العرف: العادة محكمة.
قال المؤلف : وقد يصرح الشارع بإرجاع هذه الأمور إلى العرف كالأمر بالمعروف والمعاشرة بالمعروف ..
( 6 )
دلالة نصوص الوحيين
( قال : ومنها : عام : وهو اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة وذلك أكثر النصوص .
ومنها خاص يدل على بعض الأجناس أو الأنواع أو الأفراد ، فحيث لا تعارض بين العام والخاص ، عمل بكل منهما ، وحيث ظنّ تعارضهما خص العام بالخاص ) .
عرف الشيخ العام بأنه : اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة، وهذا تعريف مختصر مفيد .(1/37)
فالأجناس كقوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } .
والأنواع كقوله تعالى : { الرجال قوامون على النساء } .
والأفراد كثيرة كقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } .
ثم عرف الخاص بأنه : ما دل على بعض الأجناس مثل : هذا إنسان أو بعض الأنواع مثل : هذا رجل ، هذه امرأة ، أو بعض الأفراد مثل : حضر علي.
قوله : فحيث لا تعارض بين العام والخاص ، عمل بكلٍ منهما، وحيث ظنّ تعارضهما خص العام بالخاص : أي : أن العام مع الخاص لهما حالتان:
الحالة الأولى : ألا يكون بينهما تعارض وهذا إذا ورد الخاص بحكم العام فلا يخصص العام به، بل يعمل بكلٍ منهما لعدم تعارضهما ، مثل : أكرم الطلبة ثم تقول أكرم خالداً وهون الطلبة فهذا لا يقتضي التخصيص ، ومنه: حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " .
فهذا نص عام في جميع أنواع الأرض من تراب ورمل وحجر ونحو ذلك وحديث حذيفة : " جعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء " .
فهذا خاص بالتراب ، فلا يخصص حديث حذيفة هذا حديث جابر فيقال باشتراط التراب في التيمم ، بل يبقى الأول على عمومه فيجوز التيمم بكل نوع من أنواع الأرض ، والثاني على خصوصه لأن التربة فردٌ من أفراد الأرض والحكم فيهما واحد .
وفائدة ذكر الخاص مع دخوله في العام : إما بيان عدم تخصيصه أو تفخيمه وإثبات مزيته على غيره حيث أفرد في نص مستقل .
الحالة الثانية : أن يكون بينهما تعارض في الظاهر ، وذلك إذا كان للخاص حكم يخالف حكم العام ، فيخصص العام بالخاص .
والتخصيص إخراج بعض أفراد العام بدليل متصل أو منفصل ..
( 6 )
أعود إلى دلالة نصوص الوحيين
( قال : ونصوص الكتاب والسنة : منها : عام وهو اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة ، وذلك أكثر النصوص :(1/38)
العموم هذا من دلالات الألفاظ ومعرفة دلالات الألفاظ هذه مهمة جداً للفقيه . وتقدم أن المؤلف رحمه الله ذكر شيئاً من دلالات الألفاظ فذكر الأمر والنهي والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه ثم بعد ذلك ذكر الآن ما يتعلق بالعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين.
قوله : ومنها : عام : العام تحته مباحث :
المبحث الأول : تعريفه : العام في اللغة هو : الشامل .
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله هو : اللفظ الشامل لأجناس أو أنواع أو أفراد كثيرة ، والأحسن أن يقال في تعريفه هو : اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر .
فقولنا : اللفظ : خرج بذلك الصوت والإشارة .
وقولنا : المستغرق : يخرج ما ليس مستغرقاً كلاعلم مثل : محمد ، صالح..، وكالنكرة في سياق الإثبات مثل : قول الله : { فتحرير رقبة } فهذه ليست مستغرقة .
وقولنا : بلا حصر : يخرج ألفاظ العدد فإنها مستغرقة لكن مع الحصر مثل: مائة، مئتان ، ثلاثمائة ، ألف ، ألفان .
المبحث الثاني : أقسام العام : نقول العام ينقسم إلى عدة أقسام :
القسم (1) : باعتبار ما فوقه وما تحته وهو نوعان : 1 – عام مطلق ، 2 – عام نسبي .
النوع الأول : العام المطلق مثل : المعلوم فإنه يدخل فيه الموجود والمستحيل.
النوع الثاني : العام النسبي مثل : الحيوان هذا عام نسبي لا يشمل كل شيء فإنه لا يدخل فيه الجماد .
القسم (2) : باعتبار المراد منه وهو نوعان :
النوع الأول : عام أريد به العموم مثل : قول الله : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } فهذا عام أريد به العموم ، فما من دابة في الأرض إلا ورزقها على الله عز وجل .
النوع الثاني : عام أريد به الخصوص مثل : قول الله : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } ، وقوله : { الذين قال لهم } : المراد بذلك: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وقوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } المراد بذلك : كفار مكة .(1/39)
القسم (3) : باعتبار تخصيصه وهو نوعان :
النوع الأول : عام محفوظ غير مخصص ، مثاله : قول الله : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } فهذا عام لم يدخله التخصيص.
النوع الثاني : عام دخله التخصيص مثاله : قوله تعالى : { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } هذا يشمل كل ما ملكت اليمين لكن خُصّ من ذلك الأختان فإنه لا يجوز للإنسان أن يجمع بين الأختين في ملك اليمين بالوطء كما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم ولقول الله: { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } .
المبحث الثالث : ما يتعلق بصيغ العام .
الصيغة الأولى : ( الاسم الواحد المعرف بالألف واللام ) : فهذا يدل على العموم ومن ذلك : قول الله : { إن الإنسان لفي خسر } فهذا يشمل كل إنسان محكوم عليه بالخسران إلا بعد ذلك فاستثناهم الله عز وجل والاستثناء كما سيأتينا من المخصصات المتصلة.
الصيغة الثانية : ( اسم الجمع المعرف بالألف واللام ) فهذا يدل على العموم.
ومن ذلك : قول الله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } من : من أدوات الشرط تشمل كل من يتق الله يجعل له مخرجاً سواء كان ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير أو حر أو رقيق .
وأيضاً : قول الله : { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } ما : من أدوات العموم تشمل كل ما يُفعل من خير سواء كان من عبادة أو معاملة وسواء كان إحساناً للقريب أو للبعيد وسواء كان بالقول أو بالفعل أو بالمال أو بالجاه أو غير ذلك.
وأيضاً : قول الله : { أينما تكونوا يدرككم الموت } يعني – في أي مكان يشمل كل مكان.
الصيغة الرابعة : لفظ ( كل ) أو هذا من أقوى صيغ العموم ويُلحق بها كل ما دل على العموم مثل : جميع ومعشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة.(1/40)
الصيغة الخامسة : ( النكرة مع لا ) : تدل على العموم ومن ذلك : قول الله: { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } : يشمل الرفث القليل والكثير ، والفسوق القليل والكثير ويشمل الجدال بغير حق القليل والكثير .
الصيغة السادسة : ( المضاف للمعرفة ) سواء كان مفرداً أو جمعاً فإنه يفيد العموم : مثال المفرد : قول الله : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } نعمة: مضاف، لفظ الجلالة ( الله ) : مضاف إليه ، وهذا يشمل كل نعمة من نعم الله سواءٌ كانت النعمة حسية أو معنوية سواء كانت نعمة المال أو نعمة البدن أو نعمة الأولاد أو نعمة العلم أو نعمة العمل الصالح .
ومن ذلك أيضاً : لو قال زوجتي طالق . زوجة : مفرد مضاف يعم كل الزوجات ، فإذا كان له أربع زوجات وهو لم ينو واحدة بعينها أو يخصص أو يستثني فهذا يشمل كل الزوجات لأن هذا مفرد مضاف يعم .
أيضاً : لو قال : رقيقي حر : يشمل كل أرقائه فإنهم أحرار إلا أن يخصص أو يستثني .
ومن ذلك : قول الله : { يوصيكم الله في أولادكم } : أولاد: مضاف والضمير : مضاف إليه يشمل كل الأولاد الذكور والإناث والصغار والكبار والأغنياء والفقراء والمتعلمين والجهال ..
( قال : ومنها : خاص يدل على بعض الأجناس أو الأنواع أو الأفراد ، فحيث لا تعارض بين العام والخاص عُمِل بكلٍ منهما وحيث ظن تعارضهما: خُصَّ العام بالخاص ) .
الخاص هذا تحته مباحث :
المبحث الأول : تعريف الخاص . وهو : قصر العام على بعض أفراده لدليل يدل على ذلك .
المبحث الثاني : حكمه . نقول : الإجماع منعقد على تخصيص العام بالخاص من حيث الجملة .
المبحث الثالث : المخصصات .
المخصصات عند الأصوليين تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : المخصصات المنفصلة فهذه أنواع :
المخصص الأول : الحس ومن ذلك : قول الله : { تدمر كل شيء بإذن ربها } فـ ( كل ) من صيغ العموم لكن الحس خص هذا فهي لم تدمر السماوات والأرض.(1/41)
وكذلك : قول الله : { وأوتيت من كل شيء } : فهذا خص بالحس فهناك أشياء لم تعط إياه هذه الملكة .
المخصص الثاني : العقل : ومثّل له الأصوليون بقول الله : { الله خالق كل شيء } قالوا : بأن العقل خصّ صفات الله عز وجل فصفات الله ليست مخلوقة وهذا فيه ضعف، والصحيح : أن هذا ليس من قسم التخصيص وإنما هذا من العام الذي أريد به الخاص .
المخصص الثالث : الإجماع ، و المراد بذلك : مستند الإجماع وسيأتي إن شاء الله الإجماع وما يتعلق به من أحكام .
المخصص الرابع : القياس : والمراد بذلك القياس الصحيح وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بالقياس وأحكامه .
المخصص الخامس : قول الصحابي : وهذا سيأتي إن شاء الله .
والفرق بين المخصصات المتصلة والمخصصات المنفصلة :
أن المخصص المنفصل هو : الذي يستقل بنفسه .
وأما المخصص المتصل فهو : الذي لا يستقل بنفسه .
القسم الثاني : المخصصات المتصلة فهذه أنواع :
المخصص الأول : الاستثناء : والاستثناء تحته مباحث :
المبحث الأول : تعريفه : أما في اللغة : مأخوذ من الثني وهو : الرجوع.
وأما في الاصطلاح فهو : خروج ما لولاه لدخل في الكلم بإلا أو أحد أخواتها.
المبحث الثاني : شروط صحة الاستثناء :
والاستثناء لكي يكون مخصصاً يشترط له شروط :
الشرط الأول : أن يبقى شيء بعد الاستثناء وهذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : أن يبقى بعد الاستثناء الأكثر أو النصف فنقول: بأن هذا الاستثناء صحيح مثل : لو قال : رقيقي أحرار إلا زيداً يعني – حررهم ولم يبق إلا زيداً لم يحرر فنقول : بأن هذا صحيح ، أيضاً : لو قال : زوجاتي الأربع طوالق إلا فاطمة وزينب فنقول : بأن هذا صحيح لأن الاستثناء هنا النصف.
القسم الثاني : أن يستثني الكل فنقول : الاستثناء هنا غير صحيح .(1/42)
مثال ذلك : لو قال : رقيقي الثلاثة أحرار إلا ثلاثة منهم ، أو قال: زوجاتي طوالق إلا أربعاً فنقول : بأن هذا الاستثناء باطل بإجماع الأصوليين، لأننا لو قلنا بصحته لكان قوله : أحرار ، طوالق ملغى ليس معملاً والأصل في الكلام إعماله لا إهماله .
القسم الثالث : أن يبقى الأقل : فهذا موضع خلاف ، مثال ذلك : لو قال: زوجتي طالق ثلاثاً إلا اثنتين : هل نقول بأن هذا الاستثناء صحيح ولا تطلق إلا طلقة واحدة أو تقول : بأن هذا الاستثناء باطل وحينئذٍ تطلق ثلاثاً ؟ فهذا موضع خلاف .
الرأي الأول : قال به أكثر الأصوليين على أن هذا لا يصح ، وقالوا : بأن استثناءنا باللغة واللغة في مثل هذا لا يصح .
الرأي الثاني : أن هذا صحيح واستدلوا على هذا بأن استثناء الأكثر بحيث لا يبقى إلا الأقل هذا وارد في الصفة ، فإذا ورد في الصفة فكذلك أيضاً : يصح في العدد (الكم) .
ومن ذلك قول الله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم قال: { إلا من اتبعك من الغاوين } والذي اتبعه من الغاوين أكثر ممن اهتدى ، وهذا القول هو الصواب .
الشرط الثاني : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه . وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله ، فإذا اختلف الجنس لا يصح الاستثناء مثال ذلك : لو قال: له عليّ مائة دينار إلا درهماً ، فقالوا : بأن الاستثناء هنا لا يصح لأن الجنس مختلف وعلى هذا لا يصح التخصيص فيلزمه مائة دينار .
الرأي الثاني : قالوا : لا يشترط اتحاد الجنس لورود ذلك في اللغة العربية ، ومن ذلك قول الشاعر :
وبلدةٌ ليس بها أنيس ... ... إلا اليعافير وإلا العيسو
فقوله : إلا اليعافير وإلا العيسو هذا ليس من جنس المستثنى منه ، وهذا الأقرب.
الشرط الثالث : الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه ، فلابد من الاتصال حقيقةً أو حكماً .
حقيقةً : أن يأتي بالمستثنى مباشرة ، فمثلاً : يقول : زوجتي طالق ثلاثاً إلا واحدة فيستثني مباشرة .(1/43)
حكماً : يعني – في حكم المتصل بأن يعرض له عارض من عوارض النطق كما لو حصل له سعال أو عطاس ونحو ذلك ، مثال ذلك : لو قال : زوجتي طالق ثم تثاءب أو حصل له سعال أو عطاس ونحو ذلك فقالوا : هذا في حكم المتصل .
الرأي الثاني : أن الاتصال ليس شرطاً وعلى هذا لو قال : زوجتي طالق ثلاثاً ثم بعد ذلك استثنى بعد يوم أو يومين قالوا : هذا صحيح وهذا هو الوارد عن ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهم أن له أن يستثني إلى أربعة أشهر، وهذا القول ضعيف لأننا لو قلنا بصحة الاستثناء دون اتصال لأدى ذلك إلى أن الإنسان ما يحنث ولا يقع عليه الطلاق ولا إيمان.
والصواب في ذلك : أنه يشترط الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه ولو أنه حصل فاصلٌ يسير من كلام أو سكوت فإن هذا لا بأس به ويدل لذلك : ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر تحريم مكة ثم تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إلا الإذخر " فهنا حصل فاصلٌ يسير بكلام.
وأيضاً : حديث أبي هريرة في الصحيح لما قال سليمان : " لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تلد كل واحدةٍ منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله" ، فقال الملك : (قل إن شاء الله) ، فلم يقل إن شاء الله . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو قال إن شاء الله كان دركاً في حاجته " .
الشرط الرابع : النية : فلابد أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه ، مثال ذلك: لو قال : زوجتي طالق ثلاثاً ، ثم نوى فقال : إلا واحدة فهذا لا يصح ، فقالوا : لابد أن ينوي الاستثناء قبل أن ينتهي المستثنى منه يعني قبل أن ينتهي من قوله : ثلاثاً .
والصواب في ذلك : أن هذا ليس شرطاً ويدل لذلك : ما تقدم من قول العباس : إلا الإذخر ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إلا الإذخر " .(1/44)
ويظهر من الحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينو الاستثناء ، وأيضاً : حديث أبي هريرة السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو قال : إن شاء الله كان دركاً في حاجته " .
الشرط الخامس : أن يكون الاستثناء صادراً من المتكلم نفسه ، فلو كان من غيره نقول : لا يصح مثال ذلك : لو قال : زوجتي طالقٌ ثلاثاً ، ثم قال أبوه : إلا واحدة فهذا لا يصح ، فلابد أن يكون الاستثناء صادراً من المتكلم نفسه ولهذا قال الملك لسليمان عليه الصلاة والسلام : قل إن شاء الله ولم يستثن الملك.
الشرط السادس : أن يستثني باللفظ إذا صرّح بالعدد ، أما إذا لم يصرح بالعدد، فتكفي النية لأن العام يرد في اللغة ويراد به الخاص .
مثال ذلك : لو قال : رقيقي أحرار وينوي إلا زيداً فهذا يصح لأنه في اللغة العربية يصح أن يأتي العام ويراد به الخاص ، ومن ذلك : قول الله : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } .
المثال الثاني : لو قال : زوجاتي طوالق وينوي إلا هنداً نقول: هذا يصح، أما إذا صرّح بالعدد فإنه لابد من اللفظ ولا تكفي النية لأن العدد نصٌ فلا يرفعه إلا النص وعلى هذا لو قال : زوجاتي الأربع طوالق وأراد إلا هنداً فهذا لا يصح فلابد أن يتلفظ لأنه صرح بالعدد .
المبحث الثالث : إذا تعقّب الاستثناء جملاً :
فهل يعود للجملة الأخيرة أو يعود للجملة كلها ؟ هذا موضع خلاف .
الرأي الأول : رأي جمهور أهل العلم : أنه يعود للجمل كلها .
الرأي الثاني : رأي الحنفية : أنه يعود للجملة الأخيرة .
مثال ذلك : قول الله : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون . إلا الذين تابوا ... } .
في هذه الآية ثلاثة أحكام :
1 - { فاجلدوهم ثمانين جلدة } .
2 - { ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } .
3 - { وأولئك هم الفاسقون } .(1/45)
ثم بعد ذلك استثنى الله الذين تابوا فهذا الاستثناء هل يعود على الجمل كلها؟
بالنسبة للجلد فالتوبة ليس لها أثر في إسقاطه فيبقى عندنا حكمان، فالجمهور على أن هذان الحكمان يرتفعان بالتوبة ، وعند الحنفية إنما يرتفع فقط الفسق وأما الشهادة فإنها لا تقبل .
والصواب في ذلك : أنه عائد على الجميع إلا إذا دلت قرينة على أنه متعلق بالأخير .
المخصص الثاني : الشرط .
والشرط في اللغة : العلامة .
وأما في الاصطلاح فهو : تعليق شيء بشيء بإنّ الشرطية أو إحدى أخواتها ومن ذلك : قول الله : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } ما: من صيغ العموم يعني كل ما ترك أزواجكم لكن قيد فقال : { إن لم يكن لهن ولد . فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما ترك } ، هنا خصص الشرط.
المخصص الثالث : الصفة والمراد بها .
ما أشعر بمعنى يتصف به بعض أفراد العام ، وهذا يكون في النعت ، مثال ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع".
قول : " نخل " يشمل المؤبر وغير المؤبر ، ثم بعد ذلك قال : " مؤبراً " هذه صفة خصصت للنخل ، فإذا كان مؤبراً يكون للبائع وإذا لم يؤبر فللمشتري.
مثال ذلك : في النعت الحال : قول الله : { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } ، قوله : " من قتله " . هذا يشمل المتعمد وغيره ، ثم قال: (متعمداً) : هذه حال فخصصت .
مثال ذلك : في البدل : قول الله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع } قوله : ( من استطاع ) بدل .
( قال : ومنها مطلق عن القيود ، ومقيد بوصف أو قيد معتبر، فيحمل المطلق على المقيد ) .
المطلق والمقيد تحته مباحث :
المبحث الأول : المطلق في اللغة هو : المنفك عن قيد .
وأما في الاصطلاح فهو : اللفظ المتناول لواحدٍ لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه .(1/46)
قولنا : لواحد : هذا يخرج العام وبهذا نعرف الفرق بين العام والمطلق: فالمطلق يراد به واحد، والعام : يشمل أكثر من واحد .
وقولنا : لا بعينه : يخرج المعرفة بعينها مثل : زيد .
وقولنا : باعتبار حقيقة شاملة لجنسه : أخرج المشترك والواجب المخير : المشترك هو : اتحاد اللفظ وتغير المعنى مثل : العين ، وهذا يشمل البا..... والجارية والذهب فهذا مشترك وليس مطلقاً .
والواجب المخير هو : ما خُير فيه المكلف بين أشياء ، مثل : قول الله { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فخير بين هذه الأمور الثلاثة فهذا تخيير وليس مطلقاً .
المقيد هو : اللفظ المتناول لمعينٍ وغير معينٍ موصوفٍ بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه .
مثال ذلك : قول الله : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } ، قوله : { فتحرير رقبة } يعني : عن رقبة واحدة لكنها مطلقة يشمل الرقبة المسلمة والكافرة والصغيرة والكبيرة والمريضة والصحيحة والذكر والأنثى .
وجاء تقييد الرقبة في كفارة القتل بأنها الرقبة المؤمنة ( فتحرير رقبة مؤمنة ) فوصف هنا بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه .
المبحث الثاني : ما يتعلق بحمل المطلق على المقيد :
وحمل المطلق على المقيد له أربع حالات :
الحالة الأولى : أن يتحد الحكم والسبب : فإذا اتحد الحكم والسبب فإننا نحمل المطلق على المقيد مثال ذلك : قول الله { حرمت عليكم الميتة والدم } فجاء الدم مطلقاً في هذه الآية وجاء تقييده بالمسفوح في قول الله : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً } فيحمل المطلق على المقيد لاتحاد الحكم وهو : تحريم الدم فلا يحرم من الدم إلا الدم المسفوح وهو الدم الجاري ، وأما غير المسفوح فهو معفوٌ عنه كالذي يوجد في اللحم أو في العروق .(1/47)
الحالة الثانية : أن يتفق الحكم ويختلف السبب : مثل قول الله في كفارة الظهار : { فتحرير رقبة } فجاءت الرقبة في هذه الآية مطلقة لم تقيد بالإيمان، وجاء تقييدها بالإيمان كفارة القتل ، قال تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة } فإذا اتفق الحكم واختلف السبب فعند جمهور الأصوليين أنه يحمل المطلق على المقيد وعلى هذا يشترط أن تكون الرقبة المعتقة مؤمنة سواء كان ذلك في كفارة القتل أو كفارة الظهار أو كفارة الوطء في نهار رمضان . وعند الحنفية لا يشترطون الإيمان .
