بسم الله الرحمن الرحيم
شرح باب صفة الصلاة ، لسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -
تنبيهات مبدئية :
- مبتدأ الشرح : 19/3/1419هـ
- نهايته : 26/3/1419هـ .
- حذفتُ من التفريغ : معاني الكلمات والألفاظ وشروحها ، لوجودها في الممتع واضحةً ، ولا زيادة في المعنى ، أما المسائل الفقهية ، فتمكن الزيادة فيها .
قال المؤلف - رحمه الله - : ( باب صفة الصلاة ) م
صفة الصلاة كغيرها من صفات العمل الصالح ، لا بد للإنسان أن يعرفها ، لأن من شرط قبول العبادة : أن تكون موافقة للشريعة ، ولا يمكن أن تعرف موافقة الشريعة إلا إذا عرفت كيف يتعبد النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ، وكلنا يعلم أن شرط العبادة : الإخلاص لله ، والمتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن ثم احتاج العلماء - رحمهم الله - إلى بيان كيفية الوضوء ، وبياء كيفية الصلاة ، وبيان كيفية الحج حتى يكون الإنسان متأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ، ولهذا ينبغي لنا عندما نتوضأ أو نصلي أن نستحضر شيئين :
أولاً : أننا ممتثلون لأمر الله في ذلك ، حتى يكون فعلنا عبادةً حقاً ، تذللاً لله - عز وجل - وطاعة له . لننتبه لهذا ، أننا عندما نقوم للوضوء نمتثل قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } حتى يكون فعلنا تذللاً لله - عز وجل - وطاعة له .
ثانياً : المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن نستحضر كأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمامنا يتوضأ ونحن نتوضأ كوضوئه حتى تتحقق المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - .(1/1)
... وينبغي للإنسان قبل أن يحضر لصلاة الجماعة أن يتوضأ في بيته قبل أن يأتي إلى المسجد ، ليتوفر له الأجر الكامل ، وينوي بخروجه من بيته الخروج إلى الصلاة لا لغيرها ، حتى وإن كان صاحب دكان يريد أن يفتح دكانه بعد الصلاة ، فلتكن النية للصلاة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : )) إذا توضأ الرجل وأسبغ وضوءه ثم خرج من بيته إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يخط خطوة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة (( .. فائدتان عظيمتان : رفعة درجة ، وحط خطيئة .
... وهل يشترط لحصول هذا الأجر العظيم أن ينوي الإنسان ذلك عند أول خطوة ؟ أو متى خرج للصلاة وإن غفل عن نية الخطوات حصل له ذلك ؟ أرجو الله أن يكون الثاني ، لأنه كثيراً ما يغفل الإنسان عن احتساب الخطوات ، فإذا كان خرج من بيته للصلاة ، وإن لم يحتسب الأجر في الخطوات فإننا نرجو الله - عز وجل - أن يكتب هذا لنا .
قوله : ( يسنُّ القيام عند )) قد (( من إقامتها )
وهذا في الجماعة ، أما المنفرد فيسن أن يقوم قبل أن يبدأ بالإقامة ، من أجل أن يقيم بالصلاة وهو قائم ، لأن السنة في إقامة الصلاة وفي الأذان أن يكون الإنسان قائماً ، لكن في صلاة الجماعة لا تقم حتى يقول المقيم - سواء المؤذن أو غير المؤذن - حتى يقول : قد . ونحن لعجلتنا من حينما يدخل الإمام ، وإذا الناس قائمون .
... وهذا من العجلة ، انتظر حتى يشرع المقيم بالإقامة على الأقل ، لأنك لا تدري ربما يدخل الإمام المسجد ثم يذكر أنه على غير وضوء ، وحينئذ لا بد أن يتوضأ .(1/2)
... وقول المؤلف : ( عند قد من إقامتها ) يعني : إذا أقام ، وكبر ، وقال : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، لا تقم ، حتى يقول : قد ، حينئذ تقوم . وهذه المسألة اختلف فيها العلماء - رحمهم الله - ، منهم من قال إنك تقوم عند قوله : قد ، ومنهم من قال : تقوم حتى يقول : حي على الصلاة ، ومنهم من قال : لا تقم حتى يكبر الإمام ، ومنهم من يقول : تقوم حين يكبر التكبيرة الأولى في الإقامة ، والإمام مالك - رحمه الله - قال : الأمر في هذا واسع ، قم حين يبدأ بالإقامة ، قم حين يقول : حي على الصلاة ، قم حين يقول : قد قامت ، قم حين يكمل ، لكن لا تفوت تكبيرة الإحرام ، فالأمر واسع (1) .
قوله : ( وتسوية الصف )م
يعني : وتسن تسوية الصف : أن يكون كل واحد من المأمومين على حذاء الآخر .
... وبماذا تكون التسوية ؟ هل هي برؤوس الأقدام ؟ أو بالأعقاب ؟ أو بالأكتاف ؟ أو ماذا ؟
تكون بالكعاب ، لأن الكعب هو الذي ينبني عليه الجسد ، أما أطراف الأصابع فلا عبرة بها ، لأن بعض الناس طويل الرجل ، وبعض الناس قصير الرجل ، فإذا ساوى قصير الرجل بأصابعه طويل الرجل ، صار متقدماً عليه . الأعقاب أيضاً ، بعض الناس عقبه طويل ، وبعض الناس عقبه قصير ، وبعض الناس وسط ، ولكننا لا نعتبر لا العقب ولا رؤوس الأصابع ، إنما نعتبر الكعب ، ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - يلصق الواحد منهم كعبه بكعب صاحب ، لتحقيق المساواة والتراص .
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : سبق لنا في الدرس الماضي أن بينَّا أن القول الراجح : أن الأمر واسع ، سواء قام عند هذا ، أو إذا انتهت الإقامة ، أو عند الشروع في الإقامة ، لكن المهم أن لا تفوته تكبيرة الإحرام .(1/3)
... وهنا مسألة : وهي أن بعض الناس - أخيراً - لحرصهم على السنة ، وتطبيق السنة ، أخطؤوا في فهم السنة ، فصاروا يظنون أن قول الصحابة : )) حتى يلزق الرجل كعبه بكعب أخيه (( أن معناه : أن تفرج بين رجليك ، وهذا غلط ، ولو كان هذا هو المراد لقال : حتى كان الرجل يفرج بين رجليه حتى يمس كعبه كعب صاحبه . وهذا غير مراد بلا شك ، ولو كان هو المراد لبُيِّن، وإنك لتأتي بعض المساجد يتخذون هذا هو السنة ، وعليهم بنطلونات ، فتجدهم كأنهم أهرام . وهذا غير صحيح ، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لأبي موسى : ( الفهم الفهم فيما يلقى إليك ) فلازم أن تفهم النصوص على مراد الله ورسوله . ولكن هل المراد بالتراص : التراص الذي يشق فيه الإنسان على أخيه ؟ الجواب : لا ، لأن هذا يؤذي أخاك ، ويفوته مثلاً التورك ، ويفوته الجلوس بطمأنينة ، فالمراد بالتراص : أن لا يكون بينكما فرج ، أما أن ترصه حتى إنه يتأذى بهذا ، فهذا غلط .
وقوله : ( تسوية الصف ) أفادنا أن التسوية سنة ، ولكن في هذا نظراً ، وكيف تكون التسوية سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : )) عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم (( وهذا وعيد ، والوعيد لا يكون على فوات سنة ، بل لا يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم ، وانظر إلى قوله : )) ليخالفن الله بين وجوهكم (( ، قيل : معناه : أن يستدير الوجه ، فواحد يستدير عن يمين ، وواحد يستدير عن يسار ، ولا يستطيع أن ينظر على وجه الاعتدال ، يعني : تُلوى رقبته ، وبعضهم يقول : ( بين وجوهكم ) أي : بين قلوبكم ، فيكون الوجه هنا بمعنى القصد ، ومعلوم أنه إذا اختلفت المقاصد تفرقت الأمة ، وحصل الضرر العظيم .(1/4)
... والصحيح أن تسوية الصف واجبة . أولاً : لهذا الحديث الذي فيه الوعيد . ثانياً : أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وقدوتنا وإمامنا ، كان هو بنفسه يسوي الصفوف بيده الكريمة ، كأنما يسوي بها القداح ، يمسح الصدور والمناكب ، ويقول : استووا ، ويمشي من أول الصف إلى آخره ، ولما كثرت الأمة في زمن عمر وعثمان ، وكّلوا من يسوي الصفوف ، فإذا أقيمت الصلاة وسوّاها الوكيل ، جاء وقال : استوت الصفوف ، فيكبرون . وهذا يدل على أنهم يعتقدون ذلك واجباً ، ولا شك في وجوبه .
... كثير من العوام الآن ، حيث إن الأئمة - سامحهم الله - غفلوا عن هذه المسألة ، وصاروا يقولون : استووا ( روتينيةً ) ، حتى إن بعضهم يقول : استووا ، وهو لم يلتفت ، حتى سمعت بعض الناس يقول : صلى بي إمام - أنا وإياه اثنان - فالتفت وقال : استووا استووا !! هذا غير صحيح ، ولذلك نرى أن الإمام يلتفت ويستقبل الناس بوجهه ، ويقول : ( استووا ) كلمةً لها معناها ، ولهذا إذا كانوا مستويين ، فلا يحتاج أن يقول : استووا ، لأنها ليست كلمة يتعبد الإنسان لله بها ، هي كلمة يقصد بها تسوية الصف ، فإذا كان الصف مستوياً - كحال اليوم والحمد لله بواسطة الخطوط هذه - صارت الصفوف تستوي ، ويقل أن تجد أحداً يتقدم أو يتأخر . المهم أنك إذا احتجت أن تقول : استووا ، فقلها ، لكن بلفظها ومعناها ، لا مجرد لفظ . وكان أول ما فهمت هذا المعنى من شيخنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - ، كان أئمتنا في المساجد العادية يقولون : استووا ، اعتدلوا ، ولكن ما يتكلم حتى ولو كان الصف أعوج . ولكنَّ شيخنا - رحمه الله - يقول : تقدموا يمين الصف ، تأخروا يمين الصف ، وينص على هذا ، فاستفدنا من ذلك - جزاه الله خيراً - فائدة كبيرة ، أن المسألة ليس مجرد لفظ .(1/5)
... الخلاصة : أن القول الراجح وجوب تسوية الصف ، والمسؤول عن التسوية هم المأمومون أولاً ، والمسؤول عن تنفيذ ذلك والإلزام به هو الإمام ، لأن الإمام راع في هذا المقام (1) .
قوله : ( ويقول : )) الله أكبر (( ) يعني : بعد أن يستوي الصف يقول : الله أكبر .
... مسألة : كلمة ( يقول ) هل هي منصوبة أو مرفوعة ؟
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : لكن هل التسوية معناها الاستقامة بالمحاذاة ؟ أو تشمل حتى التراص ؟ الجواب : الثاني ، تشمل حتى التراص ، وتشمل كذلك حتى تقارب الصفوف بعضِها من بعض ، لأن الأفضل أن تتقارب الصفوف ، إلا إن كان يلزم من تقاربها تقاطعها ، مثل أن يكون - لو تقاربوا - لكانوا بين الأعمدة ، فهنا نقول : لا بأس أن يتأخروا عن الأعمدة حتى لا تقطع الصفوف ، وإلا فالأفضل قرب الإمام من الصف الأول وقرب الصف الثاني من الصف الأول ، وهلم جرا ....
