والنوع الثاني من الشرك : الشرك به ـ تعالى ـ في الربوبية كشرك من جعل معه خالقًا آخر كالمجوس وغيرهم الذين يقولون بأنّ العالم رَبَّيْن أحدهما خالق الخير يقولون له بلسان الفارسية : ( يزدان )، والآخر: خالق الشر ويقولون له بلسان الفارسية : ( أهرمن )؛ وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون بأنه لم يصدر عنه إلاّ واحد بسيط، وإن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وإنّ مصدر هذا العالم عن العقل الفعّال فهو رب كلِّ ما تحته ومدبره .
وهذا شرٌّ من شرك عُبّاد الأصنام والمجوس والنصارى، وهو أخبث شرك في العالم إذْ يتضمّن من التعطيل وجحْد الإلهية والربوبية واستناد الخلق إلى غيره ـ سبحانه وتعالى ـ ما لم يتضمّنه شركُ أمةٍ من الأمم .
وشرك القدرية مُخْتَصَرٌ من هذا وبابٌ يُدخل منه إليه؛ ولهذا شبّههم الصحابة
ـ رضي الله عنهم ـ بالمجوس كما ثبت عن ابن عمر وابن عبّاس ـ رضي الله
عنهم ـ، وقد روى أهل السنن في ذلك مرفوعًا : أنهم مجوس هذه الأمة .
وكثيرًا ما يجتمع الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر .
والقرآن الكريم ـ بل الكتب المنزّلة من عند الله تعالى ـ كلها مصرِّحة بالرد على أهل هذا الإشراك : كقوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية، وقوله : { وإياك نستعين } فإنه ينفي شرك الخلق والربوبية؛ فتضمّنت هذه الآية تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات ( ( ) الحمد لله رب العالمين، وصلاة الله وسلامه ورحمته وبركاته على رسوله الأمين نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجميعن .
وبعد :
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ الإمام المقريزي : ((والنوع الثاني من الشرك : الشرك به تعالى في الربوبية)) . بعد أنْ تحدّث عن الشرك بالله ـ تعالى ـ في الألوهية .(1/1)
الشرك في الربوبية ((كشرك من جعل معه ـ تعالى ـ خالقًا آخر كالمجوس)) . المجوس ـ عُبّاد النار ـ أثبتوا مع الله ـ تعالى ـ خالقَين اثنين .
((وغيرهم الذين يقولون بأنّ للعالم ربَّيْن)) اثنين ((أحدهما : خالق الخير، يقولون له بلسان الفارسية : ( يَزْدان ) )) ( يزدان ) يقول المعلِّق : ((معناه)) ـ عندهم ـ : ((الله))، هذا على عُهْدته، نحن ما نعرف اللغة الفارسية .
((والآخر : خالق الشر، ويقولون لهم بلسانهم)) باللسان الفارسي : (( ( أَهْرَمَنْ ) )) الضبط والله أعلم؛ والمعنى ـ كما يقول المعلِّق ـ إنه شيطان، هكذا يقول؛ وعلى كلٍّ الشيء الذي نحن نعلم : إثبات خالقيْن اثنين خالقًا للشر وخالقًا للشر، سواءٌ بهذا الاسم أو بأسماء أخرى .
((وكالفلاسفة ومن تبعهم)) الذين تبِعوا الفلاسفة؛ إذا أُطلقت الفلاسفة : الفلاسفة اليونانيُّون، ومن تبعهم من الفلاسفة الإسلاميِّين كابن سينا والفارابي والكِندي، هؤلاء الذين يسمِّيهم بعض الناس فلاسفة إسلاميِّين، وهم تَبَع للفلاسفة اليونايِّين في عقيدتهم تمامًا؛ ولشيخ الإسلام ردٌّ عليهم وردٌّ على المنطقيِّين كما ردّ على علماء الكلام في غير موضع من كتبه، ومن يتتبّع كتب شيخ الإسلام ـ لأن الرجل عاصرهم ونازلهم كلهم على حِدَة ثم ردّ عليهم ـ يعلم حقيقة هؤلاء .(1/2)
أنا أقولها [ الفلاسفة الإسلاميّين ] على حسب تسمية الناس، وإلا سبق البحث في هذه النقطة : تسمية ابن سينا والفارابي والكِندي وأمثالهم بالفلاسفة الإسلاميِّين تسمية تقليديّة غير صحيحة إذْ لا توجَد فلسفة إسلامية، لا توجَد في الإسلام فلسفة، بعيدة عن الإسلام الفلسفة، تُضاد الإسلام، لا يجتمعان أبدًا، بل علم الكلام أقرب منه، لأن من علم الكلام : مذهب الأشاعرة وهو أقرب؛ فسبب من أسباب فساد علم الكلام : الفلسفة، لأن علماء الكلام كلهم تأثروا بالفلسفة، فتدخلت الفلسفة في العقيدة فأفسدتْ على جمهور المسلمين عقائدهم؛ أقول : ( على جمهور المسلمين ) لأن لا يدخل بعض المسلمين .
((الذين يقولون : بأنه لم يصدر عنه ـ تعالى ـ إلا واحدٌ بسيط)) . ( بسيط ) هنا ضد ( المركَّب ) : واحد بسيط غير مركّب؛ كلمة ( بسيط ) صار لها الآن استعمالات كثيرة : بسيط في لغتنا اليوم : شيء يسير قليل، وهذا تغيير لمعنى اللغة العربية، البسط : التوسُّع، بحث فلانٌ في المسألة وبسطه أي : توسّع، كلامٌ بسيط : وسيع، لكن الآن انعكست القضية : أمر بسيط يعني : يسير، هذا عربية خطأ .
والبسيط قد يُطلق ويُراد به ضد المركّب ـ كما هنا ـ، شيء بسيط، هذا اصطلاح .
((لم يصدر)) عن الله ((إلا واحدٌ بسيط)) هكذا تقول الفلاسفة .
((وإن مصدر المخلوقات كلها عن العُقول والنفوس)) . ليستْ عن الله .
((وإنّ مصدر هذا العالم كله عن العقل الفعّال؛ فهو)) أي : العقل الفعّال ((رب كل ما تحته ومدبِّره)) ليس الله هو ربُّ كلِّ شيء ومدبِّر جميع الأمور لا، إنما هو خلق العقل الفعّال، العقل الفعّال هو رب كل شيء تحت هذا العقل الكبير الفعّال، وهو مدبِّر أمور هذه الأشياء كلها .
لذلك يقول المؤلِّف ـ رحمه الله ـ : ((وهذا شرٌّ من شرك عُبّاد الأصنام)) . شرك الفلاسفة وكفرهم، أشد كفرًا؛ ((والمجوس والنصارى)) .
(((1/3)
وهو)) شرك الفلاسفة ((أخبث شركٍ في العالم)) . الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، إنما حكم المؤلِّف هذا الحكم لأنه يعلم، هذه من فوائد معرفة الشر
عرفت الشر لا للشر لكن لأتّقيه
من لم يعرف الشر من الخير وقع فيه
الآن كثيرٌ من طلابنا إذا قيل : إن الفيلسوف الفلاني ـ كابن سينا ـ يسمون
( شيخ ) فيسمون ( أستاذ ) ينخدعون؛ لكن أنظر من يعرف ودرس، لأن علماء هذا القرن ملمُّون بالفلسفة وعلم الكلام والمنطق إذا هداهم الله لا ينخدعون، لا ينطلي عليهم الكلام، الكلام إنما ينطلي على من نشأ في الخير فقط ولم يعرف إلا الخير، هذا الذي ينطلي عليه الأمر كثيرًا، وهذا واقع، ما أصدق كلام عمر - رضي الله عنه - : ((إنما تُنْقَضُ عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية))، قلت لكم ـ غيرَ مرّة ـ : ارجعوا على كتاب ((الفوائد)) لابن القيِّم لتحليل هذا الكلام، حلّل هذا الكلام تحليلاً جيِّدًا يُظهر معنى هذا الكلام : ضر المثل بالصحابة الذين عرفوا الجاهلية ثم عرفوا الإسلام .
وهذا العالم ـ المقريزي ـ لكونه ذا معرفة بالفلسفة استطاع أن يحكم هذا الحكم .
((إذْ يتضمّن من التعطيل)) تعطيل صفات الله ـ تعالى ـ، وتعطيل الله، تعطيل الله عن الفعل، أنه لا يفعل؛ الله فعّال لِمَا يُريد، عنده : أنه ليس بفعّال، إنما فعل ثم ترك الأمر للعقل الفعّال .
((وجحْد الإلهية والربوبية واستناد الخلق إلى غيره ـ سبحانه وتعالى ـ ما لم يتضمّنه شركٌ أمةٍ من الأمم)) . يليهم المجوس ـ مثلاً ـ : إنما أسندوا الخلق إلى اثنين في شيئين، لم يعمِّموا .
لذلك يقول الإمام المقريزي : ((وشرك القدرية مختَصرٌ من هذا)) . مختصرٌ من شرك الفلاسفة .
((وبابٌ يُدخل منه إليه)) . من باب المجوسية يدخُل الإنسان على الفلسفة، يعني : يتدرّج .
(((1/4)
ولهذا شبّههم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ)) . الصحابة شبّهوا القدرية ((بالمجوس)) . وشرك القدرية مختصر من هذا الباب؛ القدرية الذين زعموا إنّ العباد يخلُقون أفعال أنفسهم الاختياريّة، أي : يُدخل، اختُصرتْ عقيدة القدرية النافين للقدر المثبتين الخلق للعباد جنًّا وإنسًا وملائكة في شيء معين : الأفعال الاختيارية فقط دون الاضطراريّة هذا الشرك مختصر من شرك الفلاسفة، ((وباب)) ـ شرك القدرية ـ ((بابٌ يُدخل منه إليه)) إلى الفلسفة، إلى شرك الفلاسفة .
((ولهذا شبّههم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ)) . شبّهوا القدرية ((بالمجوس))؛ وأنتم تلاحظون مع هذا التشبيه إذا نظرنا إلى المعنى هم أردأ وأسوأ حالاً من المجوس : لأن المجوس أثبتوا خالقَيْن اثنين : خالقًا للشر وخالقًا للخير، والقدرية أثبتوا خالقِين ـ ليس خالقَيْن ـ بلا حساب إذْ كل عبد ـ ملَكًا أو جنيًّا أو إنْسيًّا ـ خالقٌ لأفعال نفسه الاختيارية؛ إذًا : هم أسوأ حالاً من المجوس .
((كما ثبت عن ابن عمر وابن عبّاس ـ رضي الله عنهم ـ، وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعًا أنهم مجوس هذه الأمة)) . وهذا الحديث اختلف أهل العلم في تصحيحه وتضعيفه : منهم من صحّح، ومنهم من ضعّف، راجع التعليق .
((وكثيرًا ما يجتمع الشركان في العبد)) . شركٌ في العبادة وشركٌ في الربوبية : يكون مشركًا في عبادة الله ـ تعالى ـ، ومشركًا في الربوبية؛ وهذا يقع في بعض المشركين الذي يُثبتون التأثير لغير الله ـ تعالى ـ وهم يُشركون في العبادة؛ ويقع في بعض المشركين المعاصرين الذين يعتقدون بأنّ الصالحين بعد موتهم يخرجوا خروجًا معنويًّا ويتصرّفوا في هذا الكون لأتباعهم، هؤلاء جمعوا بين الشرك في العبادة والشرك في الربوبية .
(((1/5)
وينفرد أحدهما عن الآخر)) . وقد ينفر أحد الشرك في بعض الناس كالمشركين الأولين انفرد فيهم الشرك في العبادة دون الربوبية في الجُملة ـ كما تقدّم ـ أي : في جمهور المشركين الأولين : مشركون في العبادة موحِّدون في الربوبية .
((والقرآن الكريم ـ بل الكتب المنزَّلة من عند الله ـ تعالى ـ كلها مصرِّحة بالرد على أهل هذا الإشراك)) . إشراك في الربوبية وإشراك في العبادة ((كقوله
ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } )) وهذا يردُّ على الإشراك في المحبة والعبادة، ((فإنه ينفي)) هذا الأسلوب الذي فيه تقديم المعمول على العامل ((ينفي شرك المحبة والإلهيّة)) .
وعندك في التعليق هامش رقم واحد : ((إنما استُفيد نفي الإشراك بالله ـ تعالى ـ من قوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } لأن تقديم المفعول ـ وهو : { إياك } ـ على الفعل)) ـ الذي هو : { نعبد } ـ يُفيد الحصر))؛ يكون المعنى : ((نعبدك وحدك، ولا نعبد غيرك، كما تنادي أحدَ الناس فيفهم أن النداء لغيره، فتقول له : ( إياك ناديْت ) )) أو :
( إياك عَنَيْتُ ) ((أي : ناديتك أنت لا غيرُك))؛ وقد أحسن في هذا التفصيل . هكذا النفي بطريق الحصر، بطريق حصر العبادة لله ـ تعالى ـ : { إياك } وحدك { نعبد } ولا نعبد سواك .
((وقوله : { وإياك نستعين } فإنه ينفي شرك الخلق والربوبية؛ فتضمّنتْ هذه الآية : تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة)) في قوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } ، هذا بالنسبة لـ { إياك نعبد } ، وفي الربوبية بالنسبة لقوله ـ تعالى ـ : { وإياك نستعين } ، ((وأنه لا يجوز إشراك غيره معه لا في الأفعال)) في أفعال العباد، ((ولا في الألفاظ، ولا في الإرادات)) سوف يبيِّن المؤلِّف معنى : ((في الأفعال)) ومعنى ((في الألفاظ)) ومعنى ((في الإردات))؛ المراد بالإرادات : النيّة والقصد .) :(1/6)
فالشرك به في الأفعال كالسجود لغيره ـ سبحانه وتعالى ـ، والطواف بغير بيته المحرَّم، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من اتّخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد فكيف مَنِ اتّخذ القبور أوثانًا تُعبد من دون الله ـ تعالى ـ ؟ .
{ إياك نعبد } وفي ((الصحيح)) عنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : أنه قال : ((لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ـ يحذِّر ما
صنعوا ـ؛ وفيه : عنه ـ أيضًا ـ : ((إنّ مِنْ شرار الناس : من تُدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد))؛ وفيه ـ أيضًا ـ : عنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : ((إنّ من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد؛ ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))؛ وفي ((مسند الإمام أحمد)) و ((صحيح ابن حبّان)) عنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : ((لعن الله زوّات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج))، وقال : ((اشتّد غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وقال : ((إنّ مَنْ كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرار الخلق عند الله)) ( ( ) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((فالشرك به ـ تعالى ـ في الأفعال : كالسجود لغيره ـ سبحانه وتعالى ـ)) . من سجد لغير الله أو ركع لغير الله قد أشرك بالله ـ تعالى ـ في أفعاله ـ عبادة فعلية ـ، كذلك الذبح عبادةٌ فعليّة؛ في العبادات الفعلية لا يجوز الإشراك بالله ـ تعالى ـ، التي يقدِّمها العبد فعلاً كالسجود والذبح .
(((1/7)
والطواف بغير بيته المحرّم)) . لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شبّه الطواف بالصلاة : الطواف بمثابة الصلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فمن تكلمّ فلا يتكلّمن إلا بخير ـ أو كما قال عليه الصلاة والسلام ـ؛ صرف الطواف إلى غير بيت الله ـ تعالى ـ والطواف بالأضرحة والمشاهد والقبور بقصد التبرُّك وبقصد النفع والضُر، وخصوصًا مع نداء صاحب القبر كما يحصل الآن ـ مع الأسف ـ في كثير من الأقطار : يطوفون بالضريح وينادون صاحب الضريح، يجمعون بين الشرك بالطواف وبين الشرك بالقول بنداء غير الله ودعاء غيره، ويقترن بذلك : الإشراك بالإرادة ـ القصد ـ يعتقدون بأن صاحب القبر له تأثير بدليل أنه يطلبون منه الشفاعة في حال الطواف يطلبون منه المدد في هذه الدنيا وأن يمدّهم بخير ويطلبون منه الشفاعة؛ معناه : صرفوا جميع العبادات لصاحب الضريح؛ وكما قلنا وبيّنا في بعض الدروس السابقة : قد يكون الضريح ليس تحته شيء فارغ، وقد يكون تحته رجلٌ صالح، وقد يكون تحته رجلٌ طالح شيطان كان من الطواغيت، وقد يكون تحته حمار كما يُحكى في بعض الأضرحة المدفون في ذلك الضريح أنه حمار ليس بآدمي، لا فرق، إذْ لا فرق بين عبادة الشيطان وعبادة الصالحين لا فرق، وإنْ كان هناك فرقٌ عند الله بين الشيطان وبين الصالح، لكن من حيث عدم استحقاق العبادة لا فرق، لا فرق بين من يعبد صالحًا ـ نبيًّا، ملَكًا، رجلاً صالحًا ـ وبين من يعبد حمارًا أو شيطانًا أو حجرًا لا فرق بينهم كلهم واحد، إذْ لا يستحق العبادة إلا الله؛ الصالحون يستحقون منا : الذكر الجميل، والدعاء لهم، وأن نحبهم في الله، وأن نتقرّب إلى الله بمحبتهم، لكن لا يُعبدون، لا يستحقُّون العبادة لكونهم صالحين؛ هذه النقطة ـ وإنْ كان طلاب العلم يفهمون ـ
[ خلل في التسجيل ] .
(((1/8)
وحلق الرأس عبوديّة وخضوعًا لغيره)) . حلق الرأس شُرع لنا عبادة عند التحلُّل من الحج والعمرة؛ ولو حلق شخصٌ مّا عبادة وخضوعًا لشيخه، لأن بعض المشايخ
ـ أو بعض الأضرحة ـ لهم أعياد سنوية، منهم من عيده شهري، ومنهم من عيده أسبوعي، ومنهم من عيده سنوي، ولَمّا جاء عيد الشيخ حلق رأسه عبوديّة وتواضُعًا للشيخ، أشرك ـ سبحان الله ـ بحلق الشعر .
قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض)) . تقبيل الأحجار، وتقبيل الأشجار، وتقبيل الشبابيك والأعمدة والجُدران تبرُّكًا بهذه الجمادات قد تؤدِّي إلى الشرك الأكبر إذا اعتقد بأن هذه من آثار الصالحين وأن الصالحين لهم تأثير وآثارهم لها تأثير، إن لم يصل إلى هذه الدرجة يكون من باب الشرك الأصغر، وقد لا يصل وقد يقف عند مجرّد الابتداع ـ أنهم عملٌ مبتَدع ـ، يرجع إلى قلوب العباد الذين يفعلون هذا .
وإنما شرع الله لنا في هذه الدنيا تقبيل حجر واحد : الحجر الأسود، لا ليُعبد، ولكن جعل الله تقبيله عبادة كما جعل الطواف بالبيت عبادة واستلام الركن اليماني عبادة؛ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يجعل ما شاء من الأعمال عبادة قُربى تقرِّب العباد إلى الله؛ وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لشدّته - رضي الله عنه - وليسمع الناس يقبِّل الحجر ثم يخاطبه يقول : ( إنني أعلم بأنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبّلتك ) يخاطبه مخاطَبة، هذا من باب تشبيه الحجر بالعاقل : لَمّا قُبِّل نُزِّل منزلة العاقل فخاطبه لشدّة إيمانه ـ رضي الله تعالى عنه ـ .(1/9)
ثم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة له لسان ينطق به فيشهد لِمَن قبّله بحق؛ نحن أهل السنة والجماعة ـ بحمد الله ـ لا نستغرب مثل هذا الخبر ـ وإنْ كان غريبًا عند غيرنا ـ لأننا نؤمن بأن الله قادرٌ على أن ينطِق الجمادات، نطقت الجمادات في الدنيا هنا : سلّم حجرٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وستنطق أشياء ـ كالأرجل
والأيدي ـ يوم القيامة؛ لذلك نحن لا نستغرب إذا أَخبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الحجر مثل هذا الخبر، المدار عندنا : الصحّة، إذا صحّ عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ صحّة لا يُشَكّ فيها ـ وإنْ لم يصل إلى درجة التواتُر ـ نحن يجب علينا أن نصدِّق لأن من الإيمان بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ تصديقه فيما أَخبر، ليس معنى تصديقك إيّاه فيما أخبر يما يوافِق هواك ومعقولك، بل حتى ولو جاء على خلاف هواك وعلى خلاف المألوف وعلى خلاف العادة وأخبرك عن أمر خارق للعادة كهذا كتكلُّم الحجر وأنه يأتي وله لسان ينطق به يجب أن تصدِّق؛ ابحث أولاً عن صحّة الحديث، إذا صحّ الحديث لا يسعك إلا تصديقه وذلك من الإيمان بالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
تقبيل الحجر الأسود إنما شُرع في أثناء الطواف، وثبت ـ أيضًا ـ أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما انتهى من الطواف وصلّى ركعتين وشرب من ماء زمزم رجع إلى الحجر فقبّله فوضع جبهته عليه؛ نفعل كما فعل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا نزيد على ذلك؛ كل ما ندخل الحرم نقبِّل لا، نطوف فنقبِّل، وإذا بعد انتهاء من طواف القُدوم فعلى الإنسان كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمكّن من الزحام في مثل هذه الأيام قد لا يتمكّن لأن الناس كَثُرت الآن إنْ فعل ذلك فجائز ومشروع .(1/10)
قال : ((وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض)) . الحديث الذي أشار إليه يُروى مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس وعلى عِكرمة : قال بعضهم : ليس بصحيح؛ الحديث تمامه هكذا : ((الحجر الأسود يمين الله في الأرض؛ فمن قبّله فكأنما قبّل يمين الرحمن))؛ فأراد بعضهم أن يفسِّر الحديث على فرْض صحته : قالوا : ليس معنى ذلك : هو صفة من صفات الله لا، بدليل : ما جاء في آخر الحديث ما جاء في آخر الحديث : ((فمن قبّله فكأنما قبّل يمين الرحمن)) ـ أو يمين الله ـ، ليس هو يمين الله الذي هو صفة من صفات الله ـ على فرْض صحة الحديث ـ، ولكن يُطلق عليه يمين الله في الأرض؛ يطلق على الحجر الأسود كما يُقال له الحجر الأسود والحجر الأسعد يقال له : ((يمين الله في الأرض))؛ لا يلزم من هذا أن يكون صفة من صفات الله بدليل : ما جاء في آخر الحديث : ((فمن قبّله فكأنما قبّل يمين الله)) ـ أو يمين الرحمن ـ؛ هذا لو صادفت يومًا ما صحّته ـ والحديث حتى الآن لم يصح ـ ثم أشكل عليك المعنى هذا ما قاله أهل العلم في توجيه هذا الحديث ـ والله أعلم ـ .
( بيت الله ) : بيت عبادة الله، ( ناقة الله ) هذا من باب إضافة تشريف، تشريف للكعبة وتشريف للبيت، نعم قد يقال : هذا من باب التشريف : تشريف هذا الحجر بإضافته إلى الله، ولكن الإشكال هنا بالنسبة للحجر ليس بالإضافة إنما في تسمية ( يمين ) هذا هو محلّ الاستشكال؛ كلُّ هذا بعد صحّة الحديث، وإلى هذه اللحظة لم يصحّ هذا الحديث عندنا ـ والله أعلم ـ؛ إذا كان عند أحدٍ من طلاّب كلية الحديث اطّلاع على هذا الحديث أو معرفة الصحة يبلِّغنا بعد الدرس .(1/11)
من ذلك : ((تقبيل القبور، واستلامها، والسجود لها)) هذه كلها من العبادات الفعلية؛ كما ترون هذه الأفعال تتفاوت : تقبيل القبور إنْ كان بمجرّد محبة صاحب القبر أو التبرُّك به لا يصل إلى حد الكفر، واستلام القبر أيضًا؛ لكن السجود للقبر رِدّة؛ لذلك هذه الأفعال تتفاوت، إلا إذا صحب تقبيل القبر واستلام القبر الاعتقاد في صاحب القبر بأنه له تأثيرًا وله نفعٌ في العطاء والمنع، بهذا الاعتقاد يكفُر؛ أما مجرّد الاستلام ومجرّد التقبيل لا يصل إلى حدِّ الكفر، ليس كالسجود؛ أما السجود فكفرٌ لا شك .
هنا بعض الفوائد في التعليق تقرءون فيما بعد، نحن نواصل في المتن .
قال الإمام المقريزي : ((وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتّخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد)) . يصلي فيها، يصلي عندها، يعتقد أن الصلاة عندها وأن العبادة عندها وأن الدعاء عندها مستجاب؛ هذا معتقد جمهور المسلمين إلا من شاء الله : يعتقدون أن المساجد التي فيها قبور الصالحين الصلاة فيها أفضل وأنها مقبولة والدعاء عندهم مستجاب وقراءة القرآن
ـ وخصوصًا قراءة سورة ( يس ) ـ هكذا زيّن لهم الشيطان .
(((1/12)
فكيف من اتّخذ القبور أوثانًا تُعبد من دون الله ـ تعالى ـ ؟)) . كالذين يطوفون بتلك القبور، ويصلُّون إليها قصْدًا، ويذبحون عندها، ويجعلون في أموالهم النذور لهم : يوفي هذا النذر سنويًّا أو أسبوعيًّا لا بد أن يكون في الحوْش تيْس أو كبش للشيخ ليحفظ هذا المنذر، هذا المنذور به يحفظ الأموال، لأن الأموال يكون فيها نذْرٌ للشيخ؛ أو شجرة نخل بسببها تُحفظ الأشجار؛ هذا دين الوثنيِّين، لكن ـ للأسف ـ منتشرة هذه العقيدة عند كثيرٍ من الناس بتزيين من علماء السوء الذين يفسِّرون لهم هذه الوثنية وهذا الشرك : أنّ هذا من محبّة الصالحين ومن التوسُّل بالصالحين وليس من الشرك؛ وبعضهم يُعلن ويقول : هل من شرك اليوم بعد شرك كفّار قريش ؟، لا يوجد شرك بعد شرك كفّار قريش، هذا ما سمعته بأذنيّ من واعظ كبير يمشي مع الحجّاج ليعظهم ويذكِّرهم فإذا جاءتِ المناسبة : ( مَا فِيْشْ حاجة اسمه الشرك اليوم، الشرك ذهب مع كفّار قريش، انتهى )؛ الله المستعان !، ومن المصائب ما يُضحك .
((فكيف من اتّخذ القبور أوثانًا)) يعبُدها من دون الله؛ وهذا شيءٌ مشاهَد .(1/13)
قال ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } إياك وحدك نعبد، ولا نعبد الأضرحة ولا الصالحين، فالصالحون عباد الله، والعباد لا يستحقُّون العبادة، العبد ـ أيًّا كان ـ لا يستحقُّ العبادة، لذلك الله في رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : { سبحان الذي أسرى بعبده } سمّاه عبدًا، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ لا يُعبد، وسمّاه رسولاً، رسولٌ يطاعُ ولا يعصى؛ هذا المعنى كرّره الإمام ابن عبد الوهّاب في بعض مؤلَّفاته؛ معنى ينبغي أن ينبّه العوام على هذا، لأن التنبيه على هذا في حقّ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقضي على تعلُّق الناس بالصالحين من بعده من دونه؛ ينبغي التركيز على هذا، بعضهم يهاب ويتخوّف أن يقول مثل هذا الكلام في رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، هذا تهيُّبٌ غريب، إذا كان الداعية يهاب أن يبيّن الحق للناس مخافة ـ أو مراعاة ـ شعور الناس وعواطف الناس في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يستطيع أن يبيِّن الحق ؟، يجب أن يبيِّن الحق ويبيّن للناس بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما له عند الله من مكانة ومنزلة وجاه وأنه إمام المرسلين وموصوفٌ بجميع صفات الكمال الخَلْقية المناسِبة للخلق ـ أو النسبيّة : الكمال النسبي الذي دون كمال الله تعالى ـ مع ذلك كله لا يستحق العبادة أبدًا؛ هذا المعنى مفهومٌ لدى طُلاّب العلم، لكن لماذا نقوله ونكرِّره أمام طلاّب العلم ؟، ليبلِّغوا لغيرهم من عوام المسلمين الذين لديهم عواطف فيّاضة في رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وهذه العواطف قد تمنعهم من مثل هذا القول، ويرون مثل هذا القول جُرأة على رسول الله
ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ولكنهم لا يفقهون .
(((1/14)
وفي ((الصحيح)) : عنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه قال : ((لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ـ يحذِّر ما صنعوا ـ)) . لاحظوا : لعنهم لكونهم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد للصلاة، المسجد محلٌّ للصلاة، لم يعبدوها، ولكن اتّخذوها مساجد، يقصدون الصلاة فيها وعندها تبرُّكًا ورجاء أنْ تُقبل صلاتهم .
((وفيه : عنه ـ أيضًا ـ : ((إنّ مِنْ شرار الناس : من تُدركهم الساعةُ وهم أحياء)) )) . من هنا تعلمون : أن قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ((لا تزال طائفةٌ من أمتي منصورة على الحق إلى يوم القيامة)) ـ أو إلى قيام الساعة ـ ((لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)) معناه : إلى قُرْب قيام الساعة؛ لا تقوم الساعة على الطائفة المنصورة، لا، الطائفة المنصورة ينتهي أمرهم قبل الساعة بأن يبعث الله ريحًا تقبض أرواحهم حتى لا يبقى على وجه الأرض إلاّ شِرار الخلق ((وحتى لا يقال على وجه الأرض : الله، الله))، أي : جميع الموحِّدين ينتهون، ((لا تقوم الساعة إلا على لُكَع بن لُكَع)) أي : على شِرار الخلق؛ إذًا : الصالحون والفِرقة الناجية يستمرُّ وجودهم مع قِلّتهم في العدد في الآونة الأخرة وسيقلُّون ويكثُر الشر إذْ ما من عام إلا والذي بعده شرٌّ منه، لكن لا تزال الطائفة منصورة منتشرة موزَّعة في العالم، قلّتهم قلّة نسبيّة أي : يقلُّون في مكان ويكثُرون في مكان، لكن بمجموعهم هم كثْرة، ثم ينضمُّون إلى السواد الأعظم للمسلمين الذي في العُهود الأولى الذين هم في قرن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ والذين بعده : ((خير الناس : قرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) ينضمُّ هؤلاء إلى أولئك فيألِّفون ويكوِّنون السواد الأعظم الذي يتبَع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما يُبْعث، فهو أكثر الأنبياء أتباعًا .(1/15)
نبّهت على هذا لأن لا يستوحش بعض الناس من كثرة الشر وكثرة أصحاب الشر وكثرة المنحرِفين وقلة الملتزمين المتمسِّكين في هذا الوقت؛ فلتعلموا بأن القلة قلة نسبية، قد يكثُرون في هذا المكان ويقلُّون في مكان آخر ويكون أقل في مكان آخر، لكن في مجموعهم هم كثرة ـ ولله الحمد ـ خصوصًا في هذا الوقت؛ هذا الوقت أكثر من وقت مضى في حياتنا هذه يعني : إذا قارنّا ما بين الستِّينات والسبعينات بهذا الوقت : اليوم هم أكثر، لأن العقيدة اليوم انتشرتْ أكثر، في ذلك الوقت كانت الغُرْبة أشد بكثير، لو وُجد كتاب ((فتح المجيد)) في أي أرض خارج حدود هذا البلد يُحرق ويُلعن المؤلِّف، والآن نحن نعجز من تأمين كتب التوحيد لإخواننا في الخارج في إفريقيا وفي آسيا نعجز أن نؤمِّن لهم لكثرة رغبتهم وانتشار هذه العقيدة في تلك الأقطار النائية، انتشرت وهم يطلبون منّا الكتب ليل نهار ونحن نعجز من تأمين الكتب لهم؛ هذا دليل واضحٌ بأن الوقت هذا متحسِّن بالنسبة أكثر فأكثر من الوقت الذي عشناه نحن طلاب العلم وأنتم لم تُدركوا .
لذلك : لا تزال الطائفة منصورة، وأنّ القِلّة والكثرة أمرٌ نِسْبي بالنسبة من بلد إلى بلد ـ الحمد لله على ذلك ـ .
وبعد : يقول المقريزي : ((وفيه : عنه ـ أيضًا ـ : ((إنّ من شرار الناس : من تُدركهم الساعة وهم أحياء)) )) ومحل الشاهد : ((والذين يتّخذون القبور مساجد)) هذا محل الشاهد من الحديث، الذين يتّخذون القبور مساجد من شِرار الخلق كما أنّ الذين تُدركهم الساعة وهم أحياء من شرار الخلق، انظروا إلى هذا التشبيه أمرٌ خطير : اتخّاذ القبور مساجد، وهُجران البيوت وعدم الصلاة فيها، وهُجران المساجد التي لا قُبور فيها، لأن في بعض الأقطار ـ خصوصًا يوم الجمعة ـ يبحثون عن المسجد الذي فيه قبر؛ لاحظوا أن بعض الناس يذهب من مكان بعيد إلى منطقة تسمى ( الشافعي ) ليصلوا في
((1/16)
مسجد الشافعي ) لوُجود القبر، أو في ( مسجد الليث بن سعد )؛ هذا وهذاك، الليث بن سعد له تابوتٌ معمَّم بعِمِّته، والإمام الشافعي ما رأيت له تابوتًا، لكن الليث بن سعد له تمثال، ولكن يُقصد قبر الإمام الشافعي أكثر من قبر الليث بن سعد، حتى المنطقة كلها تسمى منطقة الشافعي، لو ركبت ( أوتوبيس ) وقلت له : أوصلني إلى ( الشافعي ) يوصلك، منطقة عُرفتْ به، مع العلم أنّ الليث قريب؛ على كلِّ اشتُهر هذا المسجد ويُقصد يوم الجمعة للصلاة فيه؛ وما اشتُهر ذلك إلا لكونه يُقصد للصلاة، وأكثر من يقصد ـ من باب الإيضاح ـ طُلاّب العلم ـ للأسف ـ فيطلبون منه النجاح، يطلبون النجاح من الإمام الشافعي، الغريب : لا يطلبون من الليث، لا أدري ما هو السر؛ وهذه النقطة ذكرها الشيخ عبد الرحمن الوكيل يوم كان طالبًا عندما توزَّع أوراق الاختبار على الطلاّب، يقول : يضعون الأوراق فيقومون فيتّجهون إلى قبر الإمام الشافعي فيتوسّلون به طلبًا للنجاح، والأستاذ المراقِب لا يزيد على أن يقول بعد أن يتركهم عدّة دقائق : ( خلاص يا أولادي الإمام سمع، اجلسوا، الإمام سمع )؛ كيف تسألون هذا السؤال هل طالب العلم الذي يعيش في تلك المنطقة يُعذر أو لا يُعذَر ؟، معذور، وجود مثل هذا العالم وهذا الشيخ وهذا المدرِّس شبهة مجسّدة تحول بين طلاب العلم وبين فهم الحق .
هذا الإمام الشافعي، ولكن الإمام ـ رحمه الله ـ سوف يتبرّأ من هذه العبادة كما يتبرأ غيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وفي الواقع : إنما عبدوا الشيطان ـ كما تقدّم في بيان المقريزي ـ ثم عبدوا ذلك الضريح، والإمام الشافعي برئ من ذلك .(1/17)
وبعد : ((وفيه ـ أيضًا ـ عنه ـ صلى الله عليه وعلى وسلم ـ : ((إنّ من كان قبلكم يتّخذون القبور مساجد ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))؛ وفي ((مسند الإمام أحمد)) و ((صحيح ابن حبّان)) : عنه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : ((لعن الله زوّات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج)) )) . محل الشاهد من الحديث : ((والمتّخذين عليها المساجد والسُّرُج))؛ فزوّار القبور هذه الرواية لا شك في صحتها، أي : المرأة التي تكثِر من التردُّد على القبور للزيارة، إذا صحّتْ هذه الرواية يُبْحث في الرواية الأخرى : ((لعن الله زائرات القبور)) هل صحيحة أم لا ؟، بعضهم يصحِّح ((زوّارات القبور)) ويضعِّف ((زائرات القبور)) ليقول : إنما النهي واللعن بالنسبة للمكثِرات من زيارات القبور لا بالنسبة لمن تزور القبور أحيانًا؛ هذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم، ولكن الذي عليه المحقِّقون من علماء الحديث : أن زيارة القبور منهيٌّ عنها
ـ يصحِّحون الرواية الثانية ـ للنساء مطلَقًا إذا كانتْ قاصدًا؛ إلاّ إذا سلّمتْ على أهل مقبرة فسلمّت على أهل المقبرة وهي غير قاصدة للزيارة .
وبالنسبة لقبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : لو دخلت الروضة ممّا يلي الحُجرة كما يخصَّص في بعض ساعات النهار قسمٌ من الروضة للنساء للصلاة، لو دخلت المرأة المسلمة هناك للصلاة، ثم سلّمت لأنها جاءتْ قبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، أرجو أن لا يدخل ذلك في هذا اللعن لأنها لم تقصد الزيارة، وإنما دخلتْ للصلاة ثم سلّمت لَمّا جاءتْ قُرب المسجد .(1/18)
كذلك لو مرّت في البقيع في سيّارتها وهي ماشية ـ أو بشهداء أحد أو بأي مقبرة ـ وسلّمت كما يسلِّم المسلمون لا مانع من ذلك؛ قد يُستدل لهذا بقصة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حيث سألت النبي ماذا تقول إذا زارت القبور فعلّمها ماذا تقول، ولم ينكر عليها هذا السلام؛ بل استدلّ بعضهم بهذه القصة على جواز زيارة النساء للقبور مطلقًا ولو كانتْ قاصدًا، إلا أنّ كثيرًا من المحقِّقين حملوا قصة عائشة أنها لم تخرُج قاصدة، ولكنها تعني : أنها إذا مرّتْ وأرادتْ أن تسلِّم ـ والله أعلم ـ؛ هذه مسألة استطرادية .
أما اتّخاذ القبور مساجد، وأن تنوّر القبور بالشمع والقناديل فيما مضى وبالمصابيح الكهربائية كما هو الآن هذا محل لعن؛ لأن في هذا تعظيم، وتعظيم القبر بالمصابيح والكسوة الخاصة بالحرير وما يقرُب من الحرير يدعوا إلى التعظيم، وهذا التعظيم قد يصل إلى تعظيم يُشبه تعظيم الله، وتلك عبادة قلبية وهي من الإرادات .
((وقال : ((اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وقال : ((إنّ من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرار الخلق عند الله)) )) . الظاهر : الشيخ روى الحديث بالمعنى؛ وهذا الحديث في قصة بعض أمّهات المؤمنين ـ أو بعض النساء الصحابيّات ـ بعد رجوعهن من الهجرة إلى الحبشية، وصفوا ما رأوا هنا، فوصفهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ((أولئكِ شرار الخلق)) لأنه ((إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوّروا فيه تلك الصور))، ((أولئكِ شرار الخلق عند الله)) .
الشاهد : تعظيم القبور، واتّخاذها مساجد، وتسريجها، وتصوير أصحاب القبور، وتعليق الصور هناك كل ذلك محل اللعن .(1/19)
فالمؤلِّف يريد أن يقول ـ كما تقدّم ـ إذا كانت هذه الأفعال محلُّ اللعن فما بال الذين يتّخذون القبور أوثانًا يعبدونها مباشرة ؟، لا يصلون فيها تبرُّكًا ولكن يصلون لها، يذبحون لها، والنذر لها، ويدعون أصحابها دعاء، ويجأرون بأسمائهم بدلاً من أن يجأروا باسم الله حيث لا تسمع في تلك المنطقة من العُبّاد في تلك اللحظة في أيام عيدهم قلّ ما تسمع من يقول : ( يا الله ) إلا : ( يا فلان، يا فلان ) الفلان الذي جاءوا من أجله ـ الله المستعان ـ .) .
والناس في هذا الباب ـ أعني زيارة القبور ـ على ثلاثة أقسام :
قومٌ يزورون الموتى فيدعون لهم؛ وهذه الزيارة الشرعية .
وقومٌ يزورونهم يدعون بهم؛ فهؤلاء هم المشركون في الأُلوهية والمحبّة .
وقومٌ يزورونهم فيدعونهم أنفسهم؛ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى
وسلم ـ : ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد))؛ وهؤلاء هم المشركون في الربوبية .
وقد حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جانب التوحيد أعظم حماية تحقيقًا لقوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } ، حتى نهى عن الصلاة في هذين الوقتين لكونه ذريعة إلى التشبيه [ التشبُّه ] بعُبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين؛ وسدّ الذريعة بأنْ منع من الصلاة بعد العصر والصبح لاتّصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجُد المشركون فيهما للشمس .
وأما السجود لغير الله ـ تعالى ـ فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله))؛ ولا ينبغي في كلام الله ورسوله إنما يُستعمل للذي هو في غاية الامتناع كقوله ـ تعالى ـ : { وما ينبغي للرحمن أن يتّخذ ولدًا } ، وقوله ـ تعالى ـ : { وما علّمناه الشعر وما ينبغي له } ، وقوله ـ تعالى ـ : { وما تنزّلتْ به الشياطين وما ينبغي لهم } ، وقوله ـ تعالى ـ : { ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ من دونك أولياء } ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ :
(((1/20)
والناس في الباب ـ أعني : زيارة القبور ـ على ثلاثة أقسام)) . هذا تقسيم مفيدٌ جدًّا اضطّرب كثيرٌ من الناس في هذا الباب لعدم معرفتهم هذا التقسيم؛ تقسيمٌ لا تحتاج بعده إلى بحث في باب الزيارة، إذا أردتّ أن تعرف الزيارة الشرعية والزيارة الشركية والزيارة البِدعية :
((قومٌ يزورون الموتى فيدعون لهم)) يدعون للموتى . ((وهذه الزيارة الشرعية)) التي شرعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ على لسان رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث
قال : ((كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكِّر الآخرة)) .
ذكر الإمام المقريزي من الهدفين الذين من أجلهما تُزار القبور هدفًا واحد وهو الدعاء للموتى؛ الهدف الثاني ـ أو المقصد الثاني، أو الغرض الثاني ـ : تذكُّر الموت؛ زيارة القبور في الإسلام لهذين الأمرين : تقف على قبر وقفة تتذكّر فيها الموت، تتذكّر أنّ هذا الميِّت كان حيًّا كما أنت حيٌّ الآن، وكان، وكان، إلى آخره، وخصوصًا إذا وقف الإنسان أمام قبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وتذكّر حياته ـ عليه الصلاة والسلام ـ المباركة، وهذا يجعله يزهد في الدنيا ويعمل لآخرته؛ هذا الغرض الأول .
الغرض الثاني : الدعاء للموتى، لأن الموتى هم المحتاجون للدعاء، لأن أعمالهم ـ أو أكثرها ـ انقطعتْ لا تمشي إلا الأعمال الثلاثة التي تعرفونها .
((وقومٌ يزوروهم)) يزورون الموتى ((يدعون بهم)) ( الباء ) للسببية أو للوساطة، السببية والوَساطة بمعنى واحد : يدعون بالموتى بسبب الموتى بوساطة الموتى، أو مستعينين بالموتى، يوسِّطون الموتى بينهم وبين الله ((فهؤلاء هم المشركون في الألوهية والمحبة)) هذا التعبير من الشيخ المقريزي تعبير جرئ وهو صواب، لكنّ كثيرًا من الناس ـ حتى المنتسبين إلى
العلم ـ يرون أن هذا ليس بشرك؛ فلنقرأ رقم ( 2 ) في الهامش : معنى يدعون بهم : ((يتوسّلون بهم في الدعاء كقولهم : ( اللهم بحق هذا البطل ) أو ( بكرامة هذا الولي ) أو
((1/21)
بكرامة هذا الشيخ ) افعل لي كذا وكذا .
درس هذه الليلة أنا فقط أنقل إليكم من عالِمَيْن مصريَّين : عالمٌ يعيش في القرن التاسع، وعالمٌ معاصِر يعيش الآن؛ وهم ـ كما قيل ـ ( أهل مكة أدرى بشِعابها )؛ سوف يتحدّثون عن واقع البلد الذي عاشوا فيه، لأنه عندما يتحدّث مثلنا عن تلك الأقطار ربما نُتّهم بنوعٍ من المبالَغة والنَّيْل منهم؛ فهاهم يتحدّثون عن الواقع : الدعوة بهم فسّر صاحب التعليق بالتوسُّل بهم في الدعاء وبهذه العبارة : ( اللهم بحق هذا البطل ) البطل الميِّت يعني .
يقول المقريزي : ((فهؤلاء هم المشركون في الألوهية والمحبّة)) . كيف كان الدعاء بهم شركًا ؟، الدعاء بالموتى، ما معنى هذا ؟، يقول المعلِّق في رقم ( 3 ) : ((لأنهم يتّخذون وسيطًا لله، ويحبُّون غيره ـ تعالى ـ، ويعتقدون أنّ لغير الله دخْلاً في فعل الله))، وأنّ لغير الله دخْلاً وتأثيرًا في فعل الله؛ كأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يتأثّر بهم ويؤثِّرون في الله ـ تعالى ـ ويجعلونه يفعل ما لا يُريد أن يفعل؛ إذا قدّموا الدسُّوقي والبدوي والحُسين والشيخ عبد القادر الجيلاني والنور حسين العروسي ـ أشخاص لا تعرفوهم بعضهم ـ إذا وسّطوا هؤلاء في زعمهم هؤلاء لِمَا لهم من الكرامة والمكانة والجاه عند الله الله لا يردُّهم، يؤثِّرون فيه فيفعل بواسطتهم، اتّخذوا هؤلاء وُسطاء؛ هذا الذي هو جارٍ الآن عند كثير من الناس : لا يكاد العاميّ يدعوا إلا ويقول : ( بحق فلان، وبجاه فلان، وحُرمة فلان، وكرامة فلان ) .(1/22)
ويرى المقريزي والمعلِّق معه إن هذا نوعٌ من الشرك في الألوهية والمحبّة؛ لأن هذا الذين يدعون به عظّموه، بالغوا في تعظيمه، واعتقدوا فيه أنّ له تأثيرًا في الله ـ تعالى ـ ليفعل، حتى إنه ـ سبحانه وتعالى ـ لو لم يوسِّطوا هذا الوسيط لا يفعل؛ هذا شركٌ في الألوهية والمحبّة؛ هذه وهّابية القرن التاسع، كأن الوهّابية تؤثِّر في السابقين واللاحقين، ويسمُّون شيخ الإسلام ابن تيمية ـ كثيرٌ من السفهاء ـ : وهّابي، الذي كان يظهر في القرن السابع؛ هذا الوهّابية تظهر لكم معناه : أنّ كل من يدعوا إلى السنة ويعارِض البدعة والشرك فهو وهّابي ولو كان يعيش في القرون الأولى؛ هذا الكلام عظيمٌ جدًّا من هذين الشيخ المصريَّيْن .
ثم يقول الإمام المقريزي : ((وقومٌ يزورونهم فيدعونهم أنفسهم)) . يدعون الموتى، إنما يذهبون إلى القبور لا ليسلّموا على الموتى ويدعوا لهم ويتذكّروا الموت، ولكن ليدعوهم؛ لذلك كثيرًا ما يقصدون عند الشدّة في مثل هذا الأيام الحَرِجة لعلهم الآن يقصدون الموتى.
والموتى المقصودون للدعاء ليسوا جميع الموتى؛ لذلك أصحاب ـ أو أتباع مشايخ الطُّرُق ـ لا يحرصون على زيارة المقابِر العادية التي زيارتها تكفي لأن تكون زيارة شرعية، إذا وقف على قبر إنسان عادي يعرفه دعا له وتذكّر الموت كفى، حصلت الزيارة الشرعية، لكنهم في الغالب يتركون هؤلاء فيسافرون حتى إذا احتاجوا إلى السفر مسافة قصْر ليزوروا قبرًا معيِّنًا ـ قبر ميِّت معيّن ـ، وهذا السفر له هدف، لو كانت الزيارة زيارة شرعية لا يحتاجون إلى السفر لهذا الشخص سواءٌ كان شخصًا حقيقيًّا مدفونا أو بالزعم، ولكن يريدون أن يدعوه ويشكوا إليه شكوى ـ ستأتي عبارات من أحد الشيخين، العبارات التي يستعملونها عندما يدعونهم ـ .(1/23)
يقول المعلِّق في رقم ( 4 ) : ((كمن يقول من جهلة المسلمين في هذا الزمان : ( يا سيدي يا إبراهيم، يا دسُّوقي أنا محسوب عليك، اشف لي مريضي أو اقض لي حاجتي)) هذا الشيخ طه الزيني من علماء الأزهر الشريف يمثِّل بهذا المثال، ((أو : يا سيِّد يا بدوي كيف تسكُت على من ظلمني، إنك تعلم ظلمه لي)) البدوي يعلم أن زيدًا ظلم عَمرًا أيما كان عمرو ولو كان في أقصى الشرق، ولكن لما يسكُت ؟، يعاتبه لماذا يسكُت هذا السكوت، ((فاقصف عمره، أو فأثبته في مكان)) وهو ينقل عبارات القوم، الشيخ ينقل العبارات التي المتِّبعة التي تُستعمل، ((لا يتحرّك؛ وهذا أخبث الشرك وأدلّه على الجهل الفاضح والبُعد عن حظيرة الإسلام)) .
وكيف توفِّق بين قول الشيخ طه في أول التعليق : ((كمن يقول من جهلة المسلمين في هذا الزمان ... )) وبين قوله : ((وهذا أخبث الشرك وأدلّه على الجهل الفاضح والبُعد عن حظيرة الإسلام))؛ لا بد من التوفيق بين القولين ـ بين أول الكلام وآخر الكلام ـ : هم في الجملة معدودون من المسلمين، والعمل هذا يتنافى والإسلام ينافى والإيمان، هذا عملُ المشركين، لكن هل نُطلِق عليهم أنهم مشركون وخارجون من الإسلام ومن حظيرة الإسلام ـ لا حظ لهم في الإسلام ـ ؟، هذه المسألة التي لا تزال منذ كذا سنة نناقش مع الطلاّب : هل من يفعل مثل هذا الفعل وهو جاهل، لم يعلم أن هذا مخالفٌ لِمَا جاء رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل يعتقد أنّ هذا من صميم ما جاء به رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ معتقدًا هذا الاعتقاد فعل ما فعل، ولم يجد من يبيِّن له البيان الشافي حقيقة ما جاء به النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، بل لم يجد من يفسِّر له حقيقة ( لا إله إلا الله ) بالمفهوم الصحيح، ولو سأل أكبر شيخ في منطقته قال له : ( معنى
((1/24)
لا إله إلا الله ) : لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله )؛ لا يفرِّق الشيخ نفسه بين توحيد العبادة وتوحيد الربوبية وهم العمدة للناس مرجع الناس .
إذًا : ظاهر عملهم شركٌ وكفرٌ بواح، ولكنّ القوم ينبغي التوقُّف في أمرهم بعدم إخراجهم من الإسلام لوُجود هذا الجهل المخيِّم عليهم، ولوُجود الشبهات الخطيرة من تلكُمُ الشبهات : وجود من ينتسبون إلى العلم، ويزيِّنون للناس هذا العمل، ويفسِّرون لهم بأن هذا ليس من الشرك في شيء وإنما هو من محبة الصالحين والتوسُّل إليهم .
