شرح
الأربعين النووية و تتمة ابن رجب
شرح
فضيلة الشيخ الدكتور
عبدالرحمن بن صالح الدهش
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود
رضي الله عنه وغفر له ولوالديه ومشايخه
و نفعنا الله بعلمه والمسلمين
تفريغ / محمد الشعلاني
تنبيه))))
هذا الشرح مفرغ , ولم يراجع من قبل الشيخ حفظه الله وقد أذن بإخراجه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وصحبه أجمعين .
هذا الكتاب مفيد ومبارك نفع الله به نفعاً عظيماً نظراً إلى صحة نية مؤلفة فيما يظهر والله أعلم
ونظراً لتوفيق الله له في إنتقاء الأحاديث الجوامع التي جمعها , فقد جمع النووي رحمه الله تعالى اثنين وأربعون حديثاً في مختلف المواضيع وأهمها , وسمى كتابه "الأربعون" وهذه التسمية من باب التغليب وإلا فأحاديثها اثنان وأربعون حديثاً .
ومما يدل على أهمية هذا الكتاب اعتناء العلماء قديماً وحديثاً به , وذلك يظهر من كثرة شروحه فقد كثرت الشروح عليه حتى ذُكر أن له أكثر من مائة وعشرين شرحاً , ما بين مطبوع ومخطوط ومفقود .
وسبب التأليف أن المؤلف توخي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " نَظّرَ الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها .." لينال بركة هذه الدعوة , وليمتثل قوله صلى الله عليه وسلم " ليبلغ الشاهد منكم الغائب".
والمؤلف توخى في كتابه الصحة بمعنى أنه ليس في كتابه هذا حديثاً مرفوضاً . وهذا مستدرك على المؤلف فهناك أحاديث تكلم عنها العلماء في صحتها نذكره في محله لكن هذا هو رأيه واجتهاده .
...
... الحديث الأول(1/1)
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ"
رَوَاهُ إِمَامَا الْمُحَدِّثِينَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغِيرَة بن بَرْدِزبَه الْبُخَارِيُّ الْجُعْفِيُّ [رقم:1]، وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ بنُ الْحَجَّاج بن مُسْلِم الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ [رقم:1907] رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي "صَحِيحَيْهِمَا" اللذِينِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ.
تصدير أهل العلم كتبهم بهذا الحديث كأنه تذكير لطالب العلم بإخلاص النية , بحيث قال ها أنت في أول درس وأنت الآن في أول الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (إنما الأعمال بالنيات) فانتبه لنيتك هل طلبك للعلم بنية خالصة تريد بذلك القربى من الله عز وجل أو أن لك غرضا أخر .
فذكر هذا الحديث مناسب جدا لتذكير من بدأ بالكتاب من هذه الأربعين أو من غيرها(1/2)
هذا الحديث يقول فيه عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب لتعلم أن أجر هذا الحديث حازه عمر بن الخطاب في الله تعالى عنه لأنه هو الذي حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه غيره من الصحابة حتى أبا هريرة الذي أكثر الرواية لم يروي هذا الحديث إنما هو مما تفرد به عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتفرد به عن عمر التابعي , فأخذ أجره ثم لم يروه عن علقمة أيضا إلا محمد بن إبراهيم التميمي تابعي عن تابعي ثم لم يروه عن محمد إلا تابعي ثالث وهو يحي بن سعيد الأنصاري فهؤلاء الثلاثة كل واحد تفرد به عن الذي فوقه فالحديث في أوله غريب يعني تفرد بروايته من ذكرت لكنه بعد ذلك اشتهر الحديث فرواه جمع غفير عن يحي بن سعيد الأنصاري رواه خلائق من الناس كثيرا جدا بالغ بعضهم في ذكر العدد فالحديث في أوله غريب وفي أخره مشهور والحديث من حيث موضوعه حديث عظيم أيضا لأنه يتعلق بكل شيء يتعلق بالنية التي هي لازمة لكل عم ولذلك كثرة عبارات السلف في الثناء على هذا الحديث فمنهم من قال إن هذا الحديث هو الدين كله ومنهم من قال هو نصف الدين ومنهم من قال إنه ثلث الدين إلى كلام يدل مجموعه على ما ذكرت لك على أن الحديث له منزلة عند السلف وهذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن له سبباً ولا عن غيره في بعض الأحاديث ترد بسبب لكن هذا الحديث لم يثبت أن له سببا إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم
ابتداء وبهذا يعرف أن ما اشتهر عند بعض الشراح أن سببه أن رجلا هاجر ليتزوج امرأة اسمها أم قيس ويسمى هذا الرجل مهاجر أم قيس هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أيضا عمن بعده فاعتماد هذا السبب لهذا الحديث غير صحيح .(1/3)
أما الحديث فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال ..) وهذه الجملة جملة حصر فحصر النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات .هذه الجملة : إنما الأعمال معتبرة بالنيات فهذا هو تقدير المحذوف فإذا فقدت النية فلا اعتبار للعمل ، فالاعتبار إنما يكون بالنية والنية :القصد والقصد محله القلب يعني ( إنما الأعمال تكون بالقلوب يعني يقصدها الإنسان في قلبه )
قال : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) هذا حصر أخر لكل امرئ مكلف ما نوى فمن نوى الخير له الخير ومن نوى الشر له الشر أو نقول عليه الشر .
(وإنما لكل امرئ ما نوى ) فما نويته أنت هل يأخذه زيد ؟ لا يأخذه سواء من خير أو شر إنما لك الذي نويت وفي ذلك التحذير على أن ينوي الإنسان أمرا خلاف ما أراده الله أو أراده رسوله لأنه يقال : إنما لم ما نويت فانظر ماذا تنوي هذا معنى قوله ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) بعد ذلك يجب أن تعرف أن هذه النية التي هي لك أو عليك لا بد للانتباه فيها لأمرين:
الأمر الأول / نية العمل بمعنى أنك تنوي أن هذه فريضة أو هذه نافلة هذا نسميه نية العمل ، نية العمل نستفيد منها التمييز بين الأعمال ، توضيح ذلك هذا رجل قام وصلى ركعتين يحتمل أنها تحية المسجد أو نذرا أو الفجر أو راتبة إلى غير ذلك من الاحتمالات هو الآن بحاجة إلى نية العمل إلى أن ينوي ما هاتان الركعتان هل هي تحية المسجد هل هي نذر؟ هذه نية العمل نستفيد منها التمييز تمييز العمل .
عندنا نية ثانية وهي نية المعمول له هو قام يصلي لله أو للناس أو للعادة هكذا فلا بد من نية المعمول له . ماذا يستفيد من نية المعمول له ؟ يستفيد صحة العمل الذي هو الإخلاص
إذا لا بد في عملك من نيتين الأولى :نية العمل ، والثانية : نية المعمول له(1/4)
الفقهاء لما يتكلمون عن النية ماذا يتكلمون عن نيتين ؟ كلامهم يكون عن نية العمل التي يحصل بها التمييز بين فريضة أو نافلة بين كذا وكذا أما أرباب السلوك والمتكلمون في التوحيد فإنهم يتكلمون عن النية الثانية التي هي نية المعمول له إذا هذه أقسام النية على ما فهم من كلام العلماء حول هذا الحديث .
لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) مثل لهذا أمثلة لتوضيح الأحكام التي سبقت قال : (فمن كانت هجرته لله ورسوله) فمن هاجر إلى الله ورسوله وخرج من بلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ولرسوله فهجرته كيف تكون ؟ تكون لله ورسوله يعني هجرته لهذا الغرض والقصد العظيم أنها لله ولرسوله
( ومن كانت هجرته لدنيا ) فهجرته إلى ما هاجر إليه لا نتدخل فيه هجرته لهذه الأغراض الدانية ، فهذا خرج من بلد الشرك إلى بلد الإسلام لأنه يتاجر وقيل له إن التجارة في بلد الإسلام أكبر والتجار يشترون بأغلى فهذا هاجر لأي شيء ؟ لأجل الدنيا، إنسان أخر هاجر لأنه ذكرت له امرأة عند المسلمين فأحب أن يتزوجها فهذا والذي قبله النبي صلى الله عليه وسلم حط من شأنه وقلل من همته فقال هجرته إلى ما هاجر إليه هكذا اختصر الكلام صلى الله عليه وسلم لأن غرضه قليل ورغبته ضعيفة ، أما الأول ماذا قيل فيه قيل فيه هجرته إلى الله ورسوله فأعيدت النية بألفاظها احتفاء بها وتكريما لصاحبها بخلاف الثاني فقد اختصر الكلام في حقه .
إذاً هذا مثال مثله النبي صلى الله عليه وسلم للنية ، وإذا كان هذا مثال فإننا نأتي بأشياء أخرى فنقول من كانت صلاته لله ورسوله فصلاته لله ورسوله ، من كان طلبه للعلم لله ورسوله فطلبه للعلم لله ورسوله ، من كان طلبه للعلم ليماري به السفهاء ويجاري به العلماء فطلبه للعلم إلى ما طلبه إليه لأن غرضه قاصر .
إذا هذا الحديث تبين لك الآن أنه حديث عظيم ويجب على الإنسان أن يرغب نيته حتى يكون عمله خالصا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم(1/5)
إذا تبين لك السبب بعد هذا أن العلماء رحمهم الله احتفوا بهذا الحديث وقالوا إنه نصف الدين أو ثلث الدين أو أكثر أو أقل لأنه يدور على هذه المسألة المهمة التي هي النية ، ثم لا يخفاك أن أمر النية أمر صعب يحتاج إلى مجاهدة الإنسان إذا أخطأ في صلاته مثلا فصار لا يسجد على الأعضاء السبعة فإن ينبه على هذا ثم ينتبه لنفسه المرتين والثلاث ثم يتعود السجود على الأعضاء السبعة هذا هين وسهل لكن إنسان تعود أنه لا يصلي إلا بحضرة الناس حتى يثنوا على عبادته فهذا يحتاج إلى مجاهدة طويلة مع نفسه وإلى تخويف من الله وتمام مراقبته قد تستمر معه عمره كله وهو يجاهد مع نفسه ثم ربما يصلحها لأسبوع ثم تفسد نيته فيحتاج إلى معالجة ثانية وهكذا فالقلب من أشد الأمور التي تحتاج إلى ملاحظة لأنه يتقلب ولا يمكن لإنسان أن يقول بلغت الآن مبلغا يعني مرضيا في الإخلاص فلان من الناس أخلص في عمله لله واستراح من المجاهدة هل يمكن هذا ؟ أبدا لا يمكن ما دامت روحه في جسده فلا بد أن تجاهد ولا بد أن تستمر على ذلك فالمسألة كما تلاحظ طويلة وشاقة ، ولكن من صدق مع الله تعالى في إصلاح نفسه فإن الله تعالى وعده بالتأييد والإعانة ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) فجاهد نفسك والله يهديك الصراط المستقيم .
نعود فنشير إلى أمور يحتاجها طالب الحديث :
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) فهذا الحديث يدل على أنه لا بد لكل عمل من نية ، السؤال هنا هل هذا في كل عمل وأن الإنسان لو عمل أعمالا بلا نية نقول أعدها ؟ هذا نوضحه بمثال وبمثالين ثم نذكر ضابطا ذكره العلماء في هذه المسألة
هذا إنسان أصاب طرف ثوبه بول ثم خلعه ليغسله وعلقه في الهواء ثم قد أنزل الله مطر وغسل ثوبه وذهبت النجاسة التي في أسفله هل طهر الثوب ؟ نعم طيب هو ما نوى ومع ذلك نقول طهر ثوبه .(1/6)
مثال أخر إنسان يطالبك مائة ريال ثم يوم من الأيام اعطيته مائة ريال ليوصلها إلى فلان من الناس فقال أنا اطلبك مائة ريال فقلت خذها إذا بدل الدين ، أنت لما أعطيته المائة ريال هل نويت أن تكون قضاء عن دينك ؟ ما نويت والآن صح أن تكون هذه المائة قضاء عن دينك مع أنك ما نويت .
مثال ثالث امرأة توفي عنها زوجها والمتوفى عنها زوجها عدتها أربعة أشهر وعشرا هذه ما علمت إلا بعد أربعة أشهر وعشرا هل تخرج من العدة أو تدخل في احتسابها ؟ تخرج نعم فلو جاءها رجل وقال زوجك مات منذ أربعة أشهر وعشرا وأنا أخطبك يجوز ؟ نعم ، أين العدة ؟ انقضت ، هل نوت ؟ ما نوت العدة
إذا كيف نخرج الأمثلة الثلاثة من عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) هذه الأمثلة لو تأملت فيها لوجدت أن الشارع يريد التخلي فيها والتخلص من الأشياء التي ذكرت في الأمثلة ، فمثلا المثال الأول مقصود الشارع في النجاسة التخلي والإزالة ، وفي الدين التخلي وإبراء الذمة ، وفي العدة كذلك التخلص منها حتى يتبين براءة رحم المرأة واستعدادها لزوج جديد وهذه المقاصد التي أرادها الشارع حصلت من غير نية من المكلف فنقول يصح اعتبارها فهذه الأشياء التي يقصد فيها التخلي والترك نقول صحت وإن لم يسبق نية من الفاعل فالضابط إذا ما قصد منه الترك والتخلي فلا يحتاج إلى نية فتصح وإن لم تكن هناك نية سابقة هذا هو ما يستثنى من قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ..) ا.هـ
الحديث الثاني(1/7)
عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَيْضًا قَالَ: " بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ، إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ. حَتَّى جَلَسَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: صَدَقْت . فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ. قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْت. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ. قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ. قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْنَا مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟. قَلَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ ".(1/8)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:8] .
هذا الحديث حديث مشهور رواه عمر بن الخطاب تحدث أنهم كانوا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهذه عادة الصحابة أنهم يتحلقون حول نبيهم ليستفيدوا من هديه وليأخذوا من سنته وغالب هذه والله أعلم أنها تكون في المسجد .
قال :( إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) هذه أربع صفات وصف بها هذا الرجل الذي طلع عليهم ، صفتان تعود إلى ذاته وصفتان تعود إلى حاله وقرينتها ، أما الصفتان اللتان تعودان إلى ذاته فشديد بياض فشديد بياض الثياب فثيابه بيضا وبياضها ليس بياضا عاديا بل بياض شديد وأما شعره فشديد السواد ولذلك ذكر هاتين الحالتين لأنها حالان غريبان أن تجتمع هتان الصفتان ، أما الصفتان اللتان تعودان إلى حاله وقرينتها قال : ( لايرى عليه أثر السفر ) لأن المسافر تدرك حاله إما بتعب أو اتساخ ثياب أو أشياء يحملها المهم أنه نفى أن يكون عليه أثر السفر، وقال : ( لا يعرفه منا أحد ) فالحاضرون لا يعرفون هذا الرجل وقد تقول كيف جزم عمر أنه لا يعرفه أحد هل سأل الحاضرين ؟ ما سألهم يقينا ولكن ولكن كيف جزم رضي الله عنه ؟ نقول الجزم هذا باعتبار غالب الظن وقرينة وجوه الحاضرين قال لا يعرفه منا أحد اعتمادا على أمرين : الأول غالب الظن ، والثاني القرينة التي قرأها في وجوه الحاضرين .
قال : ( حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ) يعني جلس جلوس مقابلة حتى أسند ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا هي مقابلة قريبة ومواجهة مباشرة .(1/9)
قال : ( ووضع كفيه على فخذيه ) وضع هذا الرجل كفيه على فخذيه فهل المعنى أنه وضعها على فخذي نفسه أم على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم ؟ نقول على فخذي نفسه وإن كان هناك احتمال أن يضعها على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هذا غير مقبول وهو خلاف الأدب ووضع الكفين على الفخذين فيه إشارة إلى تلهف الكلام الذي سوف يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( يا محمد أخبرني عن الإسلام ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ..) بدأ النبي يبين له الإسلام الذي سأل عنه وهو الشهادة أنه لا معبود بحق إلا الله عز وجل هذا جزء من الإسلام أو جزء من هذه الشهادة .قال ( وأن محمدا رسول الله ) وأن محمد مرسل من قبل الله عز وجل فهاتان هما الشهادتان شهادة بوحدانية الله عز وجل واستحقاقه للعبادة وشهادة بأن محمدا مرسل من عند الله ، وفي قوله ( أن تشهد ) دليل واضح على أنه لا بد من الشهادة في كلمة التوحيد فالشهادة تكون باللسان فلو أن إنسان اعتقد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولكن لم يشهد بهذا فنقول لا يصح منك الأمر لا بد أن تشهد وأن تتكلم بهاتين الشهادتين إلا المعذور فإنه يكتفي بما يستطيع من الأمر فالذي لا يستطيع أن يتكلم أو يستطيع أن يتكلم ولكنه منع منها وقهر دونها فإنه يكتفي بما يستطيعه أما مع القدرة فلا بد أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( وتقيم الصلاة ) ويقرأ بالنصب لأنها معطوفة على منصوب والصلاة هنا المراد بها الصلاة المكتوبة فإقامة الصلاة من الإسلام .
قال( وتؤتي الزكاة ) كذلك الزكاة هنا هي الزكاة المفروضة فهي من الإسلام .
