شرح ثلاثة الأصول
لشيخ الاسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب
شرح
محمد بن صالح العثيمين
بسم(1) الله(2) الرحمن(3) الرحيم(4) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أبتدأ المؤلف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بكتاب الله عز وجل مبدوء بالبسملة ، واتباعاً لحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر"(1) واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يبدأ كتبه بالبسملة.
الجار والمجرور متعلق بمحذوف فعل مؤخر مناسب للمقام تقديره بسم الله أكتب أو أصنف.
وقدرناه فعلاً لأن الأصل في العمل الأفعال.
وقدرناه مؤخراً لفائدتين:
الأولى: التبرك بالبداءة باسم اله سبحانه وتعالى.
الثانية: إفادة الحصر لأن تقديم المتعلق يفيد الحصر.
وقدرناه مناسباً لأنه أدل على المراد فلو قلنا مثلاً عندما نريد أن نقرأ كتاباً بسم الله نبتدئ ، لكن بسم الله أقرأ يكون أدل على المراد الذي أبتدئ به.
(2) الله علم على الباري جل وعلا وهو الاسم الذي تتبعه جميع الأسماء حتى إنه في قوله تعالى:
( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد*الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ( {سورة إبراهيم، الآية: 1-2} لا نقول إن لفظ الجلالة "الله" صفة بل نقول هي عطف بيان لئلا يكون لفظ الجلالة تابعاً تبعية النعت للمنعوت.
(3) الرحمن اسم من الأسماء المختصة بالله عز وجل لا يطلق على غيره والرحمن معناه المتصف بالرحمة الواسعة.
(4) الرحيم يطلق على الله عز وجل وعلى غيره ، ومعناه ذو الرحمة الواصلة ، فالرحمن ذو الرحمة الواسعة، والرحيم ذو الرحمة الواصلة فإذا جمعا صار المراد بالرحيم الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده كما قال الله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون( {سورة العنكبوت، الآية: 21} .(1/1)
أعلم (1) رحمك الله(2) أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل (3)؛ الأولى: العلم وهو : معرفة الله(4) ..
(1) العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً.
الأولى: العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً.
الثانية: الجهل البسيط وهو عدم الإدراك بالكلية.
الثالثة: الجهل المركب وهو إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه.
الرابعة: الوهم وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح.
الخامسة: الشك وهو إدراك الشيء مع احتمال مساو.
السادسة: الظن وهو إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح.
والعلم ينقسم إلى قسمين: ضروري ونظري.
فالضروري ما يكون إدراك المعلوم فيه ضرورياً بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال كالعلم بأن النار حارة مثلاً.
والنظري ما يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في الوضوء.
(2) رحمك الله أفاض عليك من رحمته التي تحصل بها على مطلوبك وتنجو من محذورك ، فالمعنى غفر الله لك ما مضى من ذنوبك ، ووفقك بالمغفرة فالمغفرة لما مضى من الذنوب، والرحمة والتوفيق للخير والسلامة من الذنوب في المستقبل.
وصنيع المؤلف رحمه الله تعالى يدل على عنايته وشفقته بالمخاطب وقصد الخير له.
(3) هذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى تشمل الدين كله فهي جديرة بالعناية لعظم نفعها.
(4) أي معرفة الله عز وجل بالقلب معرفة تستلزم قبول ما شرعه والإذعان والأنقياد له، وتحكيم شريعته التي جاء بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتعرف العبد على ربه بالنظر في الآيات الشرعية في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
والنظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ، فإن الإنسان كلما نظر في تلك الآيات ازداد علماً بخالقه ومعبودة قال الله عز وجل: ( وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون( {سورة الذاريات، الآيتين: 20-21} .
ومعرفة نبيه (1) ومعرفة دين الإسلام(2) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/2)
(1) أي معرفة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم المعرفة التي تستلزم قبول ما جاء به من الهدى ودين الحق، وتصديقه فيما أخبر، وامتثال أمره فيما أمر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتحكيم شريعته والرضا بحكمه قال الله عز وجل: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً( {سورة النساء الآية: 65}. وقال تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون( {سورة النساء: 59}. وقال عز وجل: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ( {سورة النور، الآية: 63}. قال الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري ما الفتنة؟
الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
(2) قوله معرفة دين الإسلام: الإسلام بالمعنى العام هو التعبد لله بما شرع منذ أن ارسل الله الرسل إلى أن تقوم الساعة كما ذكر عز وجل ذلك في آيات كثيرة تدل على أن الشرائع السابقة كلها إسلام لله عز وجل: قال الله تعالى عن إبراهيم: ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة( {سورة البقرة، الآية: 128}.
والإسلام بالمعنى الخاص بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يختص بما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم لأن ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الأديان السابقة فصار من أتبعه مسلماً ومن خالفه ليس بمسلم ، فأتباع الرسل مسلمون في زمن رسلهم ، فاليهود مسلمون في زمن موسى صلى الله عليه وسلم والنصارى مسلمون في زمن عيسى صلى الله عليه وسلم ، وأما حين بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به فليسوا بمسلمين.(1/3)
وهذا الدين الإسلامي هو الدين المقبول عند الله النافع لصاحبه قال الله عز وجل ( إن الدين عند الله الإسلام( {سورة آل عمران، الآية: 19}، وقال: ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين( {آل عمران، الآية: 85} وهذا الإسلام هو الإسلام
الذي امتن به على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، قال الله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً( {سورة المائدة، الآية:3}.
بالأدلة(1) الثانية العمل به (2) . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) قوله: بالأدلة جميع دليل وهو ما يرشد إلى المطلوب ، والأدلة على معرفة ذلك سمعية ، وعقلية ، فالسمعية ما ثبت بالوحي وهو الكتاب والسنة، والعقلية ما ثبت بالنظر والتأمل ، وقد أكثر الله عز وجل من ذكر هذا النوع في كتابه فكم من آية قال الله فيها ومن آياته كذا وكذا وهكذا يكون سياق الأدلة العقلية الدالة على الله تعالى.
وأما معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالأدلة السمعية فمثل قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه( {سورة الفتح ، الآية: 29} الآية. وقوله : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل( {سورة آل عمران، الآية: 144} . بالأدلة العقلية بالنظر والتأمل فيما أتى به من الآيات البينات التي أعظمها كتاب الله عز وجل المشتمل على الآخبار الصادقة النافعة والأحكام المصلحة العادلة، وما جرى على يديه من خوارق العادات ، وما أخبر به من أمور الغيب التي لا تصدر إلا عن وحي والتي صدقها ما وقع منها.
(2) قوله العمل به أي العمل بما تقتضيه هذه المعرفة من الإيمان بالله والقيام بطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه من العبادات الخاصة ، والعبادات المتعدية، فالعبادات الخاصة مثل الصلاة ، والصوم ، والحج ، والعبادات المتعدية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك.(1/4)
والعمل في الحقيقة هو ثمرة العلم ، فمن عمل بلا علم فقد شابه النصارى، ومن علم ولم يعمل فقد شابه اليهود.
الثالثة: الدعوة إليه(1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أي الدعوة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من شريعة الله تعالى على مراتبها الثلاث أو الأربع التي ذكرها الله عز وجل في قوله: ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( {سورة النحل، الآية: 125} والرابعة قوله: ( * ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم( {سورة العنكبوت، الآية: 46}.
ولا بد لهذه الدعوة من علم بشريعة الله عز وجل حتى تكون الدعوة عن علم وبصيرة . لقوله تعالى: ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن أتبعني وسبحن الله وما أنا من المشركين( {سورة يوسف، الآية: 108} والبصيرة تكون فيما يدعو إليه بأن يكون الداعية عالماً بالحكم الشرعي، وفي كيفية الدعوة، وفي حال المدعو.
ومجالات الدعوة كثيرة منها: الدعوة إلى الله تعالى بالخطابة ، وإلقاء المحاضرات، ومنها الدعوى إلى الله بالمقالات ، ومنها الدعوة إلى الله بحلقات العلم ، ومنها الدعوى إلى الله بالتأليف ونشر الدين عن طريق التأليف.
ومنها الدعوة إلى الله في المجالس الخاصة فإذا جلس الإنسان في مجلس في دعوة مثلاً فهذا مجال للدعوة إلى الله عز وجل ولكن ينبغي أن تكون على وجه لا ملل فيه ولا إثقال، ويحصل هذا بأن يعرض الداعية مسألة علمية على الجالسين ثم تبتدئ المناقشة ومعلوم أن المناقشة والسؤال والجواب له دور كبير في فهم ما أنزل الله على رسوله وتفهيمه، وقد يكون أكثر فعالية من إلقاء خطبة أو محاضرة إلقاء مرسلاً كما هو معلوم.(1/5)
والدعوة إلى الله عز وجل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وطريقة من تبعهم بإحسان ، فإذا عرف الإنسان معبوده ، ونبيه ، ودينه ومن الله عليه بالتوفيق لذلك فإن عليه السعي في إنقاذ أخوانه بدعوتهم إلى الله عز وجل وليبشر بالخير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبى طالب رضي الله عنه يوم خيبر: "أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم" (1) متفق على صحته. ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : "من دعا إلى الهدى كان له من الأجل مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الأثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" (2) . وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم أيضاً: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"(3).
الرابعة: الصبر على الأذى فيه (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/6)
(1) الصبر حبس النفس على طاعة الله ، وحبسها عن معصية الله ، وحبسها عن التسخط من أقدار الله فيحبس النفس عن التسخط والتضجر والملل، ويكون دائماً نشيطاً في الدعوة إلى دين الله وإن أوذى ، لأن أذية الداعين إلى الخير من طبيعة البشر إلا من طبيعة البشر إلا من هدى الله قال الله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا( {سورة الأنعام، الآية: 34} وكلما قويت الأذية قرب النصر ، وليس النصر مختصاً بأن ينصر الإنسان في حياته ويرى أثر دعوته قد تحقق بل النصر يكون ولو بعد موته بأن يجعل الله في قلوب الخلق قبولاً لما دعا إليه وأخذاً به وتمسكاً به فإن هذا يعتبر نصراً لهذا الداعية وإن كان ميتاً ، فعلى الداعية أن يكون صابراً على دعوته مستمراً فيها. صابراً على ما يعترضه هو من الأذى ، وهاهم، وها هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول وبالفعل قال الله تعالى: ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون( {سورة الذاريات، الآية: 52} وقال عز وجل: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين( {سورة الفرقان ، الآية: 31} ولكن على الداعية أن يقابل ذلك بالصبر وأنظر إلى قول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم : (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً( {سورة الإنسان ، الآية : 23} كان من المنتظر أن يقال فاشكر نعمة ربك ولكنه عز وجل قال: ( فأصبر لحكم ربك( {سورة الإنسان، الآية: 24} وفي هذا إشارة إن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله مما يحتاج إلى صبر ، وأنظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم حين ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
"اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(1)-فعلى الداعية أن يكون صابراً محتسباً .
والصبر ثلاثة أقسام:
1- 1- صبر على طاعة الله.
2- 2- صبر عن محارم الله.(1/7)
3- 3- صبر على أقدار الله التي يجريها إما مما لا كسب للعباد فيه، وإما مما يجريه الله على أيدي بعض العباد من الإيذاء والاعتداء.
والدليل قوله تعالى: ( و العصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ( (1) . . . . . . .
(1) قوله والدليل على هذه المراتب الأربع قوله تعالى: ( والعصر ( أقسم الله عز وجل في هذه الصورة بالعصر الذي هو الدهر وهو محل الحوادث من خير وشر ، فاقسم الله عز وجل به على أن الإنسان كل الإنسان في خسر إلا من أتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق، والتوصي بالصبر.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- : جهاد النفس أربع مراتب:
إحداها : أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله الله ، فإذا أستكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين" .
فالله عز وجل أقسم في هذه الصورة بالعصر على أن كل إنسان فهو في خيبة وخسر مهما أكثر ماله وولده وعظم قدره وشرفه إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة:
أحدها: الإيمان ويشمل كل ما يقرب إلى الله تعالى من أعتقاد صحيح وعلم نافع
الثاني: العمل الصالح وهو كل قول أو فعل يقرب إلى الله بأن يكون فاعله لله مخلصاً ولمحمد صلى الله عليه وسلم متبعاً.
الثالث: التواصي بالحق وهو التواصي على فعل الخير والحث عليه والترغيب فيه.
الرابع: التواصي بالصبر بأن يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على فعل أوامر الله تعالى، وترك محارم الله ، وتحمل أقدار الله.(1/8)
والتواصي بالحق والتواصي بالصبر يتضمنان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين بهما قوام الأمة وصلاحها ونصرها وحصول الشرف والفضيلة لها : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله( {سورة آل عمران، الآية: 110}.
قال الشافعي -رحمه الله تعالى (1) _: " لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" (2) وقال البخاري -رحمه الله (3) -: "باب العلم قبل القول والعمل" . والدليل قوله تعالى: ( فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك( {سورة محمد ، الآية: 19} ، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل(4) .
(1) الشافعي هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي ، ولد في غزة سنة 150 هـ وتوفي بمصر سنة 204 هـ وهو أحد الأئمة الأربعة على الجميع رحمة الله تعالى .
(2) مراده رحمه الله أن هذه السورة كافية كافية للخلق في الحث على التمسك بدين الله بالإيمان ، والعمل الصالح ، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك، وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة.
وقوله : "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم" لأن العاقل البصير إذا سمع هذه السورة أو قرأها فلا بد أن يسعى إلى تخليص نفسه من الخسران وذلك باتصافه بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
(3) البخاري هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، ولد ببخارى في شوال سنة أربعة وتسعين ومائة ونشأ يتيماً في حجر والدته ، وتوفي رحمه الله في خرتنك بلدة على فرسخين من سمر قند ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين.(1/9)
(4) أستدل البخاري رحمه الله بهذه الآية على وجوب البداءة بالعلم قبل القول والعمل وهذا دليل أثري يدل على أن الإنسان يعلم أولاً ثم يعمل ثانياً ، وهناك دليل عقلي نظري يدل على أن العلم قبل القول والعمل وذلك لأن القول أو العمل لا يكون صحيحاً مقبولاً حتى يكون على وفق الشريعة ، ولا يمكن أن يعلم الإنسان أن عمله على وفق الشريعة إلا بالعمل، ولكن هناك أشياء يعلمها الإنسان بفطرته كالعلم بأن الله إله واحد فإن هذا قد فطر عليه العبد ولهذا لا يحتاج إلى عناء كبير في التعلم ، أما المسائل الجزئية المنتشرة فهي التي تحتاج إلى تعلم وتكريس جهود.
أعلم رحمك الله : أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن، الأولى : أن الله خلقنا(1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . . . .
(1) ودليل ذلك أعني أن الله خلقنا سمعي وعقلي :(1/10)
أما السمعي فكثير ومنه قوله عز وجل: ( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ( {سورة الأنعام، الآية: 2} وقوله: ( ولقد خلقنكم ثم صورناكم( {سورة الأعراف ، الآية: 11} الآية ، وقوله تعالى : (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حما مسنون( {سورة الحجر ، الآية: 15} وقوله : (ومن إياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون( {سورة الروم ، الآية: 29} وقوله: ( خلق الإنسان من صلصال كالفخار( {سورة الرحمن ، الآية: 14} ( الله خلق كل شيء ( {سورة الزمر، الآية: 62}وقوله: ( والله خلقكم وما تعملون( {سورة الصافات، الآية: 96} وقوله: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( {سورة الذاريات ، الآية: 56} إلى غير ذلك من الآيات. أما الدليل العقلي على أن الله خلقنا فقد جاءت الإشارة إليه في قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون( {سورة الطور، الآية: 35} فإن الإنسان لم يخلق نفسه لأنه قبل وجوده عدم والعدم ليس بشيء وما ليس بشيء لا يوجد شيئاً ، ولم يخلقه أبوه ولا أمه ولا أحد من الخلق، ولم يكن ليأتي صدفة بدون موجد؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث ؛ ولأن وجود هذه المخلوقات على هذا النظام والتناسق المتآلف يمنع منعاً باتاً أن يكون صدفة. إذا الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره ، فتعين بهذا أن يكون الخالق هو الله وحده فلا خالق ولا آمر إلا الله، قال الله تعالى: ( ألا له الخلق والأمر( {سورة الأعراف، الآية: 54} ولم يعلم أن أحداً من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه وتعالى إلا على وجه المكابرة كما حصل من فرعون ، وعندما سمع جبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ( {سورة الطور، الآية: 35-37} وكان جبير بن مطعم يومئذ(1/11)
مشركاً فقال: "كاد قلبي أن يطير وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي". (1)
ورزقنا (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أدلة هذه المسألة كثيرة من الكتاب والسنة والعقل أما الكتاب : فقال الله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين( {سورة الذاريات، الآية: 58} وقال تعالى: ( * قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله( {سورة سبأ، الآية: 24} وقوله: ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله( {سورة يونس ، الآية: 31} والآيات في هذا كثيرة .
وأما السنة : فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في الجنين يبعث غليه ملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله ، وعمله وشقي أم سعيد. (2)
وأما الدليل العقلي على أن الله رزقنا فلأننا لا نعيش إلا على طعام وشراب، والطعام والشراب خلقه الله عز وجل كما قال الله تعالى: ( أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجلعناه حطاماً فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفراءيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلته أجاجا فلولا تشكرون( {سورة الواقعة ، الآيات : 63-70} ففي هذه الآيات بيان إن رزقنا طعاماً وشراباً من عند الله عز وجل.
ولم يتركنا هملاً (1) بل أرسل إلينا رسولاً (2) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) هذا هو الواقع الذي تدل عليه الأدلة السمعية والعقلية:(1/12)
أما السمعية فمنها قوله تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو ( {سورة المؤمنين، الآيتين: 115-116} وقوله : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من منى يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقدر على أن يحيى الموتى ( {سورة القيامة، الآيات: 36-40} .
وأما العقل : فلأن وجود هذه البشرية لتحيا ثم تتمتع كما تتمتع الأنعام ثم تموت إلى غير بعث ولا حساب أمر لا يليق بحكمة الله عز وجل بل هو عبث محض ، ولا يمكن أن يخلق الله هذه الخليقة ويرسل إليها الرسل ويبيح لنا دماء المعارضين المخالفين للرسل عليهم الصلاة والسلام ثم تكون النتيجة لا شيء ، هذا مستحيل على حكمة الله عز وجل.(1/13)
(2) أي أن الله عز وجل أرسل إلينا معشر هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً يتلو علينا آيات ربنا ، ويزكينا ، ويعلمنا الكتاب والحكمة ، كما ارسل إلى من قبلنا، قال الله تبارك وتعالى: ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( {سورة فاطر ، الآية : 24} ولا بد أن يرسل إلى الخلق لتقوم عليهم الحجة وليعبدوا الله بما يحبه ويرضاه قال الله تبارك وتعالى: (* إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وإتينا داود زبورا* ورسلا قد قصصتهم عليه من قبل ورسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً( {سورة النساء، الآيات: 63-165} ولا يمكن أن نعبد الله بما يرضاه إلا عن طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام لأنهم هم الذين بينوا لنا ما يحبه الله ويرضاه ، وما يقربنا إليه عز وجل فبذلك كان من حكمة الله أن أرسل إلى الخلق رسلاً مبشرين ومنذرين الدليل قوله تعالى: ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً*فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً( {سورة المزمل ، الآيتين: 16.15}.
فمن أطاعه دخل الجنة(1) . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . .(1/14)
(1) هذا حق مستفاد من قوله تعالى: ( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون * وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ( {سورة آل عمران، الآيتين: 132-133} ومن قوله تعالى: ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهر خالدين فيها وذلك الفوز العظيم( {سورة النساء، الآية: 13} ومن قوله تعالى:( ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ( {سورة النور، الآية: 52} وقوله :( ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً( {سورة النساء ، الآية 69}. وقوله: ( ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً( {سورة الأحزاب، الآية : 71} والآيات في ذلك كثيرة ومن قوله صلى الله عليه وسلم "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" فقيل : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار"(1) رواه البخاري.
ومن عصاه دخل النار (1) والدليل قوله تعالى: ( إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً * فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذاً وبيلاً ( {سورة الزمل ، الآيتين: 15-16}.
الثانية: (2) أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل. والدليل قوله تعالى: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً( {سورة الجن، الآية: 18} .