وقال أيضاً فيه : من تسوية الصفوف عند بعض العلماء : أن تخرج الصغار من الصفوف الأولى ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) ليلني منكم أولو الأحلام والنهى (( لكن هذا قول ضعيف ، والصواب أنه يحرم أن يؤخر الصبيان ، لأن الصبي تصح صلاته ، وقد سبق إلى ما لم يسبق إليه المكلف ، ولأن في تأخيره تنفيراً له عن المسجد ، فهذا الصبي آتٍ فرحاً ، يريد أن يتقدم ، فتأتي أنت وتطرده ، هذا لا شك أنه ينفر ، ولأن فيه إحداثاً للعداوة بين هذا الصبي وبين الذي أقامه ، ولأن هذا يحدث العداوة بين ولي الصبي وبين هذا الذي أقامه ، وكل هذه مضار ومفاسد ، ومعنى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : )) ليلني منكم ... (( معناه : حث العقلاء البالغين على أن يتقدموا ، ولفظ الحديث ليس فيه : ( لا يلني إلا ... ) ، فلو قال ذلك ، قلنا : نعم ، يطردون ، وسمعاً وطاعة ، لكن قال : )) ليلني منكم أولو الأحلام والنهى (( ، فالصواب : أنه يحرم ، وهذا هو الذي تقتضيه الأدلة .(1/6)
الجواب : يجب أن تكون مرفوعة ، لأنها لو كانت منصوبة ، لكانت معطوفة على المصدر : ( يسن القيام ... ويقول : الله أكبر ) وعطفها على هذا المصدر غير صحيح ، لأنه لو قلنا إنها معطوفة على القيام لصارت سنة ، إذن يجب أن تكون مرفوعة على الاستئناف .
( ويقول : الله أكبر ) - سبحان الله - أول ما يدخل الإنسان يناجي ربه يقول : الله أكبر ....
وهل يكفي ما كان بمعناها ، مثل أن تقول : ( الله أعظم ) ؟ لا ، لأن العبادات توقيفية ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل : )) استقبل القبلة وكبر (( فنص على ذلك ، فلو قال : ( الله أعظم ) أو ( أجل ) أو ( أعز ) أو ما أشبه ذلك ، لا يجزئ ، لا بد ( أكبر ) .
قال أهل العلم : ولو مد الهمزة ، لم تنعقد الصلاة ، ولو مد همزة ( أكبر ) لم تنعقد الصلاة ، ولو مد الباء لم تنعقد الصلاة ، لأن المعنى يختلف ، فإذا قال ( آلله أكبر ) صار استفهاماً ، فما كبر الله ، وإذا قال : ( الله آكبر ) ما صحّ ، لأنه استفهام أيضاً ، وإذا قال : ( الله أكبار ) ما صح ، لأنه يختلف المعنى ، يقولون إن ( أكبار ) بالمد : جمع : كَبَر ، وهو الطبل ، فيخلف المعنى كثيراً ، إذن قل : ( الله أكبر ) .(1/7)
... وهل يفرق الإمام بين تكبيرات الانتقال وتكبيرة الإحرام أو لا ؟ جرت عادة أئمتنا أنهم يفرقون ، السجود له تكبير ، والقيام من التشهد له تكبير ، والهبوط إلى الأرض له تكبير ، لكن ما رأيت في هذا سنة ، وبحثت وأوصيت من يبحث من إخواننا المعتنين بالحديث ، ولم يجد ، ولا في كلام الفقهاء أيضاً ، وغاية ما وجدت في كلام الفقهاء : أن بعضهم قال : إن تكبيرة الانتقال من ركن إلى آخر تكون بحسب المسافة ، فإذا كبرت من القيام إلى السجود ، طوِّل التكبير ، وإذا قمت من السجود إلى القيام ، طول التكبير ، هكذا . أما أن يقال : التشهد الأول له تكبير ، والتشهد الثاني له تكبير ، فهذا علمته . ولقد صليت خلف إمام ، في التشهد الأول يقول : ( الل?ه أكـ ... ) فقط ، والتشهد الثاني يبين التمام ، وهذا - سبحان الله - غلط ، العبادة ليست ذوقاً ، ولا هوى ، ولا اجتهاد ، العبادة شريعة متبوعة . ثم إننا وجدنا - في الواقع - في عدم التمييز بين التكبير مصلحة ، وهي أن الإمام يحضّر قلبه ، لأنه بالأول لما كان يفرق بينهن ، إذا مدها قال المأمومون مباشرة : ( سبحان الله ) إذا كان أخطأ ، لكنهم الآن ما يقدرون أن يقولوا شيئاً ، لأن التكبير واحد ، فتجد الإمام يحرص على إحضار قلبه ، لئلا يقوم في محل القعود أو يقعد في محل القيام . كذلك بالنسبة للمأموم ، فلما كان الإمام يخالف التكبير ، صار المأموم عبارة عن آلة متحركة حسب المد ، فإذا جاءت ( الله أكب?ر ) عرف هل هو جالس أو قائم ، وقلبه ذاهب يميناً ويساراً ، وهذا التكبير هو الذي يدله ، لكن لما صار التكبير واحداً ، صار كل واحد من المأمومين يحسب حسابه ، لأنه يخجل أن يقوم والناس جالسون ، أو بالعكس . فصار فيه مصلحة واضحة . ويكفينا أن نقول إن من فرّق بين التكبير فعليه الدليل ، وإذا لم ترد السنة به نبقيه واحداً - صوت التكبيرات - .
قوله : ( رافعاً يديه مضمومتي الأصابع ممدودة حذو منكبيه )(1/8)
وضِدُّ ( مضمومة الأصابع ) : مفرقة ، وضد ( ممدودة ) : مقبوضة ، فمد الأصابع ، وضم بعضها إلى بعض .
قال : ( حذو منكبيه ) المنكب : الكتف ، وهذه إحدى صفات اليدين عند الرفع ، والسنة جاءت بهذا ، وجاءت بأن تكون إلى شحمة الأذنين ، وإلى فروع الأذنين ، فإما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل هذا من باب أن الأمر واسع ، أو يقال : إنها سنة مشروعة مرةً كذا ، ومرةً كذا .
... وفي هذا تقع أخطاء كثيرة ، ولذلك أرى أن طلبة العلم عليهم مسؤولية حول هذا الأمر ، أن يبينوا للناس ، والعوام سريعون ، قريبو العاطفة ، لكن يحتاجون إلى من ينبههم .
... فإن قال قائل : ما الفائدة ؟ و ما هي الحكمة ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنك لا تقل في المشروعات أو فيما شرع الله : ما الفائدة ؟ ما الحكمة ؟ أنت عبد مذلل ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ، وعائشة - رضي الله عنها - لما سئلت : ما بال الحائض تقضي الصوم دون الصلاة ؟ قالت : ( كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) ، فلا تسأل ، تعبد لله على أي حال . لكن بعض العلماء استنبط حكمة الله أعلم بها : قال : إن هذا إشارة إلى رفع الحجاب بينك وبين ربك ، وهذا يصدق فيما لو قلنا : إنك لا ترفع إلا عند تكبيرة الإحرام ، مع أن الرفع يسن في مواضع أخرى .
قوله : ( ويسمع الإمام من خلفه كقراءته في أولتي غير الظهرين ، وغيره نفسه ) م
يعني : في التكبير ، يسمع الإمام من خلفه ، فيرفع الصوت بالتكبير .
قال : ( كقراءته ) أي : الإمام .
( في أولتي غير الظهرين ) وهما : العشاء والمغرب .(1/9)
فالسنة جهر الإمام في التكبير ، هكذا قال المؤلف ، ولو قيل بوجوب جهر الإمام بالتكبير ، لكان له وجه ، لأنه لا تتم متابعة المأموم للإمام إلا بسماع التكبير ، ولو قلنا : إن المأموم يرى الإمام ، قلنا : إن هذا ممكن في الصف الأول ، لكن إذا كثرت الصفوف ، لا يمكن . فلو قيل : إنه يجب على الإمام أن يجهر بالتكبير لكان له وجه .
وقوله : ( في أولتي غير الظهرين ) أيضاً فإنه يسمع من خلفه ، هذا هو السنة والأفضل .
وقوله : ( وغيره ) أي : ويسمع غيره ( نفسه )
وغير الإمام هو المأموم والمنفرد ، فيجب أن يسمع نفسه ، فإن قال ولكنه لم يسمع ، لم تصح صلاته ، يعني يسمع غيره نفسه وجوباً ، فإن لم يسمع نفسه فلا صلاة له ، هذا ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - وهو المذهب ، والقول الثاني : أنه لا يشترط إسماع النفس ، وأنه متى نطق فإنه يصح ويعتبر (1) .
قوله : ( ثم ) أي : بعد التكبير ورفع اليدين ( يقبض كوع يسراه تحت سرته )
( يقبض كوع يسراه ) بيمناه .
... مسألة : ما هو الكوع ؟
ما يلي الإبهام : الكوع ، وما يلي الخنصر : الكرسوع ، وبينهما الرسغ . وعلى هذا قال الناظم :
وعظم يلي الإبهام كوعٌ وما يلي ... ... لخِنْصِرِهِ الكُرْسُوع والرُّسغ ما وسطْ
قال : ( ثم يقبض ) لم أرَ إلى ساعتي هذه في النصوص أنه قبض ، ولكنه وضع (2) ، وفرقٌ بين القبض والوضع ، فإن ثبت القبض أخذنا به وأخذنا بالوضع ، وإن لم يثبت أخذنا بالوضع فقط .
__________
(1) وهو القول الذي رجحه الشيخ ، انظر : الممتع : 3/25 .
(2) وفي الممتع 3/44 : ( ولكن وردت السنة بقبض الكوع ، ووردت السنة بوضع اليد على الذراع من غير قبض ، إذن هاتان صفتان : الأولى قبض ، والثانية وضع ... ) ، وقد دل الدليل الصحيح على أنه قبض .(1/10)
قال : ( تحت سرته ) يعني يجعل اليدين تحت السرة ، وهذا أيضاً ما ذهب إليه المؤلف - رحمه الله - والفقهاء ، وقيل : فوق السرة ، وقيل : على الصدر ، وهذا أقرب ما يكون ، لأن كل الأحاديث الواردة في موضع اليدين كلها فيها ضعف ، لكن أحسنها : على الصدر ، وأما على النحر فلا أصل له ، والعجب أن بعض العلماء - رحمهم الله - قال : على النحر ، وفسر بذلك قوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وهذا تحريف للقرآن ، المراد بالنحر : الذبح .
قوله : ( وينظر مسجَده ) ك
يعني : مكان سجوده ، وهو قائم ينظر مسجده ، وهذا المشهور عند الفقهاء وبه فسر بعض العلماء قوله تعالى : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قال : هم الذين ينظرون إلى موضع السجود .
... استثنى بعض العلماء المأموم فقال : ينظر إلى الإمام ، لأن الصحابة كانوا ينظرون إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، واستثنى آخرون الكعبة ، قال : إذا كان يشاهد الكعبة فلينظر إلى الكعبة .
... أما الاستثناء الأول ، فله وجه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر يصلي عليه ، وقال : )) فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي (( ولا يمكن أن يتعلموها إلا وهم ينظرون إليه ، وحينئذ نقول : إن كان الإمام ممن يقتدى به في علمه ، وينتفع المأموم إذا نظر إليه ، فلينظر إليه ، وإلا فلا .
... أما الكعبة ، فالقول بأنه ينظر إليها ضعيف جداً ، لأنه لا علاقة بين الصلاة وبين الكعبة ، هذه واحدة . ثانياً : أنه إذا جعل ينظر إلى الكعبة والناس يطوفون حولها ، سوف يشوش فكره ، فالصواب : أنه لا ينظر للكعبة ، وقول بعضهم : إن النظر للكعبة عبادة ، غير صحيح ، من قال إن النظر للكعبة عبادة ؟ نعم ، لو فرض أن الإنسان جلس ينظر للكعبة ويتأمل تعظيم هذا البيت ، فهذا تكون العبادة ليست بالنظر المجرد ، ولكن بالنظر المقرون بالتأمل .(1/11)
قال : ( ينظر مسجده ) إذن يستثنى من ذلك المأموم خلف إمام يسترشد بالنظر إليه ، ولا يستثنى من ذلك الكعبة .
... وقال بعض العلماء : لا ينظر إلى موضع السجود ، بل ينظر تلقاء وجهه حال قيامه ، وينظر إذا ركع قدميه ، يعني : كأنهم يقولون : دع النظر على طبيعته ، وأنت إذا تركت النظر على طبيعته تنظر تلقاء وجهك ، وإذا ركعت : تنظر أسفل ، يعني : كأنهم يقولون : إنه ليس هناك عبادة مخصوصة في النظر .