فلنعرف الحكم : من فعل هذا فهو كافر؛ لكن ـ كما يقول شيخ الإسلام ـ : قد يفعل اثنان كفرًا أحدهما يكفُر والآخر لا يكفُر، كفرًا واحد، نوعٌ من الكفر قوليًّا أوفعليًّا اثنان أحدهما يكفُر والآخر لا يكفُر : الذي لا شُبهة له وليس لديه جهلُ يعذر به هذا فهو كافر، ومن لديه شبهة أو قائمٌ به جهل يُعذر به لا يكفُر؛ هذه القاعدة لا ينبغي أن ننساها .
بهذا يوفَّق بين كلام الشيخ أنهم منتسبون إلى الإسلام وهذا العمل بحدِّ ذاته كفر وشرك بعيدٌ عن حظيرة الإسلام، ولكن : لا بد من هذا التفصيل .
ثم قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد)) )) . أي : إنّ القبر إذا عُبد ودُعي صاحبه ـ دُعي دعوة ـ وقُدِّمتْ له الشكوى وطيف به هذا القبر يُصبح وثنًا .
يقول العلاّمة ابن القيّم عند هذا الحديث : قد أجاب الله دعوة نبينه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يجعل قبره وثنًا يُعبد؛ قبل إدخاله في المسجد كان القبر في بيت عائشة، والناس يتحفّظون ولا يجرؤون على دخول بيت أمّ المؤمنين، وربما دخلوا البيت وألقوا السلام عليها وسلّموا على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وانصرفوا ـ على تحفُّظ(1/25)
شديد ـ؛ وبعد أنْ أُدخل وكان الصحابة والتابعون قبل الوليد كانوا يتحفّظون من إدخال القبر في المسجد ولم يُدخلوه، يوسِّعون من الجهات الأخرى ويتحفّظون من التوسعة من الجهة الشرقية لأن لا يدخل القبر، ولكن قدَر الله ما شاء فعل إنّ الوليد اجتهد فشرى حُجرات أمهات المؤمنين فأدخلها في المسجد، وبذلك دخل قبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في المسجد .
يقول العلاّمة ابن القيم : قيّد الله من يبني هذا الجدران من الحديد، الجدران المثلّثة
ـ أو الثلاثة ـ حتى لا يصل يد أحدٍ إلى قبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا يتمكّن أحدٌ من أن يلمس القبر ـ فضلاً من أنْ يطوف به ـ؛ أما ما يحصل من بعض العوام في الحج ـ في موسم الحج ـ من الطواف الطويل الذي يبدأ من باب جبريل ويمرون من عند الروضة ومن عند باب السلام يعودوا، فإذا تعبوا جاءوا إلى المدرِّس يقول : والله أنا طُفْت شوطين أو ثلاثة فتعبت ما هو الحكم؛ هل تتصوّرون يصدُر مثل هذا السؤال يصدُر من الحجّاج ؟، يقول : ما استطعت أن أكمِّل لأن المسافة طويلة، لا يسمّى أنه طاف بقبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فقبر النبي بعيدٌ عنه، وإنما طاف ـ أو مشى ـ في هذه المسافة، لا يسمّى هذا طوافًا شرعيًّا .(1/26)
الشاهد : لم يُتّخذ قبر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وثنًا يُعبد، ولم يعامَل معاملة قبور الصالحين، لأن الله صانه، فأجاب دعوته فحفظه، وجعل وقيّض من يحفظ هذا القبر من الأيدي الخبيثة؛ لولا الله ثم تمكين من شاء من عباده للمحافظة على هذا القبر كما تشاهدون قد تعرَّض لهذا القبر الخبثاء كالروافض، وربما حاولوا أن يسحبوا الجسد الشريف إلى بلادهم، كما حاولوا في الحجر الأسود ـ أو أخذا بالفعل الحجر الأسود ـ، القرامطة ـ كما تعلمون ـ كانوا يحاولون هذه المحاولة، ولكنّ الله العليم الحكيم القادر على كل شيء مدبّر الأمور جعل من يحافظ على هذا القبر المحافظة الشديدة ليل نهار حتى لا يتعرّض له أحد .
ومحل الشاهد : إذا عُبد القبر بأيِّ نوعٍ من أنواع العبادة بالذبح له، والطواف به، والتبرُّك به يصبح وثنًا؛ والوثن : كلُّ ما يُعبد من دون الله .
رحم الله الشيخ المقريزي على هذا التحليل .
بالنسبة لمسألة من يدعون الله بالموتى ـ أو يوسِّطون الموتى ـ أو من يدعون الموتى أنفسهم مباشرة : هذا العمل ظاهره كفرٌ وشرك ـ شركٌ أكبر وكفر بواح ـ؛ ولكن يفصَّل تفصيل، لا بد من التفصيل : التفصيل : من فعل هذا الكفر وهذا الشرك الأكبر وله عذر يُعذر به، وهو ممّن يُعذر بذلك الجهل وهو له جهل يُعذر به وهو ممّن يُعذر بالجهل، أو كانتْ له شبهة حالتْ دونه ودون فهم ما جاء به النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يُحكم عليه بأنه خارجٌ من الملة، يقال : علمه كفرٌ وشرك، ولكنه يُعذر حتى يتبيّن له الحق، ويتبيّن له الهدى ويتّبع بعد ذلك غير سبيل المؤمنين بهذا يكفُر ويخرج من الملّة .
أما من له جهلٌ يعذر به أو شُبهة قائمة كالذي يعيش بين أُناس ينتسبون إلى العلم فيزيِّنون لهم هذا العمل فيمسونه توسُّلاً ومحبةً للصالحين وليس بشرك : أمثال هؤلاء لا يكفُرون .
وبالاختصار : من يوصف بجهل يُعذر به أو له شبهة لا يكفُر، ومن لا فهو كافر
ـ والله أعلم ـ .(1/27)
على كلام الشيخ المقريزي : الزيارات انقسمتْ إلى ثلاثة : زيارة الموتى والدعوة لهم؛ هذه الزيارة الشرعية . زيارة الموتى والدعوةُ بهم؛ هذه زيارة شركية في المحبة والألوهية؛ فزيارة الموتى ودعوتهم مباشرةً هذا أكفر من الذي قبله، أشدُّ كفرًا؛ وهل نتصوّر زيارة بدعية لا تصل إلى حدِّ الشرك ؟، نعم : كالذين يزورون الموتى فيقرءون القرآن هناك، وربما تمسّحوا بالحجر أو بالحديد، ولكن لم يدعوا الموتى ولم يدعوا بالموتى، لم يدعوهم ولم يدعوا بهم، إلا أنهم عملوا أعمالاً غير مشروعة هناك، كالصلاة هناك لا إلى القبر لكن بجوار القبر يصلون بدعوى بأن الصلاة هناك مقبولة، أو : يقيمون هناك إقامة طويلة كالذين يقيمون ساعة أو ساعتين عند الأضرحة بقصد التبرُّك، أو يقرءون القرآن هناك؛ هذه زيارة بِدعية، لأنهم عملوا هناك أعمالاً بِدعية .
كذلك : تَكرار الزيارة وتَكرار التردُّد إلى القبر وخصوصًا ـ للأسف ـ ما يفعله كثيرٌ من الزوّار الآن، اتّخاذ الذهاب إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كراتبة للصلاة بعد كل صلاة، هذه من الأمور المبتَدَعة، وقد أنكر هذا العمل كثيرٌ من السلف ـ بل من علماء آل البيت ـ كانوا ينكرون إذا رأوا رجلاً يأتي إلى القبر فيُقال له : إذا دخلت المسجد فسلّم عليه وفي صلاتك سلّم عليه وعند خروجك من المسجد؛ كان يُنصح من يُرى يأتي يقف عند القبر، وليس من عادة السلف الذي عاشوا في هذه المدينة وفي هذا المسجد قبلنا التردُّد على قبر رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كلَّ ما يدخل الإنسان مسجد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو كلما يصلي فيه، هذه من الأمور المبتدعة .
قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وهؤلاء هم المشركون في الربوبية)) . أشركوا في الربوبية وفي الألوهية معًا لأنهم إذا دعوهم أولاً أثبتوا لهم التأثير، إثبات التأثير من شرك الربوبية، ودعوتهم والاستغاثة بهم وطلب الطلبات منهم ـ طلب قضاء(1/28)
الحاجات ـ كما سمعتم الأمثة من صاحب التعليق شركٌ في العبادة؛ إذًا : هؤلاء جمعوا بين الشرك في الربوبية وبين الشرك في الإلهية والمحبة .
قال الإمام المقريزي : ((وقد حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جانب التوحيد أعظم حماية تحقيقًا لقوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } )) . وهذا المبحث إذا قرأتم مثله في ((كتاب التوحيد)) تجدون بينهما تشابهًا، قارنوا بينهما .
((حتى نهى)) حمايةً لجانب التوحيد، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((عن الصلاة في هاتين الوقتين)) . المفروض : اسم الإشارة كالضمير يعود إلى المذكور، أو إلى المعلوم من المقام : هذين الوقتين، ((نهى عن الصلاة في هاتين الوقتين)) أين الوقتان ؟، هل تقدّم ذكر الوقتين ؟،
يعني : معلومٌ من السياق .
((نهى عن الصلاة في هاتيْن الوقتين)) . ((نَهى عن الصلاة)) أو : ((نُهيَ عن الصلاة)) لأنا في سياق الحديث عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : وقد حمى النبي، لذلك : حمى أفضل، وإنْ كان نُهيَ جائز .
قال المعلِّق ـ رقم ( 5 ) ـ : ((المراد بالوقتين : وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ حتى لا تكون العبادة مشوبة)) ـ مشبَّهة، أو مشوبة صحيح ـ ((بتعظيم الشمس عند طلوعها وغُروبها كما يفعل عُبّادها)) لأجل هذا نهى .
الشاهد : لأن تكون تلك العبادة تشبه عبادة الذين يعبدون الشمس .
وله تعليقٌ جيِّد في رقم ( 6 ) .
قال الإمام المقريزي : ((لكونه ذريعةً إلى التشبيه)) ـ التشبُّه ـ ((بعُبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين)) وقت طلوع الشمس ووقت غروبها .
((وسدّ الذريعة)) النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((بأنْ منع من الصلاة بعد العصر والصبح)) . الكلام في نوعٌ من التَّكْرار ولكنه تكرارٌ مقبول .
(((1/29)
لاتّصال هذين الوقتين بالوقتين الذيْن يسجُد فيهما المشركون للشمس)) . اسم تعليق رقم ( 6 ) : ((الصلاة التي تَحرُم عن الشروق والغُروب وبعد الصبح وبعد العصر إلى غُروب الشمس هي الصلاة التي لا سَبب شرعيٌّ لها، حتى لا يُتوهّم أنّ سببها هو تعظيم الشمس عند الشروق والغروب بسبب قُرب هذين الوقتين من وقت طلوع الشمس ووقت غروبها . أما الصلاة التي لها سبب كالفائتة والضحى وتحيّة المسجد وسنّة الوضوء وغير ذلك)) من ذوات الأسباب ((فلا تَحْرُم، بل تجب في الفائتة، وتُسنُّ في غيرها)) .(1/30)
لله درُّه معلِّقًا؛ هذه المسألة هي التي ارْتكب فيها كثيرٌ من طُلاّب العلم، ولا يزالون يناقشون؛ القول الصحيح : ما قاله الشيخ طه؛ أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين محمولة على النوافل المطلقة التي لا سبب لها ـ كما قال الشيخ طه ـ؛ لأن الإنسان إذا صلّى في هاتين الوقتين صلاةً لا سبب لها وتُشبه صلاة الذين ـ أو سجود الذين ـ يسجدون لطلوع الشمس ولغروب الشمس؛ لكن إذا كانت الصلاة لها سبب وجود السبب ينفي هذا التشبُّه ـ أو هذا الشبه ـ؛ هذا القول الذي اختاره الشيخ طه ولم يُشِرْ إلى القول الثاني المقابِل الذي هو في نظرنا ضعيف : هذا القول هو اختيار الإمام الشافعي للتوفيق بين حديث : ((إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتى يصليَ ركعتين)) وبين أحاديث النهي عن الصلاة في الوقتين، وتبِعه على هذا الاختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتليمذه ابن القيّم وكثيرٌ من المحقِّقين من علماء الحديث؛ هذا هو الفيْصل في هذه المسألة، وإنْ كان علماء الأصول يفخّمون المسألة أكثر من اللازم فيقولون : هذا عامٌّ عارضَ العام، والعام إذا عارض العام يصعُب التوفيق بينهما، ولكنّ الذي استطاع بتوفيق الله أن يوفِّق هو أبو الأصول ـ الإمام الشافعي، يُعتبر كأنه واضعٌ للأصول، ومن قرأ رسالته يدرِك أنه أبو الأصول ـ، ولذلك استطاع بسهولة أن يوفِّق بين هذه النصوص التي ظاهرها التعارُض؛ وفي كلِّ نصِّ عموم، وجه الصعوبة : في كلِّ نصٍّ عموم : ((إذا دخل أحدكم المسجد)) هذا عام، لأن ( إذا ) ظرف، وفي قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ((لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلُع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرُب الشمس)) ـ أو كما قال ـ فيه عموم : ((لا صلاة)) نكرة وقعتْ في سياق النفي ـ أو في سياق النهي ـ تعمُّ؛ كيف توفِّق بين هذا العام وبين هذا العام ؟، يرى بعضهم التوفيق : ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) أي : إذا كان الوقت صالحًا للصلاة؛ هكذا(1/31)
التوفيق عند بعضهم؛ ويرى بعضهم عدم دخول المسجد في الوقتين، لذلك ترى بعض المالكية يحومون حول المسجد حتى يؤذِّن المؤذِّن ـ بل حتى تُقام الصلاة ـ، لماذا ؟، لأنهم وقعوا في مشكلة أخرى : بعد الأذان كرهوا صلاةَ ركعتين؛ طوّلوا على أنفسهم : أولاً : تحفّظوا من الصلاة بعد صلاة العصر، أذّن المؤذِّن جاء محذور آخر عندهم : يُكره أن يصليَ الإنسان ركعتين حتى تُقام الصلاة ـ في المغرب ـ، يعني : يبقى بعد صلاة العصر خارج المسجد، فإذا غَربت الشمس وأذّن المؤذن أيضًا لم يرتفع المحظور عندهم لأنه يُكره أن يصليَ ركعتين قبل المغرب حتى تُقام الصلاة؛ كلُّ هذا نوعٌ من الإعراض عن السنة، أو تقديم للآراء على السنة، ولا ينبغي ذلك .
نرجع فنقول ـ كعادتنا ـ : أولئك الذين يعيشون في مناطق نائية لا صلة لهم بدراسة السنة، كل ما يعرفون : مذهبٌ معيّن كأنه خُلق في بلدهم، ولا يعرفون مذهبًا آخر، ويحسبون أن الخبير منحصر والدين كله الذي جاء به النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ منحصر في ذلك المذهب في بلدهم؛ إذًا فليُعذروا حتى يخرُجوا، والخروج سهلٌ اليوم، وقد خرجوا، وخرج من خرج، ورجع من رجع؛ هذا الكلام قبل هذا الوقت، أمّا الآن انتشرت السنة، وانتشرت العقيدة، لذلك طلب العذر للناس ينبغي أن يخفَّف من الآن فصاعِدًا؛ لأن هذا الانفتاح ودخول الناس وخروج الناس، وانتشار الدُّعاة، ووصول الكتب ـ كتب السنة والعقيدة ـ إلى مناطق كثيرة كانتْ مهجورة هذا خفّف الجهل كثيرًا، إلاّ من يريد أن يتعصّب .(1/32)
قال المعلِّق ـ في رقم ( 6 ) ـ : الصلاة التي تَحرُم عن الشروق والغُروب وبعد الصبح وبعد العصر إلى غُروب الشمس هي الصلاة التي لا سَبب شرعيٌّ لها، حتى لا يُتوهّم أنّ سببها هو تعظيم الشمس عند الشروق والغروب بسبب قُرب هذين الوقتين من وقت طلوع الشمس ووقت غروبها . أما الصلاة التي لها سبب كالفائتة)) هذه واضحة : كالذي لم يُصَلِّ ـ مثلاً ـ ركعتي الصلاة فصلاّهما بعد الصلاة كما وقع هذا في عهد النبي
ـ عليه الصلاة والسلام ـ والنبي أقرّه؛ ممكن أن يُجعل هذا مثال للفائتة؛ ((والضحى)) كيف الضحى ؟، التمثيل للضحى للوقتين لا يصح، غير سليم، إلا إذا توسّعنا وقلنا : يقصد إذا أخّر ركعتي الضحى إلى وقت الزوال ـ وقت وقوف الشمس ـ هذا الوقت منهيٌّ عنه ـ وإن لم يذكر هو ـ يَتصوّر صلاة الضحى لمن لم يتمكّن قبل ذلك؛ أما بالنسبة لِمَا بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر التمثيل بالضحى غير وارد . ((وتحية المسجد)) معقولة، ((وسنة الوضوء)) أيضًا : لو توضأ الإنسان بعد صلاة الصبح ـ خرج إلى الميْضا فتوضأ ـ، لكن هذا يغني إذا صلّى تحية المسجد أغنى، إلا إذا تصوّرنا أنه توضأ في داخل المسجد، ((وغير ذلك)) مثل : الجنازة، ومثل الكسوف بعد صلاة العصر، وكذلك ركعتي الطواف، وسجود الشكر، وسجود التلاوة لأن هذه ـ وإن لم تكن
صلاة ـ لكنها أبعاض الصلاة أجزاء وأبعاض من الصلاة ولها سبب؛ كلُّ هذا داخل في ((غير ذلك)) ـ والله أعلم ـ .
ثم قال : ((وأما السجود لغير الله فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : ((لا ينبغي لأحد أنْ يسجد لأحد إلا لله)) )) . ثم جعل يحلِّل عبارة ( لا ينبغي ) كيف تدلُّ على النهي.
(( ((1/33)
ولا ينبغي ) في كلام الله ورسوله إنما يُستعمل)) هذا الأسلوب ((للذي هو في غاية الامتناع)) ليس امتناعًا عاديًّا ((كقوله ـ تعالى ـ : { وما ينبغي للرحمن أن يتّخذ ولدًا } )) لأن هذا نقص في حق الله ـ تعالى ـ، ((وقوله ـ تعالى ـ : { وما علّمناه الشعر وما ينبغي له } )) أن يتعلّم ـ النبي عليه الصلاة والسلام ـ، ((وقوله
ـ تعالى ـ : { وما تنزّلتْ به الشياطين وما ينبغي لهم } ، وقوله ـ تعالى ـ : { ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ من دونك من أولياء } )) ( ينبغي ) في هذه الأساليب تدلُّ على غاية الامتناع؛ وهذه فائدة علميّة بلاغية ومن بلاغة القرآن وأسرار القرآن التي تسمعون هنا، خذوها هكذا رخيصة جاءتْ لكم، ارجعوا إلى كتب التفاسير حتى يتّضح لكم هذا المعنى .) .
ومن الشرك بالله ـ تعالى ـ المبايِن لقوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } : الشرك به في اللفظ كالحلف بغيره كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) ـ صحّحه الحاكم وابن حبّان ـ، قال ابن حبّان :
( أخبرنا الحسن وسفيان، ثنا عبد الله بن عمر الجعفي، ثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن الحسن بن عبد الله النخَعي، عن سعيد بن عَبيدة قال : كنت عند ابن عمر - رضي الله عنه - فحلف رجلٌ بالكعبة، فقال ابن عمر - رضي الله عنه - : ويْحك ! لا تفعل فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) ) .
ومن الإشراك : قول القائل لأحدٍ من الناس : ( ما شاء الله وشئت ) كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجلٌ : ( ما شاء الله وشئتَ ) فقال : ((أجعلتني لله نِدًّا ؟،
قل : ( ما شاء الله وحده ) ))، هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة كقوله(1/34)
ـ تعالى ـ : { لمن شاء منكم أن يستقيم } ؛ فكيف بمن يقول : ( أنا متوكِّلٌ على الله وعليك ) و ( أنا في حسْب الله وحسبك ) و ( مالي إلا الله وأنت ) و ( هذا من الله ومنك ) و ( هذا من بركات الله وبركاتك ) و ( الله لي في السماء وأنت لي في
الأرض )؛ وَزِنْ بين هذا الألفاظ الصادرة من غالب الناس اليوم وبين ما نهى الله عنه مِن ( ما شاء الله وشئت ) ثم انظر أيها أَفْحَشْ يتبيّن لك أنّ قائلها أولى بالبُعد من
{ إياك نعبد } ، وبالجواب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نِدًّا فهذا قد جعل من لا يدانيه لله نِدًّا .
وبالجملة : فالعبادة المذكورة في قوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } هي : السجود، والتوكُّل، والإنابة، والتقوى، والخشْية، والتوبة، والنذور، والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعًا وتعبُّدًا، والدعاء؛ كلُّ ذلك محْضُ حقِّ الله ـ تعالى ـ ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((ومن الشرك بالله ـ تعالى ـ المبايِن لقوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } )) . سبق أن بيّن الإمام المقريزي { إياك نعبد } يدلُّ على المنع، على منع الإشراك في العبادة والمحبّة بدليل تقديم المعمول على العامل وهذا يُفيد الحصر ـ كما تقدّم ـ .
((الشرك به)) أي : الشرك بالله ـ تعالى ـ ((في اللفظ كالحلف بغيره كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) )) يقول(1/35)
المعلِّق : ((معنى الشرك هنا :أنّ الحالف بغير الله قد لله شريكًا في التعظيم)) جعل المحلوف به شريكًا لله في التعظيم، ((لأن الحلف بالشيء يقتضي تعظيم ذلك الشيء عظمة تُشبه عظمة الله))، بل في الحلف بغير الله فيه الخوف من المحلوف به؛ قال المعلِّق : ((لأن الحلف خاصّ بالله، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمُتْ)) أي : ليسكت فلا يحلف مطلَقًا))؛ الحلف بغير في الأصل : من الشرك الأصل، ولكن قد تصحب هذا الحلف بعض المعاني التي تجعل الحلف بغير الله ـ تعالى ـ من الشرك الأكبر؛ أشار المعلِّق إلى ذلك إشارة حيث قال : ((قد جعل لله شريكًا في التعظيم))، تعظيم غير الله ـ تعالى ـ تعظيمًا يشبِه تعظيم الله أو تعظيمًا كتعظيم الله، ومحبة غير الله كمحبة الله، والخوف من غير الله كالخوف من الله من الشرك الأكبر؛ وهذا يُشاهَد ـ كما مثّلنا غير مرّة ـ في كثير من العوام الذي يبالغون في تعظيم المشايخ، يخافون من الحلف بالشيخ أكثر ممّا يخافون من الحلف بالله، وربما تذرّعوا بذريعة بأن الله غفورٌ رحيم، حتى لو حلف به الإنسان كاذبًا له أن يتوب إلى الله فهو يغفر الذنوب جميعًا، ولكنّ الشيخ إذا أساء إليه أتباعه لا يرحم ولا يغفر ينتقم؛ الاعتقاد في الشيخ بأنه قادرٌ على الانتقام بطريقة سريّة لا بطريقة ظاهرة ـ أي : لا بالأسباب الظاهرة ـ؛ الخوف ممّن هو أقوى منك أن تخاف منه أن يضرُّك بالأسباب الظاهرة كأن يضربك أو يطعنك أو يفعل أو يفعل هذا من الخوف الطبيعي الذي لا يضر وليس من خوف العبادة، ولكنّ الخوف الذي يكون شركًا : الخوف السِّرِّي : كونُ المريد أو الخليفة يخاف من الشيخ الخوف السري، أولاً : يعتقد بأنه يعلم ما في نفسه، ويعتقد بأنه قادرٌ بأن ينتقم منه لو حلف به كاذبًا أو لو أساء إليه، بهذا المعنى يرتفع الحلف بغير الله من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر؛ وهذا واقعُ بعض الناس ـ الله(1/36)
المستعان ـ .
ساق الإمام المقريزي لهذا الحديث وأثبت بأنه ثابتٌ ... إلى آخر ما قال، ثم ساق أثرًا عن ابن عمر، إلى أنْ قال : (( ... عن سعيد بن عبيدة قال : كنت عند ابن عمر - رضي الله عنه - فحلف رجلٌ بالكعبة، فقال ابن عمر - رضي الله عنه - : ويحك ! لا تفعل فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) )) . تقدّم البحث في أن الحلف بغير الله في الأصل أنه من الشرك الأصغر .
((ومن الإشراك قولُ القائل لأحدٍ من الناس : ( ما شاء الله وشئتَ ) كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له رجلٌ : ( ما شاء الله وشئتَ ) فقال : ((أجعلتني لله نِدًّا ؟، قل : ( ما شاء الله وحده ) )) )) . هذا من باب حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وجَناب التوحيد .
((هذا مع أنّ الله ـ تعالى ـ قد أثبت للعبد مشيئة كقوله ـ تعالى ـ : { لمن شاء منكم أن يستقيم } )) . لكن وجه الإنكار : العطف بالواو : ( ما شاء الله وشئتَ ) لأن
( الواو ) لمطلَق الجمع تقضي أن تكون مشيئة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ كمشيئة الله، لكن لو عطف بـ( ثم ) : ( ما شاء الله ثم شئتَ ) لا بأس لأنه أخّر مشيئة العبد وجعلها تابعةً لمشيئة الله ـ تعالى ـ { وما تشاءون إلا أنْ يشاء الله } .(1/37)
ثم قال الإمام المقريزي : ((فكيف بمن يقول : ( أنا متوكِّلٌ على الله وعليك ) )) . التوكُّل لا يكون إلا على الله مطلَقًا، وخصوصًا : فيما لا يملك العبد؛ وفيما يملك العبد قال صاحب ((فتح المجيد)) : إن يكون من الشرك الأصغر؛ إذا توكّل الإنسان على رئيسه ورئيس قسمه فيما يقدر عليه أن يفعل، وهذا من نوع الشرك الأصغر، ولكن إذا توكّل على مخلوقٍ فيما لا يقدر عليه إلا الله : من الشرك الأكبر؛ والحذر : عدمُ الاتّكال على المخلوق في كل شيء، بل لا يجوز الاتّكال حتى على الأسباب المشروعة، الأسباب المشروعة لطلب العلم ـ مثلاً ـ : التغرُّب، وكثرة المذاكرة، وكثرة التعليق، وكثرة القراءة، وغير ذلك من الأسباب المعلومة؛ لا يجوز على طالب العلم أن يعتمد على هذه الأسباب في حُصول العلم، ولا يجوز لطالب الرزق أن يعتمد على الأسباب التي بذلها كفتح الدُكّان وتنمية الأموال وغير ذلك من الأسباب المعلومة، ولا يجوز للمجاهد ولمن يريد أن ينتصر على العدو أن يعتمد على الأسباب التي هيّأها للدفاع والانتصار، بل يعتبر هذه أسبابًا مشروعة والاعتماد على الله في نجاح تلك الأسباب، لأن الأسباب لا تنجح إلا إذا جعل الله فيها بركة، لذلك : لا يجوز الاتّكال حتى على الأسباب المشروعة .
وقولُ الإنسان لإنسان مثله : ( أنا متوكِّلٌ على الله وعليك ) هذا كفرٌ .
((و ( أنا في حسْب الله وحسْبك )، و ( مالي إلا الله وأنت )، و ( هذا من الله(1/38)
ومنك )، و ( هذا من بركات الله وبركاتك ) )) من أين له من بركة ((و ( الله لي في السماء وأنت لي في الأرض ) )) . انتبه للمعلِّق ماذا يقول : ((كأن الشيخ المقريزي يعيش بيننا؛ فهذه الألفاظ كثيرة التداوُل على الألسنة في هذه الأيّام ـ نعوذ بالله من شرها وشرِّ قائليها ـ)) الشيخ طه يؤيِّد أنّ ما قاله المقريزي في القرْن التاسع فهو موجود الآن إنْ لم يكن أزْيد إن لم يكن توسّع فيه الناس أكثر فأكثر؛ لكن ماذا يستطيع الإنسان أن يقول أكثر من هذا إذا قال : ( الله لي في السماء وأنت لي في الأرض )، هذا لم يعرف الله، الله ـ سبحانه وتعالى ـ مع أهل السماء وأهل الأرض بعلمه وسمعه وبصره وتقديره { يدبِّر الأمر من السماء إلى الله } ؛ فهو لم يعرف الله ـ تعالى ـ؛ لكن العجيب : كيف قال :
( الله لي في السماء ) كيف آمن بأن الله في السماء، هذا غريبٌ منه، إيمانه بأن الله في السماء هذه عبارةٌ غريبة عليه وكبيرة عليه، لأن كثيرًا من المتعلِّمين لا يعتقدون بأن الله في السماء يعتقدون بأن الله في كلِّ شيء وفي الأرض معنا؛ لكن هذه كأنها رَمْيةٌ من غير رامٍ ـ كما يقولون ـ .(1/39)
يقول المؤلِّف : ((وَزِنْ بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب الناس اليوم)) أي : في القرن التاسع ((وبين ما نهى عنه من ( ما شاء الله وشئت )، ثم انظر أيهما أفحش، يتبيّن لك : أنّ قائلها أولى بالبُعد من { إياك نعبد } )) . لم يحقِّق مقام { إياك نعبد } بل هو بعيد من { إياك نعبد } ؛ ((و)) أولى ـ أيضًا ـ ((بالجواب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقائل تلك الكلمة)) ـ ما شاء الله وشئت ـ ((وأنه إذا كان قد جعل رسول الله نِدًّا فهذا قد جعل من لا يدانيه لله نِدًّا)) . العبارة هذه نقف عندها قليلاً : يقول المقريزي ـ رحمه الله ـ : ((وأنه إذا كان قد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نِدًّا)) بقول القائل : ( ما شاء الله وشئت ) ((فهذا قد جعل من لا يدانيه)) أي : من لا يداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نِدًّا لله)) أي : مَن دون رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بمراحل جعله نِدًّا لله؛ وهل هناك فرقٌ بين أن تجعل لله نِدًّا نبيًّا وبين أن تجعل لله ندًّا إنسانًا عاديًّا أو شجرًا أو ضريحًا ؟؛ لا فرق بينهما، ولذلك : العبارة فيها نظر، ضعوا علامة : ( في العبارة نظر )، اتركها هكذا .
(((1/40)
وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله ـ تعالى ـ : { إياك نعبد } هي السجود، والتوكُّل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والتوبة، والنذور، والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغار، وحلق الرأس خضوعًا)) ـ كما تقدّم ـ : حلق الرأس يكون عبادة في مكان معيّن وفي موضع معيّن : عندما يتحلّل الإنسان من الحج والعُمرة؛ ولو جُعل للشيخ موسمٌ كما هو واقع كثير من عوام المسلمين موسم معين يُزار فيه حيًّا أو ميًِّا ويُحجُّ إليه، وتُحمل إليه الأموال باسم الزيارة، ثم بعد هذا حلق رأسه خضوعًا وتذلُّلاً للشيخ؛ المريد عندهم لا يكون مريدًا صادقًا إلا إذا سلّم نفسه للشيخ وجعل نفسه بين يدي الشيخ كالميِّت بين يدي الغاسل ـ هكذا يقولون ـ : المريد الصادق الذي يجعل نفسه بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل يقلِّب كيف يشاء؛ معنى ذلك : يتحلّل من البشرية والإنسانية، والرجولة، ومن كل شيء يكون كبهيمة أو أشد، يتصرّف فيه الشيء ما يشاء .
لو ذكرنا في هذه المناسبة بعض وقائع وقصص منهم محزنة ومضحكة في وقت واحد؛ ولكنّ الإنسان إذا علم من تلك الأشياء، ثم علم ما هو فيه بما منّ الله عليه من الفهم في الدين يزداد إيمانًا بالله؛ يصل الحال بالمريدين إلى درجة : إن العريس يقدِّم في أول ليلة امرأته للشيخ ليتبرّك بها، ليباركها، بعد أن يقضي وطَره يُرسل للمريد؛ إلى هذه الرجولة، يعني : ماتتْ فيهم الغيرة والرجولة وكلُّ شيء، كلُّ معنى الإنسانية؛ إذا وصل إلى هذه الدرجة هذا هو المريد الصادق الذي يُرجى له أن يصل إلى الله ويكونَ يومًا من العارفين بالله؛ هذا دينٌ آخر، وملّة أخرى غيرَ ملّة رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ وعلى هذا يعيش كثيرٌ من جُمهور المسلمين في بعض الأقطار؛ تصوّروا هذا؛ إذا أردتم أن تقفوا على شيء من أمثال هذه الحكايات المحزنة ممكن تقرءوا في كتاب ((هذه هي الصوفية)) و ((مصرع التصوُّف)) .(1/41)
ثم ما يقوله كبيرهم وأكفرهم ابن عربي في ((فصوص الحكم)) وفي ((الفتوحات المكيّة)) الذي جُلُّ ما فيه كفرٌ بَواح؛ وسوف يُشير إليه المقريزي فيما يأتي ـ إن شاء الله ـ .
الحمد لله على نعمة الإسلام .
قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((كلُّ ذلك محْض حقِّ الله ـ تعالى ـ)) . أي : من السجود وما عُطف عليه أنواع العبادات التي عدّدها هنا مثل تلك العبادات التي عدّدها الإمام ابن عبد الوهّاب في ((الأصول الثلاثة)) تمامًا مثلها .
((كل ذلك محْض حق الله ـ تعالى ـ)) . أي : كلُّ ما تقدّم من أنواع العبادة التي عدّدها بدأً بقوله : ((هي السجود، والتوكُّل، والإنابة ... )) إلى آخره ((كل ذلك محض حق الله ـ تعالى ـ)) .) .
وفي ((مسند الإمام أحمد)) : أن رجلاً أُتي به النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قد أذنب ذنبًا، فلما وقف بين يديه قال : ( اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد )، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((عرَف الحق لأهله)) .
وأخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع وقال : ((حديث صحيح)) .
وأما الشرك في الإرادات والنيّات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجوا منه؛ فمن نوى بعمله غير وجه الله ـ تعالى ـ فلم يقم بحقيقة قوله : { إياك(1/42)
نعبد } ( ( ) الذي يظهر : ((لم يقم بحقيقة قوله : { إياك نعبد } )) لأنها جملة خبرية؛ ((فمن نوى)) هذه جملة اسمية، الخبر : ((لم يقم بحقيقة قوله ... )) ـ بدون فاء ـ؛ وإلا ما نجد جوابًا؛ خبر المبتدأ ( من ) اسم موصول مبتدأ، والجملة صلة الموصول، الخبر : ((لم يقم بحقيقة قوله : { إياك نعبد } ))؛ هكذا يظهر لي : ((فمن نوى بعمله غير وجه الله ـ تعالى ـ لم يقم بحقيقة قوله : { إياك نعبد } )) هكذا يتمُّ الكلام .)؛ فإن { إياك نعبد } هي الحنيفيّة ملّة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام { ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة في الخاسرين } ؛ فاستمسك بهذا الأصل ورُدَّ ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تتحقّق معنى كلمة ( الإلهية ) .
فإنْ قيل : المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله ـ تعالى ـ، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك؛ فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية وإنما قصد تعظيمه، وقال : { إياك نعبد } ، وإنما أعبد هذه الوسائط لتقرّبني إليه وتدخل بي عليه [ تعالى ] فهو الغاية وهذه وسائل؛ فَلِم كان هذا القدر موجِبًا لسخط الله ـ تعالى ـ وغضبه ومخلِّدًا في النار وموجبًا لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم، وهل يجوز في العقل أن يشرع الله ـ تعالى ـ لعباده التقرُّب إليه بالشفعاء والوسائط، فيكون تحريم هذا إنما استُفيد بالشرع فقط ؟، أم ذلك قبيحٌ في الشرع والعقل يمنع أن تأتي به شريعة من الشراع ؟، وما السِّرُّ في كونه لا يُغفر من بين الذنوب كما قال ـ تعالى ـ : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ؟(1/43)
قلنا : الشرك شركان ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وفي ((مسند الإمام أحمد)) : أنّ رجلاً أُتيَ به إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد أذنب ذنبًا، فلما وقف بين يديه، قال : ( اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد )، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((عرَف الحق لأهله)) )) . لأن الذي يُتاب إليه الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيِّئات ويُجيب دعوة المضطّر هو الله وحده؛ هذه ليستْ وظيفة النبي حتى يتوب إليه؛ وهذا الموقف يذكِّرنا موقف عائشة ـ رضي الله عنها ـ عندما نزلتْ براءتها ذكرتْ كلامًا يُشبه هذا تمامًا : إنما تشكر الله الذي أنزل براءتها من فوق سبع سموات؛ فهكذا التوحيد .
وليس في ذلك أدنى نيْل أو تنقُّص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنّ هذا ليس من حقه بل هو حقُّ الله، لذلك قال : ((عرف الحق لأهله)) .
ولو حصل شيءٌ من هذا أمام أولئك المتبوعين من مشايخ الطرق الذين استذلوا كثيرًا من الناس حتى عبدوهم لن يجرؤ أحدٌ أن يقف أمامهم فيقول مثل هذا القول؛ لو حصل له شيء ثم فرّج الله عنهم ليس يستطيع أن يقف أمامه فيقول : إنما أشكر الله لا أشكرك أنت أيها الشيخ؛ لن يجرأ أبدًا؛ هذا دليل على ضعف التوحيد وضعف الإيمان في نفوسهم، وأن الغلو فيهم أثّر إلى درجة أنهم يخافونهم من أن يصارحوا بمثل هذا .
قال الإمام المقريزي : ((وأخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع، وقال : ((حديث صحيح)) )) . هذا الحديث يبحث يحقِّق صحّته أحد طُلاّب كليّة الحديث، لأن تصحيح الحاكم وحده لا يُعتمد عليه، لكن يُبحث عن مدى صحته، والمعنى صحيح، معناه صحيح، لكن نريد أن نتأكّد من صحة ذلك، إما يرجع إلى ((المسند)) أو يرجع إلى الحاكم ويتتبّع السند، فيأتينا بنتيجة ـ إن شاء الله ـ في مثل هذه الليلة
ـ يعني : بعد أسبوع ـ .(1/44)
يقول الإمام المقريزي : ((وأما الشرك في الإرادات والنيّات فذلك البحر الذي لا ساحل له)) . كثير جدًّا، يشبِّهه بالبحر الذي لا ساحل له .
((وقلّ مَنْ ينجوا منه؛ فمن نوى بعمله غيرَ وجه الله ـ تعالى ـ لم يقم بحقيقة قوله
{ إياك نعبد } )) . وهذا معناه يوافق ترجمة الإمام محمد بن عبد الوهّاب في ((كتاب التوحيد)) : ((باب من أراد بعمله الدنيا)) ـ أو ((باب الرياء)) ـ داخلٌ في هذا .
من قصد بعمله الصالح إمّا المدح والثناء ـ وهو الرياء ـ، أو قصد بعمله نيْل شيء من أغراض الدنيا وأعراض الدنيا ((لم يقم بحقيقة { إياك نعبد } ))، لأن { إياك نعبد } هذه الآية ـ أو الجزء من الآية ـ يدعوا إلى إخلاص العبادة لله، وعدم إرادة وجه غير الله، سواء كان رياءً أو طلب الدنيا .
((فإن { إياك نعبد } هي الحنيفية ملّة إبراهيم الذي التي أمر الله بها عباده كلهم)) . الحنيفية فسّر المعلِّق بالتنزيه، هذا تفسيرٌ بالمعنى العام، ليس تفسيرًا لغويًّا؛ الحنيف
{ حنيفًا } أي : مائلاً عن الشرك إلى التوحيد وعن الباطل إلى الحق، أو هو معنى التنزيه؛ المهم : أن هذا تفسيرٌ بالمعنى لا تفسير لفظي، وكلامه سليم .
((ولا يقبل من أحد غيرها)) . الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يقبل من أحد غيرَ الحنيفية ملة إبراهيم .
((وهي حقيقة الإسلام)) . لأن الإسلام معناه : الاستسلام والانقياد؛ الاستسلام لله
ـ تعالى ـ بدأً من التوحيد وإخلاص العبادة، ثم إخلاص سائر الأعمال وجميع الأفعال والأقوال، مع كونها صوابًا أي : على السنة؛ هذا حقيقة الإسلام .
(( { ومن يبتغ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين } )) . من خالف ملة إبراهيم اتّبع غير سبيل المؤمين؛ سبيل المؤمنين ينحصر في الحنيفية ملة إبراهيم وهو حقيقة الإسلام، مخالفة ذلك يُعتبر اتّباع غير سبيل المؤمين، وذلك غيرُ مقبول { وهو في الآخرة من الخاسرين } .(1/45)
قال الإمام المقريزي بعد هذا : ((فاستمسك بهذا الأصل)) . الأصل : اتّباع سبيل المؤمنين، اتّباع الحنيفية ملة إبراهيم؛ هذا هو أصل الدين، فاستمسك بهذا الأصل .
((ورُدَّ ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه)) إلى هذا الأصل، رُدَّ إليه .
((تتحقّق معنى الكلمة ( الإلهية ) )) بذلك؛ معنى الرد : أن نَعْرِض كل ما يفعله وما يقوله المبتدعة والمشركون نعرض على هذه الملة، ما وافق هذه الملة قُبل وما لا فرُدَّ؛ هذا معنى الرد .
قال الإمام المقريزي : ((فإن قيل : المشرك إنما قصد بإشراكه : تعظيم جناب الله
ـ تعالى ـ، وأنه [ سبحانه ] لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك)) . هذه الجملة صاغها أخذًا من وضع جمهور المسلمين في وقته ومستمرٌّ هذا الوضع وهذا المعنى بين جمهور المسلمين في كثير من الأقطار إلى يومنا هذا : اعتقاد عوام المسلمين بأنهم ليسوا أهلاً بأن يعبدوا الله مباشرةً ويدعوه، بل يصرِّحون بهذا : يقولون : نحن ملوّثون، لا بد أن نقدِّم بين يدي الله ـ تعالى ـ أناسًا صالحون وطاهرون ومقرّبون؛ وهذا هو معنى قول المشركين : { ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زُلفى } تمامًا وبعينه .
سبحان الذي فتح على هذا الإمام هذا الفهم في ذلك الوقت .
انتبهوا لهذا الاستفهام مهمٌّ جدًّا : ((فإنْ قيل : المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله(1/46)
ـ تعالى ـ)) بإشراكه واتخاذ الوسطاء والشفعاء، ((وأنه ـ تعالى ـ لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك)) . شبّهوا بالملوك؛ الملوك والرؤساء والعظماء إنما يدخل الإنسان عليه لتُقضى حاجته عنده بالشفعاء والوُسطاء؛ لا يقوى إنسانٌ عادي من عوام المجتمع والشعب أن يصل إلى ذلك الباب ليشكوا حاجته ويطلب قضاء حاجته ويطلب طلبه، لكن يوسِّط، قد تكون الوساطة طويلة، يبدأ بالصغير الذي يليه، وذلك يوصِّله إلى أنْ يصل إلى الوزير، ثم يصل إلى من فوقه؛ هكذا شبّهوا الله ـ تعالى ـ بالملوك والعظماء والرؤساء؛ وهذا التشبيه من باب تشبيه الخالق بالمخلوق، تشبيه الخالق العالم بالسر القادر على كل شيء الذي بيده كل شيء الذي يعلم سرائر العباد كما يعلم ظواهرهم تشبيه بالملوك الذين لا يعلمون من الناس شيئًا إلا بواسطة غيره .
فالمشرك ـ إذًا ـ لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه؛ وهل هذا القصد الحسن، هذه النية الطيِّبة ـ نية التعظيم ـ هل تنفعه ؟
((وقال : { إياك نعبد } )) . هذا المشرك يقول : { إياك نعبد } .
((وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه [ تعالى ]، وتَدْخل بي عليه [ تعالى ]؛ فهو الغاية وهذه وسائل)) . إذا كان الله هو الغاية وهذه وسائل، إذًا : في الحقيقة لم أعبد إلاّ الله، وبذلك صرت حقّقت معنى { إياك نعبد } حيث اعتبرت أن الله هو الغاية ومَن دونه من الوسائط إنما هم وسائل .(1/47)
إذا كان الأمر كذلك ((فلم كان هذا القدر موجبًا لسخط الله ـ تعالى ـ)) . إذا كان الإنسان لم يقصد مَنْ دونه قصد الغاية، ولكن قصَد قصْد الوسائل لماذا كان هذا القدْر موجِبًا لسخط الله ـ تعالى ـ ((وغضبه ومخلِّدًا في النار، وموجبًا لسفْك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم ؟، وهل يجوز في العقل أن يَشْرَع الله ـ تعالى ـ لعباده التقرُّب إليه بالشفعاء والوسائط فيكون تحريم هذا إنما استُفيد بالشرع فقط)) . أي : هل هذا ممتنعٌ عقلاً وشرعًا ؟، أو إن العقل لا يمنع ولكن استُفيد هذا من الشرع فقط ؟، ((أم ذلك قبيح في العقل والشرع معًا ؟، يُمنع)) عقلاً وشرعًا ((أنْ تأتيَ به شريعة من الشرائع ؟))؛ سؤال طويل، ((وما السر)) ـ أيضًا ـ بعد الجواب على هذا، ((ما السر في كونه لا يُغفر)) الشرك لا يُغفر ((من بين الذنوب كما قال ـ تعالى ـ :
{ إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } )) الموبقات كثيرة من أفظعها : قتل النفس؛ كلُّ ذلك محل الغُفران؛ لماذا كان الشرك لا يُغفر ؟، ((قلنا : الشرك شركان)) الجواب على هذه التساؤلات كلها : ((الشرك شركان : شركٌ يتعلّق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله)) أن تجعل له شريكًا في ذاته، أو في أسمائه وصفاته وأفعاله . النوع الثاني : ((وشرك في عبادته ومعاملته، وإنْ كان صاحبه يعتقد أنه
ـ سبحانه وتعالى ـ لا شريك له في ذاته ولا في صفاته)) يوحِّد الله ـ تعالى ـ في ذاته، لا يُثبِت ذاتًا تُشْبه ذات الله، ((ولا في صفاته)) لا يُشرك بالله ـ تعالى ـ في صفاته، بل يوحِّد الله ـ تعالى ـ في صفاته، ولكن يُشرك بالله ـ تعالى ـ في عبادته؛ هذا حال كثيرٍ من الناس .
(((1/48)
وأما الشرك الثاني فهو الذي فرغنا من الكلام فيه )) الشرك في العبادة ((وأشرنا إليه الآن)) مع أننا فرغنا منه، لأنه سبق أن عدّد أنواع العبادة وأنها محْض حق الله ـ تعالى ـ، يشير إلى ما تقدّم ((وسنُشبع الكلام فيه ـ إنْ شاء الله تعالى ـ )) ـ رحمه الله ـ . عرفنا أن الشرك شركان : الشرك في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ قد يقع في هذا من هو موحِّدٌ في باب آخر . وشركٌ في عبادته ومعاملته، وإنْ كان صاحبه يعتقد أنه
ـ سبحانه ـ لا شريك له لا في ذاته ولا في أسمائه أو في صفاته ـ .
بل الذي يقع فيه كثيرٌ من المنتسبين إلى العلم : إما الجمع بينهما، أو إفراد الله
ـ تعالى ـ بالعبادة والتخبُّط في باب الأسماء والصفات، ويحصل العكس .) :
شركٌ يتعلّق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشركٌ في عبادته ومعاملته وإنْ كان صاحبه يعتقد أنه ـ سبحانه وتعالى ـ لا شريك له في ذاته ولا في صفاته .
وأما الشرك الثاني فهو الذي فرغنا من الكلام فيه، وأشرنا إليه الآن، وسنُشبع الكلام فيه ـ إنْ شاء الله تعالى ـ .
أما الشرك الأول فهو نوعان :
أحدهما : شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون في قوله : { وما رب العالمين } ، وقال : { يا هامان ابن لي صرْحًا لعلي أبلُغ الأسباب أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى وإني لأظنُّه كاذبًا } . والشرك والتعطيل متلازمان؛ فكل مشرك معطِّل، وكلُّ معطِّل مشرك، لكنّ الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مُقِرًّا بالخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وصفاته ولكنه معطِّله حقَّ التوحيد ( ( ) ((وأما الشرك الأول)) . الشرك في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، هذا الأول .
((فهو نوعان : أحدهما : شرك التعطيل)) . يعني بالتعطيل : دعوى نفيُ الله
ـ تعالى ـ أو إنكار وجوده، إنكار وُجود الرب ـ سبحانه وتعالى ـ، أو إنكار صفاته، أو إنكار أسمائه وصفاته معًا .
التعطيل بالدرجة الأولى يعني به : ما قال فرعون .(1/49)
ولذلك قال : ((وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون في قوله)) تعالى فيما حكى عنه ـ عن فرعون ـ : { وما رب العالمين } الاستفهام إنكاري، أي : ما هو رب العالمين ؟، أين هو ؟، أي : ليس هناك ربٌّ سواي، كأنه يقول هكذا؛ لأنه قد قال : { ما علمتُ لكم من إله غيري } .
((وقال : { يا هامان ابن لي صرْحًا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطّلع إلى إله موسى وإنه لأظنه كاذبًا } )) . قوله : { وإنه لأظنه كاذبًا } يحتمل
وجهين : { إنه لأظنه كاذبًا } في دعوى أن له ربًّا سواي، أو : { إني لأظنه
كاذبًا } في قوله بأن الله في السماء؛ يحتمل، والكلُّ تعطيل : الأول تعطيل بمعنى : إنكار وجود الله ـ تعالى ـ، والثاني : تعطيل بمعنى : إنكار علوّ الله ـ تعالى ـ، إنكار صفة العلو؛ الكلُّ تعطيل .
وهذا التعطيل يسمّيه المقريزي شركًا، بمعنى : مثلاً : من نفى صفةً من صفات الله ـ تعالى ـ : جعل الله كالمخلوق وإن جعل صفاته كصفات المخلوق الشرك واضح، هذا تشبيه؛ هذا فهمٌ دقيقٌ من هذا الإمام . وإنْ نفى وُجوده ـ وُجود الرب سبحانه ـ كما زعم فرعون أنه رب الناس ـ أو رب أهل مصر على الأقل ـ عند ذلك نفى وُجود الله ـ تعالى ـ؛ ما معنى الشرك في هذا ؟، جعل نفسه ربًّا وشريكًا لله ـ تعالى ـ، بل أفضل لأن وُجود الله ـ تعالى ـ عنده ظنيٌّ، وإنْ كان في قرارة نفسه يعتقد بأنّ الله موجود؛ من هنا يتحقّق الإشراك، أي : نفيه هذا ليس نفيًا حقيقيًّا تمويه على الناس، ولكنه في الواقع يُثبت وجود الله ـ تعالى ـ ويجعل نفسه شريكًا لله؛ هكذا يُتصوّر كونه شركًا .
ولو كان لا يُثبت وجود الله ظاهرًا وباطنًا لا يكون ذلك شركًا بل ذلك كفْر محض كفر جحود ـ جحْد ـ؛ ولكن كيف نتصوّر أن يكون هذا شركًا إذا علمنا بأنه يعتقد في قرارة نفسه بوُجود الله ـ تعالى ـ، وإنما يُنكر وجود الله أمام الناس تمويهًا على الناس وتلبيسًا، وجعل نفسه شريكًا لله، بهذا يكون شركًا .(1/50)
قال الإمام المقريزي : ((والشرك والتعطيل متلازمان؛ فكلُّ مشرك معطِّل)) . من أشرك بالله ـ تعالى ـ خلْقًا من مخلوقاته شبّه هذا المخلوق بالخالق، شبّه المخلوق بالخالق وجعله شريكًا له، وعطّل الحقيقة الإلهية، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو وحده الذي له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، إذا شبّه الشيخ بالخالق في إثبات القدرة الباهرة أو في إثبات السمع والبصر له أشرك بالله، إذا أشرك بالله عطّل حقيقة الله، الحقيقة التي هي : الانفراد : كون الله منفردٌ بصفات الكمال، لأنه أشرك هذا المخلوق في صفات الله ـ تعالى ـ .