(1) هذا أيضاً حق مستفاد من قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ( {سورة النساء، الآية: 14} وقوله: ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضللاً مبيناً ( {سورة الأحزاب، الآية: 36} وقوله ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ( {سورة الجن، الآية: 23} ومن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "ومن عصاني دخل النار. {سورة الجن، الآية: 18} فنهى الله(1/15)
(2) أي المسألة الثانية مما يجب علينا علمه أن الله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، بل هو وحده المستحق للعبادة ودليل ذلك ما ذكره المؤلف رحمه الله في قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً( {سورة الجن، الآية: 18} فنهى الله تعالى أن يدعو الإنسان مع الله أحداً،
والله لا ينهى عن شيء إلا وهو لا يرضاه سبحانه وتعالى وقال الله عز وجل : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وأن تشكروا يرضه لكم ( {سورة الزمر، الآية: 7} ، وقال تعالى: (فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضاه الله سبحانه وتعالى بل إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لمحاربة الكفر والشرك والقضاء عليهما، قال الله تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله( {سورة الأنفال، الآية: 39} وإذا كان الله لا يرضى بالكفر والشرك فإن الواجب على المؤمن أن لا يرضى بهما ، لأن المؤمن رضاه وغضبه تبع رضا الله وغضبه ، فيغض لما يغضب الله ويرضى بما يرضاه الله عز وجل ، وكذلك إذا كان الله لا يرضى الكفر ولا الشرك فإنه لا يليق بمؤمن أن يرضى بهما. والشرك أمره خطير قال الله عز وجل: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( {سورة النساء ، الآية : 48} وقال تعالى: ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومآواه النار وما للظالمين من أنصار( {سورة المائدة، الآية: 72} وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (1)(1/16)
الثالثة(1) أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب ، والدليل على قوله تعالى: ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا غباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون * ( {سورة المجادلة، الآية: 22}.(1/17)
(1) أي المسألة الثالثة مما يجب علينا علمه الولاء والبراء ، والولاء والبراء أصل عظيم جاءت فيه النصوص الكثيرة قال الله عز وجل: ( يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً( {سورة آل عمران، الآية: 118}. وقال تعالى: ( يأيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين( {سورة المائدة، الآية: 51} وقال سبحانه وتعالى: ( يأيها الذين أمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعباً من الذين أوتوا الكتب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنيين( {سورة المائدة، الآية: 57} وقال تعالى : ( يأيها الذين امنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون * قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال أقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين( {سورة التوبة، الآيتين: 23-24}. وقال عز وجل: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده( {سورة الممتحنة، الآية: 4} الآية. ولأن موالاة من حاد الله ومداراته تدل على أن ما في قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف ؛ لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئاً هو عدو لمحبوبه ، وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على ما هم عليه من الكفر والضلال ، وموادتهم تكون بفعل الأسباب التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق، وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله ، فالواجب على المؤمن معاداة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا لا(1/18)
يمنع نصيحته ودعوته للحق.
أعلم (1) أرشدك الله (2) لطاعته (3) : أن الحنيفية (4) ملة (5) إبراهيم (6) : أن تعبد الله وحده (7) مخلصاً له الدين (8) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) تقدم الكلام على العلم فلا حاجة إلى إعادته هنا.
(2) الرشد : الاستقامة عن طريق الحق.
(3) الطاعة: موافقة المراد فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور .
(4) الحنيفية: هي الملة المائلة عن الشرك ، المبينة على الإخلاص لله عز وجل .
(5) أي طريقه الديني الذي يسير عليه الصلاة والسلام.
(6) إبراهيم هو خليل الرحمن قال عز وجل: ( واتخذ إبراهيم خليلا( {سورة النساء، الآية: 125} وهو أبو الأنبياء وقد تكرر ذكر منهجه في مواضع كثيرة للإقتداء به.
(7) قوله "أن تعبد الله" هذه خبر "أن" في قول "أن الحنيفية" والعبادة بمفهومها العام هي "التذلل لله محبة وتعظيماً بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه". أما المفهوم الخاص للعبادة-يعين تفصيلها- فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "العبادة أسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة كالخوف ، والخشية ، والتوكل والصلاة والزكاة ، والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام.
(8) الإخلاص هو التنقية والمراد به أن يقصد المرء بعبادته وجه الله عز وجل والوصول إلى دار كرامته بحيث لا يعبد معه غيره لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً قال الله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين( {سورة النحل، الآية: 123} . وقال الله تعالى: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفينه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه اسلم قال أسلمت لرب العالمين* ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموت إلا وأنتم مسلمون( {سورة البقرة، الآيات: 130-132}.(1/19)
وبذلك (1) أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال الله تعالى: ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون {سورة الذاريات، الآية: 56} ومعنى يعبدون يوحدون(2) . . . . . . . . . . .. . .
(1) أي بالحنيفة وهي عبادة الله مخلصاً له الدين أمر الله جميع الناس وخلقهم لها ، كما قال الله تعالى: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون( {سورة الأنبياء، الآية : 25} وبين الله عز وطل في كتابه أن الخلق إنما خلقوا لهذا فقال تعالى: ( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون( {سورة الذاريات ، الآية:56} .
(2) يعني التوحيد من معنى العبادة و إلا فقد سبق لك معنى العبادة وعلى أي شيء تطلق وأنها أعم من مجرد التوحيد.
وأعلم أن العبادة نوعان:
عبادة كونية وهي الخضوع لأمر الله تعالى الكوني وهذه شاملة لجميع الخلق لا يخرج عنها أحد لقوله تعالى: ( إن كل من في السموات والأرض إلا إتى الرحمن عبداً( {سورة مريم، الآية: 93} فهي شاملة للمؤمن والكافر، و البر والفاجر .
والثاني : عبادة شرعية وهي الخضوع لأمر الله تعالى الشرعي وهذه خاصة بمن أطاع الله تعالى وأتبع ما جاءت به الرسل مثل قوله تعالى: ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا( {سورة الفرقان، الآية: 63}. فالنوع الأول لا يحمد عليه الإنسان لأنه بغير فعله لكن قد يحصل منه من شكر عند الرخاء وصبر على البلاء بخلاف النوع الثاني فإنه يحمد عليه.
وأعظم ما أمر الله به التوحيد وهو : إفراد الله بالعبادة (1) . . . . . . . . . .. . . . . . . .
(1) التوحيد لغة مصدر وحد يوحد ، أي جعل الشيء واحداً وهذا لا يتحقق إلا بنفي وإثبات ،نفي الحكم عما سوى الموحد وإثباته له فمثلاً نقول: إنه لا يتم للإنسان التوحيد حتى يشهد أن لا إله إلا الله فينفي الألوهية عما سوى الله تعالى ويثبتها لله وحده.(1/20)
وفي الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: "التوحيد هو إفراد الله بالعبادة" أي أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً، لا تشرك به نبياً مرسلاً ، ولا ملكاً مقرباً ولا رئيساً ولا ملكاً ولا أحداً من الخلق ، بل تفرده وحده بالعبادة محبة وتعظيماً ، ورغبة ورهبة، ومراد الشيخ رحمه الله التوحيد الذي بعثت الرسل لتحقيقه لأنه هو الذي حصل به الإخلال من أقوامهم.
وهناك تعريف أعم للتوحيد وهو: "إفراد الله سبحانه وتعالى بما يختص به" .
وأنواع التوحيد ثلاثة:
الأول: توحيد الربوبية وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى بالخلق، والملك والتدبير" قال الله عز وجل: ( الله خلق كل شيء( {سورة الزمر، الآية: 62} وقال تعالى : ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا الله هو( {سورة فاطر، الآية: 3} وقال تعالى: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير( {سورة الملك، الآية: 1} وقال تعالى : ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( {سورة الأعراف، الآية: 54}.
الثاني: توحيد الألوهية وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة بأ، لا يتخذ الإنسان مع الله أحداً يعبده ويتقرب إليه كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه".
الثالث: توحيد الأسماء والصفات وهو "إفراد الله تعالى بما سمى به نفسه ووصف به نفسه في كتابه ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بإثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف، ولا تمثيل".(1/21)
ومراد المؤلف هنا توحيد الألوهية وهو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دمهم وأموالهم وأرضهم وديارهم وسبى نساءهم وذريتهم، ، واكثر ما يعالج الرسل أقوامهم على هذا النوع من التوحيد. قال تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله( {سورة النحل ، الآية: 29}. فالعبادة لا تصح إلا الله عز وجل، ومن أخل بهذا التوحيد فهو مشرك كافر وإن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ، فلو فرض أن رجلاً يقرأ إقراراً كاملاً بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات ولكنه يذهب إلى القبر فيعبد صاحبه أو ينذر له قرباناً يتقرب به إليه فإنه مشرك كافر خالد في النار قال الله تعالى: ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومآواه النار وما للظالمين من أنصار( {سورة المائدة، الآية: 72} وإنما كان التوحيد أعظم ما أمر الله لأنه الأصل الذي ينبني عليه الدين كله، ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله ، وأمر من أرسله للدعوة أن يبدأ به.
وأعظم ما نهى عنه الشرك . وهو : دعوة غيره معه والدليل إلى قوله تعالى: ( * وأعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً( (1) {سورة النساء الآية: 36}.(1/22)
(1) أعظم ما نهى الله عنه الشرك وذلك لأن أعظم الحقوق هو حق الله عز وجل فإذا فرط فيه الإنسان فقد فرط في أعظم الحقوق هو توحيد الله عز وجل قال الله تعالى: ( إن الشرك لظلم عظيم ( {سورة لقمان ، الآية:13} وقال تعالى : ( ومن يشرك بالله فقد أفترى إثماً عظيماً ( {سورة النساء، الآية: 48} وقال عز وجل : ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ( {سورة النساء، الآية: 116} وقال تعالى: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار( {سورة المائدة ، الآية: 72} وقال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء( {سورة النساء الآية: 48} وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أعظم الذنب أن تجعل لله نداً وهو خلقك"(1) . وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم عن جابر، رضي الله عنه: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يدعوا من دون الله نداً دخل النار(1) رواه البخاري واستدل المؤلف رحمه الله تعالى لأمر الله تعالى بالعبادة ونهيه عن الشرك بقوله عز وجل : (*وأعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً( {سورة النساء، الآية: 36} فأمر الله سبحانه وتعالى بعبادته ونهى عن الشرك به، وهذا يتضمن إثبات العبادة له وحده فمن لم يعبد الله سبحانه وتعالى بعبادته ونهى عن الشرك به، وهذا يتضمن إثبات العبادة له وحده فمن لم يعبد الله فهو كافر مستكبر ، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو كافر مشرك ، ومن عبد الله وحده فهو مسلم مخلص. والشرك نوعان : شرك أكبر ، وشرك أصغر.
فالنوع الأول: الشرك الأكبر وهو كل شرك أطلقه الشارع وكان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه.
النوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك ولكنه لا يخرج عن الملة.(1/23)
وعلى الإنسان الحذر من الشرك أكبره وأصغره فقد قال تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به( {سورة النساء الآية : 48} .
فإذا قيل لك: ما الأصول(1) الثلاثة التي يجب على الإنسان . . . . .
معرفتها (2) ؟ فقل : معرفة العبد ربه (3) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) الأصول جمع أصل ، وهو ما يبنى عليه غيره ، ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه ، وأصل الشجرة الذي يتفرغ منه الأغصان ، قال الله تعالى : (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء( {سورة إبراهيم، الآية: 24}.
وهذه الأصول الثلاثة يشير بها المصنف رحمه إلى الأصول التي يسأل عنها الإنسان في قبره : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟
(2) أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذه المسألة بصيغة السؤال وذلك من أجل أن ينتبه الإنسان لها ؛ لأنها مسألة عظيمة وأصول كبيرة ؛ وإنما قال: إن هذه هي الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها لأنها هي الأصول التي يسال عنها المرء في قبره إذا دفن وتولى عنه أصحابه أتاه ملكان فأقعداه فسألاه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد، وأما المرتاب أو المنافق فيقول هاها لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
(3) معرفة الله تكون بأسباب:(1/24)
منها النظر والتفكر في مخلوقاته عز وجل فإن ذلك يؤدي إلى معرفته ومعرفة عظيم سلطانه وتمام قدرته ، وحكمته ، ورحمته قال الله تعالى: ( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء( {سورة الأعراف، الآية: 185}. وقال عز وجل: ( إنما أعظكم بوحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا( {سورة سبأ، الآية: 46} وقال تعالى: ( إن في خلق السموات والأرض وأختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب( {سورة آل عمران، الآية: 190} وقال عز وجل: ( وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون( {سورة يونس ، الآية: 6} وقال سبحانه وتعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( {سورة البقرة ، الآية: 164}.
ومن أسباب معرفة العبد ربه النظر في آياته الشرعية وهي الوحي الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام فينظر في هذه الآيات وما فيها من المصالح العظيمه التي لا تقوم حياة الخلق في الدنيا ولا في الآخرة إلا بها ، فإذا نظر فيها وتاملها وما اشتملت عليه من العلم والحكمة ووجد انتظامها موافقتها لمصالح العباد عرف بذلك ربه عز وجل كما قال الله عز وجل : ( أفلا يتدبرون القرءان ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه أختلفا كثيراً( {سورة النساء، الآية: 82} .
ومنها ما يلقى الله عز وجل في قلب المؤمن من معرفة الله سبحانه وتعالى حتى كأنه يرى ربه رأي العين قال النبي عليه الصلاة والسلام ن حين ساله جبريل مال الإحسان ؟ قال : "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". (1)(1/25)
(1) أي معرفة الأصل الثاني وهو دينه الذي كلف العمل به ما تضمنه من الحكمة والرحمة ومصالح الخلق، ودرء المفاسد عنها ، ودين الإسلام من تأمله حق التأمل تأملاً مبيناً على الكتاب والسنة عرف أنه دين الحق، وأنه الدين الذي لا تقوم مصالح الخلق إلا به ، ولا ينبغي أن نقيس الإسلام بما عليه المسلمون اليوم، فإن المسلمين قد فرطوا في أشياء كثيرة وارتكبوا محاذير عظيمة حتى كأن العائش بينهم في البلاد الإسلامية يعيش في بعض البلاد الإسلامية يعيش في جو غير إسلامي.
والدين الإسلامي -بحمد الله تعالى- متضمن لجميع المصالح التي تضمنتها الأديان السابقة متميز عليها بكونه صالحاً لكل زمان ومكان وأمة ، ومعنى كونه صالحاً لكل زمان ومكان وأمة : أن التمسك به لا ينافي مصالح الأمة في أي زمان ومكان أمة ، فدين الإسلام يأمر بكل عمل صالح وينهي عن كل عمل سيء فهو يأمر بكل خلق فاضل ، وينهى عن كل خلق يافل.
ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم (1)
فإذا قيل لك : من ربك(2) ؟ فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه(3) ، . . . .
(1) هذا هو الأصل الثالث وهو معرفة الإنسان نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، وتحصل بدراسة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من العبادة ، والأخلاق ، والدعوة إلى الله عز وجل ، والجهاد في سبيله وغير ذلك من جوانب حياته عليه الصلاة والسلام ، ولهذا ينبغي لكل إنسان يريد أن يزداد معرفة بنبية وإيماناً به أن يطالع من سيرته ما تيسر في حربه وسلمه ، وشدته ورخائه وجميع أحواله نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم ، باطناً وظاهراً ، وأن يتوفانا على ذلك انه وليه والقادر عليه.
(2) أي من هو ربك الذي خلقك ، وأمدك ، وأعدك ، ورزقك .(1/26)
(3) التربية هي عبارة عن الرعاية التي يكون بها تقويم المربى ، ويشعر كلام المؤلف رحمه الله أن الرب مأخوذ من التربية لأنه قال: "الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه" فكل العالمين قد رباهم الله بنعمه وأعدهم لما خلقوا له ، وأمدهم برزقه قال الله تبارك وتعالى في محاورة موسى وفرعون: ( فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( {سورة طه ، الآيتين: 49-50}. فكل أحد من العالمين قد رباه الله عز وجل بنعمه.
ونعم الله عز وجل على عباده كثيرة لا يمكن حصرها قال الله تبارك وتعالى: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( {سورة النحل، الآية: 18} فالله هو الذي خلقك وأعدك ، وأمدك ورزقك فهو وحده المستحق للعبادة .
وهو معبودي ليس لي معبود سواه (1) والدليل قوله تعالى: الحمد لله رب العالمين( (2) {سورة الفاتحة ، الآية: 2} وكل ما سوى الله عالم
(1) أي وهو الذي أعبده وأتذلل له خضوعاً ومحبة وتعظيماً ، أفعل ما يأمرني به، وأترك ما ينهاني عنه ، فليس لي أحد أعبده سوى الله عز وجل ، قال الله تبارك وتعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون ( {سورة الأنبياء الآية: 25} وقال تعالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة( {سورة البينة، الآية: 5}.
(2) أستدل المؤلف رحمه الله لكون الله سبحانه وتعالى مربياً لجميع الخلق بقوله تعالى: ( الحمد لله رب العالمين( {سورة الفاتحة، الآية: 2} يعني الوصف بالكمال والجلال والعظمة لله تعالى وحده.
(رب العالمين( أي مربيهم بالنعم وخالقهم ومالكهم ، والمدبر لهم كما شاء عز وجل.
وأنا واحد من ذلك العالم (1) ، فإذا قيل لك بم عرفت ربك (2) ؟ فقل بآياته ومخلوقاته (3) ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيها وما بينهما (4) .(1/27)
(1) العالم كله من سوى الله ، وسمو عالماً لأنهم علم على خالقهم ومالكهم ومدبرهم ففي كل شيء آية لله تدل على أنه واحد.
وأنا المجيب بهذا واحد من ذلك العالم ، وإذا كان ربي وجب علي أن أعبده وحده.
(2) أي إذا قيل لك: بأي شيء عرفت الله عز وجل؟
فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته.
(3) الآيات : جمع آية وهي العلامة على الشيء التي تدل عليه وتبينه.
وآيات الله تعالى نوعان : كونية وشرعية ، فالكونية هي المخلوقات ، والشرعية هي الوحي الذي أنزله الله على رسله ، وعلى هذا يكون قول المؤلف رحمه الله "بآياته ومخلوقاته" من باب العطف الخاص على العام إذا فسرنا الآيات بأنها الآيات الكونية والشرعية. وعلى كل فالله عز وجل يعرف بآياته الكونية وهي المخلوقات العظيمة وما فيها من عجائب الصنعة وبالغ الحكمة، وكذلك يعرف بآياته الشرعية وما فيها من العدل ، والإشتمال على المصالح ، ودفع المفاسد .
وفي كل شيء له آية ………تدل على أنه واحد
(4) كل هذه من آيات الله الدالة على كمال القدرة، وكمال الحكمة ، وكمال الحكمة، وكمال الرحمة ، فالشمس آية من آيات الله عز وجل لكونها تسير سيراً منتظماً بديعاً منذ خلقها الله عز وجل وإلى أن يأذن الله تعالى بخراب العالم، فهي تسير لمستقر لها كما قال تعالى: ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ( {سورة يس، الآية: 38} وهي من آيات الله تعالى بحجمها واثارها ، أما حجمها فعظيم كبير ، وأما اثارها فما يحصل منها من المنافع للأجسام والأشجار والأنهار ، والبحار وغير ذلك ، فإذا نظرنا إلى الشمس هذه الآية العظيمة ما مدى البعد الذي بيننا وبينها مع ذلك فإننا نجد حرارتها هذه الحرارة العظيمة ، ثم أنظر ماذا يحدث فيها من الإضاءة العظيمة التي يحصل بها توفير أموال كثيرة على الناس فإن الناس في النهار يستغنون عن كل إضاءة ويحصل بها مصلحة كبيرة للناس من توفير أموالهم ويعد هذا من الآيات التي لا ندرك إلا اليسير منها.(1/28)
كذلك القمر من آيات الله عز وجل حيث قدره منازل لكل ليلة منزلة ( والقمر قدرنه منازل حتى عاد كالعرجون القديم( {سورة يس، الآية: 39} فهو يبدو صغيراً ثم يكبر رويداً حتى يكمل ثم يعود إلى النقص ، وهو يشبه الإنسان حيث أنه يخلق من ضعف ثم لا يزال يترقى من قوة إلى قوة حتى يعود إلى الضعف مرة أخرى فتبارك الله أحسن الخالقين.
والدليل(1) قوله تعالى ( ومن آياته الليل والنهار والشمس ولا للقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون( {سورة فصلت ، الآية: 37} وقوله (2) تعالى: ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة ايام ثم استوى على العرش يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( {سورة الأعراف ، الآية: 54}.
(1) أي والدليل على أن الليل والنهار ، والشمس والقمر من آيات الله عز وجل قوله تعالى
( ومن آياته الليل والنهار( . . . . إلخ أي من العلامات البينة المبينة لمدلولها الليل والنهار في ذاتهما واختلافهما ، وما أودع الله فيهما من مصالح العباد وتقلبات أحوالهم ، وكذلك الشمس والقمر في ذاتهما وسيرهما وانتظامهما وما يحصل بذلك من مصالح العباد ودفع مضارهم .