قال ( وتصوم رمضان ) رمضان شهر كامل بين شعبان وشوال(1/10)
قال ( وتحج البيت ) تقصد الكعبة لأداء هذا النسك العظيم بشروطه وواجباته وتكميله بسننه فحج البيت داخل في الإسلام ولكنه قال ( إن استعطت إليه سبيلا ) فقيد الحج بالاستطاعة وقد تقول الصلاة كذلك فنقول لا شك الاستطاعة شرط في كل عبادة ولكن الغالب عدم القدرة على الحج والمستطيعون قلة ولذلك قيده النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل كثرة المشقة قيدها بالاستطاعة ، فهذه هي أركان الإسلام التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السائل فعدد عليه خمسة أشياء : الشهادتين ، الصلاة ، الزكاة ، الصوم ، الحج وهذه هي الأركان التي دل عليها هذا الحديث ودل عليها أيضا حديث ابن عمر الذي سيأتي بعد هذا الحديث وأنت إذا تأملت هذه الخمسة المذكورة لوجدتها أعمالا ظاهرة وبالتالي أخذ العلماء من هذا أن الإسلام هو الاستسلام والانقياد في الظاهر أما الاستسلام والانقياد في الباطن فسوف يأتينا أنه إيمان.
إذا هذا هو الإسلام هو الاستسلام والانقياد في الظاهر وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المهمة وهي الأركان فهل لنا أن نزيد عليها من الأعمال الظاهرة ؟ نقول نعم لنا أن نزيد عليها ولكن لا تساوي هذه في الأهمية لأن هذه أركان كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم فمثلا بر الوالدين ، قراءة القرآن لا شك أنها من الإسلام ولكن لا تساوي الأركان .
لما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الأول قال: صدقت . من القائل ؟ الرجل
قال ( فجبنا له يسأله ويصدقه ) عجب الصحابة كيف تسأل وتصدق لأن المفترض أن الذي يسأل لا يعلم .
قال (فأخبرني عن الإيمان ) هذا السؤال الثاني(1/11)
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( أن تؤمن بالله ..) فعدد عليه أركان الإيمان : (أن تؤمن بالله ) كيف الإيمان بالله ؟ يشمل عدة أشياء ( إيمان بوجوده وإيمان بربوبيته وإيمان بألوهيته وإيمان بأسمائه وصفاته ) فهذا معنى الإيمان بالله ، قال ( وملائكته ) تؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله من نور وأوكل إليهم مهام كثيرة وأشرفهم جبريل عليه السلام الموكل بالوحي وبتبليغ الرسالات إلى أنبياء الله وبقيتهم يبحث عنهم في كتب العقيدة والكتب التي اختصت بجع أسمائهم وأخبارهم .
قال ( وكتبه ) يعني الكتب المنزلة من عند الله وأشرفها هو القرآن ، قال ( ورسله ) أن تؤمن بالرسل الذين تولوا تبليغ رسالات الله إلى الناس وأشرفهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قال ( واليوم الآخر ) تؤمن باليوم الآخر وسمي بذلك لأنه يوم أخير ليس بعده يوم ويدخل فيه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كل ما أخبر الله وما أخبر رسوله مما يكون على الإنسان بعد الموت فهو داخل في اليوم الآخر(1/12)
قال ( وتؤمن بالقدر خيره وشره ) تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وتؤمن ) أعاد الفعل وأبدى بعض الشراح نكتة في هذا ليست بعيدة عن الصواب حيث قال إن هذا فيه إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاختلاف بالقدر والتنازع فيه ولذلك أول بدعة نشأت هي بدعة القدرية فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول انتبه بعد كل هذا لا بد أن تؤمن بالقدر فما هو الإيمان بالقدر ؟ يعني الإيمان بتقدير الله وما قدره في هذا الكون فيما يتعلق بأمور خلقه أجمعين . وقوله ( خيره وشره ) أفاد هنا إلى أن القدر فيه الخير الذي يسعد به الناس ويوافق مرادهم وفيه الشر الذي لا يريده الناس ولا يوافق مرادهم وهذا هو الواقع فهل كل ما في الدنيا نريده ؟ أبدا ما أكثر الأشياء التي نكرهها ولكن انتبه مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقسّم القدر إلى خير وشر إلا أنه قال ( والشر ليس إليك ) يخاطب الله تعالى فالشر لا ينسب إلى الله عز وجل ،مثال إنسان انكسرت رجله هل هذا بقدر الله ؟ نعم ولكن الشر ينسب لمن ؟ لهذا الرجل الذي انكسرت رجله . انتهت بهذا أركان الإيمان
قال ( فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله ..) أن تعبد الله وتصلي وتزكي وتصوم كأنك تراه ومعلوم أنه إذا عبد الإنسان ربه كأنه يراه أن عبادته سوف تكون متقنة وسوف يقيمها بشروطها وأركانها وسننها فهذا هو المطلوب من العبد .
( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) يعني إن لم تستطيع أن تعبد الله عبادة من يعبد الله كأنه يراه فعلى الأقل أن تعبد الله عبادة الذي يراه الله تعالى وإذا كان كذلك فسوف يتقن العبادة ، ولكن أيهم أشد اتقانا ؟ الأول .
إذا هذا هو الإحسان وهذا تعريف النبي صلى الله عليه وسلم له ، وقد أثنى الله على المحسنين والنصوص في هذا كثيرة ولو لم يكن منها إلا قوله عز وجل ( إن رحمت الله قريب من المحسنين ) لكان كافيا على الحس على الإحسان .(1/13)
بعد ذلك السؤال الأخير قال ( فأخبرني عن الساعة ) يسأل عن الساعة وهي نهاية الدنيا والنقطة الفاصلة بين الدنيا والآخرة . قال ( ما المسئول عنها بأعلم من السائل ) يعني أنا ليس عندي علم وليس عندك علم لأن الساعة من علم الغيب الذي اختص به الله .
قال ( فأخبرني عن أماراتها ) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمارتين ( أن تلد الأمة ربتها.......) الأمة : الجارية المملوكة ، وربها : سيدها ، وذكر العلماء أنه في أخر الزمان تكثر الإماء فيطأ السيد أمته فتلد منه والولد يتبع أباه أي يكون حرا وأمه مملوكة فسوف يكون سيدا لها وأي كان فالإشارة هنا إلى كثرة الإماء وهذا يدل على فتح الله على الناس وإقبالهم على الدنيا ، أما العلامة الثانية ( أن ترى الحفاة ..) الحفاة : الذين لا
يلبسون النعال لبداوتهم وجفائهم ، العراة : الذين لا يلبسون ما يستر أجسامهم وليس باللازم أن يكونوا عراة متجردين فإن الإنسان إذا لبس لباسا لا يستر فإنه يوصف بأنه عار .
العالة : الفقراء الذين ليس عندهم دنيا ، رعاء الشاء : مهمتهم يرعون الغنم والشياة
( تراهم يتطاولون في البنيان ) أي تركوا شياتهم وأقبلوا على الدنيا يتطاولون فيها فهو من علامات الساعة ، وهل التطاول هنا يعني التطاول في رفعها إلى السماء حتى إن الواحد يبني الأدوار المتعددة أو يتطاول في زخرفتها وتشيديها واقتناء ما يكون غريبا ويضعه فيها ؟ الحديث شامل الاثنين ، على المعنى الأول يكون الرفع حسيا وعلى المعنى الثاني يكون الرفع معنويا لأنها ليست رفيعة هي نازلة ولكنها رفيعة بزخارفها .
إذا هاتان علامتان ذكرهما النبي صلى الله عليه وسلم للسائل .(1/14)
قال ( ثم انطلق ) انطلق هذا السائل ، قال ( فلبسنا مليا ) يعني انتظرنا قليلا، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا عمر أتدري من السائل ) قلت : (الله ورسوله أعلم ) فوكل العلم إلى الله ورسوله لأنه لا يعلم ، ثم أخبره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( هذا جبريل ..)
إذا هذه الأسئلة وهذا مصدرها أنها كانت من ملك فالحديث حديث عظيم ، والآن نعود لنشير إلى أبرز الفوائد:
1/ في قوله ( شديد بياض..) جواز وصف الإنسان بما فيه إذا قصد بذلك التعريف وبيان الحال .
2/ في قوله ( لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ) جواز الحكم بغلبة الظن .
ثم في الحديث بيان أركان الإسلام وعرفت الضابط فيها ، وفيه بيان أركان الإيمان والفرق بين الإسلام والإيمان فالإسلام كما أشرنا في الظاهر والإيمان في الباطن ، وفيه تعريف الإحسان ، وفيه علامتان من علامات الساعة .
وفي قول عمر ( قلت: الله ورسوله أعلم ) فيه فائدة أيضا أشرنا إليها وهي أن الإنسان يكل علم ما لا يعلمه إلى الله وإلى رسوله ، ولكن هل هذا في كل شيء ؟ أما أن تكل العلم إلى الله فهذا في كل شيء وأما في الأمور الشرعية تكل العلم إلى الرسول بعد أن تكل العلم إلى الله فلا بأس به أما في الأمور الكونية فلا فلو سألك إنسان هل تمطر السماء غدا فماذا تقول ؟ تقول الله أعلم . ولو سألك هل يجوز الطلاق بالثلاث وأنت لا تعرف ؟ فتقول الله ورسوله أعلم . هل يشمل هذا الأمور المستجدة ؟ نعم فهي مستجدة لكن لها أصل في الشرع .
وفي قوله ( أتاكم يعلمكم دينكم ) وكل التعليم هنا إلى من ؟ إلى جبريل والواقع من الذي علمهم ؟ النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال ( يعلمكم دينكم ) ودل هذا على فائدة مهمة وهي أن السائل معلم يعني إذا سأل وأجيب واستفاد الحاضرون فإنه قد علمهم لكن علمهم بالمباشرة أو بالتسبب ؟ علمهم بالتسبب .
إذا نأخذ فائدة أخرى قريبة من السابقة وهي أن المتسبب كالمباشر .(1/15)
وفي قوله ( جبريل ) أن الملائكة تتشكل وتتصور بصور الرجال وهذا ثابت في هذا وفي أحاديث أخرى دلت على تشكلهم بصور بعض الصحابة رضي الله عنهم . ا.هـ
الحديث الثالث
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:8]، وَمُسْلِمٌ [رقم:16].
سبق شيء من الكلام حول هذا الحديث في حديث جبريل .
وفي هذا الحديث يبين ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( بني الإسلام على خمس ..) فهذا الإسلام الذي يدين به المسلم قد بني على خمس دعائم وعلى خمس أركان ومعلوم أن الدعائم أساسيات في البناء وكذلك الأركان فالإسلام لا يقوم بنيانه ولا يكتمل شكله إلا بهذه الأركان الخمسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ثم عدها فقال ( شهادة أن لا إله إلا الله ) وانتبه لحفظ الحديث فإنه شهادة بالكسر لأنه قال على خمس ثم بينها فهي عطف بيان وعطف البيان يكون تابعا لما قبله .
( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ) هذا هو الركن الأول وهو الشهادة بوحدانية الله عز وجل وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن هذه الشهادة هي مفتاح الإسلام فلا بد لمن أراد أن يدخل في الإسلام أن يأتي بها وأن يقر وأن يتلفظ كذلك .
قال ( وإقام الصلاة ) وهو الركن الثاني أن يأتي الإنسان بالصلاة المكتوبة التي فرضها الله تعالى على عبادة .
قال (وإيتاء الزكاة ) يعني إعطاء الزكاة والزكاة هي الحق المالي المعلوم في أموال معلومة ولها تفاصيل وشروط تبحث في غير هذا المقام .(1/16)
قال ( وحج البيت ) يعني قصد البيت لأداء هذا النسك العظيم وهو الحج بأركانه وواجباته وشرائطه المعروفة .
قال ( وصوم رمضان ) صوم هذا الشهر الذي افترضه الله على عباده وهذه الرواية قدم فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحج على الصوم وقلت قدم فيها النبي ولم أقل قدم فيها الراوي لأن الأصل أن الحديث حديث النبي صلى الله عليه وسلم ينقل كما هو فالأصل أن المقدم هو النبي صلى الله عليه وسلم أما في رواية أخرى وفي أحاديث أخرى أخر النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحج وجعله الخامس وهذا لا يضر لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب فإن قلت الحج ثم الصيام أو الصيام ثم الحج فالمعنى صحيح
وبنيان الإسلام لابد فيه من هذه الخمسة وهذه الرواية هي الرواية التي اعتمدها البخاري في صحيحه فحينما بوب أبوابه وصنف كتبه قدم كتاب الحج على كتاب الصيام فهذا من البخاري تنبيه ومراعاة لهذا الحديث بهذه الرواية .(1/17)
فهذه هي أركان الإسلام التي دل عيها هذا الحديث والتي لابد منها لقيام إسلام المرء فهل هذه الأركان على حد سواء وأنه إذا أخل المرء بواحد منها فإنه يخرج من الإسلام ويكون كافرا أم هي متفاوتة في الأهمية ؟ ذهب بعض أهل العلم إلى الأخذ بظاهر الحديث وقالوا هذه الأركان متساوية فإن أخل بواحد منها ولم يأتي به فإنه يكفر بترك ما ترك فإن ترك الشهادتين فهو كافر وإن ترك الصلاة فهو كافر وكذلك بقية الخمسة فجعلوها أركان متساوية في الأهمية ، وقيل قول أخر عكس هذا تماما قالوا إن هذه الأركان دعائم الإسلام وأركانه ولكن إذا واحدا منها غير الشهادتين فإنه لا يكفر فالشهادتين لابد منها للدخول في الإسلام أما إذا ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج فإنه لا يكفر بهذا الترك أتى ذنبا عظيما لكنه لا يكفر فهذان قولان متقابلان ولاحظ أن الكلام هنا فيمن تركها غير جاحد إنما إن تركها جحودا فلا إشكال في أنه كافر حتى لو تركها جحودا وهو يفعلها فإنه كافر فلو فرض أن إنسانا يصلي ولكنه يقول ما نرى وجوب الصلاة وركنيتها فنقول أنت كافر حتى لو صليت خلف الإمام في كل فريضة لأنك كافر بالجحود ، أما الكلام الأول فيمن تركها تهونا وتكاسلا فالجحود لا إشكال فيه . إذا نعود ونلخص هذه النقطة المهمة :(1/18)
فأقول إن المسألة فيها قولان قول يقول أنها على حد سواء فإذا ترك واحدا منها فإنه يكفر والقول الثاني بأنه لا يكفر باستثناء الشهادتين ، والقول الثالث في المسألة وهو الصحيح أن من ترك الشهادتين فهو كافر لا إشكال ومن ترك الصلاة فهو كافر لا إشكال ومن ترك الثلاثة الباقية فإنه لا يكفر هذا هو الذي دل عليه الدليل ، والدليل الذي أعنيه هو أمثال قول النبي ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) والحديث في مسلم . وكذلك ثبت عن الصحابة كما قال عبد الله بن شقيق التابعي لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة . هذا نقل عن الصحابة من تابعي مدرك لهم إذا بمقتضى هذا هل يرى الصحابة أن ترك الزكاة كفر ؟ لا وترك الصيام والحج كذلك .هذه أهم الأمور حول حديث ابن عمر رضي الله عنه . ا.هـ
الحديث الرابع(1/19)
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ-: "إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٍّ أَمْ سَعِيدٍ؛ فَوَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:3208]، وَمُسْلِمٌ [رقم:2643].
أثنى عبد الله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : وهو الصادق المصدوق . أي صادق فيما أخبر والمصدوق فيما يخبر به فالجهتان كالأتي صادق فيما أخبر أي فيما حدثنا به وأخبرنا به فهو صادق صلى الله عليه وسلم وكذلك مصدوق فيما يخبر به لأنه يخب من قبل الله عز وجل بواسطة جبريل الأمين .
ماذا حدثهم ؟ قال : ( إن أحدكم ..) ذكر في هذا الحديث الأطوار التي يمر بها الجنين في بطن أمه وذكر مئة وعشرين يوما يتقلب فيها الجنين في أطوار مختلفة تفصيلها :
يقول : ( أربعين يوما نطفة ) فيمضي عليه أربعون يوما وهو نطفة والنطفة هي الشيء القليل والمراد بها المني الذي هو أصل الإنسان فيمضي عليه أربعون يوما منيا في بطن أمه(1/20)
قال : ( ثم يكون علقة مثل ذلك ) يتحول بعد الأربعين الأولى في أربعين أخرى يكون علقة والمراد بها الدم المتجمد وإنما سمي بذلك لأنه متعلق في بطن أمه بأمر الله .
قال : ( ثم يكون مضغة مثل ذلك ) والمضغة هي قطعة اللحم ليست بالكبيرة بل بمقدار
مضغة الطعام فهي قليلة . ( مثل ذلك ) في أي شيء ؟ في العدد أربعين يوما .
قال : ( ثم يرسل إليه الملك ) فبعد هذه التقلبات في مئة وعشرين يوما يرسل إليه ملك من قبل الله ،قال ( فينفخ فيه الروح ) فينفخ هذا الملك بأمر الله الروح التي هي مادة الحياة لأنه قبل ذلك كان في حكم الميت لكن لما تم مئة وعشرين يوما أرسل الله إليه الملك فنفخ فيه الروح . إذا نفخ الروح بعد كم ؟ مئة وعشرين أي أربعة أشهر فعلى هذا قبل ذلك لا يأخذ حكم بني أدم لأن ليست فيه روح .
قال : ( ويؤمر بأربع كلمات ...) يؤمر هذا الملك بأربع كلمات .
( بكتب رزقه ) فرزقه الذي يأخذه في هذه الدنيا يكتب في هذه الفترة الزمنية بعد نفخ الروح .