كل مشرك معطِّل؛ الإشراك لا يتمّ إلا بالتشبيه، المشرك مشبِّه، من يدعوا غيرَ الله ويعتقد فيه أنه يراه ويسمه ويقضي حاجته شبّه هذا المخلوق بالخالق؛ وكونه وقع في التشبيه واضح .
وكيف يكون ذلك تعطيلاً ؟، إذا جعل سمع الله كسمع المخلوق أو سمع المخلوق كسمع الله يُعتبر عطّل حقيقة سمع الله وحقيقة بصر الله وحقيقة علم الله .
((وكلُّ معطِّل مشرك)) . إذا عطّل صفات الباري كأن نفى العلم ـ مثلاً ـ أو نفى الصفات كلها كالمعتزلة، إذا عطّل هذه الصفات ألحق رب العالمين بالمخلوق الذي ليستْ له هذه الصفات ـ صفات الكمال ـ؛ شبّه، بهذا التشبيه أشرك، جعل الله ـ تعالى ـ كالمخلوق الذي لا يتّصف بهذه الصفات، لا بالسمع ولا بالبصر الكاملَيْن .
((لكن الشرك)) رجع مرّة أخرى يقول الإمام المقريزي : ((لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك)) الذي يشرك بالله ـ تعالى ـ في عبادته ((مُقِرًّا بالخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وصفاته)) . قد يُشرك بالله ـ تعالى ـ شرك العبادة وشرك المحبّة، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون معطلاً قد يُثبت؛ هذا واقعٌ بالفعل : قد يكون مقرًّا بالخالق، مقرًّا بوُجوده ـ تعالى ـ وصفاته، أي : يوحِّد الله ـ تعالى ـ في باب الأسماء والصفات، ويُشرك به في العبادة .
(((1/51)
ولكنّه معطّله حقَّ التوحيد)) . لم يوحِّده، وجعل له شريكًا، وإذا جعل له شريكًا عطّل حقّ التوحيد، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يجب أن يُفرد بالتوحيد
ـ بتوحيد العبادة ـ، من هنا يدخل التعطيل . ما أدقّ فهم هذا الإمام .
أُعيد شرح الجملة الأخيرة : ((لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل)) ووضّح هذا بقوله : (([ إذْ ] قد يكون المشرك)) الجملة تعليليّة، كان المفروض هنا ( إذْ ) أو ( لأن ) . (([ إذْ ] قد يكون المشرك مقرًّا)) . مشركٌ بالله يعبد غيرَ الله، أو يعبد معه غيره، وفي الوقت نفسه يكون مقرًّا بالخالق كالمشركين الأولين، ويكون مقرًّا بصفاته، لا ينكر شيئًا من صفاته، ولا يشبِّه أحدًا بالله ـ تعالى ـ في أسمائه وصفاته .
((ولكنه معطّله حقّ التوحيد)) . أي : عطّل الله ـ تعالى ـ حقّ التوحيد، لم يوحِّده في العبادة، من هنا جاء التعطيل؛ هذا تعطيل بمعنى دقيق جدًّا . أرجوا أن يُفهم .)
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو : التعطيل، وهو ثلاثة أقسام : أحدها : تعطيل المصنوع عن صانعه، الثاني : تعطيل الصانع عن كماله الثابت له، الثالث : تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد .
ومن هذا : شرك أهل الوحدة .
ومنه : شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديّته، وأن الحوادث بأسرها مستندة إلى أسباب ووسائط اقتضتْ إيجادها، ويسمونها : العقول والنفوس .
ومنه : شرك معطِّلة الأسماء والصفات كالجهمية والقرامطة وغُلاة المعتزلة ( ( ) قال الإمام المقريزي : ((وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو : التعطيل)) . انتبهوا التعطيل عند المقريزي أدقّ مما كنتم تتصوّرون .
((وهو ثلاثة أقسام)) التعطيل .
(((1/52)
أحدُها : تعطيل المصنوع عن صانعه)) . والتعبير بالمصنوع والصانع تعبير ـ أو أُسلوب ـ أهل الكلام؛ ( الصانع ) ليس من أسماء الله ـ تعالى ـ؛ ولكن معناه : تعطيل المخلوق عن الخالق؛ الصانع هو الخالق، المصنوع هو المخلوق؛ يقال : يجوز في باب الإخبار استعمال ( الصانع ) و ( المريد ) و ( المتكلِّم )، ولكن هذه ليستْ من أسماء الله الحسنى لا ( المريد ) و ( المتكلّم ) و ( الصانع ) و ( القديم ) ليستْ من أسماء الله، إلاّ أنّ باب الإخباب يُقال أوسع من باب الأسماء والصفات، لذلك يُخبر عن الله ـ تعالى ـ بهذه الألفاظ .
قوله : ((تعطيل المصنوع عن صانعه)) تعطيل المخلوق عن خالقه أي : نفيُ الخالق، وإسناد المخلوق إلى غيره، أنّ غيره هو الذي خلق، ليس هو الذي قد خلق؛ هذا المعنى قد تقدّم؛ تقدّم أن بيّن بأن الفلاسفة يرون أن ما يصدُر من الله ـ تعالى ـ واحد بسيط، والعقل الفعّال هو رب مَنْ دنه؛ كذلك تقدّم بيان بأن القدرية ـ نُفاة القدر ـ يثبتون خالقِيْن مع الله، وتقدّم البيان بأنّ المجوس يُثبتون خالقَيْن اثنين؛ هذا الذي يقصد : تعطيل المخلوق عن خالقه، ونسبة هذا المخلوق إلى غيره، ليس الله هو الذي خلق، بل غيره هو الذي خلق .
((الثاني : تعطيل الصانع عن كماله الثابت له)) . وذلك كنفي الصفات كلها عند المعتزلة، ونفي الأسماء والصفات معًا عند الجهمية، وتأويل كثيرٍ من الصفات تأويلاً يؤدِّي إلى التعطيل عند الأشاعرة والماتوردية .
((الثالث : تعطيل معاملته عمّا يجب على العبد من حقيقة التوحيد)) بأن يشرك به غيره، ويدعوا معه غيره، ويستغيث بغيره، أي : الإشراك بالإلهية والمحبة ـ كما تقدّم ـ .
ثم قال : ((ومن هذا شرك أهل الوَحْدة)) . وحدة التوحيد؛ يقول المعلِّق [ هنا ] : ((هم القائلون بوَحدة الوجود)) إلى هنا الكلام مستقيم، ولكن تمثيله ((كبعض الفلاسفة الإسلاميِّين القائلين بأن العالم وما فيه جزءٌ من ذات الله أو هو الإله، حتى قال بعضهم :
((1/53)
ما في الجُبَّة إلاّ الله ) )) المعلِّق التبس عليه الأمر : هذا ليس قول الفلاسفة، هذا قول وَحْدة الوجود؛ والعبارة هذه محفوظة عن رئيسهم الذي هو ابن عربي، ابن عربي الطائي هو الذي قال : ((ليس في الجُبَّة إلا الله))؛ جماعة وحدة الوجود لا يُطلق عليهم أنهم فلاسفة؛ وقول المعلِّق : ((كبعض الفلاسفة الإسلاميِّين)) فيه نظر؛ أولاً : نحن لا نقر بالفلاسفة الإسلامييِّن، وثانيًا : جماعة وحدة الوُجود لا يُطلق عليهم لفظ ( الفلاسفة ) وإنْ كان فيهم من درس الفلسفة؛ دراسة الفلسفة ليستْ خاصّة بالفلاسفة، جميع علماء الكلام بما فيهم الأشاعرة والماتورودية إلى يومنا هذا يدرُسون الفلسفة؛ ليس كلُّ من درَس الفلسفة يُقال له فيلسوف؛ الفلاسفة ـ إذا أُطلقت الفلاسفة ـ ينصرف الذهن إلى الفلاسفة اليونانيِّين أو تلامذتهم، كالذين يُطلقون عليهم الفلاسفة الإسلاميُّون كابن سينا والفارابي والكِنْدي؛ وجماعة وحدة الوجود لا يُعرفون بهذا اللقب، بل يُعرفون بوحدة الوجود . فقوله : ((هم القائلون بوحدة الوجود)) هذا صحيح .
وهم القائلون بأن الله اتّحد مع جميع خلقه؛ معنى وحدة الوجود : يقولون : لا إثنينيّة في الوجود، الوجود كله جزءٌ واحد، لا فرق بين الخالق وبين المخلوق؛ ابن عربي له عبارة هنا كفرية كثيرة، منها : قوله :
الرب عبدٌ والرب عبدٌ
ليت شعري من المكلّف
هذا من كلام ابن عربي، وقوله : ((ليس في الجُبّة إلا الله)) هذا كلامه؛ ابن عربي الطائي، المعروف عند الصوفية بمحيي الدين؛ ألقابٌ غريبة ( محيي الدين )، مع هذا الكفر كله يلقّب بمحيي الدين؛ يقول الإمام ابن تيمية : جاء ابن عربي بكفر لم يعرف كفّار قريش، لأنه لم يوجد في كفار قريش من يقول : ((ليس في الجُبَّة إلا الله))، لا يمكن يعتقدوا مثل هذا الاعتقاد لأنهم عقلاء نوعًا ما، ولذلك إذا سُئلوا عن الله يعرفون يوحِّدون الله في ربوبيته .(1/54)
هذا نفى وجود الله من حيث لا يشعر بدعوى إن الله اتّحد معه، صار هو والله شيءٌ واحد، الذي في ثوبه وفي جُبّته هو الله، أي : هو هو، ليس هناك شيءٌ آخر .
((ومنه : شرك الملاحدة القائلين بقِدَم العالم وأبديّته)) . هؤلاء هم الفلاسفة .
((وأن الحوادث بأسرها مستندةٌ إلى أسباب ووسائط اقتضتْ إيجادها، ويسمونها العقول والنفوس)) . الله خلق عقولاً ونفوسًا هي التي تتصرّف فيمن دونها بما في ذلك
( العقل الفعّال )؛ هؤلاء هم الفلاسفة .
((ومنه : شرك معطِّلة الأسماء والصفات كالجهمية والقرامطة وغُلاة المعتزلة)) . ... من المثبتة، لأن الأشاعرة لأهل العلم فيهم موقفان : يطلق عليهم أنهم مثبتة نسبيًّا، أي : بالنسبة للمعتزلة حيث يُثبتون بعض الصفات، ويُطلق عليهم أنهم معطّلة نسبيًّا، أي : بالنسبة للصفات التي أوّلوها إلى حدِّ النفي وإنكار الصفات .
ولم يتعرّض المؤلِّف لهم ولا للماتورودية، وهما كمذهب واحد؛ وعلى كلٍّ هم داخلون في التعطيل من ناحية معيَّنة .) .
النوع الثاني : شرك التمثيل؛ وهو شرك من جعل معه إلهًا آخركالنصارى في المسيح، واليهود في عُزير، والمجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة؛ وشرك القدرية المجوسية مختصر منه .
وهؤلاء أكثر مشركي العالم، وهم طوائف جمّة : منهم من يعبد أجزاء أرضية .
ومن هؤلاء : من يزعم أن معبوده أكبر الآلهة .
ومنهم : من يزعم أن إلهه من جُملة الآلهة .
ومنهم : من يزعم أنه إذا خصّه بعبادته والتبتُّل إليه أقبل عليه واعتنى به .(1/55)
ومنهم : من يزعم أن معبوده الأدنى يقرِّبه إلى الأعلى الفوقاني، والفوقاني يقرِّبه إلى من هو فوقه، حتى تقرِّبه تلك الآلهة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ فتارةً تكثُر الوسائط، وتارةً تقل ( ( ) قبل أن نواصل القراءة في كلام المقريزي نقرأ في صفحة ( 25 ) في الهامش رقم ( 2 ) يقول المعلِّق : ((الجهمية طائفة يخالفون أهل السنة في كثير من الأصول كمسألة الرؤيا في الآخرة وإثبات الصفات؛ يُنسبون إلى جهْم)) أي في مسألة إثبات الصفات؛ هكذا أجمل؛ مسألة نفي الرؤية يشترك معهم ـ أي : مع الجهمية ـ المعتزلة، ومسألة إثبات الصفات إذا أردنا التفصيل :
الجهمية لا يُثبتون لا الصفات ولا الأسماء، لا يُثبتون لله ـ تعالى ـ إلاّ الوُجود المطلَق؛ الوُجود المطلق لا يوجد إلا في الذهن، وما يوجد في خارج الذهن كله جزئي .
ثم قال : ((يُنسبون إلى جهم)) الجمهية يُنسبون إلى جهم(( بفتح وسكون؛ وهو جهم بن صفْوان، من أهل الكوفة؛ وقد عقد ابن ماجه في أوائل سننه بابًا للرد عليهم)) وأما ما ذكر ابن ماجه في أوائل سننه على طالب العلم أن يرجع؛ وهذا معروف : ترجم ابن ماجه وغيره في باب الرد على الجهمية وساقوا أحاديث .
((وجهمٌ من الجبرية الخالصة)) . هل هناك جبرية غير خالصة ؟، الجبرية غير الخالصة هم الأشاعرة أصحاب الكسب؛ الجبرية الخالصة هم : ((القائلون بأنّ الإنسان مجبور غير مخيَّر فهو كالريشة في مهب الريح، لا يملك من أمره شيئًا)) أي : ليستْ له قدرة؛ عند الجبرية الخالصة : العبد ليستْ له قدرة ولا اختيار كما مثلّ ((كالريشة في مهبِّ الريح)) .(1/56)
وماذا تقول الجبرية غيرُ الخالصة ؟، الجبرية المتستِّرة باسم ( الكسب ) وهم الأشاعرة، يقولون : العبد له قدرة؛ الجبرية غير الخالصة وهم الأشاعرة أصحاب الكسب ـ كسب الأشعري ـ يُثبتون للعبد قدرة، ولكن قدرة غير فعّالة، لا تؤثِّر، قدرته قدرة عبارة عن آلة عطلانة لا تعمل جهاز تعطّل، الجهاز موجود ـ جِرْمه ـ لكن لا يعمل، ما الفرق بين الجهاز الموجود لا يعمل وبين عدم الجهاز ؟، لا فرق؛ لذلك سمى ((الجبرية الخالصة)) لأنهم لا يُثبتون القدرة؛ والأشاعرة يُثبتون للعبد القدرة والاختيار والإرادة، ولكن ليس هو الذي يؤثِّر، ليس هو الذي يفعل، الفاعل الحقيقي هو الله، فنسبة الأفعال إلى العبادة نسبة مجازية عندهم كنسبة الجري إلى الماء والحركة إلى الشجرة .
( كسب الأشعري ) يطول شرحه، نكتفي بهذه الأشارة، وأحيلكم بالنسبة لمن لديه رغبة في الاطلاع لأني شرحت هذا الكسب في كتاب ((العقل والنقل عند ابن رشد)) لعله موجود في بعض المكتبات، هو موجود في ((مجموعة أضواء في الدعوة إلى الإسلام)) أو سمّاه، هذه التسمية ليستْ مني، الكتاب موجود في هذا المجموع ـ والله أعلم ـ .
ثم قال : ((وعلى ذلك : لا يُعاقب على المعصية، ولا يُثاب على الطاعة)) . أي : إن الجبرية يعطِّلون الأحكام : العبد إذا كان يفعل كلَّ ما يفعل بدون إرادته وقدرته كيف يعاقَب على المعاصي وكيف يُثاب على الطاعة ؟ .
((ومن نِحْلته : أنه لا يجوز أن يوصَف الباري ـ تعالىـ بصفة يوصف بها خلقه)) . أي : من ملّة جهم ومن نِحْلة جهم : لا يوصف الله ـ تعالى ـ بصفة يوصف بها خلقه .
((لأن ذلك يقتضي تشبيهًا : فنفى كونه حيًّا عالمًا)) . لأن المخلوق يوصَف بالحياة، ويوصف بالعلم، إذًا الله لا يوصف لا بالعلم ولا بالحياة .
(((1/57)
و)) لكنه ((أثبت كونه قادرًا فاعلاً خالقًا)) . هكذا يتناقضون : والقدرة كذلك يوصف بها الإنسان، كيف أثبتّ القدرة وأنت تنفي الحياة ؟، ((وفاعلاً)) الإنسان فاعل، إنما صفة ( خالق ) فقط .
((لأنه لا يوصف شيءٌ من خلقه بالقدرة والفعل والخلق)) . عجبًا !؛ الوصف بالقدرة حاصل، وإن كانت قدرة المخلوق تخالف قدرة الخالق، و ( الفعل ) الإنسان فعّال يفعل بإرادته وقدرته المحدودة؛ إنما لا يوصف المخلوق بالخلق فقط، لا يقال له : خالق، يُقال له : فاعل، وهو قادر، مُريد، عالم، حي؛ يوصف بكل ذلك .
وهذا التفصيل الذي ذكره الشيخ طه لا نعلمه في طريقة الجهمية إلا إذا كان طريقة لفرقة من الجهمية؛ المعروف عندنا الجهمية ينفون الأسماء والصفات مطلقًا، لا يُثبتون شيئًا؛ لا نستطيع أن نحكم على المعلِّق بأنّ ما قاله خطأ، ولكن نقول : لعل ما ذكره عقيدةٌ لفرقة من فرق الجهمية ـ والله أعلم ـ .
ثم قال : ((وقد ظهرتْ بدعته بـ( ترمذ )، وقتله سالم بن أحْوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية)) . وقُتل قبله شيخه : جعْد بن درهم، قتله خالد القسري في واسط؛ فهو الذي أخذ العقيدة من جعد بن دهم قبل أن ينشرها جعد؛ فهو الذي تولّى نشر العقيدة، وإلا ليس هو المؤسِّس، المؤسِّس هو جعد بن دهم، وجهمٌ تلميذه؛ فلما قُتل جهم ورث العقيدة بِشْرٌ المرِّيسي .
((وأصل مقالة التعطيل للصفات والأسماء : مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضُلاّل الصابئين)) . من هنا إلى آخره هذا كلام شيخ الإسلام، لعله نقل من ((الحموية)) .
((وأول من حُفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام : الجعْد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنُسبتْ إليه)) . هذا الكلام بالحرف الواحد لشيخ الإسلام؛ يجوز أن يقول قبله غيره .
((قيل : إنّ الجعد أخذ مقالته بالتعطيل عن أَبَان بن سَمْعان)) . يقال : ( أَبان )،
ويقال : ( إِبان ) .
(((1/58)
وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد الأعصم اليهودي الساحر)) الذي سحر
النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ هذا سند الجهمية .
قال الإمام المقريزي : ((النوع الثاني)) من الشرك ((شرك التمثيل)) وهو التشبيه، ((وهو شرك من جعل معه إلهًا)) شركُ من جعل مع الله ـ تعالى ـ إلهًا آخر ((كالنصارى في المسيح، واليهود في عُزير، والمجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظُّلْمة)) . وهذا الكلام تقدّم بأُسلوب آخر، من حيث المعنى يُعتبر مكرَّرًا .
((وشرك القدرية المجوسية مختصر منه)) . من أيِّ شرك ؟، سبق الكلام : أن شرك القدرية مختصر من شرك الفلاسفة؛ هذا هو الصحيح، لأن شرك الفلاسفة أقبح وأوسع، وشرك القدرية مختصر من ذلك؛ ثم المجوس ـ وإنْ كان في نظر الناس هم أسوأ ـ ولكن القدرية أسوأ من المجوس؛ يمكن أن يقال : شرك المجوسية مختصر من شرك القدرية .
((وهؤلاء أكثر مشركي العالم)) أهل التمثيل .
((وهم طوائف جمّة)) طوائف كثيرة .
((منهم : من يعبد أجزاء أرضية)) . عندك في الهامش : ((كمن يعبد الجبال، والأنهار، والأشجار، والحيوان كالبقر في الهند، والقط والعِجْل عند قدماء المصريِّين)) . وعبادة الأشجار والكهوف إلى الآن موجودة في كثير من الأقطار البعيدة النائية من نور التوحيد؛ لا تزال أشجار عظيمة تعبدها الناس وأحجارٌ أيضًا وكهوف يعبدوا؛ وعبادة القبر في الهند إلى الآن معروفة عند الناس؛ ولكنّ الشيخ يقول ـ بالنسبة للقط والعجل ـ : ((عند قدماء المصريِّين)) يعني : عند الأقباط الأولين، لعلها غير موجودة الآن هذه العبادة .
((ومن هؤلاء : من يزعم أنّ معبوده أكبر الآلهة)) . يتفاخرون، كالشمس والقمر والنجوم .
((ومنهم : من يزعم أنّ إلهه من جُملة الآلهة)) . هذه العبارة فيها إجمال : ((يزعم أن إلهه من جُملة الآلهة)) يعني : كأنه لا يعيِّن له إلهًا معيّنًا، يعبد الآلهة كلها؛ لعله مقلِّدٌ في الشرك .
(((1/59)
ومنهم : من يزعم أنه إذا خصّه بعبادته والتبتُّل إليه أقبل عليه واعتنى به)) . هذا موجود في عُبّاد القبور والمشاهد أنهم يزعمون أنهم إذا أخلصوا كثيرًا لعبادة الشيخ بعد وفاته وأكثروا من النذور والذبح عنده أنه يعتني بهم فينفعهم كثيرًا .
((ومنهم : من يزعم أن معبوده الأدنى يقرِّبه إلى الأعلى)) . يعني : له معبودات . ((الفوقاني)) هذه النسبة شغلتني : ( الفوقاني ) هل هذه النسبة عربية أو تعبير عامي ؟؛ إذا تتبّعنا ( باب النسبة ) ما نجد نسبة من هذا القبيل، إنما الاسم إذا نُسب تُضاف ( ياء
النسبة )؛ أما ( الفوقاني ) ـ زيادة ( ألف و نون ) ـ إذا كان في الشباب من يدرسون في ( كلية اللغة ) فليبحث؛ النسبة هذه ما عرفناها، لا أعرف لها أصلاً .
((إلى الأعلى الفوقاني)) المعنى واضح : إلى الأعلى الذي فوقه .
((والفوقاني يقرِّبه إلى من هو فوقه)) . والذي فوقه يقرِّبه إلى من هو فوقه .
((حتى تقرِّبه تلك الآلهة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ)) . هذا أشبه ما يكون بسلسلة طرق القادرية والتجّانية وغيرها من أصحاب الطرق : يبدءون في عبادة الخليفة، ثم عبادة الشيخ، ثم شيخ الشيخ؛ وينصون : لا ينبغي للمريد أن يتوصل بشيخ شيخه تاركًا شيخه، بل يبدأ بشيخه، ثم شيخ شيخه، ثم هناك في كل زمن عندهم ( قطب ) : القطب الزمان ـ القطب الزماني والغوث الصمداني ـ عباراتٌ محفوظة عندهم؛ القطب دون الغوث، ثم الغوث أعلى درجة؛ وهل تعلمون أين محلُّ الغوث ؟، في سطْح الكعبة، وهل رأيتموه ؟، يزعمون أن الحمام لا يمرُّ على الكعبة لماذا ؟، لأن الغوث فوق الكعبة؛ ونحن طلاب صغار كنا جالسين أمام الكعبة فإذا الحمام يمرُّ من هنا ومن هنا، يمرُّ، ونحن هذه القاعدة ـ هذه الفكرة ـ في أذهاننا، تحيّرنا، قلنا : سمعنا هذا القول؛ فإذ هي فِرْيةٌ
لا أصل لها .(1/60)
على هذا تنبني عقيدة الصوفية : أكاذيب ملفّقة لا أصل لها؛ إذا أردتم أن تطّلعوا على شيء من هذه الأكاذيب : ((هذه الصوفية)) هذا الكتاب ـ ((هذه هي الصوفية)) يغني عن المراجع الكبار، لأنه نقل شيئًا كثيرًا من أكاذيبهم .
الشاهد : هذا التدرُّج من الشيخ إلى شيخ الشيخ إلى أن تصل السلسلة إلى الحسن البصري ومنه إلى عليّ بن أبي طالب ثم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جبرائيل ثم إلى الله؛ هكذا بدون حياء يضعون هذا السند، سندٌ لا أصل، مكتوب عندهم هكذا، سند الصوفية : لا يعرف أحدًا من الصحابة إلاّ عليّ بن أبي طالب؛ الغريب : دائمًا يمرُّ على الحسن البصري، ولست أدري ما السر في ذلك .
ثم قال : ((فتارةً تكثُر الوسائط وتارةً تقل)) . على حسب قربه ـ أو علو السند ـ؛ لذلك : إذا كان السند عاليًا الوسائط تقل، إذا كان نازلاً تكثُر، وهكذا ـ لله في خلقه شئون، وهو العليم الحليم ـ .) .
فإذا عرفت هذه الطوائف وعرفت اشتداد نكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من أشرك به
ـ تعالى ـ في الأفعال والأقوال والإرادات ـ كما تقدّم ذكره ـ انفتح لك باب الجواب عن السؤال : فنقول :(1/61)
اعلم : أن حقيقة الشرك : تشبيه الخالق بالمخلوق وتشبيه المخلوق بالخالق : أما الخالق فإن المشرك شبّه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، وهي : التفرُّد بمُلك النفع والضر والنفع والعطاء والمنع؛ فمن علّق ذلك بمخلوق فقد شبّهه بالخالق ـ تعالى ـ، وسوّى بين التراب وربِّ الأرباب؛ فأيُّ جَوْر وذنب أعظم من هذا ؟ ( ( ) انتبه ! الشيخ يريد أن يُجيب على السؤال الذي تقدّم في صفحة ( 23 ) : ((فإنْ قيل : المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله ـ تعالى ـ وأنه لعظمته ... )) إلى آخره، هذا السؤال يأتي بعده في صفحة ( 24 ـ السطر الرابع ) : ((وما السر في كونه لا يُغفر من بين الذنوب كما قال ـ تعالى ـ : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } )) . هذا السؤال الكبير الجواب عليه هو هذا : ((فإذا)) ولذلك تسمى ( الفاء ) هذه ( فاء الفصيحة ) .
((فإذا عرفت هذه الطوائف)) التي سبقت الإشارة إليها .
((وعرفت اشتداد نكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من أشرك به ـ تعالى ـ في الأفعال والأقوال)) كالسجود والذبح ـ كما تقدّم ـ، ((و)) في ((الأقوال)) كالحلف بغير الله، ((والإرادات)) التي هي : النيّات وإرادة غير الله ـ تعالى ـ بالعمل ((كما تقدّم ذكره)) إذا عرفت ذلك ((انفتح لك باب الجواب على السؤال)) السؤال الذي يبدأ من ( 23 ) .
((فنقول : اعلم : أنّ حقيقة الشرك)) تنحصر في ((تشبيه الخالق بالمخلوق)) أو ((تشبيه المخلوق بالخالق)) . لو تتبّع أنواع الشرك وأنواع العبادات التي تُصرف لغير الله
ـ تعالى ـ لا تخرج من هاتين النقطتين : إما تشبيه الخالق بالمخلوق أو تشبيه المخلوق بالخالق .
(((1/62)
أما الخالق : فإن المشرك شبّه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهيّة وهي التفرُّد بملك الضُرِّ والنفع والعطاء والمنع)) . من اعتقد في شيخه بأنه يضرُّه ضُرًّا سريًّا لا بالأسباب الظاهرة، وأنه ينفعه في نفسه وأهله وماله، وأن يُعطيه ويمنعه، ويوسِّع له في زرقه، وربما يؤثِّر له في خاتمته ـ كما يعتقد المريدون ـ؛ من فعل ذلك شبّه المخلوق بالخالق في هذه الخصائص، أعطى المخلوق خصائص الخالق .
لذلك قال : ((فمن علّق ذلك بمخلوق فقد شبّهه بالخالق ـ تعالى ـ)) وهذا واضح، ((وسوّى بين التراب وبين ربِّ الأرباب)) . الشيخ وشيخ شيخه، القطب، والغوث هؤلاء كلهم تراب، من أين خُلقوا ؟، من تراب، وهم من آدم وآدم من تراب؛ ثم هم خُلقوا من ماء مهين؛ تشبيه هذا المخلوق الضعيف برب الأرباب .
((فأيُّ جَوْر)) أيُّ ظلم، ((وذنبٍ أعظم من هذا ؟)) لا يجود، لا قتل النفس، ولا أيُّ كبيرة ـ أو أي موبقة من الموبقات والكبائر ـ، لو تتبّعت لا يوجد ذنب يشبه هذا الذنب، وهو أعظم الظلم .) .
واعلم : أن من خصائص الإلهية : الكمال المطلق من جميع الوُجوه الذي لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه؛ وذلك يوجبُ أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعًا وفطرة؛ فمن جعل ذلك لغيره فقد شبّه الغير بمن لا شبيه له .
ولشدّة قُبحه وتضمُّنه غاية الظلم أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبدًا.
ومن خصائص الإلهية والعبودية التي لا تقوم إلى على ساق الحب والذل؛ فمن أعطاهما لغيره فقد شبّهه بالله ـ تعالى ـ في خالص حقه . وقُبح هذا مستقرُّ في العقول والفِطر، لكن لَمّا غيّرت الشياطين فطر أكثر الخلق واجْتالهم عن دينهم وأمرتهم أن يُشركوا به ما لم ينزِّل به سلطانًا كما روى عن الله أعرفُ الخلق به وبخلقه عَمُوا عن قُبح الشرك وظنوه حسنًا .
ومن خصائص الإلهية : السجود؛ فمن سجد لغير فقد شبّهه به .
ومنها : التوكُّل؛ فمن توكّل على غيره فقد شبّهه به .(1/63)
ومنها : التوبة؛ فمن تاب لغيره فقد شبّهه به .
ومنها : الحلف باسمه؛ فمن حلف بغير فقد شبّهه به .
ومنها : الذبح له؛ فمن ذبح لغيره فقد شبّهه به .
ومنها حلق الرأس . إلى غير ذلك .
هذا في جانب التشبيه ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله ـ : ((واعلم : أن من خصائص الإلهية : الكمال المطلق من جميع الوجوه)) . الله ـ سبحانه وتعالى ـ كاملٌ في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وتشريعه الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه أحد .
وقد يُعطي الكمال خلقه كالعلم والقدرة والحياة، ولكنّ هذا الكمال كمالٌ نسبي، الكمال المطلق لله وحده، الكمال المطلق الذي لا يتطرّق إليه نقصٌ بوجه من الوجوه .
((الذي لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه، وذلك)) الكمال المطلق ((يوجِب أن تكون العبادة له وحده)) . لأن العبادة ـ كما تقدّم ـ : غاية الذل مع غاية الحب؛ هذا المعنى لا ينبغي أن يكون لغيره أبدًا ((عقلاً وشرعًا وفطرة)) أي : العباد مفطورون ومجبولون على هذا المعنى قبل أن تتغيّر الفطر؛ والعقول تُدرك ذلك قبل أن تتلوّث بالشبه، وأكثر الشبه التي تُفسد القلوب : آراء علماء الكلام ...
((ومن خصائص الإلهية والعبودية التي لا تقوم إلى ساق الحب والذل)) . العبارة قَلِقَة؛ ((ومن خصائص الإلهية والعبودية لا تقوم إلا على ساق الحب والذل)) الإلهية والعبودية لا تقوم إلا على ساق الحب والذل؛ ولفظة ( التي ) ما هي ظاهرة عندي من حيث المعنى؛ الذي يظهر ـ والله أعلم ـ المعنى هكذا : ومن خصائص الإلهية والعبودية
ـ بمعنى واحد ـ لا تقوم الإلهية أو العبودية إلا على ساق الحب والذل؛ هذا هو الظاهر .
من خصائص الإلهية ـ فيما تقدّم ـ : الكمال المطلق .
((ومن خصائص الإلهية : العبودية التي لا تقوم إلا على ساق الحب والذل)) هكذا المعنى مستقيم؛ إما هكذا أو على الوجه الأول بحذف ( التي ) .(1/64)
وهنا أدخل المجاز، وأنتم طبعًا لا ترون المجاز، وهو يرون المجاز؛ هذا تعبير مجازي، يعني : جعل الحب والذل شبّهه بإنسان له ساق؛ هذا يسمى مجاز؛ فالمجاز أحيانًا نتسامح فيه خصوصًا في غير القرآن بصفة خاصة في غير نصوص الكتاب؛ وهذا نوعٌ من المجاز؛ فيه تشبيه؛ المعنى واضح على كلٍّ سواءٌ درستم المجاز أو لم تدرسوا المعنى واضح .
((فمن أعطاهما)) الإلهية والعبودية لغيره ((فقد شبّهه بالله ـ سبحانه وتعالى ـ في خالص حقه . وقبح هذا مستقرٌّ في العقول والفطر)) أي : في العقول السليمة والفطر السليمة .
((لكن لَمّا غيّرت الشياطين فطر أكثر الخلق واجتالتهم)) حوّلتهم ((عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا كما روى عن الله أعرف الخلق به وبخلقه)) وهو رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((عَمُوا عن قُبح الشرك حتى ظنوه حسنًا)) وهذا أمرٌ واضح : لأن أكثر من يعبد الصالحين، أو من يزعمون أنهم من الصالحين ظنوا أن ما يفعلوه ليس بشرك : توسُّل ومن محبة الصالحين، ويعادون من ينهاهم عن ذلك، ويتّهمون بأنه لا يحب الصالحين، بل لا يحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لو نهيت بعض من يصابون بالغلو في رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاطفةً وجهلاً واتّباعًا لبعض المنتسبين إلى العلم وليسوا بعلماء، وقلت لهم : لا يجوز أن تقول : أغثنا يا رسول الله، اتّهمك بأنك لا تحب رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وما فعله حسن، من حبِّ رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وإنكار ذلك دليلٌ على عدم محبة رسول الله
ـ عليه الصلاة والسلام ـ . وقد أحسن في هذا التعبير الإمام المقريزي؛ الذي يظهر أن هذا الذي نشكو منه قد ظهر في وقته في القرن التاسع، وبما قبل ذلك ـ كما يدلُّ عليه كلام شيخ الإسلام وتلميذه ـ .
((ومن خصائص الإلهية : السجود؛ فمن سجد لغيره فقد شبّهه به)) . هذا واضح .
(((1/65)
ومنها : التوكل؛ فمن توكّل على غيره فقد شبّهه به)) . وإنْ كان السجود لغير الله نادرٌ جدًّا، ولكنّ التوكُّل على غير الله قد يقع فيه كثيرٌ من الناس، لأن التوكُّل على الأسباب من باب التوكُّل على غير الله؛ لا يجوز الاتّكال على الأسباب، حتى الأسباب المباحة، الإنسان يستعملها ولا يتوكّل عليها .
والتوكُّل لا يكون إلا على الله؛ لذلك : لا ينبغي الغلو والإسراف في تقديس الآراء وفي تقديس الأسباب، وأنها فعلتْ وأنها فعلتْ، وربما الإنسان إذا اتّخذ أسبابًا قويّة يعتمد عليها وينسى الله كما سُمعتْ بعض العبارات السفيهة من بعض السفهاء في هذه الآونة الأخيرة عندما جاءت القوّات الأجنبية في الخليج سُمعت عبارةٌ من بعض السفهاء أنْ
قالوا : ( إذا جاء بوش فنم في الحوش ) هذه عبارة سيِّئة وهم يحسبون أنها هيِّنة لكنها صعبة، ليستْ بالأمر الهيِّن، معنى ذلك : اعتمدوا عليه وعلى قوّته ولا تبالوا، هو يحفظكم، ويقيكم شرَّ أعدائكم، ناموا حيث شئتم في الحوش وفي السطوح وفي حيث شئتم؛ هذا الكلام سيء جدًّا، ينبغي التنبيه، وقد نبّهنا على هذه العبارة غير مرّة حتى في ( جدة ) وهي سُمعتْ في ( جدة ) .
وعلى كلٍّ : ينبغي على طلاّب العلم : أن ينبِّهوا الناس في مثل هذه الظروف الحرجة، والناس قد تعتمد على هذه القوّات الهائلة التي اجتمعتْ في الخليج، ربما بعض ضعفاء الإيمان ينسون رب العالمين، يقول : خلاص انتهى كل شيء، نحن جمعنا كل شيء، لا، هذا خطأ، الأسباب لا تنفع إلا إذا بارك الله فيها، قد يبارك الله في السبب القليل اليسير ما لا يبارك في الأسباب الضخمة .
لذلك : مسألة التوكل قد تدخل حتى على أُناس ليسوا من المشركين ولا من الذين عندهم غلوٌّ في الصالحين، لكن يحصل منهم الغلو في تقديس الأسباب .
((ومنها : التوبة؛ فمن تاب لغيره فقد شبّهه به)) . تقدّم هذا الكلام في كلام الإمام نفسه .
(((1/66)
ومنها الحلف باسمه؛ فمن حلف بغير فقد شبّهه به)) . أي : من حيث التعظيم، لأن الحالف إنما حلف بالمحلوف به لتعظيمه إيّاه، يعظِّمه، ويخافه، ويرجوه، في ذلك تشبيه؛ لذلك سبق أن قلنا ـ غير مرّة ـ : إن الحلف بغير الله ـ وإن كان في الأصل من الشرك الأصغر ـ لكنه قد يرتفع إلى درجة الشرك الأكبر بما يقوم بقلب الحالف من تعظيم المحلوف به والغلو في تعظيمه ومحبته والخوف منه، حتى يخاف أنه لو يحلف ربما يضره ضررًا سريًّا، إذا وصل إلى هذه الدرجة خرج من كون الشرك الأصغر وانتقل إلى درجة الشرك الأكبر .
((ومنها : الذبح له؛ فمن ذبح لغيره فقد شبّهه به [ تعالى ])) . ومسألة الذبح علّق المعلِّق على هذا ـ رقم ( 1 ) في الهامش ـ فقال : ((الذبح لغير الله لا يكون حرامًا إلا إذا ذَكر اسم غير الله على المذبوح بأن قال الذابح : ( باسم اللات ) أو ( باسم العُزّى ) أو ( باسم يَزْدان ) أو نحو ذلك؛ أما إذا سكت ولم يذكر اسم غير الله)) هل ذكر
اسم الله ؟، ذبح ولم يذكر اسم أحد؛ هذا ما تدلُّ عليه عبارته ((فلا يكون ذلك ذبحًا لغيره، ويكون أكله حلالاً)) . هذه العبارة فيها نظر :
أولاً : من جعل ذبيحة لغير الله ـ تعالى ـ، قال : هذه الذبيحة للشيخ فلان
ـ لـ( يَزْدان ) كما ذكر المعلِّق ـ أو لأيِّ فلان، جعل هذه الذبيحة له، بعد ذلك ذكر اسمه أو ذكر اسم الله؛ القول ( باسم الله ) ( الباء ) للاستعانة؛ ومسألة الاستعانة أخفُّ من اعتقاد أنّ هذه الذبيحة لفلان، وخصوصًا إذا نذر كما يفعل العوام بعض الجُهّال من أصحاب المواشي ـ يجعلون في الحوش نذرًا للشيخ، ومعروف ـ حتى عند الأولاد الذين هم رُعاة المواشي ـ أنّ هذا الكبش أو هذا الثور أو هذا الجمل ـ للشيخ فلان، معروف؛ فإذا ذبح، خصوصًا إذا قاده عند قبر الشيخ وذبح هناك، ولو قال ( باسم الله ) عشرين مرّة ما نفعه ذلك؛ لأن القول ( باسم الله ) من باب الاستعانة على الذبح، لكنّ الذبيحة ذُبحتْ بنيّة غير الله(1/67)
راجعوا هذه المسألة في ((اقتضاء الصراط المستقيم))، وفي ((تيسير العزيز الحميد))؛ وأهمُّ شيء كلام الإمام النووي، إنما قلت : أهم لِمَا تعلمون بأنه لا يُتّهم بالتشدُّد في مثل هذه الباب كما يُتّهم غيره ـ الإمام النووي ـ؛ فيرى إنْ ذبح تعظيمًا للمذبوح له فإنه كفرٌ؛ صرّح الإمام النووي بذلك، نقل صاحب ((تيسير العزيز الحميد))، وتجدون البحث مستوفًا في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) .
وما ذكره الشيخ هنا فيه نوعٌ من عدم التحقيق في المسألة؛ لأنه يُفهم من عبارة : لو لم يذكر اسم أحد لا اسم الله ولا اسم غير الله فذبح فحلال؛ العبارة قلقلة، إنما الصواب : إنْ ذكر على الذبيحة اسم غير الله ـ تعالى ـ لا تحل، وإنْ جعل الذبيحة لغير الله ـ تعالى ـ قصْدًا ونيّة، وذبح بنية غير الله لا تحل ذكر اسم الله أو ذكر اسم غير الله أو لم يذكر اسم شيء؛ هذا الجعل وهذه النية وهذا الاعتقاد يكفي؛ راجعوا المراجع التي ذكرناها .
ثم قال : ((ومنها : حلق الرأس؛ إلى غير ذلك)) . حلق الرأس على ما تقدّم من التفصيل أي : إذا حلق تعبُّدًا وتذلُّلاً للشيخ؛ كما تعلمون حلق الشعر إنما يُشعر بصفة عبادة في مكان معيّن في عبادة معيّن : في الحج .) .
وأما في جانب التشبُّه فمن تعاظم وتكبّر ودعى الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته فقد تشبّه بالله ونازعه في ربوبيته؛ وهو حقيقٌ بأنْ يهينه الله غاية الهوان، ويجعله كالذر تحت أقدام خلقه .
وفي ((الصحيح)) : عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((يقول الله ـ عزّ وجل ـ : ( العظمة إزاري، والكبرياء ردائي؛ فمن نازعني في واحد منهما عذّبته)) .(1/68)
وإذا كان المصوِّر الذي يصنع الصور بيده من أشد الناس عذابًا يوم القيامة لتشبُّهه بالله في مجرّد الصنعة، فما الظن [ بالمتشبِّه ] بالله في الربوبية والإلهية كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة : المصوِّرون، يُقال لهم : أحيوا ما خلقتم))، وفي ((الصحيح)) : عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((يقول الله ـ عزّ وجل ـ : ( ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذَرّة، فليخلقوا شعيرة))، فنبّه بالذرَّة والشعيرة على ما هو أعظم منهما.
وكذلك من تشبّه به ـ تعالى ـ في الاسم الذي لا ينبغي إلا له كـ( ملك الملوك ) و ( حاكم الحُكّام ) و ( قاضي القضاة ) ونحوه؛ وقد ثبت في ((الصحيح)) : عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((إنّ أَخْنَع الأسماء عند الله : رجل تسمى بـ( شاهٍ شاه ) ـ ملك الملوك ـ، لا مالك إلا الله))، وفي لفظ : ((أغْيَظُ رجلٍ عند الله : رجلٌ تسمّى ( ملك الأملاك ) .
وبالجملة : فالتشبيه والتشبُّه هو حقيقة الشرك .
ولذلك كان مَنْ ظنّ أنه إذا تقرّب إلى غيره بعبادة ما يقربِّه ذلك الغير إلى الله
ـ تعالى ـ فإنه يخطئ لكونه شبّهه به وأخذ مالا ينبغي إلا له .
فالشرك : منْعُه ـ سبحانه ـ حقّه؛ فهذا قبيحٌ عقلاً وشرعًا، ولذلك لم يُشرع ولم يُغفر لفاعله ( ( ) هذا الذي تقدّم ذكره والحديث عنه في جانب التشبيه؛ والتشبيه ـ كما تقدّم وكما سيأتي ـ تشبيهان :
إما تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تشبيه المخلوق بالخالق : تشبيه المخلوق بالخالق يقع فيه من يبالغون في المخلوق ويعبدونهم كما يعبدون الله، ويعتقدون فيهم النفع والضر، وأن هذا المخلوق له سمعٌ كسمع الله وقدرةٌ كقدرة الله، إلى آخره؛ هذا تشبيه المخلوق بالخالق يقع فيه كثيرٌ من العُبّاد الجهلة الذين يبالغون في الصالحين .(1/69)
النوع الثاني من التشبيه : تشبيه الخالق بالمخلوق؛ وهذا الذي يقع بعضُ علماء الكلام من المشبِّهة الذين يشبِّهون الخالق في ذاته أو في صفاته أو في أسمائه أو في أفعاله بالمخلوق؛ إذا شبّهوا بالمخلوق قد عطّلوه عمّا يليق به من الكمالات
قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وأمّا في جانب التشبُّه)) كونُ المخلوق يتشبّه بالله ـ تعالى ـ؛ أحيانًا يشبِّه خلقه بالله، وأحيانًا يجرؤ الشخص نفسه يتشبّه بالله، ينازع الله ـ تعالى ـ في خصائصه .
((فمن تعاظم وتكبّر ودعى الناس إلى إطرائه)) . إلى المبالغة في مدحه، الإطراء : المبالغة في المدح ـ ليس مجرّد المدح ـ المبالغة في المدح .
((و)) إلى ((رجائه ومخافته فقد تشبّه بالله، ونازعه في ربوبيّته)) . قد يكون هذا المعنى غريبًا على بعض من لا يعرف حال القوم ـ المراد بالقوم : الصوفية ـ وهذا فيهم
كثير : مشايخ الصوفية من شدّة تعاظُمهم وتكبُّرهم قد يضع شيخ وهو حيٌّ في ميدان ويدعوا المريدون فيجعلهم يطوفون به طوافًا وهم يمدحونه وهو حي جالسٌ على كرسي في ميدان معيّن ميدان الختْمية ـ هل منكم من يعرف الختمية ؟ ـ، ميدان يسمى ميدان الختمية، يجلس شيخ الختمية في الميدان والشباب يلبسون لبسًا معيّنًا فيطوفون به، فيمدحوه هو نفسه؛ تعاظُمٌ وكبرياء .
فدعوة الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته : يرجوه لخيريْ الدنيا والآخرة، ويخافون انتقامه لو عصوه؛ من وصل إلى هذه الدرجة فقد تشبّه بالله ـ تعالى ـ ونازعه في ربوبيتّه؛ هذا مثل، وقد تكون هناك أمثلة في المتقدِّمين المتعاظمين وإنْ لم يكونوا من مشايخ الطرق؛ صفة العظمة والكبرياء قد يتّصف بها بعض الناس إلى درجة أنهم يردون الحق، لأن الكبر : احتقار الخلق ودفع الحق؛ إذا وصل بك الكبرياء إلى أنك تردُّ الحق ممّن جاء به استحقارًا للشخص الذي جاء بالحق : استحقرت شخصًا أنت مثله لست أحسن(1/70)
ـ كما تقدّم أنت ترابٌ مثله ـ ورددّت الحق جمعت بين الأمرين؛ هذا هو حقيقة الكبرياء والعظمة؛ من وصل إلى هذه الدرجة ولو لم يصل إلى درجة الشيخ الذي وصفناه فقد نازع الله ـ تعالى ـ في خصائص صفاته : الكبرياء والعظم .
((ونازعه في ربوبيته)) . المنازعة في الربوبية بالتأثير؛ إذا دعا الناس إلى رجائه ومخافته هذا هو معنى المشاركة والمنازعة في ربوبيته .
((وهو حقيقٌ بأنْ يهينه الله غاية الهوان، ويجعله كالذر)) أي : كالتراب ((تحت أقدام خلقه)) ولم يظلمه، ولكنّ المتكبِّر هو الذي ظلم نفسه .
[ إعادة لشرح الجمَل السابقة ]
((وأما في جانب التشبُّه : فمن تعاظَم وتكبّر ودعى الناس إلى إطرائه)) أي : إلى المبالغة في مدحه، ((و)) إلى ((رجائه)) ما لا يُرجى إلاّ من الله، ((و)) إلى ((مخافته)) خوفًا لا يكون إلا من الله ((فقد تشبّه بالله [ تعالى ] ونازعه في ربوبيته)) . إذًا : عندنا تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق، وتشبُّه المخلوق بالخالق .
((وهو)) هذا الذي يتشبّه بالله ـ تعالى ـ ويترفّع عن رُتبة العبودية ليصبح ربًّا نافعًا ـ في زعمه ـ ضارًّا ((حقيقٌ بأنْ يهينه الله غاية الهوان)) { جزاءً وِفاقًا } ، ((ويجعله كالذر تحت أقدام خلقه)) كالتراب تحت أقدام خلقه ليعاقبه جزاءَ تكبُّره وتعاظُمه.
((وفي ((الصحيح)) : عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((يقول الله ـ عزّ وجل ـ)) )) . فإذا قيل في الحديث : ((يقول الله ـ عزّ وجل ـ)) معناه : فهو الحديث القدسي، فهو كلامُ الله .
(( ((1/71)
العظمة إزاري، والكبرياء ردائي؛ فمن نازعني في واحدٍ منهما عذّبته ) )) . والحديث رُويَ بعدّة ألفاظ وهذا أحد ألفاظه؛ معنى ذلك : هذا ضربٌ للمثل بالرداء والإزار كما أنّ الرداء والإزار مختصّان بالإنسان لا أحد يشارك الإنسان في إزاره وردائه بل هو خاصٌّ به، كذلك لا ينبغي أن يحاوِل المخلوق أن يشارك الله ـ تعالى ـ في الكبرياء والعظمة لأنهما مختصّان بالله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ أما العبد فينبغي أن يُعرف بالتواضع والتذلُّل لله ـ تعالى ـ .
((وإذا كان المصوِّر الذي يصنع الصور بيده من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة)) . لماذا ؟ ((لتشبُّهه بالله [ تعالى ] في مجرّد الصنعة)) أي : لمحاولته المضاهاة؛ هذا هو سرُّ تحريم التصوير : المضاهاة؛ لأن المصوِّر يحاول أن يتشبّه بالله ـ تعالى ـ في الخلق : قدّر وصوّر، فلم يبق إلا نفخ الروح؛ هذه المحاولة تسمى مضاهاة؛ هي السر في تحريم التصوير؛ لذلك : لا فرق ـ عند التحقيق ـ بين جميع التصوير سواءٌ كان بالجهاز الحديث ـ كما هو المتَّبَع الآن ـ أو الصور القديمة بالنحْت والخياطة وغير ذلك، كلها فيها مضاهاة ومحاولة التشبُّه بالله ـ تعالى ـ لذلك حُرِّم .
والقولُ بالتفريق بين الصور ـ بين الصور الحديثة والصور القديمة ـ هذا التفريق فيه نظر وفيه تساهُل : إذا نظرنا إلى العلّة : التصوير الحديث أدقُّ في المضاهاة(1/72)
ـ أدقُّ بكثير ـ؛ إذا كانت العلة المضاهاة في بالتصوير الذي بالنحت والخياطة والرسم هذه المضاهاة في الصور الحديثة أظهر؛ كان الأولى أن يُقال : هذا أشدُّ حُرْمة؛ ولكنّ الانتشار بين الناس، وتقليد الناس بعضهم بعضًا جعل كثيرًا من الناس يستبيحون ويستحلُّون؛ ومسألة الاستحلال مسألة خطيرة : لو أمسك الإنسان عن الإباحة والاستحلال فاستعمل، الأمر أهون من الاستباحة والاستحلال، لأنّ الوقوع في المعصية دون استباحة لا يؤدِّي إلى الكفر، ولكنّ استباحة معصية يؤدي إلى الكفر؛ لذلك : ينبغي أن يحرص طلاّب العلم إذا ابتُلوا ببعض الأمر المنتشرة بين الناس الآن كالتصوير ولم يستطيعوا التحفُّظ من الوقوع فليعتبروا أنفسهم أو فلنعتبر أنفسنا جميعًا بأنّ هذا بلاءٌ عام أننا نقع في هذه المحظورات ونعترف في أنفسنا بأننا مقصِّرون وأن هذه معصية، بدلاً من أن نلتمس أسبابًا للاستحال لنستحل .