ثم نهى الله تعالى العباد أ، يسجدوا للشمس أو القمر وإن بلغا مبلغاً عظيماً في نفوسهم لأنهما لا يستحقان العبادة لكونها مخلوقين ، وإنما المستحق للعبادة هو الله تعالى الذي خلقهن.
(2) وقوله أي من الأدلة على أن الله خلق السماوات والأرض( الآية وفيها من آيات الله:
أولاً : إن الله خلق هذه المخلوقات العظيمة في ستة أيام ولو شاء لخلقها بلحظة ولكنه ربط المسببات بأسبابها كما تقتضيه حكمته .
ثانياً : أنه أستوى على العرش أي علا عليه علواً خاصاً به كما يليق بجلاله وعظمته وهذا عنوان كمال الملك والسلطان.(1/29)
ثالثاً : أنه يغشى الليل النهار أن يجعل الليل غشاء للنهار ، أي غطاء له فهو كالثوب يسدل على ضوء النهار فيغطيه.
رابعاً : أنه جعل الشمس والقمر والنجوم مذللات بأمره جل سلطانه يأمرهن بما يشاء لمصلحة العباد .
خامساً : عموم ملكه وتمام سلطانه حيث كان له الخلق والأمر لا لغيره.
سادساً : عموم ربوبيته للعالمين كلهم.
والرب هو المعبود (1) ، والدليل (2) قوله تعالى: ( يأيها الناس (3) أبعدوا ربكم الذي خلقكم (4) والذين من قبلكم لعلكم تتقون (5) الذي
(1) يشير المؤلف رحمه الله تعالى إلى قول الله عز وجل : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( {سورة الأعراف ، الآية: 54}.
(2) أي الدليل على أن الرب هو المستحق للعبادة.
(3) النداء موجه لجميع الناس من بني آدم أمرهم الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له.
وحده لا شريك له فلا يجعلوا له أنداداً، ويبين أنه إنما استحق العبادة لكونه هو الخالق وحده لا شريك له.
(4) قوله ( الذي خلقكم( هذه صفة كاشفة تعلل ما سبق أي أعبدوه لأنه ربكم الذي خلقكم فمن أجل كونه الرب الخالق كان لزاماً عليكم أن تعبدوه ، ولهذا نقول يلزم كل من أقر بربوبية الله أن يعبده وحده وإلا كان متناقضاً.
(5) أي من أجل أن تحصلوا على التقوى ، والتقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله عز وجل بإتباع واجتناب نواهيه.
جعل لكم الأرض فراشاً (1) والسماء بناء (2) وأنزل من السماء ماء (3) فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم (4) فلا تجعلوا لله أنداداً (5) وأنتم تعلمون( (6) {سورة البقرة ، الآيتين: 20-21}.
(1) أي جعلها فراشاً ومهاداً نستمتع فيها من غير مشقة ولا تعب كما ينام الإنسان على فراشه.(1/30)
(2) أي فوقنا الأن البناء يصير فوق السماء بناء لأهل الأرض وهي سقف محفوظ كما قال الله تعالى : ( وجعلنا السماء سقفا محفوظاً وهم عن ءاياتها معرضون( {سورة الأنبياء ، الآية: 32}.
(3) أي أنزل من العلو من السحاب ماء طهوراً كما قال تعالى: ( لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ( {سورة النحل الآية: 10} .
(4) أي عطاء لكم وفي آية أخرى: ( متاعاً لكم ولأنعامكم( {سورة النازعات الآية: 33}.
(5) أي لا تجمعلوا لهذا الذي خلقكم ، وخلق الذين من قبلكم ، وجعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء ، وأنزل لكم من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم لا تجعلوا له أنداداً تعبدونها كما تعبدون الله ، أو تحبونها كما تحبون الله فإن ذلك غير لائق بكم لا عقلاً ولا شرعاً.
(6) أي تعلمون أنه لا ند له وأنه بيده الخلق والرزق والتدبير فلا تجعلوا له شريكاً في العبادة.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى (1) _: "الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة "
وأنواع العبادة التي أمر الله بها (2) : مثل الإسلام، والإيمان،
(1) هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي الحافظ المشهور صاحب التفسير والتاريخ من تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة.
(2) لما بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الواجب علينا أن نعبد الله وحده لا شريك له ، بين فيما يأتي شيئاً من أنواع العبادة مثل الإسلام ، والإيمان ، والإحسان.(1/31)
وهذه الثلاثة الإسلام ، والإيمان ، والإحسان هي الدين كما جاء ذلك فيما رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخديه ، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا اله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلاً . قال صدقت. قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال : فاخبرني عن الإيمان؟ قال أن تؤمن بالله ، وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . قال : فأخبرني عن الساعة؟ قال: مال المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال فأخبرني عن إماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان، ثم أنطلق فلبثت ملياً ثم قال لي ياعمر: أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (1) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء هي الدين وذلك أنها متضمنة للدين كله.(1/32)
والإحسان؛ ومنه الدعاء ، والخوف ، والرجاء ، والتوكل ، والرغبة ، والرهبة ، والخشوع ، والخشية ، والإنابة ، والاستعانة ، والاستعاذة ، والاستغاثة ، والذبح، والنذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها كلها لله تعالى (1) . والدليل قوله تعالى: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً( {سورة الجن ، الآية: 18} ، فمن صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر ، والدليل قوله تعالى: ( ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ( (2) {سورة المؤمنون، الآية: 117}.
(1) أي كل أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده لا شريك له فلا يحل صرفها لغير الله تعالى:
(2) ذكر المؤلف رحمه الله تعالى جملة من أنواع العبادة وذكر أن من صرف منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر واستدل بقوله تعالى: ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً( وبقوله: ( ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون ( ووجه الدلالة من الآية الأولى أن الله تعالى أخبر أن المساجد وهي مواضع السجود أو أعضاء السجود لله ورتب على ذلك قوله: ( فلا تدعوا مع الله أحداً ( أي لا تعبدوا معه غيره فتسجدوا له ، ووجه الدلالة من الآية الثانية بأن الله سبحانه وتعالى بين أن من يدعو مع الله إله آخر فإنه كافر لأنه قال : ( إنه لا يفلح الكافرون الكافرون ( وفي قوله: ( لا برهان له به( صفة كاشفة مبينة للأمر وليست صفة مقيدة تخرج ما فيه برهان لأنه لا يمكن أن يكون برهان على أن مع الله إلها آخر.
وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" . والدليل قوله تعالى: ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( (1) {سورة غافر، الآية: 60}.(1/33)
(1) هذا شروع من المؤلف رحمه الله تعالى في أدلة أنواع العبادة التي ذكرها في قوله: "وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء . . " إلخ، فبدأ رحمه الله بذكر الأدلة على الدعاء وسيأتي إن شاء الله تفصيل أدلة الإسلام والإيمان والإحسان . وأستدل المؤلف رحمه الله بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " الدعاء مخ العبادة (1) واستدل كذلك بقوله تعالى: ( وقال ربكم أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( فدلت الآية الكريمة على أن الدعاء من العبادة ولولا ذلك ما صح أن يقال: ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( فمن دعا غير الله عز وجل بشيء لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر سواء كان المدعو حياً أو ميتاً . ومن دعا حياً بما يقدر عليه مثل أن يقول يا فلان أطعمني ، يا فلان إسقني فلا شيء فيه ، ومن دعا ميتاً أو غائباً بمثل هذا فإنه مشرك لأن الميت أو الغائب لا يمكن أن يقوم بمثل هذا فدعاؤه إياه يدل على أنه يعتقد أن له تصرفاً في الكون فيكون بذلك مشركاً.
وأعلم أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة.
فدعاء المسألة هو دعاء الطلب أي طلب الحاجات وهو عبادة إذا كان من العبد لربه ، لأنه يتضمن الإفتقار إلى الله تعالى واللجوء إليه ، واعتقاد أنه قادر كريم واسع الفضل والرحمة. ويجوز إذا صدر من العبد لمثله من المخلوقين إذا كان المدعو يعقل الدعاء ويقدر على الإجابة كما سبق في قوله القائل يا فلان اطعمني.
وأما دعاء العبادة فأن يتعبد به للمدعو طلباً لثوابه وخوفاً من عقابه وهذا لا يصح لغير الله وصرفه لغير الله شرك أكبر مخرج من الملة وعليه يقع الوعيد في قوله تعالى: ( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( {سورة غافر، الآية: 60}.
ودليل الخوف قوله تعالى: ( فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين( (1) {سورة آل عمران، الآية: 175}(1/34)
(1) الخوف هو الذعر وهو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرراً أو أذى ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان وأمر بخوفه وحده.
والخوف ثلاثة أنواع:
النوع الأولى: خوف طبيعي كخوف الإنسان من السبع والنار والغرق وهذا لا يلام عليه العبد قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: ( فأصبح في المدينة خائفاً يترقب( {سورة القصص، الآية: 18} لكن إذا كان هذا الخوف كما ذكر الشيخ رحمه الله سبباً لترك واجب أو فعل محرم كان حراماً ؛ لأن ما كان سبباً لترك واجب أو فعل محرم فهو حرام ودليل قوله تعالى: ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ( {سورة آل عمران، الآية: 175} .
والخوف من الله تعالى يكون محموداً ، ويكون غير محموداً .
فالمحمود ما كانت غايته أن يحول بينك وبين معصية الله بحيث يحملك على فعل الواجبات وترك المحرمات، فإذا حصلت هذه الغاية سكن القلب واطمأن وغلب عليه الفرح بنعمة الله، والرجاء لثوابه. وغير المحمود ما يحمل العبد على اليأس من روح الله والقنوط وحينئذ يتحسر العبد وينكمش وربما يتمادى في المعصية لقوة يأسه.
النوع الثاني: خوف العبادة أن يخاف أحداً يتعبد بالخوف له فهذا لا يكون إلا لله تعالى. وصرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
النوع الثالث: خوف السر كأن يخاف صاحب القبر ، أو ولياً بعيداً عنه لا يؤثر فيه لكنه يخافه مخافة سر فهذا أيضاً ذكره العلماء من الشرك.
ودليل الرجاء قوله تعالى: ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً( (1) {سورة الكهف، الآية: 110} . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . .
ودليل التوكل قوله تعالى: ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين( {سورة المائدة، الآية: 3} ، وقال: ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه( (2) {سورة الطلاق، الآية: 3} . . . . . . . . . .(1/35)
(1) الرجاء طمع الإنسان في أمر قريب المنال، وقد يكون في بعيد المنال تنزيلاً له منزلة القريب.
والرجاء المتضمن للذل والخضوع لا يكون إلا لله عز وجل وصرفه لغير الله تعالى شرك إما اصغر ، وإما أكبر بحسب ما يقوم بقلب الراجي . وقد أستدل المؤلف بقوله تعالى: ( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً( .
واعلم أن الرجاء المحمود لا يكون إلا لمن عمل بطاعة الله ورجا ثوابها، أو تاب من معصيته ورجا قبول توبته ، فأما الرجاء بلا عمل فهو غرور وتمن مذموم.
(2) التوكل على الشيء الإعتماد عليه. والتوكل على الله تعالى: الإعتماد على الله تعالى كفاية وحسباً في جلب المنافع ودفع المضار وهو من تمام الإيمان وعلاماته لقوله تعالى: ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين( وإذا صدق العبد في اعتماده على الله تعالى.أي كافيه ثم طمأن المتوكل بقوله: ( إن الله بالغ أمره( {سورة الطلاق، الآية: 3} فلا يعجزه شيء أراده. وأعلم أن التوكل أنواع:
الأول: التوكل على الله تعالى وهو من تمام الإيمان وعلامات صدقه وهو واجب لا يتم الإيمان إلا به وسبق دليله.
الثاني: توكل السر بأن يعتمد على ميت في جلب منفعة ، أو دفع مضرة فهذا شرك أكبر ؛ لأنه لا يقع إلا ممن يعتقد أن لهذا الميت تصرفاً سرياً في الكون، ولا فر ق بين أن يكون نبياً ، أو ولياً ، أو طاغوتاً عدوا لله تعالى.(1/36)
الثالث: التوكل على الغير فيما يتصرف فيه الغير مع الشعور بعلو مرتبته وانحطاط مرتبة المتوكل عنه مثل أن يعتمد عليه في حصول المعاش ونحوه فهذا نوع من الشرك الأصغر لقوة تعلق القلب به والإعتماد عليه. أما لو أعتمد عليه على أنه سبب وأن الله تعالى هو الذي قدر ذلك على يده فإن ذلك لا بأس به، إذا كان للمتوكل بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة فهذا لا بأس به بدلالة الكتاب، والسنة ، والإجماع فقد قال يعقوب لبنيه ( يا بني أذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه( {سورة يوسف، الآية: 87} ووكل النبي صلى الله عليه وسلم ،على الصدفة عمالاً وحفاظاً ، ووكل في إثبات الحدود وإقامتها ، ووكل علي بن ابي طالب رضي الله عنه في هديه في حجة الوداع أن يتصدق بجلودها وجلالها ، وأن ينحر ما بقى من المئة بعد أن نحر صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين. وأما الإجماع على جواز ذلك فمعلوم من حيث الجملة.
ودليل الرغبة (1) والرهبة -(2) والخشوع (3) قوله تعالى: ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهباً وكانوا لنا خاشعين ( (4) {سورة الأنبياء، الآية: 90}.
ودليل الخشية قوله تعالى: ( فلا تخشوهم واخشوني( {سورة البقرة، الآية: 150}
(1) الرغبة : محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
(2) والرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخوف فهي خوف مقرون بعمل.
(3) الخشوع: الذل والتطامن لعظمة الله بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي.
(4) في هذه الآية الكريمة وصف الله تعالى الخلص من عباده بأنهم يدعون الله تعالى رغباً ورهباً مع الخشوع له، والدعاء هنا شامل لدعاء العبادة ودعاء المسألة ، فهم يدعون الله رغبة فيما عنده وطمعاً في ثوابه مع خوفهم من عقابه وآثار ذنوبهم ، والمؤمن ينبغي أن يسعى إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، ويغلب الرجاء في جانب الطاعة لينشط عليها ويؤمل قبولها ، ويغلب الخوف إذا هم بالمعصية ليهرب منها وينجو من عقابها.(1/37)
وقال بعض العلماء : يغلب جانب الرجاء في حال المرض وجانب الخوف في حال الصحة؛ لأن المريض منكسر ضعيف النفس وعسى أن يكون قد اقترب أجله فيموت وهو يحسن الظن بالله عز وجل ، وفي حال الصحة يكون نشيطاً مؤملاً طول البقاء فيحمله ذلك على الأشر والبطر فيغلب جانب الخوف ليسلم من ذلك.
وقيل يكون رجاؤه وخوفه واحداً سواء لئلا يحمله الرجاء على الأمن من مكر الله ، والخوف على اليأس من رحمة الله تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء( {سورة فاطر، الآية: 28} أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه فهي أخص من الخوف ، ويتضح الفرق بينهما بالمثال فإذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا فهذا خوف ، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية . ويقال في أقسام أحكام الخوف.
ودليل الإنابة قوله تعالى: ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له( (1) {سورة الزمر ، الآية: 54}
(1) الإنابة الرجوع إلى الله بالقيام بطاعته واجتناب معصيته وهي قريبة من معنى التوبة إلا أنها أرق منها لما تشعر به من الاعتماد على الله واللجوء إليه ولا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى: ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له( .
والمراد بقوله تعالى: ( وأسلموا له( الإسلام الشرعي وهو الاستسلام لأحكام الله الشريعة وذلك أن الإسلام لله تعالى نوعان:
الأول: إسلام كوني وهو الاستسلام لحكمه الكوني وهذا عام لكل من في السماوات والأرض من مؤمن وكافر ، وبر وفاجر لا يمكن لأحد أن يستكبر عنه ودليله قوله تعالى: ( وله اسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرهاً وإليه يرجعون ( {سورة آل عمران، الآية: 83} .
الثاني: إسلام شرعي وهو الاستسلام لحكمه الشرعي وهذا خاص بمن قام بطاعته من الرسل وإتباعهم بإحسان، ودليله في القرآن كثير ومنه هذه الآية التي ذكرها المؤلف رحمه الله.
ودليل الاستعانة قوله تعالى: ( إياك نعبد وإياك نستعين( {سورة الفاتحة الآية: 5} وفي الحديث " إذا استعنت فاستعن بالله"(1) .(1/38)
(1) الإستعانة طلب العون وهي أنواع:
الأول: الإستعانة بالله وهي: الإستعانة المتضمنة لكمال الذل من العبد لربه ، وتفويض الأمر إليه، واعتقاد كفايته وهذه لا تكون إلا لله تعالى ودليلها قوله تعالى: ( إياك نعبد وإياك نستعين( ووجه الاختصاص أن الله تعالى قدم المعمول (إياك( وقاعدة اللغة التي نزل بها القرآن أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والاختصاص وعلى هذا يكون صرف هذا النوع لغير الله تعالى شركاً مخرجاً عن الملة.
الثاني: الإستعانة بالمخلوق على أمر يقدر عليه فهذه على حسب المستعان عليه فإن كانت على بر فهي جائزة للمستعين مشروعة للمعين لقوله تعالى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ( {سورة المائدة، الآية: 2}.
وإن كانت على مباح فهي جائزة للمستعين والمعين لكن المعين قد يثاب على ذلك ثواب الإحسان إلى الغير ومن ثم تكون في حقه مشروعة لقوله تعالى: ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان( {سورة البقرة ، الآية: 195}
الثالث: الاستعانة بمخلوق حي حاضر غير قادر فهذه لغو لا طائل تحتها مثل أن يستعين بشخص ضعيف على حمل شيء ثقيل.
الرابع: الإستعانة بالأموات مطلقاً أو بالأحياء على أمر الغائب لا يقدرون على مباشرته فهذا شرك لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفيا في الكون.
الخامس: الإستعانة بالأعمال والأحوال المحبوبة إلى الله تعالى وهذه مشروعة بأمر الله تعالى في قوله: ( أستعينوا بالصبر والصلواة( {سورة البقرة، الآية: 153}.
وقد أستدل المؤلف رحمه الله تعالى للنوع الأول بقوله تعالى: ( إياك نعبد وإياك نستعين ( {سورة الفاتحة، الآية: 4} وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أستعنت فأستعن بالله".(1)
ودليل الإستعاذة قوله تعالى: ( قل أعوذ برب الفلق( {سورة الفلق، الآية: 1} .
، و ( قل أعوذ برب الناس( (1) {سورة الناس، الآية: 1}.(1/39)
(1) الإستعاذة : طلب الإعاذة والإعاذة الحماية من مكروه فالمستعيذ محتم بمن أستعاذ به ومعتصم به والاستعاذة أنواع:
الأول: الإستعاذة بالله تعالى وهي المتضمنة لكمال الافتقار إليه والاعتصام به واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شيء حاضر أو مستقبل ، صغير أو كبير ، بشر أو غير بشر ودليلها قوله تعالى ( قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق( إلى آخر السورة وقوله تعالى : ( قل أعوذ برب الناس * ملك الناس( * إله الناس من الوسواس الخناس( إلى آخر السورة.
الثاني: الإستعاذة بصفة ككلامه وعظمته وعزته ونحو ذلك ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" (1) وقوله : "أعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي" (2) وقوله : في دعاء الألم "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (3)، وقوله: " أعوذ برضاك من سخطك" (4) ، وقوله صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم ( {سورة الأنعام ، الآية: 65} فقال: "أعوذ بوجهك" (5)
الثالث: الإستعاذة بالأموات أو الأحياء غير الحاضرين القادرين على العوذ فهذا شرك ومنه قوله تعالى: ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً ( {سورة الجن، الآية: 6}
الرابع: الإستعاذة بما يمكن العوذ به من المخلوقين من البشر أو الأماكن أو غيرها فهذا جائز ودليله قوله صلى الله عليه وسلم في ذكر الفتن : "من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذبه" (6) متفق عليه وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا الملجأ والمعاذ بقوله: "فمن كان له إبل فليلحق بإبله" الحديث رواه مسلم، وفي صحيحه أيضاً عن جابر رضي الله عنه أ، امرأة من بني مخزوم سرقت فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بأم سلمة (1) الحديث، وفي صحيحه أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث" (2)
الحديث.(1/40)
ولكن إن استعاذ من شر ظالم وجب إيواؤه وإعاذته بقدر الإمكان ، وإن استعاذ ليتوصل إلى فعل محظور أو الهرب من واجب حرم إيواؤه.