... ويستثنى من ذلك أيضاً : في حال الإشارة في التشهد ، فقد كان بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز إشارته ، يعني مثلاً : أن الإنسان واضع يده على فخذه أو على رأس الركبة ، سوف يشير إذا دعا ، كلما دعا أشار بأصبعه ، مثل أن يقول : رب اغفر لي ، اللهم صل على محمد - يشير - ، في حال الإشارة انظر إلى الأصبع ، لأن هذه الإشارة إلى علو الله - عز وجل - ، فيجتمع الآن : الإشارة بالأصبع إلى علو الله ، واتباع القلب لهذه الإشارة ، فيستحضر علو الله - عز وجل - .
قولها: ( ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ) ك(1/12)
وهذا هو الاستفتاح . واعلم أن الاستفتاح ورد على صفات متعددة .... فهذا الاستفتاح ثناءٌ على الله - عز وجل - محضٌ ، وإخلاص له ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - له ميزات متعددة في زاد المعاد ، فهذا دعاء الاستفتاح ، وفيه دعاء آخر ، وهو : ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد ) وهذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستفتح به ، حتى إن أبا هريرة يقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة سكت هنيهة - يعني : يسيراً - فقلت له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول ؟ - وفي هذا الحديث شاهد على أن الإسرار بالقول يسمى سكوتاً ، والإمساك عن القول يسمى سكوتاً - قال : )) أقول : اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ... (( .....
... هل نجمع بين هذا ، و )) سبحانك اللهم وبحمدك (( ؟ لا ، أبداً ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله أبو هريرة قال : أقول : )) اللهم باعد ... (( ، ولم يقل : ( أقول : )) سبحانك اللهم وبحمدك (( ... و )) اللهم باعد ... (( ) ، وعليه فإما أن تقرأ هذا ، وإما أن تقرأ هذا (1) .
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : هل يقتصر على واحد دائماً ؟ فيه خلاف ، بعض العلماء يقول : يقتصر على واحد دائماً ، ويختار أوفاها وأكملها ثم يستمر عليه ، فمنهم من اختار : )) اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... (( لأنه أصح ، ومنهم من اختارك : )) سبحانك اللهم وبحمدك ... (( لأنه أبلغ في الثناء ، وابن القيم في زاد المعاد يرجح )) سبحانك اللهم وبحمدك ... (( وإن كان من حيث الحديث أقل . والصحيح : أنه يفعل هذا مرة وهذا مرة ، في جميع العبادات المتنوعة ، وفوائد ذلك ثلاث :
الأولى : حفظ السنة ، في كلا النوعين ، لأنه لو اقتصر على نوع واحد ، نُسي الآخر ، فإذا صار ( يقرأ ) مرةً هذا ، ومرةً هذا ، حفظ بذلك السنة .
الثانية : تمام الاقتداء بالسنة ، لأنه إذا كان ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا وهذا ، فتمام الاقتداء به أن تفعل أنت هذا وهذا ، لأنك لو اقتصرت على واحد منها أَمَتَّ الثاني ، فلم يكن لك الاقتداء التام بالسنة .
الثالثة : أن ذلك أقوى في استحضار القلب ، لأنك لو بقيت على واحد دائماً ، صار كأنه ( مكينة ) تتحرك بلا إرادة ، ولذلك إذا غفل الإنسان ، وقد اعتاد نوعاً من هذه الاستفتاحات ، ما يدري إلا وهو قد شرع فيه وانتهى منه ، فكوننا نلاحظ فعل هذا مرة وهذا مرة ، لا شك أنه أدعى للخشوع ، فهذه ثلاث فوائد في فعل العبادات المتنوعة على وجوهها المتنوعة . لكن لو قال قائل : هل نشترط في ذلك أن لا يشوش على الآخرين ؟ نقول : ربما نشترط هذا ، وربما لا نشترط ، إن كان الموجودون محصورين ، فهذا وإن شوش عليهم أول مرة ، لم يشوش عليهم فيما بعد ، فليفعل هذا مرة وهذا مرة . ... ... ... ... ... ... ... ... =
= ومن ذلك : القراءات ، فتعرفون أن بعض الآيات فيها قراءات متعددة ، هل الأفضل أن يقتصر على قراءة واحدة ؟ أو أن يأتي بهذا مرة وهذا مرة ؟ الأفضل أن يأتي بهذا مرة وهذا مرة بشرط أن لا يشوش ، فإن خاف أن يشوش فلا يقرأ . الآن ( مالك يوم الدين ) فيها قراءة أخرى ( ملك يوم الدين ) ، فلا يسوغ أن تقرأ بين العوام ( ملك يوم الدين ) ، لأنك تشوش عليهم ، ويعتقدون أحد أمرين ولابد : إما أنك جاهل ، وإما أن القرآن يتلاعب الناس به . فلذلك لا تخرج عن القراءة الموجودة بين أيدينا ، ولقد أحسن المسلمون صنعاً أن صاروا يكتبون المصاحف على قراءة واحدة في الجهاد ، من أجل أن لا يحصل التشويش .
ومما مر علينا من الأنواع المتعددة : 1/ رفع اليدين عند التكبير إلى الكتفين أو شحمة الأذنين أو أطراف الأذنين . 2/ دعاء الاستفتاح .(1/13)
... هناك استفتاح في قيام الليل : )) اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم (( ، لكن هذا في صلاة الليل .
قوله : ( ثم يستعيذ ) م
يعني : يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وجوباً على قول بعض العلماء ، لقول الله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } ، وقيل : استحباباً ، وهذا هو المشهور من المذهب : أنه - أعني التعوذ - ليس بواجب عند القراءة ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (( والاستعاذة ليست من فاتحة الكتاب ، لكن للقائل بوجوب الاستعاذة نقول : أنا لا أقول إنها من الفاتحة ، لكن أقول : لا تقرأ إلا مستعيذاً بالله في الصلاة وغيرها .
قوله : ( ثم يبسمل سراً ) م
هل يبسمل وجوباً أو استحباباً ؟ إن قلنا إنها من الفاتحة ، فوجوباً ، وإن قلنا : ليست منها ، وهو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك ، فهو استحباباً .
قوله : ( وليست من الفاتحة ) م
نصّ عليها دفعاً لقول من يقول إنها من الفاتحة كالإمام الشافعي - رحمه الله - .
... الموجود في المصاحف الآن على أنها من الفاتحة ، حسب الترقيم ... ولكن الصحيح أن أول الآيات من الفاتحة هو قوله : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
قوله : ( ثم يقرأ الفاتحة ) م
بعد الاستفتاح ، والاستعاذة ، والبسملة : يقرأ الفاتحة كاملة من أولها إلى آخرها .
قوله : ( فإن قطعها بذكرٍ ، أو سكوتٍ غير مشروعين ، وطال ، أو ترك منها تشديدة ، أو حرفاً ، أو ترتيباً ، لزم غير مأموم إعادتها ) م
يشترط في قراءة الفاتحة شيئان :
الشيء الأول : الترتيب ، والثاني : الموالاة .(1/14)
الترتيب : أن لا يقدم آية على آية ، ولا كلمة على كلمة ، فلو قال : ( الحمد لله رب العالمين * ملك يوم الدين * الرحمن الرحيم * إياك نعبد ... ) فهذا لا يصح ، لا بد أن يقرأها مرتبة ، لأن ترتيب الآيات توقيفي ، بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس اجتهادياً .
الثاني : أن تكون متوالية .
( فإن قطعها بذكر ، أو سكوت غير مشروعين ، وطال ... ) : إن تركها بذكر غير مشروع ، بأن لما قرأ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قام يسبح الله - عز وجل - : ( سبحان من يبعث الناس ليوم لا ريب فيه ، سبحان من يذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، سبحان من ينسف الجبال نسفاً ، سبحان من يضع الصراط على شفير جهنم ، سبحان من يحاسب الخلائق ، سبحان من يضع الموازين ... ) وأتى بكل مشاهد يوم القيامة !! ، ثم قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، تبطل لعدم الموالاة ، كذلك لو أنه في أثناء الفاتحة قرأ آيات أخرى من غير الفاتحة ، فإنها تبطل لعدم الموالاة .
( أو سكوت غير مشروعين )
السكوت غير المشروع هو سكوت المأموم فقط ، فالمأموم يسكت ، ربما يقرأ آيتين من الفاتحة ثم يشرع الإمام في القراءة ، فيسكت لاستماع قراءة الإمام ، ثم إن الإمام لما انتهى من القراءة التي بعد الفاتحة سكت ، فأتمها المأموم ، فيصح هذا ، أن يبني أولها على آخرها ، لأن هذا سكوت مشروع ، وهذا بناءً على أنه يجب الإنصات لقراءة الإمام حتى في الفاتحة ، والقول الراجح : أن الإنسان يستمر في قراءة الفاتحة ، ولو قرأ الإمام ، لأن قراءة الفاتحة ركن حتى على المأموم ، وحتى في صلاة الجهر ، فليقرأها ، لأنه ربما يؤخرها ثم لا يسكت الإمام .
( وطال ) يعني بذلك : السكوت ، فإن لم يطل ، بأن سكت يسيراً ثم استمر ، [ فله الإكمال ] .
( أو ترك منها تشديدة )(1/15)
تشديدة : مثل : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، بعض الأئمة نسمعه يقول : ( الْحَمْدُ للّهِ رَب ِ الْعَالَمِينَ } هذا ما يجوز ، لأنه ترك تشديدة ، والحرف المشدد عن حرفين . مثل - أيضاً - : { إِيَّاكَ } ، بعض الناس يقول : ( إِيَاكَ ) ، هذا ترك منها تشديدة .
( أو ) ترك منها ( حرفاً ) مثل : ( الْحَمْدُ للّـ? رَبِّ الْعَالَمِينَ ) أسقط الهاء ، لا تصح ، لأنه لا بد أن يأتي بها كاملة .
( أو ترتيباً ) تقدم الكلام عنها .
( لزم غير مأموم إعادتها ) وغير المأموم هو : الإمام والمنفرد ، أما المأموم فلا يجب عليه إعادتها ، بناءً على أن قراءة المأموم في الصلاة سنة وليست بواجبة ، وهو المذهب ؛ مذهب الحنابلة : أن قراءة الفاتحة للمأموم سنة وليست بواجبة ، وعليه فإذا ترك منها شيئاً من ذلك لم تلزمه الإعادة ، لأنها ليست واجبة في حقه .
قوله : ( ويجهر الكل بآمين في الجهرية ) م(1/16)
الكل : المأموم والإمام ، يجهران بـ ( آمين ) في الجهرية ... فإذا كانت الصلاة الجهرية ، فليجهر بها الإمام والمأموم ، لكن متى يقولها المأموم ؟ يقولها إذا قال الإمام : { وَلاَ الضَّالِّينَ } ، وعلى هذا فيتفق صوت المأموم وصوت الإمام ، وأما من قال : يقولها إذا انتهى الإمام من التأمين ، مستدلاً بقوله - صلى الله عليه وسلم - : )) إذا أمَّن الإمام فأمنوا (( فغلط ، لأن قوله : )) إذا أمَّن الإمام فأمنوا (( يفسره قوله : )) إذا قال الإمام : { وَلاَ الضَّالِّينَ } فقولوا : ( آمين ) (( ، وعلى هذا فيكون معنى )) إذا أمَّن (( : إذا بلغ محل التأمين ، فأمِّنوا ، أو المعنى : إذا أمَّن : إذا شرع في التأمين ، وكما نعلم أن ( إذا ) يأتي شرطها للمستقبل ، وللقرب من المستقبل ، { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } يعني : إذا أردت القراءة . إنما على كل حال : المأموم يجهر بـ ( آمين ) ويقولها مع إمامه ، ولهذا جاء في الحديث : )) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له (( والملائكة يؤمنون إذا أمَّن الإمام .