اللهم إلا ما كان من باب الضرورة؛ هذه قاعدة : إذا حملت الضرورة على التصوير؛ ولكنّ الضرورة تُؤخَذ بقدرها لا يُبالَغ فيها .
التصوير : تصوير ذات الأرواح ـ وخصوصًا إذا كان بهيئة كاملة ـ لا ينبغي التساهل في ذلك إلا من باب الضرورة؛ أو إذا تصوّر كمُكره ـ وهو شِبْه مكره ـ وليس باختياره؛ ولعل للجهة التي أكرهته وجَبَرته على ذلك يمكن لها أعذارها؛ لأننا نعيش في الوقت الحاضر في وقت لم يمرَّ على المسلمين مثله في كثرة الفتن وضعف الأمن؛ والمحافظة على الأمن أمرٌ ضروري، المحافظة على الأمن محافظة على الدين وعلى الشريعة؛ وإذا كانت الجهات المسؤولة تضطّر للمحافظة على الأمن على أخذ الصور لبعض الأشخاص وفي بعض المناسبات يكون لها عذرها .
وبالنسبة لمن يضطر عند الاضطرار الذي يعلم الله منه أنه مضطر حقًّا له عذره .(1/73)
أما كونُ الإنسان يأخذ صورة يسمونه صورة تذكارية هو وزملاؤه واقفون تحت شجرة أو في مكان معيّن، ثم تعلَّق في المجالس هذه جاهلية يقعُ فيها كثيرٌ من المسلمين .
التصوير من الكبائر؛ ولكننا غُزينا الآن غزوًا : لا تكاد تشتري سلعًا إلا وتجد فيها صورة، قلّما تسلم سلعة حتى الملابس ـ ملابس الأطفال وغيرها ـ قلّما تسلم من الصور؛ لعلّ كثيرًا من الجهات انتهزتْ هذه الفرصة وهذا الانفتاح فتعمّدت أن تغزو أسواقنا بالصور؛ إذا أمعنت النظر في السلع التي تدخل أسواقنا وهي تحمل الصور بدون مناسبة تشعر بأن الأمر مقصود؛ يعني : محاربةٌ للدين وتعاليم الإسلام؛ فعلى الإنسان أن يتّقي ما استطاع .
ومسألة الصورة لا يوجد شيءٌ يشغَل بال الإنسان في الوقت الحاضر مثل انتشار الصور ـ الله المستعان ـ .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((فما الظن بالمتشبِّه بالله في الربوبية والألوهية)) . إذا تشبّه بالله ـ تعالى ـ في ربوبيته بأنْ أثبت لنفسه النفع والضر ودعى الناس إلى عبادة نفسه أن يذبحوا له ويحلفوا به فما الظن بذلك ؟، هذا أشد .
((كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((أشد الناس عذابًا يوم القيامة : المصوِّرون، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم)) )) . ((ما خلقتم)) أي : ما قدّرتم وصوّرتم؛ الفعل ( خلق ) يأتي بمعنى التصوير والتقدير ومعنى الاختراع والإيجاد؛ الاختراع والإيجاد هذا خاصٌّ بالله، لا أحد يقدر، لكنّ التقدير والتصور هذا الذي يفعله المصوِّرون كما في قوله ـ تعالى ـ : { أحسن
الخالقين } ، معناه : أحد المصوِّرين وأحسن المقدِّرين؛ وقد استدلّت القدرية بهذه الآية على كثرة الخالقين فظنوا أن الخالقِين بمعنى الموجدين والمخترعين، هذا خطأ، { أحسن
الخالقين } أحسن المصوِّرين وأحسن المقدِّرين؛ الخلق قد يشارك الله ـ تعالى ـ في التقدير والتصوير أما في الخلق الذي بمعنى الاختراع والإيجاد فلا، هذا خاصٌّ بالله .
(((1/74)
يقال لهم)) تعجيزًا وتوبيخًا وتقريعًا وتعذيبًا لهم : ((أحيوا ما خلقتم)) أي : ما صوّرتم .
((وفي ((الصحيح)) : عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((يقول الله ـ عزّ وجل ـ)) )) في حديث قدسي : (( (ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي) )) ذهب هنا من أفعال الشُّروع، ليس بمعنى المشي؛ أي ممّن شَرَع أو ممّن أخذ أو ممّن جعل؛ يقال : هذا من أفعال الشُّروع : ممّن جعل يخلق، أو أخذ يخلق، أو شرع خلق كخلقي .
(( ( فليخلقوا ذرّة ) )) إنْ كانوا صادقين فيما زعموا فليخلقوا ذرّة كما يخلق الله بروحها .
(( ( فليخلقوا شعيرة ) )) جاهزة صالحة للأكل .
((فنبّه بالذرّة والشعيرة على ما هو أعظم منها)) وما هو أصغر منها أيضًا؛ هذا من باب التمثيل، ليس خاصًّا بهذين النوعين أي : فليخلقوا أيَّ شيء صغيرًا أو كبيرًا ذلك المخلوق .
((وكذلك من تشبّه به ـ تعالى ـ في الاسم الذي لا ينبغي إلاّ له [ سبحانه ])) . تسمّى باسم لا ينبغي إلا لله ((كـ)) أنْ سمى نفسه ((ملك الملوك)) ملك الملوك هو الله؛ الملوك كثيرون، الله يعطي الملك من يشاء، لكن ما لكم الذي هو خالقهم وأعطاهم الملك هو الله وحده؛ إذا سمّى إنسانٌ نفسه بملك الملوك تشبّه بالله؛ ((وحاكم الحُكام)) الحكم الحقيقي لله، هو الذي يمكِّن من يشاء بأنْ يحكم، ((وقاضي القضاة)) أما هذا اللقب الأخير منتشر في بعض الأقطار لجهلهم هذه السنة؛ ولو قالوا : ( رئيس القُضاة ) بدل ( قاضي القضاة ) يكون أنسب .
(((1/75)
وقد ثبت في ((الصحيح)) : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((إنّ أَخْنَعَ الأسماء)) )) أهون الأسماء وأخس الأسماء ((عند الله : رجلٌ تسمى بـ( شاهٍ شاه ) )) ( شاهٍ شاه ) عبارةٌ فارسية معناها : ملك الملوك، (( ((ـ ملك الملوك ـ، لا مالك إلا الله))، وفي لفظ : ((أغيظُ رجلٍ عند الله : رجلٌ تسمّى ( ملك الأملاك ) )) )) . كلُّ هذا يتنافى مع التوحيد الخالص، ويؤدِّي إلى تشبُّه المخلوق بالخالق : يتكبّر ويتشبّه بخالقه .
((وبالجملة فالتشبيه)) بنوعه؛ تقدّم أن قسمنا التشبيه إلى نوعين : تشبيه الخالق بالمخلوق وتشبيه المخلوق بالخالق .
((فالتشبيه والتشبُّه هو : حقيقة الشرك؛ ولذلك : كان من ظنّ أنه إذا تقرّب إلى غيره)) أي : إلى غير الله ـ تعالى ـ ((بعبادة ما)) سواءٌ كانتْ فعلية أو قولية أو إرادية
ـ كما تقدّم ـ؛ من ظن أنه ((يقرِّبه ذلك الغير إليه ـ تعالى ـ فإنه يخطئ)) هذه عبارةٌ لطيفة؛ ليس الخطأ العادي، هذا خطأ فاحش، وهو نوعٌ من الشرك اتّخاذ الوساطة
ـ الوسيط ـ تقدّم أن بحث وبيّن الإمام : اتخّاذ الوسطاء والشفعاء من الشرك، وهذا هو منه .
قال : ((لكونه شبّهه به [ تعالى ])) . شبّه هذا الذي تقرّب إليه بالعبادة شبّهه به
ـ تعالى ـ، أي : شبّه المخلوق بالخالق .
((وأخذ ما لا ينبغي إلا له [ سبحانه ])) أخذه ومنح غيره، منح الذي لا يستحقّ المخلوق .
((فالشرك : مَنْعُه ـ سبحانه وتعالى ـ حقّه)) . إذًا : بتعبير آخر : حقيقة الشرك : منعه ـ سبحانه وتعالى ـ حقه؛ هذا المنع إما بأنْ يصرف العبادة كلها لغير الله، أو يعبد مع الله غيره؛ فالله يتركه وشركه، لأنه لا يقبل كما قال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ في القدسي الآخر : ((أنا أغنى الشركاء؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) إذًا : منعه حقه .
منع الله حقّه يَتصوّر بصورتين :
الصورة الأولى : أن يصرف العبادة لغير الله ـ تعالى ـ ويترك الله ويُعرض عنه؛ هذا منع الله .(1/76)
أو : يعبد مع الله غيرَ الله؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ سوف يتركه وشركه .
فمُنع الرب ـ سبحانه وتعالى ـ حقه؛ هذا أظلم الظلم .
((فهذا قبيحٌ عقلاً وشرعًا)) . قبيح عقلاً : كيف تمنع المستحقَّ حقّه ؟، عقلاً هذا قبيح وفطرة . وشرعًا : لأن الله حرّم ذلك .
((ولذلك)) . ولَمّا كان الشرك قبيحًا إلى هذه الدرجة ولذلك ((لم يُشرع)) في أيِّ شريعة، ((ولم يُغفر لفاعله)) . ننبّه دائمًا في مثل هذه المناسبة : المراد بهذا الشرك العظيم الفظيع الذي لا يُغفر هو الشرك الأكبر؛ والشرك الأصغر لا يدخُل في هذا العموم، لأننا نعلم أنّ من مات مرتكبًا للكبيرة أيًّا كان دون الشرك الأكبر ودون الكفر الصريح ولو دخل النار ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال أدنى أدنى أدنى ذرّة من إيمان)) .
الشرك الأصغر طالما أجمع أهل العلم أنه لا ينقل من الملّة إذًا لا يدخل في هذا الوعيد، لأنّ صاحب الشرك الأكبر الجنة عليه حرام؛ صاحب الشرك الأصغر الذي مات قبل أن يتوب من الشرك الأصغر لا يدخل في هذا العموم .) .
واعلم : أن الذي ظنّ أن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لا يسمع له أو لا يستجيب له إلا بواسطة تُطْلِعه على ذلك أو تسأل ذلك منه فقد ظنّ بالله ظنّ السوء؛ فإنه إنْ ظن أنه لا يعلم أو لا يسمع إلا بإعلام غيره له وإسماعه فذلك نفيٌ لعلم الله وسمعه وكمال إدراكه وكفى بذلك ذنبًا؛ وإن ظنّ أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يُلِينُه ويعطفه فقد أساء الظن بإفضال ربه وبرِّه وإحسانه وسَعَة جوده .(1/77)
وبالجملة : فأعظم الذنوب عند الله ـ تعالى ـ : إساءة الظن؛ ولهذا : يتوعّدهم في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد كما قال ـ تعالى ـ : { الظانين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءتْ مصيرًا } ، وقال ـ تعالى ـ عن خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ : { أئفكًا آلهةً دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين } أي : فما ظنكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره، وظننتم أنه يحتاج في الاطّلاع على ضرورات عباده لمن يكون بابًا للحوائج إليه ونحو ذلك .
وهذا بخلاف الملوك : فإنهم يحتاجون إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم عن إدراك حوائج المضطّرِّين؛ فأما من لا يُشغله سمعٌ عن سمع وسبقتْ رحمته غضبه وكتب على نفسه الرحمة فما تصنع الوسائط عنده؛ فمن اتّخذ واسطة بينه وبين الله ـ تعالى ـ فقد ظنّ به أقبح الظن؛ ومستحيلٌ أنْ يَشْرَعه لعباده، بل ذلك يمتنع في العقول والفِطَر ( ( ) قال ـ رحمه الله ـ : ((واعلم : أنّ الذي ظنّ أن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لا يسمع له أو لا يستجيب له)) دعائه؛ يحتمل معنيَيْن : لا يسمع أصلاً، نفيُ السماع؛ أو : لا يسمع سماع قَبول؛ فيكون المعنى يتّحد مع الجملة التي بعده ((لا يسمع له أو لا يستجيب له)) .
((إلا بواسطة)) من يُطلعه على ذلك؛ يحتاج إلى واسطة تُطلعه على طلب ما يطلبه منه العباد، أو إلى واسطة تسأل له منه، تسأل ذلك منه .
(((1/78)
إلا بواسطة تُطلعه على ذلك أو تسأل ذلك منه)) . الداعي يدعوا فيوسِّط شخصًا آخر، ذلك الشخص هو الذي يطلِع الله على حاجة هذا الطالب المضطّر، أو هو الذي يسأل الله فيقول لله ـ سبحانه وتعالى ـ : استجب لهذا المسكين؛ من وقف هذا الموقف ((فقد ظنّ بالله ظنّ السَّوء؛ فإنه إنْ ظن أنه لا يعلم)) الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لا يعلم ((أو لا يسمع إلاّ بإعلام غيره له)) أنّ غيره هو الذي يبلِّغه فيُخبره ((وإسماعه)) كأنه يترجم له ويشرح له ليفهم .
(([ فذلك ] نفيٌ لعلم الله وسمعه وكمال إدراكه ـ سبحانه ـ وكفى بذلك ذنبًا بل كفرًا)) بواحًا؛ هذا واضح .
((وإنْ ظنَّ)) هذا احتمال؛ المعنى الذي أشرنا إليه هناك ـ ((لا يسمع له)) ـ هو الاحتمال الثاني .
((وإنْ ظنّ أنه يسمع)) أن الله يسمع مجرّد سماع ((ويرى ولكن يحتاج إلى من يُلينه)) إلى من يحرِّكه حتى يلين ويرحم، ((و)) إلى من ((يعطفه عليه)) إلى من يحمله على العطف والرحمة على هذا الذي يطلب منه طلبات وعلى الداعي ((فقد أساء الظن بإفضال ربه
[ سبحانه ])) أي : بعطاء ربه ((وبِرِّه وإحسان وسعة جوده)) هو كالذي قبله ذنبٌ ليس بعده ذنب وكفرٌ بواح .
((وبالجملة : فأعظم الذنوب عند الله ـ تعالى ـ : إساءة الظن)) . تقدّم أن قرّر الشيخ أنّ أعظم الذنوب : الإشراك بالله؛ واضح؛ وهنا قال : ((وبالجملة : فأعظم الذنوب)) لو قال : فمن أعظم الذنوب عند الله ـ تعالى ـ : إساءة الظن لكان أولى، بـ( مِنْ ) .
((ولهذا يتوعدهم)) يتوعدّ الرب ـ سبحانه وتعالى ـ ((في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد)) ( وعيد ) اسم مصدر لـ( توعّد )؛ ( توعّد ) مصدره ( توعُّدًا )
كـ( تفضّل تفضُّلا )؛ ولكن ( الوعيد ) اسم مصدر لـ( توعّد ) .
(((1/79)
كما قال ـ تعالى ـ)) في المنافقين : { ويعذِّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانِّين بالله ظنّ السَّوء عليهم دائرة السَّوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنم وساءتْ مصيرًا } هذا الوعيد الشديد؛ { عليهم دائرة السوء } : سوف يدور عليهم السُّوء، يغضب الله عليهم، ويلعنهم يُبعدهم عن رحمته، ويُعِدُّ لهم جهنم
{ وساءتْ مصيرًا } لهم إذْ لا يخرجون منها إذا ماتوا على ذلك؛ نتيجة الشرك ونتيجة سوء الظن بهذه الطريقة ونتيجة الكفر الصريح ـ ككفر اليهود والنصارى الذين ماتوا على ذلك وكفر المشركين الأوّلين ـ النتيجة واحد : جهنّم مصيرهم خالدين فيها مخلَّدين؛ هذا الذي يجب أن يعتقد كلُّ مسلم، كما يجب أن يعتقد أنه لا يبقى في النار من قال في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، وبمقابل ذلك يعتقد أنّ من مات على الكفر بجميع أنواعه لا يخرُج من النار؛ والنار دائمة باقيةٌ بعذابها، كما أنّ الجنة باقية دائمة بنعيمها؛ كلُّ ذلك بإبقاء الله؛ أما البقاء الذاتي فلله وحده؛ وما أخبر أو أخبر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ من بقائها كالجنة ونعيمها والنار وعذابها ليس ذلك بقاءً ذاتيًّا ولكنه بإبقاء الله ـ تعالى ـ، يفعل الله ما يشاء .
((وقال ـ تعالى ـ عن خليله إبراهيم ـ عليه السلام ـ)) وهو يخاطب قومه :
{ أئفكًا آلهةً دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين } ماذا تعتقدون في ربكم على ما تفعلون وترتكبون ؟ .
((أي : فما ظنكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره)) بأيِّ جزاء يجازيكم ؟ .
((وظننتم أنه يحتاج في الاطّلاع على ضرورات عباده لمن يكون بابًا للحوائج إليه ونحو ذلك)) . وهذه العبارة ( بابٌ لحوائج العباد إلى الله ) يستعملها بعض الغُلاة من أتباع الصوفية : يسمون مشايخهم أبوابهم إلى الله .
(((1/80)
وهذا بخلاف الملوك؛ فإنّ الملوك محتاجون إلى الوسائط ضرورة)) لأنهم عبيد ((لحاجتهم)) وهم محتاجون ((وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم عن إدراك حوائج المضطّرين)) كونهم وصلوا إلى درجة الملك لا يجعلهم محيطين بحوائج الناس، لا، يحتاجون إلى وسائط؛ دونهم الوزراء، دونهم الأمراء، دونهم مَنْ دونهم مَن يتّصل مباشرة بأفراد الشعب ويعرف ضروراتهم وينقل إلى من فوقه وذلك ينقل إلى مَنْ فوقه حتى يصل العلم إلى الملوك، بعد ذلك يفعلوا ما يستطيعون فعله؛ وإلا هم عاجزون من أن يحيطوا إحاطة بجميع حوائج المضطّرين .
ومَنْ جعل الله ـ تعالى ـ كالملوك وجعل المشايخ والصالحين بمثابة الوسطاء الذين يشرحون لله حاجات عباده شبّهوا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالمخلوق الضعيف العاجز القاصر في علمه وإدراكه .
((فأما من لا يشغله سمعٌ عن سمع)) يدعوه آلاف الناس في وقت واحد، لا يشغله سماع دعاء زيد عن سماع دعاء عمرو، وهكذا إلى آخره .
((ومَنْ سبقت رحمته غضبه)) وغلبته، ((و)) من ((كتب على نفسه الرحمة)) تفضُّلاً وإحسانًا لا وُجوبًا ((فما تصنع الوسائط عنده)) ماذا تصنع ؟، عبث؛ تقديم الوسائط لدى مَنْ هذه بعضُ صفاته إنما هو عَبث وعدمُ التوفيق .
((فمن اتّخذ واسطةً بينه وبين الله ـ تعالى ـ فقد ظنّ به أقبح الظن، ومستحيلٌ أن يَشْرَعه لعباده)) . كما أنّ الشريك مستحيل والصاحبة مستحيل والولد مستحيل كذلك إيجاد واسطة بينه وبين عباده مستحيل لا يليق بالله ـ تعالى ـ .
(((1/81)
بل ذلك يمتنع في العقول والفِطَر)) قبل الشرع؛ العقل السليم الذي عافاه الله من التلوُّث بآراء علماء الكلام وجَهَلة الصوفية والفطرة السليمة التي بقِيَتْ على سلامتها تأبى ذلك . وفعلاً : العامي الذي هو بعيد كلَّ البُعد عن علماء الكلام وجهلة الصوفية أقرب إلى فهم الحقائق إذا سمع، لأن الفطرة باقية على ما هي، وهو جاهل في باديته في أعماق البادية، لكنه أحسن حالاً عند سماع الخير وسماع الموعظة أحسن حالاً من الذين يعيشون في كَنَف الصوفية ومع علماء الكلام هؤلاء فسدت فطرهم وعقولهم؛ أما ذلك الأعرابي لو جاء يفهم حالاً ويهتدي حالاً لأنهم باقٍ على فطرته .
لأمرٍ ما اختار الله خاتمَ النبيِّين من أمة أميّة، عاشتْ بعيدة عن جميع الحضارة لا الحضارة الفارسية ولا الحضارة الرومية ولا الحضارية الهندية؛ في قلب هذه الجزيرة، مع ما فيهم من الجهل، لكن كانوا بعيدين جِدًّا كلَّ البُعد عن الحضارات التي تُفسد العقول وتُفسد الفطر؛ الله عليمٌ حكيم اختار خاتم النبيِّين أُميًّا من أمة أميّة ـ سبحانه ـ .) .
واعلم : أنّ الخضوع والتألُّه الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيحٌ في نفسه ـ كما قرَّرْناه ـ لا سيّما إذا كان المجعول له عبدًا للملك العظيم الرحيم القريب المُجيب ومملوكًا له كما قال ـ تعالى ـ : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكتْ أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي : إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفردٌ به وهو الإلهية التي لا تنبغي إلا لغير ولا تصلُح لسواي؛ فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ولا عظّمني حقّ تعظيمي .
وبالجملة : فما قدر الله حقّ قدره من عبد معه من ظن أنه يوصِل إليه قال(1/82)
ـ تعالى ـ : { يأيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ... } الآية إلى أنْ قال ـ تعالى ـ : { ما قدروا الله حقّ قدره إن الله لقويٌّ عزيز } ، وقال ـ تعالى ـ : { وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويّاتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يُشركون } ؛ فما قدّر القوي العزيز حقّ قدْره من أشرك معه الضعيف الذليل ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله ـ ((واعلم أن الخضوع والتألُّه)) وكذلك التذلُّل؛ لفظة ( التذلُّل ) تغني عنها الخضوع، الخضوع هو معنى التذلُّل ((الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيحٌ في نفسه ـ كما قرّرناه ـ)) الكلام واضح .(1/83)
انتبهوا من هنا ((لا سيّما إذا كان المجعول له ذلك)) الخضوع والتألُّه إذا كان ((عبْدًا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب ومملوكًا له)) . أوّلاً كلمة ( لا سيّما ) المعروف عند أهل اللغة : تستعمل مع ( الواو ) : ( ولا سيّما )، هذا المعروف . ثم من حيث المعنى هذه العبارة فيها بعضُ الشيء ((لاسيما إذا كان إذا كان المجعول له ذلك)) ذلك الخضوع وذلك التألُّه، إذَا كان ((عبدًا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب)) وهل هناك عبدٌ غير هذا ؟؛ ولذلك : العبارة قلقة؛ ((واعلم أن الخضوع والتألُّه الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيحٌ في نفسه ـ كما قرّرناه ـ [ إذْ ] كان المجعول له ذلك عبدًا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب)) هكذا يستقيم المعنى؛ نُعيد مرّة أخرى : ((واعلم أنّ الخضوع والتألُّه الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيحٌ في نفسه ـ كما قرّرناه ـ)) لماذا قبيح ؟ (([ إذْ ] كان المجعول له)) الخضوع والتألُّه وما بعده ((ذلك عبدًا)) أي : لأن المجعول له ذلك المعنى عبدٌ ((للملك العظيم الرحيم القريب المجيب))؛ هذا وجه القُبح، تعليلٌ للقُبح؛ إنما كان قبيحًا لأن الذي جعلت له التألُّه والتذلُّل عبد للملك العظيم الرحيم القريب المجيب؛ كيف تجعل للعبد ما هو للسيِّد والمالك؛ الآية التي تأتي استشهادًا من المؤلِّف على هذا المعنى تؤكِّد هذا المعنى .
لذلك : ينبغي أن يُكتب في الهامش : ( ولعلّ الصواب : ((إذْ كان المجعول ... )) )، بـ( إذْ )؛ دون زيادة ( لا سيّما ) .
(((1/84)
كما قال ـ تعالى ـ : { ضرب لكم مثلاً مِن أنفسكم هل لكم ممّا ملكتْ أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم } )) استفهام استنكاري : { هل لكم } هل ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم فيما رزقناكم { فأنتم فيه سواء } أنتم والمملوكون وعبيدكم في ذلك سواء { فأنتم فيه سواء تخافون كخيفتكم } هل تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ؟، هل تخافون عبيدكم كما تخافون أنفسكم ؟، أي : كما تخافون الأحرار ؟، لا، العبيد ليسوا شركاء لكم على حدٍّ سواء فيما رزقناكم، هم أنفسهم أموال، وأنتم لا تخافون منهم كما تخافون أنفسكم ـ أي : كما تخافون الأحرار أمثالكم ـ، بل هؤلاء أذلاّء أموال تبيعون فيهم وتشترون فيهم؛ وهل تحبُّون لو جُعلوا شركاء لكم على حدٍّ سواء فيما رزقناكم ؟، بل تأنفون من ذلك، تقولون : كيف يكون عبيدنا وموالينا شركاء لنا في رزقنا على حدٍّ سواء، بل ينبغي أن يكونوا دوننا، لأنهم من أموالنا وموالينا .
هذه عقيدتكم في المملوكين عندكم فكيف ترضون أن تجعلوا للمملوكين وللعبيد ما هو حقٌّ للمالك الرب الرحيم القريب المجيب .
((أي : إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه)) رقيقه شريكه ((في رزقه)) على حدٍّ سواء ((فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء)) الخلق كلهم عبيده، ((فيما أنا منفردٌ به وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري)) إذا كنتم تأنفون؛ أنتم في الواقع عبيد لكن عبيدٌ أحسن حالاً من عبيدكم، وتأنفون أن يكون عبيدكم شركاء لكم على حدٍّ سواء فيما رزقناكم، تأنفون أنفة، لكن كيف رضيتم لي أن تجعلوا عبيدي مملوكين شركاء فيما أنفرد به ـ الإلهية ـ ؟؛ ما أعظم هذا المعنى وهذا التشبيه .
((ولا تصلُح لسواي)) الإلهية لا تصلُح لسواي؛ لأن الله وحده هو الخالق؛ فالعبيد لم يشاركوا الله ـ تعالى ـ في الخلق والإيجاد .
((فمن زعم ذلك فما قدّرني حق قدري)) انتقاص؛ من جعل عبيده شركاء له في الإلهية يُعتبر انتقاصًا لجانب الإلهية والربوبية معًا .
(((1/85)
ولا عظّمني حقّ تعظيمي)) فتعظيم الله حقّ تعظيمه وتقديره حقّ قدره هو عين التوحيد .
((وبالجملة : فما قدّر الله حقّ قدره : من عَبد معه من ظنّ أنه يوصِل إليه)) يكون واسطةً يوصله إلى الله .
((قال ـ تعالى ـ : { يأيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له } )) مثلٌ آخر غير الذي تقدم : { إن الذين تدعون من دون الله } كائنًا مَن كان نبيًّا ملَكًا عبدًا صالحًا { لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له } لو اجتمع جميع الملائكة والأنبياء والإنس والجن لن يخلقوا ذبابًا بروحه، أما التصوير والتقدير هذا شيءٌ آخر كما تقدّم، لكن هل يخلقون ذبابًا حيًّا منفوخًا فيه الروح ؟، لا، { وإنْ يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعُف الطالب والمطلوب } كما أنّ الذباب ضعيف وهؤلاء العبيد ضعاف، ضعيف يعجز عن ضعيف مثله؛ وكيف ترضون أن تجعلوا هؤلاء العبيد الضعاف شركاء لله ـ تعالى ـ الذي لا يخلقون ذبابًا ولا يستطيعون أن يدافعوا الذباب عن أنفسهم من ذرّة، لو أخذ شيئًا من عطورهم وطيبهم وما في رؤوسهم لا يستطيعون يأخذ فيطير، لا أحد يستطيع أن ينقذه من يده .
مرّة أخرى : { يأيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله }
( الذين ) اسمُ موصول من صيغ العموم، يشمل جميع المدعوِّين، جميع المعبودين؛ أسماء الموصول من صيغ العموم، تعم؛ { الذين تدعون من دون الله } تعبدونهم من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين والجن والإنس { لن يخلقوا ذبابًا } ( لن ) هنا يدلُّ السياق أنها للتأبيد، وإن كانتْ في الأصل هي لنفي المستقبل فقط، ولكن قد تأتي قرينةٌ تدلُّ على أنها للتأبيد، هنا للتأبيد قطعًا؛ { لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له ... } .
((الآية إلى أنْ قال : { ما قدروا الله حقّ قدره } )) الذين فعلوا ذلك، الذين يُشركون بالله ـ تعالى ـ عبادة ما قدروا الله حقّ قدره .
{(1/86)
إن الله لقويٌّ عزيز } وحده ... ؛ { إن الله } جملة اسمية تدلُّ على التوكيد، ثم دخلتْ ( لام التوكيد ) في الخبر تأكيدًا وحصْرًا لهذا المعنى لله ـ تعالى ـ .
{ إن الله لقويٌّ عزيز } لا أحد يشارك الله ـ تعالى ـ في هذا المعنى .
((وقال ـ تعالى ـ : { وما قدروا الله حقّ قدره } )) والحال : أن الأرض
{ جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا
يُشركون } .
ثم قال الإمام المقريزي : ((فما قدَر القوي العزيز حقّ قدره من أشرك معه الضعيف الذليل)) . هذه خلاصة ما تقدّم؛ كلُّ عبد ضعيف وذليل؛ الضعف وصفٌ ذاتيٌّ للعبيد، والذل ـ أيضًا ـ وصفٌ ذاتيٌّ للعبيد، والفقر والعجز هذه كلها صفات ذاتية في العبيد؛ كما أنّ القوّة والغنى وصفٌ ذاتيٌّ للرب ـ سبحانه وتعالى ـ، كما أنّ القدرة وصف ذاتيٌّ والغنى وصفٌ ذاتيٌّ والقوّة وصفٌ ذاتيٌّ .
وكونك تترك القوي العزيز القريب المجيب وتجعل له شريكًا ضعيفًا ذليلاً ـ عبدًا ضعيفًا ذليلاً ـ هذا قبيحٌ عقلاً وفطرةً قبل الشرع .) .
واعلم أنّك إذا تأمّلت جميع طوائف الضلال وجدت أصل ضلالهم راجعًا إلى شيئين : أحدهما : الظن بالله ظن السوء، ولم يقدروا الرب حق قدره؛ فلم يقدره حق قدره من ظن أنه لم يُرسل رسولاً ولا أنزل كتابًا بل ترك الخلق سُدىً وخلقهم عبثًا.
ولا قدره حق قدره من نفى عموم قدرته وتعلُّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم وأخرجهما عن خلقه وقدرته .(1/87)
ولا قدر الله حقّ قدره أضداد هؤلاء الذين قالوا : إنه يعاقِب عبده على ما لم يفعله، بل يعاقبه على فعله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ وإذا استحال في العقول أن يُجبر السيِّد عبده على فعل ثم يعاقبه عليه فكيف يصدُر هذا من أعدل العادلين؛ وقولُ هؤلاء شرٌّ من أشباه المجوس القدرية الأذلِّين ( ( ) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((واعلم : أنك إذا تأمّلت جميع طوائف الضلال)) . طوائف الضلال التي تجدّدت بدأً من أواخر أيّام الصحابة في عهد عليّ بن أبي طالب؛ ابتُلي عليٌّ - رضي الله عنه - بطوائف ثلاثة ظهرت في وقته : الخوارج، والشيعة والقدرية .
وبعد هذه الطوائف من طوائف الضلال التي تجدّدت في الإسلام : الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتورودية من جهة جَبْرية قدرية وإرجائية؛ هذه كلها طوائف .
الطوائف التي ألّف فيها علماء المسلمين كتبًا تسمّى كتب الفِرَق كـ((الفرْق بين الفِرَق)) للبغدادي، و ((الملل والنِّحَل)) و ((الفِصَل)) وغير ذلك من الكتب التي أُلِّفتْ في الفرق .
الفرق الضالة ـ طوائف الضلال ـ بدأتْ في أواخر عهد الصحابة واستمرّتْ إلى يوم الناس هذا؛ وهم متفاوتون بين من يصل ضلالهم إلى الكفر البواح وبين من يقف ضلالهم دون الكفر، متفاوتون؛ ليس كلُّ من قيل فيه : إنه من فِرَق الضلال معنى ذلك حكمنا عليه بالكفر لا، الضلال والإلحاد ليس كلُّ إلحادٍ كفرًا ولا كلُّ ضلال كفرًا ـ كما تعلمون ـ ولا كلُّ ظلم كفرًا، تتفاوت؛ وكذلك البدع .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((واعلم : أنك إذا تأمّلت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعًا إلى شيئين)) اثنين : ((أحدهما : الظن بالله ظنّ السَّوْء)) . أُناس خَرِبَتْ عقولهم وقلوبهم يظنون بالله ظن السوء، ((ولم يقدّروا الرب حق قدره)) لذلك يسيئون به الظن، وربما يقترحون عليه بعضَ الاقتراحات .(1/88)
قال المؤلِّف : ((فلم يقدِّره)) يجوز : فلم يَقْدُرْه ((حقّ قدره من ظنّ أنه لم يُرسل رسولاً ولا أنزل كتابًا، بل ترك الناس سُدى وخلقهم عبثًا)) لا يوجَّهون ولا يُنصحون، ولا يُؤمرون ولا يُنهون؛ هؤلاء الذين يُنكرون أصل الرسالة : ليستْ هناك رسالة ولا كتاب، ويتهّمون الأنبياء بأنهم قالوا على الله بغير علم ـ أو قالوا على الله خلاف الواقع ـ أهل التجهيل، أهل التخييل، يقولون : لا رسل ولا كتب، وإنما الله خلق الناس ليختبرهم منهم من يهتدي بعقله النيِّر ومنهم من يضل بعدم استعمال عقله، تركهم إلى عقولهم؛ فوضى .
((ولا قدره حق قدره من نفى عموم قدرته [ تعالى ] وتعلُّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم)) . معنى التعلُّق أي : ليس الله هو الخالق لهذه الأشياء بقدرته، لأن الله يخلُق كلَّ ما يخلق بالقدرة، وأنّ طاعات العباد ومعاصيهم ليستْ داخلة في قدرة الله
ـ تعالى ـ فالله غيرُ قادرٍ عليها .
((وأخرجهما)) الطاعة والمعصية ((عن خلقه [ تعالى ])) ليس الله هو الخالق، ((و)) عن ((قدرته)) ولا يقدر عليها؛ لا يقدر على أفعال العباد؛ ويختلفون : هل يقدر على مثل أفعال العباد أمْ لا ؟، هؤلاء القدرية بعد أن اتّفقوا بأن الله غيرُ على أفعال العباد الاختيارية التي خلقوها هم والله لم يعلمها إلا بعد ما عملوها، يختلفون بعد ذلك هل هو قادرٌ على مثل أفعالهم أمْ لا ؟ .(1/89)
لعلنا عَرَفْنا القدرية : هم الذين ينفون القدر : علمَ الله السابق وكتابَتَه للأشياء وقدرته على كل شيء؛ يخرجون أفعال العباد من عموم { كل } { إنه على كل شيء قدير } على كل شيء غير أفعال العباد، قالوا العباد غيرُ داخلة في عموم { كل } ؛ هكذا يتلاعبون؛ بينما يُدخلون في عموم { كل } بعض صفات الله ـ تعالى ـ لَمّا زيّن لهم شيطانهم بالقول بخلق القرآن، قالوا : القرآن داخلٌ في عموم { خالقُ كلِّ شيء } لأن القرآن شيء، أدخلوا صفة من صفات الله في عموم { كل } وأخرجوا أفعال العباد المخلوقة من عموم { كل } ؛ هكذا من ترك الكتاب والسنة والتمس الهدى في غير الكتاب والسنة يضلّه الله مثل هذا الضلال .
((ولا قدر الله حقّ قدره أضداد هؤلاء)) الذين قابلوا القدرية وهم الجَبْرية .
((الذين قالوا : إنه يعاقِب عبده على ما لم يفعله)) . عند الجبرية : العبد غيرُ فاعل، لأنه لا قُدرة له ولا إرادة ولا اختيار، الله هو الفاعل؛ فزعموا أنّ قوله ـ تعالى ـ : { وما رميت إذْ رميت ولكنّ الله رمى } دليلهم، قالوا : الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفى الرمي من نبيّه، ليس النبي هو الذي رمى الله هو الذي رمى، إذًا العبد لا يفعل؛ فنسبة الأفعال إلى العباد نسبة مجازيّة؛ لو تدبّرتم في هذه الآية وجدتم الآية دليلٌ عليهم وليستْ دليلاً لهم : إذْ في الآية إثبات رمي ونفي رمي، أي : هناك رميٌ مثبت ورميٌ منفي : { وما رميت } هذا نفي { إذْ رميت } هذا إثبات؛ للرمي بداية ونهاية : بداية الرمي من رسول الله
ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذا الرمي مثبت، ونهاية الرمي المنفي بيد الله : { وما(1/90)
رميْت } أي : ما أوصلْت ـ هذه النهاية ـ، ما أوصلت التُّراب إلى وُجوه الكفّار ووزّعته على عيونهم أنت، لأنك لا تقدر على ذلك، { إذْ رميت } إذْ حذفت التُّراب، الحذف بداية الرمي حصل ممّن ؟، من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ إذًا : فيه : إثبات رمي ونفي رمي؛ والاستدلال بهذه الآية غيرُ وارد .
ولو طردنا الباب ـ كما يقولون ـ هل يمكن أن يقال لإنسان : وما صليْت إذْ صليت ولكنّ الله صلى ؟، هل هذا صحيح ؟، عاقل لا يقول هذا الكلام؛ وما صمت إذْ صمتَ ولكنّ الله صام ؟، غير معقول؛ هناك كلام يصعب لفظه التلفُّظ به، وما سكرت إذْ سكرت من الذي سكر ؟، هل يُقال ؟، لا يستطيع يقوله أحد؛ ما بعد هذا ؟؛ قِسْ على ذلك جميع الأعمال القبيحة التي لا يستطيع مسلم أن ينطق بها جناب الرب ـ سبحانه وتعالى ـ .
من هنا تعلمون : إن القوم ضلوا في هذا الاستدلال ـ وهم الجبرية ـ .
((بل يعاقبه على فعله ـ سبحانه ـ)) الله هو الفاعل .
((وإذا استحال في العقول أن يُجبر السيِّد عبده على فعل)) فعل من الأفعال، قال
له : افعل كذا ((ثم يعاقبه عليه؛ فكيف يصدر هذا)) إذًا ((من أعدل العادلين)) وأرحم الراحمين ؟، لا يمكن أن يصدُر، عقلاً مستحيل، وشرعًا مستحيل، والفطرة تأبى ذلك
ـ الله المستعان؛ الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أنْ هدانا الله ـ .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وقول هؤلاء)) الجبرية ((شرٌّ من أشباه المجوس القدرية الأذلِّيْن)) أي : كلام الجبرية أسوأ من كلام القدرية، لأنّ على مقتضى كلام الجبرية : إما أنه لا أمر ولا نهي ـ تعطيلٌ للأحكام ـ، أو إنّ العبد يُثاب على ما لم يفعله من خير ويُعاقب على ما لم يأته من شر؛ بل كلُّ ذلك ـ زعمهم ـ فعل الرب
ـ سبحانه وتعالى ـ؛ يفعل فعلاً ثم يُثيب إن كان خيرًا عباده على ما لم يفعلوه، ويعاقبهم على ما لم يرتكبوه ؟؛ ليس هناك موقف أشرٌّ من هذا الموقف .) .(1/91)
ولا قدره حق قدره من نفى رحمته ورضاه ومحبته وغضبه وحكمته مطلَقًا وحقيقة فعله لم يجعل له فعلاً اختياريًّا، بل أفعاله منفعلةٌ عنه .
ولا قدره حق قدره من جعل له صاحبةً وولدًا، وجعله يَحُلُّ في مخلوقاته أو جعله عيْن هذا الوُجود .
ولا قدره حق قدره من قال : إنه رفع أعداء رسوله أهل بيته وجعل فيهم الملك ووضع أولياء رسوله وأهل بيته؛ وهذا يتضمّن غاية القدْح في الرب ـ تعالى الله عن قول الرافضة ـ؛ وهذا مشتقٌّ من قول اليهود والنصارى في قول رب العالمين : إنه أرسل ملِكًا ظالمًا فادّعى النبوّة وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلاً يقول : أمرني بكذا ونهاني عن كذا، ويستبيح دماء أبناء الله وأحبّائه؛ والرب ـ تعالى ـ يُظهره ويؤيِّده، ويُقيم الأدلة والمعجزات على صدقه، ويُقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويُقيم دولته على الظهور والزيادة ويذلُّ أعدائه أكثرَ من ثمان مائة عام . فوازان بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين سواء .
ولا قدره حق قدره من زعم أنه لا يحيي الموتى ولا يَبْعث من في القبور ليبيِّن لعباده الذي كانوا فيه يختلفون وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ( ( ) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((ولا قدره حق قدره من نفى رحمته ورضاه ومحبّته وغضبه وحكمته مطلَقًا)) . هؤلاء الذين نفوا رحمةَ الله ـ تعالى ـ حسْب معرفتنا يدخل في هذا العموم : الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وإنْ كانت الأشاعرة لم تصرِّح بالنفي لكنهم أوجبوا التأويل تأويل الرحمة والرضى والمحبة والغضب والفرح والضحك، كلُّ هذه الصفات ـ صفات الأفعال ـ يجب تأويلها عند الأشاعرة، وذلك التأويل يتضمّن النفي أي : نفيُ هذه الصفات وإثبات صفة الإرادة بدل هذه الصفات، لأنهم أوّلوا كلّ هذه الصفات .(1/92)
نشرح الآن موقف الأشاعرة، أما بالنسبة للجهمية والمعتزلة ينفون نفيًا فيريحوا خصمهم، لكنّ الذي يُتعِب خصمه ـ أو يتعب أولاً هو في التأويل والتكلُّف ثم يُتعِب خصمه ـ هم الأشاعرة، دائمًا ليسوا بصرحاء . قالوا : نحن لا ننفي هذه الصفات، ولكن نؤوِّلها بما يليق بالله ـ تعالى ـ، لأنه لا يليق بالله أن نصفه بالرحمة والمحبة والرضى والغضب، لأنّ هذه انفعالات نفسية تدلُّ على الخَوَر وعلى الضعْف وهذا لا يليق بالله ـ تعالى ـ، ما الذي يليق بالله ؟، يعني : في زعمهم هم الذين يعلمون ما يليق بالله؛ يا سبحان الله ! الله [ سبحانه ] لا يعلم ما يليق به فيصف نفسه بهذه الصفات ورسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ يصفه بهذه الصفات وهو المأذون له من الخلق أن يصف ربه { أأنتم أعلم أم الله } أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما تقولون : هذه الصفات ظاهرها غيرُ مراد وغيرُ لائقة بالله فيجب تأوليها وُجوبًا؛ الوجوب حكم شرعي، لا يجوز لعبد أن يقول في دين الله : ( هذا واجب ) و ( هذا حرام ) و ( هذا حلال هذا مباح ) إلا بإذن من الله؛ ارتكبوا عدّة محظورات، أوجبوا تأويل هذه النصوص كلها؛ إذًا : يدخلون في المعطِّلة وفي الذين لم يقدِّروا الله حقّ قدره في هذه الصفات .(1/93)
يُستحسن أن نقرأ ما كتب المعلِّق هنا لعلّ بعض الطلاّب ما يفهمون مراده ـ في رقم ( 4 ) : ((يريد الشيخ بهذا الصنف : المؤوِّلين الذين يؤوِّلون صفات الله [ تعالى ] التي لا يليق مثلها في الإله)) عندكم : ((في الحوادث)) هذه العبارة قلقة، والمعنى هكذا كما سيتضحّ مما سيأتي، ((كالرحمة والرضى والغضب والمحبة والعجب والضحك كما ورد في بعض الأحاديث : أن الله يعجب من شاب [ ليستْ له صَبْوةٍ])) لفظ الحديث هكذا وهو روى بالمعنى، ((ويضحك الله من رجلين يقتتلان ثم يدخلان الجنة ونحو ذلك ممّا ورد من الصفات؛ وله نظير)) انتبهوا من هنا ((وله نظيرٌ في الحوادث)) أي : له مثيلٌ في الحوادث، ((وهذا النظير لا يليق بالله)) هذا كلام المعلِّق هذه من الرواسب التي بقيَتْ عنده، أي : الصفات التي لها نظيرٌ في الخلق يجب تأويلها لأنها لا تليق بالله، هذه الصفات نظائرها موجودة في المخلوق : المحبة والرضى والضحك والعجب، إذًا يجب تأويلها هذا هو مذهب الأشاعرة؛ بقيت هذه النقطة عند المعلِّق لأنه قريب عهد به؛ ويقول المعلِّق : ((وهذا النظير لا يليق بالله)) أي : الصفات التي لها نظير لها نظائر في المخلوق ـ كما قلنا : الصفات الفعلية التي سموها هي انفعالات نفسية لا تليق بالله ـ ((فقد أوّلوا هذه الصفات)) الذين أوّلوا ـ كما قلت لكم ـ هم الأشاعرة والماتورودية أوّلوا ((وجعلوا الرحمة والرحمة والمحبة بمعنى النعيم، والغضب والسخط بمعنى العذاب، والعجب برفعة مكانة الشاب عند الله، والضحك بمعنى التجلِّي عليهما وتنعيمهما ونحو ذلك)) هذا كله قولٌ على الله بغير علم، من أخبركم بأن الله يريد هذا المعنى ؟، إذا كان الله يريد هذا المعنى لماذا لم يعبِّر ولماذا لم يُخبر هذا المعنى فيتركنا على ظاهر لا يليق بالله ـ تعالى ـ؛ هذا القرآن نزل على محمد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقرأه على الصحابة لم يقل لهم يومًا لهم ظواهر هذه النصوص غيرُ مراد الله(1/94)
ظواهرها لا يليق بالله، ونطق بأحاديث وتركها على ظاهرها كما يفهم الناس، ولم يُخبر أنّ هذا الظاهر غيرُ مُرادي ومرادي هذه المعاني؛ من أين علمتم أنتم مراد الله بعد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبعد القرون المفضَّلة والسلف كلهم لم يؤوِّلوا هذا التأويل، وأنتم القائلون :
وكلُّ خير في اتّباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
أيها الخلف المتخلِّفون من أين عرفتم أنتم هذه المعاني ؟، تخرُّصات، ظنون .
ثم قال المعلِّق : ((وقد أراد الشيخ)) المراد بالشيخ : المؤلِّف ((بنفي هذه الصفات أنّ تأويلها ينفيها ويُثبت بدلها صفات أخرى، ومن يفعل ذلك لا يكون قدر الله حقّ قدره)) إذا كان المؤلِّف قال هذا الكلام ويجب أن يقول معه المعلِّق هذا الكلام والدارس هذا الكلام، ((وإنما يجب إثبات هذه الصفات واعتقاد أنها مخالفة لصفات الخلق)) إذا كان المؤلِّف يريد هذا المعنى والمعلِّق يجب أن يريد معه هذا المعنى لأن هذا هو الحق، ولا يكفي للمعلِّق أن يحكي ويُخبر أن المؤلِّف يريد كذا، نعم المؤلِّف يريد هكذا، والمعلِّق يجب أن يوافق ويبيِّن، ولا ينبغي أن يُترك الموضوع هكذا مبهمًا ـ بالنسبة للمعلِّق ـ .
النظير ـ كما تقدّم ـ كل صفة لها نظير ـ سبق هذا الكلام ـ؛ كل صفة لها نظيرٌ في المخلوق لا تليق بالله، وكلُّ اسمٍ له نظير في المخلوق لا يليق بالله؛ لذلك فيما تقدّم حصل نوعٌ من التناقُض، حتى إنه نفى الفاعل مع الخالق، جعل الفاعل كالخالق؛ فكلمة
( النظير ) المراد بالنظير : كلُّ صفة لها نظير ولها شبيه أي : تتّفق مع صفات المخلوق لا يجوز إثباتها يجب تأوليها؛ وهذا ليس بشيءٍ جديد، هذه عقيدة ثابتةٌ عندهم .(1/95)
ولكن العبارة الأخير هذه هي التي يمكن أن يتصيّد منها الإنسان نوعًا من الموافقة وإنْ كانتْ موافقة غير صريحة : قوله : ((وإنما يجب إثبات هذه الصفات واعتقاد أنها مخالفة لصفات الخلق)) أي : إثباتها على ظاهرها ثم القول بأنها مخالفة لصفات الخلق، وإنِ اتّحدتْ معها في اللفظ؛ لو كان هذا كلام المعلِّق نقول : إنه موافق، لكنّ السياق يدلُّ عليه أنه يحكي كلام المؤلِّف .(1/96)
نقرأ مرّة ثانية : ((وقد أراد الشيخ بنفي الصفات : أنّ تأويلها ينفيها)) هذا واقع : إذا أوّل نفى؛ ((ويُثبت بدلها صفاتٍ أخرى)) صفات أخرى هي الصفة المؤوّلة إليها وهي الإرادة، ليستْ صفات، صفة واحدة، كلُّ هذه الصفات حوّلوها إلى صفة واحدة وهي صفة الإرادة، ليستْ هنا صفات : ((ويُثبت بدلها صفات أخرى)) على الأصح : صفة أخرى؛ ((ومن يفعل ذلك لا يكون قدر الله حقّ قدره)) من زعم أنّ هذه الصفات يجب تأويلها وإثبات صفاتٍ أخرى مكانها ـ بدلها ـ لم يقدِّر الله حقّ قدره؛ ((وإنما يجب إثبات هذه الصفات)) الذي يظهر إلى الآن : السياق في حكاية كلام الشيخ؛ ((وإنما يجب إثبات هذه الصفات على ظاهرها)) الظاهر الذي يليق بالله، ((واعتقاد أنها مخالفة لصفات الخلق)) هذا هو كلام السلف؛ ((تُمَرُّ نصوص الصفات كما جاءتْ على ظاهرها)) ولكن الظاهر الذي يليق بالله ـ تعالى ـ لا الظاهر الذي يناسب المخلوق، كما هو الشأن في جميع الصفات الذاتية، هذه صفات فعلية كلها؛ في الصفات الذاتية ـ مثلاً ـ نقول : لله سمع، سمعُ الله ـ تعالى ـ سمعٌ يليق به، ولكن له نظيرٌ في المخلوق، نقول : للمخلوق سمعٌ يناسبه، سمع الخالق على الحقيقة وسمع المخلوق على الحقيقة، ولكن ليست الحقيقة كالحقيقة، والحقائق تختلف، حتى في المخلوق الحقائق تختلف مثلاً : لفظة ( رأس ) رأس الجبل، رأس الإنسان، رأس الجمل، رأس الإبرة؛ هذه رؤوس كلها ـ حقائق ـ، وهل هي متشابهة مختلفة جدًّا، رأس الجبل غير رأس الجمل وغير رأس بني آدم وغير رأس الإبرة، مختلفة، كلها حقائق؛ ودعوى : إن الحقيقة واحدة ما خالف تلك الحقيقة كلها مجاز باطلة هذه، بل هذه كلها حقائق ثابتة .(1/97)
الشاهد : قوله : ((وإنما يجب إثبات هذه الصفات)) أي : على ظاهرها كما يليق بالله ـ تعالى ـ، ((واعتقاد أنها مخالفة لصفات الخلق)) لأننا ـ كما تقدّم غير مرّة ـ : الاشتراك لا يحصل أبدًا بين الخالق وبين المخلوق في الصفات بعد الإضافة؛ هذه قاعدة سجِّلوها عندكم : الصفات التي في اللفظ متّفقة، صفات الخالق التي تتّفق ـ أو توافق ـ صفة المخلوق في اللفظ كالسمع والبصر والعلم ـ مثلاً ـ هذا الاشتراك إنما هو في اللفظ وفي المعنى العام، أو بعبارة أخرى : في المطلَق الكُلِّي قبل الإضافة، الاشتراك في المطلق الكلي قبل الإضافة، أي : قبل إضافة صفة الله إلى الله وصفة المخلوق إلى المخلوق، وبعد الإضافة لا يحصل اشتراكٌ مطلقًا . نحمل على هذا المعنى قول المعلِّق وهو يحكي كلام المؤلِّف : ((وإنما يجب إثبات هذه الصفات واعتقاد أنها مخالفة لصفات الخلق)) في الحقيقة والكُنْه أي بعد [ إضافة ] صفات الخالق إلى الخالق وصفات المخلوق إلى المخلوق .