ودليل الإستغاثة قوله تعالى: ( إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم( (1) {سورة الأنفال، الآية: 9}
(1) الإستغاثة طلب الغوث وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك ، وهو أقسام :
الأول: الإستغاثة بالله عز وجل وهذا من أفضل الأعمال وأكملها وهو دأب الرسل وأتباعهم ، ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين( وكان ذلك في غزوة بدر حين نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين في ألف رجل وأصحابه ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً فدخل العريش يناشد ربه عز وجل رافعاً يديه مستقبل القبلة يقول : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة الإسلام لا تعبد في الأرض" (3) وما زال يستغيث بربه رافعاً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر رضي الله عنه رداءه فألقاه على منكبيه ثم ألتزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك وعدك فأنزل الله هذه الآية.
الثاني: الإستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين على الإغاثة فهذا شرك ؛ لأنه لا يفعله إلا من يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفياً في الكون فيجعل لهم حظاً من الربوبية قال الله تعالى: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أله مع الله قليلاً ما تذكرون( {سورة النمل ، الآية: 62}.
الثالث: الاستغاثة بالأحياء العالمين القادرين على الإغاثة فهذا جائز كالاستعانة بهم قال الله تعالى في قصة موسى : ( فاستغاثة الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه( {سورة القصص، الآية: 15}.(1/41)
الرابع: الاستغاثة بحي غير قادر من غير أن يعتقد أن له قوة خفية مثل أن يستغيث الغريق برجل مشلول فهذا لغو وسخرية بمن استغاث به فيمنع منه لهذه العله، ولعلة أخرى وهي الغريق ربما أغتر بذلك غيره فتوهم أن لهذا المشلول قوة خفية ينقذ بها من الشدة.
ودليل الذبح قوله تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له( (1) {سورة الأنعام، الآيتين: 162،163} ومن السنة : "لعن الله من ذبح لغير الله". *
(1) الذبح إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مخصوص ويقع على وجوه
الأول: أن يقع عبادة بأن يقصد به تعظيم المذبوح له والتذلل له والتقرب إليه فهذا لا يكون إلا لله تعالى على الوجه الذي شرعه الله تعالى، وصرفه لغير الله شرك أكبر ودليله ما ذكره الشيخ رحمه الله وهو قوله تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له( .
الثاني: أن يقع إكراماً لضيف أو وليمة لعرس أو نحو ذلك فهذا مأمور به إما وجوباً أو إستحباباً لقوله صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف "أو لم ولو بشاة" (2) .
الثالث: أن يقع على وجه التمتع بالأكل أو الإتجار به ونحو ذلك فهذا من قسم المباح فالأصل فيه الإباحة لقوله تعالى: ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ( {سورة يس، الآيتين: 71، 72} وقد يكون مطلوباً أو منهياً عنه حسبما يكون وسيلة له.
ودليل النذر (1) قوله تعالى: ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً( {سورة الإنسان ، الآية: 7} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أي دليل كون النذر من العبادة قوله تعالى: ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً( .(1/42)
(2) وجه الدلالة من الآية أن الله أثنى عليهم لإيفائهم النذر وهذا يدل على أن الله يحب ذلك ، وكل محبوب لله من الأعمال فهو عبادة.
ويؤيد ذلك قوله : ( ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ( .
وأعلم أن النذر الذي امتدح الله تعالى هؤلاء القائمين به هو جميع العبادات التي فرضها الله عز وجل فإن العبادات الواجبة إذا شرع فيها الإنسان فقد التزم بها ودليل ذلك قوله تعالى: ( ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ( {سورة الحج، الآية: 29} .
والنذر هو إلزام الإنسان نفسه بشيء ما ، أو طاعة لله غير واجبة مكروه ، وقال بعض العلماء إنه محرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهى عن النذر وقال : "إنه لا يأتى بخير وإنما يستخرج به من البخيل" (1) ومع ذلك فإذا نذر الإنسان طاعة لله وجب عليه فعلها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من نذر أن يطيع الله فليطعه" (2) .
والخلاصة أن النذر يطلق على العبادات المفروضة عموماً ، ويطلق على النذر الخاص وهو إلزام الإنسان نفسه بشيء لله عز وجل وقد قسم العلماء النذر الخاص إلى أقسام ومحل بسطها كتب الفقه.
الأصل الثاني: (1) : معرفة دين الإسلام بالأدلة وهو: الإستسلام (2) لله بالتوحيد (3) . . . . .
(1) أي من الأصول الثلاثة : معرفة دين الإسلام بالأدلة يعني أن يعرف دين الإسلام بأدلته من الكتاب والسنة.
(2) دين الإسلام وإن شئت فقل الإسلام هو "الاستسلام لله بالتوحيد والأنقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله" فهو متضمن لأمور ثلاثة.
(3) أي بأن يستسلم العبد لربه استسلاما شرعياً وذلك بتوحيد الله عز وجل وافراده بالعبادة ، وهذا الإسلام هو الذي يحمد عليه العبد ويثاب عليه، أما الاستسلام القدري فلا ثواب فيه لأنه لا حيلة للإنسان فيه قال الله تعالى: ( وله اسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون( {سورة آل عمران، الآية: 83}.(1/43)
والإنقياد له بالطاعة (1) ، والبراءة من الشرك وأهله (2) ؛ وهو ثلاث مراتب (3) : الإسلام ، والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان(4) فأركان الإسلام خمسة (5) :
(1) وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن الطاعة طاعة في الأمر بفعله وطاعة في النهي بتركه.
(2) البراءة من الشرك أي أن يتبرأ منه ، ويتخلى منه وهذا يستلزم البراءة من أهله قال الله تعالى: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده( {سورة الممتحنة ، الآية: 4}
(3) بين المؤلف رحمه الله تعالى أن الدين الإسلامي ثلاث مراتب بعضها فوق بعض وهي الإسلام ، والإيمان ، والإحسان.
(4) دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاء جبريل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإحسان وبين له صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (1)
(5) دليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام" . (1)
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله(1) ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام.
فدليل الشهادة قوله تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم( (2) {سورة آل عمران، الآية : 18}
(1) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ركن واحد وإنما كانتا ركنا واحداً مع أنهما من شقين لأن العبادات تبني على تحقيقهما معاً، فلا تقبل العبادة إلا بالإخلاص لله عز وجل وهو ما تتضمنه شهادة أن محمداً رسول الله .(1/44)
(2) في الآية الكريمة شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو ، وشهادة الملائكة وشهادة أهل العلم بذلك وأنه تعالى قائم بالقسط أي العدل ثم قرر ذلك بقوله : ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم( وفي هذه الآية منقبة عظيمة لأهل العلم حيث أخبر أنهم شهداء معه ومع الملائكة والمراد بهم أولو العلم بشريعته ويدخل فيهم دخولاً أولياً رسله الكرام.
وهذه الشهادة أعظم شهادة لعظم الشاهد والمشهود به، فالشاهد هو الله وملائكته، وأولو العلم ، والمشهود به توحيد الله في ألوهيته وتقرير ذلك ( لا إله إلا هو العزيز الحكيم( .
ومعناها: لا معبود بحث إلا الله ؛ "لا إله" نافياً جميع ما يعبد من دون الله " إلا الله" مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته ، كما أنه لا شريك له في ملكه (1) . . . . . . . . .(1/45)
(1) أي معنى لا إله إلا الله ألا معبود بحق إلا الله فشهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله عز وجل لأنه "إله" بمعنى مألوه، والتأله التعبد ، وجملة " لا إله إلا الله" مشتملة على نفي وإثبات ، أما النفي فهو " لا إله" وأمال الإثبات "إلا الله" و "الله" لفظ الجلالة بدل من خبر " لا " المحذوف والتقدير "لا إله حق إلا الله" وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة "حق" يتبين الجواب عن الإشكال التالي: وهو كيف يقال " لا إله إلا الله" مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله وقد سماها الله تعالى آلهة وسماها عابدوها آلهة قال الله تبارك وتعالى: ( فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك ( {سورة هود ، الآية: 110} وكيف يمكن أن نثبت الألوهية لغير الله عز وجل والرسل يقولون لأقوامهم ( أعبدوا الله ما لكم من إله غيره( ؟ {سورة الأعراف، الآية: 59} والجواب على هذا الأشكال يتبين بتقدير الخبر في " لا إله إلا الله" فنقول : هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة لكنها آلهة باطلة ليست آلهة حقة وليس لها من حق الألوهية شيء ، ويدل لذلك قوله تعالى: ( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه وهو الباطل وأن الله هو العلي(1/46)
الكبير ( { سورة الحج ، الآية: 62} ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: ( أفرءيتم اللات والعزى * ومنوة الثالثة الآخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزي * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ( {سورة النجم ، الآيات: 19-23} وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان( {سورة يوسف الآية: 40} إذن فمعنى " لا إله إلا الله " لا معبود حق إلا الله عز وجل ، فأما المعبودات سواه فإن ألوهيتها التي يزعمها عابدوها ليست حقيقة أي ألوهية باطلة.
وتفسيرها الذي يوضحها ، قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم (1) لأبيه وقومه إنني براء ، قوله تعالى : ( وإذ قال إبراهيم (1) لأبيه وقومه إنني براء (2) مما تعبدون * إلا الذي فطرني (3) فإنه سيهدين (4) وجعلها (5) كلمة باقية في عقبه (6) لعلهم يرجعون (7) ( ، وقوله : ( قل (8) يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة(9) سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله (10) فإن تولوا (11) فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون((12) {سورة آل عمران ، الآية: 64}. . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . .
(1) إبراهيم هو خليل الله إمام الحنفاء، وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأبوه آزر .
(2) (براء) صفة مشبهة بالبراءة وهي أبلغ من بريء . وقوله : ( إنني براء مما تعبدون( يوافي قول " لا إله " .(1/47)
(3) خلقني إبتداء على الفطرة وقوله : ( إلا الذي فطرني ( يوافي قوله "إلا الله" فهو سبحانه وتعالى لا شريك له في ملكه ودليل ذلك قوله تعالى : ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( {سورة الأعراف، الآية: 54} ففي هذه الآية حصر الخلق والأمر لله رب العالمين وحده فله الخلق وله الأمر الكوني الشرعي.
(4) ( سيهدين ( سيدلني على الحق ويوفقني له.
(5) ( وجعلها ( أي هذه الكلمة وهي البراءة من كل معبود سوى الله.
(6) ( في عقبه ( في ذريته.
(7) ( لعلهم يرجعون ( أي إليها من الشرك.
(8) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لمناظرة أهل الكتاب اليهود والنصارى.
(9) ( تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم( هذه الكلمة هي ألا نعبد إلا الله هي معنى "لا إله إلا الله" ، ومعنى ( سواء بيننا وبينكم ( أننا نحن وإياكم سواء فيها.
(10) أي لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله عز وجل بحيث يعظم كما يعظم الله عز وجل ، ويعبد كما يعبد الله ، ويجعل الحكم لغيره.
(11) ( فإن تولوا( أعرضوا عما دعوتموهم إليه.
(7) أي فأعلنوا لهم واشهدوهم أنكم مسلمون لله ، بريئون مما هم عليه من العناد والتولي عن هذه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله" .
ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم (1)عزيز عليه ما عنتم (2) حريص عليكم(3) بالمؤمنين رءوف رحيم( (4) {سورة التوبة ، الآية: 128} .
(1) قوله ( من أنفسكم ( أي من جنسكم بل هو من بينكم أيضاً كما قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ( {سورة الجمعة، الآية: 2} .
(2) أي يشق عليه ما شق عليكم.
(3) أي على منفعتكم ودفع الضر عنكم.(1/48)
(4) أي ذو رأفة ورحمة بالمؤمنين ، وخص المؤمنين بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، وهذه الأوصاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أنه رسول الله حقاً كما دل على ذلك قوله تعالى : ( محمد رسول الله ( {سورة الفتح ، الآية: 29} وقوله تعالى : ( قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ( {سورة الأعراف، الآية: 158} والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً تدل على أن محمداً رسول الله حقاً.
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع (1) .
(1) معنى شهادة "أن محمداً رسول الله" هو الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله - عز وجل - إلى جميع الخلق من الجن والإنس كما قال الله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( {سورة الذاريات، الآية: 56} ولا عبادة لله تعالى إلا عن طريق الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما
قال تعالى: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً( {سورة الفرقان، الآية: 1}(1/49)
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع ، ومقتضى هذه الشهادة أن تصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر ، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع، ومقتضى هذه الشهادة أيضاً أن لا تعتقد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حقاً في الربوبية وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة ، بل هو صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء الله كما قال الله تعالى: ( قل لا أقول لكم عندي خزاءن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم أني ملك إن أبتغ إلا ما يوحى إلي" {سورة الأنعام، الآية: 50}. فهو عبد مأمور يتبع ما أمر به ، وقال الله تعالى: ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجبرني من الله أحد ولن أجد من دون ملتحداً ( {سورة الجن، الآيتين: 21-22} وقال سبحانه : ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ( {سورة الأعراف، الآية: 188} .
وبهذا تعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من دونه من المخلوقين ، وأن العبادة ليست إلا لله تعالى وحده. ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين( {سورة الأنعام، الآيتين: 162-163}. وأن حقه صلى الله عليه وسلم ، أن تنزله المنزلة التي أنزله الله تعالى أياها وهو أنه عبد الله ورسوله ، صلوات الله وسلامه عليه.
ودليل الصلاة ، والزكاة (1) ، وتفسير التوحيد قوله تعالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكاة(2)وذلك(3) دين القيمة ((4) {سورة البينة، الآية: 5}(1/50)
(1) أي أن الصلاة والزكاة من الدين قوله تعالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلواة ويؤتوا الزكاة ( {سورة البينة، الآية: 5}. وهذه الآية عامة شاملة لجميع أنواع العبادة فلا بد أن يكون الإنسان فيها مخلصاً لله عز وجل حنيفاً متبعاً لشريعته.
(2) هذا من باب عطف الخاص على العام ، لأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. من العبادة ولكنه سبحانه وتعالى نص عليهما لما لهما من الأهمية فالصلاة عبادة البدن، والزكاة عبادة المال وهما قرينتان في كتاب الله عز وجل.
(3) أي عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة.
(4) أي دين الملة القيمة التي لا إعوجاج فيها لأنها دين الله عز وجل ودين الله مستقيم كما قال الله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( {سورة الأنعام، الآية: 153}.
وهذه الآية الكريمة كما تضمنت ذكر العبادة والصلاة فقد تضمنت حقيقة التوحيد وأنه الإخلاص لله عز وجل من غير ميل إلى الشرك ، فمن لم يخلص لله لم يكن موحداً ، ومن جعل عبادته لغير الله لم يكن موحداً .
ودليل الصيام (1) قوله تعالى: ( يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون( (2) {سورة البقرة الآية: 183} ، ودليل الحج (3) قوله تعالى: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( (4) {سورة آل عمران، الآية: 97} .
(1) أي دليل وجوبه قوله تعالى: ( يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون( وفي قوله ( كما كتب على الذين من قبلكم ( فوائد:
أولاً : أهمية الصيام حيث فرضه الله عز وجل على الأمم من قبلنا وهذا يدل على محبة الله عز وجل له وأنه لازم لكل أمة.
ثانياً: التخفيف على هذه الأمة حيث إنها لم تكلف وحدها بالصيام الذي قد يكون فيه مشقة على النفوس والأبدان.(1/51)
ثالثاً : الإشارة إلى أ، الله تعالى أكمل لهذه الأمة دينها حيث أكمل لها الفضائل التي سبقت لغيرها.
(2) بين الله عز وجل في هذه الآية حكمة الصيام بقوله ( لعلكم تتقون( أي تتقون الله بصيامكم وما يترتب عليه من خصال التقوى وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفائدة بقوله: "لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(1) .
(3) أي دليل وجوبه قوله تعالى: ( ولله على الناس حج البيت ( إلخ.
وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وبها كانت فريضة الحج ولكن الله عز وجل قال. ( من أستطاع إليه سبيلاً ( ففيه دليل على أن من لم يستطع فلا حج عليه.
(4) في قوله تعالى ( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( دليل على أن ترك الحج ممن أستطاع إليه سبيلاً يكون كفراً ولكنه كفر لا يخرج من الملة على قول جمهور العلماء لقول عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" (1)
المرتبة الثانية(1) : ،الإيمان (2) ،وهو بضع (3) وسبعون شعبة (4) ، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى(5) عن الطريق، والحياء (6) شعبة من الأيمان، . . . . . . . . . . . . . .
(1) أي مراتب الدين .
(2) الإيمان في اللغة التصديق.
وفي الشرع "إعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح وهو بضع وسبعون شبعة" .
(3) البضع: بكسر الباء من الثلاثة إلى التسعة.
(4) الشبعة : الجزء من الشيء.
(5) أي إزالة الأذى وهو ما يؤذي المارة من أحجار واشواك ، ونفايات وقمامة وماله رائحة كريهة ونحو ذلك.
(6) الحياء صفة إنفعالية عند الخجل وتحجز المرء عن فعل ما يخالف المروءة.(1/52)
والجمع بين ما تضمنه كلام المؤلف رحمه الله تعالى من أن الإيمان بضع وسبعون شعبة وأن الإيمان أركانه ستة أن نقول: الإيمان الذي هو العقيدة أصوله ستة وهي المذكورة في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(1)
وأما الإيمان الذي يشمل الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون شبعة ولهذا سمى الله تعالى الصلاة إيماناً في قوله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ( {سورة البقرة، الآية: 143} قال المفسرون يعني صلاتكم إلى بيت المقدس لأن الصحابة كانوا قبل أن يؤمروا بالتوجه إلى الكعبة يصلون إلى بيت المقدس.
وأركانه ستة : أن تؤمن بالله (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجود الله تعالى:
وقد دل على وجوده تعالى: الفطرة ، والعقل ، والشرع والحس.
1- أما دلالة الفطرة على وجوده: فإن كل مخلوق قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم ، ولا ينصرف عن مقتضى هذه الفطرة إلا من طرأ على قلبه ما يصرفه عنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه" (1) .
2- وأما دلالة العقل على وجود الله تعالى : فلأن هذه المخلوقات سابقها ولاحقها لابد لها من خالق أوجدها إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها ، ولا يمكن أن توجد صدقة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها لأن الشيء لا يخلق نفسه ، لأن قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقاً؟(1/53)
ولا يمكن أن توجد صدفة ، لأن كل حادث لابد له من محدث ، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف ، والإرتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها ، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعاً باتاً أن يكون وجودها صدفة ، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها ، ولا أن توجد صدفة تعين أن يكون لها موجد وهو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي والبرهان القطعي في سورة الطور ، حيث قال: ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ( {سورة الطور، الآية: 35} يعني أنهم لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقوا أنفسهم ، فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع - جبير بن مطعم - رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ( {سورة الطور، الآيات: 35-37} وكان - جبير يؤمئذ مشركاً قال : "كاد قلبي أن يطير ، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي" رواه - البخاري - مفرقاً (1) .
ولنضرب مثلاً يوضح ذلك ، فإنه لو حدثك شخص عن قصير مشيد ، أحاطت به الحدائق، وجرت بينها الأنهار ، وملئ بالفرش والأسرة، وزين بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته ، وقال لك: إن هذا القصر وما فيه من كمال قد أوجد نفسه ، أو وجد هكذا صدفة بدون موجد ، لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه ، وعددت حديثه سفها من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع بأرضه وسمائه ، وأفلاكه وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجد نفسه، أو وجد صدفة بدون موجد ؟ !(1/54)
3- وأما دلالة الشرع على وجود الله تعالى : فلأن الكتب السماوية كلها تنطق بذلك ، وما جاءت به من الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق دليل على أنها من رب حكيم عليم بمصالح خلقه، وما جاءت به من الأخبار الكونية التي شهد الواقع بصدقها دليل على أنها من رب قادر على إيجاد ما أخبر به.
4- وأما أدلة الحس على وجود الله فمن وجهين:
أحدهما: أننا نسمع ونشاهد من إجابة الداعين ، وغوث المكروبين ، ما يدل دلالة قاطعة على وجوده تعالى ، قال الله تعالى: ( ونوحاً إذ نادى من قبل فأستجبنا له ( {سورة الأنبياء، الآية: 76} وقال تعالى: ( إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم ( {سورة الأنفال ، الآية: 9} وفي صحيح البخاري عن - أنس بن مالك رضي الله عنه : "أن أعرابياً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: ( يا رسول الله) ، هلك المال ، وجاع العيال ، فادع الله لنا ، فرفع يديه ودعا فثار السحاب أمثال الجبال فلم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته. وفي الجمعة الثانية قام ذلك الأعرابي أو غيره فقال : ( يارسول الله) تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا ، فرفع يديه وقال : "الله حوالينا ولا علينا" ، فما يشير إلى ناحية إلا أنفرجت" (1) .
وما زالت إجابة الداعين أمراً مشهوداً إلى يومنا هذا لمن صدق اللجوء إلى الله تعالى وأتى بشرائط الإجابة.