الحالة الثالثة : أن يختلف الحكم ويتفق السبب :
مثال ذلك : قول الله في كفارة الظهار : { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } وقال أيضاً في كفارة الظهار : { فإطعام ستين مسكيناً } : هنا اختلف الحكم واتفق السبب، في الآية الأولى صيام في كفارة وفي الآية الثانية إطعام في كفارة والسبب في الآيتين واحد وهو : الظهار لكن الحكم اختلف .
فهل يحمل المطلق على المقيد وحينئذٍ نقول : يشترط في الإطعام أن يكون متتابعاً ؟ أكثر الأصوليين على أنه إذا اختلف الحكم واتفق السبب فإننا لا نحمل المطلق على المقيد وحينئذٍ لا نشترط في الإطعام أن يكون متتابعاً وعلى هذا لو فرق الإنسان وأطعم اليوم عشرة وغداً خمسة ولم يتابع فنقول : بأن هذا جائز ولا بأس به .
الحالة الرابعة : أن يختلف الحكم والسبب جميعاً :
فنقول : لا يحمل المطلق على المقيد مثال ذلك : قال الله في كفارة القتل :
{ فصيام شهرين متتابعين } ، وقال تعالى في كفارة الظهار: { فإطعام ستين مسكيناً } : ففي الآيتين السبب مختلف : قتل وظهار ، والحكم مختلف : صيام وإطعام فلا نقول : بأن الإطعام في الظهار يحب أن يكون متتابعاً .
المبحث الثالث : حكم المطلق : نقول : يُعمل به على إطلاقه حتى يثبت تقييده ، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها من إطلاق أو تقييد .(1/48)
فقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } مطلق لم يقيد بالدخول فيعمل به على إطلاقه وتحرم أم الزوجة بمجرد العقد على البنت سواء دخل بها أم لم يدخل إذا لم يقم دليل على التقييد ، فتؤخذ على إطلاقها .
( قال : ومنها : مجمل ومبين ، فما أجمله الشارع وبينه ووضحه في موضعٍ آخر وجب الرجوع فيه إلى بيان الشارع ) .
قوله : ومنها مجمل ومبين : أي ومن نصوص الكتاب والسنة ماهو مجمل ومنها ما هو مبين .
والمجمل في اللغة : المجموع .
وأما في الاصطلاح : فماله دلالة على معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر .
قولنا : معنيين : يخرج النص فالنص ليس له دلالة إلا على معنىً واحد.
قولنا : لا مزية لأحدهما على الآخر : يخرج الظاهر فالظاهر : له مزية .
المبين في اللغة : المظهر الموضح .
وأما في الاصطلاح : ما يفهم المراد منه إما بأصل الوضع أو بعد التبيين .
وأسباب الإجمال ثلاثة :
السبب الأول : عدم معرفة المراد ويزول الإجمال بتبيين المراد ويدخل في ذلك المشترك فالمشترك : اللفظ واحد والمعنى متعدد مثال ذلك : العين : لفظٌ واحد ولها معانٍ متعددة فيطلق على الذهب والعين الجارية والعين الباصرة .
ومن ذلك : قول الله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } : (القرء) : هذا لفظ مشترك يطلق على الحيض ويطلق على الطهر ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله ما المراد بالقرء ؟
الرأي الأول : رأي أبو حنيفة وأحمد : أن القرء هو الحيض وعلى هذا تتربص ثلاث حيض .
الرأي الثاني : رأي مالك والشافعي : أن القرء هو الطهر وعلى هذا تتربص ثلاثة أطهار .
والصواب في ذلك : هو الرأي الأول وأن القرء هو الحيض وهذا قال به أكابر الصحابة وهو الذي دلت عليه الأدلة .(1/49)
السبب الثاني : عدم معرفة الصفة ويزول الإجمال بتبيين الصفة مثال ذلك: قول الله : { وأقيموا الصلاة } فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة ثم بعد ذلك بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالركوع والسجود ... ، مثال 2 : قول الله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } هذا مجمل ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج .
السبب الثالث : عدم معرفة المقدار ويزول ذلك بمعرفة المقدار مثال ذلك : قول الله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فإن مقدرا الزكاة مجهول ثم بعد ذلك بُينت مقادير الزكاة : " فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر" .
قوله : فما أجمله الشارع وبينه ووضحه في موضعٍ آخر وجب الرجوع فيه إلى بيان الشارع .
دل على أمرين :
الأول : وقوع المجمل في الكتاب والسنة ، كما في آيات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك ، وحكمة ذلك – والله أعلم – بالنسبة للوضع العربي تشويق النفس إلى البيان وتشوفها على المقصود فإذا بين اتضح ورسخ في الذهن أكثر مما لو ورد اللفظ مبيناً لأول مرة ، وبحسب الحكم الشرعي فإن سامع المجمل يستعد ويعقد العزم على العمل بالمجمل حتى حصل بيانه فيؤجر على ذلك .(1/50)
الثاني : أن المجمل قد حصل بيانه من الشارع ، فلم يترك البيان عن الحاجة إليه أبداً ، وذلك أن ما يثبت به التكليف العملي ويتصل به الفقه فإنه يستحيل استمرار الإجمال فيه ، فلابد أن يكون الشارع قد بينه فإن كان البيان وافياً قطعياً انتقل من وصف (المجمل) إلى وصف (المبين) وإن بينه الشرع ببعض البيان مع بقية خفاء، صار في قسم المشكل فيحتاج إلى نظر واجتهاد لإزالة إشكاله ومعرفة المراد منه، وكأن الشارع لما بين ما أجمله بعض التبيين فتح الباب للتأمل والاجتهاد لمعرفة المعنى المقصود من ذلك ، كالربا فإنه ورد في القرآن مجملاً وبينته السنة بحديث الأصناف الستة التي يجري فيها الربا ، ولكن هذا البيان فيه بقية خفاء لأنه لم يحصر الربا فيها ، فجاز الاجتهاد لبيان ما يمكن أن يقاس على الأصناف المنصوص عليها.
قال : وقد أُجمل في القرآن كثير من الأحكام وبينتها السنة ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه المبين عن الله .
أي أن كثيراً من الأحكام الشرعية جاءت مجملة في القرآن ، فبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو بفعله أو بقوله وفعله كما في الصلاة والصوم والزكاة والحج وغير ذلك ، ولم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - البيان عند الحاجة إليه أبداً بل ترك الأمة على شريعةٍ بيضاء نقية ليلها كنهارها قال تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لقد تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " .
مسألة : طرق تبيين المجمل أنواع :
الأول : قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثالث : إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكوته .
الرابع : إشارة النبي عليه الصلاة والسلام .
مسألة : هل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ؟(1/51)
جمهور الأصوليين على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، لأنه يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق وهذا ممتنع شرعاً .
مسألة : هل يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة ؟
نقول : تأخير البيان إلى وقت الحاجة هذا جائز ولا بأس به لعدم المحذور ويدل لذلك قول الله : { فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه } و(ثم) تقتضي التراخي.
( قال : ونظير هذا أن منها محكماً ومتشابهاً فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم ) .
المحكم في اللغة : مأخوذ من قولهم حكمت الدابة وأحكمت بمعنى منعت .
والحكم هو : الفصل بين المتخاصمين .
المتشابه في اللغة هو : أن يشبه أحد الشيئين الآخر بحيث لا يتميز عه ويقال: تشابه الكلام أي : تماثل وتناسب .
والقرآن وصف بوصفين :
الوصف الأول : وصف بأنه محكم على وجه العموم وبأنه متشابه على وجه العموم.
أما الإحكام العام فدليله : قول الله : { آلمر . كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } .
وأما التشابه العام فدليله : قول الله : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } .
ومعنى كونه محكماً على وجه العموم : أي أنه كلامٌ متقن فصيح يميز بين الحق والباطل وبين الصدق والكذب .
ومعنى تشابه القرآن على وجه العموم : أي أنه يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة ويصدق بعضه بعضاً .
الوصف الثاني : على سبيل الخصوص :
فالمحكم : ما اتضح معناه لكل أحد مثال ذلك : قول الله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هذان المحكم.(1/52)
المتشابه : ما خفي معناه ، والمراد بذلك : الإحكام الخاص والتشابه الخاص وهما المذكوران في قوله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعمل تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب } وهما المقصودان غالباً إذا أطلق الإحكام والتشابه وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الإمام أ؛مد رحمه الله أنه قال : ( المحكم الذي ليس فيه اختلاف ، والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا ) .
قوله : ( فيجب إرجاع المتشابه إلى المحكم ) . هذا شأن الراسخين في العلم أنهم يرجعون المتشابه إلى المحكم فيتضح المراد ويصير كله محكماً، لكن هذا مراد به المتشابه الذي يمكن اتضاحه والبحث عن بيانه وهو بهذا الاعتبار يدخل فيه المجمل كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، أما إن أريد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه فهذا لا سبيل إلى معرفته ويجب الإيمان به ورده إلى الله تعالى وهي طريقة الراسخين في العلم .
وقد دلت الآية المذكورة على أمرين :
الأمر الأول : أن المتشابه قليل بالنسبة للمحكم ، لأن الله جعل المحكم { أمُّ الكتاب } وأمُّ الشيء : معظمه وأكثره ، وأما المتشابه فذكره بلفظ يدل على التقليل، وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن مبيناً لا لبس فيه ولا إشكال لتيأتى تدبره والعمل بما فيه لكن قد يشتبه شيءٌ منه علم بعض الناس دون بعض فيحتاج إلى أهل العلم لإزالة ذلك .
الأمر الثاني : أن الناس أمام التشابه فريقان :
الأول : أهل الزيغ والضلال عن الحق ، وهؤلاء هم الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " رواه البخاري ومسلم .(1/53)
الثاني : الراسخون في العلم وهم الذين يردون المتشابه إلى المحكم ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ، وإلا قالوا : { آمنا به كل من عند ربنا } أي: محكمه ومتشابه حق .
والمتشابه نوعان :
النوع الأول : نسبي : يخفى على أحد دون أحد .
النوع الثاني : مطلق : يخفى على كل أحد .
فالأول : كقوله تعالى : { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } فقد تشتبه هذه الآية على من يظن أن هداية الله وإضلاله ليس لها سبب، فنجد آيات أخرى تكشف هذا الاشتباه وتجليه : كقوله تعالى : { يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام } وقول الله تعالى : { فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } .
والثاني : مثل كيفية صفات الله تعالى ، فهي من قبيل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وأما معانيها فهي واضحة لا خفاء فيها كما قال الإمام مالك رحمه الله : لما سئل عن استواء الله على عرشه فقال : ( الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ) .
ومنه أيضاً : حقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار قال تعالى: { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء .
فائدة : ينبغي أن يعلم أن البحث في المتشابه الذي استأثر الله بعلمه لا يتصل به شيء من التكليف وكان الأولى عدم ذكره في أصول الفقه لهذا السبب، لكنهم يذكرونه في باب تتمة القول في دلالات الألفاظ وأنواع نصوص الكتاب والسنة، والله أعلم.
( قال : ومنها : ناسخ ومنسوخ ، والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل، فمتى أمكن الجمع بين النصين ، وحمل كل منهما على حال وجب ذلك ).
قوله : ومنها : الضمير يعود على نصوص الكتاب والسنة.
النسخ في اللغة : يطلق على النقل والإزالة : تقول : نسخت ما في الكتاب أي : تقل... وتقول : نسخت الشمس الظل أي أزالته .(1/54)
وأما في الاصطلاح فله معنيان :
المعنى الأول : النسخ في اصطلاح السلف وهو أعم من النسخ في اصطلاح المتأخرين فهو : يشمل تخصيص العام فتجد بعض السلف يسميه نسخاً، وأيضاً : تقييد المطلق يسمى نسخاً ، وتبيين المحكم يسمى نسخاً يعني وضع الحكم بجملته يسمى نسخاً .
المعنى الثاني : النسخ عند المتأخرين هو : رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه .
وقال بعض العلماء هو : رفع حكم شرعي عملي أو لفظه بدليل شرعي متأخر عنه.
والنسخ أدلة ظاهرة من القرآن والسنة والإجماع :
أما القرآن : فقول الله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } وقوله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها } .
وأما السنة : فمن ذلك : استقبال القبلة كان في أول الأمر إلى بيت المقدس ثم بعد ذلك نسخ إلى جهة الكعبة، وأيضاً : نكاح المتعة كان مباحاً ثم بعد ذلك نسخ، وأيضاً : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها".
والإجماع : قائم على ذلك .
قوله : والمنسوخ في الكتاب والسنة قليل .
اعلم أن المنسوخ قليل ، وأكثر نصوص الشريعة محكمة ، وقد ذكر ألّف في الناسخ والمنسوخ آيات كثيرة ، لكن منهم المكثر الذي اشتبه عليه الأمر فأدخل في النسخ ما ليس منه ، ولعل من أسباب ذلك إطلاق النسخ على الاستثناء والتخصيص والتقييد وغير ذلك مما ورد عن الصحابة وسلف هذه الأمة ، ومنهم المتحري الذي اعتمد على النقل الصحيح في النسخ وذلك أن النسخ ليس من الأمور الاجتهادية ، بل هو قائم على شروط وضوابط حددها العلماء ، وبتطبيق ذلك لا يثبت النسخ إلا في آيات وأحاديث قليلة جداً .
والحكمة من النسخ : تعود إلى ثلاث حكم :(1/55)
الأولى : التوسعة ورفع الحرج ، وذلك بنسخ الأثقل إلى الأخف ومن ذلك : قول الله : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ، نُسخ حكمها بقوله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين } .
ومن ذلك : أن المسلم كان في أول الأمر يجب عليه عند القتال أن يصابر عشرة وألا يفر ثم بعد ذلك نُسخ ووجوب عليه أن يصابر اثنين .
الثانية : تكثير الأجور وذلك إذا كان بنسخ الأخف إلى الأثقل ، ومن ذلك : الصيام : كان الإنسان مخير في أول الأمرين أن يصوم أو يفطر ويطعم عن كل يومٍ مسكيناً ثم بعد ذلك نسخ بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
الثالثة : الابتلاء والاختبار وتقوية الإيمان وذلك بنسخ المساوي إلى المساوى.
ومن ذلك : نسخ القبلة : فإن القبلة نُسخت من بيت المقدس إلى البيت الحرام وذكر الله الحكمة بقوله : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } .
والنسخ يشترط له شروط :
الشرط الأول : أن يكون الناسخ وحياً من القرآن أو السنة وعلى هذا بقية الأدلة كالإجماع والقياس الصحيح .. لا ينسخ ، وإذا رأيت في كلام العلماء أن هذا الحكم نسخه الإجماع فالمراد بذلك : مستند الإجماع . الآن الإجماع لابد أن يكون له مستند من الكتاب والسنة .
الشرط الثاني : أن يتأخر الناسخ عن المنسوخ ، وذلك له طرق ، من ذلك: العلم بالتاريخ وقول الراوي كان كذا فرُخص أو نسخ وأيضاً : الإجماع بأن تجمع الأمة على خلاف الخبر .
الشرط الثالث : تعذر اجتماع الناسخ والمنسوخ ، ولهذا قال المؤلف: فمتى أمكن الجمع بين النصين وحمل كل منهما على حال وجب ذلك ، فإذا تعذر الجمع بين الناسخ والمنسوخ بأن يكونا متنافيين وتواردا على محلٍ واحد فإنه يصار إلى النسخ .(1/56)
الشرط الرابع : أن يكون المنسوخ حكماً وعلى هذا الأخبار والعقائد لا يدخلها النسخ ، فأخبار الله وأخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم - التي توجد في القرآن من الجنة والنار وأخبار الأمم السابقة ونحو ذلك وما يكون يوم القيامة هذه لا يدخلها النسخ، لأنه إذا قيل بنسخ هذه الأشياء لأدى ذلك إلى أن تكون كذباً.
النسخ ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : من حيث الثقل والخف فهذا ثلاث أنواع :
النوع الأول : نسخ من أخف إلى أثقل مثل : الصيام فالمكلف في أول الأمر كان مخيراً بين أن يصوم أو يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ثم نسخ ذلك إلى وجوب الصيام ، قال تعالى : { فمن شهد منكم الشهر ... } .
النوع الثاني : نسخ من الأثقل إلى الأخف ، مثل : المصابر، كان في أول الأمر المسلم مأموراً أن يصابر عشرة من الكفار ثم نسخ ذلك إلى أن يصابر اثنين.
النوع الثالث : النسخ من مساوٍ إلى مساوٍ مثل : النسخ في استقبال القبلة من جهة المقدس إلى جهة البيت الحرام.
القسم الثاني : من حيث الدليل وهذا له أربع حالات :
الحالة الأولى : نسخ القرآن بالقرآن وهذا جائز مثاله : الصيام قال تعالى:
{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ثم بعد ذلك نسخ بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } .
الحالة الثانية : نسخ القرآن بالسنة المتواترة ومثّل له العلماء بالرضاع كما في حديث عائشة رضي الله عنها : " أول ما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخ بخمس معلومات" ، رواه مسلم .
الحالة الثالثة : نسخ القرآن بأخبار الآحاد : فهذا موضع خلاف :
الرأي الأول : جمهور الأصوليين : أنه لا يجوز أن ينسخ القرآن بالسنة الأحادية قالوا : لأن الأضعف لا يقوى على رفع الأقوى .
الرأي الثاني : أن هذا جائز ولا بأس به .
الحالة الرابعة : نسخ المتواتر في السنة بالآحاد من السنة : فهذا موضع خلاف:
الرأي الأول : رأي الجمهور : أنه لا يجوز ، قالوا : لأن الأضعف لا يقوى على رفع الأقوى .(1/57)
الرأي الثاني : رأي الشنقيطي رحمه الله : أنه يجوز أن تنسخ السنة المتواترة بالسنة الأحادية ما دام أن الدليل ثابت .
طرق درء التعارض :
( قال : فمتى أمكن الجمع بين النصين وحمل كل منهما على حال وجب ذلك، ولا يعدل إلى النسخ إلا بنص من الشارع ، فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر رجعنا إلى الترجيحات الأُخر ) .
شرع الشيخ رحمه الله في التعارض وطرق درئه :
والتعارض هو : تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر .
والجمع هو : بيان التوافق والائتلاف بين الأدلة ، إما ببناء العام على الخاص أو بحمل المطلق على المقيد ، أو بتأويل أحد الدليلين على معنى مناسب بلا تكلف.
قوله : ( فمتى أمكن الجمع بين النصين وحمل كل منهما على حال وجب ذلك ) .
هذا الطريق الأول لدرء التعارض : وهو الجمع بين النصين وأنه مقدم على النسخ ، لأن الجمع فيه إعمال لكلا الدليلين ، والنسخ فيه إلغاء لأحد الدليلين ، فإذا أمكن الجمع بين النصين بأن يحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد فإنه يجب ذلك لأن الأصل إعمال الدليل لا إهماله .
ومن أمثلة ذلك : حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أخبركم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها " .
مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير أمتي القرن الذين بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، والله أعلم أذكر الثالثة أم لا؟ ثم يخلف قوم يحبون السمّانة يشهدون قبل أن يستشهدوا " .(1/58)
ففي الأول مدح من أتى بالشهادة قبل أن تطلب منه ، وذلك بإثبات الخيرية ، وفي الثاني ذمه حيث سيق مساق الصفات المذمومة ، وقد أجمع العلماء بينهما بأجوبة لعل من أظهرها أن حديث زيد بن خالد محمول على شهادة لا يعلم بها صاحب الحق ، فيأتي الشاهد إليه فيخبره بها ، لأجل أن يحفظ له حقه بهذه الشهادة، أو يكون في حقوق الله التي لا طالب لها لا في حقوق الآدميين ، وهذا ح.... على أن الشهادة لا تؤدى قبل أن يطلبها صاحب الحق، كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله : ( ولا يعدل إلى النسخ إلا بنصٍ من الشارع ) :
هذا الطريق الثاني لدفع التعارض : وهو العدول إلى النسخ فإذا لم يمكن الجمع بين النصين ، ويمكن أن نحمل أحد الدليلين على زمن والدليل الآخر على زمن آخر ، فإن المتأخر يكون ناسخاً للمتقدم . ولهذا قال المؤلف : أو تعارض النصين الصحيحين اللذين لا يمكن حمل كل منهما على معنىً مناسب فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم .
ومن أمثلة ذلك : حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها " رواه مسلم . فقوله : " فزوروها" نص في الشارع على أن النهي قد نسخ .
ومثاله : أيضاً : حديث الربيع بن سمرة الجهني عن أبيه رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " . رواه مسلم .
فقوله : " وإن الله قد حرم ذلك .... " هذا نص من الشارع على أن الإباحة قد نسخت .
وكذلك يثبت النسخ بخبر الصحابي : كقول علي رضي الله عنه : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك ، وأمرنا بالجلوس" . وقول جابر رضي الله عنه : " كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار " .
قوله : ( فإن تعذر معرفة المتقدم والمتأخر رجعنا إلى الترجيحات الأُخر ) .(1/59)
هذا الطريق الثالث من طرق درء التعارض : وهو الترجيح وهو : تقديم المجتهد أحد الدليلين المتعارضين لما فيه من مزية معتبرة ، تجعل العمل به أولى من الآخر، ولا يعدل إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع والنسخ ، والمرجحات كثيرة، لأن ما يحصل به تغليب ظن على ظنٍ آخر كثير جداً ولا ينحصر .
مثال ذلك : حديث أسامة رضي الله عنه : ( إنما الربا في النسيئة ) رواه مسلم. فهذا كالصريح في نفي ربا الفضل ، وورد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء " رواه مسلم .
من طرق درء هذا التعارض : ترجيح حديث أبي سعيد رضي الله عنه لأن حديث أسامة رواية صحابي واحد ، وأحاديث منع ربا الفضل عن جماعة من الصحابة، ورواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت من رواية الواحد ، والترجيح هو أحد طرق درء التعارض بين الحديثين .
ومن أمثلة ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من مس ذكره فلا يصلّ حتى يتوضأ " ، وحديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه وضوء ظ قال : " لا ، إنما هو بضعةٌ منك " ، فمن قال بالترجيح رجح الأول لوجوه :
الوجه الأول : أن العمل به أحوط .
الوجه الثاني : لأنه أكثر طرقاً ومصححيه أكثر .
الوجه الثالث : لأنه ناقل عن البراءة الأصلية وهي عدم إيجاب الوضوء والناقل يقدم على المبقي ، لأن مع الناقل زيادة علم ، حيث أفاد حكماً شرعياً ليس موجوداً عند المبقي على الأصل .
فائدة :(1/60)
اعلم أنه لا يمكن التعارض بين النصوص على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح ، لأن الأدلة لا تتناقض ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ وبيّن ، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد ، إما لنقص في علمه ، أو خلل في فهمه ، وعلى هذا فأقل أحوال درء التعارض هو الترجيح ، والقول بأنه قد لا يمكن الترجيح ، وحينئذٍ يتوقف المجتهد فيه نظر ظاهر ، فإنه لا بد من الترجيح إما عن طريق الإسناد أو عن طريق المتن ، وهي وجوه كثيرة ، ولن يعدم المجتهد وجهاً واحداً يدرء التعارض .
( قال : ولهذا إذا تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله : قُدِّم قوله ، لأنه أمرٌ أو نهيٌ للأمة ، وحُمل فعله على الخصوصية له ، فخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنى على هذا الأصل ) .
شرع المؤلف رحمه الله في حكم تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وموضوع تعارض القول والفعل اهتم به الأصوليون ، بل أفرد في مصنفات مستقلة ومن ذلك كتاب " تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال" للحافظ العلائي.
فإذا تعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله قدم قوله ، لأنه خطاب للأمة وحمل فعله على الخصوصية له ، وهذا ما قرره الشيخ رحمه الله وقال به بعض الأصوليين.
وفيه نظر لأمرين :
الأول : أن حمل الفعل على الخصوصية يحتاج إلى دليل ، لأن الأصل عدمها، كما سيأتي – إن شاء الله - ، ويؤيد ذلك أنه جاء بعض الأفعال المعارضة للقول، ولا يصح حملها على الخصوصية كما سترى.
الثاني : أن الحكم بالخصوصية يفضي إلى ترك العمل بشطر السنة ، وهي السنة الفعلية.(1/61)
والأظهر في هذه المسألة : أنه إذا تعارض القول والفعل وقام دليل على أن الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - حكم بها ، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال فقال رجلٌ من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل؟ قال: " وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " رواه البخاري ومسلم.
فهذا دليل واضح على أنه لا تعارض بين وصاله ونهيه عن الوصال ، لأن الوصال مختص به ، على أحد الأقوال .
فإن لم يوجد دليل الخصوصية لم يحكم بها ، لأن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاركة الأمة له في الأحكام إلا ما دل الدليل على تخصيصه به ، ولا ريب أن الأصل في التشريع وخطاب الأمة هو القول ولا يتطرق إليه في الاحتمالات ما يتطرق للفعل ، لكن إذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر وفعل خلافه، أو نهى عن شيء وفعله فإما أن يكون الفعل مخصصاً للقول ، أو محمولاً على بيان الجواز ، أو أنه ناسخٌ للقول إلى غير ذلك مما تتم معرفته باستقراء مواضع التعارض والنظر في الأدلة، والقرائن التي يستفاد منها في تحديد المراد.
ومن أمثلة ذلك :
ما روى أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك – رضي الله عنه – " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر عن الشرب قائماً " ، وفي لفظ : " نهى أن يشرب الرجل قائماً " رواه مسلم.
وفي حديث النزال بن سبرة قال : " أتي علي رضي الله على باب الرحبة بماءٍ فشرب قائماً ، فقال : إن ناساً يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم ، وإني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كما رأيتموني فعلت " رواه البخاري .(1/62)
فنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب قائماً وشربه قائماً بينهما تعارض في الظاهر، ولا يمكن حمل الفعل على الخصوصية ، لفعل علي رضي الله عنه ، والظاهر أن النهي محمول على التنزيه ، وشربه قائماً لبيان الجواز ، ولا يكون مكروهاً في حقه أصلاً ، ويؤيد ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه قال : " سقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من زمزم فشرب وهو قائم " رواه البخاري .
ومن الأمثلة أيضاً : حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " توضئوا مما مست النار " رواه مسلم .
وقد عارض ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه - صلى الله عليه وسلم - : "أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ " رواه مسلم .
وقال جابر رضي الله عنه : " كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار " أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح .
فذهب بعض الصحابة ومنهم الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم والأئمة الأربعة رحمهم الله إلى أنه لا يجب الوضوء مما مست النار ، لأنه لا يتعارض الفعل والقول، ولما كان الفعل متأخراً صار ناسخاً للقول ، لأنه يشمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن المخاطب يدخل في عموم خطابه على الراجح ما لم يرد دليل على خلافه، فالقول بالنسخ هنا قوي .
وقوله : ( فخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنى على هذا الأصل ) .
ظاهره أن التعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله هو الطريق الوحيد لمعرفة الخصائص النبوية، ولعل هذا غير مراد ، فإن كثيراً من الخصائص مجرد عن التعارض ، بل إن من الخصائص ما ثبت بالنص ، كقوله تعالى عن النكاح بلفظ الهبة : { خالصة لك من دون المؤمنين } وكما تقدم في الوصال وغير ذلك مما هو مقرر في محله.
((1/63)
قال : وكذلك إذا فعل شيئاً على وجه العبادة ولم يأمر به فالصحيح أنه للاستحباب ، وإن فعله على وجه العادة ، دل على الإباحة وما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال حكم عليه بالإباحة أو غيرها على الوجه الذي أقره) .
تقدم أن السنة قول وفعل وتقرير ، وقد انتهى الكلام على القول، وأشار هنا إلى الفعل ، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى أقسام :
القسم الأول : ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الطاعة والقربة والعبادة ، فالراجح أنه مستحب ، فنفعل مثل فعله ، وهي غير خارجة عن الواجب والمندوب، والقدر المشترك بينهما ترجيح الفعل على الترك ، وهذه حقيقة المندوب، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه التعبد فهو عبادة ، يشرع التأسي به فيه ، فإذا خصص زماناً أو مكاناً بعبادة ، كان تخصيصه تلك العبادة سنة ) .
ومن أمثلة ذلك : صلاة التطوع وصدقة التطوع ، ومنه ما ورد عن شريح بن هانئ قال : سألت عائشة رضي الله عنها : بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته ؟ قالت : ( بالسواك ) .
وكذلك : حديث ابن عمر قال : حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر .(1/64)
القسم الثاني : ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجه الجبلة والطبيعة البشرية مثل : القيام والقعود وكحركة اليد في أثناء المشي والنوم والاستيقاظ والأكل والشرب، فنقول: هذه الأشياء لا حكم لها في ذاتها ؛ لأنه ليس من باب التكليف ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - للتشريع فليس لنا أن نتأسى به في هذا ، لكن إذا وردت السنة بتقييد ما بصفات وبهيئات فإنه يتقيد بهذه الصفات والهيئات ، وقد يكون التقييد واجباً وقد يكون مستحباً ، فإذا كان لهذا الفعل هيئة معينة كصفة أكله وشربه ونومه ونحو ذلك فهذا له حكم شرعي كما دلت عليه النصوص .
القسم الثالث : ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العادة مثل : اللباس : لبس العمامة، ولبس الإزار والرداء ، وترك الشعر فهذه الأشياء فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - موافقة لأهل بلده فنقول : لا يستحب المتابعة في ذلك لأن اللباس منظور فيه إلى العادة ولو قلنا بأن الإنسان يلبس الآن ما لبسه النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنه وذاك اللباس يخالف اللباس في بلده لكان هذا من لباس الشهرة فيكون منهياً عنه ، وعندنا قاعدة وهي: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - موافقاً لأهل بلده هذا لا يستحب الاقتداء به ، وإذا قدرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مخالفاً لأهل بلده فهذا يستحب فيه الاقتداء .
القسم الرابع : ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً لمجمل فهذا النوع من الأفعال حكمه حكم المبين ، فإن كان المبين واجباً كان الفعل واجباً ، وإن كان مندوباً فمندوب ، لأن المقصود به البيان والتشريع ، كأفعال الصلاة ومناسك الحج ، وغير ذلك وهذا هو المشهور عند أكثر الأصوليين .
ومن ذلك : مسح الرأس هذا واجب لقول الله : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم... } والنبي عليه الصلاة والسلام مسح برأسه .(1/65)
ومثال المندوب : قول الله : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } فالنبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر رضي عنه أتى إلى مقام إبراهيم وصلى خلفه ركعتين .
القسم الخامس : ما دل الدليل على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا قام الدليل على أنه خاص به عليه الصلاة والسلام فليس لأحد أن يفعل مثل فعله عليه الصلاة والسلام ، ومن ذلك : زواج المرأة بلا مهر فهذا خاصٌ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل لهذا قول الله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } .
ومن ذلك : الزيادة على أربع في النساء هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدل لذلك : قول الله : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } .
ومن ذلك : الوصال في الصيام فهذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال فقام رجل من المسلمين قال: فإنك يا رسول الله تواصل ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " .
قوله : ( وما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والأفعال حكم عليه بالإباحة أو غيرها على الوجه الذي أقره ) .
التقرير : هو ترك الإنكار على ما علم به من قول أو فعل ، والتقرير حجة لأنه قسم من أقسام السنة النبوية ، وقد نقل الحافظ ابن حجر الاتفاق على الاحتجاج به ، ودليل حجيته : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن أن يقر أحداً على خطأ أو معصية فيما يتعلق بالشرع ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وشرط حجيته : أن يعلم بوقوع الفعل أو القول ، وذلك بأن يقع بحضرته أو في زمنه وهو عالم به لانتشاره انتشاراً يبعد معه ألا يعلم به .
وحكمه : الإباحة وقد يفيد الوجوب أو الاستحباب عن دليل آخر.(1/66)
ومن أمثلة ذلك : أن أنس بن مالك سئل وهو غادٍ إلى عرفة كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : ( كان يهل منا المهلّ فلا ينكر عليه ، ويكبر من المكبر فلا ينكر عليه ) رواه البخاري.
فهذا يدل على أن الحاج مخير في هذا اليوم بين التكبير والتلبية ، لتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم على ذلك .
ومن ذلك : قول ابن عباس رضي الله عنهما : " أقبلت راكباً على حمارٍ أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ، ودخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد " رواه البخاري ومسلم .
فهذا يدل على أن المرور بين يدي المأموم لا يضر ، لأن ابن عباس رضي الله عنهما استدل بترك الإنكار على جواز ذلك .
ومن ذلك : إقراره - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر رضي الله عنه على قوله بإعطاء سلب القتيل لقاتله ، أخرجه البخاري ومسلم .
(7) فصل
الدليل الثالث : الإجماع
( قال : وأما الإجماع فهو اتفاق العلماء المجتهدين على حكم حادثة ) .
الإجماع في اللغة : العزم المؤكد .
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف بقوله هو : اتفاق العلماء المجتهدين ، على حكم حادثة .
قوله : ( اتفاق العلماء ) هذا قيد في التعريف يخرج وجود خلاف ولو من واحد فلا ينعقد معه الإجماع ، لأن من الجائز إصابة الأقل وخطأ الأكثر كما كشف الوحي عن إصابة عمر رضي الله عنه في أسرى بدر.
وقوله : ( المجتهدين ) : جمع مجتهد وهو الفقيه الذي له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية ، وهذا القيد يخرج المقلدين والحرام ، فلا عبرة بهم في الإجماع لا وفاقاً ولا خلافاً .
قوله : ( على حكم حادثة دينية ) : المراد بها : الواقعة من الوقائع التي تستدعي بيان الحكم فيها ، وهذا القيد يخرج ما لو اتفق العلماء على حكم حادثة دينية فلا عبرة به .(1/67)
ويضاف على هذا التعريف قيد آخر وهو : اتفاق العلماء المجتهدين من هذه الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على حكم حادثة دينية .
الإجماع حجة وقد دل على حجيته القرآن والسنة :
أما القرآن : فقوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } ، وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } ولا تكون هذه الأمة شاهدة على الناس إلا إذا كان إجماعها على حق ، فلو كان إجماعها على ظلاله لم تكن شاهده على الناس ، وقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ، لو كان إجماعها ليس على حق لم تكن أمرة بالمعروف ناهية عن المنكر .
وأما السنة : فاستدلو بما في مستدرك الحاكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة " .
والإجماع يشترط له شروط :
الشرط الأول : أن يكون الإجماع صادراً من العلماء المجتهدين وعلى هذا غير المجتهد لا عبرة بإجماعه .
مسألة : هل يكفي الاجتهاد الجزئي أو لابد من الاجتهاد المطلق؟ يعني – لو أن شخصاً أتقن ما يتعلق بباب العبادات واجتهد اجتهاد جزئي : هل يعتبر خلافه أو لابد أن يكون اجتهاده مطلقاً ؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:
الرأي الأول : قالوا : يشترط أن يكون الاجتهاد مطلقاً .
الرأي الثاني : قالوا : يكفي الاجتهاد الجزئي ولا يشترط أن يكون مطلقاً.
الشرط الثاني : الإسلام فلا عبرة بإجماع غير المسلمين .
الشرط الثالث : العدالة لقول الله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } أي: عدولاً خياراً .
الشرط الرابع : اتفاق جميعهم وعلى هذا لو خالف واحد لم يكن هناك إجماع، وذهب بعض الأصوليين : أنه لا عبرة بخلاف الواحد والاثنين .
والصواب : أنه لا يكون هناك إجماع حتى يتفق الجميع .(1/68)
الشرط الخامس : أن يكونوا أحياء موجودين فالأموات لا عبرة بخلافهم واتفاقهم .
( قال : فمتى قطعنا بإجماعهم : وجب الرجوع إلى إجماعهم ، ولم يحل مخالفتهم ) .
هذا القسم الأول من أقسام الإجماع : الإجماع القطعي وهو:
ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة ، كالإجماع على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام وعلى تحريم الزنا والربا ونحو ذلك.
وهذا النوع من الإجماع له ثلاثة أحكام :
الأول : أنه يجب الرجوع إليه والأخذ به ، إذ لا خلاف في كونه حجة.
الثاني : أنه لا تحل مخالفته ، إذ لا أحد ينكر ثبوته .
الثالث : أنه يكفر مخالفه إذا كان ممن لا يجهله ، لأنه مقطوعٌ بوقوعه .
القسم الثاني : الإجماع السكوتي أو الإقراري وهو : أن يشتهر القول أو الفعل من البعض فيسكت الباقون عن إنكاره :
فهذا الإجماع هل هو حجة ؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم .
الرأي الأول : أنه حجة .
الرأي الثاني : أنه ليس حجة .
والصواب في ذلك : التفصيل وأنه يُرجع إلى القرائن وأحوال الساكتين وملابسات الكلام فإن غلب على الظن أنهم اتفقوا فهو حجة ظنية ، وإن حصل القطع باتفاقهم فهو حجة قطعية وإن ترجحت المخالفة فلا يعتد به .
القسم الثالث : إجماع أهل المدينة : والإمام مالك رحمه الله يرى أن إجماع أهل المدينة حجة بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه .
الشرط الثاني : أن يكون الاتفاق من الصحابة أو التابعين .
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حرر القول فيما يتعلق بإجماع أهل المدينة وأنه ينقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : ما يجري مجرى النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك مثل نقلهم بمقدار الصاع والمد ... فهذا حجة.
القسم الثاني : العمل القديم في المدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه فهذا حجة عند جمهور العلماء رحمهم .(1/69)
القسم الثالث : إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين تعارضا أو قياسين تعارضا ولم يترجح أحدهما : فهل يرجح بإجماع أهل المدينة؟
هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد رحمه الله : أنه يرجح بإجماع أهل المدينة .
الرأي الثاني : عند أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يرجح بإجماع أهل المدينة .
القسم الرابع : العمل المتأخر بالمدينة فهذا جمهور أهل العلم على أنه ليس حجة .
( قال : ولابد أن يكون الإجماع مستنداً إلى دلالة الكتاب والسنة ) .
أي : أن الإجماع ليس دليلاً مستقلاً تثبت به الأحكام الشرعية ، وإنما تابع للكتاب والسنة ، إذ لا يوجد مسألة مجمعٌ عليها إلا وفيها نص ، إذ لا يمكن أن يكون إجماع هذه الأمة عن هوى أو قولاً على الله بغير علم أو دون دليل وذلك لأن الأمة معصومة عن الخطأ ، والقول على الله بدون دليل خطأ لكن يخفى مستند الإجماع على بعض العلماء فيستدل بالاجتهاد والقياس وبعضهم يعلم النص فيستدل به .
الدليل الرابع : القياس
( قال : وأما القياس الصحيح : فهو إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما. فمتى نص الشارع على مسألةٍ ، ووصفها بوصف ، أو استنبط العلماء أنه شرعها لذلك الوصف، ثم وُجد ذلك الوصف في مسألة أخرى لم ينصّ الشارع على عينها، من غير فرق بينها وبين المنصوص : وجب إلحاقها بها في حكمها، لأن الشارع حكيم لا يفرق بين المتماثلات في أوصافها ، كما لا يجمع بين المختلفات.
وهذا القياس الصحيح : هو الذي أنزله الله ، وهو متضمنٌ للعدل ، وما يعرف به العدل .
والقياس إنما يعدل إليه وحده إذا فُقد النص ، فهو أصل يرجع إليه إذا تعذر غيره ، وهو مؤيد للنص ، فجميع ما نص الشارع على حكمه فهو مرافق للقياس لا مخالف له ) .
القياس هو : أحد الأدلة الشرعية الأربعة المتفق عليها بين الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك الظاهرية .
واستدل الجمهور على أن القياس دليل شرعي بأدلة من ذلك :(1/70)
قول الله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فقالوا : بأن الله عز وجل أمر بالاعتبار والنظر والتفكر ، ففي هذا إثبات القياس ، فالاعتبار: تمثيل الشيء بغيره ، ومن ذلك : قول الله : { فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم } فالله سبحانه وتعالى أقام مثل الشيء مقام الشيء ، ولهذا الصحابة رضي الله عنهم حكموا بأن النعامة إذا قتلها المحرم فيها بدنة ، ومن ذلك : حديث أبي ذر رضي الله عنه وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " رواه مسلم .
أيضاً : إجماع الصحابة على إثبات القياس من ذلك : قول الصحابة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه : " رضيه الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا " . وقول علي رضي الله عنه : " اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يُبعن كالحرائر، أما الآن فقد رأيت بيعهن كالإمي " .
والظاهرية الذين قالوا : بعدم إثبات القياس : استدلوا على ذلك بأدلة من ذلك:
قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ، وقوله تعالى : { إنا نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } ، وقوله تعالى : { ما فطرنا في الكتاب من شيء } ، وقالوا : بأن الشريعة جاءت بالتفريق بين المتماثلات فمن ذلك : أن الثوب يغسل من بول الجارية ولا يغسل من بول الصبي، وقالوا : بأن السارق تقطع يده ، والغاصب يقطع .. وهذه الأدلة كلها فيها نظر .(1/71)
والصواب في ذلك : ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله ، وأما الجواب عن أدلة الظاهرية نقول : نعم القرآن تبيان لكل شيء ، والله ما فرط في الكتاب من شيء وقد جاء بالقياس ، وأما القول : بأن الشريعة تفرق بين المتماثلات فهذا غير صحيح ، فالشريعة لا تفرق بين المتماثلات وفرق بين بول الصبي وبول الجارية ، وفرق بين الغاصب والسارق ، فالسارق أخذ المال على وجه الاختفاء بخلاف الغاصب ...
والقياس تحته مباحث :
المبحث الأول : تعريف القياس : وهو في اللغة : التقدير والمساواة تقول : قست الثوب بالذراع إذا قدرته به ، وتقول : فلان لا يقاس بفلان أي : لا يساوي به .
وأما في الاصطلاح فقال المؤلف هو : إلحاق فرع بأصل لعلة تجمع بينهما، والمراد بالإلحاق : تعدية الحكم في مسألة منصوص عليها إلى مسألة غير منصوص عليها مساوية لها في العلة .
المبحث الثاني : الناس في القياس : طرفان ووسط :
الطرف الأول : أنكروا القياس أصلاً وهم الظاهرية .