الذي يظهر لي أنا ـ المفاهيم تختلف ـ : إن السياق يدلُّ إنّ هذه العبارة الأخيرة حكايةٌ لكلام الشيخ، وليس هذا كلام المؤلِّف أوّلاً : السياق، وثانيًا : نعرف المعلِّق أنه قريب عهدٍ بهذه العقيدة والمسألة هذه دقيقة، لعله لم يحقِّق بعدُ هذه المسألة إن كان لا يزال حيًّا، نرجو أن يبلُغه شيءٌ من ذلك أو يطّلع على شيء من ذلك، ويحقِّق أكثر فأكثر، حتى نعلم بأنه موافقٌ للمؤلِّف ـ والله أعلم ـ .
وبعد :(1/98)
مرّة أخرى : ((ولا قدره حقّ قدره من نفى رحمته ورضاه وغضبه وحكمته مطلَقًا)) . هامش رقم واحد : قال المعلِّق : ((هؤلاء هم الفلاسفة القائلون : إن الله خلق العقول العشرة وتركها تؤثِّر في الكون؛ فكلُّ ما يحدُث في العالم مفعولٌ لله [ تعالى ] بواسطة هذه العقول؛ وهذا يؤدِّي إلى عدم الحكمة والاختيار)) بأن الله ليست له حكمة ولا اختيار ((لأن الحوادث والأفعال تحدُث عن العقول صدورًا آليًّا ـ كما يقولون ـ))؛ وقد أبعد النَّجْعة المعلِّق : ليس هذا كلام الفلاسفة، هذا كلام الأشاعرة : نفيُ هذه الصفات ـ المحبة والغضب والحكمة ـ هذه عقيدة الأشاعرة، وإنْ كان يجوز أنهم يتّفقون مع الفلاسفة، لكن ينبغي أن يبيِّن حقيقة القوم الذين نعيش وسطهم؛ نحن إنما ندرس لنعرف عقيدة الناس الحاضرين الذين نعيش وسطهم، هذه عقيدتهم، هذه عقيدة الأشاعرة، ليستْ عقيدة الفلاسفة فقط، لا .
((وحقيقة فعله)) . ينفون حقيقة فعله : إنّ فعله ليس بحقيقة . أما هذه الجملة الأخيرة ـ ((وحقيقة فعله)) ـ يمكن أن يُقال إنها عقيدة الفلاسفة .
((لم يجعل له)) هذا المؤوِّل الذي لم يقدِّر الله حقّ قدره سواءٌ كان أشرعيًّا أو فيلسوفيًّا ((فعلاً اختياريًّا، بل أفعاله منفعلةٌ عنه)) معنى ((منفعلة)) : أنها تصدُر بغير قصدٍ منه وبغير اختيار . والجملة هذه ـ أيضًا ـ راجعة للفلاسفة؛ الأشاعرة ليسوا كلامهم صريح في هذا، إلا إذا كان من باب الإلزام .
الفرق بين الفعل وبين الانفعال : للعبد فعل اختياري يسمّى فعله، وله فعلٌ اضّطراريّ وهو انفعال؛ ما يصدر من الإنسان من دون اختياره كالموت، الموت صفة قائمة بالإنسان هل هو فعله ؟، لا، انفعال، لأن الله هو الذي أماته، ليس له اختيار في الموت، لو كان الإنسان له اختيار ما يموت؛ كذلك كالذي ـ مثلاً ـ يُرمى من شاهِق حتى يصل إلى الأرض فيموت فيتكسّر، وكاليد المرتعشة هذه انفعالات أفعال انفعالية، ليستْ أفعال اختياريّة .
(((1/99)
ولا قدره حق قدره من جعل له صاحبةً وولدًا، وجعله يَحُلُّ في مخلوقاته، أو جعله عيْن هذا الوُجود)) . جعله يَحُلُّ في مخلوقاته سواءٌ كان في جميع المخلوقات أو في بعض المخلوقات؛ المعروف : أنّ بعضهم قد يجعله حالاًّ في بعض المخلوقات كزعم النصارى أنه حالٌّ في عيسى، واعتقاد بعض غُلاة أتباع الصوفية أنه يَحُلُّ في مشايخهم الواصلين إلى الله ـ بزعمهم ـ . أو جعله عين هذا الوجود؛ الحلول أخف من الاتّحاد، هؤلاء وحدة الوجود، العقيدة الأخيرة : عقيدة وحدة الوجود، والعقيدة الأولى : عقيدة الحلوليِّين؛ أما الحلول يمكن أن يطبَّق على كلِّ من يقول : إن الله ـ تعالى ـ في كلِّ شيء، هذه عقيدة الحُلول، وإنْ كانت الأشاعرة لَمّا تقول هذا الكلام لا يعتقدون أنهم حلوليِّين، ولا يعترفون بذلك، ولكن يلزمهم ذلك : إذا قالوا في كل شيء، داخلٌ في كل شيء، وفي كل مكان هذا حُلول لا يليق بالله ـ تعالى ـ { وما قدروا الله حقّ قدره } ، وهنا أماكن يُستحيى ذكره مع ذكر الرب ـ سبحانه وتعالى ـ، والإنسان نفسه يترفّع أن يكون في ذلك المكان، لكن ذلك المكان داخلٌ في عموم ( في كل شيء ) .
وأما الاتّحاد كأنْ يقال : إنّ الله اتّحد مع خلقه جميعًا ليس مع أفراد خلقه مع الخلق جميعًا، أي : نفيُ الاثنينيّة، لا يوجد في الكون اثنان، إنما هو شيءٌ واحد، والقول بخالق مخلوق عابد معبود شكلي، في الحقيقة لا يوجَد خالقٌ ومخلوق أو عابدٌ ومعبود الكلُّ واحد، الكلُّ من عين واحدة، بل عينٌ واحدة، كلُّ الكون عينٌ واحدة .
يُستحسن لطلاّب العلم الآن خصوصًا الطلاّب الذين نضِجوا ـ أو قرُبوا من
النضج ـ أن يطّلعوا على ((فُصوص الحكم)) و ((الفتوحات المكيّة)) لابن عربي، أو يتأمّلوا في ((التائيّة)) لابن فارض؛ هذه الكتب موجودة، وهؤلاء من أقطاب وحدة الوجود(1/100)
ـ خصوصًا : ابن عربي شيخهم وسيّدهم ـ؛ و ((التائيّة)) ـ تائيّة ابن فارض كما يعلم بعض الشباب ـ في بعض الأقطار تُقرأ كالوِرْد وخصوصًا في مجالس الذكر، يتلذّذون بها، ويطربون عندما يقرأون، ولا يدرون عن الكفر البواح التي تحمله تلك الأبيات :
ولي صلوات بالمقام أُقيمها
وأشهد فيها أنها ليَ صلّت
هكذا يقول ابن الفارض :
لها صلوات بالمقام أُقيمها
... ... ... ... ... ... ...
يعني : لنفسه
... ... ... ... ... ... ...
وأشهد فيها أنها ليَ صلّت
نفسه صلّت له، نفسه إنما صلّت له، لأنه هو الله شيءٌ واحد .
هذا البيت حفظته من الذين يقرءون في مجالس الذكر، يكرِّرون، كنا طلاّبًا نسكُن قربهم، كل ليلة جمعة يجتمعون فحفظت بعض الأبيات من كثرة ما يكرِّرون ونحن جيران نمرُّ بهم ويمروا بنا ـ الله المستعان، الحمد لله على نعمة الإسلام ـ .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((ولا قدره حقّ قدره من قال : إنه رفع أعداء رسوله وأعداء أهل بيته وجعل فيهم الملك ووضع أولياء رسوله وأهل بيته؛ وهذا يتضمّن غاية القدْح في الرب ـ تعالى الله عن قول الرافضة ـ)) . هؤلاء في زعمهم : كان المفروض بعد النبوّة أن تستمرّ الخلافة في آل البيت، وبعد انتهاء مدّة الخلافة الملك(1/101)
ـ أيضًا ـ يجب أن يستمر فيهم، اقتراح، يقترحون على الله ويُلزمونه؛ ما أشبه اقتراحهم باقتراح كفّار قريش : { لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } هذا اقتراح؛ كفّار قريش ما رضوا أن تكون النبوة والرسالة والوحي لمحمد، قالوا لا، هذا غير صحيح، المفروض أن تكون هذه الرسالة والنبوة لأحد رجلين : إما رجل عظيم بمكة أو رجل عظيم بالطائف؛ ما رضوا قسمة الله، لكن انظروا كيف ردّ الله عليهم : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسَمْنا بينهم معيشتهم ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات ليتّخذ بعضهم بعضًا سُخْريًّا ورحمة ربك خيرٌ ممّا يجمعون } هكذا ردّ الله عليهم؛ إذا كان حالة المعيشة حياتكم نحن الذي قسمنا ونظّمنا وجعلنا الناس طبقات ليسخِّر بعضهم بعضًا ويستخدم بعضهم بعضًا بذلك تقوم الحياة؛ لو كانت الناس كلها طبقة واحدة لا تستقيم الحياة أبدًا، لا بد من وجود طبقة غنيّة، طبقة تليها، طبقة فقيرة، طبقة تحتها لاصقة بالتراب، لا بد من وجود هذا، هذا نظام رب العالمين؛ لو كانت الناس كله ( شِرْبَتْلي ) من أين لهم السوّاقون والفرّاشون والخدم والكُتّاب والمحاسبون من أين لهم ؟، لا يوجد، لا تستقيم الحياة أبدًا؛ ( شِرْبَتْلي ) جالس في مكان واحد أمواله تشتغل في أماكن كثيرة، هذا مثال، هذا تنظيم من رب العالمين؛ الذي يحاول أن يغيِّر هذا النظام، ويجعل الناس كلهم طبقة واحدة ـ ( شِرْبَتْلي ) ـ لا يمكن أن تستقيم الحياة أبدًا؛ هكذا حاولت الاشتراكيّة أول ما وفدتْ على ( مصر ) وجدتْ بلدًا غنيًّا أثرياء، أثارت الفقراء ضدّ الأثرياء، زعم الفقراء أنهم سوف يكونون مثل هؤلاء الأغنياء تمامًا، قالوا نرفع درجاتكم إلى درجة الأغنياء، صفّقوا، وهَتَفوا، وأخيرًا : نزّلوا الأغنياء وجعلوهم فقراء وسلبوا الأموال؛ لم يستطيعوا أن يجعلوا الناس طبقة واحدة، لا يمكن، مستحيل .(1/102)
هذا الاقتراح من الروافض مثل اقتراح كفّار قريش تمامًا؛ قالوا : لا يجوز ما دام بدأت النبوة في آل محمد - صلى الله عليه وسلم - يجب أن تستمرّ الخلافة فيهم، بل غُلاة الروافض قالوا : الرسالة نفسها ليستْ لمحمد الرسالة لعلي، ولكنّ جبريل غلِط ونزل على محمد، غلط، أوحى إلى محمد، كانت الرسالة الأولى أن تكون لعلي؛ فإذا فاتتْ هذه لا ينبغي أن يفوته ما بعده : الخليفة الأول يجب أن يكون عليّ، ثم تستمرّ في آل البيت؛ وجعلوا النبوّة والخلافة والملك في غير آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمنٌ .
من زعم هذا الزعم واقترح على الله هذا الاقتراح وظنّ هذا الظن لم يقدِّر الله حقّ قدره؛ يعني : معاداتهم لبني أُمية لهذا الغرض : لماذا تحوّلت الخلافة والملك في بني أمية وهم أعداء ـ في زعمهم ـ آل البيت؛ وهذه العداوة هم الذين اختلقوها وسبّبوها؛ الروافض من أشرِّ خلق الله؛ هذه عقيدتهم .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله ـ : ((وهذا مشتقٌّ من قول اليهود والنصارى)) . المقارنة بين اليهود وبين الروافض مقارنة سليمة علميّة، ألفّ في ذلك بعض زملائكم رسالة ماجستير وكنت أنا المشرف عليها، وُفِّق فيها، بيّن تمامًا وجه المقارنة ـ وجه الشبه ـ بين اليهود وبين الروافض؛ ولعلها تُطبع ليستفيد منها طُلاّب العلم .
هؤلاء نسخة طِبْق الأصل من اليهود .
(((1/103)
في قولولـ[هم في ] رب العالمين : إنه أرسل ملِكًا ظالمًا)) . لم يؤمنوا بالنبوّة، عادوا الأنبياء، قتلوا من قتلوا واتّهموا من اتّهموا بأنه ملكٌ ظالم ((فادّعى النبوة وكذب على الله، ومكث زمنًا طويلاً يقول : أمرني [ ربي ] بكذا ونهاني عن كذا، ويستبيح دماء أبناء الله وأحبّائه)) يعني : هذا يحكي كلامهم هم الذين قالوا هذا الكلام؛ وينسخ الشرائع، ويقتِّل، ويستبيح الدماء . هذا الكلام بالمعنى موجود في ((الطحاوية)) في مبحث النبوّة، أنّ إنكار نبوّة رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ طعنٌ في الرب؛ عندما يُنكر الإنسان نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوّة جميع الأنبياء يطعنون في الله من حيث لا يشعرون؛ يأتي نبيٌّ من الأنبياء ويقول أنا نبي، ويُشَرِّع يقول لهم هذا حلال وهذا حرام، ويقاتل من خالفه، وينسخ الشريعة بالشريعة، فيدعوا اليهود والنصارى إلى أن يتّبعوه، وهكذا على معرفتكم بتفاصيل دعوة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ إذا كلُّ ذلك يقع بدون أمرٍ من الله والله يشاهده ويراه ويسمع ويقرُّه على ذلك، بل يؤيِّده بالمعجزات، يؤيِّد ملكًا ظالمًا يقتِّل ويشرِّع وهو يؤيِّده على ذلك؛ إذًا في هذا طعنٌ في الرب ـ سبحانه وتعالى ـ أو إنه غير موجود .
هكذا ادّعت اليهود في الأنبياء وزعموا هذا الزعم، وأخذت الرافضة هذه العقيدة من اليهود .
(((1/104)
والرب ـ تعالى ـ يُظهره ويؤيِّده، ويُقيم الأدلة والمعجزات على صدقه، ويُقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه)) يجعلهم يطيعونه ويصدِّقونه، ((ويُقيم دولته على الظهور والزيادة، ويُذِلُّ أعدائه أكثر من ثمان مائة عام)) وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل كلّ ذلك في نحو ثلاثٍ وعشرين سنة، والأنبياء من قبل في هذه المدَد الطويلة؛ إذًا : من يتّهم الأنبياء بأنهم ملوك ظالمين ـ ليسوا حتى الملوك العادلين، بل من الملوك الظالمين ـ إنما لعدم تقدير الله حقّ قدره : طعنٌ في الرب ـ سبحانه وتعالى ـ أو إنكارٌ لوجوده ـ تعالى ـ .
يقول المؤلِّف : ((فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين سواء)) . أعود مرّة أخرى وأنصح الشباب بقراءة زميلكم : إبراهيم الرحيلي، لعلها فيما بلغي قُدِّمتْ للطبع، إذا طبعت، رسالة مفيدة في هذه النقطة فيما أعلم لا مثيل لها حسْب علمي .
((ولا قدره حقّ قدره من زعم أنه لا يُحيي الموتى ولا يبعث من في القبور ليبيِّن لعباده الذي كانوا فيه يختلفون وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين)) . ) .(1/105)
وبالجملة : فهذا بابٌ واسع . والمقصود : أنّ كلَّ من عَبد مع الله غيره فإنما عَبد شيطانًا قال ـ تعالى ـ : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } ؛ فما عبد أحدٌ أحدًا من بني آدم كائنًا من كان إلا وقد وقعتْ عبادته للشيطان؛ فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله ـ تعالى ـ؛ وذلك غايةُ رضى الشيطان؛ ولهذا : قال ـ تعالى ـ : { ويوم نحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } أي : من إغوائهم وإضلالهم، { وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلْت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلاّ ما شاء الله إنّ ربك حكيم عليم } ( ( ) قال المؤلِّف ـ الإمام المقريزي ـ : ((وبالجملة : فهذا بابٌ واسع)) باب من لا يقدِّر الله حقّ قدره ومن يقدِّره حق قدره، وأنواع الشرك، وأنواع العبادات هذا الباب بابٌ واسع .
((والمقصود : أنّ كلَّ من عَبد مع الله غيره)) سواءٌ كان المعبود ملَكًا أو نبيًّا أو وليًّا أو شجرًا أيًّا كان .
((فإنما عَبد شيطانًا)) . هذا الأسلوب ينبغي التفطُّن له : ( إنما ) للحصْر تُفيد أنه لم يعبد إلا الشيطان؛ يعني : تحليل هذه العبارة : لم يعبد إلا الشيطان؛ وهل الواقع هكذا ما عبد إلا الشيطان ؟، الشخص الذي عبده، والضريح الذي سجد له والذي ذبح له والذي طاف به عبده؛ ما معنى قوله : ((فإنما عَبد شيطانًا)) : إنما عبد شيطانًا في الدرجة الأولى أو بالقصْد الأوّل، بعد ذلك عبد الذي قصد عبادته من شجر أو حجر أو إنسان أو قبْر؛ وقعتْ عبادته أولاً للشيطان .
معنى عبادة الشيطان : طاعته؛ زيّن له عبادة القبر وعبادة شجر أو بقرة أو عبادة أيّ مخلوق فأطاعه، إذًا : أولُ من عُبد الشيطان في هذه القضية ثم عَبد الذي زيّن له؛ لا بد من هذا القيْد .
(((1/106)
قال ـ تعالى ـ : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } )) أي : أن لا تطيعوه؛ عبادة الشيطان ليس السجود للشيطان؛ الشيطان كلُّ الناس تكره حتى الكفار يكرهونه، ولكن يعبدونه وهم يكرهونه، لأنهم لا يعلمون معنى عبادة الشيطان، يحسبون عبادة الشيطان : السجود له دعوته والنذر له، هذا لا يقع لأنه شيطان والناس كلها تكره، لكن يقع الإنسان الجاهل في عبادة الشيطان بالطاعة، إذا أطاعه فقد عبده .
قال الإمام المقريزي : ((فما عَبد أحدٌ أحدًا من بني آدم)) ومن غير بني آدم ((كائنًا من كان إلا وقد وقعتْ عبادته للشيطان)) أولاً قبل أن يعبد الذي قصده بالعبادة ثم بعد ذلك يعبد المعبود .
((فيستمع العابد بالمعبود في حصول غرضه)) . يطلب منه غرضًا؛ إنما يعبده
لغرض : لطلب الصحة، لطلب سعة الرزق؛ قد يُستدرج من باب الاستدراج قد يحصل له ما يطلبه من هذا المعبود، وكثيرًا ما تطلب الناس في الجاهلية المطر من دَوْحة ـ شجرة كبيرة ـ يجتمعون تحتها فيطلبون منها المطر، من الشجرة، قد يرقى فوق الشجرة عِفريتٌ منه فيبول من فوق الشجرة على الناس، فينزل المطر حالاً؛ هذا وقع بالفعل، هذا يسمى استدراج، الله يستدرجهم ـ سبحان الله ـ، هذه واقعة بالفعل . هذا يستمع العابد بالمعبود؛ لأن هذه الشجرة هي مأوى للشياطين، وقد يسكن من يسمون بحُجُب في لغة بعض الناس في بعض الأقطار، هذا الحُجُب مأوى للشياطين، وقد يسكن بعض الدراوشة من شياطين الإنس يسكنون مع شياطين الجن في هذه الحُجُب وحول الأضرحة كالسدنة؛ هؤلاء يستمتعون بمن يعبدهم، والذين يعبدونهم يستمتعون بهم .
((ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله ـ تعالى ـ؛ وذلك غايةُ رضى الشيطان)) . الشيطان رضيَ إذا حصل هذا؛ إذا حصل من الإنسان أنه عظّم مخلوقًا وخاف من مخلوق وعبد مخلوقًا وأشرك بالله مخلوقًا رضيَ الشيطان؛ هذا هو الاستمتاع .
(((1/107)
ولهذا قال ـ تعالى ـ : { ويوم نحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } أي : من إغوائهم وإضلالهم { وقال أوليائهم من الإنس } )) الذين عَبدوهم : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } الإنس استمتعوا بالجن والجن استمتعوا بالإنس { وبلغنا } جميعًا { أجلنا الذي أجّلت لنا } إلى الموت { قال النار مثواكم خالدين فيها إلاّ ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } قال الطبري : المراد بالاستثناء : الفترة فيما بين الحشْر عندما يُبعثون وبين دخولهم النار؛ هكذا قال الطبري .) .
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي كان لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يُغفر بغير التوبة منه، وأنه موجِبٌ للخلود في العذاب العظيم، وأنه ليس تحريمه قُبْحه بمجرّد النهي عنه فقط، بل يستحيل على الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنْ يشرع لعباده عبادةَ إلهٍ غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونُعوت جلاله ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((فهذه إشارةٌ لطيفة)) يشمل ما تقدّم فيما شرحنا الآن أو فيما قبل ذلك .
((إلى السر الذي كان لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يُغفر بغير التوبة منه)) . كل الذنوب ـ ما عدا الشرك ـ تحت مشيئة الله ـ تعالى ـ بالنسبة لمن مات عليها قبل التوبة، جميع المعاصي بما في ذلك : قتْل النفس، إلا الشرك، من مات على الشرك لا يُرجى له دخول الجنة، ولكن من تاب في حياته لا فرق بين أن يتوب من الشرك الأكبر وبين أن يتوب من الصغائر ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له))، ((التوبة تَجُبُّ ما قبلها)) كما أنّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله .
لذلك : ينبغي أن نفهم إذا قيل : الشركة لا توبة له معناه : لمن مات على الشرك قبل التوبة، ولكن لو تاب تاب الله عليه .
(((1/108)
وأنه)) أن الشرك ((موجِبٌ للخلود في العذاب العظيم)) ننبِّه مرّة أخرى : المراد بهذا الشرك : الشرك الأكبر؛ الشرك الذي يوجِب الخلود في العذاب العظيم هو الشرك الأكبر؛ وأما الشرك الأصغر لا يوجِب الخلود فهو من جنس الكبائر الأخرى .
((وأنه ليس تحريمه)) ليس تحريم الشرك ((قبحه قُبحه بمجرّد النهي فقط)) لكونه قبيحًا لمجرّد النهي عنه لا، ليس هذا فقط ((بل يستحيل على الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنْ يَشْرع لعباده عبادة إله غيره)) لأنّ هذا لا يليق به، يتنافى مع كماله؛ ولذلك : كما أنه مستحيل أن يخلق له شريكًا وأن يخلق له صاحبةً وأن يخلق له وزيرًا أو مُعينًا كذلك مستحيل أن يَشْرَع الشرك .
((كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونُعوت جلاله)) . مستحيلٌ على الله : النوم والسِّنَة والموت والعجز، كما أنّ هذه النواقص مستحيلةٌ على الله كذلك يستحيل أن يَشْرع الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لعباده أن يعبدوا إلهًا غيره إذْ لا إله إلا هو .) .
واعلم : أن الناس في عبادة الله ـ تعالى ـ والاستعانة به أقسام :
أجلها وأفضلها : أهل العبادة والاستعانة بالله عليها؛ فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفِّقهم للقيام بها نهاية مقصودهم؛ ولهذا : كان أفضل ما يُسأل الرب : الإعانة على مرضاته، وهو الذي علّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ فقال : ((يا معاذ والله إني أحبك فلا تدع أن تقول في دُبر كلِّ صلاة : ( اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك ) ))؛ فانفع الدعاء : طلب العون على مرضاته ـ تعالى ـ .
ويقابل هؤلاء القسم الثاني : المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إنْ سأله ـ تعالى ـ أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته؛ والله(1/109)
ـ سبحانه وتعالى ـ يسأله من في السموات ومن في الأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلق الله إبليس ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته ومتّعه بها، ولكن لَمّا لم تكن عونًا على مرضاته كانتْ زيادةً في شَقْوَته وبُعده؛ وهكذا كلُّ من سأله واستعان به على ما لم يكن له عونًا على طاعته كان سؤاله مُبْعِدًا له عن الله؛ فليتدبّر العاقل هذا، وليعلم أنّ إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليستْ لكرامته عليه بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه ويكون منعه منها حماية له وصيانة والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة ( ( ) قال الإمام المقريزي رحمه الله ـ انتبهوا لهذه النقطة مهمة جدًّا ـ : ((واعلم : أنّ الناس في عبادة الله ـ تعالى ـ والاستعانة به أقسام)) . العبادة والاستعانة على العبادة؛ في هذا الباب الناس أقسام : ((أجلها)) ولعلّ تأنيث الضمير باعتبار معنى الجمع في الناس، أو أجلُّ تلك الطوائف ((وأفضلها : أهل العبادة والاستعانة عليها)) أفضل الناس وأجلُّ الناس، وأفضل هذه الأقسام، وأجلُّ هذه الأقسام من بني آدم ـ أو من الناس، أو من العباد ليدخل الجنس ـ : ((أهل العبادة وأهل الاستعانة عليها)) الذين يعبدون الله ـ تعالى ـ وحده، ثم يستعينون بالله ـ تعالى ـ على هذه العبادة، ويعلمون أنهم لا حول لهم ولا قوّة، ولا يستطيعوا أن يعبدوا الله حقّ العبادة ويُخلصوا العبادة إلا بعونٍ من الله؛ يعبدون الله ـ تعالى ـ ويطلبون العون من الله؛ هذا الصنف وهذا القسم أشرف الناس وأفضل الناس وأجلُّ أقسام الناس .
((فعبادة الله ـ تعالى ـ غايةُ مرادهم)) . مرادهم في هذه الحياة : عبادة الله، ليكونوا عبيدًا له وحده، ليس فيهم شَرِكة، عبادًا صادقين ومخلصين .
(((1/110)
وطلبهم منه)) من الله ـ تعالى ـ ((أن يعينهم عليها)) يجتهدون في العبادة بتوفيق الله ـ تعالى ـ، ثم يطلبون من الله أن يعينهم عليها، إذْ لا يستطيعون أن يعبدوا الله حقّ العبادة إلا بعون الله ـ تعالى ـ .
((ويوفِّقهم للقيام بها نهاية مقصودهم)) . هذا نهاية مقصودهم؛ غايةُ مرادهم : العبادة، ونهاية مقصودهم : طلب العون وطلب التوفيق .
((ولهذا كان أفضلُ ما يُسأل الرب ـ تعالى ـ : الإعانة على مرضاته)) . هذا أفضل ما يُطلب من الله : الإعانة على مرضات الله ـ تعالى ـ على ما يرضي الله .
((وهو الذي علّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل فقال : ((يا معاذ والله إني أحبك)) )) هذا التوكيد في الجملة الاسمية أولاً بالنداء ثم القسَم ثم ( إن ) التي للتوكيد : ((يا معاذ)) هذا النداء لإثارة انتباهه لينتبه، ثم قال : ((والله)) أقسم بالله، وأكّد الجملة التي بعد القسم : ((والله إني أحبك))؛ هذه المقدِّمة تجعل الإنسان ينتبه كلَّ الانتباه؛ ماذا يقول له
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
((فلا تدع أن تقول في دُبُر كلِّ صلاة : ( اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكْرك وحُسْن عبادتك)) . دعاءٌ جامع؛ والذي أَمر به معاذ نحن مأمورون به، أي : مشروع ومطلوب من كلِّ مُصَلٍّ أن يقول بعد كلِّ صلاة ـ دُبُر كلِّ صلاة ـ : ((اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))؛ الذكر يشمل ذكر القلب وذكر اللسان، وإنما يكون الذكر نافعًا إذا كان جامعًا بين القلب وبين اللسان، أو ـ الدرجة الثانية ـ : ذكر القلب؛ أما ذكر اللسان تكرار عبارة لا يعقل ولا يحضِّر قلبه تجري على لسانه هذا ذكرٌ غيرُ نافع؛ إنما يكون الذكر نافعًا إذا ذكرت الله بلسانك وقلبك، أو بقلبك؛ جالسٌ مع الناس وأنت في عملك تستحضر عظمة الله وإنعامه عليك ...؛ هذا ذكر .(1/111)
ليس الذكر مجرّد ألفاظ يكرِّرها الإنسان؛ التذكُّر أن لا تكون غافلاً عن الله، وأن تكون حاضرًا، ويكون الرب ـ سبحانه وتعالى ـ ... ؛ هذا ذكر القلب؛ وإذا اجتمع معه ذكر اللسان فقد كمُل؛ ولكن ذكرُ اللسان وحده قد تكون له آفة وربما ـ كما يقول بعض أهل العلم ـ : الاستغفار من الغافل ربما يحتاج إلى استغفار ... أن يستغفر على غفلته؛ كيف يذكر اسم الله ويقول : استغفر الله، رب اغفر لي وهو غافل ؟، كالمستهزئ ـ الله المستعان ـ .
هذا يُدركه من رزقهم الله ـ تعالى ـ قلبًا حيًّا .
قال الإمام المقريزي : ((فأنفع الدعاء : طلب العون على مرضاته ـ تعالى ـ)) لأنك بهذا تُظهر فقرك، بأنك فقيرٌ محتاجٌ إلى الله، لا تستطيع أن تعبده وتأتي بمرضاته إلا بتوفيقه ـ إلا به ـ؛ أنت بالله وحده؛ إذا أدركت هذا المعنى ووصلت إلى هذه الدرجة وأنت على خير .
لذلك : هذا الصنف من أشرف أقسام بني آدم وأفضلهم .
ثم قال الإمام المقريزي : ((ويقابِل هؤلاء القسم الثاني المعرِضون عن عبادة الله والاستعانة به؛ فلا عبادة لهم ولا استعانة)) يعيشون في هذه الحياة حياةً تُشبه حياة الحيوان : التمتُّع بالمأكولات والمشروبات وما يتبع ذلك من ملاذ الحياة لا عبادة ولا استعانة .
((بل إنْ سأله ـ تعالى ـ أحدهم)) أحدٌ من هؤلاء الغافلين المعرضين ((واستعان به فعلى حظوظه وشهواته)) إنْ تصدّق يتصدّق ليوسِّع الله عليه في رزقه ويحفظ له أولاده، إن طلب الدعاء من أحد يقول : ادع الله لي، فيطلب منه أن يدعوَ الله له في مصالحهه الدنيوية، وإن طلب هو من الله إنما يطلب شيئًا من حظِّ الدنيا؛ ليس هو العبادة، ولا هو طالب العون من الله ـ تعالى ـ؛ إذًا : معرضٌ عن الله ـ تعالى ـ كلَّ الاعراض .
(((1/112)
والله ـ سبحانه وتعالى ـ يسأله من في السموات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه فيُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء)) . رحمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في هذه الدنيا يتمتّع بها الكافر والمسلم جميعًا؛ ما نراه من سعة الزرق والسلامة وطيب الحياة للجميع للكفّار والمسلمين أثرٌ من آثار رحمة الله ـ تعالى ـ؛ الكلُّ يتمتّع برحمة الله ـ تعالى ـ في هذه الدنيا، الكلُّ يطلب طلبه يعطي ـ إنْ شاء ـ طلبه سواءٌ كان من أوليائه أو من أعدائه؛ بمعنى : كونُ الإنسان يطلُب طلبًا فيُجيب الله دعوته فيُعطيه طلبه ليس دليلاً على أنه من أولياء الله ـ تعالى ـ .
((وأبغض خلق الله إبليس ومع هذا أجاب الله سؤاله)) لَمّا طلب منه المُهْلة، ((وقضى حاجته)) ومتّعه في هذه الدنيا .
((ولكن لَمّا لم تكن عونًا على مرضاته كانتْ زيادةً في شِقْوته وبُعده)) فهذا النوع يسمى استدراجًا؛ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول بعضُ السلف : إذا أنعم الله على العبد ووسّع عليه وهو مقيمٌ على المعصية فليخف بأن هذا استدراج؛ ليستْ نعمة ولكنها نقمة، استدراج من الله، يستدرجهم ليزدادوا ضلالاً على ضلال، ويزدادوا بذلك بُعدًا من الله
ـ تعالى ـ؛ هكذا ينبغي أن ينتبه الإنسان لنفسه ... فكلُّ إنسان يراجع نفسه : هل مع هذه التوسعة نحن على مرضاة الله فيكون هذه التوسعة وهذا العطاء نعمة من الله
ـ تعالى ـ وعونًا منه على طاعته؛ وإنْ كانت الأخرى كأن يكون الإنسان معرِضًا مقيمًا على البدع وعلى المعاصي ... الله يوسِّع عليه، فليُدرك بأنه مستدرج .
(((1/113)
وهكذا كلُّ من سأله ـ تعالى ـ واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته كان سؤاله مُبْعِدًا له عن الله [ تعالى ])) وهذا ... الاستدراج ((فليتدبّر العاقل هذا)) العاقل ينظر ويراجع صفحات أعماله ... أحسن حالاً من أغنى ـ أو من أوسط ـ سلفنا ( كان قوت آل محمد كفافًا )؛ عاش النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذه المدينة قد يحتاج إلى الطعام ولا يوجد في بيته، وقد يطلب ولا يجد، قد لا توقَد النار في بيته أيّامًا، وقد يكتفون بالأسودين الماء والتمر؛ قارنوا بين تلك الحياة وبين ما نحن فيه الآن، بين أقلِّنا حظًّا في الدنيا الآن؛ لذلك : كان بعض السلف إذا وسّع الله عليه يخشى أن تكون هذه نعمة معجَّلة يُحرم بها نعيم الآخرة؛ ونحن أولى بهذا الخوف؛ أولئك ... هو الذي حملهم على هذا ... أن تكون نعم معجَّلة تؤثِّر في حياة الآخرة ـ الله المستعان ـ .
((وليعلم : أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليستْ لكرامته عليه)) كما تقدّم في قصة إبليس ((بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه)) يجعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ قضاء حاجته سببًا لهلاكه، ((لا يهلك على الله إلا هالك)) .
((ويكون منعه منها)) من حاجته، إذا أراد الله به رحمة ((حمايةً له وصيانة)) والعبد لا يعلم؛ لذلك : شُرعت الاستخارة، لأنك لا تعلم الشيء الذي تريد [ أن ] تفعله أو لا تريد لا تدري ما الخير، شُرعتْ لنا الاستخارة لتطلب الخير من الله، لأنك لا تعرف، ولذلك نهينا عن تمنِّي الموت، وإنما تطلب إنْ كانت الحياة خيرًا لك أن يحييك وإنْ كانت الوفاة خيرًا أن يميتك، لأنك لا تدري عن العاقبة .
ولذلك : هذه النقطة : ((قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حمايةً له وصيانة)) ولكنّ العبد لجهله ربما يتضايق أنا يا رب طلبت منك الحاجة الفلانية والطلب الفلاني لم أُعط، قد يتضايق .
((والمعصوم من عصمه الله ـ تعالى ـ والإنسان على نفسه بصيرة)) .) .
[(1/114)
هنا نقص : شرحُ حوالي 12 صفحة غير موجودة في ضمن الأشرطة ]
وهؤلاء هم أهل التعبُّد المطلق؛ والأصناف التي قبلهم أهل التعبُّد المقيّد؛ فمن خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلّق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وزل عن عبادته فهو يعبد الله ـ تعالى ـ على وجهٍ واحد .
وصاحب التعبُّد المطلق ليس له غرض في تعبُّدٍ بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبُّع مرضاة الله ـ تعالى ـ : إنْ رأيت العلماء رأيته معهم، وكذلك في الذاكرين، والمتصدِّقين، وأرباب الجمعيّة وعُكوف القلب على الله .
فهذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله بكلِّ طريق والوافد عليه مع كلِّ فريق ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وهؤلاء هم أهل التعبُّد المطلق)) هؤلاء الصنف الثالث الذين لا يتقيّدون بعبادة معيِّنة أو بحالة معيَّنة أو بوقت معيّن وبمكان معيّن، إنما يتتبّعون مرضاة الله ـ تعالى ـ، سواءٌ كانت العبادة قاصرةً أو متعدِّية طالما هناك مرضاة الله ـ تعالى ـ، يتتبّعون مرضاة الله؛ هؤلاء هم أهل التعبُّد المطلق، لم يقيِّدوا أنفسهم؛ لأن العبد طالما هو عبدٌ لله لا يجوز أن يقيِّد نفسه أو يتقيّد بعبادة لم يُقيَّد بها شرعًا وبحالة لم يقيَّد بها أو بمكان لم يقيَّد بها .
((والأصناف التي قبلهم أهل التعبُّد المقيِّد)) هم الذين قيّدوا أنفسهم، لم تقيِّدهم الشريعة .
((فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلّق به)) . اختار ـ مثلاً ـ الصيام ـ فرعٌ من فروع العبادة ـ ((وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته)) بمجرّد تركه لفرع من الفروع؛ لكن أصحاب التعبُّد المطلق إذا تركوا هذا الفرع لينتقلوا إلى فرعٍ آخر نادى منادي الجهاد ولبّى وترك إتمام الصلاة وترك قيام الليل وترك الصيام لأجل الجهاد، فهو متتبِّعٌ لمرضاة الله لا يرى في ذلك غضاضة، لكنّ الذي يتعبّد بعبادة مقيّدة(1/115)
ـ قيّد نفسه ـ ربما يعتذر عن الجهاد يقول : لا، أنا أواصل الصيام، الجهاد يمنعني عن الصيام فيعتذر، هذا خطأ .
((فهو يعبد الله ـ تعالى ـ على وجهٍ واحد)) وفي حالة واحدة معيّنة .
((وصاحب التعبُّد المطلق ليس له غرضٌ في تعبُّد بعينه)) لأنه يرى من فقهه أنه لا يجوز له أن يقيِّد نفسه من عند نفسه لا بزمان ولا بمكان ولا بحال ولا بفرعٍ معيّن، لا يرى ذلك، يؤثره على غيره .
((بل غرضه : تتبُّع مرضات الله ـ تعالى ـ)) حيث ما توجَد مرضات الله يتتبّع .
((إنْ رأيت العلماء رأيته معهم)) يؤدِّي ما يؤدِّي العلماء من نشر العلم ونُصح الناس والبيان إنْ كان من أهل العلم .
((وكذلك في الذاكرين)) إذا وجدت الذاكرين الذين يذكرون الله ـ تعالى ـ يتلون كتاب الله ويتذاكرون فيما بينهم ماضي حياتهم ـ كما كان الصحابة يفعلون : كنا كذا وكذا أخرجنا الله إلى هذا النور ـ هذا من ذكر الله .
ليس المراد بذكر الله ذكر الصوفية : مجالس يسمونها مجالس الذكر، يجتمعون فيه على الأذكار المبتَدعة، كأن يذكروا الله ـ تعالى ـ بلفظ الجلالة أو بضمير هو؛ إذا قيل : مجالس الذكر عند الصوفية هو هذا المجلس؛ هذا خطأ، تصوُّرٌ خاطئ؛ ويعيبوا على من لا يحضر هذه المجالس قالوا : هذا من الجُفاة لا يحضر مجالس الذكر؛ وإنْ حضرتَ
ماذا تسمع ؟، : ( الله، الله، الله )، وربما يزيدوا إذا نشطوا كثيرًا : ( اللحْ، اللحْ، اللحْ )(1/116)
ـ يحوِّلوا الهاء إلى حاء ـ : ( حالله، حالله، حالله )؛ ناسٌ كبارٌ بهيئتهم يفعلوا هذا الفعل؛ وهذا يسمونه ذكر الخاصة؛ والذكر الذي سمّاه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل الذكر : ((أفضلُ ما قتله أنا والنبيُّون قبلي : ( لا إله إلا الله ) ... )) إلى آخره؛ هذا الذكر عند الصوفية يسمونه ذكر العامّة، يعني : يترفّعون عن هذا الذكر إذا وصلوا إلى درجة من الدرجات ـ في زعمهم ـ؛ عندما يبدأ الذاكر بذكر يبدأ بذكر العامّة، ثم ينتقل من ذكر العامّة إلى ذكر الخاصّة بأن يقتصر على لفظة الجلالة مع التحريف ـ أحيانًا ـ، ثم ينتقل من ذكر الخاصة إلى ذكر خاصّة الخاصّة : ذكرُ الله ـ تعالى ـ بضمير الغيبة :
( هُوَ، هُوَ )، ( يا من لا هو إلا هو )؛ ( هُوَ ) ليس من أسماء الله ـ تعالى ـ، ( هو ) ضمير الغيبة يصلُح لأيِّ أحد : هو هذا، هو ذاك، حتى الجمادات تقول له : هو؛ ليس من أسماء الله ـ تعالى ـ؛ لكنّ القوم حرّفوا تحريفًا في باب العبادة، جعلوا لفظ الجلالة اسمًا من أسماء الله ـ تعالى ـ بل من أفضل الأسماء حيث جعلوا ضمير الغيبة ( هو ) ذكر خاصة الخاصّة؛ يقيِّدون أنفسهم بهذا .
وعندما يقول الشيخ : ((وكذلك في الذاكرين)) عند الصوفية هذا هو المراد : مجالس الذكر؛ لكنّ الذاكرون عند أهل السنة والجماعة : التّالون لكتاب الله من أفضل الذاكرين لأن القرآن أفضلُ الذكر، وكذلك الذين يذكرون الله ـ تعالى ـ بالأذكار المأثورة كالتهليل والتحميد والتسبيح والاستغفار والصلاة على النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يجلسون مجالسهم بعد صلاة الفجر ـ مثلاً ـ يذكرون الله ـ تعالى ـ بهذه الأذكار تراه معهم، فهو من هذا الصنف؛ ليس معنى ذلك يختلط بهم ويجلسون جلسة خاصّة بذكر جماعي لا، غيرُ وارد .
((والمتصدِّقين)) وإذا رأيت المتصدِّقين رأيته مع المتصدِّقين إنْ كان من أصحاب المال يتصدّق من ماله وإلاّ يتصدّق بالتسبيح والتكبير والتهليل، هذه من الصدقة؛ صدقة(1/117)
الفقراء : ذكرُ الله ـ تعالى ـ .
((وأرباب الجمعية وعُكوف القلب على الله)) هذا التعبير في النفس منه شيء : جعل الجمعية قسمًا مستقلاًّ؛ لا، ليستْ هناك جمعية مستقلّة، هذا ليس بسليم، بل الجمعية تلازِم الإنسان الذي يراقب الله ـ تعالى ـ، الجمعية تلازمه في كلِّ عمله : وهو يقرأ القرآن، وهو يطلب العلم، وهو يعلِّم، وهو يصلي، وهو يجاهد، فهو في جمعيّته؛ لأن الغرض من الجمعية : جمعُ القلب على الله، ومعنى جمع القلب على الله : مراقبة الله
ـ تعالى ـ وعدم الغفلة، هذه حقيقة الجمعيّة .
إذًا : الجمعية ليستْ حالة مستقلة أو صورة مستقلّة من صور العبادة، بل الجمعية تلازم جميع العبادات .
قال الشيخ ـ رحمه الله ـ : ((فهذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كلِّ طريق)) فهو يغذي نفسه وروحه وهو سائرٌ إلى الله في كلِّ طريق : إنْ تيسّر له الجهاد في الجهاد، إن تيسّر له طلب العلم النافع، تعليم العلم، القرآن، الصيام، الصلاة، الدعاء .
((والوافد عليه مع كلِّ فريق)) . يفد على الله مع الذاكرين، مع الصائمين، مع المصلِّين، مع المجاهدين؛ فهو موجود مع كلِّ فريق، لأنه لا يقيِّد نفسه بنفسه، الله لم يقيِّده بل وسّع عليه، وفتح عليه أبواب الخير أبواب العبادة .) .
وأستحضر هنا حديث أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضوره : ((هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكينًا ؟))، قال أبو بكر : أنا، قال : ((هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائمًا ؟))، قال أبو بكر : أنا، قال : ((هل منكم أحدٌ عاد اليوم مريضًا))، قال أبو بكر : أنا، قال : ((هل منكم أحدٌ تَبِعَ اليوم جِنازة ؟))، قال أبو بكر : أنا ... الحديث .(1/118)
هذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل : حدثنا [ يَغْنَم ] بن سالم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في جماعة من أصحابه فقال : ((من صام اليوم ؟)) قال أبو بكر : أنا، قال : ((من تصدّق اليوم ؟)) قال أبو بكر : أنا، قال : ((من عاد اليوم مريضًا ؟)) قال أبو بكر : أنا، قال : ((من شهِد اليوم جِنازة ؟)) قال أبو بكر : أنا، قال : ((وجبتْ لك)) ـ يعني : الجنة ـ . و[يَغْنَم ] بن سالم وإن تُكلِّم فيه لكن تابعه سلمة بن وَرْدان .
وله أصلٌ صحيح من حديث مالك عن محمد بن شِهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((من أنفق زوجين في سبيل الله نوديَ في الجنة : يا عبد الله هذا خيرٌ؛ من كان من أهل الصلاة نوديَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد نوديَ من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعيَ من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعيَ من باب الريّان))، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله ما على مَنْ يُدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من هذه الأبواب كلها ؟، قال : ((نعم؛ وأرجو أنْ تكون منهم)) . هكذا رواه عن مالك مسنَدًا عنه عن يحيى بن يحيى ومعْن بن عيسى وعبد الله بن المبارك .
ورواه يحيى بن بُكير وعبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حميد مرسَلاً؛ وليس هو عند القَعْنَبي لا مرسَلاً ولا مسنَدًا .
ومعنى قوله : ((من أنفق زوجين)) يعني : شيئين من نوعٍ واحد نحو : درهمين أو دينارين أو فرسين أو قميصين، وكذلك : من صلّى ركعتين أو مشى في سبيل الله
ـ تعالى ـ خطوتين أو صام يومين ونحو ذلك . وإنما أراد ـ والله أعلم ـ : أقلّ التكرار وأقلّ وجوه المداومة [ والمداومة ] على العمل من وجوه البِر لأن الاثنين أقلُّ الجمع .(1/119)
فهذا كالغيث أين وقع نفع، صحب الله بلا خلْق، وصحب الخلق بلا نفس، إذا كان مع الله عزل الخلائق من البَيْن تخلّى عنهم، وإذا كان خلقه عزل نفسه عن الوسط وتخلّى عنها؛ فما أغربه بين الناس، وما أشدّ وِحْشته منهم، وما أشدّ أُنسه بالله وفرحه به وطُمأنيته وسكونه إليه ( ( ) هذا الحديث الطويل الذي قال المعلِّق [ تنبيه : المعلِّق هنا ليس هو الشيخ طه ـ الطابع ـ ] في الهامش : ((أخرجه بنحوه مسلم ... )) إلى آخره . الحديث الذي أخرجه مسلم هو الذي أتى به أخيرًا، ليس بهذا اللفظ ولكنّه يشير إلى أنّ أصله عند مسلم والنسائي وغيرهما؛ أما بهذا اللفظ وبهذه الصيغة ليس من رواية مسلم، ورواية مسلم هي التي تأتي بعد هذا .
يقول : ((أستحضر هنا : حديث أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - ... )) وساق الحديث .
قال : ((هذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل : حدثنا [ يغنم ])) في التعليق عندكم : ((الصحيح : يَغْنَم؛ وصُحِّف إلى ( نعيم ) في الموضعين)) في هذا الموضوع والموضع الآخر في الصفحة المقابلة .
((قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في جماعة من أصحابه، فقال : ((من صام
اليوم ؟)) قال أبو بكر : أنا، قال : ((من تصدّق اليوم ؟)) قال أبو بكر : أنا ... )) إلى أخره؛ هذا الحديث يقول في التعليق : ((رواه بهذا الاسناد : ابن عبد البر في ((التمهيد)) في المجلّد السابع)) ـ راجع ـ، ثم تكلّم في سند الحديث كما ترون؛ وهذا يَغْنم الذي دافع عنه كثيرًا ليس بهذه الدرجة، وقد قيل فيه : إنه شيخٌ يضعُ الحديث؛ لذلك : هذا الحديث الطويل الذي فيه يَغْنم ليس من رواية مسلم، بل الحديث ـ وإن كان معناه صحيحًا بالجملة حيث يشهد له حديثٌ آخر ـ لكنه في حدِّ ذاته غيرُ صحيح .
(((1/120)
وله أصلٌ صحيح من حديث ملك عن محمد بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - )) . في الحديث الأول قال : ((من عاد اليوم مريضًا ؟)) قال أبو بكر : أنا، قال : ((من شهد اليوم جنازة ؟))، قال أبو بكر : أنا، قال : ((وجبتْ لك)) يعني : الجنّة . لا يُستغرب هذا من أبي بكر - رضي الله عنه - { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ؛ إنما الشأن كلُّ الشأن في صحّة الحديث .
((أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((من أنفق زوجين في سبيل الله نوديَ في الجنة : يا عبد الله هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة نوديَ من باب الصلاة)) )) بمعنى : في الجنة بابٌ خاصٌّ بالمصلِّين، والمراد : المكثرون من الصلاة ليس أداء الفرائض فقط، بل في هذا : حثٌّ على الإكثار من نوافق الصلاة .
((ومن كان من أهل الجهاد نوديَ من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعيَ من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعيَ من باب الريّان)) بابٌ خاصٌّ للصائمين الذين يؤدُّون الفرائض، ويُكثرون من نوافل الصيام، يُدعون من باب الريّان .
((فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله ما على من يُدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من هذه الأبواب كلها ؟، قال : ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)) )) . هذا ثابت . رضي الله عنه . وهذا الحديث جاء ليستدلّ به على أنّ العابد الصحيح الموفٌّق لا يقيِّد نفسه، كلّ عمل يستطيع أن يعمل يعمل، لديه مال يتصدّق، ليس لديه مال يُكثر من الأذكار كالتسبيح والاستغفار والتكبير والتهليل، لديه شيءٌ من العلم يُنفِق، ويشتغل بتعلُّم العلم النافع الواجب العلم الضروري لأن العلم الضروري واجبٌ من الواجبات، ويجاهد إذا وجب الجهاد، ويعمل، وبرُّ الوالدين، والإحسان إلى الوالدين، وغير ذلك أعمال الخير كثيرة، وهذه أمثلة فقط .(1/121)
ثم قال ـ إلى آخر كلامه على سند الحديث، مع أنه يشير إلى أن هذا الحديث كذلك في ((الموطأ)) مرسَلاً، لكن كون في ((الصحيحين)) يغني هذا ـ : ((وليس هو عند القَعْنَبي لا مرسَلاً ولا مسندًا)) يعني : من نسخ ((الموطأ)) .