هل هو كثير أو قليل ؟ هل هو غني أم فقير؟
( وأجله ) يكتب أجله في هذه الدنيا كم سيعيش ؟أقل أو أكثر عشرين ثمانين ..
( وعمله ) وعمله الذي سيعمله في هذه الدنيا هل هو عمل صالح أو غير ذلك ؟ يكتب في هذه الفترة .
( وشقي أو سعيد ) فالشقاوة تكون بالإعراض عن ذكر الله وتكذيب رسله فتكتب هنا ، والسعادة بالإتباع فتكتب هذه أو هذه حسب ما قضاه الله في هذا المولود الذي خلقه .
وقوله في الحديث ( يؤمر بأربع.....) قد تقول: هذه خمس كلمات( الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة ) و لا إشكال لأن الشقاوة والسعادة واحد لأن السعادة إذا كتبت لا تكتب الشقاوة والعكس .
إذاً هذه أربعة .
انتهت الآن المراحل التي يمر بها الجنين .(1/21)
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فو الله الذي لا إله غيره ) هذا قسم من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أقسم لأهمية الموضوع وإلا فإنه صادق بغير قسم لكن القسم يكون أحيانا لأهمية الشيء .
قال ( إن أحدكم..) هذا قسم من الناس من يعمل بعمل أهل الجنة . وما هو عمل أهل الجنة ؟ الصالحات الصلاة والصيام والذكر والحج يعمل مجتهداً... لكن يسبق عليه الكتاب إذا بقي بينه وبين الجنة ذراع والذراع مقدار يسير . ( يسبق عليه الكتاب ) يعني يسبق عليه المكتوب الذي كتبه الله عليه حيث كتب عز وجل أنه من أهل النار .
قال: ( فيعمل بعمل أهل النار ) فيعمل في أخر عمره بعمل أهل النار فيدخل النار فينشغل آخر عمره بالمعاصي التي هي من أعمال أهل النار فيدخل النار .
إذاً هذا الحديث في جملته الأخيرة هو في الحقيقة مخيف من سوء الخاتمة فواجب على الإنسان أن يسأل الله حسن الخاتمة وألا يكون من هذا الصنف الذي يعمل العمل الصالح ثم لسوء خاتمته يكون من أهل النار .
ولكن أعلم أن سوء الخاتمة ليست ظلما من الله عز وجل للعبد بحيث يكون صالحا في الظاهر والباطن ويكون مجتهدا في الخير ثم يظلم ويكون من أهل النار ليس كذلك ولكن هذه الخاتمة السيئة إنما حصلها الإنسان بسوء الطوية في قلبه ولذلك يفسر هذا الحديث بالحديث الأخر ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس )
مثال سوء الطوية والدخيلة السيئة من أمثلتها أن يكون في قلبه كره لشرع أو يكره بعض الشرع أو يكون في قلبه رياء وحب ثناء من الناس أو يكون في قلبه بغض للنبي صلى الله عليه وسلم وشبهات حول دعوته فهذه لا تزال تنمو مع الأيام حتى تنقلب عليه فيختم له بالخاتمة السيئة .
إذاً الحديث فيه الحذر الشديد من سوء الخاتمة وفيه كذلك الحث الشديد على أن الإنسان يطهر قلبه مما لا يرضي الله عز وجل لأنه إذا ترك قلبه على ما هو عليه من الأشياء التي مثلت بها فربما هذه كانت سببا في سوء الخاتمة .(1/22)
إذاً هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة....)
عكس هذا ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ....)
وعمل أهل النار ما هو ؟ المعاصي بمختلف أنواعها فهو مجتهد فيها طيلة عمره
( حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ) يعني في نهاية عمره يعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة وهذا فضل من الله تعالى وإنما سبق عليه الكتاب أن يعمل بعمل أهل الجنة لوجود الدخيلة الطيبة في قلبه ومنها أن في قلبه شيء من محبة الله ومحبة رسوله وشيء من تقدير الشرع وشيء من الحياء من الله عز وجل فهذه الأشياء تكون سببا في أن يعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة مع أنه كان مسرفا على نفسه ولكن لما كان في قلبه هذه النوايا الحسنة كان مصيره الجنة ففي هذا أيضا تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له أن يحتقر مسرفا على نفسه وأن يظن أن الله تعالى مهلك هذا فنقول لا تدري مادام في أهل الدنيا ربما يختم له بخاتمة الخير فيسبق عليه الكتاب فيدخل الجنة .
إذا تبين لك معنى الجملتين الأخرتين في الحديث وأن كلا الجملتين تدل على أن الأعمال بالخواتيم وأن الإنسان لا يفخر بعمله إن كان يعمل صالحا فلينتظر حسن العاقبة وكذلك لا ييأس من روح الله إن كان يعمل السيئات بل ينتظر حسن العاقبة .
نعود إلى الإشارة إلى ما دل عليه هذا الحديث :
مما دل عليه الحديث عظم قدرة الله عز وجل ، والعلماء رحمهم الله حينما يذكرون هذا الحديث يتكلمون على مسألة فقهية وهي حكم إجهاض الجنين . هل يجوز إسقاطه إذا كان نطفة وهل يجوز إذا كان علقة وهل يجوز إذا كان مضغة أو بعد نفخ الروح فيع ؟ هذه المسألة فيها كلام كثير ونختصر القول فيها فنقول : قيل يجوز أن يسقط إذا كان نطفة يعني قبل تمام الأربعين الأولى أما بعد ذلك يعني بعد الأربعين إذا دخل في العلقة أو في التي بعدها مرحلة المضغة فإنه لا يجوز هذا لأنه دخل في مرحلة التكوين . مثال إذا بلغ ستون يوما هل يسقط ؟ لا يسقط .(1/23)
إذاً هذا الكلام في هذه المسألة طيب إذا تم له مئة وعشرون يوما فقد نفخت فيه الروح فعلى هذا لا يجوز إسقاطه من باب أولى لأن إسقاطه في هذه المرحلة معناه قتله
وأجاز بعض المعاصرين أن يسقط ولو نفخت فيه الروح إن خيف على أمه أن تموت إذا لم يسقط ولكن هذا قول ضعيف لأنه ما يدرينا أننا إذا ألقيناه أن تبقى أمه .
في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ويؤمر بأربع كلمات ..) قد يستشكل هذا مع ما هو معلوم أن الكتابة كانت سابقة فإن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وظاهر الحديث هنا أنه يكتب عند نفخ الروح ، وقد يشكل أيضا ما هو معلوم أن المقادير تكتب وتقدر في ليلة القدر .
والجواب عن هذا / يسير بأن يقال أن المقادير والكتابات متنوعة ومتعددة فالكتابة الأولى إن شئت أن تسميها الكتابة الكبرى ثم هناك كتابة أخرى حولية أو سنوية هذه تكون في ليلة القدر ثم مقادير تخص كل إنسان هذه تكون عند نفخ الروح وبهذا يتضح عدم التعارض ويزول الإشكال .
في قوله ( فو الله ..) فائدة أخرى وهي جواز القسم للتأكيد وإن لم يطلب منه ذلك وأيضا إذا الشيء مهم .
وعلى الإنسان أن لا يعجب بنفسه ويغتر بصلاحه وباستقامته وطلبه للعلم فكن خائفا دائماً من سوء الخاتمة وأحذر من التغير لأن الإنسان لا يدري عن نفسه فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن .
والحديث واضح بأن الخاتمة هي الأساس فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها فهو على كل شيء قدير . ا. هـ
5/1
الحديث الخامس
عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:2697]، وَمُسْلِمٌ [رقم:1718].(1/24)
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" .
هذا الحديث والذي بعده من أهم الأحاديث في هذا المتن .
وهذا الحديث أصل في باب البدع والتحذير منها .والذي يليه أصل في ترك الشبهات والتحذير من الوقوع فيها .
قوله ( أم عبد الله) تكنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأم عبد الله وليس لها ولد .
والكنية مشروعة حتى للصغير ومن لا ولد له , فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكني بعض أصحابه بل يكني بعض الصغار من باب الملاطفة ، ولا يصح قول من قال إنها تكنت بعبد الله بن الزبير وهو ابن أختها ولا يمكن أن تكنى به ، ولا يصح كذلك من قال إنها أسقطت سقطا سمته عبد الله بل تكنت رضي الله عنها وليس لها ولد بهذا الاسم .
حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أحدث في أمرنا ...) معنى قوله ( من أحدث ) يعني ابتدأ الشيء فالابتداء يسمى إحداثا ، لأنه يكون بعد أن لم يكن .
وقوله ( في أمرنا ) هل هو واحد الأمور التي هي الشؤون , وليس واحد الأوامر .ففي أمرنا في شأننا .
والمراد بشأننا يعني ديننا , لأن ديننا هو شأننا الذي نهتم له .
فمعنى قوله ( من أحدث في أمرنا ) يعني في ديننا ، قوله ( ما ليس منه ) يعني ما ليس من ديننا ، قال ( فهو رد ) يعني مردود ، فمن أحدث في ديننا ما ليس منه فإنه يكون مردود عليه هكذا أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم الفائدة بأن من أحدث في هذا الدين سواء كان في عقائده أو كان في عباداته أو في غيرها فهو مردودا عليه والسبب في هذا واضح فديننا والحمد لله كامل ليس بحاجة إلى تكميل أحد فلكمال هذا الدين يكون المحدث مردودا على أصحابه وأيضا مردودا عليه لأنه نصب نفسه مشرعا والمشرع هو الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلأجل هذين السببين يكون ما أحدثه مردودا عليه .
وقال في رواية لمسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )(1/25)
قوله ( من عمل عملا ) شامل بأن يكون العمل الذي يعمله هو الذي أحدثه أو أحدثه غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الرد بالعمل ولم يعلقه بالإحداث من غيره فيكون الحديث بلفظيه كل يؤدي معنى .
وقوله ( من أحدث في أمرنا ) يعني من ابتدع ،وقوله ( من عمل عملا ) هو أعم وأشمل كما ذكرنا ومثال ذلك صلاة لم تكن معروفة فالذي أحدث هذه الصلاة هو المخاطب في حديث (من أحدث ...) ، والذي يعمل بهذه الصلاة ويتعبد بها هو المخاطب في حديث ( من عمل ...) فالحديث بلفظه الأول يخاطب المبتدع ، وبلفظه الثاني يخاطب المبتدع وكذلك من عمل هكذا يفرق بين اللفظين مع أن الحديث بلفظه الأول يصح أن يخاطب به من أحدث العمل ومن عمل به لكن لما اجتمع اللفظان يحسن التفريق .
والخلاصة أن هذا الحديث حديث عظيم وسياج منيع لكن من أراد أن يحدث في الدين في القديم والحديث سواء كان في العقائد أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق.
فالدين كامل والحمد لله. ا.هـ
الحديث السادس
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقْد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَّا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَّا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:52]، وَمُسْلِمٌ [رقم:1599].(1/26)
هذا الحديث رواه النعمان بن بشير وهو من صغار الصحابة لكنه تلقى الحديث صغيرا وحدث به كبيرا وهذا معروف عند أهل الحديث وهو أول صحابي ولد للأنصار بعد هجرة النبي وفرح به لما ولد وأتت به أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه وإنما فرحوا به لأن اليهود كانوا قد أشاعوا أنهم سحروا نساء الصحابة فلا يلدن لكن الله أبطل كذبهم فولد للأنصار النعمان كما ولد للمهاجرين عبد الله بن الزبير .
يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الحلال بين وإن الحرام بين ) هكذا أفصح النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الحكمين ( الحلال بيّن ) يعني واضح لا إشكال فيه فما أحل الله بين واضح يشترك الناس في إدراكه فلو سُألنا مثلا عن حكم أكل الخبز ؟ لصار حكمه حلالا بيناً لا إشكال فيه , وكذلك لبس القطن.
قال ( وإن الحرام بين ) فما حرمه الله عز وجل بين واضح لا إشكال فيه فالخمر مثلا حرام تحريماً بيناً .
قال ( وبينهما أمور مشتبهات.) بين الحلال والحرام أمور مشتبهة على كثير من الناس ليست حلالا بيناً وليست حراما بيناً الناس يترددون فيها والنفس مترددة فيها .
قال ( لا يعلمهن كثير من الناس ) إذا بعض الناس يعلمونها وهم الراسخون في العلم وهم الذين آتاهم الله البصيرة أكثر من غيرهم , أما كثير من الناس لا يتبين لهم حكمها, لأنها مشتبهة .
وهذا قد يمثل له ببعض المعاملات التي لم يتضح حكمها عند كثير من الناس هل هي حرام فيجتنبونها أو حلال فيتعاملوا بها ؟ إذاً فالمسألة بهذا الضابط أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس لو قيل ما هي الأمور المشتبهات ؟ نقول : هي التي بين الحلال والحرام . كم عددها؟ لا يمكن عدها . لماذا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لا يعلمهن كثير من الناس ) إذا فهي أمور نسبية ليس هناك قائمة بها فالناس يختلفون بها .(1/27)
فلو أتينا بمعاملة اشتبهت على شخص ولم تشتبه على الآخر فهي بالنسبة لمن اشتبهت عليه تكون من الأمور المشتبهات . وبالنسبة لمن اتضحت له من الحلال البين أو الحرام البين .
الذي اشتبهت عليه ماذا يفعل ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) يعني طلب البراءة لدينه فيسلم دينه وهذا بينه وبين الله وكذلك يسلم عرضه وهذا بينه وبين الناس ، فمثلا هذا طعام لم يتبين حرمته من حله ؟ فنقول : إن تركته فقد استبرأت
لدينك الذي بينك وبين الله وقد استبرأت لعرضك كيف ذلك ؟ لا يتكلم الناس فيك .
كذلك قد يمثل بالأماكن التي من المعلوم أن الذي يدخلها يريد الفسق فإن كان للإنسان حاجة فيها ثم ترك دخولها فقد استبرأ لعرضه فلا يتكلم الناس فيه .
فنقول اتقي الشبهات حتى تستبرئ لدينك وعرضك فإن كانت المسألة واضحة فنقول إذا احتجت أن تلج مواطن الشبهة فإن عليك أن تبين للناس أنك جئت إلى المكان الفلاني أو أكلت الطعام الفلاني وحجتك ووجهت نظرك كذا وكذا حتى لا يقع الناس في عرضك وحتى يكون الناس منك على بينة , والإنسان مطالب بأن يذب عن عرضه .
قال ( ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ) هذا هو القسم الثاني من الناس الذي لم يتق الشبهات وقع فيها قال صلى الله عليه وسلم ( وقع في الحرام ) قد تقول كيف وقع في الحرام هل الشبهات محرمة ؟ الجواب لا الشبهات مشتبهة بين الحلال والحرام لكن المعنى أوشك أن يقع في الحرام قريب أن يقع في الحرام لأن ليس بعد الشبهات إلا الحرام إذا على هذا المعنى في الجملة التحذير الشديد من التساهل في الشبهات لأن من يتساهل فيها يقع في الحرام ، فالشبهات طريق إلى الحرام فالذي يتعامل معاملة فيها شبهة ربا ولم يستبرأ لدينه وعرضه نقول يا فلان اليوم تعاملت معاملة قريبة من الربا وغدا سوف تتعامل بالربا الصريح إذا معنى قوله ( وقع ) قارب وأوشك(1/28)
وهناك احتمال أخر لمعنى الجملة وهو أن الشبهات أمر بين الحلال والحرام فإذا وقع فيها لا بأس ثم كانت هذه الشبهة في واقعها حراما فماذا يكون وقع فيه ؟ وقع في الحرام حقيقة مع أنه في الظاهر وقع في شبهة وهذا مثاله المثال السابق فهذه المسألة المشتبهة إذا تبين أن حكم الله فيها حرام فمن وقع فيها فقد وقع في الحرام . لكن أحدكم قد يقول الشبهات بين الحلال والحرام ألا يحتمل أن تكون حلالا ؟ يحتمل ، فلماذا لا يقال من وقع في الشبهات وقع في الحلال ، أو من وقع في الشبهات وقع في الحلال أو في الحرام ؟ نقول هذا وارد لكن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الحديث مساق التحذير وإلا إذا وقع في الحلال فالحمد لله .
إذا انتهينا من الجملة وأنها تحتمل معنيين لكن الظاهر والله أعلم المعنى الأول ( أوشك أن يقع في الحرام ) والسبب ما ذكر في الحديث قال ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ) هذه الجملة تؤيد المعنى الأول أي من وقع في الشبهات يوشك أن يقع في الحرام ما مثاله ؟ هذا مثاله ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) يعني حول مراعي محمية لأمير أو غير ذلك فالإنسان لا يمكن أن يحفظ إبله أو غنمه حفظا تاما فتنفلت عليه وربما يغفل عنها وربما ينام ولذلك إذا رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
قال ( ألا وإن لكل ملك حمى ) كل ملك من ملوك الدنيا العادة أنه يحمي مراعيه .
قال ( ألا وإن حمى الله محارمه ) حمى الله التي حماها ومنعها هي محارمه عز وجل التي لا يريد من الناس أن يقعوا فيها فحمى هذه المحارم وسد الأبواب الموصلة إليها .