الطرف الثاني : أسرفوا في استعماله حتى ردوا به النصوص الصريحة .
الطرف الثالث : أثبتوا القياس بضوابطه الشرعية وهو ما عليه السلف .
والقياس له ضوابط :
الضابط الأول : ألا يوجد نص في المسألة فإن وجد نص في المسألة فإنه لا يصار إلى القياس إذ النظر لا يعارض الأثر .
الضابط الثاني : أن يكون القياس من عالم مستجمع لشروط الاجتهاد .
الضابط الثالث : صحة القياس باستكمال شروطه الشرعية .
المبحث الثالث : أركان القياس وهي : أربعة أركان :
الركن الأول : الأصل وهو : المحل المعلوم بثبوت الحكم فيه ويسمى (المقيس عليه) .
الركن الثاني : الفرع وهو : المحل الذي يراد إثبات الحكم فيه ويسمى (المقيس).
الركن الثالث : الحكم وهو : الأمر المقصود إلحاق الفرع بالأصل فيه .
الركن الرابع : العلة وهو : المعنى المشترك بين الأصل والفرع .
المبحث الرابع : أقسام القياس :
الأصوليون يقسمون القياس إلى قسمين :(1/72)
القسم الأول : القياس باعتبار قوته وضعفه وهو نوعان :
النوع الأول : قياس جلي وهو : ما قطع فيه بنفي الفارق المؤثر أو كانت العلة منصوصاً عليها أو مجمعاً عليها ، ومن ذلك : قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً .. } .
فالله عز وجل حرّم أكل مال اليتيم قاس العلماء رحمهم الله عليه تحريم تحريق مال اليتيم فهذا قياس جلي .
النوع الثاني : قياس خفي وهو : ما لم يقطع بنفي الفارق فيه ولم تكن العلة منصوصاً عليها أو مجمعاً عليها ، من ذلك : القتل بالمحدد قاس العلماء عليه القتل بالمثقل ، وعلى هذا نقول : بأن القتل بالمثقل فيه قصاص ، ومن ذلك : جريان الربا في البر يقاس عليه جريان الربا في الأرز بجامع أن كلاً منهما قليل مطعوم .
القسم الثاني : القياس باعتبار علته وهو ثلاث أنواع :
النوع الأول : قياس العلة وهو : ما صرح فيه بالعلة ، مثال ذلك : قول الله: { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فالعلة الجامعة هي : التكذيب ، الأصل : من قبلكم ، الفرع : أنتم.
النوع الثاني : قياس الدلالة وهو : الذي لم تذكر فيه العلة وإنما ذكر لازم من لوازمها ، مثال ذلك : قول الله تعالى : { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } الأصل : إحياء الأرض، الفرع : إحياء الموتى ، العلة هي: عموم قدرته سبحانه وتعالى وكمال حكمته.
النوع الثالث : قياس الشبه هو : الفرع المتردد بين أصلين .(1/73)
مثال ذلك : الرقيق متردد بين أمرين الأول : الحر ، الثاني : المال ، فهل يشبه بالإنسان الحر أو بالمال ؟ ولذلك تجد العلماء يختلفون : إذا قتل الرقيق : هل فيه الدية أو فيه القيمة ؟ إذا قلنا بأن فيه القيمة أشبه البهيمة ، وإذا قلنا بأن فيه الدية أشبه الإنسان الحر ، أيضاً : لو أن سيده ملكه مالاً : هل يملك بالتمليك؟ إذا قلنا : بأنه يملك بالتمليك أشبه الحر ، وإذا قلنا : بأنه لا يملك بالتمليك أشبه البهيمة.
المبحث الخامس :
هناك مسائل اختلف فيها أهل العلم: هل يجري فيها القياس أو لا يجري فيها القياس؟
المسألة الأولى : التوحيد والعقائد : هل يجري فيها القياس أو لا؟
نقول : باتفاق أهل السنة والجماعة أن القياس لا يجري في التوحيد والعقائد ، إذا أدى ذلك إلى البدعة أو تعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله كتشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما يصح القياس في التوحيد إذ استدل به على معرفة الخالق وتوحيده، ويستخدم في ذلك قياس الأولى كما قال تعالى : { ولله المثل الأعلى } ومن أمثلة ذلك : أن نقول : كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه فالخالق أولى به.
المسألة الثانية : الحدود : هل يجري فيها القياس أو لا ؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم :
الرأي الأول : ما عليه جمهور الأصوليين : أن القياس يجري في الحدود ومن ذلك : قاسوا النباش على السارق في قطع اليد، ومن ذلك : قياس اللائط على الزاني وأن اللوطي يلحق بالزاني في إقامة الحد.
الرأي الثاني : رأي الحنفية : أن القياس لا يجري في الحدود لأن الحدود عقوبات مقدرة من قِبل الشرع على من توفرت فيه شروط خاصة .
المسألة الثالثة : المقدرات والرخص : هل يجري فيها القياس ؟
هذا موضع خلاف : جمهور أهل العلم : أنه يثبت فيها القياس ، والمقدرات مثل: مدة السفر مقدرة ( إذا قلنا بأنها مقدرة ) ، حد الزنى مقدر ، نصاب السرقة مقدر، والرخص مثل : قياس الثلج على المطر في الجمع بين الصلاتين.(1/74)
الرأي الثاني : رأي الحنفية : أنه لا يثبت فيها القياس .
المسألة الرابعة : العبادات : هل يجري فيها القياس ؟
هذا موضع خلاف :
الجمهور : قالوا : يثبت فيها القياس .
الرأي الثاني : رأي الحنفية : أن العبادات لا يثبت فيها القياس .
والأقرب في ذلك : أن ما يتعلق بالعبادات ، الأصل أنه لا يثبت فيها القياس، لأن الأصل في العبادات أنها توقيفية ، اللهم إلا إذا كان المعنى الموجود في الأصل موجود تماماً في الفرع .
المبحث السادس : شروط القياس :
القياس يشترط لصحته شروط :
الشرط الأول : أن يكون حكم الأصل وهو المقيس عليه ثابتاً بالنص أو الإجماع أو اتفاق الخصمين عليه أو بدليلٍ يغلب على الظن صحته وألا يكون منسوخاً .
الشرط الثاني : أن يكون حكم الأصل معقولاً لتعدية الحكم ، فإذا كان حكم الأصل ليس معقولاً فإنه لا يصح القياس ، لأنه لا يمكن أن يعدّ الحكم للفرع ، وذلك مثل : عدد ركعات الصلوات كون الظهر أربع والعصر أربع .. هذا ليس معقولاً فلا يصح القياس .
الشرط الثالث : أن توجد العلة في الفرع بتمامها بالقطع وهذا قياس الأولى أو المساواة ، أو يغلب على الظن وجودها في الفرع .
الشرط الرابع : ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه بنصٍ يخالف حكم الأصل.
الشرط الخامس : أن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل وعلى هذا لا يقاس الواجب على المندوب ولا المندوب على الواجب لعدم تساويهما وإنما يقاس الواجب على الواجب والمندوب على المندوب .
الشرط السادس : أن تكون العلة متعدية فإذا كانت قاصرة فإنه يصح أن يعلل بها ، لكن بالنسبة لتعدية الحكم لا يصح .
الشرط السابع : ألا تخالف العلة المستنبطة نصاً أو إجماعاً .
الشرط الثامن : أن تكون العلة وصفاً صالحاً لترتيب الحكم فلا يصح التعليل بالوصف الطردي كالطول والسواد ونحو ذلك .
الشرط التاسع : أن تكون العلة ثابتة وسيأتي ما يتعلق بمسالك العلة .(1/75)
الشرط العاشر : أن يكون القياس في الأحكام الشرعية العملية ، وتقدم لنا: حكم القياس في التوحيد .
المبحث السابع : تعريف العلة وطرق إثباتها :
العلة في اللغة هي : المرض .
وأمافي الاصطلاح فهي : الوصف الجامع بين الأصل والفرع المناسب لتشريع الحكم .
والعلة لها أسامٍ يسمونها من ذلك : المناط، الجامع، السبب، المستدعي ، المقتضي ، المؤثر ، المظنة .
الوصف الذي هو العلة ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : وصفٌ يعلم مناسبته لبناء الحكم الشرعي عليه مثل : مناسبة الإسكار لتحريم الخمر ، فهذا وصفٌ مناسب يصح القياس عليه .
القسم الثاني : وصفٌ ليس مناسباً لبناء الحكم عليه ، لأن الشارع لم يلتفت إليه وذلك مثل : وصف الطول والقصر والعرض والسواد ... فهذه لا تصلح لبناء الحكم عليها لأن الشارع لم يلتفت إليها .
القسم الثالث : وصفٌ متردد بين القسمين السابقين ، بين كونه مناسباً وبين كونه عدم مناسب ، وذلك مثل : الدية في الرقيق : هل تجب فيه الدية أو لا تجب؟ لكون الرقيق متردد بين كونه آدمياً وبين كونه مالاً .
كيفية طرق إثبات العلة :
الطريق الأول : النص : ومنه ما يكون صريحاً في إثبات العلة ومنه ما لا يكون صريحاً في إثبات العلة ، مثال الصريح : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل مسكر خمر" فالعلة هنا : الإسكار ، ومنه ما ليس صريحاً مثل: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقضي القاضي وهو عضبان " فالعلة : تشويش الذهن ، وأيضاً: حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو ينازعه الأخبثان " فالعلة : هنا التشويش .
الطريق الثاني : الإجماع على أن هذا الحكم علة كذا وكذا وذلك مثل: الصغر هذا علة الولاية في المال ، فالصغير لا ينفرد بالتصرف في ماله ولا تصح تصرفاته المالية ويتصرف عنه وليه، والعلة في وجود الولاية على هذا الشخص هي: الصغر وقد أجمع العلماء على هذه العلة .(1/76)
الطريق الثالث : السبر والتقسيم : وهذا مبني على أمرين :
الأمر الأول : حصر الأوصاف وهو المعبر عنه بالتقسيم ومن ذلك : قول الله عز وجل : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } فهذا لا يخلوا من ثلاثة أمور:
الأمر الأول : أنهم خلقوا من غير خالق ، الأمر الثاني : أنهم خلقوا أنفسهم. الأمر الثالث : أن الله عز وجل خلقهم .
ويأتي بعد التقسيم السبر وهو : إبطال ماليس صالحاً من الأوصاف فعندنا وصفان باطلان : لأنه لا يمكن للإنسان أن يوجد هكذا صدفه ، الوصف الثاني : لا يمكن للشيء أن يوجد نفسه فلابد من خالق خلقهم وهو الله عز وجل. وهذا النوع الأول .
النوع الثاني : الدوران وهو : اقتران حكمٍ بوصفٍ ما وجوداً وعدماً .
وقول الأصوليين : وجوداً وعدماً : فلا يكفي الوجوب بل لابد أن يكون هذا الوصف مقترناً بهذا الحكم في الوجود وفي العدم وذلك مثل : الشدة في الخمر فإنها علة تحريمه .
النوع الثالث : المناسبة هو : أن يكون الحكم مقترناً بوصفٍ صالح لبناء الحكم عليه .
وذلك مثل : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " ، فالعلة في تحريم الخمر : الإسكار ، فدل ذلك على أن كل مسكر يلحق بالخمر في التحريم.
(8) فصل
أصول مستنبطة من الكتاب والسنة
( قال : وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولاً كثيرة ، بنوا عليها أحكاماً كثيرة جداً ، ونفعوا وانتفعوا ) .
قوله : الأصول : جمع أصل وهو : ما يبنى عليه غيره أو ما يتفرع منه غيره.
قوله : مستنبطة : يعني مأخوذة من الكتاب والسنة .
وهذا الفصل ذكر فيه الشيخ رحمه الله عدداً من القواعد الفقهية وهي جمل موجزة ، تندرج تحتها مسائل فقهية كثيرة من أبواب متعددة ، كما سيأتي إن شاء الله.
والفرق بين القاعدة الفقهية والأصولية من وجوه ، منها :
الأول : من حيث الموضوع ، فإن موضوع القواعد الفقهية : أفعال المكلفين ، والقواعد الأصولية موضوعها : الأدلة والأحكام .(1/77)
الثاني : أن القاعدة الفقهية يستفاد منها الحكم مباشرة ، أما القاعدة الأصولية فيستفاد منها الحكم بواسطة الدليل .
الثالث : أن القواعد الفقهية أغلبية ، أما القاعدة الأصولية فهي كلية ليس لها استثناءات .
قوله : وأخذ الأصوليون من الكتاب والسنة أصولاً كثيرة ..
ظاهر كلام المؤلف رحمه الله : أن القواعد الفقهية من أصول الفقه فإنه ذكرها ضمن رسالته ، وكأن هذا مبني على ما يفهم من أول الرسالة من التلازم بين الفقه وأصوله ، وأن الفقيه الحق هو الأصولي .
والمشهور أن هذه القواعد من قبيل الفقه لا من قبيل أصولا لفقه ولعل الإمام القرافي رحمه الله أول من ميز بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية كما في مقدمة كتابه (الفروق) وقال في موضوع آخر : فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه ، بل للشريعة قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والقضاء ، لا توجد في كتب أصول الفقه أصلاً .
القاعدة الأولى
( قال : فمنها : " اليقين لا يزول بالشك " أدخلوا فيه من العبادات والمعاملات والحقوق شيئاً كثيراً ، فمن حصل له الشك في شيء منها: رجع إلى الأصل المتيقن ، وقالوا : " الأصل الطهارة في كل شيء" و"الأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه " و "الأصل براءة الذمم من الواجبات ومن حقوق الخلق حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك " و"الأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده حتى يتيقن البراءة والأداء" .
هذه هي القاعدة الأولى : " اليقين لا يزول بالشك " وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس الكبرى التي يدور عليها الفقه .
والقواعد الفقهية الخمس هي : الأمور بمقاصدها ، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك ، والعادة محكمة، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقد نضمها ابن سويدان الشافعي بقوله :
ضرر يزال وعادة قد حكمت ... ... وكذا المشقة تجلب المتيسيرا
والشك لا ترفع به متيقناً ... ... والنية أخلص إن أردت أجورا
اليقين لا يزول بالشك :(1/78)
اليقين في اللغة : طمأنينة القلب على حقيقة الشك .
وأما في الاصطلاح فهو : جزم القلب مع الاستناد إلى الدليل القاطع .
لا يزول : يعني لا ينتفي .
( بالشك ) : الشك في اللغة : مطلق التردد .
وأما في الاصطلاح فهو : استواء طرفي الشيء مع عدم ترجح أحدهما .
معنى القاعدة : أن كل أمر ثبت بدليل قاطع أو بظن ظاهر فإنه يحكم ببقائه على ماهو عليه ، ولا يزيله عن ذلك إلا يقين لا شك معه ، لأن الأمر اليقيني لا يعقل أن يزيله ماهو أضعف منه، بل ما كان مثله أو أقوى.
والأدلة على هذه القاعدة ظاهرة من القرآن والسنة والإجماع :
أما القرآن : فقوله تعالى : { وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً } .
وأما السنة : حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: " لا ينقل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " .
وحديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدري كم صلى أثلاثاً أم أربع ، فليطرح الشك ثم ليبني على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل ا، يسلم " .
وأما الإجماع : كما قال الإمام القرافي رحمه الله : هذه قاعدة مجمعٌ عليها ، وهي أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه .
وهذه القاعدة لها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات والأنكحة والحدود والقصاص .
من أمثلتها في العبادات : إذا كان الإنسان متطهراً ثم شك : هل أحدث أو لم يحدث ؟ نقول : الأصل في ذلك الطهارة ، وإذا كان الإنسان محدثاً ثم شك: هل توضأ أو لم يتوضأ ؟ نقول : الأصل في ذلك الحدث .
ومن أمثلتها في الأنكحة : إذا شك الإنسان : هل وقع منه طلاق أو لم يقع منه طلاق ؟ نقول : الأصل بقاء الزوجية ، وإذا شك : هل طلق طلقة أو طلقتين ؟ نقول : الأصل أنه لم يطلق إلا طلقة واحدة .(1/79)
ومن أمثلتها في المعاملات : إذا شك : هل عقد عقد بيع أولم يعقد؟ نقول : الأصل في ذلك أنه لم يعقد ، وإذا شك: هل وقف بيته أو لم يوقف بيته ؟ نقول : الأصل في ذلك أنه لم يوقف بيته .
وقد ذكر العلماء رحمهم الله قواعد كثيرة مندرجة تحت هذه القاعدة: منها: قاعدة الأصل براءة الذمة ، وقاعدة إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته ، وقاعدة الأصل في الصفات والأمور العارضة العدم ، وقاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة .
مسألة : إذا شك الإنسان : هل يعمل غلبة الظن ؟ هذا موضع خلاف.
المشهور من المذهب : أنه إذا شك يُعمل اليقين مطلقاً يعني – الأقل .
الرأي الثاني : اختيار شيخ الإسلام انب تيمية رحمه الله : أنه إذا شك الإنسان لا يخلو من أمرين :
الأمر الأول : أن يترجح له شيء فيعمل بالراجح .
الأمر الثاني : ألا يترجح له شيء فهذا يعمل اليقين .
مثال ذلك : إذا شك في عدد أشواط الطواف : هل هي خمسة أو ستة ؟
على الرأي الأول أنه يجعلها خمسة حتى لو ترجح أنها ست ، وعلى الرأي الثاني أنه ينظر إذا ترجح له شيء يعمل الراجح ، وإلم يترجح له شيء يعمل اليقين يعني الأقل .
قوله : وقالوا : " الأصل الطهارة في كل شيء " و" الأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه " .
ولهذا قال الشيخ رحمه الله منظومته :
والأصل في مياهنا الطهارة ، والأرض والثياب والحجارة ، فالأصل في المياه والأراضي والثياب والأواني الطهارة، حتى يتيقن زوال أصله بطرؤ النجاسة عليها، ودليل ذلك : قول الله : { وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً } ، وقوله : { وينزل عليكم من السماء ليطهركم به } .(1/80)
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وقوله عليه الصلاة والسلام : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" ، فهذه الأدلة تدل على أن الأصل في الأشياء الطهارة ، وعلى هذا إذا شك الإنسان في إناء أو ثوب أو مصلى أصابته نجاسة أم لا ؟ فهو طاهر، والأصل في الأطعمة والأشربة الحل ، إلا ما دل الشارع على تحريمه .
وأما السنة : حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : " لا ينقل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " ، وحديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إذا شك أحدكم في ضلالته فلم يدري كم صلى أثلاثاً أم أربع، فليطرح الشك ثم ليبني على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أ، يسلم " .
وأما الإجماع : كما قال الإمام القرافي رحمه الله : هذه قاعدة مجمع عليها ، وهي أن كل مشكوك فيه ، يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه .
وهذه القاعدة لها فروع كثيرة في العبادات والمعاملات والأنكحة والحدود والقصاص..
من أمثلتها في العبادات : إذا كان الإنسان متطهراً ثم شك : هل أحدث أو لم يحدث ؟ نقول : الأصل في ذلك الطهارة ، وإذا كان الإنسان محدثاً ثم شك : هل توضأ أو لم يتوضأ ؟
نقول : الأصل في ذلك الحدث .
ومن أمثلتها في الأنكحة : إذا شك الإنسان : هل وقع منه طلاق أو لم يقع منه طلاق ؟ نقول : الأصل بقاء الزوجين ، وإذا شك : هل طلق طلقة أو طلقتين ؟ نقول : الأصل أنه لم يطلق إلا طلقة واحدة .
ومن أمثلتها في المعاملات : إذا شك : هل عقد عقد بيع أو لم يعقد؟ نقول : الأصل في ذلك أنه لم يعقد ، وإذا شك : هل وقف بيته أو لم يوقف يديه ؟ نقول: الأصل في ذلك أنه لم يوقف بيته .(1/81)
وقد ذكر العلماء رحمهم قواعد كثيرة مندرجة تحت هذه القاعدة : منها : قاعدة الأصل براءة الذمة ، وقاعدة إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته ، وقاعدة الأصل في الصفات والأمور العارضة العدم ، وقاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة .
مسألة : إذا شك الإنسان : هل يعمل غلبة الظن ؟ هذا موضع خلاف :
المشهور من المذهب : أنه إذا شك يُعمل اليقين مطلقاً يعني – الأقل.
الرأي الثاني : اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أنه إذا شك الإنسان لا يخلو من أمرين :
الأمر الأول : أن يترجح له شيء فيعمل بالراجح .
الأمر الثاني : ألا يترجح له شيء فهذا يعمل اليقين .
مثال ذلك : إذا شك في عدد أشواط الطواف : هل هي خمسة أو ستة؟
على الرأي الأول أنه يجعلها خمسة حتى لو ترجح أنها ست ، وعلى الرأي الثاني أن ينظر إذا ترجح له شيء يعمل الراجح ، وإلم يترجح له شيء يعمل اليقين يعني الأقل .
قوله : وقالوا : " الأصل الطهارة في كل شيء " و " الأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه " .
ولهذا قال الشيخ رحمه الله في منظومته :
والأصل في مياهنا الطهارة ... والأرض والثياب والحجارة
فالأصل في المياه والأراضي والثياب والأواني الطهارة، حتى تيقن زوال أصله بطرؤ النجاسة عليها ، ودليل ذلك : قول الله : { وأنزلنا من السماء ماءً
طهوراً } وقوله : { وينزل عليكم من السماء ليطهركم به } .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " ، فهذه الأدلة تدل على أن الأصل في الأشياء الطهارة ، وعلى هذا إذا شك الإنسان في إناء أو ثوب أو مصلى إصابته نجاسة أم لا ؟ فهو طاهر ، والأصل في الأطعمة والأشربة الحل، إلا ما دل الشارع على تحريمه كالميتة والدم والخنزير ونحو ذلك لعموم قوله تعالى:
{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } .(1/82)
وقوله : " والأصل براءة الذمم من الواجبات ، ومن حقوق الخلق حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك " .
البراءة معناها : الخلو والفراغ ، والذمم : جمع ذمه وهي : وصفٌ يصير به الإنسان أهلاً لأن يجب له وعليه .
فالأصل براءة الذمة من الواجبات الشرعية مثل : الوتر ليس بواجب، لعدم الدليل على وجوبه بعد طلبه .
والأصل براءة الذمة من حقوق الخلق ، كالديون ، فمن ادعى على غيره حقاً فلابد من البينة ، فإلم يأتي ببينة تشهد بصحة دعواه، فعلى الآخر اليمين التي تنفي ما دعاه المدعي لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناسٌ دماء رجالٌ وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه " ، وفي رواية : " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " .
وقوله : " والأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده حتى يتيقن البراءة والأداء " .
هذه القاعدة مقابله لما قبلها ، لأن الأولى في استصحاب العدم وهذه في استصحاب الوجود.
فإذا شغلت الذمة بحق الله تعالى ، كصلاة أو كفارة ، ونحو ذلك أو بحق المخلوق، كدين أو ثمن مبيع ، ونحو ذلك فالأصل بقاء ذلك في الذمة حتى يحصل اليقين ببراءة الذمة من حق الله تعالى ، وأداء حق المخلوق ، فلو شك هل صلى الظهر مثلاً فلابد أن يبرئ ذمته بيقين ، ولا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً وهو منفرد بني على اليقين لأن الأصل بقاء الصلاة في ذمته ، وإذا شك الصائم في غروب الشمس ، لم يفطر اعتباراً بالأصل ، وهو بقاء النهار ، وإذا شك في طلوع الفجر ، جاز أن يأكل اعتباراً بالأصل، وهو بقاء الليل، ففي كلتا الحالتين يبني على اليقين ، ولا يلتفت إلى الشك ، لأن اليقين لا يرتفع بالشك ، وإذا شك في عدد الرضعات بني على اليقين ، ولو استدان من شخص مالاً ، فالأصل أنه باق في ذمته حتى يتيقن الأداء .
القاعدة الثانية(1/83)
قال : ومنها : " أن المشقة تجلب التيسير " وبنوا على هذا جميع رخص السفر، والتخفيف في العبادات والمعاملات وغيرها .
هذه القاعدة الثانية من القواعد الفقهية الخمس الكبرى التي يدور عليها الفقه، وهي قاعدة عظيمة تدخل تحتها رخص السفر من الفطر والقصر والجمع وغير ذلك ، كما يدخل تحتها التخفيف في العبادات فالمريض يصلي قائماً ، فإلم يستطع صلى قاعداً ومن لم يستطع أن يسجد أومأ بالسجود، كما يدخل في ذلك الاكتفاء بنضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام بشهية ، وكذا العفو عن قيئه ، وكذا المعاملات كإباحة العرايا، وبيع السلم ، وحمل العاقلة الدية في قتل الخطأ ، وغير ذلك .
أولاً : معنى القاعدة :
والمشقة في اللغة : تطلق على معانٍ منها : غلبة العداوة والخلاف كما في قوله تعالى : { وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } وأيضاً : على السفر البعيد كما في قوله تعالى : { ولكن بعدت عليهم الشقة } وأيضاً : على التعب والحرج والعناء وغير ذلك .
والتيسير في اللغة هو : ضد العسر والمراد به : اللين والسهولة والانقياد .
معنى القاعدة : أن الصعوبة والعناء التي تحل بالمكلف سبب للتسهيل عليه في الأحكام، فإذا كان هناك مشقة تلحق العبد من تطبيق بعض الأحكام، فالشريعة تخفف عليه بمقدار ما يزول عنه الضرر .
ثانياً :
الأدلة على هذه القاعدة من القرآن والسنة والإجماع :
أما القرآن : فقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقوله تعالى : { ما يريد أن يجعل الله عليكم من حرج } وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ... } .
أما السنة : ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .. " .
وحديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يسّرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا " رواه البخاري.
والإجماع : منعقد على ذلك .
ثالثاً :
المشقة تنقسم إلى قسمين :(1/84)
الأول : المشقة الخارجة عن العادة : أي التي لا يتحملها الإنسان عادة وتفسد على النفس تصرفاتها ويخل بنظام الحياة فهذه لا يكلف الله عز وجل بها .
وذلك مثل : الوصال في الصيام ، والمواظبة على القيام ، والصدقة بكل المال وغير ذلك .
الثاني : مشقة معتادة : يعني يتحملها الإنسان دون أن يلحقه ضرر فهذه يكلف بها .
وذلك مثل : الغسل في وقت البرد ، والصوم في وقت الحر وطول النهار، وإقامة الحدود..
رابعاً :
أسباب التخفيف :
الأول : النسيان : ويطلق على الغفلة عن الشيء وعدم تذكره .
والدليل على أنه من أسباب التخفيف : قول الله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
والنسيان سبب من أسباب التخفيف لرفع الإثم عن العبد.
فإذا نسي الإنسان شيئاً من حقوق الله فإن هذا لا يخلو من أمرين :
الأول : لو فعل شيئاً من المحظورات والممنوعات ناسياً فلا إثم عليه ولا حرج من حيث الحكم التكليفي ، ومن حيث الحكم الوضعي لا يلزمه القضاء .
من ذلك : لو صلى وعليه نجاسة ناسياً ، أو أكل في الصلاة ناسياً، أو أكل وهو صائم ناسياً ، أو نسي وحلق شعر رأسه وهو محرم فنقول : لا شيء عليه .
الثاني : أن يكون في باب المأمورات فإن ترك شيئاً ناسياً فلا إثم عليه من حيث الحكم التكليفي ، ومن حيث الحكم الوضعي فإنه ذكرها جاء بها .
من ذلك : لو ترك صلاة أو وضوء أو زكاة ونحو ذلك فنقول : يلزمه القضاء ولا إثم عليه هذا ما يتعلق بحقوق الله .
أما أثر النسيان فيما يتعلق بحقوق الآدميين فنقول : من حيث الحكم التكليفي لا إثم عليه ، ومن حيث الحكم الوضعي فإنه يطالب لأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحة .
من ذلك : لو أتلف طعام شخص أو ثوبه أو سيارته ونحو ذلك نسياناً منه، فنقول: لا يأثم لكن يطالب.
الثاني : الخطأ : وهو في اللغة : ما يقابل الصواب .(1/85)
وأما في الاصطلاح فهو : وقوع العمل على خلاف ما يريد العامل .
والدليل على أن الخطأ من أسباب التخفيف : قوله تعالى : { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
وأثر الخطأ على الحقوق كما تقدم : أن يكون في حقوق الله فلا يخلوا من أمرين :
الأول : أن يكون في باب المأمورات ، فنقول : من حيث الحكم التكليفي لا يأثم ، ومن حيث الحكم الوضعي فإنه يطالب .
الثاني : أن يكون في باب المحظورات : لا إثم عليه ولا يلزمه القضاء .
أما أثر الخطأ في حقوق الآدميين فنقول : من حيث الحكم التكليفي لا يأثم، ومن حيث الحكم الوضعي فإنه يطالب لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة.
من ذلك : لو أتلف ثوب إنسان أو ماله فإنه يطالب.
الثالث : المرض : وهو في اللغة : السقم .
وأما في الاصطلاح فهو : اعتلال الصحة .
والمرض من أسباب التخفيف ويدل لذلك : قول الله : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } وفي حديث عمران بن حصين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صلي قائماً فإلم تستطع فقاعداً فإلم تستطع فعلى جنب " .
مسألة : ماهو المرض الذي يفيد التخفيف ؟
هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : ذهب إليه ابن سيرين والحسن البصري والظاهرية : أن المرض الذي يفيد التخفيف يشمل كل مرض للعموم .
الرأي الثاني : أن المرض الذي يفيد التخفيف هو المرض الذي يلحق به ضرر أو حرج ومشقة وهذا هو الصواب .
الرابع : السفر : وهو في اللغة : يطلق على معانٍ منها : الكشف وقطع المسافة ، وسمي السفر سفراً قيل : لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، وقيل ح لأنه يسفر به الإنسان بعد أن كان مكنوناً في البلد .
وأما في الاصطلاح فهو : الخروج من البلد على قصد المسيرة المعتبرة سفراً عرفاً.
والسفر من أسباب التخفيف ويدل لذلك : قول الله : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } .(1/86)
وأيضاً : ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر الجمع والقصر .
والسفر الذي يكون سبباً للتخفيف يشترط له شروط :
الشرط الأول : أن يكون السفر مباحاً فإن كان السفر محرماً فليس له أن يترخص وهذا ما عليه جمهور أهل العلم ، واستدلوا على ذلك : بقول الله : { فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه } .
وقالوا : الباغي هو : الذي يخرج على الإمام ، والعادي هو : قاطع الطريق.
الرأي الثاني : رأي أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
أن هذا ليس شرطاً وأن الإنسان له أن يترخص في السفر المحرم وغير المحرم ويدل لذلك : عموم قول الله : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وهذا يشمل الضرب في السفر المحرم والضرب في السفر المباح .
وأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : عن قوله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } بأن الباغي هو : الذي يبغي المحرم مع قدرته على الحلال ، والعادي هو : الذي يأكل فوق حاجته.
الشرط الثاني : المسافة المعتبرة شرعاً وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله ، فإنهم يقسمون السفر إلى قسمين :
القسم الأول : سفر طويل .
القسم الثاني : سفر قصير .
والسفر الطويل يختلفون في تحديده ، وأكثر أهل العلم على أنه يحدد بأربعة برد يعني مسيرة يومين ، والحنفية يقولون : مسيرة ثلاثة أيام ، فإذا أراد الإنسان أن يقطع هذه المسافة فهذا سفر طويل له أن يترخص فيه ، دون ذلك هذا يسمى سفر قصير ، ليس له أن يترخص فيه .
الرأي الثالث : اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أن تحديد المسافة لم يرد في الشرع ، فيُرجع في تحديده إلى العرف فما عده العرف سفراً فهو سفر.(1/87)
الشرط الثالث : أن يفارق عامر بلده ، وعلى هذا إذا أراد أن يسافر ولم يخرج من بلده فإنه ليس له أن يترخص لقول الله : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر ... } والذي في بلده ليس على سفر وإنما هو على نية السفر .
الشرط الرابع : أن يقصد مكاناً معلوماً وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، وعند أبي حنيفة : أن هذا ليس شرطاً وهذا هو الصواب.
الخامس : الجهل وهو : نقيض العلم ، والمراد به هنا : عدم العلم بالأحكام الشرعية كلها أو بعضها .
والجهل من أسباب التخفيف ويدل لذلك : قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } فدل ذلك على أنه يعذر حتى تقوم الحجة .
والجهل يكون سبباً للتخفيف في مواضع :
الموضع الأول : إذا كان حديث عهدٍ بإسلام فهذا يحذر .
الموضع الثاني : إذا كان ناشئاً ببادية بعيده عن بلاد المسلمين .
الموضع الثالث : إذا طرأ على ... شبهة ولا يمكنه أن يتعلم فإنه يعذر بالجهل، وأما إذا طرأ على ذهنه شبهه وأمكنه التعلم فهذا مفرط.
السادس : الإكراه . وهو في اللغة : حمل الغير على أمر لا يرضاه .
وأما في الاصطلاح فهو : حمل الغير على أمر لا يرضاه لو خُلّي ونفسه.
والإكراه في أسباب التخفيف وقد دل لذلك القرآن والسنة والإجماع:
أما القرآن : فقول الله : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
وأما السنة : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان ما استكرهوا عليه " .
والإجماع : قائم على ذلك .
والإكراه لكي يكون سبباً للتخفيف يشترط له شروط :
الشرط الأول : أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما هدد به فلو كان المكره غير قادر فهذا لا ينظر إليه.
الشرط الثاني : أن يظن المكره أن المكره سيوقع ما هدد به فهذا سبب للتخفيف، أما إذا كان يظن أنه لن يوقع ما هدد به فهذا لا ينظر إليه، وإذا استوى عنده الأمران فهذا سبب للتخفيف.(1/88)
الشرط الثالث : أن يكن الإكراه غير معلق بأن يكون عاجلاً فلو قال: طلق زوجتك غداً وإلا ضربتك بهذه الحديدة فهذا لا ينظر إليه ، لأنه معلق وبإمكانه أن يتخلص من شره برفع أمره للقضاء ونحو ذلك .
الشرط الرابع : أن يكون الشيء المهدد به مما يشق تحمله فلو كان سهل ويمكن أن يتحمله فهذا ليس سبباً للتخفيف.
مثال ذلك : لو قال : طلق زوجتك وإلا ضربتك بهذا المسواك فهذا ليس سبب للتخفيف.
السابع : النقص وهو أنواع :
الأول : الجنون وهو : فقدٌ للعقل يصحبه اضطراب وهيجان أحياناً ودليل ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يعقل " .
فالمجنون لحقه التخفيف في كثير من الشريعة فلا تجب عليه الصلاة والصيام والحج... ، وفي بعض الأحيان لا يلحقه التخفيف مثل : الزكاة فهي واجبة على المجنون في حاله يخرجها الولي ، ولو أفاق المجنون في أثناء الوقت وأدرك منه ركعة يجب عليه أن يصلي تلك الصلاة...
الثاني : العته : وهو نقصٌ في العقل يصحبه خمول وسكون .
والمعتوه ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : معتوه ليس معه شيء من الإدراك فهذا حكمه حكم المجنون.
القسم الثاني : معتوه معه إدراك فهذا حكمه حكم الصبي المميز بمعنى أنه يصح وضوؤه وغسله وصلاته ويؤجر على ذلك لكن لا يجب عليه ذلك.
الثالث : النوم وهو : فترة طبيعية تعرض للإنسان ، مع وجود العقل توجب العجز عن إدراك المحسوسات .
والنوم من أسباب التخفيف ويدل لذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم النائم حتى يستيقظ " وعلى هذا لو باع الإنسان أو طلق زوجته وهو نائم أو نام عن الصلاة ولم يكن هذا له عادة ونحو ذلك فنقول : بأن النوم من أسباب التخفيف لا ينعقد بيعه ولا شراؤه ولا هبته ولا تحبيسه ولا طلاق لزوجته.
الرابع : الأنثى :(1/89)
الأنوثة سبب للتخفيف ويدل لذلك حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " .
فالحائض والنفساء لا تصح منها الصلاة والصيام ويجب عليها أن تقضي الصيام ، وتسقط عنها الجمعة والجماعة والجهاد، وقد لا تكون سبب للتخفيف والقاعدة : أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا لدليل.
الخامس : الرق :
الرق من أسباب التخفيف فالرقيق ليس كالحر في وجوب التكاليف الشارع أسقط عنه بعض الأشياء وإن كانت القاعدة : تساوي الأحرار والأرقاء في العبادات البدنية المحضة، لكن الرقيق لا تجب عليه الزكاة والحج ...
الثامن : الإغماء : وهو : آفة تعرض للدماغ تعطل القوى المدركة وهذا من أسباب التخفيف .
والمغمى عليه : هل تجب عليه الصلاة أو لا تجب ؟
نقول : إن كان الإغماء باختياره مثل : لو شرب مسكراً أو دواء أو بنجاً ونحو ذلك فهذا يجب عليه أ، يقضي، وإن كان بغير اختياره كما لو أصابه حادث ونحو ذلك فهذا لا يجب عليه أن يقضي إلا إذا أدرك من وقت الصلاة قدر ركعة وهو فائق فهذا يجب عليه أن يقضي .
أيضاً : المغمى عليه يجب عليه أن يقضي الصيام .
وكذلك : لا يصح بيعه ولا شراؤه ولا شركته ولا رهنه ولا طلاقه لزوجته... فيكون هذا من أسباب التخفيف .
القاعدة الثالثة
( قال : ومنها : قولهم : " لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة" ، فالشارع لم يوجب علينا ما لا نقدر عليه بالكلية وما أوجبه من الواجبات فعجز عنه العبد : سقط عنه، وإذا قدر بعضه ، وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما يعجز عنه وأمثلتها كثيرة جداً ، وكذلك ما احتاج الخلق إليه لم يحرمه عليهم .
والخبائث التي حرمها الله إذا اضطر إليها العبد : فلا إثم عليه ، فالضرورات تبيح المحظورات الراتبة، والمحظورات العارضة والضرورة تقدر بقدرها ، تخفيفاً للشر، فالضرورة تبيح المحرمات في المآكل والمشارب والملابس وغيرها ) .
هذه القاعدة الثالثة وهي تتكون من جزئين :(1/90)
الأول : يتعلق بالواجب " لا واجب مع العجز " .
الثاني : يتعلق بالمحرم " لا محرم مع الضرورة " .
أما الأول فدليله قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر } ، وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، وقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } .
وحديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلي قائماً فإلم تستطع فقاعداً فإلم تستطع فعلى جنب" ، وحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " ومعنى ذلك : أن أوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته ولهذا ذكر الأصوليون أن من شروط الفعل المكلف به: أن يكون ممكناً ومقدوراً عليه، لأن المطلوب شرعاً حصول الفعل المأمور به ، ولا يمكن حصوله إلا إذا كان ممكن الوقوع ، فإذا عجز المكلف عن العبادة كلها سقطت كالعاجز عن الصيام عجزاً مستمراً كالكبير الذي لا يطيقه والمريض مرضاً لا يرجى برؤه ، فإنه يفطر ويطعم عن كل يومٍ مسكيناً.
ومن ذلك أن الإنسان إذا عجز عن الوضوء بالماء فإنه ينتقل إلى بدله وهو التيمم ، وإذا عجز أن يصلي قائماً فإنه ينتقل إلى الصلاة قاعداً ، ومن عجز عن المصافة لكونه لم يجد مكاناً في الصف ، صحت صلاته منفرداً خلف الصف .
ومن ذلك : من عجز عن المبيت بمنى أيام التشريق ، لكونه لم يجد مكاناً فبات خارج حدودها فلا شيء عليه ، لأنه لا واجب مع العجز.
وهكذا جميع ما أمر به العبد أمر إيجاب أو استحباب كله مقيد بالاستطاعة.
أما الجزء الثاني : ( لا محرم مع الضرورة ) .
الضرورة في اللغة : مأ×وذة من الضرر وهو الضيق .
وأما في الاصطلاح هو : ما يطرأ على الإنسان بحيث لو لم يُراعى كتيقن أو خاف أن تضيع مصالحه .
والمصالح تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : المصالح الضرورية .
الثاني : المصالح الحاجية .
الثالث : المصالح التحسينية .(1/91)
والمصالح الضرورية خمس وهي : ما يتعلق بحفظ الدين والنفس والعقل والمال.
والدليل على هذه القاعدة : قوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } ، وقوله تعالى : { إنما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ ... } .
قوله : ( فالشارع لم يوجب علينا ما لا نقدر عليه بالكلية وما أوجبه من الواجبات فعجز عن العبد سقط عنه ) .
التكاليف لا تخلوا من أمرين :
الأول : تكاليف لا تحتمل مشقتها فهذا الشارع لم يكلف به ، مثل : إخراج كل المال في الزكاة ، والوصال في الصيام ..
الثاني : تكاليف مشقتها معتادة وتحتمل ، فنقول : هذه كلف بها الشارع وذلك مثل : الوضوء في البرد ، الصيام في وقت الحر ...
قوله : ( وإذا قدر بعضه ، وجب عليه ما يقدر عليه وسقط عنه ما يعجز عنه وأمثلتها كثرة جداً ) .
أيضاً : هذه قاعدة : أنه إذا قدر على بعض الواجب فإنه يجب عليه أن يأتي بما قدر عليه وفرق بين المأمور والمحظور المحظور يجب عليه أن يتركه بالكلية ، وأما الواجب فإنه يجب عليه أن يأتي به ، فإلم يتمكن فإنه يأتي بما قدر عليه منه .
ودليل ذلك : قول الله : { فاتقوا الله ما استطعتم } .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " .
ومن أمثلة هذه القاعدة : أنه يجب على المسلم في زكاة الفطر أن: يخرج صاعاً، فإذا لم يجد صاع، ووجد نصف صاع نقول: اخرج نصف الصاع ، مثال 2 إنسان عنده ماء لا يكفي أن يغسل كل أعضائه نقول : توضأ واغسل الوجه واليدين فيبقى عليك مسح الرأس والرجلين تيمم عنهما .
أما بالنسبة للمحظور فإنه يجب عليه أن يجتنبه : ولهذا ذكرنا من القواعد أن النهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه مثلاً قول الله : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } .(1/92)
فالله نهى عن حلق الرأس وهذا يتعلق بكل شعرة فإنه لا يجوز للإنسان أن يحلق كل شعرة من شعر رأسه .
قوله : ( وكذلك ما احتاج إليه الخلق لم يحرمه عليهم ) .
وعلى هذا نقول : الأصل في الأطعمة الحل وهذا يدخل فيه المزروع والثمار والحيوان ودليل ذلك : قول الله : { هو الذين خلق لكم ما في الأرض جميعاً } وقوله تعالى : { والأرض وضعها للأنام } ، وقول الله : { يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } .
وأيضاً : الأصل في الألبسة الحل ، وعلى هذا فإن الإنسان يلبس ما شاء إلا أن هناك أشياء استثناها الشارع لحكمة .