الوجه الثاني: أن آيات الأنبياء التي تسمى (المعجزات) ويشاهدها الناس ، أو يسمعون بها ، برهان قاطع على وجود مرسلهم ، وهو الله تعالى، لأنها أمور خارجة عن نطاق البشر ، يجريها الله تعالى تاييداً لرسله ونصراً لهم .
مثال ذلك: آية موسى صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى أن يضرب بعصاه البحر ، فضربه فانفلق أثنى عشر طريقاً يابساً ، والماء بينها كالجبال، قال الله تعالى : ( فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فأنفلك فكان كل فرق كالطود العظيم ( {سورة الشعراء، الآية: 63}.(1/55)
ومثال ثان: آية عيسى صلى الله عليه وسلم حيث كان يحيى الموتى ، ويخرجهم من قبورهم بإذن الله ، قال الله تعالى: ( وأحي الموتى بإذن الله ( {سورة آل عمران ، الآية: 49} وقال : ( وإذ تخرج الموتى بإذني( {سورة المائدة ، الآية: 110}.
ومثال ثالث: لمحمد صلى الله عليه وسلم حين طلبت منه قريش آية، فاشار إلى القمر فأنفلق فرقتين فرآه الناس ، وفي ذلك قوله تعالى ( أقتربت الساعة وأنشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر ( {سورة القمر، الآيتين: 1-2}. فهذه الآيات المحسوسة التي يجريها الله تعالى تأييداً لرسله، ونصراً لهم ، تدل دلالة قطعية على وجوده تعالى.
الثاني: الإيمان بربوبيته:
أي بأنه وحده الرب لا شريك له ولا معين.
والرب : من له الخلق والملك ، والأمر ، فلا خالق إلا الله ، ولا مالك إلا هو ، ولا أمر إلا له، قال تعالى : ( ألا له الخلق والأمر( {سورة الأعراف، الآية : 54} وقال: ( ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير( {سورة فاطر، الآية: 13} .
ولم يعلم أن أحداً من الخلق أنكر ربوبية الله سبحانه، إلا أن يكون مكابراً غير معتقد بما يقول ، كما حصل من - فرعون - حين قال لقومه : ( أنا ربكم الأعلى ( {سورة النازعات ، الآية: 24} وقال: ( يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري( {سورة القصص، الآية: 38} لكن ذلك ليس عن عقيدة ، قال الله تعالى: ( وجحدوا بها وأستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً ( {سورة النمل، الآية: 14} وقال موسى لفرعون فيما حكى الله عنه: ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبوراً ( { سورة الإسراء، الآية: 102}.(1/56)
ولهذا كان المشركون يقرون بربوبية الله تعالى ، مع إشراكهم به في الألوهية، قال الله تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون(
{سورة المؤمنون ، الآيات : 84-89}.
وقال الله تعالى: ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم( {سورة الزخرف، الآية: 9} وقال: ( ولئن سألتهم من خلقهن ليقولن الله فأنى يؤفكون( {سورة الزخرف، الآية: 87}.
وأمر الرب سبحانه شامل للأمر الكوني والشرعي فكما أنه مدبر الكون القاضي فيه بما يريد حسب ما تقتضيه حكمته ، فهو كذلك الحاكم فيه بشرع العبادت وأحكام المعاملات حسبما تقتضيه حكمته ، فمن اتخذ مع الله تعالى مشرعاً في العبادات أو حاكماً في المعاملات فقد أشرك به ولم يحقق الإيمان.
الثالث: الإيمان بألوهيته:(1/57)
أي ( بأنه وحده الإله الحق لا شريك له) و "الإله" بمعنى المألوه" أي "المعبود حياً وتعظيماً ، وقال الله تعالى: ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( {سورة البقرة، الآية: 163} وقال تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( {سورة آل عمران، الآية: 18}. وكل ما اتخذ إلها مع الله يعبد من دونه فألوهيته باطلة ، قال الله تعالى: ( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( {سورة الحج ، الآية: 62} وتسميتها آلهة لا يعطيها حق الألوهية قال الله تعالى في اللات والعزى ومناة) : ( إن هي إلا اسماء سميتموها أنتم واباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ( {سورة النجم ، الآية: 23} وقال عن هود أنه قال لقومه: ( اتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ( {سورة الأعراف، الآية: 71} وقال عن يوسف أنه قال لصاحبي السجن: ( أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما انزل الله بها من سلطان( {سورة يوسف، الآيتين: 39-40} ولهذا كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم ( أعبدوا الله ما لكم من إله غيره ( ولكن أبى ذلك المشركون ، واتخذوا من دون الله آلهة ، يعبدونهم مع الله سبحانه وتعالى، ويستنصرون بهم ، ويستغيثون.
وقد أبطل الله تعالى اتخاذ المشركين هذه الآلهة ببرهانين عقليين:
الأول: أنه ليس في هذه الآلهة التي أتخذوها شيء من خصائص الألوهية ، فهي مخلوقة لا تخلق ، ولا تجلب نفعاً لعابديها ، ولا تدفع عنهم ضرراً ، ولا تملك لهم حياة ولا موتاً ، ولا يملكون شيئاً من السماوات ولا يشاركون فيه.(1/58)
قال الله تعالى: ( واتخذوا من دونه ءالهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً( {سورة الفرقان، الآية: 3}.
وقال تعالى: ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له( {سورة سبأ، الآيتين: 22-23} .
وقال: ( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ( {سورة الأعراف، الآيتين: 191-192}.
وإذا كانت هذه حال تلك الآلهة، فإن اتخاذها آلهة من أسفه السفه ، وأبطل الباطل.
الثاني: أن هؤلاء المشركين كانوا يقرون بأن الله تعالى وحده الرب الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، وهذا يستلزم أن يوحوده بالألوهية كما قال تعالى : ( يأيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون( {سورة البقرة ، الآيتين: 21-22} وقال ( ولئن سأتلهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ( {سورة الزخرف ، الآية : 87} وقال : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلك الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ( {سورة يونس ، الآيتين: 31-32}.
الرابع : الإيمان بأسمائه وصفاته :(1/59)
أي ( ما أثبته الله لنفسه في كتابه ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ولا تكييف ، ولا تمثيل ، قال الله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فأدعوه به وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ( {سورة الأعراف، الآية: 180} وقال: ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم( {سورة الروم ، الآية: 27} وقال : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير( {سورة الشورى ، الآية: 11} .
وقد ضل في هذا الأمر طائفتان:
إحداهما : (المعطلة) الذين أنكروا الأسماء ، والصفات ، أو بعضها ، زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه ، أي تشبيه الله تعالى بخلقه ، وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول : أنه يستلزم لوازم باطلة كالتناقض في كلام الله سبحانه ، وذلك أن الله تعالى أثبت لنفسه الأسماء والصفات، ونفى أن يكون كمثله شيء ، ولو كان إثباتها يستلزم التشبيه لزم التناقض في كلام الله ، وتكذيب بعضه بعضاً.
الثاني: أنه لا يلزم من أتفاق الشيئين في أسم أو صفة أن يكونا متماثلين، فأنت ترى الشخصين يتفقان في أن كلاً منهما إنسان سميع ، بصير ، متكلم ، ولا يلزم من ذلك أن يتماثلا في المعاني الإنسانية ، والسمع والبصر ، والكلام ، وترى الحيوانات لها أيد وأرجل ، وأعين ولا يلزم من أتفاقها هذا أن تكون أيديها وأرجلها ، وأعينها متماثلة .
فإذا ظهر التباين بين المخلوقات فيما تتفق فيه من أسماء ، أو صفات، فالتباين بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
الطائفة الثانية: ( المشبهة) الذين أثبتوا الأسماء والصفات مع تشبيه الله تعالى بخلقه زاعمين أن هذا مقتضى دلالة النصوص ، لأن الله تعالى يخاطب العباد يفهمون وهذا الزعم باطل لوجوه منها:
الأول: أن مشابهة الله تعالى لخلقه أمر باطل ببطله العقل، والشرع ، ولا يمكن أن يكون مقتضى نصوص الكتاب والسنة أمراً باطلاً.(1/60)
الثاني: أن الله تعالى خاطب العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى ، أما الحقيقة والكنه الذي عليه ذلك المعنى فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته، وصفاته.
فإذا اثبت الله لنفسه أنه سميع ، فإن السمع معلوم من حيث أصل المعنى ( وهو إدراك الأصوات) لكن حقيقة ذلك بالنسبة إلى سمع الله تعالى غير معلومة ، لأن حقيقة السمع تتباين حتى في المخلوقات ، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق، أبين وأعظم.
وإذا أخبر الله تعالى عن نفسه أنه أستوى على عرشه فإن الإستواء من حيث أصل المعنى معلوم ، لكن حقيقة الإستواء التي هو عليه غير معلومة بالنسبة إلى استواء الله على عرشه فإن الإستواء تتباين في حق المخلوق، فليس الإستواء على كرسي مستقر كالإستواء على رحل بعير صعب نفور، فإذا تباينت في حق المخلوق ، فالتباين فيها بين الخالق والمخلوق أبين وأعظم.
والإيمان بالله تعالى على ما وصفنا يثمر للمؤمنين ثمرات جليلة منها:
الأولى: تحقيق توحيد الله تعالى بحيث لا يتعلق بغيره رجاء، ولا خوفاً ، ولا يعبد غيره.
الثانية: كمال محبة الله تعالى ، وتعظيمه بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.
الثالثة: تحقيق عبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
وملائكته (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/61)
(1) الملائكة: عالم غيبي مخلوقون ، عابدون لله تعالى ، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، خلقهم الله تعالى من نور ، ومنحهم الأنقياد التام لأمره، والقوة على تنفيذه. قال الله تعالى: ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون ( {سورة الأنبياء، الآيتين: 19-20} . وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع له البيت المعمور في السماء يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودا إليه آخر ما عليهم.(1)
والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجودهم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه (كجبريل) ومن لم نعلم اسمه نؤمن بهم إجمالاً.
الثالث: الإيمان بما علمنا من صفاتهم، كصفة ( جبريل ) فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه على صفته التي خلق عليها وله ستمائة جناح قد سد الأفق. (1) وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل ، كما حصل (لجبريل) حين أرسله تعالى إلى-مريم-فتمثل لها بشراً سوياً ، وحين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه جاءه بصفة لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه أحد من الصحابة ، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، والإيمان والإحسان ، والساعة ، وأماراتها ، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". رواه مسلم. (2)
وكذلك الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى إلى إبراهيم، ولوط كانوا في صورة رجال.
الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم التي يقومون بها بأمر الله تعالى، كتسبيحه، والتعبد له ليلاً ونهاراً بدون ملل ولا فتور.
وقد يكون لبعضهم أعمال خاصة.(1/62)
مثل: جبريل الأمين على وحي الله تعالى يرسله به إلى الأنبياء والرسل.
ومثل: ميكائيل الموكل بالقطر أي بالمطر والنبات.
ومثل: إسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق.
ومثل: ملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت.
ومثل: مالك الروح بالنار وهو خازن النار.
ومثل: الملائكة الموكلين بالأجنة في الأرحام إذا تم للإنسان أربعة أشهر في بطن امه ، بعث الله إليه ملكاً وأمره بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد.
ومثل: الملائكة الموكلين بحفظ أعمال بني آدم وكتابتها لكل شخص ، ملكان : أحدهما عن اليمين، والثاني عن الشمال.
ومثل: الملائكة الموكلين بسؤال إذا وضع في قبره يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه.
والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته ، وسلطانه ، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.
الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم ، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم ، وكتابة أعمالهم ، وغير ذلك من مصالحهم.
الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى.
وقد أنكر قوم من الزائغين كون الملائكة أجساماً ، وقالوا إنهم عبارة عن قوى الخير الكامنة في المخلوقات ، وهذا تكذيب لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع ( {سورة الفاطر ، الآية: 1} .
وقال: ( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون على وجوهم وادبارهم ( {سورة الأنفال، الآية: 50}.
وقال: ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا ايديهم أخرجوا أنفسكم ( {سورة الأنعام ، الآية: 93}.
وقال: ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير( {سورة سبأ، الآية: 23}.(1/63)
وقال في أهل الجنة : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار( {سورة الرعد، الآيتين: 23-24}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء، ، إن الله يحب فلانأ فأحبوه ، فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض". (1)
وفيه أيضاً عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم الجمعة على كل باب من أبواب المساجد الملائكة يكتبون الأول فالأول ، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر". (1)
وهذه النصوص صريحة في أن الملائكة أجسام لا قوى معنوية ، كما قال الزائغون وعلى مقتضى هذه النصوص أجمع المسلمون.
وكتبه(1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) الكتب: جمع ( كتاب ) بمعنى ( مكتوب ).
والمراد بها هنا : الكتب التي أنزلها تعالى على رسله رحمة للخلق ، وهداية لهم ، ليصلوا بها إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن نزولها من عند الله حقاً.
الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والتوراة التي أنزلت على موسى صلى الله عليه وسلم ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى صلى الله عليه وسلم، والزبور الذي أوتيه داود صلى الله عليه وسلم وأما لم نعلم اسمه فتؤمن به إجمالاً.
الثالث: تصديق ما صح من أخبارها ، كأخبار القرآن ، وأخبار مالم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة.(1/64)
الرابع: العمل باحكام ما لم ينسخ منها ، والرضا والتسليم به سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها ، وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم قال الله تعالى : ( وأنزلن إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ( {سورة المائدة، الآية: 48} أي ( حاكماً عليه ) وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح منها وأقره القرآن.
والإيمان بالكتب يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعناية الله تعالى بعباده حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به.
الثانية: العلم بحكمة الله تعالى في شرعه حيث شرع لكل قوم ما يناسب أحوالهم. كما قال الله تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ( {سورة المائدة ، الآية: 48}.
ورسله(1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) الرسل : جمع (رسول) بمعنى (مرسل) أي مبعوث (بإبلاغ شيء.
والمراد هنا: من أوحى إليه من البشر بشرع وأمر بتبليغه. {سورة المائدة، الآية:163}.
وفي صحيح البخاري عن-أنس بن مالك- رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر أن الناس يأتون إلى آدم ليشفع لهم فيعتذر ، إليهم ويقول: ائتوا نوحاً رسول بعثه الله - وذكر تمام الحديث. (1)
وقال الله تعالى في محمد صلى الله عليه وسلم ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ( {سورة الأحزاب، الآية:40}.
ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه ، أو نبي يوحى إليه بشريعة من قبله ليجددها ، قال الله تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( {سورة النحل ، الآية: 36} وقال تعالى: ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير( {سورة فاطر، الآية: 24} وقال تعالى: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا {سورة المائدة، الآية: 44}.(1/65)
والرسل بشر مخلوقون ليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، قال الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين وأعظمهم جاهاً عند الله: ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون( {سورة الأعراف، الآية: 188}.
وقال تعالى: ( قل إني لا املك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ( {سورة الجن ، الآيتين: 21-22} .
وتلحقهم خصائص البشرية من المرض ، والموت ، والحاجة إلى الطعام والشراب، وغير ذلك ، قال الله الله تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في وصفه لربه تعالى: ( والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين ( {سورة الشعراء، الآيات79-81} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني" (1)
وقد وصفهم الله تعالى بالعبودية له في أعلى مقاماتهم ، وفي سياق الثناء عليهم فقال تعالى في نوح صلى الله عليه وسلم : ( إنه كان عبداً شكورا( {سورة الإسراء، الآية:3} وقال في محمد صلى الله عليه وسلم : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً( {سورة الفرقان الآية: 1}.
وقال في إبراهيم ، وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم : ( واذكر عندنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى في الأيدى والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ( {سورة ص، الآيات: 45-47}. وقال في عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل( {سورة الزخرف، ، الآية: 59} .
والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:(1/66)
الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من الله تعالى، فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع . كما قال الله تعالى: ( كذبت قوم نوح المرسلين( {سورة الشعراء، الآية: 105} فجعلهم الله مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يكن رسول غيره حين كذبوه ، وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح بن مريم غير متبعين له أيضاً ، لا سيما وأنه قد بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا معنى لبشارتهم به إلا أنه رسول إليهم ينقذهم الله به من الضلالة ، ويهديهم إلى صراط مستقيم.
الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه منهم باسمه مثل: محمد وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ونوح عليهم الصلاة والسلام ، وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل ، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن في سورة الأحزاب في قوله: ( ولد أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أبن مريم( {سورة الأحزاب، الآية: 7}. وفي سورة الشورى في قوله ( * شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه( { سورة الشورى، الآية: 13}.
وأما من لم نعلم أسمه منهم فنؤمن به إجمالاً قال الله تعالى: ( ولقد أرسلنا رسلاً منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك( {سورة غافر، الآية: 78}.
الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.
الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم، وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم المرسل إلى جميع الناس قال الله تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً( {سورة النساء، الآية: 65}.
وللإيمان بالرسل ثمران جليلة منها:
الأولى: العلم برحمه الله تعالى وعنايته بعباده حيث أرسل إليهم الرسل ليهدوهم إلى صراط الله تعالى ، ويبينوا لهم كيف يعبدون الله ، لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك.(1/67)
الثانية: شكره تعالى على هذه النعمة الكبرى.
الثالثة: محبة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتعظيمهم، والثناء عليهم بما يليق بهم، لأنهم رسل الله تعالى، ولأنهم قاموا بعبادته ، وتبليغ رسالته ، والنصح لعباده.
وقد كذب المعاندون رسلهم زاعمين أن رسل الله تعالى لا يكونون من البشر وقد ذكر الله تعالى هذا الزعم وأبطله بقوله ( وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً( {سورة الإسراء، الآيتين: 94-95} فأبطل الله تعالى هذا الزعم بأنه لا بد أن يكون الرسول بشراً لأنه مرسل إلى أهل الأرض، وهم بشر ، ولو كان أهل الأرض ملائكة لنزل الله عليهم من السماء ملكاً رسولاً ، ليكون مثلهم ، وهكذا حكى الله تعالى عن المكذبين للرسل أنهم قالوا: ( إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءاباؤنا فأتونا بسلطان مبين * قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله( {سورة إبراهيم، الآيتين: 10-11}.
واليوم الآخر،(1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) اليوم الآخر: يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء . وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده ، حيث يستقر أهل الجنة في منازهم ، وأهل النار في منازلهم.
والإيمان باليوم الآخر يتضمن ثلاثة أمور:(1/68)
الأول: الإيمان بالبعث : وهو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس لرب العالمين ، حفاة غير منتعلين ، عراة غير مستترين ، غر لا غير مختتنين ، قال الله تعالى: ( كما بدأنا أول خلق نعيد وعداً علينا إنا كنا فاعلين( {سورة الأنبياء، الآية: 104}. والبعث : حق ثابت دل عليه الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين . قال الله تعالى: ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ( {سورة المؤمنون، الآيتين: 15-16}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يحشر الناس يوم القيامة غرلاً(1) متفق عليه .
وأجمع المسلمون على ثبوته ، وهو مقتضى الحكمة حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة معاداً يجازيهم فيه على ما كلفهم به على ألسنة رسله قال الله تعالى : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وانكم إلينا لا ترجعون ( {سورة المؤمنون، الآية: 115} وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( إن الذي فرض عليك القرءان لرادك إلى معاد ( {سورة القصص، الآية: 85}.
الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء: يحاسب العبد على عمله ، ويجازى عليه ، وقد دل على ذلك الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين ، قال الله تعالى: ( إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم ( {سورة الغاشية، الآيتين : 25-26} وقال: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجرى إلا مثلها وهم لا يظلمون ( {سورة الأنعام ، الآية: 160} وقال: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإنك كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ( {سورة الأنبياء ، الآية: 47}.(1/69)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما-أن النبي صلى الله عليه وسلم -قال: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ، فيقول : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى أنه قد هلك قال: قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ألا لعنة الله على الظالمين". (1) متفق عليه.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم :"أن من هم بحسنة فعملها ، كتبها الله عنده عشر حسنا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وأ، من هم بسيئة ففعلها كتبها الله سيئة واحدة"(2) .
وقد أجمع المسلمون على إثبات الحساب والجزاء على الأعمال ، وهو مقتضى الحكمة فإن الله تعالى أنزل الكتب، وأرسل الرسل ، وفرض على العباد قبول ما جاءوا به ، والعمل بما يجب العمل به منه، وأوجب قتال المعارضين له وأحل دماءهم ، وذرياتهم ، ونسائهم ، وأموالهم. فلو لم يكن حساب، ولا جزاء لكان هذا من العبث الذي ينزه الرب الحكيم عنه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : ( فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين عليهم بعلم وما كنا غائبين ( {سورة الأعراف، الآيتين: 6-7} .
