الفقه- المستوى السابع
الدرس الأول
الدرس الأول - كتاب الطلاق
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
كتاب الطلاق
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه؛ نبينا محمد وعلى آله، وصحبه، وسلم.
أما بعد:
فإن العلم الشرعي لا يعدله شيء لمن صحت نيته كما قال الإمام أحمد؛ ولهذا كان السلف يرحلون لأجل طلب العلم وتحصيله، بل كان منهم من يرتحل لأجل سماع حديث واحد فقط؛ كجابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنه-؛ فقد ارتحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديث واحد فقط بلغه أن عند عبد الله بن أُنَيْس حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فركب راحلته –وحده- ومكث في الرحلة شهرين؛ شهرا في الذهاب، وشهرا في الإياب، فقطع هذه الصحاري والمفاوز؛ لأجل أن يسمع حديثا واحدا من عبد الله بن أُنَيْس وكان مقيما في الشام، فسمع منه هذا الحديث، ثم رجع فمكث في هذه الرحلة شهرين كاملين من أجل سماع حديث واحد فقط، وأبو أيوب الأنصاري؛ رحل إلى مصر من أجل سماع حديث واحد فقط.والرحلة كانت مشهورة عند أهل العلم؛ حتى إنه قد صُنّف فيها مصنفاتٌ.
و-في الوقت الحاضر_ أصبح العلماء هم الذين يرحلون إلى الطلاب؛ فأصبحت تقام الدورات والندوات، بل أصبح العلم يدخل إلى بيوت الناس، وهذه القناة المباركة تُبَثُّ فيها دروسُ المشايخ والعلماء، وتأتي للناس وهم في بيوتهم، وهذه من نعم الله تعالى علينا؛ فكون الدرس يأتيك وأنت في بيتك نعمة من الله -تعالى- عليك. ولذلك ينبغي اغتنام هذه النعمة، واستثمار مثل هذه الدروس، والاستفادة منها، ولا يمكن للإنسان أن يعبد الله -عز وجل- إلا عن طريق العلم.(1/1)
ولهذا ذكر العلماء أن الاشتغال بطلب العلم الشرعي أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ فكونك تستمع لهذا الدرس وترتبط به وتلتزم الجلوس عنده؛ فأنت مأجور مع النية الصالحة -إن شاء الله- ؛لأن هذا الدرس علمٌ، والله تعالى يقول: ? شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [آل عمران: 18].
فانظر كيف أن الله -تعالى- قَرَنَ شهادة أولي العلم بشهادته -جل وعلا- وشهادة ملائكته، ولم يأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم قال: ? وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ? [طه: 114]، وأخبر بأنه: ? يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ? [المجادلة: 11].
وأيضا أراد الله تعالى أن يبين فضل آدم؛ فعلمه أسماء كل شيء: ? ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [البقرة: 31].
إذن؛ أظهر الله –تعالى- شرف آدم بالعلم وأيضا في قصة سليمان مع الهدهد لما تفقد الطير: ? وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ?20? لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ ? [النمل: 20 - 21].
ما الذي أنجى الهدهد من هذا الموقف؟
قال: ? أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ? [النمل: 22].
فمع قوة سليمان وأن الله سخر له الريح والجن والطير؛ أتى هذا الهدهد -على حقارته- و قال: ? أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ? [النمل: 22]؛ فنجى نفسه من هذا وقال لسليمان: أحطت بما لم تحط به؛ أي: شرُف قدرُه بالعلم.(1/2)
بل إن ابن القيم -رحمه الله- قال: حتى الكلاب تشرُف بالعلم، واستدل بقول الله تعالى: ? يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ? [المائدة: 4]؛ فصيد الكلب الْمُعَلَّمِ حلال، بينما صيد الكلب غير المعلم حرام؛ فيقول هذا في الكلاب؛ فما بالك ببني آدم؟!
وفي السنة أحاديث كثيرة؛ منها ما جاء في الصحيحين عن معاوية -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)؛ فمن أمارات إرادة الله –تعالى- بالعبد الخيرَ أن يرزقه الفقهَ في الدين وهذا مفهوم الحديث.
فما هو مفهوم المخالفة من هذا الحديث يا إخوان؟
من لم يرد به الله خيرا لم يفقه في الدين.
أيضا يقول -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة)، وجاء عند الترمذي: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رِضًى بما صنع وإن العالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في البحر).(1/3)
والأدلة والنصوص في طلب العلم وبيان فضله وشرفه وعظيم مكانته كثيرةٌ جدًّا ولا يتسع المقام لها، لكن أختصر؛ فأقول: من أبرز آداب طالب العلم إخلاص النية لله -عز وجل- في طلبه للعلم في هذا الشَّوْط مهم جدًّا، وقال القرافي عن هذا الشرط كلمة جميلة: إذا فُقد هذا الشرطُ؛ انتقل العلم من كونه أفضلَ الطاعات إلى كونه أقبحَ المخالفات. والدليل على هذا ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أول مَنْ تُسَعَّرُ بهم النارُ يوم القيامة ثلاثةٌ وذكر منهم من تعلم العلم وعلمه الناس وقرأ القرآن؛ فيؤتى بنعمه فيعرفها؛ فيقول الله: ما عملتَ فيها؟ فيقول: يا ربّ تعلمتُ فيك العلم، وعلمتُه الناسَ، وقرأتُ فيك القرآن، فيقال له: كذبتَ ولكنك تعلمتَ ليقال: هو عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، وقد قيل فيُؤْمَرُ به؛ فيُسْحب على وجهه ويُلقى في النار والعياذ بالله).
فانظر كيف أن العلم لما فَقَدَ هذا الشرطَ شرطَ الإخلاص لله -عز وجل-؛ انتقل من كونه أفضلَ المقامات إلى كونه أقبحَ المخالفات؛ فهذا يدل على أهمية الإخلاص في طلب العلم.
وقيل للإمام أحمد: كيف يكون الإخلاص في طلب العلم؟
قال: أن ينوي رفعَ الجهل عن نفسه ورفعَ الجهل عن غيره.
فعندما تريد أن تطلب العلم يجب عليك أن تنوي بذلك رفع الجهل عن نفسك، ورفع الجهل عن غيرك، والدعوة إلى الله -عز وجل-، والدفاع عن دينه، ولا تريد بذلك رياء ولا سمعة ولا عَرَضًا من الدنيا؛ فتكون بذلك قد حققت الإخلاص في طلب العلم.
وقال الإمام أحمد: إن شرط الإخلاص شديدٌ، ولكنَّه حُبِّب إليَّ؛ فجمعته؛ لأن النية أمرها عظيم وكبير؛ لأنه أمر متعلق بالباطل فمن السهل على الإنسان الالتزامُ ظاهرا لكنّ الالتزامَ في الباطن صعبٌ.(1/4)
وهذا كان علمَ الصحابة -رضي الله عنهم-، فإذا قرؤوا عشر آيات؛لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل؛ فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعًا. وأقبح ما يكون أن يتعلم الإنسان ثم لا يعمل بما علم؛ فيكون طالبَ علمٍ وتفوته صلاةُ الفجر مع الجماعة، أو يقع في بعض المخالفات الكبيرة؛ فهذا قبيح من طالب العلم ومن العالم، بل إن عقوبته تكون أشدَّ من غيره؛ لأن القاعدة: أنّ من عظُمتْ نعمةُ الله عليه؛ اشتدتْ نقمةُ الله عليه – إنْ خالفَ فعلُه علْمَه - .
والدليل على هذا قول الله تعالى: ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ?74? إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ? [الإسراء: 74- 75]؛أي: عذبناك في الدنيا ما نعذب غيرك مرتين وفي الآخرة ما نعذب غيرك مرتين؛ لأن من عظمت عليه النعمة اشتدت عليه النقمة – إنْ خالفَ فعلُه علْمَه - .
وقال تعالى في حق نساء النبي: ? يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ? [الأحزاب: 30].
وهكذا العالم وطالب العلم عندما يقع في مخالفة عمله لعلمه؛ فإن عقوبته تكون أشد؛ كمن يحلق لحيته أو يتساهل في الصلاة وهو طالب علم شرعي؛ فإن عقوبته تكون أشدّ من غيره؛ لأن القاعدة تقول: من عظمت عليه النعمة اشتدت عليه النقمة؛ فيكون علمه حجة عليه ويكون عالم سوء.
وأيضا من آداب طالب العلم -ولعلي اختم بها هذه المقدمة- الجد والاجتهاد في طلب العلم كما يقال: العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه؛ فلابد أن يكون هناك جد واجتهاد.(1/5)
روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: (لا يُسْتطاعُ العلم براحة الجسد)؛ وقد ذكر الإمام مسلم هذا الحديث في باب مواقيت الصلاة؛ لأنه تعب في جمع أسانيدها ثم أورد هذا الأثر عن يحيى بن أبي كثير (لا يستطاع العلم براحة الجسد)؛ فلابد من الجد والاجتهاد في طلب العلم، والسعي إليه، وفي تحصيله، ولهذا أنا أوصي الإخوةَ المشاهدين والأخوات المشاهدات بالجد والاجتهاد، وأن يحرصوا على متابعة هذه الدروس، وعدم التخلف عن شيء منها لأنه يُلاحظ أن بعض الإخوة يتابع درس ثم يتغيب الدرس الآخر وهذا لا يتحقق له الفائدة المرجوة؛ ينبغي الجد والاجتهاد والمواظبة وضبط آلية التحصيل؛ بأن يقيد الإنسان ما يستفيده من فوائد حتى يراجعها؛ لأنَّ حياةَ العلم المذاكرةُ.
فالإنسان -خاصة في وقتنا هذا- لا يمكن أن يحفظ الشيء من أول مرة والذاكرة ضعفت عند الناس في الوقت الحاضر، وكانت العرب تحفظ الشيء من أول مرة كانت العرب تسمع القصيدة تُلْقى من مائتي بيت فيحفظونها من أول مرة. وابن عباس -رضي الله عنه- كان ممن يحفظ الشيء من أول مرة، وابن شهاب الزهري والشعبي كذلك وعدد كثير كانوا يحفظون الشيء من أول مرة.
الآن ائت لي بشخص يحفظ الشيء ليس من أول مرة بل من عاشر مرة؛ فالآن ضعفت الذاكرة عند الناس؛ فلابد من تقييد العلم ومراجعته ومذاكرته من حين لآخر ولعلي أكتفي بهذه المقدمة في فضل العلم وبيان أبرز آداب طالب العلم.
هذه الأكاديمية بدأت بكتاب "العمدة" وقد شرحتُ في فصول سابقة أجزاء من هذا الكتاب النفيس وقد وصل الإخوة إلى "كتاب الطلاق" وكنت قد شرحت في الفصل قبل الماضي أول "كتاب النكاح" وسوف نبدأ -إن شاء الله تعالى- من كتاب الطلاق وكان قبله "الخلع" وقبله "عشرة النساء" وقبله الأبواب التي شرحناها في النكاح. وكتاب الطلاق سوف نتعرض لأبرز مسائل الطلاق.(1/6)
والنكاح سماه الله -عز وجل- ميثاقا غليظا وامتن الله –تعالى- بأن جعل للرجال أزواجا من أنفسهم قال: ? وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم موَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ? [الروم: 21]؛ فالنكاح يحقق هذه المصالح؛ السكن والمودة والرحمة وإنجاب الذرية وتكوين أسرة مسلمة؛ فيحقق مصالح كبيرة. وقد سبق الكلام عن مصالح وفوائد النكاح لكن أحيانا يكون عدم توافق بين زوجين؛ لأن النكاح علاقة بين الطرفين بين ذكر وأنثى وأحيانا لا يكون هناك تواؤم بين الطرفين؛إما لعدم التوافق أو بسبب سوء خلق أحدهما أو لغير لذلك من الأسباب الكثيرة؛ فحينئذ ربما يكون بقاء النكاح عنتا ومشقة ولا تتحقق المصالح مع بقاء هذا النكاح وربما يكون الزوج إذا طلق هذه المرأة ويتزوج امرأة تناسبه وهي تتزوج برجل يناسبها ? وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ ?[النساء: 130].
لذلك كانت مشروعية الطلاق لهذه المعاني وهذا من محاسن الإسلام وإنما يلجأ للطلاق في حدود ضيقة؛ مثل ألا يُتوصل إلى علاج للمشاكل بين الزوجين وإلا فالله –تعالى- ذكر مراحل لعلاج الشقاق بين الزوجين قال: ? وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ? [النساء: 34]، وقال -عز وجل-: ? وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا ? [النساء: 35].
وذكر الله تعالى أربعَ مراحلَ لعلاج الشقاق قَبْلَ الطلاق:
- المرحلة الأولى: الموعظة.
- المرحلة الثانية: الهجر في المضجع.
- المرحلة الثالثة: الضرب غير المبرح.(1/7)
- المرحلة الرابعة: بعث الحكمين إذا لم تُجْد جميعُ الحلول؛ فلا يبقى حل إلا الطلاق.
والطلاق حينئذ خير من التمسك بهذه العلاقة الزوجية التي لا تتحقق معها مصالح النكاح ? وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ? [النساء: 130].
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
كتاب الطلاق
لا يصح الطلاق إلا من زوج مُكلف مختار، ولا يصح طلاق المكره ولا زائل العقل إلا السكران)
قال المؤلف -رحمه الله-: (كتاب الطلاق)
الطلاق: اسم مصدر وليس مصدرا؛ لأن الفعل "طَلَّقَ".
فالمصدر ماذا يكون؟ المصدر طلق أم تطليقا؟
طَلَّق يُطلِّق تطليقا، واسم المصدر: طلاقا.
إذن؛ ما الفرق بين المصدر واسم المصدر؟
المصدر: ما تضمن معنى الفعل بحروفه.
اسم المصدر: ما تضمن معنى الفعل دون حروفه؛ مثل: توضأ؛ المصدر: تَوَضُّأ، واسم مصدر وضوءا، وتسحر: المصدر: تَسَحُّر، واسم المصدر: سُحُورا، وتطهر: المصدر: تَطَهُّر، واسم المصدر: طُهُورا؛ فإذن اسم المصدر: ما تضمن معنى الفعل دون حروفه؛ فالطلاق: اسم مصدر؛ لأن الفعل طلق المصدر هو تطليقا؛ ولكن اسم المصدر: طلاقا.
والطلاق معناه في اللغة التخلية، لذلك يقال في اللغة: طلقت الناقة؛ إذا سرحت حيث شاءت. والطلاق معناه: الإرساء.
وتعريفه شرعا: هو حل قيد النكاح أو بعضه بإيقاع الطلقات الثلاث، أو بطلقة واحدة، أو طلقتين.
- حكم الطلاق:
الطلاق تدور عليه الأحكام الخمسة.
وإذا قلنا الأحكام الخمسة ماذا نقصد بها؟
الأحكام الخمسة هي: التحريم والكراهة والوجوب والاستحباب والإباحة.
وتدور على الطلاق هذه الأحكام الخمسة لكن نريد أولا أن نعلم الأصل؛ فالأصل في الطلاق أنه مكروه.(1/8)
هذا هو الأصل والدليل لذلك هو قول الله -عز وجل-: ? لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?226? وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة: 227].
وجه الدلالة: أن الله –تعالى- قال: ? فَإِنْ فَاءُوا ? أي: فإن رجعوا؛ فإن الله غفور رحيم ? وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ?، وهذه آية تفيد شيئا من التهديد وهذا يدل على كراهة الطلاق وأما حديث: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) أخرجه أبو داود وغيره لكنه ضعيف من جهة الإسناد وإن كان مشهورا ومن أهل العلم من يقول: إن في متنه نكارة؛ فكيف يكون حلالا ومبغضا إلى الله -عز وجل-؟!
على كلٍّ؛ هو لا يصح من جهة الإسناد ولهذا ينبغي ألا يُجزمَ بصحة نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
هذا الحديث الصحيح أنه مرسل عن محارب بن ديثار ولا يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكن يكفينا في هذا الآية الكريمة في إفادة أن الأصل في الطلاق أنه مكروه.
وأيضا من جهة النظر فإن الطلاق فيه تفويت لمصالح النكاح؛ لأن النكاح فيه مصالح كبيرة والطلاق فيه تفويت لمصالح النكاح ولذلك فإن الأصل فيه الكراهة هذا من حيث الأصل لكن إذا أردنا أن نفصل نبدأ أولا بالوجوب.
متى يجب الطلاق؟
1- يجب الطلاق للإيلاء؛ أي: إذا أبى الزوجُ الفيءَ.
أولا: ما معنى الإيلاء المذكور في قول الله -عز وجل-: ? لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?226? وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة: 227]؟(1/9)
الإيلاء: هو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر. ثم يجب على هذا الزوج بعد أن تمر أربعة أشهر،إما أن يطأ وإما أن يطلق؛ ولذلك قال الله: ? فَإِنْ فَاءُوا?؛ أي: فإن رجعوا عمَّا حلفوا عليه؛ فإن الله غفور رحيم، والله –تعالى- يعفو عنه مع الكفارة، وإن رفض أن يطأ؛ فلا تبقى هذه المرأة معلقة، ولذلك قال: ? وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?، ويجب عليه أن يطلق إذا مضى أكثر من أربعة أشهر، ولم يُرد أن يطأ هذه الزوجة وجب عليه الطلاق.
فإن أبى أن يطلق و رفض فما الحكم؟
طلق عنه الحاكمُ أو القاضي.
هذه حالة من الحالات التي يجب فيها الطلاق.
2- يجب الطلاق إذا فَرَّطت المرأة في حقوق الله -عز وجل- إذا كانت –مثلاً- لا تصلي ولم تُجد معها النصيحة ونصحها مرة بعد مرة لكن ما نفعت معها النصيحة؛ فحيئنذ لا يجوز أن تبقى معه.
3- أو أنها تركت العفة بأن كانت تزني، أو وقعت في الزنا؛ فلا يجوز للزوج أن يمسكها إلا إذا تابت وإلا كان ديوسا أو أنها كانت تزني ولم تظهر منها التوبة فيجب على الزوج أن يطلقها ولا يجوز له أن يمسكها.
إذن؛ في هذه الأحوال؛ يجب للإيلاء إذا أبى الزوج الفيئ وجب الطلاق، ويجب أيضا إذا خرجت المرأة عن حقوق الله -عز وجل- ولم تُجْد معها النصيحة أو أنها تركت العفة بأن كانت تقع في الفاحشة ولم تتب؛ أي:لم يظهر للزوج منها بوادر التوبة؛ فهنا يجب على الزوج أن يطلقها.
جاء في سنن أبي داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ قال: (يا رسول الله ! إن امرأتي لا ترد يد لامس، قال: طلقها، قال: إني أحبها، قال: أمسكها.).(1/10)
هذا الحديث إسناده صحيح والعلماء في شرح هذا الحديث قالوا: إن هذه المرأة لم تكن تزني ولو كانت تقع في الفاحشة؛ لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (أمسكه) ولكن قال العلماء وجمع من أهل العلم؛ منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر و غيرهم: إن المقصود أن هذه المرأة متساهلة مع الرجال الأجانب؛ لذلك قال (لا ترد يد لامس)؛ أي: إذا لمسها أحد من الرجال؛لم تمتنع منه. لكن ليس معنى اللفظ أن لو أراد أحد بها فعل الفاحشة؛ وافقت على هذا وليس المعنى أنها تقع في الفاحشة ولكن المقصود أن عندها شيئا من التساهل مع الرجال الأجانب وهذا يحصل من بعض النساء فهنا النبي -عليه الصلاة والسلام- لما قال الرجل هذه المقولة؛ قال: طلقها؛ أذن له في أن يطلقها، لكن لما ذكر له هذا الرجل مانعا؛ أي: قال: إني أحبها؛ قال: أمسكها.
فلو كان طلاقها واجبا؛ لما قال: أمسكها؛ فدل ذلك على أن تطليقها ليس بواجب. فإذا كانت المرأة بهذه الصفة فإن الزوج يناصحها ولكن لا يجب عليه أن يطلقها لكن له ذلك.
لكن هل يستحب أم يباح؟
هذا محل اجتهاد.
إذن هذه هي الحالة الأولى متى يجب الطلاق.
متى يُستحب الطلاق؟(1/11)
يستحب الطلاق عند وجود الضرر باستدامة النكاح، وذلك في حالة الشقاق ومنازعة بين الزوجين فتتضرر المرأة من بقائها مع هذا الرجل وربما تتحوج إلى المخالعة ولكن لا تستطيع أن تخالع هذا الرجل لكن لأنها فقيرة وأهلها فقراء ولا تستطيع المخالعة وحينئذ يستحب للزوج أن يطلقها إذا كانت المرأة ترغب في الطلاق والضرر قائم باستدامة هذا النكاح ولا تتحقق مصالح النكاح كبعض البيوت كلها مشاكل من أولها إلى آخرها وهناك ضرر باستدامة هذا النكاح؛ لعدم التوافق بين الزوجين أو لسوء خلق أحد الزوجين إما الزوج أو الزوجة وحينئذ قال العلماء استُحِبَّ الطلاقُ في هذه الحالة وإن يتفرقا يغني الله كل من سعته. إذا كانت المرأة تتشوف وتتحوج إلى المخالعة بسبب وجود الضرر عليها من هذا الزوج إما لكونه سيء العشرة أو لكونه يضربها وهي لا تريد أن تبقى معه ولكنها مضطرة للبقاء معه لكونها لا تستطيع المخالعة؛ فحينئذ يُستحب للزوج أن يطلق.
متى يحرم الطلاق؟
يحرم الطلاق للبدعة، والبدعة إما أن تكون في وقت الطلاق أو في عدد الطلاق.
كيف تكون البدعة في وقت الطلاق؟
أن يكون في حيض أو طهر لم يجامعها فيه.
أن يطلقها في حيض أو في طهر قد جامعها فيه، وبعض أهل العلم يقول: أو النفاس، وسيأتي هل يلحق النفاس بالحيض أم لا؟ سيأتي -إن شاء الله- في درس قادم.
إذن هذا طلاق محرم وهو الطلاق حالَ الحيض أو في طهر قد جامع فيه فيكون طلاقا محرما ولهذا غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أُخبر أن ابن عمر قد طلق امرأته وهي حائض.
الطلاق البدعي المحرم بالنسبة للعدد كيف يكون؟ كم طلقة؟
إذا طلق ثلاثا أو اثنتين؛ أي: أكثر من واحدة. فالطلاق المحرم بالنسبة للعدد يحرم أن يطلق أكثر من طلقة ولذلك جاء في حديث محمود بن لبيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذُكر له أن رجلا طلق امرأته ثلاثا؛ فغضب -عليه الصلاة والسلام- وقال: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟).(1/12)
فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فهذا دليل على أنه يحرم أن يطلق أكثر من تطليقة.
إذن ما هو طلاق السنة؟
أن يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، أو يطلقها حاملا؛ لأن طلاق الحامل طلاق سني ولذلك لو أن المطلق اتقى الله -عز وجل- ولم يطلقها إلا في طهر لم يجامعها فيه وبقيت هي في العدة وطلقها طلقة واحدة فإنها ستبقى في العدة. والعدة ثلاث حِيَض أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض، فإنه لن يحتاج إلى من يُفتيه ولن يندم ولن يُقدم على الطلاق إلا وهو متأنٍّ متثبت متروٍّ. ثم إذا طلق طلقة وندم أمكن أن يراجعها لكن الذي يندم والذي لا يتقي الله -عز وجل- ويتعجل فإنه يوقع من هذا ثلاث تطليقات فهو الذي يندم وربما يذهب ويبحث عن من يفتيه لعله لا يقع الطلاق لعله كذا لأنه لم يتق الله -عز وجل- في أمر الطلاق إذن هذا هو الطلاق المحرم.
بقي الحكم الخامس وهو:
متى يُباح الطلاق؟
يباح الطلاق فيما عدا ذلك للحاجة كسوء خلق المرأة فإذا رأى الرجل أن هذه المرأة لا تناسبه وأنها سيئة الخلق وسيئة العشرة؛ فالطلاق في حقه مباح. ولا نقول: إنه محرم ولا مكروه إذا وُجِدَ سببٌ يقتضي منه أن يطلقها.
إذن تدور على الطلاق هذه الأحكام الخمسة.
نعود لعبارة المؤلف -رحمه الله- قال المؤلف: (لا يصح الطلاق إلا من زوج)؛ فإذا طلق غير الزوج فلا يصح ولا يقع.
كيف يطلق غير الزوج؟
إذا وَكَّلَ وكيلا يأخذ حكم الموكِّل يقع الطلاق به .
ولذلك إذا وكل الزوج من يطلق عنه زوجته سواء كان رجلا أو امرأة؛ وقع الطلاق. ولذلك قال الفقهاء: لو وكل أمّه لتطليق زوجته؛ صحَّ الطلاق، ولو وكل أخته في تطليق زوجته؛ صحَّ الطلاق، ولو وكّل المرأةَ لتطليق نفسها؛ صحَّ الطلاق، ولا مانع من هذا.
إذا طلق الإنسان قبل أن يتزوج.هل يقع؟
فبعض الناس لم يتزوج ويقول: عليَّ الطلاق إن فعلت كذا وإن حصل كذا وهذا يحصل من بعض الشباب الذين لم يتزوجوا ويحلفون بالطلاق فهل إذا تزوج يقع الطلاق؟(1/13)
لا يقع الطلاق لأدلة سنذكرها.
أيضا ممكن أن تتصور هذه المسألة لو أن المرأة تخشى أن يتزوج زوجها عليها؛ فقال من باب جبر خاطرها: أي امرأة أتزوجها عليكِ؛ فهي طالق. ونفترض أنه تزوج. هل تَطْلُقُ؟
لا تطلق لأنه طلقها وهو ليس زوجا لتلك المرأة المطلقة التي يريد أن يطلقها.
إذن لابد أن يكون حتى يقع الطلاق من الزوج.
والدليل على ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أخرجه ابن ماجه وغيره وهو حديث حسن بشواهده.
وأيضا قوله -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث المسور بن مخرمة: (لا طلاق قبل النكاح) وهذا الحديث حديث صحيح أو حسن قال عنه البوصيري: إن إسناده حسن، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -وهو من أحاديث "البلوغ"- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق فيما لا يملك). أخرجه أبو داود والترمذي وصححه قال الحافظ في البلوغ: ونُقل عن البخاري أنه قال: إنه أصح ما ورد فيه. فهذه الأحاديث تدل على أنه لا يصح الطلاق من غير الزوج ولا يقع الطلاق من غير الزوج.
قال: (من زوج مكلف).
إذا قال الفقهاء مكلف فماذا يعنون بالمكلف؟
العاقل البالغ
أما المسلم؛ فهو وصف آخر، لكن إذا قال مكلف؛ فيكون عاقلا بالغا وقد يكون مسلما وقد لا يكون مسلما ويكون مكلفا. فإذن؛ المكلف معناه العاقل البالغ.
معنى ذلك أن الطلاق من غير العاقل لا يصح ولا يقع فلو طلق المجنون لا يقع طلاقه ولا يصح.
ولو طلق الصبي فهل يقع؟
أما إذا كان غير مميز؛ فإنه لا يقع.
وهل يصح زواج غير المميز؟(1/14)
نعم يصح ولا مانع من زواج الصغير ذكرا كان أو أنثى حتى لو كان عمره يوما واحدا وأريد تزويجه فلا مانع من أن نعمل هذا والله يقول: ? وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ? [الطلاق: 4].
فبعض الناس يعتقد أنه لا يصح زواج الصغير وهذا غير صحيح لأنه يصح ولو كان عمره يوم واحد.
والصبي إذا كان غير مميز لا يصح طلاقه، فهل يصح إن كان مميزا ؟
اختلف العلماء في وقوع طلاق الصبي المميز؛ فمن أهل العلم من قال: إنه يقع ومنهم من قال: إنه لا يقع والمذهب عند الحنابلة أنه يصح طلاق الصبي إذا كان يعقل معنى الطلاق، ولهذا قيده بعضهم بعشر سنين فقالوا: يصح إذا بلغ عشر سنين. أما دون عشر قالوا: إنه لا يعقل معنى الطلاق والتمييز على مذهب الحنابلة من أتم سبع سنين ودخل الثامنة ومن يفهم الخطاب ويرد الجواب.
والحقيقة أن هذا الضابط لا ينضبط؛ أي: ويفهم الخطاب ويرد الجواب فالآن بعض الأطفال عمره سنتان، ويفهم الخطاب، ويرد الجواب؛ فهذا الضابط الحقيقة أنه لا ينضبط ولذلك الأقرب ما ذهب إليه الحنابلة من أن التمييز أن يكون بلغ سبع سنوات والدخول في الثامنة وهذا هو أقرب ما قيل في التمييز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بأمر الأبناء عند هذا السن قال: (مروا أبناءكم للصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر).
فاختار النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه السنة لعلها -والله أعلم- هي الأقرب للتمييز؛ لأنه في هذه السن يبدأ الصبي يعقل معنى الصلاة فيكون أقرب ما قيل في ضابط التمييز من بلغ سبع سنين.
إذن الصبي قلنا: إن في طلاقه خلافا:
- من أهل العلم من قال: لا يقع طلاق الصبي المميز مطلقا.
- ومنهم من قال: لا يقع طلاق الصبي المميز مطلقا.
- ومنهم من قال: يقع طلاق الصبي المميز الذي بلغ عشر سنين.(1/15)
- والمذهب عند الحنابلة أنه يقع إذا كان يعقل معنى الطلاق وهذا هو الأقرب في هذه المسألة والله - تعالى - أعلم.
قال: (مختار).
أي: فسره قال: ولا يصح طلاق المكره يعني بألا يكون مكرها؛ فالمكره لا يصح طلاقه لو أن إنسانا أُكره على تطليق زوجته؛ فإنه لا يصح ويدل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق). وهذا الحديث حديث صحيح أخرجه أبو داود وأحمد وهو حديث حسن.
والإغلاق سيأتي تفسيره، ومن ضمن معاني الإغلاق: الإكراه بأن يُغلق على الإنسان قلبُه وقصدُه ونيتُه ومن ذلك: المكره؛ فإن المكره لم يُردْ تطليق زوجته لكن قد أكره على ذلك وقد أغلق عليه ولذلك فإنه لا يقع طلاق المكره لهذا الحديث. ولابن القيم كلام عن معنى الإغلاق؛ قال في زاد المعاد: إن الإغلاق فسره الإمام أحمد بالغضب وكذلك أبو داود في سننه قال: أظنه الغضب. وفسر أبو عبيدة الإغلاق بالإكراه وفسره بالجنون. قال: وقال شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: حقيقة الإغلاق أن يُغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته.
هل يوجد ضابط لحالة الإغلاق؟
نعم للعلماء كلام طويل في ضابط الإكراه بأن يكون الإكراه ملجئا أو غيرَ ملجئٍ ولكن باختصار أن المكره يكون قد هُدد من إنسان قادر على تنفيذ ما هدد به فيكون أُلجئ على هذا الطلاق وأن يلحقه ضرر في بدنه.
سؤال: تكلمتم عن حديث (كانت لا ترد يد لامس) وهذا الحديث ضعيف؛ فهل يجوز إيقاع الحكم الشرعي على حديث ضعيف أو الاحتجاج بحديث ضعيف في الأحكام؟(1/16)
أولا: نريد من السائل أن يتثبت في الحكم بأن الحديث ضعيف وهذا غير صحيح؛ فالحديث رواه أبو داود والنسائي، وقال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث اختُلف في إسناده وإرساله وقال النسائي: إن المرسل أولى بالصواب وقال في الموصول: إنه ليس بثابت لكن رواه هو أيضا وأبو داود من رواية عكرمة عن ابن عباس وإسناده أصح ولذلك صححه النووي ونقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتمسك به ابن الجوزي فأورده في "الموضوعات" لكن الحديث له طرق متعددة فقد يكون بعض طرقه ضعيفا، لكنه ورد من طرق متعددة يشد بعضها بعضا ولهذا صححه جمع من الحفاظ من أهل العلم وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله- فهو قد يكون ضعيفا في بعض طرقه لكنه بمجموع الطرق صحيح أو على الأقل حسن فهو حديث ثابت والحكم أنه حديث ضعيف خطأ فربما اطلعت على تضعيف بعض العلماء لكن هو تضعيف لبعض الطرق لكن بمجموع طرقه حديث ثابت وصحيح.
قال المؤلف -رحمه الله-: (ولا زائل العقل) يعني أنه لا يصح طلاق زائل العقل إما لجنونه أو لكونه مثلاً مُغمًى عليه أو به صرْع أو نحو ذلك المهم أنه إذا زال عقله لا يصح طلاقه بالإجماع.
قال المؤلف: (إلا السكران)؛ أي: يقع طلاقه.
والمذهب عند الحنابلة أن السكران يقع طلاقه وهذا المسألة قد اختلف فيها أهل العلم على قولين مشهورين:
1- فمن أهل العلم من قال: إن طلاق السكران يقع وهذا هو المذهب عند الحنابلة ولهذا صاحب "العمدة" الموفق -رحمه الله- استثنى هذه المسألة قال: إلا السكران؛ أي: يقع طلاقه.
2- ومن أهل العلم من قال: إن طلاق السكران لا يقع وهو رواية عن الإمام أحمد وهي الرواية التي رجع إليها الإمام أحمد فالإمام أحمد كان يقول بوقوع طلاق السكران قال: حتى تبينت؛ فظهر لي أنه لا يقع.(1/17)
ولهذا قال الإمام أحمد في رواية الميمون قال: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي أنه لا يجوز طلاقه لأنه لو أقر أو باع لم يجز بيعه. إذن هذا هو القول الذي رجع إليه الإمام أحمد وجاء في رواية أبي طالب أن الإمام أحمد قال: الذي لا يأمر بالطلاق إنما أتى خصلة واحدة وهو أنه أباحها لزوجها أو مطلقها والذي يفتي بالطلاق أتى خصلتين: حرمها عليه، وأحلها لغيره.
لكن الذي استقر عليه مذهبه وصرح برجوعه إليه: أن طلاق السكران لا يقع فمن قال إنه يقع قالوا إنه مكلف ومؤاخذ بجناياته وأيضا الطلاق عقوبة له على سكره كيف نقول إن غير السكران يقع طلاقه وهذا السكران الذي عصى الله لا يقع طلاقه؟
أما أصحاب القول الثاني الذين قالوا إنه لا يقع طلاق السكران فاستدلوا ذلك بأدلة منها أولا الآية الكريمة قول الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ? [النساء: 43].
قالوا فجعل الله تعالى قول السكران غير معتبر؛ لأنه لا يعلم ما يقول وإذا كان لا يعلم ما يقول فقوله أشبه بالهذيان، وفي قصة ماعز أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يُسْتنكه؛ أي: يُشم قال: (لعل به سكر)، فأمر بأن يستنكه ليعتبر قوله الذي أقر به أو يلغى. فهذا دليل على أن قول السكران غير معتبر. وأيضا جاء في صحيح البخاري في قصة حمزة أنه عقر بعيرَيْ علي -رضي الله عنه- فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقف عليه يلومه فصعَّد حمزةُ النظرَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو سكران وكان ذلك قبل أن ينزل آيات تحريم الخمر فجعل النبي -عليه الصلاة والسلام- يلوم عمه حمزة كيف عقر بعيري علي؟ فقال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟! فنكث - أي: رجع - النبي -صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام- على عقبيه ولم يؤاخذه لأنه كان سكران كان ذلك قبل تحريم الخمر.(1/18)
وهذه كلمة عظيمة = ما أنتم إلا عبيد لأبي. ولهذا قال ابن القيم: إن هذا القول لو قاله غير السكران؛ لكان ردة وكفرا. ولكن لم يؤاخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- عمه حمزة لأنه كان سكران وكلام السكران وقوله غير معتبر.
وصح عن عثمان -رضي الله عنه- أنه قال: ليس لمجنون ولا سكران طلاق. وأيضا صح عن عمر بن عبد العزيز أنه أوتي بسكران قد طلق فاستحلفه بالله الذي لا إله إلا هو أنه طلقها وهو لا يعقل فرد عليه امرأته وضربه الحد.
هذه أدلة من قال: إن طلاق السكران لا يقع وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن أدلة هذا القول قوية وهذا الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الذي رجع إليه الإمام أحمد -رحمه الله-.
سؤال:
إذا حلف الزوج على زوجته ألا يطأها أربعة أشهر فكيف يتوصل القاضي إلى صحة كلام الزوج؟ هل يُحَلِّفُه اليمين أم من طرق أخرى؟ لأن هذه علاقة ما يعلم بها غير الله؟
إذا ادعت المرأة أن الرجل ما وطئها وادعى هو أنه وطئها؛ حينئذ ليس هناك من القاضي إلا أن يُحَلِّف هذا الزوج على ذلك. فليس هنا مجال آخر؛ لأن هذه علاقة خاصة بين الرجل والمرأة، ولا يمكن الوصول إلى بينة أخرى إلا بتحليف ذلك الرجل.
سؤال:
ما الحكمة من تحديد العدة بأربعة أشهر؟
الله تعالى أعلم وأحكم والله هو الذي قال: ? لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [البقرة: 226]. فالله تعالى أعلم وأحكم.
لماذا حدد أربعة أشهر؟
لماذا حدد خمس صلوات في اليوم والليلة؟
يكفي المسلم أن يعرف أن هذا هو حكم الله تعالى وهو حكمة الحكم وهو غاية الحكم ومن أهل العلم حاول أن يستنبط؛ قال: لأن هذه المدة وهي دون الأربعة أشهر تستطيع فيها أن تصبر المرأة عن زوجها بينما إن طالت عن ذلك؛ فإنها قد لا تستطيع في الغالب. هذه بعض الحكم التي ذكرها بعض أهل العلم.(1/19)
قلنا: إن القول الراجح في طلاق السكران أنه لا يقع، لكن السكران يؤاخذ بأفعاله ولا يؤاخذ بأقواله؛ فلو أنه أتلف شيئا أو قتل رجلا؛ يقص به. فلو قيل إنه لا يقص من السكران لاتخذ الناس ذلك ذريعة.
من يريد قتل أحد؛ اتخذ السُّكْرَ وسيلة لقتل من يريد ولتَعَطَّلَ القصاص، ولذلك فإن السكران يؤاخذ بأفعاله ولا يؤاخذ بأقواله على القول الصحيح.
الغضب قسمه العلماء إلى ثلاث درجات وهو مرتبط بقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق).ودرجاته هي:
الأولى: الغضب اليسير. فهذا يقع الطلاق فيه بالإجماع.
الثانية: الغضب الذي يزول معه الشعور. بحيث يفقد الإنسان عقله وهذا لا يقع الطلاق فيه بالإجماع.
الثالثة: درجة وسطى بين الدرجتين السابقتين. بحيث يقدر أن يملك الإنسان عقله و لكن يحس بأنه مدفوع إلى الطلاق.
فاختلف العلماء في هذه الدرجة؛ ولهذا قال ابن القيم في هذه الحالة: بأن يستحكم ويشتد به الغضب ولكن لا يزيل الغضب عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فَرَطَ منه إذا زال. فهذا محل نظر، وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي.
هذا كلام ابن القيم؛ فالقول الراجح إنه لا يقع في الدرجة الوسطى ولا في الدرجة الكبرى مع الغضب الذي يفقد الإنسان معه عقله ولا حتى في الدرجة الوسطى الذي لا يفقد عقله لكن يحس بأنه مدفوع لم يخطر على باله الطلاق أصلا لكن بسبب شدة الغضب شعر بأنه قد اندفع والغضب حال بينه وبين نيته وبين قصده وإرادته؛ فكأنه قد دُفِعَ لإيقاع الطلاق دفعا.
فهذه المسألة الدرجة الوسطى هي محل خلاف بين العلماء:
- من العلماء من قال بإيقاع الطلاق وهو وبائن في هذه الحالة.
- ومنهم من قال بعدم إيقاعه.
- والقول الصحيح: إنه لا يقع، والدليل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- :(لا طلاق ولا عتاق في إغلاق).(1/20)
وقد سبق أن نقلنا كلام ابن القيم في معنى الإغلاق وقلنا: إن المقصود بالإغلاق بأن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام ولا يعلم به؛ كأنه انغلق عليه قصده وإرادته ويدخل في ذلك طلاق المكره ويدخل في ذلك طلاق الغضبان؛ فالغضبان يعتبر مغلقا في أعلى الدرجات وهي إذا فقد عقله وكذلك أيضا في الدرجة الوسطى؛ لأنه قد دُفِعَ إلى أن يتلفظ بكلمة الطلاق وهو م يُرِدْ ذلك ولهذا فالقول الصحيح أن الطلاق في هذه الحالة لا يقع.
أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
متى يجب الطلاق؟
السؤال الثاني:
متى يقع طلاق الغضبان؟ ومتى لا يقع؟ مع ذكر الدليل.(1/21)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الثاني
الدرس الثاني من قول المؤلف"ويملك الحر ثلاث تطليقات"
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
من قول المؤلف"ويملك الحر ثلاث تطليقات"
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول: متى يجب الطلاق؟
وكانت الإجابة: يجب الطلاق في حالتين: عند الإيلاء؛ وهو أن يحلف الرجل على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر. فإن استمر على الامتناع من وطئها؛ وجب عليه طلاقها، فإن أبى؛ طلق عنه الحاكم. والدليل قوله تعالى: ? لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?226? وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ?[البقرة: 226 - 227].
وعند تفريط المرأة في حقوق الله -تعالى-؛ كأن تترك الصلاة أو غيرها من حقوق الله –تعالى- ولم ينفع معها النصح؛ ففي هذه الحالة –أيضا- يجب تطليقها.
هذه إجابة صحيحة.
هذه الأخت أجابت عن السؤال الثاني: متى يقع طلاق الغضبان؟ ومتى لا يقع؟ مع ذكر الدليل.
تقول في إجابتها: يقع الطلاق –إجماعا- إذا كان الغضب يسيرا. ولا يقع –إجماعا- في الغضب الذي يزول معه الشعور. أما إذا كان الطلاق في درجة بين الدرجتين؛ بحيث يشعر الإنسان بأنه مدفوع إلى الطلاق وهو لا يريده؛ فهذا مختلف فيه؛ فقيل: إنه يقع، وقيل: إنه لا يقع وهو الأقرب.
والدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)، والإغلاق يدخل فيه حال الغضب لأنه إغلاق عن العقل والله تعالى أعلم..
هذه إجابة نموذجية جيدة.
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/1)
كنا قد بدأنا في الدرس السابق بالطلاق وذكرنا جملة من المسائل والأحكام المتعلقة به ونكمل في هذا الدرس بقية الفصل الأول وكنا قد وصلنا إلى قول المؤلف: (ويملك الحر ثلاث تطليقات).
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (ويملك الحر ثلاث تطليقات، والعبد اثنتين، سواء كان تحتهما حرة أو أمة. فمن استوفى عدد طلاقه؛ لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا، ويطؤها؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لامرأة رفاعة: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عيسلتك).
ولا يحل جمع الثلاث ولا طلاق المدخول بها في حيضها أو طهر أصابها فيه؛ لما روى ابن عمر أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فتغيظ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: (مره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها).
والسنة في الطلاق أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فمتى قال لها: أنت طالق للسنة، وهي في طهر لم يصبها فيه؛ طلقت. وإن كانت في طهر أصابها فيه، أو حيض؛ لم تطلق حتى تطهر من الحيضة. وإن قال لها: أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه؛ طلقت وإن لم يكن كذلك؛ لم تطلق حتى يصيبها أو تحيض.
فأما غير المدخول بها، والحامل التي تبين حملها، والآيسة والتي لم تحض؛ فلا سنة لها ولا بدعة فمتى قال لها: أنت طالق للسنة أو للبدعة؛ طلقت في الحال.)
)
قال المؤلف رحمه الله: (ويملك الحر ثلاث تطليقات) وذلك لقول الله -عز وجل-: ? الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ? [البقرة: 229]،ثم قال سبحانه: ? فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ? [البقرة: 230].(1/2)
فذكر الله –تعالى- ثلاث تطليقات، فدل ذلك على أن الحر يملك ثلاث تطليقات والعبد على النصف من الحر ولذلك قال سبحانه ? فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ? [النساء: 25]؛ أي: ما على الحرائر من العذاب.
والقاعدة: أن العبيد والإماء على النصف من الأحرار والحرائر.
لكن ثلاث تطليقات لا يمكن قسمتها إلا بكسر؛ فإذا أردنا أن نقسمها ماذا نقول؟
طلقة ونصف.
وهذا لا يمكن؛ ولذلك يُجبر هذا الكسر، وقال الفقهاء: إن العبد يملك تطليقتين والحر يملك ثلاثا سواء كان تحتهما حرة أو أمة. فمتى استوفى عدد طلاقه؛ أي: ثلاثا بالنسبة للحر واثنتين بالنسبة للعبد؛ لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وهذا بالنص والإجماع؛ النص: قول الله -سبحانه-: ? فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ? [البقرة: 230]، والإجماع: قد أجمع العلماء على ذلك وقالوا: حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا احترازا من النكاح الفاسد ويطأها؛ أي هذا شرط لحلها لمطلقها الأول؛ فلا يكفي أن يعقد عليها؛ فلو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، ثم أتى إنسان وعقد عليها، ثم طلقها؛ فإنها لا تحل لمطلقها الأول حتى لو بقيت معه مدة ولكنه لم يطأها؛ فإنها لا تحل لمطلقها الأول فلابد أن يطأها الزوج الآخر.
والدليل لذلك الحديث الذي ساقه المؤلف -رحمه الله- قال: لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لامرأة رفاعة: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك).
هذا الحديث أخرجه البخاري، ومسلم في صحيحيهما، أن امرأة رفاعة بن رافع القرظي طلق امرأته ألبتة؛ أي: طلقها ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، فكأنها أرادت أن ترجع لزوجها الأول، فأتت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقالت: إنها كانت عند رفاعة وإنه طلقها ثلاث تطليقات وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب.(1/3)
ماذا تقصد بهدبة الثوب؟
تقصد أنه عِنّين وأنه لا يستطيع أن يطأ، وتريد بهذا أن تفسخ النكاح؛ لكي ترجع لزوجها الأول وهو رفاعة ففهم النبي -عليه الصلاة والسلام- مقصودها، وقال (لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، وهي -في الحقيقة- دعواها حجة عليها. لماذا؟
لأنها لا تحل لمطلقها الأول حتى يطأها زوجها الثاني، وهي –الآن- تدعي أن زوجها الثاني عاجز عن الوطء. وجاء في رواية عند البخاري أن زوجها عبد الرحمن بن زبير سمع بذلك؛ فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعا قال يا رسول الله: إنها لكاذبة.
أولا: لما رأت عبد الرحمن قالت: والله ما إليه من ذنب إلا أن ما معه إلا هدبة الثوب، وقال: كذبت يا رسول الله!! إنها امرأة ناشز، وتريد أن ترجع إلى رفاعة؛ وقال -عليه الصلاة والسلام-: (إن كان كذلك؛ لم تحلي حتى تذوقي عسليته ويذوق عسيلتك)، والعسيلة -هنا- كناية عن الجماع.
جاء في رواية الزهري -كما ذكر الحافظ ابن حجر- أنه سمع خالد بن السعيد قولها وهو بالباب؛ فقال أبو بكر: ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
قال: والله ما يزيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التبسم.
وهذا يدل على أنه يوجد من النساء من عندهن شيء من الجرأة حتى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال الحافظ ابن حجر -مستنبطا بعض الفوائد-: ولهذا يُستحب نكاح البكر؛ لأنها تظن بالرجال سواء؛ أي تقول: إن الرجال كلهم هكذا، بخلاف الثيب؛ فإنها قد جربت أكثر من زوج وربما تحن لزوجها الأول.(1/4)
استدل أهل العلم بهذا الحديث على أن صوت المرأة ليس بعورة؛ لأن هذه المرأة أتت النبي -عليه الصلاة والسلام- وبحضرته رجال أجانب عنها وقالت هذا الكلام في أمر خاص، ومع ذلك لم ينكر عليها النبي -عليه الصلاة والسلام- وإنما تبسم -عليه الصلاة والسلام-؛ فلو كان صوت المرأة عورة؛ لأنكر عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو على الأقل لما أذن لها في أن تتكلم بهذا الأمر في حضرة رجال أجانب. وإنما تُنهى المرأة عن الخضوع بالقول فقط ولهذا قال سبحانه: ? فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ? [الأحزاب: 32].
واستدل العلماء بهذا الحديث على أن المرأة إذا طلقها زوجها ثلاثا، ونكحت غيره؛ فلابد من الوطء حقيقة، فإن وطئها، ثم طلقها؛ فإنها تحل لزوجها الأول.
قال المؤلف -رحمه الله-: (ولا يحل جمع الثلاث)، يعني لا يحل أن يجمع أكثر من تطليقة واحدة؛ بل إنه لا يحل أن يطلقها أكثر من طلقة؛ فلا يحل له أن يطلقها ثلاثة وإنما السنة في الطلاق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه أو أن يطلقها حاملا.
تطليقها ثلاث تطليقات هذا من تعدي حدود الله -عز وجل-، ولذلك يحرم ويدل على ذلك حديث محمود بن لبيد -رضي الله عنه- أنه ذُكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ طلق امرأته ثلاثا؛ فغضب -عليه الصلاة والسلام-، وقال: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)، حتى قال أحد الناس: يا رسول الله! أفلا أقتله؟ من شدة غضب النبي -عليه الصلاة والسلام- فهذا يدل على أن ثلاث تطليقات في وقت واحد أنه من تعدي حدود الله ومن التلاعب بكتاب الله –سبحانه- ولذلك قال (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!) وهذا الحديث أخرجه النسائي، وقال ابن القيم: إن إسناده على شرط مسلم.
نحن ذكرنا أنه لا يجوز أن يطلق أكثر من تطليقة في وقت واحد، لكن لو فعل هل يقع أم لا يقع؟
نقول: هذا له عدة صور وتفاصيل.(1/5)
الصورة الأولى: أن يطلقها ثلاثا بكلمة واحدة. كيف يكون هذا؟
أن يقول: أنتِ طالق ثلاثا،أو أنت طالق بالثلاث.
هذه اختلف فيها العلماء؛ هل تقع ثلاثا أم تقع واحدة؟
على قولين مشهورين:
القول الأول: أنها تقع ثلاثا وهذا قول الجمهور وهو الذي عليه المذاهب الأربعة؛ الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة؛ فيوقعونها ثلاثا حتى لو قال: أنت طالق بالثلاث. وقالوا: لأنه إذا قال أنت طالق بالثلاث؛ فقد طلقها ثلاثا فأخذوا بظاهر اللفظ، وقالوا: إن عمر -رضي الله عنه- أمضى هذا بحضرة الصحابة واستقر عليه العمل.
وجاء في صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (كان الطلاق ثلاثا واحدةً في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدر من خلافة عمر؛ فقال عمر: إن الناس استعجلوا في أمر لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم). قالوا: فهذا هو الذي استقر عليه أمر الناس واتفق عليه عمر مع بقية الصحابة.
هذه هي وجهة الجمهور.
القول الثاني: قالوا: إن ثلاث تطليقات بكلمة واحدة تعتبر طلقة واحدة حتى لو نواها ثلاثا. وهذا القول هو قول في مذهب أحمد، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم -رحمهما الله تعالى- وهو الذي أفتى به سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-؛ فكان يفتي بهذا القول، وهو الذي عليه الفتوى الآن؛ أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يعتبر طلقة واحدة.
ودليل هذا القول:(1/6)
أولا: قالوا: إن العرب لا تعرف من لغتها أن تكون الثلاث ثلاثا إذا جمعت بكلمة واحدة، ولا تعقل من لغتها وقوع المرات إلا متوالية قالوا، ولذلك لو قال الزوج في اللعان: أشهد بالله أربع مرات إني لمن الصادقين؛ لعُدّ ذلك واحدة؛ فلابد أن يكرر اللفظ أربع مرات. ولو قالت الزوجة في اللعان: أشهد بالله أربع مرات إنه لمن الكاذبين؛ لعُدّ ذلك واحدة؛ فلابد من التكرار، وقالوا: لو قال إنسان: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ عُدّ ذلك واحدة. واستدلوا بأثر ابن عباس كان الطلاق في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة؛ فقال عمر: إن الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؛ فأمضاه عليه.
والمقصود بهذا الأثر الطلاق الثلاث المجموع بكلمة واحدة. وإنما أمضاه عمر ثلاثا من باب السياسة الشرعية وليس أنه يريد تغيير الحكم الشرعي، وإنما اجتهد -رضي الله عنه- ورأى أن الناس قد تعجلوا وأراد أن يردعهم؛ فأمضاه عليهم ثلاث من باب السياسة الشرعية.
ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله-: قول عمر -رضي الله عنه- لم يخالف ما ثبت عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- ولما كان في عصر الخليفة الراشد أبي بكر وصدرا في أول عصره؛ بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم، وتابعه على ذلك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فعمر إنما فعل هذا من باب السياسة الشرعية لردع الناس؛ لأنه رأى الناس قد تعجلوا، لكن الصواب هو ما كان عليه الأمر في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي عهد أبي بكر وهذا اجتهاد من عمر -رضي الله عنه- ولكن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يعتبر الثلاث واحدة بكلمة واحدة وأبو بكر كذلك؛ فإذن هذا هو القول الراجح في هذه المسألة أن طلاق الثلاث المجموع بكلمة واحدة يعتبر طلقة واحدة وإن نواه ثلاثا.(1/7)
الصورة الثانية: أن يطلق الرجل زوجته ثلاثا في أوقات متعددة؛ أي: يطلقها ثم يراجعها في العدة، أو تنقضي عدتها، فينكحها بنكاح جديد ويعقد عليها بعقد جديد، ثم يطلقها، ثم يراجعها في العدة أو أنه يعقد عليها بنكاح جديد بعد انقضاء العدة، ثم يطلقها وهنا لاشك أن هذه ثلاث تطليقات وأنها تحرم عليه ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره هذه المسألة منصوص عليها ومتفق عليها أيضا.
الصورة الثالثة: أن يقول لزوجته: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو يقول: أنت طالق، وطالق، وطالق؛ فهذه تقع ثلاثا عند عامة أهل العلم؛ لأنه قد طلق ثلاثا بثلاثة ألفاظ ونواها ثلاثا.
هناك قول نُسِبَ لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه يعتبرها طلقة واحدة وأنه لا يرى أن الطلاق لا يقع على المرأة ثلاثا حتى تنقضي عدتها، ثم ينكحها مرة ثانية، ثم يطلقها، ثم تنقضي عدتها، ثم ينكحها مرة ثالثة.
هذا القول نُسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقال سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: وأما اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية لعدم وقوع الطلاق على الرجعية إلا بعد عقد أو رجعة؛ فقول ضعيف مخالف للأدلة الشرعية، ولا أعلم له سندا ولا سلفا ولو قُدِّرَ أن أحدا من التابعين أو غيرهم قال بقوله؛ فهو قول خطأ مخالف للأدلة الشريعة.
فيكون –إذن- القول الصواب في هذه المسألة؛ إذا قال: طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو قال: طالق، وطالق، وطالق أنه يقع ثلاثا.
الصورة الرابعة: أن يقول: أنتِ طالقٌ طالقٌ طالقٌ، أو يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.
فهنا هل يقع ثلاثا أم واحد؟
فيه تفصيل: إن كان لا يريد أن يطلقها ثلاثا وإنما يريد تأكيد الطلقة كبعض الذي يقول: طالق عشر مرات ويستمر طالق طالق طالق طالق طالق؛ فهنا يعتبر طلقة واحدة، وإن أراد ثلاثا وقع ثلاثا.
فهذه أربع صور إذا أردنا أن نلخص الكلام في هذه المسائل مع بيان القول الراجح:(1/8)
الصورة الأولى: أن يقول: أنت طالق ثلاثا، وهذا على قولين: والراجح أنه يقع طلقة واحدة.
الصورة الثانية: أن يطلقها ثلاثا في أوقات متفرقة؛ أي: يطلقها، ثم يراجعها أو تنقضي عدتها أو يعقد عليها، ثم يطلقها، ثم يراجعها ثم تنقضي عدتها ثم يعقد عليها ثم يطلقها؛ فهنا يقع الطلاق بالإجماع.
الصورة الثالثة: أن يقول: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق، أو يقول: طالق، وطالق، وطالق؛ فيقع ثلاثا.
الصورة الرابعة: أن يكرر لفظ الطلاق؛ أنت طالق طالق طالق؛ فالعبرة بنيته إن أراد التأكيد لتكرار اللفظ؛ فهي طلقة واحدة، وإن أراد الإنشاء، وتكرار الطلاق؛ فيقع ثلاثا.
ننتقل إلى كلام المؤلف: (ولا طلاق المدخول بها في حيضتها، أو في طهر أصابها فيه)
أي: أنه لا يحل قوله؛ لأنه معطوف على قوله: ولا يحل جمع الثلاث.
قال: لما روى ابن عمر أنه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: (مره؛ فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، فإن بدا له أن يطلقها؛ فليطلقها قبل أن يمسها).
لكن هل يقع أم لا؟
ذكر المؤلف أنه يقع، وهو المذهب عند الحنابلة، وهو قول الجمهور.
وهذه المسألة الخلاف فيها قوي؛ أعني مسألة طلاق الحائض، وجماهير العلماء على أنه يقع؛ المذاهب الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، على أنه يقع.
بل إن الإمام ابن القيم -رحمه الله- قال عن هذه المسألة: هذه المسألة ضيقة المعترك وعرة المسلك يتجاذب أعنة أدلتها الفرسان وتتضائل لدى صولتها شجاعة الشجعان.
ثم بين ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد" أدلة القائلين بوقوع الطلاق، وأدلة القائلين بعدم وقوعه، وهو -مع شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية- إلى عدم وقوع الطلاق. وجماهير العلماء على أنه يقع.(1/9)
استدل جماهير العلماء لوقوع طلاق الحائض بقصة طلاق ابن عمر لامرأته وهي حائض. جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (حسبت علي بتطليقة) وهذا عند البخاري، وهو -كما ترون- نصٌّ في المسألة.
لكن القائلين بعدم وقوعه قالوا: لا يقع طلاق الحيض، وقالوا: لعل الذي حَسَبَها غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، لعل الذي حسبها عمر، لعل الذي حسبها ابن عمر نفسه، ولكن هذا في الحقيقة بعيد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الآمر له بالمراجعة، وهو المرشد له بهذه المسألة، وقد غضب -عليه الصلاة والسلام-؛ فيبعد أن ابن عمر يتصرف من نفسه في مثل هذا المسألة أو حتى عمر -رضي الله عنه-؛ فبعيد جدًا يكون الذي حسبها غير النبي -عليه الصلاة والسلام- الأقرب أن الذي حسبها هو النبي -عليه الصلاة والسلام-.
أيضا ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" أن ابن وهب أخرج بسند في مسنده عن ابن أبي ذئب قال: حدثني حنظلة بن أبي سفيان، أنه سمع سالما يحدث عن أبيه عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هي واحدة).
وسند هذا الرواية قال فيه الحافظ ابن حجر: وهذا سند صحيح رجاله ثقات؛ ولهذا قال: وهذا نص في موضع الخلاف؛ فيجب المصير إليه.
وأيضا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر: (مره فليراجعها). والمراجعة لا تكون إلا من طلاق، لكن الذين قالوا: لا يقع طلاق الحائض، قالوا: لعل المقصود المراجعة معناها اللغوي. ولكن هذا بعيد؛ إذ الأصل في الألفاظ أنها تحمل على الحقيقة الشرعية لا على الحقيقة اللغوية.
سؤال:
لو أن إنسانا طلق امرأته، وأراد أن يستفتي، فهل لي أن أدله على شيخ مثلاً يكون قوله أيسر من الشيخ الآخر، يعني مثلاً شيخ يوقع وشيخ لا يوقع فأدله على الشيخ الذي لا يوقع؟
سؤال آخر:
لو أن شخصا استفتى أحد العلماء وأوجب عليه الطلاق، ثم استفتى عالما آخر لا يرى وقوع الطلاق؛ فأي قول يأخذ من الأقوال؟(1/10)
إن اختلاف العلماء -في المسائل- المطلوب أن يتبع السائل أوثق العلماء عنده في دينه وأمانته، ولا يتخير، ويجب أن تدل صاحبك على من ترى أنه أوثق وأعلم؛ لأن العبرة عند الاختلاف بالأعلم والأوثق، وحتى في أمور الدنيا؛ إذا اختلف طبيبان؛ فيؤخذ برأي من؟ الأكثر علما والأقدم رسوخا.
ذكرنا أن الجمهور يرى وقوع طلاق الحائض، وذكرنا أدلة قولهم. وأصحاب القول الثاني قالوا: إن طلاق الحائض لا يقع، وقلنا: إن هذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، واستدلوا بأدلة؛ منها ما جاء في في سنن أبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رَدَّها، ولم يرها شيئا).
لكن هذه الرواية كثير من أهل العلم ضعفها، ثم لو صحت؛ فيمكن أن نقول: إنها لفظ مجمل ولم يرها شيئا؛ أي: لم يرها شيئا مستقيما، وهذه الرواية لا يمكن أن يُعارض بها الروايات الصحيحة والثابتة في الصحيح؛ ولهذا؛ فالقول الراجح -والله أعلم- في هذه المسألة هو ما عليه جماهير العلماء من وقوع طلاق الحائض مع الإثم. ولهذا؛ فإن من أهل العلم من حكى الإجماع على ذلك؛ كابن المنذر؛ قال: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلالة.
وهذه الكلمة شديدة، وليس هذا بصحيح؛ فقد قال فيها عدد من أفاضل وأكابر العلماء؛ الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وهم من كبار الأئمة، وابن المنذر متقدم، لكن الظاهر أن في زمن ابن المنذر لم يخالف أئمة علماء السنة إلا المبتدعة، والنووي -رحمه الله- له كلام قريب من هذا القول.
والصحيح في هذه المسألة هو أن طلاق الحائض يقع، ولو لم يرد من الأدلة إلا ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر أنه قال: (حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة)؛ لكفى، وهي أصح ما ورد في المسألة؛ فقول الجماهير في هذه المسألة هو الأقرب والله –تعالى- أعلم.
نعود لعبارة المؤلف -رحمه الله- قال: (والسنة أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدته).(1/11)
هذه السنة في الطلاق؛ أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. والسنة –أيضا- أن المرأة إذا طلقت تبقى في بيت الزوج خلافا لما عليها واقع الناس الآن: لأن الله يقول: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَد ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا? [الطلاق: 1].
فلا يجوز أن تخرج المطلقة طلاقا رجعيا ولا أن تُخرج حتى تنقضي عدتها, هذا حكم الله، وهذا شرع الله وشدد الله –تعالى- في هذه المسألة لأن الناس يتساهلون فيها قال: ? لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ ? إلا في حالة واحدة: ? إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ?، وأيضا مُبَيَّنة ? وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا?.
إذن؛ يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، وإذا فعل ذلك؛ فإنه لن يندم أبدًا، ولن يذهب ليبحث عمن يفتيه، وهناك مقولة جيدة لابن عباس -رضي الله عنهما- لما أتى سائل فقال: إن عمِّي طلق امرأته ثلاثا؛ فقال ابن عباس: إن عمك عصى الله، وأطاع الشيطان؛ فلم يجعل الله له مخرجا، ولو اتقى الله –تعالى-؛ لجعل له مخرجا.
كيف هذا؟
إذا طلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، وبقيت عنده في البيت؛ فإنه ما زال في سعة من أمره، إن أراد أن يراجعها؛ فله الخيار في المراجعة لكن إذا بتَّها ثلاثا، وقال: طالق، ثم طالق، ثم طالق؛ لم يكن له خيار، واحتاج أن يذهب إلى من يفتيه، وربما يفتيه بعدم وقوع الطلاق.(1/12)
قال المؤلف -رحمه الله-: (فمتى قال لها: أنت طالق للسنة، وهي في طهر لم يصبها فيه؛ طلقت، وإن كانت في طهر أصابها فيه أو حيض؛ لم تطلق حتى تطهر من حيضها).
أي: إذا علق الطلاق وقال: أنت طالق للسنة؛ فإنها لا تطلق إلا عندما تكون طاهرا. ولهذا لو كانت حائضا؛ فإن الطلاق لا يقع حتى تطهر؛ ولهذا قال: (إن كانت في طهر لم يصبها فيه؛ طلقت، وإن كانت في طهر أصابها فيه أو حيض؛ لم تطلق حتى تطهر من حيضها، وإن قال لها: أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه؛ طلقت)؛ لأنه علق الطلاق على أمر، وقد تحقق فقال:
(وإن لم تكن كذلك؛ لم تطلق حتى يصيبها، أو تحيض. فأما غير المدخول بها، والحامل التي تبين حملها، والآيسة التي لم تحض؛ فلا سنة لطلاقها ولا بدعة).
طلاق الحامل طلاق سني، وأيضا طلاق الآيسة والتي لم تحض لصغرها، أو أنها ارتفع عنها الحيض؛ فهذه نقول: لا بدعة في طلاقها.
هذه هي أبرز المسائل التي في هذا الدرس.
- أسئلة هذه المحاضرة:
السؤال الأول:
إذا طلق رجل امرأته ثلاثا، ثم عقد عليها غيره، ولم يطأها ثم طلقها؛ فهل تحل لزوجها الأول؟ ولماذا؟
السؤال الثاني:
ما حكم طلاق غير المدخول بها وهي حائض؟(1/13)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الثالث
الدرس الثالث - باب صريح الطلاق وكنايته
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب صريح الطلاق وكنايته
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كنا قد وصلنا في شرحنا إلى باب "صريح الطلاق وكنايته"، وسوف نتكلم في هذا الدرس عن جملة من المسائل، وسوف نتحدث عن صريح الطلاق، والمقصود به، وإذا ادعى الزوج أنه نوى به معنى آخر؛ فما الحكم في ذلك؟ ثم ننتقل للكلام عن كنايات الطلاق، وأقسامها عند الفقهاء، والكنايات الظاهرة، والكنايات الخفية، ومتى يقع بها الطلاق؟ وإذا وقع؛ فكم طلقة تقع؟ وسوف نتكلم عن مسألة كتابة الطلاق، وهل تأخذ حكم الصريح أم تأخذ حكم الكناية؟ وسنتكلم عن تخيير الرجل امرأتَه، وهل يعد هذا طلاقا؟
لعلنا في بداية هذا الدرس نقرأ عبارة المؤلف -رحمه الله-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
باب صريح الطلاق وكنايته
صريحه: لفظ الطلاق، وما تصرف منه؛ كقوله: أنت طالق، أو مطلقة، أو طلقتك. فمتى أتى به؛ طلقت، وإن لم ينوه، وما عداه مما يحتمل الطلاق؛ فكناية لا يقع به الطلاق إلا أن ينويه. فلو قيل له: ألك امرأة؟ قال: لا، ينوي الكذب؛ لم تطلق. وإن قال: طلقتها؛ طلقت، وإن نوى الكذب. وإن قال لامراته: أنت خلية، أو برية، أو بائن، أو بتة، أو بتلة، ينوي طلاقها؛ طلقت ثلاثا إلا أن ينوي دونها.
وما عدا هذه يقع به واحدة إلا أن ينوي ثلاثا. وإن خير امرأته، فاختارت نفسها؛ طلقت واحدة. وإن لم تختر، أو اختارت زوجها؛ لم يقع شيء. قالت عائشة -رضي الله عنه- "قد خيرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ أفكان طلاقا؟!" وليس لها أن تختار إلا في المجلس إلا أن يجعله لها فيما بعده. وإن قال لها: أمرك بيدك، أو طلقي نفسك؛ فهو في يدها حتى يفسخ، أو يطأ) .(1/1)
صريح الطلاق عرفه المؤلف بأنه: لفظ الطلاق، وما تصرف منه. وبعبارة أخرى هو: ما لا يحتمل غير الطلاق. هذا هو المقصود بصريح الطلاق. ومثل له المؤلف بأمثلة؛ قال: كقوله: أنت طالق، أو مطلقة، وطلقتك، ونحو ذلك؛ أي لفظ الطلاق وما تصرف منه؛ فعندما يقول: أنت طالق، أو أنت مطلقة، أو طلقتك، أو أي عبارة مشتقة من الطلاق بهذا اللفظ؛ أي تكون باسم مفعول لا غيره؛ كاسم الفاعل.
فهذا يسميه العلماء صريح الطلاق. ويقع به الطلاق اتفاقا. ولهذا قال المؤلف: ( متى أتى به بصريح الطلاق؛ طلقت). وقد نقل الاتفاق غير واحد من أهل العلم؛ قال الخطابي -رحمه الله-: اتفق عامة أهل العلم على أن صريح الطلاق إذا جرى على لسان الإنسان البالغ العاقل؛ فإنه مؤاخذ به، ولا ينفعه أن يقول: كنت لاعبا، أو هازلا، أو لم أنو طلاقا.
إذن إذا أتى بالطلاق بصريحه؛ وقع الطلاق باتفاق أهل العلم. لكن لو ادعى الزوج معنى آخر؛ قال: إنه قد قال لزوجته: أنت طالق لكنه يقصد: طالقة من وثاق، أو من حبل، أو قال: أنا أقصد أنت طالق من زوجك السابق، وكانت مطلقة، ثم تزوج بها، أو قال: أنا أردت أن أقول: طاهر؛ فأخطأت، وقلت: طالق، أو قال: أردت أن أقول: طلبتك؛ فقلت: طلقتك.
فهل تقبل منه هذه الدعوة أم لا تقبل؟
عند جماهير العلماء أن دعواه لا تقبل حكما، ولكنها تقبل ديانة.
وإذا قلنا: لا تقبل حكما، وإنما تقبل ديانة ماذا نقصد بهذه العبارة؟
حكما؛ أي: عند القاضي، وديانة؛ أي: فيما بينه وبين الله.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه كما يقبل ديانة؛ فإنه يقبل حكما. وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. لكنهم قالوا: إلا في حال غضب، أو سؤالها؛ فلا يقبل قولا واحدا. لكن فيما عدا ذلك؛ أي لم يكن الرجل في حال غضب، ولم يكن في حال سؤالها، وقال لزوجته: أنت طالق، ثم قال: أنا أقصد من زوجك السابق، ولم أقصد أن أطلقك.(1/2)
فالقول الثاني في المسألة أنه يقبل قوله ديانة، وحكما. وهذا رواية عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، واستدلوا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). ولهذا فإن هذا القول أقرب؛ لأن الألفاظ إنما اعتبرت لكونها تعبر عما في القلب.
ونشير هنا إلى مسألة مهمة، وهي طلاق الهازل؛ أي الهازل الذي يكون غير جاد بأن يمازح زوجته، ونحو ذلك. فهل يقع طلاق الهازل؟ فلو أن رجلا قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أنا –والله- أمزح، وما قصدت ذلك؛ فهل يقع طلاقها أم لا؟
نقول: نعم. طلاق الهازل يقع، ويدل على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد؛ النكاح، والطلاق، والرجعة). فذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- من هذه الثلاث الطلاق، وهذا الحديث صحيح؛ أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
فهنا أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الهزل في الطلاق كالجد فيه، ولذلك ذكر الفقهاء أن طلاق الهازل يقع، وقال ابن القيم -رحمه الله-: إن هذا هو قول الجمهور، وقال -موجها لهذا الرأي-: إن الهازل قاصد للقول مريد له، مع علمه بمعناه، وموجبه، وقصد المعنى المتضمن لمعنى الطلاق.
فحينئذ هو قاصد للمعنى، وقد نوى الطلاق، لكنه قال: أنا أردت المزاح، أو أردت الهزل، أو نحو ذلك.
ثم قال المؤلف: (فكنايته لا يقع به الطلاق إلا أن ينويه).
كناية الطلاق هي: ما يحتمل معنى الطلاق، ويحتمل معنى آخر من الألفاظ. فهذا يسميه الفقهاء كناية الطلاق.
هل يقع الطلاق بألفاظ الكناية؟
نقول: لا يقع إلا إذا نوى الطلاق، أما إذا نوى معنى آخر؛ فلا يقع الطلاق.
إذن المرجع بالنسبة لكنايات الطلاق هو نية الزوج، بينما في صريح الطلاق الجمهور لا يرجعه لنيته بل يرجعه إلى لفظه. لكن في كناية الطلاق المرجع إلى نية الزوج؛ فلو نوى بكناية الطلاق طلاقا؛ وقع، وإلا؛ فلا.(1/3)
ويقسم الفقهاء كناية الطلاق إلى قسمين: كنايات ظاهرة، وكنايات خفية.
الكنايات الظاهرة: هي الألفاظ الموضوعة للبينونة.
والكنايات الخفية: الألفاظ الموضوعة لطلقة واحدة ما لم ينو أكثر.
أشار المؤلف لهذين القسمين؛ فقال: (لو قيل له: ألك امرأة؟ قال: لا، ينوي الكذب؛ لم تطلق. فإن قال: طلقتها؛ طلقت، وإن نوى الكذب).
ثم بعد ذلك دخل في الكلام عن كنايات الطلاق، قال: (وإن قال لامرأته: أنت خلية).
قوله: "وإن قال لامرأته أنت خلية". هنا بدأ المؤلف في الكلام عن القسم الأول من كنايات الطلاق، وهو الكنايات الظاهرة، وسميت ظاهرة؛ لأن معنى الطلاق فيها أظهر. ومثل لها المؤلف بأمثلة؛ قوله: (أنت خلية، أو برية، أو بائنة، أو بتة، أو بتلة ينوي بها طلاقها).
ما معنى خلية؟
خلية: معناها -في الأصل- الناقة تطلق من عقالها. والخلية من النساء هي الخالية من الزوج. فإذا قال: أنت خلية؛ فتحتمل معنى الطلاق، وتحتمل معنى آخر. فإذا نوى الطلاق؛ فإن الطلاق يقع.
قال: أو برية. ما معنى برية؟
ويقال بريئة، معناها: البراءة من النكاح. وهذا يقتضي الخلو من النكاح؛ فيفيد معنى الطلاق ويقع به الطلاق إن نواه.
قال: أو بائن.
البائن: من البين، وهو: الفراق؛ أي: منفصل، أومفارق لك.
أو بتة. البتة: من البتر، وهو القطع؛ أي: مقطوعة من النكاح.
أو بتلة. من البتل، وهو قطع الوصل، ويقال: منقطعة؛ لذلك سميت مريم -عليها السلام- بالبتول؛ لانقطاعها عن النكاح.
أفادنا المؤلف في قوله: "ينوي بها طلاقها؛ طلقت ثلاثا، إلا أن ينوي دونها"؛ فأفاد أنه يُشترط لوقوع الطلاق بهذه الألفاظ النيةُ؛ ولذلك قال: "ينوي بها طلاقها". لكن لو نوى بها معنى آخر؛ لا يقع الطلاق.(1/4)
هذه الكنايات الظاهرة تطلق بها المرأة ثلاثا؛ لأنها تفيد البينونة إلا أن ينوي دونها. وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يقع ما نواه. والقول الأول أنه يقع ثلاثا. قالوا إنه رُوي عن بعض الصحابة أنه يقع ثلاثا؛ كعلي، وابن عمر، وزيد -رضي الله عنهم-.
والقول الثاني في المسألة أنه يقع بالكناية الظاهرة ما نواه، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، واختاره أبو الخطاب، وجماعة من أهل العلم. واستدلوا لذلك بما أخرجه الترمذي وصححه؛ أن ركانة طلق امرأته البتة. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أردتَ إلا واحدة؟!)؛ فقال ركانة: ما أردتُ إلا واحدة؛ فردها إليه.
هو قد استخدم بتة. وبتة من كنايات الطلاق الظاهرة. ولهذا؛ فإن هذا القول هو الأقرب -والله أعلم-.
فالأقرب هو خلاف ما ذهب إليه المؤلف. الأقرب أن يقال إنه -في كنايات الطلاق الظاهرة- يقع ما نواه؛ فإن نوى واحدة؛ وقع واحدة، وإن نوى ثنتين؛ وقع ثنتين، وإن نوى ثلاثة؛ وقع ثلاثا. أما المؤلف يقول تطلق ثلاثا إلا أن ينوي دونها. والصواب أنه يقع ما نواه. والمذهب عند الحنابلة أنه يقع ثلاثا.
لكن عبارة "زاد المستقنع" قال: ويقع مع النية الظاهرة ثلاثا وإن نوى واحدة. بينما عبارة "الموفق" –هنا- قال: طلقت ثلاثا إلا أن ينوي دونها. ففرق بين العبارتين؛ فعبارة صاحب الزاد يقول: يقع ثلاثا حتى ولو نوى واحدة؛ فيقع ثلاثة. وهذا هو المذهب. بينما القول الآخر أنه تطلق ثلاثا إلا أن ينوي دونها.
القسم الثاني: الكنايات الخفية:
وأشار إليها المؤلف بقوله: وما عدا هذا يقع واحدة إلا أن ينوي ثلاثا.
والكنايات الخفية نحن عرفناها وقلنا: هي الألفاظ الموضوعة لطلقة واحدة ما لم ينو أكثر.(1/5)
والمؤلف لم يذكر أمثلة لكن نذكر نحن أمثلة للكنايات الخفية. قالوا: نحو اخرجي، أو اذهبي، أو ذوقي، أو استبرئي، أو الحقي بأهلك، أو لا حاجة لي فيكِ، ونحو ذلك. فهذه يسمونها كنايات خفية؛ أي أن معنى الطلاق فيها ليس ظاهرا. لكنها تحتمل معنى الطلاق فإذا نوى الزوج بها الطلاق؛ وقع.
نرجع بعد ذلك للحكم هل يقع واحدة أم يقع أكثر؟
قال المؤلف: (يقع به واحدة إلا أن ينوي به ثلاث)؛ أي يقع ما نواه. وبناء على القول الراجح الذي اخترناه نقول: إن كناية الطلاق يقع بها ما نواه سواء كان كناية ظاهرة أو خفية، فلا نفرق. بينما المذهب عند الحنابلة يفرقون بين الكنايات الظاهرة؛ فيقولون يقع بها ثلاثا وإن نوى واحدة. بينما الكنايات الخفية يقع ما نوى. وعلى القول الراجح يقع ما نوى سواء كانت الكنايات ظاهرة أم كانت خفية فيقع ما نوى.
جاء في قصة الثلاثة الذين خُلفوا، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يعتزلوا نساءهم. فإن هؤلاء الثلاثة صدقوا الله -عز وجل- ولم يكذبوا كما كذب المنافقون. فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهجرهم من باب معاتبتهم. وهذا الهجر لأجل الإصلاح، ولا بأس به حتى وإن كان أكثر من ثلاثة أيام؛ فلو كان هجرك لإنسان ينفع معه، ويصلحه؛ فلا بأس به، ولو كان أكثر من ثلاثة أيام.
فهجرهم النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى إنه لم يكن يرد عليهم السلام، وهجرهم الصحابة. والشاهد من القصة أمرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- هؤلاء الثلاثةَ بأن يعتزلوا نساءهم. قال كعب بن مالك: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك.(1/6)
الحقي بأهلك هذه كناية من كنايات الطلاق. لكن هل كان كعب يقصد طلاقها؟ ما كان يقصد طلاقها، ولكن كان يقصد أن تبقى عند أهلها إلى أن يقضي الله في هذا الأمر. ولذلك فالحقي بأهلك هي من كنايات الطلاق الخفية التي تحتمل معنى الطلاق، وتحتمل غيره. فإن نوى بها الطلاق؛ وقع طلاقا، وإن لم ينو بها الطلاق؛ فإنه لا يقع، وهكذا سائر كنايات الطلاق.
نعود لعبارة المؤلف قال: ( فإن قيل له: ألك امرأة؟ قال: لا. ينوي الكذب؛ لم تطلق. فإن قال: طلقتها؛ طلقت، وإن نوى الكذب). قوله: إن قيل: ألك امرأة؟ قال: لا. فهذه محتملة ومن كنايات الطلاق. فيحتمل أن يريد بها معنى آخر. ولذلك إن كان يقصد الكذب في هذا؛ فإنه لم ينو طلاقا؛ ولذلك فإنه لا يقع الطلاق. لكن لو قال: طلقتها؛ طلقت؛ لأن هذه من الألفاظ الصريحة فيقع بها الطلاق.
ننتقل بعد ذلك إلى مسألة التخيير. قال: (وإن خَيّر امرأته، فاختارت نفسها؛ طلقت واحدة. وإن لم تختر، أو اختارت زوجها؛ لم يقع شيء). أي لو قال لامرأته: اختاري؛ فخَيّرها بين أن تبقى معه زوجة، وبين أن يطلقها؛ فاختارت الطلاق = اختارت نفسها؛ فإنه يقع طلقة واحدة.
قال: (وإن لم تختر، أو اختارت زوجها؛ لم يقع شيء.)؛ أي: إن قالت: لا، أنا أريدك؛ فإنه لا يقع الطلاق، أو أنها سكتت، ولم تختر شيئا؛ فإنه لا يقع طلاقها. قالت عائشة: قد خيرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفكان طلاقا؟!
وتخيير النبي -صلى الله عليه وسلم- لنسائه حصل في قصة عظيمة نحتاج إلى أن نقف معها وقفات؛ فهي قصة مؤثرة، وفيها دروس، وفوائد، وأحكام. فنريد أن نقف معها بعد أن ننتهي من عبارة المؤلف، ثم نرجع للحديث عن هذه القصة.(1/7)
قال: (وليس لها أن تختار إلا في المجلس إلا أن يجعله لها فيما بعده.) يعني إذا خير الرجل امرأته؛ فإنها تختار وهي في المجلس. إما أن تختار نفسها؛ فتطلق طلقة واحدة، وإما أن تختار زوجها، وإما أن تسكت، فلا تختار؛ فلا يقع شيئا. لكن لا بد أن يكون هذا في المجلس. إلا أن يجعله لها فيما بعده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة التخير قال لعائشة: (إني ذاكر لك أمرا فلا عليكِ أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويكِ).
(وإن قال: أمرك بيدك، أو طلقي نفسك؛ فهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ).
إن قال: أمرك بيدك، أو طلقي نفسك؛ فهو في يدها؛ فكأنه وكلها في تطليق نفسها. ويجوز للزوج أن يوكل امرأته في تطليق نفسها. فإذا قال: أمرك بيدك؛ فمعنى ذلك أنه وكلها في تطليق نفسها، فيقول متى ما شئت طلقي نفسك.
هل هذا يصح؟
نعم.
هل للرجل أن يوكل امرأة في تطليق زوجته؟
نعم.
لماذا؟
لأنه يصح الطلاق بالوكالة.
لأنه إذا جاز أن يوكل المرأة في تطليق نفسها؛ فلأن يجوز توكيل غيرها في تطليقها من باب أولى. فالوكالة في الطلاق بابه واسع.
بقيت معنا مسألة من المسائل المهمة وهي: الكتابة = كتابة الطلاق.
هل كتابة الطلاق من قبيل الصريح أم من قبيل الكناية؟
يعني لو أن رجلاً أرسل لزوجته رسالة عن طريق الهاتف المنقول وقال لها: أنت طالق. فهل يقع الطلاق؟
رجل كتب هذه الرسالة وهو جاد أو كتبها وهو مازح لها. هل يقع الطلاق أم لا؟
هذا يقودنا إلى مسألة وهي كتابة الطلاق. هل هي من قبيل الصريح أم أنها من قبيل الكناية؟
هذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين مشهورين:(1/8)
فمن أهل العلم من قال: إن كتابة الطلاق من قبيل الصريح. وبناء على ذلك من كتب لزوجته: أنت طالق؛ فإن الطلاق يقع حتى وإن كان ممازحا لها، وإن كان هازلا. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة؛ قالوا إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مأمورا بتبليغ الرسالة، وحصل ذلك في حق البعض بالقول، وفي حق الآخرين بالكتابة؛ فدل ذلك على أن الكتابة تقوم مقام القول. وقالوا –أيضا- إن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون، والحقوق. وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة؛ أن كتابة الطلاق من قبيل الصريح.
القول الثاني -في المسألة-: أن كتابة الطلاق من قبيل الكناية، وليست من قبيل الصريح. وهذا القول نسبه الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" إلى جمهور الفقهاء، وقد اختار هذا القول سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى-. وقالوا: إن الله –تعالى- قد أرسل رسوله نذيرا لأمته، ومبلغا برسالته. فلو كانت الكتابة كالكلام الصريح؛ لمكّن الله –تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الكتابة، ولعلمه إياها، ولما كان أميا لا يقرأ. ولهذا فالقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني = أن الكتابة من قبيل الكناية وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله-.
وبناء على ذلك نجيب على السؤال الذي طرحناه بخصوص رسائل الجوال؛ فنقول: إنها بحسب نية الزوج؛ إن قصد بها الطلاق؛ فإنه يقع طلاقا. أما إذا لم يقصد بها الطلاق؛ فإنه لا يكون طلاقا؛ لأن الكتابة هي من قبيل الكناية على القول الراجح، وليست من قبيل صريح الطلاق.
نحن أرجأنا مسألة وهي قصة تخيير النبي -صلى الله عليه وسلم- لأزواجه، وقلنا إنها قصة عظيمة، ومؤثرة، وفيها دروس، وفوائد كثيرة، ونريد أن نربطها بدرس اليوم. والقصة في الصحيحين، ونريد أن نقرأها من "صحيح مسلم".(1/9)
بسم الله الرحمن الرحيم (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ سِمَاكٍ أَبِي زُمَيْلٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ قَالَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا النَّاسُ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى وَيَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرْنَ بِالْحِجَابِ فَقَالَ عُمَرُ فَقُلْتُ لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا لِي وَمَا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَلَيْكَ بِعَيْبَتِكَ قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهَا يَا حَفْصَةُ أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِكِ أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّكِ وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ فَقُلْتُ لَهَا أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ هُوَ فِي خِزَانَتِهِ فِي الْمَشْرُبَةِ فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ فَنَادَيْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي(1/10)
عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ رَبَاحٌ إِلَى الْغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيَّ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ رَفَعْتُ صَوْتِي فَقُلْتُ يَا رَبَاحُ اسْتَأْذِنْ لِي عِنْدَكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا وَرَفَعْتُ صَوْتِي فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ ارْقَهْ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ فَجَلَسْتُ فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ وَمِثْلِهَا قَرَظًا فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ قَالَ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ قَالَ مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ فَقَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا(1/11)
الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا قُلْتُ بَلَى قَالَ وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ حِينَ دَخَلْتُ وَأَنَا أَرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ
?عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ?
?وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?(1/12)
وَكَانَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَحَفْصَةُ تَظَاهَرَانِ عَلَى سَائِرِ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ قَالَ لَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى يَقُولُونَ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى تَحَسَّرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَحَتَّى كَشَرَ فَضَحِكَ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا ثُمَّ نَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلْتُ فَنَزَلْتُ أَتَشَبَّثُ بِالْجِذْعِ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا يَمَسُّهُ بِيَدِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كُنْتَ فِي الْغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ قَالَ إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
?وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ?
فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ).(1/13)
أقول إن هذه القصة هي قصة عظيمة، وفيها دروس وفوائد كثيرة، وتبين لنا أن الحياة الزوجية لا تخلو من منغصات، ومن مشاكل. وهذا هو النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي يعد هو الزوج المثالي، وزوجاته هن أمهات المؤمنين خير الزوجات ومع ذلك حصل ما حصل إلى هذا الدرجة إلى أن يعتزلهن النبي -عليه الصلاة والسلام- شهرا كاملا لا يدخل عليهن، ولا يأكل معهن، ولا يدخل بيوتهن، وإنما اعتزل في مشربة له يؤتى له فيها بالطعام والشراب.
ولما حصل ذلك؛ شاع في المدينة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلق نسائه. وذهب عمر، واستفسر منه في القصة التي سمعناها، ورأى عمر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد أثر الحصير في جنبه، فبكى، وقال: هذا كسرى وقيصر قد وسع الله عليهما، وأنت نبي الله، وخيرته من خلقه وهذه حالك؟! فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال لعمر: أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عُجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟! فقال: استغفر لي يا رسول الله. كأنه رأى أنه بهذه الكلمة قد أساء إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ولهذا قال: استغفر لي يا رسول الله؛ -أي عن هذه الكلمات-.
وعمر -رضي الله عنه- استغرب أن حفصة تراجع النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأنها يحصل بينها وبين النبي هجر لمدة يوم وليلة. فتبين له هذا؛ لأنه كان في مكة كان المهاجرون لا يراجعهم نساؤهم. فلما أتوا المدينة؛ وجدوا أن الأنصار يراجعهم أزواجهن، فأثرن على نساء المهاجرين. ولذلك كان أزواج النبي -عليه الصلاة والسلام- يراجعنه، وربما يهجرنه يوما أو أكثر من اليوم.(1/14)
وبعدما مضى تسعة وعشرون يوما دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- على أزواجه قد أنزل الله تعالى في ذلك: ?إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ?28? وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 28 -29]. فقال لعائشة -كما سمعنا- إني ذاكر لك أمرا، فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويك. ثم قرأ عليها الآية: ?إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ?28? وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا?، فقالت: يا رسول الله!! أوفيك أستأمر أبوي؛ إني –والله- أريد الله، ورسوله، والدار الآخرة. لكنها قالت: لا تخبر نساءك أني قد اخترتك رجاء أن تظفر بالنبي -عليه الصلاة والسلام- لكنهن كلهن -رضي الله عنهن- اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
- أسئلة المحاضرة:
السؤال الأول:
إذا كتب رجل رسالة في الهاتف المنقول بعبارة: أنت طالق، وأرسلها لزوجتها مازحا لها؛ فهل يقع الطلاق؟
السؤال الثاني:
من طلق زوجته في قلبه، ولم يتلفظ بالطلاق؛ فهل يقع طلاقه؟(1/15)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الرابع
الدرس الرابع - باب تعليق الطلاق بالشروط
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب تعليق الطلاق بالشروط
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد.
إجابة أسئلة الدرس الماضي.
السؤال الأول: إذا كتب رجل رسالة في الهاتف المنقول، وكتب عبارة طالق، وأرسلها لزوجته؛ فهل يقع بها الطلاق؟
هذا الرجل كتب رسالة في الهاتف المنقول لزوجته أنت طالق ممازحاً لها فهل يقع الطلاق أم لا يقع؟
وكانت الإجابة: إذا كتب الرجل لزوجته رسالة بعبارة أنت طالق هازلا؛ فإنه لا يقع طلاقا على الراجح من قول أهل العلم لأنهم اعتبروها من قبيل الكناية والتي يرجع فيها إلى نية الزوج واستدلوا على ذلك بعدم إجزاء من كتب الفاتحة في الصلاة بدلا من أن يقرأها كما قالوا لو كانت الكتابة تقوم مقام القول؛ لمكن الله –تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الكتابة ليبلغ بها رسالة ربه.
نعم. هذه إجابة نموذجية ونشكر الأخت على هذه الإجابة. وكما ذكرت الكتابة القول الصحيح أنها من كناية الطلاق وليست من صريحه، وبناءً على ذلك نحن ذكرنا القاعدة في الكناية وهي أنه لا يقع بها الطلاق إلا إذا نوى الطلاق، وبناءً على ذلك يكون الجواب عن هذا السؤال: من كتب رسالة في الهاتف المنقول لزوجته أنت طالق، ولم يتلفظ بالطلاق؛ فهنا يُعد من قبيل الكناية، فننظر إلى نيته هل نوى الطلاق؟ أم لم ينو الطلاق؟ فإذا كان لم ينو الطلاق؛ فإنه لا يقع طلاقا، لكن لو أوقع الطلاق وقع طلاقا، ونحن قلنا إنه لم ينو الطلاق وإنما أراد بذلك الهزل وأراد بذلك المزاح، وحينئذ لا يقع الطلاق في أرجح قوليْ الفقهاء، وإلا؛ فهناك من الفقهاء -كما هو مشهور من مذهب الحنابلة- من يعتبرون أن الكتابة من صريح الطلاق، وليست من كناية الطلاق، ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يلجأ لمثل هذه الأساليب.(1/1)
فبإمكانه أن يمازح زوجته بأساليب أخرى لكن لا يأتي بهذا الأمر. وفي الحقيقة هذا خطر لأن من العلماء من يرى أن زوجته تطلق في هذه الحال، لهذا ينبغي للإنسان أن يبتعد عن مثل هذا. لكن لو افترضنا أن مثل هذا قد وقع وقد حصل فإن القول الراجح أنه لا يعتبر طلاقا إذا لم ينوه طلاقا لأن الكتابة من كناية الطلاق وليست من صريحه.
إجابة السؤال الثاني: في سؤال من طلق زوجته في قلبه ولم يتلفظ بها.
تقول: لم يقع طلاقه وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به وحدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به) رواه البخاري ومسلم والله أعلم وجزاكم الله خير.
نعم، وأيضا هذه إجابة نموذجية ونشكر الأخت على هذه الإجابة، وسنفتتح بها إن شاء الله –تعالى- درسنا هذا، وأعلق على هذه المسألة في بداية هذا الدرس.
تقول: المجنون لا يصح طلاقه فكيف يصح زواجه؟.
نعم هو يصح زواجه ويكون الولي عنه هو الذي يعقد له ويعقد عنه وهو لا يعقد بنفسه. لكن يعقد عنه وليه خاصة إذا كان ليس جنونا مطبقا، وإنما يعقل معنى الطلاق لكنْ عنده شيء من العته، وعنده شيء من عدم تمام العقل، فوليّه هو الذي يلي أمره في النكاح وفي الطلاق أيضاً.
تقول: أشكل عليها قضية عندما سألتم عن المكلف وأجاب الأخ بأنه مسلم بالغ عاقل تقول: لماذا استُثْنيَ الكافر؟ هل الكافر تقع عليه أحكام المسلمين في الطلاق؟.
لم يُستثن الكافر في الحقيقة، ولو أن الأخت رجعت إلى شرحنا في بداية الطلاق نحن قلنا إن الطلاق إنما يكون من زوج مكلف مختار، ومكلف معناها العاقل البالغ، هو الذي يقع منه الطلاق، بينما لو كان غير عاقل، بأن كان مثلا مجنونا، أو كان صبيا غير مميز؛ فهذا إنما يطلق عنه وليه. والصبي المميز هذا هو الذي محل خلاف بين العلماء هل يقع طلاقه أم لا يقع؟(1/2)
لكن الكافر يصح نكاحه ويصح طلاقه أيضا، والله تعالى قال: ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ?1? مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ?2? سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ?3? وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ? [المسد: 1- 4]، مع أن أبا لهب وامرأته كافران، ومع ذلك سماها الله –تعالى- امرأته؛ فدل ذلك على صحة أنكحة الكفار، فنكاح الكافر يصح وكذلك طلاقه يصح ويقع منه لكن ونحن لم نستثنِ هذا. وإنما قلنا إن الطلاق يقع من المكلف المختار.
السؤال الثالث تقول: في قضية أن السكران يحاسب على ما يذنب قصة حمزة -رضي الله عنه- مع جِمَالِ عليٍّ -رضي الله عنه-..
نحن قلنا إن السكران اختلف العلماء في وقوع طلاقه؛ فمن أهل العلم من قال إن طلاق السكران يقع كما هو المشهور من مذهب الحنابلة. والقول الثاني إن طلاق السكران لا يقع.
ورجحنا هذا القول وقلنا إنه القول الذي رجع إليه الإمام أحمد وكان يقول: "قد كنت أقول إن طلاق السكران يقع حتى تبينتُ؛ فظهر لي أنه لا يقع". وذكرنا أيضا أن السكران يحاسب على أفعاله، ولا يحاسب على أقواله، فأقواله بمثابة الهذيان؛ فلا يحاسب عليها.(1/3)
ومن ذلك الطلاق فلا يقع طلاقه لكن أفعاله يحاسب عليها ويؤاخذ بها ولذلك لو قَتَلَ السكران؛ فإنه يقتص منه، ويؤاخذ كذلك يضمن لو أتلف مالاً فهو يؤاخذ بأفعاله دون أقواله وقلنا إن هذا هو المنقول عن كثير من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، ومما يستدل به على أن السكران لا يقع طلاقه ما جاء في البخاري وغيره في قصة حمزة لما عقر بعيري علي فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وصوب النظر إليه وقال له حمزة: "هل أنتم إلا عبيد لأبي" فهنا لعل السائلة أشكل عليها كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤاخذه بأفعاله وأنتم تقولون أن السكران يؤاخذ بأفعاله؟ نقول: إن هذا كان قبل تحريم الخمر، قبل نزول تحريم الخمر فوقعت هذه القصة ولهذا صعد النبي عليه الصلاة والسلام فيه النظر ولم يؤاخذه بهذه الكلمة ولم يؤاخذه حتى بعقر بعيري علي لأنه كما ذكرنا كان هذا قبل تحريم الخمر، لكن بعد تحريم الخمر استقر الحكم بتحريم الخمر وكذلك أيضا مؤاخذة السكران بأفعاله دون أقواله.