قوله : ( ثم يقرأ بعدها ) أي بعد الفاتحة ( سورة تكون في الصبح من طوال المفصل ، وفي المغرب من قصاره ، وفي الباقي من أوساطه ) م(1/17)
المفصل : من ( ق? ) إلى آخر ( الناس ) ، وسمي مفصلاً ، لكثرة فواصله ، بسبب قصر سوره ... طواله من ( ق? ) إلى ( عَمَّ ) وأوساطه من ( عَمَّ ) إلى ( الضحى ) وقصاره من ( الضحى ) إلى آخر القرآن . وهذا هو الذي ينبغي : أن يقرأ الإنسان بهذه السور ، في المفصل على هذا الوجه . الفجر من طواله ، المغرب من قصاره ، الباقي من أوساطه . وإنما اختير المفصل ، ليكون ذلك أسهل في حفظه على المأمومين ، لأنه إذا تكرر عليهم المفصل حفظوه ، وهذا أحسن من كونه يقرأ آيات من السور ، حتى إن ابن القيم في زاد المعاد قال إنه لم يكن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ آيات من السور ، لا من أوساطها ولا آخرها ، لكنه - رحمه الله - غفل عن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر أحياناً : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ ... } الآية في الركعة الأولى ، و { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ ... } الآية في الركعة الثانية ، والأصل أن ما ثبت في النفل ثبت في الفرض ، فلا ينهى الإنسان أن يقرأ من بعض السور آيات منها ، لا ينهى عن ذلك ، لكن يقال : الأفضل المحافظة على المفصل ، هذا هو الأفضل .(1/18)
وقوله : ( في المغرب من قصاره ) يعني : في غالب الأحيان ، وينبغي أن يقرأ من طواله أحياناً ، فإنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالطور ، وقرأ بها في الفجر ( قرأ بها في فجر يوم الرجوع من مكة إلى المدينة في حجة الوداع ، وسمعت ذلك أم سلمة ) ، وقرأ بها في المغرب في المدينة ، إثر غزوة بدر ، وسمعها جبير بن مطعم - وكان من أسرى بدر - ، يقول - رضي الله عنه - : ( لما بلغ قوله تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } كاد قلبي يطير ) ، لأن هذا دليل عقلي لا يمكن الانفكاك عنه .. { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } الجواب : لا هذا ولا هذا ، وإذا كان لا هذا ولا هذا فمن خالقهم ؟ هو الله - عز وجل - .
... فلا بأس أن يقرأ في المغرب من طوال المفصل أحياناً ، بل هو من السنة . وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ فيها بطولى الطوليين ، أي : بسورة الأعراف (1) .
قوله : ( ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان ) م
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : ذكر المؤلف فيما سبق أنه يقرأ بعد الفاتحة سورة ، هل هذا على سبيل الوجوب ؟ [ الجواب : ] على سبيل الندب ، الدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب (( .
... هل كونها على هذا الوجه ( في الفجر من طواله ، وفي المغرب من قصاره وفي الباقي من أوساطه ) هو على سبيل الوجوب ؟ لا ، على سبيل الاستحباب .(1/19)
لأنه هو المتواتر ، وهو الذي قد تلقته الأمة الإسلامية ، ومصحف عثمان هو ما تضمنته القراءات السبع ، فـ ( مالك ) و ( ملك ) من مصحف عثمان ، وتبينوا وتثبتوا من مصحف عثمان ، وكل القراءات السبع من مصحف عثمان ، وقوله هذا - رحمه الله - احترازاً من مصحف ابن مسعود - رضي الله عنه - وأمثاله ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : )) من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد (( وهذا إذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود ، فكيف يقول قائل : إذا قرأ في الصلاة بقراءة ابن مسعود التي حث عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بطلت صلاته ، ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة : أنه لو قرأ بقراءة ابن مسعود أو غيرها مما صح ، فإن صلاته لا تبطل ، فلو قرأ قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ } فالصلاة صحيحة ، ولو قرأ في كفارة اليمين : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ } فالصلاة صحيحة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ؛ أنه إذا صحت القراءة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقراءة بها صحيحة ، ولا تبطل بها الصلاة ، لأن الكل حق ، والكل صحيح ، لكن كما قلت لكم آنفاً : لا يقرأ بالقراءات عند العوام إذا لم تكن معروفة عندهم في مصاحفهم .
... مسألة : لو قرأ تلقيناً ، يجوز أو لا يجوز ؟(1/20)
يعني : عنده واحد يلقنه : قل : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، قال : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ... يجزئ أو لا ؟ يجزئ ، لأنه يصدق عليه أنه قرأ ، ولأنه محتاج إليه أحياناً ، أحياناً يكون مع الإنسان نسيان ، إما لكبر ، أو لعاهة ، أو لحادث ، وينسى ، فيكون عنده ابنه أو ابنته يذكره ، يقول : قل : الله أكبر ، فيقول : الله أكبر ، قل كذا ... ويلقنه حتى ينتهي من الصلاة ، فصلاته صحيحة .
قوله : ( ثم يركع مكبراً رافعاً يديه ) م
( ثم ) يعني بعد أن ينتهي من القراءة يركع .
( يركع ) يعني يحني ظهره تعظيماً لله - عز وجل - ، لأن هذه الصيغة تعد من التعظيم ، إلى وقتنا هذا ، إذا أراد أحد [ أن ] يعظم شخصاً انحنى له ، ولهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يلاقي أخاه أينحني له ؟ قال : )) لا (( ، لأن هذا لا يكون إلا لله وحده .
... مسألة : ما حد الركوع الواجب ؟
قالوا : حد الركوع الواجب : أن يمكن متوسط اليدين مس ركبتيه بيديه ، يعني : أن يكون هذا الانحناء بحيث يمكن أن تمس يداه ركبتيه ، إذا كان متوسط اليدين ، لأن بعض الناس يداه قصار ، لا تمس الركبة إلا بانحناء بالغ ، وبعض الناس يداه طويلتان ، تمس الركبتين بأدنى انحناء ، قالوا : فالمعتبر الوسط .
... وقيل : إن الواجب أن يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى الوقوف التام ، وهذا جيد ، يعني : إذا انحنى قليلاً لا يعد راكعاً ، إذا انحنى حتى كان إلى الركوع التام أقرب منه إلى الوقوف التام ، فهذا أدنى مجزئ .
((1/21)
مكبراً ) يكبر حال الهبوط ، لا قبل ، ولا بعد ، فإن كبر قبل أن يهوي راكعاً ، لم يصح التكبير ، وإن كبر بعد أن وصل لم يصح التكبير ، وإن بدأ قبل أن يهوي أو أتم بعد أن وصل إلى حد الركوع ، ففي إجزائه خلاف ، فمنهم من يقول : إنه يجزئ ، ومنهم من يقول : إنه لا يجزئ ، والأرفق : أنه يجزئ ، لأن كثيراً من الأئمة يبدأ التكبير قبل أن يهوي ، وكثيراً منهم يبدأ بعد أن يهوي ولكن لا يكمل حتى يصل إلى حد الركوع ، وجهَّال الأئمة لا يكبر إلا إذا وصل إلى الركوع وركع ، ( لماذا ؟ ) قال : لئلا يسابقني المأمومون ، فإذا سمعوا التكبير وإذا أنا قد ركعت ، وهذا اجتهاد في غير محله ، نقول : أنت تخطئ لخطأ المأمومين ؟ غلط ، كبر وأنت تهوي ، والذي يتقي الله يعرف أنه لا يمكن أن يركع حتى تصل إلى الركوع ، والذي لا يتقي الله هذا ( ما عليك منه ) .
... مسألة : لو أن أحداً نسي ، وأهوى إلى الركوع ووصل الركوع ، هل يكبر ؟
لا ، لا يكبر ، لأنه فات محله ، فلا يكبر .
... مسألة : لو نسي فكبر قبل أن يهوي ، هل يعد تاركاً للتكبير ؟
نعم يعد تاركاً للتكبير .
... مسألة : لو كبر ثم أهوى وأكمل التكبير وهو مهوي ؟
فالمذهب لا يجزئ ، وعليه سجود السهو ، والقول الصحيح أنه يجزئ لمشقة التحرز منه .
( رافعاً يديه ) كما رفعهما عند تكبيرة الإحرام .
قوله : ( ويضعهما ) م
أي اليدين .
قوله : ( على ركبتيه ، مفرجتي الأصابع ، مستوياً ظهره )
( مفرجتي الأصابع ) يفرجها كأنه قابض ، كما جاء في الحديث : ( كالقابض للركبتين ) .
( مستوياً ظهره ) يعني : لا محدودباً ، ولا نازلاً ، بل يكون مستوياً كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل هذا حتى جاء في الرواية : ( لو صب عليه الماء لاستقر ) .
قوله : ( ويقول : )) سبحان ربي العظيم (( ) م
( ربي العظيم ) مناسب تماماً للركوع ، لأن الركوع تعظيم فشرع له من القول ما يناسبه .(1/22)
قوله : ( ثم يرفع يديه قائلاً إمامٌ ومنفردٌ : )) سمع الله لمن حمده (( ) ا
يرفع رأسه ويديه جميعاً ، وهل يرفع يديه إلى أذنيه في الرفع من الركوع ؟ نعم ، كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
( قائلاً إمام ومنفرد : سمع الله لمن حمده ) ...
قولها: ( وبعد قيامهما : )) ربنا ولك الحمد ، ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد (( ) م
( وبعد قيامهما : )) ربنا ولك الحمد (( ) وفي هذه الجملة أربع صفات نبوية :
1/ ربنا لك الحمد .
2/ ربنا ولك الحمد .
3/ اللهم ربنا لك الحمد .
4/ اللهم ربنا ولك الحمد .
كل هذا وارد ، وكما قلنا فيما سبق ، ينبغي أن يأتي بهذا تارة ، وبهذا تارة .
قوله : ( ومأمومٌ في رفعه : )) ربنا ولك الحمد (( فقط ) ا
المأموم لا يقول : )) سمع الله لمن حمده (( وإنما يقول بدلها : )) ربنا ولك الحمد (( . دليل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) إنما جعل الإمام ليؤتم به ... (( إلى أن قال : )) وإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( ، فإن قال قائل : أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : )) صلوا كما رأيتموني أصلي (( ؟ فالجواب : بلى . أليس يقول في رفعه : )) سمع الله لمن حمده (( ؟ بلى . إذن المأموم لماذا لا يقول [ كذلك ] ؟ نقول : لأن هذا ورد فيه نص خاص ، وهو )) إذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( .(1/23)
وقوله : ( فقط ) يعني : لا يزيد على هذه الكلمة ، فالمأموم يرفع قائلاً : )) ربنا ولك الحمد (( ، وفي حال قيامه يسكت ، لا يقول شيئاً ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : )) إذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( ، هذا المذهب ، لكنه قول ضعيف ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بقوله : )) قولوا : ربنا ولك الحمد (( في مقابل : )) سمع الله لمن حمده (( والذكر الذي يكون بعد القيام ثابت للإمام والمأموم والمنفرد ، وهو : )) ربنا ولك الحمد ، ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد (( فالقول بأن المأموم يقف فقط ساكتاً قول ضعيف ، لأنه لا يمكن أن يسكت المأموم إلا لاستماع قراءة الإمام ، إذن الصواب : أن الإمام والمنفرد والمأموم ، كل منهم يقول : )) ربنا ولك الحمد ، ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد (( . بماذا نجيب عما استدلوا به : )) إذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد (( ؟ نقول : هذا في مقابل قول الإمام : )) سمع الله لمن حمده (( (1) .
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : سألنا أحد الطلبة عن حال اليدين بعد الرفع من الركوع ، لأن المؤلف ما ذكره - رحمه الله - ، فسألنا عن ذلك ، فنقول : إن الإمام أحمد - رحمه الله - قال : إن شاء أرسلهما وإن شاء وضع يده اليمنى على اليسرى كما قبل الركوع ، فجعله مخيراً ، واختار بعض العلماء أنه يضع يده اليمنى على اليسرى ، واختار بعضهم أنه لا يضع ، حتى وصل إلى أن قال إنه بدعة ، وسأعلق على كلمة ( إنه بدعة ) ، فهذه ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن مخير ، وأنه إن أرسل فسنة ، وإن وضع فسنة ، وهذا مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - نصَّ عليه ، وكأنه - رحمه الله - لما لم يثبت إرسال اليدين ولا وضع اليد اليمنى على اليسرى ، جعل الإنسان مخيراً ، جعلنا لا نأمره لا بهذا ولا بهذا .