انتهى التشبيه لمن وقع في الشبهات فشبه النبي صلى الله عليه وسلم من يقع في الشبهات كالذي يرعى حول الحمى فكما أن الذي حول الحمى يوشك أن يقع في الحمى كذلك الذي يحوم حول الشبهات فإنه يقع في المحرمات ففي هذا التحذير من التساهل في الأمور المشتبهة سواء في معاملات أو في عبادات أو غير ذلك لأنها طريق إلى المحرمات.(1/29)
ثم قال ( ألا وإن في الجسد مضغة ) مضغة قطعة قليلة بمقدار ما يمضغ إذا صلحت هذه المضغة صلح الجسد كله وهذه المضغة كما فسرها في أخر الحديث قال ( ألا وهي القلب ) فالقلب هو الذي عليه المدار فمتى صلح القلب فإن بقية الجسد يصلح وتستقيم حاله والعكس بالعكس إذا فسد القلب فسد الجسد كله فإذا فسد القلب وصار قلب الإنسان ملطخ بالشبهات والشهوات فإنه سوف يفسد الجسد كله لأن الجسد تابع لهذا القلب فإذا نشط القلب في طاعة الله فإن الجسد سوف ينشط في طاعة الله وإذا نشط القلب في معصية الله فإن الجسد سوف ينشط في معصية الله وفي هذا أيضا التنبيه على أهمية إصلاح القلب وأن الإنسان لا يغفل عن قلبه لأنه عليه السعادة وعليه النجاة فراقب قلبك هل فيه حقد هل فيه كراهية للشرع هل فيه تطلع إلى فتن وشهوات ومحبة إلى معاصي راقبه لأنك إذا أصلحته سوف يصلح الجسد كله وإذا فسد فإن الجسد سوف يفسد كله ، وفي هذا دليل أيضا على أن صلاح الظاهر دليل على صلاح البطن والعكس بالعكس فساد الظاهر دليل على فساد الباطن فلذلك إذا رأيت إنسانا حليقا مسبلا يظهر عليه أثر الشراب المحرم ويسمع من كلامه الكلام الفاحش فإن هذا دليل على فساد قلبه ، وإذا رأيت إنسانا محافظا على مظهره مبتعدا عن مواطن الغيبة لا يتكلم إلا بالكلام الحق فهذا دليل على صلاح باطنه ، وفي هذا رد على الذين يزعمون أن الصلاح في القلب وهو الكافي فتجد أحدهم مثلا يحلق لحيته ويقول أهم شيء صلاح القلب وربما يشير إلى قلبه ويقول التقوى ها هنا فنقول له لو اتقى ما ها هنا يعني القلب لاتقى ما ها هنا لأن الظواهر دلائل على البواطن فلا يمكن إطلاق أنك تزعم أن قلبك صالح وظاهرك فاسد .
وفي الحديث دليل على صلاح القلب المعنوي له ارتباط بالقلب الحسي .(1/30)
أين القلب الحسي؟ الذي في صدرك ، وهذا الارتباط ارتباط غيبي يعني لا نشعر ولذلك لو أخرجت قلب كافر ربما لا تجد عليه أثر الكفر وكذلك العكس فهذه الارتباطات ارتباطات غيبية الله أعلم بها ولذلك بعض الناس يستشكل هل يجوز أن ننقل قلب الكافر إلى المسلم أو العكس ؟ يظن أن الصلاح والفساد ينتقل مع القلب نقول له هذه أمور غيبية لكن الحديث الذي معنا دل على أن بينهما ارتباطا . ما مقدار هذا الارتباط ؟ الله أعلم به .
إذاً انتهينا من هذا الحديث الذي هو أصل في الشبهات وفي دفعها فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلام نبيه صلى الله وسلم على نبينا محمد وأله وصحبه . ا. هـ ...
الحديث السابع
عَنْ أَبِي رُقَيَّةَ تَمِيمِ بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
أبورقية من أفاضل الصحابة رضي الله عنه ومن متأخريهم إسلاما فإنه يسلم إلا في العام التاسع الهجري ، وكان قبل ذلك نصرانيا ، كني بابنته لأنها الوحيدة له وليس له غيرها من الأولاد فلذلك تكنى بها .
وقد حاز فضيلة امتاز بها عن الصحابة الكرام وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام روى عنه وحدث عنه خلافا للمشهور في طريقة الصحابة أن يحدثوا عنه عليه الصلاة والسلام . ولكنه هو نال هذا الشرف حيث حدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم حديث الجساسة الذي رواه مسلم .
(الدين النصيحة) هذه الجملة جملة حصر ، حيث حصر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الدين بالنصيحة ، وطريق الحصر في هذه الجملة تعريف طرفيها ( ليس فيها إلا ، ولا إنما ) ولكن بتعريف طرفيها والحصر له طرق منها ماذكرت لك ( تعريف الطرفان ) كقول العلم الخشية فهذا حصر . كأن قيل هنا ما الدين إلا النصيحة .(1/31)
فما هي النصيحة التي حصر الدين فيها. ( النصيحة ) قالوا في الأصل هي الخلوص فالشيء الخالص وخلوص الشئ يسمى نصيحا ومنه قولهم نصحة العسل يعني خلصته من الشمع والشوائب وغير ذلك فالنصيحة مادتها تدور على هذا الشيء وهو الخلوص وتنقية الشيء وتطهيره .
والمراد بالنصيحة هي بذل الإرشاد للغير . فإذا بذلت الإرشاد والمشاورة الصادقة فإن هذه هي النصيحة
فإذا أرشدت إنسانا أن يتقي الله في أمر من الأمور ودللته عليه ونحو ذلك فهذه نصيحة
فالنصيحة بذل الإرشاد والمشورة الصادقة .
(قالوا : لمن )يعني لمن نبذل هذه النصيحة التي منزلتها أنها هي الدين .
(قال : لله ..) خمس جهات تبذل لها النصيحة . ذكروا أن معنى الصيحة لله أولا: الإيمان بالله عز وجل والاعتراف له بالواجب الذي يجب له فهذا من النصيحة لله
ثم النصيحة لدينه وهي من النصيحة لله وتكون بأمور كثيرة منها : اعتقاد صحة هذا الدين ، والذب عن ما قد يعتر به من شبه ونحوها
(ولكتابه ..) لكتاب الله عز وجل وذلك بالإيمان به واعتقاد صحته وبالذب عنه والذب عنه كل بحسبه فالعالم يذب عنه ذبا كبيرا بدفع الشبه التي تثار حوله وكذلك من دونه في العلم يذبون عنه بقدر علمهم وكذلك العامة باحتراق وبالرد على من أراد أهانته حساً أو معناً .
( ولرسوله ) عليه الصلاة والسلام والنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم نقول:بالإيمان به والذب
عنه وعن شرعه) فمن آمن به وذب عنه وذب عن شرعه فقد نصح للرسول صلى الله عليه وسلم
فالذي مثلا يأتي بالمتشابه من الأحاديث ويضرب بعضها ببعض فالنصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يذب هذا الاعتراض وتزال هذه الشبهات التي جمعت ويرد عليها
(ولأئمة المسلمين ) فلهم نصيحة أئمة المسلمين تشمل : أئمة الدين وهم العلماء وكذلك أئمة الدنيا وهم الملوك والسلاطين .(1/32)
فأئمة الدين من المسلمين أيضا لهم نصيحة. فالعلماء ينصحون ويرشدون ويصل الإنسان ما يصل لهم من الواجب. وكذلك أئمة الدنيا وهم الملوك والأمراء ينصحهم الإنسان إما بالمباشرة إذا كان يستطيع ذلك أو بالواسطة بأن ينصح من يستطيع أن ينصح ويصل إليهم
(وعامتهم ) عامة المسلمين لهم نصيحة بتوجيههم وتعليمهم وتحذيرهم مما يضرهم وبهذا تكون نصيحتهم
إذا تبين أن لكل واحد من هؤلاء نصيحة تناسبه وتليق به وإذا حقق الإنسان هذه فقد حق النصيحة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة .
ثم اعلم أن النصيحة على نوعين ( نصيحة ابتدائية ) يعني أن الإنسان يبتدئ النصيحة. يأتي يذب عن كتاب الله أو عن أئمة المسلمين أو عن عامتهم .
والثانية( نصيحة جوابية ) وهي التي تكون بطلب من الإنسان أو من إمام المسلمين أو من عامهم يطلب فيقول يا فلان انصحني أو يا فلان ما رأيك في كذا وكذا انصحني بالصواب فهذه تسمى نصيحة جوابية وهي أنك تجيبه بطلبه .
وهذه النصيحة بقسميها الأول والثاني كلها داخلة في الحديث ولكن أشدها هي النوع الثاني. لماذا هي الأشد ؟ لأن الإنسان ائتمنك وأمضى إليك بما في نفسه فواجب عليك أن تجتهد في نصحه فإن لم تستطيع نصيحته حين طلبها منك فما الواجب عليك ؟ الواجب عليك أن تعتذر إذا كنت لا تستطيع نصحه لكونك لا تعرف الصواب أو لكونك تخاف ألا تقول الصواب وتقول أسأل غيري أو استنصح غيري وكثير من الناس يخل بهذه حياء أو نحو ذلك فربما نصحه نصيحة عجلا سببت هذه ضررا عليه فالواجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل والمستشار والمستنصح مؤتمن على هذا . ا .هـ
الحديث الثامن(1/33)
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّابِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى".رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
هذه الأمور رتب الله عليها المقاتلة فالمقاتلة مستمرة إلى أن يأتوا بهذه المذكورات .
فهو مأمور بقتالهم ولا يترك قتالهم حتى يأتوا بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فدل على أن هذه المذكورة من الأمور تبيح مقاتلة من لم يأتي بها فمن لم يأتي بالشهادتين مباح أن يقاتل ومن لم يقم الصلاة مباح أن يقاتل ومن لم يأتي بالزكاة مباح أن يقاتل لأنه لم يأتي بالمانع من مقاتلته ولذلك الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مع أبي بكر رضي الله عنه الذين منعوا الزكاة لأنهم يرونهم لم يأتوا بما يمنع من مقاتلتهم .
(فإذا فعلوا ذلك ..) يعني إذا أتوا بالمذكور وطبقوه فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم.فدمائهم محرمة لا يجوز أن نقاتلهم وكذلك أموالهم محرمة لا يجوز أن نأخذها .
قال :( إلا بحق الإسلام) فهي محرمة معصومة إلا بحق الإسلام . ما حق الإسلام ؟ بين حق الإسلام في هذا الحديث وغيره . حق لإسلام أن لا يأتوا بالشهادة أو أن لا يقيموا الصلاة أو أن لا يأتوا بالزكاة فهذا هو الحق الذي أباح الإسلام أن نقاتلهم دونه.(1/34)
إذا بين عليه الصلاة والسلام أن مقاتلة المسلمين لا تجوز إلا بحق يعني أن مقاتلتهم لا تجوز إلا بمسوغ أو مبيح لمقاتلتهم . ما هو المسوغ وما هذا المبيح ؟ هو ما ذكر في الحديث .ألا يشهدوا أو ألا يقيموا الصلاة أو ألا يأتوا الزكاة . ثم بعد ذلك حسابهم على الله تعالى . فنحن نتعامل بالظاهر ثم البواطن إلى الله تعالى . فقد يشهدوا وقد يقيموا الصلاة وقد يؤتوا الزكاة خوفا منا . فنقول لا يهمنا هذا نحن نتعامل معهم بالظاهر وأما البواطن فهي موكولة إلى الله عز وجل .
في هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المقاتلة لازمة حتى يأتوا بهذه الأشياء . ولكن دلت النصوص أيضا أنهم أن يأتوا بهذه الأشياء أو أن يعطوا الجزية فهم بين خيارين : إما أن يأتوا بها ويكونون منا أو أن يكفوا شرهم ويعطوا الجزية ونكف عن قتالهم . وقد ذكر الله الخيار الثاني ( الجزية) في قوله تعالى : (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ....) الآية . الشاهد من الآية ( حتى يعطوا الجزية ) فجعل الله إعطائهم الجزية سبب في الكف عن قتالهم . إذا نضيف إلى هذا الحديث ما دلت عليه الآية وهو إما أن يشهدوا ويأتوا بما ذكر أو أن يعطوا الجزية ولا خيار ثالث .(1/35)
مسألة أخيرة:لم يذكر في هذا الحديث الصيام ولا الحج فهل معنى هذا أن لا يساوى بالمذكورات ويكتفى بالثلاثة ؟ نقول : لا . لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصيام ولا الحج لأنها ذكرت في أحاديث أخرى كحديث ابن عمر ( بني الإسلام على خمس ...) فما ذكره الرسول في هذا الحديث مثال لأركان الإسلام . وتكمل الأركان الباقية من حديث آخر . هذا هو الأسلم والأقرب في الجواب عن حذف الصيام والحج . أما من قال أنهما لم يفرضا بعد. أو قال مفروضان لكن لم يأتي وقتهما فالصيام في رمضان والحج في ذي الحجة . فنقول هذا الجواب فيه نظر لأن الزكاة ما أتى وقتها لأن وقتها عند نهاية الحول . فعلى كل حال الأحسن أن يقال لم يذكر الحج والصيام من باب الاختصار ويكمل الناقص من الأحاديث الأخرى المبينة الموضحة.
إذاً هذا الحديث أهم ما فيه أنه عرفنا أن الدماء والأموال معصومة إلا أن يأتوا بما يبيحها من ترك ما ذكر في الحديث .
ثم عرفنا ما كملنا به دلالة الحديث من أن هناك خيارا أخر وذلك بإعطاء الجزية.
الحديث التاسع :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ".رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:7288]، وَمُسْلِمٌ [رقم:1337].
هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم الدين إلى منهيات ومأمورات
أما المنهيات فقال اجتنبوه يعني اجتنبوا المنهي عنه . وأما المأمورات فقال فأتوا منه(1/36)
فالمنهيات هي الأمور التي لا يريدها الشارع فهذه الواجب أن تجتنب ( فاجتنبوه ) المعنى اتركوه وليس المعنى تركا مجردا بل تركا تبتعدون به عن هذا المنهي كما تدل عليه مادة اجتنبوه فمعنى قوله ( اجتنبوه ) قلنا ( اتركوه تركا تاما بحيث تكونون مبتعدون عنه ) لأن مادة الاجتناب تجعل الشئ في جانب وأنت في جانب وكذا ما نهى عنه الشارع الواجب أن تكون أنتفي جانب ويكون هو في جانب بعيد عنه ولذلك الله لما حرم بعض المحرمات كالزنا مثلا ما قال عز وجل : ولا تزنوا .قال: ( ولا تقربوا الزنا )
فقوله (ولا تقربوا) في الآية هي بمعنى قوله هنا (فاجتنبوه ) يعني كونوا بعيدين عنه وهذا هو الواجب أن المنهيات الواجب تركها والابتعاد عنها والابتعاد عنها والاجتناب إنما يكون بترك الأسباب المفضية إليها لأن الإنسان لا يأمن نفسه فواجب عليه أن يترك الأسباب التي تؤدي إلى هذا الشئ المنهي عنه فإذا فرض أن هناك مجلسا فيه غيبة وفيه أكل للحوم الناس فإن هذه الغيبة محرمة منهي عنها فنقول اتركها ومن تمام تركها أن تترك المجالس التي تقع فيها الغيبة إذا لم يكن لك يد في إصلاحها وفي الدعوة وفي التحذير فترك الغيبة في الصورة التي ذكرت يستدعي ترك المجلس الذي تقوم فيه الغيبة ويتساهل فيها الجالسون(1/37)
إذا تبين لنا القسم الأول / وهو قسم المنهيات فالواجب فيه الاجتناب بحيث يكون الإنسان في جانب وهذه الأمور في جانب ثاني ثم لتعلم أن ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه تارة يكون نهي تحريم فيكون اجتنابه واجبا وتارة يكون نهيه نهي تنزيه فيكون اجتنابه مستحبا ومتأكدا لكنه ليس كالأول وهذا يعرف بالقرائن( قرائن الأحوال ) والأدلة الأخرى ونحو ذلك . والأدلة هي التي تبين هل هو من قسم المحرم أو من قسم المكروه . لكن لا يخفاك هدي الصحابة مع نبيهم أنه إذا نهاهم عن شئ يتركوه مباشرة ولا يقولون هل هو للتحريم أو للكراهة هذا هديهم مع نواهي الشرع ولا يقولون لعله للكراهة فيقعون في المكروه حتى المكروهات يتركونها . لأنهم لا يريدون مخالفة الشرع وإن كانت المخالفة لا تصل إلى حد التحريم . وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم أن يكون ورعا في دينه متحليا بأعلى المراتب وأعلاها أن تترك المحرم وكذلك المكروه لكن الترك الثاني ليس كالترك في الأول.
يقول ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ) هذا هو القسم الثاني : قسم المأمورات
فأتوا منه يعني فأتوا ونفذوا وطبقوا هذا المأمور . أمرك الشارع بالصلاة فهات الصلاة أمرك بالصيام هات الصيام تحقيقا لقوله(فأتوا منه ما استطعتم )
وأنت تلاحظ الفرق بين المنهيات والمأمورات . فإنه قال في المنهيات ( فاجتنبوه ) ولم يقل فاجتنبوه ما استطعتم وقال في المأمورات ( فأتوا منه ما استطعتم ) فدل هذا على أن المنهيات تترك تركا كليا وهي داخلة في حدود الاستطاعة . أما المأمورات فإن الإنسان يفعل فيها ما يستطيع وهناك من المأمورات ما هو خارج عن الاستطاعة.(1/38)
إذاً هذا هو السر في تفريق النبي عليه الصلاة والسلام بين الأمرين في المنهيات قال ( اجتنبوه ) والسبب أن المنهيات جميعها داخلة تحت الاستطاعة . أما المأمورات فإنها تختلف فإن بعضها غير داخل تحت الاستطاعة فنقول هات ما تستطيع وهذا ربما يوضحه المثال التالي ( النظر إلى المحرم أو سماع المحرم أو الغيبة ) فهذا ماذا يقال للمكلف فيها؟ اجتنبها . هل يقال اجتنبها ما استطعت نقول لا اجتنبها لأنك مستطيع اجتنابها فالغيبة تستطيع تركها . أليس هكذا ؟ نعم .