تسأل عن مسألة وهي ما انتشر من قضية قول "عليّ الطلاق" تقول التوجيه في ذلك وهل يعتبر حلفا بالطلاق؟.
نعم هذا هو الطلاق المعلق، وهو ما سنتكلم عنه إن شاء الله في هذا الدرس، وسنفصل الكلام فيه. لكن لعلها قصدت في سؤالها أن بعض الناس يستهين بمسألة الطلاق، وهذا لا شك أنه خطأ كبير بل من التلاعب بحدود الله -عز وجل- أن يجعل الإنسان الطلاق على لسانه يجعله في مدخله، ومخرجه، وفي تهديده وفي إظهار كرمه عندما يريد أن يدعو أحداً يحلف بالطلاق عندما يريد تصديق خبر يحلف بالطلاق عندما يريد الحث على أمر أو المنع من أمر يحلف بالطلاق وهذا كله لا شك أنه خطأ بل هو من التلاعب بحدود الله عز وجل، وهو دليل على رقة الديانة، وقلة الخوف من الله عز وجل، لأن هذا من تعدي حدود الله.(1/4)
ولهذا جاء في حديث محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!). حتى لما رأى الصحابة شدة غضبه يعني جاء في بعض الروايات أن أحدهم قال: (ألا أقتله يا رسول الله؟!) يعني من شدة غضبه عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أن هذا من التلاعب بحدود الله -عز وجل-، فلا ينبغي للإنسان أن يجعل الطلاق على لسانه ويهدد به زوجته ويطلق في كل حين، حتى وإن أُفتي بعدم وقوع الطلاق، ونحن سنبين أن أكثر أهل العلم يرون وقوع الطلاق المعلق، سنبين هذا كله. أقول حتى لو أُفتي بعدم وقوع الطلاق فيبقى أن أكثر أهل العلم يرون وقوع الطلاق، فلماذا يدخل نفسه في الحرج؟ ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يجعل لطلاق على لسانه إطلاقا وإذا احتاج إلى الطلاق فإنه يطلق طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه إذا اتقى الله –سبحانه-؛ فإن الله –تعالى- يجعل له فرجا ومخرجا.
عقبت تقول: هل إذا اعتبرنا هذا الأمر حلفا أو القول علي الطلاق هل يدخل في قضية الحلف بغير الله؟.
نعم هذا كله سنشرحه في هذا الباب، الباب الذي سوف نشرحه في هذا الدرس هو الطلاق المعلق، أو تعليق الطلاق، وهذا سنبينه إن شاء الله بالتفصيل.
الأخ الكريم ذكر مشكلة قضية الوساوس التي تأتيه من الأفكار الشيطانية..
نعم، يعني الوسوسة الحقيقة نوع من المرض، مرض يصيب الإنسان والناس يتفاوتون في هذا المصابون بهذا المرض، منهم من يكون الوسوسة عنده في الطهارة، ومنهم من يكون في الصلاة، ومنهم من يكون في الصيام، ومنهم من يكون في الطلاق ومنهم من يكون في غير ذلك، نحن نجد أن رجالا وحتى أيضا بعض النساء عندهم وسوسة في الطلاق، بعض الرجال يقول : أنا أشك أني طلقت زوجتي، حتى إن بعضهم يقول: ما أقرأ كتاب الطلاق في كتب الفقه، يقول يخشى أنه يقع الطلاق، كل هذا ليس بصحيح.(1/5)
الأصل بقاء النكاح، فلن نعدل عن هذا الأصل إلا بأمر متيقن، وستأتينا هذه المسألة أنه إذا شك في الطلاق بنى على اليقين، الأصل هو بقاء النكاح، ولهذا يذكر أن رجلا كان عنده وسوسة في أمر الطلاق، فأتى إلى عالم من العلماء وقال: إني أشك أني طلقت امرأتي فقال له هذا العالم: بل طلقتها وطلقت وهي ليست في ذمتك بعد، فقال: أبدا لم أطلقها، قال: احلف أنك لم تطلقها فحلف أنه لم يطلقها، قال: إذا أتاك الشيطان فاحلف له كما حلفت لي، يعني تجد أنه عندما يكون هناك عند التحقيق لم يطلق، لكن هذه مجرد وساوس لا يلتفت لها، المطلوب منه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ربي أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون، وأن يعرض عنها أيضا، وهو مأمور بتقليد العلماء فإذا قال العلماء له: إن الطلاق لا يقع فينبغي أن يلتزم هذا القول وأن لا يقلق نفسه؛ لأن هذه الوساوس في الحقيقة تسبب قلقا وتكدر عليه حياته وربما تثبطه عن الطاعة وهذا الذي يريده الشيطان، الشيطان يريد إحزان المؤمنين ? إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ? [المجادلة: 10].(1/6)
أنا أذكر أن رجلا اتصل بي مرة من المرات بعد الظهر وقال: إنه كان رجلا مستقيما وأنه غلبته الوساوس وأنه إلى الآن ما صلى الفجر، يعني انظر أن الشيطان لعب به حتى ترك صلاة الفجر حتى خرج وقتها، ثم الآن هو يعالج هذه الوسوسة وهو في صلاة الظهر، فأحيانا تصل هذه الوساوس إلى مرحلة متقدمة تؤدي إلى الوسواس القهري، لكن إذا غلبت الوساوس على الإنسان ووصلت مرحلة متقدمة فالذي أرى أنه ينبغي أن يستشير الإنسان طبيبا نفسيا لأنها قد وصل إلى مرحلة الوسواس القهري، وأصبحت المسألة حالة مرضية قد أخبرنا بعض الإخوة الأفاضل من الأطبة النفسيين أن لهم عندهم علاجا لمثل هذا عندهم عقاقير وعلاج يعالجون بها هذه الوساوس وأن هذا الإنسان إذا استمر مع الطبيب النفسي واستمر بأخذ هذه العلاجات تذهب عنه هذه الوساوس لأنه أحيانا يكون سبب هذه الوساوس اختلالا في الأمور النفسية وهذه أمور يعرفها الأطبة.(1/7)
وقد شرح لنا بعض الأطباء النفسيين شيئا من هذا، هو في بداية الأمر يمكن أن يسلك معه مسلك الإقناع وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأن يعرض عنه، لكن إذا وصل إلى مرحلة متقدمة فالذي أنصح به أن يذهب إلى طبيب نفسي لكي يعطيه علاجا؛ لأنه قد أصبح الآن مريضا وقد يتسبب في أمور لا تحمد عقباها بل إنه ربما لو ترك الأمر واستمر في هذه الوساوس ينتقل به الأمر إلى الوسواس القهري ثم ربما ينتقل به في مرحلة من المراحل إلى الجنون، ولهذا عليه أن يتدارك نفسه. لكن نقول بكل حال ينبغي أن يستحضر من أتته هذه الوساوس أنها من الشيطان الرجيم ليستعيذ بالله من الشيطان ومن الشياطين رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون، وأن يكون عنده قوة إرادة أيضا، يكون عنده قوة إرادة يعالج نفسه بنفسه فهذه الوسوسة في الطلاق تعتري كثيرا من الرجال الحقيقة أقول الكثير لأنه ترد علينا أسئلة في هذا وأيضا حتى بعض النساء، يعني بعض النساء تشك أن زوجها طلقها وتبدأ في وساوس وفي كذا، فنقول هذا هو العلاج الذي ينبغي أن يسلك مع هؤلاء، ويعالجوا أنفسهم بأنفسهم، لكن لو أن الأمر قد استعصى بالنسبة لهم يستعينون ببعض الإخوة من الأطباء النفسيين.(1/8)
قبل أن نبدأ في قراءة عبارة المؤلف بقي معنا مسألة كنا قد طرحنا فيها سؤالا وهي: من طلق زوجته في قلبه ولم يتلفظ بالطلاق، وردتنا الحقيقة إجابات من بعض الإخوة والأخوات وكانت إجابات صحيحة، نعم من طلق زوجته في نفسه ولم يتلفظ بالطلاق فإن الطلاق لا يقع، حتى لو جزم بتطليق زوجته في نفسه، والدليل لذلك هو ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) حديث النفس مما عفا الله تعالى فيه عن هذه الأمة، كون الإنسان يحدث نفسه مهما كان حديث النفس فإنه لا يؤاخذ به إلا إذا عمل به أو تكلم، أما إذا لم يعمل به ولم يتكلم فإنه لا يؤاخذ به، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده، أن حديث النفس لا يؤاخذ به الإنسان، ولهذا حتى لو طلق زوجته في نفسه فإن الطلاق لا يقع ما دام أنه لم يتلفظ به، فلا بد من التلفظ به بأن يحرك لسانه ويتلفظ أيضا بالحروف لا تكفي حركات اللسان، يحرك لسانه ويتلفظ بالحروف ويكون ناويا الطلاق، فحينئذ يقع الطلاق، ولذلك لو أن رجلا في صلاته لم يتلفظ بقراءة الفاتحة وإنما قرأها في نفسه من غير أن يتلفظ بها فإنه لا تصح صلاته، يعني هذه في الحقيقة ليست قراءة للفاتحة، هذا مجرد تفكير هو يفكر الآن في الفاتحة ما قرأها، لا بد من التلفظ يحرك اللسان لا بد من التلفظ يعني إخراج الحروف ينطق الحروف، واختلف العلماء هل يشترط إسماع نفسه أم لا يشترط ؟(1/9)
الصحيح أنه لا يشترط إسماع نفسه لكن لا بد من التلفظ بقراءة الفاتحة. أما مجرد أنه لا يحرك لسانه ولا يتلفظ بالفاتحة ويقرأها في نفسه هذا لا تصح صلاته، لأنه لم يقرأ الفاتحة في الحقيقة بل حتى قراءة القرآن تجد بعض الناس يأخذ المصحف ويبدأ يقرأ القرآن نظرا ولكن لا يتلفظ. بعينه هذا ليست قراءة في الحقيقة هذا مجرد نظر، لعله يتأمل أو يتدبر لكن إذا أراد أن يُثاب على تلاوة القرآن ومن قرأ حرفا فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا بد من أن يتلفظ بلسانه هذا أمر لا بد منه في جميع الأمور، هكذا أيضا نقول في الطلاق، لا يقع الطلاق إلا إذا تلفظ بالطلاق بلسانه.
هل يشترط أن يُسمع من حوله؟.
لا يُشترط أن يسمع لا يسمع زوجته ولا غيرها، لكن إذا تلفظ فنطق بلفظ الطلاق، قال: هي طالق أو زوجته طالق أو أي عبارة بهذا المعنى وقع الطلاق، أما مجرد أنه حديث النفس لكنه لم يتلفظ به فإن الطلاق لا يقع.
نحن وصلنا إلى باب تعليق الطلاق بالشرط. فنبدأ أولا بقراءة عبارة المؤلف -رحمه الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المصنف رحمه الله: (
باب تعليق الطلاق بالشروط
يصح تعليق الطلاق، والعتاق بشروط بعد النكاح، والملك، ولا يصح قبله).
وفي بعض النسخ (بالشرط) وفي بعضها (بالشروط) والمعنى لا يختلف.
(يصح تعليق الطلاق، والعتاق بشروط بعد النكاح والملك، ولا يصح قبله. فلو قال: إن تزوجت فلانة؛ فهي طالق، أو إن ملكتها؛ فهي حرة، فتزوجها، أو ملكها؛ لم تطلق، ولم تعتق. وأدوات الشرط ست: إن، وإذا، وأي، ومن، ومتى، وكلما. وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا كلما. وكلها إذا كانت مثبتة؛ ثبت حكمها عند وجود شرطها. فإذا قال: إن قمت؛ فأنت طالق، فقامت؛ طلقت، وانحل شرطه. وإن قال: كلما قمت؛ فأنت طالق؛ طلقت كلما قامت. وإن كانت نافية؛ كقوله: إن لم أطلقك فأنت طالق؛ كانت على التراخي إذا لم ينو وقتا بعينه، فلا يقع الطلاق إلا في آخر أوقات الإمكان.(1/10)
وسائر الأدوات على الفور، فإذا قال: متى لم أطلقك؛ فأنت طالق، ولم يطلقها؛ طلقت في الحال. وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها فيه ثلاثا ولم يطلقها؛ طلقت ثلاثا، إن كانت مدخولا بها. وإن قال: كلما ولدت ولدا؛ فأنت طالق، فولدت توأمين؛ طلقت بالأول، وبانت بالثاني؛ لانقضاء عدتها به، ولم تطلق به. وإن قال: إن حضت، فأنت طالق؛ طلقت بأول الحيض. فإن تبين أنه ليس بحيض؛ لم تطلق به. وإن قالت: قد حضت فكذبها؛ طلقت. وإن قال: قد حضت، فكذبته؛ طلقت بإقراره. وإن قال: إن حضت؛ فأنت وضرتك طالقتان، فقالت: قد حضت فكذبها؛ طلقت دون ضرته).
نعم، قال المؤلف رحمه الله: (باب تعليق الطلاق بالشرط) معنى تعليق الطلاق بالشرط: أن لفظ الطلاق يعلقه بأداة من أدوات الشرط، كما مثل المؤلف بأمثلة: (إن قمت؛ فأنت طالق) إن ذهبت إلى المكان الفلانِيّ فأنت طالق. إن دخل شهر رمضان؛ فأنت طالق ونحو ذلك.
فهذا هو المقصود بتعليق الطلاق؛ أن يعلق الطلاق إما بوقت، أو بفعل تفعله هي، أو بفعل يفعله هو، أو غيره. فهذا هو المقصود بتعليق الطلاق، يقول المؤلف: (يصح تعليق الطلاق والعتاقة بشرط) يعني بأداة من أدوات الشرط، (بعد النكاح والملك) يعني اشترط المؤلف لصحة تعليق النكاح بالشرط أن يكون ذلك بعد النكاح، أما إذا كان قبل النكاح فإنه لا يصح، ولهذا قال: (ولا يصح قبله) فلو قال: إن تزوجت فلانة؛ فهي طالق، أو إن ملكتها فهي حرة فتزوجها أو ملكها لم تطلق ولم تعتق.(1/11)
سبق أن ذكرنا لهذا دليلا في أول كتاب الطلاق، لَمّا قلنا: إنه يشترط لصحة الطلاق أن يكون من زوج. وقلنا: إن طلق قبل أن يتزوج فإنه لا يقع طلاقه. لو قال: إن تزوجت؛ فامرأتي طالق، فإنه لا يقع، أو قال: عليّ الطلاق أن أفعل كذا ولم يفعل يعني حنث وهو غير متزوج، وهذا يفعله بعض الشباب تجد شابا لم يتزوج يحلف بالطلاق يقول: علي الطلاق أن أفعل كذا، ثم لا يفعله، أو علي الطلاق أن تفعل كذا، فقلنا: إنه لا يقع الطلاق في هذه الحال، لكن ذكرنا لهذا دليلا. من يذكر الدليل؟ ذكرنا الدليل على أنه لا يصح الطلاق إلا من الزوج.
(إنما الطلاق لمن أخذ بالساق).
نعم. أحسنت، قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، وأيضا: (لا طلاق قبل النكاح). وأيضا: حديث عمرو بن شعيب: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لم يملك) وقلنا: إن كل هذه الأحاديث تدور بين أن تكون حسنة أو صحيحة. فهذه الأدلة تدل على أن الطلاق لا يقع إلا من الزوج. وبناءً على ذلك لو طلق قبل أن يتزوج؛ فإن الطلاق لا يقع، بل حتى لو قال: إن تزوجت فلانة؛ فهي طالق فإن الطلاق لا يقع.
ننتقل بعد ذلك إلى مسألة مهمة جدا وهي مسألة الطلاق المعلق، هل يقع الطلاق المعلق أم لا يقع؟
الطلاق المعلق إن قصد الزوج إيقاع الطلاق؛ فإنه يقع؛ فلو قال لزوجته: إن ذهبت إلى المكان الفلاني؛ فأنت طالق وهو ينوي بذلك طلاقها. يعني يريد أنها إن ذهبت للمكان الفلاني فقد طابت نفسه منها، ولا يريدها، ولذلك فهو قد قصد الطلاق، فهنا يقع الطلاق بالاتفاق. إن قال: إن ذهبت إلى المكان الفلاني فأنت طالق وهو يقصد الطلاق فإن الطلاق يقع.
لكن إذا لم يقصد الطلاق، وإنما قصد الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب.(1/12)
الحث: يريد حث زوجته على أمر من الأمور؛ فقال: إن لم تفعلي هذا الأمر؛ فأنت طالق. وهو لا يقصد الطلاق، ولا خطر بباله أنه يطلق امرأته، لكنه قصد حثها على فعل هذا الأمر، أو أراد منعها من أمر من الأمور؛ إن ذهبت إلى المكان الفلاني فأنت طالق، لم يخطر بباله أن يطلق زوجته ولم يقصد طلاقها لكنه قصد منعها من الذهاب للمكان الفلاني.
أو التصديق: يريد أن يؤكد خبرا فقال: عليّ الطلاق إن كان هذا الخبر غير صحيح.
أو التكذيب: يريد أن يكذب خبرا فقال: عليّ الطلاق إن كان هذا الخبر صحيحا.
فهل يقع الطلاق أم لا يقع؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول -وهو قول جماهير العلماء = قول أكثر أهل العلم وهو الذي عليه المذاهب الأربعة؛ الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة-: بأن الطلاق يقع، ويقولون: في هذه الصور –كلها- الطلاق يقع.
والقول الثاني -وهو قول في مذهب أحمد-: أنه إذا لم ينو الطلاق، وإنما قصد به حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا؛ فإن الطلاق لا يقع. وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.(1/13)
والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). وهذا الرجل لم ينو الطلاق، ولم يقصد الطلاق، وإنما قصد حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا. وسبق أن قلنا في درس سابق إن الألفاظ إنما اعتبرت؛ لأنها تدل عما في المراد، وتدل عما في الضمير. فإذا كان هذا الرجل يقول: إنني لم أنو الطلاق –أصلا- وإنما قصدت حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا؛ فيقولون: إنه لا يقع الطلاق. ولكن يأخذ حكم اليمين، ويدخل في عموم قول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?1? قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ? [التحريم: 1، 2]؛ فيكون عليه كفارة يمين ولا يقع الطلاق. هذا هو القول الثاني في المسألة.
وهذا القول الثاني هو الأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- = أن الطلاق لا يقع، وهو الذي استقر عليه الأمر في المملكة العربية السعودية وأصبحت عليه الفُتْيا عندنا؛ أن الطلاق لا يقع، وإنما يكون فيه كفارة يمين حسب نيته إذا نوى طلاقا؛ فيقع طلاقا. لكن إذا لم ينو الرجل الطلاق، ويقول: لم يخطر ببالي الطلاق –أصلا-، لكن إن قصد حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا؛ فالقول الراجح -وهو الذي عليه الفُتْيا -عندنا في المملكة- أنه لا يقع الطلاق وإنما عليه كفارة يمين.
لكن ينبغي –أيضا- إشاعة القول الأول -وهو قول الجمهور-؛ لأنه –الآن- لما استقر الفُتْيا على هذا القول؛ أصبح كثير من الناس لا يعرف القول الأول رغم أنه قول أكثر أهل العلم، وقول جمهور العلماء.(1/14)
أقول: حتى وإن قلنا بالقول الثاني = أن الطلاق لا يقع؛ إلا أنه ينبغي إبراز القول الأول؛ حتى لا يتساهل الناس في الطلاق. فيقال –مثلا- لمن دعا ضيفا لوليمة، وحلف بالطلاق، ولم يجبه هذا الضيف؛ نقول: إن امرأتك قد طلقت عند جماهير العلماء. كذلك أيضا من حلف بالطلاق لتصديق، أو تكذيب، أو حث، أو منع؛ فنقول: إن امرأتك قد طلقت في قول أكثر أهل العلم بل المذاهب الأربعة؛ الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
فينبغي إبراز هذا القول؛ حتى لا يتساهل الناس في هذا الأمر، ولا يقول أحد ما يلزمني إلا كفارة يمين، ولا تطلق زوجتي، ولذلك فالناس يتساهلون، ويستمرون في هذا الأمر. وأرى في مثل هذه المسألة حتى في مسألة الطلاق المعلق أنه ينبغي ألا يفتي فيها أيّ أحد، وإنما تحال المسألةُ على المحاكم الشرعية، وعلى كبار العلماء عندنا في المملكة في دار الإفتاء؛ ذلك أن مسائلَ الطلاق مسائلُ تحتاج -في الحقيقة- إلى دراسة لِلَفظ الْمُطلق، وقصده، ونيته وحالته النفسية من جهة الغضب؛ هل غَضْبَتُه شديدة أم لا؟ وحالة المرأة من جهة الحيض، وعدمه. كل هذه المسائل تحتاج إلى دراسة، ثم إذا كان الرجل متساهلا في الطلاق؛ فيحتاج إلى من يعظه. وربما عليه أن يتعب هذا المُطلق؛ ليكون في هذا التعب نوعٌ من التأديب له، ويكون هذا أسلوبا تربويّا.(1/15)
أما إذا كان الإنسان يحلف بالطلاق في مدخله، ومخرجه، وفي كلامه، وربما أنه في كل يوم يطلق، ثم يجد من يُفتيه بأن الطلاق لا يقع، وإنما عليه كفارة يمين؛ فهذا -في الحقيقة- يجعله يستمر في هذا الأمر، ولذلك ينبغي ألا يُتَعَجّلَ في الفتيا في مسائل الطلاق. بل أرى أنه لا يُفْتَى في مسائل الطلاق عَبْرَ وسائل الإعلام ولا عن طريق الهواتف، وإنما يُفتي فيها كبار العلماء؛ إما في دُور الإفتاء، أو في المحاكم الشرعية حتى لا يَتعجّل الناس في أمر الطلاق، وحتى يتثبتوا؛ لأنه يترتب على الطلاق مصيرُ أسرة كاملة. ربما يكون له من هذه المرأة أولاد، وربما –أيضا- يترتب عليه استحلال فروج؛ فيترتب على هذا أمور عظيمة.
ولهذا نقول: حتى في مسائل الطلاق المعلق وإن رجحنا هذا القول لكن إذا وقع مثل هذا؛ فينبغي ألا يُتعجّل في الفتيا بعدم وقوع الطلاق، وأن عليه كفارة يمين، وإنما يُحال الأمر إلى كبار العلماء؛ لكي يُفتوه ويَعظوه إذا كان ممن يتساهل في أمر الطلاق، ويُبَيّنوا له أن هذا التساهل يُعَدّ من التلاعب بحدود الله -عز وجل-، وأن هذا لا يجوز، وأن امرأته تطلق عند جماهير أهل العلم، وكما ذكرنا في بداية الحلقة أنه لا يَلجأ للطلاق، ويجعله على لسانه إلا إنسان عنده رقة في الديانة، وقلة وَعْي. وكذلك –أيضا- يدل على قلة الخوف من الله -عز وجل-, وإلا فإن هذا الميثاق الغليظ لا ينبغي أن يتساهل فيه الإنسان، ويجعله على لسانه، ويجعله في مدخله ومخرجه؛ إذا أراد أن يكرم ضيفا؛ حلف بالطلاق، إذا أراد أن يؤكد خبرا؛ حلف بالطلاق. هذا من التلاعب بحدود الله -عز وجل-. وهذا أمر لا يجوز، وينبغي للحاضرين معهم في المجلس أن ينكروا عليه إنكارا شديدا، وأن يبينوا له أن امرأته تطلق عند أكثر أهل العلم إذا حنث ولم يوف ما حلف بالطلاق عليه.
ثم قال المؤلف: (وأدوات الشرط ست: إن، وإذا، وأي، ومتى، ومن، وكلما، وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا كلم).(1/16)
هذه الأدوات هي أدوات شرط ليس فيها ما يقتضي التكرار إلا (كلم)؛ فإنها أداة شرط تقتضي التكرار. وكلها إذا كانت مثبتة؛ ثبت حكمها عند وجود شرطها.
ثم وضح المؤلف المقصود بهذه العبارة بالمثال، قال: (فإذا قال: إن قمت؛ فأنت طالق، فقامت؛ طلقت، وانحل شرطه.).
يعني إن قال لزوجته: إن قمت فأنت طالق؛ فإنها تطلق وينحل هذا الشرط. وهكذا لو قال: أي، أو متى، أو من، أو إن. لكن إذا قال: كلما، يعني أتى بأداة الشرط التي تقتضي التكرار. قال: (وإن قال كلما قمت فأنت طالق طلقت كلما قامت).
ومعنى ذلك أنها تطلق ثلاثا، يعني إذا قامت المرة الأولى؛ طلقت الطلقة الأولى، ثم إذا قامت المرة الثانية؛ طلقت الطلقة الثانية، ثم إذا قامت المرة الثالثة؛ طلقت الطلقة الثالثة.
قال ثم ذكر المؤلف تفاصيل -في هذا- نادرة الوقوع. لكنّ الفقهاءَ يذكرونها لأجل أن يكون طالب العلم مُتصوّرا لها حتى إذا وقعت؛ فيكون عنده تصور لهذه المسائل. وإلا؛ فإنها نادرة الوقوع. ولا بأس بأن نأخذها باختصار.
قال: (وإن كانت نافية؛ كقوله: إن لم أطلقك؛ فأنت طالق كانت على التراخي؛ إذا لم ينوِ وقتا بعينه فلا يقع الطلاق إلا في آخر أوقات الإمكان). إذا أتى بهذه العبارة قال: (إن لم أطلقك؛ فأنت طالق) يعني أتى بالنفي، فيقول إن هذا التراخي؛ فهي حينئذ لا تطلق إلا في آخر وقت الإمكان.
ما هو آخر وقت الإمكان؟
قالوا: هو آخر جزء من حياة أحدهما؛ فتطلق إذا أتى بهذه العبارة. إذا لم ينو وقتا بعينه أما لو نوى وقتا بعينه؛ فإن الطلاق يقع في الوقت الذي قد نواه.(1/17)
قال: (وسائر الأدوات على الفور). ثم وضح المؤلف هذا بالمثال؛ قال: (فإذا قال: متى لم أطلقك؛ فأنت طالق، ولم يطلقها؛ طلقت في الحال). يعني إذا أتى بهذه العبارة: متى لم أطلقك؛ فأنت طالق، ولم يطلقها؛ فإنها تطلق في الحال. وإن قال: (كلما لم أطلقك؛ فأنت طالق، فمضى زمن يمكن طلاقها فيها ثلاثا، ولم يطلقها؛ طلقت ثلاثا.) لأنه علق الطلاق على أمر، وقد تحقق.
قال: (إن كان مدخول)، وأما غير مدخول بها سيأتي الكلام عنها.
(وإن قال: كلما ولدت ولدا؛ فأنت طالق، فولدت توأمين؛ طلقت بالأول). أما بالثاني قال: (وبانت بالثاني)؛ لأن الطلاق عند ولادة الثاني قد صادف امرأة قد بانت منه. ولهذا قال المؤلف: (وبانت بالثاني؛ لانقضاء عدتها به، ولم تطلق به.).
وإن قال: (إن حضت؛ فأنت طالق؛ طلقت بأول الحيض.)؛ لأنه علق الطلاق على أمر، وقد تحقق، فإن تبين أنه ليس بحيض؛ لم تطلق؛ لأنه لم يقع، ولم يتحقق ما علق عليه الطلاق.
فإن قالت: (قد حضتُ فكذبها؛ طلقت)؛ لأن العبرة في هذا هو قولُها: والدليل لذلك: قول الله –سبحانه-: ? وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ? [البقرة: 228]. فلولا أن قولهن مقبول؛ ما حرم الله عليهن كتمانَه، ودل ذلك على أن قولهن في مثل هذه الأمور = في مسائل ومسائل الحمل هو المعتبر.
قال: (وإن قال: قد حضتِ، وكذّبتْه؛ طلقت بإقراره؛ لأنه أقر على نفسه بهذا؛ فيقع الطلاق. فإن قال: إن حضت؛ فأنت وضرتك طالقان، فإن قالت: قد حضتُ، فكذبها؛ طلقتْ دون ضرته)؛ لأنها أقرت على نفسها دون ضرتها.
وهذه المسائل نادرة الوقوع. لكن -كما ذكرنا- الفقهاء يذكرونها لأجل أن يكون طالب العلم متصورا لها.
-أسئلة الحلقة:
السؤال الأول: ما رأي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الطلاق المعلق؟ يعني هل يقع أم لا يقع؟ وبم استدل؟
السؤال الثاني: -وهذا السؤال خاص بالمحاضرة القادمة، ونطرحه من أجل شحذ الهمم على البحث-.(1/18)
ما حكم الإشهاد على الرجعة مع ذكر الدليل؟(1/19)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الخامس
الدرس الخامس - باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره
السؤال الأول: ما رأي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الطلاق المعلق؟ وبم استدل؟
السؤال الثاني: ما حكم الإشهاد على الرجعة؟ مع ذكر الدليل.
إجابة السؤال الأول:
رأي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الطلاق المعلق على حالتين:
الحالة الأولى: إن قصد الزوج الطلاق؛ وقع الطلاق باتفاق.
الحالة الثانية: وإن لم يقصد الطلاق؛ فلا يقع الطلاق، وهو قول عند الإمام أحمد وهو ما استقرت عليه الفتيا في المملكة، وهو القول الراجح؛ لأن الزوج هنا لم يقصد الطلاق، وإنما قصد حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا، والدليل قول -النبي صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فهذا الرجل لم ينو الطلاق ولم يقصده، والألفاظ إنما اعتبرت لأنها تدل عما في الضمير أو المراد، فحينئذ لا يقع طلاقه ويكون في حكم اليمين وعليه كفارة اليمين.
نشكر الأخ على هذه الإجابة المستوفية الحقيقة والنموذجية التي لا أستطيع أن أزيد عليها استوفى جميع ما يمكن أن يُقال في الإجابة.
إجابة السؤال الثاني:
حكم الإشهاد على الرجعة قيل: إنه سنة وقيل: يجب الإشهاد، والدليل قوله تعالى: ?وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ? [الطلاق: 2]، وهو رواية عن الإمام أحمد وقال الشيخ تقي الدين: لا تصح الرجعة مع الكتمان بحال.
نعم.. هذا السؤال في الدرس الذي سيشرح اليوم إن شاء الله تعالى يعني لم نشرحه، لكن نريد إجابة أخرى عن الإشهاد.
تقول: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:(1/1)
القول الأول: قول الجمهور من الحنفية والمالكية والجديد من مذهب الشافعي على أن الإشهاد في الرجعة مستحبّ وليس شرطاً، واستدلوا على أن الرجعة حق للزوج، ولا يطالب المرء بالإشهاد على استيفاء حقه، وأما قوله: ?وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ?؛ فحُمِلَ الأمر فيه على الاستحباب مراعاةً لهذا المعنى، لكن هذا الاستحباب متأكد حذراً من الذهول والنسيان، أيضاً قالوا: إن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها بالإجماع؛ لأن الرجعية في حكم الزوجة.
والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد على وجوب الإشهاد؛ لأن فيه سدا لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه واستدلوا بقوله تعالى: ?وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ?، وقال الشيخ تقي الدين لا تصح الرجعة مع الكتمان بحال، وأيضا في تفسير القرطبي والسعدي على أن الإشهاد واجب من أجل قطع النزاع، وتذكير الناس وتنبيه الغافل عن عدد الطلقات، والراجح هو القول الأول للجمهور على أن الإشهاد مستحب وليس شرطاً في الرجعة والله تعالى أعلم.
نعم.. هذه إجابة نموذجية والمسألة محل خلاف بين العلماء والقول الصحيح هو ما عليه جماهير العلماء من أن الإشهاد مستحب وليس واجباً وسنشرح هذه المسألة إن شاء الله بالتفصيل ونذكر الأدلة لها، ونشكر الأخت على هذه الإجابة النموذجية.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد:
فكنا قد وصلنا إلى باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره. ولعلنا أولا كالمعتاد نبدأ بقراءة عبارة المؤلف رحمه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم قال المؤلف رحمه الله: (
باب ما يُختلف به عدد الطلاق وغيره(1/2)
المرأة إذا لم يُدخل بها تَبِيْنُها الطلقة وتحرمها الثلاث من الحُر، والاثنتان من العبد إذا وقعت مجموعة؛ كقوله: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق وطالق وطالق. وإن أوقعه مرتباً؛ كقوله: أنت طالق فطالق، أو ثم طالق، أو طالق بل طالق، أو أنت طالق أنت طالق، أو إن طلقتك؛ فأنت طالق، ثم طلقها أو كلما طلقتك فأنت طالق، أو كلما لم أطلقك فأنت طالق، وأشباه ذلك، وأشباه هذا؛ لم يقع بها واحدة، وإن كانت مدخولا بها وقع بها جميع ما أوقعها، ومن شك في الطلاق أو عدده أو الرضاع أو عدده؛ بنى على اليقين، وإن قال لنسائه: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها؛ أُخرجت بالقرعة، وإن طلق جزءا من امرأته مشاعاً أو معيناً؛ كإصبعها أو يدها طَلُقَت كلها إلا السن والظفر والشعر والريق والدمع ونحوه، لا تطلق به وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة، أو أقل من هذا؛ طلقت واحدة).
في هذا الباب بدأ المؤلف -رحمه الله- بالمرأة غير المدخول بها، وهي التي عقد عليها زوجها، ثم طلقها فبدأ المؤلف بالكلام عنها، قال: (المرأة إذا لم يدخل بها تبينها الطلقة) يعني الطلقة الواحدة تبينها، والدليل لذلك قول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49].
فهذا دليل على أن المرأة غير المدخول بها أنها تكون بائناً بالطلقة الواحدة، ولا عدة عليها بنص الآية وبالإجماع. ومعنى ذلك أنه إذا عقد رجل على امرأة، ثم طلقها؛ فإنها تبين منه يعني أنه لا يملك إرجاعها. بينما لو كانت مدخولا بها؛ فله أن يراجعها كما سيأتي، لكن هذه غير مدخول بها؛ فتبين بهذه الطلقة ولا عدة له عليها. لذلك لو أنه طلقها –مثلا- في أول النهار؛ لها أن تنكح زوجا غيره في آخر النهار؛ لأنه لا عدة له عليها، وقد بانت منه.(1/3)
قال: (تبينها الطلقة وتحرمها الثلاث) يعني أنه إذا طلقها ثلاث تطليقات؛ فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره.
مفهوم كلام المؤلف أن الطلقة الواحدة لا تحرمها على الزوج.
فكيف نوفق بين هذا وبين قولنا: إن الطلقة الواحدة تبينها؟
كيف نوفق بين قول المؤلف: (إن غير المدخول بها تحرمها الثلاث)، وبين ما ذكرنا قبل قليل من أن الطلقة الواحدة تبينها؟
تبين بالطلقة الواحدة؛ فيجوز أن يتزوجها بعقد جديد وصداق جديد، كحال المدخول بها لو طلقها طلقة واحدة ثم أتمت عدتها ثم أراد أن يتزوجها مرة أخرى. أما إذا طلقها ثلاثا على القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد -كما هو رأي المؤلف- فإنها تحرم حتى تنكح زوجا غيره.
طيب.. لو أبانها، ثم أراد أن يتزوجها بعقد ومهر جديد، فهل تُحسب عليه الطلقة الأولى أم لا تحسب؟
تحسب عليه، إذن يوفق بين كلام المؤلف أنه تحرمها الثلاث وتبينها الواحدة.
نقول: إذا طلق غير المدخول بها طلقة واحدة؛ فإنها تبين منه؛ أي أنها لا تحل له إلا بعقد جديد، ومهر جديد، وبرضاها أيضا. لكن لو طلقها ثلاثا؛ فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وما سبق من التطليقات تحسب عليه.
قال: (وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد).
الأصل أن العبد على النصف من الحر في كثير من الأحكام؛ كما ذكر الله –تعالى- ذلك بالنسبة للأمة قال: ?فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ? [النساء: 25]؛ يعني إذا زنت الأمة عليها نصف العقوبة التي تكون على المرأة الحرة، ?فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ?؛ يعني ما على الحرائر من العذاب؛ يعني من عقوبة الزنا.
بالنسبة للطلاق الحر يملك ثلاث طلقات، ونصفها: تطليقة ونصف. ولكن الطلاق لا يتبعض ولذلك يُجبر هذا النصف؛ فيكون للعبد تطليقتان. ولهذا قال المؤلف: (واثنتان من العبد).
قال: (إذا وقعت مجموعة كقوله.. إلخ). نحن قلنا إن غير المدخول بها تبينها الواحدة.(1/4)
كيف تقع الثلاث على غير المدخول بها والواحدة تبينها؟
تبينها؛ كما يقول المؤلف: (إذا وقعت مجموعة)؛ يعني أنت طالق بالثلاث، أو طالق ثلاثا.
فعلى المذهب أنه إذا قال: أنت طالق بالثلاث، أو طالق ثلاثا أنه يقع ثلاثا. وسبق أن بحثنا هذه المسألة في درس سابق، وذكرنا خلاف العلماء فيها وقلنا: إن القول الراجح أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع واحدة، وأن هذا هو الذي عليه كثير من المحققين من أهل العلم وهو الذي عليه الفتيا عندنا في المملكة أنه يقع واحدة، إذا كانت بكلمة واحدة، ونقلنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم أنهما قد اختارا بل نصرا هذا القول. بل إن هذا هو الذي كان عليه الأمر في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي عهد أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر؛ كما جاء ذلك في "صحيح مسلم" عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. ولكن عمر رضي الله عنه قال: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة؛ فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم" فأمضاه عمر على الناس ثلاث تطليقات.
ولكن القول الصحيح أنها تكون طلقة واحدة على ما كان عليه الأمر في عهد -النبي صلى الله عليه وسلم- وفي عهد أبي بكر. وعمر إنما فعل ذلك من باب التعزير فقط؛ لأن الناس قد استعجلوا في طلاق الثلاث بكلمة واحدة؛ فأمضاه عمر عليهم من باب السياسة الشرعية.
وذكرنا –أيضا- الأدلة لهذا القول وقلنا: إنه لو قال رجل: سبحان الله مائة مرة؛ لا يحسب له إلا تسبيحة واحدة، وفي اللعان لو قال: أشهد بالله أربع مرات أني لمن الصادقين؛ لا يكفي هذا. بل لا بد أن يكررها أربعا والمرأة لو قالت: أشهد بالله أربع مرات أنه لمن الكاذبين؛ لا يكفي هذا باتفاق العلماء بل لا بد أن تكرر هذا اللفظ أربعا. ولو أنه قال بعدما صلى: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين؛ ما يكفي هذا عن تكرار التسبيح، والتحميد، والتكبير.(1/5)
فهذا إذن يدل على أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة يعتبر تطليقة واحدة، وقلنا إن هذا هو الذي عليه الأمر في عهد -النبي صلى الله عليه وسلم-، وفي عهد أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر.
بناءً على ذلك؛ إذا وقع طلاق الثلاث مجموعاً على المدخول بها، أو على غير المدخول بها؛ فإنه يقع طلقة واحدة بناءً على هذا القول.
قال المؤلف: (كقوله: أنت طالق ثلاث) هذا الطلاق الثلاث بكلمة ثلاثة (أو أنت طالق وطالق وطالق) هذه أيضا ذكرنا أنها من صور طلاق الثلاث هذه إذا كانت المرأة مدخولا بها فيقع ثلاثا، لو قال: طالق وطالق وطالق؛ يقع ثلاثا. لكن إذا كانت غير مدخولٍ بها فيقع ثلاثا؛ لأن الواو تقتضي العطف = حرف الواو من حروف العطف.
قال: (وإن أوقعه مرتباً؛ فإنه لا يقع إلا واحدة).
لماذا؟
لأنها تبين بالواحدة، فالثانية والثالثة لا تصادف محلاً حتى تقع.
ومثل المؤلف لهذا بأمثلة؛ قال: (كقوله: أنت طالق فطالق، أو ثم طالق أو طالق بل طالق أو أنت طالق أنت طالق أو وإن طلقتك فأنت طالق ثم طلقها أو كلما طلقتك فأنت طالق أو كلما لم أطلقك فأنت طالق).. ونحو ذلك من الأساليب، والصيغ التي تفيد الترتيب، فإذا أتى بصيغة تفيد الترتيب؛ فلا يقع إلا طلقة واحدة.
إذن هذا رجل عقد على امرأة، ثم قبل أن يدخل بها حصل بينه وبينها مكالمة أو بينه وبين أهلها حديث؛ فقال: هي طالق ثم طالق ثم طالق.
فتقع كم طلقة هذه؟
تقع طلقة واحدة.
لماذا؟
لأنه لم يدخل به.
أحسنت، تقع طلقة واحدة، نحن قلنا: إذا أتى بصيغة تفيد الترتيب؛ تقع طلقة واحدة؛ لأن الطلقة الواحدة تبينها، والطلقة الثانية والثالثة لا تصادف محلاً، بل تصادف امرأة قد بانت منه؛ فلا يلحقها الطلاق الثاني والثالث إذا أتى بصيغة تقتضي الترتيب.
نعم لو أنه قال: طالق وطالق، يعني بحرف الواو طالق وطالق وطالق؛ فهذه تقتضي العطف فتقع ثلاثا، لكن إذا أتى بصيغة تقتضي الترتيب فالطلقة الثانية والثالثة لا تقع؛ لأنها تبين بالأولى.(1/6)
لكن إذا قال طالق ثلاثاً على ما قلن.
نعم هذه ترجع إلى مسألة الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، سواءً كان مدخولاً بها أو غير مدخول بها، والقول الصحيح أنها طلقة واحدة.
إذا قال: طالق طالق طالق على نيته؟.
نعم, وإذا قال: طالق طالق طالق هل يقصد التكرار أم يقصد أنها ثلاث؟
على ما فصلناه فيما سبق.
قال: (وإن كانت مدخولاً بها؛ وقع بها جميع ما أوقعه)
المذهب عند الحنابلة أن هذه –كلها- تقع ثلاثاً؛ يعني إذا قال: طالق بالثلاث، أو مطلق ثلاثاً، أو طالق وطالق وطالق، أو طالق طالق طالق. كل هذه الصيغ التي ذكرها المؤلف عندهم تقع ثلاثاً. وقد فصلنا الكلام عن هذه المسألة في درس سابق، وذكرنا أن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة القول الصحيح –فيه- أنه يقع واحدة. لكن إذا كان بثلاث كلمات طالق ثم طالق ثم طالق، أو طالق وطالق وطالق، أو طالق طالق طالق؛ فهذه على حسَب نيته، إذا كانت الصيغة تحتمل التأكيد كقوله: طالق طالق طالق. هل يقصد التأكيد؟ فتقع واحدة. هل يقصد أنها ثلاث؟ فتقع ثلاثاً. لكن إذا قال: طالق ثم طالق ثم طالق؛ تقع ثلاثاً، إذا قال: طالق وطالق وطالق تقع ثلاثاً. وحينئذ تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره. هذه إذا كانت مدخولاً بها.
ثم ذكر المؤلف قاعدة عظيمة في باب الطلاق والرضاع قال: (ومن شك في الطلاق، وعدده، أو الرضاع، أو عدده؛ بنى على اليقين).
وعندنا قاعدة عظيمة في هذا الباب وهي: "أن اليقين لا يزول بالشك". وهذه إحدى القواعد الكلية الكبرى الخمس.
فهذه قاعدة عظيمة "اليقين لا يزول إلا بيقين مثله ولا يزول بمجرد الشك"؛ فالأمر المتيقن هو بقاء النكاح، فلا يزول هذا إلا بيقين. ولذلك لو شك رجل في أنه طلق امرأته؛ فهل تطلق؟
لا تطلق حتى يتيقن أنه طلقها.
لو غلب على ظنه أنه طلقها؟
أيضا لا تطلق حتى يتيقن أنه طلقها.(1/7)
وهذا -في الحقيقة- يسد باب الوساوس والشكوك؛ لأن بعض الناس عندهم شكوك، ووسوسة خاصة في الطلاق. وقد وردنا أسئلة في الدرس السابق من بعض الإخوة من أكثر من شخص أن عنده شيئا من الوسوسة، وترد -في هذا أسئلة- واستفسارات كثيرة؛ أن هناك بعض الناس عندهم وسوسة في شأن الطلاق. والوسوسة لا تقتصر على الرجال حتى عند بعض النساء يكون عندها وسوسة؛ هل طلقها زوجها أم لا؟
فنقول: "اليقين لا يزول بالشك". المتيقن هو عقد النكاح، وهذا أمر متيقن؛ فلا يزول إلا بأن يتيقن الزوج أنه طلق امرأته. أما إذا شك في ذلك؛ فإنه لا يقع. وكذلك المرأة إذا شكت في أن الزوج قد طلقها؛ فإنه لا يقع الطلاق؛ لأن الأمر المتيقن هو بقاء النكاح.
فهذا معنى قول المؤلف: (ومن شك في الطلاق؛ فإنه يبني على اليقين).. وهكذا.
لو شك في عدد الطلاق، شك هل طلق مرة أم مرتين؟
فالمتيقن أنه طلق مرة وما زاد على المرة أمر مشكوك فيه؛ فإذن يحسب مرة واحدة.
إذا شك هل هي اثنتان أم ثلاث؟
فالمتيقن أنها اثنتان وما زاد على الاثنتين مشكوك فيه؛ فنحسبها اثنتين.
وهكذا -أيضا- بالنسبة للرضاعة؛ هل إذا شُكَّ هل هذا الطفل رضع من هذه المرأة أم لا؟
فالأصل أنه لم يرضع. هذا هو المتيقن.
إذا شُكَّ هل هي أربع رضعات أم خمس؟
نبني على اليقين واليقين أنها أربع.
فلا تثبت أحكام الرضاع إلا إذا تيقنا أن هذا الطفل قد رضع من هذه المرأة خمس رضعات فأكثر.
فهذه قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهي ترجع إلى القاعدة الكلية الكبرى "اليقين لا يزول بالشك".
عفواً يا شيخ: إذا كان مثلاً هو شاك وهناك حوله مثلاً شخص متيقن أو زوجته كانت متيقنة بأنه طلق طلقتين هل يؤخذ؟.(1/8)
هنا ننظر فإن استطاع من حوله أن يقنعه بأنه قد طلق اثنتين فهنا قد انتقل من الشك إلى اليقين، وحينئذ يقع لكن إذا كان من حوله –أيضا- مجرد شاك أو مجرد أنه واهم أو ذاهل، ولم يستطع إقناع الزوجة بأنه طلق اثنتين؛ فنرجع إلى الأصل، وهو بقاء النكاح وهو المتيقن واليقين لا يزول بالشك.
ثم قال: (وإن قال لنسائه: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها؛ خرجت بالقرعة.).
إذا نوى واحدة بعينها فإنها تطلق، يعني لو قال: إحداكن طالق ونوى فلانة فإنها تطلق، لكن إذا قال: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة، يعني رجل عنده أربع نساء فقال: إحداكن طالق. نويتَ من؟ قال: ما أدري، لم أنو واحدة بعينها، أو أني نسيت، أو نحو ذلك؛ فيقرع بينهن وأيتهن خرجت لها القرعة؛ يقع عليها الطلاق.
(وإن طلق جزءا من امرأته).
المؤلف -كما ذكرنا في الدرس السابق- يذكر أحيانا مسائل نادرة الوقوع، من باب تصوير هذه المسألة لطلاب العلم حتى إذا وقعت؛ فيكونون على تصور لها، وبعض المسائل التي صورها فقهاؤنا -فيما سبق- كانت في وقتهم تكاد تكون مستحيلة الوقوع لكنها وقعت في زمن مَنْ بعدهم خاصة في زمننا هذا.
فهنا المؤلف يذكر مسائل نادرة الوقوع، لا بأس أن نمر بها ونتصورها حتى لو وقع الشيء من هذا يكون طالب العلم على تصور لها.
(إن طلق جزءا من امرأته مشاعاً أو معيناً؛ كأصبعها، أو يدها؛ طلقت كله).
يعني هذا رجل رأى أن يد امرأته أخرجتها مثلاً لرجل أجنبي أو نحو ذلك؛ فغضب وقال: يدك طالق، أو رجلك طالق، أو شعرك طالق، أو نحو ذلك؛ فهل تطلق أم لا؟
هذه المسألة قد تقع، وإن كانت نادرة الوقوع.
يقول المؤلف: (إذا كان ذلك بشيء متصل؛ فإنه يقع الطلاق).
فلو قال: يدك طالق؛ فإنها تطلق.
لو قال: رجلك طالق فإنها تطلق.. وهكذا.
لكن إذا كان هذا الجزء من المرأة منفصلا وليس متصلاً؛ فإنه لا يقع الطلاق.(1/9)
ومَثَّل المؤلف لذلك بالظفر، والسن، والشعر، والريق، والدمع.. ونحوه؛ فهذه لا تطلق بها لأنها أجزاء منفصلة.
لو قال: شعرك طالق؛ فإنه لا يقع الطلاق.
لو قال: سنك طالق؛ لا يقع الطلاق.
لو قال: ريقك طالق؛ لا يقع.
أيضا ذكر المؤلف مسألة أخرى نادرة الوقوع وإن قال: (أنت طالق نصف تطليقة أو أقل من هذا؛ طلقت واحدة).
لو قال: طالق نصف تطليقة؛ فإنها تطلق.
ربما بعض الناس يقول هذا على سبيل الهزل. ونحن قلنا: إن النكاح والطلاق والرجعة جدهن جد وهزلهن جد. فلو أنه قال ممازحاً لزوجته: أنت طالق نصف تطليقه فإنه يقع طلاقاً. وذلك لأن الطلاق لا يتبعض؛ فتقع الطلقة كاملة. ولهذا نقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على ذلك.
هذه هي أبرز المسائل المتعلقة بهذا الباب وبودنا أن ننتقل إلى باب الرجعة ونأخذ أيضا أبرز ما في هذا الباب من أحكام لكن نتيح فرصة للأسئلة إذا كان هناك أسئلة أو استفسارات من الإخوة أو من الإخوة المتابعين لنا عن طريق الشبكة.
يسأل عن: البينونة الواردة في قضية تبينها الطلقة، يقول: البينونة الصغرى ترجع بعقد جديد؟.
نعم، البينونة عند أهل العلم بينونتان: بينونة كبرى، وبينونة صغرى.
البينونة الكبرى: إذا طلقها ثلاثاً؛ فإنها تبين منه بينونة كبرى. ومعنى قولنا: بينونة كبرى يعني لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ثم يطلقها ذلك الزوج؛ فتحل لمطلقها الأول.
البينونة الصغرى: -كما في هذه الأمثلة- يعني رجل طلق امرأته طلقة واحدة حتى انقضت عدتها، فتبين منه بينونة صغرى، أو طلق امرأة غير مدخول بها؛ فإنها تبين منه بينونة صغرى. ومعنى ذلك: أنه إذا أراد أن ينكح هذه المرأة لا بد من أن يكون ذلك بعقد ومهر جديد وبرضاها أيضا.
تقول: هل يقع الطلاق الصريح باللغة غير العربية مرادفاً لمعنى الطلاق؟.(1/10)
نعم. يقع الطلاق بغير العربية، وقد نص على هذا العلماء ويقولون: عند العجم صريح الطلاق عندهم "بيهشتم". وربما في اللغة الإنجليزية أيضا له معنى آخر، وكذلك اللغة الفرنسية وهكذا سائر اللغات. وهو يقع بحسَب ما يعتبره الناس في لغتهم طلاقاً، فالناس –مثلاً- في كل لغة الطلاق له معنى عندهم؛ فيقع بذلك المعنى.
تقول: ذكرت في الطلاق أنه لا عبرة بغلبة الظن فهل غلبة الظن تدخل في قاعدة اليقين لا يزول بالشك؟ أم أن غلبة الظن خاصة بمسألة الزواج والطلاق؟ لأنه في مسائل مثلاً الشك في عدد الركعات يؤخذ بغلبة الظن؟.
هذا السؤال جيد. غلبة الظن صحيح أنه يؤخذ بها في بعض المسائل يعني مثلاً لو شك في عدد الركعات -فيما مثلت الأخت-؛ هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ فإنه يعمل بغلبة الظن، كذلك أيضاً عندما يشك في طهارة الماء، أو نحو ذلك؛ يعمل بغلبة الظن.
لأن هذا هو الذي يستطيعه المكلف، لكن تختلف المسألة التي بين أيدينا المسألة.
نحن عندنا أمران: أمر متيقن، وأمر مشكوك فيه. فالأمر المتيقن هو استمرار، وبقاء النكاح. والأمر المشكوك فيه زوال النكاح؛ فنتمسك بالأمر المتيقن، ولا نلتفت للشك. فيرجع إلى هذه القاعدة = قاعدة "اليقين لا يزول بالشك".
ومثل ذلك –مثلاً- لو توضأ الإنسان من رجل أو امرأة، ثم شَكَّ هل خرج منه شيء أم لا؟
فالمتيقن أنه توضأ والمشكوك فيه أنه خرج منه شيء؛ فنتمسك بالأمر المتيقن.
فهذه القاعدة "اليقين لا يزول بالشك" يرد عندنا أمران: أمر متيقن وأمر مشكوك فيه، فنُرَجِّح اليقين على الشك.
تقول: أسأل عن لفظ الكناية في الطلاق إذا قيل باللفظ العامي مثلاً رجل قال لزوجته: اللي بيننا انتهى هل يعتبر من ألفاظ الكناية أم لا؟
السؤال الثاني: المعتبر نية الزوج إذا كان الزوج مثلاً أتى بلفظ الكناية ثم بعد ذلك لم يتصل بزوجته هل يعني مثلاً فترة زمنية طويلة المعتبر النية أم الفترة الزمنية لها علاقة أم لا؟.(1/11)
يقول: لم يتضح لي الزوجة التي لم يدخل بها زوجها في إن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق، تقع ثلاثاً، في حين إن قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق تقع واحدة ولكونها غير مدخول بها فالطلقة الأولى تبينها فإن كان مرتباً تبينها وإن لم تكن مرتبة ولكن معطوفة تكون ثلاثة فكيف يكون؟ لماذا لا تكون في الحالتين بائنة من الطلقة الأولى؟.
الأخت الكريمة تسأل عن لفظ أو عبارة: إذا قال الزوج لزوجته الذي بيننا انتهى؟ هذه من كنايات الطلاق؛ لأنها تحتمل الطلاق وتحتمل غيره، ولهذا إذا نوى الزوج بهذا اللفظ الطلاق فإنه يقع، وإذا لم ينوي به الطلاق فإنه لا يقع يرجع لنيته.
أما سؤالها عن مضي مدة زمنية، فإذا نوى الزوج الطلاق فحينئذ ننظر إذا مضى إذا كانت هذه المرأة ممن يحيض ومضى ثلاث حيض فإنها حينئذ تكون قد بانت منه بينونة صغرى، أي لا تحل له إلا بعقد ومهر جديد وبرضاها، أما إذا كانت ممن لا يحيض فتكون عدتها ثلاثة أشهر، إذا مضى ثلاثة أشهر فتكون قد بانت منه أيضا بينونة صغرى، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الدرس القادم تفاصيل الكلام عن العدد.
أما سؤال الأخ الكريم سؤال وجيه وجيد هو يسأل يقول: إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق ما الفرق بينها وبين: أنت طالق ثم طالق ثم طالق؟(1/12)
هم يفرقون بين اللفظ الأول والثاني يقولون: إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق فهنا أتى بحرف العطف الواو وهذا من حروف العطف فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً، لكن إذا أتى بحرف يقتضي الترتيب فقد بانت باللفظ الأول قال: طالق ثم طالق بانت باللفظ الأول فالطلقة الثانية ثم طالق يعني يكون صادف امرأة بائنة لكن لو قال: طالق وطالق وطالق هذا كأنه كلمة واحدة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً، كما لو قال فلان هذا الشيء لفلان وفلان وفلان يشتركون فيه جميعاً، فلان وفلان، ولا نقول إنه للأول منهم وإنما لفلان وفلان لهم جميعاً، لكن لو قال: لفلان ثم فلان ثم فلان يأخذه الأول ثم إن فضل شيء يكون للثاني ثم إن فضل شيء يكون للثالث، فيعني العلماء أخذوا هذا من مقتضى سياق هذه الألفاظ ودلالتها في لغة العرب، فهم يقولون: إذا قال طالق وطالق وطالق فقد حصل الاشتراك في هذا الطلاق في الوقت نفسه، فكأنه قال: طالق ثم زاد عليها طالق وطالق وطالق، فهنا وقع ثلاثاً لكن طالق ثم طالق هنا ثم تقتضي الترتيب فالطلقة الثانية هنا صادفت امرأة بائنة، هكذا فرق فقهاؤنا في ذلك، ولكل حال يعني المسألة أيضاً لا تخلوا من خلاف بين أهل العلم، ولو قيل بأنها تطلق بالطلقة الأولى والطلقة الثانية أيضاً حتى وإن كانت بحرف العطف صادفة امرأة قد بانت، أيضاً هذا قول قوي وقول له وجه أيضاً يعني القول الآخر قول متجه.
يقول: هل هناك فرق بين الوهم والظن؟ يقال فلان مثلا غلب عليه الظن والثاني الوهم؟.(1/13)
نعم الوهم يكون لا أساس له، يكون ما له أساس مجرد شيء خطر في ذهنه، شك خطر في باله أو في ذهنه أما الظن فهنا يعني إذا قيل الظن وأطلق يقصد به غلبة الظن يعني غلب على ظنه أن هذا الشيء قد حصل، يعني هذا يعتبر في كثير من الأحكام لكن هناك بعض المسائل التي يكون فيها يقين وشك، فهنا نقول: اليقين لا يزول بالشك، لكن بعض المسائل يطلب فيها غلبة الظن، مثلاً دفع الزكاة يكفي غلبة الظن بأن هذا الإنسان مستحق للزكاة، ولهذا قال الفقهاء: من دفع زكاته لمن ظنه فقيراً فبان غنياً أجزأ، فبعض المسائل تكفي فيها غلبة الظن، وبعضها نتمسك باليقين ولا يزول هذا اليقين إلا بيقين مثله ولا يزول بمجرد الشك.
يقول: إذا كان مثلاً بين الزوج وزوجته خلاف وكانت عند أهلها ثم طلقها الزوج فهل يعيدها لانقضاء العدة في منزله أو تبقى عند أهلها؟.
طلقة واحدة؟
نعم طلقة واحدة.(1/14)
نعم ما دام أنه طلقة واحدة فلا يجوز أصلاً أن تخرج من بيت زوجها، ولا أن تُخرج، لقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا? [الطلاق: 1]، فإخراج المرأة من بيت مطلقها أو كونها تخرج من تعدي حدود الله عز وجل، ولهذا فإن الزوج إذا أخرجها يأثم والزوجة إذا خرجت بنفسها فإنها تأثم، وسؤال الأخ يقول: هي عند أهلها الآن، نقول: يطلب منها أن ترجع لبيت زوجها، فإن أبت فإنها تبوء بالإثم، لكن حتى يسلم من التبعة ومن الإثم يطلب منها أن ترجع إلى بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، ويبين لها أن هذا هو شرع الله وأن الله تعالى هو الذي أمر بذلك، ?لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ? فإن أبت ورفضت أن ترجع فإنها هي التي تبوء بالإثم.
ننتقل بعد ذلك إلى "باب الرجعة" نقرأ أولاً عبارة المؤلف -رحمه الله-.
قال المصنف رحمه الله: (باب الرجعة: وإذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث أو العبد أقل من اثنتين؛ فله رجعتها ما دامت في العدة لقول الله سبحانه: ?وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا? [البقرة: 228].
والرجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا –عليَّ- أني قد راجعت زوجتي أو رددتها أو أمسكتها من غير ولي ولا صداق يزيده ولا رضاها. وإن وطئها؛ كانت رجعة.(1/15)
والرجعية زوجة يلحقها الطلاق والظهار، ولها التزين لزوجها، والتشرف له وله وطؤها، والخلوة بها، والسفر بها. وإذا ارتجعها، عادت على ما بقي من طلاقها، ولو تركها حتى بانت ثم نكحت غيره ثم بانت منه تزوجها الأول رجعت إليه على ما بقي من طلاقها، وإذا اختلفا في انقضاء عدتها؛ فالقول قولها مع يمينها إذا ادعت من ذلك ممكناً. وإن ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه كان قد راجعها في عدتها فأنكرت؛ فالقول قولها، وإن كانت له بَيِّنَةٌ؛ حُكِمَ له بها، فإن كانت قد تزوجت؛ رُدَّت إليه سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل).
نعم. الرجعة هي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد. وهذا إنما يكون في غير المطلقة ثلاثاً؛ أي في المطلقة اثنتين، أو واحدة. أما المطلقة ثلاثاً؛ فإن الزوج لا يملك رجعتها ولا يملك إرجاعها؛ لأنها تبين منه بينونة كبرى، ولهذا قال المؤلف: (إذا طلق امرأته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث إذا طلق امرأته بعد الدخول).
وهنا لماذا قال المؤلف بعد الدخول؟ وما الفائدة من هذا القيد؟
لا يمكن قبل الدخول.
لأنها قبل الدخول تبين منه، ولا يملك رجعتها كما بينا هذا.
إذن التي يملك إرجاعها هي المطلقة بعد الدخول. وقال: (بغير عوض) يُفهم منه أنه إذا طلقها بعوض -أيضاً- لا يملك رجعتها، إذا طلقها بعوض فإنها تبين منه أيضاً.
فإذا كان ذلك بلفظ الخلع؛ كان خلعاً، وإذا كان ذلك بلفظ الطلاق؛ كان طلاقاً بائناً. فلا بد إذن أربعة شروط:
الشرط الأول: أن يكون بعد الدخول.
الشرط الثاني: أن يكون بغير عوض.
الشرط الثالث: أن يكون أقل من ثلاث تطليقات.
الشرط الرابع: أن تكون في العدة ولهذا قال: (ما دامت في العدة).
فإذن شروط الرجعة أربعة: 1- بعد الدخول. 2- بغير عوض. 3- أن تكون أقل من ثلاث. 4- أن تكون في العدة.(1/16)
فيملك رجعتها والدليل لذلك قول الله -تعالى-: ?وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا? [البقرة: 228].
ثم ذكر المؤلف مثالاً للرجعة فقال: (أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت زوجتي أو رددتها أو أمسكته).
أو يقول لزوجته: راجعتك، إذا قال: راجعتك أو رددتك أو أمسكتك فحينئذ تحصل الرجعة.
وهنا المؤلف ذكر الإشهاد، وهذا يقودنا لبحث مسألة حكم الإشهاد على الرجعة. وقد اختلف العلماء في حكم الإشهاد على الرجعة؛ فجمهور العلماء على أن الإشهاد على الرجعة مستحب وليس واجباً، وهذا هو المذهب عند الحنابلة وهو الذي عليه أكثر أهل العلم؛ أن الإشهاد مستحبّ وليس واجباً، وهو مذهب مالك، وكذلك مذهب أبي حنيفة، وهو المشهور عند الشافعية أنه مستحب وليس واجباً.
وبعض أهل العلم يرى وجوبه، وهو قولٌ عند الحنابلة. ولكن القول الصحيح أنه مستحب وليس واجباً. والدليل لذلك من القرآن هو قول الله تعالى: ?فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ? [الطلاق: 2]. فهنا أمر الله تعالى بالإشهاد، ووجه الدلالة: أن الله –تعالى- أمر بالإشهاد بعد قوله: ?أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ? فالأمر بالإشهاد يشمل الإشهاد على الفراق، والإشهاد على الرجعة.
?فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ? المقصود به الرجعة، ?أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ?؛ أي الطلاق.
?وَأَشْهِدُوا? على الأمرين جميعاً.
ولا يجب الإشهاد على الطلاق بإجماع العلماء. فإذا كان لا يجب الإشهاد على الطلاق بالإجماع مع أنه أقرب المذكورين في الآية للأمر بالإشهاد؛ فَلَئلّا يجب الإشهاد على الرجعة من بابٍ أولى.
هل اتضح وجه الدلالة؟
أعيد مرة أخرى؟(1/17)
أقول: استدل جمهور العلماء على عدم وجوب الإشهاد على الرجعة بقول الله –تعالى-: ?فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ? قالوا: إن الله –تعالى- أمر بالإشهاد بعد قوله: ?أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ?؛ فالأمر بالإشهاد يشمل: الإشهاد على الفراق وهو الطلاق، والإشهاد على الرجعة.
والإشهاد على الطلاق لا يجب بإجماع العلماء مع أنه أقرب المذكورين للأمر بالإشهاد في الآية؛ لأن الله قال: ?أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا? فالأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور. ومع ذلك لا يجب الإشهاد على الطلاق بإجماع العلماء. فإذا كان لا يجب الإشهاد على الطلاق بالإجماع -مع أنه أقرب المذكورين- للأمر بالإشهاد في الآية؛ فَلِأَلَّا يجب الإشهاد على الرجعة من باب أولى.
لكن يُسَن ويُستحب استحباباً مؤكداً الإشهادُ على الرجعة؛ لأن الله –تعالى- أمر به وأقل ما يفيده الأمر هو الاستحباب.
ولهذا قال المؤلف: (أن يقول لرجلين من المسلمين): هذا على سبيل الاستحباب.
(من غير ولي ولا صداق يزيده ولا رضاه)؛ أي لا يشترط ولي ولا يشترط صداق ولا رضاها؛ لأنها لا زالت زوجة وفي حكم الزوجة ولا يحتاج إلى ولي ولا إلى مهر ولا إلى عقد. وإنما يقول – فقط-: راجعت زوجتي. لكن يستحب أن يكون ذلك بشهادة رجلين.
لكن لو لم يفعل؛ لو قال –وحده- في خلوة: راجعت زوجتي؛ فإنها ترجع، ولو لم ترض الزوجة بذلك.
فإذن الرجعة لا يشترط فيها لا رضى الزوجة، ولا يشترط فيها وليّ، ولا يشترط فيها مهر، ولا حتى يشترط فيها شهود، وإنما يستحب الإشهاد على الرجعة؛ وذلك أنها زوجة وفي حكم الزوجات.
عرفنا -الآن- أن الرجعة تحصل بالقول.. ولعلنا نختم بهذه المسألة: هل تحصل الرجعة بالفعل؟ يعني بالوطء؟
هذه المسألة محل خلاف بين العلماء.
من العلماء من قال: تحصل الرجعة بمجرد الوطء.(1/18)
ومنهم من قال: لا تحصل الرجعة بمجرد الوطء.
ومنهم من فَصَّلَ.
المؤلف ماذا قال؟
قال: (وإن وطئها؛ كانت رجعة)؛ أي مطلقاً. حتى ولو لم ينو بهذا الوطء إرجاعها.
ولكن القول الصحيح في هذه المسألة وهو الذي عليه كثير المحققين من أهل العلم، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم؛ أن الوطء لا تحصل به الرجعة إلا إذا نوى بذلك إرجاعها. أما أن يطأ ولا ينوي الإرجاع؛ فإنها لا ترجع بذلك. وهذا القول الثالث قولٌ وسط بين القولين وسوف نسلط -إن شاء الله تعالى- الضوء على هذه المسألة وعلى كلام أهل العلم حول هذه المسألة.
أسئلة الدرس:
السؤال الأول: ما الدليل من القرآن على عدم وجوب الإشهاد على الرجعة؟ واذكر وجه الدلالة.
السؤال الثاني: هل يمكن أن تنقضي العدة في اليوم الذي طلقها فيه؟
هذا السؤال في الدرس القادم نطرحه على الإخوة لكي يبحثوا ويجتهدوا في الإجابة عنه.(1/19)
الفقه - المستوى السابع
الدرس السادس
الدرس السادس - تابع باب الرجعة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
تابع باب الرجعة
إجابة الأسئلة: السؤال الأول: ما الدليل من القرآن على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة مع بيان وجه الدلالة؟
أجابت تقول: الدليل قول الله تعالى: ?فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ? [الطلاق: 2] وجه الدلالة: أن العلماء أجمعوا على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق مع أنه أقرب مذكور في الآية فدل ذلك على عدم وجوب الإشهاد في الرجعة من باب أولى والله تعالى أعلم.
نعم، هذه إجابة صحيحة وإجابة نموذجية، فالدليل من القرآن لعدم وجوب الإشهاد على الرجعة هو الآية الكريمة: ?فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ? أمر الله تعالى بالإشهاد وهو يشمل الإشهاد على الرجعة والإشهاد على الفراق الذي هو الطلاق، وأجمع العلماء على أنه لا يجب الإشهاد على الطلاق مع أنه أقرب المذكورين للأمر بالإشهاد في الآية فلئلا يجب الإشهاد على الرجعة من باب أولى. نعم الإجابة نموذجية ومتكاملة نشكر الأخت على هذه الإجابة.. نأخذ مشاركة أخرى.
السؤال الثاني: هل يمكن أن تنقضي العدة في اليوم الذي طلقها فيه؟
يقول: يمكن أن تنقضي عدة المطلقة في اليوم الذي طُلِقت فيه من ذلك عدة الحامل إن وضعت حملها في نفس اليوم الذي طُلِقت فيه، فعدتها تنقضي بوضع حملها لقول الله تعالى: ?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 4].(1/1)
نعم هذه الإجابة الصحيحة النموذجية المقصود هنا الحامل، المرأة الحامل إذا طُلِقت ثم وضعت الحمل في اليوم نفسه فتنقضي عدتها، يعني لو أن رجلاً طلق امرأته أول النهار ثم بعد ساعات وضعت انقضت عدتها، وجاز لغيره أن يعقد عليها، فربما تكون العدة ساعات بل ربما تكون دقائق، لو أنه طلقها ثم وضعت مباشرة انقضت العدة، ولذلك هذا هو جواب السؤال يعني مقصودنا بهل يمكن أن تنقضي العدة في اليوم الذي طلقها فيه؟ نعم وذلك إذا كانت حاملاً طلقها وهي حامل ثم وضعت في اليوم نفسه فإنه تنقضي عدتها، ونشكر الأخ الكريم على هذه الإجابة.
حقيقة هناك تعليق أو شكر خاص في مقدمة إجابة الأخت الكريمة تقول: أولاً أود أن أقدم لشيخنا الفاضل جزيل الشكر على مبادرته الطيبة وتشجيعاته القوية تجاهنا وهذا يخلق تنافسا وبذل الجهد والاجتهاد بين الطلبة والحمد لله. ولو أنه ليس هدفنا من إجاباتنا هو لوحة الشرف وعرض أسمائها بقدر ما هو هدفنا الكبير في الآخرة على أن نشرف عند الله بأعمالنا ونتمنى ذلك إن شاء الله ويكفينا الشرف الكبير الذي يشرفنا به شيخنا الفاضل سعد الخثلان حفظه الله وباقي شيوخنا الأفاضل بتعليمنا وإبعادنا عن الجهل فهذا هو الشرف الكبير في الدنيا وثمرته في الآخرة إن شاء الله، الله لا يحرمنا وإياكم وسائر المسلمين من جناته العليا من الفردوس بدون حساب ولا عقاب آمين.(1/2)
نشكر الأخت وجميع الإخوة والأخوات على هذا التفاعل والمشاركة معنا والحقيقة أننا نجد أن بعض الأسماء معنا منذ بداية هذه الأكاديمية في تقدير أنهم سوف يستفيدون فائدة عظيمة خاصة إذا تابعوا جميع دروس هذه الأكاديمية سوف يخرجون بحصيلة كبيرة؛ لأن هذه الأكاديمية الحقيقة في فنون متعددة في الفقه وفي أصول الفقه وفي التوحيد وفي النحو وفي عدة فنون فالإخوة والأخوات المتابعون لها والذين يستفيدون من دروسها سوف يحصلون علمًا كثيرًا لكن المهم وجود الهمة العالية والحقيقة أن هذه الأكاديمية وهذه القناة المباركة هي من نعم الله تعالى علينا جميعًا، يعني يصل العلم الشرعي للناس في بيوتهم، هذه نعمة من الله تعالى قد كان الناس في الزمن السابق يرتحلون من أجل طلب العلم، يقطعون المفاوز والصحاري والقفار من أجل طلب العلم، بل ربما من أجل سماع أحاديث بل ربما حديث واحد فقط كما أُثِرَ ذلك عن السلف، الآن العلم يأتي للناس في بيوتهم، ما عليهم فقط إلا الجد والاجتهاد والهمة العالية في هذا، ثم إنني أشكر الإخوة القائمين على هذه القناة العلمية المباركة وأسأل الله تعالى أن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء فقد قدموا في الحقيقة للمسلمين خيرًا عظيمًا وهذه المشاريع الحقيقة هي الأمة بحاجة لها، هذه المشاريع التي تنشر العلم الصحيح والدعوة إلى الله عز وجل الأمة بحاجة ماسة لها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه. أما بعد.
كنا قد قرأنا عبارة المؤلف في باب الرجعة، وأخذنا جملة من المسائل المتعلقة بالرجعة، ووصلنا إلى ما تحصل به الرجعة. وذكرنا -في درس الأمس- أن الرجعة تحصل بأمرين؛ حتى نربط الدرس السابق بالدرس الحالي نريد أن نستذكر الأمرين اللذين تحصل بهما الرجعة؟
إما أن تكون قولية؛ كراجعتكِ.
لو قال: نكحتك أو تزوجتك يصح؟
يصح.
نعم. أو تكون؟
بالفعل؛ كالوطء إذا نوى.(1/3)
أحسنت. إذن إما أن تكون الرجعة بالقول؛ بأن يقول: راجعتك، أو اشهدوا أني راجعت زوجتي فلانة، أو نحو ذلك من العبارات، فترجع مباشرة من غير عقد، ولا مهر، ولا حتى رضاها. وإما أن تكون بالوطء، وذكرنا أن العلماء اختلفوا في إرجاع المرأة بالوطء؛ يعني لو وطء رجل طلّق امرأته طلاقًا رجعيّا، ثم وطئها.
هل ترجع بمجرد الوطء أم لا؟
من أهل العلم من قال: إنها ترجع بمجرد الوطء، ولو لم ينو بها الرجعة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
وقال بعضهم: إنها لا ترجع بمجرد الوطء حتى لو نوى بها الرجعة؛ فلا بد من أن تكون الرجعة بالقول، وهذا هو مذهب الشافعية.
والقول الثالث: هو قول وسط بين القولين: وهي أن الرجعة تحصل بالوطء؛ إذا نوى بها الرجعة، وذكرنا أن هذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجمع من المحققين من أهل العلم.
طيب إذا وطئ ولم ينو بها الرجعة؛ لا تحصل الرجعة.
ويتفرع عن ذلك سؤال: هل يجوز له أن يطأ وهو لا ينوي الرجعة؟
لا يجوز. نقول: إذا أردت أن تطأ؛ فلا بد أن تنوي الرجعة.
إذن النية معتبرة هنا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). إنسان لم ينوي الرجعة؛ فلا ترجع له زوجته. ولكن إذا نوى الرجعة -كما ذكرنا- أن المعول عليه في الأصل هو النية. والنية قد يُعَبَّر عنها إما بالأقوال، وإما بالأفعال؛ بالأقوال بأن يقول: راجعت زوجتي فلانة. وبالأفعال: كما لو وطئ وهو ينوي رجعتها فهو تعبير عن نيته.
إذن القول الصحيح أن الرجعة تحصل بالوطء مع النية، فيكون القول الراجح خلاف ما ذهب إليه المؤلف -رحمه الله-، ولهذا قال المؤلف: (وإن وطئها؛ كان رجعة)؛ أي ولو بغير نية، ولكن الصواب إذا كان ذلك بنيّة إرجاعها.(1/4)
ثم قال: (والرجعية زوجة يلحقها الطلاق، والظّهار). الرجعية حكمها حكم الزوجة تماما، ولذلك ذكرنا -في درس الأمس- أن الواجب على المطلقة طلاقًا رجعيّا أن تبقى في بيت زوجها لا تَخرج ولا تُخرج. فإن خرجت؛ أثمت، وإن أُخرجت؛ أثم مُخرجها؛ لقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا? [الطلاق: 1]. فهنا نهى الله -عز وجل- عن إخراج المطلقة الرجعية، وبَيَّن أن إخراجها من تعدّي حدود الله، وأنّ من يفعل ذلك؛ فإنه ظالم لنفسه، وهذا وعيد على إخراج المطلقة طلاقًا رجعيا.
هي زوجة ولهذا قال: (يلحقها الطلاق والظهار) يلحقها طلاقه، ولعانه، وخلعه، وظهاره؛ لأن لها حكم الزوجة، ولها التزيّن لزوجها، والتشرف له. وقد قال بعض أهل العلم إنه يستحب لها ذلك؛ أي لا تحتجب عنه. وبعض العامة يعتقد أنها إذا طلقت طلاقًا رجعيّا أنها تحتجب عنه، وهذا غير صحيح، بل تتكشّف له، وتتزين له وتستشرف له.
لماذا؟
لعله يراجعها. ولهذا قال الله – في آخر الآية -: ?لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا?.
قال: (وله وطؤه): وقد فسّرنا الكلام في قوله: (وله وطؤها)، وقلنا: مع نية الرجعة. أما بدون نية الرجعة؛ فلا يجوز ذلك في أرجح أقوال أهل العلم.
و(الخلوة والسفر بها)؛ لأنها في حكم الزوجة تمامًا، فله أن يخلو بها له أن يسافر بها؛ لأنها ليست أجنبية عنه.
(وإذا ارتجعها؛ عادت على ما بقي من طلاقها).
طيب. وبالنسبة للميراث لو أن رجلاً طلّق زوجته طلاقًا رجعيّا؛ فمات، أو ماتت زوجته؛ فهل يقع بينهما التوارث؟(1/5)
نعم، يقع.
لماذا يقع؟
لأن العدّة لم تنقضِ، وهي في حكم الزوجة.
حتى لو لم يبقَ من العدة إلا يومٌ واحد، وتُوفي أو تُوفيت؛ فيقع التوارث بينهما، فترثه ويرثها.
إذن الرجعية في حكم الزوجة تمامًا.
قال: (وإذا ارتجعها؛ عادت على ما بقي من طلاقها) يعني هذا المطلق أرجع هذه المطلقة الرجعيّة؛ فإنها ترجع زوجةً له، ولكن يُحسب عليه طلاقه الأول. وهذا مقصود المؤلف من قوله: (عادت على ما بقي من طلاقها).
(ولو تركها حتى بانت، ثم نكحت زوجًا غيره، ثم بانت منه وتزوجها الأول؛ رجعت إليه على ما بقي من طلاقها).
ما معنى هذه العبارة؟
مقصود المؤلف: أنه لو طلق زوجته طلقة، أو طلقتين، ثم انتهت العدة، ثم تزوجها رجل أجنبي غيره، ثم طلقها، ثم تزوجها مرة أخرى الأول؛ فإنه ما يبقى إلا واحدة من ثلاث.
أحسنت.. هذا هو مقصود المؤلف.
يعني هذا رجل طلق امرأته طلقة واحدة، وتركها حتى انقضت عدتها، ثم نكحت زوجًا غيره، ثم طلقها الزوج الآخر، وانقضت عدتها، ثم رجعت لزوجها الأول.
فهل نحسب عليه طلقته الأولى أم لا تُحسب عليه؟
نحسبها عليه. فلو طلقها طلقة واحدة؛ فما بقي إلا طلقتان، ولو كان طلّقها طلقتين؛ فما بقي إلا طلقة واحدة، فنحسب عليه طلاقه الأول.
أعني أن نكاحها برجل آخر لا يهدم الطلاق الأول بل يبقى. طيب متى يهدمه؟
يهدمه إذا كان الطلاق ثلاثًا، ثم نكحت زوجًا غيره، ووطئها، ثم طلقها، ثم رجعت لزوجها الأول، فهنا زواجها بزوجها الثاني يهدم الطلاق الثلاث، وحينئذ يكون له ثلاث تطليقات وهذه المسألة الثانية أيضًا أشار لها المؤلف.
من الممكن أن نقول: إن المطلقة لا تخلو من أحوال، حتى نوضح هذه الصور كلها:
الحالة الأولى: أن يطلقها ثلاثًا، فتنكح زوجًا غيره، ويطؤها، ثم يتزوجها الأول؛ فهنا تعود إليه على طلاق ثلاث بإجماع العلماء، وحكى ابن المنذر فيه الإجماع.(1/6)
الحالة الثانية: أن يطلقها دون الثلاث؛ أي طلقة، أو طلقتين، ثم تعود إليه برجعة، أو بنكاح جديد = برجعة إذا كانت في العدة وبنكاح جديد إذا انقضت العدة. (قبل زوج ثانٍ)؛ فهذه تعود إليه على ما بقي من طلاقها. وهذا أيضًا باتفاق العلماء. إذا طلقها دون ثلاث، ثم رجعت إليه إما برجعة إذا كانت في العدة أو بنكاح جديد إذا خرجت من العدة؛ فهنا أيضًا تعود إليه على ما بقي من طلاقها، يعني يحسب عليه طلاقها الأول إذا كان طلقها طلقة أو طلقتين تحسب عليه.
الحالة الثالثة: طلقها دون الثلاث، وانقضت عدتها، ونكحت زوجًا غيره، ثم تزوجها الأول؛ فهل تعود على ما بقي من الثلاث أم أن نكاحها من الزوج الثاني هَدَمَ الطلاق بالنسبة للزوج الأول؛ فتعود له بثلاث تطليقات؟
هذه محل خلاف بين العلماء، والذي رجحه المؤلف واختاره -رحمه الله- أنها تعود على ما بقي من طلاقها؛ أي يُحسب على الزوج طلاقه الأول.
نقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال: "هذا هو قول الأكابر من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قضى بذلك لكنّ إسناده ضعيف، لكن قال ابن القيم: هذا الأثر وإن كان فيه ضعف ومجهول إلا أن عليه أكابر الصحابة، ثم نقل عن الإمام أحمد أنه قال: هذا هو قول الأكابر من أصحاب -النبي صلى الله عليه وسلم-.
إذن متى تعود للزوج الأول بثلاثة تطليقات؟ أي أن يُهدم طلاقه، وتعود إليه من جديد. متى؟
في حالة واحدة وهي:
إذا طلقها ثلاثً.
إذا طلقها ثلاثًا، ثم تزوجت برجل آخر، ثم طلقها، ثم رجعت إلى زوجها الأول؛ فهنا تعود بثلاث تطليقات، يعني يهدم ما كان من قبل. أما إذا كان دون الثلاث؛ فلا. ويُحسب عليه طلاقه الأول؛ إذا كان طلاق دون ثلاث يُحسب عليه طلاقه الأول، سواء ارتجعها، أو نكحها قبل أن تتزوج زوجًا غيره، أو أنه نكحها زوج غيره ثم طلقها؛ فإنه يحسب عليه طلاقه الأول.(1/7)
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (وإذا اختلفا في انقضاء عدتها؛ فالقول قولها مع يمينه).
إذا اختلفا في انقضاء العدة. العدة سيأتي -إن شاء الله- تفاصيل الكلام عنها، يعني مثلاً إذا كانت ممن تحيض تكون ثلاث حيض، فقالت هذه المرأة: إنها انقضت عدتها، أو قالت: إنها لم تنقضِ، وخالفها الزوج في ذلك، قالت: انقضت عدتها قال: بل لم تنقض، أو قالت: إنها لم تنقض عدتها قال: بل انقضت، ولا بينة؛ فالقولُ قولُ من؟
القولُ قولُ المرأة، والدليل لذلك هو قول الله -عز وجل-: ?وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ? [البقرة: 228]. ووجه الدلالة: نقول: لولا أن قولهن مقبول؛ ما حَرُمَ عليهن كتمانه، كما أن الشهود لَمَّا كان قولهم مقبولا؛ حَرَّمَ الله –تعالى- عليهم كتمان الشهادة؛ ?وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ? [البقرة: 283].
هكذا –أيضًا- هذه المرأة إنما حَرَّمَ الله عليها كتمان ما خلق الله في أرحامهن؛ لأن قولها مقبول معتد به مُرَجَّحٌ على جانب الزوج، فهذا هو الدليل لذلك.
إذن. إذا اختلفت المرأة مع الزوج في انقضاء العدة؛ فإن القولَ قولُ المرأة لهذه الآية: ?وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ? ولولا أن قولهن مقبول؛ لَمَا حَرَّمَ الله عليهن الكتمان.
قال: (فالقول قولها مع يمينه): فيُطلب منها اليمينُ، وإذا كانت صادقةً؛ فلا يضرها اليمين في هذا.
((1/8)
إذا ادعت من ذلك ممكنً) يعني إذا ادعت أمرًا معقولاً ممكنًا؛ كأن تدّعي انقضاء العدة –مثلاً- في شهرين، أو في ثلاثة أشهر، أو في شهرين ونصف؛ فإن هذا أمر ممكن، لكن إذا ادّعت أمرًا غير ممكن؛ فلا بد من البينة. كما لو ادعت أن العدة انقضت في عشرين يومًا؛ فهذا غير مقبول، ولا تُقبل دعواها مطلقًا. لكن إذا ادعت انقضاء عدتها في تسعة وعشرين يومًا؛ فهذا ممكن لكنه نادر، وهنا يُقبل قولها بالبينة.
ويدل لذلك قصة المرأة التي أتت عليًّا -رضي الله عنه- وادعت أن عدتها انقضت في شهر، وكان عند عليّ شُرَيْحٌ القاضي فقال له: "قل فيها"؛ قال: "إن أتت ببطانة من أهلها يشهدون بذلك؛ يُعْتَبَر قولُها".
لما قال شريح ذلك؛ قال عليّ -رضي الله عنه-: "قالون".
ما معنى "قالون"؟
معناها: "جيد" بلسان الرومية.
ثم قال المؤلف: (وإن ادّعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه قد راجعها، فأنكرته؛ فالقول قولها، وإن كانت له بينة حُكِمَ له بها).
هذه مسألة تقع بكثرة. فأحيانًا تنقضي عدة المرأة، ثم يدعي الزوج أنه قد راجعها في العدة. فما الحكم؟ ويوجد قضايا ليست بالقليلة لدى المحاكم لأناس يحصل لهم شيء مثل هذا، وأحيانًا يكون ذلك مكيدة من الزوج نفسه، فيريد أن يكيد لهذه المرأة، فإذا انقضت عدتها، وأرادت أن تنكح زوجًا غيره؛ ادّعى أنه قد راجعها، فما الحكم في هذا؟
نقول: إن كانت له بينة حُكِمَ له بها، أما إذا لم يكن له بينة؛ فإن القول قولها؛ لأنها -كما ذكرنا- جانب العِدد يرجح جانب الزوج في هذا، وحُكِيَ الإجماع على ذلك؛ لأن الأصل عدم الرجعة.
قال: (وإن كانت قد تزوجت رُدّت إليه سواء كان دخل بها الثاني أو لم يدخل).(1/9)
يعني إذا أقام الزوج البينة على أنه قد راجعها في العدة، وهذه المرأة لم تعلم بذلك، ثم إنها نكحت زوجًا غيره، فلما نكحت زوجًا غيره؛ أتى ببينة، وقال: عندي شهود أني قد راجعتها؛ فإنها تُرَدّ لزوجها الأول؛ لأنه تبين أنها لم تخرج من ذمته بعد، وأنها لازالت زوجة للزوج الأول؛ فتُرَدّ إليه. ولهذا قال المؤلف: (رُدّت إليه سواء كان دخل بها الثاني أو لم يدخل) حتى لو وطئها الثاني؛ لأننا تبيّنّا أن نكاح الثاني غير صحيح، وحينئذ يكون هذا الوطء وطئًا بشبهة ولا يلحقه إثم بهذا؛ لأنه غير مُتَعَمّد.
تقول: السؤال الأول: ذكرت أنه لا يجب رضا المرأة في رجوع زوجها إليها يعني لا يلزم. إذا كانت هي لا ترغب في الزوج وفرحت بالطلاق فهل لها من مخرج أو فيه دليل ممكن يكون في صالحها أو لا يوجد؟ يعني لازم ترجع غصب عنها؟
السؤال الثاني: ذكرت فضيلتكم أن الزوج نفسه يذكر أنها ما كملت العدة راجعها في العدة كما ذكرتم فضيلتكم، وإذا طالب منه القاضي بينة يحضر بينة، ما هي البينة التي يمكن أن يطلبها منه القاضي؟ ما هي البينة التي يمكن يوضح بها أن هذه العدة راجعها فيها قبل أن تنتهي؟ ما هي أنواع هذه البينة؟.
يقول: أتاني بعض الإخوان طلق زوجته إلى مكان أحد الأقارب، يعني الزيارة فقال أنا أشهدكم أني طلقت زوجتي ولن أراجعها، فهذه شهادة لم تكن إلا بيني وبين الشخص المطلق هذا والشاهد الثاني.
يقول: أشهدك بأني طلقت زوجتي؟
أشهدكم أني راجعت زوجتي، وسرد لنا قصة الطلاق وأنه كان في غضب وأنه استفتى شيخ والشيخ هذا أفتاه بأنه يعني يقول: ما عليك إلا شهود يعرفونك ويعرفون أهلها في الحي يعني إمام المسجد، السؤال يا شيخ: هل يجزئ الشهادة برغم أنه ما حضر وليها ولا أحد من ذويها؟.
وهي لا زالت في العدة؟
والله يا شيخ ما أدري، يعني تقريبًا هو طلقها أخذ أسبوعين تقريبًا واستفتى، هو المستغرب يا شيخ الشهادة يعني كانت محصورة أنا وشخص آخر.
أنت وشخص آخر والزوج فقط؟(1/10)
فقط، وحتى سألناه قلنا له يعني استغربنا قال: لا الشيخ الذي أفتاني ما أوجب بحضور الولي للشهادة هذه.
تقول: قد يتلفظ الزوج بينه وبين نفسه بالطلاق؟.
هذه مسألة خاصة الواقع لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال في مثل البرنامج؛ لأن مسائل الطلاق مسائل كبيرة وتحتاج إلى الاستماع إلى الزوج إلى لفظه وقصده ونيته وغضبه يعني هل هو كان غضبان أم لا؟ أمور كثيرة نحتاج إلى التحقق منها؛ لأن النتيجة أيضًا النتيجة كبيرة، طلاق يترتب عليه مصير أسرة كاملة، واستحلال فروج ولذلك ليس من السهل أن نجيب عن مثل هذا السؤال في مثل هذا البرنامج، ولذلك نقول: إن هذا الرجل يذهب لأحد العلماء ويستفتيه وتدرس حالته والأحسن أن يذهب إما إلى دار الإفتاء أو إلى المحكمة الشرعية ويوضح لهم ما الذي بدر منه وماذا تلفظ ونيته وقصده وهم يفتون إن شاء الله تعالى لكن مثل هذا البرنامج لا نستطيع أن نفتي بما فقط بالمعلومات التي ذكرتها الأخت.
يقول: السؤال الأول: تفضلتم بأن الوطء بدون نية الرجعة جائز فهل هو ليس بزنا؟
قصدك أنه غير جائز.
نعم، ولكنه يطأها ولا ينوي أن يرجعها، فهذا ليس زنا؟
السؤال الثاني: قول المؤلف: (والرجعية زوجة) هل يُعنى به الزوجة بعد رجعتها؟ أم قبل رجعتها؟ وإن كانت قبل رجعتها فما الحاجة لقول المؤلف: (والتشرف له) فهذا أمر طبيعي أن تتشرف لزوجها؟
السؤال الثالث: إن تزوجت الزوجة مع علمها بأن العدة لم تنتهي فتفضلتم بأن هذا وطء بشبهة فلا شيء على الزوج الثاني فماذا على الزوجة؟ أليست آثمة؟ ولا يكون حكمها في حكم الزنا لأنها تزوجت زوجًا جديدًا وهي زوجة للأول؟.
تقول: ذكرت أنه لا يلزم رضا المرأة في إرجاعها وتقول: بعض النساء تفرح بهذا الطلاق وهي لا ترغب في الرجوع لزوجها كيف لها ذلك؟.(1/11)
نعم، هي ما دامت في العدة فهي في حكم الزوجة ولذلك لا يعتبر رضاها، لا يعتبر رضا المرأة إطلاقًا لماذا؟ لأنها لا زالت زوجة، لا زالت في حكم الزوجة تمامًا، يعني هي تقول: بعض أن بعض النساء تفرح بمثل هذا الطلاق فإذا قيل: أنه لا يعتبر رضاها يعني لم تكتمل فرحتها بهذا الشيء، الحقيقة نقول: المرأة إذا أرادت فراق الزوج لها مخرج شرعي وهو الخلع، تخالع الزوج، فإذا خالعته حصل المقصود لها، لكن ما دامت في العدة فهي في الحقيقة للزوج أن يرجعها بدون رضاها؛ لأنها في حكم الزوجة تمامًا، لكن لو انقضت العدة هنا لا يملك إرجاعها إلا بعقد ومهر جديد وبرضاها، حتى لو كانت الطلقة واحدة، إذا انقضت العدة فإنه لا يملك إرجاعها إلا برضاها، أما ما دامت في العدة فرضاها هنا غير معتبر، وهذا هو شرع الله عز وجل، يعني هذا هو شرع الله تعالى، والواجب على المرأة أن تقول: سمعنا وأطعنا ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ? [الأحزاب: 36] وأيضًا ?لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا? [الطلاق: 1] ربما يكون الخير هو في بقائها مع هذا الزوج، وربما تكون في تلك اللحظة منفعلة مثلاً أو أنها قد تكون في لحظة غضب أو نحو ذلك، لعل الحكمة تقتضي أنه لا يُعتبر رضاها في مثل هذه الحال، لكن هو لا يُعتبر رضاها ما دامت في العدة، إذا خرجت في العدة لا بد من رضاها، هذا بالنسبة للسؤال الأول.
السؤال الثاني: تسأل عن البينة؟ تقول: طلب منه البينة الرجل للزوج راجعها وأنكرت.(1/12)
تسأل عن البينة تقول: ما المقصود بالبينة؟ المقصود بالبينة شهادة الشهود، هي في الأصل أن البينة هي شهادة الشهود، يعني يشهد شاهدين، إذا أشهد فقال: اشهدا أني قد راجعت زوجتي، هذه بينة، فإذا ادعى فيما بعد أنه قد راجع زوجته في العدة وأنكرت المرأة ثم أتى بهذين الشاهدين عند القاضي وشهدا بالله أنه قد راجعها في العدة فهنا قد يكون قد أتى بالبينة، ويمكن أيضًا أن تكون البينة بغير هذا، ابن القيم رحمه الله حقق بأن المقصود بالبينة هو كل ما أبان الحق، يعني لو اجتمعت عدة قرائن اقتنع بها القاضي، فيمكن أن تشكل في مجموعها بينة، فالبينة هي كل ما أبان الحق، لكن أقوى البينات بعد الإقرار هو: شهادة الشهود، فإذا شهد الشاهدان هنا قد يكون قد أتى بالبينة.
الأخ الكريم تحدث عن قضية الإرجاع الرجل زوجته، يقول: حضرت أنا وشخص آخر دون ولي أمره.
نعم.. لا يشترط الولي، يعني ما فعله الأخ صحيح، وما ذكر من توجيه أحد المشايخ له هو صحيح لا يشترط الولي في هذا؛ لأنه نحن قلنا: إن الزوج يُرجع زوجته حتى لو كان بدون شهادة الشهود، لو قال: راجعت زوجتي رجعت حتى ولو بدون شهادة الشهود، لكن الإشهاد مستحب، فكونه أتى بالشاهدين وقال: اشهدا أني قد راجعت زوجتي حصل الإرجاع؛ لأنها ما دامت رجعية فهي في حكم الزوجة وله أن يرجعها بدون عقد وبدون مهر وبدون ولي فقط يقول: راجعت زوجتي فلانة، ويستحب على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب، أن يشهد شاهدين، فما دام أنه قد حضر الزوج وتلفظ بهذا اللفظ وقد شهدتم على ذلك فتصرفه صحيح وفعله صحيح.
يقول: الوطء بدون نية الرجعة غير جائز هل يعتبر هذا الوطء زنا؟.(1/13)
نعم، نحن رجحنا أن الوطء بدون نية الرجع أنه لا يجوز وإن كان المذهب عند الحنابلة والقول الذي مشى إليه المؤلف أنه جائز وتحصل به الرجعة، لكن رجحنا القول الآخر وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أن الوطء لا ترجع به المرأة إلا إذا نوى به الإرجاع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) والأصل هو أن المعتبر هو النية والنية يعبر عنها إما بالقول وإما بالفعل، بالقول: بأن نقول: راجعت زوجتي، بالفعل: بأن يطأ بنية الإرجاع.