[
الثاني ] : وأما من قال بالاستحباب فحجته حديث سهل بن سعد قال : ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) ووجه الدلالة : أن قوله : ( في الصلاة ) يعم جميع أجزائها ، فيخرج منه : الركوع ، لأن وضع اليد على الركبتين ، والسجود لأن اليد على الأرض ، والجلوس لأن اليد على الفخذين ، فيبقى القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع ، وهذا اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز .
[ الثالث ] : أما حجة الآخرين الذين يقولون إنه لا يضع ، فيقولون : إن الأصل إبقاء الجسد على ما هو عليه ، حتى يقوم دليل على أنه خلاف الأصل ، ولا دليل في المسألة ، وكأن هذا القول يرمي إلى أنه لا بد من دليل خاص على كل عمل بخصوصه ، فالمسألة من باب الاجتهاد ، والواجب على الإنسان أن يأخذ بما ترجح عنده من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها . والراجح عندي : أنه يضع يده اليمنى على اليسرى بعد الركوع كما قبله ، لأن حديث سهل بن سعد واضح .
لكن القول بأنه بدعة صعب ، لأننا لو بدعنا كل من خالفنا في المسائل الفقهية ، لم نكد نجد مسألة إلا والعلماء الآخرون فيها مبتدعة ، وهذا صعب ، لأنه إذا كان إما مصيب وإلا مبتدع ( ليس ) صحيحاً هذا ، فمسائل الاجتهاد الكل منهم مصيب في اجتهاده ، لا في موافقة الحق ، لأن الحق واحد ، ولا يمكن أن يكون الحق مع الرجل وخصمه أبداً ، لكن الاجتهاد حق ، كل يجتهد ، وقد علم كل أناس مشربهم ، وهذه نقطة مهمة ، وهي المسائل الفقهية إذا خالفنا فيها أحد لا يحق لنا أن نقول إنه مبتدع ، ما دمنا مجتهدين نحن وهو ، فكيف نقول إنه مبتدع وفيه احتمال أننا نحن مبتدعون ، أليس كذلك ؟ لأنه لا ينزل علينا الوحي ، فإذن نقول : اجتهادنا ليس ملزماً له ، واجتهاده ليس ملزماً لنا ، والكل مختصمون عند الله - عز وجل - ، ولكن نقول : المسائل الخلافية التي لها مساغ في الاجتهاد ، لا يمكن أن نبدع غيرنا فيها ... طالع كتب الفقهاء ، لا تكاد تجد صفحة إلا وفيها = = خلاف إما في المذاهب أو بين علماء المذهب الواحد ، لكن نقول : هذا مرجوح ، هذا ضعيف ، أو ما أشبه ذلك ، ولا نبدَّع ولا نضلل .(1/24)
قوله : ( ثم يَخِرُّ مكبراً ساجداً على سبعة أعضاء : رجليه ، ثم ركبتيه ، ثم يديه ، ثم جبهته مع أنفه ) ا
( يَخِرُّ ) الخرور يكون من أعلى إلى أسفل ، ومنه خرور الماء ، خرور النهر ، من أعلى إلى أسفل ، من القيام إلى السجود .
( مكبراً ) قائلاً : ( الله أكبر ) . يقولها فيما بين القيام والسجود .
((1/25)
ساجداً على سبعة أعضاء ) وجوباً ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) أمرنا أن نسجد على سبعة أعضاء : على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه ، ليبين أن الأنف ليس مستقلاً ولا منعزلاً عن الجبهة ، بل هو منها ، لأننا لو عددنا الأنف مستقلاً لكانت الأعضاء ثمانية ، لكنه تابع للجبهة - ، واليدين ، والركبتين ، وأطراف القدمين (( فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأعلى فالأعلى ، الجبهة ، ثم اليدين ، ثم الركبتين ، ثم أطراف القدمين ، وجوباً ، وظاهر كلام المؤلف : أنه يبدأ بالركبتين قبل اليدين ، لقوله - رحمه الله - : ( رجليه ثم ركبتيه ) وهذا هو الحق ، أنه عند السجود يبدأ بالركبتين قبل اليدين ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبدأ الإنسان السجود باليدين قبل الركبتين ، في قوله : )) إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير (( ومعلوم أن البعير إذا برك يقدم يديه ، فإذا قدم الإنسان يديه ، صار كالبعير إذا برك ، ولهذا قال : )) وليضع ركبتيه قبل يديه (( هذا هو صواب الحديث ، وأما : )) وليضع يديه قبل ركبتيه (( فهذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد : إنه منقلب على الراوي ، ويتعين أن يكون منقلباً ، لأنه لو كان على صواب ، لكان أول الحديث مناقضاً لآخره : ( لا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) تناقض ، لأنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه فقد برك كما يبرك البعير ، فإذا قال قائل : لماذا لا نعتبر آخر الحديث دون أوله ؟ نقول : لا ، لأن آخره مبني على أوله فالمعتبر : الأول ، فإن قال قائل : البعير يبرك على ركبتيه ، وهما في يديه ، فإذن تكون الركبتان هما المتأخرتان ، فإذا بدأ بالركبتين ، فقد وقع في النهي ؟ الجواب سهل على هذا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : ( فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير ) لو قال ذلك ، لقلنا : لا تسجد على الركبتين ، ابدأ باليدين ، ولكنه قال : )) فلا يبرك كما ... (((1/26)
فالنهي عن المشابهة ، لا عن العضو الذي يسجد عليه ، وهو واضح لمن تأمله ، ثم هو أيضاً مناسب للترتيب البدني ، الترتيب البدني : الركبتين قبل اليدين ، الرجلان على الأرض - معروف - ، ثم الركبتين ، ثم اليدين ، ثم الجبهة ، هذا الترتيب البدني ، كما أنه في القيام يبدأ بالأعلى : بالجبهة ، ثم اليدين ، ثم الركبتين (1) .
... مسألة : التكبير متى يكون ؟
من حين يهوي ، إلى أن يصل إلى السجود ، فإن تقدم ، على المذهب لا يصح ، وإن تأخر لا يصح ، والصواب أنه إذا تقدم أو تأخر وصار جزء منه أو أكثره حال الهوي ، فإنه لا يضر - إن شاء الله تعالى - .
قوله : ( ولو مع حائل ليس من أعضاء سجوده ) ا
الحائل : الذي يمنع مباشرة المصلي ، لكن اشترط المؤلف : أن لا يكون من أعضاء سجوده ، فإن كان من أعضاء سجوده لم يصح ، مثال الذي من أعضاء السجود : أن يسجد على كفيه ، فهنا سجد على حائل ، لكنه من أعضاء السجود ، فلا يصح ، إذ أنه يقال في هذا : سجد على ستة أعضاء .
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : ... لكن لو فرض أن الرجل ضعيف ، أو كثير اللحم ، أو معه ألم في ركبتيه ، أو شيخ كبير ، ويشق عليه أن ينزل على ركبتيه ، هل له أن ينزل على اليدين ؟ نعم ، له ذلك ، لأن الدين يسر ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنى ( يسر ) : اسلك الأيسر فهو الدين ، ليس هذا خبراً مجرداً عن معنى ، له معنى ، الدين يسر فمتى شق عليك شيء وانتقلت إلى آخر ليس فيه نهي فثَمَّ الدين ، الدين يسر - ولله الحمد - .(1/27)
وقوله : ( ولو مع حائل ) كأنه يشير إلى خلاف ، لأن الحائل غير أعضاء السجود ، إما متصل بالإنسان وإما منفصل ، فإن كان منفصلاً ، فلا بأس به ، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سجد على الخُمْرة ، وهي صغيرة بمنزلة المنديل ، وإن كان متصلاً فلا يسجد عليه ، لقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - : ( كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه وسجد عليه ) ، وحينئذ نقول : الحائل ثلاثة أقسام :
قسم لا يصح معه السجود : إذا كان من أعضاء السجود .
قسم لا بأس به : إذا كان منفصلاً .
قسم يجوز عند الحاجة : إذا كان متصلاً .
... هذا ما لم يكن من شعار الرافضة ، فإن كان من شعار الرافضة ، فإنهم يسجدون على ما يخص الجبهة فقط ، هذا لا يجوز أنه يستعمله الإنسان اللهم إلا للضرورة القصوى ، ولهذا نص العلماء على أنه يكره أن يخص جبهته بما يسجد عليه ، وعلَّلوا ذلك بأنه من صنيع الرافضة .
قوله : ( ويجافي عضديه عن جنبيه ) ا
يعني يبعدهما ، ومحل ذلك ما لم يؤذ جاره ، فإن كان في الصف وإذا جافى عضديه آذى الذي على جنبه ، فلا يفعل ، لأنه لا يمكن أن يفعل محرم لتحصيل سنة .
قوله : ( وبطنَه عن فخذيه ) ا
يجافي البطن عن الفخذين : يرفعه ، ولا يجعل بطنه على فخذيه ، ولا يمتد كما يفعل بعض الناس ، فبعض الناس في السجود يمتد ، حتى تقول هل هذا منبطح أو ساجد . هذا غلط غير صحيح ، أولاً : أن هذا خلاف السنة لا شك في هذا ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : )) اعتدلوا في السجود (( ، وهذا خلاف الاعتدال ، ثانياً : أنه سيشق على الرجل مشقة شديدة ، لأنه سيكون ارتكاء الجسم كله على الوجه ، واليدين ، فيتعب ، ولا يستطيع أن يطيل السجود ، فالمهم أن هذا فهم خاطئ من بعض الناس .
قوله : ( ويفرق ركبتيه ) ا(1/28)
يعني : لا يضمهما ، وأفاد المؤلف بقوله : ( ويفرق ركبتيه ) - إن أردنا أن نحمِّل عبارته - أنه لا يفرق قدميه : يضم بعضهما إلى بعض ، وهذا ظاهر كلام المؤلف ، حيث خص التفريق بالركبتين ، والقول بأنه يفرق بين القدمين ليس عليه دليل ، فإن قال قائل : والقول بأنه يضم الرجل إلى الأخرى ليس عليه دليل ، نقول : نعم إذا لم يكن دليل لا على هذا ولا على هذا ، فضعهما على طبيعتهما ، لأن كل شيء لا دليل عليه في الصلاة يرجع الإنسان إلى الطبيعة ، ولكن نقول : هذا فيه دليل ( أنه يضم إحدى رجليه إلى الأخرى ) :
أولاً : أن ابن خزيمة - رحمه الله - رواه صريحاً في صحيحه ، وإن كان بعض العلماء تكلم في هذا الحديث .
ثانياً : أنه ثبت في صحيح مسلم أن عائشة - رضي الله عنها - افتقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقامت تلتمس ، فوقعت يدها على قدميه منصوبتين ، ومعلوم أن اليد لا يمكن أن تقع على القدمين جميعاً إلا وهما قد ضُمَّ بعضهما إلى بعض ، فالصواب : أن القدمين يضم بعضهما إلى بعض ، وأما من قال : يفرق ، ويجعل بينهما نحو شبر ، أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا دليل عليه .