الثالث: الإيمان بالجنة والنار، وأنهما المال الأبدي للخلق ، فالجنة دار النعيم التي أعدها الله تعالى للمؤمنين المتقين ، الذين آمنوا بما أوجب الله عليهم الإيمان به، وقاموا بطاعة الله ورسوله ، مخلصين لله متبعين لرسوله . فيها من أنواع النعيم مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر" . قال الله تعالى : ( إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تدري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه ( {سورة البينة، الآيتين: 7-8}.(1/70)
وقال تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( {سورة السجدة ، الآية: 17}.
وأما النار فهي دار العذاب التي أعدها الله تعالى للكافرين الظالمين ، الذين كفروا به وعصوا رسله ، فيها من أنواع العذاب والنكال مالا يخطر على البال قال الله تعالى: ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين ( وقال : ( إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً ( {سورة الكهف، الآية: 29} وقال تعالى: ( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا( {سورة الأحزاب، الآيات: 64-66}.
ويلتحق بالإيمان باليوم الآخر : الإيمان بكل ما يكون بعد الموت مثل:
(أ ) فتنة القبر: وهي سؤال الميت بعد دفنه عن ربه، ودينه، ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبي محمد صلى الله عليه وسلم. ويضل الله الظالمين فيقول الكافر هاه ، هاه ، لا أدري . ويقول المنافق أو المرتاب لا أدري سمعت الناس لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. (ب ) عذاب القبر ونعيمه: فيكون العذاب للظالمين من المنافقين والكافرين قال الله تعالى : ( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن ءايته تستكبرون ( {سورة الأنعام ، الآية: 23}.
وقال تعال في آل عمران -: ( النار يعرضون عليها عدوا وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا ال فرعون أشد العذاب ( {سورة غافر، الآية: 44} .(1/71)
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار. قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القربر. قالوا. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال. قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال، قالوا : نعوذ بالله من فتنة الدجال(1) .
وأما نعيم القبر فللمؤمنين الصادقين قال الله تعالى: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون( {سورة فصلت، الآية: 41}.
وقال تعالى: ( فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين * فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنات نعيم( {سورة الواقعة، الآيات: 83-89}.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المؤمن إذا أجاب الملكين في قبره مد بصره"(2) رواه أحمد أبو داود في حديث طويل.
وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الرغبة في فعل الطاعة والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم.
الثانية: الرهبة عند فعل المعصية والرضى بها خوفاً من عقاب ذلك اليوم.
الثالثة: تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها.
وقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت زاعمين أن ذلك غير ممكن.
وهذا الزعم باطل دل على بطلانه الشرع ، والحس ، والعقل .
أما الشرع : فقد قال الله تعالى: ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ( {سورة التغابن، الآية: 7} وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه.(1/72)
وأما الحس : فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا ، وفي سورة البقرة خمسة أمثلة على ذلك وهي: المثال الأول: قوم موسى حين قالوا له: ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ( {سورة البقرة، الآية: 55} فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطباً بني إسرائيل : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ( {سورة البقرة، الآيتين : 55، 56}.
المثال الثاني في قصة القتيل الذي أختصم فيه بنو إسرائيل ، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله ، وفي ذلك يقول الله تعالى: ( وإذ قتلتم نفساً فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا أضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ( {سورة البقرن ، الآيتين: 72-73}.
المثال الثالث: في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف فأماتهم الله تعالى ، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى: ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( {سورة البقرة، الآية: 243}. المثال الرابع: في قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مئة سنة ، ثم أحياه وفي ذلك يقول الله تعالى: ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وأنظر إلى جمارك ولنجعلك آية للناس وأنظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير( {سورة البقرة، الآية: 259}.(1/73)
المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى ؟ فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير ، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله ، ثم يناديهن فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض ، ويأتين إلى إبراهيم سعياً، وفي ذلك يقول الله تعالى: ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزء ثم أدعهن يأتينك سعياً وأعلم أن الله عزيز حكيم( {سورة البقرة، الآية: 260}.
فهذه أمثلة حسية واقعية تدل على إمكانية إحياء الموتى، وقد سبقت الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم من إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى.
وأما دلالة العقل فمن وجهين:
أحدهما : أن الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما فيهما ، خالقهما ابتداء ، والقادر على ابتداء الخلق لا يعجز عن إعادته ، قال الله تعالى: ( وهو الذي يبدؤ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه( {سورة الروم، الآية: 27} وقال تعالى : ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين( {سورة الأنبياء، الآية: 104}. وقال آمرا بالرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم: ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم( {سورة يس، الآية: 79}.
الثاني: أن الأرض تكون ميتة هامدة ليس فيها شجرة خضراء، فينزل عليها المطر فتهتز خضراء حية فيها من كل زوج بهيج، والقادر على إحيائها بعد موتها ، قادر على إحياء الموتى . قال الله تعالى: ( ومن آيته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء أهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيى الموتى إنه على كل شيء قدير( {سورة فصلت، الآية: 39} وقال تعالى: ( ونزلنا من السماء ماء مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد * والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقاً للعباد وأوحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج( {سورة ق، الآيات: 9-11}.(1/74)
وقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر، ونعيمه ، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا فإنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق.
وهذا الزعم باطل بالشرع ، والحس ، والعقل:
أما الشرع: فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر ، ونعيمه في فقرة ( ب ) مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر. (1)
وفي صحيح البخاري - من حديث - ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة ، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما" (2) وذكر الحديث ، وفيه : "أن أحدهما كان لا يستتر من البول" وفي -رواية - " من (بوله) وأن الآخر كان يمشي بالنميمة".
وأما الحس: فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان ضيق موش يتألم منه، وربما يستيقظ أحياناً مما رأى ، ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه ، والنوم أخو الموت ولهذا سماه الله تعالى " وفاة " قال الله تعالى: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى( {سورة الزمر، الآية: 42}.
وأما العقل : فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للمواقع ، وربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صفته، ومن رآه على صفته فقد رآه حقاً ومع ذلك فالنائم في حجرته على فراشه بعيداً عما رأى، فإن كان هذا ممكناً في أحوال الدنيا ، أفلا يكون ممكناً في أحوال الآخرة ؟!
وأما إعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه ، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق ، فجوابه من وجوه منها:
الأولى: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات وقد قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ……وآفته من الفهم السقيم(1/75)
الثاني: أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب، والجاحدون في التصديق بها.
الثالث: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وهو بين أصحابه فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة ، وربما يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه والصحابة لا يرون الملك، ولا يسمعونه.
الرابع: أن إدراك الخلق محدود بما مكنهم الله تعالى من إدراكه ولا يمكن أن يدركوا كل موجود، فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن، وكل شيء يسبح بحمد الله تسبيحاً حقيقياً يسمعه الله تعالى من شاء من خلقه أحياناً. ومع ذلك هو محجوب عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى: ( تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ( {سورة الإسراء، الآية: 44} وهكذا الشياطين، والجن، يسعون في الأرض ذهاباً وإياباً، وقد حضرت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمتعوا لقراءته وأنصتوا وولوا إلى قومهم منذرين. ومع هذا فهم محجوبون عنا وفي ذلك يقول الله تعالى: ( يا بني أدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سؤاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونه إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ( {سورة الأعراف، الآية: 27} وإذا كان الخلق لا يدركون كل موجود ، فإنه لا يجوز أن ينكروا ما ثبت من أمور الغيب ، ولم يدركوه.(1/76)
وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: ( * ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ( {سورة البقرة، الآية: 177} ودليل القدر قوله تعالى: ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ( {سورة القمر، الآية: 49}،
(1) القدر بفتح الدال: "تقدير الله تعالى للكائنات ، حسبما سبق علمه ، وأقتضته حكمته" .
والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلاً ، أزلاً وأبداً ، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده.
الثاني: الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ ، وفي هذين الأمرين يقول الله تعالى : ( ألم تعلم أن الله يعلم ملا في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ( {سورة الحج، الآية: 170}.
وفي صحيح مسلم- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". (1)
الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين ، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ( {سورة القصص، الآية: 86}، وقال : ( ويفعل الله ما يشاء ( {سورة إبراهيم ، الآية: 27} وقال: ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ( {سورة آل عمران الآية:6} وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم ( {سورة النساء ، الآية: 90} وقال: ( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون( {سورة الأنعام، الآية: 112}.(1/77)
الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها ، وصفاتها ، وحركاتها ، قال الله تعالى: ( الله خلق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ( {سورة الزمر ، الآية: 12} وقال: ( وخلق كل شيء فقدره تقديراً ( {سورة الفرقان، الآية: 2}. وقال عن نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه: ( والله خلقكم وما تعلمون( {سورة الصافات، الآية: 96}.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الإختيارية وقدرة عليها ، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع : فقد قال الله تعالى في المشيئة: ( فمن شاء أتخذ إلى ربه مئاباً ( {سورة النبأ، الآية: 39} وقال : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ( {سورة البقرة، الآية: 223} وقال في القدرة: ( فاتقوا الله ما أستطعتم واسمعوا وأطيعوا ( {سورة التغابن، الآية: 16} وقال: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما أكتسبت ( {سورة البقرة، الآية: 286}.
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع: بإرادته كالمشيء وما يقع بغير إرادته كالإرتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى ، وقدرته لقول الله تعالى: ( لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ( {سورة التكوير، الآيتين: 28-29} ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي ، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه :
الأول: قوله تعالى: ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون( {سورة الأنعام ، الآية: 148} ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.(1/78)
الثاني: قوله تعالى: ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً ( {سورة النساء، الآية: 165}ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل ، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة. فقال رجل من القوم : ألا نتكل يارسول الله ؟ قال لا أعملوا فكل ميسر ، ثم قرأ ( فأما من أعطى وأتقى ( (1) الآية. وفي لفظ لمسلم : "فكل ميسر لما خلق له" (2) فأرم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ونهى عن الإتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه ، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: ( فاتقوا الله ما أستطعتم ( {سورة التغابن، الآية: 16} وقال: ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ( {سورة البقرة، الآية: 286} ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان ، أو إكراه فلا إثم أو إكراه ، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: ان قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله ، وحينئذ تنفى حجته إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر ، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحداً؟(1/79)
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهى به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟ إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبداً أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر ، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهي عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلباً للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟
السابع : أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي ، لو أعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو أنتهك حرمته ثم أحتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته. فكيف لا يقبل الإحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في إعتدائه على حق الله تعالى؟
ويذكر أن- أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين ، فإنما سرقت بقدر الله. فقال: ونحن إنما نقطع بقدر الله.
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى ، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح ، وأعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.(1/80)
الثالثة: الطمأنينة ، والراحة النفسية بما يجرى عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه، لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى: ( ما اصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تاسوا على ما فتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ( {سورة الحديد، الآيتين : 22-23} و يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن اصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له" (1) رواه مسلم.
وقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما : الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه آثر.
والرد على الطائفة الأولى ( الجبرية ) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعال أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه قال الله تعالى: ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ( {سورة آل عمران، الآية: 152} وقال: ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها ( {سورة الكهف، الآية: 29} الآية. وقال: ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ومار بك بظلام للعبيد ( {سورة فصلت، الآية: 46}.
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الإختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل ، والشرب، والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالإرتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه.(1/81)
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء ، وكل شيء كائن بمشيئة ، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى : ( ولو شاء الله ما أقتتل الذين من بعد ما جاءتهم البينات ولكن أختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما أقتلتوا ولكن الله يفعل ما يريد ( {سورة البقرة، الآية: 253} وقال تعالى : ( ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( {سورة السجدة ، الآية: 13}.
وأما العقل : فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته.
المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد وهو " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" والدليل قوله تعالى: ( إن الله مع الذين أتقوا والذين هم محسنون ( {سورة النحل، الآية: 128} ، وقوله : ( وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم ( {سورة الشعراء، الآيات: 217-220} وقوله : ( وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه ( (1) {سورة يونس، الآية: 61}.(1/82)
والدليل من السنة: حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشرع لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" قال: صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال : "أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره" ، قال: صدقت ، قال: فأخبرني عن الإحسان ، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان" قال: فمضى فلبثنا ملياً فقال: "ياعمر أتدري من السائل"؟ قلت : الله ورسوله أعلم، قال: "قال هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم".(1)
(1) الإحسان ضد الإساءة وهو أن يبذل الإنسان المعروف ويكف الأذى فيبذل المعروف لعباد الله في ماله ، وجاهه ، وعلمه ، وبدنه.
فأما المال فان ينفق ويتصدق ويزكى وأفضل أنواع الإحسان بالمال الزكاة، لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ولا يتم إسلام المرء إلا بها، وهي أحب النفقات إلى الله عز وجل، ويلي ذلك، ما يجب على الإنسان من نفقة لزوجته، وأمه، وأبيه، وذريته، وإخوانه، وبني إخوته، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وخالاته إلى آخر هذا، ثم الصدقة على المساكين وغيرهم، ممن هم أهل للصدقة كطلاب العلم مثلاً.(1/83)
وأما بذل المعروف في الجاه فهو أن الناس مراتب، منهم من له جاه عند ذوي السلطان فيبذل الإنسان جاهه، يأتيه رجل فيطلب منه الشفاعة إلى ذي السلطان يشفع له عنده، إما يدفع ضرر عنه، أو بجلب خير له.
وأما بعلمه فإن يبذل علمه لعباد الله، تعليماً في الحلقات والمجالس العامة والخاصة، حتى لو كنت في مجلس قهوة، فإن من الخير والإحسان أن تعلم الناس، ولو كنت في مجلس عام فمن الخير أن تعلم الناس، ولكن أستعمل الحكمة في هذا الباب، فلا تثقل على الناس حيث كلما جلست في مجلساً جعلت تعظهم وتتحدث إليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخولهم بالموعظة، ولا يكثر، لأن النفوس تسأم وتمل فإذا ملت كلت وضعفت، وربما تركه الخير لكثرة من يقوم ويتكلم.
وأما الإحسان إلى الناس بالبدن فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها ، أو ترفع عليها متاعه صدقة"(1). فهذا رجل تعينه تحمل متاعه معه، أو تدله على طريق أو ما أشبه ذلك فكل ذلك من الإحسان، هذا بالنسبة للإحسان إلى عباد الله.
وأما بالنسبة للإحسان في عبادة الله: فأن تعبد الله كأنك تراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذه العبادة أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق ، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها ، لأنه يطلب هذا الذي يحبه ، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه سبحانه وتعالى، " فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وهذه عبادة الهرب والخوف ، ولهذا كانت هذه المرتبة ثانية في الإحسان ، إذا لم تكن تعبد الله - عز وجل - كأنك تراه وتطلبه، وتحث النفس للوصول إليه فاعبده كأنه هو الذي يراك، فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أرباب السلوك أدنى من الدرجة الأولى. وعبادة الله - سبحانه وتعالى - هي كما قال ابن القيم - رحمه الله - :
وعبادة الرحمن غاية في حبه……مع ذل عابده هما ركنان(1/84)
فالعبادة مبنية على هذين الأمرين: غاية الحب ، وغاية الذل ، ففي الحب الطلب ، وفي الذل الخوف والهرب، فهذا هو الإحسان في عبادة الله عز وجل. وإذا كان الإنسان يعبد الله على هذا الوجه، فإنه سوف يكون مخلصاً لله - عز وجل - لا يريد بعبادته رياء ولا سمعة ، ولا محاً عند الناس ، وسواء اطلع النسا عليه أم لم يطلعوا، الكل عنده سواء ، وهو محسن العبادة على كل حال، بل إن من تمام الإخلاص أن يحرص الإنسان على ألا يراه الناس في عبادته ، وأن تكون عبادته مع ربه سراً، إلا إذا كان في إعلان ذلك مصلحة للمسلمين والإسلام ، مثل أن يكون رجلاً متبوعاً يقتدي به، وأحب أن يبين عبادته للناس ليأخذوا من ذلك نبراساً يسيرون عليه أو كان هو يحب أن يظهر العبادة ليقتدي بها زملاؤه وقرناؤه وأصحابه ففي هذا خير، وهذه المصلحة التي يلتفت إليها قد تكون أفضل وأعلى من مصلحة الإخفاء، لهذا يثني الله - عز وجل - على الذين ينفقون أموالهم سرا وعلانية، فإذا كان السر أصلح وأنفع للقلب وأخشع وأشد إنابة إلى الله أسروا ، وإذا كان في الإعلان مصلحة للإسلام بظهور شرائعه ، وللمسلمين يقتدون بهذا الفاعل وهذا العامل أعلنوه.
والمؤمن ينظر ما هو الأصلح ، كلما كان أصلح وأنفع في العبادة فهو أكمل وأفضل.
الأصل الثالث(1) : معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وهو : محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش، وقري من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل، إبن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا
(1) أي من الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها وهي معرفة العبد ربه ، ودينه ، ونبيه.
وقد سبق الكلام على معرفة العبد ربه ودينه.
وأما معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فتتضمن خمسة أمور:
الأمور : معرفته نسباً فهو أشرف الناس نسباً فهو أشرف الناس نسباً فهو هاشمي قرشي عربي فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر ما قاله الشيخ رحمه الله.(1/85)
الثاني : معرفة سنه ، ومان ولادته ، ومهاجره وقد بينها الشيخ بقوله: "وله من العمر ثلاث وستون سنة ، وبلده مكة ، وهاجر إلى المدينة" فقد ولد بمكة وبقي فيها ثلاثا وخمسين سنة ، ثم هاجر إلى المدينة فبقي فيها عشر سنين ، ثم توفي فيها في ربيع الأول سنة إحدى عشر بعد الهجرة.
الثالث: معرفة حياته النبوية وهي ثلاث وعشرون سنة فقد أوحي إليه وله أربعون سنة كما قال أحد شعرائه:
وأنت عليه أربعون فأشرقت ……شمس النبوة منه في رمضان
الرابع: بماذا كان نبياً ورسولاً ؟ فقد كان نبياً حين نزل عليه قول الله تعالى: ( أقرأ بأسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * أقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ( {سورة العلق، الآيات: 1-5} ، ثم كان رسولاً حين نزل عليه قوله تعالى: ( يأيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فأهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ( {سورة المدثر، الآيات: 1-7} ، فقام صلى الله عليه وسلم فأنذر وقام بأمر الله عز وجل.
والفرق بين الرسول والنبي كما يقول أهل العلم: أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه والعمل به فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولاً.
الخامس: بماذا أرسل ولماذا؟ فقد أرسل بتوحيد الله تعالى وشريعته المتضمنة لفعل المأمور وترك المحظور ، وأرسل رحمة للعالمين لإخراجهم من ظلمة الشرك والكفر والجهل إلى النور العلم والإيمان والتوحيد حتى ينالوا بذلك مغفرة الله ورضوانه وينجوا من عقابه وسخطه.
أفضل الصلاة والسلام . وله من العمر: ثلاث وستون سنة ، منها اربعون قبل النبوة ، وثلاث وعشرون نبياً ورسولاً ، نبيء بإقرأ . وارسل بالمدثر ، وبلده مكة ، وهاجر إلى المدينة.(1/86)
بعثه الله بالنذارة عن الشرك ، ويدعو إلى التوحيد (1) . والدليل قوله تعالى: ( يأيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر والرجز فأهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ( {سورة المدثر، الآيات: 1-7} ومعنى ( قم فأنذر ( : ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد . ( وربك فكبر ( أي : عظمه بالتوحيد، ( وثيابك فطهر ( أي : طهر أعمالك عن الشرك. ( والرجز فأهجر ( الرجز: الأصنام وهجرها تركها ، والبراءة منها وأهلها.
(1) أي ينذرهم عن الشرك ويدعوهم إلى توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
(2) النداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم بجد ونشاط وينذر الناس عن الشرك ويحذرهم منه وقد فسر هذه الآيات.
أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد(1) وبعد العشر عرج به إلى السماء(2) ، . . . . .