كذلك النظر المحرم تستطيع تركه والسماع المحرم تستطيع تركه لكن جاهد نفسك . لكن هل هو مقدور أو غير مقدور ؟ نقول هو مقدور وتستطيعه فإذا أتانا إنسان وقال والله ما استطعت ترك الغيبة أو ما استطع أن أترك النظر المحرم أو ما استطع أن أترك السماع المحرم فنقول له كذبت بل تستطيع ولكنك لم تبذل جهدك وغلبت جانب الهوى وغلبت اللذة والمصلحة العاجلة وبالتالي وقعت فيما وقعت فيه لأنه لا يمكن إطلاقا أن الشارع ينهاك عن شئ ثم يكون غير مقدور لك .كل ما نهاك الشارع عنه فإنه في مقدورك فاجتنبه وإياك أن تخادع نفسك .
أما المأمورات فنعم نوافقك أن بعضها لا تستطيعه فهذا إنسان كبير في سنه فلا يستطيع أن يصوم. هل هذا ممكن أم غير ممكن ؟ ممكن. وهذا إنسان مريض لم يستطيع الوقوف فنقول معذور صلي جالسا فالمأمورات هات منها ما تستطيع أما المنهيات كلها تحت القدرة .
إذاً دل هذا على أن شأن المنهيات أعظم من شان المأمورات وبهذا تعرف كذب الذي يقول مثلا لم أستطيع ترك الدخان أو نعوذ بالله ما أستطيع ترك المسكر أو المخدر . نقول / والله لو كانت عندك عزيمة ورغبة صادقة في تركه لاستطعت لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما نهيتكم عنه فاجتنبوه .(1/39)
إذاً اجتنبه وأنت قادر على هذا لكنك ما بذلت الجهد الكافي للترك ولذلك لما حرم الخمر هل تركه الصحابة ؟ نعم تركوه . كم مرة استغرقوا لتكره ؟ فورا مقلعين عن شربه لله عز وجل لأنهم مستطيعين لهذا .
وهذه مسألة مهمة : وهي أن المنهيات شأنها أعظم من شأن المأمورات لأنها تترك كلها . أما المأمورات فإنها تفعل بحسب الاستطاعة .
نقول في قوله ( فاتوا منه ما استطعتم) كما قلنا في المنهي عنه . تارة يكون المأمور على سبيل الوجوب فيأتي به الإنسان بحسب استطاعته وجوبا . وتارة يكون على سبيل الاستحباب فيأتي منه الإنسان حسب قدرته استحبابا . وهذا نقول فيه كما قلنا في الأول أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبادرون بفعل أوامر الشارع ولا يقولون هل هذا للوجوب أو للاستحباب . وهذا الذي ينبغي للمسلم أن يكون مبادرا في تحقيق أمر الشارع فإن كان واجبا فقد أدى الواجب وإن كان مستحبا فقد أدى المستحب وفعل ما تكثر به الحسنات.
( فإنما أهلك ... ) بين في هذا الحديث السببين في هلاك الأمم السابقة سواء كانت هذه الأمم السابقة من بني إسرائيل أو غيرهم .
الأولى / كثرة مسائلهم . فهم أصحاب أسئلة كثيرة يعني بذلك ( يسألون ويلحون في الجواب ويفرعون ويشققون في المسألة الواضحة البينة ) فهذا من أسباب هلاك الأمم السابقة وهذا واضح أشد الوضوح في قوم موسى عليه الصلاة والسلام فإنهم معاندون ويسألون الأسئلة الواضحة التي ليس فيها إشكال فهذه الأسئلة الواضحة والتكثير منها من أسباب الهلاك ومن أسباب محق الأمة محقا حسيا أو محقا معنويا .
أما الأسئلة التي يراد بها العلم ثم العمل فإن هذا لا بأس به . إذا سأل ليعمل وهو من طرق تحصيل العلم .لكن المنهي عنه أن يسأل لتعجيز المسؤول ويبين أن علمه قليل أو يسأل لبيان المتشابهات وإثارة الشبه فإن هذا أيضا منهي عنه.
المقصود / أن ما خالف الغرض الأول أن يسأل ليعلم ثم ليعمل فإنها أسئلة تكون مذمومة تكون سببا في هلاك الأمم .(1/40)
( واختلافهم على أنبيائهم ) يختلفون عليهم بمخالفتهم . فأنبيائهم يقولون شيئا ثم هؤلاء يقولون شيئا أخر يخالفونهم
مخالفة الأنبياء سبب لهلاك الأمم .
وهذه المخالفة إن كانت للأنبياء في زمانهم فهذه مخالفة لذواتهم وكلامهم مباشرة .
وإن كانت فيما بعدهم في مخالفة لسنتهم وطرقهم التي يجب إتباعها .
فالمقصود / أن المخالفة التي هي الاختلاف على الأنبياء من أسباب الهلاك للأمم . وإنما ذكر ما ذكر لكي يحذر من هذا . ليست المسألة سردا لأسباب وقعت . لكن المراد التحذير من المسائل بالسبب المذكور . والتحذير من الاختلاف على الأنبياء . ا.هـ
الحديث العاشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا"، وَقَالَ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ" ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:1015].
بين في هذا الحديث أن ربنا طيب . وطيب الله عز وجل في أمور هي طيب ذاته عز وجل فالله طيب في ذاته وكذلك طيب في صفاته وطيب في أفعاله .
فالطيب المنسوب إلى الله يتوجه إلى ذلك . فذات الله عز وجل المقدسة طيبة بكل ما تحمله هذه المعاني ولا يقف ذهنك عند حد لهذا الطيب .(1/41)
ثم هو طيب في صفاته فله الصفات العليا الكاملة التي تليق بجلاله . وكذلك طيب في أفعاله ( وهي من جملة صفاته ولكنها أفردت لتأكيد عليها) فأفعال الله طيبة في مبادئها وأحوالها وغاياتها .
( في مبادئها ) يعني أصل أفعاله طيبة .
(في أحوالها ) فيما هي عليه الآن
(وغايتها ) التي تؤول إليها .
أيضا( لا يقبل إلا طيبا) . فالطيب عز وجل لا يقبل إلا طيبا . الطيب هنا يعود إلى طيب الذات وكلك طيب الكسب . بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يتقرب إلى الله بقربة فنقول ( انتبه فإن الله لا يقبلها منك إلا أن تكون طيبة ) في ذاتها وكذلك في كسبها .
فإذا أراد أن يتصدق فنقول ما هي صدقتك هذه ؟فيقول دنانير , فنقول : هل هي طيبة في ذاتها؟ قال نعم . فنقول هل هي طيبة في كسبها ؟ قال نعم . فنقول أن الله لا يقبل إلا الطيب .
مثال غير الطيب في ذاته : كالخبائث من خمر ونحوه هذا خبيث في ذاته فإن الله لا يقبله .
والخبيث في كسبه : كالربا والمغشوش والذي بيع على وجه محرم فهذه لا يقبلها الله عز وجل لأنها غير طيبة.
مما يدخل في عموم قوله ( لا يقبل إلا طيبا ) ما ذكره العلماء من أن العبادة لابد أن تكون قائمة على شرطين : شرط الإخلاص وشرط المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم . فلابد لطيب العمل أن يكون كذلك . أن يكون موافقا للإخلاص وأن يكون موافقا لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم .
إذا على المسلم أن يكون حريصا في طيب العمل الذي يتقرب به إلى الله عز وجل لأن الله لا يقبله إلا أن يكون كذلك .
(والله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ) خصوصا. فقال (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ) كلوا من الطيبات التي أباحها الله عز وجل لكم ثم ليكن منك عمل صالح ، ليكن منكم شكر على هذه الطيبات. والطيبات يعني المباحات هذا شرط. وكذلك ما طاب وحسن من ذاته وتطيب النفس بأكله .(1/42)
( يا أيها الذين ءامنوا كلوا .... ) نظير ما ذكر في المرسلين . الطيبات هنا نقول فيه مثل ما قلنا في الآية الأولى يعني المباحة وحسنه في ذاتها .
قوله ( من الطيبات ) و ( من طيبات ) هذا وصف . فدل هذا على أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب أعلى رتبة في الوصف .
بمعنى أن عندك طعام طيب وطعام أطيب منه وأرغب إلى النفس منه فبأيها تؤمر بأكله ؟
ج/ الثاني . ولا حرج عليك إلا أن يكون فيه إسراف أو تبذير فيحرم من هذه الناحية . أما أن يطلب الإنسان الطيب الذي هو أعلى في المذاق والجودة فهذا لا حرج عليه . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا . ويعلم من بعض الأحاديث أنه يتقصد هذا . ولذلك بعض الأشياء كان يحبها يعني هذا أنه كان يفضلها على غيرها . من ذلك : كان يحب الذراع والدباء والحلوى ونحو ذلك مما تجده في هديه في زاد المعاد وغيره .
فالمقصود / أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب الطيب من الطعام بشرط أن لا يكون في ذلك إسراف أو إتراف بأن يكون مترفا في أكله أو مسرفا في بذله .
(ثم ذكر الرجل يطيل السفر ..) الذي ذكر هو النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا تصوير لحال وليس هناك رجل معين .
(يطيل السفر ) هناك سفر بعيد متعب .
( أشعث ) في رأسه ليس مسرحا .
(أغبر ) في بدنه وفي قدميه .
(يمد يديه إلى السماء) يعني يرفع يديه رفع دعاء .
(يا رب يا رب ) يدعو الله تعالى بهذا الاسم الكريم الذي هو الرب .
ما حاله؟ ج/ أن مطعمه حرام . إما من سرقة أو ربا أو غش أو من أمانة لا يؤديها كذلك مشربه حرام وكذلك ملبسه الذي يستر به بدنه حرام وغذي بالحرام / غذاءه الذي يتغذى به أيضا حرام .
ما الفرق بين مطعمه ومشربه وبين غذي ؟ أليس الغذاء هو الشراب والطعام ؟ بلى . ما فائدة قوله غذي ؟
نقول / إذا كانت هناك كلمات متقاربة بالمعنى فإنه يحسن أن تحمل كل كلمة على معنى أخر حتى لا يكون في الحديث تكرار قي الجمل وإنما فيه زيادة معاني جديدة .(1/43)
المطعم والمشرب والغذاء متقاربة . وبينهم فرق : فقال المطعم والمشرب هذا في غذاءه الأساسي
(وغذي ) هذا في باب الكماليات.
إذا هو لم يدخل جوفه والعياذ بالله إلا الحرام لا في طعامه الأصلي ولا في طعامه التكميلي .
والمقصود / أن هذا شأنه الحرام في الطعام وفي الشراب وفي الملبس .
( فأنى يستجاب له ) فأنى للاستبعاد .استبعاد إجابة الله له . هو أتى بأسباب الإجابة لكنه أتى بمانع قوي فمنع إجابة الدعاء
الأسباب التي تستدعي الإجابة :
1/ السفر . السفر من أسباب الإجابة والمسافر له دعوة مستجابة . هذا سبب وهو إطالة السفر .
2/ هذه الحالة المفتقرة ( أنه أشعث وأغبر ) فالشعث والمغبرة حال مسكنة والله قريب من المساكين ومن تلبية حاجاتهم
3/ رفع اليدين . من أسباب الإجابة .
4/ يقول يا رب يا رب . يتوسل إلى الله عز وجل باسمه الرب الذي يدل على تربية الله للعبد .
5/ الإلحاح على الله في الدعاء. يؤخذ من التكرار يا رب يا رب .
دل هذا الحديث على التحذير والتحذير الشديد أن يكون الإنسان في مطعمه حرام لأنه من مفاسد هذا أنه لا يستجاب له دعاء . فمن موانع الدعاء أكل الحرام وشربه ولبسه . وهذا لا شك أنه حرمان شديد أن يكون الإنسان دعاءه هباء منثورا لأنه أتى بمانع من موانع الإجابة .
والخلاصة : أن هذا الحديث بين فيه لربنا صفة عظيمة وهي أن الله طيب وكذلك أنه ممتن على عباده بما امتن به على رسله من الأمر بالأكل من الطيبات .
ثم ما يتعلق بالدعاء وآدابه والحذر من مانع يمنع إجابة الدعاء وهذا بالحرام .
هل من أسماء الله (الطيب)؟ بمعنى أن يسمى الرجل ولده عبد الطيب ؟ أو يا طيب اغفر لي ونحو ذلك .
الجواب / أنه من أسماء الله ومن صفاته بلا شك والحديث صريح كما أن من أسماء الله الجميل .
فلو سمى ولده عبد الجميل فلا بأس بذلك .
الحديث الحادي عشر(1/44)
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "دَعْ مَا يُرِيبُك إلَى مَا لَا يُرِيبُك".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [رقم:2520]، وَالنَّسَائِيّ [رقم: 5711]، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
هذا الحديث وما بعده وما بعده ( في الآداب) والأمور التي يراعيها الإنسان ويتخلق بها.
(السبط) قالوا هو ولد البت . (الحفيد) قالوا ولد الولد .فالأسباط هم أولاد البنات والأحفاد هم أولاد البنين بالنسبة لجدهم .
والحسن ابن فاطمة رضي الله عنها . ووصف الحسن بأنه ريحانة للنبي صلى الله عليه وسلم والريحان نبات معروف له رائحة طيبة يحبها الإنسان .فكأن الحسن بن على لشدة محبة الرسول علية الصلاة والسلام له كأنه ريحانة له لا يستغني عنه ليأخذ من عبيق ريحه وزكي أنفاسه وهذا تشبيه مراد به ما ذكرت مراد به محبته عليه الصلاة والسلام للحسن بن علي وهو لا شك محبوب من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن فاطمة محبوبة كما أن والده محبوب عند النبي صلى الله عليه وسلم ، والحسن هو الابن الأكبر لعلي ولذا يكنى علي بأبي الحسن خلافا لما يظن البعض أن الحسين هو الأكبر وليس كذلك وهو أفضل من الحسين وهو سيد كما قال صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين . وقد حصل هذا فأصلح الله به بين طائفتين متقاتلتين حينما تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه . وعلى كل حال أخباره مسطرة معروفة فهو من أفاضل الصحابة رضي الله عنه .
( دع ما يريبك ) يعني ما يدخل إليك الريب . والريب هو الشك ولكنه الشك الذي فيه قلق . ليس شكا مجردا.(1/45)
والإنسان إذا كان شاكا فهو على حالين: أحيانا يشك شكا مجردا / هل هذا كذا أو ليس كذا وينتهي الموضوع .وأحيانا يشك ويبقى قلقا فهنا يسمى ريبا.
أيهما أعلى ؟ الريب لأن فيه عدم الطمأنينة وفيه القلق .
( يريبك ) لك فيها أن تقول " يريبك " بفتح الياء فإذا كانت كذلك فإن الماضي من هذا الفعل راب . ولك أن تقول " يريبك " بضم الياء فيكون الماضي من هذا الفعل أراب بالهمزة يعني أن كان رباعيا فإنه يكون يريب وغن كان ثلاثيا فإنه يكون يريب والمعنى واحد في هذا وفي هذا .
أما معنى الحديث إجمالا : فإنه صلى الله عليه وسلم يأمرك بأن تترك الذي يلحق بك الشك والقلق إلى ما لا يلحق بك شكا ولا قلقا . ولذلك الإنسان مأمور بأن يأخذ بأسباب الراحة والطمأنينة.
وهذا في كل شيء فالشيء الذي يجعل في قلبك قلقا وحيرة وترددا فنقول دع هذا وخذ الشيء الثاني الذي ليس فيه شك ولا تردد ولا قلق لتبقى مطمئن النفس.
وهذا في أشياء كثيرة منها : إذا شككت في العبادة هل هي على وجهها الصحيح أو أخطأت فيها فنقول دع ما يريبك إلى ما يريبك
مثاله / هل صليت ثلاثا أو أربعا نقول ( دع ما يريبك إلى ما يريبك ) فأجعلها ثلاثا ابن على اليقين الذي لا ريب فيه .
كذلك في في معاملتك مع الناس هل تدخل في هذه المعاملة وتساهم فيها وتكون شريكا .نفسك قلقة ز نقول دع ما يريبك إلى ما يريبك . فالشئ الذي فيه ريب علاجه أن نقول دعه حتى يتبين لك . علاجه بتركه حتى يتبين لك.
إذا هذا الحديث قد سبق الذين يزعمون أن عندهم علاجات للأمراض النفسية والقلاقل القلبية .
نقول انتم مسبوقون بهذا الحديث . فإن الذين يدعون علم النفس أو علاج الأمراض النفسية عندهم قواعد وعندهم أمور يرتبونها لعلاج بعض الاضطرابات النفسية فنقول نحن عندنا قاعدة نبوية مسبوقون إليها وهو أن من عنده ريبه علاجه بتركه ز هذا هو علاج النبي صلى الله عليه وسلم .(1/46)
وفي هذا الحديث أن الشارع يسعى إلى طمأنينة المؤمن لأن الإنسان لا يقدم ولا يؤخر في قضاء الله الأمور كلها تجري على مقادير الله . فأنت أفعل الأسباب واجتهد ثم اطرد القلق عن نفسك لأن بقاء القلق عند الإنسان له آثار على الإنسان في عبادته وفي معاملته في تصوراته ينعكس هذا في جميع تصرفاته .فلذلك كان الشارع الحكيم حريصا على أن يطرد الإنسان القلق عن نفسه ويبقى مطمئنا .