لكن سؤال الأخ الكريم: لو وطء بدون نية الرجعة؟ يعني نقول: أنه يأثم بذلك لكن يقول: هل يعتبر زنا؟ هو لا يعتبر زنا في الحقيقة خاصة إذا كان له شبهة يعتبر وطئًا بشبهة لكنه يأثم إذا تعمد ذلك إذا فعل ذلك متعمدًا عالمًا بالحكم فإنه يكون آثمًا بهذا الأمر ويكون قد وطء وطئًا محرمًا في هذا، إذا كان عالمًا بالحكم، أما لو كان متأولاً كأن يكون مثلاً أخذ بالمذهب عند الحنابلة مثلاً في هذا، فإنها ترجع زوجته بذلك لو كان شافعيًا ووطئ فأيضًا زوجته لا ترجع بذلك، لكن على القول الصحيح أنه يأثم إذا لم ينوي إرجاع هذه المرأة.
تكلم عن الرجعية هل تعتبر زوجة أم لا؟ بعد رجعتها أو قبل؟.
نعم.. كلام الفقهاء أن الرجعية إلى زوجها يعني في حكم الزوجة، أنها في حكم الزوجة ولذلك تترتب قبل الإرجاع تترتب عليه جميع الأحكام يعني الميراث مثلاً يحصل بينهم والتوارث تتشرف له تتزين له فهي في حكم الزوجة إلا في مسألة واحدة وهي الوطء، إذا أراد أن يطأها لابد أن ينوي بذلك إرجاعها، إذن هي تأخذ جميع أحكام الزوجة، يعني بعض الفقهاء يعبر بالزوجة وبعضهم يعبر بأنها في حكم الزوجة ولا مشاحة في الاصطلاح المؤلف قال: (والرجعية زوجة) يعني الأخ الكريم استشكل كيف يقال أنها زوجة وهي مطلقة؟ نقول: إنها ما دامت في العدة فإنها تأخذ حكم الزوجة فسواء أقلت إنها زوجة أو قلت: إنها في حكم الزوجة فلا مشاحة في الاصطلاح.(1/14)
السؤال الثالث قال: إن تزوجت الزوجة مع علمها بانقضاء عدتها، نحن لم نقل مع علمها نحن قلنا: هي أنكرت. هذه المرأة انقضت عدتها وتزوجت زوجًا آخر ثم ادعى مطلقها الأول بأنه قد راجعها في العدة فهي أنكرت ذلك وقالت: إنه لم يراجعها، فنقول: إنها لا تأثم حتى لو وطئها الزوج الثاني؛ لأنها لم تعلم بأن زوجها الأول أنه قد راجعها، ولذلك نقول للأخ الكريم: مع عدم علمها، وليس مع علمها يعني تزوجت الزوجة مع عدم علمها بانقضاء عدتها فإنها لا تأثم، أما لو كانت عالمة بأن الزوج قد راجعها وتزوجت فإنها لا شك أنها تأثم على هذا العمل، لكن نحن قيدنا هذا، قلنا: مع عدم علمها بأن الزوج قد راجعها ووطئها الزوج الثاني فإنها لا تأثم بهذا الوطء ويكون الوطء شبهة، لكن إذا قام زوجها الأول البينة الشرعية على أنه قد راجعها فإنها ترجع له حتى ولو دخل بها زوجها الثاني.
أسئلة الحلقة.
كان بودنا أن نأخذ باب العدة، إذن نجعل السؤالين في الدروس القادمة؛ لأن الرجعة أخذنا جزءًا منه في الدرس السابق ووضعها عليه أكثر من سؤال، فلعل الأسئلة تكون في يعني سؤالفي العدة وسؤال في الإحداد.
السؤال الأول في العدة: ما القول الراجح في عدة المختلعة؟ مع ذكر الدليل؟ يعني التي حصل فراق بينها وبين زوجها بخلع، هل عدتها ثلاث حيض أو عدتها حيضة واحدة مع ذكر الدليل؟ نريد من الإخوة أن يبحثوا في الإجابة عن هذا السؤال وسنشرحه إن شاء في الدرس القادم.(1/15)
السؤال الثاني: متى يجوز للمرأة المحدة استخدام الطيب؟ يعني المرأة التي توفي عنها زوجها تكون في الإحداد، يعني يجب عليها الإحداد على الزوج ويجب عليها اجتناب الطيب، لكن في حالة واحدة يجوز لها استخدام الطيب، ما هي هذه الحالة؟ نريد من الإخوة المشاهدين أن يبحثوا في الإجابة عن هذا السؤال، ما هي الحال التي يجوز للمرأة المحدة خلال فترة الإحداد أن تستخدم فيها الطيب وإلا الأصل أنها ممنوعة من الطيب لكن في حالة واحدة رخص لها الشارع في أن تستخدم الطيب فما هي هذه الحالة؟
يقول: لو أنه وطئها ولا يريد الرجعة فهل تستأنف العدة من جديد؟ أم أنها تبني على عدتها؟.
هو إذا وطئها وهو لا يريد الرجعة فإنه على القول الراجح الذي رجحناه لا ترجع بذلك، وحينئذ تكمل عدتها فإذا لم يرجعها خلال هذه العدة فإنها تبين منه بينونة صغرى، هذا بناء على القول الذي رجحناه، وإلا على قول المذهب عند الحنابلة وهو القول الذي مشى عليه المؤلف، أنه بهذا الوطء يحصل الإرجاع، لكن على القول الصحيح ما دام أنه لم ينوي إرجاعها لا ترجع بذلك وتكمل عدتها إن أرجعها رجعت له وإلا تبين منه.
يقول: إذا ادعت المرأة أن العدة لم تنتهي وهي قد انتهت فراجعها زوجها ووطئها ثم أخبرته أن العدة قد انتهت فما الحكم في هذه المسألة؟.
نعم.. هي كذبت وقالت: إنها لم تنتهي فراجعها الزوج ثم تبين أن العدة كانت قد انتهت، فحينئذ يكون قد راجعها الزوج رجعة غير صحيحة، ما دامت العبرة بواقع الأمر وليس بما أخبرت به، ما دام أنه تبين أن واقع الأمر أن الرجعة إنما كانت بعد انقضاء العدة تبين أن الرجعة غير صحيحة وحينئذ لابد من عقد ومهر جديد وولي ورضاها، يعني تكون قد بانت منه بينونة صغرى، فلابد من تجديد عقد النكاح.
يقول: إذا طُلِّقت المرأة أثناء حيضتها هل تحسب هذه الحيضة من التي يُعتد بها للعدة أم لا؟.(1/16)
نعم.. إذا طلقت المرأة أثناء الحيض أولاً هل يقع الطلاق أو لا يقع؟ طبعًا هذا طلاق بدعي ومُحَّرم، لكن هل يقع أو لا يقع؟ جماهير العلماء والذي عليه المذاهب الأربعة الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة أن الطلاق يقع، ومن أهل العلم من قال: إنه لا يقع، وهو قول في مذهب أحمد، وسبق أن شرحنا هذه المسألة بالتفصيل ورجحنا قول الجمهور في هذه المسألة لأدلة كثيرة منها ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حسبت عليّ تطليقة) وهذا نص صريح وصحيح وهو في البخاري في المسألة وأدلة أخرى ذكرناها في درس سابق، لكن الأخ السائل يقول: هل تحسب هذه الحيضة التي طُلِّقت فيها لا تحسب، وإنما تحسب ثلاث حيض أخرى وهذا هو أحد المعاني التي لأجلها حُرِّمَ الطلاق في الحيض؛ لأن الطلاق في الحيض فيه تطويل للعدة على المرأة.
يقول: إذا حدثت خلوة للمخطوبين ثم حدث طلاق هل تعتبر المطلقة مدخول بها أم لا؟.
نعم.. هذه مسألة كبيرة ومسألة مهمة في الحقيقة وفيها خلاف قوي بين أهل العلم: هل الخلوة تأخذ حكم الدخول أم لا؟ وسنفصل الكلام عن هذه المسألة إن شاء الله في الدرس القادم، فالأخ السائل لعله يتابع معنا الدرس القادم وسأذكر خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلة كل قول وأبين إن شاء الله تعالى القول الراجح فيها، فلعل الإجابة عن هذا السؤال نرجئها للدرس القادم.
أسئلة الحلقة:
كان بِوَدِّي أن نأخذ "باب العدة". إذن نجعل السؤالين في الدروس القادمة؛ لأن الرجعة أخذنا جزءا منه في الدرس السابق ووضعنا عليه أكثر من سؤال.
السؤال الأول في العدة:
ما القول الراجح في عدة المختلعة؟ واذكر الدليل.
السؤال الثاني:
متى يجوز للمرأة المُحِدَّة استخدام الطِّيب؟(1/17)
الفقه - المستوى السابع
الدرس السابع
الدرس السابع - باب العدة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب العدة
إجابة أسئلة الدرس الماضي:
هذه إجابة من الأخت الكريمة نستعرض إجابتها على السؤال الأول عن عدة المختلعة، تقول:
أما المختلعة فقد اختلف العلماء في عدتها؛ هل تعتد بعد الخلع بحيضة أم تعتد كعدة المطلقة؟
الصحيح: أنها تعتد بحيضة واحدة لما رواه أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن امرأة ثابت بنت قيس اختلعت منه فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدتها حيضة)، وروى ابن أبي شيبة عن نافع عن ابن عمر: (أن الرُّبَيِّعَ اختلعت من زوجها، فأتى عمها عثمان فقال: تعتد بحيضة)، وكان ابن عمر يقول: (تعتد ثلاث حيض) حتى قال هذا عثمان، فكان يفتي به ويقول: خيرنا وأعلمنا، يعني بذلك عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. فإذا حاضت بعد الخلع ثم طهرت؛ فقد انقضت عدتها، والله أعلم.
نعم.. هذه الإجابة إجابة صحيحة، وإجابة كاملة أيضًا. المرأة المختلعة اختلف العلماء في عدتها كما سيأتي -إن شاء الله- في الشرح؛ الجمهور على أنها ثلاث حيض، ومن أهل العلم من قال: إنها حيضة واحدة، ورواية عن الإمام أحمد، وهذا القول هو القول الصحيح؛ لقصة امرأة ثابت بن قيس، وقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمرها أن تعتد بحيضة، وسيأتي -إن شاء الله- بيانُ ذلك في الشرح، فنشكر الأخت على هذه الإجابة.
السؤال الثاني: متى يجوز للمرأة المحتدة أن تستخدم الطِّيب؟
تقول: عندما تغتسل من الحيض تتطيب بنبذة من قسط أو أظفار وهما نوعان من البخور.(1/1)
نعم.. هذه أيضًا إجابة صحيحة، كان هذا في درس قادم، قد نصل إليه هذا الدرس أو غدًا -إن شاء الله- في باب الإحداد. المرأة المحدة مما تجتنبه الطيب بشتى أنواعه، كما سيأتي -إن شاء الله- بيان ذلك وذكر الأدلة لذلك، لكن استُثْنِيَ من ذلك حالةٌ واحدة يجوز لها فيها الطيبُ، وهي: إذا طهرت من الحيض، وأرادت أن تقطع الرائحة فبعد الطهر يجوز لها أن تتبخر ببخور وهو المذكور في الحديث: (من قسط أو أظفار) وهما نوعان من البخور، يعني أي نوع من البخور يجوز لها أن تتبخر به في هذه الحال، ولا يجوز لها غير ذلك من أطياب ولا أيضًا في غير هذه الحال، يعني في هذه الحال فقط عند الطهر من الحيض، وبالبخور فقط.
نبدأ في درسنا هذا اليوم، ودرسنا لهذا اليوم هو "باب العدة"، نقرأ أولاً عبارة المؤلف -رحمه الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، قال المصنف -رحمه الله-: (
باب العدة
ولا عدة على من فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس، لقول الله –تعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49] والمعتدات ينقسمن أربعة أقسام:
إحداهن: أولات الأحمال، أجلهن أن يضعن حملهن، ولو كانت حاملاً بتوأمين؛ لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما. والحمل الذي تنقضي به العدة، وتصير به الأمَةُ أُمَّ ولدٍ ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان.
الثاني: اللاتي توفي أزواجهن؛ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا، والإماء على النصف من ذلك، وما قبل المسيس وبعده سواء.
الثالث: المطلقات من ذوات القروء، يتربصن بأنفسهن ثلاثةَ قروء، وقرء الأمة حيضتان.
الرابع: اللائي يئسن من المحيض؛ فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن، وللأمة شهران).(1/2)
نعم.. نقف عند هذا ولعلنا -إن شاء الله- نكمل فيما بعد.
هذا الباب باب مهم وقد تولى الله -عز وجل- بيان كثير من أحكام العدد بنفسه -جل وعلا- في كتابه، تولى الله -عز وجل- بيان ذلك في القرآن العظيم، فذكر -سبحانه- عدة عدة غير المدخول بها، وذكر عدة ذوات القروء، وذكر عدة الآيسة، وذكر عدة الصغيرة. كل هذا لأن هذا الموضوع مهم جدا، وموضوع حساس، وأثره كبير، ولذلك فإن الله -سبحانه- قد بين هذه الأحكام في كتابه الكريم، مما يدل على أهميتها، وعلى أنه ينبغي العناية بها، حتى إن الله -عز وجل- قد بين عدة الصغيرة التي لم تحض بعد، وكل ذلك -كما ذكرنا- لأن هذه المسائل مسائل مهمة ومسائل كبيرة.
العدة تعريفها لغةً: هي مدة التربص المحدود.
وشرعًا: مدة معلومة تتربص فيها المرأة لتعرف براءة رحمها، وذلك بوضع حمل أو مُضِيّ أقراء أو أشهر. هذه هي العدة.
وحكمها: واجبة؛ لقول الله -عز وجل-: ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ? [البقرة: 2282]، وهذا خبر بمعنى الأمر، وكذا قوله -سبحانه-: ?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 4].
قال المؤلف -رحمه الله-: (ولا عدة على من فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس) وفي بعض النسخ نسخ العمدة والخلوة، ففي نسختك ما فيها (والخلوة)، وكذلك في بعض النسخ لكن فيه نسخ أخرى من العمدة: (والخلوة)، ثم ذكر المؤلف الآية لهذا الحكم وهي قول الله -عز وجل-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49].
فبين الله -سبحانه- أن المرأة إذا طلقت قبل المسيس فإنه لا عدة عليها، وهذا حكم منصوص عليه في القرآن ومجمع عليه، لكن هل تلحق المرأة التي خلا بها زوجها، ولم يمسَّها. هل تلحق بمن دخل بها زوجها أم لا تلحق؟(1/3)
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: هل تأخذ الخلوة حكم الدخول من جهة تنصيف المهر ومن جهة العدة؟ والذي يهمنا هنا هو العدة أم أنها لا تأخذ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين:
القول الأول: أن المرأة إذا خلا بها زوجها؛ وجبت عليها العدة وإن لم يمسها.
وهذا القول رُوي عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضي الله عنهم-، وروي كذلك عن زيد بن ثابت، وابن عمر -رضي الله تعالى عن صحابة نبيه أجمعين-. وإليه ذهب الحنفية، والحنابلة وهو قول الشافعي في القديم، إذا قلنا القديم نعني بهذا المصطلح يعني مذهبه القديم، مذهبه في ماذا؟ مذهب الشافعي، إذا قلنا قول الشافعي في القديم؟ في العراق، مذهبه في العراق، وإذا قلنا في الجديد مذهبه في مصر؛ لأن الشافعي له مذهب في العراق يسمى القديم، ومذهب في مصر يسمى الجديد.
القول الثاني: أن المرأة إذا خلا بها زوجها ولم يمسها فإنه لا تجب العدة عليها.
وهذا القول قد رُوي عن ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو قول الشافعي في الجديد، ورواية عند الحنابلة وهو قول المالكية إلا أنهم يرون أن للخلوة تأثيرًا يقوى بها قول من يدعي الإصابة منهما.
نأتي للأدلة:
أما أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا: بأن المرأة إذا خلا بها الزوج؛ وجبت عليها العدة وإن لم يمسها. قالوا: نستدل لذلك بإجماع الصحابة؛ فعن زُرارة بن أبي أوفى قال: قَضَى الخلفاء الراشدون بأن من أغلق بابًا، أو أرخى حجابًا؛ فقد وجب المهر، ووجبت العدة. وأرادوا بقولهم: وجب المهر يعني أن المهر لم يتنصف؛ لأنه قبل الخلوة يتنصف المهر، إذا طلقها قبل الخلوة وقبل الدخول يتنصف المهر، وهذا الأثر سيأتي الكلام عن إسناده.
قال الموفق ابن قادمة: ورواه الأثرم عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيّب وهذه قضايا اشتهرت، فلم تنكر، فصارت إجماعًا.(1/4)
وعللوا لذلك فقالوا: ولأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة؛ كعقد الإجارة، فقاسوه على عقد الإجارة في هذا.
أما أصحاب القول الثاني الذين قالوا إنه لا تجب العدة عليها إذا خلا بها ولم يمسها؛ فقد استدلوا أولاً بظاهر الآية الكريمة وهي قول الله -عز وجل-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49] قالوا: فلم يذكر الله -تعالى- إلا المسيس، والمسيس فسره ابن مسعود وابن عباس بالوطء، فسره ابن مسعود وابن عباس وهما من أعلم الصحابة بالتفسير، فسراه بالوطء، قالوا: فهذه الآية نصٌّ في أن من نكح امرأة، ثم طلقها قبل مسيسها؛ فلا عدة عليها.
أيضًا استدلوا كذلك بأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلوا بها ولا يمسها ثم يطلقها. قال: ليس لها إلا نص الصداق؛ لأن الله تعالى يقول: ?وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ? [البقرة: 237]، وهذا الأثر أخرجه الشافعي في "الأم" ومن طريقه البيهقي، وقد روي من طرق أخرى، وهو صحيح بمجموع طرقه، يعني يصح هذا الأثر بمجموع طرقه عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وعند النظر في أدلة الفريقين الأقرب والله أعلم من حيث الدليل هو القول الثاني، وهو أنه لا تجب عليها العدة إن لم يمسها، حتى وإن خلا بها، ولهذا قال شُريْح: لم أسمع الله -تعالى- ذَكَرَ في كتابه بابًا ولا سترًا إذا زعم أنه لم يمسها؛ فلها نصف الصداق، يعني ولا عدة عليها.(1/5)
بقي الإجابة عما ذُكِرَ من إجماع الصحابة، ما ذكر من إجماع الصحابة لو ثبت؛ لكان حجة. ولكن هذا غير صحيح، ليس هناك إجماع. بل إن الأثر الذي ذكروه عن زُرارة بن أبي أوفى لا يصح من جهة الإسناد؛ فقد أخرجه البيهقي وهو مرسل؛ لأن زرارة بن أبي أوفى لم يدرك الخلفاء الراشدين، وإذا كان لم يدركهم فيكون مرسلاً، والمرسل من أقسام الضعيف، وقد رواه الدارقطني مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بسند لا يصح، لكنه ثابت عن عمر وعن علي، يعني من قولهما من طرق أخرى، لكنه ثابت عن عمر وعن علي، وحينئذ تكون المسألة محل خلاف بين الصحابة، فعمر وعلي وزيد بن ثابت يرون بأن الخلوة تأخذ حكم الدخول، بينما ابن عباس وابن مسعود يرون أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول؛ فتكون المسألة إذن محل خلاف بين العلماء وليس فيها إجماع.
وقول الصحابي لا يكون حجة إذا اختلف الصحابة؛ لأنه ليس قول هذا الصحابي بأولى من الصحابي الآخر، خاصة وأن من خالف في هذه المسألة ابن مسعود وابن عباس، وقد فسر المسيس في الآية بالوطء، وهما من أعلم الصحابة بتفسير القرآن، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، وأن يعلمه تأويل القرآن، وهو من أعلم الصحابة بالتأويل وبالتفسير، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- كذلك.
وحينئذ يكون الاستدلال بأثر زرارة بن أبي أوفى استدلالا فيه نظر؛ لأنه -كما قلنا- من جهة الإسناد لا يصح. ومما يؤيد أيضًا هذا: أن أصحاب القول الأول يقولون: لو أن الرجل عندما دخل بالمرأة لم يخلُ به، لاحظ أنه لم يخل بها وقبلها أو لمسها ولو لشهوة ثم طلقها؛ فلا عدة عليها، يعني مع أن هذا أيضًا منكر أنه يقبلها وإن كانت زوجته يقبلها أمام الناس لكن هذه مسألة مفترضة.
أصحاب القول الأول يقولون: لو أنه قبلها أو لمسها بلا خلوة فإنه لا عدة عليها، فأي المسألتين أولى بأن يقال لا عدة عليها؟ الرجل الذي خلا بها ولم يمسها لا بقبلة ولا بلمس؟(1/6)
فهذه يقولون: هذه عليها العدة لأجل الخلوة، بينما الرجل الذي مسها بشهوة وقَبَّلَها لكن بلا خلوة، يقولون: لا عدة عليها، وهذا مما يبين أن هذا القول قول مرجوح؛ لأن أصحاب هذا القول أتوا أو وردت عليهم هذه المسألة فقالوا: نحن نقول: لا عدة عليها ما دام أنه لم يمسها.
لماذا؟
قالوا: لأنه لم يخل بها.
فجعلوا المناط الخلوة، وهذا محل نظر، ولهذا فإن الأقرب والله أعلم في هذه المسألة هو القول الثاني: وهو أن الخلوة أنها لا تأخذ حكم الدخول، وهو ظاهر الآية الكريمة ?وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ? [البقرة: 237]، هنا ذكر المسيس، والآية الأخرى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49] هنا ذكر المسيس في الآيتين، ?إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? و?وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ?.
فإذن المسألة كلها ترجع إلى تفسير المسيس. ما المقصود بالمسيس؟ هل المسيس منحصر فقط في الوطء؟ أم أنه يشمل الخلوة؟
الأصل أنه منحصر في الوطء، فإذا قلنا إنه يشمل الخلوة نحتاج إلى دليل يدل على هذا.
قالوا: الدليل لذلك إجماع الصحابة. ونحن ناقشنا مسألة إجماع الصحابة وبينا أنها لا تصح ولا تثبت وأن الصحابة مختلفون.
إذن نرجع لتفسير الصحابة للمسيس؛ نجد أن أعلم الصحابة بالتفسير وهما ابن مسعود، وابن عباس فسرا المسيس بالوطء.
يقول: قضية التنازع بين الزوجين في مسألة الخلوة أشرت إليها إشارة.. .(1/7)
نعم، لو اختلف في الإصابة يعني في الوطء وخلا بها، فقال أحدهما: إنه لم يحصل وطء، وقال الآخر: إنه حصل وطء، فهنا يرجح جانب من؟
المالكية لهم رأي جيد في هذه المسألة، قالوا: إنه إذا حصلت الخلوة، فيرجح جانب من يدعي الإصابة منهما، وهو قول متجه في هذا.
نعود لعبارة المؤلف -رحمه الله- قال: (والمعتدات ينقسمن أربعة أقسام:
الأول: أولات الأحمال؛ فعدتهن أن يضعن حملهن).
يعني المرأة إذا كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل، سواء طالت مدة الحمل أم قصرت، ولهذا ذكرنا سؤالاً في الدرس السابق: المرأة التي تُطلق وتنقضي عدتها في اليوم نفسه، قلنا: هذا يكون في المرأة الحامل، المرأة الحامل إذا طلقت، ثم وضعت؛ فإنها تنقضي عدتها، ربما تكون عدتها ساعة واحدة، لو طلقها ثم وضعت بعد ساعة انقضت عدتها، وجاز لغيرها أن يتزوجها.
فإذن المرأة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل، حتى أيضًا في عدة الإحداد، لو أنه توفي زوجها وهي حامل ثم وضعت بعد وفاته بساعة فتنقضي عدتها. بل حتى قال الفقهاء: لو أنها وضعت وهو لا يزال على مغتسله يُغَسَّل يعني مات ولا يزال يُغَسَّل فتخرج من الإحداد، تخرج من عدة الوفاة.
إذن المرأة الحامل عدتها تنقضي بوضع الحمل، (ولو كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهم).
يعني نفترض أنها حامل بتوأمين أو أكثر؛ فلا تنقضي عدتها إلا بوضع الأخير من التوأمين أو التوائم.
ما هو الحمل الذي تنقضي به العدة؟
قال المؤلف: (والحمل الذي تنقضي به العدة وتصير به الأمة أم ولد) هذا موجود في بعض النسخ وفي بعضها ليست هذه العبارة موجودة، (ما يتبين فيه خلق الإنسان).
يعني إذا وضعت ما تبين فيه خلق الإنسان؛ فقد خرجت من العدة، أما إذا وضعت ما لا يتبين فيه خلق الإنسان؛ فإنها لا تخرج من العدة، وإنما تستمر في عدتها إن كانت من ذوات الحيض أو غيرها.
ما هي المدة التي يتبين فيها خلق الإنسان؟
120 يوم.(1/8)
120 يوما المدة التي يُنفخ فيها الروح، لكن لا نقصد هذا، نقصد التي يتبين فيها خلق الإنسان، نعم.
أربعة أشهر.
لا.. أربعة أشهر هي 120 يوم هي نفسها.
بعد الشهر الثالث.
يعني بعد ثمانين يوما، والدليل لذلك هو قول الله -عز وجل-: ?مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ? [الحج: 5]، عندما ذكر أطوار خلق الإنسان ذكر المضغة قال: ?مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ? ذكر الله -سبحانه- التخليق يكون في طور المضغة، طور المضغة متى يكون؟
في حديث ابن مسعود يقول -عليه الصلاة والسلام-: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة)؛ فدلَّ هذا الحديث على أن طور المضغة إنما يكون بعد ثمانين يومًا، بعد ثمانين يومًا هنا يبدأ التخليق، لكن قد لا يتضح التخليق ما بين الثمانين والتسعين قد لا يتضح، لكن ما بعد التسعين يومًا في الغالب أنه قد اتضح، بعد ثلاثة أشهر، فلذلك ما بين الثمانين والتسعين هنا يُنظر إلى وضع ذلك السقط هل تبين فيه خلق الإنسان أم لا؟ لأنه يترتب عليه أحكام شرعية، يترتب عليه أولاً انقضاء العدة للمطلقة والمتوفى عنها زوجها. ويترتب عليه أيضًا الدم الذي يخرج من المرأة، إذا تبين فيه خلق الإنسان يكون دم نفاس، إذا كان لم يتبين فيه خلق الإنسان يكون دم فساد، تصلي معها المرأة وتصوم، أما إذا كان دم نفاس لا تصلي ولا تصوم، ويترتب على هذه المسألة أحكام شرعية مهمة.(1/9)
ولكن هنا أنبه على مسألة مهمة في الحقيقة, وهي: أن الأطباء عندما يحسبون الحمل يحسبونه بطريقة غير الطريقة الشرعية. فالطريقة الشرعية أن مدة الحمل تحسب من التقاء الرجل بالمرأة واجتماع ماء الرجل ببويضة المرأة وحصول التلقيح، هنا تبتدئ مدة الحمل، لكن الأطباء لهم طريقة أخرى في حساب الحمل يحسبون مدة الحمل من أول يوم من آخر حيضة حاضتها المرأة، وهذه تختلف عن الطريقة التي ذكرتها، ولهذا لا يُعتمد على كلام الأطباء في حساب مدة الحمل؛ لأن حساب مدة الحمل هنا يترتب عليه أحكام شرعية كما ذكرنا، يترتب عليه انقضاء العدد، يترتب عليه حال المرأة من جهة الدم الذي يخرج منها هل هو دم فساد أم دم نفاس؟ فهنا لا نعتمد على رأي الأطباء في هذا التقدير، وإنما نعتمد تحسب المرأة حملها بهذه الطريقة التي ذكرت، قد يصعب أحيانًا حسابها لكنها تقدرها تقديرًا؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين الحساب الذي يذكره الأطباء، وبين الحساب الذي ذكرت. أحيانًا يصل عدة أيام، يعني ربما تؤثر في الحكم، يعني إذا قلنا تسعين يومًا يختلف عما لو قلنا: خمسة وسبعون يومًا يعني هنا خمسة وسبعون يوما لم يتبين فيه خلق الإنسان، تسعون يوما تبين فيه الخلق، فهنا ننبه على هذه القضية.
يقول: ألا يكتفي يا شيخ سعد بالنظر في هذا السقط مثلاً؟.
إذا اتضح؛ فليس فيه إشكال، لكنَّ كثيرا من الناس ما يدققون. فالمرأة تقول ربما تستفتي وتقول: حامل ثلاثة أشهر، لكن عند التدقيق ما يكون له ثلاثة أشهر، ولا يُنظر لهذا الذي سقط هل فيه خلق الإنسان أم لا؟ ولذلك لو أن المرأة دققت فيما يخرج منها وتنظر هل تبين فيه خلق الإنسان أم لا؟ لا شك أن هذا هو الأولى، لكنَّ كثيرا من الناس لا يدققون في المسألة وإنما يعتمدون فقط على حساب المدة.(1/10)
قال: (الثاني) يعني الثاني من المعتدات (اللاتي توفي أزواجهن، يتربصن أربعة أشهر وعشرًا) وهذا قد ذكره الله -عز وجل- في قوله -سبحانه-: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا? [البقرة: 234] هذه هي عدة المتوفى عنها زوجها.
(والإماء على نصف من ذلك، وما قبل المسيس وما بعده سواء)، هذا بالنسبة لغير الحامل لكن التي توفي عنها زوجها وهي حامل عدتها وضع الحمل.
هنا قال المؤلف: (وما قبل المسيس وما بعده سواء)، ما معنى هذه العبارة؟ (وما قبل المسيس وما بعده سواء) بالنسبة للمتوفى عنها زوجها. لاحظ، القسم الثاني فقط بينما القسم الأول يفرقون، لكن هنا في القسم الثاني فقط، القسم الثالث يفرقون، لكن القسم الثاني يعممون، يقولون: (ما قبل المسيس وما بعده سواء).
يقول: الإحداد سواء المدخول بها أو غير المدخول بها؟.
يعني أنه بمجرد العقد تجب عدة الوفاة إذا توفي الزوج سواء مسها أو لم يمسها، دخل بها أو لم يدخل بها، خلا بها أو لم يخل بها. وهذا ذكر كالاتفاق بين أهل العلم، فلو أن رجلاً عَقَدَ على امرأة ثم توفي في الحال؛ وَجَبَ عليها أن تُحِدَ عليه، وأن تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ولها المهر والميراث، الآن كسبت هي من هذا العقد. لكن عليها العدة، وسيأتي -إن شاء الله- الكلام عن هذا في الإحداد. فهي ترثه وتلزمها العدة، ولها المهر، وهذا -إن شاء الله- سيأتي الكلام عنه في باب الإحداد.
لكن هذا هو مقصود المؤلف بقوله: (وما قبل المسيس وما بعده سواء) هذا بالنسبة للمتوفى عنها زوجها، فهي بمجرد العقد تجب عليها عدة الوفاة إذا توفى عنها زوجها حتى ولو لم يمسها حتى ولو لم يخل بها، يعني عند جميع العلماء.
الثالث: قال: (المطلقات من ذوات القروء).
ذوات القروء: القروء جمع قرء، والقرء اختلف العلماء في المقصود به؛ هل المقصود به الطهر أم الحيض؟(1/11)
والصحيح أن المقصود به الحيض، ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دعي الصلاة أيام أقرائك) قوله لإحدى الصحابيات: (دعي الصلاة أيام أقرائك). ومعلوم أنها إنما تدع الصلاة أيام الحيض، فدل ذلك على أن القرء إنما يطلق على الحيض.
فالقول الراجح: أن القروء المقصود بها الحيض، فذوات القروء يعني ذوات الحيض يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، يعني ثلاث حيض، (وقرء الأمة حيضتان) الأصل أنها حيضة ونصف، لكن لا تتبعض الحيضة فيجبر هذا الكسر فتكون حيضتيْن.
الرابع: (اللائي يئسن من المحيض فعدتهن ثلاثة أشهر) المرأة الآيسة التي انقطع عنها الحيض وأيست أن يعود إليها؛ فعدتها ثلاثة أشهر، وهكذا أيضًا (اللائي لم يحضن) يعني الصغيرات، اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر؛ لقول الله –تعالى-: ?وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ? [الطلاق: 4].
كيف الصغيرة؟
نعم، الصغيرة ممكن أن يُعقد عليها، وهي لم تحض بعد، عائشة -رضي الله عنها- عقد عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمرها ست سنين، ودخل بها وعمرها تسع سنين، ومعلوم أن التي عمرها ست سنين لم تحض بعد. فنحن ذكرنا أن الزواج لا حدَّ لأقله، لا بالنسبة للزوج ولا بالنسبة للزوجة، ولهذا ذكر الله -تعالى-: ?وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ? يعني لصغرهن.
يقول: ألا تدخل يا شيخ في قضية أنه لم يمسها مثلاً في قضية طلاقها؟.
نعم.. التي لم يمسها هذا عام للصغار وللكبار، عام للجميع، يعني الخلاف الذي ذكرناه الصغيرات والكبيرات.
قال: (والأمة شهران) أيضًا لما ذكرناه من أنها لا تتبعض العدة، فيجبر الكسر هنا فتكون عدة الأمة شهرين.(1/12)
هناك عدة أيضًا لم يذكرها المصنف -رحمه الله- وهي عدة المختلعة، وهي التي جعلنا فيها سؤالاً في آخر الدرس السابق، وأردنا بهذا أن الإخوة المتابعين يبحثون ويراجعون وبالفعل تحقق الهدف ووجدنا من إجابات الإخوة والأخوات ما يسر رجعوا إلى كتب أهل العلم، وذكروا أجوبة صحيحة في معظمها. وهذا هو الهدف من طرح هذه الأسئلة الهدف هو تشجيع الإخوة والأخوات على البحث ومطالعة كتب أهل العلم، والارتباط بها، فعدة المختلعة لم يذكرها المصنف -رحمه الله- هنا، نحن نذكرها.
جمهور العلماء على أن عدة المخلعة ثلاث حيض، يعني كالمطلقات ذوات القروء، واستدلوا بعموم الآية وهي قول الله -عز وجل-: ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ? [البقرة: 2282].
القول الثاني في المسألة: أن عدة المختلعة حيضة واحدة، وهذا القول روي عن عثمان، وابن عمر -رضي الله عنهما- وقال ابن القيم: إنه لا يُعرف لهما مخالف من الصحابة. وهو رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله-. واستدل أصحاب هذا القول بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عدتها حيضة) أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح من جهة الإسناد. وهذا القول أيضًا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى- وهو القول الراجح، فالقول الراجح إذن في عدة المختلعة أنها حيضة واحدة.
تقول: السؤال الأول: إذا اختلف الصحابة في مسألة معينة ألا يُقَدَّم أقوال الخلفاء الراشدين على الصحابة الآخرين؟ استنادًا لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)؟
السؤال الثاني: إذا وضعت المرأة حملها ولم يتبين خلقه فكيف تكون عدتها؟.(1/13)
ذكرنا المرأة المختلعة نحن قلنا: أن العلماء اختلفوا في عدتها على قولين؛ فمن العلماء من يرى أن حكمها حكم غيرها من المطلقات، فإذا كانت ممن تحيض؛ فتكون عدتها ثلاثة قروء, والقول الراجح في المسألة أن عدتها حيضة واحدة لحديث ابن عباس في قصة امرأة ثابت بن قيس وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرها بأن تعتد بحيضة واحدة، وهذا القول هو القول الراجح وقلنا أنه مروي عن عثمان، وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، فبناء على ذلك يكون القول الصحيح عند أكثر المحققين من أهل العلم هو أن عدة المختلعة أنها حيضة واحدة، بهذا نكون قد انتهينا من أصناف المعتدات.
تقول: إذا اختلف الصحابة هل نقدم أقوال الخلفاء الراشدين على..؟.
أولاً في هذه المسألة، نحن ذكرنا أن هذا لم يثبت عن الخلفاء الراشدين، وأن أثر زرارة بن أبي أوفى مرسل، وهو لم يثبت عن الخلفاء الراشدين، لكن لا شك أنه إذا ثبت عن الخلفاء الراشدين هو أولى من غيرهم، لكن أيضًا ليس حجة في هذا، إذا اختلف الصحابة؛ فليس قول بعضهم حجة على الآخر. حتى ولو كان قول الخلفاء الراشدين، ولهذا مثلاً في مسألة التمتع، عندما قيل لابن عباس -رضي الله عنهما-: إن أبا بكر وعمر يقولان بالإفراد، يأمران الناس بالإفراد، وهو أيضًا رأي عثمان وعلي رأي الخلفاء الراشدين، فقال ابن عباس -رضي الله عنه-: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
لكن لو أن الخلفاء الراشدين قالوا بقول مثلاً ولم يخالفهم غيرهم من الصحابة فيكون حجة هنا في هذا. في هذه المسألة نحن قلنا: إن هذا أصلاً لم يثبت عن الخلفاء الراشدين في هذه المسألة.(1/14)
سؤالها الثاني تقول: إذا وضعت المرأة ما لا يتبين فيه خلق الإنسان فإنه لا تنقضي عدتها بهذا الإسقاط، أو الإجهاض، لا تنقضي عدتها به، وحينئذ يكون حكمها حكم غيرها، إن كانت من ذات الحيض يكون عدتها ثلاث حيض، على ما ذكرنا في الشرح، يكون حكمها حكم غيرها لا يكون حكمها حكم المرأة الحامل.
يسأل عن معنى التربص؟.
التربص معناه الانتظار، ?يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ? [البقرة: 228]، يعني المقصود أنهن ينتظرن.
يقول: أريد التفصيل في قضية مدة السكتة يبدو من أول السكتة يبدو من أول الطلقة إلى الطلقة الثانية، وبين الثانية والثالثة، والبعض أشكل عليه قضية طالق ثم طالق وطالق فطالق وطالق وطالق؟.
مدة ماذا؟
في المدة ما بين الطلقة الأولى والطلقة الثانية إذا أراد أن يطلق ثلاث، كم المدة التي ينتظرها؟.
ليس هناك مدة محددة، لو قال: طالق ثم طالق ثم طالق نوى به ثلاثًا وقع ثلاثًا، وقع ثلاثًا حتى لو كان في مجلس واحد، فليس هناك مدة محددة.
تسأل تقول عن: حتى تستطيع المرأة أن تسقط الجنين في كم العمر؟ كم عمر هذا الجنين؟ بحيث لا يكون عليه إثم إذا كان الزوج لا يرغب بهذا الحمل؟.(1/15)
نعم.. هو عند الحنابلة أنه إذا كان في طور النطفة، في طور الأربعين يقولون: يجوز الإسقاط مطلقًا حتى ولو كان بدون سبب، نص على هذا فقهاء الحنابلة، ولكن الأقرب والله أعلم أنه لا بد من أن يكون هناك سبب، ومجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة له قرار في هذا، ورجح القول بأنه أيضًا لا يكون الإسقاط حتى في طور الأربعين إلا بسبب معتبر شرعًا، لكن في طور الأربعين لا شك أن الإسقاط أخف من غيره، يعني إذا وجد سبب معتبر بأن تكون المرأة مريضة مثلاً أو نحو ذلك؛ فلا بأس بالإسقاط حينئذ. أما إذا لم يوجد سبب فالأقرب والله أعلم أنه لا يجوز الإسقاط في هذه الحال؛ لأنه إذا كان الصحابة قد اختلفوا في حكم العزل وهو لا زال بعد لم يكن حملاً لا زال نطفة، ومع ذلك اختلف الصحابة في حكم العزل فما بالك إذا أصبح حملاً وعَلِقَ برحم المرأة وأصبح نطفة؟! فتكون الكراهة من باب أولى. ومن العلماء أيضًا من يرى منع العزل؛ فكيف بما إذا كان الإسقاط لهذا الحمل بعد مُضي أربعين؟ لكن لا شك أنه في طور الأربعين أنه أخف مما لو كان في طور العلقة أو في طور المضغة. أما بعد نفخ الروح فلا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال، لا يجوز إسقاطه؛ لأنه يعتبر في الحقيقة قتل للنفس، هذا الإنسان قد نفخت فيه الروح لا يجوز التعدي عليه ولا يجوز قتله، قبل نفخ الروح فيه هو محل نظر واجتهاد، إذا وجد سبب معتبر شرعًا فإنه لا بأس بذلك، لكن في طور الأربعين يكون الإسقاط أخف منه فيما بعد الأربعين.
تقول: كيف تحسب المرأة عدتها من طلاق إذا كان يرتفع عنها الحيض بسبب الإرضاع؟ يعني لا تحيض إلا بعد ستة أشهر، وبعض النساء سنتين ولا تحيض؟.(1/16)
نعم، هذه -إن شاء الله- سنتكلم عنها في الدرس القادم، كان بودي أن أتكلم عنها في هذا الدرس، لكن ضاق الوقت بنا، التي ارتفع حيضها إذا كانت لا تدري ما سبب رفعه أو أنها تدري بسبب رفعه وتطول معها مدة الانتظار، كل هذا تكلم عنه العلماء بالتفصيل، وسنبينه -إن شاء الله- في الدرس القادم.
تقول: لماذا يُحسب عدة المختلعة حيضة واحدة فقط؟ أليست العلة واحدة وهي استبراء الرحم؟!.
نعم.. هي استبراء الرحم، واستبراء الرحم يحصل بواحدة، هي أجابت عن سؤالها، ما دام أن المقصود أنها من العلل ليست هي العلة من العلل ومن الحكم استبراء الرحم، فإن ذلك يحصل بواحدة.
تقول: لماذا عدة المتوفى عنها حملها وهي في الحامل هي وضع الحمل أو ليس عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا وذلك لبراءة الرحم وكذلك وفاءً للزوج؟ وإلا فما الفرق بين عدة الحامل المطلقة والحامل المتوفى عنها زوجها؟.
عدة الحامل المطلقة أو الحامل المتوفى عنها زوجها وهي حامل واحدة، فإذا طُلِّقَت المرأة وهي حامل عدتها بوضع الحمل، إذا توفي عنها زوجها وهي حامل عدتها بوضع الحمل، فلا فرق بينهما في الحقيقة، العدة بوضع الحمل. أما قولها: لماذا هي أربعة أشهر وعشرًا وإذا كانت حاملاً كانت بوضع الحمل؟
هذا هو شرع الله -عز وجل- والله تعالى أعلم وأحكم، أما قولها: براءة الرحم. نعم براءة الرحم تتحقق بوضع الحمل، إذا وضعت الحمل تحققنا من براءة الحمل، لكن تبقى مسألة وفاء الزوج، يعني لو أنها توفي زوجها ثم وضعت مباشرة، خرجت من العدة، وحلت للأزواج، كما ذكرنا في الدرس، حتى لو كان على مُغْتَسَلِهِ يُغَسَّل حلت لغيره من الأزواج. فهي تسأل قد يُشكل عليها هذا يعني أنه من حِكَم مشروعية عدة الوفاة والإحداد هي الوفاء لحق الزوج فكيف يكون هذا؟
الله تعالى أعلم وأحكم.
يقول: عدة الملاعِنة التي حصل بينهم لعان؟ ما هي العدة؟.(1/17)
اللعان سنتكلم عنه بالتفصيل -إن شاء الله-، وسنبين أنه يختص بأحكام منها أن الرجل إذا لاعن زوجته يفترقان أبدًا، لا تحل له حتى ولو نكحت زوجًا غيره؛ لأنه ما دام أنه قد وصلا إلى هذه المرحلة إلى مرحلة اللعان فلا يمكن اجتماعهما أبدًا، وسنتكلم عن هذا -إن شاء الله- بالتفصيل.
يقول: لو أن امرأة توفي عنها زوجها فبدأت في عدتها ثم في أثناء العدة ظهر حمل فهل تكمل العدة الأولى أم تنتقل إلى الاعتداد بالحمل؟.
نعم.. إذا ظهر الحمل فحينئذ معنى ذلك أنها حامل، فعدتها تكون بوضع الحامل، فعدتها تكون بوضع الحمل، تنتقل لعدة الحامل فتكون عدتها بوضع الحمل.
يقول: هل هناك علة في اختلاف العدة بين المتوفى عنها زوجها والمختلعة؟ تُسَوِّغُ اختلاف هذه العدد؟.
أولاً أقول للإخوة والأخوات جميعًا: يكفي أن نعرف حكم الله –تعالى-، فهو حكمة الحِكَم وغاية الحكم، والله –تعالى- يقول: ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ? [الأحزاب: 36].
والله تعالى عليم حكيم، لا يشرع شيئًا إلا لحكمة بالغة، قد نعرف نحن هذه الحكمة، وقد تتقاصر عقولنا وفهومنا عن إدراكها، لكن الواجب على العبد هو الاستسلام لحكم الله –تعالى- وشرعه؛ لأن هذا هو مقتضى العبودية، وإلا كيف يكون الإنسان عبدًا لله وهو يعترض على شرعه وحكمه؟!
فهذا الاختلاف نحن نعرف أنه لحكمة، لكن قد ندركها وقد لا ندرك هذه الحكمة، ومن حكم مشروعية العدة براءة الرحم، كذلك أيضًا الوفاء أن فيها حقًّا للزوج، وحقًّا للناكح الثاني. وقبل ذلك حق لله -عز وجل- باتباع أمره؛ ففيها عدة حكم، لكن لماذا تختلف مثلاً عدة المتوفى عنها عن عدة ذات القروء عن عدة المرأة الحامل عن عدة المختلعة؟!
الله تعالى أعلم وأحكم.(1/18)
يقول: الفرق بين القولين: القول بوجوب العدة المتوفى عنها، ولم يمسها والقول بعدم وجوب العدة للتي طلقها ولم يمسها؟ كيف نفرق؟ لأن هناك وجبت العدة في المتوفى عنها وهذه التي طلقها ولم يمسها لم تجب عليها العدة؟.
نعم.. التي توفي عنها زوجها تجب عليها العدة وإن لم يمسها، بمجرد العقد تجب عليها عدة الوفاة، بينما التي طلقها ولم يمسها لا عدة عليها، وهذا بنص الآية: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا? [الأحزاب: 49] فهذا هو الحكم لكن لماذا الفرق؟
الله -تعالى- أعلم، الله –تعالى- هو الذي شرع العدة هنا وبين أنه لا عدة هنا وبين أنه لا عدة هنا فالله تعالى أعلم وأحكم.
لكن يظهر -والله أعلم- من باب الاستنتاج أو للحكمة أن المرأة إذا طُلِّقَتْ ولم يمسَّها الزوج فحينئذ نحن متحققون من براءة رحمها، وحينئذ لا عدة عليها، ولهذا قال -عز وجل-: ?ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا?، لكن المرأة إذا توفي عنها زوجها فعليها العدة؛ لأن الوفاء تختلف عن الطلاق، يعني هذه امرأة مات عنها زوجها فمن باب الوفاء لحقه أنها تعتد عليه أربعة أشهر وعشرًا.
نحن نريد -إن شاء الله تعالى- سوف نشرح باب الإحداد وسوف نكمل ما تبقَّى في العدد، ولذلك سنضع سؤالين في الإحداد:
السؤال الأول: ما حكم الإحداد على غير الزوج؟ مع ذكر الدليل.
السؤال الثاني: إذا مات الزوج وعلى المرأة حُلِيّ فهل يلزمها خلعه؟ مع ذكر الدليل.(1/19)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الثامن
الدرس الثامن - تابع باب العدة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
تابع باب العدة
إجابة أسئلة الدرس الماضي:
السؤال الأول: ما حكم الإحداد على غير الزوج؟ مع ذكر الدليل.
تقول: يحرم الإحداد على الميت غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحُدَّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) وقد أباح الشارع الثلاث تخفيفاً للمصيبة، وترويحاً للنفس بإبدائها شيئاً من التأثُّر على الحبيب المُفارق.
نعم.. هذه إجابة صحيحة، وإجابة كاملة، نشكر الأخت على هذه الإجابة وسنسلط الضوء عليها -إن شاء الله- على هذه المسألة عندما نتكلم عن أحكام الإحداد إن شاء الله.
إجابة السؤال الثاني: تقول في إجابتها للسؤال الثاني: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المُحِدَّة ممنوعة من لبس الحلي؛ لأنه مما يُتزين به، ودليله ما جاء في الحديث عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المتوفى عنها زوجها لا تلبس المُعَصْفَر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب ولا تكتحل) رواه أبو داود والنسائي.
وعليه؛ فإن مات الزوج وعلى المرأة حلي فإن الواجب عليها إزالة ما يمكن إزالته منها؛ لأن العلة التي مَنعت من ارتداء هذه الأمور موجودة في استدامتها، فدل ذلك على منع استدامة ما نُهيت عنه من أجل الحداد والله أعلم.
نعم، أيضاً هذه إجابة صحيحة، وإجابة كاملة ونموذجية، والمرأة إذا توفي عنها زوجها يلزمها أن تخلع جميع ما عليها من حُلِي، وسنتكلم عن هذه المسألة -إن شاء الله- بالتفصيل عندما نتكلم عن مسائل الإحداد، ونشكر جميع الإخوة والأخوات على هذه المشاركات التي قصدنا منها تشجيعهم على البحث، وعلى الاطلاع، وعلى التحضير للدرس الذي سوف يُشرح.(1/1)
نبدأ الآن بدرسنا وقد بقي في العدة مسألة وهي المواضع التي يُشرع التربُّص فيها مع العدة، وهي ثلاثة مواضع، نقرأ أولاً عبارة المؤلف في هذه المسألة، ثم نشرحها.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المصنف -رحمه الله-: (ويشرع التربص مع العدة في مواضع ثلاثة:
أحدها: إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنها تتربص تسعة أشهر، ثم تعتد عدة الآيسات، وإن عرفت ما رفع الحيض فإنها لم تزل في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به.
الثاني: امرأة المفقود الذي فُقِدَ في مَهْلَكَة أو من بيْن أهله، فلم يُعلم خبره؛ تتربص أربع سنين، ثم تعتد للوفاة، وإن فُقِدَ في غير هذا؛ لم تنكح حتى تتيقن موته.
الثالث: إذا ارتابت المرأة بعد قضاء عدتها بظهور أمارات الحمل؛ لم تنكح حتى تزول الرِّيبة، فإن نكحت؛ لم يصحّ النكاح وإن ارتابت بعد نكاحها؛ لم يبطل نكاحها إلا أن يُعلم أنها نكحت وهي حامل. ومتى نكحت المعتدة؛ فنكاحها باطل، ويفرق بينهما. فإن فُرِّقَ بينهما قبل الدخول أتَمَّتْ عدة الأول، وإن كان بعد الدخول؛ بَنَتْ على عدة الأول من حين دخل بها الثاني، واستأنفت العدة للثاني. وله نكاحها بعد قضاء العِدّتين. وإن أتت بولد من أحدهما انقضت به عدته واعتدت للآخر، وإن أمكن أن يكون منهما أُرِيَ القافة فألحق بمن ألحقوه منهما وانقضت به عدتها منه، واعتدت للآخر).
قال المؤلف -رحمه الله-: (يشرع التربص مع العدة في ثلاثة مواضع).
التربُّص معناه الانتظار، يعني تنتظر المرأة فلا تنكح زوجاً آخر مع العدة أيضاً، يعني أنها تعتد وتتربص، يعني تنتظر، في هذه المواضع الثلاثة:
الموضع الأول: قال: (إذا ارتفع حيض المرأة لا تدري ما رفعه؛ فإنها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد عدة الآيسات).(1/2)
يعني أنها تمكث سنة كاملة، ارتفع حيضها انقطع حيضها لا تدري ما رفعه، يعني كانت ممن تحيض ثم انقطع حيضها، وجهلت السبب، ولا تدري ما رفعه؛ فإنها حينئذ هل نعتبرها من ذوات القروء، أم نعتبر حكمها حكم الآيسة؟
قضى عمر -رضي الله عنه- في مثل هذه المسألة بأنها تنتظر يعني تتربص سنة كاملة، تسعة أشهر للحمل، وثلاثة أشهر عدة الآيسة. وهذا معنى قول المؤلف: (فإنها تتربص تسعة أشهر) يعني للحمل لأن غالب مدة الحمل تسعةُ أشهر وثلاثة أشهر هي عدة الآيسة التي ذكرها الله تعالى في قوله: ? وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ ? [الطلاق: 4].
وقد قضى عمر بذلك بين المهاجرين والأنصار ولم ينكر ذلك منكرٌ؛ فكان كالإجماع من الصحابة -رضي الله عنهم-، لكن إن عرفت ما رفع الحيض وترجو أن يعود الحيض لها؛ فإنها لا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به. يعني هذه المرأة ذهبت مثلاً إلى المستشفى وبعد إجراء الفحوص عرفت السبب الذي ارتفع لأجله الحيض، وأخبرها الأطباء بأن الحيض سيعود لها، هي ترجو أن يعود إليها الحيض.
لسببٍ عارضٍ.
نعم، يعني لأي سبب من الأسباب، المهم أنها ترجو أن يعود إليها الحيض، فهنا تنتظر حتى يعود إليها الحيض فتعتد بالحيض ثلاثة قروء، ولهذا قال: (حتى يعود الحيض فتعتد به) هذا هو الموضع الأول.
الموضع الثاني: امرأة المفقود الذي فُقِدَ في مهلكة أو من بين أهله فلم يُعلم خبره.
المفقود هو إنسان انقطع خبره، فلم يُعلم بحياته ولا موته، إنسان كان يعيش بين أهله ثم فجأة انقطع خبره فلا يُدرى هل هو حي؟ هل هو ميت؟ هذا المفقود قد يكون له زوجة، وهذه الزوجة لا يمكن أن نُعَلِّقَها. ربما هذا المفقود لا يعود، فهل تبقى هذه الزوجة ضحية؟!(1/3)
أبداً، هذه لها حل. امرأة هذا المفقود قال العلماء بأنها تتربص هنا، طيب تتربص بماذا؟ قال المؤلف: (تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة) وعدة الوفاة كم؟
أربعة أشهر وعشر.
نعم.. أربعة أشهر وعشراً، معنى ذلك أنها تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشراً.
قال: (هذا إذا فُقِدَ في مهلكة أما إذا فُقِدَ في غير هذا كالمسافر للتجارة ونحوها لم تنكح حتى تتيقن موته).
وهذا قول عند الحنابلة، وإلا؛ فالمشهور عند الحنابلة أنه إذا كان الغالب عليه الهلاك فإنها تتربص أربع سنين منذ فُقِد ثم تعتد عدة الوفاة. أما إذا كان الغالب عليه السلامة فإنها.. هنا المؤلف يقول: (لم تنكح حتى تتيقن موته). والمشهور من المذهب عند الحنابلة أنها تنتظر تسعين سنة منذ ولد، وهذا قول غريب، لكن هذا هو المشهور من المذهب.
واختلف العلماء في هذه المسألة اختلافاً كثيراً لكن قبل هذا نريد أن نقف مع المذهب عند الحنابلة، تفريق بين ما إذا كان الغالب عليه الهلاك أو الغالب عليه السلامة. نريد مثالاً لمن كان الغالب على حاله الهلاك، ومثالاً لمن كان الغالب على حاله السلامة.
مثال لمن كان الغالب عليه الهلاك؟
الغالب لمن كان عليه الهلاك مثل من دخل حربا أو ذهب لحرب.
نعم.. أحسنت، من كان مثلاً في معركة، أو مثلاً في سفينة غَرِقت، أو في طائرة تحطّمت، الغالب عليه الهلاك.
مثال لمن كان الغالب على حاله السلامة؟
لو أن شخصاً ذهب لصلاة العشاء كما حصلت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
دعنا للقصة سنقرؤها، لكن مثال آخر غير هذا.
من ذهب لطلب الرزق في بلد آمن.
نعم.. ذهب لكسب المعيشة، وطلب الرزق، أو لطلب العلم، أو لنزهة، هذا الغالب عليه السلامة، هم يقولون: من كان الغالب عليه الهلاك يُنتظر أربع سنين وزوجته تنتظر أربع سنين منذ فُقِدَ ثم تعتد عدة الوفاة، هذا إذا كان الغالب عليه الهلاك، أما إذا كان الغالب عليه السلامة فتسعين سنة منذ ولد.(1/4)
ومن أهل العلم من قال: إن المدة التي يُنتظر فيها المفقود هي ستون سنة منذ ولد، ومنهم من قال: سبعون سنة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، ومنهم من قال: خمس وسبعون، ومنهم من قال: خمس وستون، والأقوال في هذا كثيرة.
ولكن الأقرب والله أعلم في هذه المسألة: هو أن المرجع في تحديد المدة إلى اجتهاد القاضي، فالقاضي يدرس حالة هذا المفقود من جميع النواحي، يعني أولاً ملابسات فقده، كيف فُقِد؟ وحالته العقلية، وحالته النفسية، والمكان الذي فُقِدَ فيه من جهة الأمن واضطراب الأمن فيه، وجميع هذه الأمور يدرسها القاضي دراسة مُتَأَنِّية ثم بعد ذلك يحكم القاضي بضرب مدة يُنتظر فيها هذا المفقود، فإن رجع خلال هذه المدة وإلا؛ حَكَمَ بموته، وحينئذ تعتدّ زوجته بعد النطق بالحكم بموته تعد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً. هذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.
أما هذه التحديدات التي سمعناها والتي قالها بعض الفقهاء فإنها تحتاج إلى دليل، ولا دليلَ في هذا، والتحديد بابه التوقيف، ولهذا فالصواب أن المرجع في ذلك إلى اجتهاد القاضي.
حتى في الأربع سنوات يا شيخ؟.
طيب.. نريد أولاً أن نعرف ما هو الأصل في التحديد بأربع سنوات، المؤلف وهو المشهور عند الحنابلة إنما حددوا بأربع سنوات قالوا: لأنه قضاء عمر، قضى به في رجل فُقِدَ في عهده -رضي الله عنه- في قصة عجيبة غريبة، نريد أن نستمع لهذه القصة التي استدل بها بعض الفقهاء على أن المفقود يُنتظر أربع سنين، فلعلك تقرأ لنا يا شيخ هذه القصة، طبعاً هذه القصة من جهة الإسناد قبل هذا إسنادها صحيح أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى" بسند صحيح، وأيضاً ذكرها محمد ناصر الدين الألباني في "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل"، وصحح إسنادها، فهي قصة ثابتة من جهة الإسناد.(1/5)
أخرج البيهقي من طريق قتادة عن أبي نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (أن رجلاً من قومه من الأنصار خرج يصلي مع قومه العشاء فَسَبَتْهُ الجِنُّ فَفُقَدَ، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقصت عليه القصة، فسأل عنه عمر قومه، فقالوا: نعم خرج يصلي العشاء فَفُقِد فأمرها أن تربص أربع سنين فلما مضت الأربع سنين أتته فأخبرته فسأل قومها قالوا: نعم، فأمرها أن تتزوج فتزوجت، فجاء زوجها يخاصم في ذلك إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته فقال له: إن لي عذراً يا أمير المؤمنين، فقال: وما عذرك؟ قال: خرجت أصلي العشاء فَسَبَتْنِي الجن، فلبثت فيهم زمناً طويلاً فغزاهم جن مؤمنون -أو قال: مسلمون، شك سعيد- فقاتلوهم، فظهروا عليهم، فسبوا منهم سبايا فسبوني فيما سبوا منهم، فقالوا: نراك رجلاً مسلماً ولا يحل لنا سَبْيُكَ، فخيروني بين المقام وبين القفول إلى أهلي، فاخترت القفول إلى أهلي فأقبلوا معي، أما بالليل فليس يحدثوني وأما بالنهار فإعصار أتبعها. فقال له عمر -رضي الله عنه-: فما كان طعامك فيهم؟ قال: الفول، وما لم يُذكر اسم الله عليه، قال: فما كان شرابك فيهم؟ قال: الجَدَف) قال قتادة: "والجَدَفُ ما لا يُخَمَّرُ من الشراب"، (قال: فخيره عمر بين الصداق وبين امرأته) قال سعيد: وحدثني مطر عن أبي نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر -رضي الله عنه- مثل حديث قتادة إلا أن مطراً زاد فيه، قال: (فأمرها أن تعتد أربع سنين وأربعة أشهر وعشر)، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أبو مسعود الجريري عن أبي نضرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر -رضي الله عنه- مثل ما روى قتادة عن أبي نضرة.
قلت: وإسناده من طريق قتادة والجريري صحيح، وأما طريق مطر وهو الوراق فإنه ضعيف.(1/6)
نعم.. هذه القصة من جهة الإسناد من الطريقة التي ساقها البيهقي إسنادها صحيح، قصة عجيبة كما سمعنا، يعني هذا الرجل خرج ليصلي العشاء فاختطفته الجن، فبقي فيهم إلى أن أراد الله –تعالى- له الفرج. زوجته ذهبت إلى عمر -رضي الله عنه-، فأمرها أن تتربص أربع سنين، يعني تنتظر أربع سنين، فمضت أربع سنين، حكم عمر بموته، أمرها أن تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، ثم أذن لها في أن تتزوج، لما تزوجت أتى ذلك الرجل، فجعل عمر يخاصمه: (كيف يغيب أحدكم مدة طويلة لا يخبر أهله) فأخبره بهذه القصة وسأله عن طعامه وشرابه كما سمعنا قال: (طعامه الفول وما لم يُذكر اسم الله عليه) يعني ذلك أن ما لم يُذكر اسم الله عليه هو من طعام الجن ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يُذكر اسمُ الله عند الطعام وعند الشراب حتى لا تشارك الشياطين الإنسان في مأكله وفي مشربه، وأراد الله –تعالى- له الفرج، فغزاهم جن مسلمون فخيروه بين أن يبقى عندهم معززاً مكرماً وبين أن يرجع لأهله فاختار الرجوع لأهله. وطبعاً سوف يختار الرجوع إلى أهله، لا أحد يقبل بأن يبقى عندهم اختار الرجوع إلى أهله.
هنا خيره عمر بين أن ترجع له زوجته بعدما تعتد وبين أن يعطيه الصداق من بيت المال، يعني كأن هذا الرجل طابت نفسه من زوجته رآها تزوجت بعده فأرخصت به فطابت نفسه منها، مع أنها في الحقيقة لا تُلام، يعني هي انتظرت أربع سنين، ثم أربعة أشهر وعشراً لكن هذا الرجل كأنه طابت نفسه منها، فاختار الصداق من بيت المال.(1/7)
هنا استدل بعض الفقهاء، ومنهم فقهاء الحنابلة بأن المفقود يُنتظر أربع سنين، لكن في الحقيقة أن هذا الاستدلال محل نظر؛ لأن هذه القصة واقعة عين، يعني يحتمل أنه لو وجد مفقود آخر لربما حكم عمر بأن يُنتظر ثلاث سنين أو خمس سنين يعني مدة أخرى، فهذه واقعة عين، ثم أيضاً هم يستدلون بها على أن المفقود يُنتظر أربع سنين منذ فُقِدَ إن كان الغالب عليه الهلاك، بينما هذا الرجل خرج لصلاة العشاء فهل الغالب عليه السلامة أم الهلاك؟ السلامة.
فهذا الاستدلال إذن محل نظر، وهذا مما يبين لنا أن هذا القول مرجوح، وأن الصواب في هذه المسألة هو القول الآخر، وهو أيضاً قولٌ عند الحنابلة، وهو أن المرجع في ذلك لاجتهاد الحاكم، يعني لاجتهاد القاضي وهو الذي يدرس حالة هذا المفقود من جميع النواحي، من جميع الحالات النفسية والعقلية للمفقود وحالة الأمن وغير ذلك وبناء على ذلك يحكم بما يغلب على الظن أن المفقود لن يرجع ولن يعود في مثل تلك المدة ثم تُؤمر المرأة بأن تعتد عدة الوفاة ويقسم أيضا ما له من مال ساعة النطق بالحكم، يُقسَّم ميراثُه ساعة النطق بالحكم على ورثته الموجودين في ساعة النطق بالحكم، فهذا هو القول الراجح إذن في تربص امرأة المفقود وفي عدتها.
الثالث: قال: (إذا ارتابت المرأة بعد انقضاء عدتها لظهور أمارات الحمل لم تنكح حتى تزول الريبة).(1/8)
هذه المسألة كانت موجودة في الزمن السابق كثيراً لكن في وقتنا الحاضر أصبحت قليلة أو نادرة، نادراً ما تحصل؛ لأن الآن أصبح بالإمكان الكشف عن الحمل يعني إما بالأشعة، أو بالتحليل، وتحليل الدم أو غيره، يعني وسائل التحقق من الحمل أصبحت الآن متيسرة ومتاحة، لكن هذه المسألة كانت موجودة أكثر في الزمن السابق، أن المرأة بعد انقضاء العدة ترتاب في الحمل، (فإذا ارتابت لظهور أمارات الحمل لم تنكح حتى تزول الريبة) حتى يزول هذا الشك. قال: (إن نكحت؛ لم يصح النكاح) يعني إن كانت تشك في أنها حامل ثم نكحت زوجاً آخر لم يصح النكاح، (وإن ارتابت بعد نكاحها لم يبطل نكاحها إلا إذا علمت أنها نكحت وهي حامل) يعني إذا كانت الريبة إنما حصلت بعد النكاح فالأصل صحة النكاح، ولذلك لا يبطل نكاحها، إلا إذا تيقنت أنها فعلاً نكحت وهي حامل، فإنّ نكاحها غير صحيح.
(ومتى نكحت المعتدة فنكاحها باطل ويُفَرَّق بينهم) لأن نكاحها نكاح غير صحيح، ونكاح باطل، بل روي عن عمر أن التفريق يكون تفريقا مؤبدا لا ترجع إليه أبداً وإن كان الأظهر والله أعلم أنّ له أن يتزوجها، وهذا سيذكره المؤلف.
قال: (وإن فُرِّقَ بينهما قبل الدخول أتَمّت عدة الأول) يعني إذا فُرِّقَ بين الزوج الثاني الذي نكحها وهي في العدة قبل أن يدخل بها فإنها تتم عدة الأول. أما إن كانت بعد دخول الزوج الثاني قال: (بنت على عدة الأول من حين دخل بها الثاني) يعني أنه لا تتداخل عدة الأول والثاني، بل لا بد من أن تعتد للأول، وتعتد للثاني فتبني على عدة الأول ثم تعتد بعد ذلك للزوج الثاني، ولهذا قال: (واستأنفت العدة للثاني، وله نكاحها بعد انقضاء العدتين) "وله" الضمير يرجع على الزوج الثاني، له أن ينكح هذه المرأة بعد انقضاء العدتين، يعني عدتها من زوجها الأول، وعدتها من زوجها الثاني الذي دخل بها.
((1/9)
وإن أتت بولد من أحدهما انقضت به عدتها واعتدت للآخر) (وإن أتت بولد من أحدهم) يعني من الزوج الأول أو من الزوج الثاني انقضت به عدتها، واعتدت للآخر.
كيف يمكن أن تأتي بولد من الزوج الأول؟
نعم.. قالوا: يمكن أن يكون الولد للزوج الأول كما لو نكحها الزوج الثاني وولدت لأقل من ستة أشهر، يعني بعد ما نكحها الزوج الثاني مثلاً ولدت بعد شهر فنعلم هنا أن الحمل للزوج الأول فلهذا تكون تنقضي عدة الزوج الأول، وتعتد للزوج الثاني.
(وإن أمكن أن يكون منهم) يعني يكون الولد من الزوجين جميعاً، (وأُرِيَ القافة فألحق بمن ألحقوه منهم)، يعني هذه المسألة مفترضة، يقولون: إن الولد يمكن أن يكون للزوجين جميعاً، وهذه مسألة اختلف فيها العلماء، هل يمكن أن ينعقد الولد من ماء رجلين أم لا؟
فجمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة يقولون إنه ممكن وروي في ذلك آثار عن بعض الصحابة؛ كعمر.
أما الشافعية فيرون أن هذا لا يمكن أبداً، لكن في الوقت الحاضر يمكن أن يُستخدم التحليل البصمة الوراثية أو الحمض النووي، والذي يُستدل به على أن الولد لأحدهما بصورة شبه قاطعة. والحقيقة أن الاستدلال بالحمض النووي هو أولى مما ذكره الفقهاء من القافة؛ لأن خبر القافة مبناه على الظنّ، بينما الحمض النووي أو البصمة الوراثية هي في الحقيقة قريبة من القطع، فإذا كان الفقهاء قالوا: يُعتمد على قول القافة في إلحاقه بأحدهما؛ فلأن يُعتمد على البصمة الوراثية من باب أولى، فهذه الإشكالية التي يذكرها الفقهاء في وقتنا الحاضر يمكن حلها.
لكن تبقى المسألة هل يمكن أن ينعقد الحمل من ماء الرجلين أم أن هذا غير متصور؟(1/10)
أهل الطب فيما أعلم أنهم يقولون: إن هذا غير ممكن، فإذا كان هذا غير ممكن، والمسألة ليس فيها نصّ حينئذ يكون الأقرب هو رأي الشافعية، لكن من كل حال يعني حل هذه المسألة في وقتنا الحاضر أصبح متيسراً بسبب وجود مثل هذه الوسائل كالبصمة الوراثية، ولهذا لا نطيل الكلام فيها.
تقول: بالنسبة لعدة الغائب، أو المفقود أربع سنوات هذا الحكم في السابق، هل مستمر حتى في وقتنا الحاضر بوجود وسائل الإعلام ووسائل الاتصال والإعلانات؟ يعني ممكن يُعلن عنه؟
هي تسأل عن عدة المفقود والغائب تقول: كانت أربع سنوات في السابق، الآن مع وجود وسائل الاتصالات والإعلانات وغيره.
نحن رجَّحنا أن المرجع في ذلك إلى اجتهاد القاضي، ولا تتحدد العدة بأربع سنوات، ولا شك أن القاضي ينبغي له هنا أن يأخذ بوسائل الاتصالات، والمواصلات الحديثة يأخذها بعين الاعتبار فيكون لها أثر في تطويل المدة أم في تقصير المدة، وسائل الاتصالات والمواصلات في تقصير المدة، يعني إذا كان عمر -رضي الله عنه- في هذا الرجل الذي الغالب على حاله السلامة يعني قضى بأن يُنتظر فقط أربع سنوات، فكيف بوقتنا الحاضر الذي تيسرت فيه وسائل الاتصالات والمواصلات، فينبغي أن تكون المدة أقصر من هذا وأن تؤخذ هذه الوسائل بعين الاعتبار.
جيد.. نكمل المسألة.
نعم.. نحن قلنا إنهم قالوا: إنه إذا أمكن أن يكون الولد من ماء رجلين ألحقته القافة، وقلنا: إنه يمكن في الوقت الحاضر أن يُستدل بوسائل التحقق الحديثة؛ كالبصمة الوراثية.(1/11)
قال: (فألحق من ألحقوه منهما وانقضت به عدتها منه، واعتدت للآخر) هذا على افتراض أنه يمكن أن ينعقد الولد من ماء رجلين، وإلا فإن الشافعية يقولون: إن هذا غير ممكن، ويؤيدهم الأطباء في الوقت الحاضر يرون أن الولد لا يمكن أن ينعقد من ماء رجلين، يعني في الحقيقة يكون من حيوان منوي واحد يلقح بويضة المرأة، فلا يمكن أن يكون من ماء رجلين، ولذلك يلحق بأحدهما، وأيضاً بعض الفقهاء يرون ومنهم فقهاء الحنابلة يرون أن القافة إذا ألحقته باثنين يلحق بهما جميعاً، يقال: فلان بن فلان وابن فلان، بل روي عن الإمام أحمد أنه يلحق بثلاثة، ابن فلان وابن فلان وابن فلان.
هذا رويت فيه آثار عن بعض السلف في هذا، لكن في وقتنا الحاضر إذا أثبت الأطباء بصورة قاطعة بأنه لا يمكن أن يتخلق الولد من ماء رجلين، فيكون الأقرب والله أعلم هو قول الشافعية الذين قالوا: إن هذا غير ممكن. الشافعية نَفَوْا هذا وقالوا: إن هذا غير ممكن أن يتخلق الولد من ماء رجلين. بهذا نكون قد انتهينا من أحكام العدة ونقف عند باب الإحداد.
تقول: إذا كان رجل سافر عن زوجته وتوفي منذ ستة أشهر وهي لم تعلم بذلك، فحين علمها هل تعتبر عدتها انقضت أم أنها تبتدئ العدة من حين ما علمت؟.
نعم.. عدتها انقضت بهذا، إذا كانت ما علمت إلا بعد ستة أشهر فقد انقضت عدتها ولا إحداد عليها، لا إحداد عليها في هذه الحالة؛ لأن الإحداد لا يكون من حين العلم وإنما من وفاة الزوج، فإذا لم تعلم المرأة بوفاته إلا بعد انقضاء مدة الإحداد فحينئذ لا إحداد عليها ولا عدة عليها في هذه الحال؛ لأن عدتها قد انقضت، يعني لا يشترط للعدة علم المرأة بوفاة الزوج.
تقول: إذا عرفت المرأة سبب انقطاع الحيض وأنها لن تحيض مرة أخرى هل تعتد سنة كاملة؟ أم ثلاثة أشهر؟.(1/12)
نعم.. إذا عرفت سبب انقطاع الحيض وأنها لن تحيض وأخبرها الأطباء بأنها لن تحيض فمعنى ذلك أنها آيسة، وعدة الآيسة ذكرها الله تعالى في قوله: ? وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ ? [الطلاق: 4].
تقول: الحكمة التي من أجلها حكم عمر -رضي الله عنه- بما ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تتربص سنة كاملة ولم يُكتف بتسعة أشهر؟.
نعم.. الاحتياط في هذا، يعني تسعة أشهر عن الحمل وثلاثة أشهر للعدة = عدة الآيسة، فحكم عمر بهذا لأنها أيضاً لو أنها جُعلت ثلاثة أشهر فقط لربما تكون هذه المرأة حاملاً، لأن المرأة الحامل في الغالب ينقطع عنها الحيض، فلهذا أمر عمر -رضي الله عنه- بأن تتربص سنة كاملة، تسعة أشهر عن الحمل، وثلاثة أشهر عدة الآيسة.
تقول: بالنسبة للمرأة المتوفى عنها زوجها نعلم أن عدتها أربعة أشهر وعشر، هل الشهر يحسب بالثلاثين يوماً؟ مثلاً لو كان الشهر تسعة وعشرين يوماً هل تُزاد في العشر أيام أم يُحسب برؤية الهلال من شهر إلى شهر حتى لو اختلفت الأشهر مثلاً تسعة وعشرين وشهر ثلاثين؟.
يقول: لي سؤال ورجاء: السؤال في الدرس السابق وهو: احتساب مدة الحمل من الناحية الشرعية وخلافه مع الناحية الطبية، الناحية الشرعية منها الصعب بما كان أن تعلم المرأة أو الرجل متى تم التقاء ماء الرجل بماء المرأة؛ لأن هذا في علم الله، وهذا ربما ممكن يكون يعني الحساب فيه صعب. أما بالنسبة للطب، فهم يحسبون فعلاً من آخر دورة شهرية لها، ولكن في الطب الحديث الآن، يمكن بعمل الأشعة التي يُقال عليها صوتية، أو تلفزيونية تحديد التخليق بشكل دقيق، ممكن أن يُقال مثلاً أن القلب يُرى ينبض في ثمانية أسابيع، يظهر كذا في تسع أسابيع.. وهكذا، فهذا ربما يكون وسطاً في الدقة، فإذا رجعت المرأة إلى الطبيب بعمل هذه الأشعة فهنا يبقى الحساب أدق من الطريقتين، والله أعلم.(1/13)
الأشعة هذه ما اسمها؟
أشعة تلفزيونية.
أنت طبيب يا دكتور نبيل أليس كذلك؟
بلى.
الأشعة لها اسم؟ اسمها ماذا؟
اسمها أشعة تلفزيونية لتحديد عمر الجنين أو أشعة موجات فوق صوتية.
موجات فوق صوتية.
نعم.
تحدد عمر الجنين منذ تخلقه؟.
نعم.
يعني منذ أن كان نطفة؟
نعم. تحدد لكل عضو من أعضاء الجسم وقت تخليقه ويُرى بالعين، فيُرى القلب ينبض، ويُرى الجسم أصبح طوله كذا سنتيمترا، أصبح تشكيل الرأس وأصبح تشكيل الأطراف، الكلية بدأت من الأسبوع كذا، فبشكل ممكن يُحسب باليوم.
هذه فائدة يا دكتور نبيل استفدناها نحن واستفادها معنا أيضاً الإخوة المشاهدون، ولذلك نحن نقول للإخوة والأخوات: عند ترتب الأحكام الشرعية على مدة الحمل ينبغي أن يُعتمد على مثل هذه الأشعة لمعرفة عمر الجنين.
يقول: يقولون إن المرأة التي في الحداد لا يجوز لها أن تكلم الرجال؟ هل هذا صحيح يا شيخ؟.
لعلنا نجيب على تساؤل الأخت الكريمة في قضية احتساب الشهر هل يحسب ثلاثين يوما أم تسعة وعشرين يوما؟.
هذه مسألة ذكرها الفقهاء وقالوا: إن الشهر إنما يحتسب بحسب الرؤية تسعاً وعشرين أو ثلاثين إذا كان الإحداد يعني العدة في أول الشهر، وهكذا أيضاً بالنسبة لمن يصوم شهرين متتابعين في الكفارة المغلظة إنما يحتسبها على حسب الرؤية تسعاً وعشرين أو ثلاثين إذا كان من بداية الشهر يعني من واحد من الشهر الهجري.
أما إذا كانت بداية العدة من منتصف الشهر، فمن الفقهاء من يقول: إنه تحتسب الأشهر التي في الوسط، يعني الشهر الأول الذي بدأت فيه تحتسبه بثلاثين يوماً والشهر الأخير كذلك ثلاثين يوماً والذي في الوسط بالرؤية، ولكن الأقرب أنها في مثل هذه الحال أنها تحتسبها كلها ثلاثين يومًا وقد رجح هذا القول الموفق ابن قدامة -رحمه الله- اختار هذا القول.
لماذا؟(1/14)
لأنا إذا حسبْنا الشهر الأول عندما نحتسبه من منتصف الشهر يكون منتصف الشهر الأول إلى منتصف الشهر الثاني، فهنا عندنا منتصف شهر ومنتصف شهر، فلا يمكن أن نقول: إن هذا شهر هلالي، ثم أيضاً الشهر الثاني منتصف الشهر الثاني، ومنتصف الشهر الثالث، ولهذا فإنه إذا كانت العدة في أثناء الشهر فإنها تحسب الشهر ثلاثين يوماً، ومعنى ذلك أنها تعتد عدة الوفاة كم يوما؟ مائة وثلاثين يوماً، أربعة أشهر الشهر ثلاثون إذا ضربنا ثلاثين في أربعة مائة وعشرين, وعشرة أيام مائة وثلاثين يوماً.
لكن لو قُدِّرَ أن الزوج توفي في أول شهر شعبان، في واحد من شهر شعبان، فهنا تحسب شهر شعبان على حسب الرؤية ثلاثين أو تسعاً وعشرين رمضان كذلك شوال كذلك ذو القعدة كذلك، فربما أنها تكون أقل من مائة وثلاثين يوماً لكن في هذه الحال فقط.
أما بالنسبة للأخ الكريم الدكتور -جزاه الله خيراً- أفادنا بهذه الفائدة نحن ذكرنا أن هناك اختلافا بين حساب الأطباء لمدة الحمل وبين الحساب الشرعي، فحساب الأطباء يحسبون مدة الحمل من أول يوم من آخر دورة تحيض يعني يكون فيها حيض المرأة، قلنا: إن هذه الطريقة غير شرعية، وأن الحساب هو يكون من التقاء ماء الرجل ببويضة المرأة، لكن هذا كما ذكر أخونا الدكتور أن هذا صعب فهو قد أفادنا بأن هناك أشعة الموجات فوق الصوتية وأنه يمكن من خلال هذه الأشعة تحديد عمر هذا الحمل بدقة منذ أن كان نطفة، وبناءً على ذلك نحيل من أراد معرفة الحمل إلى مثل هذه الأشعة؛ لأجل التحقُّق من عمر الحمل؛ لأنه تترتب عليه أحكام شرعية كما بينا ذلك في الدرس السابق.(1/15)
أما سؤال الأخ الكريم فإن شاء الله سنتكلم عنه عندما نشرح أحكام الإحداد، لكن باختصار نقول: هذا مما هو شائع عند بعض العامة أن المرأة لا تكلم الرجال الأجانب، وهذا لا أصل له، والمرأة تكلم المحارم والأجانب لكنها لا تخضع بالقول، سواءٌ كانت في حال الإحداد أو في غير حال الإحداد، يعني لا يختص الإحداد بحكم في هذا، إنما المرأة الحادة تجتنب خمسة أمور سنبينها -إن شاء الله- عندما نشرح مسائل الإحداد.
تسأل عن قضية المقصود من قصة أن الجن هل المعنى أنه التبست الرجل تلبسته منعته من زوجته والذهاب إليها. هل هذا هو المراد؟.
لا.. لا.. الرجل اختطف، ليس المقصود أنه حصل تَلبُّس، فيبدو أن الأخ السائل أو السائلة لم يتابع معنا القصة، يعني هذا رجل اختطف، لم يُعلم له خبر، ما يُدرى أين ذهب، ثم تبين بعد هذه المدة الطويلة بعد أكثر من أربع سنين أن الرجل قد خطفته الجن، وحصل بينهم اقتتال ثم أعيد بعد ذلك، وسمعنا هذه القصة بطولها، هذا الرجل اختطف اختطافا حقيقيا، وليس المقصود أنه قد تلبس به الجن.
يقول: السؤال حول نهي المرأة أن تحد فوق ثلاث إلا على زوجها، لو أن امرأة يا شيخ توفي لها قريب، فحزنت عليه حزناً شديداً فقامت بعمل الحداد وإن كانت لم تقصد ذلك مثلاً تركت الزينة، ولم تخرج من بيتها وقامت ببعض الأعمال.. لم تقصد ذلك، لكن من حزنها على .. واستمر معها الحزن، فهل تؤاخذ على ذلك؟.
نعم.. هو إذا لم تقصد هذا الشيء، وإنما شُغلت بالمصيبة وبالحزن، فلا يعتبر هذا إحداداً. الإحداد هو الإحداد الذي يُقصد بأن تقصد المرأة اجتناب الزينة، وتقصد البقاء في البيت وعدم الخروج منه، فهذا لا يكون إلا على زوج ورُخِّصَ في غير الزوج ثلاثة أيام فقط، أما كون المرأة مثلاً تُشْغَل بمصيبتها ولا تقصد بهذا الإحداد، فإن هذا لا يدخل في معنى الإحداد.
نأخذ ما تيسر من الإحداد ونكمل بقية مسائله في الدرس القادم، قال المؤلف -رحمه الله-: (باب الإحداد).(1/16)
الإحداد معناه في اللغة مأخوذ من أحَدَّ وأصله حَدَدَ، ومدار المادة الحاء والدال على المنع.
ومعناه –شرعاً-: تربّصٌ تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى نكاحها، أو يُرَغِّبُ في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة.
وقد كان الإحداد معروفاً في الجاهلية، وتصفه زينب بنت أبي سلمة كما جاء في صحيح البخاري قالت: (كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها في الجاهلية دخلت حِفْشًا) والحفش هو البيت الصغير (ولبست شرَّ ثيابِها، ولم تمسّ طيباً حتى تمرّ بها سنة كاملة) تدخل هذا البيت الصغير لا تغتسل لا تتنظف، تلبس شر ثيابها، يؤتى في هذا المكان يؤتى لها بالطعام والشراب، فإذا مر بها سنة كاملة إذا برائحتها كريهة جدا.
تصور امرأة في مكان صغير تبقى سنة كاملة، بدون أن تتنظف، وبدون أن تغادر هذا المكان، وهذه من الأغلال التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذه من أمور الجاهلية التي رفعها الإسلام، قالت: (ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتفتض) يعني تمسح به، فقلما تفتض بشيء إلا مات من شدة الرائحة الكريهة، لاحظ يعني ما تتمسح بشيء من حيوان أو طائر إلا مات من الرائحة الكريهة.
قالت: (ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم بعد ذلك ترجع إلى ما شاءت من طيب أو غيره).
فكانت المرأة على هذه الحال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أولاً جُعلت المدة أربعة أشهر وعشراً، والحامل لو وضع الحمل، ثانياً منعت من أمور معينة فقط، سنذكرها خمسة أمور فقط، ولم تمنع مما عدا ذلك، فرفع الإسلام هذه الأثقال والآصار التي كانت موجودة في الجاهلية، وتلقى المرأة بسببها عنتاً كبيراً ومشقة.(1/17)
قال: (وهو واجب على من توفي عنها زوجه) يعني أن الإحداد واجب في حق من توفي عنها زوجها؛ لقول الله تعالى: ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ? [البقرة: 234]، وقد كان قبل ذلك سنة كاملة، ثم نُسِخَ إلى أربعة أشهر وعشراً، كما في قوله تعالى: ? وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ? [البقرة: 240]، هو إذن قال: (هو واجب) يعني على من توفي عنها زوجها يجب عليها أن تُحِدَّ عليه وهو اجتناب الزينة، يعني أن المرأة الحادة يُقال الحادَّة ويُقال المُحِدَّة، كلاهما صحيح، يُقال الحادة ويُقال المُحِدَّة، تجتنب المرأة أموراً وقتَ إحدادها، وهذه الأمور قد وردت في عدة أحاديث، قبل أن نذكر هذه الأمور، نشير إلى الحكمة من عدة الوفاة، يعني عدة الوفاة هي أربعة أشهر وعشراً، والحامل بوضع الحمل.
ما هي الحكمة منها؟
قيل: الحكمة هي براءة الرحم، التحقق من براءة الرحم، ولكن اعترض على ذلك، بأنه لو كانت الحكمة هي التحقق من براءة الرحم لما كان على المتوفى عنها زوجها قبل الدخول لما كان عليها عدة، نحن قلنا في درس سابق: إن المتوفى عنها زوجها قبل الدخول والخلوة عليها عدة تعتد أربعة أشهر وعشراً ، هذه المرأة التي لم يدخل بها زوجها نحن متحققون من براءة رحمها فلماذا تعتد أربعة أشهر وعشراً؟
فهذا مما يُشكل على القول بأن الحكمة هي التحقق من براءة الرحم، ثم أيضاً براءة الرحم يكفي فيها حيضة واحدة، فلماذا تعتد أربعة أشهر وعشراً؟(1/18)
والصواب في هذا والله أعلم هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هو أن عدة الوفاة حَرَمٌ لانقضاء النكاح ورعاية لحق الزوج، ولهذا تَحُدُّ المتوفى عنها زوجها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج، فجعلت العدة حريماً لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن، فيحصل بها الفصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني ولا يتصل الناكحان، ولهذا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا عَظُمَ حقه حَرُمَ نساؤه بعده.
فهذا أقرب ما قيل في الحكمة من عدة الوفاة، وهي أن عدة الوفاة حرم لانقضاء النكاح وفصل ما بين النكاح الأول والنكاح الثاني.
الخصال التي يجب على المرأة الحادة اجتنابها نرجئ الحديث عنها للدرس القادم؛ لأنها تحتاج إلى مزيد من التفصيل والبيان فنرجئ الحديث عنها إلى الدرس القادم.
بالنسبة للأسئلة التي نطرحها، نحن إن شاء الله تعالى ربما في الدرس القادم أو الذي يليه سوف ندخل في أحكام الظهار ولهذا بودي أن الإخوة يحضرون ما تبقى من باب الإحداد وكذلك أيضاً أول باب الظهار، ولهذا فإن الأسئلة ستكون في باب الظهار؛ لأن الأسئلة في الدرس السابق جعلناها في الإحداد، فالأسئلة هنا سنجعلها إن شاء الله في الظهار.
السؤال الأول: ما حكم الظهار؟ مع ذكر الدليل من القرآن.
تقول حكمه كذا، والدليل هو قول الله تعالى كذا.. يعني مع بيان وجه الدلالة.
السؤال الثاني: إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت علي كأبي"؛ فهل يكون ظهاراً؟ مع ذكر الدليل.
يعني إذا قال الزوج لزوجته: "أنتِ علي كأمي" أو: "كظهر أمي" هذا ظهار. لكن لو كان العكس، لو أن المرأة هي التي قالت لزوجها: "أنت علي كأبي أو كأخي" فهل يكون ظهاراً؟ مع ذكر الدليل.
نأمل من الإخوة المتابعين معنا أن يبحثوا في الإجابة عن هذين السؤالين.
يقول: لو جاءت امرأة إلى القاضي بعد شهر، فحكم القاضي سنة مثلاً هل تعتبر من بداية الفقدان أم من بداية حكم القاضي؟.
حكم بماذا؟
حكم مثلاً أن تتربص سنة.(1/19)
هو القاضي لا بد أن يبين في حكمه بأن التربص من فقده، حكم القاضي يكون بفقده، يقول: حكمت بأن ينتظر هذا المفقود منذ فقده سنة كاملة أو سنتين أو أكثر أو أقل، ثم بعد ذلك يحكم القاضي بموته، وساعة النطق بموته نعتبرها ساعة وفاته من جهة تقسيم الإرث، ثم بعد ذلك تعتد المرأة بعد ساعة النطق بوفاته تعتد عدة الوفاة، يعني نعتبر ساعة النطق بوفاته كأنها ساعة وفاته.
تقول: إذا توفي الزوج قبل الدخول بالمرأة ثم تزوجت قبل انقضاء العدة من رجل آخر هل تأثم بذلك؟.
نعم، لا شك أنها تأثم، إذا تزوجت المرأة قبل انقضاء العدة فإنها تأثم، بل إن نكاحها الثاني غير صحيح، فيلزمها أن تكمل العدة الأول كما مر معنا وتعتد للثاني، ثم بعد ذلك للزوج الثاني أن يعقد عليها، لكن نكاحها الآن غير صحيح، إذا كانت تسأل عن أمر واقع، فنقول: زوجها أو هذا الذي تزوج بها عليه أن يجتنبها الآن وتعتد من زوجها الأول عدة الوفاة من زوجها الأول وأيضاً عدة الطلاق أو المفارقة من زوجها الثاني ثم إن أراد أن يعقد عليها؛ لا بأس. لكن هذه مسألة كبيرة إذا كانت تسأل عن أمر واقع فلا بد من هذا، أما إذا كانت تسأل عن أمر مفترض فأيضاً نخبرها بهذا، وهو أن نكاح هذا الرجل وهي في العدة نكاح غير صحيح.(1/20)
الفقه - المستوى السابع
الدرس التاسع
الدرس التاسع - باب الإحداد
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب الإحداد
إجابة أسئلة الحلقة الماضية.
السؤال الأول: ما حكم الظهار؟ مع ذكر الدليل من القرآن.
السؤال الثاني: إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت عليَّ كأبي" فهل يكون ظهارًا؟ مع ذكر الدليل.
إجابة السؤال الأول: ما حكم الظهار مع ذكر الدليل من القرآن؟
حكم الظهار مُحَرَّمٌ، و تحريم زوجته عليه باقٍ حتى يُكَفِّرَ من الكفارة، وهذا قول أكثر أهل العلم، والدليل قول الله تعالى: ?الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا? [المجادلة: 2] الآية الثانية في سورة المجادلة.
نشكر الأخ الكريم على هذه الإجابة، وهي إجابة نموذجية وكاملة، حكم الظهار أنه مُحَرَّم, والدليل هو قول الله تعالى: ?وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا? وسماه الله -عز وجل- منكرًا وزورًا وهذا يقتضي تحريمه، وسنتكلم -إن شاء الله تعالى- عن وجه كون الظهار منكرًا وزورًا عندما نشرح مسائل وأحكام الظهار.
إجابة السؤال الثاني: كان السؤال يقول: إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت عليَّ كأبي"؟ تقول في إجابتها: لا يكون ظهارًا، وهذا قول أكثر أهل العلم ولم يحرم وكفارته كفارة يمين، وهذا قول الإمام أحمد؛ لأنه ليس بمنصوص عليه، وإنما هو تحريم للحلال من غير ظهار، فهو أشبه ما لو حَرَّمَ طعامه، وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير؛ لأنه حق له عليها فلا يسقط بيمينها، ولأن الحل حق الرجل، فملك رفعه والحل حق عليها فلا تملك إزالته.(1/1)
القول الثاني: يلزمها كفارة الظهار؛ لحديث إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت: "إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو عليَّ كظهر أبي" فسألت أهل المدينة فرأوا أن عليها كفارة، والأول هو الراجح والله أعلم.
نعم.. نشكر الأخت على هذه الإجابة، الإجابة فيها وإن كانت الأخت قد اجتهدت فيها ونشكرها لكن هذه ليست إجابة كاملة، أولاً: ليس للمرأة أن تحرم زوجها، لكن إن وقع هذا؛ فلا يكون ظهارًا في أظهر أقوال أهل العلم، وهو قول جماهير أهل العلم، أنه لا يكون ظهارًا؛ لأن الله تعالى قال: ?الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم? وقوله: ?مِنكُم? دليل على أن الظهار إنما يكون من الأزواج للزوجات لا العكس. إنما إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت عليَّ كأبي أو كأخي" فإن هذا تحريم لما أحل الله تعالى والله تعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?1? قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ? [التحريم: 1، 2] فبين الله تعالى أنه عند تحريم الحلال الواجب هو تَحِلَّة اليمين، يعني كفارة اليمين، وبناءً على ذلك إذا قالت المرأة لزوجها: أنت عليَّ كأبي أو كأخي؛ فإن عليها كفارة يمين، ولا يمكن أن يكون الظهار من المرأة لزوجها.
هل تمكن نفسها قبل ما يكفر.
ليس ظهارًا أصلاً والقول بأنه ظهار قول مرجوح، هو قول بعض أهل العلم يعني المسألة ليست محل إجماع لكن قول أكثر العلماء أنه ليس بظهار ودلالة الآية ظاهرة؛ لأن الله قال: ?الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم? وحينئذ لا يترتب عليه أي حكم من أحكام الظهار، وإنما تكفر والوطء سواء كان قبل الكفارة أو بعدها؛ لأن حكمها حكم اليمين.(1/2)
نشكر جميع الإخوة والأخوات على هذه الإجابات، وعلى هذا الجهد المشكور، وعلى تفاعلهم أيضًا مع الدرس، ومع ما يُطرح من أسئلة، نسأل الله -عز وجل- للجميع الفقه في الدين والعلم النافع.
نعود بعد ذلك إلى درسنا، وكنا قد بدأنا في باب الإحداد وذكرنا تعريفه وذكرنا أيضًا الأصل فيه، نريد أن نستذكر ما شرحناه في الدرس السابق، ذكرنا في الدرس السابق تعريف الإحداد من يذكرنا بالتعريف؟
يقول: تعريفه في الشرع: تربص تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى نكاحها ويُرَغِّبُ فيه.
أحسنت.. هذا تعريفه شرعًا، في اللغة: مأخوذ من حدَّ، أصله حداد ومدار المادة على المنع، واصطلاحًا -كما ذكر الأخ- تربص تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى نكاحها أو يُرَغِّبُ في النظر إليها.
طيب الأصل في الإحداد؟ ماذا كان الإحداد في أول الإسلام؟ كم كانت مدته؟ ثم ما الذي استقر عليه أمر الإحداد في الإسلام؟
كانت مدته سنة كاملة.
ثم نُسِخَ؟
ثم نُسِخَ إلى أربعة أشهر وعشرة أيام للحرة.
الدليل من سورة البقرة؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ? [البقرة: 240].
هذا قبل النسخ، طيب وبعد النسخ؟
?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا? [البقرة: 234].
أحسنت.. طيب ذكرنا إحداد المرأة على غير الزوج. ما حكمه؟ هل يمكن أن تحد المرأة على غير الزوج؟
لا يجوز.
إلا في كم يوم؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأته أن تحد أكثر من ثلاثة أيام إلا على زوج).(1/3)
نعم، لا يجوز للمرأة أن تحد على غير زوجها أكثر من ثلاثة أيام، أما ثلاثة أيام فمُرَخَّصٌ لها فيه من باب ترك مجال للنفوس؛ لأن النفس قد تحزن ولا تستطيع ترك الإحداد على غير الزوج، فَرُخِّصَ في حدود ثلاثة أيام، كما أنه رُخِّصَ في هجر المسلم ثلاثة أيام، لكن لا يجوز أن يزيد الهجر على ثلاثة أيام، هذا من باب مراعاة أحوال النفوس، أما الإحداد على الزوج فهو أربعة أشهر وعشرًا.