(1) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنين يدعو إلى توحيد الله عز وجل وافراده بالعبادة سبحانه وتعالى ,.(1/87)
(2) العروج الصعود ومنه قوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه ( {سورة المعارج، الآية: 4} وهو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة التي فضله الله به قبل أن يهاجر من مكة ، فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغره نحره إلى اسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيماناً تهيئة لما سيقوم به ثم أتى بداية بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً بكل الأنبياء والمرسلين يصلون خلفه ليتبين بذلك فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه وأنه الإمام المتبوع ، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فأستفتح فقيل من هذا؟ قال : جبريل. قبل ومن معك ؟ قال: محمد قبل : وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجىء جاء ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلم عليه فرد عليه السلام ، وقال مرحباً بالأبن الصالح والنبي الصالح ، وغذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك وإذا نظر قبيل شماله بكى ، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح . .(1/88)
إلخ . فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة كل واحد منهما ابن خالة الآخر فقال جبريل : هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما ، فردا السلام وقالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فأستفتح . . . إلخ. فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل هذا يوسف فسلم عليه فسلم عليه ، فرد السلام ، وقال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح . . إلخ فوجد فيها إدريس صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا إدريس فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام ، وقال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فأستفتح . . . .إلخ . فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا هارون فسلم عليه ، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فأستفتح . . . . إلخ. فوجد فيها موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزه بكى موسى فقيل له ما يبكيك قال: "أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" فكان بكاء موسى حزناً على ما فات أمته من الفضائل لا حسداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم عرج به إلى السماء السابعة فأستفتح . . . إلخ. فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحباً بالأبن الصالح والنبي الصالح. وإنما طاف جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، على هؤلاء الأنبياء تكريماً له وإظهاراً لشرفه وفضله صلى الله عليه وسلم وكان إبراهيم الخليل مسنداً ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون ويصلون(1/89)
ثم يخرجون ولا يعودون في اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من غير البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال: ما فرض ربك على أمتك ؟ قال : خمسين صلاة في كل يوم . فقال : إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس من قبلك وعالجت بني إسرائيل اشد المعالجة فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت فوضع عن يعشراً وما زال راجع حتى استقرت الفريضة على خمس، فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي. وفي هذه الليلة أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة بغلس وصلى فيها الصبح. (1)
وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين (1) ، وبعدها أمر بالهجرة (2) إلى المدينة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) وكان يصلي الرباعية ركعتين حتى هاجر إلى المدينة فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.(1/90)
(2) أمر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة لأن أهل مكة منعوه أن يقيم دعوته، وفي شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى الله ورسوله، خرج من مكة مهاجراً بإذن ربه بعد أن قام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها، والإيذاء الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون مه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش ، فقال عدوا الله أبو جهل الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جلداً ثم نعطي كل واحد سيفاً صارماً ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف0- يعني عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم -أن يحاربوا قومهم جميعاً فيرضون بالدية فنعطيهم إياها.(1/91)
فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبو بكر رضي الله عنه قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك فإن أرجو أن يؤذن لي فتأخر أبو بكر رضي الله عنه ليصحب النبي صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب مقتنعاً فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأبي بكر: أخرج من عندك. فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله. قال: نعم. فقال: يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بالثمن ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وكان غلاماً شاباً ذكياً في آخر الليل إلى مكة فيصبح من قريش فلا يسمع بخبر حول النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي صلى الله عليه وسلم من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشاً ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال ، أبو بكر رضي الله عنه قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا. فقال: "لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر بأثنين الله ثالثهما". (1) حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل.(1/92)
ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم كانوا يخرجون كل صباح يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه حتى يطردهم حر الشمس، فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أطم آطام المدينة ينظر لحاجة له فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب فلم يملك أن نادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون فهب المسلمون للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم السلاح تعظيماً وإجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاناً باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه رضي الله عنهم فتلقوه صلى الله عليه وسلم بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء ، وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد، ثم أرتحل إلى المدينة والناس معه آخرون يتلقونه في الطرقات قال أبو بكر رضي الله عنه خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد.
والهجرة : الإنتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام (2)، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة . والدليل قوه تعالى: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً ( (3) {سورة النساء، الآيات: 97-99}.
(1) الهجرة في اللغة: "مأخوذه من الهجر وهو الترك".(1/93)
وأما في الشرع فهي كما قال الشيخ: "الإنتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام". وبلد الشرك هو الذي تقام فيها شعائر الكفر ولا تقام فيه شعائر الإسلام كالأذان والصلاة جماعة، والأعياد، والجمعة على وجه عام شامل ، وإنما قلنا على وجه عام شامل ليخرج ما تقام فيه هذه الشعائر على وجه محصور كبلاد الكفار التي فيها أقليات مسلمة فإنها لا تكون بلاد إسلام بما تقيمه الأقليات المسلمة فيها من شعائر الإسلام، أما بلاد الإسلام فهي البلاد التي تقام فيها هذه الشعائر على وجه عام شامل.
(2) فهي واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر فلا يتم إسلامه إذا كان لا يستطيع إظهاره إلا بالهجرة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(3) في هذه الآية دليل على أن هؤلاء الذين لم يهاجروا مع قدرتهم على الهجرة أن الملائكة تتوفاهم وتوبخهم وتقول لهم ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، أما العاجزون عن الهجرة من المستضعفين فقد عفا الله عنهم لعجزهم عن الهجرة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وقوله تعالى : ( يا عبادي الذين ءامنوا إن أرضي واسعة فإياى فاعبدون ( {سورة العنكبوت، الآية:65} قال البغوي - رحمه الله تعالى -: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ؛ ناداهم الله باسم الإيمان (1). والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم*: لا تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"(2) .
(1) الظاهر أن الشيخ رحمه الله نقل هذا عن البغوي بمعناه ، هذا إن كان نقله من التفسير إذ ليس المذكور في التفسير البغوي لهذه الآية بهذا اللفظ.
(2) وذلك حين إنتهاء العمل الصالح المقبول لله تعالى : ( يوم يأتي بعض ءايات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن ؤامنت من قبل أو كسبت في إيمانها لم تكن ؤامنت من قبل كسبت في إيمانها خيراً ( {سورة الأنعام، الآية: 158} والمراد ببعض الآيات هنا طلوع الشمس من مغربها.(1/94)
(تتمة) نذكر هنا حكم السفر إلى بلاد الكفر.
فنقول : السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك.
فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار.
أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين الإسلام، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فساقاً، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والإستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين ، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين اساسين:(1/95)
الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان، وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الإنحراف والزيغ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعداً عن موالاتهم، ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم، مما ينافي الإيمان بالله قال تعالى: ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباؤهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ( {سورة المجادلة، الآية: 22} الآية: وقال تعالى : ( * يأيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون تخشي أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ( {سورة المائدة، الآيتين: 51-52} وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من أحب قوماً فهو منهم، وأن المرء مع من أحب" (1) ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب قوماً فهو منهم" (1).(1/96)
الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة ، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين ، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص 457 جـ 8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه من إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: ( إن الذين توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً ( {سورة النساء الآية: 97}. وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أهـ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفار إلى أقسام:
القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الإستجابة غليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال صلى الله عليه وسلم : "بلغوا عني ولو آية" (1) .(1/97)
القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة ، وبطلان التعبد، وإنحلال الأخلاق ، وفوضوية السلوك ؛ ليحذر الناس من الإغترار بهم ، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لا بد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامة، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وائمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ( {سورة الأنعام، الآية: 108}.
ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين؛ ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم. (1)
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دول الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخولبلاد الكفر للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.(1/98)
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل ، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط:
الشرط الأول: أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث "صغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع ، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم، وأخلاقه، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية.
الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل ، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل. وفي الدعاء المأثور "اللهم أرني الحق حقاً وأرزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأضل".(1/99)
الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها.
الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من اجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق ، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.
القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهله0(1/100)
بين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله"(1). وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى نارهما"(2). رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي سمعت محمداً - يعني البخاري - يقول الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم ،مرسل . أ هـ. وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب.
فلما آستقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد والآذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام (1)(1/101)
(1) يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لما استقر - أي النبي صلى الله عليه وسلم - في المدينة النبوية أمر ببقية شرائع الإسلام وذلك أنه في مكة دعا إلى التوحيد نحو عشر سنين، ثم بعد ذلك فرضت عليه الصلوات الخمس في مكة، ثم هاجر إلى المدينة ولم تفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج ولا غيرها من شعائر الإسلام وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الزكاة فرضت أصلاً وتفصيلاً في المدينة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الزكاة فرضت أولاً في مكة وفي المدينة قدرت الأنصباء وقدر الواجب وأستدل هؤلاء بأنه جاءت آيات توجب الزكاة في سورة مكية مثل قوله تعالى في سورة الأنعام: ( وءاتوا حقه يوم حصاده ( {سورة الأنعام، الآية: 141} ومثل قوله تعالى : ( والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ( {سورة المعارج، الآيتين: 24-25} وعلى كل حال فاستقرار الزكاة وتقدير أنصابها وما يجب فيها وبيان مستحقيها كان في المدينة، وكذلك الأذان والجمعة، والظاهر أن الجماعة كذلك لم تفرض إلا في المدينة؛ لأن الأذان الذي فيه الدعوة للجماعة فرض في السنة الثانية، فأما الزكاة والصيام فقد فرضا في السنة الثانية من الهجرة، وأما الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة على القول الراجح من أقوال أهل العلم وذلك حين كانت مكة بلد إسلام بعد فتحها في السنة الثامنة من الهجرة، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من الشعائر الظاهرة كلها فرضت في المدينة بعد إستقرار النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإقامة الدولة الإسلامية فيها.
أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه(1) ودينه باق .(1/102)
(1) أخذ أي النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بعد هجرته فلما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين اختاره لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فابتدأ به المرض صلوات الله وسلامه عليه في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول، فخرج إلى الناس عاصباً رأسه فصعد المنبر فتشهد وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قتلوا في أحد ثم قال: "إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله" ففهمها أبو بكر رضي الله عنه فبكى وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا، وأبنائنا، وأنفسنا، وأموالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "على رسلك يا أبا بكر" ثم قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولكنت متخذاً خليلاً غير ربي لأتخذت ابا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته"(1) وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ولما كان يوم الاثنين الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشر من الهجرة أختاره الله لجواره فلما نزل به جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح وجهه ويقوله: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم شخص بصره نحو السماء وقال : "اللهم في الرفيق الأعلى" (2). فتوفي ذلك اليوم فاضطرب الناس لذلك وحق لهم أن يضطربوا ، حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم( {سورة آل عمران، الآية: 144}، ( إنك ميت وإنهم ميتون ( {سورة الزمر، الآية: 30} فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل صلوات الله وسلامه عليه في ثيابه تكريماً له، ثم كفن بثلاث أثواب أي لفائف بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى الناس عليه إرسالاً بدون إمام، ثم دفن ليلة الأربعاء بعد أن تمت(1/103)
مبايعة الخليفة من بعده فعليه من ربه افضل الصلاة وأتم التسلم.
وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه: التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه: الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه. بعثه الله إلى الناس كافة (1)، وأفترض الله طاعته على جميع الثقلين: الجن والأنس ، والدليل قوله تعالى: ( قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً( (2) {سورة الأعراف، الآية: 158}.
وأكمل الله به الدين ، والدليل قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ( (3){سورة المائدة، الآية: 5}.
(1) بعثه الله أي أرسله، إلى الناس كافة أي جميعاً.
(2) في هذه الآية دليل على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعاً وأن الذي أرسله له ملك السماوات والأرض ، ومن بيده الإحياء والإمانة، وأنه سبحانه هو المتوحد بالألوهية كما هو متوحد في الربوبية ، ثم أمر سبحانه وتعالى في آخر الآية أن نؤمن بهذا الرسول النبي الأمي وأن نتبعه وأن ذلك سبب للهداية العلمية والعملية، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق فهو عليه الصلاة والسلام رسول إلى جميع الثقلين وهم الإنس والجن وسموا بذلك لكثرة عددهم.(1/104)
(3) أي أن دينه عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم القيامة فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين للامة جميع ما تحتاجه في جميع شئونها حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: "ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم طائراً يقلب جناحية في السماء إلا ذكر لنا منه علماً" (1) وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه علمكم نبيكم حتى الخراة - آداب قضاء الحاجة - قال: "نعم لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجى بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجى باليمين، أو أن نستنجى برجيع أو عظم"(2) فالنبي صلى الله عليه وسلم بين كل الدين إما بقوله، وإما بفعله، وإما بإقراره ابتداء أو جواباً عن سؤال، وأعظم ما بين عليه الصلاة والسلام التوحيد.
وبين كل ما أمر به فهو خير للأمة في معادها ومعاشها، وكل ما نهى عنه فهو شر للأمة في معاشها ومعادها، وما يجهله بعض الناس ويدعيه من ضيق في الأمر والنهي فإنما ذلك لخلل البصيرة وقلة الصبر وضعف الدين، وإلا فإن القاعدة العامة أن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج وأن الدين كله يسر وسهولة قال الله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( {سورة البقرة، الآية: 185}، وقال تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج( {سورة الحج، الآية: 78} وقال تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ( {سورة المائدة، الآية: 6} فالحمد لله على تمام نعمته وإكمال دينه.
والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ( إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون( (1) {سورة الزمر ، الآيتين : 30-31}. والناس إذا ماتوا يبعثون (2) ، والدليل قوله تعالى : ( * منها خلقناكم (3) وفيها نعيدكم (4) ومنها نخركم تارة أخرى( (5) {سورة طه، الآية: 55}، وقوله تعالى: ( والله أنبتكم من الارض نباتاً * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً( (6) {سورة نوح، الآيتين: 17-18}.(1/105)
(1) ففي هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أرسل إليهم ميتون وأنهم سيختصمون عند الله يوم القيامة فيحكم بينهم بالحق ولن يجعل الله لكافرين على المؤمنين سبيلاً.
(2) بين رحمة تعالى في هذه الجملة أن الناس إذا ماتوا يبعثون ، يبعثهم الله عز وجل أحياء بعد موتهم للجزاء، وهذا هو النتيجة من إرسال الرسل أن يعمل الإنسان لهذا اليوم يوم البعث والنشور، اليوم الذي ذكر الله سبحانه وتعالى من أحواله وأهواله ما يجعل القلب ينيب إلى الله عز وجل ويخشى هذا اليوم قال الله تعالى: ( فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيباً * السماء منفطر به كان وعده مفعولاً ( {سورة المزمل، الآيتين : 17-18}.
وفي هذه الجملة إشارة إلى الإيمان بالبعث وأستدل الشيخ له بآيتين.
(3) أي من الأرض خلقناكم حين خلق آدم عليه الصلاة والسلام من تراب.
(4) أي بالدفن بعد الموت.
(5) أي بالبعث يوم القيامة.
(6) هذه الآية موافقة تماماً لقوله تعالى: ( * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى( والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً وقد أبدى الله عز وجل وأعاد في إثبات المعاد حتى يؤمن الناس بذلك ويزدادوا إيماناً ويعملوا لهذا اليوم العظيم الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العالمين له ومن السعداء فيه.
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم ، والدليل قوله تعالى : ( ليجزي الذين اسئوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى( (1) {سورة النجم، الآية: 31}؛ . . . . . . . . . . .(1/106)
(1) يعين أن النسا بعد البعث يجازون ويحاسبون على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال الله تبارك وتعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شر يره( {سورة الزلزلة، الآيتين: 7-8}، وقال تعالى: ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين( {سورة الأنبياء، الآية: 47}، وقال جلا وعلا: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون( {سورة الأنعام ، الآية: 160}. فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فضلاً من الله عز وجل وامتناناً منه سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا قد تفضل بالعمل الصالح ، ثم تفضل مرة أخرى بالجزاء عليه هذا الجزاء الواسع الكثير ، أما العمل السيء فإن السيئة لا يجازى الإنسان بأكثر منها قال تعالى: ( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ( {سورة الأنعام ، الآية: 160} وهذا من كمال فضل الله وإحسانه.
ثم أستدل الشيخ لذلك بقوله تعالى: ( ليجزي الذين أسئوا بما عملوا ( ولم يقل بالسوآي كما قال : ( ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ( .
ومن كذب بالبعث كفر ، والدليل قوله تعالى : ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير( (1) {سورة التغابن ، الآية: 7} ، . . . . .(1/107)
(1) من كذب بالبعث فهو كافر لقوله تعالى: ( وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين * ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون( {سورة الأنعام، الآيتين: 29-30}، وقال تعالى: ( ويل يومئذ للمكذبين * الذين يكذبون بيوم الدين * وما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه أياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون( {سورة المطففين ، الآيات: 10-17} ، وقال تعالى: ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيراً ( {سورة الفرقان، الآية: 11}، وقال تعالى: ( والذين كفروا بأيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب اليم( {سورة العنكبوت ، الآية : 23} واستدل الشيخ رحمه الله تعالى بقوله تعالى: ( زعم الذين كفروا( الآية.
وأما إقناع هؤلاء المنكرين فبما يأتي:
أولاً : أن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية ، والشرائع السماوية ، وتلقته أممهم بالقبول، فيكف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث قد شهد العقل بإمكانه، وذلك عن وجوه:
1- كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقاً بعد العدم، وأنه حادث بعد أن لم يكن، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأولى، كما قال الله تعالى: ( وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده هو أهون عليه( {سورة الروم ، الآية: 27}، وقال تعالى: ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ( {سورة الأنبياء الآية: 104}.(1/108)
2- كل أحد لا ينكر عظمة خلق السماوات والارض لكبرهما وبديع صنعتهما ، فالذي خلقهما قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى ؛ قال الله تعالى : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس( {سورة غافر، الآية: 57}، وقال تعالى : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحى الموتى بلى إنه على كل شيء قدير( {سورة الأحقاف ، الآية: 33}، وقال تعالى: ( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهما بلى وهو الخالق العليم * إنما أمره إذا اراد شيئاً ان يقول كن فيكون( {سورة يس، الآيتين: 81-82}.
3- كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدة ميتة النبات، فإذا نزل المطر عليها اخصبت وحيي نباتها بعد الموت ، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم ن قال الله تعالى: ( ومن أياته أنك ترى الارض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء أهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير( {سورة فصلت، الآية: 39}.
ثالثاً : أن أرم البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع أحياء الموتى ، وقد ذكر الله تعالى من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث منها، قوله: ( أو كالذي مر على قرية ويه خاوية على عروشها قال أنى يحى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وأنظر إلى حمارك ولنجعلك أية للناس وأنظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير( {سورة البقرة، الآية: 259}.(1/109)
رابعاً: أن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً لا قيمة له، ولا حكمة منه، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة. قال الله تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم( {سورة المؤمنون، الآيتين: 155-116} ، وقال الله تعالى: ( إن الساعة أتيه أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى( {سورة طه ، الآية: 15} ، وقال تعالى : ( واقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين * إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ( {سورة النحل، الآيات : 38-40}. وقال تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير( {سورة التغابن، الآية: 7}.
فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث وأصروا على إنكارهم ، فهم مكابرون معاندون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
وارسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل( (1) {سورة النساء، الآية: 165} ، . . . . . . . . .
(1) بين المؤلف رحمه الله تعالى ان الله أرسل جميع الرسل مبشرين ومنذرين كما قال تعالى: ( رسلاً مبشرين ومنذرين( يبشرون من أطاعهم بالجنة وينذرون من خالفهم بالنار.
وإرسال الرسل له حكم عظيمة من أهمها بل هو أهمها أن تقوم الحجة على الناس حتى لا يكون لهم على الله حجة بعد إرسال الرسل كما قال تعالى: ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل(.(1/110)
ومنها أنه من تمام نعمة الله على عباده فإن العقل البشري مهما كان لا يمكنه أن يدرك تفاصيل ما يجب لله تعالى من الحقوق الخاصة به، ولا يمكنه أن يطلع على ما لله تعالى من الصفات الكاملة ، ولا يمكن أن يطلع على ماله من الأسماء الحسنى ولهذا ارسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وأعظم ما دعا إليه الرسل من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم التوحيد كما قال الله تعالى: ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله وأجتنبوا الطاغوت( {سورة النحل ، الآية: 36}. وقال عز وجل : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون( {سورة الأنبياء، الآية: 25}.
وأولهم نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى: ( * إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده( (1){سورة النساء، الآية: 163}.
(1) بين شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام وأستدل لذلك بقوله تعالى: ( * إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده( {سورة النساء، الآية: 163} وثبت في الصحيح من حديث الشفاعة: " إن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض"(1) فلا رسول قبل نوح وبهذا نعلم خطاً االمؤرخين الذين قالوا إن أدريس عليه الصلاة والسلام قبل نوح بل الذي يظهر أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل.
وآخر الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ( ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً ( {سورة الأحزاب، الآية: 40} فلا نبي بعده ومن أدعى النبوة بعده فهو كاذب كافر مرتد عن الإسلام.(1/111)
وكل أمة بعث الله إليها رسولاً (1) من نوح إلى محمد ؛ يأمرهم بعادة الله وحده ، وينهاهم عن عبادة الطاغوت ، والدليل قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله وأجتنبوا الطاغوت( (2){سورة النحل ، الآية: 36}.
وأفترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع ، أو مطاع (3) ؛ . . . . . . .
(1) أي أن الله بعث في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن الشرك ودليل ذلك قول الله تعالى: ( وإن من أمة غلا خلا فيها نذير( {سورة فاطر، الآية: 24}، وقال :
( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن أعبدوا الله وأجتنبوا الطاغوت( .