يترتب على هذه الفائدة أنه ينبغي طرد القلق عن إخوانك المسلمين بمعنى أنك لو وجدت أحد من إخوانك قلقاً أو حائراً فإنه يسن في حقك ويتأكد إن كان لك قدرة أن تدخل عليه الطمأنينة وتفتح له أبواب الأمل حتى يبقى هذا مطمئنا لأن الشارع حريصا على هذا .
فهذا الحديث اجعله بين عينيك وطبقه في كل شيء تشعر أنه يشتت عليك ذهنك فنقول دعه واتركه إلى الشيء الذي لا ريبة لك فيه. ا.هـ
الحديث الثاني عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".
حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [رقم: 2318] ، ابن ماجه [رقم:3976].
هذا الحديث قال عنه النووي حسن.
الحديث الصحيح : ما رواه العدل التام الضبط وخلافه العلة والشذوذ.
والحسن : ما رواه العدل خفيف الضبط .
الترمذي قال في الحديث الذي قبل هذا حديث حسن صحيح . فكيف ذلك ؟ الحسن غير الصحيح . الحسن خفيف الضبط والصحيح تام الضبط .اختلف المحدثون في تحديد كلام الترمذي وتوجيهه .
ونختصر القول بما قاله ابن حجر رحمه الله : إذا جمع الوصفان حسن صحيح فهذا محمول على التردد في الراوي هل يصل حديث إلى الصحيح أو لا يصل أو هو حسن ؟ هذا وجه .
ووجه أخر : أنه محمول على طريقتين أحدهما حسن والأخر صحيح .
وعبارته : فإن جمعا فلتردد في الراوي حيث التفرد وإلا فباعتبار إسناديه .(1/47)
غير النووي ضعف الحديث وقالوا : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ،وقالوا فيه مرة بن عبد الرحمن وهو مختلف فيه لا يرتقي معه الحديث إلى أن يكون حسنا .
ولكن ما قاله غير واحد من المحققين من أهل العلم أن الحديث له طرق كثيرة فبالتالي يكون حسنا , حسنا لغيره.أضف إلى ذلك أن معناه صحيح فلأجل هذا يرتقي الحديث إلى أن يكون مقبول إلى درجة الحسن لغيره .
أما معناه (من حسن إسلام المرء تركه.. ) يعني إذا أسلم المرء وأراد أن يحسن إسلامه فإنه يترك ما لا يعنيه .
( ما لا يعنيه) يعني ما ليس له به دخل وما ليس له به علاقة فإنه يتركه . سواء كان في أمور عامة أو في أمور خاصة . فإذا أردت أن تحافظ على إسلامك فاترك ما لا يعنيك .
رأيت إنسان قد حمل متاعا إلى بيته هل من اللائق أن تقول ما هذا المتاع الذي حمله إلى بيته ؟
وهل هو يلبس أو يأكل أو ما أشبه ذلك ؟
نقول من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
إذا رأيت رجلين يتناجيان فقلت بماذا يتناجيان وحاولت تتعرف بماذا يتناجيان . فإن هذا يخل بحسن إسلامك .
إذا هذا معنى الحديث أي شيء ليس لك فيه دخل ولا يقدم ولا يؤخر في أمورك فإن تركه محافظة على حسن الإسلام .
إذا دل الحديث على أن الإسلام على نوعين :
إسلام عام ويشترك فيه كل أحد .
وإسلام حسن وهذا بأن يترك الإنسان مل لا يعنيه .
وهذا الإسلام الحسن له أسباب يحصلها الإنسان ومن ذلك أن يترك ما لا يعنيه .
ثم لتعلم أنك إذا انشغلت بما لا يعنيك فإن هذا سيكون مانعا بانشغالك بما يعنيك لأن الإنسان وقته محدود وفكره محدود.
وهذه في الحقيقة قد تكون عقوبة من الله عز وجل كما قال بعض السلف : من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه .
إذاً هذا هو التوجيه النبوي أن الإنسان لا ينشغل بما لا يعنيه حتى لا يفوته ما يعنيه . ا.هـ
الحديث الثالث عشر(1/48)
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:13]، وَمُسْلِمٌ [رقم:45].
أنس بن مالك أبو حمزة خادمه صلى الله عليه وسلم وقد خدمه مدة طويلة فهو من أعلم الناس بأحوال نبينا صلى الله عليه وسلم . خدمه عشر سنوات ، يخدمه في بيته وفي مسجده وفي سفره وفي إقامته مما رواه ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب .. ) الحديث
نفى صلى الله عليه وسلم أن يؤمن الإنسان إلا إذا حقق هذا الوصف .
( لا يؤمن أحدكم ) هل هذا نفي لأصل الإيمان وأنه لا يؤمن فيكون كافرا أو لا يؤمن الإيمان الكامل ؟ المراد الثاني : لا يؤمن الإيمان الكامل وإلا فإنه مؤمن لا يخرج عن دائرة المؤمنين لكنه لا يؤمن الإيمان الكامل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
المعنى واضح أنك إذا كنت تحب لأخيك المسلم الخير مثل ما تحبه لنفسك فهذا دليل على كمال إيمانك . وهذه المسألة في الحقيقة سهلة صعبة في نفس الوقت سهلة نظريا لكنها صعبة تطبيقيا تحتاج إلى معونة الله عز وجل ومجاهدة النفس .
أنت تحب لنفسك العلم النافع وأن الله يفتح عليك به بابا. هل تحب هذا لإخوانك الذين يشاركونك هذا العلم أن يكون مثلك بالعلم النافع والفائدة والاستفادة ؟ أين كنت هكذا فاعلم أن هذا دليل كمال إيمانك . وإن قلت لا أنا أحب أن الناس يكونون أقل مني فإن هذا دليل على خلل الإيمان في نفسك .
وهذا في كل شيء .مثلنا بالعلم ونمثل بالصلاح والاستقامة وخشية الله .
هل تحب أن إخوانك المسلمين يكونون مثلك بالتقوى والعمل الصالح ؟ إن كان كذلك فهذا دليل على كمال إيمانك .وقل هذا في أشياء كثيرة تحب أن تتحلى بها وتحصلها فإن كنت تحبها لإخوانك فهذا دليل على كمال إيمانك .(1/49)
ومما يعينك على تحقيق هذا أن تعلم أن الذي يعطي لا حد لعطائه لأنك إن طلبت العلم النافع والمعرفة التامة هذا مقدور وقادر عليه الله عز وجل .فهل هو سبحانه قادر على أن يؤتيه رجلين في آن واحد ؟ نعم ثلاثة أربعة ... لا حد لعطائه . إذاً لماذا تحجّر واسعاً ؟ أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك والله قادر على أن يعطي الجميع من فضله .وكذلك في التقوى والعمل الصالح وفي المال والجاه والولد كل هذه مقدورة لله عز وجل .
فلا تظن أنك بطلبك لنفسك وعدم محبتك لإخوانك أنك توفر على ربك عز وجل أبدا .
الله عز وجل يعطي عطاء لا حد له.
هذه الأحاديث الثلاثة كما تلاحظ في الآداب التي يجب على المسلم أن يتمثل بها وأن يتخلق بها وطالب العلم أولى الناس بتنفيذ ذلك والاتصاف بها لأن الناس ينظرون له غير النظرة التي ينظرون بها إلى عامة الناس .
فعلى المسلم أن يتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة في نفسه لغيره من إخوانه وكذلك من عامة المسلمين .
نسأل سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا وصلى الله وسلم على نبيينا محمد . ا. هـ
الحديث الرابع عشر
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ [ يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله] إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:6878]، وَمُسْلِمٌ [رقم:1676].
في هذا الحديث قرر النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الدم وأن دم المسلم محترم وأنه لا يستباح إلا بما ذكر في الحديث .(1/50)
( لا يحل دم امرئ مسلم ) فسر بقوله ( يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ) فإذا أتى بهاتين الشهادتين شهادة التوحيد وشهادة الرسالة فإنه يكون مسلما معصوم الدم . وأن من اعتدى على دمه فقد اعتدى على ما لا يحل له إلا بإحدى ثلاث ثم بينها بعد الإجمال :
(الثيب الزاني ) مباح الدم لأنه أتى بما يبيح دمه ويريقه بحقه وهو هذا الزنا .
والزنا هو إتيان الفرج الحرام . ولكنه قال في الحديث ( الثيب ) ويقال أيضا المحصن . فليس كل زنا يبيح الدم إنما الزنا الذي يكون من الثيب أو قل من المحصن أحيانا يقال هذا وأحيانا يقال هذا .
بماذا يحصل الإحصان ويكون ثيبا بحيث لو زنا أبيح دمه ؟ ذكر الفقهاء رحمهم الله ضابطا يحصل بذلك إحصان الإنسان ويكون بذلك ثيبا . فقالوا إن الثيب هو من وطء امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران .
فمن وطء امرأته بالأوصاف المذكورة في هذا التعريف فإنه يكون محصنا ثيبا وإذا اختل شرط من هذه الشروط فإنه لا يكون محصنا .
قولهم : من وطء امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح . علم بهذا أنه لا يحصل الإحصان بوطء ملك اليمين . الإحصان يكون عندهم بالنكاح يعني الزواج .
قولهم : صحيح . يخرج بهذا النكاح غير الصحيح . فلو وطء ثم تبين أن هذا النكاح غير صحيح كأن يكون نكاح بلا ولي أو بلا شهود فهذا النكاح غير صحيح فلا يكون بهذا النكاح محصنا .
قولهم : وهما . أي الزوجان . بالغان . فلو أن أحدهما أو كليهما ليس ببالغ فلا يحصل الإحصان لابد أن يكونا بالغين .
الشرط التالي : عاقلان . فلو فرض أن العقل قد فقد من أحدهما أو من كليهما فلا يكون بذلك إحصان .
وقولهم : حران . وهذا هو الشرط الأخير فلو وطء مملوكة أو إذا كان هو مملوكا فإنه لا يحصل الإحصان .فهذه القيود كما تلاحظ قيود ضيقت دائرة الإحصان وضيقت دائرة الثيب .فمتى اختل شرط منها لا يكون بذلك إحصان .(1/51)
ثم نناقش هذه الشروط هل هي صحيحة أو مستدركة هذا يكون في مكان أوسع من هذا يكون في دراسة الفقه لكن هكذا ذكر العلماء في شرط الثيب .
فالمقصود / أن من زنا وهو ثيب وتحققت فيه الأوصاف التي سمعت فإنه يكون مباح الدم فيقتل بالرجم لأنه أتى بما يبيح دمه
الثاني مما يبيح الدم ( النفس بالنفس ) ويعني بذلك القصاص فإذا قتلت نفسا نفسا فإنها تؤخذ بها فيقتل بسبب القصاص .
ولا بد أن تعلم أن قوله ( النفس بالنفس ) أن لذلك شروطا أخذوها من السنة النبوية .
لأن الشرع يكمل بعضه بعضا . فالنفس بالنفس لا بد فيه من شروط فلابد أن تكون النفس المقتولة ( معصومة ) فلو قتل غير معصوم فإنه لا يقتل به .
وغير المعصوم قالوا : هو الحربي الذي بيننا وبينه حرب لو قتله واحد منا فإنه لا يقتل به لأنه غير معصوم .
من هو المعصوم ؟
المعصوم على أنواع أعلى هذه الأنواع أن يكون مسلما .
الثاني / الذمي فمن قتل ذميا فقد قتل معصوما . والذمي هو الذي بيننا وبينه عهد على أن يدفع الجزية ويكون مقيما بيننا ويكون محفوظا في بدنه وماله ويعطينا الجزية وهذا موجود في صدر الأمة الإسلامية إلى ما شاء الله أن يوجد طوائف أهل الذمة يدفعون الجزية فهؤلاء معصومون في دمائهم.
الثالث المعاهد وهو الذي بيننا وبينه عهد ولكن لا نطالبه بالجزية ( لا يعطي الجزية) نعاهده وهو في بلده بحيث لا يعتدي علينا ولا يأتي إلى ثغورنا وما أشبه ذلك .فهذا هو الفرق بين المعاهد والذمي (الذمي ) يكون بيننا و(المعاهد) يكون في بلده ولا يدفع الجزية .
الرابع/ المستأمن وهو الذي دخل بلاد المسلمين بأمان لمصلحته أو لمصلحتنا وهذا كان في زمن مضى وربما يوجد الآن. كان يدخل بلاد المسلمين يبيع سلعة أو يعالج مريض أو يصلح لنا شيئا أو يعالج مريضا منا أو ما أشبه ذلك فإذا قتل فإنه يكون قد قتل معصوما .(1/52)
والموجود من هؤلاء الثلاثة في وقتنا الحاضر المستأمن والمعاهد وأما الذمي والله أعلم غير موجود الآن إذ لا نعلم أن أحدا من أهل الذمة يدفع الجزية للمسلمين لكن الموجود المعاهد الذي بيننا وبينه عهد وكذلك المستأمن .
ننتهي فنقول أن النفس بالنفس هذه يشترط فيها شروط أن يكون المقتول معصوما بواحد من هؤلاء الأربعة كذلك يشترط أن يكون القاتل مكلفا وهو البالغ العاقل فلو قتل غير عاقل أو غير بالغ فإنه لا يؤخذ به بمعنى أنه لا يقام القصاص على غير عاقل وعلى غير بالغ .
وهذا هو الشرط الثاني شرط التكليف وتضمن شرطين : العقل والبلوغ
الشرط الثالث / المكافئة بين القاتل والمقتول .وتكون المكافئة بأمور أولا: بالحرية فلو قتل حرا عبدا فإنه لا يقتل به لعدم المكافئة .
واستدل هؤلاء بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا يقتل حر بعبد) وهذا الحديث رواه الدار قطني والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
ثانيا:كذلك تكون في الدين فلو قتل مسلما كافرا فإنه لا يقتل به وهذا دليل واضح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا يقتل مسلما بكافر )
حديث ابن عباس فيه ضعف والصواب أنه لا يشترط هذا الشرط فلا يشترط المساواة في الحرية .فيبقى المكافئة في الدين وحديثها ثابت لا إشكال فيه .
الشرط الرابع / عدم الولادة بمعنى ألا يكون القاتل والدا للمقتول فإن كان والدا له فإنه لا يقتل به كأن يأتي إنسان ويقتل ولده نسأل الله العافية . فليس فيه قصاص ودليل هذا الشرط حديث عمر رضي الله عنه فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا يقاد والد بولده )لا يقاد يعني لا يقتص وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمزي ولكن هذا الحديث فيه ضعف والصواب أيضا عدم اشتراط عدم الولادة (أن الوالد لا يقتل بالولد )
أما إذا كان الوالد قد قتل ولده قتلا واضحا لي فيه أدنى شبهه فيتعين في هذه الحالة قتله(1/53)
كما يأتي إلى ولده ثم يضجعه ويذبحه بالسكين فهذا قتل صريح ليس فيه أدنى التباس
فهذا الشرط الرابع غير معتبر لضعف الحديث الوارد ولا سيما إذا كان قتله قتلا واضحا لا شبهة فيه .
السبب الثالث مما يبيح الدم :قال ( التارك لدينه ...) هذا مسلم ثم زين له الشيطان سوء عمله فارتد عن دينه وفارق الجماعة فهذا نقتله كما أفاد هذا الحديث وحديث (من بدل دينه فاقتلوه ) وقوله هنا ( التارك لدينه ) تاركه إلى أي شيء ؟ نصرانيا أو يهوديا ... لا يهم هذا المهم أنه ترك دينه حتى لو قال إنه نصراني أو يهودي فنقول إنك مباح الدم سوف نقتلك لتركك دينك .
( المفارق للجماعة ) هل هذا وصف للأول أو نوع للثاني ؟ بمعنى هل عندنا إنسان تارك لدينه وأخر مفارق للجماعة أو هو هو ؟ هو هو بمعنى أنه إذا ترك دينه فقد ترك الجماعة
وفي هذا دليل على أن الجماعة هم من كانوا على هذا الدين الحق ولو كانوا قلة فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى ووصف الذي ترك دينه بأنه مفارق للجماعة ولو كانت جماعة المسلمين هي الأقل فإنه مفارق لها .
وهذه الفائدة المهمة : وهي أن الجماعة في الشرع هي ما وافقه الدين الحق ولو كانوا ثلاثة بل ولو كان رجلا واحدا فليست الجماعة في الكثرة والسواد الأعظم بل هي في موافقة الحق .
من ترك دينه فإنه يقتل ويكون مستباح الدم وقلنا لك إنه لا ينظر إلى أي دين دخل وفي أي ملة التحق وهذا يشكل فيما لو التحق بالنصرانية فلماذا لا نجري عليه أحكام النصارى ؟ نقول لا يقتل من النصرانية لو كان في أصله نصرانيا لكن يخرج من ديننا ثم يقول أنا نصراني نقول لا أنت الآن مرتد لا نعاملك معاملة النصارى فلابد أن نقتلك لمفارقتك دينك .