نعود بعد ذلك إلى درسنا، وقد قرأنا عبارة المؤلف في الدرس السابق، وصلنا إلى قول المؤلف -رحمه الله-: (ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب) المؤلف تكلم عن الخصال التي يجب على المرأة الحادة اجتنابها.
الأمر الأول: الزينة.
والزينة في البدن أو الزينة في الثياب، المؤلف ذكر الأمرين جميعًا، قال: (لا تلبس ثوبً) ثم قال: (ولا تكتحل) فذكر الأمرين جميعًا، فالزينة في البدن ممنوعة منها المرأة الحادة، وتشمل أمرين: الأمر الأول: الخضاب بالحناء، فإن المرأة الحادة ممنوعة منها، ليس لها أن تختضب بالحناء؛ لأن ذلك فيه نوع تجمُّل بالنسبة للمرأة، وفي معنى ذلك كل ما كان فيه تجمل للمرأة، ومن ذلك ما يسمى مثلاً بالتشقير أو التمييش على أن التشقير أيضًا هو الأصل هو محل خلاف بين أهل العلم لكنه الراجح أنه أيضًا محرم، لكن بالنسبة للمرأة الحادة أشد، كذلك أيضًا الأصباغ بجميع أنواعها تجتنبها المرأة الحادة، جميع الأصباغ، ويدل لذلك حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المتوفى عنها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق) يعني المصبوغ بمشق، وهو نوع من الصبغ (ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل) رواه النسائي وهو حديث صحيح.(1/4)
الأمر الثاني من الزينة في البدن: الكحل، فالمرأة الحادة تجتنب الاكتحال، لا تكتحل، ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث السابق: (ولا تكتحل) أيضًا جاء في الصحيحين عن أم سلمة -رضي الله عنها-: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها؛ أَفَتُكْحِلُها؟ قال: لا مرتين أو ثلاثًا) وهذا الحديث في الصحيحين.
لكن جاء في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أنها جعلت في عينيها صبغًا هو نوع من الكحل بعدما توفي أبو سلمة، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما هذا يا أم سلمة؟! قالت: هو صبغ ليس فيه طيب، فقال: إنه يشُبّ الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وامسحيه بالنهار) هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي، وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" إسناده حسن. فدل ذلك على أن الأصل أن الحادة ممنوعة من الكحل إلا في حال الضرورة، إذا أرادت أن تستخدمه على أنه دواء وليس من قبيل التزيّن، فإنها تجعله ليلاً تكتحل به ليلاً وتمسحه نهارًا لكن في الوقت الحاضر وجد أنواع من الأدوية من قطرة العين ونحوها ممكن أن تداوي بها عينها، لكن كانوا في الزمن السابق ربما لا يجدون من الدواء للعين إلا مثل هذا الصبر والكحل، لكن في الوقت الحاضر وجد أنواع من الأدوية والطب قد تقدم، فيمكن أن تجد ما تداوي عينها به غير الكحل، وغير الصبر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يشب الوجه) يدخل في ذلك كل ما يُحَسِّنُ الوجه، ومن ذلك تحمير الوجه بالمحمرات ومن ذلك المكياج مثلاً ونحوه من أدوات الزينة، هذه كلها تجتنبها المرأة المحمرات التي توضع على الشفاه أو على الوجه، هذه كلها جميع الأصباغ تجتنبها المرأة الحادة، إذن هذا فيما يتعلق بالزينة في البدن.(1/5)
أما الزينة في الثياب، فإنها تجتنب أيضًا جميع أنواع الزينة في الثياب، المؤلف قال: (ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب) يعني أن المرأة تجتنب جميع أنواع الثياب المصبوغة إلا ثوب عصب وثوب العصب هو نوع من الثياب ثياب اليمن، يعني ليس فيه زينة، المقصود من هذا أن المرأة تجتنب جميع ثياب الزينة.
في العرف يا شيخ؟ يعني ما تعارف عليه؟.
يحدد ذلك العرف، ولا يختص ذلك بنوع معين من اللباس؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تمس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب)، ولقوله: (ولا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق)، وذكر الفقهاء المزعفر والمعصفر والمصبوغ بالأحمر، المقصود أن كل ما كان فيه زينة فإن المرأة الحادة تجتنبه.
أما اعتقاد بعض العامة أن المرأة الحادة تلبس الأسود من الثياب, وبعضهم يعتقد أنها تلبس الأبيض، هذا لا أصل له، لا الأسود ولا الأبيض، إنما تلبس ما ليس فيه زينة.
الملابس المعتادة.
التي ليست في العرف أنها ثياب زينة، فالألوان مثلاً الأحمر قاني الحمرة، والأصفر القاني هذا تجتنبه؛ لأنه في عرف الناس أنه ثوب زينة، لكن تلبس ثيابا ذات الألوان الباهتة التي ليست في عرف الناس ثياب زينة، وهذا مما يختلف باختلاف الزمان وباختلاف المكان.
الأمر الثالث: تجتنب الطيب ولهذا قال المؤلف: (ولا تمس طيبًا إلا إذا اغتسلت نبذة من قسط أو أظفار) تجتنب الطيب، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أم عطية: (ولا تمسّ طيبًا)، وهذا الحديث متفق عليه. وأيضًا الحديث الذي ذكره المؤلف ولكن يُستثنى من ذلك ما ورد في الحديث من نبذة من قسط أو أظفار.
ما المراد بالقسط أو الأظفار؟(1/6)
هما نوعان من البخور، ولا يزال يسمى قُسْطا بهذا الاسم، لا يزال عند محلات العطارة يسمونه القسط، وقد ورد في الحديث أيضًا أن القسط فيه منفعة وأن فيه شفاءً، خاصة القسط البحر فيه منفعة وفيه شفاء بإذن الله -عز وجل- وأهل العطارة والذين يعتنون بالطب الشعبيّ لهم كلام في هذا.
المقصود أن المرأة يجوز لها أن تتبخر بالبخور من الطيب عندما تطهر من الحيض؛ لقطع رائحة الحيض، هذا معنى قوله: (إلا نبذة من قسط أو أظفار) يعني أنها تأخذ نبذة من الطيب البخور الذي كان في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- كانوا يستخدمون القسط والأظفار لأجل قطع رائحة الحيض، فهذا مستثنى من النهي عن تطيب المرأة الحادة، فإذن يجوز لها أن تتبخر ببخور لأجل قطع رائحة الحيض فقط في هذه الحال، وأيضًا بالبخور فقط، لا تنتقل منه إلى أطياب أخرى.
ليس يا شيخ يعني أنه لا بد أنه أحد النوعين هذه؟.
لا المقصود البخور عمومًا.
هذا مثاله.
أي نعم.
هل يدخل في ذلك الصابون والشامبو المطيَّب هل يدخل في هذا؟
هل تجتنب المرأة الحادة الشامبو والصابون المطيب أم لا؟
نعم تجتنبه.
لماذا؟
لأن فيه طيب.
نعم أحسنت.. كل ما كان فيه طيب فإن المرأة الحادة تجتنبه، ولذلك الشامبو المعطر أو المطيب تجتنبه الحادة، بعض أنواع الشامبو لها رائحة طِيْب نفّاثة حتى من يستخدمها يُظن أنه قد تطيب بطيب، وكذلك أيضًا بعض أنواع الصابون، فالصابون المعطر والصابون المطيّب هذا تجتنبه المرأة الحادة. أما الصابون الذي ليس فيه إلا مجرد نكهة ليس فيه عطر واضح ولا طيب واضح، هذا لا بأس باستخدامه، والضابط في هذا أن الصابون الذي يجوز للمحرم أن يستخدمه فيجوز للمرأة الحادة أن تستخدمه وهكذا بالنسبة للشامبو، أما الذي يُمنع منه المحرم لكونه مُطَيَّبًا؛ فتجتنبه كذلك المرأة الحادة.(1/7)
بعض أهل العلم أيضًا قال: إن الزعفران لا تشربه المرأة الحادة؛ لأنه نوع طيب، ولذلك فإن المحرم أيضًا ممنوع منه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهى المحرم عن أن يلبس المزعفر، وهو مصبوغ بالزعفران، فالزعفران نوع من الطيب، والطيب ممنوع منه المحرم، وممنوعة منه الحادة سواء كان ملبوسًا أو كان حتى مشروبًا، ولذلك فإن أيضًا المرأة الحادة تُمنع من شرب ما كان فيه زعفران أيضًا في أظهر أقوال أهل العلم، ومن أهل العلم من يرخص في هذه المسألة، ولكن الأقرب المنع لهذا الحديث الذي ذكرناه.
الأمر الرابع: تجتنب المرأة الحادة الحلي، هذا لم يُشِر إليه المؤلف لكن نضيفه على كلام المؤلف تجتنب المرأة الحادة الحلي وقد حكى ابن منذر الإجماع على ذلك؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة المتقدم: (ولا الحليّ)، ولأن الحلي فيه زينة ظاهرة للمرأة، فحينئذ تجتنب المرأة لبس الحلي، لكن إذا كان عليها حلي ومات زوجها فهل يلزمها أن تخلع الحلي الذي عليها؟
نقول: نعم يلزمها، إذا كان عليها مثلاً أسورة في يديها أو نحو ذلك، فيلزمها أن تخلع هذا الحلي، يلزمها أن تخلع هذا الحلي.
الأمر الخامس من الخصال التي يجب على المرأة الحادة، أو تلزم المرأة الحادة بعد وفاة زوجها:(1/8)
يلزم الحادة المكث في البيت الذي توفي فيه زوجها، وهذا أشار إليه المؤلف، قال المؤلف: (وعليها المبيت في منزلها الذي وجبت عليها العدة وهي ساكنة فيه إذا أمكنها ذلك) والدليل على هذا قصة فُرَيْعَة بنت مالك، فإن زوجها = زوج فريعة خرج في طلب أعبد له، فقتلوه، فذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت يا رسول الله: إن زوجي قد ذهب في طلب أعبد له فقتلوه، وإنه لم يترك لنا مسكنًا يملكه ولا نفقة، فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- في أن ترجع إلى أهلها فتعتد عندهم، فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خرجت قالت: خرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال: (كيف قلتِ؟) فرددت عليه القصة، فقال: (امكثي في بيتكِ حتى يبلغ الكتاب أجله) فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فاتبعه وقضى به. وهذه القصة إسنادها صحيح، ولهذا قال ابن القيم في "زاد المعاد": هذا الحديث حديث صحيح مشهور في الحجاز والعراق، صححه ابن القيم وجماعة.
استدل العلماء بهذا الحديث على أن المرأة الحادة يلزمها أن تمكث في بيت زوجها إذا أمكن ذلك، يعني بأن يكون هذا البيت ملكًا للزوج، أو حتى بالإيجار، وأمكن دفع أجرته.(1/9)
إذا بلغها الخبر وهي في غير بيت زوجها فيجب عليها الاعتداد في بيت الزوج، وأن ترجع إلى بيت الزوج وتعتد فيه؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (امكثي في بيتكِ حتى يبلغ الكتاب أجله)، ولا تخرج المرأة الحادة إلا لحاجة؛ كأن تخرج مثلاً للعلاج في المستشفى إذا كان عندها مواعيد في المستشفى لا بأس أن تذهب لها، كذلك مثلاً لو كان عندها كذلك مثلاً طالبة وتدرس في المدرسة، لا بأس أن تخرج للدراسة، موظفة مثلاً تخرج لوظيفتها وعملها، كل ذلك من الحاجة لو كان لها موعد في المحكمة لا بأس أن تذهب إليه، كل هذه ذكرها العلماء أنها من الحاجة، بل حتى ذكر العلماء أيضًا بأنه لو احتاجت إلى شراء بعض الحوائج من السوق ولم تجد من يشتريه لها؛ فلها أن تخرج لشراء هذه الحوائج إذا لم تجد من يشتري حوائجها، فإذن لها أن تخرج من البيت إذا احتاجت للخروج.
مرتبط بالحاجة يا شيخ؟.
نعم مرتبط هذا بالحاجة وليس بالضرورة، يعني إذا وجد لها حاجة فيجوز لها أن تخرج.
تقدرها هي أم من حولها؟.
نعم.. بعرف الناس، يعني الحاجة في عرف الناس مثل الأمثلة التي ذكرناها يعني من الحوائج في عرف الناس.
قال المؤلف: (فإن خرجت لسفر أو حج فتوفي زوجها وهي قريبة؛ رجعت لتعتد في بيته).
لو أرادت أن تخرج للحج مثلاً مع أخيها، أو مع محرم لها، أو في سفر فلما كان في أثناء الطريق بلغها أن زوجها قد توفي، فإنها ترجع وتعتد في بيت زوجها، لكن إن تباعدت؛ مضت في سفرها، يعني لو أنها لما وصلت مكة بلغها الخبر؛ فإنها تكمل حجها ولا حرج عليها في هذه الحالة، ولا يلزمها أن ترجع لأجل أن تعتد في بيتها.
قال: (والمطلقة ثلاثة مثلها إلا في الاعتداد في بيته).(1/10)
يعني لا تجب العدة على المطلقة ثلاثًا في منزله؛ لأنه لا سكنى لها ولا نفقة؛ لحديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- وهو في الصحيحين: (أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب- يعني طلاقًا بائنًا-، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله ما لكِ علينا من شيء) فجاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له، فقال: (ليس لكِ عليه نفقة ولا سكنى، وأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم) أمرها أولاً أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: (تلك امرأة يغشاها أصحابي) ثم أمرها أن تعتد في بيت ابن عمها ابن أم مكتوم، وقال: (إنه رجل كفيف تضعين ثيابكِ؛ فلا يراكِ) فهذا دليل على أن المطلقة ثلاثًا أنها لا تبقى في بيت مطلقها.
لكن بقي عندنا هنا مسألة مهمة وهي: كيف تحسب المرأة الحادة العدة؟
كيف تحسب أربعة أشهر وعشرًا؟
هل تحسبها تحسب الشهر ثلاثين يومًا أم أنها تحسبها بالأهلة؟
نقول: هذا فيه تفصيل؛ إن كانت وفاة الزوج في أول الشهر، إن كانت في أول الشهر؛ فإنها تحسب الأشهر بالأهلة، تحسب مثلاً إذا كان في أول شهر شعبان تحسب بالهلال شهر رمضان وشهر شوال، فإذا كان ثلاثين يومًا اعتبرته ثلاثين يومًا إذا كان تسعًا وعشرين اعتبرته تسعًا وعشرين، لكن إذا كانت وفاة الزوج في أثناء الشهر؛ فماذا تفعل؟(1/11)
فمن أهل من قال: إنها تحسب الأشهر الكاملة بالأهلة، يعني مثلاً لو أنه توفي في منتصف شهر رجب، فتحسب شهر شعبان بالهلال، وشهر رمضان بالهلال، وشهر شوال بالهلال، رجب تحسبه بالعدد وكذلك أيضًا ما يكون في ذي القعدة تحسبه بالعدد، وهذا قول لبعض أهل العلم، وقال بعضهم وهو اختيار الموفق -رحمه الله- ذكر هذا في كفارة الظهار وتقاس عليه أيضًا عدة الإحداد: إنه إذا كان الحساب من أثناء الشهر؛ فإنها تحسب بالعدد، ولا تحسب بالهلال؛ لأن الشهر اسم مشترك للثلاثين يومًا ولما بين الهلالين، لكن هنا يتعذّر أن تحسب المدة لما بين الهلالين لماذا؟ لأنه لو مثلاً افترضنا أنه توفي في خامس عشر من شهر رجب، فإن الشهر الأول من منتصف شهر رجب إلى منتصف شهر شعبان، ولا نحسب شهر شعبان كاملاً وإنما نحسب نصفه، ونصف شهر رجب، ثم الشهر الثاني من منتصف شعبان إلى منتصف رمضان، ثم الشهر الثالث من منتصف رمضان إلى منتصف ذي القعدة، فتحسبه إذن بالعدد إذا توفي في أثناء الشهر فبناء على ذلك تحسب مائة وثلاثين يومًا، هذا هو الأقرب، اختيار الموفق -رحمه الله- هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
يا شيخ ما يكون مثلاً من خمسة عشر رجب إلى خمسة عشر رمضان سواء ثلاثين يوم أو تسعة وعشرين يوم ما يكون شهرا؟ من خمسة عشر إلى خمسة عشر؟.
لا.. ما يعتبر شهرًا بهذه الطريقة، هم ذكروا إما أنها تحسب شهر شعبان كاملاً بالهلال، أو بما ذكرنا بالعدد، هذه التي ذكرها الفقهاء مائة وثلاثين يومًا.
بهذا نكون قد انتهينا من باب الإحداد.
نأخذ بعض الأسئلة ثم ننتقل إلى باب نفقات المعتدات.
يقول: الموجود الآن يا شيخ أغلب النساء أنها ما تتزوج على طول يعني بعد مائة وثلاثين يوم، قد تتأخر مثلاً أكثر من مائة وثلاثين يوم، فهل يُعد مثلاً بالشهر؟ هل هناك يعني يُنظر إلى هذا الشهر مثلاً؟.
يعني الإشكال ما هو؟(1/12)
هل نقول مائة وثلاثين يوما بالتمام؟ أو بالشهر مثلاً؟ هل هناك فرق مثلاً إذا كان الزواج يكون بعد؟.
هو يترتب على المدة أحكام شرعية، غير مسألة الزواج، يترتب على ذلك الخصال التي ذكرناها، يعني المرأة بعد انتهاء فترة الإحداد لها أن تخرج من البيت لها أن تلبس الزينة من الثياب، لها أن تتزين في بدنها، لها أن تكتحل، يترتب عليه أحكام شرعية كلها مرتبطة بالمدة، وأيضًا ما ذكرت من أن المرأة قد لا تتزوج بعد انتهاء فترة الإحداد، ليس على إطلاقه، بعض النساء قد تكون مرغوبة لأي سبب من الأسباب فتجد أن الخطاب ينتظرون متى تنقضي مدتها مباشرة، والمرأة إذا كانت في حال العدة عدة الإحداد يجوز التعريض لها، ولا يجوز التصريح، ?وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ? [البقرة: 235] فقد تكون المرأة إذا كانت مرغوبة يكثر خطابها وينتظرون بفارغ الصبر متى تنقضي مدتها، وحينئذ كيف تحسب المدة؟ هذه مسألة مهمة فيترتب عليها أحكام شرعية كثيرة.
تقول: يتردد عند بعض الناس القول بأن المرأة المحدة على زوجها إذا كانت حاملاً ولديها ضرائر فأنجبت ذكرًا وقت العدة فإنه يخرجها من عدتها مع ضرائرها، وقيل: يخرج ضرة واحدة إذا كان الزوج لديه أربع أو ثلاث زوجات، أما إذا وضعت أنثى؛ فلا يخرج من العدة سوى أمها أم البنت هذه، فما صحة هذا القول؟.
هذا تفريق بين كونه ذكرا وأنثى هذا لا أصل له، ولا دليل عليه، وهذه من الأمور الموجودة عند بعض العامة ولا أصل لها، صحيح أن المرأة الحامل إذا كانت حاملا وتوفي عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وقد تكلمنا عن هذا في الدرس السابق بالتفصيل، وذكرنا قصة سبيعة الأسلمية لكن التفريق بين ما إذا كان ذكرًا أو كان أنثى هذا كله من خزعبلات بعض العامة.
يقول: هل يجوز للمرأة المحدة أن تنظر إلى التلفاز وأن تنظر إلى المرآة أو تحضر الاجتماعات؟.(1/13)
نعم.. لا بأس بأن تنظر إلى التلفاز، ولا بأس أن تنظر إلى المرآة، ولا بأس بأن تحضر الاجتماعات في منزلها يعني لا بأس أن يأتيها الزوار ويأتيها الضيوف، فعند بعض الناس اعتقادات ما أنزل الله بها من سلطان، بعضهم يقول: إنها لا تكلم رجلاً أجنبيًا، وبعضهم يقول: إنها لا تخرج للسطح، أو لا ترى القمر، أو لا تتكلم بالهاتف، كل هذه لا أصل له، إنما تجتنب الخصال الخمس التي ذكرناها فقط، ما عدا ذلك فهي كغيرها من النساء، إذا أرادت أن تكلم رجلاً أجنبيًا تكلمه بالمعروف، لا تخضع له بالقول، فهي كغيرها من النساء، لكن فقط تجتنب هذه الخصال الخمسة التي ذكرناها، ما عدا ذلك فإنها كغيرها من النساء.
تقول: هل تعتد الكتابية من زوجها المسلم؟.
نعم.. هي كالمسلمة في هذا، نعم.
تقول: كيف تعتد المرأة المرضع إذا كان الحيض يرتفع بسبب الرضاعة؟ قال فضيلته في الدرس الماضي: تعتد سنة، لكن المرضع قد يرتفع حيضها ستة أشهر، ومن النساء سنة أو سنتين؟.
نعم.. نحن فصلنا الكلام في هذه المسألة، وقلنا: نفرق بين امرأة ترجو أن ينزل عليها الحيض فهنا تنتظر، كما ذكرت الأخت حتى لو كان سنة أو سنتين، لكن إذا كانت لا ترجو انقطع حيضها ولا ترجو ولا تدري ما رفعه، وهذا كان موجودًا في الزمن السابق، يعني دع عنك الآن، الآن تقدم الطب وأصبح بالإمكان إخبار المرأة عن وضعها بدقة، لكن كان في الزمن السابق ينقطع الحيض عن المرأة ولا تدري ما رفعه، ويصبح الأمر بالنسبة لها مجهولاً ولا تدري فهنا قضى عمر -رضي الله عنه- بأنها تنتظر سنة كاملة وأقره على ذلك بقية الصحابة.
لعلنا إذن نكتفي بهذا القدر من الأسئلة، ننتقل إلى باب نفقة المعتدات. نقرأ عبارة المؤلف.
قال المصنف -رحمه الله-: (باب نفقة المعتدات: وهي ثلاثة أقسام:(1/14)
أحدها: الرجعية وهي من يمكن زوجها إمساكها، فلها النفقة والسكنى، ولو أسلمت امرأة الكافر، أو ارتد زوج المسلمة بعد الدخول؛ فلهما نفقة العدة، وإن أسلم زوج الكافرة، أو ارتدت امرأة المسلم؛ فلا نفقة لهما.
الثاني: البائن في الحياة بطلاق أو فسخ، فلا سكنى لها بحال، ولها النفقة إن كانت حاملاً، وإلا؛ فلا.
الثالث: التي توفي زوجها عنها؛ فلا نفقة لها ولا سكنى).
نعم.. نفقات المعتدات قسم المؤلف المعتدات إلى ثلاثة أقسام: الأول الرجعية، ومن يمكن زوجها إمساكها فلها النفقة والسكنى، وذلك لأن الرجعية -كما مر معنا في باب الرجعة- هي في حكم الزوجة تمامًا بل قلنا: إن لها أن تتزين لزوجها وأن تستشرف له لعله أن يراجعها، فهي في حكم الزوجة تمامًا، ولذلك لو توفي زوجها، أو توفيت هي حصل بينهما التوارث، ولهذا فلها النفقة ولها السكنى.
يقول: الضابط بالنسبة لخروج المرأة الحاجة يعني فيه من شدد وفيه من وسع، فنريد ضابطا يعني مثل خروجها إلى المسجد أو إلى الجامع أو مثلاً.... في المدينة يعني؟ الصلاة في الحرم أو ما شابه ذلك؟.
تقول: ما الحكم في خصوص المرأة الحادة... عندنا زوج توفاه الله عنده أربع زوجات، وتوفي الله يرحمهم وعنده أربع زوجات، وهذه الزوجات يتزاورْن بعضا؛ فهل يجوز؟.
بالنسبة للسؤال الأول: يسأل عن الضابط في خروج المرأة الحادة.
الضابط هو الحاجة إذا وجد حاجة؛ فلها الخروج، ومثلنا لذلك حاجتها مثلاً للعلاج في مستشفى أو مراجعة، حاجتها للخروج إلى المحكمة مثلاً، للخروج لعمل كأن تكون معلمة مثلاً، أو تكون طالبة للدراسة، حاجتها لشراء حوائجها من السوق إذا لم تجد من يشتري لها حوائجها، كل ذلك من الحاجات، لكن خروجها للصلاة في المسجد هل يعتبر هذا حاجة؟(1/15)
الواقع أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد كيف نعتبر هذا حاجة؟! النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (وبيوتهن خير لهن)، والأقرب هنا أن هذا لا يعتبر من قبيل الحاجات، لكن الضابط في هذا هو الحاجة والمرد في ذلك إلى العرف.
أما سؤال الأخت تقول: من توفي وله أربع زوجات؛ فهل لهن التزاور؟
الذي يظهر والله أعلم في مثل هذه المسألة أن لهن التزاور؛ لأن كل امرأة هي في بيت زوجها وهي ستنتقل من بيت زوجها إلى بيت زوجها، على أن العلماء لا يشددون كثيرًا في مسألة الخروج لا يشددون كثيرًا بل من أهل العلم من قال: إن الأصل في المرأة هو القرار في البيت، ولا تخرج إلا لحاجة حتى لو كانت أصلاً غير حادة، حتى لو كانت غير حادة، فنجد أن العلماء لا يشددون كثيرًا في هذه المسألة، ولذلك فالظاهر والله أعلم ما دام أن هؤلاء –كلهن- نساؤه وكلهن قد حددن على هذا الزوج والمرأة ستنتقل من بيت زوجها إلى بيت زوجها الآخر، والظاهر أن هذا لا بأس به إن شاء الله.
تقول: ذكرتم أن المرأة المعتدة تعتد في البيت الذي توفي فيه زوجها، تقول: ماذا لو توفي زوجها في بيت أختها أو بيت أخيه وله مسكن هل تعتد في بيت أخي زوجها؟.
لا.. المقصود بيت زوجها يعني البيت الذي يملكه، أو البيت الذي يسكن فيه، ليس المقصود البيت الذي مات فيه، لو مات في بيت أخيه أو بيت خاله أو بيت أخته ليس معنى ذلك أن المرأة تذهب وتعتد فيه، لا.. المقصود البيت الذي هو مالكه أو مستأجر له، هذا هو المقصود بالبيت.
هل درس العلم يعتبر حاجة؟ الدروس في المساجد؟ الدروس العلمية كانت تتابعها المرأة؟.
الذي يظهر لي أن هذا لا يعتبر حاجة، لا يعتبر هذا حاجة، بإمكانها أن تحصل العلم بغير هذا، وأيضًا هي فترة ليست طويلة نسبيًا، والذي يظهر أن هذا لا يعتبر من قبيل الحاجات.(1/16)
قلنا إذن الأولى من أقسام المعتدات: الرجعية، وهي تجب لها النفقة والسكنى؛ لأنها زوجة (ولو أسلم زوج الكافرة وارتدت امرأة المسلم فلا نفقة لهم) أما إذا كان بالعكس يعني أسلمت امرأة الكافرة وارتد زوج المسلم بعد الدخول فلهما نفقة العدة.
القسم الثاني: (المرأة البائن في الحياة بطلاق أو فسخ فلا سكنى لها بحال).
وهذه ذكرنا فيها قصة فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها وأرسل إليها بشعير مع وكيله فسخطته وقال: ليس لكِ علينا شيء، فذهبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ليس لكِ نفقة ولا سكنى) المرأة المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها ولا سكنى، إلا أن المؤلف استثنى من هذه المسألة، قال: (لها النفقة إذا كانت حاملاً، وإلا فل) يعني إذا كانت حاملاً فلها النفقة؛ لأجل الحمل، ?وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 4] ?فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ?، ?أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُم مِّن وُّجْدِكُمْ? إلى قوله: ?وَإِنْ كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 6] بل جاء في حديث فاطمة بنت قيس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا نفقة لكِ إلا أن تكوني حاملا) وهذا قد جاء في بعض الروايات.
القسم الثالث: التي توفي عنها زوجها، هذه لا نفقة لها، ولا سكنى، وبناء على ذلك لو أرادت أن تبقى في بيت الزوج؛ لا سكنى لها، إن رضي الورثة بأن تسكن وأن تبقى؛ فالحق لهم، لكن لو لم يرضوا وطالبوها بالإيجار مثلاً مقابل سكناها في بيت الزوج فلهم ذلك؛ لأنه لا نفقة لها ولا سكنى.
بعد ذلك ننتقل إلى باب لن نتوقف معه كثيرًا وهو قريب وملحق بالباب السابق، باب استبراء الإماء، ذكر المؤلف أنه واجب في ثلاثة مواضع:
(الموضع الأول: فيمن ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها).(1/17)
يعني هذا يذكره الفقهاء لما كانت الإماء موجودة بكثرة عند الناس، وكان الرجل يشتري الأمة ويتسرى بها؛ لأن الرجل لا يحل له الوطء إلا بأحد أمرين: إما بنكاح، وإما بملك يمين، ?إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ? [المؤمنون: 6] فإذا اشترى أمة له أن يطأها. طيب إذا اشترى أمة ليس له أن يطأها حتى يستبرئها بحيضة، يعني يتركها حتى تحيض وسيأتي الكلام أيضًا في تفصيل كيفية الاستبراء، إذن (من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها).
(الثاني: أم الولد والأمة التي يطؤها سيدها).
أم الولد: يعني إذا وطئ أمته فولدت له؛ فإنها تصبح أم ولد، والأمة التي يطؤها سيدها لا يجوز له تزويجها حتى يستبرئها أيضًا.
(الثالث: إذا أعتقهما سيدهما أو عتق بموته فإنهما لم ينكحا حتى يستبرئا أنفسهم) والحكمة من ذلك: هي التأكد من براءة الرحم؛ لأنها لو أنها وطئت بدون استبراء؛ لحصل في ذلك اختلاط في الأنساب، واختلاط ماء الرجل الأول بالرجل الثاني.
قال: (والاستبراء في جميع ذلك بوضع الحمل إن كانت حاملا) وهذا بالاتفاق، أما إذا لم تكن حاملاً فإن الاستبراء يكون بحيضة واحدة إن كانت من ذوات الحيض. (إذا كانت آيسة؛ فإن الاستبراء يكون بشهر) أو حتى كانت صغيرة من اللائي لم يحضن فإن الاستبراء أيضًا يكون بشهر.
(إن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه) نحن ذكرنا في الحرة أنها تتربص سنة، لكن هنا في الأمة يقولون: عشرة أشهر؛ لآثار رويت في هذا. هذا فيما يتعلق بباب استبراء الإماء. ووصلنا إلى كتاب الظهار.
تقول: هل أن زوجها يكون له الحق في مراجعتها متى شاء طالما أنها ترضع؟ قضية التربص سنة أو كذ.(1/18)
إذا كانت رجعية وفي العدة؛ فله الحق أن يرجعها متى شاء، ولو بغير رضاها، أما إذا خرجت من العدة؛ فلا، إذا خرجت من العدة ولو كانت مطلقة طلقة واحدة، فإذا خرجت من العدة فإنها لا تحل له إلا بعقد ومهر جديد؛ لأنها بانت منه بينونة صغرى، فعندنا الآن الرجعية، هذه له أن يرجعها في العدة ولو بغير رضاها، عندنا الرجعية إذا انقضت عدتها بانت منه بينونة صغرى، لا تحل له إلا بعقد ومهر جديد. عندنا المطلقة بعوض أو المختلعة، هذه أيضًا تبين منه بينونة صغرى، لا تحل له إلا بعقد ومهر جديد، البائن بينونة كبرى المطلقة ثلاثًا هذه أيضًا لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وسبق أن تكلمنا عن هذه المسائل في أحكام العدة.
تقول: ذكرت أن المحادة أنها لو احتاجت للكحل للعلاج أنها لا تضعه، طيب يا شيخ إذا كانت امرأة مثلاً أحست بصداع شديد، وطلبت أن تضع حناء على رأسها هل يكون لها نفس الحكم؟ لأن إحدى الأخوات وضعت الحناء بناءً على فتوى أجازت لها أن تضع لها الحناء على رأسها هل تأثم بذلك؟.(1/19)
نعم.. أولاً أو الأولى أن نقول: الحادة أو المحدة، كلمة المحادة قد تكون هذا المصطلح من العلماء من ينتقده، يعني ?إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ? [المجادلة: 5] يعني قد يُفهم من هذا المعنى، فيقال الحادة كما يعبر كثير من الفقهاء أو المحدة، إذا تعين الحناء علاجًا لها وهنا يشبه ما ورد في حديث أم سلمة من الكحل، فقد رخص لها النبي -عليه الصلاة والسلام- أن تضعه بالليل وتمسحه بالنهار، لكن إذا تعين والواقع الآن أن الطب تقدم، وأن الصداع له مسكنات وأنواع كثيرة في الحقيقة، فلا أظن أنه يتعين الحناء لعلاج الصداع، لكن هذا كان في الزمن السابق لما لم يكن عندهم أدوية وعلاجات كما كان عليه الأمر في حالنا ذلك، ثم أيضًا الحناء يبقى أثره يبقى الصبغ لون الشعر يصبغ الشعر ويزين المرأة، ويجملها، فالأقرب أنه لا يجوز أن تضع الحناء، ولو لعلاج الصداع، وعلاج الصداع -كما ذكرت- فيه أدوية وعلاجات أخرى، ولا أظن أن الطب -على تقدمه- أنه ليس فيه دواء وعلاج لما ذكرت الأخت، وأنه يتعين الحناء علاجًا لهذا الصداع، لكن يبدو أن الأخت أنها ربما أنها قيل لها إن الحناء علاج لهذا الصداع، ووضعته بناء على هذا، على كل حال إذا كانت قد وضعته بناء على فتوى؛ فليس عليها شيء، إنما الإثم على المفتي (من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه) كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
نأخذ ما تيسر من كتاب الظهار، نأخذ التعريفات والأصل فيما يتسع به الوقت.
الظهار لغة: مشتق من الظهر، وخُصَّ الظهر من بين سائر الأعضاء لأنه موضع الركوب، ويقال للمرأة إذا غُشيت إنها مركوبة، فعندما يقول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، يعني ركوبكِ للنكاح حرام عليّ كنكاح أمي هكذا قال العلماء.(1/20)
أما تعريفه اصطلاحًا؛ فيعرفون الظهار بأن يشبه الرجل امرأته أو عضوًا منها بمن تحرم عليه على التأبيد، فيقول: أنت عليَّ كظهر أمي أو كأمي أو كأختي أو كعمتي أو كخالتي.. أو نحو ذلك، فهذا هو الظهار.
وحكمه: أنه محرم؛ لأنه منكر من القول وزور، وقد أنزل الله تعالى فيه قوله سبحانه: ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?1? الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ...? [المجادلة: 1، 2] إلى آخر الآيات، فسماه الله -عز وجل- منكرًا من القول وزورًا، قال: ?وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا? [المجادلة: 2]، وهذا يدل على أن الظهار محرم؛ لأن المنكر والزور لا شك في تحريمه، لكن ما وجه كون الظهار منكرًا من القول وزورًا؟
قال أهل العلم: إن الله تعالى جعله منكرًا من القول: لأنه يقتضي تحريم ما لم يحرمه الله، وزورًا: لأنه يقتضي أن تكون زوجته مثل أمه، وهذا باطل؛ فإن الزوجة ليست كالأم في التحريم، ولهذا قال: ?مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ? فهو إذن منكر في الإنشاء وزور في الخبر، وهو منكر في الإنشاء؛ لأنه يقتضي تحريم ما لم يحرمه الله، وزور في الخبر؛ لأنه يجعل الزوجة محرمة كالأم، وهذا كذب، وقول زور وباطل فإن الزوجة ليست كالأم في التحريم، ?إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا?.
إذن الظهار محرم لكنه إذا وقع فإنه تترتب عليه أمور تترتب عليه الكفارة المغلظة وما سنبينه -إن شاء الله- وقد كانوا في الجاهلية يعتبرون الظهار طلاقًا فأبطل ذلك الإسلام.(1/21)
المؤلف عرف الظهار قال: (هو أن يقول لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أو من تحرم عليه على التأبيد، أو يقول: أنتِ عليَّ كأبي يريد تحريمها به) يعني هذه هي حقيقة الظهار وهذا هو الظهار.
وقع الظهار في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة خولة بنت ثعلبة فإنها قد ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، قالت خولة: (ظاهر مني أوس بن الصامت فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلت: يا رسول الله!! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي؛ ظاهر مني، وإن لي صبية صغارًا إن ضمهم إليه؛ ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ؛ جاعوا، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يجادلها في زوجها، ويقول: اتقِ الله تعالى فإنه ابن عمك، فقالت: اللهم إني أشكو إليك، فأنزل الله تعالى: ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?) يعني جعلت تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني ليس النبي -صلى الله عليه وسلم- يجادلها تصحيحًا للعبارة، هي التي تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه -عليه الصلاة والسلام- كان يقول لها: (اتقِ الله تعالى فإنه ابن عمك واصبري) ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ? فإنها قالت: (اللهم إني أشكو إليك) ?وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُم?، تقول عائشة -رضي الله عنها-: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني لأسمع خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعض كلامها وهي تشتكي زوجها للنبي -صلى الله عليه وسلم-) فالله تعالى قد سمع قولها وعائشة كانت لا تسمع كلامها أو تسمع بعضه، فتقول عائشة: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات) ولهذا قال: ?وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ?.(1/22)
أيضًا وقع الظهار في قصة سلمة بن صخر البياضي، سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان؛ لأنه كان متعلقًا بالنساء وأقبل شهر رمضان فخشي أن يقع على امرأته فظاهر منها طيلة شهر رمضان، لكنه وقع عليها في ليلة من ليالي رمضان فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفارة، وسنعود لهذا الحديث، ولحديث خولة بنت ثعلبة في تقرير بعض الأحكام الشرعية في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
أما بالنسبة للأسئلة فنضعها أيضًا في كتاب الظهار، لكن نريد أن نضع الأسئلة في ما لم يرد من عبارة المؤلف؛ لأجل أن نتيح فرصة للإخوة للبحث ومطالعة كلام أهل العلم.
السؤال الأول:
إذا قال الرجل لزوجته "يا أختي" يريد أخته في الله، يريد أنها أخته في الله؛ فما الحكم؟ يعني هل يكون ظهارًا إذا قال الرجل لزوجته "يا أختي" يريد أنها أخته في الله؛ فهل يكون ظهارًا؟ يعني بعض الناس قد ينادي زوجته يقول: "يا أختي" يقصد أخته في الله، نحن قلنا: إذا شبه الرجل زوجته بأخته يكون ظهارًا، لكن إذا قال: "يا أختي" يقصد أنها أخته في الله فهل يكون ظهارًا؟
السؤال الثاني: إذا قال الزوج لزوجته: "أنتِ عليَّ حرام" فما الحكم؟ هل يكون ظهارًا أم يكون طلاقًا؟ أم يكون يمينًا؟(1/23)
الفقه - المستوى السابع
الدرس العاشر
الدرس العاشر - باب الظهار
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب الظهار
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
في الحلقة الماضية كان السؤال الأول:
تقول الجواب: إذا الرجل لزوجته يا أختي يريد بذلك أخته في الله.
وكانت الإجابة: هذا لا يكون ظهارا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) والغالب أن الزوج يقول ذلك تلطلفا وإكرام
الإجابة صحيحة لكنها ليست كاملة. هو ليس ظهارا لكن هذا مكروه عند أكثر أهل العلم هذا مكروه لما سنبين -إن شاء الله- ونذكر الدليل والتعليل. هو ليس ظهارا لكنه مكروه وسنفصل -إن شاء الله-.
السؤال الثاني: ما الحكم إذا قال الرجل لزوجته أنت علي حرام؟
تقول تحريم الزوج لزوجته مما اختلف الفقهاء في حكمه؛ فمنهم من حكم بأنه ظهار، ومنهم من حكم بأنه طلاق. ولعل أرجح الأقوال -والله أعلم- أنه إن نوى الطلاق أو الظهار أو اليمين؛ فالأمر على ما نواه، وإن لم ينو شيئا؛ لزمه كفارة يمين وهذا مذهب الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-. ويدل على ذلك أن هذا اللفظ يصلح على أن يكون طلاقا أو ظهارا أو يمينا، فكان المرجع في تحديد ذلك إلى نية القائل لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفره) رواه البخاري ومسلم.
نعم إجابة صحيحة إذا قال أنت علي حرام بحسب ما نوى. إن نوى ظهارا؛ فهو ظهار وإن نوى طلاقا؛ فهو طلاق، وإن نوى يمينا؛ فهو يمين، وإن لم ينو شيء فإنه يكون خبرا كاذبا. وسنفصل أيضا الكلام -إن شاء الله تعالى- عن هذه المسألة لكن هذه الإجابة صحيحة بالجملة.(1/1)
نعود إلى درسنا. وكنا قد بدأنا بكتاب الظهار، وذكرنا في الدرس السابق تعريفه وحكمه والأصل فيه. نريد أن نستذكر أولا تعريف الظهار من يعرف لنا الظهار؟
هو مشتق من الظهر، وهو موضع الرقود، واصطلاحا: هو أن يشبه الرجل امرأته بجزء منها أو ما يحرم عليه كأن يقول: أنت عليَّ كظهر أمي، أو: أنت كأختي
نعم.. أحسنت إذن هذا هو تعريف الظهر أن يشبه الرجل امرأته أو عضوا منها بمن تحرم عليه؛ كأن يقول: أنت علي كأمي، أو: كظهر أمي، أو: كأختي، أو: كعمتي، أو: كخالتي، أو نحو ذلك. هذا هو الظهار.
طيب حكم الظهار؟
حكمه التحريم كقوله تعالى: ? مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ? فوصفه بأنه منكر وزور.
سماه الله تعالى منكرا وزورا، وهذا يقتضي أنه محرم.
الأصل في تحريمه من القرآن؟
قول الله -سبحانه وتعالى-: ? الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ? [المجادلة: 2](1/2)
نعم يعني أول سورة المجادلة. المرأة التي أتت تجادل في زوجها، وتشتكي إلى الله امرأة أوس بن الصامت = خولة بنت ثعلبة. لما أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأخبرت بأن أوس بن الصامت قد ظاهر منها، وأن لها منه صبية إن ضمتهم إليها؛ جاعوا، وإن تركتهم؛ ضاعوا. وتجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوجها والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اتق الله فهو ابن عمك)، فقالت: اللهم إني أشكو إليك، فأنزل الله -سبحانه وتعالى-: ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ?1? الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ?، ثم ذكر الله تعالى كفارة الظهار? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ?إلى آخر الآيات.
فهذه الآيات في أول سورة المجادلة هذه هي الأصل في الظهار من القرآن. ومن السنة قصة امرأة أوس بن الصامت وأيضا قصة سلمة بن صخر البياضي، ظاهر من امرأته لما قدم شهر رمضان ظاهر منها طيلة شهر رمضان فقط. لماذا؟
لأجل أن يمنع نفسه من وطئها في نهار رمضان؛ لأنه كان عنده شَبَق، فأراد أن يمنع نفسه من الوطء في شهر رمضان، فظاهر منها لما أقبل شهر رمضان لكنه لم يصبر، فوقع بها فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالكفارة.(1/3)
نعود بعد ذلك نكمل مسائل الظهار. المؤلف ذكر تعريفه ثم قال: (فلا تحل له حتى يكفر). أيضا مما يذكره الفقهاء في هذا الباب: إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي حرام، وهذه وضعنا فيها سؤالا للإخوة المشاهدين، وسمعنا بعض الإجابات، وأردنا اجتهادهم، وبحثهم وجزاهم الله خيرا اجتهدوا وبحثوا وكتبوا في هذا إجابات لكن نريد الآن أن نسلط الضوء على هذه المسألة. إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي حرام؛ فما الحكم في هذا؟
نقول من العلماء من قال إنه يكون ظهارا مطلقا، وهذا هو المذهب عند الحنابلة. قالوا إنه يكون ظهارا مطلقا حتى لو لم ينو به الطلاق يكون ظهارا.
والصحيح ما ذهب إليه بعض أهل العلم من التفصيل في المسألة وهو أنه إن قصد أن يكون ظهارا؛ فهو ظهار، أما إن لم يقصد أن يكون ظهارا؛ فليس بظهار., ولهذا الموفق بن قدامة في "المغنى" قال: "أكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار فليس بظهار وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي". فإذا لم يرد به الظهار؛ فإنه لا يكون ظهارا. إذن ماذا يكون؟
ننظر. إن نوى به الطلاق؛ فإنه يكون طلاقا. لماذا؟
لأن هذا اللفظ يصلح لأن يكون كناية في الطلاق. وقد سبق أن ذكرنا في كتاب الطلاق أن ألفاظ الطلاق تنقسم إلى صريح كناية، وأن الصريح هو ما لا يحتمل غير لفظ الطلاق، وأن الكناية ما يحتمل الطلاق وغيره. فهذا اللفظ أنت علي حرام يحتمل أن يراد به الطلاق، ويحتمل أن يراد به غير الطلاق. فإذا نوى به الطلاق؛ فإنه يكون طلاقا لأن هذا اللفظ يصلح لأن يكون كناية في الطلاق. هذا إذا نوى به الطلاق.
طيب إذا لم ينو به الطلاق وإنما نوى به اليمين بأن قصد بهذا اللفظ الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فإنه يجري مجرى اليمين ويكون حكمه حكم اليمين، ويجب به كفارة يمين.(1/4)
إذا لم ينو شيئا قيل له: يا فلان!! أنت قلت لزوجتك أنت علي حرام فماذا نويت؟ هل نويت الظهار؟ قال: لا. قلنا: هل نويت الطلاق؟ قال: لا. قلنا: هل نويت اليمين؟ قصدت حثا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا؟ قال: لا. ماذا نويت؟ ما نويت شيئا، قلت أنت علي حرام.
هنا اختلف العلماء في هذه المسألة إذا أطلق ولم ينو شيئا فالمذهب عند الحنابلة أنه يكون ظهارا قالوا إذا لم ينو شيئا؛ فإنه يكون ظهارا، وقيل إنه يكون طلاقا، وقيل إنه يكون يمينا وهما روايتان عن الإمام أحمد، وقيل إنه إذا لم ينو شيئا؛ فإنه لا يكون شيئا، وإنما يكون من قبيل الخبر الكاذب. وهذا هو الأقرب -والله أعلم- اختاره الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- الأقرب أنه إذا لم ينو شيئا فإنه لا يكون إنشاءً لا يكون قد قصد الإنشاء، وإنما يكون هذا خبرا من الأخبار، ويكون خبرا كاذبا يأثم به لكن لا يقع به طلاق ولا يكون ظهارا ولا يمينا.
لأنه كيف نجعله ظهارا وهو لم ينو الظهار؟
كيف نجعله طلاقا وهو لم ينو الطلاق؟
كيف نجعله يمينا وهو لم ينو اليمين؟
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما الأعمال بالنيات) هذا لم ينو شيئا. فإذا لم ينو شيئا؛ فحينئذ لا يكون من باب الإنشاء وإنما يكون من باب الخبر، فيكون خبرا كاذبا وهذا هو الأقرب والله –تعالى- أعلم.
فتكون إذن الأحوال عندنا أربع أحوال:
الحال الأولى: أن يقصد به الظهار فيكون ظهارا.
الحال الثانية: أن يقصد به الطلاق فيكون طلاقا.
الحال الثالثة: أن يقصد به اليمين وذلك بأن يريد به حثا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فيكون يمينا.
الحال الرابعة: أن لا يقصد به شيئا من هذه الأمور، ولا ينوي شيئا، وإنما أطلق هذا اللفظ ولم ينو شيئا فيكون هذا من باب الخبر الكاذب يأثم به لكنه لا يترتب عليه شيء.(1/5)
هذا هو أرجح أقوال أهل العلم في هذه المسألة نجد هذه المسألة هناك أقوال كثيرة للفقهاء لكن عند التحقيق نجد أن هذا القول هو أقرب الأقوال في هذه المسألة.
إذن إذا أردنا أن نلخص كلام أهل العلم فيما إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي حرام. من يلخص لنا القول بناء على القول الراجح فقط، يلخص لنا كلام أهل العلم بناء على القول الراجح؟
القول الراجح أنه إذا كان نوى ولم يقصد شيئا إذا قال أنت علي
لنبدأ أول شيء إذا نوى الظهار.
إذا هو الظهار إذا كان قصده الظهار يكون ظهار
وإن كان قصد الطلاق فيعتبر طلاقا.
إن قصد يمينا اعتبر يمين
قصد اليمين بأن قصد حثا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فإن قال مثلاً إن خرجت للسوق؛ فأنت علي حرام يريد منعها من السوق هنا يكون يمينا.
الرابع؟
أن لا يقصد شيئا أو لا ينوي شيئا أبدًا فيه
أن لا ينوي من هذه الأمور شيئا، وإنما يطلق هذا اللفظ فيكون...
خبرا كاذب
خبرا كاذبا يأثم به لأنه قد كذب لكنه لا يترتب عليه شيء.
أكثر استعمالات الناس لهذا اللفظ هل هو ظهار في الطلاق أم في اليمين والخبر الكاذب؟
لا شيء
أكثر استعمالاات الناس في الحث أو المنع وأن تكون يمين
أكثر استعمالات الناس لهذا اللفظ يقصدون به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب في الغالب. عندما يريد منع زوجته من الذهاب إلى مكان معين، يريد مثلاً حثها على مكان معين، يريد إكرام ضيف يقول زوجته عليه حرام إن لم تجب الدعوة. هذه كلها إذا قصد الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب؛ فعلى القول الراجح أنها تجري مجرى اليمين، ويكون حكمها حكم اليمين وهذا هو الغالب في استعمال الناس لهذا اللفظ.
الذي أجاب دعوته لا شيء عليه
لكن لو لم يجب يكون عليه كفارة يمين على القول الراجح، وإلا؛ فمن أهل العلم من يوقع الطلاق، ومنهم من يعتبره ظهارا أيضا.
لفظ التحريم اليمين الحث والمنع هو جائز تحرم زوجته يقول زوجته عليه حرام إذا لم تفعل أو كذا من ناحية الجواز؟(1/6)
الله تعالى قال: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?1? قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ?، يعني عاتب الله تعالى نبيه على هذا التحريم مع أن الله تعالى قد أحله له لكن الله تعالى جعل المخرج في ذلك هو كفارة اليمين.
طيب ننتقل إلى مسألة أخرى وهي أيضا قبل أن ندخل في كفارة الظهار هي المسألة الثانية التي وضعنا فيها السؤال الثاني وهي نداء إذا قال الزوج لزوجته يا أختي يريد أنها أختها في الله يعني يعبر عنها بعض الفقهاء نداء أحد الزوجين الآخر بما يختص بذي رحم محرم نداء أحد الزوجين الآخر بما يختص بذي رحم محرم؛ كأن يقول الزوج لزوجته يا أختي يقصد أنها أخته في الله؛ فهل يكون هذا ظهارا؟ أو قال يا أمي من باب الإكرام والاحترام أو يا أختي.
تكون من باب الدلال أو كذا
نعم يعني من باب الاحترام أو من هذا الباب. هل يكون هذا ظهارا؟
هو لا يكون ظهارا؛ لأنه لم ينو الظهار ولم يقصد الظهار والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا اللفظ ليس بصريح الظهار، ولا نواه؛ فلا يكون ظهارا. ولهذا جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن إبراهيم -عليه السلام- قال في قصة الملك عندما أراد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أن يمر هو وزوجه سارة على الملك، وكان هذا الملك ملكا ظالما، فقال لما سأله الملك عن هذه المرأة التي معه قال: من هي؟ قال: هي أختي، ويريد أخته في الله. وكان هذا الملك إذا قيل له إنها أخته لم يغتصبها وإذا قيل إنها زوجته اغتصبها. لماذا؟(1/7)
عندهم من عادتهم من عادة هذا الملك في قومه أن المرأة خلية لا أحد يتعدى عليها إلا بخطبة وعقد، أما المرأة المتزوجة فكانوا يتساهلون في شأنها. فهذا الملك إذا قيل له إنها أخته، وأنها ليست ذات زوج يتركها لكن إذا قال لهذا الملك إنها زوجته يغتصبها وكانت سارة من أجمل النساء في نساء العالمين في زمنها.
لما قال إبراهيم إنها أخته تركها هذا الملك إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يقصد أنها أخته في الله. ولهذا استدل بها العلماء على أن من قال لزوجته يا أختي أن هذا لا يكون ظهارا. لكن كره كثير من العلماء هذا اللفظ. وقد جاء في سنن أبي داود عن أبي تميمة أن رجلاً قال لامرأته يا أختي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أختك هي؟!) فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، ونهى عنه. ولكن هذا الحديث أخرجه أبو داود لكنه ضعيف من جهة الإسناد لأن أبي يميمة من التابعين، ولهذا فإن هذا الحديث مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف. لكن كره العلماء هذا اللفظ لأنه يشبه الظهار، ولهذا فقد شبه امرأته بمن تحرم عليه فقوله يا أختي هذا لفظ يشبه الظهار ولهذا كره العلماء هذا اللفظ حتى لو قلنا إن هذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد إلا أن العلماء كرهوا مثل هذا اللفظ لكونه فيه شبه من الظهار الذي جعله الله تعالى: ? مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ?.
هكذا أيضا المرأة يكره في حقها أن تقول للزوج يا أخي، أو يا أخ، أو يا أبي ولو على سبيل الإكرام والاحترام. هذا مكروه لأنه أيضا يشبه تحريم الزوج، وإلا؛ فالظهار لا يقع من المرأة وإنما يشبه تحريم الزوج.(1/8)
إذن ينبغي للزوج والزوجة أن يتجنبا هذه الألفاظ وأن يختارا الألفاظ البعيدة عن مثل هذه الاحتمالات يعني يا أبا فلان أو يا أم فلان يقول الزوج لزوجته يا أم فلان والزوجة لزوجها يا أبا فلان، أو تسميه باسمه يا فلان أو نحو ذلك لكن تبتعد عن مثل هذه الألفاظ يا أخي أو يا أبي أو هو يقول يا أمي أو يا أختي يبتعدان عن مثل هذه الألفاظ.
نعود بعد ذلك إلى عبارة المؤلف -رحمه الله- قال المؤلف -رحمه الله-:(فلا تحل له حتى يكفر) يعني إذا ظاهر الرجل من امرأته فإنها لا تحل له حتى يكفر لأن الله تعالى قال: ? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ? [المجادلة: 3]، فأمر الله تعالى بالكفارة قبل أن يتماسا وفي قوله: ? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا? جعل العودَ شرطا لوجوب الكفارة ? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ?، فما معنى العود؟
ما معنى قوله ? ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ?؟
الكفارة لا تجب إلا بالعود. لا تجب الكفارة إلا بالعود لأن الله تعالى جعل العود شرطا لوجوب الكفارة. لكن ما المقصود بالعود في قول الله تعالى: ? ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ?؟ اختلف العلماء في هذه المسالة على أقوال:
فقال بعضهم إن المقصود بالعود إعادة لفظ الظهار مرة أخرى وهذا هو ما ذهب إليه الظاهرية. لكن هذا قول ضعيف ليس هو المقصود أن يعيد لفظ الظهار مرة ثانية.
وذهب الشافعية إلى أن المقصود بالعود أن يمسكها بعد الظهار زمنا يمكنه أن يطلق هذه المرأة فيه فمتى لم يصل الطلاق بالظهار؛ فإنه يكون قد عاد لما قال، ولزمته الكفارة وهذا قلنا إنه مذهب الشافعية.(1/9)
وذهب المالكية إلى أن المقصود بالعود في الآية العزم على الوطء. وقال بها أيضا القاضي أبو يعلى من الحنابلة.
القول الرابع: إن المراد بالعود في الآية الوطء وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والحنابلة.
وأرجح هذه الأقوال هو القول الرابع وهو أن المقصود بالعود في الآية هو الوطء لأن العود مادة العين والواو والدال تعني الرجوع فالعائد في هبته هو الراجع فيها، العائد في عدته التارك لوفائه بالوعد فالعائد فيما نهي عنه يعني هو الفاعل لما نهي عنه.
فالمظاهر محرم للوطء على نفسه ومانع لها منه فالعود فعله فالكفارة إنما تلزم بالوطء، لكن الوطء لا يحل إلا بعد أن يكفر وعلى هذا؛ فيكون المراد بقوله: ? ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ?، أي يريدون العود لما قالوا لأنه لا يجوز الوطء إلا بعد كفارة فإذا فسرنا العود بالوطء فليس معنى ذلك أنهم يطؤون ثم يكفرون لا بد أن تسبق الكفارة الوطء فيكون المقصود بقوله: ? ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ?؛ أي ثم يريدون العود لما قالوا فهو كقول الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ? [المائدة: 6]، إذا أردتم القيام ومنه قول الله تعالى: ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ? [النحل: 98]، يعني إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ فاستعذ بالله. وهذا القول الأخير وهو أن المقصود بالعود الوطء هو القول الراجح وقد اختاره ابن القيم -رحمه الله- وذكر ذلك في "زاد المعاد" بعد مناقشة لأقول العلماء في المسألة ورجح هذا القول وقال هو أقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين.
فيكون المراد بالعود الوطء فمعنى قول الله تعالى: ? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ? يعني ثم يريدون الوطء فلا بد أن يأتوا بكفارة ?فتحرير رقبة? فهذا هو المقصود.
القول الثالث هو الذي ينطبق عليه المعنى(1/10)
القول الثالث العزم على الوطء.
العزم يسبق الوطء أما إذا قلنا الوطء ربما تكون الكفارة بعد الوطء
نعم هنا فسرنا نحن قلنا العود المقصود به الوطء وقلنا إن قوله: ? ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ?، ثم يريدون الوطء. ومجرد العزم لا يترتب عليه شيء، الأحكام مترتبة على الوطء ولذلك لو أنه عزم على الوطء لكنه لم يطأ يعني ما ترتب عليه شيء.
لكن لا يستطيع أن يطأ حتى
نعم لا يستطيع أن يطأ حتى يكفر ولهذا فالصواب أن المقصود بالعود في الآية أنه هو الوطء أما مجرد العزم فهذا لا يترتب عليه شيء لكن لو أراد أن يطأ فنقول لا بد أن تكفر.
المؤلف هنا يقول: (لا تحل له حتى يكفر) يعني لا يحل له الوطء حتى تكفر فلا يجوز له أن يطأ هذه المرأة التي ظاهر منها حتى يأتي بالكفارة، فقال حتى يكفر: ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ? ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ?، سنتكلم عن الكفارة.
لكن إذا وطئ قبل التكفير فإنه يكون قد أثم ولهذا قال المؤلف: (عصى ولزمته الكفارة المذكورة)، إذا وطئ قبل التكفير؛ فإنه يكون آثما. لماذا؟(1/11)
لأن الله تعالى قال: ? مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، ? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، يعني من قبل حصول الوطء، فإذا وطئ قبل أن يكفر؛ فقد أثم بهذا لكن هنا ? مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، ذكرها الله تعالى مرتين؛ ذكرها عند تحرير الرقبة: ? وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، ثم في الآية التي بعدها ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا?. ثم قال: ? فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ?، ولم يقل من قبل أن يتماسا.
فلا يجوز له أن يطأ قبل تحرير رقبة إذا كانت الكفارة عتق رقبة، وهكذا إذا كانت الكفارة صيام شهرين متتابعين وهذا بنص الآية وبالإجماع أيضا أجمع العلماء على ذلك وحكى الإجماع على ذلك الموفق بن خدامة لأن الله تعالى شرط ذلك: ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، وقال فصيام ? فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، لكن لم يقل الله -عزّ وجلّ- قبل أن يتماسا لما ذكر إطعام ستين مسكينا، فهل هذا يعني الإطعام يختلف عن تحرير رقبة وعن صيام الشهرين أم لا يختلف؟(1/12)
اختلف العلماء في ذلك، اختلف العلماء في حكم الوطء قبل التكفير إذا كانت الكافرة بالإطعام؛ فذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز الوطء قبل أن يكفر إذا كانت الكفارة بالإطعام، وقال به أبو ثور وهو رواية عن أحمد، وقالوا لأن الله تعالى قد قيد الكفارة بكونها قبل المسيس في العتق وفي الصيام وأطلق ذلك في الإطعام قالوا فنقيد ما قيده الله، ونطلق ما أطلقه الله فنقول إنه لا يجوز له أن يطأ قبل أن يكفر إذا كانت الكفارة تحرير رقبة ولا يجوز له أن يطأ قبل أن يكفر إذا كانت الكفارة صيام شهرين متتابعين، وأما الإطعام فيجوز له أن يطأ قبل أن يطعم؛ لأن الله تعالى لم يقل في شأن الإطعام: ? مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ?، ولهذا ذكر ابن القيم دليلهم قال: لم يقيد الله -سبحانه وتعالى- هذا ويطلق هذا عبثا بل لفائدة مقصودة ولا فائدة إلا تقييد ما قيده وإطلاق ما أطلقه.
القول الثاني في المسألة وهو مذهب جماهير العلماء: قالوا إنه يحرم الوطء قبل أن يكفر إذا كانت الكفارة بالإطعام، وهذا ذهب إليه أكثر أهل العلم، واستدلوا لذلك قالوا إن السنة مفسرة للقرآن وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: للذي ظاهر من امرأته: (لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به)، من غير تفريق بين العتق والصيام والإطعام، ثم إن المظاهر إذا كان ممنوعا من الوطء حتى يكفر إذا كانت الكفارة بتحرير رقبة وبالصيام فلأن يكون ممنوعا إذا كانت الكفارة بالإطعام من باب أولى لأن التكفير خاصة بالصيام يطول زمنه وإذا منع من الوطء حتى يكفر يعني حتى يصوم شهرين متتابعين فلأن أن يمنع من الوطء إذا كانت الكفارة بالإطعام الذي لا يطول زمنه من باب أولى.(1/13)
والقول الراجح في المسألة والله أعلم هو قول الجمهور وهو أنه لا يجوز للمظاهر أن يطأ حتى يكفر حتى وإن كانت الكفارة إطعاما، وأما ما ذكره أصحاب القول الأول من الله -عزّ وجلّ- قيد ذلك في كفارة تحرير رقبة وبالصيام ولم يقيد ذلك بالإطعام فأجاب الجمهور عن ذلك قالوا إن الله تعالى لا يفرق بين متماثلين والله تعالى قال: ? مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا? مرتين ولم يكتف به في العتق؛ لأنه لو اكتفى بقوله: ? مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا? في العتق لأوهم ذلك اختصاصه بالعتق ولو اكتفى بذكره في آخر الآية لأوهم ذلك اختصاصه بالكفارة الأخيرة، ولو أعاده في كل كفارة؛ لكان ذلك تطويلا في الكلام فكان المناسب ذكره في المرة الأولى وفي المرة الثانية وفي المرة الثالث ليعلم أنه مراد وأنه ليس له أن يطأ حتى يكفر.
فيكون إذن القول الصحيح في هذه المسألة هو قول الجمهور وهو أن المظاهر ليس له أن يطأ حتى يكفر سواء كانت الكفارة تحرير رقبة أو كانت صيام شهرين متتابعين وهذا بالإجماع أو كانت إطعام ستين مسكينا في أظهر قولي العلماء.
نعود بعد ذلك لعبارة المؤلف -رحمه الله-.(1/14)
ذكر المؤلف الكفارة: قال: (حتى يكفر بتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) يعني بعتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب الضارة بالعمل. والآن أصبح لا يكاد يوجد رقاب في الوقت الحاضر، ولذلك فإنه يعدل إلى الصيام مباشرة. فمن لم يجد يعني إما لأنه لم يجد ثمن الرقبة، أو لكون الرقبة غير موجودة أصلا يعني هذا من إعجاز القرآن لاحظ أن الله تعالى قال: ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ?، وأطلق ولم يقل فمن لم يجد ما يعتق به الرقبة وإنما قال فمن لم يجد من لم يجد ماذا؟ أطلق الله -عزّ وجلّ- لأن الله تعالى يعلم أنه سيأتي على الناس زمان لا يكون فيه عتق أصلا كزماننا نحن الذي نعيش فيه. ففي وقتنا الحاضر ليس فيه رقاب، فيصدق عليه الآية وقول الله تعالى: ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ?، يعني هذا في الحقيقة من إعجاز القرآن يعني كون الله أطلق لم يقل من لم يجد ما يعتق به رقبة وإنما قال: ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ? وأطلق؛ فهذا يشمل من لم يجد ثمنا يشتري به الرقبة ويشمل من لم يجد رقبة لكونه لا تباع الرقاب في عصره فإنه ينتقل للصيام ? فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ?، وهو لا بد أن يكون صيام الشهرين متتابعا لا بد من التتابع فالتتابع شرط لصحة الصيام. فلو أنه صام 59 يوما ثم أفطر في اليوم الأخير؛ لزمه أن يعيد الصيام من جديد.(1/15)
فالتتابع إذن شرط لصحته، وسبق أن ذكرنا في الدرس السابق بالأمس كيف يحتسب صيام الشهرين لما ذكرنا في الإحداد كيف تحتسب الأشهر هل تحتسب بالأهلة أم تحتسب بالعدد؟ وقلنا إن الشهر اسم مشترك لما بين الهلالين والثلاثين يوما، وذكرنا إن القول الراجح في المسألة أنه إذا ابتدأ الصيام من أول الشهر فإنه يحسب الشهر بالهلال فإذا كان تسعة وعشرين حسبه تسعة وعشرين وإذا كان ثلاثين حسبه ثلاثين يوما، أما إذا ابتدأ في أثناء الشهر فالقول الراجح أنه يحسب الشهرين بالعدد يعني أنه يصوم ستين يوما، وذكرنا تفاصيل كلام أهل العلم في هذه المسألة ? فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ?.
لكن هنا أنبه على قضية وهي أنه ليس له العدول للإطعام إلا إذا عجز عن الصيام أقول هذا لأن بعض الناس يستاهل في هذه المسألة فتجد أنه قادر على الصيام لكنه يشق عليه الصيام ولهذا نسأله هل أنت قادر على صيام على شهر رمضان؟ هل صمت شهر رمضان؟
قال: نعم.. معنى ذلك هو قادر على الصيام فلا بد أن يصوم شهرين متتابعين هذا في كفارة الظهار وفي كفارة الجماع في نهار رمضان ليس له أن يعدل عن الإطعام إلا عند العجز عن الصيام. كون بعض الناس يعدل للإطعام مع قدرته على الصيام فهذا ليس له ذلك، ولا تبرأ ذمته أمام الله -عزّ وجلّ-، أما كونه يجد مشقة فلا بد من أن يجد مشقة لا بد من ذلك، ولهذا جعل التتابع شرطا، ولهذا يعني هي كفارة مغلظة فلا بد من وجود المشقة لكن كلامنا إذا عجز عن الصيام فله أن يعدل إلى الإطعام.
ما هو الضابط في الإطعام المجزئ في كفارة الظهار؟(1/16)
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافا كثيرًا؛ فمنهم من قدر ذلك، ومنهم من جعل مرد ذلك العرف، ومن أهل العلم من قال إن الإطعام مقدر بالشرع، واختلفوا في ذلك على أقوال، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الإطعام مقدر بالعرف لا بالشرع؛ فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون قدرا ونوعا، وهذا هو مذهب الإمام مالك قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو المنقول عن أكثر الصحابة والتابعين، ولهذا كانوا يقولون خبز ولبن، وخبز وسمن، وخبز وتمر، والأعلى خبز ولحم. قال وهذا هو القول الصواب هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار وهو قياس مذهب أحمد وأصوله.
فإذن يرجع في الإطعام إلى عرف الناس إلى ما يطعم به ستين مسكينا من غير تحديد ذلك بحد معين ومن غير تقديره بقدر معين. ولهذا لو جمع ستين مسكينا فغداهم، أو عشاهم؛ أجزأ ذلك في أظهر أقوال أهل العلم.
قال: (وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان) يعني أن كفارة الظهار ككفارة الجماع في نهار رمضان، ويسميها الفقهاء بالكفارة المغلظة: ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ? ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ? ? فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ?.
ثم قال المؤلف: (إن وطئ قبل التكفير عصا ولزمته الكفارة المذكورة) تكلمنا عن هذه المسألة.
ثم قال: (ومن ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة) يعني لو أنه ظاهر منها عدة مرات ولم يكفر؛ فتكفيه كفارة واحدة لأن الكفارات هنا تتداخل كما لو حلف على يمين قال والله لا أكلم فلانا، ثم في اليوم الثاني قال والله لا أكلم فلانا ثم قال في اليوم الثالث والله لا أكلم فلانا؛ فلا يلزمه إلا كفارة واحدة فالكفارات تتداخل فيما بينها.
هنا أيضا كفارة الظهار تتداخل فمن ظاهر من امرأته مرارا؛ فتكفيه كفارة واحدة.(1/17)
قال المؤلف: (وإن ظاهر من نسائه بكلمة واحدة؛ فكفارة واحدة) لو أن رجلاً عنده أربع نساء فأغضبنه، فقال: أنتن عليَّ كظهر أمّي بكلمة واحدة.
هل عليه كفارة واحدة أم أربع كفارات؟
تكفيه كفارة واحدة.
(وإن ظاهر منهن بكلمات فعليه كفارة لكل واحدة) يعني لو أنه ذهب لزوجته الأولى فأغضبته فقال أنت علي كظهر أمي، ثم ذهب لزوجته الثانية فأيضا حصل بينها وبينه خصام فأغضبته فقال أنت علي كظهر أمي ثم ذهب إلى الزوجة الثالثة كذلك قال أنت علي كظهر أمي ثم ذهب إلى الزوجة الربعة كذلك قال أنت علي كظهر أمي؛ فمعنى ذلك عليه كم كفارة؟
عليه أربع كفارات عليه رقاب غير موجودة في وقتنا الحاضر وإنما يصوم شهرين متتابعين معنى ذلك يصوم كم شهرا؟
ثمانية
ثمانية أشهر لأن هذا منكر من القول وزور. إذا تكرر منه فعليه هذه الكفارة المغلظة إذا ظاهر من زوجاته بكلمات فعليه بكلّ واحدة منهن كفارة واحدة.
مثل إن ظاهر من زوجته أكثر من مرة بألفاظ مختلفة؛ كظهر أمي أو كأختي أو كذا؟
إذا كان ذلك قبل أن يكفر فكفارة واحدة تكفيه حتى لو كان بألفاظ مختلفة نعم.(1/18)
قال: (وإن ظاهر من أمته أو حرمها أو حرم شيئا مباحًا أو ظاهرت المرأة وحرمته؛ لم يحرم وكفارته كفارة يمين) نعم وإن ظاهر من أمته يعني الأمة تختلف عن الزوجة الأمة هي التي يتسرى بها فهي ملك يمين وسبق أن قلنا إنه لا يجوز للإنسان أن يطأ إلا زوجته أو ما ملكت يمينه:? إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ? [المؤمنون: 6]، فلو ظاهر من أمته أو حرم أمته على نفسه كما جاء في بعض الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرم أمته فأنزل الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ ? [التحريم: 1]، ثم في الآية الأخرى: ? قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ? [التحريم: 2]، أو حرم شيئا مباحًا مثلاً وُضع طعام لرجل قيل كُلْ من هذا الطعام قال هذا الطعام حرام علي مثلاً أو حرام عليّ أدخل بيت فلان، المقصود أنه حرم شيئا مباحًا. أو ظاهرت المرأة من زوجها، أو قالت أنت علي كأبي، أو محرم علي كأبي، أو أنت علي كأخي، أو نحو ذلك؛ فهل يكون ظهارا أم لا يكون ظهارا؟
اختلف العلماء في ذلك.
تقول: ودي أداخل في موضع عدة المرأة التي يختفي عنها زوجها فإن عمر بن الخطاب أفتى بأن تكون العدة أربع سنوات. الحكمة في ذلك أنه قد يصل حمل المرأة إلى أربع سنوات الحادثة هذه حصلت مرتين حادثة من 35 أو 40 سنة مع امرأة حملت في بطنها أربع سنوات أنا أريتها وأعرفها معرفة شخصية كان المخافض..
استمر حملها أربع سنوات؟
استمر حملها أربع سنوات متصلة
بعد طلاقه
لا
بعد وفاة زوجها؟
ولا بعد وفاة زوجها لا زوجها حاضر معها، لكن عمر لما أفتى بأربع سنوات سبحان الله هي إحدى الحكم قد يستمر حمل المرأة إلى أربع سنوات
هل تقصدين أنه قد يستمر حمل المرأة أربع سنوات؟
نعم
وكيف تحدد مدة انتظار المفقود بأربع سنوات؟(1/19)
بالضبط.. المرأة كان يأتيها المخاض كل تسعة أشهر ومع ذلك لم تلد إلا في السنة الرابعة. والحادثة الثانية حصلت قبل 15 سنة بس ولدت بثلاث سنين.
بالنسبة للمداخلة الثانية خاصة بالحيض إن إحدى حكم أحكام التي شرعها الشارع في أن عدة المطلقة ثلاثة قروء. أيضا قد يستمر الحيض مع المرأة وهي حامل يأتيها في موعده وهي حامل وهذا يسمى حمل غزلان
حمل أيش؟
غزلان من يستمر معها الدم أو الحيض وهي حامل فالحكمة أيضا استبراء الرحم
يقول: بالنسبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- من قال (ثلاث جدهن جد) النبي -صلى الله عليه وسلم- بين الآن في مسألة يعني بماذا نقول في هذا الحديث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان الإنسان هازلا أصبح لفظ الطلاق هذا يقع الطلاق أما بالنسبة للظهار نحن الآن قلنا مسألة ثانية يعني يا شيخ إذا تكلم الرجل مثلاً لو قال المرأة أنت علي كظهر أمي أو أختي إلى غيرها ولم يقصد هذا الأمر الشيخ قرر إنه مثلاً عادي ليس عليه شيء حتى سواء فيه نية أو بدون نية ما رأي الشيخ؟
إن ظاهرت المرأة من زوجها يعني التعبير بـ "ظاهرت" قد يكون من باب التجوز في العبارة وإلا؛ فالظهار لا يكون من المرأة وإنما يكون من الزوج: ? الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم ?، قال منكم من نسائهم فقال منكم وجه الخطاب للأزواج وإن كان بعض العلماء يرى أنه قد يكون الظهار أيضا من المرأة لكن إذا حرمت المرأة زوجها قالت أنت علي كأبي أو كأخي أو نحو ذلك فلا يكون ذلك ظهارا وإنما فيه كفارة يمين وإن كان بعض أهل العلم يقول إن عليها كفارة ظهار.
المشهور من مذهب الحنابلة أن المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كأبي فعليها كفارة ظهار هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة كما نص عليه صاحب "زاد المستقنع" وغيره. ولكن الصحيح أن عليها كفارة يمين وهنا المؤلف مشى على هذا القول، ولهذا قال وكفارته كفارة يمين.(1/20)
إذن إذا ظاهر من أمته أو حرم شيئا مباحًا أو أن المرأة حرمت زوجها حتى لو قالت أنت علي كأبي، أو أنت علي كأخي أو مثل أبي أو مثل أخي؛ فهنا ليس فيه إلا كفارة يمين فقط كفارة الظهار لا تكون إلا إذا ظاهر الرجل من امرأته قال أنت علي كظهر أمي أنت علي كظهر أختي أنت علي مثل أمي أو كأختي أو كأمي هذه هي التي يكون فيها كفارة ظهار لكن لو حرم غير الزوجة أو أن المرأة حرمت زوجها فهذه فيها كفارة يمين فقط.
كفارة تدفع قبل الوطء أم بعده؟
إذا قلنا كفارة يمين هو مخير سواء دفعت قبل الوطء أو بعد الوطء فالأمر في ذلك واسع بخلاف كفارة الظهار فيشترط أن تدفع الكفارة قبل الوطء.
قال: (والعبد كالحر في الكفارة سواء إلا أنه لا يكفر إلا بالصيام) يعني أن العبد ينتقل مباشرة للكفارة بالصيام لأنه في الحقيقة مال للسيد فلا يمكن أن يكفر بتحرير رقبة لأن هذا لا يمكن لمن ملك مالا وهولا يملك والعبد وماله لسيده وكذلك أيضا الإطعام أيضا في حقه غير وارد ولذلك العبد لا يكفر إلا بالصيام هذه هي أبرز الأحكام المتعلقة بالظهار.
أسئلة المحاضرة:
أسئلة الدرس سوف نجعلها -إن شاء الله- في الدرس القادم. والدرس القادم سيكون -إن شاء الله تعالى- في كتاب اللعان ولذلك سنضع سؤالين للإخوة المشاهدين في مسائل وأحكام اللعان.
أنا أحرص أن تكون الأسئلة في غير عبارة المؤلف حتى يرجع الإخوة المشاهدون لكتب أخرى ومراجع أخرى؛ لأن المقصود من طرح هذه الأسئلة إثراء المعلومات لدى الإخوة المشاهدين وتشجيعهم على الاستفادة.
السؤال الأول:
متى يجب اللعان مع التوجيه؟ متى يكون اللعان واجبًا في حق الزوج مع التوجيه لذلك يعني ذكر وجه ذلك.
السؤال الثاني:
هل يصح أن يلاعن الرجل لأجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنا؟
يعني هذا رجل يقول أنا ما أريد أن أقذف امرأتي بالزنا، ولكن أريد فقط أن ألاعن لأجل نفي الولد. هل هذا يمكن أم لا؟
تعليق على الأخت(1/21)
الأخت تقول إن الحمل قد يستمر إلى أربع أو ثلاث سنوات وذكرت أنها تعرف حوادث حصلت في هذا.
هذه من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء والأطباء في الحقيقة؛ من الفقهاء من يقول لا يمكن أن يزيد الحمل عن سنة، ومنهم من قال إنه لا يمكن أن يزيد عن سنتين كما هو مذهب الحنفية. الجمهور قالوا لا يمكن أن يزيد عن أربع سنين، ومنهم من قال إنه لا حدّ لأكثر.
والحقيقة أن هذه المسألة اختلف فيها الأطباء في الوقت الحاضر يقولون لا يمكن أن يزيد الحمل بأي حال من الأحوال عن سنة بل يقولون إنه لا يزيد عن 42 أسبوعا لأنه بعد مضي 42 أسبوعا تبدأ المشيمة تضعف حتى يختنق الولد لا يمكن أن يعيش أكثر من 42 أسبوعا ولذاك يقولون لا بد من التدخل الطبي بعد مرور 42 أسبوعا.
فهذه المسألة من المسائل التي تحتاج إلى مزيد تحقيق لكن ما نراه في الواقع الآن نرى كما ذكرت الأخت أن هناك حملا قد يستمر أربع سنوات أو ثلاث سنوات لكن الأطباء يقولون إن هذا ليس حملا هذا حمل كاذب. ويقولون لو وُجد حمل استمر هذه المدة؛ لاشتهر ذلك وانتشر ولكتب في الموسوعات العلمية العالمية لكن هذا لم يحصل ولم يقع مثل هذا يعني هذه مسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق نقول للأخت يعني الحوادث التي سمعتِ بها هل هو فعلا حمل؟ لو كان حملا؛ فنعم نسلم، وما ذكرته صحيح وجيه. لكن الأطباء في الوقت الحاضر يقولون إن هذا ليس حملا إنما هذه امرأة حصل معها انتفاخ في البطن، وحصل معها انقطاع للحيض لكنها لم تكن حاملا إما إنه حمل كاذب أو غير ذلك من الأسباب ثم بعد ذلك حملت ووضعت بعد هذه المدة ولذلك يعني لا نسلم بما ذكرته الأخت من أن هذا الحمل استمر أربع سنوات أو ثلاث سنوات.
الأخ باختصار ثلاث جدهن جد(1/22)
الأخ يقول قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة)، يعني الطلاق لو وقع على سبيل الهزل أو أن النكاح لو وقع على سبيل هزل؛ انعقد النكاح ووقع الطلاق فيقول الظهار نحن لم نقل أيضا من باب تصحيح المعلومة للأخ لم نقل إن الظهار إذا وقع على سبيل هزل؛ فإنه لا يكون ظهارا. لا نحن قلنا فقط في مسألة معينة وهي إذا قال أنت علي حرام فقط فإن نوى به ظهارا؛ يكون ظهارا، وإن نوى طلاقا؛ يكون طلاقا، إن نوى يمينا؛ يكون يمينا، وإن لم ينو شيئا؛ فيكون خبرا كاذبا.
لفظة تحتمل
لفظة تحتمل، لكن لو قال أنت علي كظهر أمي؛ فهنا هذه لفظة صريحة في الظهار حتى لو كان ذلك على سبيل المزاح فيكون ظهارا ويترتب عليه كفارة الظهار.(1/23)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الحادي عشر
الدرس الحادي عشر - باب اللّعان
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب اللّعان
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أسأل الله -عز وجل- أن يبارك في هذا الدرس، وأن ينفع به.
درسنا هذه الليلة سيكون -إن شاء الله تعالى- في كتاب اللعان، ولكن قبل هذا، جرت العادة أننا نستعرض إجابات الإخوة عن الأسئلة التي طرحناها في آخر الدرس السابق.
السؤال الأول: متى يجب اللعان؟
تقول: نص الإمام أحمد على أن اللعان يجب بكل قذف للزوجة، سواء قال لها: زنيت، أو رأيتكِ تزنين، سواء كان القاذف أعمى أو بصير، وبهذا قال الثوريّ والشافعي وغيرهما، وقال أبو زياد، ومالك: لا يكون اللعان إلا بأحد أمرين: إما رؤية، وإما إنكار للحمل، وقالوا: إن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية، وكان قد قال: رأيت بعيني وسمعت بأذني؛ فلا يثبت اللعان إلا في مثله، ولكن الصحيح القول الأول، والله أعلم كما قال ابن قدامة في قوله الله تعالى: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ? [النور: 6]، أن الآية عامة، ولأن اللعان معنى....
يكفي، على كل حال الأخت فهمت أنه متى يكون اللعان، وليس هذا هو المقصود من السؤال، المقصود متى يجب اللعان؟
والجواب عن هذا: يجب إذا حملت المزني بها من الزاني، إذا حملت فيجب عليه أن يلاعن حتى ينفي الولد؛ لأنه ليس له من طريق لنفي الولد إلا باللعان، إذا لم يلاعن؛ فالولد ولده شاء أم أبى. وسنبين هذا -إن شاء الله- وسنسلط الضوء على هذه المسألة عندما نتكلم عن أحكام اللعان، لكن باختصار: أنه يجب اللعان إذا حملت المرأة من الزاني.
السؤال الثاني: هل يصح أن يلاعن الرجل لأجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى؟(1/1)
تقول: نعم يصح، وجملة ذلك أن المرأة إذا ولدت فقال زوجها: ليس هذا الولد مني، أو قال: ليس هذا ولدي؛ فلا حد عليه؛ لأن هذا ليس بقذف بظاهره لاحتمال أنه يريد أنه من زوج آخر، أو من وطء بشبهة، أو غير ذلك، ولكنه يسأل، فإن قال زنت فولدت هذا من الزنى؛ فهذا قذف يثبت به اللعان، وإن قال: أردت أنه لا يشبهني خّلْقًا ولا خُلُقًا فقالت: بل أردت قذفي فالقول قوله؛ لأنه أعلم بمراده.
نعم.. يكفي.
إذن، هل يصح أن يكون اللعان لأجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى؟
هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، والجمهور على أنه ليس له ذلك، ولكنْ من أهل العلم من قال له ذلك، له أن يلاعن من أجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى، وهذا هو القول المختار عند كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى-، وسنبين -إن شاء الله- وجهةَ هذا القول وأدلته.
لكن باختصار نقول: نعم.. يمكن أن يكون اللعان لأجل نفي الولد فقط دون قذف امرأته بالزنى. وتفصيل هذه المسألة -إن شاء الله تعالى- سيكون عندما نصل إلى موضعها في هذا الدرس. نشكر جميع الإخوة والأخوات على هذه الإجابات.
نعود بعد ذلك إلى عبارة المؤلف -رحمه الله- في كتاب اللعان، نبدأ أولاً -كما جرت العادة- بقراءة عبارة المؤلف في هذا الكتاب.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
كتاب اللعان(1/2)
إذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة العفيفة المسلمة بالزنى؛ لزمه الحدُّ إن لم يلاعن، وإن كانت ذمية أو أمة؛ فعليه التعزير إن لم يلاعن ولا يعرض له حتى تطالبه، واللعان أن يقول بحضرة الحاكم أو نائبه: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى، ويشير إليها، فإن لم تكن حاضرة سمَّاها ونسبها، ثم يوقف عند الخامسة فيقال له: اتق الله؛ فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فإن أبى إلا أن يتم؛ فليقل: وإن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى، ثم توقف عند الخامسة تُخَوَّف كما يُخَوَّف الرجل، فإن أبت إلا أن تتم؛ فلتقل: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به زوجي هذا من الزنى، ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما؛ فتحرم عليه تحريمًا مؤبدًا. وإن كان بينهما ولد فنفاه؛ انتفى عنه سواء كان حملاً أو مولودًا، ما لم يكن أقرَّ به أو وُجِدَ منه ما يدل على الإقرار؛ لِمَا روى ابن عمر: (أن رجلاً لاعَنَ امرأتَه وانتفى من ولدها ففرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما، وألحق الولد بالأم)).
قال المصنف -رحمه الله-: (كتاب اللعان) اللعان: مشتق من اللعن؛ لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة، ولذلك سُمِّي لعانًا، واللعن في الأصل هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله -تعالى-، ومعناه اصطلاحًا: شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين مقرونة بلعنة أو غضب، شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين يعني من الزوج أو الزوجة، مقرونة بلعنة أو غضب.(1/3)
الأصل أن الإنسان إذا قذف مسلمًا عفيفًا، فإما أن يأتي بالبينة، وهي أربعة شهود، وإلا يُحَدّ حَدَّ القذف 80 جلدة، هذا هو الأصل. فعندما يقول أحد من الناس: رأيت فلانًا يزني، أو أن فلانًا زانٍ، أو نحو ذلك من العبارات، فيقال: إما أن تأتي بالبينة، وهي أربعة شهود، وإلا حَدٌّ في ظهرك 80 جلدة.
هذا في عموم الناس يا شيخ يشمل الزوج والزوجة؟.(1/4)
سنأتي للزوج والزوجة، هذا هو الأصل، أحد الصحابة وهو هلال بن أُمَيَّة، رأى رجلاً وقع على امرأته، فذهب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (البينةَ أو حَدٌّ في ظهرك، قال: يا رسول الله! يرى أحدنا الرجل على امرأته فينطلق يلتمس البينة؟! فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد على أن يقول: البينةَ أو حَدٌّ في ظهرك) يعني إما أن تأتي بأربعة شهود، يعني ثلاثة شهود معك، وإلا حَد في ظهرك، تُحَُّ حَدَّ القذف؛ لأنك قذفت امرأتك، فقال هلال: والله إني لصادق، والله لينزلن الله -تعالى- فيَّ ما يبرئني، فنزلت آيات اللعان في سورة النور، قول الله -تعالى-: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ?6? وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ?7? وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?8? وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [النور: 6- 9]) فجعل الله -عز وجل- الأيمان من الزوجين قائمة مقام الشهود. فالزوج الأصل أنه يأتي بأربعة شهود على زنا امرأته، لكن لما كان الغالب أن الزوج لا يَقذف امرأته إلا وهو صادق في الغالب؛ رُوعي هذا الجانب، وجعلت الأيمان تقوم مقام شهادة الشهود؛ لأن أول المتضررين من قذف امرأته هو، هو سوف يُلطخ سمعته، وسوف يشهر نفسه، ويفضح نفسه، ويترتب على ذلك أضرار كثيرة، والإنسان العاقل السويّ لن يقدم على ذلك إلا وهو متأكد من أن هذا قد حصل من امرأته.(1/5)
فلذلك جُعِلت الأيمان تقوم مقام شهادة الشهود في حق الزوج خاصة، فتكون هذه المسألة إذن مُسْتَثْنَاةً من هذا الأصل، الأصل أن من قذف غيره بالزنى؛ فلا بد من أربعة شهود، لكن بالنسبة للزوج خاصة تقوم الأيمان مقامَ شهادةِ الشهود.
إذن هذا هو اللعان، فمعنى اللعان معنى ذلك: أن الرجل يقذف امرأته بالزنى، فإذا قذفها بالزنى حينئذ إذا أراد أن ينفي الولد فلا بد من أن يلاعن ويأتي بالأيمان على ما سنبينه إن شاء الله.
إذا قذف الرجل امرأته بالزنى، فإما أن يلاعن وإما أن يُقام عليه الحد، يعني لا مناص.
يدخل في ذلك الشهود يا شيخ قد يكون ...؟.
إذا وجد شهود نعم ممكن.. إذا وجد شهود ممكن، لكن وجود الشهود الأربعة عمومًا في الزنى يندر حتى في غير الزوجين على مرِّ التاريخ الإسلامي الحوادث التي وجدت فيها أقيم حد الزنى ببينة الشهود الأربعة من الأمور النادرة الغالب أنه إنما يُقام الحد باعتراف الزاني، فإذن إما أن يلاعن، وإما أن يُحَدَّ حَدَّ القذف، وإما أن يكون فيه يعني مثلاً أربعة شهود، وهذا -كما ذكرنا- أمر يندر.
فعرفنا إذن الحكمة من مشروعية اللعان، فالحكمة منه: أن الزوج قد يبتلى بقذف امرأته لنفي العار والنسب الفاسد، ويتعذر عليه إقامة البينة وهي أربعة شهود، فجُعل اللعانُ بينةً له، ولهذا لما نزلت آيات اللعان قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهلال بن أمية: (أبشر يا هلال، فقد جعل الله لك فرجًا ومخرجً) لأنه لولا ذلك؛ لأقيم عليه حَدُّ القذف.
سبب اللعان: هو قذف الرجل امرأته بالزنى، إذا قذف الرجل امرأته بالزنى فإما أن يأتي بالبينة الشرعية وهي أربعة شهود، وإما أن يلاعن، فإن لم يأت بهذا ولا هذا؛ فإنه يُحَدُّ حَدَّ القذف.(1/6)
الأصل في اللعان: الآيات التي ذكرنا في سورة النور، ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ?، وكذلك أيضًا قصة هلال بن أمية، وأيضًا جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن عُوَيْمِرًا العجلانيَّ أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا رسول الله!) جاء في رواية البخاري أن عويمرا العجلاني أتى النبي –صلى الله عليه وسلم- وَسَطَ الناس، لاحظ وسط الناس يعني ليس بينه وبينه وإنما وسط الناس، فقال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً وَجَدَ مَعَ امرأتِه رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟! فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتِكَ؛ فاذهب فائت بها) وفي رواية: (إن هذا الذي تقول قد ابتُليتَ به) قيل: إن عويمرا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- من أجل استطلاع الأمر، وقيل: إن الذي سأله هو أبو زوجته، طلب منه عويمر أن يسأله، فكأنه قال: وقع في نفسي شيء من النخوة والعجب، إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ من باب يسأل عن هذه المسألة وكأنه فيه شيء من النخوة والعجب، كما قال بعض الشراح في هذا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: (إن هذا الذي تقوله قد ابتليت به) وهنا نأخذ فائدة، وهي: أن البلاء موكل بالمنطق، وأن الإنسان لا يسأل مثل هذه الأسئلة التي يكون فيها أذيَّة للآخرين، ويكون فيها هتك لعرض مسلم، هذه المسائل ينبغي أن يبتعد الإنسان عنها، وأن لا يسأل مثل هذه الأسئلة، وأن لا يمثلها على نفسه، فانظر يعني هذه القصة هذا الرجل أراد أن يستطلع الأمر ويستطلع الحكم ماذا يفعل الإنسان لو وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ قال هذا وسط الناس، فابتلي بهذا، قال -عليه الصلاة والسلام-: (إن هذا الذي تسأل عنه قد ابتليت به وقد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنًا فاذهب فائت بها) فتلاعنا أمام الناس، فلما فرغا من التلاعن قال عويمر العجلاني: كذبتُ عليها إن أمسكتها فطلقها ثلاثًا قبل أن يأمره النبي -صلى الله عليه(1/7)
وسلم- قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين وكانت حاملاً وكان ابنها يدعى لأمه.
قصة هلال بن أمية قريبة من قصة عويمر العجلاني، يعني هو وجد مع امرأته رجلاً فذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرنا قبل قليل، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (البينةَ أو حد في ظهرك) حتى أنزل الله تعالى فيه آيات اللعان، واختلف العلماء: هل نزلت آيات اللعان في قصة هلال أم في قصة عويمر العجلاني؟ وعلى كل حال هي في هذا كلام كثير لأهل العلم. والمهم أن هاتين القصتين قد حصلتا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنه نزلت إما فيهما أو في إحداهما آيات اللعان.
الأخت الكريمة تسأل عمَّا ذكرته قبل قليل: "البلاء موكل بالمنطق" هل هو حديث؟.
لا.. هذا ليس حديثًا هذه حكمة فقط، مستنبطة من النصوص، لكنها ليست حديثًا.
والواقع يشهد بحدوث ذلك؟.
نعم.. نعم.. وكما ورد في بعض الأحاديث التي حَسَّنها بعض أهل العلم، حسَّن إسنادها بعض أهل العلم، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أكثر خطايا ابن آدم في لسانه) أكثر ما تكون الذنوب من اللسان.(1/8)
في قصة هلال بن أمية أيضًا لاعن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين هلال وبين امرأته، فتلاعنا، فلما كانت الخامسة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وقِّفوها، إنها الموجبة، فتلكأت ونكصت) يقول ابن عباس: "حتى ظننا أنها ترجع" فكأنها أرادت أن تتراجع لكن قالت: والله لا أفضح قومي سائرَ اليوم، فحلفت فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أبصروها) طبعًا مقصودنا بقولنا حلفت يعني شهدت بالله أربع مرات إنه لمن الكاذبين كما سنبين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك: (أبصروها، فإن جاءت به خَدَلَّجَ الساقين، سابغ الأليتين، أكحل العينين فهو لفلان) يعني لمن رميت به، (أكحل العينين): يعني يعلو جفن العين سواد مثل الكحل من غير اكتحال، هذا يُرى في بعض الناس كأنه مكتحل وهو ليس كذلك، (خَدَلَّجَ الساقين) يعني مملوء الساقين، يعني الساقين متينة ليست نحيفة، هذا معنى "خدلع الساقين" معناها في لغة العرب، (سابغ الأليتين) يعني عظيم العجز.. فجاءت به على الوصف المكروه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن) وفي رواية قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن). فأصبح هذا الولد ينسب لأمه، وأيضًا في قصة عويمر العجلاني أصبح هذا الولد ينسب لأمه، إذن اللعان وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ننتقل بعد ذلك لحكم اللعان:(1/9)
اللعان قد يكون واجبًا، وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مباحًا. يكون واجبًا: إذا حملت الزوجة من الزاني، إذا حملت الزوجة من الزاني؛ فيجب على الزوج اللعان؛ لأجل نفي الولد، وإلا؛ فإن هذا الولد سوف ينسب له، وهو ليس منه، وليس هناك من طريق لنفي الولد إلا اللعان، يعني هذا رجل يعرف أن امرأته حملت من رجل زانٍ، هذا الولد نقول هو ولدك شئت أم أبيت، إن أردت أن تنفي هذا الولد؛ فليس لك من طريق إلا اللعان، وما دام أنه قد تيقن بأنها حملت من الزاني؛ فيجب عليه أن يلاعن لأجل نفي الولد؛ لأن هذا الولد إذا لم يلاعن سوف ينسب له، وسوف يرث منه، وسوف يترتب عليه أحكام شرعية، يترتب عليه أحكام شرعية كثيرة.
فإذن إذا حملت من الزاني يجب عليه أن يلاعن. لكن إذا لم تحمل من الزاني فهنا لا يجب عليك اللعان وحينئذ ينظر مسألة المصلحة والمفسدة في هل يلاعن أم لا؟ فهنا يجوز له أن يلاعن، لكن إذا رأى رجلاً يتردد عليها، وغلب على ظنه أنه زنى بها، ولكنه لم يتيقن ذلك، فهنا يقول بعض أهل العلم: إنه يُكره في حقه الملاعنة ما دامت لم تحمل من ذلك الرجل، ولم يتيقن من زناها منه، فتكره في حقه الملاعنة والأولى له في هذه الحال الستر عليها مع تطليقها؛ لأن له مخرجًا في أن يطلقها ويتخلص منها، وهي لم تحمل من ذلك الزاني، فيُكره في حقه اللعان.