(2) هذا هو معنى لا إله إلا الله.
(3) أراد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا أن التوحيد لايتم إلا بعبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت.
وقد فرض الله ذلك على عبادة والطاغوت مشتق من الطغيان ، والطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى: ( إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية( {سورة الحاقة، الآية:11}. يعني لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة.(1/112)
واصطلاحاً أحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - أنه - أي الطاغوت-: "كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع ، أو مطاع" . ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين ، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا - أو اتبعوا - أو اتبعوا - أو أطيعوا فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت ، وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر ، أو يدعون إلى البدع، أو إلى تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله طواغيت ، والذين يزنون لولاة الأمر الخروج عن شريعة الإسلام بنظم يستوردونها مخالفة لنظام الدين الإسلامي طواغيت ، لأن هؤلاء تجاوزوا حدهم ، فإن حد العالم أن يكون متبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأن العلماء حقيقة ورثة الأنبياء، يرثونهم في أمتهم علماً وعملاً ، وأخلاقاً ، ودعوة وتعليماً ، فإذا تجاوزوا هذا الحد وصاروا يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام بمثل هذه النظم فهم طواغيت ؛ لأنهم تجاوزوا ما كان يجب عليهم أن يكونوا عليه من متابعة الشريعة.
وأما قوله - رحمه الله - "أو مطاع" فيريد به الأمراء الذين يطاعون شرعاص أو قدراً ، فالأمراء يطاعون شرعاً إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله وفي هذه الحال لا يصدق عليهم أنهم طواغيت ، والواجب لهم على الرعية السمع والطاعة ، وطاعتهم لولاة الأمر في هذا الحال بهذا القيد طاعة الله-عز وجل - ولهذا ينبغي أن نلاح حين ننفذ ما أمر به ولي الأمر مما تجب طاعته فيه أننا في ذلك نتعبد لله تعالى ونتقرب إليه بطاعته ، حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربة إلى الله عز وجل وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك لأن لله تعالى يقول : ( يأيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم( {سورة النساء، الآية: 59}.(1/113)
وأما طاعة الأمراء قدراً فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان وإن لم يكن بوازع الإيمان ، لأن طاعة ولي الأمر تكون بوازع الإيمان وهذه هي الطاعة النافعة، النافعة لولاة الأمر، والنافعة للناس أيضاً، وقد تكون الطاعة بوازع السلطان بحيث يكون قوياً يخشى الناس منه ويهابونه لأنه ينكل بمن خالف أمره.
ولهذا نقول إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة لهم أحوال:
الحال الأولى: أن يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أكمل الأحوال وأعلاها.
الحال الثانية: أن يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أدنى الأحوال وأخطرها على المجتمع، على حكامه ومحكوميه؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني حصلت الفوض الفكرية والخلية والعملية.
الحال الثالثة: أن يضعف الوازع الإيماني ويقوى الرادع السلطاني وهذه مرتبة وسطى لأنه إذا قوى الرادع السلطاني صار اصلح للأمة في المظهر فإذا أختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حال الأمة وسوء عملها .
الحال الرابعة: أن يقوي الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني فيكون المظهر أدنى منه في الحال الثالثة لكنه فيما بين الإنسان وربه أكمل واعلى .
والطواغيت (1) كثيرة ورؤسهم (2) خمسة إبليس(3) لعنه الله، ومن عبد وهو راض (4) ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه (5) ، ومن أدعى شيئاً من علم الغيب(6)؛ . . . . . . . . . . . .
(1) جمع طاغوت وسبق تفسيره.
(2) أي زعمائهم ومقلدوهم خمسة.
(3) إبليس هو الشيطان الرجيم اللعين الذي قال الله له: ( وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين( {سورة ص، الآية: 78} وكان إبليس مع الملائكة صحبتهم يعمل بعملهم ، ولما أمر بالسجود لآدم ظهر ما فيه من الخبث والإباء والإستكبار فأبى وأستكبر وكان من الكافرين فطرد من رحمة الله عز وجل قال الله تعالى: ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى وأستكبر وكان من الكافرين ( {سورة البقر، الآية: 34}.(1/114)
(4) أي عبد من دون الله وهو راض أن يعبد من دون الله فإنه من رؤوس الطواغيت - والعياذ بالله - وسواء عبد في حياته أو بعد مماته إذا مات وهو راض بذلك.
(5) أي من دعا الناس إلى عبادة نفسه وإن لم يعبدوه فإنه من رؤوس الطواغيت سواء أجيب لما دعا إليه أم لم يجيب.
(6) الغيب ما غاب عن الإنسان وهو نوعان:
واقع ، ومستقبل ، فغيب الواقع نسبي يكون لشخص معلوماً ولآخر مجهولاً ، وغيب المستقبل حقيقي لا يكون معلوماً لأحد إلا الله وحده أو من أطلعه عليه من الرسل فمن أدى علمه فهو كافر لأنه مكذب لله عز وجل ولرسوله ، قال الله تعالى : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون( {سورة النمل، الآية: 65}، وإذا كان الله عز وجل يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، أن يعلن للملأ أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، فإن من أدعى علم الغيب فقد كذب الله عز وجل ورسوله في هذا الخبر.
ونقول لهؤلاء كيف يمكن أن تعلموا الغيب والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ؟ هل أنتم أشرف أم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن قالوا هو أشرف فنقول لماذا يحجب عنه الغيب وأنتم تعلمونه؟ وقد قال عز وجل عن نفسه : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً( {سورة الجن، الآية:26-27}، وهذه آية ثانية تدل على كفر من أدعى علم الغيب ، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للملأ بقوله : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا اقول لكم إني ملك أن أتبع ما يوحي إلى ( {سورة الأنعام، الآية: 50}.
ومن حكم بغير ما أنزل الله (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/115)
(1) الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية ؛ لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته، وكمال ملكه وتصرفه ، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أربابا لمتبعيتهم فقال سبحانه: ( أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون( {سورة التوبة، الآية: 31} ، فسمى الله تعالى المتبوعين أربابا حيث جعلوا مشرعين مع الله تعالى، وسمى المتبعين عباداً حيث إنهم ذلوا لهم وأطاعوهم في مخالفة حكم الله سبحانه وتعالى.
وقد قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم لم يعبدوهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "بل إنهم حرموا عليهم الحلال ، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم". (1) إذا فهمت ذلك فأعلم أن من لم يحكم بما أنزل الله، وأراد أن يكون التحاكم إلى غير الله ورسوله وردت فيه آيات بنفي الإيمان عنه، وآيات بكفره وظلمه، وفسقه.
فأما القسم الأول:(1/116)
فمثل قوله تعالى: ( ألم ترى إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً * وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً( {سورة النساء، الآيات: 60-65}. فوصف الله تعالى هؤلاء المدعين للإيمان وهم منافقون بصفات:
الأولى: أنهم يريدون أن يكون التحاكم إلى الطاغوت، وهو كل ما خالف حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن ما خالف حكم الله ورسوله فهو طغيان و اعتداء على حكم من له الحكم وإليه يرجع الأمر كله وهو الله، قال الله تعالى: ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين( {سورة الأعراف، الآية: 25}.
الثانية: أنهم إذا دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدوا وأعرضوا.
الثالثة: أنهم إذا أصيبوا بمصيبة بما قدمت أيديهم-ومنها أن يعثر على صنيعهم-جاءوا يحلفون أنهم ما أرادوا إلا الإحسان والتوفيق كحال من يرفض اليوم أحكام الإسلام ويحكم بالقوانين المخالفة لها زعماً منه أن ذلك هو الإحسان الموافق لأحوال العصر.(1/117)
ثم حذر - سبحانه - هؤلاء المدعين للإيمان المتصفين بتلك الصفات بأنه - سبحانه - يعلم ما في قلوبهم وما يكنونه من أمور تخالف ما يقولون ، وأمر نبيه أن يعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ، ثم بين أن الحكمة من إرسال الرسول أن يكون هو المطاع المتبوع لا غيره من الناس مهما قويت أفكارهم واتسعت مداركهم ، ثم اقسم تعالى بربوبيته لرسوله التي هي أخص أنواع الربوبية والتي تتضمن الإشارة إلى صحة رسالته صلى الله عليه وسلم ، أقسم بها قسماً مؤكداً أنه لا يصح الإيمان إلا بثلاثة أمور:
الأول: أن يكون التحاكم في كل نزاع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن تنشرح الصدور بحكمه، ولا يكون في النفوس حرج وضيق منه.
الثالث: أن يحصل التسليم بقبول ما حكم به وتنفيذه بدون توان أو إنحراف.
وأما القسم الثاني:
فمثل قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون( {سورة المائدة، الآية: 33} ، وقوله: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون( {سورة المائدة، الآية: 45}، وقوله: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون( {سورة المائدة الآية: 47} ، وهل هذه الأوصاف الثلاثة تتنزل على موصوف واحد؟ بمعنى أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، لأن الله تعالى وصف الكافرين بالظلم والفسق فقال تعالى: ( والكافرون هم الظالمون( {سورة البقرة، الآية: 254}، وقال تعالى: ( إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( {سورة التوبة، الآية: 84}. فكل كافر ظالم فاسق، أو هذه الأوصاف تتنزل على موصوفين بحسب الحامل لهم على عدم الحكم بما أنزل الله؟ هذا هو الأقرب عندي والله أعلم.(1/118)
فنقول: من لم يحكم بما انزل الله استخفافاً به، أو احتقاراً، أو اعتقاداً أن غيره أصلح منه، وانفع للخلق أو مثله فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه.
ومن لم يحكم بما أنزل الله وهو لم يستخف به، ولم يحتقره، ولم يعتقد ان غيره أصلح منه لنفسه أو نحو ذلك، فهذا ظالم وليس بكافر وتختلف مراتب ظلمه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
ومن لم يحكم بما أنزل الله لا استخفافاً بحكم، الله، ولا احتقاراً، ولا اعتقاداً أن غيره أصلح، وأنفع للخلق أو مثله، وإنما حكم بغيره محاباة للمحكوم له، أو مراعاة لرشوة أو غيرها من عرض الدنيا فهذا فاسق، وليس بكافر وتختلف مراتب فسقه بحسب المحكوم به ووسائل الحكم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله - فيمن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله أنهم على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم يدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ويعتقدون تحليل ما حرم، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحرام وتحريم الحلال - كذا العبارة المنقولة عنه -ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.(1/119)
وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعاً عاماً والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله لأن المسائل يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة - نسأل الله تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم - كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتتبين المحجة فيهملك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
والدليل(1) قوله تعالى: ( لا إكراه في الدين(2) قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله (3) فقد أستمسك بالعروة الوثقى( (4) {سورة البقرة، الآية : 256} وهذا معنى لا إله إلا الله.
وفي الحديث* "رأس الأمر الإسلام (5) وعموده الصلاة(6) وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" (7) ؛ . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1) أي على وجوب الحكم بما أنزل الله والكفر بالطاغوت.
(2) لا إكراه على الدين لظهور أدلته وبيانها ووضوحها ولهذا قال بعده:
( قد تبين الرشد من الغى( فإذا تبين الرشد من الغي فإن كل نفس سليمة لا بد أن تختار الرشد على الغي.
(3) بدأ الله عز وجل بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله ؛ لأن من كمال الشيء إزالة الموانع قبل وجود الثوابت ولهذا يقال التخلية قبل التحلية.
(4) أي تمسك بها تمسكاً تاماً والعروة الوثقى هي الإسلام وتأمل كيف قال عز وجل: ( فقد أستمسك( ، ولم يقل: (تمسك) لن الإستمساك أقوى من التمسك فإن الإنسان قد يتمسك ولا يستمسك.(1/120)
(5) أراد المؤلف رحمه الله تعالى الإستدلال بهذا الحديث على أن لكل شيء رأساً فرأس الأرم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم الإسلام.
(6) لأنه لا يقوم إلا بها ولهذا كان الراجح كفر تارك الصلاة وأنه ليس له الإسلام.
(7) أي أعلاه وأكمله الجهاد في سبيل الله، وذلك لأن الإنسان إذا أصلح نفسه حاول إصلاح غيره بالجهاد في سبيل الله ليقوم الإسلام ولتكون كلمة الله هي العليا، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وصار ذروة السنام لأن به علو الإسلام على غيره.
والله أعلم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم(1)
(1) ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رسالته
هذه برد العلم إلى الله عز وجل والصلاة والسلام على
نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبهذا انتهت
الأصول الثلاثة وما يتعلق بها فنسأل الله
تعالى أن يثيب مؤلفها أحسن ثواب،
وأن يجعل لنا نصيباً من أجرها
وثوابها، وأن يجمعنا وإياه في
دار كرامته، إنه جواد كريم،
والحمد لله رب العالمين،
وصلى الله وسلم
على نبينا
محمد
**
*
(1) عزه السيوطي في الجامع الصغير "للرهاوي" 4/147 ، وأخرجه الخطيب في "الجامع" 2/69. وقد أخرج الحديث بطرق كثيرة وألفاظ متعددة، وقد ستل شيخنا العلامة محمد العثيمين -حفظه الله ورعاه-عن هذا الحديث فقال: "هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه . ولكن تلقي العلماء هذا الحديث بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلاً . . ." أنتهى من كتاب (العلم) لفضيلة شيخنا-يسر الله نشره _.
(1) رواه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة. ومسلم . كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه-.
(2) مسلم ، كتاب العلم ، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة.
(3) مسلم ، كتاب الإمارة باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره.(1/121)
(1) رواه البخاري ، كتاب أستتابة المرتدين والمعاندين . ومسلم ، كتاب الجهاد ، باب : غزوة أحد.
(1) البخاري، كتاب التفسير ، سورة الطور .
(2) البخاري، كتاب القدر . ومسلم ، كتاب القدر
(1)رواه البخاري ، كتاب العلم ، باب : من خص دون قوم كراهية أن لا يفهموا. ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
(1) رواه البخاري كتاب التوحيد ، باب : قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب : كون الشرك أقبح الذنوب.
(2) رواه ومسلم ، كتاب الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
(1) رواه البخاري، كتاب التفسير ، سورة البقرة باب قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً ( الآية: 165.
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب: بيان أركان الإيمان والإسلام.
(1) تقدم تخريجه ص 40 ، وانظر : شرح الحديث في " مجموع الفتاوى والرسائل" لفضيلة شيخنا- حفظه الله ورعاه - المجلد الثالث، ص 145
(1) أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب : فضل الدعاء. وقال: حديث غريب من هذا الوجه.
(1) أخرجه الإمام أحمد 1 / 293 ، والترمذي 4/575 .
(1) تقدم قريباً
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الذكر والدعاء ، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره.
(2) أخرجه الإمام أحمد 2/25 ، والنسائي 8 /677 .
(3) أخرجه الإمام أحمد 4/217 ، وأبو داود (3891) ، وأين ماجه (2522) .
(4) أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب : ما يقال في الركوع والسجود.
(5) أخرجه البخاري ، كتاب الإعتصام ، باب : قوله تعالى "أو يلبسكم شيعاً "
(6) أخرجه البخاري، كتاب ، باب الفتن ، باب: تكون الفتنة القاعد فيها خير من القائم. ومسلم ، كتاب الفتن ، باب : نزول الفتن كمواقع القطر.
(1) رواه ومسلم ، كتاب الحدود ، باب: قطع السارق الشريف وغيره.
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الفتن ، باب : الخسف بالجيش يؤم البيت.(1/122)
(3) أخرجه مسلم ، كتاب الجهاد، باب : الإمداد بالملائكة في غزوة بدر.
* أخرجه مسلم ، كتاب الأضاحي ، باب : تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب ، باب: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. ومسلم ، كتاب اللقطة ، باب: الضيافة ونحوها.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب البيوع ، باب: ما جاء في قوله تعالى : "فإذا قضت الصلاة" . مسلم ، كتاب النكاح ، باب : الصداق وجواز كونه تعليم القران وخاتم الحديث.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب القدر ، باب: إلقاء العبد النذر إلى القدر. ومسلم ، كتاب النذر ، باب : النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً.
(2) رواه البخاري ، كتاب الإيمان والنذور ، باب: النذر فيما لا يملك وفي معصية.
(1) تقدم تخريجه.
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان باب: قول النبي عليه الصلاة والسلام : "بني الإسلام على خمس . . . " ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب : بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب : من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم.
(1) أخرجه الترمذي ، كتاب الإيمان ، باب: ما جاء فيمن ترك الصلاة.
(1) تقدم تخريجه.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز ، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه. ومسلم ، كتاب القدر، باب : ما من مولود يولد إلا على الفطرة.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير ، سورة الطورجـ4 ، ص 1839 .
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب: رفع اليدين في الدعاء. ومسلم ، كتاب الإستسقاء، باب: الدعاء في الإستسقاء.
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة. ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات.
(1) البخاري ، كتاب بدء الخلق، 3232-3233
(2) تقدم تخريجه.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب بدء الخلق، باب : ذكر الملائكة . ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب: إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده.(1/123)
(1) أخرجه البخارين كتاب الجمعة ، باب: الإستماع إلى الخطبة . ومسلم ، كتاب الجمعة ، باب: فضل التهجير يوم الجمعة.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب التوحيد ، باب : كلام الله مع الأنبياء يوم القيامة. ومسلم ، كتاب=
(1) أخرجه البخاري ، كتاب القبلة ، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان. ومسلم ، كتاب المساجد، باب : السهر في الصلاة والسجود له.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الرفاق ، باب: كيف الحشر. ومسلم ، كتاب الجنة ، باب: الدنيا وبيان المحشر يوم القيامة.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب المظالم ، باب: قوله تعالى : "ألا لعنة الله على الظالمين" . ومسلم كتاب التوبة ، باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب الرقائق، باب: من هم بحسنة أو سيئة ، ومسلم ، كتاب الإيمان، باب: الإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى السماوات.
(1) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه.
(2) أخرجه الإمام أحمد 4/287 ، وابو داود ، كتاب السنة ، باب: المسألة في عذاب القبر ، والهيثمي في " مجمع الزوائد 3/49-50، وأبو نعيم في " الحلية " 8/10، وابن أبي شيبة في المصنف 3/374 ، والآجري في " الشريعة " ص 327 ، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
(1) أنظر : ص 103
(2) رواه البخاري ، كتاب الوضوء باب : من الكبائر أن لا يستبرأ من بوله. ومسلم ، كتاب الطهارة باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الإستبراء منه.
(1) رواه مسلم ، كتاب القدر ، باب: ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
(1) رواه البخاري ، كتاب التفسير.
(2) رواه مسلم ، كاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي. . . .
(1) رواه مسلم ، كتاب الزهد والرقائق باب: المؤمن أمره كله خير.
(1) رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإيمان والإسلام ، وغالب هذا الحديث تقدم شرحه ولنا شرح عليه في مجموع الفتاوى والرسائل 3/143.(1/124)
(1) رواه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب : فضل من حمل متاع صاحبه. ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب: بيان أن أسم الصدق يقع في كل نوع من المعروف.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة . ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب المهاجرين وفضلهم ، ومسلم ، =
* أخرجه أبو داود ، كتاب الجهاد ، باب: في الهجرة هل أنقطعت. وأحمد جـ1 ص 192. والدرامى ، كتاب السير، باب : أن الهجرة لا تنقطع ، والهيثمي في "مجمع الزوائد" جـ 5 ص 250 ، وقال: "روى أبو داود والنسائي بعض حديث معاوية - ورواء أحمد والطبراني في الأوسط والصغير من غير حديث ابن السعدي - ورجال أحمد ثقات -".
(1) رواه البخاري ، كتاب الأدب ، باب : علامة حب الله عز و جل ومسلم ، كتاب الصلة، باب : المرء مع من أحب.
(1) رواه البخاري ، كتاب الأنبياء ، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل.
(1) صحيح مسلم، كتاب الجهاد ، باب غزوة الأحزاب.
(1) رواه أبو داود ، كتاب الجهاد ، باب: الإقامة بأرض المشركين.
(2) أخرجه أبو داود ، كتاب الجهاد ، باب: النهي عن قتل من أعتصم بالسجود. والترمذي كتاب السير، باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب المساجد ، باب: الخوخة والممر في المسجد.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/163.
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الطهارة ، باب: الإستطابة.
(1) رواه البخاري كتاب التوحيد ، باب : كلام اللعه مع الأنبياء ، يوم القيامة ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة
(1) رواه الترمذي وحسنه ، كتاب التفسير سورة التوبة ، 5/262.
* رواه أحمد 5/231-237، والترمذي 5/13 برقم 2616 ، وابن ماجه 2/1394 برقم 2973.
??
??
??
??(1/125)