((ومعنى قوله : ((من أنفق زوجين)) يعني : شيئين من نوع واحد)) يعني : مَنْ أكثر، الغرض الإكثار، وأقلُّ الكثرة اثنين كأنْ ينفق ((درهمين)) يعني : ريالين، ((أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين)) عمامتين، طاقيتين، ((وكذلك من صلّى ركعتين أو مشى في سبيل الله ـ تعالى ـ خطوتين)) إلى المساجد، لعيادة المريض، اتّباع الجنازة، للجهاد، ((أو صام يومين، ونحو ذلك)) يعني : داوم على عمل من نوعٍ واحد؛ ((وإنما أراد ـ والله أعلم ـ أقلَّ التكرار)) يعني : أقلّ الجمع، ((وأقل وجوه المداومة)) أو أراد أقلّ وجوه المداومة
ـ أقلّ الجمع ـ وأقلُّ الجمع : اثنين، وقيل : ثلاثة .
(((1/122)
والمداومة على العمل من أعمال البر لأن الاثنين أقلُّ الجمع)) لأنّ خير العمل : ما دام عليه صاحبه وإنْ قلّ؛ كونُ الإنسان يصوم ويترك، يصلِّي الضحى يومين ثلاثة يترك، يصوم يومين ثلاثة الاثنين والخميس يترك؛ هذا غير صالح، إنما لو صام يومًا واحدًا وواظب عليه، ولو يصلي ركعتين من الضحى ويواظب عليهما بدلاً من أنْ يُكثر : خير العمل : ما دام عليه صاحبه وإنْ قلّ؛ ينبغي أن يعوِّد الإنسان نفسه على المداومة على العمل إذا بدأ؛ وكذلك طلب العلم لا ينبغي أن تطلب تنشط أسبوع أسبوعين شهر شهرين ثم تملّ تمشي تقول : تعبنا، لا، داوِمْ، وخصوصًا في وقت شبابك وفراغك، الشباب والفراغ نعمتان عظيمتان لا يقدِّرهما إلاّ من فقدهما، من فقد شبابه وفقد فراغه هو الذي يقدِّر هاتين النعمتين، نعمتين عظيمتين؛ نعمة الصحة كذلك، نعمة الصحة ونعمة الفراغ، ونعمة الشباب؛ هذه نعم نذكِّركم بها لأنكم في وسطها لتغنموها وتستغلوها ولا تضيِّعوها؛ فوُجود من يعلِّمكم ما تحتاجون إليه بكثرة، ممكن ترتِّبوا لكم دروسًا عدّة أشخاص من المعلِّمين والمدرِّسين والمشايخ ما أكثرهم، في بيوتهم في مساجدهم في المسجد النبوي في كلِّ مكان؛ الجمع بين مواد عِدّة بإمكانكم الآن؛ وأن تستغلوا هذه الفرصة، هذه فرصة عظيمة، مضى على العلماء حيث يبحثون عن عالم واحد، لا يجتمع في بلد واحد علماء كما يجتمع الآن، ولكن لَمّا اجتمعوا في مكان واحد في بلد وربما في مسجد واحد صار طلاب العلم لا يستفيدون منهم؛ كان العلماء في قلّة والناس تطلب؛ وأنتم قرأتم رحلات المشايخ رحلات العلماء إلى صنعاء إلى كذا إلى كذا لطلب العلم لطلب حديث واحد، يقال في صنعاء عبد الرزاق، يقال في كذا هنا الإمام الأوزاعي، يُذكر إمام واحد عالمٌ واحد في البلدة يرحلون إليه؛ والآن كم عندكم من المدرِّسين فيما تحتاجون إليهم في جميع المواد؛ احرصوا كلَّ الحرص ـ الله المستعان ـ .
(((1/123)
فهذا)) المشار إليه : الصنف الرابع ((كالغيث أين وقع نفع)) العُبّاد بالعبادة المطلقة كالغيث أينما وقع نفع كما تقدّمت الأمثلة : مع الذاكرين، مع العلماء، مع المتصدِّقين، مع المجاهدين .
((صحب الله)) هذا الصنف ((بلا خلق)) تركوا الخلق فصحبوا الله بالمراقبة الصادقة .
((وصحب الخلق بلا نفس)) أي : بأجسادهم : يكونون مع الخلق إذا اختلطوا بالناس يكونون معهم بأجسادهم، ولكن بأرواحهم وقلوبهم مع الله؛ مخالطة الناس ومجالسة الناس لا تشغلهم عن الله، أي : لا يعتزل الناس في المخالطة لكون يريد أن يصاحب الله، هذا يفعله أمثالنا الإنسان الضعيف التي تشغله المخالطة والمحادثة مع الناس، لكن إذا وصلوا إلى هذه الدرجة ـ إذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة ـ قد يكون مع الناس طول وقته، ولكن هذه المجالسة مع الناس ـ أو المخالطة ـ لا تشغله عن الله، بل هو بقلبه مع الله يراقبه ويتذكّر إنعامه وإفضاله لا ينساه .
((إذا كان مع الله عزل الخلائق من البيْن)) أي : بحسن المراقبة والتعلُّق بالله وإنْ هو معهم بجسده . ((وعزل الخلائق من البين)) أي : من بينه وبين الله، لا يحول الخلق بينه وبين الله، حديث الناس والكلام مع الناس والأنس مع الناس لا يشغله عن الله ـ تعالى ـ .
((وتخلّى عنهم)) وهو معهم بجسده، لكنه ليس معهم بقلبه . ((وتخلّى عنهم)) بل ذلك يشغله عن الخلق، وهو ليس معهم إلا بجسده .
((وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط)) أي : يسعى في نفع عباد الله، لا يكون أنانيًّا يسعى لمصلحته الخاصّة، بل ينسى نفسه ويؤثر عباد الله على نفسه؛ هذا معنى
قوله : ((إذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط)) أي : من الوسط من بين وبين عباد الله؛ ينفع عباد الله بما يستطيع أن ينفعهم به، ولا تشغله مصلحته الخاصة عن نفع
عباد الله ـ تعالى ـ .
((وتخلّى عنها)) تخلى عن نفسه، آثر غيره على نفسه، وتركها .
(((1/124)
فما أغربه بين الناس)) وما أقلّ وجوده، ما أقل وُجود هذا الصنف بين الناس خصوصًا في الوقت الحاضر؛ غريبٌ جدًّا وقليلٌ وجوده .
((وما أشدَّ وحشته منهم)) وهو جالسٌ معهم لكنه مستوحشٌ منهم لأنهم يخوضون في أحاديث الدنيا : في البيع والشراء في أشياء كثيرة؛ فهو مستوحش من هذا الكلام، لكنه يضطّر أن يجالسهم مستوحشًا منهم ومستأنسًا بربه ـ سبحانه وتعالى ـ .
لذلك قال : ((وما أعظم أُنسه بالله [ تعالى ] وفرحه به)) هذا ما يُدرك إلا بالذوق؛ هذا كلام ابن القيِّم لأنه ذاق ولذلك يشرح هذا الشرح؛ نحن علينا أن ننقل العبارات فقط، ولكن هو يتكلّم عن ذوقه وإدراكه .
((وطُمأنيته وسكونه إليه [ تعالى ])) { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } .) .
واعلم : أن في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طُرُقًا أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف :
الصنف الأول : نُفاة الحِكَم والتعليل الذين يردُّون الأمر إلى نفس المشيئة وصِرْف الإرادة؛ فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرّد الأمر من غير أن يكون سببًا لسعادة في معاش ولا مَعاد ولا سببًا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرّد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق : لم يُخلق لغاية ولا لعلة هي المقصودة به ولا لحكمة تعود إليه منه، وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبِّباتها، وليس في النار سببٌ للإحراق، ولا في الماء قوّة الإغراق ولا التبريد؛ وهكذا الأمر عندهم سواء لا فرق بين الخلق والأمر، ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور ولكنّ المشيئة اقتضتْ أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أنْ يقوم بالمأمور صفة تقتضي حسنه ولا بالمنهي عنه صفة تقتضي قبحه .
ولهذا الأصل لوازم فاسدة وفُروعٌ كثيرة .(1/125)
وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها ولا يتنعّمون بها، ولهذا يسمّون الصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف أي : كُلِّفوا بها؛ ولو سمّى مدعي محبة ملك [ من ] الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا لم يُعَدَّ محبًّا له؛ وأولُّ من صدرتْ عنه هذه المقالة : الجعد بن درهم ( ( ) انتبهوا ! هذا الكلام يحتاج إلى فهم خاص : ((واعلم : أنّ للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقًا أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف)) . ((في منفعة العباد)) أي : ما يعود على العباد من النفع من عبادته وأعمالهم من الثواب، وحكمة مشروعية تلك العبادة، ومقصود العبادة؛ هل لمشروعية العبادة حكمة ؟، وهل هناك شيءٌ مقصود غرضٌ مقصود ؟ ؛ يختلفون اختلافًا لهم ((وهم في ذلك أربعة أصناف)) :
((الصنف الأوّل : نُفاة الحِكَم)) شكِّل هكذا ( حِكَم )، ليس ( حُكْم )، ( حِكَم ) جمع ( حكمة ) .
((نفاة الحِكَم والتعليل)) الذين يزعمون بأنّ الأوامر والنواهي وبأن تشريع هذه العبادات ليس لها حِكَم ولا هناك علّة؛ بمجرّد تعلُّق الإرادة لذلك حصل ما حصل؛ الخلق نفسه ـ خلق الله للعباد ـ ليس للخلق حكمة ـ أو علّة ـ، وليس لتشريع الشريعة حكمةٌ أو عِلّة؛ وفعل الله لا يعلَّل عندهم؛ هذه قاعدة : (فعل الله لا يُعَلَّل) أي : يفعل الله ـ سبحانه ـ ما يفعل بمجرّد تعلُّق الإرادة الكونية بذلك الفعل يحصُل المفعول سواءً كان مأمورًا به أو منهيًّا عنه؛ هذه طريقة الأشاعرة؛ من هنا تفهمون ما يسمى بـ( كسب الأشعري ) .
((الذين يردُّون الأمر)) أمر الله بالعبادة، أو أمره ونهيه وتشريعه، يردُّون إلى نفس المشيئة، لتعلُّق المشيئة بذلك حصل لا لحكمة .
(((1/126)
إلى نفس المشيئة وصِرْف الإرادة)) الإرادة الصِّرْفة الخالصة؛ هذا معنى الصِّرْف، ليس الصَّرْف . المراد بالإرادة : الإرادة الكونية بمعنى المشيئة؛ أي : للإرادة الصِّرْفة الخالصة؛ بمجرّد تعلُّق الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة الخالصة حصل ما حصل .
((فهؤلاء عندهم القيام بها)) القيام بهذه العبادة ((ليس إلا لمجرّد الأمر)) إنما يقوم العباد بهذه العبادة لمجرّد الأمر فقط ((من غير أن يكون سببًا لسعادة في معاش ولا معاد)) الأعمال، العبادة، الأعمال الصالحة لا تكون سببًا لسعادة المرء لا في معاشه ولا في معاده، ولكن عليه أن يمتثل لأنه أُمر، صدر الأمر بأن يفعل، صدر النهي بأن لا يفعل عليه أن يفعل ذلك؛ ولكن كون هذه الأعمال سببًا لسعادته لا، ليستْ هي أسباب، لأن إثبات السبب لفعل الله ـ تعالى ـ تعليلٌ لفعل الله، وفي ملّتهم : فعل الله لا يعلَّل، بل يُعتبر نقصًا تعليل فعل الله .
أعوذ مرّة أخرى في شرح هذه القطعة : فيقول : ((فهؤلاء)) هذا الصنف ((عندهم : القيام بها)) أي : بالعبادة ((ليس إلا لمجرّد الأمر)) إنما يقوم العبد بالعبادة لأنه أُمر، ((من غير أن يكون سببًا لسعادة)) ـ يجوز : ( أن تكون ) أو : ( أن يكون ) لأنّ ما دام هناك فاصل يجوز تذكير الفعل وتأنيث الفعل ـ؛ ((من غير أن يكون)) أو ( تكون ) العبادة ((سببًا لسعادة في معاش ولا معاد)) لا علاقة للعبادة وللأعمال بالجزاء .
((ولا سببًا لنجاة)) كذلك نجاته من عذاب الله ومن غضب الله العبادة لا تكون سببًا لنجاته، كذلك تركه للمنهيّات كلُّ ذلك لمجرّد امتثال الأمر والنهي .
((وإنما القيام بها لمجرّد الأمر ومحْض المشيئة)) لمجرّد الأمر من الله ومحض المشيئة لأن الله شاء ذلك؛ مشيئة محضة ليست بعلة أو لتكون سببًا .
((كما قالوا في الخلق)) قالوا : ((لم يخلق الله الخلق لغاية)) ويقولون في قوله
ـ تعالى ـ : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( اللام ) هذه ليستْ
((1/127)
لام العلّة )؛ عند النُّحاة تسمى ( لام العلّة )، وفقهاء الأمة يسمون ( لام الحكمة )، وعندهم : لا : ( لام الصيرورة ) أي : ليصير أمره إلى العبادة فيما بعد، أما الله لم يخلقهم لعبادة، ولكن خلقهم ليصير أمرهم فيما بعد إلى العبادة؛ انظروا إلى هذا التركيب الرقيق؛ ما معنى هذه الصيرورة؛ لماذا لم تقولوا مباشرة : إنما خلقهم للعبادة كما هو ظاهر اللفظ ؟، قالوا : لا، اللام ليستْ ( لام العلة ) أو ( لام الحكمة ) ولكنها ( لام الصيرورة ) .
((كما قالوا في الخلق)) أي : في خلق الله الخلق أي : في المخلوقات : ((لم يخلق لغاية ولا لعلة هي المقصودة به)) ويرون أنّ هذا مستحيلٌ على الله أن يخلق الخلق لغاية أو لحكمة أو لشي مقصود .
((ولا لحكمة تعود إليه منه)) من خلق الخلق .
((وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات)) تلك الأسباب؛ أي : تقتضي ((لمسبّباتها)) كأن تكون الطاعة والعبادة سببًا لمسبّباتها دخول الجنة ورضى رب العالمين؛ هذه مسبّبات، العمل سبب، المسبَّبات : الجزاء؛ يريدوا أن يقولوا : العمل لا يكون سببًا للجزاء، حتى يكون الجزاء مسبَّبًا من العمل؛ لستُ أدري فهمتهم أم لا ؟ .
المسبَّبات : الجزاء، ما يترتّب على السبب، السبب : الأعمال، أعمالنا كلها أسباب، والمسبَّبات ما تقتضيها هذه الأسباب وما تترتّب على هذه الأسباب من الجزاء ورضى رب العالمين من أعظمها : دخول الجنة والتنعُّم هناك؛ هذه مسبَّبات من الأسباب؛ ينفون هذا .
((وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبّباتها)) إنما إنْ أدخلهم الله الجنة لأن الإرادة تعلّقتْ بذلك وشاء الله ذلك، وإن لم يدخلهم الجنة لأن لله لم يرد ذلك؛ كلُّ شيء على حسب مقتضى المشيئة العامة والإرادة الكونية، لا ارتباط بين الأعمال وبين الجزاء؛ هذا أهم شيء الذي ينبغي أن تفهموا : عندهم : لا ارتباط بين الأعمال وبين الجزاء .(1/128)
كذلك قالوا : ((وليس في النار سببٌ للإحراق)) . إذا احترق جسم الإنسان، لا يقول : النار هي التي حرقت، لا، ليس في النار قوّة الإحراق، ولكنّ الله يخلق هذا الأثر وهذا الجرح عندما يتصّل هذا الجسم بالنار؛ هنا ( كسب الأشعري ) الغامض الذي لا يُفهم إلا بصعوبة . الماء ليس فيه قوة الري وقوة التبريد أو قوة الإغراق؛ لماذا غرق ؟ هل الماء هو الذي أغرق ؟، لا، حصل الغرق، أراد الله أن يُغرق في الماء، أراد الله البرودة فبرد، أراد الله له الريَّ فحصل الري؛ ولكن هذه الأمور الطبيعية والقوة التي جعلها الله في هذه الأشياء ثابتة أو لا ؟، ينفون هذه القوة المعنوية التي جعلها الله في النار وفي الماء وفي الحواء في الريح، كلُّ هذا ينفونه .
كما ينفون ـ لعل هذا يقرِّب لكم ـ : كونُ العبد فاعلاً؛ العبد ليس بفاعل الله هو الفاعل؛ نسبة الفعل إلى العبد نسبة مجازية، الفاعل الحقيقي هو الله؛ قالوا : يدلُّ على ذلك قوله ـ تعالى ـ : { وما رميتَ إذْ رميت ولكنّ الله رمى } ، الله نفى الرمي عن نبيه(1/129)
ـ عليه الصلاة والسلام ـ الله هو الرامي، والنبي لم يرمي؛ وهذا من أخطائهم ووضع الدليل في غير موضعه؛ والآية قلبَها أهلُ السنة عليهم دليلاً، دليلٌ عليهم وليستْ دليلاً لهم : لأنّ في الآية إثبات رميٍ ونفيُ رمي : { وما رميت } نفى عنه الرمي { إذْ رميت } أثبت له المرمي؛ النفي والإثبات لم يردا موردًا واحدًا، أي : المنفي غير المثبت : الرمي المثبَت للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو : الحذْف ـ حذْف التراب ـ { إذْ رميت } : إذْ حذفت التراب عند ذلك أنت لم ترم، أي : لم توصل التراب إلى وجوه الكفار فوزّعته على عيونهم فأثّر ذلك فصار سببًا لهزيمتهم، من الذي فعل هذا ؟، الله؛ بداية الرمي من النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : حذْف التراب، ونهاية الرمي من الله؛ الرمي له بداية وله نهاية : البداية من عند النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ والنهاية فعل الله . هكذا استدلّوا فضلوا، استدلّوا بهذه الآية فضلوا في الآية، لم يفهموا، لأنك لو طردت المعنى معهم لوقفوا، إنْ كان عندهم حياء لوقفوا لو قلت : هل يمكن أن تقول : وما صليت إذْ صليت ولكنّ الله صلى، يمكن أن تقول هذا ؟، يقولون : لا، وما صمت إذْ صمت ولكنّ الله صام ؟، مستحيل، إلى هنا الإنسان الذي فيه الحياة يقف لكن لو قيل له في السارق في الشارب، هل يستطيع إنسان عنده إيمان أن يقول : وما سرقت إذْ سرقت من الذي سرق ؟، العبد، هل ممكن نسبة السرقة إلى الله ؟، مستحيل، يكفُر .
بهذا تعلمون إن استدلالهم بالآية ضلالٌ وتضليل ليس بصحيح .(1/130)
إذًا : الأسباب الله جعلها ورتّب عليها مسبَّبات : جعل النار سببًا للحرق، ينسب الحرق إلى النار ... يُنسب العمل إلى العبد هو الذي صلّى، وهو الذي صام، وهو الذي ضرب، وهو الذي ظلم، وهو الذي فعل، من باب إضافة المسبَّب إلى السبب : العبد سبب وما حصل مسبَّبٌ منه يُنسب إليه؛ الماء سبب والتبريد مسبَّب والريُّ مسبَّب؛ وهكذا جميع الأشياء الله ـ سبحانه وتعالى ـ ربط المسبَّبات بأسباب .
و[ الفرق ] بين الأسباب وبين المسبَّب ضلالٌ وخروج على تنظيم رب العالمين لشؤونه.
نعود مرّة أخرى لعلنا نفهم : ((وليس في المخلوق أسباب تكون)) عندهم ((مقتضيات)) تلك الأسباب تقتضي ((لمسبَّباتها)) هنا كان المقام مقام الفاء؛ إذًا : فـ((ليس في النار سببٌ للإحراق ولا في الماء قوّة الإغراق ولا)) قوة ((التبريد)) . وهذه مغالطة ومكابرة للواقع .
((وهكذا الأمر عندهم سواء لا فرق بين الخلق والأمر، ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور)) . الشيء الذي أمر الله به والذي نهى عنه لا فرق بينه، ليس في أحدهما قُبْح وفي الآخر حسن .
((ولكنّ المشيئة اقتضتْ أمره بهذا ونهيه عن هذا)) . لا فرق في نفس الأمر ـ في حقيقة الأمر عندهم ـ بين أن تأكل من مالك وبين أن تسرق من مال غيرك فتأكله، لا فرق، ليس هذا أقبح ولا هذا حسن، ليس في السرقة قبح، ولا في شُرب الخمر قبح ولكن اقتضت المشيئة أنّ الله أمر أن يأكل الإنسان من ماله من كسبه ولا يمد يده إلى مال غيره ولا يشرب المسكر ولا يأتي الفاحشة اقتضت المشيئة هكذا دون أن تكون هناك أسباب .
((من غير أن يقوم بالمأمور صفة تقتضي حسنه)) ليس في اقتصارك على أكل الحلال وعلى أداء الصلاة وعلى القيام بالصيام ليس في هذا حسن يقتضي هذا الفعل عندهم .
(((1/131)
ولا في المنهي عنه صفة تقتضي قبحه)) ليس في ترك الصلاة وارتكاب شيءٍ من الموبِقات وفي شرب الخمر وفي السرقة، ليستْ هناك صفة تقتضي قبحه، ليس ذلك بقبيح علمًا بأن هذا قبيحٌ شرعًا وعقلاً؛ لا يوجد هناك حسن ولا قُبْح ولكن صدر الأمر، شاء الله ـ تعالى ـ أن يأمر بهذا وأن ينهى عن هذا، على العباد أن يتمثلوا فقط ولا يبحثوا عن الحكمة، ولا يبحثوا هل هناك سبب للأمر وسببٌ للنهي لا، مجرّد امتثال .
((ولهذا الأصل لوازم فاسدة وفروعٌ كثيرة . وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها ولا يتنعّمون بها)) . كيف يجدون حلاوةً أو لذّة شيئًا يمثلون مجرّد الامتثال، ولا يعتقدون أنّ عباداتهم وأعمالهم الكثيرة تسبِّب لهم رضى رب العالمين والسعادة ودخول الجنة والنظر إلى وجه الله ـ تعالى ـ، ليستْ أسبابًا لهذا، إذًا : كيف يتلذّذون بعبادة جوفاء ؟، إنما يتمثلون لأنهم مكلَّفون، قالوا : كلِّفنا مالنا حيلة، نعمل لأننا كُلِّفنا بهذا، ونترك المنهي عنه لأننا كُلِّفنا بالترك؛ أما كونُ الإنسان يُثاب إذا ترك محرَّمًا قاصدًا ابتغاء وجه الله ـ تعالى ـ، وإذا فعل حسنة ابتغاء وجه الله ـ تعالى ـ يترتّب على ذلك سعادة ونعيمٌ في الدنيا والآخرة لا يعتقدون ذلك؛ ولهذا قال : ((وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها ولا يتنعّمون بها)) والمؤمن الصادق يرى أنه في نعمة عندما يعبد الله
ـ تعالى ـ؛ لذلك : كانت الصلاة قُرِّة عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
((ولهذا : يسمون الصلاة والصيام والزكاة والحد والتوحيد والإخلاص ونحو ذلك)) من الأعمال ((تكاليف)) قالوا : علينا تكاليف؛ عندكم ((شرح روضة الناظر)) لعبد القادر بدران ؟، انظروا هذا الكتاب، يُحيل هنا [ المعلِّق ] يقول : ((قارن بـ((شرح روضة الناظر)) 1/137 لعبد القادر بدْران)) لأن هذا البحث بحث أصولي .
((أي كُلِّفوا بها)) يسمون تكاليف .(1/132)
وينتقد الشيخ هذه التسمية فيقول : ((ولو سمّى مدّعي محبة ملك [ من ] الملوك أو غيره)) من الشخصيّات لو سمّى ((ما يأمره به تكليفًا لم يُعَدَّ محبًّا له)) لو قال له : أنت كلّفتني بكذا وكذا، معناه : أنه يشتكي، يستثقل، إذا أمره بشيء يقول كلّفتني، هذا التكليف معناه : أنه غير راضٍ ولكنه مجبور أن يعمل .
وتسمية الواجبات والعبادات أنها تكاليف كأنها تقتضي نوعًا من التضجُّر أو عدم الرضى أو أنهم إنما يفعلون ذلك مجبورين وفي اعتقادهم إنها صحيح إنها تكاليف، لماذا ؟ لأنها لا تترتّب عليها مسبَّباتها؛ هذه العبادات نحن عندنا : تترتّب عليها مسبَّباتها، هي أسبابٌ للوصول إلى رضى رب العالمين وإلى جنّته ودار كرامته ـ أسباب ـ؛ عندهم : لا؛ إذًا ـ على هذا ـ عندهم : مجرّد تكاليف .
قال : ((وأول من صدرتْ عنه هذه المقالة : الجعْد بن درهم)) ترجم له [ لعله يقصد المعلِّق ]؛ والمعروف عندنا : كذلك هو أول من قال : إن الله لم يكلِّم موسى تكليمًا ولم يتّخذ إبراهيم خليلاً؛ لأجل هذه الكلمة ذُبح في مصلى العيد : الوالي صلى بالناس صلى العيد الأضحى وخطب وقال في آخر الخطبة : ( أيها الناس ضحوا تقبّل الله ضحاياكم فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم لأنه قال : إن الله لم يكلّم موسى تكليمًا ولم يتّخذ إبراهيم
خليلاً ) فنزل فذبحه في المصلى؛ لست أدري جاء ليصلي أو أُتيَ به ليُذبح من قبل، ما أدري عن هذه التفاصيل، المهم هكذا ذكروا أنه ذُبح؛ وهو شيخ جهم بن صفوان الطريقة الجهمية المعروفة، لأن جعدًا لم ينشرها ذُبح، وبعدها ذلك أخذها جهم بن صفوان فنشرها، وهو الآخر قُتل، ثم نشرها بعده بِشْر المرِّيْسي .) .(1/133)
الصنف الثاني : القدرية النُّفاة الذين يُثبتون نوعًا من الحكمة والتعليل لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته؛ فعندهم : أن العبادات شُرعتْ أثمانًا لِمَا يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره؛ قالوا : ولهذا : يجعلها الله ـ سبحانه وتعالى ـ عِوَضًا كقوله : { ونودوا أنْ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } ، { هل تُجزون إلا ما كنتم تعلمون } ، { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } ، { إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب } ؛ وفي ((الصحيح)) : ((إنما هي أعمالكم عليكم ثم أوفِّيكم إياها)) .
قالوا : وقد سمّاها جزاءً وأجرًا وثوابًا لأنه شيءٌ يثوب إلى العامل من عمله أي : يرجع إليه .
قالوا : ويدلُّ عليه الموازنة : فلولا تعلُّق الأعمال بالثواب عوضًا عليها لم يكن للموازنة معنى .
وهاتان الطائفتان متقابلتان : فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا بالجزاء البتّة، وجوّزوا أن يعذِّب الله من أفنى عمره في الطاعة وينعِّم من أفنى عمره في مخالفته وكلاهما سواءٌ بالنسبة إليه، والكلُّ راجعٌ إلى محْض المشيئة . والقدرية أوجبتْ عليه ـ تعالى ـ رعاية المصالح، وجعلتْ ذلك كله بمحض الأعمال، وأنّ وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منّة الصدقة عليه بلا ثمن؛ فجعلوا تفضُّله ـ سبحانه وتعالى ـ على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد وإعطائه ما يُعطيه أُجرة على عمله أحبُّ إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل؛ ( ولم يجعلوا للأعمال تأثيرًا في الجزاء البتّة ) ( ( ) هذه الجملة : ((ولم يجعلوا للأعمال تأثيرًا في الجزاء البتّة)) اجعلوها بين معكوفتين؛ هذا تصرُّفٌ من النُسّاخ في غير موضعه، بل اكتبوا بدل ذلك : ( بل جعلوا الجزاء ثمنًا للأعمال يجب أداؤه ) .(1/134)
في الهامش عندكم : ((أول بدعة ظهرت في الإسلام)) يعني : القدرية؛ هذا الكلام فيه نظر : عندما ظهرت القدرية في عهد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قد كُفّ بصر ابن عبّاس وكان يقول : ( لو وقعتْ رقبة أحدهم في يدي لكسرتها ) لأنه قد كُفّ بصره؛ وعندما خرجت الخوارج واجتمعوا في الحروراء هم الذي خرج إليهم ووعظهم، وهم ستة آلاف مقاتل فتاب منهم ألفا مقاتل، وقاتل الباقين علي بن أبي طالب؛ والقصتان تدلاّن على أن الخوارج قبل القدرية ـ الخوارج خرجت قبل القدرية ـ؛ الفِرَق الثلاثة التي ظهرت في عهد علي - رضي الله عنه - : الشيعة والخوارج والقدرية؛ الذي يظهر من السياق ـ من سياق القصص ـ والتاريخ أن الخوارج قبل القدرية؛ ويُبحث عن الشيعة هل هي أول ما ظهرت قبل الخوارج أم لا ؟، يُعاد النظر . المهم قوله : ((أول بدعة ظهرتْ في الإسلام)) يعني بذلك : القدرية محلُّ نظر .
تعليق طه سليم .
قال المؤلِّف ـ فيما تقدّم ـ أن للناس في منفعة العبادة وحكمها ومقصودها طرقًا أربعة وهم في ذلك أربعة أصناف؛ ذكر الصنف الأول وهم نُفاة الحِكَم والتعليل، وهم الجبرية الذين ينفون الحِكَم والتعليل، ويردُّون الأمر إلى نفس المشيئة وصِرْف الإرادة المحضة؛ هؤلاء الجبرية؛ والجبرية يقال لها : القدرية ـ القدرية الجبرية ـ؛ ولكن إذا أُطلقت القدرية تنصرف إلى نُفاة القدر، وبالقرينة تُطلق كلمة القدرية ـ أيضًا ـ على الجبرية؛ الجبرية قدرية أي : غلوا في إثبات القدر حتى نفوا العبد قدرته وإرادته واختياره .
والقدرية النُّفاة غلوا في نفي القدر؛ هما على طرفيْ نقيض .
((الصنف الثاني : القدرية)) أي : نُفاة القدر .
(((1/135)
النُّفاة الذين يُثبتون نوعًا من الحكمة والتعليل)) . الجبرية نفوا نفيًا مطلَقًا الحكمة والتعليل في أفعال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ؛ وقالوا : إنّ أفعال الله لا تُعلَّل ولا يقال : يفعل لحكمة، وإنما وقعت هذه الأفعال كلها بمجرّد تعلُّق الإرادة بها؛ هذه الجبرية
ـ كما تقدم ـ .
ولكنّ القدرية تُثبت نوعًا من الحكمة والتعليل، لكن لا يقوم بالرب، الحكمة ليستْ راجعة للرب .
((لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه)) أي : الحكمة والتعليل التي تُثبت القدرية : لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه .
الحكمة في تشريع العبادة ليستْ راجعة هذه الحكمة؛ ولذلك تسمى نوع، وهو في الواقع ليستْ حكمة؛ لا يسمى إثبات الحكمة والتعليل بمعنى كامل، إلا أنهم أثبتوا إن الأعمال إنما شُرعت لأجل شيء ما هو ذلك الشيء ؟ أن ينال العباد الثواب على هذه الأعمال لا لتكون لعبادةً لله؛ ولكنّ الله أخبر أنما خلق الإنس والجن للعبادة .
وبعض الأعمال قد لا نُدرك الحكمة في ذلك، ولكن هم أثبتوا مقابِل الجبرية؛ عند الجبرية لا علاقة للثواب بالأعمال، لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لمحْض المشيئة يثيب ويعاقِب؛ ويجوز ـ في نظرهم ـ أن يعاقب من أفنى عمره كله في طاعة الله ـ تعالى ـ أن يدخله النار، وأن يُدخل من أفنى عمره كله في المعاصي والكفر؛ إذْ لا علاقة للثواب بالأعمال .
عكس هذا القدرية : قالوا : لا، الأعمال لازمة لتكون أثمانًا للثواب .
هذا وجه الحكمة ـ أو وجه العلّة ـ التي أثبتوا؛ تسميته علّة أو حكمة في نوعٌ من التسامُح .
((بل يرجع لمحْض مصلحة المخلوق ومنفعته)) . إنما شَرَع الشرائع وأوجب وحرّم لمصلحة العباد، وليس لله في ذلك حكمةٌ ترجع إليه، ولكن إنما فعل ذلك لمصلحة العباد، لأنه ـ في عقيدتهم ـ يجب على الله أن يفعل الأصلح فالأصلح للعباد .
(((1/136)
فعندهم : أنّ العبادات شُرعت أثمانًا لِمَا يناله العباد من الثواب والنعيم)) . العبادات التي يعبدون والأعمال التي يعملون لا لينالوا بذلك رضى ربهم والتقرُّب إليه، ولكن ليأخذوا الثمن، الثمن : الثواب والنعيم؛ كلُّ من عمل صالحًا وجب على الله أن يدخله الجنة وأن يثيبه على عمله الصالح؛ هذا هو جزاء العمل وثمن العمل، أما التفكير في أنهم يُرضون ربهم ويتقرّبون إليه ويطلبون رضاه، لا، ليس هذا على بالهم .
((وأنها)) أي : العبادات ((بمنزلة استيفاء الأجير أجره)) الأجير يستحقُّ الأجرة على من عمل عنده، ولو منعه يُعَدُّ ظالمًا، لأنه عمل له؛ هكذا شبّهوا رب العالمين بمن عمل عنده الأجراء : كما أنّ صاحب العمل الذي عمل عنده أجراء يجب عليه إيفاء أجرتهم يجب على الله أن يوفي ثواب العاملين وأن يدخلهم الجنة مقابِل أعمالهم، وأنّ ذلك واجب.
((قالوا)) الدليل على ذلك؛ انتبهوا هذا أهمّ شيء، كونهم يستدلُّون على هذه الفكرة الخاطئة الكفرية التي لا تؤمن بالله ـ تعالى ـ ولا تقدِّر الله حقّ قدره يستدلون على ذلك بآيات من الكتاب وبالأحاديث؛ المهم : فهم وجه الاستدلال وكيفية رد تلك الشبه :
((ولهذا : يجعلها ـ سبحانه وتعالى ـ عوضًا)) قد جعل النعيم والثواب ودخول الجنة عوضًا لِمَا قدّموا من الأعمال، والأعمال أثمان والجنة والثواب مُثْمَن، كما يجب على الإنسان ـ على البائع مثلاً ـ إذا قدّم المشتري شيئًا من الثمن وجب على البائع أن يعطيه المُثْمَنن، ولو منع يُعَدُّ ظالمًا؛ هكذا شبّهوا الله ـ تعالى ـ بهذا المخلوق .
دليل ذلك : { ونودوا أنْ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } محل الشاهد : { بما كنتم تعملون } ( الباء ) ـ عندهم ـ ( باء الثمن ) و ( باء المقابَلة ) و ( باء العوض ) المعنى واحد، تسمى ( باء العوض ) و ( باء المقابلة ) و ( باء الثمن ) .
{ هل تُجزون إلا ما كنتم تعملون } سمّاه جزاءً .(1/137)
الآية الثالثة محلُّ الشاهد : تسمية ذلك جزاءً؛ أما الآية الأولى والثانية محلُّ الشاهد :
( الباء ) في قوله : { بما } .
الآية الرابعة : { إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب } سمّاه أجرًا؛ أحيانًا يسمِّي ذلك جزاء وأحيانًا يسمِّي ذلك أجرًا .
((وفي ((الصحيح)) : ((إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفِّيكم إياها)) )) ((أوفِّيكم إياها)) أي : جزاءً لأعمالكم؛ والحديث صحيح في ((صحيح مسلم)) .
((قالوا)) بيانٌ لكيفية الاستدلال ((وقد سمّاها جزاءًا وأجرًا وثوابًا)) . الثواب معناه : ((لأنه شيءٌ يثوب على العامل من عمله، أي : يرجع إليه)) ثمنًا لعمله .
((قالوا)) مرّة أخرى؛ دليلٌ آخر دليل عقلي : ((ويدلُّ عليه : الموازَنة)) أي : جعل الميزان لأعمال العباد يوم القيامة، ((فلولا تعلُّق الثواب بالأعمال عَوَضًا عليها)) ليكون الثواب عوضًا على الأعمال ((لم يكن للموازنة معنى)) . هذه الشبهة ردُّها أشار إلى الرد على هذه الشبهة شارح ((الطحاوية)) عند ذكر الميزان حيث قال : ( ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله ـ سبحانه وتعالى ـ لجميع عباده لكفى؛ فإنه لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين )؛ الله يحب العذر ويحب أن يقيم الحجة لأن لا يحتجّ العباد لذلك أرسل الرسل مبشِّرين بالخير ومنذرين من الشر .
كذلك إنما جَعل الميزان لأعمال العباد ليظهر لجميع العباد عدلُ الله ـ تعالى ـ، وأن الجزاء ليس مجازَفة، وإنما بالميزان، يأخذ الإنسان ثوابه بالميزان لإظهار عدله ـ سبحانه وتعالى ـ . راجع ((شرح الطحاوية)) النسخة المشهورة الوحيدة الآن ( صفحة 475 ) الذي بتعليق الشيخ ناصر .
(((1/138)
وهاتان الطائفتان متقابلتان : فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا بالجزاء البتّة، وجوّزت)) . عند الجبرية لا ارتباط للأعمال بالجزاء البتّة؛ لذلك : يجوز عندهم ((أن يعذِّب الله من أفنى عمره في الطاعة، وينعِّم من أفنى عمره في مخالفته، وكلاهما سواءٌ بالنسبة إليه [ تعالى ])) ذلك لأن ((الكلَّ راجعٌ إلى محْض المشيئة)) إنما يعذِّب من يعذِّب وينعِّم من ينعِّم لأن الإرادة الكونية ـ التي هي المشيئة ـ تعلّقت بذلك، ليس هناك حكمةٌ أخرى . ولو تعلّقت الإرادة بأن يعذِّب المطيع لعذّب، ولو تعلّقت الإرادة بأن يُنْعِم العاصي لأنعم، إذْ لا توجد هناك حكمة؛ هؤلاء هم الجبرية .
إذا تصوّرنا عقيدة الجبرية التي نفت الحكمة والتعليل في أفعال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وأنّ كلَّ ما يقع في هذا الكون من خير وشرٍّ وطاعة ومعصية لمجرّد تعلُّق المشيئة بذلك، لماذا تعلّقت المشيئة ؟، لا يُسأل إذْ لا توجَد هناك حكمة .
أما ((القدرية أوجبتْ عليه ـ سبحانه وتعالى ـ رعاية المصالح)) والعبارة المعروفة عندهم : يجب على الله فعل الأصلح فالأصلح للعبادة؛ هذه عبارتهم، يجب على الله فعل الأصلح فالأصلح للعبادة؛ تجدون هذه العبارة كثيرًا ما ينقل العلاّمة ابن القيّم في كتابه ((شفاء العليل)) .
((وجعلتْ ذلك كله بمحْض الأعمال)) . القدرية أوجبتْ عليه ـ سبحانه وتعالى ـ رعاية المصالح؛ ((وجعلتْ ذلك كله)) رعاية المصالح ((بمحْض الأعمال)) أي : إنهم يستوجبون على الله ـ تعالى ـ بمحض الأعمال؛ لا عبرة بتوفيق الله ـ تعالى ـ وعدم التوفيق، وليس لله فضلٌ في ذلك، ولكن يستوجبون ذلك بمحض الأعمال .
(((1/139)
وأن وُصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيصٌ باحتمال منّة الصدقة عليه بلا ثمن)) . قالوا العبد شريف لا ينبغي أن تصل إليه الصدقة بدون ثمن، لأن في ذلك تنقيصٌ له؛ لو قلنا إنّ هذه الأعمال فضلٌ من الله وصدقةٌ منه ومنّة في ذلك تنقيصٌ للعبد؛ لأننا نصل ولأن لا ننقِّص العبد مكانته فلنوجب على الله ـ تعالى ـ أو يوفيَ له الأجر ثمنًا لأعماله .
((فجعلوا تفضُّله ـ سبحانه وتعالى ـ على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد)) كما أن العبد إذا تصدّق على العبد استعلى عليه، وصار المتصدَّق عليه أنقص منه؛ جعلوا صدقة الله ومنّة الله على عبده كصدقة العبد على العبد { ما قدروا الله حق قدره } .
((وإعطائه ما يعطيه أجرة على عمله أحبُّ إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل، ولم يجعلوا للأعمال)) . قالوا العبد كونه يعطى أجرة عمله أحبُّ إليه من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل .
لو كان لديهم أدنى تفكير : هذا العمل من أين جاء ؟، مَنِ الذي شرع هذا العمل ؟، الله، ومن الذي جعله سببًا ؟، الله، من الذي تقبّل منه ذلك العمل حتى يُثاب عليه ؟، الله؛ خلق، ويسّر له العمل فعمل، وجعل هذا العمل سببًا مقبولاً عنده، وأثابه على هذا العمل؛ كلُّ ذلك منّة وفضلٌ من الله؛ لا يوجد شيءٌ غير الفضل وغير المنّة، بل كلُّ ذلك صدقة؛ إيجادك أيها العبد المتمرِّد الذي تقول هذا الكلام مِنّة، وكونه وفّقك شَرَع لك عملاً منّة، وتقبّل منك ذلك العمل منّة، وجعل ذلك العمل سببًا لدخولك الجنة مِنّة أخرى؛ كلُّ شيء منّة وفضلٌ من الله؛ نَسِيوا هذا المعنى كله، قالوا : لا، لا نسمى ما يعطيه الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لعبده صدقة ومنّة وفضل بل لا عوض وثمن، لأن ذلك أحبُّ إلى العبد من أن يتقبّل من ربه الصدقة كما لا يحب أن يتقبّل الصدقة من عبد مثله كذلك لا يحب أن يتقبّل الصدقة من ربه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ ما أجرأهم .(1/140)
بل جعلوا الجزاء ثمنًا للأعمال يجب أداؤه ـ أداء ذلك الثمن ـ يجب على مَنْ ؟، على الله؛ فيأخذ العبد الجزاء ثمنًا لعمله وليس عليه منّة من الله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ هكذا تصوّروا هذا التصوُّر الخاطئ .) .
والطائفتان منحرفات عن الصراط المستقيم، وهو : أنّ الأعمال أسبابٌ موصلةٌ إلى الثواب؛ والأعمال الصالحات من توفيق الله وفضله، وليستْ قدْرًا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا وقعتْ على أكمل الوجوه أن تكون شكرًا على أحد الأجزاء القليلة من نعمه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ فلو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحمهم لكان رحمته لهم خيرًا من أعمالهم ( ( ) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((والطائفتان)) أي : الجبرية والقدرية ((منحرفتان عن الصراط المستقيم)) ما هو الكلام الذي على الصراط المستقيم ؟، وهو : أن الأعمال أسباب؛ أولاً : الأعمال لها اعتبار، لا يُقال مثل الجبرية : الأعمال لا اعتبار لها ولا ارتباط لها بالجزاء؛ هذا خطأ؛ ولا يقال إن الأعمال أثمانٌ للجزاء والثواب ودخول الجنة، ولكن يقال : إنّ الأعمال أسباب موصلةٌ إلى الثواب؛ الذي جعلها أسبابًا هو الله، لا يكون سببًا إلا ما جعله الله سببًا، الله جعل لكل شيءٍ سببًا، كلُّ شيء في المعاد وفي المعاش كلُّ شيء بسبب : الشقاوة بسبب، السعادة بسبب، لا يولد المولود إلا بسبب، لا ينبت الزرع إلا بسبب، لا يوجد شيءٌ إلا بسبب أبدًا؛ علم الله أنّ الشقي يكون شقيًّا بأسباب والسعيد يكون سعيدًا بأسباب، ويولَد المولود لزيد بأسباب : يتزوّج ويجامع، ويجعل الله الرحم قابلاً للحمل فيولد المولود، لو أنّ إنسانًا تزوّج وترك المرأة في البيت لم يجامعها ينتظر منها الولد، قال : عملت السبب أتيت بالمرأة فليولَد المولود، يقال له : أحمق؛ كذلك : لو أنه أصلح قطعة من الأرض للزراعة لم يُلق البذر في الأرض ولم يُسْق الماء ينتظر منها الزرع والحرث، أحمق؛ كذلك الشقاوة والسعادة،(1/141)
كلُّ شيء الله ربط بالأسباب
إن الشقي لا الشقي الأزلي
وعكسه لم يبدَّل
ليس معنى هذا : أن الشقاوة كُتبتْ والسعادة كُتبتْ بدون أسباب، لا، الله علم الشقي يشقى بأسباب والسعيد بأسباب، لا توجد أشياء تكوّن وتقع في هذا الكون بدون بأسباب، إما بسبب مفرد والغالب بأسباب متعدِّدة .
((وهو أنّ الأعمال موصلةٌ إلى الثواب)) الله هو الذي شرع تلك الأعمال وجعلها أسبابًا، وجعلها صالحةً لتوصِل إلى الثواب بأن قبلها وبارك فيها .
((والأعمال الصالحات من توفيق الله ـ تعالى ـ)) . الذي وفٌّق العبد ليصلي ويصوم ويزكِّي ويجاهد ويعمل ويعمل هو الله، من توفيق الله وفضله، هو الذي تفضّل عليه بذلك؛ لو أراد أن يعرف الإنسان ذلك : اثنان في حيٍّ واحد ـ قد يكونان في بيت واحد ـ أحدهما موفَّق يعمل يَكِدُّ، يؤمن ويعمل، والآخر لا يعمل شيئًا بارد لا يتحرّك لا يقدِّم شيئًا؛ الذي وفّق هذا إلى العمل هو الله، والذي خذل ذلك هو الله؛ هذا الذي وُفِّق يجب أن يعرف الله ميّزه من ذلك من زميله الآخر فوفّقه إلى العمل ليعلم أنّ ذلك فضلٌ من الله ومنّة وصدقة .
((وليستْ)) هذه الأعمال الصالحات، ((قدْرًا لجزائه وثوابه)) ليست لهذا الأعمال قيمة حتى يكون لها قدر وتكون مكافئة لجزائه وثوابه؛ فلانٌ ليس قدْرٌ لهذا معناه : ليس كُفؤًا وليس مقابِلاً لهذا؛ معنى قوله ((وليستْ قدْرًا)) : أعمالنا ليستْ قدْرًا لا تستحقُّ أن تكون ثمنًا وجزاءًا وثوابًا لمرضات الله ـ تعالى ـ وجنته لو لم يبارك الله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها؛ أرجو أن تكون هذه العبارة معلومة . ((وليست قدرًا لجزائه [ تعالى ] وثوابه)) أي : دون جزاء الله وثوابه، ليستْ كفؤًا لذلك، وليستْ مكافِأة لذلك لولا فضل الله ومنّه .
(((1/142)
بل غايتها إذا وقعت)) الأعمال ((على أكمل الوجوه))) مستوفيةً للشروط ((أن تكون شكرًا)) فقط ((على أحد الأجزاء القليلة من نعمه ـ سبحانه وتعالى ـ)) تكون شكرًا لجزء يسير من نعمه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ لذلك : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجوده : ((لا أُحصي ثناءً، عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) في الدعاء المشهور؛ مهما عمل العبد، ومهما أثنى، ومهما كدَّ عمله لا يكون ليس مناسبًا أو مكافِأً لثوابه وجزائه ولا قدْرًا لذلك لولا فضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ ولكن غاية ما هنالك إنْ وفّقه الله وعمل وقُبل ذلك العمل أن يكون شكرًا لا لجميع نعم الرب ـ سبحانه وتعالى ـ بل لجزء يسيرٍ من نعمه ـ سبحانه وتعالى ـ .
لذلك ـ إذا تصوّرنا هذا التصوُّر ـ : ((فلو عذّب)) الله ((أهل سمواته وأهل أرضه لعذّبهم وهو غيرُ ظالمٍ)) لهم، بل عدلاً؛ إذْ لا يتأتّى الظلم من الله أبدًا، إذ لا يستوجبون عليه شيئًا؛ الظالم : من يمنع غيره حقه على طريقة القدرية، وأما إذا اعتبرنا أنّ كلما نفعه فضلٌ من الله قليل أو كثير، وأنّ أعمالنا ليستْ قدْرًا لجزائه وثوابه وإنما تفضّل علينا تفضُّلاً بجميع هذه الأعمال، لو لم يقبل منا هذه الأعمال، ولم يقبل من أهل سمواته وأهل أرضه حتى الملائكة لعذبّهم وهو غيرُ ظالم لهم، بل ذلك عدلٌ؛ وإنْ قبِل منهم وأثابهم على ما فعلوه وذلك فضلٌ؛ أعمال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ تدور بين العدل وبين الفضل ولا ثالث لهما : إما فضلٌ إنْ أعطاك ووفّقك وقبِل منك أعمالك وأثابك ذلك فضل، وإن لم يوفِّقك إلى الأعمال أو عملت ما تقبّل منك ذلك العمل ذلك عدلٌ، إنما منعك حقّه هو
ـ سبحانه وتعالى ـ وليس بحقك، وليس لك حقٌّ على الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
((ولو رحمهم لكان رحمته لهم خيرًا من أعمالهم)) . هذا معنى الحديث؛ روى الحديث بالمعنى، ورد في هذا حديثٌ صحيح .) .
وتأمّل قوله ـ تعالى ـ : { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } مع(1/143)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله)) تجد الآية تدلُّ على أنّ الجِنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال، ولا تنافيَ بينهما : لأن توارد النفي والإثبات ليس على محلٍّ واحد : فالمنفي ( باء الثمنية ) واستحقاق الجنة بمجرّد الأعمال ردًّا على القدرية المجوسية التي زعمتْ أنّ الفضل بالثواب ابتداءً متضمِّنٌ لتكدير المنّة؛ والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي ( باء السببية ) ردًّا على القدرية الجبرية الذين يقولون لا ارتباط بين الأعمال وجزائها ولا هي أسبابٌ لها وإنما غايتها أن تكون أَمَارة .
[ والسنة النبوية هي ] ( ( ) من قوله : ((السنة النبوية ... )) إلى قوله : ((وارتباطها بها)) قوِّس عليها؛ هذا كله من تصرُّف النُّسّاخ .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وتأمّل قوله ـ تعالى ـ)) . هذا إجابة على شُبهة القدرية؛ بدأ الشيخ يجيب على شبهة القدرية الذين يستدلُّون بالآيات على مذهبهم .
{ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } تأمل هذه الآية وقارن ((مع
قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله)) )) . هنا ( باء ) وهناك ( باء ) ((تجد الآية تدلُّ على أنّ الجِنان بالأعمال)) دخول الجِنان بالأعمال، ((والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال)) وكيف التوفيق بينهما ؟، يقال : ((لا تنافيَ بينهما لأنّ توارُد النفي والإثبات ليس على محلٍّ واحد)) أي : النفي ينفي شيئًا والإثبات يُثبت شيئًا آخر غير ما نفى الحديث؛ الحديث نفى شيئًا والآية أثبتت شيئًا غير الذي نفاه الحديث؛ بيان ذلك : ((فالمنفيُّ : ( باء الثمنية ) )) وتسمى ( باء المقابَلة ) وتسمى ( باء العِوَض )؛ أي : لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله، أي : أنّ أعمالكم لا تكون ثمنًا أو عِوضًا أو مقابِلاً للجزاء لأنها أصغر من ذلك بكثير، وليستْ قدْرًا للجنة .(1/144)
لَمّا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا الكلام قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟، قال : ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمّدني الله برحمةٍ منه وفضل))؛ إذًا : دخول الجنة برحمة الله وفضله.