إذاً هذا ما دل عليه الحديث حيث ذكر عصمة الدم وأن صاحبه معصوم لا يستباح إلا بواحدة من هذه الثلاث .(1/54)
بقي أن تعرف أمورا استلحقها بعض العلماء على هذا الحديث والصواب أن ما ذكر في الحديث حاصرا للأسباب التي تبيح الدم وأن ما ذكر من غيرها إلحاقا بها فإما أن يكون راجع على واحد منها وإما أن يكون الصحيح خلافه فذكر بعضهم ( الساحر ) لكن الصواب أننا لا نحتاج إلى إضافته لأنه يمكن أن يدخل في التارك لدينه لأنه كافر.
وبعضهم قال (اللوطي ) نقول لست بحاجة إلى إضافته ويمكن أن يلحق بالثيب الزاني (فالثيب الزاني أولى من اللوطي ) ا. هـ
الحديث الخامس عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:6018]، وَمُسْلِمٌ [رقم:47].
هذه ثلاثة أشياء في كل منها يقول صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الأخر. المراد بهذه الجملة ( من كان يؤمن ...) الحث والإغراء على الالتزام كما تقول للرجل : إن كنت رجلا فافعل كذا مرادك أن تحثه وتغريه بمقتضى الرجولة .
( فليقل خيرا ... ) إذا قال ليس عندي خيرا أتكلم به ؟ نقول : اصمت ففي السكوت غنية عن الكلام الذي ليس بخير .
( فليقل خيرا ) الخير في الكلام قد يكون خيرا في ذاته كأن تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر أو تقرأ القرآن أو ما أشبه ذلك . وقد يكون خيرا في مقصده يعني هو كلام عادي ليس بتسبيح ولا تكبير لكنه خير لمقصوده قصدت أن تؤلف القلوب أو تزيل الوحشة عن الجالسين أو أن ترغبهم في الشباب الطيبين والمستقيمين فلو جلست مع أناس وسألتهم عن أحوالهم وأحوال بنيهم وعن الأسعار وغير ذلك فهذا الكلام في ذاته ليس بخير لأنه من أمور الدنيا لكن بمقصده يكون خيرا .(1/55)
وبهذا يستريح كثير من الناس من كثير من الإشكالات :
يقول : نتكلم بكلام دنيوي وبكلام ليس فيه ثمرة واضحة .
نقول : إذا كان كذلك فعليك أن تقصد بهذا الكلام الخير والمنافع الأخرى التي ذكرت بعضها
ولكن انتبه فإن هذا القسم الذي هو خير لمقصده إن توسعت فيه فقد يخرج من الخيرية إلى الإباحة إلى أن يكون إثما وذنبا فلابد أن تكون فطنا في هذا النوع فلا تكون متوسعا فيه حتى لا يكون متدرجا بك إلى المحرم .
إذاً هذا الميزان ميزان عدل وميزان واضح من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه ألا يتكلم إلا بخير فإن عدم الخير فإنه يسكت ويصمت فهذا أفضل له .
( فليكرم جاره ) "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فيها حث وإغراء بإكرام الجار والجار له حقا عظيما ولذلك جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) يعني جبريل يوصي نبينا ويقول له احفظ الجار وعليك بالجار وما أشبه ذلك حتى من شدة الوصية ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن الجار سوف يكون وارثا مثل الأبناء ومثل الآباء من عظم حقه .
( فليكرم جاره ) ينبغي أن تعرف أن الحديث ليس في كف الأذى وإنما في إكرامه وإيصال ما يسره من القول والمال ونحو ذلك فبهذا يحصل الإكرام . أما كف الأذى عنه فهذا لا إشكال فيه واجب لا مشاحة فيه لكن الإكرام الذي يحصل بإيصال النفع له هذا هو المذكور في الحديث .
من هو جارك ؟ هل هو الذي جداره بجدارك ؟ إن كان كذلك صار الجيران قلة سوف يكون جيرانك ثلاثة عن اليمين والشمال والخلف .
لأهل العلم كلام في هذا :
1/ بعضهم يقول : الجار من يسمع النداء فمن سمع نداءك فإنه جار لك فإذا رفعت صوتك في بيتك وسمعك بيت أو بيتين أو ثلاثة فالذين سمعوك هم جيرانك والذين لم يسمعونك ليسوا بجيرانك.(1/56)
2/ وبعضهم قال : هو الذي يصلي معك صلاة الصبح خاصة لأن غير الصبح الناس يتجولون وربما صلوا في مساجد بعيدة .
3/ وقيل ضابط آخر وهو أن جارك إلى أربعين بيتا . وهذا روي في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجار إلى أربعين ولكنه ضعيف لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم اختلفوا في الأربعين كيف تكون البيوت ؟
1/ عن اليمين أربعين بيت وعن الشمال أربعين بيت ومن الخلف أربعين بيت .
2/ على حسب الجهات عشرة في كل جهة .
وهذه الأقوال كما تلاحظ أقوال ليس فيها نص واضح فالراجح والله أعلم أن الجار والجوار يرد في ذلك إلى العرف عرف الناس . والناس يعتبرون اليوم الجار إلى البيت الثالث والرابع أنه جار لك وما زاد عن ذلك فإنهم يرون أنه بعيد عنك . نعم يعتبرونه من الحي لكن لا يعتبرونه جارا . ثم لاحظ أن المسألة تختلف من زمن إلى زمن فالناس في القديم بيوتهم صغيرة ربما عشرة بيوت من جيرانك لصغر البيوت والآن لا , بيتين وثلاثة وتبعد بهم المسافة لأن الناس توسعوا في ذلك
فالحاصل أن الجوار مرجعه إلى العرف فإذا قيل هذا من جيرانك فإنه من جيرانك .
فائدة :الجيران لا تخلو أحوالهم من ثلاث :
1/ منهم من يكون له حق واحد وهو الجار الكافر .
2/ منهم من يكون له حقان وهو الجار المسلم ( حق الإسلام وحق الجوار )
3/ منهم من يكون ثلاثة حقوق وهو الجار المسلم القريب . فليعطي كل جار حقه .
( فليكرم ضيفه ) الذي يستضيفه وينزل عنده وهذا من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر . فإذا نزل بك ضيف فإنه يجب عليك إكرامه لقوله صلى الله عليه وسلم هنا (فليكرم ضيفه ).(1/57)
( فليكرم ضيفه ) لم يبين هنا إلى كم يوم يكرمه لكن بينت السنة في أحاديث أخرى أن حق الضيف ثلاثة أيام فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بإكرام الضيف جائزته قالوا : وما جائزته.قال: يوم وليلة وحق الضيف ثلاثة أيام .فبين الرسول صلى الله عليه وسلم وفصل تفصيلا واضحا . له جائزة وهي يوم وليلة وله حق الضيافة ثلاثة أيام .
فإذا نزل بك الضيف فإنك تكرمه ثلاثة أيام إكراما واجبا ليس لك فيه أدنى منّة .
ولكن لتعلم أن إكرام الضيف واجب لكنه واجب بعد النفقة الواجبة على نفسك وعلى أولادك فإذا فضل عندك عن قوتك وقوت أولادك فإنه يجب إكرامه فإذا نقص فإنك تقدم نفسك وأولادك فإذا قل الطعام في البيت أو نقص المال فإن حق النفس والأولاد مقدم كما هو معلوم في قواعد الشريعة العامة .
الراجح في معنى الحديث : أن الضيافة على نوعين :
1/ ضيف نازل بك فهذا يكرم بمقدار الثلاثة أيام ثم بعد الثلاثة ليس له هناك حق واجب لكن إن تصدقت فحسن .
2/ لا ينزل عندك ولكنه يمر بك فإذا مر بك فإنه يجب عليك أن تجيزه بما يكفيه يوما وليلة يعني تعطيه طعاما وشرابا ما يكفيه يوما وليلة هذا ما دل عليه الحديث حيث فرق بين الجائزة وبين حق الضيافة.
إكرام الضيف هل هو واجب في القرى والمدن وفي غير المدن على حد سواء ؟ أو هو واجب في غير المدن والقرى ؟ بحيث يقال إن المدن والقرى فيها أماكن تستأجر فليست الضيافة واجبة وإنما تجب الضيافة في البادية فالصواب في هذه أن الحديث عام فليكرم ضيفه سواء في برية أو في البلد لأن هذا في حق المسلم على المسلم ولا ينظر في القرية ولا غير القرية . ا .هـ
الحديث السادس عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنْ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لَا تَغْضَبْ" . رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ [رقم:6116].(1/58)
وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم أحيانا تكون جوابية يعني أن يطلب واحد من الصحابة من النبي صلى الله
عليه وسلم أن يوصيه . وأحيانا تكون وصايا ابتدائية يعني يوصي ابتداء من غير سؤال سابق . وأياً كان في
الوصايا
الجوابية والابتدائية فإنها تدل على أهمية ما أوصى بها لأنها خصت بهذه الوصية .
والتي معنا من النوع الأول . نهاه هنا أن يغضب فهذا الرجل ردد مراراً (قال أوصني) كانه يستقل هذه الوصية
ويرى أنها قليلة فقط لا أغضب أعطني غيرها.فردد مراراً وفي كل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم ( لا تغضب )
والذي يظهر والله أعلم أن هذا الرجل به غضب وأنه يغضب سريعا رضي الله عنه ولذلك خصه الرسول بهذه
الوصية .
هنا من قرينة الحال أنه رجل غضوب فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تغصب ) فإذا كان كذلك فإنه
ينبغي في الوصية أن تراعي حال الموصى بمعنى إذا طلب منك أحد أن توصيه وكان غضوبا فلتقل لا تغضب . و
إذا طلب منك أحد أن توصيه وكان كثير المزاح فتقول يا فلان لا تكثر المزاح . و إذا طلب منك أحد أن توصيه
وكان مضيع لوقته فتقول يا فلان لا تضيع وقتك وهكذا .
في قوله ( لا تغضب ) كيف نهاه عن الغضب وهل هو باختيار الإنسان أو هو يهجم عليه فيغضب وكثير من
الناس بوده ألا يغضب وأن يكون حليماً لكن يغضب بغير اختياره .
فالسؤال هنا :كيف نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغضب على أن الغضب يحصل بغير الاختيار ؟
الجواب : أن مراده صلى الله عليه وسلم في هذا أحد أمرين :
1/ إما أنك ابتعد عما يثير غضبك .وهذا احتمال فمن الناس من يغضب من أناس معينين إذا رآهم غضب
منهم .فنقول: ابتعد عنهم ولا تجالسهم ما دامت مجالستهم بهذه الصورة .(1/59)
ومن الناس من يغضب من مواضيع معينة إذا نوقش عنها أو سئل عنها فإنه يغضب . فنقول: لا تبحث هذه المواضيع مع أحد حتى لا تغضب . ومن الناس من يغضب لسبب آخر أو في وقت دون وقت يعرف من نفسه أنه يكون في الوقت المعين يكون مستعجلاً مثلاً حائراً فيغضب في هذا هذه الأوقات فنقول تجنب هذه الأوقات واحترز منها.
2/ لا تغضب : أي لا تنفذ غصبك يعني اكظم هذا الغضب ولا تنفذ ما يملي به عليك.
فإذا قال لك غضبك اضرب فلانا فلا تضرب فلانا.
فإذا قال لك غضبك طلق زوجتك نقول لا تطلق .
فإذا قال لك غضبك احرق متاعك مزق ثيابك نقول لا تفعل هذا . هذا الاحتمال الثاني .
وبهذا التوجيه يتبين أن هذه الجملة جملة في محلها وأن الإشكال الذي قلنا بأن الغضب بغير الاختيار مدفوع بما ذكرنا ، أي لا تتعاطى الأسباب أو لا تنفذ هذا الغضب .
ثم أعلم أن الغضب جمرة يلقيها الشيطان في جوف ابن آدم كما قال عليه الصلاة والسلام .
جمرة. الله أعلم بكيفيتها . يلقيها الشيطان في جوف ابن آدم ثم يغضب ويظهر على هذا أو يترتب على هذا أشياء معلومة من حال الغاضب .
فإذا علم أن الغضب من الشيطان فإنه يستعين بالله على طرد الغضب لأنه يعلم أن الذي به من الشيطان وحينئذ يستعين بالله على طرده وعلى إبعاده بالاستعاذة من الشيطان لأنه هو السبب.فأول ما يعالج به الغضب الاستعاذة من الشيطان لأن منشأه من الشيطان .
ثم ورد في السنة أن الإنسان إذا كان واقفا وغضب أنه يجلس لأن هذا يُهَدِِِِِّي غضبه وإن كان جالساً فإنه يضطجع حتى يكون أبعد عن التنفيذ .
ومن العلاج الوضوء . لأن الغضب يوجِد الحرارة في الجسم فإذا توضأ فإنه يسكن وتبرد هذه الحرارة .
أيضا يصلي ركعتين حتى يناجي ربه فيذهب شيئا مما يجده
والمقصود أن الإنسان يأخذ نفسه بالتدريج فيما يتعلق بعلاج الغضب .
هذه أهم الأمور في هذا الحديث . ا.هـ
الحديث السابع عشر(1/60)
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:1955].
كَتَبَ الإحسان يعني شرع الإحسان وهذه الكتابة قد تكون كتابة واجبة فيما إذا كان واجبا وقد تكون كتابة نافلة فيما إذا كان الإحسان في نافلة أو سنة فهو يختلف .
الإحسان : المراد به فعل الشيء على وجه حسن . ثم هذا الإحسان قد يكون واجبا متى؟
إذا كان في الأمر الواجب وقد يكون سنة ومستحبا إذا كان فيما دون ذلك . فالصلاة مثلا بأركانها وواجباتها هي من الإحسان الواجب فيجب أن تصلي بأركان وواجبات .
الإحسان المستحب : هو أن تصلي في السنن وتجتهد في موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا إحسان ليس بواجب ومأمور به . فتبين لك أن الإحسان على نوعين :
- إحسان واجب في الأمر الواجب .
- وإحسان مستحب فيما كان دون ذلك من سنة أو نافلة .
ثم ضرب مثلا عليه الصلاة والسلام على الإحسان قال ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) بالكسر لأن المراد بذلك الهيئة ، أما لو قلت القتلة بالفتح فإن المراد المرة الواحدة . فالفرق بين فعله بالكسر وفعله بالفتح أن فعله بالكسر يراد بها الهيئة وأما فعله بالفتح يراد بها المرة .
فإذا قلت لشخص : اجلس عندنا جلسة (بالكسر ) تريد الهيئة ولو قلت: اجلس جلسه (بالفتح) يعني مرة واحدة .
( فأحسنوا القتلة ) المراد فأحسنوا هيئة القتل .
وذلك أن القتل له هيئات كثيرة منها الشديد ومنها الهين ومنها ما هو بين ذلك فالمقصود أنك تحسن الهيئة وهذا يكون فيمن شُرع قتله فإنه يحسن الإنسان قتله وهذا كمن أتى ما يبيح دمه .(1/61)
فالمقصود إذا قتل فإنه يقتل لأنه غير معصوم .نقول :فاقتل هذا قتلة حسنة .
كذلك ما يشرع قتله من البهائم أو الدواب الضارة نقول: أحسن القتلة. لأن المقصود هو إنهائه فإذا كان إنهائه على الوجه الحسن فهذا الذي دل عليه الحديث .
ولذلك مر عليك فيمن قتل الوزغ في أول مرة فله كذا وكذا من الأجر وإذا قتل من الثانية فله كذا وكذا ولكن دون الأول وفي الثالثة فهو دون الأول والثاني والسبب أنه إذا قتل في الأولى فقد أحسن القتلة لأنه أراحه مباشرة فهكذا يقال في كل شيء أن الإنسان يحسن القتلة.
ولذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لا قود إلا بالسيف ) يعني إذا أراد أحد أن يقتص من أحد فإنه يقتص منه بالسيف . لا يقتص منه بآلة ثانية لأن السيف أسرع وهو إحسان في قتلته . ونعود إلى هذا بعد قليل إن شاء الله .
( وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) هذا فيما يذبح من بهيمة الأنعام وغيرها فإنه يشرع أن يحسن ذبحها أو ذبحتها . بمعنى أنه لا يكلفها في الذبحة .
( وليحد أحدكم ) يحد السكين حتى تكون سريعة ماضية .
( وليرح ذبيحته ) يعني لا يكلف عليها يعني يربطها ربطا شديدا أو يجيعها أو يلوي رقبتها. نقول : لا .أرح الذبيحة وعاملها كأنك تريد علاجها وشفائها لست تريد ذبحها وإزهاق روحها . إذا هذه وصايا لمن أراد أن يذبح : أن يحد الشفرة ، وأن يريح الذبيحة .
وقوله هنا ( إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ) هذا قلنا فيما يتعلق بما يذبح .
ومن إحسان الذبحة : أن لا تذبحها عند أختها . فالبهيمة تتألم لا تظن أن البهيمة لا تدري بل هي تدري وتتألم ولاسيما إذا كان المذبوح ابنا لها أو صغيرا لها . فلذلك كان الواجب أن الإنسان إذا أراد أن يذبح الذبيحة أن لا يذبحها عند أختها بل يواري السكين عنها يخفيها خلف ظهره ثم إذا قرب ذبحها يخرج السكين لذبحها فهذه أمور البهيمة تدركها وتتألم بها فلذلك لا بد من إحسان الذبحة في ذلك .(1/62)
نعود إلى قوله ( فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ) هذه الجملة تتعلق فيمن استوجب ما يقتل من أجله كالقصاص مثلا . فإحسان القتلة أن يقتل بالسيف للحديث الذي أشرت إليه وهو
( لا قود إلا بالسيف ) فإن هذا مقتضى الإحسان في القتلة .