وأيضاً : هناك أشياء محرمات استثناها الشارع لحكمه ..
من ذلك : يحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير فحرمة هذه الأشياء لحكمه وهي : أنها تكسب نفس الآكل شيئاً من طبيعة هذا الحيوان وهو حب الظلم والتعدي والعدوان .
وعلى هذا نقول : الأصل في الأطعمة والأواني الحل، والأصل في المياه والأرض بأجزائها الطهارة .
قوله : ( والخبائث التي حرمها الله إذا اضطر إليها العبد فلا إثم عليه ).
أي : أن المكلف إذا اضطر إلى شيء من الخبائث فإنه لا يكون محرماً عليه، ولا يأثم بذلك كالمنقطع في الصحراء يضطر إلى أكل الميتة أو شرب الماء النجس فلا إثم عليه في ذلك .
قوله : ( فالضرورات تبيح المحظورات ) .
هذه قاعدة عظيمة بمعنى القاعدة السابقة ، ولها فروع كثيرة ، ومعناها: أن الاضطرار يبيح المحرم ، ولكي تكون الضرورة مبيحة للمحظور هذا لابد له من شروط:
الشرط الأول : أن يكون الضرر الموجود في المحظور حين الإقدام عليه أخف من الضرر الموجود حال الضرورة ، مثال ذلك : أكل الميتة حرمت الميتة لما فيها من الضرر وكون الإنسان جائع ليس عنده شيء هذا فيه فكونه يترك الأكل هذا سيؤدي به إلى الهلاك ، فالضرر الموجود في أكل الميتة أخف من الضرر الموجود حال الضرورة .
الشرط الثاني : أن تكون الإباحة فقط في حال الضرورة ما عدا ذلك فإنه لا يجوز.(1/93)
الشرط الثالث : ألا يكون هناك وسيلة أخرى من المباحات .
الشرط الرابع : أن تكون الضرورة قائمة ليست منتظرة .
قوله : ( تبيح المحظورات الراتبة ) . كالميتة والخمر والماء النجس ونحو ذلك.
قوله : ( والمحظورات العارضة ) : أي التي يكون تحريمها عارضاً بسبب، مثل: محظورات الإحرام، كأن يحتاج لحلق الرأس لجرح مثلاً فله أن يحلق رأسه ويفدي.
قوله : ( الضرورة تقدر بقدرها ) : هذه قاعدة أخرى وهي: كالقيد لما قبلها، ومعناها : أن الاضطرار يبيح المحظور بقدر ما يدفع الخطر ، ولا يجوز الاسترسال، ومتى زال الخطر عاد الحظر .
ودليلها: قوله تعالى : { فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه } ومعنى (غير باغ) : أي غير طالب للمحرم مع قدرته على الحلال . أو مع عدم جوعه ، (ولا عاد) : أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً .
ومن أمثلة ذلك : أن المضطر إلى أكل الميتة لا يأكل منها إلا بقدر ما يدفع عنه نفسه الهلاك .
ومن ذلك : جواز كشف الطبيب عورات الأشخاص إذا توقف على هذا الكشف مداواتهم ويكشف من عورته بقدر ما يحتاجه للمداواة ولا يزيد على ذلك.
وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات يذكر العلماء رحمهم الله قواعد كثيرة متفرعة عنها من ذلك :
قاعدة الاضطرار لا يبطل حق الغير : وعلى هذا إذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير: فهل يضمن إذا أكله؟ هذا موضع خلاف:
المشهور من المذهب : أنه يضمن مطلقاً .
الرأي الثاني : اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن كان غنياً معه مال فإنه يضمن ، وإن كان فقيراً ليس معه مال فإنه لا ضمان عليه، وهذا القول هو الصواب.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة وهي : ما أبيح شرعاً انتفى ضرورة قدراً : فالشارع إنما حرمها لما فيها من احتقان الرطوبات وعدم إسالة الدم الذي يؤدي إلى تطهيرها وتطييبها فلما أبيحت للمضطر بإذن الله يرتفع عنها الضرر.
القاعدة الرابعة(1/94)
قال : ومنها : " الأمور بمقاصدها " فيدخل في ذلك : العبادات، والمعاملات، وتحريم الحيل المحرمة مأخوذ من هذا الأصل، وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح من هذا الأصل، وصورها كثير جداً .
هذه القاعدة الرابعة وهي : إحدى القواعد الخمس الكلية التي يدور عليها الفقه، وهي: قاعدة النية .
ودليلها : قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ، ومن السنة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى".
ولهذا قال الشيخ رحمه الله في منظومته :
النية شرط لسائر العمل ... ... بها الصلاح والفساد للعمل
فالنية شرط لسائر الأعمال وهذا من حيث الجملة ولهذا قال الشافعي رحمه الله: تدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه .
والأمور : جمع أمر وهو : الشأن والحال ، ومنه : قوله تعالى: { وما أمر فرعون برشيد } ، ويقال : أمور فلان مستقيمة أي : أحواله .
والمقاصد : جمع مقصد وهو : بمعنى النية والعزم .
والنية : هي : عزم القلب على فعل العبادة .
ومعناها : أن الحكم الذي يترتب على فعل المكلف ينظر فيه إلى نيته وقصده ، وعلى حسب ذلك يترتب ثوابه أو عقابه أو تملكه أو ضمانه وأضداد ذلك، ولذا فإن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد بها المتكلم معانيها ، واعتبر المقاصد والاعتقادات في التصرفات والعبارات .
ومن أدلة ذلك : قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً } فهو نص في أن الرجعة إنما ملكها الله تعالى من قصد الصلاح، دون من قصد الضرار .
وكذا قوله تعالى : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } ومن أدلة ذلك أيضاً قوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } .(1/95)
فهو نصٌ على أن شرط تنفيذ الوصية وقضاء الدين أن يكون الميت لم يقصد مضارة الوراثة ، فإن قصد ذلك بأن أوصى بأكثر من الثلث ، أو أقر بدين وليس عليه دين وإنما حسداً للورثة وبغضاً لهم لم تنفذ الوصية ولم يُقض الدين ، وتقسم التركة كلها على الورثة .
ومن أدلة ذلك أيضاً : ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال : " إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة" رواه البخاري.
والنية يشترط لها شروط :
الشرط الأول : الإسلام : فنية الكافر فيما يتعلق بالعبادات غير معتبرة .
الشرط الثاني : التمييز : فالصبي غير المميز نيته غير معتبرة .
الشرط الثالث : العقل : فالمجنون نيته غير معتبرة .
الشرط الرابع : ألا يأتي بمنافٍ للنية يعني – ألا يقطع حكم النية بل يستمر على نيته .
محل النية : النية محلها القلب وليست من أعمال الجوارح ، ولهذا ينص العلماء إلى أن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة .
فوائد النية :
أولاً : تمييز العبادات عن العادات لأن الإنسان قد يغسل وجهه قاصداً الوضوء ، وقد يغسل وهو يقصد النظافة ومجرد التبرد .
ثانياً : أنها تميز العبادات بعضها عن بعض فالإنسان يصلي ركعتين قد ينوي بها سنة الفجر وقد ينوي بها ركعتي الفجر .
ثالثاً : إخلاص العبادة لله عز وجل كما في قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } .
هناك أمور لا تشترط لها النية :
الأول : العبادة التي لا تكون عادة ، هذه لا تشترط لها النية، لأنها لا تلتبس بغيرها، مثل الخوف من الله عز وجل.
الثاني : ما كان من قبيل التروك ، هذا لا تشترط له النية مثل : لو أن الإنسان أصاب ثوبه نجاسة ثم بعد ذلك هبت الريح على الثوب وألقته في الماء وطهر أو هطلت الأمطار على ثوبه ، ولم يكن هناك نية من المكلف لتطهيره فنقول : بأنه يطهر .(1/96)
الثالث : ما كان نفعه متعدياً لا تشترط له النية لهول الأجر ، مثلاً : لو أن الإنسان زرع زرعاً أو غرس غرساً فهذا يؤجر عليه فما يأكل منه من إنسان أو حيوان أو طير إلا أجر على ذلك ، حتى وإن كان عند غرسه لم ينوي أنه يطعم الإنسان أو الطير أو الحيوان وإنما نوى أن يبيع فهذا يؤجر على ذلك وإلم تكن هناك نية .
نقل العمل بالنية هذا له صور :
الأولى : أن ينتقل بنيته من معين إلى معين : مثال ذلك : رجلٌ يصلي الظهر فانتقل بصلاة الظهر إلى صلاة الظهر بالأمس فهذا قال العلماء: تبطل العبادة التي هو فيها ولم تنعقد العبادة الثانية، لأنه لابد أن ينويها من أول شيء، والعبادة التي هو فيها بطلت لأنه قطع نيتها .
المثال الثاني : لو كان يصلي فريضة ثم نوى سنة راتبة ، أو كان يصلي سنة راتبة ثم نوى فريضة فهذا الانتقال لا يصح ، فنقول : تبطل العبادة التي هو فيها، ولم تنعقد الثانية .
الثانية : أن ينتقل بنيته من معين إلى مطلق : نقول : هذا جائز بشرطين : الأول : أن يكون الوقت واسعاً إذا كان المنتقل عنه فرضاً ، الثاني : ألا يؤدي إلى ترك الواجب وهو الجماعة .
مثال ذلك : رجلٌ يصلي الظهر ثم نوى نفلاً مطلقاً قبل أن يسلم ، نقول: هذا صحيح بالشرطين السابقين .
الثالثة : أن ينتقل بنيته من مطلق إلى معين : فهذا لا يصح، مثال ذلك : رجل شرع في نافلة مطلقة ثم نوى بعد ذلك نفلاً معيناً سنة راتبة أو فريضة، نقول: هذا لا يصح ويبقى على النفل المطلق .
الرابعة : أن ينتقل بنيته من مطلق إلى مطلق : فصحيح إن تصور ذلك.
ومن فروع هذه القاعدة :
أولاً : السكران والمجنون ، لا يقع طلاقهما ، لأنهما لا يعلمان ما يقولان.
ثانياً : الاغتسال للتبرد مباح لا ثواب فيه ، لكن إن قصد به التقوي على الصلاة أو قراءة القرآن أثيب على ذلك .
ثالثاً : إذا أخذ آلات اللهو بقصد كسرها وإشهارها فهو يختلف عما إذا أخذها بقصد سرقتها .(1/97)
رابعاً : إذا أخذ اللقطة بقصد حفظها وتعريفها ، فهو أمين لا ضمان عليه ، إذا تلفت ، أو بقصد تملكها فهو غاصب وعليه الضمان إذا تلفت .
خامساً : معلق الطلاق على شرط إن قصد الحلف فحكمه حكم الحالف، وعليه كفارة يمين ، وإن قصد إيقاع الطلاق وقع، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وهذا معنى قول المصنف : ( ويدخل في ذلك العبادات والمعاملات ) .
قوله : ( وتحريم الحيل المحرمة مأخوذ من هذا الأصل ) .
معناه : أن تحريم الحيل المحرمة داخل تحت هذه القاعدة، لأن الحيلة ظاهرها الجواز، ولكنها حرمت نظراً لقصد فاعلها .
الحيل : جمع حيلة وهي : ا، يتوصل بما ظاهره الإباحة إلى إسقاط واجب أو فعل محرم .
ومن أمثلة ذلك : لو عقد النكاح قاصداً به التحليل فهو محلل بناء على نيته ، وإن كان العقد ظاهره الجواز . ولو باع النصاب الزكوي قبل الحول ، فإن كان فراراً من الزكاة لم تسقط عنه ، وإلا سقطت عنه .
ولو طلق المريض مرض الموت زوجته تحايلاً عليها ورغبة في حرمانها من الميراث فهو غير نافذ شرعاً بناء على هذه الحيلة المحرمة .
قوله : ( وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح مأخوذ من هذا الأصل ) .
الكنايات : جمع كناية وهي : اللفظ الذي استتر المعنى المراد به فلا يفهم إلا بقرينة ، مثل : كنايات الطلاق ، وهي : الألفاظ التي لا تدل بلفظها على الطلاق، مثل: اذهبي لأهلك ، اخرجي من المنزل ، اعتزلي ، ونحو ذلك .
والصرائح : جمع صريحة ، واللفظ الصريح هو : اللفظ الذي ظهر معناه ظهوراً تاماً لكثرة استعماله .
فاللفظ الصريح لا يحتاج إلى نية ، فلو قال لزوجته : أنت طالق حصل الطلاق بمجرد التلفظ به .(1/98)
وأما الكناية كأن يقول لزوجته : اذهبي لأهلك، فإنه يختلف الحكم باختلاف قصد المتكلم ونيته ، فإن نوى إيقاع الطلاق وقع ، وإن قال : قصدت مجرد الزيارة ولم أقصد الطلاق ، فإنه يصدق بدعواه ، لأن غير الصريح لا يعطى حكمه إلا بالقصد ، فلا ينفصل الفعل عن النية .
وكذا لو قال لزوجته : أنت مثل أمي ، فهذا اللفظ محتمل للظهار وغيره، فيرجع إلى النية في تحديد المراد ، فإن نوى أنها مثل أمه في الكرامة ، فلا شيء عليه، وإن نوى أنها مثل أمه في حرمة وطئها والاستمتاع بها فهو مظاهر.
وكذا لو قال : تصدقت ، وحرّمت ، وأبدت ، فإنها لا تفيد انعقاد الوقف إلا بالنية التي تحدد المراد ، لأن هذه الألفاظ محتملة للوقف وغيره ، والله تعالى أعلم.
القاعدة الخامسة
قال : ومنها : " يختار أعلى المصلحتين ، ويرتكب أخف المفسدتين عند التزاحم " وعلى هذا الأصل الكبير ينبني مسائل كثيرة ، وعند التكافؤ فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح ).
هذه القاعدة الخامسة وهي : قاعدة ( المصالح والمفاسد ) .
المصالح : جمع مصلحة وهي : ما فيه جلب منفعة أو دفع مضرة .
والمفاسد : جمع مفسدة وهي كل ما يضر بالناس في دينهم أو دنياهم أفراداً أو جماعات .
وهذه القاعدة تشتمل على أمرين :
الأول : تزاحم المصالح : والمراد بذلك : أن المكلف إذا كان مأموراً بفعل مصلحتين ولا يتمكن من الجمع بينهما فإنه يصير إلى الترجيح ، فيرجح إحدى المصلحتين على المصلحة الأخرى ، فيقدم أعلى المصلحتين ويترك أدناهما ، وتحت ذلك أقسام :
الأول : أن يتعارض واجب ومستحب : فإنه يقدم الواجب لأنه آكد وأعظم أجراً .
مثال ذلك : إنسان معه مائة ريال ، إما أن يشتري بها نفقة لأسرته أو يتصدق بها ، نقول : يقدم النفقة .
الثاني : أن يتعارض واجبان : فإنه يقدم أوجبهما وأوكدهما .
مثال ذلك : عنده ماء إما أن يتوضأ به أو يشربه للعطش ، وكل منهما واجب، فنقول : بأنه يشربه لأن شرب الماء أوجب وأوكد .(1/99)
الثالث : أن يتعارض سنتان : الأصل أن يقدم الفاضل على المفضول ، إلا أن تعرض للمفضول قرائن وتترتب عليه مصلحة ، فيقدم المفضول .
مثال ذلك : إنسان اجتمع عنده سنتان ، سنة الفجر ، وسنة النفل المطلق، وبقي على طلوع الفجر خمس دقائق فإنه يقدم الفاضل وهو الوتر على السنة المطلقة.
من أمثلة المصالح : صلاح القلب ، اجتمع عند الإنسان إما أن يصلي وإما أن يقرأ القرآن ، والصلاة أفضل من مجرد القراءة ، لكن القراءة فيها خشوع أكثر فيقدم القراءة .
الثاني : تعارض المفاسد : فإذا تعارض عنده مفسدتان فهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : إذا تعارض عنده محرمان : فإنه يرتكب أدنى المحرمين .
مثال ذلك : عنده ميتة شاة ، وشاه اشتبه فيها هل ذكر اسم الله عليها أم لا؟ وهو الآن في مسغبة (جوع) فنقول : يرتكب الأدنى تحريماً فيأكل المشتبه فيه.
الثاني : إذا تعارض عنده مكروهان : فإنه يرتكب أخف المكروهين .
مثال ذلك : إنسان إما أن يأكل بصل وإما أن يأكل ثوم ، وأكل البصل والثوم مكروه ، لكن الثوم أشد رائحة من البصل، فيقدم أكل البصل على الثوم.
الثالث : إذا تعارض عنده محرم مع مكروه : فإنه يقدم المكروه، مثال ذلك : إنسان في مسغبة ( جوع ) وعنده ميتة شاه ، وبصل : فإنه يقدم أكل البصل .
قوله : ( وعلى هذا الأصل الكبير ينبني مسائل كثيرة ، وعند التكافؤ فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح ) .
إذا تقابلت مصلحة ومفسدة ، فيقدم دفع المفسدة ولو فاتت المصلحة، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، والدرء هو : الدفع .(1/100)
ومن أدلة ذلك : قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } ففي سب آلهة المشركين مصلحة ، وهي تحقير دينهم وإهانتهم ، ولكن سيترتب على ذلك مفسدة وهي سب الله تعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة ، فنهى الله تعالى المسلمين عن ذلك ومن أمثلة ذلك: منع الجار من التصرف في ملكه إذا أدى إلى ضرر غيره، فتدرأ المفسدة وتقدم المصلحة.
ومن ذلك أيضاً : قيادة المرأة للسيارة فإنه وإن قيل : إن فيها مصلحة فإنه لا اعتبار لها ، في مقابل المفاسد العظيمة التي لا يمكن حصرها ، فتحرم قيادتها من باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والله تعالى أعلم .
القاعدة السادسة
قال : ومن ذلك قولهم : " لا تتم الأحكام إلا بوجود شروطها وانتفاء موانعها " وهذا أصلٌ كبير بُني عليه من مسائل الأحكام وغيرها شيء كثير ، فمتى فُقد شرط العبادة أو المعاملة ، أو ثبوت الحقوق ، لم تصح ولم تثبت ، وكذلك إذا وُجد مانعها : لم تصح ولم تنفذ .
وشروط العبادات والمعاملات : كل ما تتوقف صحتها عليها، ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء الشرعي وبأصل التتبع حصر الفقهاء فرائض العبادات وواجباتها وكذلك شروط المعاملات وموانعها .
والحصر إثبات الحكم في المذكور ، ونفيه عما عداه فيستفاد من حصر الفقهاء شروط الأشياء وأمورها : أن ما عداها لا يثبت له الحكم المذكور ) .
هذه القاعدة السادسة ، وهي تتعلق ببعض أقسام الحكم الوضعي، وهو الشرط والمانع .
فالعبادات والمعاملات لكي يترتب عليها أثرها وتصح لابد من أمرين:
الأول : وجود الشروط .
والشروط : جمع شرط ، والشرط هو : ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، وليس هو جزءاً من ذات ذلك الشيء ، بل هو خارج عنه ، ولا يلزم من وجوده وجود الشيء ، ولكن يلزم من عدمه العدم .(1/101)
مثال ذلك : الوضوء شرط لصحة الصلاة ، وليس هو جزءاً من نفس الصلاة ، ولا يلزم من وجوده وجود الصلاة، فقد يوجد الوضوء ولا توجد الصلاة، كأن يكون الوقت وقت نهي .
الثاني : الموانع .
الموانع : جمع مانع ، والمراد به : مانع الحكم وهو : الوصف الذي يترتب على وجوده عدم ترتب الحكم على سببه وإن تحقق السبب وتوفرت الشروط .
مثال ذلك : الأبوة : أي : أن يكون القاتل أباً للمقتول فهي مانعة في إيقاع حكم القصاص على الوالد إذا قتل ابنه عمداً ، وإن تحققت شروط القصاص ، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقاد والد بولده " .
وهذه قاعدة عظيمة بها يعرف الصحيح من الفاسد في العبادات والعقود ، فلا يكون الشيء صحيحاً إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه فبوجود الشروط يثبت الحكم، وبانتفاء الموانع يندفع عنه الفساد والبطلان .
مثال ذلك في العبادات : أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها .
مثال ذلك في العقود : أن يعقد بيعاً تامة شروطه المعروفة ، مع انتفاء موانعه .
وكذا الميراث : لا يرث إلا شخص قام به شرط الإرث ، وانتفى عنه مانعه.
قوله : ( فمتى فقد شرط العبادة أو المعاملة أو ثبت الحق لم تصح ولم تثبت ، وكذلك إذا وجد مانعها لم تصح ولم تنفذ ) .
أفاد المؤلف رحمه الله : أنه إذا فقد الشرط ، أو وجد الشرط وقام المانع فإنه لا يتم الحكم ولا تترتب آثاره عليه سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات ، فمن صلى بلا طهارة أو قبل دخول الوقت لم تصح صلاته لفقد الشرط، ومن باع مالا يملك ، أو كان البيع ممن لا يصح تصرفه لم ينفذ البيع ، وادعى على غيره حقاً بدون بينة فإنه لا يثبت .
وكذا لو وجد مانع كأن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي لم تصح صلاته، أو يبيع من تلزمه الجمعة شيئاً بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح ، لم يصح البيع على أحد القولين .