ومن رحمته : أن جعل الأعمال أسبابًا لدخول الجنة، أنْ وفّق العباد إلى الأعمال فقبلها منهم وجعلها أسبابًا موصِلةً إلى الجنة، هذا كله رحمةٌ وفضل، وليستْ بثمن .
إذًا : الحديث إنما نفى الثمنيّة؛ الثمنية شيءٌ والسبب شيءٌ آخر؛ والآيات الكثيرة التي تقدّمت أثبتت السببية أن الأعمال أسبابٌ موصِلةٌ إلى الجنة؛ هذا صحْ وهو الواقع؛ ونفى الحديث الثمنية والعِوضية والمقابلة هذا صحيح، بمعنى : ليس بواجب على الله ـ تعالى ـ أن يُدخل العباد الجنة بهذه الأعمال بحيث تكون الأعمال أثمانًا للجنة وبحيث لو لم يدخلهم الجنة يكون ظالمًا لهم؛ هذا هو الخطأ الفاحش الذي ارتكبتْ هذه الطائفة .
إذًا : لا منافاة بين نفي الحديث ( باء الثمنية ) وبين إثبات الآيات ( باء السببية ) .
قال الشيخ : ((واستحقاق الجنة بمجرّد الأعمال)) هذا هو المنفي؛ كلُّ ذلك ((ردًّا على القدرية المجوسية التي زعمتْ أنّ الفضل بالثواب ابتداءً متضمِّنٌ لتكدير المنّة)) لو كان الثواب فضلاً من الله ـ تعالى ـ ابتداءً بدون عمل ذلك يتضمّن لتكدير المنّة؛ المنّة مكدِّرة للعبد، ولا يتحمّل المنّة؛ فلتكن الأعمال أثمانًا لأن لا يقع العبد تحت المنّة؛ وقَبول الأعمال على أساس أنها أثمان يقضي على هذه المنّة التي تكدِّر على العبد .
((والباء المثبَتة التي وردتْ في القرآن هي باء السببيّة)) أي : دخول الجنة بسبب الأعمال؛ كما تقدّم : الله جعل لكل شيء سببًا، جعل لدخول الجنة أسبابًا، وجعل لدخول النار أسبابًا، وجعل للشقاوة أسبابًا، وجعل للسعاة أسبابًا .
هذا ـ جعل الباء سببيًّا ـ ((ردًّا على القدرية الجَبْرية)) جمع بين الصفتين هنا : القدرية الجبرية؛ الجبرية تسمى قدرية لغلوّهم في إثبات القدر .
(((1/145)
الذين يقولون : لا ارتباط بين الأعمال وجزائها)) كما تقدّم لأنه يجوز عندهم : أن يعذِّب الله من أفنى عمره كله في الطاعة، ويُنْعم من أفنى عمره كله في المعصية .
((ولا هي أسبابٌ لها، وإنما غايتها)) إذا كان لا بد منها ((أن تكون أَمَارة)) علامة فقط لتعلُّق الإرادة بذلك؛ ولكن إنما يُدخل الله من يريد الجنة بتعلُّق المشيئة بذلك، ويُدخل من شاء النار بتعلُّق المشيئة بذلك، لا ارتباط بين الأعمال وبين الجزاء البتّة .
((والسنة النبوية : هي)) . هنا الجملة هذه بعدما قوّستم عليها اكتبوا جملة ثانية
ـ جملة أخرى ـ بعد : ((وإنما غايتها : أن تكون أمَارة)) : ((والذي يدلُّ عليه كتاب الله ـ تعالى ـ والسنة النبوية : أن عموم مشيئة الله وقدرته لا [ تنافيان ] ربط الأسباب بالمسبَّبات وارتباطها بها)) هكذا في الأصل : ((والذي يدلُّ عليه كتاب الله ـ تعالى ـ والسنة النبوية : أنّ عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافيان ربط الأسباب بالمسبَّبات وارتباطها بها)) اكتب في الهامش : كما سيأتي في صفحة 78 ـ في نسخة علي حسن ـ؛ هذا الكلام يأتي مفصَّلاً ـ إن شاء الله ـ .
((وارتباطها بها)) بل ذلك هو الجاري في سنن الله ـ تعالى ـ؛ لأنّ الله لم يخلق شيئًا إلا بسبب، وجعل لكل شيءٍ سببًا في أمور الدنيا والآخرة ـ كما هو معلوم .) عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسبَّبات وارتباطها بها .
وكلُّ طائفة من أهل الباطل تركتْ نوعًا من الحق فإنها ارتكبتْ لأجله نوعًا من الباطل ـ بل أنواعًا ـ؛ فهدى الله أهلَ السنة لِمَا اخْتلفوا فيه من الحق بإذنه ( ( ) اكتب في الهامش كذلك هنا ـ رقم واحد ـ : ((وسيأتي بيان مذهبهم في الصِّنْف الرابع)) ـ يعني في صفحة 78 كما قلنا ـ .
(((1/146)
وكل طائفة من أهل الباطل تركتْ نوعًا من الحق فإنها ارتكبتْ لأجله نوعًا من الباطل)) . الجبرية تركت الحق وارتكبت الباطل حيْث لم تربط بين الأعمال وبين الجزاء، والقدرية تركت الحق حيث أوجبتْ على الله ـ تعالى ـ أن يُدخل العباد الجنة بأعمالهم ولم تجعل الأعمال أسبابًا ولا فضلاً من الله ـ سبحانه وتعالى ـ على العباد .
((بل)) ارتكبتْ ((أنواعًا؛ فهدى الله أهلَ السنة لِمَا اخْتَلفوا فيه من الحق بإذنه)) . سيأتي بيان مذهب أهل الحق في الصِّنف الرابع ـ بإذن الله تعالى ـ .) .
الصِّنْف الرابع الذين زعموا : أنّ فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيْض العلوم والمعارف عليها، وخروج قُواها من قوى النفس السَّبُعية والبهيمية؛ فلو عُطلت العبادة لا التحقت بنفوس السباع والبهائم؛ فالعبادة تُخرجها إلى مشابهة العُقول فتصير قابلة لانتقاش صور المعارف فيها .
هذا يقوله طائفتان :
إحداهما : من [ تقرّب ] إلى الإسلام والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار .
والطائفة الثانية : من تفلسف من صوفية الإسلام [ وتقرّب ] إلى الفلاسفة؛ فإنهم يزعمون : أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس للمعارف العقلية ومخالفة العوائد .
ثم مِنْ هؤلاء من لا يوجِد العبادة إلا بهذا المعنى؛ فإذا حصل لها ذلك بقيَ متحيِّرًا في [ حفظ ] أوراده والاشتغال بالوارد منها .
ومنهم : من يوجِب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها؛ وهم صنفان
ـ أيضًا ـ ( ( ) انتبهوا ! الليلة أنتم مع الفلاسفة .
((الصنف الثالث)) من الأصناف التي تقدّم أنْ قال المؤلِّف فيها : ((واعلم : أن للناس في منفعة العبادة وحكمها ومقصودها أربعة طرق)) ـ أو طرقًا أربعة ((وهم في ذلك أربعة أصناف))؛ تقدم الحديث على الصنف الأول والثاني .
والصنف الثالث : ((الذين زعموا : أن فائدة العبادة رياضة النفوس)) لتفارق ـ أو ليفارق ـ الإنسان البهائم والسَّبُع .(1/147)
الصنف الثالث من الأصناف الأربعة التي تقدّمت الإشارة إليها : هم الذين يزعمون أنّ فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها؛ ليست العبادة مقصودة بالذات أو مقصودة للتقرُّب بها إلى الله أو لطلب مرضات الله أو لتحقيق العبودية، ولكنها رياضة النفوس واستعداد النفوس لفيض العلوم والمعارف عليها؛ هذا هو الهدف من العبادة، لتصل النفوس البشرية إلى درجة أنها تكون صالحة لتفيض عليها العلوم والمعارف من الله مباشرة دون حاجة إلى الرسل ودون حاجة إلى الدراسة، يعني : يجتهد المرء في العبادة فيُكثر من الصلاة والصيام وجميع الأعمال التي تتيسّر له ويقصد من هذا الاجتهاد أنه يصل إلى درجة من رياضة النفس حتى تفيض عليها العلوم والمعارف من الله مباشرة دون حاجة إلى الأنبياء .
((واستعدادها)) استعداد النفوس .
((لفيض العلوم والمعارف عليها)) العلوم والمعارف بمعنى واحد؛ لتفيض من الله العلوم والمعارف على النفوس؛ ويتحصّل الإنسان بالرياضات النفسية على العلوم والمعارف بدون تعلُّم، ما يحتاج إلى التعلُّم والدراسة، ولكن يروِّض النفس رياضة بالعبادة فيُكثر من العبادات : يكثر الصيام والقيام والعبادات التي تشقُّ على النفس بذلك يصل إلى درجة أنّ العلوم الربّانية والمعارف تفيض على نفسه .
((وخروج قُواها)) قوى النفس ((من قوى النفس السَّبُعيّة والبهيمية)) لتخرج قوى نفوس الإنسان من قوى النفس السبُعيّة والبهيمية أي : لتخالف النفوس البشرية تخالف قواها قوى النفس السبعية والبهيمية لأن لا تكون قوى البشر مثل قوى السبع وقوى البهائم التي لا هَمّ لها إلا البطن والفرج .(1/148)
فإذا اشتغل الإنسان بالعبادة كثيرًا خرج من هذه الطبيعة ـ من هذه الطبيعة السبُعيّة والبهيميّة ـ ولو لم يفعل ذلك بقيَ في حكم البهائم وحكم السبُع؛ فإذا فارق ـ أو فارقت ـ نفسه أو طبيعته الطبيعة السبُعية والبهيمية يصل إلى درجة تفيض عليه العلوم والمعارف؛ هي في الواقع خيالات، تأتيهم خيالات فيحسبون أنها علوم ومعارف، ويزعمون أنّ الإنسان بهذه الطريقة قد يكون يصل إلى درجة لم يصل إليها الأنبياء .
لذلك : كبار الفلاسفة عندهم أفضل من الأنبياء، لأنّ الأنبياء يأخذون المعارف والعلوم بواسطة الملائكة، وهم بالرياضة النفسية هذه وصلوا إلى درجة أن يأخذون العلوم والمعارف ـ أو تفيض، ليس يأخذوا، تفيض فيضًا ـ من الله ـ تعالى ـ على نفوسهم بسبب هذه الرياضة النفسية؛
((فلو عُطِّلت العبادة لا التحقت نفوسهم بنفوس السباع والبهائم)) وحشيةٌ مؤذية، لا علم ولا معرفة؛ لكن لانتْ ووصلتْ إلى درجة أنها تفيض عليها العلوم والمعارف بسبب الإكثار من العبادة؛ هذه فائدة الإكثار من العبادة عندهم، لا يريدون بها رضى الله والجنة وطهارة النفس، ولكن يريدون أن يصلوا إلى هذه الدرجة، بمعنى : يشتغلوا بالعبادة على جهل دون اتّصال بالوحي، فيتسلّط عليهم الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء فيخيَّل إليهم تأتيهم المعارف والعلوم من عند الله، ويتحدّثون بحريتهم كلُّ كما يريد، إلى أن يصل الإنسان إلى درجة أنه صار أفضل من الرسل الذين تأتيهم الملائكة .
والعبادة هي التي تفرِّق بين النفوس البشرية وبين نفوس السباع والبهائم .
(((1/149)
فالعبادة تُخرجها)) تُخرج النفوس البشرية ((إلى مشابهة العقول)) ليعقل ويفهم. العقول التي هي محل العقل والفهم ((فتصير قابلة لانتقاش صور المعارف فيها)) بحيث تكاد المعارف أن تتجسّد، وتكون لها صور، وهذه الصور تُنْقش على هذه العقول التي كانتْ نفوسًا شبيهة بنفوس السبُع والبهائم ولكنها تحوّلتْ إلى عقول قابلة للمعارف الإلهية؛ ليس تفيض فقط ولكنها تُنْقَشْ فتثبُت؛ بذلك يخرجون من العالم الحِسِّي إلى عالم آخر خيالي .
وهذا الكلام لَمّا يُشْرح يحسب الذي ما يعرف الفلاسفة إنها حقائق واقعة ولكنها خيال؛ أكثر ما فيه : تلبس الشيطان عليهم والنفس الأمّارة بالسوء؛ حتى يخيَّل إلى كبارهم أنه استغنى عن الوحي وعن الأنبياء وأنّ المعارف جاءته من عند الله مباشرة ففاضتْ على نفسه وعلى عقله فنُقشت في عقله؛ وهذا مجرّد خيال، وليستْ هناك حقيقة واقعة، ولكن قد يتحدّث المرء منهم بهذا ويتكلّم فيكتب في هذا كتبًا بأسلوب فلسفي وقد يكون فيه نوعٌ من الأدب ـ ليس الأدب اللغة ولكن أدب التصوُّف ـ لأن التصوفُّ اختلط بالفلسفة خصوصًا من عهد الإمام الغزالي يُقال هو أول من خلط التصوُّف بالفلسفة؛ لذلك : يكتبون كلامًا غير مفهوم، لا يفهمه إلا الخواص، للإمام الغزالي كتابٌ سمّاه : ((المضنون به على غير أهله)) كتابًا كتبه، معنى ((المضنون به على غير أهله)) : لا يفهمه إلا الفلاسفة؛ والكتاب عندنا وكما قال لا يُفهم، أشبه ما يكون بالرُّطانة، ولكن لا يفهم إلا الفلاسفة ومن درس الفلسفة .
لله درُّ شيخ الإسلام الذي بارك الله في أوقاته درَس هذه العلوم فردّ على هؤلاء الفلاسفة الملاحدة بلغتهم بحيث لا يُستفاد من كتابه ((الرد على المنطقيِّين)) و ((الرد على الفلاسفة)) إلا من درَس هذه العلوم .
هذا أسلوب جديد : تُنْتَقَشُ وتُكتب صور المعارف تُكتب في النفوس كتابة كالنقش كاللوحات المكتوبة هذه .
(((1/150)
وهذا)) الكلام؛ ما هو هذا الكلام ؟، كونُ العبادة رياضة النفوس إلى آخره، يقول هذا طائفتان، ((يقوله طائفتان)) الذين يعتقدون أن فائدة العبادة الرياضة النفسية إلى أنْ يصل الإنسان إلى الفيض الإلهي، بل إلى درجة أنّ صور المعارف ـ تكون للمعارف
صور ـ فتُنْقَش هذه الصور في نفوسهم فتبقى ولا تنسى، يقول هذا طائفتان؛ لعلكم بعد التفصيل بين الطائفتين تقرُبون من الفهم إن شاء الله .
((إحداهما)) إحدى الطائفتين : ((من [ تقرّب ] إلى الإسلام والشرائع)) . لفظة ((تقرّب)) التعبير فيه بعضُ الشيء، أي : من يقرُب إلى الإسلام والشرائع، يحاول أن يكون قريبًا من تعاليم الإسلام ومن الشريعة .
((من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار)) ويُنكرون انشقاق الأفلاك كالقمر؛ من طريقتهم : إنكار انشقاق القمر وحدوث أي حدث في هذا العالم لأنه قديم، والقديم لا يحدُث فيه شيء، لذلك يُنكرون انشقاق القمر؛ بمعنى : إنّ الفلاسفة طوائف ومذاهب، ومن يقول هذا الكلام ـ العبادة رياضة ـ هم الذين يقرُبون من الإسلام والشرائع، أي : يُبيحون ويُجيزون العبادة الصورية الشكلية هذه .
القول بـ((قِدَم العالم)) وإنكار الفاعل المختار ـ وهو الله سبحانه وتعالى ـ كفر .
وإنما قالوا في حقّ الرب ( الفاعل المختار ) لأن أفعال الله ـ تعالى ـ كلها اختيارية، وأفعال العباد فيها أفعال اختيارية وفيها أفعال اضطرارية، وأفعال الله كلها اختيارية، ولذلك يسمون الفاعل المختار .(1/151)
ولكنّ الفاعل المختار ـ في زعمهم ـ خلق مخلوقًا واحدًا وهو العقل الفعّال فاستراح بعد، العقل الفعّال هو الذي يفعل وهو ليس بفاعل؛ بمعنى : لا ينكرون وجوده وإنكار من وصل إلى درجة الطَّبَعِيِّين قد يُنكرون وجوده ولو كان إنكارًا شكليًّا أو إنكار عناد، لكن هؤلاء لم يصلوا إلى إنكار وجود الرب ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن ينكرون أنه الفاعل المختار؛ وإنْ كانت العبادة توحي أنهم ينكرون وجوده لكن هؤلاء لم يصلوا إلى إنكار وجود الذات ولكن ينكرون أن يكون الفاعل المختار بعد أن خلق العقل الفعّال الذي يفعل وحده .
(((1/152)
بقدم العالم )) . يعتقدون إنّ هذا العالم قديم ليس له بداية، ولا يوجد الفاعل المختار؛ نفيٌ لله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ الله انتهتْ وظيفته عندما خلق العقل الفعّال، ولا يفعل ذلك بعد ذلك فعلاً اختياريًّا، العقل الفعّال هو ربُّ كل من دونه؛ يُثبتون ـ أولاً ـ له أنه الخالق، لكن ـ كما تقدّم ـ خالقٌ لا يصدر منه إلا واحد، لأنه واحد، لا يصدر منه إلا واحد، بعد أن خلق ذلك الواحد ليس هو الفاعل المختار، وإنما العقل الفعّال هو الفاعل المختار؛ هؤلاء الفلاسفة .(1/153)
يستوي في هذا المعنى الفلاسفة اليونانيُّون كأفلاطون وأمثاله والفلاسفة الذين يقال إنهم من الفلاسفة الإسلاميِّين كابن سينا والفرابي والكِنْدي هذه عقيدة الجميع ـ جميع الفلاسفة ـ، لا فرق بين ابن سينا والفرابي الذين يسمون الذين يُطلق عليهم الفلاسفة الإسلاميُّون وبين أفلاطون وأمثاله من اليونانيِّين لا فرق بينهم، إنما اختلاف الجنسيّات، هؤلاء جنسيّاتهم يونانيِّين وهؤلاء جنسياتهم غير يونانيِّين فقط والعقيدة هي هي؛ ولذلك : لا يلتبس عليكم الأمر عندما تقروا لبعض الكُتّاب المعاصرين الثناء العاطر على ابن سينا والفارابي وتسميتهم الفلاسفة الإسلاميِّين وتسمية الفلسفة الفلسفة الإسلامية؛ الفلسفة الآن تدرَس في كثير من الجامعات في كثير من الدول الإسلامية والعربية تدرَس الفلسفة بدعوى أنها فلسفة إسلامية؛ وفي الواقع : لا توجَد فلسفة إسلامية، أو لا يوجد في الإسلام فلسفة، وقد عرفتم الآن بعد ما يحاول الفلاسفة : عدم الاشتغال بالوحي، الاستغناء عن الرسالة والنبوّة، والوصول إلى الله ـ تعالى ـ بطريقة جديدة ـ طريقة الرياضة النفسية ـ بدعوى أن العبادة تروِّض النفوس إلى درجة أنّ العلوم والمعارف تفيض عليها من عند الله ـ تعالى ـ بدون واسطة الأنبياء، بل تُنْقَشُ تكون له صور حسيّة تُنْقَشُ في النفوس؛ وهذا شيءٌ خيالٌ يعبِّرون من عند أنفسهم، ويتكلّمون بكلام لا يُفهم، لو أنكم أخذتم الآن كتابًا من كتب الفلاسفة لتقرؤوا فيه بل ردَّ شيخ الإسلام على الفلاسفة لا يستفيد منه إلا القليل، لأنه ردّ عليهم بلغتهم، ولغتهم وإنْ كانتْ لَمّا تقرأ ألفاظ عربية كأنك تقرأ ألفاظ أردية، لَمّا تقرأ الحروف تحسبها عربية فهي أردية لا تفهم معناها هي مثلها تمامًا كلامٌ لا يُفهم .
هذه طائفة من الطوائف التي تقول : إن العبادة رياضة .(1/154)
عرفنا الطائفة الأولى ـ الفلاسفة ـ؛ وأهم ما في الأمر : أن لا تغترُّوا ولا تنخدعوا بمن يقول بالفلسفة الإسلاميّة والفلاسفة الإسلاميِّين؛ هذه عبارةٌ فيها تلبيس، ولا يجوز التلبيس في باب البيان؛ الله نهى عن التلبيس : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } ، التلبيس يلزم منه الكِتْمان، والكتمان جريمةٌ كبيرة في باب البيان، من لبّس كتم، والكتمان كبيرة من الكبائر؛ لذلك : التلبيس على الشباب بأن هذه فلسفة إسلامية وهؤلاء فلاسفة الإسلام تلبيس هذا كله، وفيه كتمانٌ للحق؛ هؤلاء ابتعدوا عن الوحي ابتعادًا كما تلاحظون الآن .
((والطائفة الثانية)) من القائلين بالرياضة النفسية، وأن الفائدة من العبادة : الرياضة النفسية؛ الطائفة الأولى الفلاسفة سواءٌ كانوا اليونانيِّين أو غيرهم . الطائفة الثانية : الصوفية.
((من تفلسف من صوفية الإسلام)) . هذه هي الأخرى؛ تسمية الصوفية صوفية الإسلام كذلك من التلبيس، لا يوجد في الإسلام ما يسمى بالتصوُّف؛ التصوُّف نحن عرفنا تاريخ نشأته متى نشأ وفي أيِّ بلد وكيف نشأ؛ تحدّث عن هذا شيخ الإسلام في مجلّد خاصٍّ بالتصوُّف في ((المجموع))، وبيّن أنه نشأ في البصرة في حدود القرن الثالث ـ تقريبًا ـ بدأ بقوم زهدوا وتقشّفوا وانقطوا للعبادة، ثم لاشتغالهم بالعبادة على جهل زيّن لهم الشيطان زيًّا معيَّنًا، زيَّ الشهرة لباس الشهرة، واشتهروا بلبس الصوف، وقاطعوا القطن والكِتّان إلا الصوف، في زعمهم : نوعٌ من التزهُّد؛ فهذا سبب تسميتهم
( الصوفي )، الرجل الصوفي أي : المشهور بلبس الصوف .
إذًا : تسمية الصوفية صوفية الإسلام ـ أو التصوُّف الإسلامي ـ خطأ؛ الإسلام هو ما جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كلُّ ما أُحدث من فرقة أو ملّة أو نِحْلة أو حركة أو جماعة بعد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يعرفها النبي ولا أصحابه لا يسمى إسلامًا أبدًا .(1/155)
ولذلك : صحيح الصوفية يتفلسفون ـ ليسوا بفلاسفة ـ لكن منهم من يتفلسف، فيدرس الفلسفة فيتفلسف؛ هؤلاء يقولون بقول الفلاسفة .
((صوفية الإسلام)) أي : يوجد في الصوفية من لم يتفلسف؛ وكما قلنا : كان التصوُّف اصطلاحًا قائمًا بذاته لا علاقة له بالفلسفة ولكن خُلطت الفلسفة بالتصوُّف ـ أو خلطَ التصوُّف بالفلسفة ـ : الإمام الغزالي كان في أول حياته صوفيًّا وحائرًا وهالكًا في شطحات التصوُّف، ثم أضاف إلى التصوُّف الفلسفة وخلط بينهما، وألّف كتبًا مختلفة؛ أثنى شيخ الإسلام على كتاب ((إحياء علوم الدين)) مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة والكلام الفلسفي والشطحات الصوفية، لكنه يقول : خيرُ كتابٍ ألّفه الغزالي، وله كتب ـ وإنْ لم تكن بمستوى ((إحياء علوم الدين)) من حيث العلم ـ لكن من حيث القرب من العقيدة أو موافقة منهج السلف له رسائل أحسن من ((إحياء علوم الدين))، منها: ((إلجام العوام عن علم الكلام))، ورسائل أخرى في هذا المعنى؛ وله كتبٌ فلسفية فأبعد عن الحق وأعمق في التصوُّف : ((المضنون به على غير أهله))؛ وهذه الكتب كلها موجودة مطبوعة .
والناس احتارتْ في تصوُّر حقيقة الغزالي وحقيقة عقيدته؛ وعند التحقيق : الرجل مرّتْ عليه مراحل في كل مرحلة يؤلِّف كتابًا؛ فنرجو أنه خُتم له بكتابه : ((إلجام العوام عن علم الكلام)) وبما يُحكى أنه مات و ((صحيح البخاري)) على صدره ـ أي : رجع إلى الاشتغال بالسنة؛ إنْ كانت هذه الكتب وهذه الحكايات في آخر حياته يرجى أنه ممّن تاب؛ وأنا ذكرت فيمن ذكرت من الأشاعرة من كبار الأشاعرة أنه من الذين ندموا
ـ أو تابوا ـ .
وهو في مرتبة الرازي والشهرستاني والجويني الابن أي : من الذين ندموا وذموا علمَ الكلام؛ ولست أدرى عن توبته الصحيحة الصريحة .(1/156)
الشاهد : ((الطائفة الثانية من تفلسف من صوفية الإسلام)) سبق الكلام والتعليق على كلمة ( صوفية الإسلام ) : التعبير عن الصوفية أنهم صوفية الإسلام ـ أو القول : التصوُّف الإسلامي والفلسفة الإسلامية والفلاسفة الإسلاميِّين ـ هذا التعبير خطأ، فيه تلبيسٌ على الناس؛ لا يوجد في الإسلام تصوُّف، ولا يوجد في الإسلام فلسفة، والله
ـ سبحانه وتعالى ـ حرّم علينا التلبيس ونهاها : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } ؛ اللبس ـ لبْس الحق بالباطل ـ يلزم منه : كِتْمان الحق؛ لذلك : لا ينبغي أن يلبِّس الإنسان على من دونه، بل ينبغي أن يكون صريحًا معه .
وإعلان كثيرٌ من الناس : أن التصوُّف عبارة عن التطبيق العملي للإسلام هذا قولٌ خطير جدًّا، ويُبْعد من لا يعرف حقيقة التصوُّف يبعده عن الإسلام؛ حقيقة التصوُّف بعيدٌ عن حقيقة الإسلام وكذلك الفلسفة .
(([ وتقرّب ] إلى الفلاسفة)) بدارسة الفلسفة وتقديس الفلاسفة والاقتناع بقواعد الفلسفة .
((فإنهم يزعمون)) هؤلاء الصوفية المتفلسفة .
((أنّ العبادات)) أي : هؤلاء الذين تفلسفوا من الصوفية ((رياضات لاستعداد النفوس للمعارف العقلية)) كما قالت الفلاسفة تمامًا ((ومخالفة العوائد)) ما تعوّدت النفوس، ومفارقتها العالم الحسي الذي عليه جمهور الناس . هذه طريقة الطائفة الثانية اختلاف يسيرٌ جدًّا في العبارة، وإلاّ المعنى واحد؛ طالما اتّفقوا أنّ العبادات الغاية منها : رياضات نفسية لاستعداد النفوس للمعارف العقلية؛ المعارف التي تفيض على العقول بعد أن فارقت النفسُ البشرية النفس السبُعية والبهيميّة فصارتْ عقلاً يفهم عند ذلك تفيض عليها العلوم والمعارف ـ بل تُنْقش كما تقدّم ـ .(1/157)
ويؤدِّي ذلك ـ أيضًا ـ إلى مخالفة العوائد والتقاليد، ويأتون بأشياء جديدة، وربما ادّعوا أشياء خارقة للعادة؛ هؤلاء مخالفتهم للعوائد يؤدِّي إلى ادّعاء كرامة خارقة للعادة، ويأتون بأشياء منها : دعوى علم الغيب، والإتيان بأشياء مخالفة للقوانين ـ قوانين
الدنيا ـ والعادات التي عليها الناس ومخالفة الشريعة، ويصل كبارهم إلى درجة تسمية الشريعة بالقشور، واللُّبُّ ما وصلوا إليه بالرياضات النفسية، ذلك هو اللُّب، ولذلك يستخفُّوا بالشريعة وبعلماء الشريعة وإنْ كان لا يصرِّحوا بالاستخفاف بالأنبياء لكن يصرّحون بالاستخفاف من علماء الشريعة : يقولون : هؤلاء علماء الرُّسوم وليسوا بعلماء؛ ويخترعون لأنفسهم ألقابًا : العارف ـ العارفون ـ، ويتركون لفظة ( العالِم )، ولفظة العالم لعلماء الرسوم الذين هم الفقهاء، والعارف والعارفون والواصل والواصلون والأقطاب والغوث هذه من ألقابهم .
((ثم من هؤلاء من لا يوجِب العبادة إلا بهذا المعنى)) أي : بقدر ما يصل بها ـ أي : من هذه العبادة ـ إلى درجة أن يصل إلى مخالفة العوائد وفيض المعارف والعلوم . ((إلا لهذا المعنى)) لأجل الرياضة .
((فإذا حصل لها)) أي : لنفسه ((ذلك)) الرياضة؛ هو ادّعى فاضتْ عليه العلوم والمعارف من الله؛ إذا وصل إلى هذه الدرجة ((بقي [ متحيِّزًا ] )) متمسِّكًا ((في [ حفظ ] أوراده)) العبادات التي أوصلته إلى هذه الدرجة، يتمسّك بها ويشتغل بها ((والاشتغال بالوارد [ عنها ])) أي : عن النفس؛ أي : ما تملي عليه نفسه، وفي النسخة الثانية : ((ويشتغل بالوارد منها)) بالوارد منها، بالوارد من الأذكار من العبادات، أي : لا يبتدع ، يلتزم بها فيشتغل بها، هي الغاية؛ الغاية : حصول هذه الرياضة، إذا صل له ذلك وقف عندها عند هذه العبادة التي كان اشتغل بها سواء كانت صيامًا أو قيامًا، يلازم هذه العبادة، ولا يشتغل بغيرها .(1/158)
ولذلك : عبارة ((متحيِّرًا)) ما هي واضحة في السياق، لو قيل ( متحيِّزًا ) كان واضح من حيث المعنى . [ ثم قال الشيخ في درس اليوم التالي : ((مُخَيَّرًا)) هكذا العبارة في الأصل؛ أي : يخيَّر؛ يجوز ( مخيَّرًا ) أو ( مخيِّرًا ) بين حفظه : بين حفظ هذا المعنى الذي حصل له أو ردِّه وبين ردِّ هذا المعنى : يكون غيرَ مقتنع بهذا المعنى الذي حصل له .
المهم : يبقى في حفظ أوراده يحفظ الأوراد، لأن ـ خصوصًا الطائفة الثانية
الصوفية ـ لهم أورادٌ يأخذونها من الشيوخ، وهذه الأوراد عندهم يسمون وظائف كالصلوات عندنا تُقضى حتى لو نسي الإنسان يقضي، يحافظ على هذه الأوراد .
فيه تصحيف العبارة غير سليمة : انتبه مرّة أخرى : ((فإذا حصل لها ذلك)) إذا حصل لنفسه ذلك المعنى ((بقي مخيَّرًا)) أي : يخيِّر نفسه ((في حفظه)) أي : بين حفظه ((ذلك المعنى أو ردِّه والاشتغال عنه بالوارد)) بالعمل الوارد وبالعبادات الواردة؛ يُصبح يعطي لنفسه الخيار كأنه غيرُ مقتنع كل الاقتناع بهذا المعنى الذي حصل له .
((والاشتغال بالوارد [ عنها ])) الوارد عن النفس ـ عن العقل ـ . وعلى النسخة الثانية : ((والاشتغال بالوارد منها)) بالوارد من الأوراد؛ وهذا معناه : إذا اشتغلوا بالأوراد الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه ليستْ طريقة الصوفية، ولذلك لعلّ العبارة التي عندنا هي المناسِبة لمذهبهم . ((والاشتغال بالوارد [ عنها ])) عن النفس؛ أي : ما تُملي عليه نفسه لأنه حصل بالرياضة إلى درجة أنها هي التي تُرشده، ويستفيد كلَّ شيء من المعارف العقلية؛ هذا الذي يناسب مذهبهم؛ وإلا على النسخة الثانية : ((والاشتغال بالوارد منها)) أي : بالوارد من الأوراد أي : بالأوراد الواردة المأثورة؛ وهذا لا يستقيم مع مذهبهم؛ يُرجع إلى الأصل ويُتَأكّد .
(((1/159)
ومنهم من يوجِب القيام بالأوراد)) أي : الأوراد الشرعية والعبادات ((وعدم الإخلال بها)) بتلك الأوراد الشرعية؛ هؤلاء الذين يوجبون القيام ولم يجعلوا لأنفسهم الخيار ـ لنفرِّق بين الفريقين ـ : الفريق الأول : يجعل لنفسه الخيار إذا حصل له هذا المعنى، بين ردِّ هذا المعنى والاشتغال عنه بالوارد، وبين حفظه هذا المعنى الذي حصل له والوقوف عنده، مخيَّر، يخيِّر نفسه ذلك؛ ((ومنهم : من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها)) لا يجوز عنده الإخلال بالعبادات الواردة .
لكن هذه الأوراد ليست أورادًا مأثور إنما أوراد يتلقّونها عن مشايخهم . ((منهم من يوجِب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها))؛ يحتمل أن يريدوا بالأوراد : العبادات، من يوجِب القيام بالعبادات وعدم الإخلال بالعبادات لأنها هي التي سبّبتْ لهم الرياضة
ـ رياضة النفس ـ .
((وهم صِنْفان ـ أيضًا ـ)) الذين يوجبون؛ الأولون لا يوجِبون العبادة إلا بهذا المعنى ـ تقدّم هذا ـ؛ ((ومنهم من يوجِب القيام بالأوراد)) المراد بالأوراد ـ كما يدلُّ السياق ـ العبادات، من يوجِب القيام بالعبادات وعدم الإخلال بالعبادة، لأنّ الإخلال بالعبادة ـ كما تقدّم ـ يردُّ النفس إلى النفس السبُعية والنفس البهيمية؛ إذًا يلتزمون بالعبادة لهذا الغرض .
هذان الصنفان الخُلْف بينها أشبه ما يكون خُلْف لفظي أي : من حيث الهدف .) :
أحدهما : من يقول بوجوبها حفظًا للقانون وضبطًا للناموس؛ والآخرون يوجبونها حفظًا للوارد وخوفًا من تدرُّج النفس بمفارقتها إلى حالها الأولى من البهيمة ( ( ) الذين يوجبون القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها صنفان : الصنف الأول : ((من يقول بوجوبها)) بوجوب القيام بالعبادة .
((حفاظًا للقانون)) يعني : الشريعة، المراد بالقانون : الشريعة .
(((1/160)
وضبطًا للناموس)) يعني : القانون، المراد : الشريعة أيضًا؛ يعني : للمحافظة على ظاهر الشريعة، وظاهر الناموس : الناموس المتَّبَع عند الناس؛ فقط شبه مجاملة كأنهم يريدون بذلك : مجاملة أهل الشريعة . ((وضبطًا للنفوس)) هكذا في الأصل، ليس ( الناموس )؛ وإلا إذا قلنا ((ضبطًا للناموس)) كما هو عندنا يكون مكرّر مع الذي قبله، القانون والناموس بمعنى واحد .
((وضبطًا للنفوس)) أي : يجب من يقول بوجوب تلك الأوراد حفاظًا للقانون واحترامًا للقانون ـ أي : للشريعة ـ وضبطًا للنفوس .
الذين يوجبون القيام بالأوراد انقسموا إلى قسمين منهم من يرى هذا الوُجوب لغرض معيّن وهو الحفاظ على القانون ـ على ظاهر الشريعة ـ ((وحفظًا للناموس)) المعنى واحد .
((والآخرون يوجبونها)) يوجبون العبادة، يوجبون التمسُّك بالشريعة؛ لماذا ؟
((حفظًا للوارد)) لوارد من الشرع؛ أي : للمحافظة على الأوراد الواردة وعلى العبادات الواردة .
((وخوفًا من تدرُّج النفس بمفارقتها)) للعبادة إلى حالها الأولى من البهيميّة، لا لأجل المجاملة أو المحافظة على ظاهر الشريعة ولكن حفاظًا على النفس لأن لا ترجع إلى البهيمة والسبُعية .
(((1/161)
إلى حالها الأولى من البهيمية)) أي : حفاظًا على هذا المعنى لا احترامًا للقانون، أي : خشية أن تنفلت النفس من أيديهم فترجع إلى بهيمتها وسبُعيّتها، لذلك يحافظون ويوجِبون الحفاظ للوارد ـ العبادات الواردة ـ خوفًا من تدرُّج النفس، لأن لا تتدرّج النفس فتنفلت من أيديهم وترجع إلى السبُعية والبهيمية؛ بمعنى : لا يعبدون الله ـ تعالى ـ ولا يُكثرون من هذه العبادات طلبًا لمرضاته وامتثالاً لأمره وابتغاء رضاه، لا، بل لهذا الغرض، لأنها إنما هي رياضة؛ هذه خلاصتها سواء عند الفلاسفة أو عند الصوفية هي رياضة، لكن منهم من يبالغ فيرى عدم وجوب المحافظة عليها إلا مجرّد المجماملة محافظة للقانون، ومنهم من يرى وجوب المحافظة عليها لأن لا ترجع النفس إلى عادتها وسيرتها الأولى إلى البهيمية والسبُعية .
تجدون الفرق بين الصنفين الأخيرين ليس شيءٌ كبير بل شبه شكلي؛ لأن الأولين يقولون يرون الوجوب حفاظًا للقانون وضبْطًا للنفوس، وهذا المعنى قريبٌ من المعنى الثاني، ((والآخرون يوجبونها حفاظًا للوارد)) ـ العبادات الواردة ـ ((وخوفًا من تدرُّج النفوس)) الخوف من تدرُّج النفوس معناه هو الضبط؛ الفرق ليس بكبير؛ ولكن حتى في الأصل هكذا .
هذان الصنفان يتفرّعان من الصنف الفريق الثاني الذي يوجِب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها؛ الفريق الذي قبله : ((ثم من هؤلاء من لا يوجِب العبادة إلا لهذا المعنى))(1/162)
ـ يظهر الفرق ـ الفريق الثاني ولو لم يظهر له هذا المعنى فهو يلازِم العبادة، لو لم يظهر له هذا المعنى الذي حصل للنفس : الفيْض ونقش صورة العبادة لو لم يحصل؛ الأول إنما يسعى للحصول إلى هذه الدرجة فإذا حصل بقي متحيِّزًا متمسِّكًا بنوع العبادة التي حصلتْ له بها هذه الدرجة سواءٌ كانت صيامًا أو قيامًا؛ ولكن الآخرون يوجِبون القيام بالأوراد سواءٌ حصل المطلوب الذي هو الرياضة أو لم يحصل، وهم يسعون لهذا الغرض، لكن يلازمون هذه العبادة لو لم يحصل هذا الغرض الذي هو الرياضة .
ثم كيفية الوجوب : إما حفاظًا للقانون، أو حفاظًا على النفس لأن لا تعود إلى السبُعية؛ الاختلاف من حيث الغرض من حيث الهدف : الطائفة الأولى حصل لها المطلوب ولَمّا حصل لها المطلوب رأتْ المحافظة على هذا النوع الذي حصل به المطلوب من العبادة .
الفريق الثاني ـ الذي انقسم إلى قسمين ـ يرون الوجوب على المحافظة على ذلك سواءٌ حصل المطلوب أو لم يحصل، إما من باب المحافظة على القانون أو من باب المحافظة على النفس لأن لا تنفلت؛ هكذا يظهر ـ والله أعلم ـ . والمقام فلسفة
ـ الله المستعان ـ .
لعل الرجوع إلى الأصل يوضِّح، الكلام ملخّص من كلام العلاّمة ابن القيِّم في ((مدارج السالكين)) وأحال ابن القيّم ـ أيضًا ـ على ((مفتاح دار السعادة)) وعلى ((طريق الهجرتين))، وذكر كتابًا رابعًا وهو ((روضة المحبِّين))؛ وهذا الكتاب بحثنا عنه لم نطّلع عليه، أما الكتابان ـ ((مفتاح دار السعادة)) و ((طريق الهجرتين)) ـ موجودان عندي، لكن ((روضة المحبِّين)) لا أدري هل هو يوجد مطبوعًا أم لا ؟، هذا الكتاب المَظِنّة :
((1/163)
المكتبة السلفية )، لأن هذه المكتبة هي عندها كتب قديمة زمان من أقدم المكتبات في المدينة، وإنْ كانت الآن أصبحتْ ما في مشهورة، لكن من حيث التاريخ هي من أقدم المكتبات في المدينة هي ( مكتبة النِّمْنِكاني )؛ ابحثوا في المكتبة السلفية؛ وهذه الكتب هي أصول هذا الكتاب، والشباب ما عليهم إلا أنْ يرجعوا إلى تلك الكتب لأن الشيخ العلاّمة ابن القيِّم وإنْ كان ينقل كلام الفلاسفة لكن أسلوبه أسلوب صوفي ليس أسلوب فيلسوف، ليس أسلوب الفلاسفة؛ أسلوب الصوفية أقرب إلى الفهم، والأدب الصوفي أقرب إلى الفهم من أدب الفلاسفة؛ ارجعوا إلى هذه الكتب، وأنا أرجع معكم أبحث
ـ إنْ شاء الله ـ .) .
فهذه نهاية إقدامهم في حكمة العبادة وما شُرعتْ لأجله، ولا تكاد تجد في كتب المتكلِّمين على طريق السلوك غير طريق من هذه الطرق الثلاث أو مجموعها ( ( ) يقول المقريزي : ((فهذه نهاية إقدامهم)) أي : نهاية إقدام عقولهم؛ عقولهم وصلتْ إلى هذه الدرجة إما أنها رياضة، وبعد ذلك هذا الاختلاف الداخلي .
هنا نقل عباردة ولم ينقل عبارة الأصل : قال : ((فهذه نهاية إقدامهم في حكمة العبادة وما شُرعت لأجله؛ ولا تكاد تجد في كتب المتكلِّمين على طريق السلوك غير طريق من هذه الطرق الثلاث أو مجموعها)) . عبارة الأصل هكذا : ((ولا تجد في كتب القوم غير هذه الطرق الثلاثة على سبيل الجمع أو على سبيل البدل)) انظر هذه العبارة السهلة تركها فنقل عبارة فيها تعقيد .
في حكمة العبادة وما شُرعتْ لأجله)) . لم تُشرع العبادة عندهم ليتعبّد بها العبد فيكون عبدًا لله وينال بذلك رضى الله ويتقرّب إليه، ولكن شُرعتْ للمعاني التي تقدّم ذكرها : الرياضة، على اختلاف في كيفية المحافظة على العبادة ـ أو وُجوب المحافظة على العبادة أو عدم الوجوب ـ ولكنها شُرعتْ للرياضة .
(((1/164)
ولا تكاد تجد في كتب المتكلِّمين)) الصوفية والفلاسفة معًا . المتكلِّمون هم الذين سموا أنفسهم علماء التوحيد ـ أو علماء العقيدة ـ كالأشاعرة والماتورودية والمعتزلة هم الذين إذا أُطلق المتكلِّمون يعني : هؤلاء .
((ولا تكاد تجد في كتب المتكلِّمين)) الذين يتحدّثون، لا يعني المتكلِّمين الذين وصفتهم.
((على طريق السلوك)) أي : في كتب المتحدِّثين عن طريق السلوك .
((غير طريق من هذه الطرق الثلاثة أو مجموعها)) كل من يتحدّث على طريق السلوك؛ السلوك إذا أُطلق سلوك المتصوِّفة، يسمون الشيخ السالك، يعني : يسلك بالناس؛ كلُّ من تحدّث على طريق السلوك؛ ( على ) الظاهر بمعنى ( عن )، أي : عن طريق السلوك لا تجد غير طريق من هذه الطرق الثلاثة التي تقدّم ذكرها الآن، التي هي : طريقة الفلاسفة، طريقة الصوفية المتفلسفة، وما تفرّع من ذلك؛ إنما يتحدّثون، بل الخُلاصة بأنّ الغاية من العبادات الرياضة؛ أشار المعلِّق يقول : ((انظر التعليق ( 1 ) المتقدِّم في صفحة 15)) من نسخة علي حسن، فنقل هناك كلام الرازي الطبيب حيث يقول :
نهاية إقدام العقول عِقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذىً ووبال
قال الرازي هذا الكلام في نهاية حياته بعد أن قضى العمر في علم الكلام وفي الفلسفة ندم وقال هذا الكلام؛ إلى أنْ قال :
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(1/165)
قال زيد وقال عمر، وقيل كذا، وقيل كذا؛ زد على ذلك : لو كان كذا كان كذا، لو كان كذا كان كذا؛ قضوا أعمارهم في ( لو ) و ( قيل وقال )؛ لذلك : يُعَدُّ الرازي من النادمين، والقول أنه من التائبين لا يُسْتَبْعد لأن التوبة أساسها الندم، فهو ندم؛ الرازي من كبار علماء الأشاعرة الذين ندموا في آخر حياتهم ـ فخر الدين الرازي ـ؛ راجع في ((المجموع)) في المجلّد ـ أظنه في ـ الرابع، وأنا نقلت كلامه في ((الصفات الإلهية))؛ وهم الرازي والشهرستاني والغزالي والجويني الابن غير الجويني الأب، أما الجويني الأب توبته صريحة، هؤلاء أنا تحدّثت عنهم ممكن ترجعوا إلى ((الصفات الإلهية)) تجدون هناك التفصيل.
إلى هنا ننتهي من هذا الكلام المعقّد؛ لننتقل الآن إلى الصنف الرابع : الصنف المعروف الذي ماشي على الجادّة سوف تفهمون كلامهم ـ إنْ شاء الله ـ .
[ على سبيل الجمع ] أي : يذكر بعضهم الطرق الثلاثة معًا، [ أو على سبيل البَدَل ] يعني : يذكروا بعضها دون بعض ) .
والصنف الرابع هم : القائلون بالجمع بين الأمر والقدر والسبب؛ فعندهم : أن سِرّ العبادة وغايتها مبني على معرفة حقيقة الإلهية ومعنى كونه ـ سبحانه وتعالى ـ إلهًا، [ و ] أن الإلهية موجب الإلهية ومقتضاها وارتباطها كارتباط متعلَّق الصفات بالصفات وكارتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة والأصوات بالسمع والإحسان بالرحمة والإعطاء بالجود؛ فعندهم : من قام بمعرفتها على نحو الذي فسّرناها به لغة وشرعًا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة العبادات وغاياتها به، وعلم أنها هي الغاية التي خُلقت لها العباد ولها أُرسلتْ الرسل وأُنزلت الكتب وخُلقت الجنة والنار ( ( ) والصنف الرابع يُعتبر هو المقصود بالذات من هذا البحث في باب العبادة وفي تحقيق مقام { إياك نعبد وإياك نستعين } .(1/166)
وإنما ذكرت هذه الفرق كلها محجوبة عن الحق من باب ذكر الأضداد وإنما تُعرف الأشياء بأضدادها إذا عرف ضوء النهار عرف ظلام الليل وإذا عرف الخير عرف الشر وعرف قيمة الخير عرف سوء الشر وهكذا الأمر تتبيّن وإنما تتبيّن الأمور بأضدادها، ومحاسن الأمور لا تُعرف إلا بضدّها؛ لذلك : ذُكرت هذه الفرق مع تفاوُتها في الضلال، كلها بعيدة عن مفهوم الإسلام الصحيح في باب العبادة .
وأما ((الصنف الرابع)) وهم أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، سمّاهم ابن القيِّم : ( المحمديُّون الإبراهميُّون ) هكذا وصفهم .
((القائلون بالجمع بين الخلق والأمر)) . الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الخلق والأمر؛ الأمر بنوعيه : الأمر الديني الشرعي، والأمر الكوني القدري؛ كما أنّ الإرادة تنقسم إلى الكونية والشرعية كذلك الأمر؛ الأمر الشرعي مثل قوله : { أقيموا الصلاة وآتو الزكاة } هذا أمرٌ شرعي، والأمر الكوني كقوله ـ تعالى ـ : { وإذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرًا } ، { أمرنا } الشاهد هنا، وهل الله ـ سبحانه وتعالى ـ المترَفين حتى يُسرفوا فيفسقوا ؟، هذا أمرٌ كوني ليس أمرًا شرعيًّا ـ على أحد الأقوال، في الآية أقوال بإمكانكم أن ترجعوا إلى كتب التفسير ـ؛ وعلى كلٍّ هذا مثال من أمثلة الأمر الكوني .
أهل السنة والجماعة المحمديون الإبراهميّون ـ كما سمّاهم العلامة ابن القيّم ـ يجمعون بين الخلق والأمر : يؤمنون بأن الله له الأمر وله الخلق، وأنّ الأمر غير الخلق؛ ويؤمنون بالقدر والسبب؛ ولا منافاة بين القدر وبين السبب؛ يؤمنون بمراتب القدر : بعلم الله السابق، وكتابه السابق، ومشيئته العامّة، وخلقه وإيجاده؛ هذا كله له .
والإيمان بالقدر ـ بمراتبه ـ نظام التوحيد؛ فمن وحّد الله وكفر بالقدر فسد توحيده ـ كما قال عبد الله بن عبّاس ـ(1/167)
ويؤمنون بـ((السبب)) ويرون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل لكل شيء سببًا، ربط بين الأسباب والمسبَّبات، ما من شيء في الدنيا والآخرة إلا وله سبب : للموت سبب، للحياة سبب، للشقاوة أسباب، وللسعادة أسباب، ولتحصيل العلم أسباب، ولولادة المولود أسباب، للشر أسباب، للخير أسباب؛ هكذا أراد الله، ربط كل شيء بالأسباب .
يؤمنون بوجود الأسباب والمسبَّبات، وأن المسبَّبات لا تحصل وحدها إلا بالأسباب : لا يعتقدون أنّ الإنسان قد ينال السعادة ثم الجنة بدون سبب؛ الله جعل للسعادة أسبابًا ولدخول الجنة أسبابًا، وكذلك العكس : للشقاوة أسباب ولدخول النار أسباب؛ وهكذا جميعُ الأمور .
ادرسوا هذا الموضوع في كلام شيخ الإسلام في المجلّد الثامن الذي خصّصه للقدر ((كتاب القدر)) مجلّد ضخم، هذا الكتاب مع ((شفاء العليل)) يكفيان لمعرفة مسائل القضاء والقدر والأسباب وأفعال العباد هذه مسائل معقدّة وخطيرة جدًّا ينبغي تحقيقها .
((فعندهم)) عند هؤلاء المحمديِّين .
((أن سِرَّ العبادة وغايتها مبنيٌّ على معرفة حقيقة الإلهية)) ما معنى الإلهية ((ومعنى كونه ـ سبحانه وتعالى ـ إلهًا)) الجملة الثانية تفسيرٌ للجملة الأولى؛ أي : معرفة كونه ـ سبحانه وتعالى ـ إلهًا، أي : مألوهًا معبودًا، محبوبًا .