فإذن قد يكون اللعان واجبًا إذا حملت من الزاني، وقد يكون جائزًا إذا لم تحمل منه، وأراد أن يلاعن ولم يتيقن من أنها حملت منه، قد يكون مكروهًا إذا رأى رجلاً يتردد على امرأته ولم يتيقن أنها حملت منه، ولم يتيقن أنه حصل الزنى، لكن غلب على ظنه أنه قد زنى بها، فهنا له مخرج في أن يطلقها، وأن يستر عليها، وهذا قال العلماء: إنه الأولى في هذه الحال. لكن يجوز له بكل حال أن يلاعن، يجوز له بكل حال أن يلاعن، ما دام أنه قد غلب على ظنه أنها قد زنت.(1/10)
أما إذا كان مجرد وسوسة وشكوك؛ فيحرم عليه أن يلاعن؛ لأن بعض الناس أيضًا مبتلى بالوسوسة، فعنده أوهام وشك زائد فهذا لا يجوز له أن يلاعن، لا بد إما أن يقين أو غلبة ظن، فلا بد في هذه.. يعني هذه مسألة عظيمة ومؤثرة ربما على سمعة الأسرة بأكملها، ليس فقط على المرأة فقط، وإنما على سمعة الأسرة، ويترتب عليها أمور كبيرة، فلا يجوز للإنسان أن يقدم على هذا الأمر العظيم إلا وهو متيقن أو غلب على ظنه حصول مثل ذلك الشيء، أما إذا كان إنسانًا يعرف من نفسه أنه مبتلى بالوساوس والشكوك؛ فليس له أن يُقدم على هذا الأمر العظيم الذي تترتب عليه أحكام شرعية كثيرة.
نعود لعبارة المؤلف -رحمه الله-، قال المؤلف: (إذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة العفيفة المسلمة بالزنى؛ لزمه الحد إن لم يلاعن) هنا ذكر المؤلف شروط اللعان، يعني اللعان لا يصح إلا بشروط:
الشرط الأول: أن يكون من زوجين عاقلين بالغين، سواء كان مسلمين أو كتابيين، ولهذا أشار المؤلف بقوله: (إذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة العفيفة المسلمة بالزنى؛ لزمه الحد) يعني حد القذف (إن لم يلاعن) يعني الذي يدرأ عنه حد القذف اللعان.
قال: (وإن كانت ذمية أو أمة؛ فعليه التعزير) يعني لو افترضنا أن زوجته ذمية أو أمة فيكون عليه التعزيز، وليس عليه حد القذف إن لم يلاعن، (ولا يُعرض له حتى تطالبه) معنى العبارة: يعني لا يُعرض للزوج إقامة الحد ولا طلب اللعان منه حتى تطالبه زوجته بذلك؛ لأن ذلك حق لها، يعني إقامة حد القذف عليه حق للزوجة، وهو حق آدمي فلا يقام إلا بطلب منها.
الشرط الثاني: أن يقذفها بالزنى، لقول الله -تعالى-: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ? [النور: 6] يعني بالزنى. لكن هل يشترط أن يُصَرِّح بالزنى في الشهادات أم لا يشترط ذلك؟ يعني عندما يشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين هل يشترط أن يُصَرِّح بالزنى أم لا؟(1/11)
هذا يقودنا أولاً إلى معرفة صفة اللعان، ثم نعود لهذه المسألة.
صفة اللعان ذكر المؤلف صفة اللعان قال: (واللعان: أن يقول بحضرة الحاكم أو نائبه) إذا قال الفقهاء: الحاكم فماذا يقصدون به؟
القاضي.
إذا قال الفقهاء الحاكم يقصدون به القاضي أو نائبه، يقول الزوج: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى، ويشير إليها، فإن لم تكن حاضرة؛ سماها ونسبها، يقول ذلك أربع مرات، يكرر ذلك أربع مرات، كما ذكر الله تعالى ذلك: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ? [النور: 6]، فيقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى، يكررها أربع مرات، ثم الخامسة قال: (ثم يوقف عند الخامسة) يعني قبل أن يقول: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين يوقف، لماذا يوقف؟
قال: (فيقال له: اتقِ الله؛ فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) يعني أنه يوعظ، لعله إذا كان كاذبًا لعله أن يتراجع في هذا، ويُذكَّر بالله -عز وجل- ويقال: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ويحك! أمسك عذاب الدنيا ينقطع وعذاب الآخرة دائم، لَعَلَّه لو كان كاذبًا أن يرتدع، وقد جاء في سنن أبي داود والنسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلاً حين أمر المتلاعنين أن يضع يده على فيه ويقول: إنها الموجبة لعذاب الله -عز وجل-).
إذن الزوج قال أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى، وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، هذه الآن صفة اللعان بالنسبة للزوج.(1/12)
المرأة قالت: (فإن أبى إلا أن يتم؛ فليقل: وإن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى، ويدرأ عنه العذاب) معنى "يدرأ عنها العذاب"؛ أي: يُدرأ عنها حَدُّ الزنى. مفهوم هذا أنها إذا لم تلاعن المرأة؛ فيقام عليها حد الزنى، لكن يُدرأ عنها الحد بأن تلاعن. كيف تلاعن؟
ذكر المؤلف صفة لعان المرأة: (أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى) كما ذكر الله تعالى ذلك في الآية: ?وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ? تُكرر هذه العبارة أربع مرات، ثم توقف عند الخامسة وتخوف كما يخوف الرجل، كما ذكرنا في قصة هلال بن أمية، أنها لما أتت الخامسة وقفوها، وقالوا: إنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، يعني ينبغي أن توعظ عند الخامسة، وتذكر بالله -عز وجل- (فإن أبت إلا أن تتم؛ فلتقل: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به هذا من الزنى) هذه هي صفة اللعان.
نعود لسؤالنا الذي طرحناه، هل يشترط ذكر الزنى في الشهادات من المتلاعنيْن يعني لو أن أحدنا اقتصر فقط على ما ورد في القرآن، قال: (أشهد بالله إني لمن الصادقين)، وسكت وكررها، ثم قال في الخامسة: (لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين).
المرأة أيضًا قالت: (أشهد بالله إنه لمن الكاذيبن) ولم تقل: فيما رماني به من الزنى، وكررت ذلك أربع مرات وقالت في الخامسة: (وغضب الله عليه إن كان من الصادقين).
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين:
القول الأول: أنه يشترط ذكر الزنى في الشهادات، فيقول الزوج: "أشهد بالله أني فيما رميتها به من الزنى لمن الصادقين"، فلا بد من أن ينص على هذا، وتقول المرأة كذلك: "أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى" وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة.(1/13)
وحجة هذا القول: أنه مع عدم التصريح بالزنى فإنه ربما تأوَّل الزوج أو الزوجة، ربما أن الزوج نوى أني لمن الصادقين في شهادة التوحيد مثلاً لأنه قال: "أشهد بالله أني لمن الصادقين" ربما ينوي أني لمن الصادقين في شهادة التوحيد، أو أني لمن الصادقين في غير ذلك من الأمور، ينوي أمرًا من الأمور كان فيه صادقًا، وربما تنوي الزوجة أشهد بالله أنه لمن الكاذبين في قضية أو في شأن بينهما، فقالوا: حتى نقطع هذا الطريق وهذا الاحتمال نقول: لا بد من أن يصرح بذكر الزنى في الشهادة.
القول الثاني في المسألة: أنه لا يُشترط ذكر الزنى في الشهادات، وإنما يمكن أن يأتي بالصبغة الواردة في القرآن فقط، وحجة هذا القول: أن الله -تعالى- قد بين صفة اللعان ولم يذكر هذا الاشتراط، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم.
قال ابن القيم: "هذا القول هو ظاهر كلام الإمام أحمد، وهو القول الصحيح في المسألة"، وذلك لأن الله -عز وجل- أنزل في ذلك قرآنًا وبين صفة اللعان ولم يذكر هذا الاشتراط، ولهذا قال صاحب "الإفصاح": "من الفقهاء من اشترط هذا الشرط، ولا أراه يُحتاج إليه؛ لأن الله -تعالى- قد أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الاشتراط".
أما ما ذكره الحنابلة من أنه ربما يتأول الزوج أو الزوجة فيُجاب عن ذلك: بأن التأول هنا التأول في مقام الخصومة لا ينفع صاحبه، يقولون: التأويل في مقام الخصومة لا ينفع صاحبه، والظالم لا ينفعه تأويله، ويمينه على نية خصمه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يمينك على ما يُصدقك به صاحبك) أخرجه مسلم في صحيحه، ولقوله -عليه الصلاة والسلام-: (اليمين على نية المستحلف) فحتى لو تأول الزوج أو الزوجة؛ فإنه لا ينفعه تأويله.
وبهذا يتبين لنا أن القول الراجح في هذه المسألة هو: أنه لا يشترط ذكر الزنى في الشهادات، لكن لو ذُكرت لا شك أن ذلك أكمل وعلى الأقل خروجًا من الخلاف في هذه المسألة. إذن عرفنا صفة اللعان.(1/14)
إذا تم اللعان بين الزوجين، طبعًا إذا نكل أحد الزوجين عن اللعان؛ فإنه يُقام عليه الحد، حد القذف، إذا نكل الزوج؛ فيقام عليه حد القذف، إذا لاعن الزوج ننظر، إذا نكلت الزوجة؛ أقيم عليها حد الزنى، الزوج يقام عليه حد القذف، بينما المرأة يقام عليها حد الزنى، إذا أتيا باللعان ولم ينكلا وهو الغالب، يعني الغالب أنه لا يصلان إلى هذه المرحلة ويحصل منهما نُكُولٌ، ما دام قد وصلت الأمور لهذه المرحلة فالغالب أنه يتم كما حصل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة.
إذا تم اللعان فما الأمور المترتبة عليه؟
قال المؤلف: (ثم يقول الحاكم: قد فَرَّقت بينكما، فتحرم عليه تحريمًا مؤبدًا)
إذن الأمر الأول من الأمور المترتبة على اللعان هو: حصول الفرقة الأبدية بينهما، فرقة أبدية.
ما معنى فرقة أبدية؟
يعني لا تحل له حتى وإن نكحت زوجًا غيره، يعني لا يمكن أن تكون زوجة له بعد ذلك طيلة حياته وحياتها.
هذه هي الصورة الوحيدة في ذلك الحرمة الأبدية؟.
نعم هي الصورة الوحيدة، الحرمة الأبدية هذه، نعم البينونة الكبرى في الطلاق، لكن تحرم عليه لكن تحل له إذا نكحت زوجًا غيره وطلقها، لكن هنا في اللعان تحرم تحريمًا مؤبدًا، والحكمة في ذلك والله أعلم: هو أن الأمور ما دام أنها قد وصلت إلى هذه المرحلة؛ فحينئذ هل يمكن أن تستقيم الحال بينهما؟ أبدًا، لا يمكن.. هذا جرح كبير ولا يمكن أن يندمل هذا الجرح وهذا الشرخ في العلاقة الزوجية، ولذلك فإنها تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا، كما دلت على ذلك النصوص ولهذا جاء في بعض الروايات في قصة عويمر العجلاني، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ذلك التفريق بين كل متلاعنيْن) وقال ابن شهاب الزهري: "مضت السنة في التفريق بين المتلاعنين، قال: أن يُفَرَّق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا"، وقد روي هذا عن سهل بن سعد، ورجَّح البخاريُّ أنه من قول الزهري. فإذن يترتب على ذلك الحرمة الأبدية بينهما.(1/15)
أيضًا يترتب على اللعان قال: (وإن كان بينهما ولد فنفاه؛ انتفى) يترتب على ذلك نفي الولد، يترتب على اللعان نفي الولد، فلا ينسب الولد لأبيه. إذن لمن يُنسب كما ورد في سؤال الأخت؟ لمن يُنسب الولد؟
لمن يشابهه.
لا.. لا..
الولد إذا لاعنت الزوجة، ولاعن الزوج ينسب إلى الأم.
ينسب للأم، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: (لولا الأيمان؛ لكان لي ولها شأن) فينسب الولد لأمه.
طيب كيف ينسب لأمه؟
يقال فلان ابن فلانة؟
نعم، يقال فلان ابن فلانة، نجد أن هناك أسماء لبعض الصحابة بأسماء أمهاتهم، مثل عبد الله بن بحينة منسوب لأمه، وعدد منهم منسوب لأمه فقد ينسب الإنسان لأمه.
ليس بالضرورة أن يكون هذا النسب في جميع من يعرفه الإنسان أو يقرأ أسماء أن يكون على إثر لعان.
لا.. لا يلزم.. لكن قد يكون ذلك لمعنى من المعاني الأخرى، لكن أنا قصدي من هذا أن بعض الناس يستغرب كيف ينسب الرجل لأمه، نعم نقول: في بعض الأحوال قد ينسب الإنسان لأمه.
إذن الأمر الثاني من الأمور المترتبة على اللعان هو: نفي الولد.
الأمر الثالث: هو درء الحد عنهما جميعًا، حد القذف عن الزوج وحد الزنى عن المرأة، فيكون هذا من الأمور المترتبة على اللعان.
نعود لعبارة المؤلف، قال: (سواء كان حملاً أو مولودًا ما لم يكن أقر به أو وُجِدَ منه ما يدل على الإقرار).
يعني لو كان أقر بهذا الولد؛ فإنه لا يمكن أن ينتفي هذا الولد لما روى ابن عمر: (أن رجلاً لاعن امرأته وانتفى من ولدها ففرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما وألحق الولد بالأم) طبعًا ابن عمر -رضي الله عنهما- من ورعه أنه لم يُسَمِّ الذي لاعن ولا امرأته، لكن جاء التصريح باسمهما في الروايات الأخرى، وأنه عويمر العجلاني وزوجته، وهلال بن أمية وزوجته، لكن ابن عمر -رضي الله عنهما- لعله من شدة ورعه أنه قال: (لاعن رجل) ولم يسمه.
يَرِدُ هنا مسألة مهمة وهي:(1/16)
هل يصح أن يلاعن الرجل لأجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى؟
وهذا السؤال كنا قد طرحناه على الإخوة المشاهدين لكي يجتهدوا في الإجابة عنه.
هذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين:
القول الأول:
إنه ليس له أن يلاعن حتى يقذف امرأته بالزنى، وإذا أراد نفي الولد؛ فلا بد من أن يقذف امرأته بالزنى ثم يلاعن، وهذا القول هو المذهب عند الحنابلة.
القول الثاني:
له أن يلاعن لنفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى، وهو رواية أيضًا في المذهب.
واستدل أصحاب القول الأول:
قالوا: إن اللعان الذي ورد به الشرع إنما يكون بعد القذف، كما في قول الله -تعالى-: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ? [النور: 6]، فلا بد من القذف ولا بد من الرمي حتى يصح اللعان، لا بد من الرمي بالزنى حتى يصح اللعان، ولأن اللعان إنما ينتفي به الولد بعد تمامه منهما، ولا يتحقق اللعان من المرأة في هذه المسألة؛ لأنه إذا لم يقذفها بالزنى؛ فلا يمكن أن تلاعن، فلا يتحقق اللعان منها في هذه الحال.
أصحاب القول الثاني الذين قالوا إنه يصح أن يلاعن لأجل نفي الولد فقط مع عدم قذف امرأته بالزنى.
قالوا: إن هذا الرجل محتاج لنفي الولد، وإلحاق الولد به وهو ليس منه يترتب عليه أحكام شرعية كثيرة من النسب ومن التوارث، وغير ذلك، فلا يُلزم بإلحاق هذا الولد منه، وهو متيقن أنه ليس منه، ولا يُلزم بقول الزور وقذف امرأته بالزنى، لا نلزمه بهذا لأجل أن ينفي الولد، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم، أنه يصح أن يكون اللعان لأجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك تلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- وهو رواية أيضًا عن الإمام أحمد قال في "الإنصاف": "وعليه أكثر الأصحاب عند الحنابلة"، واختارها أيضًا شيخنا الشيخ محمد بن عُثَيْمِيْن -رحمه الله تعالى-.(1/17)
هذا القول الحقيقة هو الأقرب؛ لأن الإنسان أحيانًا قد يُبتلى وهو لا يجزم بزنى امرأته, لكن يرى أن هذا الولد ليس ولده، ولا يريد أن يقذف امرأته بالزنى.
لكن لو ترتب وجود الولد قطعًا إذا هو يتبرأ منه فهو مترتب على زنى، كيف تُحل هذه الإشكالية؟.
هذا صحيح، لكن لو أن مثلاً المرأة نفت نفيًا قاطعًا وحلفت له، وهو متيقن أن الولد ليس ولده، فهنا الآن بين أمرين: يعني لا يريد أن يقذفها، وفي نفس الوقت يريد أن ينفي الولد، يعني هنا مخرج، هذا القول في الحقيقة مخرج، لكن هل نلزمه نقول: لا بد أن تقذف امرأتك بالزنى، طيب ربما أنه يريد أن يتورع عن قذف امرأته بالزنى، لكنه أيضًا يريد في نفس الوقت أن ينفي هذا الولد، ولذلك فهذا القول في الحقيقة مخرج لمن ابتلي بمثل هذا، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم في هذه المسألة.
يقول: بالنسبة للطب ما له موقف في موضوع نفي الولد؟ الطب الحديث الآن أليس له تأثير على نفي الولد أو تأخير الحكم حتى؟.
بقي معنا مسألة واحدة ولعلنا ننتهي من هذا الفصل، نكملها ثم نجيب على الأسئلة.
مسألة مهمة: وهي استلحاق ولد الزنى، يعني لو حصل الزنى مثلاً رجل زنى بامرأة ثم ولدت منه، طيب إذا كانت هذه المرأة فراشًا لزوج أو سيد، يعني امرأة متزوجة، فإنه لا يمكن للزاني أن يستلحق هذا الولد، وهذا باتفاق العلماء؛ لأن الأصل أن الولد للفراش، وإذا أراد الزوج نفي الولد فلا بد من الملاعنة، لا يمكن للزاني أن يستلحقه، وقد أجمع العلماء على ذلك، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين في قصة تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زمعة في وليدة زمعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقال لسودة احتجبي عنه لمَّا رأى شبهه بعتبة بن أبي وقاص في قصته المشهورة.(1/18)
إذن استلحاق ولد الزنى بالزاني إذا كانت المرأة فراشًا لزوج هذا لا يصح، ولا يُلحق به مطلقًا باتفاق العلماء، لكن إذا استلحق الزاني ولده من الزنى ولم تكن أمه فراشًا لزوج، امرأة غير متزوجة، وحملت من هذا الزاني وأتت بولد، ثم أراد هذا الزاني أن يستلحق، فلنفترض مثلاً أنهما تابا ثم تزوج بها وأراد أن يستلحق هذا الولد بحيث يكون ابنًا له؛ لأنه متيقن بأنه من مائه؛ فهل يُلحق به أم لا؟
هذه المسألة مسألة كبيرة، وقع فيها النزاع بين أهل العلم، فجمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنه لا يُلحق به، على أن ولد الزنى لا يُلحق بالزاني حتى لو كانت أمه ليست فراشًا للزوج.
والقول الثاني في المسألة: أن ولد الزنى يُلحق بالزاني، إذا استلحقه ولم تكن أمه فراشًا لزوج أو سيد، وهذا القول ذهب إليه من التابعين عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والحسن البصري، وابن سيرين، والنخعي ، وإسحاق بن راهويه، وهو قول لأبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى-.
الجمهور استدلوا بعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الولد للفراش ولم يلحقه بالزاني، فدل ذلك على أن الزاني إذا استلحق ولده من الزنى؛ لم يلحق به، وأيضًا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا مساعاة في الإسلام، ومن ساعى في الجاهلية فقد...) إلى آخر الحديث، قالوا: وجه الدلالة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبطل المساعاة وهي الزنى، ولم يلحق النسب بها، وعفا عما كان في الجاهلية مما أُلحق بها.
أصحاب القول الثاني الذين قالوا: إن ولد الزنى يُلحق بأبيه من الزنى إذا استلحقه ولم تكن أمه فراشًا:
استدلوا لذلك بـ:(1/19)
أولاً: بما جاء في الصحيحين في قصة جُرَيْج العابد، فإن جريجًا قد انقطع للعبادة في صومعته، فجعل بنو إسرائيل يذكرون شأنه وعبادته، فقالت امرأة بغي من بني إسرائيل والله لأَفْتِنَنَّه، قالوا: إنك لا يمكنكِ ذلك، فذهبت إليه وتزينت وتعرضت له، لكن لم تستطع أن تفتنه، فذهبت إلى راعٍ فأمكنته من نفسها، فوقع بها فحملت منه، ثم قالت: إنها قد حملت من جريج فأتوا إلى جريج وضربوه وهدموا صومعته، فقام بعد ذلك، وتوضأ وصلى ركعتين، ثم أتى لهذا الغلام، وغمز بأصبعه في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي.
ما وجه الدلالة؟
قال ابن القيم -رحمه الله- مبينًا وجه الدلالة: إن الله أنطق هذا الغلام بأن أباه هو الزاني فلان، بأن أباه هو الراعي الزاني بأمه، قال ابن القيم: وهذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب، لاحظ دقة الاستدلال، هذا إنطاق من الله لا يمكن فيه الكذب.
وأيضًا قالوا: إن عمر -رضي الله عنه- كان يُلِيْطُ أن يلحقوا أولاد الجاهلية بآبائهم من الزنى، وقياس الأب من الزنى على الأم من الزنى. لماذا يُلحق الولد بأمه من الزنى ولا يُلحق بأبيه؟! فما دام أنه يُلحق بأمه وهي زانية، فلماذا لا يُلحق بأبيه الزاني؟
وهذا القياس قوي، ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله-: وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحًا والقياس الصحيح يقتضيه، فإن الأب أحد الزانيين، وهو إذا كان الولد يُلحق بأمه، ويُنسب إليها، وترثه ويرثها، ويثبت النسب بينه وبين أقارب أمه مع كونها قد زنت به، وقد وجد الولد من ماء الزانيين وقد اشتركا فيه واتفقا على أنه ابنهما؛ فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره؟! فهذا محض القياس والجمهور ليس معهم أكثر من أن الولد للفراش.(1/20)
يبقى الإجابة عن حديث: (الولد للفراش) نقول: هذا إنما هو في القسم الأول فيما إذا كانت الأم فراشًا للزوج، صحيح الولد للفراش، لكن إذا لم تكن فراشًا؛ فحينئذ القول الراجح: إنه إذا استلحق الزاني ولده من الزنى فإنه يُلحق به وإذا لم تكن أمه فراشًا وفيه مصلحة عظيمة لهذا الولد، والشريعة تتشوف إلى حفظ النفس.
أسئلة الدرس القادم.
السؤال الأول: من الأحق بحضانة الطفل دون سبع سنين؟ مع ذكر الدليل.
السؤال الثاني: أيهما الأحق بالتقديم في الحضانة الخالة أم العمة؟(1/21)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الثاني عشر
الدرس الثاني عشر - تابع باب اللّعان
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
تابع باب اللّعان
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كنا قد شرحنا بالأمس الدرس كتاب اللعان مسائله أحكامه، وكان بودنا أن تُتاحَ الفرصة للأسئلة للإخوة المشاهدين ومن الإخوة الحاضرين معنا، ولكن ضاق الوقت؛ فلعلنا نتيح الفرصة الآن لمن رغب أن يسأل في درس كتاب اللعان الذي شرحناه بالأمس لكننا نبدأ أولا بمراجعة كتاب اللعان ثم بعد ذلك نتيح الفرصة للأسئلة سواء كانت الأسئلة عن طريق الهاتف أو عن طريق الإنترنت.
حقيقة الإخوة الذين بعثوا بالأمس عن طريق الموقع نرجو منهم إعادة إرسال الأسئلة مرة أخرى لدرس هذا اليوم حتى نتمكن من استعراضه
نريد أن نستذكر ما شرحناه في درس الأمس ذكرنا بداية تعريف اللعان؛ فما معنى اللعان؟
معنى اللعان: مشتق من اللعن؛ لأن كل واحد منهما يلعن نفسه في الخامسة واللعن الطرد
واصطلاحا؟
أن يلاعن الرجل زوجته أربع مرات
اللعان -اصطلاحا-: شهادات مُؤكَّدات بأيمان من الجانبيْن متبوعة بلعن أو غضب.
نعم، أحسنت. شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين؛ أي من الزوج الزوجة مقرونة بلعنة أو غضب.
الأصل في اللعان من القرآن ومن السنة؟ ومن القرآن دليل على اللعان من القرآن؟
قول الله -سبحانه وتعالى-: ? وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ ? [النور: 6]، الآية فهذا دل على أن الزوج يشهد أربع شهادات والخامسة أن اللعنة عليه وكذلك الزوجة: ? أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?8? وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? [النور: 8 - 9].
?(1/1)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ? ? وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ?8? وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?.
ومن السنة ورد قصتان في اللعان؟
الحديث الوارد عن اللعان الذي وقع من عويمر العجلاني، وكذلك من قصة هلال بن أمية لما وقع منهما نسبة الزنى إلى زوجاتهم
إذن القصتان كلاهما في الصحيحين قصة ملاعنة عويمر العجلاني لامرأته، وملاعنة هلال بن أمية لامرأته.
أيضا تكلمنا عن مسألة: متى يجب اللعان؟ متى يكون اللعان واجبًا؟
يكون اللعان واجبًا إذا حملت المرأة من الزنى
أحسنت. يعني لو تحقق الزوج بأن امرأته قد حملت من الزنى فيجب عليه أن يلاعن امرأته لأجل نفي الولد فإن لم يفعل؛ أثم؛ لأن هذا الولد سوف يلحق به وهو ليس منه، ويترتب على ذلك أحكام شرعية من التوارث والنسب وغير ذلك.
متى يكره؟
إذا رأى رجلاً يتردد على امرأته ولم يتيقن ذلك.
نعم، رأى رجلاً يتردد على امرأته ولكنه لم يتيقن أنه قد زنى بها. هنا له مخرج ولم تحمل منه أيضا هذا الشرط فله مخرج بأن يطلقها، ولذلك يكره في حقه اللعان، والأولى في حقه الستر، ويمكنه أن يتخلص من هذه المرأة بتطليقها.
متى يكون مباحًا جائزا؟
إذا غلب على ظنه وشك؛ فيجوز له أن يلاعن.
نعم يعني فيما عدا ذلك.
صفة اللعان ما هي؟
أن يتقدم الزوج ابتداءً ثم يشهد بالله أربع شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنى، ثم يتبع ذلك بالخامسة ويقرنها بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويتم استيقافه قبل الخامسة وتنبيهه من الحاكم الشرعي إلى مسألة أنها الموجبة.(1/2)
ثم يحدث مثل ذلك من المرأة أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فيما رماها به الزنى ثم يكون في الخامسة مقرونة بأَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ويسبق الخامسة استيقاف الحاكم الشرعي لها وأن توعظ وتذكر بأنها الموجبة.
نعم، أحسنت.
إذن سمة اللعان أولا يؤتى بالرجل ويقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى ويسميها إما يشير إليها وإما أن يسميها، ويكرر ذلك أربع مرات وعند الخامسة يقول: لَعْنَة اللهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وذكرنا أنه يستحب أن يوقف عند الخامسة وأن يوعظ أن يذكر بالله ويذكر بأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم يؤتى بالمرأة فتَشْهَدَ أَرْبَعَ مراتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فيما رماها به من الزنى وتكرر ذلك أربع مرات وعند الخامسة توقف وتذكر وتوعظ ويبين لها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أبت؛ فتقول إنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
هذه إذن هي صفة اللعان. إذا حدث ذلك؛ فإن القاضي يفرق بينهما.
يقول:
السؤال الأول: سأله أحد الطلاب أمس هل يمكن أن يكون الطبيب الأمين المتمكن له أن يفصل في هذا المسألة بدون لعان؟ الطب هل يكون له رأي في مسألة اللعان دون ملاعنة؟
السؤال الثاني: ما الحكمة في قوله –تعالى- غضب الله عليها ولعنة الله عليه؟
ما نوع الفرقة بين الزوجين إذا تم بينهما اللعان؟
يتفرقان ولا يرجعان إلى بعض حتى لو..
فرقة مؤبدة.
فرقة مؤبدة
حتى لو نكحت زوجا آخر وطلقها.
حتى لو نكحت زوجا آخر ثم طلقه
والحكمة من هذا؟ معنى إن الأمور مادام وصلت.. نعم، تفضل؟
مادام الزوج شك في زوجته ووصل الأمر إلى هذا الحد؛ فإنه لن يأمنها حتى لو تزوجها مرة أخرى(1/3)
يعني مادام أن الأمور قد وصلت بين الزوجين إلى هذه المرحلة إلى الملاعنة على الملإ، وبهذه الطريقة؛ فهذا شرخ كبير وجرح لا يمكن أن يندمل أبدا، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الزوجية بعد أن وصلت إلى هذا المرحلة. فلذلك فإن نوع الفرقة هي فرقة مؤبدة لا تحل له ولا يحل لها مطلقًا يعني طيلة حياتهم.
هل يشترط أن يصرح بذكر الزنى في أيمان اللعان؟
يعني هل لو قال أشهد بالله إني لمن الصادقين وكررها أربع مرات مثلاً ولعنة الله عليّ إن كان من الكاذبين فهل هذا يكفي أم لا بد أن يقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى؟
على قولين من أقوال أهل العلم؛ منهم من قال إنه يشترط وهذا هو الأظهر، وقيل إنه لا يشترط وهو الصحيح من مذهب الحنابلة.
عكست. الحنابلة قالوا يشترط.
الحنابلة قالوا يشترط.
وقالوا السبب في هذا أن الزوج أو الزوجة قد يتأول فقد يقول أشهد بالله إني لمن الصادقين يعني يقصد شهادة التوحيد أو في أمر بينهما. المرأة قد تقول أشهد بالله إنه لمن الكاذبين في قضية حدثت بينهما، فقالوا حتى نقطع عليه الطريق فلا يتأول فلا بد من التصريح بالزنى.
القول الثاني بعض أهل العلم قالوا إنه لا يلزم التصريح بذكر الزنى في الأيمان وأجابوا عما ذكره الحنابلة في مسألة التأويل قالوا إن التأويل في مقام الخصومة لا ينفع صاحبه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يمينُك على ما يصدقك به صاحبك)، والحديث الآخر: (اليمين على نية المستحلف).كلاهما في صحيح مسلم.
تقول: عندي استفسار من الشيخ بالأمس عن قصة جريج ما أدري أنا أسمع دائما أن دعت عليه والدته وهو يصلي عندما قال: أمي وصلاتي؟ هل هذا هو الصحيح أم أن لها رواية أخرى؟
يقول: عندي مجموعة من الأسئلة:(1/4)
السؤال الأول:. أخطاء بعض المستشفيات من تبديل الأولاد أي إذا حصل ما بين الزوجين ملاعنة إذا كلم زوجه أمام الولد والثاني نفس الطريقة ثم بعد ذلك اكتشف الأمر فما هو حكم الشرع في ذلك؟ يعني أخطاء من تبديل الأولاد في المستشفيات مادام ... لأولاده. وصار بينهم ملاعنة بعد ذلك أكتشف أن هناك خطأ بعد سنوات فما حكم ذلك؟
عفوا يعني عندما يحصل خطأ؟
من تبديل الأولاد
بتبديل الأولاد ويلاعن الرجل بناء على هذا الخطإ.
صار ملاعنة بينهم لأن الأولاد ما هي أولاده. بعد ذلك اكتشف أن الذي حصل في المستشفى؟
السؤال الثاني: هل المخالعة تكون من بعد طهر لم يجامعها فيه أم لا؟ وما الحكمة في ذلك؟
السؤال الثالث: يعتقد البعض أن تشبيك الأصابع عند عمل عقد فيه تأثير على العقد فما توجيهكم في ذلك؟
السؤال الرابع: بالنسبة إلى المرضع إذا مثلاً سنتين قطعت عن الحمل بسبب الرضاع كيف تعتد؟
أيضا من المسائل التي تكلمنا عنها ما يترتب على اللعان. قلنا ما يترتب على اللعان التحريم المؤبد يعني فرقة أبدية بينهما، ويترتب عليه أيضا انتفاء الولد. وتكلمنا عن مسألة استلحاق ولد الزنى، وقلنا إنه لا يخلو إما أن تكون المزني بها فراشا لزوج أو سيد، أو ليست فراشا. فإذا استلحق الزاني ولده من الزنى وكانت المزني بها فراشا فهل يلحق به؟
نعم يلحق به لحديث..
يحلق به أم لا يلحق؟
أمه فراش!
لا يلحق به
مادامت الأم فراشا باتفاق العلماء أنه لا يلحق به.
يلحق بمن إذن؟
يلحق بأمه.(1/5)
يلحق بصاحب الفراش الذي هو الزوج. حتى نوضح للإخوة المشاهدين هذه المرأة متزوجة يعني فراش لزوج ثم إنه قد زنى بها رجل، فأتت بولد من هذا الرجل. وهذا الرجل الزاني يريد أن يستلحق هذا الولد. يقول إنه ولده. نفترض أن الزوج مثلاً طلق هذه المرأة. هذا الزاني إن أراد أن يستلحق هذا الولد؛ فليس له ذلك باتفاق العلماء. لأن الولد يلحق بالفراش يلحق بالزوج شاء أم أبى. نقول هو ولدك فإذا أردت أن تنفيه ليس لك من طريق إلا اللعان أما إذا لم تلاعن؛ فإنه ولدك شئت أم أبيت. طيب هذه المسألة الأولى متفق عليها.
المسألة الثانية: إذا استلحق الزاني ولده من الزنى ولم تكن أمه فراشا؛ فما الحكم؟
اختلف العلماء على رأيين:
جمهور أهل العلم على أنه إذا استلحقه لا يلحق به، وإنما ينسب إلى أمه.
والرأي الآخر واختاره شيخ الإسلام -رحمه الله-: أن الرجل إذا استلحق ابنه من الزنى الذي أمه ليست فراشا فإنه يلحقه لأن فيه إثباتا من النسب، ولا يوجد دليل على الحظر ودليل: (الولد للفراش) إنما هو في حالة إذا كانت الأم فراش
نعم، أحسنت.(1/6)
المسألة الثانية هذه امرأة زُنِيَ بها وليست متزوجة يعني ليست فراشا، ثم إنها حملت من الزاني وأنجبت طفلا ثم إنهما قد تابا. ولنفترض أنه تزوج هذا الزاني بالمرأة المزني بها بعد التوبة وإلا؛ فقبل التوبة لا يجوز. فبعد ذلك أراد هذا الزاني أن يستلحق هذا الولد باعتبار أنه خلق من مائه. فهل يلحق به؟ ذكرنا خلاف العلماء في هذه المسألة وأن جمهور العلماء على أنه لا يلحق به، وذكرنا القول الثاني وهو قول في مذهب أحمد أنه يلحق به، وقلنا إنه اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وأنه هو الأقرب إلى الأدلة والقواعد الشرعية أيضا الأقرب إلى الأدلة وذكرنا قصة جريج لما قال جريج يا فلان! من أبوك؟ قال: فلان الراعي. وذكرنا كلام ابن القيم إن الله أنطق هذا الولد بأن أباه هو فلان الزاني يعني الراعي وأن خبر الله تعالى لا يجوز فيه الكذب إنطاق الله لا يجوز فيه الكذب وقلنا إن هذا القول هو القول الراجح في المسألة.
هذه أبرز المسائل التي تكلمنا عنها في الدرس السابق.
نعود بعد ذلك لنقرأ عبارة المؤلف ثم نعود بعد ذلك إلى الأسئلة والاستفسارات التي وردت لكن لعلنا أولا نضمن الانتهاء من كتاب اللعان بقراءة الفصل.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في لحوق في النسب
ومن ولدت امرآته أو أمته التي أقر بوطئها ولدا يمكن كونه منه؛ لحقه نسبه؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). ولا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان ولا ولد الأمة إلا بدعوى استبرائها. وإن لم يمكن كونه منه مثل أن ترد أمته لأقل من ستة أشهر منذ وطئها أو امرأته لأقل من ذلك منذ أمكن اجتماعهما، أو كان الزوج ممن لا يولد لمثله كمن له دون عشر سنين، أو الخصي أو، المجبوب؛ لم يلحقه.)
قال: (من ولدت امرأته أو أمته التي أقر بوطئها ولدا يمكن كونه منه؛ لحقه نسب)(1/7)
هذه في الحقيقة قاعدة فيما يلحق من النسب أنه إذا أقر بوطء هذه المرأة هذه الزوجة وهذه الأمة ويمكن كون هذا الولد منه؛ فإنه يلحق به.
رجل متزوج امرأة وولدت وقد أقر بوطئها فينسب هذا الولد له شاء أم أبى حتى لو كان لا يشبهه حتى لو كان هناك اختلاف في اللون في الشبه كل هذه الأمور غير معتبرة شرعا. ويدل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، ولهذا كان أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- كان أسود البشرة وكان زيد بن حارثة أبيض فكان هناك من يتحدث كيف يكون الولد أسود والأب أبيض؟ وهناك من يتحدث من كفار قريش يعرضون لعل أم أسامة قد زني بها أو نحو ذلك. وذات يوم أراد الله تعالى إظهار البراءة وإثبات نسب أسامة كان أسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة نائميْن وقد التحفا بلحاف واحد وقد بدت رجلاهما وغطيا بدنيهما لم يظهر سوى رجليهما فدخل مُجَزِّزٌ المُدْلِجِيّ وكان رجلا معروفا بحسن القيافة، وكان مشهورا عند العرب، فقال: والله إن هذه الأقدام بعضها من بعض. مع أنه لم يرهما لكن رأى أطراف القدمين فقط. فَسُرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بهذا سرورا عظيما تقول عائشة: "دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تري أن مجززا قال ذلك؟!) وذكر ما قال".
فاختلاف اللون ليس بدليل على أن هذا الولد ليس من هذا الأب فقد ينزعه عرق، ولهذا (لما أتى رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله! إن امرأتي ولدت غلاما أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: بهم. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فأنَّى له ذلك؟! قال: لعله نزعه عرق. قال: لعل ابنك هذا نزعه عرق). فاختلاف اللون إذن ليس بدليل.(1/8)
إذن الولد للفراش وللعاهر الحجر هذه هي القاعد التي بينها لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-. إذن لا اعتبار لاختلاف اللون ولا الشبه ولا الشكل ولا أي شيء آخر مادام أن هذه هي زوجته وقد أقر بوطئها والولد يمكن أن يكون منه وذلك بأن تلد بعد ستة أشهر فأكثر يلحقه النسب طيب.
قال المؤلف (ولا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان) طيب لو قال هذا الولد ليس ابني، نقول ليس لك إلا خيارٌ واحدٌ وهو أن تلاعن هذه المرأة فقط. أما إذا لم يلاعن؛ فينسب له الولد شاء أم أبى.
قال (ولا ولد الأمة إلا بدعوى استبرائه)
"استبرائها" هذا هو الصحيح موجود في بعض النسخ "عدم استبرائها" لكن الصواب "إلا بدعوى استبرائها" يعني يقولون لو أراد أن ينفي عنه الولد من الأمة؛ فإنه لا ينتفي إلا أن يدعي استبراءها بعد وطئه، فإن ادعى ذلك؛ فالقول قوله وينتفي ولدها عنه.
قال: (وإن لم يكن) كونه منه مثل أن تلد أمته لأقل من ستة أشهر منذ وطئها أو امرأته لأقل من ذلك منذ أمكن اجتماعهما؛ لم يلحقه النسب يعني هذا رجل تزوج امرأة وبعد شهرين ولدت لا يمكن أن يكون كونه منه يعني لا يلحقه النسب لأنه لا يمكن.
(ولو كان الزوج ممن لا يولد لمثله كمن له دون عشر سنين أو الخصي المجبوب لم يلحقه النسب) يعني هذا مثلاً صبي زُوِّج وعمره سبع سنين ثم تفاجأنا بأن امرأته حملت وولدت؛ فهل يلحقه النسب؟
لا يلحقه.
لا يمكن أن يولد لمثل هذا سبع سنين صغير، أو أنه خصي مجبوب ليس له آلة يعني لا يمكن أن يولد له فحينئذ لا يلحقه النسب. هذه القاعدة فيمن يلحق في النسب.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
فصل في ثبوت النسب بقول القائف(1/9)
وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد بشبهة أو وطئ الشريكان أمتهما في طهر واحد فأتت بولد أو ادعى نسب مجهول النسب رجلان؛ أُرِيَ القافة معهما أو مع أقاربهما، وألحق بمن ألحقوه به منهما. فإن ألحقوه بهما؛ لحق بهما. وإن أشكل أمره أو تعارض قول القافة أو لم يوجد قافة؛ ترك حتى يبلغ فيلحق بمن انتسب إليه منهما ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا ذكرا مجربا في الإصابة.)
نعم إذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد بشبهة يعني مثلاً حصل اشتباه ووطئ رجلان امرأة وهذا وإن كان نادرا لأنه قد يقع. أو وطئ رجلان شريكان أمتهما في طهر واحد فأتت بولد.
الآن هذه امرأة وطئها رجلان أتت بولد بمن ينسب؟ لهذا أم لهذا؟
يقول المؤلف: (أو ادعى نسب مجهول النسب رجلان؛ أُرِيَ القافة معهما أو مع أقاربهما فألحق بمن ألحقوه منهم) يقول إنه يرجع لرأي القافة. والقافة هم الذين يعرفون النسب بالشبه وقد كانوا موجودين من عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى وقتنا هذا بل كان العرب في الجاهلية تعرف هذا إلى وقتنا هذا. فهنا يرجع لرأي القافة في هذا.
وفي الوقت الحاضر وجدت وسائل ربما أنه يستغنى بها عن قول القافة مثل ما يسمى بالبصمة الوراثية والحمض النووي فهذه لا شك أنها أقوى في الدلالة من قول القافة، وهي في الحقيقة قريبة من القطع بينما قول القافة مبني على الظن أو غلبة الظن ولذلك إذا كان الفقهاء قد ذكروا أنه يرجع في هذا إلى رأي القافة فعلى مقتضى قواعد الفقهاء أنه يرجع إلى نتيجة البصمة الوراثية من باب أولى. فيمكن إذن حلّ هذه الإشكالية بالتحليل بالحمض النووي أو ما يسمى بالبصمة الوراثية بذلك يمكن معرفة أن هذا الطفل ولد مَنْ مِنْ هذين اللذين قد وطآ هذه المرأة بشبهة.
قال (وإن ألحقوه بهما؛ لحق بهما وإن أشكل أمره أو تعارض أمر القافة).. إلى آخره.
(وإن ألحقوه بهما لحق بهم) كيف لحق بهما؟(1/10)
يعني أحيانا قد يقول القافة نرى أنه يشبه هذا ويشبه هذا ولا مُرَجِّحَ؛ فما الحل؟
هذه امرأة وطئها رجلان بشبهة فقال القافة إنه يشبههما جميعا. فالمؤلف يقول (يلحق بهما جميع) فيقال فلان بن فلان وفلان، فلان بن فلان الفلان، وفلان بن فلان الفلان.
هو ينتسب إلى الرجلين فلان بن فلان من طريق وهو ابن فلان من طريق آخر
نعم.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء فالجمهور على أنه يلحق برجلين بل جاء في بعض الروايات عن الإمام أحمد أنه يمكن أن يلحق بثلاثة هذا أيضا قول الحنفية والمالكية. أما الشافعية فقالوا لا يمكن أن يلحق إنسان بأكثر من أب. والطب الحديث يؤيد رأي الشافعية؛ لأن الجنين إنما يتخلق من حيوان منوي واحد ويلقح البويضة فلا يمكن أن يكون أكثر من حيوان منوي فالطب الحديث يؤيد قول الشافعية في هذا، الجمهور استدلوا في هذا بآثار عن بعض الصحابة آثار عن عمر -رضي الله عنه- أنه ألحق طفلا برجلين لكن أيضا روي عن عمر -رضي الله عنه- خلاف هذا فالآثار عند الصحابة مختلفة، ولذلك لا يمكن أن يستدل بها لأحد القولين الشافعية قالوا إن الله أجرى العادة أنه لا يكون للولد إلا أب واحد وأم واحدة ولهذا يقال فلان بن فلان النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ينصب لكل غادر لواء يقال هذه غدرة فلان بن فلان).
ولهذا لو قال أحد الناس لرجل أنت فلان بن فلان وبن فلان قالوا لعد هذا منكرا وربما عُدَّ أيضا قذفا والأقرب والله أعلم في هذه المسألة هو رأي الشافعية وأنه لا يمكن أن يلحق الطفل بأكثر من أب.(1/11)
وبكل حال ربما لا نحتاج لهذه المسألة في الوقت الحاضر لأنه مع وجود وسائل التقنية الحديثة والبصمة الوراثية والحمض النووي فقد نقول يستعان بهذه الوسائل فهذه -كما ذكرنا- وسيلة تقرب من القطع إلى الحمض النووي والبصمة الوراثية فيستعان بها في تحديد النسب فهذه يعني وإن كانت ربما تشكل على من كان قبلنا لكن في الوقت الحاضر يعني قد زال الإشكال بوجود مثل هذه الوسائل التي دلالتها قوية جدًّا.
(وإن أشكل أمره أو تعارض أمر القافة أو لم يوجد قافة ترك حتى يبلغ فيلحق بمن انتسب إليه منهم) يعني لو لم يوجد حلٌّ لهذا وتعارض أمر القافة هذا يقول إنه يشبه فلانا وهذا يقول إنه يشبه فلانا؛ فإنه يقول يترك حتى يلتحق بمن أراد أن ينتسب إليه منهما. لكن أيضا هذه في الوقت الحاضر هذه إشكالية يعني تقريبا زالت بسبب ما وجد مما ذكرنا بالبصمة الوراثية أو الحمض النووي التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى معرفة الأب الحقيقي لهذا الطفل.
لكن يا شيخ عفوا يعني قضية البصمة الوراثية هناك إشكالية في قضية من وجود الأب والأم معا يعني مثلاً لو ولد هذا وتوفيت أمه يبدو أن هناك إشكالا يعني إن الطب لا يستطيع أن يقطع إلا إذا توفرت البصمة وأخذت من الأب والأم معا بينما القافة ربما يكون عندهم مجال أوسع في قضية تقصي الأثر ومعرفة الشبه.
يعني لا أدري عن هذه العلوم أنه لا بد من وجود الأب والأم.
للقطع بالنتائج
لا هو بالطفل والأب فقط يكفي. يعرف أن هذا أبوه أم لا. يعني يكفي أن يحلل هذا الطفل.
لكن إن كان يشترط وجود الأب والأم معا في البصمة الوراثية
الذي أعرفه أنه لا يشترط وإنما الطفل والأب يمكن أن يقطع هل هذا أبوه أم ليس بأبيه.(1/12)
قال: (ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الإصابة) يعني أيضا لا يقبل لأن خبره وقوله يترتب عليه أحكام شرعية فلا بد أن يكون عدلا ولا بد أيضا أن يكون مجربا بالإصابة يكون عنده شيء من الحذق والمهارة وأن يكون مجربا بالإصابة فليس أي إنسان يقبل قوله. بهذا نكون قد انتهينا من كتاب اللعان.
طيب نعود بعد ذلك لأسئلة الإخوة المشاهدين وسنرجع -إن شاء الله- لأسئلة الإخوة الموجودين معنا أيضا بعدما نجيب عن بعض الأسئلة من الإخوة المشاهدين.
في مسألة الطب. وهل يمكن أن يكون الطب حلا وخيارا مناسبا في مسألة اللعان عوضا عن اللعان في قضية إثبات النسب؟
نعم. هنا في مسألة اللعان لا يمكن. لماذا؟
لأن هذا الرجل تحقق من زنى هذه المرأة وهو لم يطأها يعني في طهر لم يجامعها فيه. يعني مثلاً رجل أتى امرأته الحيض ثم لم يطأها بعد ذلك ثم تحقق من زناها فحملت. هنا تحقق من أنها حملت من ذلك الرجل يعني من الزاني فلا بد ويجب عليه أن يلاعن في هذه الحالة ولذلك لا يُستغنى بالطب في هذا. وإنما يلجأ إلى الطب في هذا عند الاشتباه فقط.(1/13)
ثم أيضا مسألة البصمة الوراثية والحمض النووي يعني من المسائل التي فيها خطورة وحساسية لا يفتح فيها المجال على مصرعه لمن أراد. بعض الناس عندهم وسوسة لو فتح هذا المجال سيأتي بعض الناس وربما يقول حلل أبناءك ليتأكد. يقول أريد أن أتأكد وربما يكتشف خلاف هذا يحصل يترتب على هذا من المفاسد ما الله به عليم. ولهذا من الأنظمة عندنا هنا في المملكة أنه لا بد أن يصدر في ذلك حكم قضائي يعني لا يكون التحليل بالبصمة وبالحمض النووي إلا بحكم قضائي يعني هذا فيه خطورة ولذلك في الحقيقة أنه لا يلجأ إلى اللعان إلا من كان مضطرا إليه وهي في الحالة التي ذكرنا الغالب أنه لا يلجأ إلى اللعان إلا من كان مضطرا إليه؛ لأن أول المتضررين من الملاعنة هو الزوج سيكون في ذلك فضح له ولأسرته ويعني ربما يؤثر على سمعة أسرته، والفرقة الأبدية بينه وبين زوجته. هو أول متضررين فلذلك يعني في مثل هذه الحال يعني نقول إنه قد لا يضطر الإنسان إلى اللعان إلا في مثل هذه الحال وهي الحالة التي يجب فيها اللعان التي تحمل فيها المرأة من الزاني وإلا إذا لم تحمل المرأة من الزاني فبإمكانه أن يطلقها ولا يحتاج إلى اللعان. فإذن البصمة الوراثية تكون عند الاشتباه فقط يحتاج إليها عند الاشتباه أما في مسألة الملاعنة؛ فلا.
السؤال الثاني: يقول من قول الله إن غضب الله عليها ولعنة الله عليها؟
الغضب أشد من اللعن. والحكمة قيل يعني للعلماء في ذلك أقوال. قيل: لأن النساء يتساهلن باللعن، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام- (تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، فناسب أن يكون الغضب في جانب المرأة واللعن في جانب الزوج. وقيل -وهو الأقرب-: إن الأمر بالنسبة للمرأة أشدّ منه من الرجل لأن الغالب في الملاعنة صدق الزوج أم صدق الزوجة؟
الغالب صدق الزوج.(1/14)
الزوج إذا كان عاقلا سويا لن يقدم على قذف امرأته إلا وهو متأكد أو شبه متأكد. فالغالب هو صدق الزوج في هذا فناسب أن يكون اللعن في حق الزوج، والغضب في حق المرأة؛ لأن الغضب أشد ولأن الغالب هو صدق جانب الزوج.
الأخت سألت عن قصة جريج وتقول بأن يكون في رواية الحديث أن أمه دعت عليه تريد أن تستفسر عن ثبوتها؟
نعم هذا ثابت. قصة جريج ثابتة في الصحيح. جريج كان رجلا عابدا من بني إسرائيل في صومعته انقطع للعبادة في صومعته، فنادته أمه ذات مرة فقال: ياربِّي! أمي وصلاتي. فاستمر في صلاته، ثم نادته مرة ثانية فاستمر في صلاته ثم ثالثة فاستمر في صلاته، فدعت عليه أمه قالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات. يعني البغايا أو الزانيات ولعل أن قد استجيبت دعوتها فأُرِيَ وجوه المومسات. وذلك أن امرأة بغيًّا من بني إسرائيل ذُكر عندها جريجٌ وعبادته فقالت: والله لأفتننه. قالوا: لا تستطيعين هذا. فذهبت وتزينت وتعرضت له ولم يلتفت لها فذهب إلى راع فأمكنته من نفسها فزنى بها فحملت منه ثم وضعت وقالت: إن هذا الولد من جريج. فأتوا إليه وقالوا: أنت رجل سوء تتستر بالدين وهدموا صومعته وضربوه فقام وتوضأ وركع ركعتين يعني صلى ركعتين ثم أتى لهذا الغلام غلام رضيع لا يزال في المهد وغمزه بإصبعه في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي. أنطقه الله في المهد.
فاستدل بهذه القصة يعني ما ذكره ابن القيم أن ولد الزنى يلحق بأبيه إذا لم تكن أمه فراشا؛ لأن إنطاق الله لا يجوز فيه الكذب فلو لم يكن حقيقة؛ لما قال فلان الراعي. يقول إنطاق الله لا يجوز فيه الكذب. وهذه القصة في الصحيحين محفوظة ومشهورة.
تقول: بالنسبة للعدة نحن قلنا القول الصحيح إذا خلا رجل بامرأته وحصل مسيس فعليها العدة. طيب إذا لم يحصل مسيس حقيقي ولكن حصل مقدمات المسيس هل عليها العدة أم لا؟(1/15)
تقول: ذكر فضيلة الشيخ أن التأول أمام القضاء لا يجوز في الحلف فإذا الإنسان إذا تأول في غير القضاء في أمور اضطر أن يتأول للحلف لها فهل يجوز له ذلك في غير أمور القضاء الشرعي؟
السؤال الثاني: هل يجوز اللعان بالنسبة للمرأة أم أنه خاص فقط للرجل إذا المرأة شاهدت زوجها في فاحشة تتجه إلى الخلع أم تتجه إلى طريق آخر؟
السؤال الثالث: ذكرت الأخت البارحة أن تؤخذ بشهادة الأعمى إذا قذف زوجته وأقام عليها اللعان فكيف تؤخذ بشهادة الأعمى؟
سؤال أخير: كيف يلاعن مطلقته إذا كان يعني عنده مطلقة وأراد أن يلقي الولد عنه بعد انفصالهما فكيف يكون اللعان؟
يقول: الحقيقة هناك سؤالان بالنسبة للأسئلة:
ما معنى امرأة وطئها رجلان بشبهة؟
السؤال الآخر: هو السؤال الذي جاء في الدرس السابق. هل يصح أن يلاعن الرجل من أجل نفي الولد مع عدم قذف امرأته بالزنى، والعلماء تكلموا في الأمر في قولين هل يمكن أن نقول كما لو كان الأمر في الطلاق بصيغة غير صريحة أن يرجع إلى نية الملاعن فإن قصد على سبيل المثال أن هذا الولد لا يشبهه أو أن هذه المرأة وُطِأَتْ بشبهة أو أنه على يقين أن امرأته غير متزوجة فهل يرجع إلى نيته كما رجع في حال الطلاق؟
أما بالنسبة للمداخلة منذ درسين سابقين سأل بعض الإخوة الطلاب عن حكمة العدة للمتوفاة كونها أربعة أشهر وعشرة أيام والحقيقة رجعت إلى بعض الزملاء فقال الزملاء الأخصائيين الاستشاريين في النساء والولادة فقالوا إن هذا الوقت هو الوقت الذي يبدأ حركة الجنين فيه فتستطيع أي أم أن تدرك حركة الجنين وهو ما بين الأسبوع الثامن عشر والأسبوع العشرين أي تقريبا من اليوم 126 إلى اليوم 140 وبالتالي كل النساء تستطيع أن تدرك إذا كانت حاملا أم لا ويترتب على ذلك مدة عدتها وجزاكم الله خيرا!
أبو مصعب من الطائف بعث بأربع أسئلة:(1/16)
السؤال الأول: يقول عن الأخطاء الطبية وأخطاء مستشفيات في تبديل الأولاد تقول إذا شك الإنسان قد بُدِّلَ له ابنه ولاعن زوجته ثم بعد ذلك اكتشف هذا الخطأ = خطأ المستشفى. ما موقفه؟
أولا نحن ذكرنا وقلنا لا ينبغي أن يفتح هذا الباب؛ لأن إذا فتح هذا الباب ربما ترتب ما ذكره الأخ بعض الناس يبدأ يشكك ويبدأ يحلل أولاده مشكلة يفتح باب شر كبير على المسلمين. ولذلك قد يحصل مثل ما ذكر الأخ يعني أنه قد يكون هناك نوع تبديل أولاد ثم يلاعن ثم بعد ذلك يكتشف أن ملاعنتها غير صحيحة بعد التحليل.
على كل حال الفقهاء ذكروا أن من لاعن زوجته ثم أكذب نفسه فإنه يقام عليه حد القذف فلو أنه لاعن زوجته لأجل مثلاً تبديل أولاد كما ذكر الأخ ثم بعد ذلك تبين من خلال التحليل من خلال الحمض النووي أو البصمة الوراثية تبين أنه ولده وأن هذا ولد خلق من مائه فأكذب نفسه فإنه يقام عليه حد القذف ثمانون جلدة وترد شهادته إلا إذا أسقطت الزوجة حقها في ذلك لأن حد القذف في قول جمهور أهل العلم أنه حق لآدمي.
السؤال الثاني: يسأل عن قضية توقيت المخالعة هل تكون أيضا بعض طهر لم يجامعها فيه والحكمة.
الخلع لا يخلو إما أن يكون بلفظ الطلاق أو بلفظ الفسخ أو بلفظ الخلع فإن كان بلفظ الخلع؛ فإنه فسخ، وإن كان فسخا؛ فإنه لا يشترط أن يكون في طهر لم يجامعها فيه؛ لأنه فسخ للنكاح.
أما إذا كان بلفظ الطلاق؛ فيأخذ أحكام الطلاق، ولا بد أن يكون في طهر لم يجامعها فيه لا يكون في حال الحيض في قول جمهور العلماء وإلا؛ فهناك من أهل العلم من يرى أيضا أن الخلع بلفظ الطلاق أيضا فسخ لكن قول أكثر أهل العلم على أنه إذا كان الخلع بلفظ الطلاق؛ فإنه يكون طلاقا ويترتب عليه ما يترتب على الطلاق من أحكام.
السؤال الثالث: يقول عن تشبيك الأصابع في كتابة العقد وهل له أثر؟(1/17)
نعم هذا مما هو شائع عند العامة لكن هذا لا أصل له في الحقيقة بعض العامة يقول إن من يحضر عقد النكاح لا يشبك بين أصابعه ولذلك تجد أنه إذا شبك أحد بين أصابعه نهاه أحد الحاضرين "لا تشبك بين أصابعك". ويعتقدون بأنه إذا شبك بين أصابعه أنه لا يكون هناك توفيق بين الزوجين، هذا لا أصل له هذا غير صحيح إطلاقا، ولا علاقة بتشبيك الأصابع أو بعد تشبيكها بمسألة التوفيق أو عدم التوفيق فهذه من الأمور الموجودة عند العامة التي لا أصل لها.
السؤال الأخير: المرضع إذا انقطع حيضها سنتين أثناء الرضاع كيف تكون عدتها؟
نعم هذه مسألة تكلمنا عنها في الدروس السابقة وقلنا إن من انقطع حيضها إن كانت ترجو أن يعود فإنها تنتظر كأن تكون ترضع فتنتظر حتى يعود إليها الحيض وتعتد بالحيض. أما إذا كانت لا ترجو أن يعود إليها الحيض فذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة أنها تعتد سنة كاملة كما قضى بذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وقد سبق أن فصلنا كلام في هذه المسألة وذكرنا بعض ما روي في ذلك من الآثار عن الصحابة -رضي الله عنهم- في هذا.
يقول: المجبوب ما هو؟
المجبوب هو مقطوع الذكر.
يقول: هل من الحكمة اختلاف ألفاظ اللعان بين الزوج والزوجة المرأة الزوجة تكون الغضب لأن المفسدة أكبر يعني اختلاط الأنساب فاختلف اللفظ بين الغضب واللعان؟
قيل في ذلك عدة أقوال أشرنا إلى بعضها وربما يعني ما تذكره ربما يكون محتملا يكون أحد الوجوه في هذا لكنه أقرب ما قيل أنه لما كان الغالب الصدق جانب الزوج لأنه في الحقيقة أو المتضررين من الملاعنة فيعني كان في حقه اللعن والمرأة في حقها الغضب لأنه أشد من اللعن.
يقول: الملاعنة تكون محرمة على من لاعنها على زوجها هل يكون لها محرما يجوز الخلوة بها والسفر بها؟
يعني الملاعن؟
نعم الملاعن يكون به(1/18)
لا. حصلت فرقة أبدية بينهما إذا كان من طلق امرأته طلقة واحدة خرجت من العدة ليس محرما لها كيف بمن حصلت بينه وبينها الفرقة المؤبدة انقطعت علاقته بهذه المرأة.
الأخت سألت عن قضية المرأة إذا خلا بها زوجها وكانت هناك مقدمات مسيس بها وكذا هل تعتد بهذه الأمور؟
نعم. إذا حصل دخول أو مقدمات الوطء أو الدخول؛ فحينئذ يترتب على ذلك ما يترتب على الدخول من أحكام يترتب على ذلك ما يترتب على الدخول من أحكام يعني يستقر المهر من جهة استقرار المهر وأيضا يكون عليها العدة ويعني كل ما يترتب على الوطء من مسائل وأحكام.
إنما الخلاف الذي سقناه في درس سابق إذا حصلت خلوة ولم يحصل مسيس يعني لا وطء ولا مقدماته فهذا هو الذي ذكرنا فيه خلاف العلماء في المسألة، ورجحنا أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول وأن هذا عند التحقيق هو القول الأقرب وأن ما روي عن الخلفاء الراشدين في هذه أنه لا يصح حديث أثر زرارة بن أبي أوفى أنه لا يصح من جهة الإسناد، وتكلمنا عن هذا بالتفصيل ورجحنا أن الخلوة لا تأخذ حكم الدخول كما هو الصحيح من مذهب الشافعية.
نحن وقفنا عند باب الحضانة والأسئلة التي طرحناها في الدرس السابق هي في الحضانة فلعل الأسئلة التي طرحناها في الدرس السابق هي تكون للدرس القادم -إن شاء الله- فلا حاجة إلى أن نضع أسئلة جديدة في هذا الدرس الإخوة الذين أجابوا والإخوة الذين لم يجيبوا يمكن أن يضيفوا إجابات أخرى ونستعرض الإجابات في بداية الدرس القادم بعد الحج -إن شاء الله-.
يعني الإخوة الذين أرسلوا هذا اليوم عليهم إعادة إرسال مرة أخرى -إن شاء الله- بعد العيد إذا انتهت الحلقة تزول الحقيقة الإجابات نكلف عليهم الحقيقة بإرسال إعادة مرة أخرى
إذن يعيدون الإرسال مرة أخرى ونستعرضها -إن شاء الله- بعد استئناف الدرس بعد الحج لأن الدرس سيتوقف -إن شاء الله- خلال فترة الحج وسنعود -إن شاء الله وتعالى- إلى استئناف الدرس بعد الحج -إن شاء الله-.(1/19)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الثالث عشر
الدرس الثالث عشر - باب الحضانة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب الحضانة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا الدرس سيكون -إن شاء الله تعالى- عن مسائل وأحكام الحضانة. والحضانة إنما يُحتاج إليها عند افتراق الزوجين وبينهما ولد فأكثر، وإلا؛ فعند استقامة الحال بين الزوجين لا حاجةَ لبحث مسائله لكن يحصل أن يفترق الزوجان وبينهما أولاد؛ فلمن تكون حضانتهم؟
في هذا الباب يبحث الفقهاء مسائل الحضانة. ونبتدئ أولا بالتعريف وقبل أن ندخل في مباحث باب الحضانة لعلنا نقرأ عبارة المؤلف -رحمه الله تعالى-.
ولعلنا نستعرض أسئلة الدرس الماضي وهي مناسبة أيضا لباب الحضانة.
لعلنا نبدأ بأولى الإجابات. إجابة السؤال الأول:
من الأحق بحضانة الطفل دون سبع سنين؟ مع ذكر دليل.
تقول: الحق بحضانة الطفل دون سبع سنين هي الأم ما لم تتزوج؛ لأنها أشفق عليه وأقرب إليه ولا يشاركها في القرب إلا أبوه.
والدليل أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال للأم التي جاءته شاكيةً من زوجها الذي طلقها وأراد نزع ولدها منها: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ريح الأم وفراشها وحجرها خير له من الأب حتى..".
الإجابة صحيحة ونموذجية. الأحق بحضانة الطفل دون سبع سنين هي أمه؛ لهذا الحديث وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، وهو حديث صحيح؛ رواه أبو داود وغيره وسيأتي الكلام عنه.
فهذا الحديث يدل على أن الأم أحق بحضانة الطفل من الأب إذا كان الطفل دون سبع سنين. ونشكر الأخت على هذه الإجابة.
الأخ يقول في إجابته للسؤال الثاني:
أيهما الأحق بالتقديم في الحضانة الخالة أم العمة؟
الجواب:(1/1)
اختلف العلماء فيمن يقدم في الحضانة الخالة أم العمة إذا عدمت الأمهات والآباء والأخوات على قولين:
القول الأول: هو ما نص عليه الإمام أحمد في أن الخالات يُقدَّمن على العمات؛ لما في الصحيحين: (الخالة بمنزلة الأم)، وكون النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قضى لابنة حمزة أن تكون حضانتها لخالتها زوجة جعفر).
القول الثاني: وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ أن العمات يقدمن على الخالات، وأنهن أحق من الخالات ونساء الأب يقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية للأب وكذا أقاربه. وإنما قدمت الأم على الأب؛ لأنها أنثى ولأنها أشفق على الطفل وأصبر عليه، ولأن جهة الأبوة ترتبط برابطتيْ العصوبة والرحم بخلاف جهة الأم؛ فإنها ترتبط برابطة الرحم فقط.
وأوضح شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: "إنما قدم الشارع خالة بنت حمزة على عمتها صفية؛ لأن صفية لم تطلب الحضانة، ولأن جعفرًا قد طلبها نيابةً عن خالتها فقضى لها بها في غيبتها".
قال شيخ الإسلام: "إن مجموع أصول الشريعة تقديم أقارب الأب على أقارب الأم فمن قدمهن في الحضانة؛ فقد خالف الأصول والشريعة".
والقول الثاني هو القول الراجح والله أعلم.
نعم، كما ذكر الأخ أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة على قولين، وأردت من طرح هذا السؤال أن يطلع الإخوة على كلام أهل العلم في هذه المسألة. والخلاف فيها خلاف قوي وسنعرض له -إن شاء الله- بشيء من التفصيل، وسنبين -إن شاء الله تعالى- القول الراجح، وربما نُرجِّح خِلافَ ما رجحه الأخ. وعلى كل حال سنبين -إن شاء الله تعالى- هذا كله بالتفصيل.
طيب نشكر الإخوة الذين تفاعلوا وأجابوا عن السؤالين.
نبدأ بقراءة عبارة المؤلف في باب الحضانة.(1/2)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: ( أحقّ الناس بحضانة الطفل أمه ثم أمهاتها وإن علون ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم العمة ثم الأقرب فالأقرب من النساء ثم عصباته الأقرب فالأقرب. ولا حضانة لرقيق ولا فاسق ولا امرأة مزوجة لأجنبي من الطفل. فإن زالت الموانع منهم؛ عاد حقُّهم من الحضانة. وإذا بلغ الغلام سبع سنين؛ خُيِّر بين أبويه فكان عند من اختاره منهما. وإن بلغت الجارية سبعا؛ فأبوها أحقُّ بها.
وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأمُّ أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحقَّ به من غيرها. وسواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة. فإن لم يكن له أب ولا مال؛ فعلى ورثته أجر رضاعه على قدر ميراثهم منه.)
نبدأ أولا بتعريف الحضانة. الحضانة معناها في اللغة: مشتقة من الحضن وذلك أن المربي يضم الطفل إلى حضنه.
واصطلاحا هي: حفظ صغيرٍ ونحوِه عمَّا يضرُّه وتربيته بعمل مصالحه.
قال المؤلف -رحمه الله-: (أحق الناس بالطفل أمه): هذا كما قلنا في مقدمة الدرس عند التنازع بين الزوجين، وأيضا بعد افتراق الزوجين عند التنازع. وإلا ما دامت في عصمته وفي ذمته وهي زوجة له؛ لا يطَّرد مسائل هذا الباب. لكن إذا افترق الزوجان وبينهما ولد أو أولاد؛ فإن اتفقا على عند من تكون الحضانة؛ فعلى ما اتفقا عليه سواء أكان ذلك عند الأب أو عند الأم. لكن إذا تنازعا؛ فعند من تكون الحضانة؟
قال المؤلف: "أحق الناس بحضانة الطفل الذي هو دون سبع سنين أمه". وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنتِ أحق به ما لم تنكحي)؛ ما لم تتزوج الأم؛ فإنها أحق بحضانة الطفل.
هذا الحديث حديث صحيح؛ أخرجه أبو داود وغيره، وقد حُكي الإجماعُ عليه، ولأن الأم هي الأكملُ والأقرب في الشفقة من الأب، ولا يشاركها في الشفقة والحنوّ من الطفل إلا أبوه وهي أكمل شفقة من الأب؛ فكانت هي أولى الناس بحضانة هذا الطفل.
((1/3)
ثم أمهاتها وإن علون)؛ يعني ثم أمهات الأم وإن علون. معنى ذلك أن الأحقَّ بعد الأم الجدة من قِبَل الأم وأمها وهكذا.
وأفادنا المؤلف بأن الجدة التي هي أمّ الأم أحق بالحضانة من الأب؛ ولهذا قال المؤلف: ثم الأب ثم أمهاته. يعني يلي أم الأم وأمهاتها الأبُ؛ فتكون إذن على هذه المراتب.
الأحق بالحضانة الأم ثم أمهاتها ثم الأب ثم أمهاته؛ يعني الجدة من قبل الأبِ ثم الجدّ ثم أمهاته ثم الأخت من الأبوين؛ يعني الأخت الشقيقة ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم العمة، فأفادنا المؤلف بأن الخالة تقدم في الحضانة على العمة.
وهذه مسألة اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين، وقد طرحنا هذه المسألة لتكون موضعا للسؤال، وأجاب عنها بعض الإخوة. المسألة اختلف فيها العلماء على قولين:
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وكذلك أيضا الحنابلة في الرواية المشهورة إلى تقديم الخالة على العمة، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الخالة بمنزلة الأم)، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الخالة بمنزلة الأم.
إذا كانت بمنزلة الأم؛ فإنها مُقدَّمة على العمَّة؛ لأن الأمَّ مقدمة على الأب فالخالة التي هي بمنزلتها مقدمة على العمة من باب أولى. هكذا قال الجمهور. وقد قال -عليه الصلاة والسلام- هذه المقولة: (الخالة بمنزلة الأم) لَمَّا تُنُوزِع في ابنة حمزة تنازع فيها عليُّ بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة. كلٌّ يريد حضانتها، فقال: علي: هي ابنة عمي، وقال جعفر: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: هي ابنة أخي، ومعلوم أن زيدا من الموالي لكن يقصد الإخاء الذي حصل بعد الهجرة.
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الخالة بمنزلة الأم) وقضى بها لجعفر؛ لأن زوجة جعفر هي خالة ابنة حمزة. فاستدل الجمهور على أن الخالة مقدمة على العمَّة بهذا الحديث.(1/4)
القول الثاني في المسألة: إن العمة مُقدمة على الخالة في الحضانة، وهذا القول هو رواية عن الإمام أحمد، وقد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وكذا ابن القيم.
ووجهة هذا القول أن نساء الأب يُقدَّمن على نساء الأمِّ؛ لأن الولاية على الطفل في الأصل إنما هي للأب وإنما قدمت عليه الأم لمصلحة الطفل وكمال تربيته وشفقتها وحنوها. والإناث أقوم بذلك من الرجال فإذا صار الأمر إلى النساء فقط، وكانت المفاضلة بين نساء ونساء أو الرجال فقط؛ كانت قرابة الأب أولى من قرابة الأم كما يكون الأب أولى من كل ذَكَرٍ سواه. وأجابوا عن حديث (الخالة بمنزلة الأم) وقالوا: إن العمَّة في قصة ابنة حمزة لم تطلب الحضانة فالحضانة حقٌّ لها يُقضى بطلبٍ بخلاف الخالة؛ فإن جعفرًا كان نائبا عنها في طلب الحضانة.
إذن هذه هي أقوال العلماء في المسألة وأكثر أهل العلم يرون أن الخالة مُقدمة على العمة، وقلنا هو مذهب الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الرواية المشهورة، ومن العلماء من قال بأن العمة مقدمة، وقلنا إن هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله-.
القول الراجح في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-:(1/5)
الله تعالى يقول: ? فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ? [النساء: 59]، إذا رددنا هذه المسألة إلى كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ نجد أن الحديث الوارد فيها هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (الخالة بمنزلة الأم) هذا هو الوارد. وهذا نص صحيح في الصحيحين، وهو يفيد بأن الخالة منزلتها من الطفل المحضون قريبة جدًا حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلها بمنزلة الأم. فإذا رددنا هذه المسألة إلى هذا الحديث؛ نجد أن الأقرب من حيث الدليل والله أعلم هو قول الجمهور: "الخالة بمنزلة الأم" وكيف نقول: "إن العمة أقرب من الخالة" والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول (الخالة بمنزلة الأم)؟!
وما ذكروه من أن العمة لم تطلب الحضانة أن هذه واقعة عين؛ فهذا محل نظر ويحتاج مثل هذا إلى دليل ظاهر. ثم إن العبرة بعموم اللفظ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الخالة بمنزلة الأم)، وقضى بها لجعفر فهذا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-. نعم لو لم ترد هذه اللفظة وكان قضى بها لجعفر فقط؛ لربما كان التوجيه الذي ذكره الإمام ابن القيم متجها لكن هنا نحن نستدل بعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (الخالة بمنزلة الأم).
ومن هنا أقول: لعل الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة هو قول الجمهور، وهو وأن الخالة مُقدمة على العمة، وهو الرأي الذي مشى عليه المؤلف، ولكن يبقى القول الثاني قولا قويا، ويكون الخلاف في هذه المسألة خلافا قويا، ويكفي أن القول الثاني قد اختاره إمامان عالمان كبيران وهما: شيخ الإسلام وابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله-، وحَسْبُكَ بهما ولكن العبرة بالدليل, والأقرب من حيث الدليل ما عليه جماهير العلماء وما عليه الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الرواية المشهورة.
هنا يا شيخ هل يشترط مثلا أن تكون الخالة أو العمة غير متزوجة؟(1/6)
نعم، سيأتينا موانع الحضانة، وسيتكلم عن هذه المسألة -إن شاء الله تعالى- بعد قليل.
يعتد بها في المفاضلة؟
نعم يعتد بها.
قال: ( ثم الأقرب فالأقرب من النساء ثم عصباتها الأقرب فالأقرب): هكذا يكون ترتيب الحضانة، ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن موانع الحضانة.
قال: (ولا حضانة لرقيق)
الرقيق هو: المملوك وهو المشهور بخدمة سيده، ولذلك يسقط حقُّه في الحضانة؛ لأنه مشغول عن القيام برعاية المحضون؛ فلا حضانة له.
قال: (ولا فاسق)
أفادنا المؤلف بأن الفاسق لا يكون حاضنا، وعند التنازع بين فاسق وغيره؛ يُرجَّح جانب الإنسان العدل من رجل أو امرأة، وبناء على ذلك في جميع الأحوال لو كان الأب فاسقا يشرب الخمر مثلاً أو أنه لا يصلي مع الجماعة، وإلا؛ فترك الصلاة بالكلية كفر. لكن لا يصلي مع الجماعة أو نحو ذلك، والأم امرأة صالحة؛ فالأم أحق بحضانة الطفل على كل تقدير سواء أكان دون سبع سنين أو دون سبع سنين لكن بشرط أن تُثبت فسقَ الأب أو كان العكس؛ أن الأم هي الفاسقة والأب رجل عدل وصالح؛ فالأب يكون أحقَّ بحضانة الطفل ولو كان دون سبع سنين.
فالفاسق لا يُمَكَّنُ من الحضانة فالفسق إذن مُسقِطٌ لحقِّه في الحضانة، ولهذا قال: "ولا فاسق"؛ لأن المقصود من الحضانة رعايةُ المحضون فإذا كان فاسقا؛ فإنه لم يُصلح نفسه فكيف يصلح غيره؟! وربما يُفسد هذا الطفل ويُربيه على الفسق وعلى الفجور، ولذلك لا يمكن هذا الفاسق من الحضانة.
قال: (ولا امرأة مزوجة لأجنبي من الطفل)
هذا الذي سألت عنه. المرأة إذا كانت مزوجة فإن تزويجها يسقط حقها من الحضانة ولو كانت أمًّا، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: (أنت أحق به ما لم تنكحي).(1/7)
فالمرأة إذن إذا تزوجت؛ سَقَطَ حقُّها في الحضانة، ولأنها إذا تزوجت تشتغل بزوجها عن حضانة هذا الطفل. لكن هنا أنبه على مسألة وهي أن المرأة إذا تزوجت بمن هو أهلٌ للحضانة؛ فإن حقَّها لا يسقط كالجدة إذا تزوجت بجد. الجدة المزوجة بالجد لا يسقط حقها في الحضانة؛ لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردا فمع اجتماعهما من باب أولى، ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل بنت حمزة عند خالتها لما كانت مزوجة بجعفرٍ ابنِ عمِّها جعلها عندها.
فإذن قولنا هنا "ما لم تكن مزوجة" يعني بأجنبي، أما إذا كانت مزوجة برجل من أهل الحضانة؛ فهنا يتأكد حقها في الحضانة.
كخالة الطفل مثلاً لو تزوجت من عمه تزوجها عمه؟
نعم إذا كان عمه مثلاً من أهل الحضانة باعتبار أنه ليس هناك أحد أسبق ولم ينازعه أحد أسبق؛ فهنا يتأكد حقها في حضانته.
(فإذا زالت الموانع منهم؛ عاد حقّهم من الحضانة) يعني لو أن هذه المرأة المزوجة من أجنبي ليس من أهل الحضانة طُلِّقَت يعني هذه المرأة كانت تحضن طفلها ثم إنها تزوجت برجل أجنبي فسقط حقها في الحضانة فأخذه أبوه ثم إن هذه المرأة طلقت؛ فيرجع حقها في الحضانة فلها الحق في أن تأخذ هذا الطفل من أبيه مرة أخرى؛ لأن المانع وهو تزوجها برجل ليس من أهل الحضانة قد زال هذا المانع ولذلك فإن حقها في الحضانة يعود.
قال: (وإذا بلغ الغلام سبع سنين؛ خُيِّر بين أبويه فكان عند من اختار منهم)
قلنا: إذا كان دون سبع سنين؛ فالأحق به الأم ما لم تتزوج. إذا بلغ سبع سنين إن كان ذكرا يقول المؤلف: (إنه يخير بين أبويه)، وإذا كانت أنثى فإن أباها أحقُّ، ولهذا قال وإذا بلغت الجارية سبعا؛ فأبوها أحق بها. هذا هو القول الذي مشى عليه المؤلف -رحمه الله-.(1/8)
قالوا: فإذا لم يختر الغلام أو أنه اختارهما جميعا؛ أُقرع بينهما إذا كان ذكرا، أما إذا كانت جارية؛ فيكون الأحق هو الأب. وذهب بعض أهل العلم إلى أن التخيير والقرعة لا يكونان إلا إذا حصلت به مصلحة الولد، وكون كلٍّ من الوالد نظيرَ الآخر، أما لو كانت الأمُّ أصلحَ وأصونَ من الأب؛ فإنها تقدم عليه ولا يلتفت إلى قرعة ولا إلى اختيار؛ لأن الصبيَّ ضعيفُ العقل يؤثر البطالة واللعب. فإذا اختار من يساعده على ذلك؛ فلا التفات لاختياره، وكان عند من هو أنفع له وأصلح، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام -رحمه الله-.
يحدد هنا يا شيخ
فيحدد القاضي من هو أصلح فننظر إذا بلغ هذا الطفل سبع سنين من هو أصلح؟ هل الأصلح وجوده عند الأب أم الأصلح وجوده عند الأم؟
فإذا كان الأصلح وجوده عند الأب؛ فإنه يكون عنده. إذا كان الأصلح وجوده عند الأم؛ فإنه يكون عندها، ولا يخير الطفل.
طفل عمره سبع سنوات ضعيف العقل ولا يُحسن الاختيار؛ فكيف يُخير؟! وربما كان كما قال شيخ الإسلام، ربما أن هذا الطفل يختار من يساعده على البطالة واللعب، ربما يكون الأب هو الأصلح ويكون الأب حازما في تربيته، ويؤثر الطفلُ الأمَّ؛ لكونها تدلل طفلها وتساعده على البطالة، وحينئذ لا يُمَكّن هذا الطفل بهذا الغرض، وإنما يكون عند أبيه، وهكذا لو كان العكس لو كان الأب هو الذي يدلل طفله وهو الذي يساعده على البطالة وليس حازما في تربيته والأم بالعكس على العكس من الأب؛ فيكون عند الأم؛ لأنها الأصلح وهذا هو الذي يتفق مع أصول وقواعد الشريعة؛ لأن طفلا عمره سبع سنوات ربما يختار من يساعده على اللعب وعلى الراحة ولا يأمره ولا ينهاه ويتركه.(1/9)
والتربية تحتاج إلى شيء من الحزم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مُروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فالطفل يحتاج إلى أمر وربما يحتاج إلى شيء من الحزم وهو الضرب إذا بلغ عشر سنين ولم يصلِّ مع أنه مرفوع عنه القلم، مع أن الطفل قَبْل سن البلوغ مرفوع عنه القلم لكنَّ هذا إرشادٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- لتربية الطفل.
ولهذا نقول إن القول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم- هو إن الغلام إذا بلغ سبع سنين؛ فإنه يكون عند من هو أصلح من الأبويْن من الأب أو من الأم. فإذا تساويا وكان الأب رجلا صالحا والأم امرأة صالحة ولا مُرَجِّحَ؛ فهنا يمكن أن نقول في هذه الحال: إما بالتخيير أو بالقرعة. فإذا اختار الطفل أحدهما؛ فإنه يكون عند من اختاره، وهذا له أصل وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (خَيَّر غلاما بين أبيه وأمه)، رواه الترمذي وغيره، وإسناده جيد. لكن هذا يكون عند تساوي الأبِ والأمّ في الصلاح؛ فتكون مصلحة الطفل أو هذا الغلام عند الأب مساويةً أو مقاربة لمصلحته عند الأم؛ فهنا يُخَيَّر فإن لم يختر أو اختارهم جميعا؛ أُقْرِع بينهما. هذا بالنسبة إلى الغلام.
كذلك أيضا إذا بلغت الجارية سبعا يقول المؤلف: إن أباها يكون أحقَّ بها، وقال: لأن الأب أحفظ من الأم وأقدر على حفظ هذه الفتاة وعلى رعايتها وعلى صونها. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأم أحق بالبنت من الأب. هذا طبعا على تقدير تساويْهما في الصلاح أيضا، أما إذا كان أحدهما أصلح من الآخر؛ فالأقرب -والله أعلم- أن البنت –أيضا- تكون عند الأصلح من الأب أو الأم كما ذكرنا بالنسبة للغلام تكون عند الأصلح منهما.
لكن إذا تساويا في الصلاح وفي المصلحة؛ فهل البنت تُخَيَّر أم تكون عند الأب أم تكون عند الأم؟!(1/10)
رأي المؤلف يقول: (إنها تكون عند الأب)، ومن أهل العلم من قال: إن الأم أحقُّ بالبنت من الأب وهذا هو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية، وقد اختار هذا القول ابن القيم -رحمه الله- في "زاد المعاد"، وقال: هو الصحيح دليلا؛ لأن الأمَّ أقرب للبنت من الأب والعادة أن الأب يتصرف في المعاش والخروج ولقاء الناس، والأم الأصل أنها تَقَرُّ في بيتها وفي خِدْرِها؛ فالبنت عندها أصون وأحفظ من الأب، ثم إن البنت محتاجة إلى تعلم ما يَصلُح للنساء من الغزل والقيام بمصالح البيت ونحو ذلك. فإذا كانت عند الأب؛ فكيف تتعلم الطبخ؟! كيف تتعلم ما يصلح للنساء؟! وهذا تقوم به النساء لا الرجال فهي أحوج إلى أمها؛ لتعليمها ما يصلح للمرأة، وفي دفعها لأبيها تَعْطيلٌ لهذه المصلحة، وما يعرض من المفاسد عند وجودها عند الأمّ كذلك أيضا هو يعرض لها أو أكثر منه عند الأب. فإن الأب إن تركها وحدها؛ لم يأمن عليها، وإن ترك عندها امرأته أو غيرها؛ فالأم أشفق قلبا وأصون لها من الأجنبية".
هذه عبارة الإمام ابن القيم -رحمه الله-، وهذا القول هو الأقربُ في هذه المسألة والله تعالى أعلم.
نريد الآن أن نلخص الكلام في مسألة الحضانة. نقول:
- إذا كان الطفل دون سبع سنين؛ فالأحق به الأم ما لم تتزوج.
- إذا بلغ سبع سنين؛ فيكون الأحقُّ بحضانته الأصلحَ من الأب أو الأم.
- إذا تساويا في الصلاح؛ إن كان ذكرا؛ خُيِّر بين أبويه.
- إن اختارهما جميعا أو لم يختر؛ أُقْرِع بينهما.
- إن كانت بنتا؛ فالأقرب -والله أعلم- أن الأمَّ أحقُّ من الأب في هذا؛ لِمَا نقلناه عن ابن القيم من التعليلات في هذا. هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم-.
سن سبع سنوات فيها اجتهاد..؟(1/11)
سن سبع سنوات هو سن التمييز. اختلف العلماء في سن التمييز والأقرب -والله أعلم- هو تحديده بسبع. من أهل العلم من قال: إن المميز هو من يفهم الخطاب ويرد الجواب لكن هذا في الحقيقة لا ينضبط. فالآن بعض الأطفال عمره سنتان أو ثلاث سنوات يفهم الخطاب ويرد الجواب فهذا ما ينضبط الحقيقة. ولذلك الأقرب تحديد ما حدده الشارع والرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع)؛ لأن الطفل إذا بلغ سبع سنين؛ يصبح يميز ويعقل النية، وإذا عقل النية يعني ميز غيرها؛ فيكون قد بلغ سن التمييز.
لعل هذا هو وجه اختيار سبع سنين في هذا؛ لأنه هو سن التمييز. لكن ما المقصود بسبع سنين؟
المقصود إذا أتم سبع سنين ودخل الثامنة، وليس -كما يفهم الناس- إذا أتم ست سنين ودخل السابعة يقولون: هذا ابن سبع هذا ليس صحيحا فهذا ابن ست. أتم سبع سنين ودخل الثامنة هذا هو ابن سبع سنين. ولهذا الطفل قبل أن يتم السنة الأولى ما تقول هو ابن سنة تقول: أشهر. كذلك أيضا إذا أتم ست سنوات وأشهرا؛ ما يقال إن عمره سبع سنين. فإذا بلغ سبع سنين ودخل الثامنة؛ هنا نقول: إن عمره سبع سنين.
هكذا أيضا بالنسبة لسن العاشرة بالنسبة لسن الخامسة عشرة يعني متى يضرب الطفل مثلاً؟ يضرب إذا أتم عشر سنين ودخل الحادية عشرة. متى يكون البلوغ بالنسبة للسن؟ إذا أتم خمسة عشرة سنة ودخل السادسة عشرة وهكذا.. .
قال المؤلف -رحمه الله-: (وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحقَّ به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة).
الإرضاع يجب على الأب أن يسترضع لولده. وظاهر كلام المؤلف أن الأم لا يجب عليها إرضاع طفلها ولو كانت في عصمة الزوج، لاحظ. لأن المؤلف قال: (سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة)(1/12)
وبناءً على رأي المؤلف لو أن امرأة قالت لزوجها: أريد أن تعطيني أجرة إرضاع طفلي؛ فعلى رأي المؤلف يلزم الزوج أن يعطي هذه المرأة أجرة الرضاع. ولكن هذا القول محل نظر.
هذا القول الذي مشى عليه المؤلف هو المشهورُ من مذهب الحنابلة، ولكنه محلُّ نظر، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الزوجة يجب عليها إرضاع ولدِها بلا أجرة ما دام في الحوليْن إلا أن تتفق هي وزوجها على فطامه قبل الحولين، وذلك لقول الله تعالى: ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ? [البقرة: 233]، فقوله: ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ? هذا خبر بمعنى الأمر. وقوله ? لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ?: يعني أن غاية الإرضاع تكون هي حوليْن، لكن لو أراد أن ينقص من الحولين؛ فلا مانع من هذا.
فقوله: ? يُرْضِعْنَ ?: هذا دليل على أن المرأة يجب أن ترضع طفلها، وقال -عزّ وجلّ-: ? وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? فذكر -تعالى- الرزق؛ أي النفقة والكسوة فقط، ولم يذكر أجرة الرضاع؛ فهذا دليل على أن الأم يجب عليها أن ترضع طفلها ما دامت في عصمة الزوج.
لكن إذا كانت مطلَّقة وبائنةً من الزوج؛ أي خرجت من العدة؛ فهنا لها الحقُّ في أن تطلب أجرة الرضاعة، وكما قال -عزّ وجلّ-: ? فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ? [الطلاق: 6]. ذكر هذا -سبحانه- في حق المطلقات لكن إذا كان امرأة في عصمته وفي حباله؛ فيجب عليه أن ترضع طفلها بلا أجرة؛ لعموم الآية، وأيضا لأن هذا هو العُرْفُ عند عامة النساء، وصار هذا العرف كالشرط. هذا هو القول الراجح في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها جمعٌ من المحققين من أهل العلم، واختار الشيخ عبد الرحمن السَّعدي وجماعة، وهذا هو الصواب.(1/13)
إذن نفرق الآن بين الأم التي هي في حبال الزوج وفي عصمته هذه يجب عليها أن ترضع طفلها بلا أجرة هذا بناءً على القول الراجح، وإلا بناء على رأي المؤلف؛ فلها الحق أن تطلب الأجرة، لكن بناء على القول الراجح يجب عليها أن ترضع طفلها بلا أجرة، وبين المرأة المطلقة طلاقا بائنا؛ فلها الحقُّ في أن تطلب أجرةَ الرضاع من الزوج لقول الله –تعالى-: ? فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?.
فإذا تزوجت يا شيخ أيضا لها أحقية؟
لها أحقية وإن تزوجت برجل آخر؛ فلها الحق أيضا.
(فإن لم يكن له أب ولا مال؛ فعلى ورثته أجر رضاعه على قدر ميراثهم منه)
يعني هذا الطفل يتيم وليس له أب، واستُرْضِعَ له امرأةٌ؛ فعلى من تكون أجرة الرضاع؟!
هذه مسألة يحتاج لها الناس خاصة في الزمن السابق كثيرًا لما كان الناس يعتمدون في تغذية الطفل على الرضاع ولم يوجد الحليب الصناعي والألبان الصناعية الموجودة الآن فكان الناس يحتاجون لمثل هذه المسائل. يكون هذا الطفل ليس له أب ويُسترضع له امرأة، وهذه المرأة تحتاج إلى أُجرة؛ فعلى من تكون الأجرة؟!
تكون أجرة الرضاع على الوارث؛ لقول الله –تعالى-: ? وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ?، [البقرة: 233]، ?وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ?، فأوجب الله –تعالى- على الوارث مثل ذلك، فيكون إذن على الورثة أجرة الرضاعة على قدر ميراثهم؛ أي أن هذه الأجرة تُرتَّب على مقدار الإرث، وبناءً على ذلك إذا كان للصبي أمٌّ وجَدٌّ؛ فكيف تكون أجرة الرضاع؟! كيف نقسمها بينهما؟! هذا طفل يتيم وله أم وله جد فقلنا الأجرة تكون على الورثة. ورثته من؟
ورثته الأم والجد.
الأم تأخذ الثلث
لا تأخذ، تعطي هنا.
تعطي الثلث
عليها أجرة الثلث.
والجد الباقي(1/14)
والجدّ الباقي على حَسَبَ الميراث؛ لأن هذا الطفل لو ورثته الأم؛ لكان لها الثلثُ من الميراث والجد له الباقي. فكذلك أيضا بالنسبة لأجرة الرّضاع يكون عليها ثلث الأجرة وعلى الجد الباقي. وسيأتينا في الباب التالي أن الوارث يجب عليه أن يُنفق على من يرث منه إذا احتاج إليه. وسنبين هذا -إن شاء الله تعالى- بشيءٍ من التفصيل في الباب التالي.
بهذا نكون قد انتهينا من باب الحضانة نتيح فرصة للأسئلة والاستفسارات سواء من الإخوة الموجودين معنا أو الإخوة المشاهدين أو عن طريق الإنترنت.
يقول: ذكرت في الشرح أن الأب إذا كان فاسقا؛ فلا تكون إليه الولاية طيب يا شيخ الذي يحلق لحيته أو يسبل أو يدخن؛ فهل يدخل في هذا الحكم أم يكون مما عَمَّتْ به البلوى؟!
نريد أن نضبط الفسق. ما هو ضابط الفسق؟
الفاسق هو: مرتكب الكبيرة مرتكب الصغيرة لا يقال له فاسق؛ فإذن الفاسق هو: مرتكب الكبيرة.
بناءً على ذلك: من يشرب الخمر. شرب الخمر أليس كبيرة؟!
بلى، كبيرة.
إذن هو فاسق؛ فلا حقَّ له في الحضانة.
لكن من يحلق لحيته هل حلق اللحية من الكبائر أم من الصغائر؟
صغائر
من الصغائر ليس من الكبائر؛ لأن الكبيرة الضابط فيها هي: كل معصية ورد فيها لعنة أو غضب أو حدٌّ أو سخط أو نفي إيمان. كل معصية فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة يعني جميع المعاصي التي فيها حدود مثل الزنا كبيرة؛ لأن فيها حدًّا. القذف كبيرة؛ لأن فيه حدا، السرقة كبيرة؛ لأن فيها حدا. فكل معصية فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة من لعنٍ، أيُّ معصية تجد فيها: لعن الله!، أو لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا؛ فهذه كبيرة من لعنة أو سخط أو غضب أو نار من فعل كذا؛ دخل النار مثلاً النميمة كبيرة؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لا يدخل الجنة نَمَّام) أو نفي إيمان: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه).
إذن هذه كبائر ما كانت مختومة بلعنة أو سخط أو غضب أو نهر أو نفي إيمان؛ فهي كبيرة.(1/15)
بناء على ذلك الجواب على سؤال الأخ: حلق اللحية معصية لكنها صغيرة. لكن الصغائر تجتمع على الإنسان الصغائر. مثلاً الذي يحلق لحيته يحلقها في السنة كم مرة؟! أكثر من خمسين مرة يعصي الله –تعالى- في السنة أكثر من خمسين مرة فهذا يكون على خطر يعني ليس معنى قولنا أنها صغيرة أن يستهين الإنسان بها، وعلى المسلم أن يترك المعاصي كلها صغيرها وكبيرها لكن المعصية التي يفسد بها ويصبح فاسقا ويسقط حقه في الحضانة هي الكبيرة.
يقول: كيف الترتيب إذا كان أكثر من خالة؟
هنا إذا كانت الخالة الشقيقة من الأم والأب مُقَدَّمة على الخالة من الأبِ أو الخالة من الأم.
لكن لعلك تسأل إذا كل الخالات شقائق؛ فعند من تكون الحضانة أو من الأحق بالحضانة؟!
إذا تساوين؛ يَكُنَّ متساويات في الحضانة. والمروءة تقتضي أن نُقدِّم الكبرى عند التنازع. لكن ليس ذلك على سبيل الأحقِّية، ولذلك عند تنازعهن يُقْرَعُ بينهن؛ لأن القاعدة أنه "عند التساوي في الحقوق وعدم وجود مرجِّح يُلجأ ويسار إلى القرعة"، والقرعة ذكرت في القرآن مرتين والنبي -صلى الله عليه وسلم- أيضا استعمل قرعة، (كان إذا أراد السفر؛ أقرع بين نسائه)، القاعدة في القرعة أنها تُستعمل عند التساوي في الحقوق والمشاحة فيها مع عدم وجود الْمُرجِّح كما في هذه المسألة.
أسئلة الدرس القادم:
السؤال الأول:
ما حكم التداوي بدواءٍ فيه نسبة يسيرة من الكحول؟ مع التوجيه.
السؤال الثاني:
ما حكم أكل لحم الخيل والضبع؟(1/16)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الرابع عشر
الدرس الرابع عشر - باب الوليمة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب الوليمة
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كنا في الدرس السابق قد شرحنا أبرز المسائل المتعلقة بباب الحضانة، ولعلنا نستذكر ما كنا قد شرحناه في الدرس السابق قبل أن ننتقل إلى باب جديد. لعلنا أولا نراجع أبرز المسائل أولا:
ما معنى الحضانة لغة واصطلاحا؟
يقول: لغة: مشتقة من الحضن؛ لأن المربي يضم صغيره إلى حضنه.
واصطلاحا: هي حفظ الصغير وحفظ مصالحه وتربيته والقيام بحفظ مصالحه.
طبعا مسائل الحضانة -كما ذكرنا في الدرس السابق- إنما يُحتاج لها عند افتراق الزوجين ووجود المشاحة بينهما في الحضانة، وإلا؛ فعند اتفاقهما وعند تراضيهما لا نحتاج إلى مثل هذه المسائل.