قوله : ( ويقول : )) سبحان ربي الأعلى (( ) ا(1/29)
في سجوده ، وتأمل حكمة الشريعة - الله أكبر - : في الركوع يقول : ( سبحان ربي العظيم ) ، لأن هذا يناسب هيئة الركوع ، لأنها تعظيم ، في السجود يقول : ( سبحان ربي الأعلى ) ، لأنه يناسب الهيئة أيضاً ، لأن وضع جبهتك على الأرض ، سفول ونزول ، أنت الآن أنزلت وجهك الذي كان في أعلى جسمك حتى وضعته على الأرض ، ثم هو أيضاً نزول معنوي ، فإن هذا ذل عظيم ، أن تضع جبهتك أشرف ما في جسمك على الأرض تعظيماً لمن تسجد له ، وعلى هذا فنقول : إن الذكر مناسب ( سبحان ربي الأعلى ) ، وتذكر أيضاً علو الرب - عز وجل - الذي فيه تنزيل الله عن السفول - جل وعلا - ، ولهذا كان الصحابة في السفر إذا علوا نَشَزاً كبروا وإذا نزلوا سبحوا ، لأن الإنسان إذا علا النشز ربما تعلو نفسه ، ويرى نفسه أنه ارتفع ، فيذكر كبرياء الله - عز وجل - ، فيقول : ( الله أكبر ) ، وإذا نزل يعلم نفسه أنه انخفض وسفل ، فيذكر علو الرب - عز وجل - ، فيقول : ( سبحان الله ) ينزهه عن النزول .(1/30)
... واعلم أنك إذا سجدت فإنك أقرب ما تكون إلى الله - عز وجل - ، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وذلك لتمام ذله لربه - عز وجل - ، ومن تواضع لله رفعه ، ولم يقل المؤلف : ( يقول : سبحان ربي العظيم ، أو سبحان ربي الأعلى ثلاثاً ) لكن هو ورد ( ثلاثاً ) ، قال العلماء : والإمام لا يزيد على عشر ، لئلا يثقل على المأمومين ، أما المنفرد فليفعل ما شاء ، وأما المأموم فهو تبع لإمامه ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : )) ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً (( نهاه الله أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً ، لأن هذه الهيئة لا تليق بعظمة القرآن وإن كان تعظيماً لله - عز وجل - وخضوعاً له ، لكن القرآن له شرف عظيم ، فلو قرأ الإنسان وهو راكع أو ساجد ، هل تبطل صلاته ؟ قال الظاهرية : تبطل الصلاة ، لأنه قال قولاً منهياً عنه ، والأصل أن الإنسان إذا فعل في العبادة فعلاً منهياً عنه ، أنها تبطل ، لأنه منهي عنه بخصوصه ، كما لو تكلم بطلت صلاته ، فهذا إذا قرأ القرآن في الركوع أو السجود فإنها تبطل صلاته ، وقولهم لا شك أنه له وجاهة ، لأننا نقول لهذا الذي قرأ القرآن وهو راكع أو ساجد ، هل هو عاصٍ لله ورسوله ، أو لا ؟ الجواب : هو عاصٍ لله ورسوله ، فتبطل الصلاة . لكن الصحيح : أنها لا تبطل ، لأن النهي هنا عن القراءة ليس لذات القرآن ، لكن لأنه يقرأ في محل لا يناسب ، ثم إن القرآن ذكر مشروع في الجملة في الصلاة ، ليس كلام آدميين ، فالصحيح رأي الجمهور : أنها لا تبطل .
قوله : ( ثم يرفع رأسه مكبراً ) ا
( يرفع رأسه ) حال كونه ( مكبراً ) فالتكبير إذن في حال رفعه .
قوله : ( ويجلس مفترشاً يسراه ، ناصباً يمناه ، ويقول : )) رب اغفر لي (( ) ا
((1/31)
مفترشاً يسراه ) أي : راكباً عليها ، ( ناصباً يمناه ) أي : موقفها . وعلم من كلامه - رحمه الله - أنه لا يقعي في هذا الجلوس ، يعني : لا يركب على عقبيه وينصب قدميه ، لأن هذه الجلسة فيها مشقة شديدة على الإنسان ، والأحاديث كلها تدل على الافتراش ، إلا ما رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - والحديث في مسلم : أن الإقعاء سنة ، ولكن يبدو لي - والله أعلم - أنه كان في الأول سنة ، ثم نسخ ، ولم يعلم ابن عباس بالناسخ ، كما فعل عبد الله بن مسعود في وضع اليدين حال الركوع ، وفي قيام الإمام مع الاثنين ، فإن ابن مسعود - رضي الله عنه - لم يعلم بالناسخ ، أي : بنسخ التطبيق في حال الركوع ، ونسخ تقدم الإمام إذا كانوا ثلاثة ، فأمَّ رجلين من أصحابه ، وطبَّق في حال الركوع : [ والتطبيق : أن يجعل بطن كفه على بطن كفه الأخرى ، ثم يضعهما بين ركبتيه (1) ] وهذا منسوخ لا شك ، فالظاهر لي - والله أعلم - أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يبلغه النسخ في مسألة الإقعاء ، وكما ذكرت لكم ، أن فيه مشقة على الإنسان ، فالصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن السنة هو افتراش الرجل اليسرى ونصب الرجل اليمنى .
( ويقول : )) رب اغفر لي (( ) يعني : يدعو بهذا الدعاء .... والمؤلف اقتصر على هذه الجملة ، وإلا هناك جُمل أخرى : )) رب اغفر لي ، وعافني ، وارزقني ، واجبرني ، واهدني (( تقال ، وعذر المؤلف - رحمه الله - أنه مختصر .
قوله : ( ويسجد الثانية كالأولى ) ا
( كالأولى ) فيما يقال ، وفيما يفعل .
قوله : ( ثم يرفع مكبراً ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سَهُل ) ا
( ثم يرفع مكبراً ) يعني يكون التكبير إذا شرع في الرفع .
(
__________
(1) الممتع : 3/125 .(1/32)
ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سهل ) وهذا بالنسبة للشباب يسهل ، فإن صعب فليقم كما يتيسر له ، إما على يديه ، وإما أن يجلس يسيراً ثم يقوم ، المهم : إذا تعسر ، فالأمر - والحمد لله - واسع ، يفعل ما يتيسر له ، ولا يكلف نفسه ما يشق عليها .
... وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجلس عند النهوض من الأولى مطلقاً ، لأنه قال : ( ناهضاً على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه إن سَهُل ) ، ولم يقل : ( وإن صعب فليجلس ) ، وهذا الذي ذهب إليه - رحمه الله - هو أحد أقوال ثلاثة في هذه المسألة :
... فمن العلماء من يقول : لا جلوس ، ويحاول أن يبادر بالقيام على قدر ما يستطيع ، وهذا هو المذهب .
... ومن العلماء من يقول : بل يجلس على كل حال ، يجلس ويستقر ثم يقوم ، سواء كان نشيطاً أو ضعيفاً .(1/33)
... وفصل بعض العلماء ، فقال : أما إن كان قوياً ، فالأفضل أن لا يجلس ، وإن كان ضعيفاً فالأفضل أن يجلس ويستوي ثم ينهض . وهذا التفصيل هو الصحيح ، واختاره صاحب المغني : الموفق - رحمه الله - ، وكذلك ابن القيم في زاد المعاد . وهو الذي يليق بالقواعد الشرعية ، لأن الأفضل أن الإنسان يكون نشيطاً في صلاته ، غير متوانٍ فيها ، ومعلوم أنه إذا قام من السجود إلى القيام رأساً ، أدل على النشاط وعلى القوة ، فإذا كان لا يستطيع ، فإنه يجلس ، يستقر ، لحديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالساً ) ، وعلى هذا فيكون التفصيل به التحصيل ، والعلماء دائماً إذا اختلفوا في شيء تجد أن التفصيل - في الغالب - هو الصواب ، وهذه الجلسة تسمى عند العلماء : ( جلسة الاستراحة ) ، لأن المقصود بها أن يريح الإنسان نفسه ، واشتقاقها يدل على أنها إنما تفعل عند الحاجة ، لكن بعض المتأخرين نازع في هذا ، وقال : لا نسميها جلسة الاستراحة ، بل نسميها جلسة في وتر من الصلاة كما قال مالك بن الحويرث .(1/34)
ونحن لا يهمنا التسمية ، المهم العمل ، هل نعمل بها أو لا ؟ القول الراجح : أننا لا نعمل بها إلا عند الحاجة ، كإنسان ضعيف ، إنسان مريض إنسان ركبه تؤلمه ، أو ما أشبه ذلك ، ويدل لهذا حديث مالك بن الحويرث نفسه الذي استدل به من يرى مشروعيتها على كل حال ، لأن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - قدم في عام الوفود سنة تسع من الهجرة ، بعد أن كبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إن ظاهر الجلوس هذا أنه محتاج إليه ، لأنه إذا قام منه يعتمد على يديه ، والاعتماد على اليدين لا يكون إلا لحاجة ، وهذا يدل على أن القيام مباشرة فيه صعوبة ، ثم إن هذه الجلسة لو كانت مقصودة في الصلاة ، لكان لها تكبير في أولها ، وفي آخرها ، وذكر في حال وجودها ، وكل هذا منتفٍ ، التكبير الأول للقيام من السجود ، ولا شيء بعده ، والشارع لا يمكن أن يشرع شيئاً عبثاً ، فلو كانت هذه جلسة مقصودة في الصلاة كجلسة التشهد أو بين السجدتين ، لكان لها ذكر مشروع ، ولكان لها تكبير عند الجلوس وعند القيام ، ولكنها جلسة مشروعة عند الحاجة إليها ، حتى لا يشق الإنسان على نفسه . فإن قال قائل : وهل درء المشقة مقصود للشرع ؟ فالجواب : نعم ، ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام أبداً وعن القيام بلا نوم ، وما أشبه ذلك ، من أجل المشقة ، ثم إن قول الله تعالى بعد أن ذكر الصيام : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة ، فإذا كان المصلي يشق عليه النهوض من السجود إلى القيام رأساً ، فالأمر - والحمد لله - واسع ، نقول : استرح ثم قم ، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس : أن من كان محتاجاً إليها فهي مشروعة في حقه ، ويجلس كما ورد ، ومن لم يكن محتاجاً إليها فلا ينبغي أن يجلس ، بل يقوم ناهضاً على صدور قدميه .(1/35)
فإن قال قائل : إذا كنت مأموماً ، وأنا لاأرى استحبابها إلا عند الحاجة ، والإمام يرى استحبابها ، فهل أقوم قبله ، أو أتابعه ؟ فالجواب : أتابعه ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) إنما جعل الإمام ليؤتم به (( ، ولأنني لو قمت سبقته إلى القيام ، فنقول : اجلس ، وإن لم ترها . بالعكس ، لو كان الإمام لا يراها ، والمأموم يراها ، والإمام ينهض قائماً بدون تأخير ، فهل يسن للمأموم أن يفعلها ؟ لا ، لا يسن ، لأن صلاته الآن ارتبطت بصلاة الإمام ، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى ، على أن الإمام إذا كان لا يجلس ، لا تجلس ، ولكن إذا قال قائل : هذه جلسة يسيرة ، لا تخل بالمتابعة ، كما لو أطلت السجود بعده . قلنا : وإطالة السجود بعده غير مشروعة ، هذه واحدة ، والثاني إذا أطلت السجود بعد قيام الإمام ، فما فعلت إلا أنك أطلت شيئاً مشروعاً لك ، وهو السجود ، أما الجلسة غير مشروعة ما دام الإمام قد نهض ، وإذا كان الإمام إذا نهض عن التشهد الأول مع وجوبه وجب على المأموم أن يتابعه ، فكيف بشيء مستحب على خلاف فيه .
قوله : ( ويصلي الثانية كذلك ) ا
( كذلك ) يعني : كالأولى .
قوله : ( ما عدا التحريمة ) ا
يعني بذلك : تكبيرة الإحرام ، لأنه لو كبر للإحرام بطلت الركعة الأولى ، ثم إذا أتى بركعة جديدة ثم قام للثالثة بتكبيرة إحرام بطلت الثانية ، وهلم جرا ، ولهذا قال : ( ما عدا التحريمة ) .
... إذا قال قائل : أليس الساجد يقوم مكبراً ؟ بلى ، لكن هذه التكبيرة ليست بعد أن يقوم ، هذه التكبيرة أثناء نهوضه .
قوله : ( والاستفتاح ) ا
فإنه لا يستفتح ، لأن الاستفتاح إنما يكون في الركعة الأولى .