قوله : ( وشروط العبادات والمعاملات كل ما يتوقف صحتها عليها ) .(1/102)
أي : أن الشرط الشرعي هو : ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة ، فهو علامة الصحة ، وترتب الأثر على الفعل ، فالصحة في العبادة براءة الذمة وسقوط الطلب ، والصحة في المعاملة ما ترتبت آثاره عل وجوده ، والمراد بذلك : حصول الثمرة المقصودة في العقد ، مثل البيع ، المقصود منه نقل الملكية ، والإجارة استيفاء المنفعة ... وغير ذلك .
قوله : ( ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء ... إلخ ) .
أي : أن الشروط وكذا الواجبات والموانع ، لم يرد النص عليها من الشرع ، وإنما اجتهد العلماء في جمعها وترتيبها بعد تتبع النصوص الشرعية في كل باب من أبواب الفقه، ليكون ذلك أقرب إلى جمع العلوم وحصرها وفهمها .
القاعدة السابعة
قال : ومن ذلك قولهم " الحكم يدور مع علته ثبوتاً وعدماً " فالعلل تامة التي يعلم أن الشارع رتب عليها الأحكام ، متى وجدت وجد الحكم ، ومتى فقدت فقد الحكم .
هذه هي القاعدة السابعة : وهي تتعلق بباب القياس ، والعلة : هي المعنى المشترك بين الأصل والفرع الذي بني عليه الحكم وربط به وجوداً عدماً .
والعلة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن تكون العلة منصوصاً عليها فهذا الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
مثال ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتناجى اثنان دون الثالث" ، والعلة في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أجل أن ذلك يحزنه " ، فالعلة هي : الإحزان ، والحكم : النهي عن التناجي لو لم يكن هناك تناجي لكن تكلم بلغة غير لغته ورفعا أصواتهما: هل يدخل في النهي ؟ نقول : يدخل في النهي ، لأن ذلك يحزنه .
كذلك أيضاً : لو تناجى ثلاثة دون الرابع ، وهذا يحزنه ، نقول : يدخل في النهي أيضاً مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التناجي نهى عن اثنين ، وأما إذا كان لا يحزنه رجل كبير وعندنا صبيان صغيران يتناجيا ، فيما بينهما ، فلا ننهاهما ، لأن ذلك لا يحزنه، فنقول : ألحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .(1/103)
الثاني : أن تكون العلة غير منصوص عليها لكنها قريبة ، فهذا الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
مثال ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " .
العلة هنا : التشويش ، فهذه لم ينص عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنها قريبة من النص (مراد الشارع) وعلى هذا نقول : بأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فلو أن القاضي ليس غضبان لكنه جائع أو حاقن أو حاقد أو حازق المقصود أن الذهن منشغل فنقول : بأنه لا يقضي ، لكن لو كان غير مشوش الذهن لكون الغضب يسيراً ، نقول: بأنه لا ينهى .
الثالث : أن تكون العلة غير منصوص عليها ، لكونها بعيدة فنقول: الحكم لا يدور مع علته ولا عبرة بهذه العلة .
مثال ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة ... " ، والعلة في الذهب الوزن ، فكل موزون يجري فيه الربا كالحديد والنحاس والرصاص ... فهذه العلة بعيدة ولا عبرة بها ولهذا نقضها العلماء رحمهم الله .
القاعدة الثامنة
( قال : ومن ذلك قولهم : " الأصل في العبادات الحظر، إلا ما ورد عن الشارع تشريعه ، والأصل في العادات : الإباحة ، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه " . لأن العبادة ما أمر به الشارع أمر إيجاب أو استحباب فما خرج عن ذلك فليس بعبادة ، ولأن الله خلق لنا جميع ما على الأرض لننتفع به بجميع أنواع الانتفاعات إلا ما حرمه الشارع علينا ) .
هذه هي القاعدة الثامنة : وقد ضمنها الشيخ أصلين عظيمين :
الأول : ( الأصل في العبادات الحظر ، إلا ما ورد عن الشارع تشريعه ) .(1/104)
ودليل ذلك : قوله تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ، فلا يشرع دين إلا ديناً أذن الله به ، وقوله تعالى : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } دلّ ذلك على أنه لا يجاب إلا المرسلين ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ، ولأن العبادات هي الطريق الموصل إلى الله عز وجل فلا يشرع الإنسان طريقاً يوصله إلى الله عز وجل إلا طريقاً جاء في كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : ( الأصل في العبادات الإباحة إلا ما ورد عن الشارع تحريمه ) .
العادات : جمع عادة ، وهي : ما استقر في الأنفس السليمة ، والطبائع المستقيمة من المعاملات سواء كانت معاملة مع النفس ، أو مع الخلق .
مثل : الأكل والشرب واللباس والنوم ، فعادات الناس الأصل فيها الإباحة ، ويدل لذلك : قول الله : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } يعني لكم أن تنتفعوا بكل ما على الأرض وأطلق الله عز وجل ولم يقيد ذلك بقيد ، فكل ما على هذه الأرض مما يؤكل تأكلونه ومما يشرب تشربونه ومما يلبس تلبسونه ، ولم يقيد ذلك بقيد ، وقوله تعالى : { والأرض وضعها للأنام } ، يعني – الأرض كلها موضوعة لمصالح الناس من الأكل والشرب واللباس ...
وأما ما حرمه الشارع علينا فهو حرام ولو تعارف الناس عليه ، وضابط ذلك أن كل عرفٍ خالف الشرع فهو مردود ، مثل تعارف الناس في بعض المجتمعات على إقامة مجالس العزاء ، أو تعارفهم على الاقتراض من المصارف الربوية ، أو تعارفهم على منكرات الأفراح ، أو أخذ الرشوة ، أو لبس الرجال الذهب ونحو ذلك .
القاعدة التاسعة
قال : ومنها : " إذا وجدت أسباب العبادات والحقوق ثبتت ووجبت إلا إذا قارنها المانع " .
هذه القاعدة التاسعة ، وهي تتعلق بأحد أقسام الحكم الوضعي ، وهو السبب .(1/105)
والأسباب : جمع سبب ، وهو الأمر الذي جعل الشارع وجوده علامة على وجود الحكم ، وعدمه علامة على عدم الحكم ، مثل : دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة ، ودخول الشهر سبب لوجوب صوم رمضان ونحو ذلك .
وهذه القاعدة ليست تكراراً للقاعدة السادسة لأن المانع هنا يراد به مانع السبب، والمانع هناك مانع الحكم .
فمانع السبب هو : ألوصف الذي يلزم من وجوده عدم تحقق السبب ، كالدين في باب الزكاة عند من يقول : إنه مانع وهم الجمهور ، فالسبب هو ملك النصاب والحكم هو وجوب الزكاة ، فالدين مانع من وجوب الزكاة ولو وجد السبب ، لأن تخليص ذمة المدين مما عليه من دين أولى من مواساة الفقراء .
ومنه أيضاً : القرابة سبب في الإرث ، لأنها تقتضي النصرة والمودة ، فإذا قتل الأخ أخاه صار القتل مانعاً من الإرث ، لأن وجود القتل يناقض هذه الحكمة ، لأنه يعني – العقوق والقطيعة ، والله أعلم .
القاعدة العاشرة
( قال : ومنها : " الواجبات تلزم المكلفين " والتكليف : يكون بالبلوغ والعقل ، والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم، فمتى كان الإنسان بالغاً عاقلاً : وجبت عليه العبادات التي وجوبها عام ، ووجبت عليه العبادات الخاصة إذا اتصف بصفات من وجبت عليهم بأسبابها، والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم ، لأن جهات الضمان في المتلفات ).
هذه القاعدة العاشرة ، وهي تتعلق بمباحث الأحكام وهو بحث المحكوم عليه، والمراد به : الشخص الذي يتعلق به خطاب الشارع وهو المكلف .
وقد ذكر الشيخ رحمه الله أن الشخص لا يكون صالحاً للتكليف إلا باجتماع وصفين :
الأول : البلوغ ، الثاني : العقل .
والبلوغ يكون بالاحتلام ، ويكون بالحيض في النساء ، قال ابن بطال: (أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء هو البلوغ الذي تلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره ).(1/106)
وما عدا ذلك من علامات البلوغ كنبات الشعر الخشن حول القبل ، أو البلوغ بالسن ، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم ، وليس عليه أدلة صريحة والله أعلم.
قولنا : البالغ . أخرج بذلك الصغير ، فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها .
أما العقل : فقد اتفق العلماء على أنه شرط للتكليف ، أما المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي ، ولكنه يمنع مما فيه تعدٍّ على غيره أو إفساد ، ولو فعل المأمور به لم يصح منه، لعدم قصد الامتثال .
وقد دل على ما ذكرنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، عن الصبي حتى يكبر ، وفي رواية ( حتى يحلم ) ، وفي رواية: (حتى يبلغ) وعن المجنون حتى يعقل " ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار".
قوله : ( والإتلافات تجب على المكلفين وغيرهم ) .
أي أن ضمان الأشياء المتلفة تجب على المكلفين ، وهم البالغون العقلاء وتجب على غيرهم كالصبيان والمجانين ، وهذا شامل لإتلاف النفوس المحترمة والأموال والحقوق فمن أتلف شيئاً من ذلك بغير حق فهو مضمون ، سواء كان متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً وسواء كان مكلف أو غير مكلف لأن هذا ليس من خطاب التكليف وإنما هو من باب ربط الأحكام بأسبابها ، بمعنى أن الشرع وضع أسباباً تقتضي أحكاماً تترتب عليها ، تحقيقاً للعدل في خلقه ، ورعاية لمصالح العباد ، فمتى وجد السبب كنصاب الزكاة ، أو الإتلاف وجب الحكم .
قوله : ( فمتى كان الإنسان بالغاً عاقلاً وجبت عليه العبادات التي وجوبها عام ) : أي : كالزكاة فهي لا تجب على كل مكلف مالم يتصف بسببها، وهو ملك النصاب ، وكذا الكفارات والنفقات . ونحوها .(1/107)
قوله : ( والناسي والجاهل غير مؤاخذين من جهة الإثم ) : أي : لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات والناسي والجاهل لا قصد لهما ، فلا إثم عليهما، ودليل ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
وقد استجاب الله دعاء المؤمنين حين قالوا : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فقال الله عز وجل : " قد فعلت " .
فلو نسي إنسان صلاة فلا إثم عليه بنسيانه ، لكن يجب عليه قضاؤها إذا تذكرها ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك" .
وكذلك لو نسي الصائم فأكل أو شرب فلا إثم عليه ، وليتم صومه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " .
قوله : ( لا من جهة الضمان في المتلفات ) أي : أن النسيان والجهل ليس عذراً فيما يتعلق بحقوق المخلوقين ، فلو أن رجلاً استودع أمانة فتركها في موضع ناسياً فذهبت عليه وجب عليه الضمان ، لأن الله تعالى يقول : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } ، والله تعالى أعلم .
(9) فصل
قول الصحابي وحجيته
( قال : قول الصحابي – وهو من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على الإيمان – إذا اشتهر ولم ينكر ، بل أقره الصحابة عليه : فهو إجماع، فإلم يعرف اشتهاره، ولم يخالفه غيره : فهو حجة على الصحيح ، فإن خالفه غيره من الصحابة لم يكن حجة ) .
قول الصحابي هو : ما صدر عن الصحابي من قول أو فعل أو تقرير ونحو ذلك فيما لا نص فيه من الكتاب والسنة .
والصحابي هو : من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك .
فذكر قيدين :
الأول : أن يكون حال اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً وهذا يخرج من اجتمع به أو رآه وهو كافر كأبي جهل وغيره ، وإن آمن ولم يجتمع به فليس بصحابي كالنجاشي .(1/108)
الثاني : أن يموت على الإيمان ، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن حجر وغيره ، ويرى بعضهم أنه لا حاجة له ، لأنه قيد اتفاقي ، لا يضر خلو التعريف منه ، لأن مرادهم ألا يظهر منه رده ، فمن ارتد ورجع فهو صحابي كالأشعث بن قيس ، فإنه ارتد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تاب ، ومن مات على ردته فليس بصحابي ، كعبد الله بن خطل ، قتل يوم الفتح ، وربيعة بن أمية بن خلف ، ارتد في زمن عمر رضي الله عنه ، ومات على الردة .
أفاد المؤلف رحمه الله أن قول الصحابي ينقسم إلى قسمين :
الأول : أن يشيع وينتشر ولا يعرف له مخالف : وهذا ما يعرف بالإجماع السكوتي ، وسبق الخلاف في ذلك .
الثاني : ألا يشيع وينتشر : يعني الصحابي قال قولاً لكن هذا القول لم يشع ولم ينتشر فهذا تحته أقسام :
الأول : أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه فهذا نقول : بأنه حجة .
الثاني : أن يخالف نصاً من القرآن أو السنة فهذا غير حجة .
الثالث : أن يخالف قول صحابي آخر فهذا ليس حجة .
الرابع : ما عدا ذلك : هل هو حجة ؟ هذا موضع خلاف .
الرأي الأول : ما ذهب إليه جمهور أهل العلم : أنه حجة ودليل ذلك أن الله عز وجل أثنى على الصحابة ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أثنى على صحابته ، فقال الله : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
وقال عليه الصلاة والسلام : " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " . وقال عليه الصلاة والسلام : " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " .
الرأي الثاني : أن الحجة هو قول الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .
الرأي الثالث : أن قول الصحابي ليس حجة ، وهذا قول الشافعي في الجديد وقال به الغزالي والجويني وغيرهم .(1/109)
واستدلوا على ذلك : بأن الصحابة بشر قد يرد عليهم ما يرد على غيرهم من الخطأ ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في بعض المسائل : من ذلك : اختلفوا في تيمم الجنب وفي بيع أمهات الأولاد ، وفي إرث الإخوة مع الجد ...
والصواب في هذه المسألة : هو الرأي الأول وأن قول الصحابي حجة بالضوابط السابقة .
(10) فصل
الأمر والنهي ، ألفاظ العموم ، الاجتهاد والتقليد
( قال : الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده ، ويقتضي الفساد إلا إذا دل الدليل على الصحة ، والأمر بعد الحضر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك ، والأمر والنهي يقتضيان الفور :
ولا يقتضي الأمر التكرار إلا إذا علق على سبب ، فيجب أو يستحب عند وجود سببه ).
قوله : ( الأمر بالشيء نهي عن ضده ، والنهي عن الشيء أمر بضده ) .
هاتان مسألتان :
الأولى : الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده : فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول : من حيث اللفظ والصيغة فالأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده لفظاً ، لأن صيغة افعل ليست كصيغة لا تفعل .
الثاني : من حيث المعنى : يقول المؤلف رحمه الله : بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وذلك كقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول } فالأمر بإقامة الصلاة نهي عن تركها ، والأمر بإيتاء الزكاة نهي عن تركها والأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهي عن معصيته .
المسألة الثانية : النهي عن الشيء أمر بضده .
كقوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى } فهو نهيٌ في اللفظ عن قرب الزنا ، وأمربما يتم به الاستعفاف من حيث المعنى من النكاح أو الصوم أو بمجرد ترك الزنا وبهذا يتبين أن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده ، فالنهي عن القيام أمر بواحد من القعود أو الاضطجاع أو غيرهما، الحصول الامتثال بذلك الواحد.
قوله : ( ويقتضي الفساد إلا إذا دل الدليل على الصحة ) .
هذه المسألة لا تخلو من أحوال :(1/110)
الأولى : أن يتوجه النهي إلى ذات المنهي عنه إلى ذات العبادة أو ذات العقد ، فنقول : بأنه يقتضي الفساد .
من أمثلة ذلك في العبادة : النهي عن الصلاة في أوقات النهي نقول : بأنه يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد، وأيضاً : النهي عن صوم يوم العيدين ، نقول: بأنه يعود إلى ذات المنهي عنه فيقتضي الفساد .
ومثاله في العقد : قول الله : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وقول الله : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ... } وأيضاً : ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ...
وأيضاً : النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الميتة : فهذه الأشياء يعود النهي فيها إلى ذات العقد فنقول : بأنه يقتضي الفساد .
الثانية : أن يتوجه النهي إلى شرط العبادة أو المعاملة على وجهٍ يختص بها ، فنقول : بأنه يقتضي الفساد .
مثال ذلك في شرط العبادة : لو صلى ولم يستر عورته النهي هنا يعود إلى شرط العبادة على وجه يختص بها .
مثال ذلك في شرط العقد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر والملاقيح والمضامين ، وأيضاً : إذا كان الثمن أو المثمن مجهولاً ، هنا عاد إلى شرط العقد على وجه يختص به فنقول : بأنه يقتضي الفساد .
الثالث : أن يتوجه النهي إلى شرط العبادة أو المعاملة على وجهٍ لا يختص بها: فهذا موضع خلاف :
فالمشهور من المذهب : أنه يقتضي الفساد . والصواب في ذلك : أنه لا يقتضي الفساد .
مثال ذلك : النهي عن الوضوء بماء مغصوب أو مسروق أو التيمم بتراب مغصوب أو مسروق ، أو ستر العورة بثوب محرمة ، أو صلى في أرض مغصوبة ، ونحو ذلك فهنا عاد إلى شرط العبادة على وجهٍ لا يختص بها فنقول:(1/111)
الصواب : أنه لا يقتضي الفساد ، لأن الشارع لم يقل ( لا تصلوا في ثوب مغصوب) أو لا تتوضؤوا بماء مغصوب أو مسروق ، وإنما نهى عموماً عن السرقة والغصب .
الرابع : أن يعود النهي إلى أمر خارج عن العبادة أو العقد فنقول : بأنه لا يقتضي الفساد .
مثال ذلك : لو صلى وعليه عمامة من حرير أو خاتم من ذهب ، فهذا أمر خارج لا يتعلق بالشرط ولا بالعبادة فنقول : بأنه لا يقتضي الفساد .
قوله : ( والأمر بعد الحضر يرده إلى ما كان عليه قبل ذلك ) .
الأمر بعد الحظر ماذا يفيد ؟
هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : ذهب إليه بعض الأصوليين : أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة، مثل : قول الله : { وإذا حللتم فاصطادوا } ، والأصل في الاصطياد أنه مباح ثم بعد ذلك منع منه، ثم بعد ذلك أذن فيه ، فهذا يفيد الإباحة، وقول الله : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } فهذا يفيد الإباحة .
الرأي الثاني : ذهب إليه جمع من الأصوليين واختاره ابن كثير وهو ما ذهب إليه المؤلف : أن الأمر بعد الحضر يرجع إلى ما كان عليه قبل الحضر فإن كان مباحاً فهو مباح ، وإن كان مستحباً فهو مستحب ، وإن كان واجباً فهو واجب.
ومن أمثلة ذلك :
في المباح : الصيد قبل الإحرام كان جائزاً ، فمنع للإحرام بقوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } ، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } .
فيُرجع إلى الإباحة .
مثال المستحب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " وزيارة القبور مستحبة ثم بعد ذلك أمر بزيارتها فيعود الحكم إلى ما كان عليه قبل الحضر وهو الاستحباب .
مثال الواجب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمستحاضة : " إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " ، فالأمر بالصلاة للوجوب ، لأن الصلاة قبل امتناعها بالحيض واجبة وهذا القول هو الصواب .(1/112)
قوله : ( والأمر والنهي يقتضيان الفور ) .
الأمر هل يقتضي الفورية أو لا ؟ هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : ما عليه جمهور الأصوليين : أن الأمر يقتضي الفورية ، واستدلوا على ذلك بأن الله عز وجل أمر بالمسارعة إلى الخيرات فمن ذلك : قول الله : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } وقال تعالى : { فاستبقوا الخيرات } .
ومن السنة : حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يحلقوا وأن ينحروا ويحلوا فتباطؤوا ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الفورية ، وأيضاً : حديث عائشة في حجة الوداع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الصحابة كل من لم يسق الهدي أ، يجعل إحرامه بالحج عمرة فتباطؤوا فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدل ذلك على أن الأمر يقتضي الفورية ، ومن حيث اللغة : لو أن السيد أمر رقيقه بأمر فتباطأ فإنه يحسن لومه .
الرأي الثاني : ما ذهب إليه الشافعية .
أن الأمر لا يقتضي الفورية وأنه يفيد التراخي ، واستدلوا على ذلك : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخّر الحج إلى السنة العاشرة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نام عن صلاة الفجر لم يصلها فوراً وإنما أخرها حتى خرج عن ذلك الوادي .
وأجيب عن ذلك :
أما تأخير الحج ، فإن الحج لم يفرض إلا في السنة التاسعة واحتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخره إلى العاشرة لأن مكة فتحت في السنة الثامنة من الهجرة ، وبعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فاحتاج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يمكث في المدينة في السنة التاسعة لمبايعة الناس على الإسلام واستقبال الوفود ، فأراد ألا تخلو المدينة منه، وأقام على الموسم أبا بكر.(1/113)
وأما تأخير صلاة الفجر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤخرها وإنما خرج عن ذلك المكان فقط لأن ذلك المكان حظر فيه الشيطان ، ولهذا قال العلماء : يستحب للإنسان إذا نام عن الصلاة في مكان ألا يصلي في ذلك المكان ، لأنه مكان حضر فيه الشيطان .
والصواب في ذلك : هو الرأي الأول .
قوله : ( ولا يقتضي الأمر التكرار ... ) .
هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يقيد الأمر بما يفيد عدم التكرار ، فنقول : بأنه لا يقتضي التكرار.
من ذلك : قول الله : { ولله على الناس حج البيت ... } .
وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحج أكلّ عام يا رسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام : " الحج مرة " .
الثاني : أن يقيد الأمر بما يفيد التكرار ، فنقول : بأنه يقتضي التكرار .
من ذلك : قول الله : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } .
فكل ما وجدت والجنابة وجب التطهير ، وقول الله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } فكل ما حصلت السرقة وجب القطع .
الثالث : أن يكون الأمر مطلقاً : فهل يقتضي التكرار ؟
الرأي الأول : ما عليه أكثر الأصوليين : أنه لا يقتضي التكرار وقالوا : بأن اللغة تقتضي ذلك فلو أن الأب أمر ولده بأمر ثم نفذ هذا الأمر ولم يعاود الأمر مرة أخرى نقول : بأنه لا يحسن لومه .
الرأي الثاني : ذهب إليه ابن القيم رحمه الله : أن الأمر المطلق يقتضي التكرار ، واستدل على ذلك باستقراء أدلة الشرع ، فإنه حسب استقراء أدلة الشرع أن الأوامر المطلقة تقتضي التكرار مثل : قول الله : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } .
والأقرب : هو الرأي الأول .
( قال : والأشياء المخير فيها إن كان للسهولة على المكلف ، فهو تخيير رغبة واختيار ، وإن كان لمصلحة ما ولي : فهو تخيير يجب تعيين ما ترجحت مصلحته ) .
ذكر الشيخ في هذه المسألة أن الأشياء المخير فيها نوعان :(1/114)
الأول : أن يكون التخيير مقصوداً به التسهيل على المكلف ، فيكون التخيير تخيير رغبة واختيار ، كخصال الكفارة من إطعام أو كسوة أو عتق ، وكفدية الأذى وهي صيام أو صدقة أو نسك .
الثاني : ا، يكون المقصود من التخيير مصلحة الغير فهو تخيير يجب فيه ما ترجحت مصلحته .
مثل : تخيير ملتقط الحيوان في حول تعريفه بين حفظه والإنفاق عليه ليرجع على صاحبه إذا وجده وبين بيعه وحفظ ثمنه ، وبين أكله بعد أن يقومه على نفسه ، ومن ذلك : تصرفات ولي اليتيم وناظر الوقف والوصي وغيرهم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الوكيل والولي في البيع والشراء، عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله " .
ويقول أيضاً : " سائر ما خير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية ، كناظر الوقف ، ووصي اليتيم والوكيل المطلق ، لا يجيزون تخيير سيئه وشهوه بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب الجواز والأصلح ... " .
( قال : وألفاظ العموم -0 ككل ، وجميع ، والمفرد المضاف، والنكرة في سياق النهي أو النفي أو الاستفهام أو الشرط ، والمعرف بأل الدالة على الجنس أو الاستغراق – كلها تقتضي العموم .
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ويراد بالخاص العام وعكسه ، مع وجود القرائن الدالة على ذلك .
وخطاب الشارع لواحد من الأمة ، أو كلامه في قضية جزئية : يشمل جميع الأمة وجميع الجزيئات إلا إذا دل الدليل على الخصوص ) .
ذكر الشيخ رحمه الله هنا ست مسائل :
الأولى : تتعلق بألفاظ العموم :
1 – ما دل على العموم بمادته ، مثل : ( كل ، وجميع ) كقوله تعالى :
{ كل نفس ذائقة الموت } ، وقوله تعالى : { وإن كل لما جميع لدينا
محضرون } .
2 – المفرد المضاف ، كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وكذا الجمع المضاف ، كقوله تعالى : { يوصيكم الله في أوالدكم } .(1/115)
3 – النكرة في سياق النهي : كقوله تعالى : { فلا تدعوا مع الله أحداً } أو في سياق النفي ، كقوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } ، أو في سياق الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى : { من إله غير الله يأتيكم بضياء } ، أو في سياق الشرط ، كما في قوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } .
4 – المعرف بأل الدالة على الجنس ، كقوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } ، وقوله تعالى : { إن البقر تشابه علينا } ، أو الدالة على الاستغراق وعلامتها : صحة وقوع ( كل ) موقعها ، كقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، وقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } .
الثانية : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب :
ومعناها : أنه إذا حدث حادثة فورد في حكمها نص بلفظ عام، فإن العبرة بهذا اللفظ العام ، ولا ينظر إلى السبب الخاص ، ,توضيح ذلك أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات :
الأولى : أن يدل دليل على العموم ، فيعم إجماعاً .
ومن أمثلة ذلك : ما ورد عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امراة قبلة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره ، فأنزل الله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات } ، فقال الرجل : ألي هذا؟ قال : (لجميع أمتي كلهم) رواه البخاري ومسلم .
الثانية : أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله العام ، فيختص بما يشبهها ، ولا يعمل به على عمومه .(1/116)
وذلك : كحديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس من البر الصيام في السفر" ، فإن سببه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فرأى زحاماً ، رجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : صائم ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " . فهذا الحديث عام لعموم البر والصيام ، فيدل على انتفاء كل بر عن كل صيام في السفر ، لكن لا يؤخذ بعمومه في الأحوال ، فيحكم على كل صيام في السفر بأنه ليس من البر، وإنما هو خاص بمن يشبه حال الصحابي الذي قيل الحديث بسببه.
والدليل على ذلك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر ، حيث لا يشق عليه ، وهو لا يفعل ما ليس براً .
الثالثة : أن لا يدل دليل على التعميم ولا على التخصيص .
فالراجح : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب سواء كان السبب سؤالاً أو واقعة ، فيجب العمل بعمومه ، ومثاله : ما ورد أن قوماً من الصحابة قالوا : يا رسول الله إنا نركب البحر ولو توضأنا بما معنا من الماء عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
فصيغة العموم ، وهي قوله : " هو الطهور ماؤه " تدل بعمومها على أن ماء البحر مطهر كل أنواع التطهير في حال الضرورة والاختيار ، ولا عبرة بورود السؤال عن شيء خاص ، وهو الوضوء ، ولا بكون السؤال ورد في حال الضرورة ، وهو خشية العطش .
الثالثة : أنه يأتي النص الخاص ويراد به العامإذا وجد قرينة تدل على ذلك ، كقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } فهذا خاص ، لأنه خطاب موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنه يراد به العام ، وكقوله تعالى : { فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما } فخصّ التأفيف بالنهي عنه ، والمراد النهي عن جميع أنواع الأذى.(1/117)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " جمهور علماء الأمة أن الله إذا أمر نبيه بأمر أو نهاه عن شيء كانت أمته أسوة له في ذلك ، ما لم يقم دليل على اختصاصه بذلك " .
ومن الأمثلة أيضاً : قوله تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } فإن الخطاب في هذه الآيات وهي آيات الحجاب – وإن كان لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو عام لجميع نساء الأمة .
الرابعة : أنه يأتي العام ويراد به الخاص بالشرط المذكور ، كقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت ... } .
فالناس في هذه الآية عام يراد به خصوص المكلفين ، لأن الشرع والعقل يقضيان بخروج الصبيان والمجانين .
وكقوله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } فهنا لفظان عامان يراد بهما خصوص القادرين ، كما ذكر ذلك الشافعي رحمه الله وذكر أمثلة أخرى .
الخامسة : أن خطاب الشارع لواحد من الصحابة ، يشمل جميع المكلفين ، ولا يختص بذلك الصحابي ، إلا بدليل يدل على التخصيص .
من أمثلة ذلك : قول علي رضي الله عنه : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد " رواه مسلم .
ومن الأمثلة أيضاً : حديث قيس بن عاصم رضي الله عنه : "أنه لما أسلم أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل بماء وسدر " .
ودليل هذا التعميم النص والقياس ، أما النص فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " .
وأما القياس : فإن قياس غيرا لمخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي .(1/118)
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون في أحكامهم العامة إلى أحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان بعضها توجه إلى صحابي واحد كحديث عائشة رضي الله عنها لما حاضت صفية – رضي الله عنها – وفي تفويض المهر إلى قصة بروع بنت واشق رضي الله عنها وفي حكم السكنى للمبتوتة إلى حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، وفي حد الزاني إلى قصة ماعز رضي الله عنه وغير ذلك.
السادسة : أن كلام الشارع في قضية جزئية يشمل جميع الجزئيات ، وذلك مثل : ( نهى عن بيع الغرر ) . وقول الصحابي : ( قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة للجار ) ، فهذا يعم كل غرر وكل جار ، وذلك لأن الصحابي الناقل لذلك عدل ضابط فلا يروي ما يدل على العموم إلا وهو جازم بالعموم ، وقد كان الصحابة يحتجون بمثل ذلك دون نكير ، وقد رجع ابن عمر إلى حديث رافع بن خديج : "نهى رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة" رواه البخاري ومسلم .
قوله : ( إلا إذا دل دليل على الخصوص ) .
أي : أن ما خوطب به الصحابي لا يختص به إلا إذا دل الدليل على اختصاصه بهذا الحكم كقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة في الأضحية بالجذع من المعز : "تجزئك ولا تجزيء أحداً بعدك" ، ومثل ذلك تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - خزيمة رضي الله عنه بجعل شهادته كشهادتين . رواه البخاري .
قال : تنعقد العقود وتنفسخ بكل ما دل على ذلك من قول أو فعل.
هذه المسألة تتعلق بالعقود من البيع والإجارة والهبة والنكاح وكذا ما يتعلق بالفسوخ ، كفسخ البيع والإجارة ونحو ذلك .(1/119)
ومعنى هذه القاعدة : أن كل ما يدل على مراد المتعاقدين مما تعارف عليه الناس من لفظ أو فعل أو نحوهما انعقد به العقد وهكذا يقال في الفسوخ، بل تنعقد العقود عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال ، ومعلوم أن الألفاظ التي عند العرب ليست هي الألفاظ التي عند غيرهم ويدخل في ذلك ما تعارف الناس عليه من البيع بالمعاطاه من غير إيجاب ولا قبول عند شراء حوائجهم ، وهذا كثير في عصرنا هذا .
وما تقدم معلل بأمرين :
الأول : أن الشرع ذكر العقود ، وليس لها حد في اللغة أو الشرع، فيرجع إلى العرف.
الثاني : أن العقود ليست عبادات يتقيد الإنسان فيها بما ورد، بل هي معاملات يُرجع فيها إلى ما تعارف الناس عليه ، والله أعلم .
( قال : وفعله - صلى الله عليه وسلم - الأصل أن أمته أسوته في الأحكام إلا إذا دل دليل على أنه خاص به ) .
هذه المسألة تتعلق بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد سبق الكلام عليها ، وذكر هنا أن الأصل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله من العبادات والمعاملات، لقوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة } فيجب العمل بمقتضى هذه الآية حتى يقوم الدليل المانع من التأسي، وهو الدال على الخصوصية ، كما في قوله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } فهذه الآية تدل على أن الله تعالى أحلّ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينكح التي تهب له نفسها بدون مهر، وأما غيره - صلى الله عليه وسلم - فلابد من المهر والولي والشهود.
( قال : وإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة : فهو لفسادها، أو نفى بعض ما يلزم فيها : فلا تنفى لنفي بعض مستحباتها ) .
هذه المسألة تتعلق ببيان حكم ما نفاه الشارع ، فإذا نفى الشارع عبادة أو معاملة، فهو إما لفسادها من أصلها، أو لانتفاء بعض ما يلزم فيها من واجبات أو غيرها.(1/120)
ومثال الأول : ( لا صام من صام الأبد ) ، ( لا وصية لوارث ) .
ومثال الثاني : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا نكاح إلا بولي " ، وكل ذلك يدل على الفساد، وذلك لأن النفي قد يكون نفياً للوجود، مثل : لا خالق إلا الله ، وقد يكون نفياً للصحة، مثل : لا صلاة إلا بطهور، وقد يكون نفياً للكمال مثل : لا صلاة بحضرة طعام .
والأصل في نفي الشرع أن يكون نفياً للصحة لا نفياً للكمال إلا بدليل ، ونفي الصحة يلزم منه الفساد ، وهو نفي للوجود الشرعي في الواقع.
قوله : ( فلا تنفي لنفي بعض مستحباتها ) .
أي : أن العمل إذا فُعِل كما أوجبه الله تعالى فإنه لا يصح نفيه لانتفاء شيء من مستحباته التي ليست بواجبة .
وعلى هذا فلا يحكم عليه بالفساد، كما لو ترك المصلي رفع يديه، أو اقتصر على الذكر مرة واحدة ، ونحو ذلك مما يعده الفقهاء من سنن الأقوال والأفعال. والله أعلم .
( قال : المسائل قسمان : مجمعٌ عليها ، فتحتاج إلى تصور وتصوير، وإلى إقامة الدليل عليها ، ثم يحكم عليها بعد التصوير والاستدلال. وقسم فيها خلاف ، فتحتاج مع ذلك إلى الجواب عن دليل المنازع ، هذا في حق المجتهد والمستدل ، وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم .
والتقليد قبول قول الغير عن غير دليل ، فالقادر على الاستدلال على الاجتهاد والاستدلال ، والعاجز عن ذلك عليه التقليد والسؤال ، كما ذكر الله الأمرين في قوله : { فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } والله أعلم.
وصلى الله على محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم ) .
ذكر المؤلف رحمه الله في خاتمة الرسالة ثلاث مسائل :
الأولى : طريقة تقرير الأحكام الشرعية : فإن المسائل قسمان :
الأول : مجمعٌ عليها ، وهذه لها ثلاث مراتب :(1/121)
الأولى : تصور المسألة وتصويرها ، والتصور هو : إدراك الشيء من غير أن يحكم عليه بنفي أو إثبات ، فتصور المسألة هو إدراكها، وأما تصويرها فهو: حصر ضوابطها أو وصفها للغير وصفاً واضحاً .
الثانية : إقامة الدليل عليها ، وهو الاستدلال على المسألة من كتاب أو سنة ، لأن الإجماع لا أن يستند إلى دليل .
الثالثة : الحكم عليها وهذه ثمرة الاستدلال .
مثال ذلك : نفقة الزوجة ، فلابد من تصوير المسألة المعروضة على المفتي ليعرف مقدار ما يجب من النفقة لأن ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والنظر إلى حال الزوجين يساراً وإعساراً، فإذا تقرر ذلك عند المفتي ، استدل عليه بمثل قوله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " .
وقد نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على وجوب نفقة الزوجة على وجها مالم تكن ناشزاً ، وبناء على هذه الأدلة يذكر المفتي وجوب نفقة الزوجة على زوجها ويرجع في تقدير ذلك إلى العرف في ذلك البلد الذي منه السائل.
أما المسائل التي فيها خلاف فنحتاج إلى أربع مراتب ، الثلاث السابقة، والمرتبة الرابعة: الجواب عن دليل المنازع، لأنه بعد تصوير المسألة والاستدلال عليها وبيان حكمها، يبقى دليل المخالف موهناً لدليله وترجيح أحد القولين لابد فيه من الجواب عن دليل المنازع ليظهر ضعفه وقوة دليل المستدل.
ومثال ذلك : أنه يجوز اختلاف نية الإمام والمأموم .
وتصوير المسألة : في مثل ما لو دخل إنسان المسجد والإمام يصلي التراويح فله أن يصلي العشاء خلفه ، فإذا سلم الإمام قام وأتم صلاته ، ودليل ذلك : ما ورد عن جابر أن معاذاً كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة .(1/122)
كما يدل على ذلك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صل بالطائفة الثانية صلاة الخوف وهي له نافلة ، فإنه صلى بالطائفة الأولى ثم سلم ، ثم صلى بطائفة أخرى ثم سلم ، واستدل المخالف بحديث " إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه " رواه البخاري .
والقول الأول أرجح لقوة دليله ، وأما دليل المنازع ففيه جوابان :
الأول : أنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسره بذلك. كما في تمام الحديث.
الثاني : سلمنا أنه عام في اختلاف النيات والأفعال الظاهرة لكنه مخصوص بمثل حديث جابر المذكور . والله أعلم .
قوله : ( وهذا في حق المجتهد والمستدل ) . أي : أن هذا المسلك في بناء الحكم الشرعي هو وظيفة المجتهد وهو الفقيه الذي له القدرة على استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية .
وكذا : المستدل وهو : من يطلب الدليل على حكم شرعي .
قوله : ( وأما المقلد فوظيفته السؤال لأهل العلم ) .
كما في قوله تعالى : { فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } .
والطرق الدالة على من يصلح للفتوى ثلاث :
الأول : الاشتهار ، فمن اشتهر بالعلم والدين ، فإنه يستفتى .
الثاني : إخبار العدل أن فلاناً يستفتى .
الثالث : الانتصاب للفتوى .
قوله : ( والتقليد قبول قول الغير من غير دليل ) .
التقليد في اللغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به .
وأما في الاصطلاح : اتباع قول الغير من غير معرفة دليله .
حكم التقليد : جائز في العامة الذين لا قدرة لهم على الأدلة والاستنباط لقول الله : { فاسألوا أهل الذكر } .
والتقليد يشترط له شروط :
الأول : أن يكون جاهلاً عاجزاً عن معرفة حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : أن يقلد من عرف بالعلم والاجتهاد من أهلا لدين والصلاح .
الثالث : ألا يخالف التقليد الإجماع أو النص الصحيح الصريح .
الرابع : ألا يتبين له الحق .(1/123)
الخامس : ألا يلتزم مذهباً معيناً بل عليه أن يتحرّ في كل مسألة وأن يقلد فيها.
ومخالفة هذهالشروط يترتب عليها ما يسمى بالتقليد المذموم.
مسألة : هل يلزم العامي بمذهب معين أو لا يلزمه ؟
الرأي الأول : أنه لا يلزمه .
الرأي الثاني : أنه يلزمه .
الصواب في ذلك : أنه لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين ، لكن يجوز له أن يتمذهب بشرطين :
الأول : إذا لم يستطع أن يتعلم دينه إلا بالتزام مذهب معين ، جاز له أن يتمذهب.
الثاني : أن يترتب على التمذهب بمذهبٍ معين فساد عظيم لا يتمكن دفعه إلا بذلك .
وإذا تمذهب بمذهب معين فعليه أن يراعي الأمور الآتية :
الأولى : ألا يتخذ ذلك دعوة يدعو إليها ، يوالي من أجلها ..
الثاني : ألا يعتقد أنه يجب على جميع الناس اتباع شخص بعينه .
الثالث : أن يعتقد أن هذا الإمام الذي تابعه ليس له من الطاعة إلا أنه مبلغٌ عن الله ورسوله وليس له الطاعة المطلقة .
الرابع : ا، يحترز عن الوقوع في أخطاء بعض المتمذهبين ، مثل : التعصب والتفرق والانتصار بالأحاديث الضعيفة والإعراض عن الوحي.
قوله : ( فالقادر على الاستدلال عليه الاجتهاد والاستدلال ) :
أي أن الناس صنفان :
الأول : قادر على الاستدلال ، والمراد به : المجتهد ، فهذا لا يجوز له التقليد، بل لابد أن يستنبط الحكم الشرعي من الدليل نفسه ، إلا أن ينزل به حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها ، فيجوز له أن يقلد حينئذ للضرورة وكذا لو عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزاً حقيقياً أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة .
الثاني : العاجز عن الاستدلال فهذا عليه أن يسأل أهل العلم ، أو يقلد غيره من أهل العلم ، لكن لا يرتبط برجلٍ معين ، بل يسأل عالماً في مسألة ، ويسأل غيره في أخرى فيكون مذهبه مذهب من يستفتيه .
مسألة : إذا كان في البلد مجتهدان أو مجتهدون : فهل للعامي ا، يتخير أو ليس له أن يتخير ؟(1/124)
الرأي الأول : قال بعض العلماء : أنه يجب عليه أن يسأل الأعلم والأروع يعني : أوثق العالمين علماً وورعاً كما أنه في مرضه البدني يجب عليه أن ينظر إلى أوثق الطبيبين .
الرأي الثاني : أنه لا يجب عليه أن يتحرّ ، وإنما له أن يتخير .
والصواب في هذه المسألة : أنه ليس له أن يتخير ، لأن المفتين كثروا والنسا يتفاوتون في العلم .
مسألة : إذا تساوى عنده عالمان في الدين والعلم ، فهل له أن يتخير من أقوالهم أو يأخذ بالأشد ؟
الرأي الأول : أن له أن يتخير من أقوالهم .
الرأي الثاني : أنه يأخذ بالأشد ، وهذا قول الظاهرية والخطيب.
والأقرب : أنه يتخير من أقوالهم .
وقوله : ( كما ذكر الله الأمرين في قوله : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ) .
المراد بالأمرين أن القادر يجتهد لقوله : ( أهل الذكر ) ، وأن العاجز يقلد، لقوله تعالى : ( فسألوا ) . والله أعلم .
مسألة : فيما يتعلق بالمجتهد :
الاجتهاد في اللغة : بذل الجهد واستفراغ الوسع لإدراك أمر شاق .
وأما في الاصطلاح فهو : بل الوسع بالنظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية.
والاجتهاد يشترط له شروط :
الأول : أن يكون المجتهد عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة وأصول الفقه ويكفي القدر اللازم لاستنباط الأحكام .
الثاني : أن يكون عالماً بأحوال الرجال لكي يعلم المقبول من غيره وعارفاً بالناسخ والمنسوخ ومواقع الإجمال .
الثالث : أن يكون عارفاً بتفسير الآيات الواردة في الأحكام .
الرابع : أن يستند في اجتهاده إلى دليل .
الخامس : أن يبذل جهده قدر المستطاع .
السادس : ألا تكون المسألة منصوصاً عليها أو في معنى المنصوص .
السابع : أن تكون من النوازل أو مما يمكن وقوعه والحاجة إليه ماسة .
الثامنة : أن يكون عارفاً بالواقعة مدركاً لأحوالها.(1/125)