طيب من أحق الناس بحضانة الطفل دون سبع سنين؟
الأم
والدليل؟
قول النبي -عليه الصلاة والسلام- (أنتِ أحقُّ به ما لم تنكحي)
من يلي الأم؟
أمه
أمهاتها وإن علون.
يليهن؟
من يلي أم الأم وأمهاتها؟
الأب
يعني الجدة التي هي أم الأم مقدمة على الأب في الحضانة.
ثم أم الأب
ثم أم الأب. الجدة من قبل الأب.
ثم؟
الأخت.. .
الأخت الشقيقة
ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم ثم على حَسَبِ ترتيب الميراث.
إذا وجد لهذا الطفل خالة وعمة وتنازعتا في الحضانة؛ فأيهما يُقدم؟
من أولى بالحضانة الخالة أم العمة؟
الخالة والعمة ورد الخلاف بين أهل العلم:
فالجمهور على أن الخالة مقدمة؛ لحديث: (الخالة بمنزلة الأم).
وهناك أيضا آخر يقدم العمة باعتبار أنها من طرف العصوبة، والراجح -والله أعلم- بناءً على الحديث الشريف تقديم الخالة على العمة.
نعم الأقرب لدلالة الحديث أن الخالة مقدمة على العمة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (الخالة بمنزلة الأم).(1/1)
إذا بلغ الطفل سبع سنين وكان ذكرا فنحن قلنا قبل سبع سنين الأم أحقُّ ثم بعد ذلك من ذكرنا. لكن إذا بلغ سبع سنين فأكثر؛ فمن الأحقُّ بحضانته؟
الأحق الأب إذا كان الأب غير صالح
الطفل ذكر ليس أنثى؟
يُخير بين الأصلح بينهم
ذكرنا قولا آخر أمس نقلنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية؟
الأصل أن الحضانة للأصلح من الوالدين لكن عند التساوي يصار إلى التخيير بناءً على الحديث الشريف
أي نعم، أحسنت.
إذا بلغ سبع سنين فالأصول والقواعد الشرعية تدل على أنّ الأحقّ بالحضانة هو الأصلح للطفل، ومن يصون هذا الطفل ويقوم برعاية مصالحه ويحفظه هذا هو الأولى بالحضانة.
ونقلنا كلاما عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: "إن القواعد وأصول الشريعة تدل لهذا القول". لكن عند تساويهما عند تساوي الأب والأم أو تقاربهما فمثلاً الأب والأم كلاهما من أُسَرٍ صالحة وليس هناك مجال الترجيح. الأب والأم حالتهما من جهة الصلاح متقاربة فذكرنا أن الطفل يخير بين أبيه وأمه، وذكرنا في هذا حديثا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (خير غلاما بين أبويه)، وإن لم يختر أو اختارهما جميعا؛ أُقْرع بينهما.
إذا كان المحضون أنثى وبلغت سبعا؟
فالمذهب عند الحنابلة على أن الأحق بها من؟
الأحق بها الأب
الأب.
ذكرنا قولا آخر.
ولكن رأي الإمام مالك -رحمه الله- أنها للأم
أنها للأم وقلنا: رجحه ابن القيم.
ابن القيم -رحمه الله-
ابن القيم ذكر هذا القول وقال: إن الأحق بها الأم.
هذا بعد النظر لما قلناه من أن النظر للأصلح منهما لكن عند التقارب في الصلاح عندما يكونان متساوييْن أو متقاربين فأيهما يقدم الأب أم الأم؟
المذهب عند الحنابلة أنه الأب مطلقا، والقول الراجح أنها الأم وذكرنا في الدرس السابق وجهة هذا القول ورجحناه.(1/2)
ذكرنا أيضا من المسائل أنه يجب على الأب أن يسترضع لولده، وذكرنا أيضا أن المذهب عند الحنابلة حتى لو أرادت الزوجة أن تطلب أجرة على إرضاع ولدها أن لها ذلك. لكن قلنا إن القول الراجح إنه ليس لها ذلك، وأن الأم يجب عليها أن ترضع ولدها في الحوليْن، ولا أجرة لها؛ لأن الله –تعالى- قال: ? وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ?، وقال: ? وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? [البقرة: 233]، ولم يذكر إلا الرزق والكسوة ولم يذكر أجرة الرضاع، وإنما في المطلقة قال: ? فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ? [الطلاق: 6]، إنما تستحق الأجرة إذا كانت مطلقة أو أجنبية، أما أن تكون زوجة في حبال الزوج؛ فإنها لا تستحق أجرة على إرضاع ولدها.
ننتقل بعد ذلك إلى باب نفقة الأقارب والمماليك نعم نقرأ عبارة المؤلف.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
باب نفقة الأقارب والمماليك
وعلى الإنسان نفقة والديْه وإن علوا وأولاده وإن سفلوا، ومن يرثه بفرض أو تعصيب إذا كانوا فقراء، وله ما ينفق عليهم، وإن كان للفقير وارثان فأكثر؛ فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه إلا من له أب فإن نفقته على أبيه خاصة، وعلى مُلاك المملوكين الإنفاق عليهم وما يحتاجون إليه من مؤونة وكسوة، فإن لم يفعلوا؛ أُجبروا على بيعهم إذا طلبوا ذلك)
نعم، يجب على الإنسان أن ينفق على والديْه إذا احتاجا للنفقة وكان هو قادرا على الإنفاق؛ فيجب عليه أن ينفق عليهما وهذا بإجماع أهل العلم ولو كان عنده والدان كبيران مثلاً فقيران وهو الإنسان القادر الغني؛ فيجب عليه ينفق عليهما؛ لقول الله –تعالى-: ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ? [الإسراء: 23].
ولا شك أنه من أعظم البر والإحسان النفقة عليهما، ولذلك فإن الزكاة لا يجوز دفعها للوالديْن. لماذا؟(1/3)
لأن الوالدين إذا كانا فقيرين يجب على الولد الإنفاق عليهما من غير الزكاة؛ فلا يجوز أن يدفع الزكاة لأجل دفع النفقة عن نفسه.
وهكذا أيضا بالنسبة لدفع الوالديْن الزكاة للأولاد لا يجوز أيضا؛ لأن الوالديْن يجب عليهما النفقة على أولادهما، ولذلك لا يجوز دفع الزكاة لهما.
إذن يجب على الإنسان أن ينفق على والديه وإن علوا يعني الجد إذا كان الجد فقيرا يجب الإنفاق عليه، وهكذا الجدة إذا كانت فقيرة يجب الإنفاق عليها على سبيل الوجوب وليس على سبيل الاستحباب.
(وأولاده وإن سفلوا) يعني يجب على الإنسان أن ينفق على أولاده وعلى أولاد أولاده ولذلك لو قَصَّرَ الوالد في النفقة على أولاده؛ فلهم أن يطالبوه بالنفقة بل لهم أن يأخذوا من النفقة ما يكفيهم بغير علمه، ويدل لذلك قصة امرأة أبي سفيان لما أتت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي: فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف).
أيضا قال: (ومن يرثه بفرض أو تعصيب) يعني تجب نفقة من يرثه بفرض أو تعصيب إذا كانوا فقراء وله مال ينفق عليهم، والدليل لذلك قول الله –تعالى-: ?وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ? [البقرة: 233]، فأوجب الله –تعالى- على الوارث أجرة رَضَاع الصبيِّ فتلزمه نفقته كذلك، وأيضا جاء في الحديث الذي حَسَّنَه بعض أهل العلم: (أن رجلا سأل النبي –صلى الله عليه وسلم- من أبرُّ؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك).(1/4)
فيجب إذن أن يُنفق على من يرثه، وبناءً على ذلك لو أن رجلا له إخوة أيتام قد مات أبوهم ويرثهم لو ماتوا يجب عليه أن ينفق عليهم على سبيل الوجوب وليس له أن يعطيهم من زكاته؛ لأن النفقة واجبة عليه أصلا فليس له أن يعطيهم من زكاته، والقاعدة في هذا إذن هي حصول التوارث إذا بينه وبينهم توارث؛ فيجب عليه أن ينفق عليهم ولا يعطيهم الزكاة؛ لأنه لو أعطاهم الزكاة؛ دفع بذلك النفقة على نفسه، وهذه هي القاعدة في هذا.
وبعض أهل العلم ذهب إلى أن النفقة إنما تجب على العصبة فقط وليس على جميع الوارثين. فقد رجح هذا ابن القيم -رحمه الله- وقال: "إن العاصبَ هو الوارثُ المطلق"، قال: "لمقتضى قواعد الشرع"، هو هذا فإن العصبة تنفرد بحمل العقل عن الدية وولاية النكاح والميراث بالولاء. وبناءً على هذا القول إذا اجتمع ابن وبنت؛ فتجب النفقة على الابن دون البنت، أو ابن وأم تجب النفقة على الابن دون الأم، أو ابن وجدة مثلاً تجب النفقة على الابن دون الجدة وهكذا.
هذا القول نصره الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهو قول قويٌّ لكنَّ عموم الآية يدل على أنَّ النفقة تجب على الوارث. وذكر ابن القيم -رحمه الله- قولا آخر أن النفقة تستحق بشيئيْن: بالميراث وبالرحم، بالميراث في كتاب الله –تعالى- بقوله –سبحانه-: ? وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ?، وبالرحم؛ للحديث الذي ذكرناه: (يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول؛ أمك وأباك، وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك)، وبناءً على ذلك لو كان للإنسان مثلاً عَمَّة فقيرة وهو لا يرثها وهو غني؛ فهل يجب عليه أن يُنْفق عليها أم أن ذلك مستحبٌّ؟(1/5)
إذا قلنا بأن النفقة إنما تجب على الوارث فقط؛ فإنه لا يجب، وإذا قلنا بالقول الذي ذكره ابن القيم، وهو قول أوسع وأشمل؛ تجب، والقول الذي ذكره ابن القيم هو الأقرب والله أعلم؛ إذ أن كون قريبه يبقى فقيرًا وهو إنسان غنيٌّ ولا يعطيه من النفقة فهذه تعتبر قطيعة رحم. ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله- قال إن قول الله تعالى: ? وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ? [الإسراء: 26]، قال: "إن الله –سبحانه- أخبر بأن لذي القربى حقّاً على قرابته، وأمر بإتيانه إياه فإن لم يكن ذلك حق النفقة؛ فلا ندري أيّ حق هو؟!"
وقال عن قول الله –تعالى-: ? وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى ? [النساء: 36]، قال: "ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعا وعُريا وهو قادر على سَدِّ خلته وستر عورته ولا يطعمه لقمة. فحينئذ إذا كان للإنسان قريب وهذا القريب فقير وهو غني؛ يجب عليه أن ينفق عليه و يتأكد ذلك إذا كان وارثا له.
قال: (وإن كان للفقير وارثان فأكثر فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه إلا الابن فإن نفقته على أبيه خاصة)
يعني هذا عند المشاحة فيمن ينفق عليه يعني هذا الإنسان فقير وله أقارب فالنفقة تكون على قدر الميراث، النفقة تكون على قدر الميراث، واشترط العلماء لوجوب النفقة على القريب ثلاثةَ شروط:
الشرط الأول: فقر من تجب نفقته أمَّا إن كان غنيا؛ فإنه لا تجب النفقة عليه.
الشرط الثاني: أن يكون للمُنفِق مالٌ فاضل عن نفسه وزوجته.
الشرط الثالث: أن يكون المنفق عليه وارثا، وعلى القول الآخر أو رحما.
هذه هي شروط وجوب النفقة على القريب.
قال: (وعلى مُلاك المملوكين الإنفاق عليه وما يحتاجون إليه من مؤونة وكسوة)
المملوكين يعني العبيد الأرقاء من عبيد وإماء يجب على أسيادهم أن يُنفقوا عليهم وأن يُكسوهم، فإن لم يفعلوا؛ أجبروا على بيعهم إذا طلبوا ذلك. يعني يقال: إما أن تنفق عليه وإما أن تبيعه.(1/6)
والرق في الوقت الحاضر يكاد يكون انقطع لكن نقول لمن يلي خَدَمًا إنه إذا شُرِطَ عليه في العقد أو كان ذلك معروفا عرفا فإن "المعروف عرفا كالشروط شرطاً" أن يُنْفق عليهم وأن يكسوهم فيجب عليه ذلك؛ لأنه يلاحظ أن بعض الناس يقصرون في القيام بشؤون خدمهم ولا يعطونهم ما يكفيهم من الطعام ومن الكسوة، فإذا كان ذلك مشروطا عليهم في العقد؛ فيجب عليهم أن يعطوهم، أو كان ذلك معروفا عُرفا؛ فإن "المعروف عرفا كالمشروط شرطاً"، ويجب عليهم أن يُحسنوا التعاملَ معهم. وقد جاء في سنن أبي داود أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ قال: اعفُ عنه في اليوم سبعين مرة).
فينبغي للإنسان أن يكون متسامحا، وأن يكون كريمَ الخُلق، وأيضا يُطعمه مما يَطْعَمُ ويكسوه كذلك، وأن يُحسن معاملته فإن ذلك أدعى لأن يكون ذلك الخادم مُباركا، وقد جاء في سنن أبي داود -وإن كان في سنده مقال- أن الإحسان إليهم أنه يُمْن (الإحسان للمماليك يمن والإساءة إليهم شؤم).
كذلك أيضا الحيوان يجب القيام بإطعامه وسَقْيِه، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها؛ لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، يقال لمن يلي حيوانات يجب عليه أن يُحسن إليها، وأن يطعمها وأن يسقيها، أو يتركها تأكل من خشاش الأرض لكن يحبسها ولا يطعمها؛ فإن هذا لا يجوز.
بهذا نكون قد انتهينا من مسائل وأحكام هذا الباب = "نفقة الأقارب والمماليك" إذا كان هناك أسئلة أو ننتقل إلى باب الوليمة.
إذا كان أحد الوالدين فقيرا وكان عليه دين؛ فهل يجوز أن يعطيه من الزكاة؟
أما بالنسبة لسداد الدين؛ فسداد الدين يختلف عن النفقة. وسداد الدين في أظهر أقوال أهل العلم أنه يجوز أنه يعطى من الزكاة ما يُسدد دينه، يجوز للأب أن يُعطيَ الولدَ ما يُسدّد دينه، وكذلك العكس، فهذا أظهر أقوال أهل العلم.(1/7)
أما النفقة؛ فلا. فكونه يعطيهم من الزكاة لأنه فقير ليس له ذلك. لا يعطى عامود النسب من الزكاة، لكن رخص بعض المحققين أهل العلم في سداد الدين إذا كان مثلاً على ابنه ديون وعاجز عن سدادها وهذا الأب عنده زكاة؛ فالقول الصحيح أنه يجوز أن يسدد الأب من زكاته دينَ ابنه والعكس كذلك.
ننتقل بعد ذلك إلى باب الوليمة وعرفها المؤلف -رحمه الله- وقال: (دعوة العرس) يعني خاصة بدعوة العرس يعني الزواج، وحكى ثعلب وغيره من أهل اللغة اختصاصها عند الإطلاق بوليمة العرس، إذا قيل وليمة؛ فإنها تختص بوليمة العرس، ولكن هذا ليس محل اتفاقٍ بين أهل اللغة. وحُكِيَ الخلافُ في هذا، وقيل إنها لا تختص بوليمة العرس، وإنها تشمل وليمة العرس وغيره.
قال: (وهي مستحبة).
يعني يستحب لمن تزوج أن يُولِمَ والدليل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج قال: (أَوْلِمْ ولو بشاة).
قوله: (أولم ولو بشاة) دليل على أن الإيلام بأكثر من شاة أنه أفضل. لو أولم بأكثر من شاة؛ فإن ذلك أفضل؛ لأن العرس مناسبة سعيدة للإنسان، وينبغي أن يُعْلَنَ وأن يُشْهَرَ، تشهر هذه المناسبة ويشاركه إخوانه في هذه المناسبة السعيدة ويَفْرَحُون بفرحه، وإذا أولم؛ كان ذلك أدعى لأن يدعو عددا كثيرًا من إخوانه وأقاربه وجيرانه. ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: (أَوْلِمْ ولو بشاه) فإذا أولم بشاتين؛ كان أفضل من أن يُولِمَ بشاة واحدة، إذا أولم بثلاث؛ كان أفضل بشرط أن لا يصل ذلك إلى حدِّ التبذير وإنما إذا أولم بشاتين يعني كان المدعوُّون أكثر وهكذا. لكن هل تجب وليمة العرس للقادر أم لا تجب؟(1/8)
المؤلف قال: إنها مستحبة، ومن أهل العلم مَنْ أوجبها، والصحيح هو كما قال المؤلف إنها مستحبة وليست واجبة، ويدل لذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَوْلَمَ على صفية بنت حيي حَيْسً)، ولم يولم ذبيحة. صحيح أنه أولم على بعض نسائه لكن ورد أنه أولم -كما على صفية- بالحيس فقط. فدل ذلك على أنه لا تجب على الوليمة بالشاة أو بالشياة، وإن ذلك مستحب لكنه متأكد الاستحباب.
ما الحيس؟
الحيس طعام من تَمْرٍ ومن أَقِط، وكان طعاما مُفَضَّلا عند العرب.
إجابة وليمة العرس قال المؤلف: (والإجابة إليها واجبة) يعني بجب على الإنسان إذا دُعِيَ لوليمة العرس أن يجيب الدعوة، واستدل المؤلف لذلك بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ومَنْ لم يُجِبِ الدَّعوةَ؛ فقد عصى الله ورسوله)، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (شَرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة يُدْعى إليه الأغنياءُ ويُترك الفقراءُ، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله).
وإلى هذا ذهب الجمهور ذهبوا إلى أن إجابة وليمة العرس واجبة دون غيرها فإذا دعاك الإنسان إلى وليمة غير وليمة العرس؛ يُستحب أن تجيب دعوته ولا يجب، أما وليمةُ العرس خاصةً؛ فيجب عليك أن تجيب دعوته، واستدل الجمهور لذلك بدليلين:
الأول: حديث أبي هريرة هذا، وقالوا إن قوله: (ومن لم يجب الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله) صريح في الوجوب.
ثانيا: قالوا: الإجماع. قالوا: أجمع العلماء على وجوب إجابة دعوة وليمة العرس، وممن حكى الإجماع على ذلك ابنُ عبد البر والقاضي عياض والنوويُّ وغيرهم.
ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أن وليمة العرس كغيرها تستحب إجابة دعوتها ولا تجب، وقالوا إنها من حقوق المسلم على المسلم أنه إذا دُعِيَ أنه يجيب الدعوة لكنَّ ذلك لا يجب.(1/9)
وأما حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ومن لم يجب الدعوة؛ فقد عصى الله ورسوله) فما أصرحه من حديث لو كان مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-!! ولكن هذا الحديث الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة من قوله وليس من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أطال الحافظ الدارقطني -رحمه الله- الكلام في كتاب "العلل" عن هذا الحديث، وذكر رواياته وخَلُصَ إلى أنه حديث موقوف على أبي هريرة، وكذلك أيضا الحفاظ والمحققون قالوا: إن هذا الحديث موقوف على أبي هريرة، وليس من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ لا يستقيم هذا الاستدلالُ؛ لأنه إذا كان من كلام أبي هريرة فيكون اجتهادا منه -رضي الله عنه-.(1/10)
وأما ما ذكروه من الإجماع؛ فلا تستقيم حكاية الإجماع، وقد ذكر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في "الفتح" أن هذه المسألة فيها خلافٌ عن بعض الشافعية والحنابلة، وأنهم قالوا: إن إجابة دعوة وليمة العرس مستحبة وليست واجبة، وحينئذ تَنْتَقضُ حكاية الإجماع، بل إن اللخميَّ من المالكية ذكر أن القول بالاستحباب أنه هو المذهب عند المالكية، وحينئذ؛ فلا يصح القول بأن هذه المسألة محل إجماع، ولهذا فإن الأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني أن إجابة دعوة وليمة العرس مُستحبة وليست واجبة، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كما ذكر ذلك عنه المرداوي في "الإنصاف"، وحينئذ تكون إجابة دعوة وليمة العرس كغيرها حقًّا من الحقوق التي ينبغي ويتأكَّد على المسلم أن يأتيَ بها؛ كتشميت العاطس وكسائر الحقوق؛ عيادة المريض، واتباع الجنازة الواردة في حديث البراء -رضي الله عنه- في الصحيحين قال: (أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبع ونهانا عن سبع)، وذكر مما أُمروا به إجابةَ الداعي وذكر معها حقوقا أخرى من عيادة المريض، ومن تشميت العاطس وهذه ليست واجبة. فهذا هو الأشبه والأقرب في هذه المسألة والله أعلم أن وليمة العرس كغيرها أنها تستحب إجابة الدعوة فيها، وأنها ليست واجبة.
وعلى رأي المؤلف وقول الجمهور من لم يجب دعوة وليمة العرس؛ يكون آثما ويكون قد ارتكب معصية وذنبا، ولكن على القول الثاني الذي رجحناه أنه لا يَأثَمُ بذلك وهذا كما ذكرنا عند التحقيق هو الأقرب في هذه المسألة.(1/11)
الجمهور الذين قالوا بوجوب إجابة الدعوة وهكذا أيضا على القول الثاني القول باستحبابها استحبابا مؤكدا شرطوا لذلك أن يكون المدعوُّ قد دُعي إلى الوليمة باسمه بأن عُيِّن قيل له: يا فلان! عندنا وليمة فندعوك لها. وبذلك قالوا إن الدعوة إذا كانت عامة؛ فعلى رأي الجمهور أنه لا تجب إجابتها وهي ما تسمى بدعوة الجفلة؛ كأن يقول: أنتم يا جماعة أنتم مدعوون لهذه الوليمة، أنتم يا جماعة مدعوون معنا في مناسبة كذا، فهذه تسمى بدعوة الجفلة وهذه لا تجب على رأي الجمهور، وأيضا على القول الآخر تكون مباحة وليست مستحبة.
الدعوة للعرس عن طريق البطاقات. الآن انتشر عند الناس الدعوة عن طريق البطاقات يرسل لك قريب أو صديق أو جار يرسل لك بطاقة لحضور وليمة عرسه؛ فهل نقول إن هذه دعوة عامة أم دعوة خاصة؟! هل هي دعوة خاصة تجب إجابتها على رأي الجمهور أم تستحب على القول الآخر و نقول إنها من قبيل دعوة الجفلة الدعوة العامة وأن إجابتها مباحة إجابة هذه الدعوة مباحة تبقى في دائرة الإباحة؟!
هذه محل خلاف بين العلماء المعاصرين: منهم من قال إنها تكون من قبيل الدعوة العامة؛ لأنَّ بهذه البطاقات يدعى لها كل من له صلة بالمتزوج أو بالزوجين، وبذلك تكون تشبه دعوة الجفلة.
ولكن الأقرب -والله أعلم- أنه إذا حُدِّدَ الإنسان باسمه، ووُجِّهتْ البطاقة لفلان بن فلان باسمه أنها دعوة خاصة؛ فبناءً على قول الجمهور تكون واجبة، لكن بناءً على القول الراجح تكون إجابةُ هذه الدعوة مستحبةً وليست واجبة.(1/12)
اشترط أيضا الجمهور للقول بوجوب إجابة دعوة وليمة العرس أن تخلو الوليمة من المنكرات. قالوا: فإن وُجِدَ فيها منكرات؛ لم تجب، وأيضا على القول الآخر = القول بالاستحباب أيضا لا بد أن تخلو هذه الوليمة من المنكرات، وبناء على ذلك ما يُرى في الوقت الحاضر من وجود بعض المنكرات في بعض الأفراح يُسْقِطُ القول بالوجوب بل حتى القول بالاستحباب = استحباب إجابة تلك الدعوات مع وجود تلك المنكرات، ولكنَّ الَّذي أراه في مثل هذا أنه ينبغي للإنسان أن يجيب الدعوة ويسلم على الزوج، والمرأة تُسلم على المرأة المتزوجة ويدعو للزَّوجين، وأيضا ينكر المنكر على حَسَب استطاعته، إن كان يستطيع؛ ينكر، ولو أن هذه المنكرات الموجودة في الأفراح أنكرها الناس وأنكرها الأخيار وأنكرها الصالحون والصالحات؛ فلا شك أنها ستقِلُّ إن لم تَزُلْ لكن عندما يَسْكت الأخيار والصالحون عن هذه المنكرات؛ فإنها تكون في ازديادٍ وتجد أن بعض الأخيار أن غاية ما يفعل أنه يقاطع هذه الأفراح، وهذا في الحقيقة ليس حلا، هذا أمر -في الحقيقة- سلبيٌّ، والصحيح أنه لا تجب عليه إجابة دعوة ولا تُستحب له إجابتها؛ لكون وجودِ هذا المنكر لكن نقول ينبغي أن تذهب وتسلم على الزوج، أو المرأة تسلم على المرأة المتزوجة وعلى أهل الزوجة، وتنكر هذا المنكر.
وليوطن الإنسان نفسه قبل إنكار المنكر على الصبر وعلى التحمّل ويكون أيضا إنكار المنكر يكون بالحكمة وباللين وبالرفق وبالتي هي أحسن، ولو أن هذا المنكر أنكره عددٌ من الصالحين. في تقديري إذا أنكر خمسة فقط أتى إنسان وأنكر ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس خمسة من المدعوّين وربما أن المدعوين أحيانا يفوق عددهم مائة شخص خمسة من مائة فقط. في ظني أن هذا سيكون لها أكبر الأثر.
وربما تغير من حينه في نفس الوقت.(1/13)
نعم، لا شك أن هذا الإنسان إذا أتى خمسة هذا بعد هذا بعد هذا كلهم أنكروا هذا المنكر لا شك أن هذا سيؤثر في نفسه وهكذا أيضا بالنسبة للنساء. لو رأت المرأة الصالحة منكرا فأنكرته ثم أتت أخرى فأنكرت ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة؛ أعتقد أن خمسا فقط من الأَخَوَات أنكرن هذا المنكر بأسلوب حسن وبحكمة؛ فإن هذا لا شك أنه سيؤثر ويتغير وربما استطاعت أن تغير المنكر في حينه أو على الأقل يكون هذا فيه تقليل على المنكرات في المستقبل.
البعض يا شيخ يعمد لهذه المنكرات أحيانا؛ إرضاءً للحضور فإذا وجد استهجانا أو إنكارا من الحضور في هذا الأمر هو يعني لا يريد أن يخسر أو يذهب جهده هباء منثورا إذا كان لا يوجد رضا فربما يعني يغير.(1/14)
هذا صحيح يعني بعض الناس مع الأسف يرون أن هذه المنكرات أنها تقدم وأنها تحضر وأنها رقي وأنها تطور هذا كله غير صحيح، ويجب أن تُنكَر هذا المنكراتُ لكن يكون بالتي هي أحسن. واختيار الأسلوب أمر مطلوب أيضا يكون بلين يكون برفق. والله –تعالى- لما بعث موسى وهارون أفضل الخلق في زمنهما إلى أخبث الخلق في زمنها وهو فرعون؛ ماذا قال الله تعالى؟! قال: ? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا ? [طه: 44]، مع أنه اجترء على مقام الربوبية وقال: أنا ربكم الأعلى، ومع ذلك قال الله –تعالى-: ? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا?، فلا بد أن يكون ذلك بأسلوب ليِّن وبرفق؛ لأن من طبيعة النفوس أنها تنفر من القسوة ومن الكلام الخشن ومن الأسلوب الفظ الجاف: ? وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? [آل عمران: 159]، لكن الإنسان يقول برفق وبلين، و (من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه الناس، ومن أسخط الله برضا الناس؛ وكله الله إلى الناس). لكن كما ذكرت ينبغي أيضا أن يوطن الإنسان نفسه على تحمل ما قد يناله من أذًى في هذا وأن يصبر على هذا؛ لأن الله –تعالى- قال: ? وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ? [لقمان: 17].
قال بعد ذلك: (ومن لم يُحب أن يطعم؛ دعا وانصرف)؛ لحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا دُعي أحدكم؛ فليجب، فإن كان صائما؛ فَلْيَدْعُ، وإن كان مُفْطِرًا؛ فَلْيَطْعَمْ) أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح.(1/15)
لكن إذا كان صائما صومَ فريضةٍ؛ كأن يكون في قضاء رمضان؛ فإنه لا يفطر وإنما يأتي ويدعو له ولا يفطر. لكن إذا كان صومَ نافلةٍ وكان في فطره جَبْرٌ لخاطر الداعي وإيناسٌ له؛ فالأفضل له أن يُفْطِرَ وهو على أجره -إن شاء الله- ويُرْجَى أن يكتب له أجر الصوم؛ لأن إدخال السرور في نفس المسلم أمر مطلوب فإذا كان صائما صوم نافلة ودعاه أخوه أو جاره أو قريبه وكان في إفطاره مصلحة بأن يَجْبُر خاطره خاضةً إذا كان له عليه حقٌّ؛ كأخيه مثلاً أو أحد أقاربه؛ فإن الأفضل في حقه أن يُفطر وحتى يجبر خاطره وحتى يؤنسه بذلك، ويرجى أيضا أن يكتب له أجر الصوم كاملا. وهذه المسائل تُراعى فيها المصالحُ والمفاسد. لكن إذا لم يفطر؛ فإن ذلك لا يؤثر في نفس الدَّاعي فلا بأس بأن يعتذر بأنه صائم وأنه لذلك لن يجيب ولن يطعم معهم فهذه تخضع لمسألة المصلحة ويراعيها الإنسان إذا كانت المصلحة في أن يَطْعمَ؛ أفطر إذا كان الصوم صوم نافلة، إذا كانت المصلحة في أن يبقى صائما؛ فإنه يبقى، ولهذا قال في هذا الحديث: (فإن كان صائما فليدع –أي :يدعو لهم- وإن كان مفطرا فليطعمْ).
قال: (والنثار والتقاطه مباح مع الكراهة)
النثار: هو رمي الحلوى ونحوها على الحاضرين، وبعضهم أيضا ربما رمى نقودا. وهذا يُسَمُّونه نثارا. موجودٌ وهو عادة عند بعض الناس، هذا جائز لكن مع الكراهة يجوز لكنه مكروه، ولذلك قال:
(وإن قُسِّمَ على الحاضرين؛ كان أولى)(1/16)
الأولى أن يقسم على الحاضرين إن كان معه شيء يقسم على الحاضرين من غير أن ينثره بينهم، وإن نثره؛ فلا بأس بذلك لكن مع الكراهة؛ لأن في ذلك تزاحما وربما يؤدي إلى شيء من الأذى، ولكن إن قسمه؛ فَهُوَ أولى، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (قسم بين أصحابه تمرات فأعطى كل واحدٍ منهما سبع تمرات). فكونه يُقسم بينهم هذا أولى، وقد كان الناس يحتاجون مثل هذه المسائل خاصة في أوقات الفقر والحاجة، ولذلك يذكر الفقهاء هذه المسائل، وربما لا تكاد تكون هذه المسألة –الآن- موجودة في كثير من المجتمعات.
لعلنا يا شيخ نفتح المجال لتلقي الأسئلة..
نعم، نحن انتهينا على كل حال من باب الوليمة.
يقول: بالأمس كان درس كتاب اللعان، وذكرتَ بالنسبة للأشياء التي لا يقام الحد على الزوج بسبب ملاعنته لزوجه فيه. ممكن سؤال لكنه ملحظ الآن يوجد بعض المستشفيات الخطأ اللي يقع، يقع كون الرجل يأخذ ولدا ليس ولده وكذا هذه من الأشياء التي إذا أخذها الإنسان يكون .. فعلاً الشرع الحكيم لَمَّا قدر مثل هذه الأمور كان لها من الوجاهة الشيء الكبير حيث ما يقام الحد على الزوج؟ فهذا فقط ملحظ أنا كتبتها لأشارك
على كل حال ملحظه الذي ذكره الأخ ملحظ وجيه، والشرع لا يقيم الحدَّ على الزوج إذا لاعن وربما لما ذكره، ولأمور أخرى؛ لأن الغالب على الزوج عندما يلاعن صِدْقُه؛ لأنه -في الحقيقة- أول المتضررين من لعان امرأته هو؛ لأنها ستؤثر على سمعة أسرته وعائلته وربما يكون له أيضا بنات فهو أول المتضررين ولا يقدم على هذا إلا وهو شبه متأكد من صحة دعواه، ولهذا فإنه بملاعنته يَدرأ الحد حد القذف عن نفسه.
الأسئلة:
السؤال الأول:
ما حكم أكل لحم الخيل والضبع؟
السؤال الثاني:
ما حكم أكل الضفدع والتمساح؟
إجابة السؤال الأول:(1/17)
يقول: عن قضية استخدام الكحول إذا كانت النسبة قليلة جدًا بحيث إنها استهلكت في الدواء ولا يحصل الإسكار بالقليل ولا بالكثير منه؛ فلا بأس به. أما إذا كانت النسبة تسبب إسكارا في القليل أو الكثير فيحرم إلا عند الضرورة بضوابط شرعية.
نعم الإجابة صحيحة إذا كانت نسبة الكحول ضئيلة جدًا بحيث إن الإنسان لو أكثر من شرب هذا الدواء لَمَا سكر؛ فإن هذه النسبة مُغْتَفَرَةٌ، وحينئذ لا بأس باستخدام ذلك الدواء بعض أنواع الأدوية مثل شراب "الكحة" وغيره تكون نسبة الكحول ضئيلة جدًا فهذه تغتفر بهذا الشرط لو أكثر الإنسان من هذا الدواء لما سكر، وهكذا بالنسبة لغيره أيضا ليس فقط في الدواء حتى في غيره والدليل على ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الماء طهور لا ينجسه شيء) وأجمع العلماء على أن الماء أنه ينجس إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة يسيرة باتفاق العلماء أنه إن لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه؛ فإنها لا تؤثر فيه وإنما تَضْمحل. وهكذا أيضا الكحول إذا كان النسبة قليلة جدًا فإنها تضمحل في الدواء وحينئذ تكون هذه النسبة مغتفرة كالنجاسة اليسيرة إذا وقعت في الماء الكثير.
طيب إن قال قائل: النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)؛ كيف نجيب عن هذا؟!
نقول: المقصود لو كان هذا الدواء أو هذا الشراب فيه نسبة من الكحول لكن لو أكثر من شربه؛ لسكر فهذا لا يجوز ولو كانت النسبة قليلة وعلى هذا يحمل الحديث: (ما أسكر كثيره فقليله حرام)، لو شرب من هذا الدواء لو أكثر من شرب هذا الشراب؛ سكر؛ فلا يجوز تناول هذا الشراب مطلقا قَلَّ أو كثر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). لكن ما لم يسكر كثيره؛ لم يكن قليله حراما.(1/18)
ومفهوم الحديث أنه إذا لم يسكر كثيره؛ فلا يكون قليله حراما. وعلى ذلك نسب الكحول اليسيرة جدًا الموجودة في بعض أنواع الأدوية مغتفرة؛ لأن الإنسان لو أكثر من شرب الدواء؛ لم يحصل له الإسكار وحينئذ تكون كالنجاسة التي تكون في الماء الكثير ولا تغير طعمه ولا لونه ولا ريحه فإنها تغتفر باتفاق العلماء فكذلك أيضا هنا وسنلقي أيضا الضوء على هذه المسألة -إن شاء الله تعالى- في بداية الدرس القادم.
يقول: ذكرتم في الرد على الجمهور قول الوجوب في إجابة الوليمة من حكى الإجماع يعني قد أخطأ في حكاية الإجماع ثم ذكرت القول قول أبي هريرة موقوف على أبي هريرة وليس له حكم الرفع لكن ما يقال يا شيخ في مثل هذه الأخبار مثل هذا الكلام الذي قاله أبو هريرة يكون له حكم الرفع ليس لأبي هريرة أن يقول من تلقاء نفسه: (من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)؛ أما يكون له حكم الرفع؟
سؤال أخينا سؤالٌ جيد، وقال به بعض أهل العلم قال بعض أهل العلم: إن قول أبي هريرة: "من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله"، إن له حكم الرفع؛ لأنه لا يجرؤ صحابي أن يقول هذه المقولة إلا وقد فهم ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن أيضا هذا يجري على مسائل كثيرة يعني مثلاً قول عمار بن ياسر: "من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-". وقول أبي هريرة لما رأى رجلا يخرج من المسجد بعد الأذان: "أما هذا؛ فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-".
هذه المسألة محل خلاف بين العلماء إذا قال الصحابي: "إن هذا قد عصى الله وقد عصى رسوله -صلى الله عليه وسلم-" هل تأخذ حكم الرفع أم لا؟(1/19)
من أهل العلم من يقول إنها تأخذ حكم الرفع ولكنَّ هذا محل نظر؛ إذ أن هذا فهم فهمه هذا الصحابي وليس فهمه بأولى بفهم غيره من الصحابة وبعض الصحابة قد يفهم الوجوب وبعضهم قد يفهم الندب؛ فمثلا أبو ذر كان يفهم الوجوب في مسألة عدم وجوب الإنفاق ما فضل على الإنسان بعد ثلاث يعني الإنسان لا يدخر شيئا بعد ثلاثة أيام وما عدا ذلك يجب عليه أن ينفقه، وخالفه في ذلك بقيةُ الصحابة لكنْ كان أبو ذر يرى الوجوب، ويرى أن من لم يفعل ذلك؛ فهو عاص.
أيضا ابن عمر عندما كان يتوضأ كان يدخل الماء إلى عينيه فهذه اجتهادات من بعض الصحابة. فالصحابة أحيانا قد يفهم أحدهم الوجوب وقد يفهم الاستحباب وقد يفهم التحريم وقد يفهم الكراهة. لكن تُعرض هذه الأفهام على الأدلة من الكتاب والسنة، ولهذا فالأقرب والله أعلم أنها لا تأخذ حكم الرفع؛ لأن هذا فَهْمٌ فهمه هذا الصحابي وقد يكون هذا الفهم صحيحا وقد لا يكون كذلك.
هناك أسئلة كثيرة حول موضوع المنكرات في الأفراح والولائم لعلكم يا شيخ أجبتم بإجابة شاملة -إن شاء الله- في هذا الجانب
تقول: ما حكم الهدية التي يهديها المدعوّ للداعي؟ هل هي من الأمور الواجبة أم المستحبة أم المباحة أم غير مشروعة؟ تقول: إني أرى أن بعض الناس يعتبرها واجبة فإن لم يتيسرْ له شراؤها؛ فقد لا يجيب الدعوة؟
يقول: أصبح الفقراء لا يذهبون إلى الأعراس؛ لأنها أصبحت وسيلة للتمكيس ووجوب دفع قيمة من المال بدعوى الإعانة بل قد يعاب على من لم يدفع من المدعوين؛ فما رأي فضيلة الشيخ؟(1/20)
نعم مثل هذه الهدايا مستحبة وليست واجبة. وكون بعض الناس يوجبها فهذا غير صحيح لأن هذه الهدية تبقى مستحبة. ولذلك إن تيسر للإنسان أن يُهدي؛ فهذا حسن، والهدية مندوب إليها وهي تجلب المودة والمحبة بين أفراد المجتمع فإن لم يتيسرْ له ذلك؛ فإنه يذهب ويجيب الدعوة ويعتذر لصاحبه بأن لم يتيسر له أن يأتي بهدية ونحوها، ولكن هذا لا يمنعه من أن يجيب الدعوة؛ لأنه إذا ترك إجابة الدعوة الآن؛ وقع في ترك حقَّيْن في الهدية وفي إجابة الدعوة، لكنه إذا أجاب الدعوة وجبر خاطر الداعي، واعتذر عن الهدية؛ فلعل الداعي يعذره بذلك.
لكن القول بأنها تجب هذا غير صحيح، ولا أحد يستطيع أن يُوجِبَ شيئا إلا الشارع هو الذي يوجب وهذا حكم شرعي. أما الأعراف والعادات والتقاليد؛ فليس لأحد أن يوجب على أحد شيئا لا هدية ولا غيرها، إنما ذلك مرده إلى الشارع ومعلوم أن الهدية الأصل فيها الاستحباب وأنها لا تجب.
وبعض الناس يا شيخ من باب التخفيف أيضا يعني يضعون في الكارت أو في الدعوة أنهم لا يقبلون مثل هذه الأمور بحيث لا تكون هناك مشقة على من أراد الحضور.
وكذلك هذا طيب أيضا إذا كان قد يتسبب خاصة في بعض المجتمعات الصغيرة قد يتسبب هذا في إلحاق الحرج بالناس، فكون الداعي يضع مثل هذه العبارة أنه لا يرغب في قبول هذه الهدايا حتى لا يلحق الحرج بالمدعوين هذا أيضا حسن.(1/21)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الخامس عشر
الدرس الخامس عشر - كتاب الأطعمة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
كتاب الأطعمة
إجابة أسئلة الدرس الماضي.
يقول بعد حمد الله جواب السؤال الأول عن حكم أكل لحم الخيل والضبع:
يقول: لحم الخيل حلال؛ لحديث أسماء: (نحرنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرسًا فأكلناه) متفق عليه، ولحديث جابر: (نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر عن لحوم الحُمُر وَرَخَّصَ من لحوم الخيل)، وعند المالكية التحريم.
لحم الضبع حلال؛ لحديث عبد الله بن أبي عمار قال: (قلت لجابر: الضبع صيد هي؟ قال نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم)، رواه الترمذي والنسائي.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد وضعنا سؤالين في هذا الدرس الذي سوف نشرحه وهو "كتاب الأطعمة" وذلك؛ تحفيزًا للإخوة المشاهدين حتى يُحَضِّروا لهذا الدرس الذي سوف نشرحه، كان السؤال الأول عن حكم أكل لحم الخيل والضبع، وهاتان المسألتان محل خلاف بين أهل العلم، وسوف نشير إلى هذا الخلاف عندما نشرح عبارة المؤلف -رحمه الله- ولكن القول الراجح -كما سمعنا في إجابة الأخ- هو أن أكل لحم الخيل حلال، وذلك؛ لأدلة سوف نوردها -إن شاء الله- وكذلك أيضًا أكل لحم الضبع حلال رغم أنه ذو ناب، وذلك أيضًا لأدلة سوف نوردها في أثناء الشرح إن شاء الله تعالى.
يقول في إجابة السؤال الثاني: ما حكم أكل الضفدع والتمساح؟
الإجابة: لا يجوز أكل الضفدع؛ لأنه من الخبائث والله أعلم؛ لقول الله تعالى: ?وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ? [الأعراف: 157] ولا يجوز أكل التمساح؛ لأنه يأكل الناس وله ناب يجرح، وجزاكم الله خيرًا.(1/1)
نعم.. كذلك الإجابة صحيحة، الضفدع هو من الحيوانات البرمائية وقد ورد فيه حديث في النهي عن قتله سنورده أيضًا هو حديث إسناده جيد، وهو يدل على تحريم قتله ومن ثَمَّ استنبط منه كثير من الفقهاء تحريم أكل الضفدع.
أيضًا التمساح سنُبين -إن شاء الله- أنه أيضًا لا يعيش في البحر دائمًا، وهو يشبه أن يكون من الحيوانات البرمائية كذلك، وله ناب، ولذلك فإنه أيضًا يَحْرم أكله وسنفصل -إن شاء الله تعالى- الكلام عن هاتين المسألتين في أثناء الشرح.
إذن نبدأ بعد ذلك بشرح عبارة المؤلف في كتاب الأطعمة، وكما هو معتاد نبدأ أولاً بقراءة عبارة المؤلف -رحمه الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف -رحمه الله-: (
كتاب الأطعمة
وهي نوعان: حيوان وغيره، فأما غير الحيوان؛ فكله مباح إلا ما كان نجسًا أو مُضِرًّا؛ كالسموم، والأشربة كلها مباحة إلا ما أسكر، فإنه يَحْرم كثيره وقليله من أي شيء كان؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر الفَرَقُ منه؛ فملء الكف منه حرام)، وإن تخللت الخمرة؛ طَهُرَت وحلت، وإن خللت لم تطهر).
نكتفي بقراءة هذا الفصل ثم -إن شاء الله تعالى- ننتقل للفصل التالي من هذا الكتاب.
الأطعمة: جمع طعام، والطعام هو ما يؤكل وما يشرب، فما يُشرب يُسمى طعامًا، ويدل لذلك قول الله -تعالى- في قصة طالوت: ?فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي? [البقرة: 249]، في قصة طالوت وجالوت، ?فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي? مع أنه ماء نهر، ومع ذلك قال: ?وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ? يعني ومن لم يطعم الماء، وأيضًا يدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ماء زمزم: (إنه طعام طُعْم) مع أنه ماء، فدل ذلك على أن ما يُشرب يصح أن يُسمى وأن يطلق عليه طعام.(1/2)
الأصل في الأطعمة الحِلّ، ويدل لذلك قول الله –تعالى-: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا? [البقرة: 29]، وقد قال الله –تعالى- ذلك على وجه الامتنان على عباده، وأيضًا قول الله –تعالى- ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا? [البقرة: 268]، وهذا يدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الأصل في الأطعمة الحِل، وأيضًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وما سكت عنه فهو عفو ?وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ? [الأنعام: 119] فكل ما لم يبين الله –تعالى- ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- تحريمه من المطاعم والمشارب؛ فالأصل فيه الحِل.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وهي)؛ أي الأطعمة (نوعان: حيوان، وغيره)؛ أي أن الأطعمة تنقسم إلى حيوان وإلى غير حيوان، قال: (فأما غير الحيوان فكله مباح) يعني أن الأصل فيه الحل والإباحة، (إلا ما كان نجسًا أو مُضِرًّا): إلا ما كان نجسًا، فما كان نجسًا؛ فَيَحْرم أكله، وهذه قاعدة عندنا: كل ما كان نجسا؛ فهو حرام، حرام أكله، كل ما كان نجسًا يَحْرُم أكله، لكن عكس هذا، هل كل حرام يَحْرُم أكله، يعني كل نجس حرام، لكن هل حرام نجس؟
لا.
نعم.. إذن نستطيع أن نقول: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسا، هذه قاعدة: كل نجس حرام، يعني أن جميع النجاسات يَحْرُم أكلها، لكن ليس كل حرام يكون نجسًا، فبعض الأشياء المحرمة طاهرة، مثلاً ?إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ? [المائدة: 90]، الميسر؟ الأنصاب، الأزلام هي نجسة نجاسة معنوية لكن ليست نجسة نجاسة حسية، أما الخمر محل خلاف بين أهل العلم هل هي نجسة أم طاهرة، والخلاف في ذلك مشهور بين أهل العلم، فإذن هذه القاعدة مضطردة: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسًا. جميع النجاسات يَحْرُم أكلها.(1/3)
قال: (أو مضرًا)؛ أي ما كان مضرًا للجسم، فإنه أيضًا يَحْرُم تناوله، وقال: (كالسموم)؛ لأنه يَحْرُم على الإنسان أن يتعاطى ما يضره، ولذلك فإن الدخان = التبغ حرام؛ لأنه مُضِرٌّ بالصحة، وقد أجمع جميع عقلاء الأمم من جميع شعوب الأرض على أنه مضر بالصحة ضررًا كبيرًا، ولذلك فإنه مُحَرَّم لأجل الضرر الذي يلحق بالإنسان.
إذن نقول: الأطعمة من غير الحيوان الأصل فيها الحل والإباحة إلا ما كان نجسًا أو مُضِرًّا كالسموم، كالسموم يعني السم مضر بالإنسان فيحرم تناوله؛ لضرره، وهكذا مثل ما ذكرنا من الدخان وغيره.
(والأشربة كلها مباحة) يعني أن الأصل في الأشربة الحل والإباحة، فكما قلنا إن الأصل في الأطعمة الإباحة والحل، كذلك أيضًا نقول: الأصل في الأشربة الإباحة والحل، هذا التأصيل يفيدنا عند الاختلاف، يعني لو اختلف اثنان في طعام من الأطعمة أو في شراب من الأشربة أحدهما يقول: إنه حلال، والآخر يقول: إنه حرام، فمن الذي يُطالب بالدليل؟
الذي يُطالب بالدليل الذي يقول إنه حلال أم الذي يقول إنه حرام؟
الأصل في الأطعمة الحِل؛ فيطالب بالدليل من يدعي التحريم.
نعم.. أحسنت.. انطلاقًا من هذا التقعيد وهذا التأصيل نقول: الذي يُطالب هو الذي يقول: إن هذا الشيء حرام؛ لأن الأصل في الأطعمة الحِل، والأصل في الأشربة الحِل، وحينئذ من يقول بأن هذا الطعام حلال، أو أن هذا الشراب حلال لا يُطالب بالدليل، وإنما الذي يُطالب بالدليل الذي يقول إنه حرام، يعني هذا التأصيل يفيدنا في مثل هذه المسائل.
قال: (إلا ما أسكر؛ فإنه يَحرم قليله وكثيره من أي شيء كان؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كل مُسكر حرام، وما أسكر منه الفَرَق؛ فملء الكف منه حرام)).(1/4)
فقوله: (كل مُسكر خمر وكل خمر حرام): وهذا يشمل القليل والكثير، ولذلك ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام، الخمر مُحَرَّم مطلقًا قَلَّ أم كَثُر، ولكن إذا كانت نسبة الكحول يسيرة جدًا بحيث إنه لو أكثر من شرب هذا الشراب المشتمل على هذه النسبة اليسيرة من الكحول، ولنفترض مثلاً أنه دواء لم يحصل له الإسكار؛فإن هذه النسبة لا تضر؛ لمفهوم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فإن مفهوم هذا الحديث: أن ما لم يُسكر كثيره فإن قليله ليس بحرام، وأيضًا قياسًا على النجاسة اليسيرة إذا خالطت الماء الكثير، فقد اتفق العلماء على أنها لا تُنَجِّس الماء، فلو أن نقطة بول خالطت ماءً كثيرًا؛ فإنها لا ُتَنَجِّسُهُ، خالطت مثلاً بركة ماء، أو ماءً كثيرًا عمومًا أو بحرًا أو نهرًا أو نحو ذلك؛ فإنها لا ُتَنَجِّسُهُ بالاتفاق، فهذه النجاسة تضمحل في هذا الماء الكثير ولا يبقى لها أثر، كذلك أيضًا نقول: إن النسبة اليسيرة جدًّا تضمحل في هذا الشراب، أو في هذا الدواء؛ فلا يكون لها أثر. لكن لاحظ أنه بهذا الشرط يعني بحيث أنه لو أكثر من هذا الشراب فإنه لا يحصل له الإسكار، وعلى ذلك نقول بالنسبة للأدوية التي تشتمل على نسبة يسيرة من الكحول نقول: إن هذه النسبة لا تضر ولا تؤثر، لا أثر لها، لماذا؟
لأن الإنسان لو أكثر من شرب ذلك الدواء لم يحصل له الإسكار، فما لم يكثر كثيره فإن قليله ليس بحرام، وبذلك نستطيع أن نقول إن هذه المسألة لها ثلاث صور:
الصورة الأولى: الكثير من الكحول هذا لا شك أنه يسكر بالنص والإجماع.
الصورة الثانية: القليل الذي لو أكثر الإنسان منه؛ لحصل له الإسكار فإنه يَحْرم شُرب هذا القليل وإن لم يُسْكِر، ما دام أن كثيره يُسْكِر؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام).(1/5)
الصورة الثالثة: النسبة اليسيرة جدًّا التي لو أكثر من شربها هذا الشراب المشتمل عليها لم يحصل له الإسكار فإن هذه لا تضر ولا تؤثر ولا أثر لها، وعلى ذلك قلنا بجواز تناول الدواء المشتمل على نسبة يسيرة جدًا من الكحول.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وإن تخللت الخمرة؛ طهرت وحلت) يعني إذا تخللت بنفسها، إذا تخللت الخمر بنفسها فإنها تكون طاهرة وحلالاً، وهذا بإجماع العلماء، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: (سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخمر يُتخذ خلاً؟ قال: لا) لكن جاء في حديث أبي طلحة أنه لما نزل تحريم الخمر قال: (كان عندي خمر لأيتام فقلت: يا رسول الله! أخللها؟! قال: لا، فأمر بإراقته) فهذا عند تدخل الآدمي لا تطهر ولا تحل، وذلك لهذين الحديثين وما جاء في معناهما.
أما إذا تخللت بنفسها؛ فإنها تكون طاهرة بالإجماع، فعندنا الآن صورتان:
الصورة الأولى: تخليل الخمر هذا لا يبيحها ولا يطهرها أيضًا، يعني لم تحل ولم تطهر، تخليلها بفعل آدمي.
الصورة الثانية: أن تتخلل بنفسها فإنها تكون طاهرة وحلالاً بإجماع العلماء. هذه هي أبرز المسائل المتعلقة بهذا الباب.
نجاسة الخمر اختلف العلماء فيها على قولين مشهورين:(1/6)
فجماهير العلماء على أنها نجسة لقول الله –تعالى-: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [المائدة: 90]، قالوا: والرجس هو النجس، فهذا يقتضي نجاسة الخمر، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخمر طاهرة وليست نجسة، وذلك؛ أن المراد بالنجاسة في الآية النجاسة المعنوية، وليست النجاسة الحسية بدليل أن الخمر قرنت بالأنصاب والأزلام والميسر وهذه ليست نجسة نجاسة حسية باتفاق، وكذلك الخمر، وأيضًا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بإراقة الخمر لما نزل تحريمها في سكك المدينة، ولو كانت نجسة؛ لما أمر بذلك خاصة أن بعض الناس وربما نقول كثير من الناس كانوا لا ينتعلون يمشون حفاةً ولو كانت نجسة؛ لما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإراقة هذا الشيء النجس في طرق الناس وفي سكك المدينة، وهي ربما تلامس أقدام الصحابة، ولأنه ليس هناك دليل ظاهر يدل على نجاسة الخمر، وأما الاستدلال بالآية الكريمة فذكرنا أنه لا يستقيم، وقد اختار هذا القول شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله تعالى- ولعله الأقرب في هذه المسألة.
ننتقل بعد ذلك للقسم الثالث من الأطعمة وهو الحيوان، إذا كان هناك من سؤال أو استفسار قبل أن ننتقل للقسم الثاني.
لو نقل يا شيخ الخمرة، نقلها مثلاً من ظل إلى شمس أو العكس لتخللت دون أن يضع فيها شيء؟.
نعم.. إذا كان ذلك بقصد التخليل فإنها لا تحل؛ لأنها أصبحت بفعل آدمي، أصبح التخليل بفعل آدمي، نحن فَرَّقنا في التخليل بين أن تتخلل بنفسها وبين أن يخللها آدمي، تخللت بنفسها فهي طاهرة مباحة، وإن خللها آدمي؛ فهي حرام؛ لحديث أنس وحديث أبي طلحة.
ننتقل بعد ذلك للقسم الثاني، نقرأ عبارة المؤلف في القسم الثاني من الأطعمة.
(
فصل في ما يُباح أكله وما لا يُباح(1/7)
والحيوان قسمان: بحري، وبري. فأما البحري؛ فكله حلال إلا الحية والضفدع والتمساح، وأما البري؛ فيحرم منه كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، والحمر الأهلية، والبغال وما يأكل الجيف من الطيور كالنسور، والرخم، وغراب البين الأبقع، وما يُستخبث من الحشرات كالفأر ونحوها، إلا اليربوع والضب؛ لأنه أُكِل على مائدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ينظر وقيل له: (أحرام هو؟ قال: ل) وما عدا هذا مباح، ويُباح أكل الخيل والضبع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أذن في لحوم الخيل وسَمَّى الضبع صيدًا).
القسم الثاني من الأطعمة: الحيوان، وهو قسمان:
القسم الأول: الحيوان البحري، والبحري هو ما لا يعيش إلا في البحر كالأسماك والحيتان وربما نقول إن ثلاثة أرباع حيوانات الأرض بحرية، ثلاثة أرباع الحيوانات بحرية، وأما البري فهو ما سواه أو ما عداه.
البحري قال: (فأما البحري فكله حلال) الأصل في حيوانات البحر الحل، الأصل في جميع حيوانات البحر أنها حلال، ويدل لذلك قول الله –تعالى-: ?أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ? [المائدة: 96] قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صيده ما أُخذ حيًّا، وطعامه ما لَفَظَهُ ميتًا" فجميع حيوانات البحر حية كانت أو ميتة كلها حلال لنا.
قال المؤلف: (إلا الحية) ماذا يقصد المؤلف بقوله: (إلا الحية)؟
المقصود بقوله: (إلا الحية) يعني إلا حية البحر، فإن البحر له حيات كما أن البر له حيات، حيات البر معروفة للجميع، لكن حيات البحر هل يباح أكلها أم لا؟(1/8)
المؤلف يرى أنه لا يباح أكلها، ولكن هذا محل نظر؛ إذ أن الأصل في حيوانات البحر أنها حلال لما ذكرنا من الآية، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، ولغير ذلك من الأدلة الدالة على حل حيوانات البحر، وكونها تسمى حية لا يخرجها من الحل إلى التحريم؛ لأن التسمية لا أثر لها، ما دام أنه حيوان بحري لا يعيش إلا في البحر فهو حلال، إذن جميع حيوانات البحر جميعها حلال، طيب أسماك القرش التي تفترس الإنسان هل هي حلال أم حرام؟
حلال.
حلال؛ لأنها حيوانات بحر، ما دام أنها حيوانات بحر فهي حلال، ولو كانت مفترسة. إذن نخلص من هذه إلى أن جميع حيوانات البحر أنها حلال.
قال: (والضفدع) الضفدع هل هو من حيوانات البر أو من حيوانات البحر؟
الضفدع برمائي.
ما معنى برمائي؟
يعني يعيش في البحر ويعيش في البر، يعيش في الماء ويعيش في البر.
نعم، أحسنت.. هناك قسم ثالث من الحيوانات التي تسمى بالحيوانات البرمائية، يعني تعيش في البر وفي الماء، هل هذه تلحق بحيوانات البحر أم بحيوانات البر؟
نقول: الأقرب أنها تُلحق بحيوانات البر ولا تُلحق بحيوانات البحر، يعني لا يُقال إن الأصل فيها الإباحة.(1/9)
إذن الضفدع يُلحق بحيوانات البر، فلا يرد علينا هذا الأصل، الضفدع جاء في حديث عبد الرحمن بن عثمان (أن طبيبًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتلها) وهذا الحديث أخرجه أبو داود وإسناده جيد، والنهي عن قتلها يستدعي إبقاءها، وهذا يدل على تحريم أكلها؛ لأنه لو أُذِنَ في أكلها؛ لكان إذنًا بقتلها، فالنهي عن قتلها يدل على تحريم أكلها، وحينئذ نقول: إنه لا يجوز أكل الضفادع، وقد طرحنا في هذا سؤالاً للإخوة المشاهدين، لا يجوز أكل الضفادع، نقول هذا لأنه ربما يكون الضفادع مستخبثة عند كثير من الناس، لكن تبقى طائفة من الشعوب يستسيغون أكل الضفادع ويأكلونه ويوجد عندهم في المطاعم، وربما يأكلونها في بيوتهم وعلى موائدهم فنقول: إذن الضفدع لا يجوز أكله.
قال: (والتمساح) التمساح هل هو من حيوانات البحر أم من حيوانات البر؟
هو برمائي، نفس الضفدع.
أينعم.. أحسنت.. هو ليس من حيوانات البحر، هو يعيش في البر ويعيش كذلك في الماء، ويقولون إنه ربما يعيش في الماء ساعةً لكن يخرج رأسه ويتنفس ولكنه لا يعيش دائمًا في الماء وفي البحر ولذلك لا يصح أن نقول إنه من الحيوانات البحرية، إذن يكون من الحيوانات البرمائية، الحيوانات البرمائية قلنا فيها إنها تلحق بحيوانات البر ولا تلحق بحيوانات البحر.
التمساح يَحرم أكله كما قال المؤلف، وذلك؛ أنَّ له نابًا، ويفترس ولذلك فإنه يَحرم أكله، يَحرم أكل التماسيح عمومًا.(1/10)
قال: (وأما البري) انتقل المؤلف للقسم البري من الحيوانات (فيحرم كلُّ ذي نابٍ من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) وقد ورد هذا في عدة أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ منها حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- قال: (نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع) أخرجه البخاري ومسلم، وأيضًا حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَكْلُ كُلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباع حرامٌ) وقد قال الحافظ ابن عبد البر: إن هذا حديث ثابت صحيح مُجمع على صحته، فهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة تدل تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، فيشمل ذلك جميع السباع ذوات الأنياب، يشمل ذلك جميع السباع العادية التي تعتدي بطبعها على الناس ذوات الأنياب، ويشمل ذلك الأسد، والفهد، والنمر، وكذلك القرود، والكلاب، كل هذه يَحرم أكلها، كذلك يشمل جميع الحيوانات ذوات المخالب؛ كالصقر، والنسر، وما ذكره المؤلف الرخم.
وأيضًا ذكر قال: (وغراب البين الأبقع)، يعني هنا المؤلف لم يقل والغراب، وإنما خَصَّ نوعًا من الغراب، وهو غراب البين الأبقع، وهذا يقودنا إلى معرفة أنواع الغربان:
الغربان يقولون: إنها على ثلاثة أنواع:
الأول: كما ذكر المؤلف: (غراب البين الأبقع) وهو الذي فيه سواد وبياض كما قال الجوهري صاحب "الصحاح" وقيل: هو الأحمر المنقار والرجلين، قيل إنه فيه سواد وبياض وهذا هو المشهور، وقيل إنه الأحمر المنقار والرجلين، هذا يسمى غراب البين الأبقع.
الثاني: الحاتم وهو الأسود، الأسود كله أسود هذا يسمى الحاتم
الثالث: غراب الزرع، وهو الصغير الأسود ويقال إنه يسمى الغداف.
المشهور من مذهب الحنابلة أن المحرم من الغربان هو غراب البين الأبقع فقط، وأما الحاتم وغراب الزرع؛ فلا يحرم أكلهما، هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.(1/11)
ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى تحريم الغراب بجميع أنواعه، وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ لعموم الحديث، ومما ورد في ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم) وذكر منها الغراب. فإباحة قتلها في الحرم دليل على تحريم أكلها.
أيضًا قال: (والحُمُر الأهلية) وكانت قد أُبيحت ثم حُرِّمَت، وقد اتفق العلماء على ذلك، ويُفهم من كلام المؤلف أن هناك حُمُرًا مباحة، وهي الحُمُر الوحشية، الحُمُر الوحشية يُباح أكلها، بل هي من الصيد، ولذلك يَحرم على المُحْرِم صيدُها وإن كانت الآن لا توجد، لكن قد كانت في أزمنة سابقة موجودة، فربما يأتي يوم توجد فيه مثل هذه الحُمُر، فنقول: إن الحُمُر الوحشية يُباح أكلها، أما الحُمُر الأهلية؛ فحرام أكل لحمها.
وهذا أيضًا قد دل له أدلة كثيرة منها حديث خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (حرامٌ عليكم الحُمُرُ الأهليةُ، وكلُّ ذي نابٍ مِنَ السباع، وكلُّ ذي مخلب من الطير)، وأيضًا حديث جابر -رضي الله عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى يومَ خيبر عن لحوم الحُمُرِ الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) وهذا الحديث في الصحيحين.
قال: (والبغال): البغل متولد من الفرس والحمار، هو حيوان يقولون إنه لا يولد له، وهو متولد من حيوانين، من الفرس والحمار، هل يُلحق هذا البغل بالفرس الذي يُباح أكله على الراجح وسيأتي أم يُلحق بالحمار الذي يَحرم أكله؟
نقول: يُلحق بالحمار، يُغَلَّب جانب الحذر، ويدل لذلك حديث جابر -رضي الله عنه- قال: (ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البغال والحُمُرِ ولم ينْهنا عَنِ الخيل) أخرجه أبو داود وغيره بإسناد حسن. فإذن البغال يَحرم أكلها.(1/12)
قال: (وما يأكل الجيف من الطير): ما يأكل الجيف من الطير أيضًا يَحرم أكله، وكذلك الجلالة، التي تأكل القذر، وتأكل العَذِرَة هذه يحرم أكلها حتى تحبس.
قال: (وما يستخبث من الحشرات) وما يستخبث، من الذي يَستخبث؟ قيل: العرب ذوو اليسار، ولكنَّ هذا محل نظر، هذا وإن كان هو المشهور من مذهب الحنابلة لكن هذا محل نظر، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: "لا أثر لاستخباث العرب، وإن لم يُحَرِّم الشرع؛ حل" قال: "والوصف الخبيث هو وصف قائم بالأعيان، والطيبات هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة للعقول والأخلاق" فيكون الضابط إذن بناءً على ما قرره الشيخ -رحمه الله- في الاستخباث: أن كل ما استخبثه الشارع؛ فهو خبيث، وما لم يستخبثه الشارع؛ فإنه لا يكون خبيثًا.
لكن أيضًا ما لم يرد فيه نص من الشارع، وتستخبثه العقول؛ فإنه أيضًا يكون خبيثًا، وما يضر العقول والأخلاق يكون خبيثًا، ولهذا نحن نقول: إن الدخان يعتبر خبيثًا، ولعله يدخل في قول الله -تعالى-: ?وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ? [الأعراف: 157] وذلك؛ أن العقول السليمة والفِطَر السوية تستخبثه وترى أنه ضارٌّ بالصحة، فيدخل في الخبائث، فيكون إذن هذا هو الضابط للاستخباث.
قال: (وما يُستخبث من الحشرات) قال الوزير ابن غبيرة: "اتفقوا على أن حشرات الأرض مُحَرَّمة" يعني يَحرم أكلُ الحشرات، وهذا قد يوجد لدى بعض الشعوب، يأكلون الحشرات، نقول: إن الحشرات يَحرم أكلها.
قال: (إلا مالكًا فإنه كرهها في رواية)، قال: (كالفأر ونحوه) يعني أنه يَحرم أكل الفأر ونحوها؛ لأنها من الخبائث.
((1/13)
إلا اليربوع) اليربوع ويسميه بعض الناس بالجربوع، هذا يُباح أكله، والدليل على ذلك: أن عمر -رضي الله عنه- حكم فيه بجفرة، أخرجه الإمام مالك بسند صحيح، والجفرة هي الأنثى من ولد الماعز إذا بلغ أربعة أشهر، الأنثى من ولد الماعز إذا بلغ أربعة أشهر يُسمى جفرة، فعمر -رضي الله عنه- حكم في اليربوع بجفرة، وهذا يدل على أنه صيد، وإذا كان صيدًا فإنه يُباح أكله، فإذن لا بأس بأكل اليرابيع أو الجرابيع، يسميها بعض الناس الجرابيع أو اليرابيع يعني يصح هذا وهذا، لكن المشهور أنها بالياء، اليربوع أو الجربوع يُباح أكل لحمه؛ لأن عمر -رضي الله عنه- حكم فيه بجفرة، وهذا يدل على أنه صيد.
قال: (والضَّبّ؛ لأنه أُكِلَ على مائدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ينظر وقيل له: (أحرام هو؟! قال: لا)) وهذا قد جاء في الصحيحين: أن الضب أُكِلَ على مائدة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء في حديث ابن عباس قال: (دخلت أنا وخالد بن الوليد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت ميمونة فأُتِيَ بِضَبٍّ، فقيل: يا رسول الله! هو ضب) لما أراد -عليه الصلاة والسلام- أن يأكل قيل: (هو ضب، فرفع يده، فقيل: يا رسول الله! أحرام هو؟! قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجد نفسي تعافه) أو قال: (فأجدني أعافه) قال خالد: (فاجْتَرَرْتُه وأكله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر) وهذا إقرار من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأكله، ولو كان حرامًا؛ لما أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة على أكله، فدل ذلك على أن أكل لحم الضب أنه مُباح.
قال: (وما عدا هذا مُباح) يعني مما ذُكِرَ. وما عدا هذا مما ذُكِرَ.
من الحشرات يا شيخ؟(1/14)
مما ذكره المؤلف، يعني المؤلف ذكر لنا الضوابط فيما يَحرم من الحيوان، يقول: ما عدا ذلك الأصل أنه مُباح في الجملة طبعًا، وإلا؛ فهناك أشياء لم يذكرها المؤلف، يعني هناك مثلاً القنفذ، والنيس هذه نص فقهاء الحنابلة على تحريم أكلها، ويرد فيها أيضًا أسئلة من بعض الناس يقولون إنها توصف لمن كان عنده مرض الأعصاب هل يُباح أكلها أم لا؟
فقهاء الحنابلة ينصون على تحريم أكل لحم القنفذ، ومن أهل العلم من يرى إباحة أكله؛ لأن الحديث الوارد في سنده مقال، الحديث الوارد في النهي عنه في سنده مقال، ولكن فقهاء الحنابلة ينصون على تحريم أكله.
قال: (ويباح أكل الخيل) الخيل يرى المؤلف أن أكل لحم الخيل مُباح، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين مشهورين:
القول الأول: هو القول الذي حكاه المؤلف وهو إباحة أكل لحم الخيل، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أسماء قالت: (ذبحنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرسًا ونحن بالمدينة فأكلناه) وهذا قلنا إنه في الصحيحين، أيضًا جاء في حديث آخر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث جابر -رضي الله عنه-: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية وأذن في لحوم الخيل) وهذا في الصحيحين أيضًا.
القول الثاني: وهو مذهب الحنفية وهو المشهور من مذهب المالكية تحريم أكل لحم الخيل، واستدلوا لذلك بحديث خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قال: (نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.(1/15)
والقول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو إباحة أكل لحم الخيل، وذلك؛ لقوة أدلته، فإن حديث جابر، وحديث أسماء في الصحيحين، وأما حديث خالد الذي ورد فيه النهي عن أكل لحم الخيل؛ فحديث ضعيف، وفيه نكارة، وذلك؛ أن في سياقه أن خالد بن الوليد شَهِدَ خيبر، ومعلوم أن خالد بن الوليد لم يُسلم إلا بعد خيبر، وبكل حال فهذا الحديث حديث ضعيف، وبهذا يتبين أن القول الراجح في هذه المسألة هو إباحة أكل لحم الخيل كما هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
بقي معنا مسألة أخيرة في هذا الباب وهي الضبع، قال: (وسَمَّى الضبع صيدًا) حكم أكل لحم الضبع. يرى المؤلف أن أكل لحم الضبع أنه مباح، قال: (واستدل لذلك: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سَمَّى لحم الضبع صيدًا) كما جاء في حديث جابر قال: (أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأكل الضبع، فقلت يا رسول الله: صيد هو؟) أو قال: (صيد هي: قال: نعم) وهذا الحديث رواه أبو داود واحتج به الإمام أحمد، وقد جاء في رواية عند أبي داود، قال: (سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الضبع فقال: هو صيد ويُجعل فيه كبش إذا صاده المحرم)، ومعروف عند الفقهاء أن المُحْرِم إذا صاد الضبع فإنه يُجْعَل فيه كبش، وهذا يدل على إباحة أكل لحم الضبع، لكن يرد علينا إشكال هنا وهو: كيف نقول: إنه يُباح أكل لحم الضبع ومعلوم أن الضباع لها ناب، وسبق أن قلنا: إن الأصل هو تحريم كل ذي ناب من السباع؛ فكيف نجيب عن هذا الإشكال؟!
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استثنى من كل ذي ناب الضبعَ.
استثناها بماذا؟
طيب هل المعول عليه أو المعتبر أنه إذا كان له ناب فإنه يَحْرم أم نحتاج إلى قيد آخر؟(1/16)
نقول: نحتاج إلى قيد آخر، يعني كونه ذا ناب ويعدو بطبعه، هذا هو المُحَرَّم، والضبع وإن كان ذا ناب إلا أنه لا يعدو بطبعه، يقول: لا يعدو بطبعه، وإنما يعدو بصفة عارضة، إذا اعتدى عليه الإنسان ربما يعدو عليه، يعني أي حيوان في الدنيا يدافع عن نفسه، والإنسان من باب أولى بالدفاع عن النفس، فمن اعتدى على الضبع فسوف يدافع عن نفسه، وربما يفترس الذي اعتدى عليه، أيضًا يقولون عندما تجوع جوعًا شديدًا ربما أنها تفترس الإنسان، لكنها بطبعها الضبع بطبعها ليست عادية، يعني لا تعتدي بطبعها، ولذلك نحتاج إلى قيد في تحريم الحيوانات ذوات الناب من السباع نقول: إن المعتبر هو أن يكون ذا ناب من السباع وأن يعدو بطبعه، فإذا قلنا ذلك؛ لا يرد علينا هذا الإشكال؛ لأننا نقول: إن الضبع وإن كانت ذات ناب إلا أنها لا تعدو بطبعها وحينئذ يكون أكل لحمها مباحًا حلالاً.
هذه هي أبرز الأحكام المتعلقة بهذا الباب وما تبقى من الوقت نتركه للأسئلة من الإخوة المشاهدين ومن الإخوة الموجدين معنا في الأستوديو.
يقول: ما حكم أكل النعام؟.
النعام حلال أكله طيب، ومن الطعام الطيب، لا بأس بأكل النعام.
يقول: هل البول نجس وينقض الوضوء؟.
خروج البول؟
يبدو لي نفس البول مادة البول.(1/17)
البول لا شك في نجاستها، مُجْمَع على نجاسته، وخروجه ناقض للوضوء، لكن هذا بول الإنسان إذا كان يقصد بول الإنسان، أما بول الحيوان؛ فإن كانت الحيوانات المباحة التي تحل بالتذكية؛ فإن بولها طاهر وليس نجسًا؛ كأبوال الإبل والبقر والغنم هذه طاهرة، ويُباح شربها، ويدل لذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل، ولو كانت نجسة؛ لما أمرهم بذلك، وأيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف على بعيره، لما طاف في أول الأمر ماشيًا ثم اجتمع عليه الناس وغشاه الناس فركب بعيره وطاف على بعيره، ومعلوم أن البعير ربما يخرج منه البول، لو كان نجسًا لما فعل ذلك -عليه الصلاة والسلام- وأدلة أخرى. المقصود أن أبوال الإبل وكذلك البقر والغنم أنها طاهرة ويُباح شربها؛ لأنها أيضًا قد توصف أبوال الإبل على وجه الخصوص للشفاء من بعض الأمراض، وقد كُتِبَ في هذا بعض الأبحاث في أنها بإذن الله يُستشفى بأبوال الإبل من أمراض معينة، كتب في ذلك مَنْ كتب خاصةً من يكتب في الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، ذكروا في هذا كلامًا كثيرًا. المقصود أن أبوال الإبل طاهرة، وأنها يُباح شربها، وهكذا أبوال البقر وأبوال الغنم، فما يُباح أكل لحمه يكون بوله طاهرًا، أما ما يَحرم أكل لحمه؛ فإن بوله نجس، وعلى ذلك بول الهرة مثلاً أو السباع ونحوها هذه نجسة؛ لأنه يَحرم أكلها فتكون أبوالها نجسة.
يقول: هل نقيس على قليل الكحول في تحريمه مادة الجلاتين وهي نوع من دهون الخنازير يضعونها في معظم الأطعمة والأدوية هنا في الغرب؟.(1/18)
نعم.. الجلاتين إذا كانت المادة في أصلها من الخنزير، كانت مادة متميزة واضحة؛ فإن الأصل في لحم الخنزير أنه لا يجوز، لكن لو كانت كما قلنا في الكحول أو على افتراض هذا أنها يسيرة جدًّا، وأنها مضمحلة ولا أثر لها؛ فحينئذ يكون الحكم فيها -كما قلنا- في الكحول، لكن إذا كانت متميزة وواضحة، ولها أثر؛ فتبقى على الأصل وهو أن الأصل تحريم أكل لحم الخنزير، قَلَّ أم كَثُر.
أسئلة الحلقة.
الدرس القادم -إن شاء الله- غدًا -إن شاء الله تعالى- سيكون في مسائل وأحكام الذكاة، وسنضع سؤالين في هذا الباب من باب تحفيز الإخوة المشاهدين على المراجعة والبحث والتحضير لهذا الدرس.
السؤال الأول: ما الذي يُشترط قطعه من الحيوان لتمام التذكية؟
السؤال الثاني: إذا صدمت سيارة جملاً فمات وسال منه الدم؛ فهل يحل أكل لحمه؟ إذا صدمت سيارة جملاً فمات وسال منه الدم يعني أنهر منه الدم وسال هل يحل أكل لحمه أم لا؟
يقول: علة ما استقبحه العرب هل لها ضابط معين؟.
ذكرنا أن هذا القول وهو إرجاع الاستخباث لذوي اليسار من العرب، قلنا وإن كان هذا قولاً مشهورًا للحنابلة إلا أن الصحيح هو عدم اعتبار هذا الضابط؛ لأن العرب قد تستخبث شيئًا مباحًا، وقد تستطيب شيئًا مُحَرَّمًا في الشرع، يعني أنا قصدي بهذا العرب في الجاهلية، قد تكون عندها بعض الأشياء تستطيبها وهي حَرَّمَها الشرع واعتبرها خبيثة وقد يكون العكس، ولهذا قلنا: إن الصواب في ضابط الاستخباث هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذا وفَصَّلنا الكلام في هذا.
يقول: القاعدة الفقهية: "الضرورات تبيح المحذورات" إذا كان الضفدع من الضرورات بالعلاج فهل يجوز اتخاذه؟.(1/19)
أولاً لا نسلم مسألة أن هناك ضرورة في استخدام الضفدع، والطب في الوقت الحاضر تقدم والبدائل كثيرة، فربما يُقال بهذا في زمن سابق، لكن في وقتنا الحاضر تقدم الطب تقدمًا كبيرًا وأصبحت البدائل كثيرة، ولهذا لا ترد مثل هذه المسألة، لكن لو قُدِّرَ ولو افترضنا افتراضًا حصول مثل ذلك، وأن المسألة وصلت مسألة ضرورة؛ فالقاعدة "أن الضرورات تبيح المحذورات" وأيضًا "الضرورات تُقَدَّرُ بقدرها".
يقول: مس بول الإنسان هل ينقض الوضوء؟.
لا ينقض الوضوء، حتى لو وقع على الإنسان بول فإنه يغسل هذا البول، ولا ينتقض وضوؤه.(1/20)
الفقه - المستوى السابع
الدرس السادس عشر
الدرس السادس عشر - باب الزكاة
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إجابة أسئلة الدرس الماضي.
السؤال الأول: ما الذي يُشترط قطعُه من الحيوان لتذكيته؟
يقول:
أربعة أمور: الودجان، والحلقوم، والمريء، واختلف في قطع جزء من الأربعة، قيل: إذا قطع ثلاثة من أربعة تَحِلّ البهيمة، هذا رأي الجمهور وعملاً بالأحوط، وأما الشافعي؛ فيرى قطع الودجين والمريء يكفي، واختار مالك الودجان والحلقوم يكفي.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
الدرس الذي معنا هذا اليوم هو باب الذكاة، ومن عادتنا أننا نطرح سؤالين في الدرس الذي نريد شرحه؛ وذلك حتى يكون في ذلك تشجيع للإخوة المشاهدين على تحضير الدرس الذي سوف نشرحه.
كان السؤال الأول عمَّا يُشْترط قطعه لتمام التذكية، وكما ذكر الأخ إجابته صحيحة ونموذجية أنَّ هناك أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجان، إذا قطعها كلها فباتفاق العلماء أن ذلك مجزئ، لكن إذا قطع اثنين منها؛ فهل يجزئ أم لا؟
المؤلف ذهب إلى أنه لو قطع الحلقوم والمريء؛ أجزأ، ولكن الصحيح أنه لا بد من قطع ثلاثة من هذه الأربعة، الحلقوم والمريء والودجين، لا بد من قطع ثلاثة من هذه الأربعة، وسنسلط الضوء على هذه المسألة -إن شاء الله تعالى- عندما نأتي إلى موضعها من كلام المؤلف رحمه الله.
السؤال الثاني حول مسألة إذا صدمت سيارة جملاً ومات وسال منه الدم هل يؤكل لحمه؟(1/1)
يقول: ما دام مات ولم يُذَكَّ؛ فهو حيٌّ حياة تحصل بها التذكية، ولم يُذكر عليه اسم الله فهو حرام لا يؤكل، ولو سال دمه، ولله -تعالى- في الآية الثالثة من سورة المائدة: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ? إلى قوله: ?إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ? [المائدة: 3].
نعم.. نشكر الأخ على هذه الإجابة، إجابة صحيحة ونموذجية، هذا الجمل الذي صدمته سيارة يعتبر وقيذا، والله -تعالى- حَرَّمَ علينا الموقوذة، والموقوذة هي التي تُضرب حتى تموت، كذلك أيضًا ما يموت مصدومًا بسيارة ونحوها فإنه يكون من الموقوذة، ويكون حراما أكله حتى ولو سال منه دم، وإنما قلنا في السؤال: "لو سال منه دم"؛ لأن بعض الناس يظن أنه إذا حصل إِنْهار الدم في مثل هذا أنه يكفي، وهذا غير صحيح، هذا فهم غير صحيح، فمثل هذا الذي يموت، بالضرب أو الصدم، أو الخنق هذا كله حرام للآية الكريمة، الآية الثالثة من سورة المائدة: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ...? [المائدة: 3] إلى آخر الآية.
إذن نبدأ في درسنا، قال المؤلف -رحمه الله-: (باب الذكاة) الذكاة معناها في اللغة تمام الشيء، ومنه الذكاء، يُقال فلان ذكي إذا كان تامَّ العقل سريع القبول، فإذن هذه المادة مادة "الذال" و"الكاف" و"الألف" تدور حول معنى التمام، فمعنى الذكاة في اللغة: يعني تمام الشيء، ومعناه اصطلاحًا: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البريّ، أو عقر ممتنع، فَشَمَلَ هذا التعريف الأقسام الثلاثة: ذبح الحيوان، ونحر الحيوان، وعقره، وكل هذه الأقسام سنتكلم عنها -إن شاء الله- بالتفصيل، وقولنا: "البريّ" يُفهم منه: أن الحيوان البحري لا يُذَكَّى، وهو كذلك، وأيضًا سنبين هذا إن شاء الله.(1/2)
الحكمة من مشروعية التذكية: هي تطييب الحيوان المُذَكَّى، وذلك أن الميتة إنما حُرِّمَت لاحتقان الرطوبات والفضلات والدم الخبيث فيها، فهي مُضِرَّة بالبدن، أكلها مُضر بالصحة، والذكاة تُزيل الدم والفضلات، ولهذا نجد بعض الناس من غير المسلمين ينادون بالتذكية رغم أنهم لا يدينون بدين الإسلام، لكنهم يعرفون أن أكل الميتة أنه مُضر بالصحة ضررًا بليغًا؛ لأن الميتة يحتقن فيها الدم والفضلات والسموم التي تضر بالدن، والتذكية تزيل هذه الفضلات وهذه السموم، والله -تعالى- لا يشرع شيئًا إلا لحكمة، ولا ينهى عن شيء إلا لحكمة، فهو أحكم الحاكمين، وحكمه وشرعه حكمة الحِكَم، وغاية الحكم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (يُباح كل ما في البحر بغير ذكاة) هذه تصلح أن تكون قاعدة، كل حيوانات البحر تُباح بغير ذكاة، الأسماك والحيتان وقلنا في درس الأمس: إن حيوانات البحر تُشكل ثلاثة أرباع حيوانات الأرض، يعني ثلاثة أرباع حيوانات الأرض حلال وأيضًا بغير ذكاة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في البحر: (الحِلُ ميتته، والطهور ماؤه)، وقد تكرر معنا هذا الحديث في أكثر من موضع، أيضًا ولقول الله -تعالى- في سورة المائدة: ?أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ? [المائدة: 96]، قال ابن عباس: "صيد البحر ما أُخِذَ حيًّا وطعامه ما قَذَفَ ميتًا" فهذا يدل على أن حيوانات البحر تَحِل لنا بغير ذكاة.
قال: (إلا ما يعيش في البر؛ فلا يَحِلُّ حتى يُذَكَّى)
قوله (إلا) هذا استثناء من حيوانات البحر، (إلا ما يعيش)؛ أي من حيوانات البحر (في البر) (ما يعيش من حيوانات البحر في البر فلا يَحِل حتى يُذَكَّى)
قالوا: مثل كلب الماء، والسلحفاة، فهذه يقولون: لا بد من تذكيتها، ولهذا قال الإمام أحمد قال: "كلب الماء نذبحه، ولا أرى بأسًا بالسلحفاة إذا ذُبِحَ"، فإذن السلحفاة أيضًا من الحيوانات التي يُباح أكلها.(1/3)
وتعتبر هذه الحيوانات هي حيوانات برمائية؟.
حيوانات برمائية نعم.
قال: (إلا السرطان ونحوه)
السرطان حيوان معروف يقولون: إنه ليس له دم يسيل، يعبر عنه بعض الفقهاء: أنه لا نفس له سائلة، فهذا يُباح بغير ذكاة؛ لأنه لو ذُكِّيَ ما خرج منه دم؛ فلا فائدة من تذكيته حينئذ، ولذلك استثنوه وقالوا: إنه يُباح بدون ذكاة.
قال: (ولا يُباح من البر شيء بغير ذكاة إلا الجراد وشبهه) الحيوانات البرية لا بد من تذكيتها، ولهذا نحن ذكرنا في تعريف الذكاة قلنا: ذبح أو نحر الحيوان المأكول البريّ، فالأصل في الحيوانات البرية أنه لا بد من تذكيتها.
لكن يستثنى من ذلك الجراد، فإن الجراد حيوان بري، ويُباح بغير ذكاة، هو حيوان مباح بالإجماع؛ لقول عبد الله بن أبي أوفى: "غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات نأكل الجراد" أخرجه البخاري ومسلم، وأيضًا لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (أُحلت لنا ميتتان ودمان)، وقال: (الميتتان: السمك والجراد)، فالجراد إذن يباح بدون ذكاة، ولا زال الناس من قديم الزمان إلى وقتنا هذا يأكلون الجراد بدون ذكاة.
قال: (والذكاة تنقسم إلى ثلاثة أقسام) الأقسام الثلاثة التي أشرنا لها في التعريف، وهي قال: (نحر، وذبح، وعقر) هذه أقسام الذكاة: نحر، وذبح، وعقر.
ما معنى النحر؟ وما معنى الذبح؟ وما معنى العقر؟
النحر يكون للإبل، ومعناه: أن يضربها بسكين أو نحوها في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، الوهدة التي بين أصل عنق الجمل وصدره، يضربها بحربة أو سكين ونحوها، هذا يُسمَّى نحرًا، وهذا إنما يكون للإبل.
أما الذبح؛ فهو قطع الحلقوم والمريء والودجين، يعني الرقبة والحلقوم والمريء والودجين، والودجان: هما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء.(1/4)
وأما العَقْر؛ فإنه يكون في الصيد، وما لا يُقدر على تذكيته، وذلك بأن يرميه أو يطعنه برمح أو سكين ونحو ذلك، يعني صيدا أو مثلاً جمل هرب وما استطاعوا عليه، فيطعنه أحد الحاضرين بسكين أو برمح أو بسيف أو نحو ذلك، هذا يُسمى عَقْرا، وسنتكلم -إن شاء الله- عنه وسنذكر الدليل له.
قال: (فإن نَحَرَ ما يُذبح، أو ذَبَحَ ما يُنْحَر؛ فجائزٌ)
نحن قلنا النحر يكون لأي شيء؟
للإبل، والذبح لغيرها، والعَقْر يكون للصيد وما يَمْتَنع من الحيوان، لو أنه ذبح ما ينحر، إنسان أتى لجمل وذبحه بسكين كما يذبح الشاة، ومات هذا الحيوان، يصح أم لا يصح؟
نقول: يصح، أو العكس، نَحَرَ ما يُذبح؛ أتى للبقرة أو الغنم فنحره نَحرًا، فيصح، ويدل لذلك:
أولاً: حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَمِرَّ الدم بما شئت) أخرجه أبو داود وغيره وهو حديث حسن.
ثانيا: ما جاء في الصحيحين عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: (نَحَرْنا فرسًا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأكلناه).
قولها: (نَحَرْنا فرسًا) ومعلوم أن الفرس يُذبح، ومع ذلك قالت: (نَحَرْنا فرسًا).
ثالثا: جاء في الصحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نَحَرَ في حجة الوداع عن نسائه البقر، ومعلوم أن البقر يُذبح، ومع ذلك الراوي قال: (نَحَرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البقر) فدل ذلك على أن لو نُحِرَ ما يُذبح أو ذُبِحَ ما يُنحر أن ذلك لا بأس به، لكن الأفضل والسنة هو أن النَحْرَ يكون للإبل، والذبح يكون لما عداها ?وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ? [الحج: 36].
قال: (ويشترط للذكاة ثلاثة شروط) انتقل المؤلف لبيان شروط الذكاة:
الشرط الأول:(1/5)
قال: (أحدها أهلية المُذَكِّي)؛ أي بأن يكون المُذَكِّي أهلاً الذابح الذي يتولى الذبح أو النحر يكون أهلاً. كيف يكون أهلاً؟
قال: (وهو أن يكون عاقلاً قادرًا على الذبح)
أولاً: يكون عاقلاً؛ بأن لا يكون مجنونًا وأن لا يكون طفلاً، ولهذا استدرك المؤلف قال: (فأما الطفل والمجنون والسكران؛ فلا تَحِلُّ ذبيحتهم) المجنون لا تَحِلُ ذبيحته؛ لأنه يُشترط للذبح صحة القصد والإرادة، لقول الله -تعالى-: ?إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ? [المائدة: 3] فأضاف التذكية إلى المخاطبين، وهو ظاهر في إرادة الفعل، وما لا يمكن منه القصد لا تمكن منه الإرادة، ومعلوم أن المجنون لا يمكن منه الإرادة على وجه صحيح، وكذلك أيضاً الطفل، الطفل لا يعقل النية، الطفل غير المميز، طفل مثلاً عمره أربع سنين لا يصح ذبحه ولا نَحْرُهُ، لكن الطفل المميز يصحّ ذَبْحُهُ، ولهذا نقول: قال ابن المنذر -رحمه الله-: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي".
نحن قلنا: يُشترط في الصبي أن يكون مميزًا. ما الضابط في التمييز؟
اختلف العلماء في ضابط التمييز، قيل إن المميز هو من يفهم الخطاب ويرد الجواب، والحقيقة أننا لو قلنا بهذا الضابط يرد علينا إشكال؛ إذ أن بعض الأطفال يفهم الخطاب ويرد الجواب وعمره سنتان أو ثلاث سنوات؛ فهل نقول إن هذا مميز؟! يعني يوجد أطفال الآن يفهمون الخطاب ويردون الجواب وهم غير مميزين قطعًا، يعني هذا مما يثير إشكالاً على هذا الضابط، وإذا نظرنا للأدلة الواردة في ذلك نجد أن الوارد في ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حَدَّدَ السنَّ الذي يؤمر به الصبيُّ، وهو سبع سنوات.(1/6)
وحينئذ؛ فالأقرب -والله أعلم- في تحديد سن التمييز أنه سبع سنوات؛ لأنها السن التي يُمَيز فيها الصبي غالبًا، والعبرة في الأحكام بالغالب، صحيح أنه قد يميز بعض الصبيان قبل هذه السن وربما أيضًا بعضهم قد يتأخر عن هذه السن وإن كانوا قلة إلا أن العبرة بالغالب، فأناط الشرع الحكم بالغالب، ولهذا نقول: إن الصحيح في اعتبار التمييز هو بلوغ سبع سنين، وكما قلنا في درس سابق: المقصود إذا أتم السابعة ودخل الثامنة، وكذلك أيضًا إذا قلنا عشر يعني أتم العاشرة ودخل الحادية عشرة، وإذا قلنا: سن البلوغ خمسة عشرة يعني أتم الخمسة عشرة ودخل السادسة عشرة، هذا المقصود بتحديد السن عند الفقهاء.
إذن ذبح الصبي المميز قلنا إنه صحيح، كذلك أيضًا المرأة أيضًا صحيح كما نقل ذلك ابن المنذر، نقل ابن منذر الإجماع على ذلك، ويدل لذلك أيضًا قصة جارية كعب بن مالك لَمَّا ذبحت شاة بعدما اعتدى عليها الذئب، فأخذت حجرًا محددًا وذبحت به الشاة وسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال -عليه الصلاة والسلام-: (كُلُوه) فدل ذلك على أن الذبح يصح من المرأة، كما أنه يصح من الصبي، وقصة جارية كعب بن مالك في الصحيحين: (أنها كانت ترعى غنمًا فأصيبت شاة منها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال: كُلُوه).
قال: (قادرًا على الذبح) فإن كان غير قادرٍ على الذبح أيضًا لا يصح ذبحه، (مسلمًا أو كتابيًا) يعني يشترط في المذكى أن يكون مسلمًا وهذا ظاهر أو يكون كتابيًا، ما المقصود بالكتابي إذا قيل: "كتابي" و"أهل الكتاب"؟
اليهود والنصارى.
المقصود بهم اليهود والنصارى، إذن المقصود بالكتابي أو أهل الكتاب اليهود والنصارى، المجوس يدخلون معهم؟
لا.
لا يدخلون، المجوس قيل إن لهم شبهة كتاب لكن الصحيح أنهم ليسوا من أهل الكتاب، فأهل الكتاب هم اليهود والنصارى.(1/7)
هؤلاء أباح الله -تعالى- لنا نساءهم وذبائحهم، يعني يجوز للمسلم أن يتزوج باليهودية وبالنصرانية كما يجوز أيضًا للمسلم أن يأكل ذبيحة اليهودي والنصراني، هذا قد أَحَلَّهُ الله -تعالى- لنا في كتابه الكريم.
بالنسبة للزواج.
طبعًا يشترط أن يَكُنَّ محصنات؛ أي عفيفات، فإن كنَّ عفيفات؛ أي معروفات بأنهن من أسر عفيفة محافظة؛ فإنه لا بأس بأن يتزوج مسلم اليهودية أو النصرانية، لكن إذا كانت غير عفيفة؛ فإن هذا لا يجوز، فلا بد من هذا الشرط.
بالنسبة للذبائح، بعض النصارى ينسلخ من ديانته، وإن كان يسمى بأنه نصراني أو أنه مسيحي هل يدخل فيه؟.
النصارى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وأي كفر أعظم من هذا؟! وأي انسلاخ أعظم من هذا؟! ومع ذلك الذي ذكر عنهم وهو الله –سبحانه- الذي ذكر عنهم أنهم قالوا: إن المسيح هو ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة هو الذي لنا ذبائحهم، ذكر الله -تعالى- هذا في القرآن وأحل لنا ذبائحهم، فحينئذ ما دام ينتسب لأمة نصرانية فَتَحِلّ لنا ذبيحته، وهكذا إذا كان ينتسب لأمة يهودية فَتَحِل لنا ذبيحته.
وبناءً على ذلك الذبائح المستوردة من الدواجن وغيرها نقول:
إن كانت مستوردة من أمة يهودية أو نصرانية؛ فهي حلال لنا، إلا إذا عَلِمت بأنها ذُبِحت بالصَعْق مثلاً؛ أي لم تُذكَّ، فهنا لا تأكل منها. لكن إذا كنت لا تعلم فتبني الأمر على الأصل، ولهذا جاء في صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-: (أن قومًا أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله! إن قومًا يأتوننا بلحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: سَمُّوا أنتم وكلوا).(1/8)
فقوله -عليه الصلاة والسلام-: (سَمُّوا أنتم وكلو) فيه دليل على أنه لا ينبغي للإنسان يسأل، ما داموا أنهم أهل كتاب فتأكل ولا تسأل، لا تسأل هل سَمَّوْا أو لم يُسَمُّوا؟ هل ذَكَّوْا أو لم يُذَكُّوا؟ لا تسأل. بل قال بعض أهل العلم: في قوله: (سَمُّوا أنتم وكلوا) فيه نوع من التوبيخ لهم، يعني لا تسألوا مثل هذه الأسئلة.
صحيح أن بعض الناس يقول: إنه لَمَّا كَثُرَت شهادات من شهدوا بأن كثيرا من المصانع في بعض الدول أنهم يصعقون الحيوانات ولا يُذَكُّونَها التذكية الشرعية يقول: أنا أتورع، نقول: الورع طيب، لكن لا يُحَرِّم الإنسان هذا على غيره، كون الإنسان يتورع لنفسه فلا يأكل هذه الذبائح المستوردة، لا يأكل الدجاج المستورد، لا يأكل الذبيحة المستوردة هذا من الورع المحمود؛ لأن الورع هو ترك ما يُخشى ضرره، لكن لا يُحَرِّم هذا على غيره، ولا يُنكر على الذين يأكلون هذه الذبائح، فرق بين كون الإنسان يتورع لنفسه، وبين كونه يُحَرِّم هذا على غيره، فليس الإنسان يُحَرِّم ذبائح أهل الكتاب، والله -تعالى- قد أباحها لنا في كتابه الكريم.