قوله : ( والتعوذ ) ا(1/36)
يعني : قول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، وهذا مبني على أن قراءة الصلاة واحدة ، وقال بعض أهل العلم : بل يشرع أن يتعوذ في كل ركعة ، والذي تميل إليه النفس : أنه لا يتعوذ إلا في أول ركعة ، لأن الصلاة شيء واحدة ، قراءة بينها تكبير وتسبيح ودعاء ، وهذا لا يقطع القراءة الأولى حتى نقول لا بد من تجديد التعوذ .
قوله : ( وتجديد النية ) ا
معلوم ، ما يجدد النية ، لو قلنا : يجدد النية فكم له من نية في صلاة رباعية ؟ أربع نيات ، وهذا غير صحيح ، النية الأولى تكفي . ثم إذا قلنا بتجديد النية ، وقلنا باستحباب النطق بها ، وهو قول ضعيف جداً ، صار كلما قام قال : اللهم إني نويت أن أكمل صلاتي ، فتجديد النية للتكميل لا للابتداء ، لو جدد النية للابتداء بطل الأول ، وهذا مشكل .... (1)
قوله : ( ثم يجلس مفترشاً ) ا
هذا الجلوس هو الجلوس للتشهد .
( يجلس مفترشاً ) رجله اليسرى ، أي جاعلاً إياها كالفراش ، بحيث يكون معتمداً عليها ، ظهرها إلى الأرض ، وبطنها إلى أليته .
ومن صفة الافتراش : أن ينصب الرجل اليمنى ، فتكون الرجل اليمنى منصوبة خارجة عن جنبه ، واليسرى مفروشة .
قوله : ( ويداه على فخذيه ) ا
يعني : والحال أن يديه على فخذيه ، فتكون الجملة في قوله : ( يداه على فخذيه ) في موضع نصب على الحال .
قوله : ( يقبض خنصر اليمنى وبنصرها ) ا
الخنصر : الصغير ، والبنصر : جاره الذي إلى جنبه .
__________
(1) سئل الشيخ - رحمه الله - بعد نهاية الدرس : إذا نسي الإنسان الاستعاذة في الركعة الأولى ، أو تركها عمداً ، هل يستعيذ في الثانية أو الثالثة أو الرابعة ؟ فأجاب الشيخ - رحمه الله - : الظاهر أنه إذا نسي أنه يستعيذ متى ذكر .
وسئل : في السجود ، هل يكون الرأس بين اليدين ؟ فأجاب - رحمه الله - : في السجود ، ورد فيه صفات : إما أن يكون الرأس بين الكفين ، وإما أن تكون الكفان على حذاء المناكب ، كلها جائزة .(1/37)
قوله : ( ويحلق إبهامها مع الوسطى ) ا
يجعلهما كالحَلْقة .
هذا أحد الصفتين ، والصفة الثانية : أن يضم الخنصر والبنصر والوسطى ويضم إليهنَّ الإبهام ، وتبقى السبابة مفتوحة ، فهاتان صفتان . هل يداوم على إحداهما ؟ الجواب : سبق لنا الكلام في هذا ، وهو قاعدة في جميع العبادات المتنوعة ، هل الأفضل أن يلزم الإنسان نوعاً منها واحداً ، أو أن يفعل كل الأنواع ؟ الثاني هو الصواب ، إذا كنت تعلم الأنواع فخذ بكل نوع في موضع ، وذكرنا أن في ذلك فوائد : إحياء السنة ، تمام الاقتداء ، حضور القلب ، حفظ السنة ( وهذا غير إحياء السنة ) .
قوله : ( ويشير بسبابتها في تشهده ) ا
يعني يشير بها عند التشهد : إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، يشير بها : يرفعها . وقيل : يشير بها عند ذكر اسم الله ، كلما ذكر اسم الله - عز وجل - أشار بها ، فمثلاً يقول : التحيات لله ، ويشير ، إلى العلو ، لأن الله - سبحانه وتعالى - في العلو فوق كل شيء . وقيل : يشير في الدعاء فقط ، في الجملة الدعائية ، وهذا هو الأقرب ، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أنه يشير بها عند التشهد ولا عند لفظ الجلالة ، وإنما جاء الحديث : )) يحركها يدعو بها (( ، وهذا يدل على أنها تحرك عند كل جملة دعائية . ننظر في التشهد :(1/38)
السلام عليك أيها النبي ، دعاء أو خبر ؟ دعاء . السلام علينا ، دعاء . اللهم صل على محمد . اللهم بارك على محمد . أعوذ بالله من عذاب جهنم . المهم في الدعاء ، إشارةً إلى علو المدعو - جل وعلا - ، والباقي : ذكر بعض العلماء أنها تبقى مرفوعة نوعاً ما ، ومحنية الرأس ، والظاهر أنه لا يلزم هذا ، يعني : يطلقها ، ولكن لا يضمها إلى الأصابع ، لو ضمها إلى الأصابع ، لكان تعيين ضم الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام عبثاً ، ولو شرع أن تضم ، لكان يضم الخمسة جميعاً ، فهي لا تضم ، ولكن هل يبقى رافعاً لها دائماً ؟ لا ، لأنه لو كان كذلك ، لم يكن يشير بها عند الدعاء . وهل يبقى يحركها دائماً ؟ لا ، لا يحركها دائماً ، وهذا إلى العبث أقرب منه إلى المشروع ، ولا معنى له ، هذا يحتاج إلى دليل : أنه يحركها من أول ما يجلس إلى أن ينتهي . فصار الأقوال في الإشارة بها ثلاثة : إما في التشهد ، وإما عند لفظ الجلالة ، وإما عند الدعاء ، وهذا أقرب الأقوال .(1/39)
... وهل يكون وضع اليد اليمنى بين السجدتين كهذا ؟ نعم ، هو هكذا بين السجدتين ، وقد ذكر هذا وائل بن حجر - رضي الله عنه - ، وقد ذكره ابن القيم في زاد المعاد حكماً ثم دليلاً ، وقال : يفعل هكذا بين السجدتين ، واستدل بحديث وائل بن حجر ، وحديث وائل بن حجر ذكر [ فيه ] صاحب الفتح الرباني أن إسناده جيد ، وذكر المحشي على زاد المعاد أنه صحيح ، وقال بعض الناس : إنه شاذ ، وأنا لا أدري كيف كان شاذاً ، هل خالف أحداً حتى نقول شاذ ؟ لأن من شرط الشذوذ أن يكون فيه مخالفة ، ولم أعلم إلى ساعتي هذه - وأنتم ابحثوا - أن وضع اليد اليمنى على الفخذ تكون مبسوطة ، وإنما الذي ذكر أنها مبسوطة هي اليد اليسرى ، أما اليد اليمنى ففي بعض ألفاظ حديث ابن عمر ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس للتشهد قبض الأصابع التي تقبض ، وفي بعض الألفاظ : ( إذا جلس في الصلاة ) ، فهنا عندنا شيء مطلق وشيء مقيد ، ومن القواعد المعروفة في أصول الفقه : أنه إذا ذكر بعض أفراد المطلق لحكم لا يخالف المطلق فإنه لا يعتبر قيداً ، ولذلك الذي أدين الله به : أن حال اليد اليمنى فيما بين السجدتين ، كحالها في التشهد ، ومن وجد في السنة ما سوى ذلك فليسعفنا به ، حتى لا نَضِلَّ ونُضِلَّ ، لأننا سنعمل به - إن شاء الله ، وعاملون به - ولكن أيضاً لا نضل غيرنا ، لأن هذه شريعة ، لن تجد أبداً في أي حديث - فيما أعلم بعد البحث - أن اليد اليمنى تكون مبسوطة على الفخذ ، أبداً .(1/40)
ولقد كنت أقرر أن اليد اليمنى تكون مبسوطة بين السجدتين كاليسرى ، ويكون الجلوس افتراشاً ، وفي التشهد الأول يكون الجلوس افتراشاً واليد [ اليمنى ] مقبوضة ، فهذا فرق بين الجلستين ، وفي التشهد الأخير تكون اليد [ اليمنى ] مقبوضة فيوافق التشهد الأول ، لكن يختلف عنه في صفة الجلوس ، فأقول : أن هذا من المناسبة ومن الحكمة : أن تكون الجلسات تختلف ، يتفق التشهد الأول والجلوس بين السجدتين في الافتراش ، ويختلفان في قبض اليد ، ويتفق التشهد الأول والأخير في قبض اليد ، ويختلفان في الافتراش . كنت أقرر هذا برهة من الزمن ، حتى نبهني على ذلك بعض الإخوة ، وأحالني على كلام ابن القيم - رحمه الله - ، فراجعته ، وإذا هو كما قال : أن وضع اليد بين السجدتين كوضعها في التشهد ، ومع ذلك أنا أقول : أرجو منكم إذا وجدتم شيئاً يخالف ذلك فأسعفونا به ، نحن نطلب الدليل في هذا وغيره .
... أما اليسرى فتبسط على الفخذ .
وهذا إحدى الصفتين ، وفيه صفة ثانية : أن اليد اليمنى تقدم حتى تكون على رأس الركبة ، وهي مقبوضة ، واليد اليسرى تلقَّم الركبة ، وكلا الأمرين سنة ، وإذا فعلت هذا مرة وهذا مرة فهو أفضل على حسب القاعدة التي ذكرناها .
قولها: ( ويقول : )) التحيات لله ، والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللهاوبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (( ) ا
..... (1)
قوله : ( هذا التشهد الأول ) ا
يقتصر عليه ، ثم يقوم ليقضي بقية صلاته إن كان في ثلاثية أو رباعية ، لكن المؤلف - رحمه الله - أكمل التشهد ...
قولها: ( ويقول : )) اللهم صلِّ على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنكاحميد مجيد ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (( ) ا
.....
__________
(1) الشرح كله للألفاظ والمفردات ، وغالبه موجود في الممتع : 3/203-221 .(1/41)
(1)
وهذا التشهد ورد على روايات ، منها :
1/ ما ذكره المؤلف : ( كما صليت على آل إبراهيم ... كما باركت على آل إبراهيم ) .
2/ رواية أخرى : ( كما صليت على إبراهيم .... كما باركت على إبراهيم ) .
3/ رواية ثالثة : الجمع بينهما : ( كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ... كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) .
... فهل نقول : إن هذا من باب زيادة الثقة ، أو من باب تنوع العبادات ؟
ينظر إلى مخرج الحديث ، إذا كان مخرج الحديث واحداً فهذا من باب زيادة الثقة ، أما إذا كان متعدداً فإن كل طريق يعتبر نوعاً آخر ، وقد ذكر بعض الفضلاء أنه لا يصح الجمع بينهما ، لكنه ثابت في صحيح البخاري .
قولها: ( ويستعيذ من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ) ا
هذه أربع أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستعيذ الإنسان منها في التشهد الأخير ، كما جاء ذلك مصرحاً به في صحيح مسلم : )) إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليستعذ بالله ... (( ، وهذا فيه إشارة إلى أن التشهد الأول ليس محلاً للدعاء ، فلا ينبغي تطويله ، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخففه حتى كأنما هو على الرَّضَف ، وهي الحجارة الحامية .
.... (2)
قوله : ( ويدعو بما ورد ) ا
__________
(1) الشرح كله للألفاظ والمفردات ، وغالبه موجود في الممتع : 3/227-235 .
(2) الباقي من الشرح للألفاظ والمفردات ، وغالبه موجود في الممتع : 3/237-276 .(1/42)
ليته عبر بما عبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : )) بما أحب (( ، أما أن نقيد ونقول : ( بما ورد ) غير صحيح ، لأن الدليل يدل على أننا ندعو بما أحببنا ، صحيح أن الأدعية الواردة أفضل من غيرها وأبرك وأجمع لكن قد يكون له إرادات ، أرأيت لو أن إنساناً في زمن الاختبار ، ولما انتهى من التشهد ، قال : اللهم نجحني ، واجعل درجاتي مائة بالمائة ، يجوز هذا ، يدعو بما أحب . لو قال مثلاً : اللهم ارزقني بيتاً واسعاً ، يجوز . لو دعا بشيء من أمور الدنيا ، قال : اللهم اجعل مالي كمال فلان ، أنفقه في سبيلك ، يجوز ، أتمتع به فيما أبحت لي ، يجوز . إذن نقول : الصواب : أن يقال : يدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة ، وأما قول بعض العلماء - رحمهم الله - : إذا دعا بشيء من أمور الدنيا بطلت صلاته ، فلا وجه له ، الإنسان يدعو ربه ، وجاء في الحديث : )) ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله (( يعني : حتى الشيء الزهيد ، اسأل الله .