(([ و ] أن العبادة موجَب الإلهية)) ما تقتضيه الإلهية؛ ((موجَب)) بمعنى ( مقتضى )؛ لذلك : الألفاظ الثلاثة هذه تقريبًا مترادفة :
((موجَب الإلهية وأثرها ومقتضاها)) . العبادة مقتضى الإلهية؛ ومن عرف معنى الإلهية وآمن بالإلهية آمن بالعبادة وعرف أنها إنما شُرعتْ العبادة لتحقيق معنى العبودية .
((وارتباطها)) ارتباط العبادة بالإلهية .
(((1/168)
كارتباط متعلَّق الصفات بالصفات)) . متعلَّق القدرة ما هو ؟، هذا الكون كله؛ أو ـ إنْ شئت ـ : الجائزات والممكنات، لأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما يوجِد بقدرته الجائزات والممكنات دون المستحيلات؛ قدرة الله ـ تعالى ـ لا تتعلّق بالمستحيلات لا لأنه عاجز، لا، بل لكون ذلك غير لائق بالله ـ تعالى ـ كتعلُّقها بالشريك والولد والصاحبة؛ لا يقال الله عاجزٌ عن خلق الشريك له ولكن يقال : قدرة الله لا تتعلّق بذلك لأن ذلك مستحيلٌ لا يليق بالله ـ تعالى ـ؛ فقدرة الله ـ تعالى ـ تتعلّق بغير المستحيلات.
إذا صعُب عليكم هذا فلنقل : متعلَّق العلم : جميع المعلومات، ومتعلَّق الإرادة، ومتعلَّق السمع، ومتعلَّق البصر المسموعات والمبصَرات .
التفريق بين الصفة وبين متعلَّقها ينافي الشرع والعقل معًا؛ ولذلك العبارات التالية تُعتبر تفسير لهذا الكلام المجمل .
لذلك قال : ((وكارتباط المعلوم بالعلم)) المعلوم هو المتعلَّق، لأن العلم يتعلّق بجميع المعلومات؛ الله ـ سبحانه وتعالى ـ عالمٌ بكل شيء : بالواجبات بالمستحيلات بالممكنات كلها معلومة، علم الله ـ تعالى ـ متعلِّقٌ بكلّ شيء لأنه عالمٌ بكل شيء حتى المستحيلات، أي : يعلمها بأنها مستحيلة، ويعلم بالموجودات بعد وجودها ويعلم أنها موجودة، وتتعلّق بالمعدومات قبل وجودها يعلم أنها غير موجودة .
والتفريق بين العلم وبين المعلوم مستحيل؛ لذلك : كلا المعتزلة : ( عالمٌ بذاته ـ أو عالمٌ بغير علم ـ، سميع بغير سمع، بصير بغير بصر ) كلاٌم باطل غير معقول .(1/169)
كما أنه لا يفرَّق بين العلم والمعلوم ((والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والإعطاء بالجود)) . كما أنه لا يجوز التفريق بين هذه الصفات وبين متعلَّقاتها ـ على ما مثّل ـ كذلك لا يجوز التفريق بين العبادة وبين الإلهية؛ إذًا : هؤلاء لم يعرفوا الإله ولم يعرفوا ما حقيقة الإلهية لذلك قالوا : العبادة ليس للتألُّه ولا لها غاية، ولكن لمطلق الرياضة النفسية .
((فعندهم)) عند هؤلاء المحمديِّين .
((من قام بمعرفتها)) معرفة العبادة .
((على النحو الذي فسّرناها به)) منذ بدأ في تأليف الرسالة، من أول الرسالة .
((لغة وشرعا)) تقدم بيان أن حقية العبادة : غاية الحب مع غاية الذل؛ يشير إلى هذه المعاني .
((مصدرًا ومورِدًا)) مصدر العبادة ومورد العبادة : الوحي؛ ترد العبادة بطريق الوحي وتصرد بطريق الوحي، ليست هناك عبادة بالاستحسان، بالابتاع، بالتقليد، لا .
من قام بهذه المعرفة ((استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها به)) . من قام بمعرفة العبادة على النحو الذي فسّرناها به لغة وشرعًا مصدرًا وموردًا استقام له معرفة حكمة العبادات؛ ولفظة ((به)) لو تُركت تكون أفضل .
((وعلم أنها الغاية التي خُلقتْ لها العباد)) إنما أنّث الفعل لأن الفاعل جمع ((كل جمع مؤنّث)) . ويجوز أن تقول : خلق لها العباد؛ إذا حصل فاصل بين الفعل وبين الفاعل يجوز التذكير ويجوز التأنيث .
(((1/170)
ولها أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، وخلقت الجنة والنار)) . خلقت الجنة لتكون دارًا لإكرام العُبّاد الذين عبدوا الله على بصيرة فوحّدوه فعبدوه بإخلاص ومتابعة؛ دارٌ لكرامة هؤلاء، وجزاء وثواب؛ لكن مع ذلك فضل ـ فضلٌ من الله ـ، وليستْ ثمنًا وليستْ عِوَضًا ـ كما تقدّم . والنار جُعلت سجنًا للذين عصوا رب العالمين وتمرّدوا على اختلاف في ذلك : منهم من تكون لهم سجنًا غير مؤبَّد، ويقيمون في هذا السجن على حسب تفاوتهم في العصيان والتمرُّد، ما لم يصل التمرُّد إلى خراب القلب، وخراب القلب هو الكفر، ومن وصل إلى هذه الدرجة فسجنه مؤبَّد ولا نهاية له ـ فنسأل الله لنا ولكم السلامة ـ . ) .
وقد صرّح ـ سبحانه وتعالى ـ بذلك في قوله : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ؛ فالعبادة هي التي ما وُجدت الخلائق كلها إلا لأجلها كما قال
ـ تعالى ـ: { أيحسب الإنسان أن يُتْرك سُدىً } أي : همَلاً، قال الشافعي ـ رحمه الله ـ : ((لا يُؤمر ولا يُنهى))، وقال غيره : ((لا يُثاب ولا يعاقب))، وهما تفسيران صحيحان فإنّ الثواب والعقاب مترتِّبٌ على الأمر والنهي، والأمر والنهي هو : طلب العبادة وإرادتها ( ( ) قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وقد صرّح ـ سبحانه وتعالى ـ بذلك)) بهذا المعنى : أن العبادة هي التي خلقتْ من أجلها العباد ولها أُرسلت الرسل إلى آخره .
((في قوله ـ تعالى ـ : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } )) لأن ( اللام ) في { ليعبدون } عند علماء العربية ـ أو عند النُّحاة ـ عند علماء اللغة : ( لام العلة ) وتسمى ( لام الحكمة ) المعنى واحد، إنْ قال بعضهم ( لام العلة ) أو ( لام الحكمة ) المعنى واحد .(1/171)
والذين نفوا أن تكون العبادة هي الغاية وأنّ الله إنما يخلق ويفعل لحكمة، أي : الذين يُنكرون الحكمة ـ ومنهم الأشاعرة ـ في باب العلم لأن الأشاعرة من نُفاة الحِكَم في أفعال الرب ـ سبحانه وتعالى ـ يقولون في هذه اللام : ( لام الصيرورة ) أي : خلقهم الله لا لهذه الغاية ولا لهذا الغرض ولكن صار الأمر فيما بعد إلى هذه الغاية ـ إلى العبادة ـ؛ هذه جُرأة أشعرية وقولٌ على الله بغير علم . ولو كان إثبات الحكمة نقصًا في حقِّ الله ـ تعالى ـ الله يُخبر ويبيِّن لعباده لا يوصف بالحكمة، بل من أسمائه ـ تعالى ـ الحكيم ـ العليم الحكيم ـ؛ كيف يقال أنه يخلق ويرزق ويفعل ويشرِّع ويقضي بلا حكمة ؟، يكون عبثًا؛ هذا ما فات على الأشاعرة فلينتبه لهم لأنهم جاءوكم في عُقر داركم، كنتم تتحدّثون عنهم غيابيًّا فقد حضروا .
((فالعبادة)) الفاء ( فاء الفصيحة ) .
((فالعبادة)) إذًا ((هي التي ما وُجدت الخلائق كلها إلا لأجلها)) . هذا يُعتبر تلخيصًا للكلام السابق كله؛ لذلك : تُعتبر ( الفاء ) هنا ( فاء الفصيحة ) تُفصح عن جواب شرط مقدّر : فإذا كان الأمر كذلك كما شرحنا فالعبادة إذًا ـ هي التي ما وُجدت الخلائق كلها إلا لأجلها ليكونوا بذلك عبيدًا لربهم ويحقِّقوا معنى العبودية؛ وتحقيق العبودية هو الذي يقرِّب العباد إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
((كما قال ـ تعالى ـ : { أيحسب الإنسان أن يُترك سُدًى } )) يُخلق ويُترك هكذا مثل البهائم البُهْم لا يُأمر ولا ينهى، لا ثواب ولا عقاب ؟؛ في هذا تشريفٌ للجنس البشري ـ أو للجن والإنس والملائكة ـ حيث شرّفهم الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالأمر والنهي وترتيب الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب تأديبًا لهم على غير الأعمال الصالحة في غير الملائكة ـ أي : في الجن والإنس ـ لأن الملائكة معصومون .(1/172)
يقول ـ معنى { سدًى } ـ : ((أي : هَمَلاً، قال)) الإمام ((الشافعي ـ رحمه الله ـ)) في تفسير هذه الكلمة ـ معنى { سدًى } ـ : ((لا يُؤمر ولا يُنهى)) الإنسان، ((وقال غيره : ((لا يُثاب ولا يعاقب، وهما تفسيران صحيحان)) اختلاف لفظي .
((فإنّ الثواب والعقاب مترتِّبان على الأمر والنهي، والأمر والنهي هو طلب العبادة وإرادتها)) بالإرادة الشرعية؛ الإرادة الشرعية بمعنى : الطلب؛ هي تتّفق مع الأمر والمحبّة .) .
وحقيقة العبادة : [ امتثالهما ]؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ : { ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً } ، وقال ـ تعالى ـ : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } ، { وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كلُّ نفس بما كسبت } ؛ فأخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلق السموات والأرض بالحق المتضمِّن أمره ونهيه وثوابه وعقابه .
فإذا كانت السموات والأرض إنما خلقتا لهذا ـ وهو غايةُ الخلق ـ فكيف يُقال إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة، أو إنّ ذلك بمجرّد استئجار العُمّال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمِنّة، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد ( ( ) قال الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ : ((وحقيقة العبادة [ امتثالهما ])) امتثال الأمر والنهي؛ إذًا : بهذا المعنى تتفّق مع التقوى : التقوى : امتثال الأمر والنهي؛ امتثال الأمر والنهي يؤدِّي إلى حقيقة العبادة التي هي غاية الحب مع غاية الذل؛ لا منافاة بين هذه التعريفات .
((ولهذا قال)) الله ((ـ تعالى ـ)) في صفة الألباب : { ويتفكّرون في خلق السموات والأرض } قائلين : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } أي : بدون هدف وبدون غاية وبدون حكمة، وإنما خلقت ذلك لحكمة .
((وقال ـ تعالى ـ : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } )) . ولو كان خلقهما وما بينهما بلا حكمة يكون ذلك عبثًا، لا يكون خلقهما وما بينهما بالحق .(1/173)
وقال ـ تعالى ـ : { وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كلُّ نفس بما كسبت وهم لا يُظلمون } . { ولتجزى كلُّ نفس بما كسبت } من خير أو شر، إشارة إلى الحكمة؛ { وهم لا يُظلمون } لأنهم إنْ أعطاهم وأثابهم على ما فعلوا بفضله وإن لم يوفِّقهم فعصوا وعُذِّبوا بعدله؛ إذًا : لا ظلم .
((فأخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلق السموات ولأرض بالحق المتضمِّن أمره ونهيه وثوابه وعقابه)) . هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة .
((فإذا كانت السموات والأرض إنما خلقتا لهذا وهو غاية الخلق فكيف يُقال إنه لا غاية له ولا حكمة له مقصودة)) في خلق العباد وإنما هي لمجرّد الرياضة، أو أن ذلك لمجردّ استئجار العباد؛ يشير إلى عقيدة مَن ؟، القدرية .
((أو إن ذلك بمجرّد استئجار العُمّال حتى لا يتكدّر عليهم الثواب بالمنة)) هذا المعنى تقدّم إنما شرع العبادة لتكون هذه العبادات أثمانًا للثواب التي يتحصّل عليها العباد، وإلا يكون ثوابهم يتكدّر بالمنّة بأن الله يَمَنُّ عليهم؛ سبحان الله !، إذا لم يَمَن الله على عباده من الذي يَمَن؛ والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ نفسه يمن ((الله ورسوله أمنّ)) هذا جواب الأنصار السابقون الأولون .
((أو لمجرّد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد)) وخروجها من العالم الحِسِّي كما تقوله الفلاسفة والمتصوِّفة المتفلسفة؛ كلُّ هذا الكلام باطل .) .
وإذا تأمّل اللّبيب الفرق بين هذه الأقوال وبين ما دلّ عليه صريح الوحي عَلِم أن الله ـ تعالى ـ إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبّته مع الخضوع له والانقياد لأمره؛ فأصل العبادة محبّة الله ـ بل إفراده تعالى بالمحبة ـ؛ فلا يحب معه سواه، وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه، كما يحب أنبيائه ورسله وملائكته لأنّ محبّتهم من تمام محبّته وليستْ كمحبّة من اتّخذ من دونه أندادًا يحبهم كحبه .(1/174)
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحّقق باتّباع أمره واجتناب نهيه؛ فعند اتّباع الأمر والنهي تتبيّن حقيقة العبودية والمحبّة؛ ولهذا جعل
ـ سبحانه وتعالى ـ اتّباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - عَلَمًا عليها وشاهدًا لها كما قال
ـ تعالى ـ : { قل إنْ كنتم تحبُّون الله فاتّبعوني يحببكم الله } فجعل اتّباع رسوله مشروطًا بمحبّتهم لله ـ تعالى ـ وشرطًا لمحبة الله لهم؛ ووجود المشروط بدون تحقّق شرطه ممتنعٌ؛ فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة للرسول .
ولا يكفي ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ [ فمتى ] كان عنده شيءٌ أحب إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره الله قال ـ تعالى ـ : { قل إنْ كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
وكلُّ من قدّم قول غير الله على قول الله أو حكم به أو حاكم إليه فليس ممّن أحبّه؛ لكن قد يشتبه الأمر على من يقدِّم قول أحد أو حكمه أو طاعته على قوله ظنًّا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقّى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله ـ : ((فأصل العبادة محبة الله)) . تقدّم غير مرّة بأن عرّف الإمام المقريزي عبادة الله بغاية الحب وغاية الذل، وهو المعروف، ولذلك قال : ((بل إفراده ـ تعالى ـ بالمحبة)) لا تكفي المحبّة المشتركة، بل لا بد من إفراد الله ـ تعالى ـ بالمحبّة .
((فلا يحب معه سواه)) . ((معه)) بهذا القيْد؛ .
(((1/175)
وإنما يحب ما يحبّه)) ومن يحبه ((لأجله وفيه)) . ( ما ) لغير العاقل؛ وإنما يحب ما يحبه من الإيمان والعمل الصالح، ومن يحبه من الصالحين كالأنبياء لأجله ـ تعالى ـ وفيه
ـ وفي الله ـ المعنى واحد .
((كما يحب أنبيائه ورسله وملائكته)) والصالحين من عباده .
((لأنّ محبتهم)) أي : محبة هؤلاء ((من تمام محبّته)) ـ تعالى ـ؛ لأنه إنما أحبهم لله وفي الله، أي : لَمّا علم أنهم من أحبابه ومن أوليائه ومن الذين يحبون الله أحبهم .
((وليستْ)) محبة الأنبياء والرسل والصالحين ((كمحبة من اتّخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحبه)) ـ تعالى ـ؛ إذًا : هناك فرق بين الحب في الله والحب مع الله : الحب في الله ولله ولأجل الله من أعظم العبادات شُعبة عظيمةٌ من شعب الإيمان وهي من محبة الله، أما الحب مع الله : أن تتّخذ شريكًا ونِدًّا تحبُّه كما تحبُّ الله وتخافه كما تخاف الله وترجوه، وربما تمنحه بعض صفات الله كعلم الغيب وعلم ما في الصدور هذا من الشرك الأكبر؛ انظروا الفرق الكبير بين المحبتين؛ محبةٌ هي إيمانٌ بالله ومن محبة الله هي : الحب في الله والحب لأجل الله، ومحبة هي : من الشرك الأكبر : الحب مع الله، أن تجعل مخلوقًا نِدًّا لله تحبه كما تحب الله .
ثم قال الإمام المقريزي : ((وإذا كانت المحبة له)) المحبة لله ـ سبحانه ـ ((هي حقيقة عبوديّته وسرها)) لأنه من شدّة محبته لله ـ تعالى ـ أحبّ لله وأحبّ في الله .
((فهي إنما تتحّقق باتّباع أمره واجتناب نهيه)) . محبة الله ـ تعالى ـ كذلك محبة من يحب الله إنما تتحقّق باتّباع أمره واجتناب نهيه .
((فعند اتّباع الأمر والنهي تتبيّن حقيقة العبودية والمحبّة)) . وهذا هو المِحْور وهو محلُّ اختبار، يختبر العبد نفسه أمام أمر الله ونهي الله : إنْ كان صادقًا في محبّة الله ـ تعالى ـ سهُل عليه امتثال أمره واجتناب نهيه وإلاّ يكون دعيًّا في دعوى المحبة .
(((1/176)
ولهذا : جعل ـ سبحانه وتعالى ـ اتّباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - عَلَمًا)) أي : علامةً ((عليها)) على محبة الله ـ تعالى ـ ((وشاهدًا لها)) وفي ذلك رفعٌ لمكانة رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبيان فضله، وأن اتّباعه وطاعته من محبّة الله ـ تعالى ـ ومن طاعة الله .
((كما قال ـ تعالى ـ : { قل إنْ كنتم تحبون الله فاتّبعوني يحببكم الله } )) .
{ قل } يا محمد لقوم زعموا أنهم يحبون الله ويعظِّمونه ويعظِّمون شرعه ودينه قل لهم : { إن كنتم تحبون الله } حقًّا وصدقًا { فاتّبعوني يحببكم الله } .
((فجعل)) الرب ـ سبحانه وتعالى ـ ((اتّباع رسوله)) ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((مشروطًا بمحبّتهم لله ـ تعالى ـ)) إن كانوا صادقين في محبّتهم لله ـ تعالى ـ فليتّبعوا رسوله .
((و)) جعله ((شرطًا لمحبة الله لهم)) جعل اتّباع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتوقّف عليه أمران : محبة الله لعباده ومحبة العباد لربهم .
((ووجود المشروط)) الذي هو محبة الله ((بدون تحقُّق شرطه)) اتّباع رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((ممتنع)) .
((فعُلم انتفاء المحبة)) انتفاء محبة الله ((عند انتفاء المتابعة للرسول)) - صلى الله عليه وسلم - . اكتب في الهامش : ( فالخُلاصة : إنه يستحيل ثُبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ وذلك : يتنافى والإيمان ) .(1/177)
ليتّضح هذا المعنى : إنّ دعوى من يدّعي الإيمان بالله وتعظيم الله وأنّ الله يحبه ويُكرمه ولو أكرمه بالعطاء في هذه الدنيا إن لم يوفَّق إلى محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مستدَرج الله استدرجه ليزيد في عذابه وعقوبه؛ لذلك : لا ينبغي أن يغترّ الإنسان بما ينعم الله به عليه مع مخالفته لاتّباع رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهو مبتدع يحاول أن يتقرّب إلى الله بالأعمال المبتَدَعة، ومع ذلك الله يفتح عليه ويوسِّع عليه ويستر عليه فيحسب أنه على هدًى؛ وهذا امتحان، فهو غير مؤمن وغير صادق في محبة الله ـ تعالى ـ؛ ودعوى أن الله يحبه ويُكرمه ـ وليس ذلك بإكرام ـ تقدّم شيءٌ من هذا فيما تقدّم .
((ولا يكفي ذلك)) لا يكفي إثبات محبة الله ـ تعالى ـ للعبد وإثبات محبة العبد لربه، إثبات ذلك باتّباع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يكفي ((حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما)) أي : لا تكفي المحبّة العاديّة من الطرفين حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما بأن يقدِّم أوامر الله وأوامر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ على هوى نفسه وعلى أمر غيره وعلى نهي غيره كائنًا مَنْ كان، نفسه وأهله ووالده وشيخه أوامر كلُّ هؤلاء كلهم تأتي بعد أوامر الله ـ تعالى ـ وأوامر رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لذلك يُعتبر أنه أحبّ الله وأحبّ رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكثر من نفسه وأهله وماله .
((ومتى كان عنده شيءٌ أحبّ إليه منهما)) من الله ورسوله .
((فهو الإشراك الذي لا يغفره الله)) أي : إذا قدّم غير الله على الله وعلى رسوله
ـ عليه الصلاة والسلام ـ في المحبة أشرك بالله الشرك الأكبر شركًا في العبادة وشركًا في المتابعة .
(((1/178)
قال ـ تعالى ـ : { قل إنْ كان آباؤكم وأنباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها } )) أي : اكتسبتموها { وتجارةٌ تخشون كسادها } عدم الربح { ومساكن ترضونها } تحبونها { أحب إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } والآية ـ كما تعلمون ـ نزلت عندما كانت الهجرة شرطًا في الإيمان؛ في أول الإسلام لا يُقبل الإسلام من أهل مكة ممّن أسلموا بمكة حتى يهاجر؛ لَمّا دُعوا إلى الهجرة امتحنهم الله بأولادهم وأموالهم وأقاربهم، قالوا للضَّياع نضيع، فرقُّوا لهم، وتأخروا عن الهجرة، تركوا الهجرة فجلسوا، فالله عاتبهم : { يأيها الذين آمنوا لا تتّخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إنِ استحبوا الكفر على الإيمان } ؛ البقاء في مكة وترك الهجرة ومخالفة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في دعوته إلى الهجرة يُعتبر كفرًا، { ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون } من يتولّ أولاده وأهله وإخوانه وأقاربه تاركًا لله ورسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومعرِضًا عن الهجرة يُعتبر من الظالمين؛ ثم قال : { إنْ كان آباؤكم ... } إلى آخر الآية: إنْ كان الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة هذه { الأشياء أحب إليكم من الله ورسوله } نتيجة ذلك : عدم الإيمان، انتظروا العقوبة من الله .
والآية ـ وإنْ كان السبب هو هذا ـ لكن العبرة ـ كما يقولون ـ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ أيُّما يقدِّم هواه ورضاه ورضى أهله وأولاده ومشايخه على رضى ربه واتّباع رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ والآية تشمله .(1/179)
إذًا : من الإيمان : أن يقدَّم أحدٌ على الله وعلى رسوله؛ حتى من الناحية العقلية والفِطْرية معقولة؛ كيف يقدِّم الإنسان رضى غيره رضى مخلوق ما على رضى رب العالمين ويدّعي مع ذلك الإيمان بالله ؟، وكيف يقدِّم طاعة إنسان غير معصوم بشر مثله غير معصوم على طاعة معصوم طاعته من طاعة الله ومحبّته من محبة الله وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟؛ إذًا الموقف مستنكَر شرعًا وعقلاً وفطرة .
ولذلك قال الإمام المقريزي : ((وكلُّ من قدّم قول غير الله على قول الله أو حكم به)) بقول غير الله ((أو حاكم إليه)) حكم به فهو الحاكم القاضي أو حاكم إليه مؤمنًا بأنه صدٌ وحكم ((فليس ممّن أحبه)) ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله .
كذلك : لا فرق بين أن يقدِّم قول غير الله على قول الله أو على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ الحكم حكم من يقدِّم قول غير الله حكم من يقدِّم قول غير رسول الله عليه الصلاة والسلام على قول رسول الله حكم من يقدِّم قول غير الله على قول الله لا فرق بينهما؛ كما أن طاعته من طاعة الله ـ تعالى ـ كذلك لا يجوز تأخير حكمه أو تأخير قوله وتقديم قول غيره وحكم غيره على قوله وحكمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه إنما يبلِّغ عن الله لأنه لا ينطق عن الهوى .(1/180)
انتبهوا للمسألة الآتية : ((لكن قد يشتبه الأمر على من يقدِّم قول أو حكمه أو طاعته على قوله)) ـ تعالى ـ أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ((ظنًّا منه أنه)) أنَّ هذا المقدَّم ((لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيطيعه ويحاكِم إليه، ويتلقّى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك)) . هذه مسألة عظيمة ينبغي فهمها : شخص يُحسن الظنّ بإمام من الأئمّة وبعالم من العلماء بحيْث يعتقد أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطاعه وتحاكم وتلقّى أقواله ويعبد الله بأقواله ويسير على أقواله وأفعاله ويتأسّى به ويقتدي به تمامًا بهذا الظن يكون هذا معذورًا إنْ لم يقدر على غير ذلك؛ وهذا ينطبق على كثيرٍ من عوام المسلمين ـ أو شبه العوام ـ الذين يحسنون الظن بإمام من الأئمة الأربعة ـ مثلاً ـ فيعتقد أنّ الإمام الفلاني ما يقوله لا يخالف قول الله وقول رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه إمامٌ ثقة لا يأمر ولا ينهى ولا يقول شيئًا إلا ما قال الله وقال رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ هذا ظنه، لا يعلم أكثر من هذا؛ ولم يعلم بأن الإنسان البشري لا يصل إلى هذه الدرجة ما لم يكن رسولاً . إنْ كان بهذه المثابة يُعذر .
هل يُعذر في الأحكام الفقيهة فقط أو حتى في الأصول في العقيدة في توحيد العبادة كالذي يزيِّن له شيخه وهو يُحسن به الظن ويقول الذبح للمشاهد والنذر لهم من محبة الصالحين وليس من الشرك في شيء؛ وهو عالمٌ عنده يحسن به الظن؛ فيؤوِّل له بعض نصوص الصفات فيتّبعه؛ يقول : هذا عالم إمام ـ الإمام النووي، والإمام ابن حجر ـ كيف لا يُتّبع كيف لا يصدَّق من أهل الحديث، حافظ لا يقول إلا ما قال الله وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ هذا اعتقاده فارغ الذهن ليس عنده إلا هذا الاعتقاد وهذا الظن الحسن .(1/181)
يرى : إن هذا معذور؛ وهذا ينطبق على مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كرّره في غير موضع من كتبه، وأنّ هذا الإنسان الذي لم يتبيّن له الحق ولم يشاقق الله ولا رسوله بعد تبيُّن الحق، بل يحسب أن هذا هو الحق ينبغي أن يُعذر حتى يقدر أن يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويفهم منه فيخالفه بعد ذلك .
لذلك قال : ) .
وأما إذا قَدَر على الوصول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرف أنّ غير من اتّبعه أولى به مطلَقًا أو في بعض الأمور كمسألة معيّنة ولم يلتفت إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى من هو أولى به؛ فهذا يُخاف عليه؛ وكل ما يتعلّل به من عدم العلم أو عدم الفهم أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر أو بأن ذلك المتقدِّم كان أعلم مني بمراده - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهذه كلها تعلُّلات لا تُفيد ( ( ) انتبهوا هنا القطعة هذه فيها تصحيفات :
((وأما إذا قدر)) . الشخص الذي وصفناه غير قادر عاجز عن الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس لديه علم وإنما يؤمن برسول الله بالجملة يعلم أنه رسول الله، لكن لم يصل إليه ـ إلى علمه إلى حديثه ـ .
((وأما إذا قدر على الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) طالب علم يستطيع أن يفهم أحاديث رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما يفهم آراء الرجال .
((وعرف أنّ غير من اتّبعه ... )) إلى آخره هذا الكلام يحتاج إلى تصحيح اكتب في الهامش : ( ولعلّ الصواب : واعتقد أنّ من اتّبعه أولى به ) .
نقرأ الآن : ((وأما إذا قدر على الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ واعتقد أنّ ] من اتّبعه أولى به مطلَقًا)) أي : من قلّده واتّبعه؛ ((أولى به مطلقًا)) في جميع المسائل .
(((1/182)
أو في بعض الأمور)) أي : في بعض الأمور المعيَّنة ((كمسألة معيَّنة،ولم يلتفت إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) اكتفاءًا بمن قلّده واتّبعه واعتقد أنه أولى به من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يلتفت إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
انتبه هنا : (([ بل اتّبع ] من هو أولى به [ ـ في زعمه ـ ])) ( لا ) حلِّق عليها ثم اكتب في الهامش : ( بل اتّبع من هو أولى به في زعمه ) .
أُعيد مرّة ثانية : ((وأما إذا قدر على الوصول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ واعتقد أنّ ] من اتّبعه [ وقلّده ] أولى به مطلقًا)) من رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ((أو في بعض الأمور كمسألة معيَّنة، ولم يلتفت إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ بل اتّبع ] من هو أولى به
[ في زعمه ])) يعني : مقلَّده .
((فهذا يُخاف عليه)) . يُخاف على إيمانه، وخطرٌ على إيمانه؛ لأنه تعمّد الإعراض عن الله وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ طبِّقوا هذا على ما درستم من نواقض الإسلام : من نواقض الإسلام : الإعراض عن الدين الإسلامي؛ الإنسان الذي وصل ـ أو قادر على أن يفهم من الله ومن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ سهلٌ عليه أن يفهم، وربما فهم ودرس ككثير من الذين يُشار إليهم بأنه محدِّث فإذا تكلّم في علم الرجال وفي المصطلح تحس إنه عالم، ومع ذلك لا يعمل بما يتعلّم من الحديث إلا من باب التبرُّك، ولكنه يؤلِّف ـ أحيانًا ـ جواز التبرك بالصالحين؛ فيما يناقض كلام رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ تمامًا، وهو محدِّث، موجود مثل هذا، ربما حي، إلا إنْ مات من حيث لا أشعر أنا .(1/183)
الشاهد : إن كثيرًا من الذين يتعلّمون ـ حتى علم الحديث ـ لا يوفَّقون في هذا الباب، بل يدرُسون ويعلِّمون ويؤلِّفون ولكن يفضِّلون الإمام المقلَّد ويكتفون به، ويرون أن اتّباع الإمام المعيَّن المقلَّد واجب، ولا يسعهم تركه، وهو أعلم بالأحاديث التي درَسوها؛ سبحان الله ! درَس وعلِم وعلّم وألف في الحديث ومع ذلك يرى إنّ إمامه أعلم فيجب أن يتّبعه ولا يلتفت من حيث العمل إلى قول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان درَسه ودرّسه وألّف فيه .
هذا وجه الخوف عليه؛ لأنه أعرض عنه على علم .
((وكلُّ ما يتعلَّل به من عدم العلم)) قال : أنا لا أعلم، يعني : يتجاهل .
((أو عدم الفهم)) قال : أنا فهمي قاصر غيري أحسن مني في الفهم .
((أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين)) لا درَست العلوم العربية ولا الأصول ولا كذا ولا كذا؛ ما عندي آلة تمكِّنني لأن أكون مجتهدًا؛ ما قلنا : صِرْ مجتهدًا قلنا لك : صِرْ متّبعًا؛ هذا ما يقوله كثيرًا .
((أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر)) لست أهلاً لأن أحتج وأستدلّ بالأشباه بالمسائل المتشابهة والنظائر، أي : ليس أهلاً للقياس والاستحسان والاستنباط وإلحاق الفرع بالأصل، ليس أهلاً لذلك؛ يعدِّد مثل هذه الأعذار .
((أو بأن ذلك الإمام [ المقدَّم ] كان أعلم مني بمراده)) بمراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذا قيل له : أنت عالم متعلِّم لست عاميًّا ـ بل عالمٌ بالحديث ـ يقول : لا، الإمام الذي أنا أقلِّده أعلم مني بمراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ يعني : الحديث الذي تحفظه في الأحكام ـ مثلاً في البيوع المنهي عنها كبيع الشاة المُصَرَّاة وتلقِّي الرُّكْبان ـ هل الإمام يعلم مراد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الحديث خلاف ما تفهم أنت ؟، لا، الكلام واضح، معلومٌ من الوضع؛ ما هو المراد الذي يعلمه ذلك الإمام أكثر مما علمتَ أنت ؟ .(1/184)
وإذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((ينزل ربنا في آخر كلِّ ليلة)) وهل الإمام يعلم مراد رسول الله من هذا الحديث ما لا تعلمه أنت أو تلميذك أو من دونكم ؟، لا، مغالطة؛ مراد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ معلومٌ من وضع الكلمة : تكلّم بكلام عربي : ((ينزل)) النزول غير الصعود؛ كلّ من يعرف ألفاظ ومفردات اللغة العربية يعلم معنى ( نزل ) ومعنى ( صعد ) ومعنى ( جاء ) ومعنى ( أتى ) .
القول : بأنّ الأئمة أعلم منا بمراد الله ومراد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ من هذه النصوص وترك النصوص بهذه الدعوى وتقليد من استحسن التأويل لهذه النصوص بدعوى أنه أعلم بمراد الله ومراد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ أعود فأقول : إن المقلِّد لإمام من الأئمة وعالمٍ من العلماء إذا ابتُلي ذلك الإمام ـ أو ذلك العالم بالتأويل تأويل نصوص الصفات ـ أو مخالفة حكم فقهي وزعم هذا المقلِّد إن إمامه المقلَّد أعلم بمراد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ منه مثلاً : في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((ينزل ربنا في آخر كلِّ ليلة)) أو أعلم بمراد الله في قوله : { وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا } إلى غير فخالف نصوص الكتاب والسنة بهذه الدعوى؛ الدعوى باطلة ومغالَطة ولا عذْر له ((يخاف عليه)) في إيمانه .
ولذلك قال الإمام المقريزي : ((فهذه كلها تعلُّلات لا تفيد)) .) .
هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم إلا أنْ ينازع في هذه القاعدة فتسقط مكالمته؛ وهذا هو داخلٌ تحت الوعيد؛ فإنِ استحلّ مع ذلك ثَلْب من خالفه وقرْض عرضه ودينه بلسانه وانتقل من هذا إلى عقوبته أو السعي في أذاه فهو من الظلمة المعتدين ونوّاب المفسدين ( ( ) انتبهوا لهذه الفقرة .
((هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم)) . الكلام الذي قلنا الآن إذا كان يقر بجواز الخطأ على غير المعصوم من الذين يقلِّدهم إذا انتهى الأمر إلى هذا الحد .
(((1/185)
إلا أن ينازع)) . ( إلا ) حلّق عليها واكتب في الهامش : ((لوم ينازع)) ... حتى ... الكلام .
((هذا مع جواز الخطأ على غير المعصوم)) أي : لم يعتقد عصمته؛ يعتقد أنه يجوز على الإمام الخطأ لأنه غير معصوم .
(([ ولم ] ينازع في هذه القاعدة)) . القاعدة : ( جواز الخطأ على غير المعصوم )؛ هذه يعتبرها قاعدة؛ إذا كان يعترف بهذه القاعدة ويقر بأن غير المعصوم يجوز عليه الخطأ وأن إمامه المقلَّد ممّن يجوز عليه الخطأ وليس بمعصوم؛ (([ ولم ] ينازع في هذه القاعدة)) في قاعدة عدم عصمته .
((فتسقط)) بالمنازعة .
((مكالمته)) . أما إنْ كان ينازع في ذلك ويعتقد أن إمامه لا يخطئ وربما يغضب إذا قال إمامك يخطئ وقد لا يحفظ الأحاديث وقد لا يفهم، بل يعتقد فيه العصمة فتسقط عند ذلك مكالمته لا يكلَّم، فيخرج من النقاش .
((وهذا هو داخلٌ تحت الوعيد)) وعيد من قدّم قول غير الله على قول الله وقول غير رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ على قول رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ داخلٌ في ذلك؛ داخلٌ دخولاً بيِّنًا إنْ رفع عنه الخطأ وألحقه بالمعصوم؛ لا كلام له ... ؛ فهو داخلٌ في هذا الوعيد .
((فإنِ استحلّ مع ذلك ثَلْب من خالفه)) أن يتكلّم في مثالبه فيثلبه، ويتكلّم في عرضه.
((وقرَض عرضه)) طعن في عرضه، وقطّع عرضه بالكلام .
((ودينه بلسانه)) وتكلّم في دينه بلسانه : إن الذي خالف المذهب ودعى إلى التمسُّك بالسنة لجميع الناس، وقال : إن التقليد لا يجوز إنه في كذا وكذا، ناقص العقل، ناقص الفقه، ليس بفقه، فقد الروح الفقهي، إلى غير ذلك من الأساليب المعروفة .
((وانتقل من هذا إلى عقوبته)) لو استطاع، لو كان صاحب سلطة .
((أو السعي في أذاه)) إذا كان ما له سلطة حتى يعاقبه يسعى في أذاه، يسلِّط عليه السفهاء، أو يقدِّم ضدّه لدى السلطة ليؤذى؛ وهذا ما يفعله خصوم السنة دائمًا، هذه سنة الله مع المصلحين بدأً من الأنبياء إلى يوم الناس هذا .
(((1/186)
فهو من الظلمة المعتدين ونوّاب المفسدين)) . لا شك في ذلك؛ وهؤلاء الذين آذوا الإمام أحمد ثم ابن تيمية ثم من بعده كلهم من الظلمة المعتدين ونوّاب المفسدين
ـ وخصوصًا مع تبيُّن الحق ـ ... المحافظة على الرياسة وعلى الشهرة، ولأن الشيخ الفلاني والعالم الفلاني والإمام الفلاني الذي يدعوا إلى التحرُّر من التقليد والتمسُّك بالسنة والحرص على التمسُّك بالسنة إنما يقضي على شهرته وعلى مكانته لدى السلطة ولدى العوام يفقد الشعبية العامّة ... ؛ هذا هو موقف علماء السوء من الإمام أحمد بن تيمية؛ كان الوُلاة يقدِّرونه بما يعلمون فيه من الشجاعة والإقدام والنصح، والعوام يحبونه له شعبية بين العوام؛ لكنّ علماء السوء هم الذين عادوه لهذا الغرض .
كأنما المؤلِّف لَمّا يتحدّث عن مثل هذا يشير إلى ما جرى للإمامين وله أيضًا
ـ رحمهم الله جميعًا ـ لأن هذا الكلام منقول بالحرف من بعض كتب ابن القيِّم أي : من ((مدارج السالكين)) المجلّد الأول ـ .) .
واعلم : أن العبادة أربع قواعد وهي :
التحقيق بما يحب الله ورسوله ويرضاه؛ وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح؛ فالعبودية اسمٌ جامع لهذه المراتب الأربع؛ فأصحاب العبادة حقًّا هم أصحابها .
فقول القلب هو : اعتقاد ما أخبر الله ـ تعالى ـ عن نفسه وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك .
وقول اللسان : الإخبار عن ذلك، والدعاء إليه، والذب عنه، وتبيين بُطلان البدع المخالِفة له، والقيام بذكره ـ تعالى ـ، وتبليغ أمره .
وعمل القلب كالمحبّة له، والتوكُّل عليه، والإنابة، والخوف، والرجاء، والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه، وإقراره، والرضا به، وله، وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والإخبات إليه، والطمأنيه، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح ومستحبُّها إلى الله ـ تعالى ـ أحب من أعمال الجوارح .(1/187)
وأما أعمال الجوارح فكالصلاة، والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك .
فقول العبد في صلواته : { إياك نعبد } التزام أحكام هذه الأربعة وإقرارٌ بها؛ وقوله : { وإياك نستعين } طلب الإعانة عليها والتوفيق لها؛ وقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } متضمِّنٌ للأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله ـ تعالى ـ ( ( ) قال الإمام المقريزي ـ رحمه الله تعالى ـ : ((واعلم)) يا طالب العلم . جملة ((واعلم)) : كثيرًا ما يستعمل العلماء الأوّلون يقولون : هذا أمر موجّه إلى كل من يصلح منه العلم : ((واعلم)) يا من يصلح منه العلم أو يا من كان مستعدًّا لفهم العلم .
((أن العبادة أربع قواعد)) . لك أن تقول : أربعة أقسام؛ المعنى واحد .
((وهي)) العبادة ((التحقيق بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقيام ذلك)) قيام تحقيق ما يحب الله ورسوله ويرضاه ((بالقلب واللسان والجوارح)) الذي يتبادر القواعد ـ أو الأقسام ثلاثة ـ لكنه جعل أربع حيث جعل للقلب قولاً وعملاً بهذا صارت القواعد
ـ أو الأقسام ـ أربعة ـ كما سيأتي ـ .
((فالعبودية اسمٌ جامع لهذه المراتب الأربع)) أي : تحقيق العبودية اسمٌ جامع لهذه المراتب الأربعة .
((فأصحاب العبادة حقًّا)) الذين يُعتبرون أصحاب العبادة لله حقًّا .
((هم أصحابها)) أصحاب هذه المراتب الأربع، أو الأقسام الأربع .
ثم جعل يفصِّل فقال : ((فقول القلب)) للقلب قولٌ وعمل؛ هذا اصطلاح .
((هو اعتقاد ما أخبر الله ـ تعالى ـ عن نفسه وأخبر رسوله عن ربّه من أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك)) أي : الإيمان بأسمائه وصفاته؛ فإثبات أسمائه فإثبات صفاته وإثبات أفعاله كما أثبت الله لنفسه وأثبت له رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ دون تحريف أو تعطيل ودون تشبيه أو تمثيل . هذا في باب الأسماء والصفات .(1/188)
والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان بلقاء الله ـ تعالى ـ يشير إلى الإيمان بالبعث وما بعد البعث؛ كلُّ ذلك من قول القلب؛ أن يعتقد الإنسان بقلبه صحّة ما أخبر الله عن نفسه أو أخبره عنه رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله، واعتقاد أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ فعّال لما يريد، والحكمة؛ والإيمان بالملائكة وما بعد الملائكة ـ كما تعلمون ـ، والإيمان بالبعث وما يترتّب على ذلك . هذا يسمى قول القلب .
((وقول اللسان)) . وأما قول اللسان : ((الإخبار عنه بذلك)) أن تتحدّث وتُخبر بأن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأنه فعّال لِمَا يريد، أن تتكلّم وتتحدّث بذلك وتُخبر الناس .
((والدعاء إليه)) والدعاء إلى ذلك : الدعاء إلى قول القلب على التفصيل الذي تقدّم .
((والذَبُّ عنه)) أي : رد الشبه عن أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته وأفعاله والإيمان بالملائكة والإيمان بلقائه .
((وتبيين بُطلان البدع المخالفة له)) . الدعوة والدفاع وتبيين البدع المخالفة له . هذا قولُ اللسان ـ أو وظيفة اللسان ـ .
((والقيام بذكره ـ تعالى ـ)) . ذكر اللسان كتلاوة القرآن والأذكار المأثورة .
((وتبليغ أمره)) الأمر والنهي والنصح والإرشاد . هذه وظائف اللسان؛ ويسمى في اصطلاحه ( قول اللسان )؛ هذه قاعدة من القواعد ـ أو قسم من أقسام العبادة، وإنْ شئت قسم من أقسام الإيمان ـ .
(((1/189)
وعمل القلب)) الجوارح ((كالمحبة له، والتوكُّل عليه ... )) إلى آخره؛ فرِّق بين عمل القلب وقول القلب؛ إذًا : قول القلب : الاعتقاد ـ على هذا الاصطلاح ـ اعتقاد ما تقدّم شرحه، وعمل القلب : عملٌ اعتقاديٌّ يقوم بالقلب؛ هو عمل؛ التفريق بين قول القلب وبين عمل القلب مجرّد اصطلاح؛ لذلك بعضهم يجعله شيئًا واحدًا، يتبيّن لكم هذا من بحث الإيمان؛ الإيمان : قولٌ وعمل، عند تفصيل ( قول وعمل ) يختلفون هذا الاختلاف منهم من يفصِّل هذا التفصيل، ومنهم من يجعل ثلاثة .
((وعمل القلب كالمحبة)) محبة الله ـ تعالى ـ، ((والتوكُّل عليه، والإنابة إليه، والخوف)) منه، ((والرجاء، والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه)) كذلك الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على المكاره ((وإقراره)) ـ تعالى ـ، أي : الإيمان بوجوده وجودًا حقيقيًّا، ((والرضا به)) ربًّا، ((و)) الرضى ((له)) أي : لأجله، ((و)) الرضى ((عنه)) { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، ((والموالاة فيه)) في الله، ((والمعادات فيه)) . هذا هو العنوان الذي كنا نتحدّث عنه يُعتبر قاعدة من قواعد الإيمان ـ أو قاعدة من قواعد العبادة، أو قسمًا من أقسام العبادة ـ : الموالاة في الله والمعادات في الله؛ أن تحب الشخص وتواليه، لا تحبه إلا لله وفي الله، وأن تعاديه لا تعاديه إلا في الله، لا لهوىً في النفس أو لأيِّ غرض آخر .
((والإخبات إليه)) الخضوع والتذلُّل لله ـ سبحانه وتعالى ـ .
((والطمأنينة)) عدم الشك في هذه المعاني كلها : في وجود الرب ـ سبحانه وتعالى ـ بأسمائه وصفاته وجميع ما يجب الإيمان به؛ الطمأنينة المراد بها : اليقين، أن يصل إيمانك إلى درجة اليقين، من فقد اليقين في إيمانه فهو مضطّرب، تجده يتقلّب، لكن من رزقه اليقين والطمأنينة في إيمانه مهما تقلّبت الدنيا وتقلّبت الأحوال واختلفت الناس ومهما أوذيَ لا يبالي؛ اليقين والطمأنينة النهاية في الإيمان .
(((1/190)
ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح)) لأنّ أعمال الجوارح إن لم تنبن على أعمال القلوب لا تُفيد شيئًا؛ وهي إنما تدلُّ على صحة أعمال القلوب : الصبر، والتوكُّل هذا من فرائض أعمال القلوب آكد من فرض أعمال الجوارح كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، لأنّ هذه الأعمال ـ أعمال الجوارح ـ وإنْ كانتْ فرضًا وواجبًا قد تدخلها أشياء كعدم الإخلاص وحب الرياء، لا تُجدي، لكنّ الأساس : أعمال القلوب .
((ومستحبها)) ومستحب أعمال القلوب ((إلى الله ـ تعالى ـ أحب من مستحب أعمال الجوارح)) إطالة الصلاة، طول القيام، طول الركوع، طول السجود من المستحبّات من عمل الجوارح، لكن أعمال القلوب المستحبّات حضور القلب، والخشوع في الصلاة هذه أحب إلى الله من الصلاة التي ليس فيها هذه المعاني؛ الأساس في كلِّ، في الإيمان وفي العبادة أعمال القلوب؛ لذلك : ينبغي الإكثار من النظر في الكتب التي تشرح لكم أعمال القلوب وتحثُّ عليها في مقدِّمة ذلك : كتب ابن القيِّم كـ((مفتاح دار السعادة)) و ((طريق الهجرتين))، وبعد الأبواب في كتيِّب ((الفوائد)) كتابٌ عظيم، و ((بدائع الفوائد)) له
ـ أيضًا ـ، ((مدارج السالكين)) هذه الكتب تسمى كتبًا روحيّة لأنها تهتم بأعمال القلوب، وكان بعض مشايخنا يقول : ( لا ينبغي أن تخلوَ مكتبة طالب علم من كتاب الفوائد )؛ هذا الكتاب لكثرة مداولته بين الطلاّب وقد يكون مقرَّرًا في بعض مراحل الثانوية مطالعة، على طلاّب المرحلة الثانوية الذين لا يفهمون، ... ، الاستفادة منه ضئيلة، لكن في مستواكم الآن لو أمعنتم النظر في هذا الكتيِّب فيه فوائد عظيمة جدًّا؛ عليكم به .
((وأما أعمال الجوارح فكالصلاة، والجهاد، ونقْل الأقدام إلى الجمعة والجماعات)) أي : المشي والخطوات من الجمعة والجماعات، كذلك الخطوات في طلب العلم من هذا القبيل خصوصًا العلم الواجب .
(((1/191)
ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك)) . الإحسان إلى الخلق قد يكون إحسانًا ماديًّا كأن تحسن إليهم بمالك، أو إحسانًا معنويًّا تحسن إليهم بعلمك وحسن المعاملة، ولو تَبُشُّ في وجه أخيك المسلم، كلُّ هذا من الإحسان؛ الإحسان كثير، أنواع .
قال المؤلِّف ـ رحمه الله تعالى ـ : ((فقول العبد في صلواته : { إياك نعبد } التزام أحكام هذه الأربعة وإقرارٌ بها)) . التزام قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح؛ { إياك } وحدك { نعبد } بهذه العبادات التي تقدّم شرحها، التزامٌ بذلك .
((وقوله : { وإياك نستعين } طلب الإعانة عليها)) على هذه القواعد وعلى هذه العبادات، ((و)) طلب ((التوفيق لها)) اعترافًا من العبد بأنه لا يستطيع أن يعمل ويعبد الله لا بلسانه ولا بقلبه ولا بجوارحه إلا بتوفيق من الله وإعانة .
هذا الكلام الذي تقدّم كله في تحقيق : { إياك نعبد وإياك نستعين } ؛ من فهم مقام
{ إياك نعبد وإياك نستعين } وتدبّر ونظر في كلام أهل العلم الذين يحلِّلون هذا المعنى يُدرك أنّ العبادات كلها راجعة إلى هاتين الجملتين : { إياك نعبد وإياك نستعين } : إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ في { إياك نعبد } ، والاعتراف بالعجز وعدم الحوْل والقوة وطلب الاستعانة من الله في عبادته وفي كلِّ شيء .
((وقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } متضمِّنٌ للأمرين)) متضمِّنٌ لالتزام أحكام تلك العبادة والإقرار بها، ومتضمِّنٌ لطلب العون والاستعانة من الله .
((على التفصيل الذي تقدم)) على التزام العبادة، على طلب العون .
((وإلهام القيام بهما)) إلهام القيام بالتزام العبادة وبالتزام طلب العون من الله ـ تعالى ـ .
(((1/192)
وسُلوك طريق السالكين إلى الله)) السالكون إلى الله ـ في لغة المقريزي ولغة ابن القيِّم ولغة أهل السنة ـ : الساعون إلى الله ـ تعالى ـ على ضوء الكتاب والسنة . هذه العبارة في الأصل عبارةٌ صوفية، عبارة التصوِّفة ـ السالك، السالكون ـ بمعنى : السائرون؛ ولكن ابن القيِّم لَمّا هذّب ((منازل السائرين)) ... ، وإن استعمل هذه الألفاظ أحيانًا لكن لا يريد بذلك اصطلاح المتصوِّفة ولكنه يريد اصطلاح أهل السنة .
((والله وحده الموفِّق بمنِّه وكرمه . والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ووارثيه وحزبه)) ثم قال المؤلِّف ـ رحمه الله ـ : ((تم الكتاب . والحمد لله أوّلاً وآخرًا)) . فنسأل الله له المثوبة على ما قدّم، كما نسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفعنا بما عَلِمْنا وبما دَرَسْنا، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يثيب من اقترح أن يُدْرَس هذا الكتاب؛ فالفضل لله ـ سبحانه وتعالى ـ أولاً وأخرًا؛ ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا علمًا نافعًا وعملاً .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .) .
والله الموفِّق بمنه وكرمه .
والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ووارثيه وحزبه .
تم الكتاب
والحمد لله أولاً وآخرًا(1/193)