(أما إذا كانت هذه الذبائح من غير أهل الكتاب) من مثلاً هندوس أو وثنيين أو شيوعيين فإنها لا تَحِل، لا تَحِل مطلقًا. وعلى ذلك؛ فلا يجوز أكل ذبائح غير أهل الكتاب، لو وردت لنا ذبائح من أمة ليست يهودية ولا نصرانية؛ فإنه لا يجوز أكل ذبائحها، يعني من قوم كفار ليسوا يهودًا ولا نصارى فإنه لا يَحِل لنا أكل ذبائحهم.
نعود لعبارة المؤلف، قال: (فأما الطفل والمجنون)
قلنا لا تَحِل ذبيحتهم وعرفنا العلة في هذا، قال: (والسكران) أيضًا لا تَحِل ذبيحته؛ لأن السكران لا يعقل، ولذلك قال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ? [النساء: 43] فدل ذلك على أن السكران لا يعلم ما يقول.
((1/9)
والكافر الذي ليس بكتابي) كما أشرنا الكافر البوذي أو الوثنيّ، أو الشيوعيّ، هذا لا تَحِلّ ذبيحته، إنما تَحِل ذبيحة الكافر اليهودي أو النصراني فقط، إذن هذا هو الشرط الأول.
الشرط الثاني:
قال: (أن يَذْكر اسم الله -تعالى- عند الذبح وإرسال الآلة في الصيد إن كان ناطقًا) وذلك؛ لقول الله -تعالى-: ?وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? [الأنعام: 121]، فلا بد من أن يَذْكر اسم الله -تعالى- عليه، ويقول: باسم الله وجوبًا يعني أن هذا أمر واجب، ويُستحب أن يضيف لها التكبير، يقول: الله أكبر باسم الله والله أكبر، هذه هي السنة أن يُقال ذلك عند الذبح، وكذلك أيضًا عند إرسال الآلة في الصيد يُسَمِّي.
قال: (إن كان ناطقًا، وإن كان أخرس أشار إلى السماء) إن كان أخرس؛ فيأتي بأي إشارة تدل على التسمية، يعني لا يلزم أن يُشير إلى السماء فقط، يعني أي إشارة تدل على التسمية.
(فإن تَرَكَ التسمية على الذبيحة عامدًا؛ لم تَحِل)
إن تعمد ترك التسمية؛ فإنها حرام لا تَحِل، بل إنها فسق؛ لقول الله -تعالى-: ?وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? [الأنعام: 121] وهذا يدل على تحريم ذلك، وهذه الذبيحة التي لم يُذْكَر اسم الله عليها حرام.
قال: (وإن تركها ساهيًا؛ حلت) يعني إن ترك التسمية ساهيًا حلت، إنسان نسيَ أن يُسَمِّي عند الذبح، فهل ذبيحته حرام أم حلال؟!(1/10)
يقول المؤلف: إنها حلال، ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عُفِيَ لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وهو حديث صحيح، وأيضًا قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا ذبح المسلم وَنَسِيَ أن يذكر اسم الله؛ فليأكل" أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وصحح إسناده الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وهو مرويٌّ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ويدل لذلك أيضًا، يعني بعض أهل العلم استنبط من قول الله -تعالى-: ?وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? قالوا: إن من نسي أن يذكر اسم الله -تعالى- عند الذبح لا يسمى فاسقًا، فدل ذلك على أن المقصود بالآية من ترك التسمية عامدًا، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنه إذا نسي التسمية عند الذبح؛ فإن الذبيحة لا تَحِل، وهو قول قوي، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ولكن الأقرب والله أعلم هو ما ذهب إليه الجمهور؛ من أنه إذا نسي أن يذكر اسم الله -تعالى- عند الذبح؛ فإن الذبيحة حلال، وليست حرامًا؛ لأنه قد نسي وهذه الأمور قد رفع عنها الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولم يتعمد أن يترك التسمية، وهذا هو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وهذا كما ذكرنا هو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية، فإن الأصول والقواعد تقتضي العفو عن الخطإ والنسيان.
وكما قلنا هو المأثور عن بعض الصحابة كابن عباس -رضي الله عنهما- وأيضًا إنما نهى الله -تعالى- عن أكل ما لم يُذْكَر اسم الله عليه إذا كان على وجه العمد بدليل قوله: ?وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? ?وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? ومعلوم أن من ترك التسمية ناسيًا لا يُقال عنه إنه فاسق، وبذلك استدلَّ الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-.(1/11)
فإذن الأقرب أنه لو ترك التسمية ناسيًا فإن الذبيحة حلال، لكن لو تركها عامدًا فإنها حرام، ولا تَحِل وتكون ميتة.
قال المؤلف: (وإن تركه)
الضمير يرجع على ماذا؟
يعني التسمية.
(وإن تركه) يعني التسمية، (على الصيد لم يحل عمدًا كان أو سهوًا) يعني المؤلف فَرَّقَ الآن بين ترك التسمية ناسيًا عند الذبح في الذكاة وترك التسمية ناسيًا عند الصيد، فقال: إنه عند الذبح إنه يُعفى عنه وتكون الذبيحة حلالا، لكن عند الصيد لا يُعفى عنها ويكون الصيد حراما حتى ولو كان ناسيًا.
الحقيقة أن هذا التفريق محل نظر؛ لأنه لا فرق بين الصيد وبين التذكية وبين الذبح، لا فرق بينهما في الحقيقة، فإما أن تقول: إنه لا يحل هذا ولا هذا، أو تقول: إنه يحل هذا وهذا، ولهذا نحن ما دام أننا رَجَّحْنا في مسألة من ترك التسمية عند الذبح ناسيًا أنه تَحِل الذبيحة فكذلك أيضًا تقول عند الصيد: القول الراجح إن من ترك التسمية عند الصيد ناسيًا أن صيده حلال، وهذا؛ للأدلة التي ذكرناها في المسألة السابقة = مسألة الذبح، ومنها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (عُفِيَ لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وما ورد في ذلك من الآثار، فالناسي غير مؤاخَذ في شريعتنا، (عُفِيَ لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وحينئذ نحن نقول: إن القول الراجح إنه لا فرق بين الذبح وبين الصيد في هذه المسألة.
الشرط الثالث:
قال: (أن يُذَكَّى بمحدد سواء كان من حديد، أو حجر، أو قصب، أو غيره إلا السن والظفر) يعني تكون التذكية بمحدد، ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أَنْهَرَ الدم وَذُكِرَ اسم الله عليه؛ فَكُلْ ما لم يكن سنًّا أو ظفرًا) وهذا الحديث في الصحيحين.
قوله: (ما أَنْهَرَ الدم) ومعلوم أنه لا يحصل إِنْهار الدم إلا بالشيء المحدد، إلا بالمحدد، فلا بد من أن تكون التذكية بشيء محدد سواء كان حديدًا كأن تكون سكينا مثلاً ونحوها.
((1/12)
أو حجرً) حتى لو كان الحجر محددًا يصح أن يُذَكَّى به، ويدل لذلك قصة جارية كعب لَمَّا ذكت شاتها بحجر مُحدد وأقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك أو قصب أو غيره. لكن يُستثنى من هذا المحدد السِّنُّ والظفر، فإنهما وإن كانا محدديْن إلا أنه لا تصح التذكية بهما، وذلك؛ لما ورد في الحديث من أن السن عظم وأن ظفر مدي الحبشة، السن عظم وظفر مدي يعني سكاكين الحبشة، كان الواحد منهم يطيل أظفاره حتى تكون طويلة كالسكين، ثم إذا أراد أن يذبح طيرًا أو نحوه بظفره يذبحه بظفره، ونحن نهينا عن التشبه بالكفار، ولهذا لا تكون التذكية بالسن ولا بالظفر.
ثم ذكر المؤلف الحديث وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ؛ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ).
قال: (ويعتبر في الصيد أن يصيد بِمُحدد) انتقل المؤلف إلى الكلام عن الصيد، يقول: (يعتبر أن يصيد بمحدد)؛ كالبندقية مثلاً ونحوها، هذا صيد بمحدد، (أو يرسل جارحًا فيجرح الصيد)
(يرسل جارحً) سنتكلم عن هذا -إن شاء الله تعالى- بالتفصيل، سنتكلم عن الجوارح بالتفصيل لكن لا بد هنا من جرح الصيد، قال: (فإن قتل الصيد بحجر أو بندق أو شبكة؛ فلا يحل)
(إن قتلها الصيد بحجر) يعني رأى مثلاً حمامة وأخذ حجرًا وضربها فماتت؛ فهل تَحِل؟
لا تَحِل؛ لأنه لا بد من أن يكون ذلك بمحدد.
(أو بندق) البندق يقولون هو طين مُدَوَّر كان يُرمى به قديمًا، يسمونه بندقا، فهذا أيضًا لو أخذ هذا الطين ورمى به صيدًا فمات؛ فإنه لا يحل؛ لأنه لا بد من أن يكون الصيد بمحدد.
(أو شبكة) وضع شبكة مثلاً ليصيد بها، شبكة مثلاً يصيد بها حمامًا مثلاً أو أيَّ صيد، ثم لما دخلت هذه الحمامة أو الأرنب أو غيرها من الصيد دخلت في هذه الشبكة ماتت؛ فهل يحل ما في هذه الشبكة؟
لا يحل؛ لأنه لا بد من أن يكون ذلك بمحدد.
((1/13)
أو قتل الجارح والصيد بصدمته) يعني صدمه فمات، أتى الكلب المعلم فصدم هذا الصيد فمات، (أو خنقه) خنقه مثلاً (أو روعته) روَّعه فمات؛ فإنه لا يحل (وإن صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده دون ما قتل بعرضه) وذلك لحديث عدي بن حاتم وهو في الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأله عن الصيد بالمعراض؟ قال: (ما أصاب بحده؛ فَكُلْه وما أصاب بعرضه؛ فهو وقيذ) فلا بد من أن يصيب بحده لكن لو كان بعرضه؛ فيكون ذلك من الموقوذة المحرمة.
المعراض يا شيخ؟
المعراض هو شيء يصيد به الناس، يكون له حدٌّ ويكون له عرض، يكون له شيء محدد يصيد به ويكون له أيضًا جهة ليست محددة فربما أنه يضرب هذا الصيد بهذا العرض وحينئذ قد يموت هذا الصيد فلا يحل، لكن لو أنه أصابه بحد ذلك المعراض؛ فإنه يكون حلالاً، فهي آلة يصطاد بها الناس.
قال: (وإن نَصَبَ المناجيل للصيد وسَمَّى)
(إن نَصَبَ المناجيل) ما المقصود المناجيل؟
المناجيل: جمع منجل، وهي الآلة التي يحش بها ويُحصد بها، فهذه يقول: (إن نصبها للصيد وسَمَّى فَعَقَرت الصيد أو قتلته؛ حَلَّ) يعني هذا الإنسان جعل محشًا منجلاً فصادت الصيد وصدم بها، أو أنها عَقَرَت الصيد، يعني ألقاها على الصيد فعقرته فقتلته؛ فإنه يحل ذلك؛ لأنه قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد فأشبه ما لو رماه بها.
المقصود أنه لا بد في هذا من أن يكون الصيد بمحدد، وعلى ذلك طرحنا سؤالاً في الدرس السابق؛ قلنا: لو أن سيارة صدمت جملاً فمات هذا الجمل؛ فإنه لا يَحِل، ويكون وقيذًا، ولو سال منه الدم، لا بد من أن يكون ذلك بمحدد، لكن لو أن السيارة لَمَّا صدمت هذا الجمل لا زال فيه حياة، فأتى أحد الحاضرين بسكين وَنَحَرَهُ، هل يَحِل؟
يَحِل.
ولهذا في مثل هذه المواقف ينبغي أن يُؤتى بشيء محدد وَيُنْحَر الجمل حتى يحل أكل لحمه فلا يضيع، لكن إذا لم يُفعل ذلك؛ فإن هذا يكون حرامًا.(1/14)
بعض الناس الذين يصيدون يذهب مثلاً يريد أن يصطاد بعض الصيد أرانب مثلاً أو جرابيع أو غيرها، فيلحق الأرنب ويصدمها بسيارته وتموت، هل تَحِل؟
لا تَحِل.
طيب لو أنه صدمها بسيارته وقبل أن تموت ذبحها بالسكين، هل تَحِل؟
نعم تَحِل.
وهكذا يُقال في سائر أنواع الصيد. بهذا نكون قد انتهينا من الفصل الأول من باب الذكاة. وننتقل للفصل الثاني.. قبل أن ننتقل للفصل نتيح فرصة للأسئلة، إذا كان هناك من أسئلة أو استفسارات.
يقول: لو إنسان مثلاً نَصَبَ شيئا مُحَدّدا فضربه صيد مثلاً يا شيخ ليس هناك نية أو قصد؛ فهل يجوز أكله؟ لو نَصَبَ مثلاً بغير قصد أن يصيده به فصاد؛ فهل يجوز يا شيخ؟
لا بد من القصد، لا بد من أن يقصد ذلك، ولهذا حتى لو ألقى بالسكين على الشاة أو على جمل فقتلتها هل تَحِل؟!
لا بد من التذكية لا بد من قصد التذكية؛ لأن الله -تعالى- قال: ?إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ? [المائدة: 3] فأضاف الفعل للمخاطبين، وهذا دليل على أنه لا بد من قصد ومن نية ومن إرادة، ولهذا قلنا: لا تَحِل ذبيحة الطفل، ولا المجنون، ولا السكران؛ لعدم صحة القصد والنية، فلا بد إذن من القصد، ولا بد من النية.
تقول: ما حكم أكل ديدان البحر؟ لأن البعض يُحَرِّمُها؛ لأنها من الدود؟.
نحن ذكرنا قاعدة: "جميع حيوانات البحر حلال" وسَمِّها ما شئت، ولهذا قلنا: ثلاثة أرباع الحيوانات في الكرة الأرضية حلال؛ لأن حيوانات البحر تشكل ثلاثة أرباع حيوانات الأرض، فجميع حيوانات البحر سمها ما شئت، حتى حيات البحر، وكلب البحر هذا على القول الصحيح أنها كلها حلال.
إحدى الأخوات سألت عن خنزير البحر؟.
حتى خنزير البحر، مثل هذه الأسماء لا تؤثر، المقصود أنه من حيوانات البحر، والله -تعالى- قد أحل لنا صيد البحر وطعامه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان) فجميع حيوانات البحر مباحة لنا، وهذا من فضل الله -عز وجل- وتيسيره على عباده ولطفه بهم.(1/15)
تقول: هل السرطان هو الكابوريا؟.
السرطان يقولون إنه من الحيوانات التي تعيش في البحر، أنا حقيقة لا أعرفه على وجه التحديد، ولا يعيش في بيئتنا، نحن نعيش في الرياض ولا يعيش هذا في بيئتنا، لكن نعرفه من الكتب، يذكره الفقهاء ويذكره أيضًا بعض المعاصرين، فربما أن الإخوة الذين يعيشون على السواحل البحرية أعرفُ به منا، لكن على كل حال هو حيوان يسمى سرطان، ويقولون: إنه ليس له دم يسيل، ليس له دم سائل.
ننتقل إلى الفصل الثاني نقرأ عبارة المؤلف -رحمه الله-:
قال المؤلف -رحمه الله-: (
فصل في شروط الذبح والنحر والعقر
ويشترط في الذبح والنحر خاصة شرطان:
أحدهما: أن يكون في الحلق واللبة فيقطع الحلقوم والمريء وما لا تبقى الحياة مع قطعه.
الثاني: أن يكون في المذبوح حياة يذهبها الذبح، فإن لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح وما أُبْيِنَتْ حشوته؛ لم يحل بالذبح ولا النحر، وإن لم يكن كذلك؛ حل؛ لما روى كعب بن مالك قال: (كان لنا غنم ترعى بسَلْعٍ فأبصرت جارية لنا بشاة موتى، فكسرت حجرًا فذبحتها به، فسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فأمر بأكله).
وأما العقر؛ فهو القتل بجرح في غير الحلق واللبة، ويشرع في كل حيوان معجوز عنه من الصيد والأنعام؛ لما روى أبو رافع أن بعيرًا نَدَّ فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها؛ فاصنعوا به هكذا).
ولو تَرَدَّى بعيرٌ في بئر فتعذر فَجُرِحَ في أي موضع كان من جسده فمات به؛ حَلَّ أكله).
قال: (يشترط في الذبح والنحر خاصة شرطان) هنا ما يشترط في الذبح والنحر:
(الشرط الأول: أن يكون في الحلق) يعني يكون الذبح في الحلق (واللبة) يعني النهر، وهي الوهدة التي ما بين أصل العنق والصدر، ما بين أصل العنق والصدر هذه الوهدة، وهي التي تكون محل النحر.(1/16)
قال: (فيقطع الحلقوم والمريء وما لا تبقى الحياة مع قطعه) وهذا قد وضعنا فيه سؤالاً للإخوة المشاهدين: ما الذي يُشترط قطعه لتمام التذكية؟
المؤلف يقول: إنه يُشترط قطع الحلقوم، والمريء، وما لا تبقى الحياة مع قطعه.
عندنا أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجان. والودجان: هما عرقان غليظان يحيطان بالحلقوم والمريء، هذه الأمور الأربعة إذا قطعها الذابح؛ حلت الذبيحة وحصل بها التذكية باتفاق أهل العلم، لكن إذا اقتصر على بعضها؛ فما الحكم؟!
المؤلف يقول: لو قطع الحلقوم والمريء يكفي هذا.
لكن هذا محل نظر، والقول الصحيح في هذه المسألة: إنه لا بد من قطع ثلاثة من هذه الأربعة، فإما أن يقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين، أو يقطع الودجين والحلقوم، أو يقطع الودجين والمريء، يعني لا بد من قطع ثلاثة من هذه الأربعة الحلقوم والمريء والودجان.
الحلقوم: هو مجرى النفس، والمريء: هو مجرى الطعام، والودجان: قلنا هما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم والمريء، فلا بد من قطع ثلاثة من هذه الأربعة، هذا هو القول الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وأيضًا اختيار مشايخنا؛ ابن باز وابن عثيمين -رحمة الله تعالى على الجميع-. فلا بد إذن من قطع ثلاثة من هذه الأربعة.
بناءً على ذلك لو قطع الحلقوم فقط، أو المريء فقط، أو الحلقوم والمريء فقط؛ فإنها لا تَحِل، فلا بد من قطع ثلاثة من هذه الأربعة. إذن هذا هو الشرط الأول.. الشرط الثاني.
في قضية القطع البعض يفصل عن الجسد؟.
نعم.. أحسنت.. هذه مسألة أخرى، وهي فصل الرأس عن الجسد أو قطع الرقبة ما حكم هذا؟
هذه هي أيضًا مسألة اختلف فيها أهل العلم على قولين، القول الصحيح فيها أنه أيضًا تحصل به التذكية = لو فصل الرقبة؛ حصلت بها التذكية.(1/17)
وقد سئل عليٌّ -رضي الله عنه- عن رجل ضرب عنق بعير بالسيف، وذكر اسم الله فقطعه، فقال علي: "إنها ذكاة مباحة" أو نحو ذلك، وروي هذا أيضًا عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس أنهم قالوا: "إذا قطع الرأس؛ فلا بأس"، وقد ذكره البخاريُّ في صحيحه تعليقًا، فلو قطع الرقبة كلها مرة واحدة؛ أجزأ ذلك.
إذن هذا هو الشرط الأول. هل يُشترط تمام القطع في هذه الأمور؟ يعني هل يُشترط لتمام القطع أن ينفصل ما ذُكِرَ أم لا يُشترط هذا وإنما لو قطع بعضه؛ كفى؟!
اختلف العلماء في ذلك، يعني لو مثلاً قطع جزءًا من الحلقوم أو المريء أو الودجين من غير أن ينفصل من غير انفصال؛ فهل يجزئ ذلك أم لا يجزئ؟
المشهور من مذهب الحنابلة وظاهر مذهب الحنفية أنه لا يُشترط الانفصال في قطع الحلقوم والمريء والودجين، وذلك لحصول إِنْهار الدم وهو المقصود.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه يُشترط، والصواب هو القول الأول ما ذهب إلى الحنابلة والحنفية من أنه لا يُشترط الانفصال وإنما يكفي إِنْهار الدم.
الشرط الثاني: (أن يكون في المذبوح حياة يُذْهِبُهَا الذبح)
لا بد من هذا الشرط، فإن لم يكن في المذبوح حياة؛ فإنها لا تَحِل. كيف تُعرف هذه الحياة؟ نرجع لسؤالنا السابق: رجل صدم جملاً فأتى إليه وَنَحَرَهُ، فقال أحد الحاضرين: إنك لَمَّا نَحَرْتَهُ ليس فيه حياة أصلاً، وقال بعضهم: لا، بل كان فيه حياة.
إذن نريد أن نعرف الضابط في هذا، الضابط للحياة، قال الفقهاء: إن الضابط في معرفة حياتها وعدم موتها يكون بأحد أمرين:
الأمر الأول: الحركة، فمتى تحركت بحركة قليلة أو كثيرة بيد أو برجل، أو بعين أو بأذن أو ذنب أو غير ذلك؛ فإن هذا دليل على حياتها، فتكون مباحة.(1/18)
الأمر الثاني: (جريان الدم الأحمر الذي يخرج من المُذكَّى المذبوح عادة بقوة وإن لم تتحرك)، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الناس يُفَرِّقُون بين دم ما كان حيًّا ودم ما كان ميتًا فإن دم الميت يجمد ويسود بخلاف دم الحي" لكن إذا شُكَّ في معرفة دمه؛ هل هو حيٌ أو ميتٌ أو شُكَّ في حركتها؛ فهل نقول إنها حلال أم نقول إنها حرام؟ ما الأصل في هذا مع الشك؟
مع الشك نقول: إنها لا تَحِل الذبيحة؛ لقول الله -تعالى-: ?إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ? [المائدة: 3] وما شككنا في بقاء حياته؛ لم نتحقق من ذكاته، ولو قال: إن الأصل بقاء الحياة في هذه المسألة؛ لأن الأصل عارضه ظاهرٌ أقوى منه وهو السبب المفضي إلى الموت فأنيط الحكمُ به ما لم يتحقق من حياته.
إذن هذا هو الأمر الثاني الذي يُشترط في الذبح والنحر، وهو أن يكون في المذبوح حياة، وعرفنا بِمَ تُعرف الحياة، فإن لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح؛ فإن هذا لا يُعتبر، إن لم يكن فيه إلا كحركة وحياة المذبوح؛ فإن هذا لا يُعتبر.
بقي معنا مسائل يسيرة لعلنا -إن شاء الله تعالى- نكملها في الدرس القادم، وأيضًا نأخذ معنا الدرس القادم كتاب الصيد.
أسئلة الحلقة:
الدرس القادم -إن شاء الله- سوف نكمل كتاب الذكاة، وسوف نشرح كتاب الصيد وأيضًا باب المضطر، ولذلك جرت العادة أننا نضع الأسئلة في الدرس القادم فيكون السؤال الأول في الصيد والثاني في المضطر.
السؤال الأول:
ما حكم صيد الطائر غير المُعَلَّم؟
يعني نحن نعرف أن صيد الكلب المُعَلَّم أنه حلال، وصيد الكلب غير المُعَلَّم حرام لكن الطائر هل يُشترط فيه أيضًا هذا الشرط؟ صيد الطائر غير المُعَلَّم صيد الصقر غير المُعَلَّم ما حكمه؟
السؤال الثاني: يجوز للمضطر أن يأكل من الميتة غيرَ باغٍ ولا عاد فما المراد بالباغي والعادي؟
هذا الشرط ذكره الله -تعالى- في شأن المضطر للميتة؛ فإنه يجوز له أن يأكل غير باغٍ ولا عاد، ما معنى باغٍ وعاد؟!(1/19)
الأخت الكريمة أرسلت تقول: السرطان هو الكابوريا، تشير إلى هذا الأمر.
جزاها الله خيرًا!
يقول: ما الدليل على أن الأخرس مطالب بدلاً عن التسمية أن ينظر إلى السماء؟.
الحقيقة أن هذا ليس عليه دليل، ولهذا الصواب أنه يشير بأيّ إشارة تدل على التسمية، أي إشارة تدل على أنه قد قَصَدَ ونوى التسمية.
يسأل عن حكم البهيمة التي أصيبت في مقتل؛ كالدماغ أو النخاع أو القلب أو هذه الأحشاء.
هذا -إن شاء الله تعالى- سوف نشرحها في الدرس القادم في المسائل المتبقية -إن شاء الله تعالى- فنرجئ إجابة السؤال للدرس القادم.(1/20)
الفقه - المستوى السابع
الدرس السابع عشر
الدرس السابع عشر - كتاب الصيد
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
كتاب الصيد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذا الدرس نستكمل ما بقي من مسائل في باب الذكاة، وما بقي معنا إلا مسألة أو مسألتان، ثم ننتقل بعد ذلك إلى كتاب الصيد.
كنا قد ذكرنا شروط الذكاة، وتكلمنا عنها بالتفصيل؛ أهلية المذكي، وأن يذكر اسم الله –تعالى- عند الذبح، وأن يكون الذبح بمحدد، ثم بعد ذلك انتقلنا للكلام عما يشترط عند الذبح والنحر خاصة، ذكرنا أنها شرطان:
الشرط الأول: أن يكون في الرقبة؛ أي في الحلق أو في اللبة، وذلك بقطع أربعة أشياء: الحلقوم، والمريء، والودجان، وقلنا: إن المجزئ في ذلك هو قطع ثلاثة من هذه الأربعة، فلو قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين؛ أجزأ، أو قطع الودجين والحلقوم؛ أجزأ، أو قطع الودجين والمريء أجزأ، إذا قطع ثلاثة من هذه الأربعة؛ أجزأ ذلك في أظهر أقوال أهل العلم.
الشرط الثاني: أن يكون في المذبوح حياة يذهبها الذبح، وذكرنا الضابط لهذه الحياة، ووصلنا إلى قول المؤلف: (وما أُبينت حشوتُه؛ لم يحل بالذبح ولا بالنحر) معنى الحشوة: الأمعاء، يعني أحشاؤه (ما أبينت) يعني ما قُطعت، (حشوته) يعني أحشاءه؛ كأمعائه مثلاً فإنه يقول: (لم يحل بالذبح ولا النحر) وذلك لأنه في حكم الميت في هذه الحال، من قطعت أحشاؤه؛ فهذا في حكم الميت.(1/1)
قال: (وإن لم يكن كذلك حل) يعني إن لم يكن في حكم الميت؛ فإنه يحل، وذلك لقول الله تعالى: ? إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ? [المائدة: 3]، لما قال: ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ? [المائدة: 3]، فاستثنى الله -تعالى- ما ذُكِّيَ، وبناءً على ذلك إذا وجد في الحيوان حياةٌ فذكي هذا الحيوان؛ فإنه يحل، لكن بشرط أن يوجد فيه حياة، لا يكون في حكم الميت، أما لو كان في حكم الميت كما مثل المؤلف بأن أبينت أحشاؤه؛ فإن هذا لا يحل بالتذكية؛ لإنه -في الحقيقة- في حكم الميت.
وبناءً على ذلك لو وجدت مثلاً شاة من الغنم صدمت مثلاً بالسيارة فأتى إنسان بسكين وذكاها، وهي لا زالت حية، لكنها أشرفت على الموت؛ فإنها تحل بالذكاة، وتدخل في عموم الله -تعالى- : ? إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ? وذكر المؤلف الدليل لهذا قال: (لما روى كعب، قال: (كانت لنا غنمٌ ترعى بسلع -يعني جبل- فأبصرت جارية لنا شاة موتى فكسرت حجراً فذبحتها به، فسُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فأمر بأكله))، هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، وهذا حجة في هذه المسألة، وهي أن الحيوان إذا أُدْرِكَ وهو حيٌّ فذكي؛ فإنه يحل بهذه الذكاة.(1/2)
قال: (وأما العقر) وهي آخر مسألة معنا في هذا الباب في باب الذكاة، (وأما العقر؛ فهو القتل بجرح في غير الحلق واللبة) يعني بأن يُجرح الحيوان في غير الحلق، في غير الرقبة؛ كأن يجرح مثلاً في بطنه أو في ظهره فيموت الحيوان، هذا لا يصح فيما يُذَكَّى إلا في حالة واحدة وهي: قال: (ويشرع في كل حيوان معجوزٍ عنه من الصيد والأنعام) هذا يكون في المعجوز عنه، في المعجوز عنه من الأنعام، يعني مما يذكى، وفي الصيد عموماً؛ لما روى أبو رافع : (أن بعيراً نَدَّ فأعياهم فأهوى له رجل بسهم فحبسه).
(أن بعيراً نَدَّ) يعني نفر، (فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه) يعني قتله ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن لهذه البهائم أوابد -يعني نفرة- كأوابد الوحش، فما غلبكم منها؛ فاصنعوا به هكذا)، وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم. ولذلك لو أن بعيراً هَرَبَ من صاحبه أو مثلاً بقرة أو شاة، فلم يستطع الإمساك بها إلا بهذه الطريقة، بأن رماها مثلاً ببندقية أو ألقى عليها سكينا فقتلها به؛ فإنها تحل، فإنها تحل إذا اجتمعت بقيت شروط الذكاة، هذه حالة مستثناة، الأصل أنها تذكى في الرقبة، إما ذبحاً وإما نحراً بالنسبة للإبل، لكن إذا كانت معجوزاً عنها، بعير شرد وهرب ونفر من صاحبه ما استطاع عليه، فأتى بسلاح ناريٍّ وأطلق عليه البندقية مثلاً فحبسه به، يعني قتله به؛ فإنه يحل في هذه الحال، وفي عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- كانت عندهم السهام، ولذلك أدركه رجل بسهم، في وقتنا الحاضر ممكن بالسلاح الناري، بندقية مثلاً أو نحوها، فيمكن أن يطلق على هذا الجمل الشارد أو نحوه يطلق عليه هذا السلاح فإذا أدركه به وقتله فإنه يكون حلالاً، فتكون هذه المسألة مستثناةً لهذا الحديث.(1/3)
قال: (ولو تردى بعير في بئر فتعذر نحره فجرح في أي موضع من جسده فمات به؛ حل أكله) كذلك مثلاً لو أن بعيراً مثلاً لو أن بعيراً سقط في بئر، ولم يمكن نحره إلا بهذه الطريقة؛ فإن هذا لا بأس به، ولهذا قال البخاري في صحيحه: "ما أعجزك من البهائم مما في يدك فهو كالصيد، وفي بعير تردى في بئر من حيث قدرت عليه فذكه قال: ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة -رضي الله تعالى عنهم-".
بهذا نكون قد انتهينا من مسائل وأحكام الذكاة، وقبل أن ننتقل إلى كتاب الصيد، ما أدري عندكم شيء.
إجابة أسئلة الدرس الماضي.
كان سؤال الدرس الماضي يقول: ما حكم صيد الطائر غير المعلم؟
الإجابة:
تقول: يشترط فيه أن يكون معلماً وهذا باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى: ? وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ ? [المائدة: 4].
السؤال ما هو؟
ما حكم صيد الطائر؟.
الطائر وليس الصيد عموماً، وإنما الطائر فقط.
ولما روي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صيد البازي قال: (ما أمسك عليك؛ فكل)، وعلامتها أن تسترسل إذا أرسلت، وتنزجر إذا زجرت، تمسك الصيد ولا تأكل منه، إلا الحنابلة لم يشترطوا أنه إذا أمسك لم يأكل؛ لأنها لا تحتمل الضرب فتتعلم ترك الأكل بخلاف الكلب ونحوه، ولقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا أكل الكلب؛ فلا تأكل، وإن أكل الصقر؛ فكل" وخالف الشافعية في الأظهر عندهم، فاشترطوا أن لا تأكل قياساً على جارحة السباع. والله أعلم.(1/4)
نعم.. على كل حال، هو الصحيح في مسألة الطائر أنه يختلف عن الكلب، الكلب يشترط أن لا يأكل، أما بالنسبة للطائر؛ فإنه لا يُشترط هذا الشرط؛ لأن الطائر لا يمكن تعليمه إلا بالأكل، ولا يمكن أن يوجد طائر يصيد ولا يأكل، وهذا -إن شاء الله- سوف نُبينه عندما نشرح هذه المسألة، فحينئذ نقول: إن الصواب أنه لا يشترط هذا الشرط بالنسبة للطائر، وإنما هو يشترط في الكلب خاصة وسوف نسلط الضوء أكثر على هذه المسألة، ونشكر الأخت على هذه الإجابة التي حكت فيها كلام أهل العلم.
السؤال الثاني: يقول الله تعالى: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ? [البقرة: 173] ما معنى ?بَاغٍ? وما معنى ?عَادٍ?؟
يقول في إجابته: قال ابن كثير في قول الله تعالى: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ?؛ أي: من غير بغي ولا عدوان، وهو مجاوزة الحد، ?فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ?؛ أي في أكل ذلك ?إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? قال مجاهد: غير ?غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ? من خرج باغيًا أو عاديًا أو في معصية الله؛ فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وقال مقاتل بن حيان: ?غَيْرَ بَاغٍ? يعني غير مستحله، قال السدي: ?غَيْرَ بَاغٍ?: يبتغي فيه شهواته، وعن ابن عباس: لا يشبع منها، وعنه: ?غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ? قال: غير باغٍ في الميتة، ولا عادٍ في أكله، وقال قتادة: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ? قال: غير باغٍ في الميتة؛ أي في أكلها أن لا يتعدى حلالاً إلى حرام هو يجد عنه مندوحة، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: ?فَمَنِ اضْطُرَّ? أي أكره على ذلك بغير اختياره.(1/5)
نعم.. هو حكى الأقوال في هذا، والأقوال كثيرة، ولكن الصحيح في هذا ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية لأكثر السلف أن الباغي هو من يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، يعني يأكل من الميتة وهو قادر على الحلال، قادر على أن يجد طعاماً من غير الميتة، فهذا هو الباغي، وأما العادي؛ فهو الذي يتجاوز قدرَ الحاجة، يعني هو لا يأكل من الميتة إلا بقدر الحاجة، فإذا تجاوز قدر الحاجة فإنه يكون عاديًا ، هذا هو أصح ما قيل في الباغي والعادي وسنبين -إن شاء الله تعالى- هذا في حينه.
لكن بالنسبة من واقع إجابة الأخت والأخ، الأخت عن السؤال السابق، والأخ عن هذا السؤال ألاحظ أن الإخوة والأخوات يذكرون لنا أقوالاً، يعني ماذا يستفيد القارئ أو السامع من سرد هذه الأقوال؟!(1/6)
أنا أريد ممن يتابع معنا هذه الدروس أنه إذا اطلع على كلام أهل العلم أن يحرر المسألة؛ لأن التحرير هذا هو الذي يستفيد منه طالب العلم، وهو الذي يُكَوِّنُ الملكة لدى طالب العلم، فعندما يعني مثلاً تستمع لهذه الأقوال يعني من يسمع مثل هذه الأقوال أو يقرأ مثل هذه الأقوال يعني؛ لا يخرج بشيء، هي مجرد أقوال، قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، لا بد لطالب العلم أن يُحرر المسألة ويصل إلى القول الصحيح فيها، إذا مشى على مسائل الفقه بهذه الطريقة؛ فإنه يكون قد حَصَّل فائدة كبيرة، ومع مرور الوقت تتكون عنده الملكة الفقهية، لكن بهذه الطريقة لا يستفيد كثيراً، إذا كان سوف يجمع قال فلان وقال فلان وقال فلان ويترك المسألة هكذا بدون تحرير؛ فهذا لا يستفيد كثيراً، فأنا أوجه حقيقة الإخوة والأخوات؛ لأني لاحظت هذا من خلال أجوبتهم إلى أن يعتنوا بهذه المسألة، فإنها هي التي تفيد طالب العلم، إذا بحثت مسألة ووجدت فيها أقوالاً، لا بد أن تحرر وتنظر للأقوال والأدلة والاستنباطات وكلام المحققين وتُكَوِّنُ رأياً راجحاً. أنت لا يُراد منك الإفتاء، لكن يُراد منك التدرب على مثل هذا، وهذا هو الغرض من طرح هذه الأسئلة؛ لأنه مع مرور الوقت تتكون لديك الملكة الفقهية.
ونشكر جميع الإخوة والأخوات على تفاعلهم وعلى هذه الإجابات الطيبة.
ننتقل بعد ذلك إلى "كتاب الصيد" وكما جرت العادة نبدأ أولاً بقراءة عبارة المؤلف -رحمه الله-.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف -رحمه الله-: (
باب الصيد
كل ما أمكن ذبحه من الصيد؛ لم يُبَحْ إلا بذبحه، وما تعذر ذبحه فمات بعقره؛ حل بشروط ستة:
ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة.
والرابع: أن يكون الجارح الصائد معلماً، وهو ما يسترسل إذا أرسل، ويجيب إذا دعي ويعتبر في الكلب والفهد خاصة أنه إذا أمسك؛ لم يأكل، ولا يعتبر ذلك في الطائر.
الخامس: أن يرسل الصائد للصيد، فإن استرسل بنفسه لم يبح صيده.(1/7)
السادس: أن يقصد الصيد، فإن أرسل سهمه ليصيب به غرضاً أو كلبه ولا يرى صيداً فأصاب صيداً؛ لم يبح، ومتى شارك في الصيد ما لا يباح قتله مثل أن يشارك كلبه، أو سهمه كلب، أو سهم لا يُعْلَمُ مرسله، أو لا يعلم أنه سُمي عليه، أو رماه بسهم مسموم يعين على قتله، أو غرق في الماء، أو وُجد به أثرٌ غيرُ أثرِ السهم أو الكلب يحتمل أنه مات به؛ لم يحل؛ لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه؛ فأمسك عليك، فأن أدركته حياً فاذبحه، وإن قتل ولم يأكل منه؛ فكل؛ فإنَّ أخذَ الكلبِ له ذكاة، فإن أكل؛ فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها؛ فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره، وإذا أرسلت سهمك؛ فاذكر اسم الله عليه، وإن غاب عنك يوماً أو يومين ولم تجد فيه إلا أثر سهمك؛ فكله إن شئت وإن وجدته غريقاً في الماء؛ فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك)).
الصيد معناه في اللغة: هو مصدر صاد يصيد صيداً فهو صائد، وهو بمعنى المفعول، أُطلق بعد ذلك بمعنى المفعول، يعني اقتناص الصيد، صيد بمعنى مصيد، فهو بمعنى اسم المفعول، وإلا اسم الفاعل فهو صائد، فيكون المعنى اقتناص الصيد، ولذلك نعرفه اصطلاحاً بأنه: اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا غير مقدور عليه.
قولنا: اقتناص حيوان حلال: اقتناص؛ لأنه الذبح إنما يكون لما يمكن تذكيته، فالإبل مثلاً والبقر والغنم لا يقال إنها صيد؛ لأنها يمكن تذكيتها. لكن الحمار الوحشي مثلاً يعتبر صيدا، الجربوع يعتبر صيداً، الأرنب يعتبر صيداً.. وهكذا الأرانب طبعاً البرية المقصود تعتبر صيداً، حتى الأرانب الأهلية هي في أصلها متوحشة فتكون من الصيد، ولهذا يحرم على المحرم صيدها.(1/8)
قال: (كل ما أمكن ذبحه من الصيد؛ لم يبح إلا بذبحه) فما أمكن ذبحه مما يسمى صيداً؛ فإنه لا بد من تذكيته، وقد سبق أن ذكرنا أن المعجوز عنه أنه يكون بما يقدر عليه، ولا يشترط أن يكون في الرقبة ذكرنا هذا في أنه يكون بالعقر يعني يكون في القتل بجرح في غير الرقبة، أنه لا يشترط هذا الشرط، (وما تعذر ذبحه فمات بعقره حل).
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: (حل بشروط ستة ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة) قبل أن ننتقل لهذه الشروط نشير هنا إلى آلة الصيد، فآلة الصيد على نوعين:
- محدد: ويشترط فيها ما يشترط في آلة الذبح، وقد سبق أن ذكرنا أنه يشترط في آلة الذبح أن تكون بغير السن والظُّفُُر؛ لأن السن عظم، والظفر مدي الحبشة. والثاني: أن يجرح الصيد، يعني لا بد أن يكون بمحدد وأن يحصل أيضاً جرح الصيد، لا بد من جرحه، فإن مات من غير جرح؛ لم يحل، وذلك؛ لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكل ليس السنَّ والظفرَ) فإنه عام إلا أنه يختلف عن الذبح، بأن الذبح يشترط أن يكون في الرقبة وذلك بقطع الحلقوم والمريء والودجين أو ثلاثة منها، وأما في الصيد؛ ففي أي مكان أصابه؛ حل؛ كالمعجوز عنه الذي تكلمنا عنه قبل قليل، قلنا: إذا أصابه في أي موضع فقتله؛ فإنه يحل، فكذلك أيضاً بالنسبة للصيد.(1/9)
وبناءً على ذلك لو أنه أصاب الصيد ولم يجرحه؛ فإنه لا يحل كما مر معنا في المعراض، ما أصاب بحده فإنه يحل، وما أصاب بعرضه فلا يحل، جاء هذا في حديث عدي بن حاتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في المعراض: (ما أصاب بعرضه؛ فهو وقيذ، وما أصاب بحده؛ فكل) وعلى هذا؛ فقتل الصيد بالعصا أو بالحصا أو بالشبكة مثلاً أو بصدمه؛ فإنه لا يحل، لا يحل في هذه كلها؛ لأنه لم يحصل الجرح له، لا بد من جرح الصيد، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: (ما أصاب بحده؛ فكل، وما أصاب بعرضه؛ فهو وقيذ) فلذلك لو أن أحداً مثلاً مرَّ بطير فضربه بعصا فمات؛ فإنه لا يحل، أو صدمه بالسيارة، أبصر مثلاً صيداً فلحقه وصدمه بالسيارة فمات هذا الصيد؛ فإنه وقيذ ولا يحل، إلا إذا أدركه وفيه حياة وذَكَّاه؛ فإنه يحل، كما مر معنا قبل قليل.
يذكر الفقهاء البندق، البندق سبق أن قلنا إن اصطلاح الفقهاء المتقدمين عن غير ما يفهم من هذا المصطلح في الوقت الحاضر، البندق عند الفقهاء المتقدمين يعنون به طينا مدورا يُرمى به، فهذا لو رمي به الصيد ومات لا يحل، لكن في الوقت الحاضر يراد به بندقُ الرَّصاص، وهذا يحل بالإجماع، حصل فيه خلاف في أول الأمر ثم انعقد الإجماع عليه، لو أن إنساناً أطلق بندقيته فأصاب صيداً فقتله؛ فإنه يحل بالإجماع، فهذا ربما تشكل على بعض الناس عندما يقرأ كتب الفقه، فيجد أنه لا يحل ما ذبح بالبندق، مقصودهم البندق غير البندق المعروف في الوقت الحاضر، البندق يقصدون به طيناً مدورا كان يُرمى به قديماً، لكن البندقية في الوقت الحاضر لا شك أنها إذا أطلقت على الصيد فقتلته؛ فإنه يحل إذا توفرت بقية الشروط.
ثم قال المؤلف: (حل بشروط ستة: ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة) وهي؟!
أهلية المذكي، التسمية عند الذبح، وأن يذكي بمحدد.
أهلية المذكي، والتسمية عند الذبح، وأن يكون بمحدد، تكون التذكية بمحدد، هذه شروط ثلاثة تكلمنا عليها بالتفصيل في الدرس السابق.(1/10)
الشرط الرابع: قال: (أن يكون الجارح الصائد معلم)، وهذا الشرط قد دل عليه قول الله -تعالى-: ?يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ? [المائدة: 4]، فلا بد أن يكون الصائد معلماً، ولذلك نقول في آية الصيد نحن ذكرنا أن آلة الصيد تنقسم إلى قسمين: محدد، والقسم الثاني: الجارحة، والجارحة معناها في الأصل الكاسبة، ?وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ? [الأنعام: 60] يعني ما كسبتم بالنهار، والجارحة إما أن تكون جارحة تعدو ، أو جارحة تطير، فتكون جارحة تعدو يعني من غير الطير كالكلب والفهد فهذه يصاد بها، أو من الطيور؛ كالصقر والبازي ونحو ذلك، فهذه يصاد بها أيضاً، فلا بد أن يكون الصائد معلماً، لا بد أن يكون معلماً، فإن كان غير معلم؛ فإنه لا يحل الصيد، لا يحل ما صاده، لو أُرسل كلب غير معلم فصاد صيداً؛ فإنه لا يحل صيده، وهكذا لو أرسل صقر فصاد صيد وهو غير معلم؛ فإنه لا يحل صيده، فلا بد في الصائد أن يكون معلماً.
كيف يكون معلماً؟!
قال المؤلف: (وهو ما يسترسل إذا أرسل، ويجيب إذا دعي) وقال بعض أهل العلم في ذلك: يعتبر في تعليمه ثلاثة شروط، يعتبر في تعليم الصائد ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أنه إذا أرسله؛ استرسل.
الشرط الثاني: إذا زجره؛ انزجر.
الشرط الثالث: إذا أمسك؛ لم يأكل.
هذه ثلاثة شروط في اعتبار التعليم للصائد، إذا أرسله يسترسل، إذا زجره ينزجر، إذا أمسك لم يأكل.
ما معنى إذا أرسله يسترسل؟(1/11)
معنى ذلك أنه إذا رأى الصيد هذا الصائد إذا رأى الصيد لا يذهب بنفسه، بل بإرساله، ويكون ذلك بإغرائه من معلمه بالصيد، وهذا الإغراء يختلف باختلاف المعلمين، والمعلمون يَتَفَنَّنُون في هذا في وسيلة الإغراء لهذا الصائد، وبعضهم يذكر اسمه، فمجرد أنه يذكر اسمه يسترسل هذا الصائد، من كلب أو غيره، وبعضهم لهم أساليب في هذا، فهذا معنى الاسترسال.
ما معنى أنه ينزجر إذا زجر؟
يعني: إذا قلت له: قف باللغة التي علمته بها؛ فإنه يقف، ولكن قال الموفق ابن قدامة -رحمه الله- قال: "الانزجار بالزجر إنما يُعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته، أما بعد ذلك؛ لا يعتبر الانزجار بحال".
أما كونه إذا أمسك لم يأكل، يعني إذا أمسك الصيد؛ لم يأكل منه، وإنما يأتي به لمعلمه كاملاً.
يقول: اعتبار الانزجار؛ لأنه مثلاً إذا رأى الصيد لا يستطيع أنه يسيطر عليه مثلاً؟.
لا.. إذا قال له معلمه: قف؛ يقف.
وقد رأى الصيد؟!.
سواءً رأى الصيد أو لم ير الصيد، المهم أنه يتجاوب مع معلمه، فيتجاوب معه في الاسترسال، يتجاوب معه في الانزجار، هذا هو المقصود. لكن الحقيقة أن هذه الأمور الثلاثة تُشْكِلُ، ولهذا قال الموفق ابن قدامة: "لا أحسب هذه الخصال تعتبر في غير الكلب" يعني لا تجتمع هذه الأمور الثلاثة إلا في الكلب فقط"، قال: "فإنه هو الذي يجيب صاحبه إذا دعاه، وينزجر إذا زجره، والفهد لا يكاد يجيب داعياً وإن عُدَّ متعلما، فيكون التعليم في حقه بترك الأكل خاصة أو بما يعده أهل العرف معلماً". يعني الفهد لا يكاد يجيب، لا يجيب صاحبه، ليس مثل الكلب، فيكون إما بترك الأكل، أو بما عده أهل العرف يحصل به التعليم.(1/12)
يبقى عندنا الصيد. الصيد يقول أهل الخبرة: إنه لا يمكن أن يعلم الصائد إذا كان طيراً بترك الأكل، لا يمكن هذا، يعني أنا لست من أهل الصيد لكن أهل الخبرة يقولون هذا، وقد ذكر هذا بعض الفقهاء وتكلموا عن هذه المسألة، وقالوا: إن تعليم ذي المخلب كالصقر ونحوه، يكون بأن يسترسل إذا أرسل ويجيب إذا دُعي وأنه لا يعتبر ترك الأكل؛ فعلى هذا يباح صيده وإن أكل منه، وقد وضعنا على هذا سؤالاً، وبهذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما- وهو مذهب الحنفية والحنابلة.
قال الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه "المغني" قال: "وهو إجماع الصحابة" وروي عن ابن عباس أنه قال: "إذا أكل الكلب؛ فلا تأكل الصيد، وإذا أكل الصقر؛ فكل؛ لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر"، ولأن جوارح الطير إنما تُعلم بالأكل، ويتعذر تعليمها بترك الأكل كما يقول أهل الخبرة، يقولون: إنه يتعذر تعليم الطير بترك الأكل، فلا يؤثر ذلك في تعليمها، وإن كانت المسألة أيضاً فيها خلاف؛ فالشافعي ذهب إلى أن الطير كالكلب في تحريم ما أكل منه من صيده، واستدل بحديث عدي: (إذا أكل الكلب والبازي؛ فلا تأكل) لكن هذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد أخرجه أبو داود في سننه لكنه حديث ضعيف؛ لأن فيه راويًا ضعيفًا ، بهذا يكون القول الصحيح هو قول جماهير العلماء في هذه المسألة، والتي حكاها الموفق ابن قدامة إجماعا عن الصحابة رضي الله عنهم.
فيكون إذن بالنسبة للطائر، يعني كيف يكون تعليم الطائر؟!
يكون بأن يسترسل إذا أُرسل، ويجيب إذا دعي، يكفي هذا في تعليمه. ينزجر إذا زجر، لكن لا يعتبر أن يترك الأكل إذا صاد، فلو أكل من الصيد؛ فإن الصيد يكون حلالاً، وهذا بخلاف الكلب، فإن الكلب إذا أكل من الصيد؛ فإنه لا يكون حلالاً، فيكون إذن اعتبار ترك الأكل إنما هو في الكلب خاصة على التحقيق، إنما هو في الكلب خاصة.(1/13)
قال: (ولا يُعتبر ذلك) يعني ترك الأكل (في الطائر) قال: (ويعتبر في الكلب والفهد خاصة لأنه إذا أمسك؛ لم يأكل، ولا يعتبر ذلك في الطائر) وذكرنا التوجيه لهذا.
قال: (الثاني: أن يرسل الصائدُ الآلةَ، فإن استرسل الكلب بنفسه؛ لم يبح صيده) يعني هو قال: (ويعتبر في الكلب والفهد أولاً: أنه إذا أمسك لم يأكل، الثاني: أن يرسل الصائد الآلة فإن استرسل الكلب بنفسه؛ لم يبح صيده) يعني لا بد من إرسال الصائد، فإذن ذهب الصائد بنفسه؛ فإنه لا يباح صيده، يعني لو أن قومًا عندهم كلب معلم فرأى هذا الكلب صيدًا، وذهب بنفسه وصاد؛ لا يعتبر صيده حلاه، لا بد من إرساله، والثالث: أن يقصد الصيد، فالقصد لا بد منه، (فإن أرسل سهمه ليصيب به غرضًا أو كلبه ولا يرى صيدًا فأصاب صيدًا؛ لم يبح) يعني لو أطلق إنسان بندقيته ولم يقصد صيدًا فأصابت طيرًا في الهواء، أصابت حمامة مثلاً؛ فإنها لا تكون مباحة، ولو ذكر اسم الله عليها، ولو أنه عندما سمى ذكر اسم الله، لا بد من القصد.
قال: (ومتى شارك في الصيد ما لا يباح قتله مثل أن يشارك كلبَه أو سهمَه كلبٌ أو سهمٌ لا يُعلم مرسله أو لا يعلم أنه سُمي عليه أو رماه بسهم مسموم يُعين على قتله أو غرق بالماء أو وَجَدَ به أثرًا غير أثر السهم أو الكلب يحتمل أنه مات منه؛ لم يحل) يعني ذكر المؤلف صورًا لاجتماع الحاظر والمبيح، فإذا اجتمع الحاظر والمبيح في باب الصيد يغلب جانب الحظْر.(1/14)
فهنا لو شارك الصيد ما لا يباح قتله، مثل أن يشاركه كلب غير معلم؛ فإنه لا يباح صيده، (أو أنه شارك سهمَه سهمٌ لا يعلم مرسله) أو لا يعلم أنه ذكر اسم الله -تعالى- فإنه لا يحل هذا الصيد، أو وجد الصيد غريقًا في الماء ولا يدري، هل موته بسبب هذا السهم أم موته بسبب غرقه في الماء؟! فإنه لا يحل، وهذا قد ورد فيه حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث عدي بن حاتم ذكره المؤلف: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فأمسك عليك، فأدركته حيًّا؛ فاذبحه، وإن قتل ولم يأكل منه؛ فكله فإنَّ أخْذَ الكلب له ذكاة؛ فإن أكله؛ فلا تأكل فإني أخاف أن يكون مما أمسك على نفسه)) وهذا هو الدليل لاعتبار أن الكلب إذا أكل؛ فإنه لا يباح صيده.
( ..وإن خالطها كلاب من غيرها؛ فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره، وإذا أرسلت سهمك؛ فاذكر اسم الله عليه، وإن غاب عنك يومًا أو يومين ولم تجد فيه إلا أثر سهمك؛ فكله إن شئت وإن وجدته غريقًا في الماء؛ فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو قتله سهمك).
نضيف لهذه الشروط التي ذكرها المؤلف شرطًا خامسًا وهو:
التسمية عند إرسال السهم أو الجارحة، وفي معنى السهم -كما ذكرنا- أنواع السلاح الناري في الوقت الحاضر؛ كالبندقية ونحوها، عندما يريد أن يصطاد صيدًا لا بد أن يُسمي، التسمية هنا واجبة، كما قلنا إن التسمية واجبة أيضًا عند الذبح في باب الذكاة، ويدل لذلك قول الله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? [الأنعام: 121]?فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ? [الأنعام: 118]، فلا بد من ذكر اسم الله -تعالى- عند الذبح وعند الصيد، يكون في الصيد عند إرسال الآلة، عند إرسال السهم، أو عند إرسال الجارحة يذكر اسم الله تعالى.(1/15)
وسبق أن تكلمْنا عن مسألة ما إذا نسي أن يذكر اسم الله تعالى هل يباح الصيد أم لا يباح؟ وهل إذا نسي التسمية عند التذكية هل يباح المذكى أم لا يباح؟
ذكرنا خلاف العلماء في هذه المسألة، وذكرنا أن القول الراجح أنه إذا نسي في المسألتين؛ فإن المذكاة حلال، وإن الصيد حلال في أظهر قوليْ الفقهاء في المسألة، وذكرنا الأدلة لذلك.
بهذا نكون قد انتهينا من مسائل باب الصيد. قبل أن ننتقل إلى باب المضطر ما أدري إذا كان هناك أسئلة، أو نترك الأسئلة لآخر الحلقة حتى ننتهي من باب المضطر؛ لأن باب المضطر ليس فيه إلا مسائلُ يسيرة.
على كل حال المضطر ليس فيه إلا مسائل يسيرة لعلنا لا نطيل فيها كثيرًا.
قال المؤلف -رحمه الله-: (
باب المضطر
ومن اضطر في مخمصة فلم يجد إلا محرمًا؛ فله أن يأكل منه ما يسد رمقه).
أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر، وكذلك سائر المحرمات؛ لقول الله تعالى: ?إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ? [البقرة: 173]، فيجوز له أن يأكل من الميتة عند الضرورة، لكن الله -تعالى- شرط شرطين:
وهما: أن يكون غير باغٍ ولا عادٍ، وقد طرحنا هذا سؤالاً في الحلقة السابقة، ما معنى ?غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ?؟(1/16)
القول الصحيح في هذه المسألة وقد نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إلى أكثر السلف واختاره أن معنى الباغي هو الذي يبغي الحرام مع قدرته على الحلال، يبغي المحرم مع قدرته على الحلال، مثلاً يأكل الميتة وهو قادر على أن يطعم حلالاً، والعادي هو الذي يتجاوز قدر الحاجة، يعني من أكل من الميتة لا يأكل إلا بقدر الحاجة، فليس له أن يشبع منها، وإنما يأكل بقدر ما يسد رمقه. فإذا أكل الميتة مع قدرته على الحلال فإنه يكون باغيا، وإذا أكل أكثر من قدر الحاجة يعني شبع من الميتة مع أن بإمكانه أن يسد رمقه فإنه يكون عاديا، هذا معنى قوله: ?غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ?.
لكن هل يجب عليه أن يأكل؟
مَنْ لم يجد شيئًا يأكله، واضطر إلى الميتة هل يجب أن يأكل أم نقول: لا يجب عليه ذلك، وله أن يستسلم للموت، ولا يأكل من هذه الميتة؟!
نقول: يجب عليه أن يأكل، ولهذا قال مسروق قال: "من اضطر إلى الميتة فلم يأكل؛ دخل النار"؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فيجب عليه أن يأكل، وهذا بخلاف مسألة التداوي التي ستأتينا بأن التداوي لا يجب على الإنسان، والفرق بينهما سيأتي الكلام عنه -إن شاء الله- لكن من اضطر إلى الميتة؛ فإنه يجب عليه أن يأكل منها حتى لا يموت، يجب أن يأكل بقدر ما يسد رمقه.
قال: (وإن وجد متفقًا على تحريمه ومختلفًا فيه؛ أكل من المختلف فيه)؛ لأنه أخفّ تحريمًا؛ كمن وجد مثلاً خنزيرًا وقنفذًا، فالخنزير متفق على تحريمه، والقنفذ مختلف فيه، فإنه أكل القنفذ ولا يأكل الخنزير عند الضرورة.(1/17)
قال: (فإن لم يجد إلا طعامًا لغيره به مثل ضرورته؛ لم يبح له أخذه) يعني لو كان جماعة مضطرون أحدهم عنده طعام، وهذا ليس عنده طعام، هذا ليس له أن يأخذ طعام صاحبه لأجل أن يستبقي نفسه، ليس له ذلك، ولهذا قال المؤلف: (لم يبح له أخذه)؛ لأن صاحب الطعام مثله في حالة الضرورة، وقد انفرد عنه بالملك، فأشبه غير حال الضرورة، وهذه المسائل ربما تكون في زمن المجاعة، وقد كان الناس في أزمنة سابقة يحصل عندهم مجاعات، يعني ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" قصصا في هذا، ذكر أن في سنة من السنوات في نهاية القرن الخامس أو السادس أنه حصل بمصر مجاعة عظيمة لدرجة أن الناس أكل بعضهم بعضًا، قال: "وقد شاع ذلك واشتهر فأصبح الناس يأكل بعضهم بعضًا، حتى إنه يدعى الطبيب لأجل العلاج ثم يأكله صاحب البيت" يعني ذكروا في هذا قصصًا لا نريد أن نتوسع في هذا، يعني من يقرأ كتب السير وكتب التاريخ يرى أنه قد مرَّ بالناس مجاعات اضطر بعض الناس إلى أن يأكل بعضهم بعضًا، كما ذكروا في هذا قصصًا كثيرة. فمثل هذه المسائل ترد في تلك الأيام التي تكون فيها مسغبة والمجاعة.
قال: (وإن كان مستغنيًا عنه؛ أخذه منه بثمنه) يعني إن كان صاحب الطعام مستغنيًا عن طعامه؛ فلصاحب المضطر أن يأخذه بثمن المثل، يقول: بعني فيشتريه منه، (فإن منعه منه؛ أخذه قهرًا، وضمنه له متى ما قدر) هذا الرجل عنده طعام وهو مستغنٍ عنه، قال: أعطني؛ رفض، قال: بعني؛ رفض، وهذا الآن سيموت، فما العمل؟
يقولون: له أن يأخذه منه بالقوة، يأخذه منه قهرًا ويضمنه في ذمته متى قدر أعطاه ثمنه، لكنه يأخذه منه قهرًا، حتى ينقذ نفسه من الهلاك.
قال: (فإن قُتل المضطر؛ فهو شهيد، وعلى قاتله الضمان) لو أنه لما أراد أن يأخذه قهرًا دفعه صاحب الطعام فقتله؛ فهو شهيد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد).(1/18)
قال: (وإذا قُتِلَ المانع؛ فلا ضمان عليه) يعني لو قتل صاحب الطعام (فإنه لا ضمان عليه)؛ لأنه في الحقيقة متعدٍ بهذا المنع، ويكون حكمه حكم الصائل، ولذلك قال: (فلا ضمان عليه) يعني دمه هدر.
ثم قال المؤلف: (ولا يباح التداوي بمحرم)؛ لأن الله -تعالى- لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حَرَّمَ عليها، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حَرَّمَ عليه) أخرجه الإمام أحمد في المسند، وهو حديث حسن أو صحيح (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حَرَّمَ عليه)، فلا يجوز التداوي بمحرم بحال، لكن هل يجوز التداوي بالمحرم عند الضرورة أم لا؟
هذه المسألة تكلم عنها العلماء، ومن أحسن من تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن "من اضطر لأكل الميتة؛ وجب عليه أن يأكل، لكن من اضطر للتداوي بمحرم؛ فلا يجوز له أن يتداوى به" وذكر لهذا وجوهًا قرابة ستة وجوه لهذا، فذكر:
أولاً: في هذا يقول: "التداوي ليس بضرورة" يعني قول بعض الناس: من اضطر للتداوي، التداوي أصلاً ليس ضرورة، لماذا؟
لأنه ليس واجبًا، ولو كان واجبًا لما خَيَّرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- المرأة التي قالت: (يا رسول الله! إني أُصْرَع؛ فادع الله -تعالى- أن يشفيني، قال: إن شئتِ؛ صبرت ولك الجنة، وإن شئتِ؛ دعوت الله -تعالى- أن يعافيكِ؟ فقالت: أصبر)، يقول: ولو كان التداوي واجبًا؛ لما خيرها النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وأيضًا ورد عن بعض الأنبياء أنهم صبروا ولم يتداووا؛ كنبي الله أيوب، وأيضًا بعض الصحابة؛ كأبي بكر لما قالوا له: "ألا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب قد رآني"، يعني الله -عز وجل- قالوا: "ماذا قال؟ قال: قال إني فعال لما أريد".(1/19)
بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: "ولست أعلم سالفًا أوجب التداوي" هو الخلاف عند المتأخرين موجود, لكن من السلف يقولون: إنه محل إجماع أن التداوي ليس واجبا؛ فلا يجب على الإنسان أن يتداوى، وإن كان بعض أهل العلم قد استحبه، لكنه لا يجب، لا يجب على الإنسان أن يتداوى، لو أنه اختار أن يصبر؛ فله ذلك، ولهذا جاء في صحيح مسلم أن عمران بن حصين أصابه مرض فصبر فكانت تصافحه الملائكة في السحر فلم يحدث بذلك أحدًا، ومضى على ذلك ثلاثون سنة، فلما حدث بذلك؛ أصبحت الملائكة لا تصافحه، وقيل إنه ترك ذلك يعني لم يحدث به أحدًا بعد هذا فعادت الملائكة تصافحه.
فنجد أن بعض السلف كانوا يصبرون على المرض، فبكل حال هو ليس بواجب، التداوي قد قيل إنه مشروع، وقيل إنه مباح، لكنه بكل حال ليس واجبًا، وأيضًا أن الإنسان قد يُشفى بغير التداوي، قد يشفى الإنسان بغير التداوي، وهناك بعض الناس يشفون بدون تداوٍ، كما في أهل البوادي، وبعض أهل القرى كان الناس قديمًا بعضهم يترك التداوي فيشفوا، أسباب الشفاء كثيرة، الرقية من أسباب الشفاء، بعض الناس عندهم قوة توكل على الله -عز وجل- فأسباب الشفاء كثيرة.
أيضًا الدواء لا يُستيقن أنه يحصل به الشفاء، وإلا لو كان يتيقن أنه يحصل بالدواء الشفاء؛ لم يمت أحد كما قال شيح الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ولذلك أيضًا الدواء لا يكون ينحصر في المحرم فقط، (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حَرَّمَ عليه)؛ فلا يمكن أن يكون الدواء منحصرًا في أمر مُحَرَّم، ولذلك فإن من اضطر للتداوي بمحرم، نقول: لا يجوز له أن يتداوى بمحرم، ولو كان في حال ضرورة، يبحث عن بديل، (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حَرَّمَ عليه)، والتداوي ليس واجبًا، لكن من اضطر للأكل؛ يجب عليه أن يأكل، ففرقٌ بينهما، فرق بين المسألتين.(1/20)
بقي معنا مسألة أو مسألتان، قال: (ولا شرب الخمر لمن عطش) يعني لا يجوز أن يشرب الخمر من عطش (ويباح دفع الغصة بها إذا لم يجد مائعا غيره) يعني هذه مسألة نادرة الوقوع، يعني لو أن إنسانًا غُصَّ بلقمة ولم يجد حوله إلا شربة خمر قالوا: له أن يشرب الخمر في هذه الحال حتى ينقذ نفسه من الهلاك، هذه مسألة نادرة الوقوع.
بهذا نكون قد انتهينا من مسائل باب المضطر ولعلنا نتوقف عند هذا القدر، ونتيح الفرصة للإجابة عن الأسئلة.
أسئلة الدرس القادم.
الدرس القادم غدًا -إن شاء الله- سيكون في باب النذر، وتحفيزًا للإخوة المشاهدين حتى يتابعوا معنا ويُحَضِّروا الدرس.
تحضير الدرس يا إخواني مهم لأجل الاستفادة، كما أن المراجعة مراجعة الدرس السابق مطلوبة كذلك أيضًا. التحضير للدرس القادم مطلوب، وإذا تابع معنا الأخ المشاهد فراجع الدرس السابق وحَضَّرَ الدرس القادم؛ فإنه يستفيد فائدةً عظيمة، فنضع الأسئلة في الدرس القادم حتى نحقق هذا الغرض وحتى يبحث الإخوة في مسائل الدرس القادم. سيكون هناك سؤالان في النذر.
السؤال الأول:
كيف تجمع بين مدح الموفين بالنذر في قول الله تعالى: ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ? [الإنسان: 7]، وما ورد في السنة من النهي عن النذر؟
الله -تعالى- أثنى على الموفين بالنذر ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ? والنبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: نهى عن النذر، قال: (إنه لا يأتي بخير، إنما يُستخرج من البخيل) كيف نجمع بين هذا وهذا؟!
السؤال الثاني:
إذا كان النذر في معصية؛ فهل تجب به كفارة يمين؟
النذر في معصية معلوم أنه لا يجوز الوفاء به، لكن هل تجب به كفارة يمين أم لا؟!
تقول: تقوم بعض الشركات بالتجفيف والسحق ومعالجة الحيوانات والطيور الميتة وتقديمها كعلف تتُغذى عليها الحيوانات والطيور، هل تأخذ هذه الحيوانات التي تتغذى بهذه الطرق حكم الحيوانات الجلالة؟(1/21)
أولاً: الجلالة تكلمنا عنها في الدرس السابق، وذكرنا أن من أهل العلم من يقول بأن الحيوان حتى وإن أكل شيئًا نجسًا؛ فإنه يكون مباحًا، وإن جميع الأحاديث المروية في الجلالة ضعيفة لا تثبت، قال بهذا بعض أهل العلم، قالوا: إن جميع الأحاديث المروية في الجلالة أحاديث ضعيفة ولا تثبت، وإن الحيوان إذا أكل شيئًا نجسًا؛ فإنه يستحيل في جسمه ويصبح شيئًا طاهرًا، كما أن أيضًا الأشجار تسمد بالسماد النجس، وبالسرجين النجس، وتُثمر الثمرة الطيبة، كذلك أيضًا في الحيوان، فإن صحت أحاديث الجلالة؛ فيتعين الأخذ بما دلت عليه، وقد ورد حبس الجلالة ثلاثة أيام، لكن الأحاديث عند كثير من المحققين الواردة في الجلالة أحاديث ضعيفة، وبذلك نقول: الأصل أنه يُباح أكل مثل هذه الحيوانات.
يقول: عندنا في البلد بعض الشباب يصطاد بالشبكة؟.
الأخ من إيطاليا، ما أدري ماذا يقصد بالشبكة؟ هل يفهم من الشبكة المعنى الذي نفهمه، إذا كان المقصود أنه يضع شبكة ويضع فيها طعامًا للصيد ثم إذا أتى الصيد أغلقت هذه الشبكة فمات يعني قتلت هذا الصيد فنعم، هذا هو الذي نفهمه من الشبكة، وما يصاد بالشبكة مُحَرَّم، وليس مباحًا؛ لأنه يكون موقوذة، يكون في معنى الوقيذ.
يقول: حين يعلق بهذه الشبكة بعض الطيور ويمكنها أن يأتي عليها وهي لم تموت بعد؟.
إذا ذكاها فليس فيه إشكال، إذا ذكاها تحل، لو أنه وجد هذا الصيد في الشبكة حيًا، ثم ذكاه فإنه يباح، لكن الكلام لو أنه مات في الشبكة، يعني الشبكة لما صادته مات في الشبكة، مات بصيد الشبكة، فإنه يكون حرامًا، يكون من الموقوذة.
يقول في حالة المستغني في الاضطرار: لو لم يكن يعلم بالحكم ودافع عن ماله مستندًا إلى أنه (من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد) فقتل المضطر فهل يضمن القاتل الذي هو صاحب المال؟.(1/22)
نعم، يضمن، إذا كان صاحبه مضطرًا يجب عليه أن يبذل له طعامه، كيف يرى أخاه المسلم يموت جوعًا ويتركه؟! هذا لا يجوز، لا يجوز مثل هذا، ولذلك لو أن هذا المضطر أراد أن يأخذ منه الطعام المستغني عنه فمنعه فله أن يقاتله حتى يأخذ منه الطعام، ولو قُتِلَ هذا المضطر فإن صاحب الطعام يضمنه، بل قال بعض أهل العلم: يُقَصُّ به، قال بعض أهل العلم: أنه يُقَصُّ به، يكون فيه قصاص ودية.(1/23)
الفقه - المستوى السابع
الدرس الثامن عشر
الدرس الثامن عشر - باب النذر
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
باب النذر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالباب الذي سوف نشرحه في هذا الدرس -إن شاء الله- هو باب النذر، ولعلنا -كما اعتدنا- نقرأ أولا عبارة المؤلف -رحمه الله- ثم نتناول بالشرح مسائل الباب.
بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف -رحمه الله-: (
باب النَّذْرِ
من نَذَرَ طاعةً؛ لَزِمَ فعلها؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من نَذَرَ أن يطيع الله؛ فَلْيُطِعْه)، فإن كان لا يطيق ما نذر كشيخ نذر صيامًا لا يطيقه؛ فعليه كفارة يمين؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من نذر نذرًا لا يطيقه؛ فكفارته كفارةُ يمينٍ) ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يُجْزِهِ إلا المشيُ في حج أو عمرة، فإن عجز عن المشي؛ ركب وَكَفَّرَ، وإن نذر صيامًا متتابعًا فعجز عن التتابع؛ صام متفرقًا وَكَفَّرَ، وإن ترك التتابع لعذر في أثنائه؛ خُيِّرَ بين استئنافه، وبين البناء والتكفير، وإن تركه لغير عذر؛ وجب استئنافه، وإن نذر مُعَيَّنًا فأفطر في بعضه؛ أَتَمَّه وقضى، وَكَفَّرَ بكلِّ حال، ومن نذر رقبة؛ فهي التي تُجْزِئ عن الواجب، إلا أن ينويَ رقبةً بعينها، ولا نذرَ في معصية، ولا مباح، ولا فيما لا يملك ابن آدم، ولا فيما قصد به اليمين؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا نَذْرَ في معصيةٍ، ولا فيما لا يملك العبد)، وقال: (لا نذر إلا فيما ابتغيَ به وجهُ الله تعالى).(1/1)
وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها؛ فعليه بالوفاء بالطاعة وحدها؛ لما روى ابن عباس قال: أبصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً قائمًا في الشمس، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم؛ فقال: (مُرُوه؛ فليتكلمْ، وليستظلْ وليقعدْ، وليتمَّ صومه). وإن قال: لله عليَّ نذرٌ، ولم يُسَمِّه؛ فعليه كفارة يمين).
نعم.. النذر معناه في اللغة الإيجاب، ومنه قولهم: نَذَرَ دم فلان؛ يعني أوجب قتله، وهو في اللغة يدور حول معنى الإيجاب.
ومعناه اصطلاحًا: إلزامُ مُكَلَّفٍ مختارٍ نفسَه لله -تعالى- شيئًا غير محال بكلِّ قولٍ دَلَّ عليه.
وكأن يقول: لله عليَّ نذر إن نجحت في الاختبار أن أفعل كذا، مثلاً أصوم ثلاثة أيام، أو: لله عليَّ نذر إن شفى الله مريضي أن أتصدق لله -تعالى- بألف ريال.. أو نحو ذلك، هذا يُسمى نذرًا.
وأما حكم النذر؛ فالنذر لا يُستحب؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، كما جاء ذلك في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يُسْتخرجُ من البخيل). ونهيه -عليه الصلاة والسلام- أقلُّ ما يفيده الكراهة.
وقد توقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تحريمه، والصحيح من مذهب الحنابلة أنه مكروه، وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ أنَّ عَقدَ النذرِ مكروهٌ، وإنما لم نقل: إنه محرم؛ لأنه لو كان محرمًا؛ لَمَا مدح الله -تعالى- الموفين به.
ما الآية التي فيها الثناء على الموفين بالنذر؟
من يذكرها لنا؟
يقول الله -سبحانه وتعالى-: ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا? [الإنسان: 7].
?(1/2)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?، هذه من أوصاف المؤمنين أنهم يوفون بالنذر، فمدح الله -تعالى- الموفين بالنذر. فلو كان عقد النذر حرامًا؛ لَمَا مدح الله -تعالى- الموفين بالنذر، ولذلك فعقد النذر ليس مُحَرَّما، لكنه مكروه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يُسْتخرج من البخيل).
إذن كيف نجمع بين قول الله تعالى: ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ?، وقد ذكر هذا في معرض الثناء والمدح لهم بأنهم يوفون بالنذر، وبين نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر؟!
والنهي في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج من البخيل)، كيف ينهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمر والله -تعالى- قد مدح الموفين به؟!
هذا كنا قد طرحناه سؤالاً في الدرس السابق، ولأجل أن يجتهد الإخوة المشاهدون والمتابعون لهذا الدرس في البحث وفي الإجابة عن هذا السؤال، لعلنا أولاً نستمع لبعض الإجابات من الإخوة المشاهدين، ثم بعد ذلك نُلقي الضوء على هذه المسألة.
تقول: الجمع بين المدح في الآية ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ? وما ورد في السنة عن النهي بالنذر:
يكون هنا النهي على الكراهة؛ لأن الأصل الإباحة، والأصل الجواز، فإذا جاء النهي عن الجواز؛ فيكون للكراهة؛ لأن الإنسان قد يعجز عن الوفاء في النذر، مثل ما يُنْذر في حالة الغضب بشيء يصعب عليه الوفاء به، والذي قال: عليَّ ذبح شاة إذا شفى الله مريضي؛ فإن قَدَّرَ الله -عز وجل- موت المريض؛ فهل هذا القول سيجعل الله يشفيه؟!
إذن النذر لا يأتي بخير، وقد يصادف قَدَرَ الله في شفاء المريض، فالله -سبحانه وتعالى- مُقَدِّرٌ ذلك سواءً ذبح أو لم يذبح، فالنذر لا يغير قدر الله، لهذا نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- والله تعالى أعلم.
نأخذ إجابة أخرى إذن.(1/3)
تقول: النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النذر وقال: (إنه لا يرد شيئًا وإنما يُسْتخرج به من البخيل) إلا إذا كان النذر على فعل طاعة؛ وجب عليه الوفاء بذلك، وقال تعالى واصفًا الأبرار: ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا? [الإنسان: 7]، وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يَعْصِه).
يقول: الجمع بين ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن المفسرين اختلفوا في معنى النذر في الآية، فحملها بعضهم على تكاليف الإسلام عمومًا، وعلى هذا؛ فلا إشكال.
الوجه الثاني: ما إذا حملناه على النذر المعروف؛ فإن المنهيَّ عنه في السنة هو النذر الْمُعَلَّقِ لا عموم النذر، وبهذا ندرأ التعارض ولله الحمد..
يعني إجابته الأولى جيدة الحقيقة، هو أتى بشيء لم يأت به من قبله، أن من العلماء من قال: المقصود بالنذر في الآية الطاعات عمومًا، الطاعات عمومًا تسمى نذورًا ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ? [الحج: 29] يعني المقصود بذلك الطاعات والتكاليف الشرعية، ومن أهل العلم وهو رأي جمهور المفسرين المقصود بالنذر النذر المعروف المصطلح عليه الذي ذكرنا تعريفه؛ إلزام مكلف مختار نفسه لله –تعالى- شيئًا غير محال بكل قول دل عليه، هذا هو المقصود بالنذر في الآية الذي عليه جماهير المفسرين، وهو الأقرب والله أعلم.
تقول: الحديث ظاهر في النهي عن النذر مطلقًا، ما يُنْذَر به ابتداء؛ كمن ينذر أن يُخرج من ماله كذا، وما يتقرب به معلقًا؛ كأن يقول: إن قدم زيدٌ؛ تصدقت بكذا، أما المدح في الآية؛ فجاء على الوفاء به على عقده.
أي نعم، هذه إجابة صحيحة، مدح الموفين بالنذر في الآية إنما ورد لمن وَفَى به بعد أن عقده، فإذن يُقال: ليس هناك تعارضٌ بين الآية، وبين الحديث، فأولاً: أن الله -تعالى- في الآية هل مدح الله -تعالى- الناذرين أم مدح المؤمنين؟!(1/4)
مدح المؤمنين الذين من أوصافهم أنهم يوفون بالنذر، لم يمدح الناذرين ابتداءً، وإنما مدح المؤمنين الذين من أوصافهم هذا، ثم لما مدح الله -تعالى- هؤلاء المؤمنين؛ مدحهم بأنهم ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ? يعني بعد عقده، يعني لو قُدِّرَ أن أحدهم عقد نذرًا؛ فإنه يفي به خوفًا من الله -عز وجل- وتقربًا إلى الله تعالى، أما ابتداءُ عقدِ النذر؛ فإنه مكروه، وذلك لأن الإنسان يُحَمِّل في ذمته شيئًا قد يفي به وقد لا يفي به، ولأنه لا فائدة منه؛ لأنه لا يرد من قدر الله شيئًا وإنما يستخرج من البخيل، وما كان كذلك؛ فإنه يكره للإنسان أن يتحمله.
ويَرِدُ الإشكال لو قلنا: إن ابتداء عقد النذر مُحَرَّم، فيرد الإشكال، نقول: كيف يكون مُحَرَّما والله -تعالى- مدح الموفين بالنذر؟! لكن إذا قلنا: إنه مكروه؛ لا يكون هناك إشكالٌ في الحقيقة؛ لأنهم يقولون: لا يأثم الإنسان بعقد النذر، وما دام أنه لا يأثم؛ فنقول: إذا عقده؛ فإنه يفي به، وإذا وفاه؛ فإن الله -تعالى- أثنى على الموفين بالنذر، وبذلك لا يكون هناك تعارضٌ بين الآية وبين الحديث، ونشكر جميع الإخوة والأخوات الذين اجتهدوا في الإجابة عن هذا السؤال.
قال المؤلف -رحمه الله-: (من نذر طاعة؛ لزمه فعله)
ذكر المؤلف أقسام النذر في ثنايا حديثه، وبودنا أن نرتب هذه الأقسام ونجملها في خمسة أقسام؛ فنقول: إن أقسام النذر خمسة، ينقسم النذر إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: النذر المطلق.
مثل أن يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يُسَمِّ شيئًا، هذا يسميه الفقهاء بالنذر المطلق، هذا تجب به كفارةُ يمين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كفارة النذر إذا لم يسمَّ كفارة يمين) أخرجه الترمذي وأبو داود من حديث عقبة بن عامر -رضي الله عنه- والصحيح أنه موقوف، وهذا إذن النذر المطلق، النذر المطلق إذن فيه كفارة يمين.
القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب.
اللجاج: ما معنى اللجاج؟(1/5)
أخذ الفقهاء هذا المصطلح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والله لأن يَلِجَّ أحدُكم في يمينه في أهله آثَمُ له عند الله من أن يُعْطِي كفارته التي افترض الله عليه) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
فقوله: (والله لئن يَلِجَّ)، يَلِجَّ: من اللجاج، واللجاج معناه التَّمادي في الأمر ولو بعد تَبَيُّنِ الخطإ، فمن يتمادى في الأمر ولو بعد تبين خطئه إلا أنه يتمادى فيه؛ يُقال: إنه عنده لِجَاج، هذا المقصود باللجاج.
ومعنى الحديث لأن يقيم على ترك الحنث؛ فإن استمراره على ترك الحنث، وإلحاق الضرر بأهله بذلك آثم له عند الله من أن يحنث وَيُكَفِّر كفارة يمين، يعني معنى الحديث أن بعض الناس قد يحلف على أمرٍ يضر أهله؛ والله لا أحضر لكم كذا، والله لا آتي لكم كذا، والله...، ويريد أن يَبَرَّ بيمينه هذه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (والله لأن يَلِجَّ أحدكم في يمينه في أهله) يعني لأن يبرَّ بيمينه هذا فيتمادى في هذه اليمين آثم له عند الله من أن يحنث، ويكفر كفارة يمين.
فأيهما أفضل الآن؟!
أن يحنث ويكفر كفارة يمين أم يتمادى في يمينه ويضر بأهله؟!
لا شك أنه يحنث، ويكفر كفارة يمين.
بعض الناس قد يقول: لا، أنا أريد أن أَبَرَّ بيميني هذا، أريد أن أبر بها ولا أحنث في يميني، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يبين أن هذا آثم عند الله من أن يحنث في يمينه ويكفر كفارة يمين، هذا معنى الحديث عند أهل العلم.
ولهذا قال أهل العلم: "إن الحنث في اليمين قد يكون أفضل من الوفاء بما حلف عليه" أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة، قد يكون الحنث في اليمين أفضل من التمادي فيها إذا كان فيه مصلحة، ويدل عليه قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: (والله لا أحلف على شيء فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني) هذا إذن هو معنى الحديث.(1/6)
أخذ الفقهاء من هذا اللفظ: (والله لأن يَلِجَّ أحدكم في يمينه) أخذوا منه نذر اللجاج والغضب، فسَمَّوْه نذر اللجاج والغضب.
نذر اللجاج والغضب معناه أن يقصد بنذره الحثَّ، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب، يقصد بنذره حثًا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا، يعني لا يقصد النذر بحدِّ ذاته، وإنما يقصد حثًّا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا. فمثلاً يعني نذكر لهذا أمثلة، مثلاً: يقول يريد أن يمنع نفسه من كلام شخصٍ مُعَيَّنٍ، فيقول: لله عليَّ نذرٌ أَنْ أَحُجَّ إن كلمت فلانا، يريد منع نفسه من كلام فلان، هذا بالنسبة للمنع.
وبالنسبة للحث يقول: لله عليَّ نذر أن أصوم شهرًا إن لم تفعل كذا، أو إن أفعل كذا، وهذا يريد أن يحث على فعل هذا الأمر، تصديقًا عندما يقول خبرًا ويريد أن يؤكد صحته؛ فيقول: إن كان هذا الخبر غير صحيح؛ فلله عليَّ نذر في أن أصوم شهرًا.
تكذيبًا يقول: إن كان هذا الخبر صحيحا؛ فلله عليَّ نذر في أن أتصدق بعشرة آلاف ريال، هذا هنا الآن ما قصد النذر وإنما قصد الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب، فهذا يسميه الفقهاء بنذر اللجاج والغضب.
ما الحكم فيه؟(1/7)
الحكم فيه أن الناذر يُخَيَّر بين فعل ما نذر عليه بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين، يُخَيَّر الناذر بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين، ويدل لذلك حديث عمران -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين) رواه أحمد وفي سنده مقال أيضًا، لكن العلماء نظروا أيضًا إلى النية، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وهذا ما قصد النذر، وما نوى النذر، وإنما قصد حثًّا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا، وقد سبق معنا في "كتاب الطلاق" أن الطلاق الْمُعَلَّقَ الذي لا يقصد المطلق به إيقاع الطلاق، وإنما يقصد حثًّا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا ذكرنا أن القول الراجح في هذا الطلاق أنه لا يقع، وأنه تجب به كفارة يمين، فكذلك أيضًا نقول هنا في نذر اللجاج والغضب، نقول: إن الناذر مُخَيَّرٌ بين الوفاء بنذره وبين أن يكفر كفارة يمين. إذن هذا هو القسم الثاني من أقسام النذر.
القسم الثالث: نذر المباح.
كأن يقول: إن نجحت في الاختبار؛ فلله عليَّ نذرٌ أن أذبح شاة -أن أصوم ثلاثة أيام هذه في نذر الطاعة- أن أذبح شاة، وأنادي عليها زملائي مثلاً أدعو لها زملائي أو أقاربي، فيقول لزملائه: إن نجحت في الاختبار؛ فلله عليَّ نذر أن أُوْلِم وليمة، وأدعوكم عليها، هذا نذر مباح، أو: لله عليَّ نذر أن ألبس هذا الثوب، أو: لله عليَّ نذر أن أركب سيارة فلان؛ فهذا نذر مباح.(1/8)
لكن هنا أنبه في المثال الأول إذا قال: لله عليَّ نذر إن نجحت في الاختبار؛ أن أذبح شاة، نحن قلنا: إنه نذر مباح، إذا كان قد قصد إكرام طائفة من الناس، قصد أنه يكرمهم بذبح شاة مثلاً، لكن لو قال: لله عليَّ نذرٌ إن نجحت في الاختبار أن أذبح شاةً يقصِد بذلك التصدُّق بها، التصدق بلحمها؛ فلا يكون هذا من نذر المباح، وإنما يكون من نذر الطاعة، ويدخل في القسم الخامس الذي سوف نتكلم عنه، فإذن تكون هذه المسألة في هذا المثال يكون فيها تفصيل على حسب مقصود ومراد الناذر.
النذر المباح الحكم فيه كالحكم في نذر اللجاج والغضب، أن الناذر مُخَيَّرٌ بين الوفاء بنذره، وبين أن يكفر كفارة يمين، والدليل لذلك ما جاء في سنن أبي داود بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله: إني نذرت أن أضرب الدف على رأسك إن ردَّك الله سالمًا يعني تقصد أن تضرب الدف احتفاءً بِمَقْدِم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام-: (أوفِي بنذركِ)، وبهذا استدل طائفة من أهل العلم على أنه يجوز ضرب الدف عند قدوم الغائب، فضرب الدف في مثل هذه الحالة مباح، وقد أرشدها النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشد هذه المرأة إلى أن تفيَ بنذرها، لكن لما كان مباحًا لا نستطيع أن نقول: إن الوفاء به واجب، وإنما النذر مخير بين أن يفيَ به وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لأنه لا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان نذر طاعة.
القسم الرابع: نذر المعصية.(1/9)
كأن ينذر بأن يقطع رحمه، أو أن يصوم يوم العيد مثلاً، أو نحو ذلك؛ فإنه لا يجوز الوفاء بنذره، كأن يقول: لله عليَّ نذر أن لا أدخل بيت أخي، أو: أن لا أدخل بيت أختي، أو: أن لا أدخل بيت أبي، هذا النذر معصية، هذا لا يجوز الوفاء به؛ لأنه نذر معصية، يعني قطيعة رحم أو عقوق، أو قال: لله عليَّ نذر أن أصوم يوم العيد، أو أيام التشريق لغير من لم يجد الهدي؛ فهذا نذر معصية، فهذا لا يجوز الوفاء به، وقد وضعنا عليه سؤالاً السؤال الثاني؛ فلعلنا نستمع أيضًا لبعض الإجابات من الإخوة المشاهدين والمتابعين لهذا الدرس.
السؤال الثاني: إذا كان النذر معصية؛ فهل يجب فيه كفارة يمين؟
تقول:
أولاً: لا يجوز الوفاء بالنذر في المعصية، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه)؛ فاختلف هل تجب به كفارة يمين أم لا؟! والراجح وهو ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم من الأئمة الأربعة أنه لا يلزم به كفارة يمين، واختاره أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: "ومن أسرج قبرًا، أو مقبرةً، أو جبلاً، أو شجرةً، أو نذر لها أو لسكانها، أو المضافين إلى ذلك المكان؛ لم يُجَز ولا يجوز الوفاء به إجماعًا ويصرف في المصالح ما لم يُعْلَم ربه" هذه إجابته.
نعم.. نذر المعصية لا يجوز الوفاء به قولاً واحدًا، لكن هل تجب فيه كفارة يمين؟! نقول: نعم، تجب فيه كفارة يمين في أظهر قوليْ العلماء.
نأخذ إجابة أخرى.
يقول: نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، وفيه كفارة يمين إلا أن ينذر ذبح ولده؛ فعليه كفارة وعنه ذبح كبش؛ لقوله: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين) رواه أبو داود والترمذي، وقال: غريب رواه أبو سعيد، وحديث النذر حلفه وكفارته كفارة يمين.
يكفي هذا..
نعم.. إذن نذر المعصية قلنا: إنه لا يجوز الوفاء به، وكفارته كفارة يمين، نشكر جميع الإخوة والأخوات الذين أجابوا عن هذا السؤال والسؤال السابق، ونسأل الله تعالى أن يأجر الجميع!(1/10)
الدليل على أن نذر المعصية تجب به كفارة يمين: الحديث الذي سمعناه، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وهو حديث صحيح من جهة الإسناد.
فقوله: (وكفارته كفارة يمين) نص في أن نذر المعصية كفارته كفارة يمين. إذن هذا ما يتعلق بنذر المعصية وهو القسم الرابع.
القسم الخامس والأخير: هو نذر الطاعة.
وإنما أخرنا الكلام عن هذا القسم؛ لأننا نريد أن نربطه بكلام المؤلف، نذر الطاعة يجب الوفاء به وجوبًا، يعني يأثم لو لم يفِ به، سواءً كان مطلقًا، أو كان معلقًا، مطلقًا لله عليَّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام، معلقًا: إن شفى الله تعالى مريضي؛ فلله عليَّ نذر أن أصوم ثلاثة أيام، أو أصوم شهرًا أو نحو ذلك، فهذا الحكم فيه أنه يجب الوفاء به؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه: (من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه).
ويدخل في نذر الطاعة وَعْدُ العبد ربَّه بفعل طاعة عند حصول غرضه، فيجب عليه أن يفيَ به؛ كأن يقول: إن سلمني الله -تعالى- من هذه المصيبة، إن نجاني الله -تعالى- من هذا الموقف؛ فلأتصدقنَّ بخمسة آلاف ريال مثلاً؛ فهنا هذا نوع من النذر، وإن لم يقل: لله عليَّ نذر؛ لأنه وعد لله تعالى بفعل طاعة، بل قال ابن القيم -رحمه الله- قال في كتابه "إعلام الموقعين" قال: "إذا قال: إن سَلَّمَنِي الله؛ تصدقت؛ أو لأتصدقنَّ؛ فهو وعد وعده الله؛ فعليه أن يفيَ به وإلا؛ دخل في قول الله -تعالى-: ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ? [التوبة: 77]، قال: فوعد العبد ربه نذر يجب عليه أن يفيَ له به، فإنه جعله جزاءً وشكرًا له على نعمته عليه، فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات، وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداءً: لله عليَّ كذا" انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.(1/11)
فنذر الطاعة إذن بأقسامه سواء كان مطلقًا: لله عليَّ نذر أصوم كذا من الأيام، أو كان معلقًا: إن نجحت في الاختبار؛ فلله عليَّ أن أتصدق، أو أصوم، أو أحج، أو كان مجردَ وعدٍ بفعل الطاعة: إن سلمه الله -تعالى- أو إن حصل غرضه؛ فهذا أيضًا يدخل في نذر الطاعة؛ كأن يقول: إن نجاني الله -تعالى- من هذا الموقف؛ فسوف أفعل كذا، سوف أتصدق لله -تعالى- بصدقة، سوف أحج، سوف أصوم، فهذا أيضًا يدخل في نذر الطاعة، نذر الطاعة يجب الوفاء به، وَيَحْرُم ترك الوفاء به، وقد توعَّدَ الله -عز وجل- من يخلف ما وعد به ربه بعقوبة غليظة شديدة، وهي المذكورة في قول الله سبحانه: ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ?75? فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ ?76? فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? [التوبة: 75- 77] لاحظ أن العقوبة هنا عقوبة شديدة، هي عقوبة معنوية وهي أن يُلقى النفاق -والعياذ بالله- في قلب هذا الإنسان إلى الممات، وهذه عقوبة من أشدِّ ما تكون، وربما أن الإنسان لا يحس بها ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? هذا يبين لنا خطورة أن يَعِدَ الإنسان ربه بفعل طاعة ثم لا يفي بها، فهذا يُخْشَى عليه من أن يلحقه الوعيد الوارد في هذه الآية ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ?.
ولهذا نقول: أنت -يا أخي- في سعة من أمرك، لماذا تضيق على نفسك؟! لماذا تلحق الحرج بنفسك؟!(1/12)
يعني إذا قلت: لله عليَّ نذر إن حصل كذا أن أصوم، أو أحج لا بد أن تفي بهذا النذر، أنت الذي ضَيَّقْتَ على نفسك، فإن لم تفعل؛ فأنت على خطر من أن تلحقك هذه العقوبة العظيمة، ليس هناك داعٍ لأن تضيق على نفسك، ولهذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النذر، وقال: (إنه لا يأتِي بخير)، ونجد في الغالب أن الذين ينذرون يندمون، الغالب أن من ينذر يندم في الحقيقة، خاصة إذا نذر أمرًا كبيرًا، ثم بعضهم يذهب يستفتي ربما أيضًا ينذر أمرًا شاقًّا، أو أمرًا كبيرًا فيستفتي هل له رخصة في عدم الوفاء بالنذر أم لا؟! ولكن في الحقيقة هو الذي أوقع نفسه في الحرج، فنقول ابتداءً: ينبغي الإنسان أن لا ينذر، ينبغي أن يبتعد عن النذر، النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، وقال: (إنه لا يأتِي بخير، ولا يَرُدُّ من قدر الله شيئًا، إنما يستخرج من البخيل) لكن من نذر نذر طاعة يجب عليه أن يفي به، وإلا؛ ربما لحقه الوعيد المذكور في هذه الآية.
إذن نُلَخِّص الكلام في أقسام النذر:
القسم الأول: النذر المطلق، حكمه: أن فيه كفارة يمين.
القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب، حكمه: مخير بين الوفاء بالنذر، وبين أن يكفر كفارة يمين.
القسم الثالث: نذر المباح، حكمه: مخير أيضًا بين الوفاء بالنذر وبين أن يكفر كفارة يمين.
القسم الرابع: نذر المعصية، لا يجوز الوفاء به وفيه كفارة يمين.
القسم الخامس: نذر الطاعة، يجب الوفاء به، وإن لم يفِ به؛ ففيه كفارة يمين، إن لم يف به؛ فإنه يأثم وفيه كفارة يمين أيضًا. هذه أقسام النذر الخمسة.
نعود لعبارة -رحمه الله- قال المؤلف: (من نذر طاعة؛ لزمه فعله).
نعم، كما قلنا في نذر الطاعة: إنه يجب الوفاء بنذر الطاعة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من نذر أن يطيع الله؛ فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه).(1/13)
قال: (فإن كان لا يطيقه) يعني لا يطيق الطاعة (كشيخ نذر صيامًا لا يطيقه؛ فعليه كفارة يمين) يعني إنسان كبير في السن نذر أن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، ولا يطيق ذلك؛ فحينئذ نقول: ينتقل للكفارة، يكون عليه كفارة يمين.
والنذر بجميع أقسامه إن لم يصلح الوفاء به؛ ففيه كفارة يمين، يعني لا يمكن أن يخرج الإنسان من النذر بدون شيء، فإما أن يفي به، وإما أن يكون فيه كفارة يمين.
تقول: ما صحة من قال: إن النذر المطلق محمود، وإن المكروه هو المقيد؟ ويحتجون بذلك أن النذر من أنواع العبادات، ومعلوم أن العبادة يحبها الله؛ فعلى هذا قالوا: إنه قسمان: قسم مكروه، وقسم محمود..