قوله : ( ثم يسلم عن يمينه )) السلام عليكم ورحمة الله (( ، وعن يساره كذلك ) ا
يسلم عن يمينه ، يعني : كل السلام ، من حين يقول : ( السلام ) ينصرف ، يعني يصرف وجهه ، أما بعض الناس يقول : ( السلام ) [ دون التفات ] ( عليكم ورحمة الله ) ، يجعل ( السلام ) كلها على القبلة ، والانحراف في ( عليكم ) فقط ، من أين هذا ؟ لا وجه له . من حينما تبدأ بالسلام التفت ، حتى تكون ( عليكم ) عند الالتفات الكامل للمأمومين ، وفي اليسار كذلك . وعلى هذا لا وقوف بين السلامين ، ويكون انصرافه عن يساره أكثر قليلاً ، هذا هو المشروع .(1/43)
... هذا السلام فيه الخروج من الصلاة ، وهو على القول الصحيح ركن فيها ، لا تصح الصلاة بدونه - السلام - ، وأما من قال إنه إطلاق من محظور ، لأنه خطاب آدمي ، فكأنه [ المصلي ] تكلم لتبطل صلاته ، فسبحان الله ، قول ضعيف هذا ، لأننا لو قلنا إنه إطلاق من محظور ، لكان الإنسان لو فعل أي مبطل للصلاة خرج منها ، ولذلك يذكر أن بعض العلماء كان يشير على أحد الخلفاء أن يدع مذهباً معيناً ، لكن الخليفة متمسك به ، فقال يا أمير المؤمنين ، أتريد أن أصلي لك صلاة هذا المذهب ؟ قال : نعم ، صل . قال : الله أجل - بدل : الله أكبر ، لأن المقصود التعظيم - مدها?متان ، ويهوي راكعاً بلا تكبير ولا تسبيح ، ويرفع كذلك ، ولا طمأنينة ، فلما انتهى عند آخر الصلاة فسا ، لأنه فعل محظور وانتهت الصلاة ، قال : هذا ؟ قال : نعم ، تجزئ الصلاة عندهم ، فعدل عن المذهب . وهذا من ذكاء بعض العلماء ، ألم يمر علينا أن بعض الخلفاء كان يرى مذهب ابن عباس في جواز الاستثناء ولو طال الفصل [ في الحلف ] ، وهذا لا شك أنه قول ضعيف وإن كان ينجو به الإنسان من الإثم ، لكنه قول ضعيف ، فحمل هذا الخليفة على أحد العلماء الذي قال إنه لا يجوز ، قال : كيف تخالف ابن عباس ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو أنّا أخذنا بقول ابن عباس ، لكان الرجل يبايعك ويحلف لك ، فإذا خرج قال : إن شاء الله انحلت البيعة . قال : هكذا ؟ قال : نعم . قال : الصواب ما قلت .
... فالمهم أن هذه من ذكاء بعض العلماء أن يلزم الخلفاء بما فيه المنفعة (1) .
__________
(1) قال الشيخ - رحمه الله - في الدرس التالي : وهل يجب أن ينوي به [ السلام ] الخروج من الصلاة ، أو لا ؟ المسألة لا تخلو من ثلاث حالات :
إما أن ينوي به الخروج من الصلاة ، وهذا أحسن شيء .
وإما أن ينوي به السلام على من يمينه أو يساره ، وفي إجزاء ذلك قولان للعلماء ، منهم من قال : إنه إذا نوى السلام على من يمنيه ويساره ، بطلت صلاته . ومنهم من قال : لا تبطل ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : )) إنما يكفي أحدكم أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله من على يمينه ، والسلام عليكم ورحمة الله من على يساره (( .
الحال الثالثة : أن لا ينوي شيئاً ، سلَّم على أن هذا شيء مشروع في الصلاة ، واجب أو ركن ، ولم ينو شيئاً ، فهذا يجزئه ، لا شك ، وهذا في الغالب هو الذي عليه أكثر الناس ، ما يشعر تلك الساعة أنه يريد الخروج من الصلاة ، ولا أنه يسلم على من يمينه ويساره . وظاهر كلام المؤلف : أنه لا يزيد ( وبركاته ) ، بل يقول : السلام عليكم ورحمة الله ، في اليمين والشمال ، وهذا الذي عليه جمهور العلماء . وقيل : إنه يزيد ( وبركاته ) في السلام الثاني أو في السلام الأول ، أو فيهما ، وهذا مبني على صحة الحديث ، فإن صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى العين والرأس ، ولكن نقول ذلك أحياناً لا دائماً ، وإن لم يصح فقد كفينا همه . وقد أشرنا إلى هذه القاعدة في باب المناظرة ، وأن الإنسان إذا استدل عليك بحديث ، أو بقول مأثور عن الصحابة ، فطالبه أولاً بصحة النقل ، فإذا لم يصح كفيت همه ، وإن صح فحينئذ ينظر في أمره .(1/44)
قوله : ( وإن كان في ثلاثية ) ا ( أو رباعية ) ا
كالمغرب .
قوله : ( أو رباعية ) ا
كالظهر ، والعصر ، والعشاء .
قوله : ( نهض مكبراً بعد التشهد الأول ) ا
( نهض ) أي : قام .
... وظاهر كلامه أنه لا يقوم معتمداً على يديه ، لأن كلمة ( نهض ) تعطي أنه ينهض بسرعة وبقوة ونشاط ، فينهض مكبراً في حال النهوض ، لأن جميع التكبيرات والتسميع والتحميد يكون في حال الانتقال ، إلا قول المنفرد والإمام : ( ربنا ولك الحمد ) فيكون بعد تمام القيام .
( نهض مكبراً ) بدون أن يعتمد على الأرض ، إلا أن يكون محتاجاً لذلك ، كالكبير والمريض وما أشبه ذلك .
وقد أنكر النووي - رحمه الله - حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم ضاماً كفيه كالعاجن ، قال : هذا لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعض العلماء قال : إنه صحيح . ولكن سواءٌ قام عاجناً ، أو قام باسطاً يديه على الأرض ، الأمر في هذا واسع ، إنما المهم أن لا يفعل إلا عند الحاجة .
( بعد التشهد الأول ) الذي أنهاه المؤلف - رحمه الله - عند قوله : ( أن محمداً عبده ورسوله ) قال : ( هذا التشهد الأول ) . وعلى هذا فإذا قال : ( أن محمداً عبده ورسوله ) ينهض ، ولا يزيد على هذا ، إلا إذا كان مأموماً واستمر الإمام ، فإنه لا يسكت ، يكمل ، حتى لو كمل التشهد كله ، لأنه تابع لإمامه ، والصلاة ليس فيها سكوت . وقال بعض أهل العلم : حتى المأموم لا يزيد وإذا كان الإمام أطال الجلوس فإنه يكرر التشهد ، لأن ذلك ( أي الزيادة ) لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن الأقرب عندي أنه لا يكرر ، بل يستمر .
قوله : ( وصلى ما بقي كالثانية ) ا
الباقي : إن كانت ثلاثية ، فركعة ، وإن كانت رباعية ، فركعتان .
( كالثانية ) أي : بدون استفتاح ، ولا تعوذ ، ولكنه استثنى فقال :
( بالحمد فقط ) ا(1/45)
يعني : بالفاتحة فقط ، ولا يزيد . وهذا القول هو الراجح ، أنه لا زيادة في الركعتين على الفاتحة ، لأن حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - (1) صريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الأخريين بالفاتحة فقط ، وهو أولى من حديث أبي سعيد (2) ، فحديث أبي سعيد فيه ما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالأخريين بزيادة على الفاتحة ، لكن الأخذ بحديث أبي قتادة أولى ، لوجهين :
الأول : أنه صريح بالتحديد ، قال : )) يقرأ في الأوليين بالفاتحة وسورة ، وفي الأخريين بالفاتحة فقط (( .
الثاني : أن حديث أبي سعيد يقول : ( إنهم كانوا يحزرون صلاته ) يعني : يخرصونها ، فليس صريحاً في التحديد ، والإنسان قد يحزر الشيء بناء على ظنه ، ويكون خلاف ما ظن .
قوله : ( ثم يجلس في تشهده الأخير متوركاً ) ا
( التشهد الأخير ) في الثلاثية في الثالثة ، وفي الرباعية في الرابعة .
( متوركاً ) التورك له ثلاث صفات :
الصفة الأولى : أن ينصب الرجل اليمنى ويخرج اليسرى من تحت ساقها ، فتكون الرجلان كلتاهما عن يمينه ، ومقعدته على الأرض .
الصفة الثانية : أن يخرج الرجلين كلتيهما من اليمين ، مفروشتين ، ومقعدته على الأرض .
الصفة الثالثة : اختلفت فيها الروايتان ، ففي صحيح مسلم أنه يفرش اليمنى ويخرج اليسرى من بين الساق والفخذ . وفي رواية أبي داود : يخرج الرجل اليسرى من تحت الساق .
__________
(1) يأتي .
(2) لفظه : ( كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر ، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة { ال?م تنزيل } السجدة ، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك ، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر ، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك ) ( أخرجه مسلم ( 452 ) ، أخذته من الممتع : 3/298 - هامش الصفحة ) .(1/46)
... على رواية أبي داود تكون هي الصفة الثانية في التورك ، وعلى ما رواه مسلم تكون صفة ثالثة ، ولا شك أن الأخذ برواية مسلم أولى ، لأن مسلم بالاتفاق أصح من أبي داود - رحمه الله - فعلى كل حال ، وقد ذكرها كلها ابن القيم في زاد المعاد .
قوله : ( والمرأة مثله ، لكن تضم نفسها ، وتسدل رجليها في جانب يمينها ) ا
( والمرأة مثله ) مثل الرجل في الصلاة قولاً وفعلاً ، حتى في رفع اليدين عند التكبير لتكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول ، فإنها مثل الرجل ترفع يديها ، لكن في الجلوس تختلف عن الرجل ، تضم نفسها ، ولا تتجافى أيضاً في السجود ولا في الركوع ، لأن المطلوب منها : الستر .
( وتسدل رجليها بجانب يمينها ) ولا تفترش بين السجدتين ، ولا في التشهد الأول ، ولا تتورك في الأخير ، فتفارق الرجل : أن جميع ما تشرع فيه المجافاة غير مشروع للمرأة ، والثاني في صفة الجلوس : لا تجلس مفترشة ، ولا متوركة ، وإنما تجلس سادلةً رجليها إلى جانب يمينها . وهذا الاستثناء فيه نظر ، بل نقول : ما ثبت في حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا بدليل ، فالدليل لا منازع معه ، فإذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بذلك ، فعلى العين والرأس ، وإذا لم يثبت ، فالأصل تساوي الرجال والنساء في أحكام الله - عز وجل - ، لأنهم كلهم مكلفون ، نعم لو فرض أن المرأة تصلي وحولها رجال ، فهنا نقول : الأفضل أن تضم نفسها ، أفضل بكثير ، وهذا لسبب عارض ، يعني ليس دائماً ، لكن تصلي في بيتها أو ليس عندها إلا محارمها أو نساء مثلها فإنها تكون كالرجل تماماً .(1/47)
... يستثنى من ذلك : مسألة الشعر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الرجل معقوص الشعر ، يعني مربوط ، وقال : )) أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ، ولا أكف شعراً ولا ثوباً (( ، والمرأة لا بد [ أن ] تكف الشعر ، لأنها سوف تغطي جميع رأسها ، فلا بد أن تكفه ، فهذا مما يستثنى ، فالمرأة لا نقول : دعي الشعر يسدل في الأرض ، لا ، نقول : استُرِيهِ ، أما الرجل فنعم .
... وإلى هنا انتهى صفة الصلاة .(1/48)