نقول: إن هذا القول الذي ذكرته الأخت قول غير صحيح، وإن كان ربما قال به بعض العلماء لكنه قول لا أرى أنه متجه، وذلك لعموم الحديث، النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن النذر، وقال: (إنه لا يأتِي بخير ولا يَرُدُّ من قدر الله شيئًا، وإنما يستخرج من البخيل) هذا يشمل النذر بجميع أقسامه، ثم أيضًا الصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا ينذرون، وهم خير القرون، وهم أسوتنا وهم قدوتنا، يعني ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينذر -عليه الصلاة والسلام- لم يحصل أن نذر، وإن كان قد حلف -كما سيأتينا-، فاليمين حصل منه أن حلف -عليه الصلاة والسلام- وَكَفَّر كما في حديث الأشعريين، لكن النذر ما كان الصحابة يتسابقون إليه، وهذا التقسيم لا أرى له وجهًا؛ فالأدلة عامة في النهي عن النذر بجميع أقسامه.
تقول: هل للنذر صيغة معينة بلفظ "لله عليَّ"؟ وهل للنية دور أم ليس لها دور؟ مثلاً ممكن الشخص يتلفظ ولكن ليس في ذهنه له نية النذر.(1/14)
أما صيغة النذر؛ فليس له صيغة معينة، كل صيغة يفهم منها إلزام الإنسان نفسه؛ فإنه يكون نذرًا إذا كان قد نوى ذلك، من أشهر صيغه: لله عليَّ نذر أن أفعل كذا، لكن لو قال: لله عليَّ أن أفعل كذا؛ ألا يعتبر هذا نذرًا؟! أو أتى بأي صيغة تفيد إلزام المكلف نفسه، هو لا يتحدد صيغة معينة.
أما سؤالها عن النية؛ فالنية لا بد منها؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فالإنسان الذي لم ينو نذرًا؛ فإنه لا يكون نذرًا لعموم هذا الحديث.
تقول: إذا نذرت المرأة أنها إذا سلمت على فلانة أن تصوم شهرا، فهذا نذر يكون ... .
نذرت إن سلمت على فلانة.
هذا قبل عشرين سنة، لكن كان فيه إعجاب وكذا، ما أدري هل هذا معصية؟.
نذرت إن سلمت على فلانة؟
نعم.. أن تصوم شهرًا، لكن كان بينهم إعجاب؛ فهل هذا معصية؟.
يعني قصدت منع نفسها من تكليمها؟
لا.. لا.. من السلام عليه.
قصدت منع نفسها من السلام عليها.
نعم.. تسلم عليها سلاما عاديًّ.
لأجل أن يزول ما بينهما؟
لا.. لا.. هي واحدة قالت: إن سلمت على فلانة سأصوم شهر، وقالت واحدة جنبها: وأنا إذا سلمت سأصوم شهر.
طيب ما الغرض من هذا؟ لماذا قالت هذا؟
كان إعجاب منهم.
يعني لأجل أن تمنع نفسها من السلام عليها حتى يزول الإعجاب.
يعني سلام كانت تسلم عليها سلاما عاديا، ليس لغرض ولا لشيء.
يقول: لو رجل قال مثلاً وعد عليَّ أن أترك الدخان أمام الله -عز وجل- عاهد نفسه ثم رجع إلى التدخين مرة أخرى، هل يُعد هذا من النذر الذي تكلم به الإنسان ووعد الله -عز وجل- به؟.
أسئلة الدرس القادمة.
الدرس القادم -إن شاء الله- الأسبوع القادم سيكون هو آخر أسبوع معنا -إن شاء الله- في هذا الفصل، فسيكون -إن شاء الله تعالى- الدرس القادم والذي يليه في الأيمان يعني في أحكام اليمين وفي كفارة اليمين، فوضعنا سؤالين في اليمين.
السؤال الأول: ما المراد باليمين الغموس؟ وهل تجب بها كفارة؟(1/15)
اليمين الغموس معدودة في الحديث من الكبائر فما المراد بها؟ ما معناها؟ ما ضابطها؟ وهل تجب بها كفارة أم لا؟
السؤال الثاني: هل تجب الكفارة بالحنث في يمين الإكرام؟
يعني إنسان حلف على غيره يقصد إكرامه؛ كأن يقول: والله لا أجلس في هذا المكان، أو: والله لتجلسن في هذا المكان، أو: والله لتشربن مثلاً فنجان القهوة أو الشاي قبلي، أو: نحو ذلك يقصد إكرامه، ثم إنه حنث في ذلك، يعني لم يجلس في هذا المكان، لم يحقق ما حلف عليه؛ فهل يجب بذلك كفارة أم لا؟
تقول: نذرت امرأة أن لا تسلم على فلانة وسلمت عليه.
هو الذي فهمنا من سؤالها أن هذه الأخت كان بينها وبين صاحبتها إعجاب فأرادت أن تقطع هذا الإعجاب، فنذرت أنها إن سلمت عليها أن تصوم شهرًا، إذا كان هذا هو الواقع؛ فحينئذ يدخل هذا في نذر اللجاج والغضب؛ لأن المقصود منه المنع، المقصود أنها تمنع نفسها من السلام عليها؛ قطعًا للإعجاب والتعلق بها، يعني لم تقصد النذر بحد ذاته، إنما قصدت المنع فقط، وحينئذ يجب بهذا كفارة يمين؛ لأن المقصود منه المنع، فيدخل في قسم اللجاج والغضب.
يقول عن قضية التدخين قال: وعد عليَّ أمام الله أن أترك التدخين ثم عاد له.
نعم.. هذا في الحقيقة ترك التدخين واجب عليه أصلاً، فيعتبر من نذر الطاعة أنه يترك التدخين، فما دام أنه وَعَدَ ربه بذلك فيجب عليه أن يفي بهذا الوعد، فإذا ما حصل منه هذا وعاد للتدخين؛ فعليه:
أولاً: أن يتوب إلى الله -عز وجل-.
ثانيًا: أو يكفر كفارة يمين، وأنصحه أن لا يعود لمثل هذه الألفاظ، لكن على كل حال واجب عليه في مثل هذا أن يكفر كفارة يمين.
لعلنا نكمل قليلاً، بودنا نقطع في باب النذر مرحلة.(1/16)
هنا قال: (فإن كان لا يطيقه) يعني الطاعة (كشيخ نذر صيامًا لا يطيقه؛ فعليه كفارة يمين) يعني إذا لم يُطق الطاعة؛ فعليه كفارة يمين. طيب إذا كانت الطاعة فيها مشقة غير معتادة، يعني مثلاً إنسان قال: إن نجحت في الاختبار؛ صمت سنة، أو: إن ربحت في الصفقة الفلانية؛ صمت سنة، صيام سنة قد يكون شاقًّا على بعض الناس عليه مشقة، أو أصوم خمس سنين مثلاً، هذا نذر طاعة هل يجب عليه أن يفيَ به؟
هو مستطاع لكن مع المشقة الصحيح في هذا أن من نَذَرَ نَذْرَ طاعة في عبادة غير متعدية وفيها مشقة تتجاوز المعتاد، تتجاوز المشقة المعتادة في العبادات أن هذه الطاعة تصبح حينئذ غير مستحبة، بل هي مكروهة، وحينئذ يكون من نَذَرَ فعلها قد نذر مكروهًا، لكونه قد نَذَرَ أمرًا يشق عليه، ولا يستحب فعله، ولذلك فإنه يكفر كفارة يمين.
ولهذا قال ابن عبد البر في "الاستذكار" قال: "السنة الثابتة في هذا الباب قال: دالة على طرح المشقة فيه عن كل مُتَقَرِّبٍ إلى الله -عز وجل- بشيء منه"، ويؤيد هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة أبي إسرائيل: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه)، فمن نَذَرَ أن يفعل طاعة فيها مشقة عليه مشقة غير معتادة؛ فحينئذ يعدل عن ذلك يعني له أن لا يفيَ بتلك الطاعة، إن وفى بها؛ فحسنٌ، إن لم يف بها؛ فيكون الواجب عليه بها كفارة يمين.(1/17)
الفقه - المستوى السابع
الدرس التاسع عشر
الدرس التاسع عشر - تابع باب النذر، وبداية كتاب الأيمان
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
تابع باب النذر، وبداية كتاب الأيمان
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
كنا قد بدأنا في مسائل وأحكام "النذر" ولعلنا نستكملها -إن شاء الله- في هذا الدرس، ونبدأ في كتاب "الأيمان"، ونكمل -إن شاء الله- غدا بقية مسائل "الأيمان" وسيكون غدا -إن شاء الله تعالى- هو آخر درس في هذه الدورة في المستوى السابع، وبعده سوف يتوقف هذا البرنامج، ثم يعود -إن شاء الله- بعد فترة الإجازة بعد تقريبا ثلاثة أسابيع إن شاء الله تعالى.
إذن الخطة هي أننا نقف -إن شاء الله- عند كتاب "الجنايات" سوف نكمل -إن شاء الله- هذا الدرس والدرس القادم ما تبقى من مسائل "النذر" ومسائل "الأيمان" ونقف عند كتاب "الجنايات"، لتكون بداية المستوى التالي من كتاب "الجنايات"-إن شاء الله.
كنا قد بينا حكم "النذر" وقلنا إنه مكروه، وذكرنا الدليل لذلك، وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (نهى عن النذر، وقال إنه لا يأتي بخير إنما يستخرج من البخيل)، وأيضا ذكرنا أن للنذر خمسة أقسام: نريد أن نستذكر هذه الأقسام الخمسة قبل أن نكمل بقية المسائل:
للنذر خمسة أقسام:
الأول: "النذر المطلق": هو أن يقول الرجل: لله عليّ نذر، ولا يسمي شيئا.
الثاني: "النذر اللجاج والغضب"
ما معنى "اللجاج والغضب"؟
يقصد بذلك المنع أو التأكيد أو الاعتذار
يقصد حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا، ولا يقصد النذر، لا يقصد ما نذر عليه، وإنما يقصد حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا.
الثالث: "المباح". قد يقول: علي شاة لزملائي.
القسم الرابع: "نذر لمعصية" ولا يجوز الوفاء به.
الخامس: "نذر الطاعة" ويجب الوفاء به.(1/1)
إذن "نذر الطاعة" يجب الوفاء به، "نذر المعصية" لا يجوز الوفاء به وفيه كفارة يمين، "اللجاج والغضب" إذا لم يقصد ما نذر عليه، وإنما قصد حثا، أو منعا، أو تصديقا، أو تكذيبا؛ فهو مُخير بين أن يفعل ما نذر عليه، وبين أن يكفر كفارة يمين، وكذلك "النذر المباح" "والنذر المطلق".
أي هذه الأقسام يجب فيه فعل ما نذر عليه؟
الذي يجب عليه فعله "نذر الطاعة"، إذا نذر طاعة؛ فيجب عليه فعله.
أحسنت، إذن "نذر الطاعة" هو الذي يجب أن يفي بما نذر عليه هو الوحيد، وإنما بقية الأقسام الأربعة لا يجب، "النذر المباح"، "نذر اللجاج والغضب"، "النذر المطلق"، هذه لا يجب أن يفي بما نذر عليه، هو مخير بين أن يفي، وبين أن يكفر كفارة يمين، و"نذر معصية" لا يجوز أن يأتي بمعصية، وإنما يكفر كفارة يمين، معنى ذلك أن النذر لا ينفك عن أحد أمرين: إما أن يأتي بما نذر عليه، أو كفارة يمين؛ أي لا يمكن للإنسان أن ينذر ويخرج سالما ما عليه شيء، إما أن يفي بما نذر عليه، وإما أن يكون في ذلك كفارة يمين. هذه قاعدة معنا في هذا الباب.
وليست على التخيير في الأمرين مطلقة؟!
هي على التخيير في جميع الأقسام ما عدا "نذر الطاعة" يجب فعل الطاعة إن استطاع وإن عجز؛ فيها كفارة يمين.
لو أن أحدا نذر "نذر طاعة" ثم إنه تساهل، ولم يفِ بما نذر عليه، ولم يأتي بهذه الطاعة، ما العقوبة التي وردت في شأن من حصل منه ذلك؟ ما هي العقوبة؟ هل ورد في هذا شيء من النصوص؟
يقول ابن عبد البر -رحمه الله- إن عليه كفارة يمين
لكن ما هي العقوبة؟ إنسان نذر قال: لله علي نذر إن أغناني الله أن أبني مسجدا، أو أن أتصدق بمائة ألف، ثم أغناه الله –تعالى- ولم يفعل. ما هي العقوبة الواردة في حق هذا وأمثاله؟(1/2)
ورد فيه الآية الكريمة: ? وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ ? [التوبة: 75]، فذكر الله -سبحانه وتعالى- أنهم لما تركوا ما وعدوا الله -سبحانه وتعالى- به بعد أن آتاهم الله من فضله؛ عاقبهم بعقوبة شديدة، وهي قوله: ? فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ? [التوبة: 77].
أحسنت، إذن ورد في ذلك وعيد شديد، وهي عقوبة شديدة، عقوبة معنوية قد لا يشعر بها الإنسان، وهي ما ورد في قول الله -عز وجل-: ? وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ?75? فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ ?76? فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ? [التوبة: 75 - 77].
العقوبة هي النفاق، أن يُوضع النفاق في القلب -والعياذ بالله- إلى الممات ? فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ?، ولهذا خطر عظيم، من نذر "نذر طاعة" ولم يفِ؛ فهو على خطر من أن تلحقه هذه العقوبة الشديدة، وهي أن يُلقى في قلبه النفاقُ -والعياذ بالله- إلى الممات، وهو من أشد ما يكون من أنواع العقوبة.
نعود بعد ذلك نكمل، كنا وصلنا إلى قول المؤلف: (ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام) هو قال: من نذر نذر طاعة؛ لزمه فعلها ثم ذكر الحديث، وقال (إن كان لا يطيقها كشيخ نذر صيام لا يطيقه؛ فعليه كفارة يمين) يعني إذا عجز عن نذر الطاعة؛ فعليه كفارة يمين، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من نذر نذرا لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين)، وقلنا: إن الصحيح أن هذا موقوف، لكن معناه صحيح.(1/3)
قال: (ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يُجْزِه المشي إلا في حج أو عمرة) لأن المشي المعهود في الشرع هو المشي للحج أو العمرة، فإذا لم ينو شيئا معينا بهذا النذر؛ فإنه ينصرف إلى المشي للحج والعمرة.
قال: (فإن عجز عن المشي؛ ركب) يعني لو كان مثلا من مكان بعيد، وعجز عن المشي إلى مكة؛ فإنه يكفر كفارة يمين. لكن إذا كان يشق عليه، هو لم يعجز لكن عليه مشقة، مثلا إنسان في الرياض، ونذر أن يذهب أن يحج البيت ماشيا، أو أن يعتمر ماشيا من الرياض إلى مكة، والمسافة من الرياض إلى مكة تقارب ألف كيلو مترا، هذا عليه مشقة كبيرة؛ فهنا الصحيح أنه لا يلزمه أن يفي بنذره، وإنما يكفر كفارة يمين، إذا كان النذر فيه مشقة؛ يكفر كفارة يمين، إذا كانت مشقة غير معتادة، والدليل لذلك ما جاء في الصحيحين عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستفتيته فقال: (لتمشِ ولتركب) متفق عليه وفي رواية أبي داود: (وأن تكفر كفارة يمين).
فهنا هذه المسألة أفتى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذن نذر الطاعة أحيانا قد يستطيع الإنسان الوفاء به لكن يلحق الإنسان مشقةٌ غير معتادة.(1/4)
أما إذا كانت مشقة معتادة؛ فلا بد من الإتيان بهذه الطاعة، مثلا من نذر أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر هذه فيها مشقة لكن معتادة، من نذر أن يصوم كل اثنين فيها مشقة لكنها معتادة، لكن من نذر إن شفى الله مريضه، أو إن حصل له كذا أن يصوم سنة كاملة؛ فهنا فيها مشقة غير معتادة، فالصحيح في هذه المسألة أنه يكفر كفارة يمين، ولا يلزمه الوفاء بهذا النذر؛ لأن نذر الطاعة إذا كان في عبادة غير متعدية، وكان يلحق الناذر مشقة غير معتادة؛ فإن هذا النذر في الحقيقة نقول: إنه أصبح مكروها، ولم يعد نذر طاعة، ما دام فيه مشقة غير معتادة، وفيه عبادة غير متعدية؛ فالآن أصبح هذا نذرا مكروها وليس نذر طاعة؛ لأن كون الإنسان ينذر شيئا يشق عليه مشقة غير معتادة؛ هذا بالحقيقة لا يقال إنه مستحب، ولا يقال إنه نذر طاعة، ولهذا فإنه يكفر كفارة يمين.
قال ابن عبد البر -رحمه الله- قال: «السنة الثابتة في هذا الباب دالة على طرح المشقة فيه عن كل متقرب إلى الله تعالى بشيء منه»، ويؤيده قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة أبي إسرائيل: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه)، فالله –تعالى- غني أن يعذب هذا العبد نفسه بمثل هذه المشقة غير معتادة.
قال المؤلف -رحمه الله-: (وإن نذر صوما متتابعا فعجز عن التتابع؛ صام متفرقا وكفر) هذا الإنسان قال: إن حصل لي كذا؛ فلله عليّ نذر أن أصوم أربعة أشهر متتابعة، ثم عجز عن التتابع؛ فنقول: يصوم أربعة أشهر متفرقة، ويكفر كفارة يمين عن ترك التتابع.
قال: (وإن ترك التتابع لعذر في أثنائه؛ خُيِّرَ بين استئنافه، وبين البناء والتكفير) يعني نذر أن يصوم شهرين متتابعين، ثم حصل له عذر مرض مثلا فانقطع التتابع هنا لمرض لعذر؛ فهنا هو مخير بين أن يُكمل ويكفر كفارة يمين، وبين أن يستأنف ولا يكون عليه كفارة.
قال: (وإن تركه لغير عذر؛ وجب استئنافه؛ لأنه نذر طاعة) لكن بالقيد الذي ذكرناه وهو ما لم يشق عليه مشقة غير معتادة.
((1/5)
وإن نذر معينا فأفطر في بعضه؛ أتمه، وقضى، وكفر بكل حال) يعني نذر أن يصوم هذا اليوم يوما بعينه ثم إنه أفطر في هذا اليوم؛ فيلزمه إتمامه، وقضاؤه، والكفارة.
يراد بالاستئناف يا شيخ؟
الاستئناف: يعني يبدأ من جديد.
(وإن نذر رقبة؛ فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها) يعني إن نذر عتق رقبة؛ فهي التي تجزئ عن الواجب؛ أي الرقبة المؤمنة الخالية من العيوب المانعة من العمل هذا هو المقصود، إلا أن ينوي رقبة بعينها فيلزمه أن يعتق تلك الرقبة المعينة.
قال: (ولا نذر في معصية) نحن قلنا في الدرس السابق: إن المؤلف فرَّق الكلام على أقسام النذر، ونحن ذكرناه مجتمعا فهنا أشار المؤلف لنذر معصية سبق أن تكلمنا عنه في الدرس السابق، وقلنا إنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية لكن فيه كفارة يمين ولهذا قال المؤلف: (ولا نذر في معصية) لكن مع كفارة اليمين للحديث الصحيح: (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين).
(ولا مباح) يعني أن النذر لا يكون كذلك في معصية ولا يكون في المباح كمن نذر أن يلبس ثوبه أو أن يركب دابته، فهنا مراد المؤلف قوله (ولا نذر في مباح) يعني ليس معنى ذلك أنه لا يجوز النذر في المباح، وإنما المقصود أن النذر في المباح مخير بين أن يفعل ما نذر عليه، وبين أن يُكفر كفارة يمين هذا هو المقصود، ليس المقصود أنه لا يجوز النذر في المباح، هو فقط لا يجوز النذر في المعصية، وأما المباح؛ فمراد المؤلف هنا أن الناذر مخير بين فعل ما نذر عليه، وبين تركه ويكفر كفارة يمين.(1/6)
قال: (ولا فيما لا يملك ابن آدم) لأنه قد ورد في ذلك حديث صحيح: (لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك)، (ولا فيما قصد به اليمين). ما قصد به اليمين ماذا يسمى؟ "نذر اللجاج والغضب"، وسبق أن تكلمنا عنه، وبينا وجه تسميته باللجاج، وبينا الحكم فيه، وهو أن الناذر مخير بين فعل ما نذر عليه، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه الإمام مسلم في صحيحه، قال: (و(لا نذر إلا فيما ابتغي وجه الله تعالى)، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وهو حديث حسن.
قال: (وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها؛ فعليه الوفاء بالطاعة وحدها) يعني إن جمع بين أمور مباحة، وأمور طاعة؛ فيجب عليه أن يفي بالطاعة، وأما المباحة؛ فعلى القاعدة التي ذكرنا هو مخير بين أن يأتي بها، وبين أن يتركها إلا أن يكون في ذلك تعذيبا له ومشقة عليه؛ فهنا ينبغي له أن لا يأتي بذلك؛ يعني يكون الإنسان مثلا ينذر أن يقف في الشمس؛ فالله –تعالى- غنيٌّ عن تعذيب هذا نفسه ما معنى هذا؟! فهنا نقول لا يفعل ما نذر عليه، وإنما يكفر كفارة يمين عن هذا النذر.
يلزم بهذا يا شيخ، يلزم بأن لا يكفر، يكون له خيار واحد فقط الذي هو الكفارة؟
على كل حال إذا كان على الإنسان ضررٌ فربما نعتبر هذا النذر معصية، الإنسان ممنوع أن يضر نفسه؛ لكن إذا لم يكن عليه ضرر، وكان في أمر مباح؛ فهو على القاعدة أنه مخير.(1/7)
قال: لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أبصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا قائما، جاء تسميته في بعض الروايات أن اسمه أبو إسرائيل- فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، انظر يعني عجائب حتى في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- يعني يأتي أناس لهم تفكير غريب وطريقة في هذا أقول صحابي جليل -رضي الله عنه- لكن أوردنا هذا أن يبين يعني مثل هذه الغرائب التي تحصل في كل زمان، ليس فقط في زماننا نحن نرى تصرفات غريبة من بعض الناس تجد بعض الناس يتصرف تصرفات غريبة.
يلزم نفسه أحيانا بأشياء
نعم يتصرف تصرفات غريبة إما في نفسه، أو في تعبده، أو في أهله يعني تجد بعض الناس تستغرب أن تصدر مثل هذه التصرفات، هذا موجود في كل زمان في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- أبو إسرائيل نذر هذا النذر يعني ما الفائدة من هذا؟! أنه يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، صحيح هذا "نذر طاعة" لكن ما الفائدة كونه يقف في الشمس قائما لا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم؛ فهذا يدل على أن مثل هذا كان في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فأُبلغ النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا قال: إن رجلا قد نذر هذا النذر واقف في الشمس لا يستظل ولا يقعد وهو صائم فقال -عليه الصلاة والسلام-: (مروه؛ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه، إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه).(1/8)
الله تعالى غني عن مثل هذه التصرفات، كون الإنسان يقف في الشمس لا يتكلم، ولا يقعد ولا يستظل؛ فما الفائدة من هذا؟! هذا تعذيب للنفس، والله –تعالى- غنيٌّ عن مثل هذا التصرفات، ولهذا قال: (إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه)، فهنا أمره النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن يتكلم، وأن يستظل، وأن يقعد لكن قال: (ويتم صومه)، فهنا استدل به المؤلف على أن الإنسان إذا جمع بين نذر الطاعة وغيره؛ فإنه يلزمه أن يفيَ بنذر الطاعة فقط، طبعا عندما نقول هذا الكلام ليس هذا قاصم من هذا الصحابي، وهو صحابي جليل -رضي الله عنه- لكن أقول إنه قد تصدر بعض التصرفات الغريبة من بعض الناس.
ومن ذلك ما مر معنا قبل قليل في قصة أخت عقبة لما نذرت أن تحج إلى البيت ماشية حافية، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لم يقرها على هذا قال: (لتمشِ ولتركب ولتكفر)، أنها تذهب إلى البيت راكبة وتكفر كفارة يمين عن هذا النذر.
هذه الأمور التي نحن ليس فيها مصلحة ظاهرة للعبد، وفيها تعذيب للإنسان، الله –تعالى- غني عن تعذيب الإنسان نفسه، والله –تعالى- غني عن طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين: ? مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ? [النساء: 147]، الله -سبحانه وتعالى- غني عن عباده: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? [فاطر: 15].
فالإنسان عندما يقوم بالطاعة إنما ينفع نفسه، وإلا؛ فإن الله -عز وجل- غني عنا جميعا؛ فالله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، ولهذا قال -عز وجل- في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا).(1/9)
فنقول: مثل هذه الأمور وهذه التصرفات التي ليس فيها مصلحة ظاهرة، وفيها ضرر على الإنسان، نقول: لا يفي الناذر بها، لكن إذا كان معها شيء فيه طاعة كالصوم مثلا؛ فإنه يفي بما كان فيه طاعة.
آخر مسألة معنا أشار المؤلف إلى النذر المطلق: (وإن قال: لله علي نذر، ولم يسمِّ؛ فعليه كفارة يمين) هذا سبق أن قلنا إن هذا النذر المطلق وفيه كفارة يمين، وبهذا نستطيع أن نضع خلاصة في هذه وهو أن النذر كله إذا لم يحصل الوفاء بما نذر عليه؛ ففيه كفارة يمين في جميع أقسام النذر.
بقي مسألة أحب أن أنبه عليها:
لو نذر نذر طاعة لكن بصيغة نذر اللجاج والغضب؛ يعني مثلا قال: لله علي نذر إن فعلت هذه المعصية أن أصوم ثلاثة أيام، وهو يقصد بهذا منع نفسه من هذه المعصية، أو يريد حث نفسه على طاعة. لله علي نذر إن لم أفعل هذه الطاعة أن أصوم ثلاثة أيام.
فهل نقول: إن هذا نذر طاعة، ويجب الوفاء به أم نقول إنه من القسم الثاني نذر اللجاج والغضب وهو مخير؟!
نقول: المسألة محل خلاف بين أهل العلم، لكن الأقرب -والله أعلم- أنه يدخل في قسم نذر اللجاج والغضب، وأن الناذر مخير.
لماذا؟
لأن هذا الناذر لم يقصد فعل الطاعة، وإنما قصد حث نفسه، أو منع نفسه، أو تصديقه، أو تكذيبه، وإذا كان المقصود حث نفسه، أو منعها، أو تصديقا، أو تكذيبا؛ فإن هذا هو نذر اللجاج والغضب، وهو مخير بين أن يفي بما نذر عليه سواء كان فعلاً أم تركا أن يفي بما نذر عليه، وبين أن يكفر كفارة يمين، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال -رحمه الله-: «فأما الحلف الذي هو نذر اللجاج والغضب مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعليَّ الحج، أو فمالي صدقة، أو فعلي صيامٌ يريد أن يمنع نفسه من الفعل، أو يقول: إن لم أفعل كذا؛ فعليَّ الحج ونحوه فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين، وهو قول فقهاء الحديث».
تقول: هل حكم ابتداء النذر عام في نذر المجازاة وفي غيره؟
ماذا تقصد بالمجازاة؟(1/10)
على كل حال عقد النذر عام، عقد النذر نحن قلنا إنه مكروه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، وقال: (إنه لا يأتي بخير، إنما يُستخرج من البخيل، ولا يردُّ من قدر الله شيئا)، وهذا النهيُ ثابت في الصحيحين، والنهي أقل ما يفيده الكراهة، ولهذا توقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الجزم بتحريمه، لكن الأقرب والله أعلم هو عقد النذر ابتداء عقد النذر أنه مكروه، وهذا عام في جميع الصور، ولهذا ينبغي الإنسان أن لا ينذر، ولا فائدة من النذر، ما الفائدة من النذر؟! النذر لا يرد من قدر الله شيئا، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عنه، والغالب أن الناذر يندم، تجد أنه ضيَّق على نفسه خاصة إذا كان نذر طاعة فلا بد أن يفيَ به، ضيق على نفسه، فلا داعي للنذر، فليأتِ بالطاعة من غير أن ينذر، ابتداء عقد النذر مكروه وهذا عام.
تقول: ما حكم استخدام الدواء المحتوى على نسبة كبيرة من الكحول؛ إلا أن المريض لا يبتلعه، مثل غسول الفم، مع وجود بدائل خالية من الكحول إلا أن هذا الدواء أكثر فاعلية وأقل ضررا؟
نعم مادام أنه فيه نسبة كبيرة من الكحول؛ فإنه لا يجوز استخدامه، خاصة السؤال وقع باستخدامه في الفهم، فقد يتسرب منه شيء إلى الجوف، وما دام أنها ذكرت أيضا أنه هناك بدائل، نحن ذكرنا أيضا في الدرس السابق أن التداوي بالمحرم لا يجوز ولو للضرورة، ونقلنا هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وذكرنا لذلك وجوها، وسبق أن تكلمنا في هذا في الدرس السابق بالتفصيل.(1/11)
كذلك أيضا حتى استخدامه بهذه الطريقة التي ذكرت الأخت السائلة كغسول للفهم؛ أقول: إن هذا لا يجوز؛ لأنه ربما ينفذ شيء إلى الجوف، وربما يبقى أيضا شيء في الفم، ويبتلعه الإنسان، وأيضا لأن الله -عز وجل- قال: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? [المائدة: 90].
?فَاجْتَنِبُوهُ?؛ أي مطلقا، اجتب شربه وكلَّ ما يتعلق به؛ لأن اللفظ عام، وإن كان عند بعض أهل العلم هو خاص بشربه لكن قوله: ?فَاجْتَنِبُوهُ? هذا لفظ عام، ولهذا فالأقرب في مثل هذا أنه لا يجوز.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
( كتاب الأيمان
ومن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله، أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه؛ فعليه كفارة إلا أن يقول -إن شاء الله- متصلا بيمينه، أو يفعله مكرها أو ناسيا؛ فلا كفارة عليه، ولا كفارة في الحلف على ماضٍ سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن، ولا في اليمين الجارية على لسانه من قصد إليها؛ كقوله في عرض حديثه: لا والله، و: بلى والله؛ لقول الله تعالى: ? لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ? [المائدة: 89]، ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفات ذاته؛ كعلمه، وكلامه، وعزته، وقدرته، وعظمته، وعهده، وميثاقه، وأمانته، إلا في النذر الذي يقصِد به اليمين؛ فإن كفارته كفارة اليمين، ولو حلف بهذا كله، والقرآن جميعه فحنث، أو كرر اليمين على شيء واحد قبل التكفير، أو حلف على أشياء بيمين واحدة؛ لم يلزمه أكثر من كفارة، وإن حلف إيمانا على أشياء؛ فعليه بكلِّ يمين كفارتها. ومن تأول في يمينه؛ فله تأويله إلا أن يكون ظالما؛ فلا ينفعه تأويله؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يمينك على ما يُصدقك به صاحبك)).(1/12)
"الأيمان" جمع "يمين"، واليمين: هي الحلف والقسم، وأصل اليمين اليد المعروفة، وسمي الحلف بها يمينا؛ لأن الحالف يُعطي يمينه فيها، ويضرب بها يمين صاحبه، كما في العهد والمعاقدات.
أما اليمين اصطلاحا؛ فهي: توكيد الشيء بذكر معظم مصدرا بحرفٍ من حروفِ القسم، وهي: الواو، والباء، والتاء، والهمزة، هذه هي حروف القسم أن نقول: بالله، و:والله، و:تالله وآلله، وهناك –أيضا- صيغ أخرى سيأتي الكلام عليها، يعني هل هي محل خلاف بين أهل العلم؟ سيأتي الكلام عنها -إن شاء الله.
الأصل في اليمين هو قول الله -عز وجل-: ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ? [المائدة: 89]، فنقول: أرشد الله -عز وجل- بعدما ذكر الكفارة، وذكر اللغو في اليمين أرشد الله –تعالى- إلى حفظ اليمين قال: ?وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ?، وفي هذا دليل على أنه ينبغي للمسلم وللمسلمة حفظ أيمانهما، وأن لا يكثر الإنسان من الحلف؛ فإن الإكثار من الحلف مظنةٌ للزلل، وللوقوع في الكذب، وربما حنث في يمينه ولم يستطع الوفاء بما حنث عليه خاصة في يمين الإكرام وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله.(1/13)
ثم إن كثرة الحلف أمارة من أمارات النفاق؛ فذكر الله –تعالى- عن المنافقين أنهم يكثرون من الحلف، ويكثرون من الأيمان قال الله -عز وجل-: ?اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [المنافقون: 2]، ?وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُم مِّنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ? [التوبة: 56]، ?يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ? [التوبة: 96].
والآيات في هذا كثيرة، والتي تصف النفاق والمنافقين بأنهم يكثرون من الحلف، ويكثرون من الأيمان الكاذبة، ولهذا ينبغي أن لا يكثر الإنسان من الحلف، ولا يحلف حتى وإن كان صادقا إلا عند الحاجة إلى الحلف، أما عند عدم الحاجة؛ فلا يحلف، ولهذا كان كثيرٌ من السلف يتورعون عن اليمين مع صدقهم، بل إن بعض السلف يكون له الحق على أخيه ويطلب منه الحلف فيأبى أن يحلف، ويرى أن هذه الدنيا –كلها- لا تستحق أن يحلف عليها، نُعاع الدنيا لا يستحق أن يحلف عليها، وذُكر في هذا القصص عن بعض السلف أنه ربما يقضى عليه بالنكول لكونه رفض أن يحلف لأنه يرى أن هذه نُعاع الدنيا، وأنها لا تستحق أن يحلف الإنسان عليها، وأن المسلم يُعظم يمينه فلا يحلف على مثل هذه الأمور، لكن إذا احتاج الإنسان للحلف؛ فلا بأس أن يحلف. وقد أمر الله تعالى نبينه -صلى الله عليه وسلم- بأن يحلف في القرآن في ثلاثة مواضع:
?(1/14)
قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ? [التغابن: 7]، فأمر الله –تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، وأيضا ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان عند الحاجة يحلف كما في قصة الأشعريين لما أتاه نفر من الأشعريين، وطلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم، قال: (والله ما أحملكم ما عندي شيء)، ثم إن الله –تعالى- يسر ما يستطيع أن يحمل به هؤلاء، وقال: (الله تعالى هو الذي حملكم، وكفر عن يمينه) -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح البخاري وغيره.
فهذا يدل على أن النبي كان أحيانا يحلف ويكفر، لكن ينبغي أن يكون هذا عند الحاجة أن يكون مقيدا عند الحاجة، وإذا حنث كفر عن يمينه، لكن بعض الناس تجد أنهم يحلف كثيرا، بل ربما بعض الناس لا يمر عليه يوم إلا وقد حلف وأقسم، ولا شك أن هذا خطأ، يعني بعض يقول: عليَّ أيمانٌ كثيرة لا أحصيها، طيب أنت مفرط، لا تستهِنْ باليمين، إذا حلفت؛ فأنت تحلف بالله -عز وجل- تحلف برب العالمين تحلف بالله الذي قال: ?وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ?، فينبغي للمسلم أن يعظم اليمين، ولا يحلف إلا عند الحاجة الملحة، وأن يكون هذا مبدأً للإنسان في حياته، أما في كل شيء يحلف عليه الإنسان، الحقيقة يوقع نفسه في الحرج، وأيضا يشابه المنافقين في هذا.
ويتأكد من ذلك الحلفُ عند البيع والشراء، إن هذا قد يكون سببا لمحق بركة ذلك البيع أو الشراء، وينبغي على الإنسان أن يجتنب الحلف خاصة عند البيع والشراء، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح)، وفي رواية (للكسب)، فأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- بأنه وإن كان ربما تروج به السلعة إلا أن فيه محقا للبركة، ومحقا للربح، ومحقا للكسب.(1/15)
تقول: أول شيء سؤالي قول الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- يا رسول: إن أحدنا لا يجد في نفسه ما لا يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتكلم به فقد أكثر الإيمان. هل هذا يدخل فيه الوسوسة أحيانا يوسوس بكلام لا يستطيع أن يقوله أمام الناس؟ والسؤال الثاني: كيف نقي أنفسنا ونحميها من الأيمان؟.
قال: (ومن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله، أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه؛ فعليه كفارة ؛لأنه قد حنث)
معنى الحنث: أن يحلف على فعل الشيء ولا يفعله، أو أن يحلف على ترك شيء ويفعله فيخالف الشيء الذي قد حلف عليه، وهنا يقال إنه قد حنث في يمينه، وإذا حنث في يمينه؛ فيترتب عليه كفارة يمين، ولهذا قال: (فعليه كفارة يمين).
قال: (إلا أن يقول -إن شاء الله- متصلا بيمينه) يعني لو أن الإنسان حلف وقال: إن شاء الله؛ فإنه لا يجب عليه كفارة ولو حنث في يمينه، ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من حلف على يمين فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث) وفي رواية: (فقد استثنى) أخرجه أبو داود وهو حديث صحيح بل أخرجه أيضا الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد وهو حديث صحيح.
وجاء في الصحيحين في قصة سليمان بن داود -عليه وعلى أبيه وعلى الأنبياء جميعا الصلاة والسلام- أن سليمان بن داود قال: «والله لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله» فقال له الملَك قل إن شاء الله؛ فلم يقل، فوطئ تسعين امرأة في ليلة واحدة، قد أعطاه الله -عز وجل- قوة عظيمة، ولم تلد منهن أي امرأة إلا امرأة واحدة ولدت شق غلام نصف غلام.
والشاهد من هذه القصة أنه جاء في رواية عند البخاري النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لو قال إن شاء الله؛ لكان دركا لحاجته ولم يحنث)؛ يعني لأدرك حاجته وحصل مراده ولم يحنث، فهذا فيه دليل على من قال -إن شاء الله- فإنه لا يحنث.(1/16)
ولذلك نقول إذا احتجت إلى الحلف؛ فاقرنه بقولك: إن شاء الله، وبذلك لا تحنث أبدًا، ولهذا يقال: لا يحنث فقيه.
لماذا؟
لأن الفقيه يقول -إن شاء الله- إذا احتاج الحلف؛ حلف وقال: إن شاء الله، وبذلك حتى لو حصل منه حنث؛ فليس عليه كفارة يمين، يعني هذه –حقيقة- فائدة، وهذا من ثمرة الفقه في الدين، أن الإنسان لو احتاج الحلف؛ يحلف وإذا لم يتحقق ما حلف عليه؛ فلا شيء عليه إذا قرن حلفه بقوله: إن شاء الله، هذه من ثمرة الفقه في الدين.
لكن المؤلف اشترط أن يكون ذلك متصلا بيمين؛ أي لا بد إذا قال: والله لأفعل كذا إن شاء الله، أو: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، والصحيح أيضا أنه إن كان الفارق يسيرا؛ فإنه أيضا لا يحنث.
لو تذكر مثل
نعم، لو أنه قال: والله لأفعل كذا، ثم بعد دقيقة قال: إن شاء الله الصحيح أنه أيضا لا يحنث، والدليل على ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر حُرمة مكة، وقال إنه: (لا يُنَفَّر صيدها، ولا يُخْتَلى خلاه) ثم تكلم -عليه الصلاة والسلام- فلما فرغ من خطبته؛ قال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله! فقال -عليه الصلاة والسلام-: (إلا الإذخر)، هنا حصل فاصل يسير، ومع ذلك لم يضر، فالصحيح أن الفاصل إذا كان يسيرا بين مستثنى ومستثنى منه؛ فإنه لا يضر.
قال: (أو يفعله مكرها أو ناسيا؛ فلا كفارة عليه) إذا أكره الإنسان يعني حلف أن لا يفعل شيئا، ولكنه أُكره عليه حلف على ترك شيء فأكره عليه؛ فإنه لا كفارة عليه، وهكذا لو فعله ناسيا؛ قال: والله لا أفعل كذا، ثم نسي وفعله؛ فلا كفارة عليه، أو: والله لأفعلن كذا في وقت كذا، فأتى وقت كذا، ولم يفعله ناسيا؛ فلا كفارة عليه؛ لعموم قول الله تعالى: ?رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا? [البقرة: 286]، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله تجاوز لأمتي عن الخطإ والنسيان وما استكرهوا عليه).(1/17)
قال: (ولا كفارة في الحلف على ماضٍ سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن).
الحلف الذي تجب به الكفارة لا بد أن يكون في المستقبل؛ أي أن يُنشئ يمينا لأمر في المستقبل؛ والله لأفعل كذا، والله لأفعلن كذا وهكذا. لكن إذا حلف عن أمر ماض؛ والله إن كذا حصل؛ فهنا لا يخلو إما أن يكون صادقا أو كاذبا، إن كان صادقا؛ فلا إشكال، وإن كان كاذبا؛ فهذه هي التي تسمى باليمين الغموس، وقد وضعنا فيها سؤالا في الحلقة السابقة، كان السؤال ما المراد باليمين الغموس؟ وهل فيها كفارة؟
قبل أن نتكلم عن هذه المسألة نستعرض إجابات الإخوة المشاهدين.
من هذه الإجابات:
تقول:
اليمين الغموس هي: اليمين الكاذبة الفاجرة كالتي يقتطع بها الحارث مال غيره.
وسميت غموسا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار. هكذا قال ابن الأثير في "النهاية".
اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة في اليمين الغموس على قولين:
القول الأول: عدم وجوب كفارة في اليمين الغموس، وإليه ذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة.
القول الثاني: وجوب الكفارة في اليمين الغموس، وإليه ذهب الشافعية.
نعم نعتبرها في الحقيقة إجابة نموذجية، ونشكر الأخت على هذه الإجابة.
اليمين الغموس هي كما ذكرت الأخت، هي: كل يمين حلف صاحبها كاذبا متعمدا؛ كالذي يحلف على أن يأخذ مال أخيه بغير حق، وهذا أشد ما يكون من اليمين الغموس، (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه؛ فقد حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار)، قالوا: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا: قال: (وإن كان قضيبا من أراك).
هي أشد ما يكون من اليمين الغموس أن يحلف على اقتطاع حق أخيه، وكذلك أيضا الصحيح أيضا أن اليمين الغموس كل ما حلف عليه الإنسان كاذبا متعمدا، وسميت غموسا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار -والعياذ بالله- لكن هل هذه اليمين فيها كفارة أم لا؟
كما ذكرت الأخت أن العلماء قد اختلفوا فيها على قولين مشهورين:(1/18)
القول الأول: قول جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والحنابلة أنه لا كفارة فيه؛ لأنها أعظم من أن تكفر، هذه اليمين لا تكفرها كفارة يمين، وإنما لا بد فيها من التوبة، والشافعية ذهبوا إلى أن فيها كفارة يمين، والصحيح هو قول الجمهور، بل قد حُكي إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا القول هو أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لأنها أعظم من أن تكفر، فهذا هو المنقول عن الصحابة -رضي الله عنهم- في هذه المسألة.
فإذن نقول من حلف بالله –تعالى- كاذبا متعمدا؛ فعليه أن يتوب إلى الله -عز وجل- والغالب أن الإنسان إذا حلف كاذبا متعمدا، واقتطع بهذه اليمين حق أخيه، وهو يعلم؛ فالغالب أنه يُعاجل بالعقوبة، وهذا أمر معروف عند الناس من قديم الزمان، وقد ذُكرت في هذا قصصٌ كثيرة، وربما أيضا أنه لا يطول عمره كثيرا، ربما أنه لا يمهل كثيرا، ولهذا جاء في حديث ابن عباس في القسامة أن الذين حلفوا وهم كاذبون في القسامة قال: "لم يمر عليهم حولٌ وفيهم عين تطرف" كلهم هلكوا، وهذا فيه يبين لنا خطر من حلف بالله كاذبا أن يقتطع حق امرئ بغير حق، وهو يعلم فهذا في الغالب أنه تُعاجل له العقوبة، ربما يهلك بسبب تلك اليمين، كذلك أيضا من حلف بالله كاذبا متعمدا حتى في غير هذا، ولذلك ينبغي للمسلم أن يعظم شأن اليمين، وأن لا يحلف بالله –تعالى- صادقا إلا عند الحاجة، فكيف وهو كاذب؟! ولهذا قال إبراهيم النخعي: "كانوا يضربوننا على اليمين ونحن صغار" يعني لا تكثروا من الأيمان وأنتم صادقون؛ فما بالك بمن حلف بالله تعالى وهو كاذب؟! لأن كون الإنسان يحلف بالله متعمدا وهو كاذب هذا فيه استهانة بالله -عز وجل- ولذلك فإن عقوبة مثل هذا في الغالب أنها تعجل.
إذن عرفنا المقصود باليمين الغموس.(1/19)
قال المؤلف: (أو ظنه كما حلف فلم يكن) يعني أنه لا كفارة في هذا، وليس مقصود المؤلف أن هذا من اليمين الغموس، لكن مقصوده أنه لا كفارة لو حلف الإنسان على شيء يظنه كما حلف فتبين أنه لم يكن كذلك، وهذا في الحقيقة هو أحد قسميْ اللغو، اللغو في اليمين الذي قال الله تعالى: ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ? ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما ذكره المؤلف: أن يحلف على شيء يظنه كما حلف فيتبين له أنه ليس كذلك؛ فهذا يعتبر من اللغو، وهذا لا شيء فيه لا كفارة ولا غيرها.
القسم الثاني: ما يجري على لساني من غير قصد اليمين؛ كأن يقول: "لا والله"، و: "بلى والله"، ونحو ذلك، فيقول الإنسان حصل كذا؟ يقول "لا والله" ما حصل، والله ما حصل كذا، يجري قوله: "والله أو لا والله أو بلى والله" على لسانه من غير قصد اليمين؛ فهذا يسمى بلغو اليمين، وهذا لا يؤاخذ عليه الإنسان: لقول الله تعالى: ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ? قالت عائشة -رضي الله عنها- يعني هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله ونحو ذلك.
قال (ولا تجب الكفارة) نعم قال (ذكر اللغو في اليمين ولا في اليمين الجارية على لسان من قصد إليها؛ كقوله في عرض حديثه: "لا والله" و: "بلى والله" لقول الله تعالى: ? لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ?) بقي معنا "يمين الإكرام"، يمين الإكرام هل تلحق بلغو اليمين أم لا؟ ما معنى يمين الإكرام؟ ما المقصود بها وهل تلحق باللغو أم أنه إذا حنث فيها؛ تجب بها الكفارة؟
هذا أيضا وضعنا فيها سؤالا في الدرس السابق نستعرض بعض الإجابات عن هذا السؤال؟
تقول: هل تجب الكفارة بالحنث في يمين الإكرام؟
تقول: لا تجب؛ لأن الفعل المكره غير منسوب إليه، وقد رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
إجابة أخرى تقول:(1/20)
يمين الإكرام من اليمين المباح فيباح له الرجوع في يمينه، وعليه أن يكفر عن يمينه لقوله -صلى الله عليه وسلم- (من حلف على يمين فرأى خير منها؛ فليأتِ الذي هو خير، وليكفر عن يمينه) والله أعلم.
إجابة ثالثة يقول:
يمين الإكرام وهي التي لا يقصد فيها الحالف اليمين بل يقصد المحلوف عليه، وهذه اليمين قد ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه منعقدة وواجبة الإبرار، وأن فيها كفارة عند الحنث مثلها مثل بقية الأيمان، بينما ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن هذه اليمين لا كفارة فيها عند الحنث، والراجح ما ذهب إليه الجمهور من أن فيها الكفارة عند الحنث والله أعلم
نعم هذه الإجابة الأخيرة هي الإجابة النموذجية، ونشكر أيضا بقية الإخوة لكن ربما في الإجابة الأولى التبس على الأخت لعلها ظنت أنها يمين الإكراه بالهاء، لذلك استدلت بأن الله وضع عن الأمة الخطأ وما استكرهوا عليه.
نحن نقول إن يمين الإكرام بالميم يعني عندما يقصد الإنسان إكرام غيره مثلا يقول: والله لتشربن هذا الفنجان قبلي، والله لتجلسن في هذا المكان، والله لآخذن هذا قبلك، ونحو ذلك، هذا الشائع عند الناس، فلو قال مثلا: والله لا أجلس في هذا المكان قبلك ثم جلس، والله ما أخذ هذا الفنجان فنجان القهوة قبلك ثم أخذه، والله أن تقوم إلى هذا المكان ولم يقم؛ فهل تجب بهذا كفارة يمين أم لا؟
كما سمعنا في الإجابة الأخيرة أن جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يرون أنها يمين منعقدة، وأنه إذا حنث الإنسان فيها؛ فتجب بها كفارة يمين، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة.(1/21)
هناك قول آخر نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه لا تجب فيها كفارة يمين، ولكن الذي يظهر أن قول مرجوح، واستدل أصحاب هذا القول بأن أبا بكر -رضي الله عنه- لما قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتى رجلا ورأى رؤيا؛ فقال لأعبرنها فعبرها أبو بكر ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: (أصبت بعضا وأخطأت بعض) قال: والله لتخبرني فيما أخطأت فيه، فقال -عليه الصلاة والسلام- (لا تقسم)، قال: ولم يأمره بكفارة، لكن لم يرد دليل يدل على أنه لم يأمره بكفارة إنما هذا فهم فهمه بعض العلماء، والظاهر أن أبا بكر -رضي الله عنه- كفَّر، وكذلك قصة أبي بكر مع أضيافه قالوا: لم يأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفارة؛ لكن لم يرد دليل على أنه لم يأمره، أو لم يكفر الظاهر أنه كفر كون النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يأمره بكافرة؛ لأن أبا بكر يعلم الحكم، وأبو بكر هو أفقه الصحابة وأعلم الصحابة -رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أقول للأخوة المشاهدين ينبغي للإنسان أن لا يحلف ولو على سبيل الإكرام يعني عندما تريد أن تكرم صاحبك لا تقل والله، لكن لو أنك احتجت لمثل هذا فكما قلنا قبل قليل اقرنه بـ: إن شاء الله، لو قلت مثلا تريد إكرام صاحبك بأن يقوم فهذا المكان: والله لتقومن في هذا المكان قل: إن شاء الله، وبذلك لا تحنث؛ يعني لا يلزم كفارة لو أردت أن تكرمه بأمر آخر والله ما آخذ قبلك، والله لتقومن في هذا المكان، والله لتشربن هذا الفنجان قبلي، أو نحو ذلك قل: إن شاء الله، إذا قلت: إن شاء الله؛ لا يلزمك كفارة، لكن إن لم تقل: إن شاء الله، ولم يحصل ما حلفت عليه؛ فعليك كفارة، ولذلك نقول: ما أكثر الذين تجب عليه الكفارة ولا يكفرون.(1/22)
الحقيقة أيضا هذا خطأ آخر من حلف على شيء، وقد عقد اليمين بقلبه ولم يحصل ما حلف عليه؛ فإنه واجب عليه كفارة اليمين، يمين الإكرام في الحقيقة هي يمين منعقدة يقصد الإنسان عقدها بقلبه هو يقصد عقدها يقول: والله لتقومن في هذا المكان، والله لأشربن هذا الفنجان قبلك، هو الآن انعقد اليمين بقلبه ليست كلغو اليمين التي تجري على اللسان من غير قصد، إنما هو قصد هذه اليمين وعقد هذه اليمين فهي يمين منعقدة، وإذا حنث عليها فتجب بها كفارة يمين إلا إذا استثنى إلا إذا قال -إن شاء الله- فإنه ليس عليه كفارة يمين ولعل بقية المسائل نكملها -إن شاء الله- في درس غد -إن شاء الله.
هل له أن يخفض صوته بالمشيئة أم يضمرها في قلبه أو في نفسه؟
لا هو إذا تلفظ بها ولو سرا؛ فإنها تنفعه لكن لا بد من التلفظ بها.(1/23)
الفقه - المستوى السابع
الدرس العشرون
الدرس العشرون - تابع كتاب الأيمان
فضيلة الشيخ/ سعد بن تركي الخثلان
تابع كتاب الأيمان
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد..
فهذا هو الدرس الأخير في هذه الدورة، وفي هذا المستوى = المستوى السابع و-إن شاء الله تعالى- سوف نختم بهذا الدرس هذه الدورة، وكما وعدنا بأننا سوف نقف عند كتاب "الجنايات". بقي معنا مسائل في كتاب "الأيمان" أيضا "كفارة اليمين" فلعلنا نتناولها جميعا؛ حتى نصل إلى ما وعدنا بالوقوف عنده وهو كتاب "الجنايات".
كنا قد بدأنا بالأمس في كتاب "الأيمان" ووصلنا إلى قول المؤلف: (ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله –تعالى- أو اسم من أسمائه ..).
نقول قول المؤلف (ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله –تعالى- أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته)؛ يعني أن اليمين المنعقدة لا بد أن يكون الحلِفُ بالله -عز وجل- أو باسم من أسماء الله –تعالى- الحسنى، أو صفة من صفاته العلى جل وعلا. ولو حلف بغير الله؛ فإن هذه لا تكون يمينا منعقدة.
قال: (أو صفة من صفات ذاته؛ كعلمه، وكلامه، وعزته، وقدرته، وعظمته، وعهده، وميثاقه، وأمانته)؛ يعني لو حلف بأيِّ صفةٍ من صفاتِ الله -عز وجل- فتكون يمينا منعقدة.
كذلك لو قال: عهدُ الله –تعالى- عليَّ أن لا أفعلَ كذا، أو: ميثاقُ الله عليَّ أن لا أفعل كذا، أو: عليَّ عهدُ الله وميثاقه في أن أفعل، أو أن لا أفعل كذا؛ فإن هذه –أيضا- تأخذ حكم اليمين. ولهذا قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- قال: "لا خلافَ في أن عهد الله يمين إلا عمَّن لا يعتد بقوله وكذا ميثاقه". فإذن إذا قال: عهد الله أن أفعل كذا، أو أن لا أفعل كذا أو: عليّ ميثاق الله، أو نحو ذلك؛ فإن هذه تأخذ حكم اليمين.(1/1)
قال: (إلا في النذر الذي يقصد به اليمين): النذر الذي يقصد به اليمين مَرَّ معنا في الدرس السابق، وأيضا الذي قبله أننا سميناه بماذا؟
نذر اللجاج والغضب
نعم، أحسنت. النذر الذي يقصد به اليمين هو نذر اللجاج والغضب، وسبق أن تكلمنا عنه بالتفصيل، وذكرنا أنه النذر الذي يُقصد منه الحثُّ، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب، وأن الناذر مُخيَّرٌ بين أن يفيَ بنذره وبين أن يكفر كفارة يمين، ولهذا قال المؤلف: (إلا في النذر الذي يقصد به اليمين؛ فإن كفارته كفارةُ يمين).
قال: (ولو حلف بهذا كلِّه): يعني حلف بأسماء الله –تعالى- وصفاته، والقرآن جميعه؛ أي حلف بالقرآن، والحلف بالقرآن جائز؛ لأن القرآن كلامُ الله -عز وجل- القرآن هو كلام الله تعالى، وكلام الله –تعالى- صفة من صفاته -سبحانه-، ولذلك يجوز أن يحلف الإنسان بالقرآن وهو يقصد أنه كلام الله -عز وجل-. فلو حلف بالقرآن، أو حلف بأسماء الله –تعالى- أو صفات الله -عز وجل-؛ فإنها تعتبر يمينا منعقدة، ولذلك لو حنث؛ فإنه تلزمه الكفارة.
قال: (أو كرر اليمين على شيء واحد قبل التكفير): كرر اليمين على شيء واحد؛ قال: والله لا أفعل، ثم بعد ساعة قال: والله لا أفعل كذا، ثم بعد ساعتين قال: والله لا أفعل كذا؛ فهنا هل نقول: تجب عليه ثلاثة كفارات أم كفارة واحدة؟
كفارة واحدة، ما دام أنه كرر اليمين قبل أن يكفر فلا يلزمه إلا كفارة واحدة.
قال: (أو حلف على أشياء بيمين واحدة؛ لم يلزمه أكثر من كفارة): يعني قال: والله لا آكل، ولا أشرب، ولا ألبس بيمين واحدة؛ فإنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة إذا حنث.
قال: (وإن حلف أيمانا على أشياء، فقال: والله لا أكلت، ولا شربت، ولا لبست، فحنث في الجميع؛ فعليه لكل يمين كفارته): يعني إذا حلف على أشياء مختلفة: والله لا أكلت، وقال: والله لا شربت، وقال: والله لا لبست؛ فهنا حنث، وأكل، أو شرب، أو لبس؛ فعليه لكل بواحدة يمين.(1/2)
والفرق بين هذه المسألة، والمسألة السابقة أن المسألة السابقة أنها يمين واحدة، أنه قال لا أكلت، ولا شربت، ولا لبست، لكن هنا حلف أيمانا على أشياء، قال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست، فإذا حنث في الجميع؛ فتجب لكل واحدة كفارة.
ثم قال المؤلف: (ومَنْ تَأَوَّلَ في يمينه؛ فله تأويله): التَّأوُّل في اليمين معناه أن يقصد بيمينه أمرا آخر يخالف ظاهر اللفظ، ولكن اللفظ يحتمله؛ فيقال إن هذا تأول، مثلا قال لك إنسان طلب منك أمرا، فقلت له: إنني هذا اليوم مرتبطٌ؛ فهم منك أنك مرتبط بموعد، وأنت تقصد أنك مرتبط بأعمال خاصة، أو نحو ذلك، أو مثلا دعاك لوليمة؛ فقلت: له إنني الليلة عندي رجل سوف يَتَعَشَّى معي، وأنت تقصد ابنك، وهو فهم أنك تقصد ضيفا؛ فهذا يسمى تَأَوُّلا في اليمين.
ما حكم هذا التَّأوُّل؟ وهل يجوز أن يحلف عليه أم لا؟
هنا المؤلف يقول: (ومن تأول في يمينه؛ فله تأويله): ظاهرُ هذا أن المؤلف يرى أنه لا بأسَ بالتَّأوُّل في اليمين إلا أن يكون ظالما؛ فلا ينفعه تأويله؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (يمينك على من يصدقك به صاحبك) أخرجه مسلم في صحيحه، وقسم العلماء التَّأوُّلَ في اليمين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون الإنسان مظلوما؛ فله أنْ يتأولَ، ويحلفَ على ذلك، وذلك لأجل أن يدفعَ الظلمَ عن نفسه، فإذا كان مظلوما؛ فلا بأس بالتَّأوُّلِ في اليمين يحلف على شيء، والمخاطب يفهم شيئا، وهو يقصد شيئا آخر.
يحلف على هذه المظلمة؟!
نعم، يريد تخليص نفسه من هذا الظلم، ويدل لذلك ما رُوي عن عمرَ وعمرانَ بن حصين -رضي الله عنهما- قالا: «إن في المعاريض لمندوحةٌ عن الكذب»، ويروى مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح مرفوعا، وإنما مأثور عن بعض الصحابة؛ كعمر وعمران.(1/3)
القسم الثاني: أن يكون الحالفُ ظالما؛ فهنا لا ينفعه تأويله، وهذا معنى قول المؤلف: (إلا أن يكون ظالما؛ فلا ينفعه تأويله)، والدليل على ذلك هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يمينك على ما يصدقك به صاحبُك)، ولو قيل بأن التأويل ينفع؛ لضاعت الحقوق، ولأدى ذلك إلى جحد الحقوق، فكل إنسان عند القاضي إذا طَلَبَ منه القاضي أن يحلف؛ فسوف يَتَأَوَّلُ في يمينه، ويكون التأويلُ وسيلةً إلى إبطالِ الحقوقِ.
إذن إذا كان الحالفُ ظالما؛ فإنه لا ينفعه تأويله؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يمينك على ما يصدقك به صاحبك)، وفي الرواية الأخرى: (اليمين على نية المستحلِف) أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه.
القسم الثالث: أن لا يكون ظالما، ولا مظلوما؛ فهل له أن يتأول؟!
نعم، لا بأس أن يتأول، وخاصة إذا احتاج إلى هذا التأويل، ويدل ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمزح مع أصحابه، ولكنه لا يقول إلا حقًّا، وقد أُثر عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه مَزَحَ مع أصحابه في عدة أمور؛ لما قال للمرأة العجوز: (لا يدخل الجنة عجوزٌ) وكان يقصد أن أهل الجنة يكونون شبابا، وهي فهمت أن العجائز لا يدخلْن الجنة، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يمازحها بهذا، وأيضا لما قال الرجل: (إني حاملُك على ولد الناقة)، فكان -عليه الصلاة والسلام- يمزح، وهذا نوعٌ من التَّأوُّلِ، ولكنه لا يقول إلا حقًّا.
لكن لا ينبغي للإنسان أن يُكثرَ من التَّأوُّلِ. لماذا؟! لأنه يُساء به الظنُّ، وتهتز الثقة به، إذا كان الإنسان معروفا بكثرة التَّأوُّل تهتز الثقة به، ولا يصدقه الناس، يَتكلم بكلام ، ثم يقول الناس: لعله مُتَأَوِّلٌ في كلامه، هذا لعله يقصد كذا، لعله يقصد معنى آخر؛ فيصبح الناس لا يثقون به، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يتأولَ إلا عند الحاجة، ولا يكثر من ذلك. لكن هل له أن يحلف على تأويله، وهو لم يكن ظالما، ولا مظلوما؟!(1/4)
نقول: نعم، ظاهر كلام الإمام أحمد وجمعٍ من أهل العلماء أن له ذلك، ولكن كما ذكرنا ينبغي أن لا يتأولَ إلا عند الحاجة؛ حتى لا يُسحب ثقة الناس منه؛ لأنه بكثرة التَّأوُّل يصبح الناس لا يثقون به.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-:
(باب جامع الأيمان ويرجع فيها إلى النية): يعني يُرجع في الأيمان إلى نية الحالف؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولأنَّ الْمُعَوَّلَ عليه هو النية، والكلام إنما هو معبِّرٌ عمَّا في نية الإنسان.
قال: (فيما يحتمله اللفظ) أما إذا كان اللفظ لا يحتمل؛ فاليمين لا تنصرف للمنع؛ لأنها نية مجردة لا يحتملها اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين؛ فلا بد إذن من أن يكون اللفظ تحتمله النية، أما المخالف لظاهر اللفظ؛ فإنه يتنوع أنواعا:
الأول: أن ينوي بالأمر العامِّ الخاصَّ، ومَثَّلَ له المؤلف بقوله: (فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا بعينه): حلف قائل: والله لا أكلم رجلا، ويقصد فلانا بعينه؛ فهنا تنصرف يمينه إلى فلان.
الخاص
نعم إلى فلان الخاص، هنا هو كلامه عام لكن تنصرف يمينه إلى فلانٍ الخاص بعينه.
أو: (لا يتغدى يريد غداءً بعينه): قال: والله ما أتغدى، وهو يقصد غداءً مُعَيَّنًا؛ فتنصرف إلى ذلك الغداء المعين، أو حلف على ترك شيء مطلقا لكنه يقصد وقتا معينا: والله ما أفعل كذا، وهو يقصد خلال هذا الشهر فقط، أو خلال هذا اليوم، أو خلال هذا الأسبوع؛ فتنصرف اليمين إلى ما نواه. فهذا هو القسم الأول الذي ينوي بالعام الخاصَّ.
القسم الثاني: أن ينوي بالخاصِّ العامَّ، ومثل له المؤلف بقوله: (وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يريد قطع منته حنث بكل ما فيه منة).
هذا الرجل قال لآخر: والله ما أشرب ماءً عندك ولو عطشت، لكنه أكل عنده؛ فهنا يحنث.
لماذا؟(1/5)
لأنه لما قال: والله لا أشرب عندك ماءً ولو كنت شديد العطش، يريد بذلك قطع منته عليه، ولا فرق في هذا بين الأكلِ وبين الشرب؛ فهذا مثالٌ للخاصِّ الذي يُراد به العام
قال: (وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها، فباعه وانتفع بثمنه؛ حنث)؛ يعني قال: والله لا ألبس ثوبا غزلتِه يريد بذلك قطع منتها، لكنه أخذه منها ثوبا وباعه، ولم يلبسه لكنه باعه؛ فهل يحنث أم لا؟!
نقول: نعم يحنث؛ لأن مقصوده لما قال: والله لا ألبس ثوبا من غزلكِ مقصوده قطع المنة؛ أي لا يريد منها أيَّ شيء، فإذا أخذه وباعه؛ معنى ذلك أنه حنث في يمينه.
قال: (وإن حلف ليقضينه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم؛ لم يحنث) لأنه إذا قضاه اليوم؛ لم يتجاوز غدا، هو قال: والله لا أتجاوز غدا، فقضاه اليوم؛ فحينئذ نقول: إنه لا يحنث؛ لأنه حقق المقصود، وحقق المراد.
(وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة، فباعه بأكثر منها؛ لم يحنث): كذلك أيضا لأجل هذا المعنى، يعني هو حلف أن لا يبيع ثوبه إلا بمائة؛ أي فأكثر، ولذلك إذا باعه بأكثر من مائة؛ فإنه لا يحنث، ولهذا قال المؤلف: (إذا أراد أنلا ينقصه عن مائة).
(وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها؛ لم يبر إلا بتزوج يغيظها به): قال: والله لأتزوجن يريد أن يغيظ زوجته، هنا يقولون أنه لا يحنث إلا إذا تزوج زواجا يحصل به إغاظة المرأة.
(وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها؛ لم يبر إلا بضرب يؤلمها): حلف وقال: والله لأضربنك، ونوى بذلك إلى الإيلام؛ فلا يكفي أن يضرب ضربا بدون ألم، هكذا قالوا.
((1/6)
وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط فجمعها فضربها ضربة واحدة؛ لم يبر)؛ أي لا بد أن يضرب عشرة أسواط. وأما قول الله تعالى: ? وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ? [ص: 44]؛ فإن هذا قالوا فيه: هذا كان لأيوب خاصة؛ لأن أيوب حلف أن يجلد زوجته، وأفتاه الله -عز وجل- بأن يأخذ شبراخا فيه مائة، وقيل: ثمانين ويضرب زوجته به ضربة واحدة؛ حتى يَبَرَّ بيمينه، ولم تُشرعْ في شرعه كفارةُ اليمين. أما في شرعنا؛ فإذا حلف الإنسان مثل هذا؛ فإنه يكفر كفارة يمين.
إذن إذا حلف ليضربن زوجته؛ إما أن يكفر كفارة يمين، أو لا بد من أن يضربها بما حلف عليه. طبعا لا بد أن يكون ضربا غير مُبَرِّح؛ لأن الضرب المبرح ربما نقول أيضا إنه معصيةٌ؛ فلا يبر بهذا الأمر.
قال: (فإن عدمت النية؛ رُجع إلى سبب اليمين، وما هَيَّجَه): يعني هذا إنسان حلف، وقلنا له: ماذا نويت؟ قال: والله ما أدري، أو أنه قال: نسيتُ؛ فهنا نرجع إلى سبب اليمين، السبب الذي هيج اليمين، فيقوم مقام نيته للدلالة عليه.
فلو أنه حصل بين شخص وآخر نزاعٌ فقال: والله لا أدخل هذه الدار بعد اليوم، ثم إن صاحب الدار باعها، ودخلها هذا الحالف؛ فهل يحنث أم لا؟ وقلنا للحالف: ماذا نويت؟ قال: والله ما أدري، أو: نسيت.
هنا ننظر للسبب الذي هَيَّجَ هذه اليمين، السبب هو النزاع بينه وبين صاحب الدار؛ فمن ذلك نفهم أن هذه اليمين أنه يقصد أن لا يدخل هذه الدار التي صاحبها هذا الرجل. لكن إذا تغير المالك لها؛ فحينئذ زال السبب الذي لأجله حلف.
قال: (فإن عُدم ذلك؛ حملت يمينه على ظاهر اللفظ): يعني إن عُدم معرفة السبب الذي هَيَّجَ اليمين؛ فنرجع إلى ظاهر اللفظ.(1/7)
قال: (فإن كان له عرف شرعي): يعني ظاهر اللفظ إما أن يكون الاسم له دلالة شرعية، أو دلالة عرفية، أو دلالة حقيقية؛ فيرجع أولا للعرف الشرعيِّ؛ كالصلاة والزكاة، الصلاة دلالتها الشرعية معروفة: عبادة ذات أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم. لكنَّ معناها وحقيقتها اللغوية الدعاء، فإذا حلف إنسان مثلا على أن يصلي لله تعالى ركعتين ماذا نحمل هذا؟!
نحمله على الصلاة بمعناها الشرعي، وليس بمدلولها اللغوي، وهكذا الزكاة.
ولهذا قال المؤلف: (حُملت يمينه عليه، وتناولت صحيحةً).
(ولو حلف لا يبيع، فباع بيعا فاسدا؛ لم يحنث)؛ لأن البيع الفاسد هو لا يعتبر شرعا بيعا صحيحا، ونحن قلنا: إن الدلالة تُحمل على الدلالة الشرعية أولا.
(إلا أن نضيفه إلى ما لا يصح بيعه؛ كالحر، والخمر فتتناول يمينه صورة البيع فيحنث):
يعني كأن يقول: والله لا أبيع حرا، أو: والله لا أبيع خمرا، ثم يفعل ذلك؛ فإنه يحنث.
(وإن لم يكن له عرف شرعي، وكان له عرف في العادة): يعني إذا لم يوجد عرف شرعي؛ فنرجع إلى العرفي، نرجع للاسم العرفي.
قال: (كالراوية): الراوية في العرف هي اسم لماذا؟
للمزادة، وإن كان حقيقة "الراوية" أنه اسم للجمل الذي يُستقى عليه، لكن نرجع نحن لمسماها العرفي. والظعينة هي في الأصل الناقة التي يُحمل عليها، لكنها في العرف المرأة، فتحمل إذن على الدلالة العرفية، وهي المرأة.
قال: (حملت يمينه عليه): فهو لو حلف لا يركب دابة؛ فيمينه على الخيل، والبغال، والحمير؛ لأن هذا هو مدلول الدابة في العرف.
هذا في زمن المؤلف، لكن في الوقت الحاضر لو حلف ما يركب دابة؛ فما المقصود بها؟
السيارات(1/8)
نعم، لكن هنا قول المؤلف: (أنه لو حلف ما يركب دابته)؛ يعني في زمن الموفق -رحمه الله- وقد توفي سنة 620 للهجرة، كانت الدواب عندهم -كما ذكر- الخيل والبغال والحمير، لكن عندنا في الوقت الحاضر وسيلة النقل هي السيارات، فلو حلف أنه ما يركب مثلا وسيلة نقل، أو دابة؛ فتحمل على الحقيقة العرفية وهي السيارة.
(وإن حلف لا يشم الريحان؛ فيمينه على الفارسيِّ): هذا –أيضا- في زمن المؤلف أنه إذا قيل: الريحان؛ فإنه -في عرف الناس- الفارسيُّ. أما في وقتنا الحاضر؛ فهذا يختلف من بيئة إلى أخرى.
(والشواء هو اللحم المشوي): لا يأكل شواءً؛ أي في عرف الناس إذا قيل: شواء؛ فالمقصود به اللحم، ولا يُقصد سواه شيءٌ آخر.
(وإن حلف لا يطأ امرأة؛ حنث بجماعه)؛ لأن هذا هو في عرف الناس إذا قيل الوطء؛ فالمقصود به الجماع.
(وإن حلف لا يطأ دارا حنث بدخولها كيفما كان)؛ وطء الدار غير وطء المرأة، وطء المرأة المقصود به الجماع، لكنَّ وطءَ الدار المقصود به الدخول.
(وإن حلف لا يأكل لحما، ولا رأسا، ولا بيضا؛ فيمينه ..)
ماذا نقصد باللحم هنا؟!
قال: (على كلِّ لحمٍ، ورأسِ كلِّ حيوانٍ وبيضٍ):
إذا قيل: لحم؛ فالمقصود به لحم الحيوان، وإذا قيل: بيض؛ فبيض الطائر، وكذلك أيضا قوله: الرأس؛ فرأس الحيوان؛ فيحمل على هذا.
قال: (والأُدُمُ كُلُّ ما جرت العادة بأكل الخبز به من مائع وجامد):
وهذه فائدة في تعريف الإدام، وسنحتاج لهذا التعريف بعد قليل عندما نتكلم عن كفارة اليمين، فلو حلف لا يأتدم، أو لا يأكل إداما؛ فما المقصود بالإدام؟
عرف المؤلف الإدام قال: (هو ما جرت العادة بأكل الخبز به):
يعني كل ما يؤكل مع الخبز من مائع وجامد؛ كاللحم؛ اللحم يُسَمَّى إداما.
قال: (والبيض، والملح، والجبن، والزيتون):
هذه كلها تسمى إداما، ولهذا سيأتينا -بعد قليل- أنه في كفارة اليمين إذا كان الناس يأتدمون؛ فلا بد أن يُخرج مع الطعام إداما.
ما هو الإدام؟(1/9)
الإدام كل ما يؤكل مع الخبز، فأفادنا المؤلف بهذه الفائدة: وهي أن كل ما جرت العادة بأكل الخبز به يُعتبر إداما.
قال: (وإن حلف لا يسكن دارا؛ تناول كل ما يسمى سكنى، فإن كان ساكنا بها، فأقام بعدما أمكنه الخروج منها؛ فإنه يحنث):
إذا حلف أنه لا يسكن دارا؛ فكل ما يُسمَّى في عرف الناس سُكنى يحنث به، وإن كان ساكنا بها أقام إقامة تسمى في عرف الناس سكنى؛ فإنه يحنث بها.
قال: (وإن أقام لنقل قماشه، أو كان ليلا فأقام حتى يصبح، أو خاف على نفسه فأقام حتى يأمن؛ لم يحنث):
يغتفر في مثل هذا الشيء اليسير، لكن قوله: (أو كان ليلا فأقام حتى يصبح) لما كان في زمن المؤلف لم يكن هناك كهرباء، وكان الانتقال في الليل أمرا شاقًّا وصعبا، لكن في وقتنا الحاضر مع وجود الكهرباء، وتيسرت وسائل النقل كذلك، فربما نقول إنه لو بقي ليلة؛ فإنه يحنث؛ لأن الليل أصبح كالنهار في كثير من المجتمعات في الوقت الحاضر، أصبح الليل كالنهار مع وجود الكهرباء ووجود الإضاءة، وحينئذ لا نُفرق بين الليل والنهار في هذا، اللهم إلا أن يكون في وقتٍ متأخرٍ من الليل.
قال المؤلف: (باب كفارة اليمين) وهو آخر مبحث اليمين، وهو آخر مبحث معنا.
قال: (وكفارتها إطعام عشرة مساكين):
ذكر الله تعالى كفارة اليمين في قوله -سبحانه-: ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُّؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ? [المائدة: 89]، فبين الله -عزّ وجلّ- لنا كفارة اليمين في هذه الآية الكريمة.(1/10)
تقول: ما الحكم إذا استثنى الإنسان في يمينه؛ يعني يقول: والله لأفعل كذا -إن شاء الله- ثم حلف؛ فهل يلزمه الكفارة؟
قال: (وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث، أو تأخيرِها عنه):
أولا: ما الاعتبار في وجوب الكفارة؟
نقول: تجب الكفارة بالحنث إذا حنث في يمينه؛ وجبت الكفارة، والاعتبار في الكفارة بحال الوجوب، وتترتب على ذلك مسائل، لو كان مثلا وجبت عليه الكفارة وهو موسر ثم أعسر؛ فإن الكفارةَ تستقر في ذمته يعني وجبت عليه الكفارة وهو موسر؛ فمعنى ذلك أنه يجب عليه إطعام عشرة مساكين. فلو أعسر؛ فإنه لا ينتقل للصيام، وإنما لا بد أن تستقر هذه الكفارة في ذمته.
لو كان العكس؛ كان معسرا وقتَ الوجوب، ثم أيسر؛ فإنه لا يجب عليه إطعام، وإنما له أن ينتقلَ للصيام. فإذن الاعتبار في الكفارة بحال الوجوب ووجوبها إنما يكون بالحنث فيها، إذا حنثت كفارة؛ فهنا تجب عليه.
سؤالان:
السؤال الأول: يتعلق بالحنث اليمين والتورية يا شيخ؛ كأن يقول مثلا: أحلف لشخص بأني سآتيه، وهو يقصد وقتا معينا، وأنا أقصد وقتا غير الذي يقصد؛ فهل يحنث في هذا الحال؟
السؤال الثاني: لو أن شخصا حلف يمينا على أمر واحد، ثم حلف أن لا يفعل مثل هذا الأمر، ثم فعله عدة مرات؛ فهل يكفر عن كل مرة أم يكفي مرة واحدة؟
قال: (وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث أو تأخيرها عنه):
يعني مثلا قال: والله لا أفعل كذا، وقبل أن يفعل هذا الشيء يعني عزم على فعله لكن كفر قبل أن يفعله قبل الحنث؛ له ذلك، أو أنه فعله ثم كفر؛ له ذلك، يعني الأمر في هذا واسع، سواء قدم الكفارة على الحنث، أو أنه حنث ثم كفر.
واستدل المؤلف -رحمه الله- لهذا قال: (لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من حلف على يمين فرأي غيرها خيرا منها؛ فليكفر عن يمينه، وليأتِ الذي هو خير)، ورُوِيَ: (فليأتِ الذي هو خير، وليكفرْ عن يمينه)، والحديث بهذين اللفظين في الصحيحين).(1/11)
قال: (قال ويجزئه في الكسوة ما تَجُوزُ الصلاة فيه):
بالنسبة للإطعام مقدار ما يُطعم هل هو مقدر بالشرع أم بالعرف؟!
اختلف العلماء في ذلك فذهب بعض أهل العلم إلى أن الإطعام مقدر بالشرع، ثم اختلف أصحاب هذا القول؛ فقال بعضهم: إنه يطعم كل مسكين نصف صاعٍ من بُرٍّ، وصاعا من غيره، وهذا هو مذهب الحنفية.
ومنهم من قال: يطعم مُدَّ بُرٍّ أو صاعا من غيره، وهذا قول أحمد.
ومنهم من قال: يجزئ مُدٌّ في الجميع، ومنهم من قال: قدره بنصف صاع في الجميع، هذا إذن هو المذهب الأول.
المذهب الثاني في المسألة: أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع، وهذا هو مذهب الإمام مالك -رحمه الله- فيطعم أهلُ كلِّ بلدٍ من أوسطِ ما يَطْعَمون هذا هو مذهب المالكية، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو الأقرب في هذه المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إن المنقول عن أكثرِ الصحابة والتابعين هو هذا القول، -وهو أن الإطعام مقدر بالعرف- قال: وهو الصواب الذي يدل عليه الكتاب، والسنة، والاعتبار، وهو قياس مذهب أحمد وأصوله، ولذلك لأن الشارع لم يُقَدِّرْ مقدار ما يطعم، والأصل فيما لم يقدره الشارع؛ فإنه يرجع فيه إلى العرف.
والأقسام ثلاثة: ما له حد في الشرع، أو في اللغة؛ فيُرجع فيه إلى الشرع، أو اللغة، وما ليس له حد لا في الشرع ولا في اللغة؛ فإنه يُرجع فيه إلى العرف".
إذن إطعام عشرة مساكين، كيف نطعم عشرة مساكين؟!(1/12)
من أهل العلم من قدر، فقال بعضهم: نصف صاع، وبعضهم قال: مُدَّ بُرٍّ ونصف صاع من غيره، فاختلفوا على تقديرات، ولكن القول الراجح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهو أن لا تقديرَ في ذلك، وإنما يُرجع فيه إلى العرف. فهؤلاء عشرة مساكين ننظر إلى ما يطعمون به، ولهذا لو جمعهم فغداهم، أو عشاهم؛ فإنه يصدق عليه أنه أطعمهم. فلا نقول: نصف صاع، ولا نقول: صاعا، ولا نقول: مُدًّا، وإنما نقول: المرجع في ذلك إلى العرف، وإلى ما يصدق عليه أنه إطعام، ولذلك لو أن أحدًا يعرف عائلة فقيرة مكونة من عشرة أشخاص، فذهب واشترى من المطعم لهم غداءً أو عشاءً غداهم أو عشاهم؛ فيصدق عليه أنه أطعمهم، وبناء على هذا القول نقول: إنه أطعم عشرة مساكين بغض النظر عن مقدار ما يطعمهم به.
يعني هل هو نصف صاع لكل مسكين، أم أكثر، أم أقل؟! هذا هو القول الصحيح في المسألة، وذلك أن الأمور ثلاثة: ما قُدِّرَ فيه ما يُطعم ومن يُطعم، وهو فدية الأذى؛ فإنها قد ورد تقديرها بنصف صاع، وأيضا أنها تكون للمساكين. ولذا جاء في الصحيحين في قصة كعب بن عجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع).
والقسم الثاني: ما قُدِّرَ فيه ما يُطْعم دون مَنْ يُطْعم، وهو زكاة الفطر؛ فإنها قد قُدِّرَتْ صاعا، ولم يقدر مَن يُطعم، ولهذا لو قسم هذا الصاع بين عدد من المساكين؛ أجزأ، ولو أنه أعطى مسكينا واحدا أكثر من صاع في زكاة الفطر؛ أجزأ.
القسم الثالث: قُدِّرَ فيه مَن يُطعم، ولم يُقدر ما يُطعم، وهو كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان فيطعم المساكين، لكن مقداره لم يبين، ولم يحدد فيرجع في ذلك إلى العرف.
تقول: إذا حلف شخص على شيء مُعَيَّنٍ، وحلف شخص آخر على خلاف هذا الشيء الذي حلف عليه الأول؛ فهل كُلٌّ منهما عليه كفارة أم على حَسَبِ حلف الشخص؟(1/13)
السؤال الثاني: الإنسان إذا كان كثير الحلف هل عليه كفارة بحيث إنه ما يذكر لحلفه؛ فعليه كفارة يا شيخ؟
تقول:
السؤال الأول: أنا حلفت في أمرٍ معينٍ أكثر من مرة في مواضعَ مختلفةٍ، وأردت أن أكفر يميني هذا؛ فهل أُكَفِّر على كل مرة أم مرة واحدة تكفي؟
السؤال الثاني: أنا أذكر أني حلفت بأمر ما لكني نسيت هذا الأمر هل إذا كفرت اليمين لا بد أن أذكر هذا الشيء أم أكفر فقط؟
لعلنا نرجئ الإجابة على الأسئلة لآخر الدرس.
نحن رجحنا القول بأن إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين أن المرجع فيها إلى العرف، والمهم أن يستوعب عشرة. أما مقدار إطعام هؤلاء العشرة؛ فالقول الصحيح في هذه المسألة هو قول الإمام مالك، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن المرجع في ذلك إلى العرف.
بناء على ترجيح هذا القول هل يلزم في إطعام المساكين أن يكون في الطعام إدامٌ أم لا؟!
نحن بينا المقصود بالإدام قبل قليل، وهو ما يُؤكل مع الخبز من لحم، أو غيره. هل يلزم أن يكون في الطعام إدام أم لا؟!
بناءً على ترجيح هذا القول نقول:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الصحيح أنه إذا كان يُطعم أهله بأُدُمٍِ؛ أَطعم المساكين بأُدم، وإذا كان يطعمهم بلا أدم؛ لم يكن عليه أن يفضل المساكين على أهله بل يطعم المساكين من أوسط ما يطعم أهله».
فنقول: ننظر لحاله هل هو يُطعم أهله بأُدم، عندما يأكل أهله مثلا يأكلون وجبة أرزٍّ مع لحم؛ فمعنى ذلك أنه يطعم أهله بأُدم، فلا بد عند إخراج الكفارة إذا أراد أن يخرج أرزًّا لا بد أن يكون معه لحمٌ. إذا كان يطعمهم بلا أدم أرزًّا فقط؛ فحينئذ له أن يُخرج في الكفارة أرزًّا بلا لحم.(1/14)
عندنا في المملكة العربية السعودية الناس يأتدمون في طعامهم فمن يأكل أرزًّا يأتدم بلحم، وحينئذ فلا يكفي في كفارة اليمين إخراجُ الأرز فقط، بل لا بد من أن يكون معه إدامٌ، لا بد أن يكون معه لحم، فمن يريد إطعام عشرة مساكين؛ نقول له: أخرجْ أرزًّا بقدر ما يكفي العشرة مع لحم؛ أي مع إدام، لكن لو كان الإنسان في بلد، وحالة أهل هذه البلاد فقيرة، والناس لا يأتدمون في عرفهم ومعظم الناس لا يأتدمون، وهو الحالف عندما يطعم أهله يأكلون الطعام بلا إدام؛ حينئذ لا يلزمه أن يدفع إداما في كفارة اليمين.
اللحم يشمل الدجاج؟
نعم يشمل الدجاج، ويشمل لحم الضأن، ولحم الجمل هذا كله يسمى لحما وإداما، وهو من أجود ما يكون من الأدم، ولذلك من أراد أن يطعم عشرة مساكين نقول يخرج أرزًّا مع لحم.
وهذه المسألة ننبه عليها؛ لأن بعض الناس عندما يخرج كفارة يمين يخرج أرزًّا، ولا يخرج معه إداما، وبناء على القول الذي رجحناه لا بد من الإدام إذا كان الناس يأتدمون.
ثم نرجع بعد ذلك إلى عبارة المؤلف -رحمه الله- قال: (ويجزئه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه للرجل ثوب):
لأن الله -تعالى- قال: "إطعام عشرة مساكين" أو "كسوتهم" فله أن يعدل عن الإطعام إلى الكسوة فيكسو هؤلاء المساكين العشرة.
ما القدر المجزئ؟
القدر المجزئ: للرجل ثوب، وللمرأة درع وخمار، قال بعضهم: بقدر ما يجزئ في الصلاة، والصحيح كما قلنا في الطعام أن المرجع في ذلك إلى العرف، وكما قال الله -عزّ وجلّ-: ?مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ? الواجب هو الوسط في اللباس، هذا هو القول الصحيح.
(ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين، ويكسو خمسة):
لو أراد أن يطعم خمسة مساكين، ويكسو خمسة مساكين آخرين؛ فإن ذلك مجزئ في كفارة اليمين.
لو كانوا هم نفس الخمسة؛ أطعمهم وكساهم؟!
لا، لا بد أن يستوعب عشرة، وهذه سنتكلم عنها، لا بد من استيعاب عشرة مساكين.(1/15)
قال: (ولو أعتق نصف رقبة، أو أطعم خمسة، وكساهم؛ فإنه لا يجزئ):
يعني أعتق نصف رقبة، وأطعم خمسة مساكين؛ فهنا لا يجزئ، بينما لو أطعم خمسة، وكسا خمسة أجزأ، لكن لو أعتق نصف رقبة، وأطعم خمسة، أو كسا خمسة؛ فإن ذلك لا يجزئ، وذلك لأن مقصودهما مختلف ومتباين.
(أو أعتق نصف عبدين؛ لم يجزئه، ولا يُكفِّر العبد إلا بالصيام):
لأن العبد لا مال له، والعبد وما ملك لسيده؛ فلا يمكن أن يكفر بالإطعام، وحينئذ ينتقل من الصيام مباشرة.
(ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤونته، ومؤنة عياله، وقضاء دينه):
يعني في كفارة اليمين إذا لم يجد الإنسان ما يطعم به عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة؛ فإنه يعدل للصوم؛ لأن الله تعالى قال: ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ?، وهنا أُنبه على الخطإ الشائع عند بعض العامة، تجد بعض العامة يظن أن الكفارة صيام ثلاثة أيام، تجد أنه مباشرة يقول: أصوم ثلاثة أيام، هذا غير صحيح، ليس له أن يعدل عن الصيام إلا إذا عجز على إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإذا عجز عن الإطعام، والكسوة، وتحرير رقبة؛ فهنا يعدل إلى الصيام، أما كونه يريد أن يصوم ثلاثة أيام، وهو قادر على إطعام عشرة مساكين؛ فليس له ذلك.
بين المؤلف المقصود بذلك قال: (من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤونته، ومؤونة عياله، وقضاء دينه):
يعني لا بد أن يجد ما يطعم به عشرة مساكين فاضلا عن مؤونته؛ أي عن نفقته، وما يحتاج إليه، وكذلك نفقة عياله، وقضاء الدين الواجب عليه.
(ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا يحتاج إليه من مسكن، وخادم، وأثاث، وكتب، وآنية، وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه):
يعني لو كان عنده سيارة، هذا إنسان عنده سيارة، ومن لم يجد ما يطعم به عشرة مساكين؛ فهل له أن يعدل إلى الصيام أم نقول: يجب عليك أن تبيع سيارتك؛ لأجل أن تكفر كفارة اليمين؟!(1/16)
نقول: لا يجب، لا يجب عليه في الأشياء التي يحتاج إليها، بل حتى لو كان طالب علم وعنده كتب لا يجب عليه أن يبيع كتبه لأجل أن يطعم عشرة مساكين، بل له أن يعدل للصوم مباشرة.
قال: (ومن أيسر بعد شروعه في الصوم؛ لم يلزمه الانتقال عنه):
هذا إنسان لم يجد ما يطعم به عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو تحرير رقبة، وعدل للصوم، فلما بدأ في الصوم؛ أيسر وساق الله له رزقا؛ فحينئذ هل يلزمه الانتقال إلى الإطعام؟!
لا، لا يلزمه، يكمل صومه والحمد لله.
قال: (ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا؛ رُدِّدَ عليه عشرة أيام):
هذه مسألة مهمة هذه التي سألت عنها قبل قليل، هل له أن يُطعم مسكينا واحدا بقدر إطعام عشرة مساكين، هذا رجل يقول: أنا أعرف فلانا مسكينا، فأنا سآخذ طعام عشرة مساكين وأعطيه هذا المسكين؛ هل يجزئ ذلك في كفارة اليمين؟!
نقول: لا، لا بد من استيعاب العدد، لا بد أن يطعم عشرة مساكين، وهكذا أيضا نقول في كفارة الظهار لا بد أن من صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد رقبة، فإن لم يستطعْ الصيام؛ فإنه لا بد أن يستوعب ستين مسكينا. يعني في كفارة الظهار عتق رقبة: ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ? [المجادلة: 4].
طيب لو أراد أن يُطعم ستين مسكينا يعطيها عشرة مساكين بقدر ما يعطى ستين مسكينا يرددها على عشرة مساكين؛ نقول: ليس له ذلك، لا بد من استيعاب العدد، لا بد من إطعام ستين مسكينا، وهكذا أيضا في كفارة الجماعِ في نهار رمضان، إذا عجز عن الكفارة، وعن صيام شهرين متتابعين؛ فإنه يُطعم ستين مسكينا، ولا بد من استيعاب العدد.(1/17)
لكن إن لم يتيسرْ؛ فما وجه ستين مسكينا، أو في كفارة اليمين هنا ما وجد عشرة مساكين، وهذا قد يكون في بعض الدول يتعذر وجود المساكين، فيبحث الإنسان ستين مسكينا ولا يجد، يجد مثلا عشرة أو عشرين، في كفارة اليمين ربما أنه يبحث عن عشرة مساكين ولا يجد مسكينا واحدا؛ فهنا له إذا لم يجد هؤلاء المساكين العشرة في كفارة اليمين، أو لم يجد ستين مسكينا في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في نهار رمضان؛ له أن يُرَدِّدَ الإطعامَ على مَنْ يجد من المساكين، له أن يردد الإطعام على من يجد من المساكين.
ففي كفارة اليمين إذا لم يجد إلا مسكينا واحدا؛ فله أن يردد الإطعام عليه عشرة مساكين؛ أي يُغَدِّيه عشرة أيام، اليوم الأول يغديه، واليوم الثاني، والثالث، عشرة أيام مثلا، أو يُعَشِّيه عشرة أيام، هذا بشرط أنه لم يجد عشرة مساكين. لكن لو وجد عشرة مساكين؛ فلا بد من استيعاب العدد.
وهكذا لو وجد ستين مسكينا في كفارة الجماع في نهار رمضان، وفي كفارة الظهار لا بد من استيعاب ستين مسكينا؛ فالقاعدة في هذا أنه لا بد من استيعاب العدد، لكنه لم يجد؛ فله أن يُرَدِّدَ ذلك الإطعام على من يجد من المساكين.
لو وكل يا شيخ مؤسسة خيرية أو جهة تقوم بإخراج هذه الكفارة عنه؛ هل يجزئه؟
يجزئه بشرط أن تكون تلك الجهة الموكلة موثوقا بها، إذا كان جهة موثوق بها، ومزكاة عند أهل العلم، وعندهم تحرٍّ للمساكين، وأيضا التزام بالضوابط الشرعية فيما يتعلق بالإطعام والكفارة؛ فيجزئ ذلك.
بهذا نكون قد انتهينا من المنهج، ووقفنا عند كتاب "الجنايات". ذكرنا أبرز المسائل المتعلقة بالمنهج، وسلكنا مسلكا وسطا، ولم نتوسع كثيرًا، ولم نختصر كثيرًا، ورأينا أن هذا هو الأنفع لمن يتابع معنا هذا الدرس. بهذا نكون قد انتهينا من هذا المنهج وَفْقَ لِمَا خُطِّطَ له والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الأسئلة التي وردت من المتصلين:
قضية الاستثناء تقول إنها مَرَّ عليها مدة طويلة؟(1/18)
الاستثناء في الدرس السابق مر معنا، وبالمناسبة هذه الدروس تفرغ في الأكاديمية بالصوت، ومكتوبة؛ أي تُفَرَّغ مكتوبة، وأيضا محفوظة بالصوت، ومن فاته شيء؛ فليرجع للدروس السابقة، ونحن تكلمنا عن الاستثناء في اليمين في الدرس السابق، وذكرنا أن من حلف واستثنى وقال: إن شاء الله؛ فإنه لا يحنث.
الأخت لها سؤال في قضية الاستثناء تقول: إذا حلف شخص على يمين الإكرام، فقلت له: قل: إن شاء الله فقالها؛ هل يحنث؟! وهل هناك فرق بين إن كان عالما بفائدة الاستثناء هنا أم أنه لا يعلم، وإنما قالها بناء على طلبه؟ فالحالف ما كان يعلم فائدة الاستثناء؟
على كل حال إذا قال: إن شاء الله؛ لم تلزمه كفارة اليمين، وذكرنا الأدلة لهذا في الدرس السابق في التفصيل سواء كان في يمين إكرام أو في غيرها.
شخص حلف على شيء معين وآخر على خلافه؛ لا بد أن يحنث أحدهما؟!
من حنث؛ فعليه كفارة، من حنث فهو الذي تلزمه الكفارة دون الآخر.
إذا كان كثير الحلف، ولا يذكر كم مرة حلف، وكم مرة حنث؟
لا بد من التحري، يتحرى كم عدد الأيمان التي حلف فيها، ويسلك أيضا مسألة الاحتياط في هذا، ومثلا إذا شك هل هذه خمس أيمان أو ست؛ يجعلها ستا، فلا بد من التحري؛ لأن اليمين شأنها عظيم وكبير، ولا بد للإنسان إذا حنث في يمين أن يكفر كفارة يمين، وإلا؛ فإنه يأثم، وتلحقه التبعة في هذا.
الإخوة أشاروا إلى قضية تكرار الحلف على أمر معين في أكثر من موضع؛ فهل له أن يكفرَ عن كل مرة؟!
نعم، هذه مرت معنا في هذا الدرس، قلنا: إنه إذا حلف على أمر معين، وكرر الحلف؛ فإنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة سبق أن تكلمنا عن هذا بالتفصيل في أثناء الشرح.
حلفت على شيء معين، ولكنها نسيته، وأرادت أن تكفر؛ فهل يجب عليها أن تتذكر هذا الأمر؟(1/19)
لا، لا يجب لكن المهم أنها تكون قد حنثت، إذا حنثت؛ فتكفر، إذا كانت لا تدري نسيت هل حنثت أم لا؛ فإنها تسلك مسلك الاحتياط؛ لأن اليمين كما ذكرنا شأنها عظيم، والمطلوب من المسلم التورع عنها ابتداء، فإذا وقعت، منه وحصلت منه؛ فلا أقل من أن يكفر كفارة يمين.
الحلف في هذا الغضب؛ فهل يعتبر؟
نعم إذا حلف في حالة الغضب، الطلاق لا يقع في الغضب؛ فاليمين من باب أولى لأنها لا يترتب عليها شيء. المقصود بالغضب الغضب الشديد الذي يُغْلَقُ فيه على الإنسان، أما الغضب اليسير؛ فلا شك أن اليمين تكون منعقدة، والطلاق يقع.
هل العرف للطعام عرف بلد الحالف أم عرف البلدة التي قد يكون فيها فقراء، وطعام أهلها أقل من المتوسط؟
عرف بلد الحالف.
بعض النساء تحلف على نفسها أن تعمل رجيم، ونظام تخفيف لمدة شهر أو سنة؛ فهل يبطل إن قالت عن ذلك إن شاء الله؟
نعم إذا قالت: إن شاء الله؛ فإنها لا يلزمها كفارة يمين، كل من حلف على شيء فقال: إن شاء الله؛ فليس عليه كفارة يمين سواء حنث أم لم يحنث.(1/20)