هذه المسألة : إقامة القصاص على القاتل : 1/ قيل : أنه لا قصاص إلا بالسيف للحديث السابق وحديث الباب ( فأحسنوا القتلة ) فلو قتل بالسكين أو بالخنق أو بالرصاص ... فإننا لا نقتله إلا بالسيف لأن هذا هو الإحسان في القتلة . وهذا الذي عليه طائفة من أهل العلم ومنهم فقهاء الحنابلة فإنهم يرون أنه لا قود إلا بالسيف فبأي شيء قَتَل فإننا نقتص منه بالسيف .
2/ أن الإنسان إذا قتل بشيء فإنه يقتل بنظير ما قتل به ، فإذا قتل بالسيف يقتل بالسيف وإذا قتل بالخنق فإنه يخنق حتى يموت ولو قتل بشق البطن فإنه يقتل بذلك .... إلخ
وقالوا إن هذا هو معنى قول الله تعالى : ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ) الآية فنحن نعاقبه بمثل ما عاقبنا ونقتله بمثل ما قتل صاحبنا .ثم أيدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم
قتل اليهودي الذي رض رأس الجارية بين حجرين قتله برض رأسه بين حجرين . هذا يهودي اعتدى على جارية من المسلمين وسرق حليها وضرب رأسها بين حجريه لما أتى اليهودي واعترف أمر بأن يرض رأسه بين حجرين . فدل الكتاب والسنة على أن يقتل بالحالة التي قتل بها فيعامل بالمثل أما حديث ( لا قود إلا بالسيف ) فيه ضعف ثم هو محمول على ما يكون في غير القصاص بمعنى أننا لو أردنا أن نقتله لأنه لا يصلي فنقتله بالسيف ولو أردنا أن نفتله تعذيرا فنقتله بالسيف ، أما في القصاص فإننا نفعل به مثل ما فعله وهذا هو الصحيح في المسألة وبه يجتمع التوفيق بين أحسنوا القتلة والنصوص التي دلت على أنه يقتل بالطريقة التي قتل بها .
فالخلاصة :
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإحسان في كل شيء ، ثم مثل للإحسان بالقتل وكذلك بالذبح .(1/63)
ثم ذكرنا لك ما يتعلق بالقصاص وأن الإحسان فيه أن يفعل به نظير ما فعل بمن اعتدى عليه بالقصاص ، وأن الحديث ( لا قود إلا بالسيف ) إن صح فإنه محمول على غير هذه الحال غير حال القصاص . ا . هـ
الحديث الثامن عشر
عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُنْدَبِ بْنِ جُنَادَةَ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [رقم:1987] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
هذا الحديث رواه أبو ذر ومعاذ بن جبل .
وإنما رويا هذا الحديث جميعا يحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام وجه لهما هذه الوصية وهما مجتمعين، فالوصية موجهة للاثنين لكن أفرد الخطاب باعتبار المخاطب( الشخص)
ويحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام وجه الخطاب لكل واحد على حده فنصح أولا أبا ذر ثم نصح معاذا أو بالعكس ، فالمهم أن كل واحد منهما نُصح نصيحة مفردة ، ثم إن رواة الحديث والذين يدونون السنة جمعوا هاتين النصيحتين في سياق واحد عن صحابيين .
وهذه النصيحة وإن كانت لهذين الصحابيين المذكورين لكنها لكل الأمة ، فالنصيحة لكل الأمة لأن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول للجميع ومنبأ بنبوة عامة . فلذلك وإن كانت خاصة في سببها وفيمن وجهت له في الظاهر لكنها عامة لكل الأمة .
هذه الوصية ثلاث جمل:
1/ اتق الله حيثما كنت. وهذه فيما يتعلق بين الإنسان وربه .
2/ أتبع السيئة الحسنة . وهذه فيما بين الإنسان وبين ذنوبه وخطاياه .
3/ وخالق الناس بخلق حسن . تتعلق بين الإنسان وبين سائر عباد الله .
القسم الأول : ما يتعلق بين الإنسان وربه .
(اتق الله حيثما كنت ). فالإنسان بينه وبين ربه يتقي الله عز وجل .(1/64)
وتقوى الله ذكروا فيها تعاريف كثيرة لكن من أخصرها وأوضحها : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر وترك النواهي , وهذه التقوى الناس يتفارقون فيها بحسب تفاوتهم في تطبيق هذا التعريف فليسوا على حد سواء بل هم متفاوتون بحسب تطبيقهم لهذا التعريف .
فمن الناس من كانت تقواه في الطبقة العليا وهو من استكثر من هذا الوصف ، ومنهم المتوسط ، ومنهم الضعيف ، ومنهم من عدم ذلك . نسأل الله العافية .
فالمهم أن التقوى الناس يتفاوتون فيها بحسب ما يطبقونه من تعريفها .
( حيثما ) ظرف للمكان يعني اتق الله في أي مكان كنت سواء كنت في بيتك في المسجد في مكان عملك . ومعلوم أن المكان لا ينفرد عن الزمان فنقول اتق الله حيثما كنت زمانا فالمكان لا بد له من زمان يقارنه فلذلك سوف تستغرق التقوى كل عمر الإنسان .
الوصية الثانية : التي بينه وبين ذنوبه .
كيف تتعامل مع ذنوبك التي تقع فيها .لأن كل إنسان لابد له من ذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(كل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون ) .
كيف تتعامل مع هذه الذنوب ؟
ج/ قال : ( أتبع السيئة الحسنة ) لأي غرض ( تمحها ) يعني هذه الحسنة سوف تمحو السيئة . معنى هذه الجملة أنك إذا وقعت في سيئة بمعصية فإنك تتبعها وتلحقها بحسنة حتى تكون ماحية لهذه السيئة . على حد قوله تبارك وتعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات )
وفي قوله : ( أتبع السيئة الحسنة ) هذا عام في كل حسنة ، أي حسنة تعملها فإنها تكون ماحية للسيئة لكن نخص من هذه الحسنات ما نص الشارع على أنها كفارات : كالصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، والعمرة إلى العمرة ، وكذلك الحج .
فهذه من أول ما يدخل في الحديث ( أتبع السيئة الحسنة ) هذا عام في كل حسنة ولكن ما نص الشارع عليه فإنه يكون داخلا دخولا أوليا مثل الصلوات الخمس .. كما مر .(1/65)
( السيئة ) المراد بها المعصية والإثم . ولكن لماذا سميت المعصية والإثم بالسيئة ؟
ج/ لأنها تسوء صاحبها وتكدر عليه وتضيق صدره .
تسوءه متى ؟ في الدنيا أو في الآخرة ؟
ج/ في الدنيا والآخرة . وهذه تكون في الدنيا لمن كان له قلب ، أما من أشرب قلبه المعاصي فإنه قد لا تسوءه السيئة بل ربما يفرح بها ويتحدث بها . لكن المراد من حيث الأصل أن السيئة تسوء الإنسان وتضيق صدره وتنكد عليه .وهذا هو الواجب على المسلم أن تبقى السيئة نكدا في حياته حتى يأتي بالحسنات التي يمحو بها هذه السيئة .
أما الجملة الثالثة ( وخالق الناس بخلق حسن )
( خالق الناس ) عامل الناس ، ( بخلق حسن ) بمعاملة حسنة . ما هي المعاملة الحسنة ؟
ج/ هي التي يستحسنها الناس منك ،ويقولون هذا أتى بفعل حسن فيشمل طلاقة الوجه ، ولين الكلام وسلامة الصدر وغير ذلك .
إذا هذه الطريقة التي يجب أن تكون بينك وبين خلق الله : أن تخالق الناس بخلق حسن .
وإذا كانت هذه الجملة موجهة لكل أحد فإنها موجهة لك أيها الطالب من باب أولى وأحرى ، فطالب العلم يجب أن يكون على خلق حسن أولى من غيره يجب أن يكون هينا لينا يحترم الكبير ويرحم الصغير ليس في نفسه عظمة ولا إعجاب في نفسه هذه أخلاق يُنقم على فاعلها إذا كان من عامة الناس فإنها تُنقم أيضا من باب أولى إذا لُمست من طالب علم .
فلابد أن يكون مع العلم الأدب ولابد أن يكون مع العلم حسن الخلق ، وما أجمل العلم مع جمال الأدب وجمال الكلام وجمال الطوية فإنه إذا اجتمع علم وأدب فإن هذا عنوان سعادة الإنسان وأيضا يكون موفقا مسددا بين الناس . ا . هـ
الحديث التاسع عشر(1/66)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "كُنْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامِ! إنِّي أُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْك، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَك، إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوك بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَك، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوك إلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْك؛ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [رقم:2516] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ التِّرْمِذِيِّ: "احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أمامك، تَعَرَّفْ إلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفك فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَك لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَك، وَمَا أَصَابَك لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَك، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنْ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".
كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما رديفا له على حمار ثم حصلت هذه المحاورة القصيرة المفيدة.
( يا غلام ) لأن ابن عباس لم يكن كبيرا فقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عباس قد ناهز الاحتلام.
( إني أعلمك كلمات ) أخبره أولا بصيغة الإجمال ( أعلمك كلمات ) وإنما قال له ذلك بصيغة الإجمال حتى يشوقه إلى ما سوف يقوله له . ما هذه الكلمات ؟(1/67)
قال : ( احفظ الله يحفظك ) احفظ الله ثواب ذلك أن الله يحفظك . لكن كيف تحفظ الله عز وجل رب العالمين . المعنى أنك تحفظ شرع الله عز وجل بتطبيقه وامتثاله ، فإذا حفظت شرع الله ودين الله وطبقته في نفسك والتزمته في سرك وعلانيتك فإن الله تعالى يحفظك، يحفظك في نفسك فلا يصيبها ما يكره ، يحفظك في مالك ، يحفظك في ولدك ، يحفظك في أشياء كثيرة قد تخطر على بالك وقد لا تخطر .فهذا هو الثواب العاجل لمن حفظ الله عز وجل
19/2
( احفظ الله تجده تجاهك ) أعادها ثانية وتغير الثواب المرتب عليها . وفي الرواية الثانية التي ذكرها المؤلف ( تجده أمامك ) والمعنى أنك تجد توفيق الله عز وجل وتسديده ميسرا لك .
( أمامك ) لا يحتاج إلى كلفة فهي على حد قوله تبارك وتعالى : ( فسنيسره لليسرى )
أمامك تجد توفيق الله وتسديده أمامك متقدما عليك وأمورك كلها إلى خير ، وليس المعنى أنك تجد الله أمامك فإن الله بذاته فوق السماوات في العلو ولا يمكن ان يكون أمام أحد من خلقه بالمعنى الذي تريده المحرفة المؤله بل المعنى ما قلناه لك .
( إذا سألت فاسأل الله ) إذا كان لك مسألة فإنك تسأل الله عز وجل لأنه الذي يحب السائلين ويعطي عطاء لا ينفد . إذا إياك أن تتوجه بسؤال أحد من المخلوقين إذا سألت فاسأل الله عز وجل واطلبه الذي عنده وهذا عام ولكن يستثنى من ذلك ما جرت العادة بسؤاله فلا حرج أن الإنسان يسأل المخلوق مع اعتقاده أن الله هو المعطي حيث يصرف قلب هذا إليك فإذا سألت فاسأل الله ، ثم يستثنى من هذا ما قلت لك أنك تسأل المخلوق فيما جرت العادة أن يتسأل الناس به فالإنسان يسأل زميله حاجة ثم يردها إليه ، يسأل أباه مالا لينتفع به فهذا لا حرج فيه . لكن السؤال التام إنما يكون موجها لله عز وجل .(1/68)
( وإذا استعنت فاستعن بالله ) إذا طلبت المعونة فإنها تطلب المعونة الكاملة الحقيقية من الله عز وجل على حد قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ثم يستثنى من هذا ما جرت العادة أن يستعان به من المخلوق فإن هذا لا يعد مخالفة للحديث فإذا استعنت بمخلوق في أمر دنيوي يستطيعه فإنه لا بأس به . تستعينه أن يعينك على حمل متاع أو إيصال شيء لا بأس به لأن الناس تعارفوا عليه .
ثم قال : ( أعلم أن الأمة لو اجتمعوا ... ) هذه جملة من أعظم الجمل الأمة كلها من أولها إلى أخرها لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ( بمال بجاه بعلم ) فإنه لا يمكن أن ينفعوك إلا بما كتبه الله لك فإذا قدر أنهم اجتمعوا على أن ينفعوك بعلم وأن يجعلوك عالما مبرزا فإنه لا يمكن .
أن تكون كذلك إلا إذا كتبه الله لك وهكذا لو اجتمعوا على أن يجعلوك غنيا لست بحاجة إلى أحد فإنه كذلك لا ينفعوك إلا إذا كان الله كتب لك ذلك .
( وإن اجتمعوا على أن يضروك ... ) هذه بالعكس اجتمع الناس كلهم على أن يصيبوك بفقر وأن تكون محتاجا إلى الناس فإنهم لا يمكن أن يفعلوا هذا إلا إذا كان الله كتب عليك هذا . اجتمعوا على أن يضروك في نفسك فتكون مريضا عليلا فإنهم لا يمكن أن يضروك إلا إذا كان الله تعالى قد كتب ذلك عليك .
إذا لا خوف من أحد لأن الله هو المقدر ولا طمع في ما في يد أحد لأن الله تعالى هو المقدر .
( رفعت الأقلام ...) أقلام القضاء والقدر، وأي صحف ؟ الصحف التي يكتب فيها المقادير إذا الأمور كلها مقضية والأقلام رفعت والصحف جفت بما كتب فيها .(1/69)
وهذه الجملة بل الجملتان يراد بهما أن الأمر مقضي وأنه لا أحد يغير ما قدره الله عز وجل فهاتان الجملتان سيقتا لهذا الغرض أن الأمر مقضي وأن الأحوال والأشياء قد انتهت ولذلك هذه الجملة ( رفعت الأقلام ... ) أصبحت مثلا للشيء الذي انتهي منه فإذا أتاك إنسان بأمر قد تأخر عليك فماذا تقول له رفعت الأقلام وجفت الصحف بمعنى أننا قد انتهينا .
( تعرف على الله ) بطاعته ( في الرخاء ) في وقت الرخاء فإن الله تعالى (يعرفك في الشدة)
والمراد بالرخاء وقت الرخاء وقت الأمن ورغد العيش والفراغ والمراد بالتعرف إليه في الرخاء يعني بطاعته يعني انك تجتهد بطاعة الله في وقت الرخاء في وقت الأمن في وقت الغنى تجتهد في العبادة في الصلاة في قراءة القرآن فإنك تحتاج إلى هذه العبادة في زمن الشدة فربما كتب الله لك خلاصا وفرجا في الشدة بعبادة قمت بها في وقت الرخاء وفي وقت السعة وشاهد ذلك في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة ما الذي أنجاهم ؟ عبادتهم وإخلاصهم في زمن الرخاء . لما كانوا مجتهدين مخلصين في زمن الرخاء كتب الله لهم فرجا في وقت الشدة .
( يعرفك في الشدة) الله يعرف خلقه وهو عالم بهم والعلماء يقولون : لا تضاف إلى الله المعرفة لأن المعرفة مسبوقة بجهل بخلاف العلم فيقال : الله عالم ولا يقال :الله عارف لأن المعرفة مسبوقة بجهل . لكن التي في الحديث ( يعرفك في الشدة ) هذه معرفة خاصة يراد بها التوفيق والنصر وما أشبه ذلك . وأما المعرفة التي هي إدراك الشيء فإن هذه منتفية ولا تنسب إلى الله عز وجل .
( أعلم أن ما أخطأك ) من قدر الله عز وجل فإنه لا يمكن أن يصيبك لأن الله ما قدره .(1/70)
وقد تقول : هل تقدير الله الله يخطئ . لقوله أعلم أن ما أخطأك ليس المراد هذا فإن الله عز وجل عنده كل شيء بمقدار ولكن معنى ( ما أخطأك ) المعنى ما تعداك ولم يقع عليك فإن هذا لم يكن ليصيبك ، فإذا المرض أصيب به فلان فإنه لا يمكن أن يصيبك لأنه تركك بتقدير الله عز وجل ، فما تعداك إلى غيرك فإن هذا لا يمكن أن يصيبك لأن الله لم يقدره عليك وإلا فلا يقال هناك خطأ في تقدير الله ، كذلك ما أصابك ونزل بك لم يكن ليخطئك يعني لم يكن ليتعداك إلى غيرك لأن الله تعالى قدره عليك .
(أعلم أن النصر مع الصبر ) النصر الذي هو الغلبة على الأعداء والغلبة على النفس والغلبة على كل شيء يحتاج فيه إلى غلبة أن هذه مع الصبر .
إذا انتظر النصر بأي شيء ؟ بالصبر . اصبر على الشيء الذي أنت فيه فإن الله سينصرك ، فالغلبة على الأعداء تكون بالصبر والاحتساب والثبات ثم يأتي النصر من الله عز وجل .
الغلبة على النفس التي تأمرك بالكسل وتدعوك إلى عدم التكلف هذه اصبر وجاهد نفسك ثم إن الله ينصرك . الغلبة على ترك المعاصي والوقوع في الآثام بأي شيء تكون ؟ بالصبر . اصبر على ترك المعاصي واحتسب والله تعالى ينصرك .
( وأن الفرج مع الكرب ) فرج الله وتنفيسه مع الكرب الذي هو الضيق والشدة ، فليس هناك فرج إلا بعد الكرب ، لولا الكروب لما عرفنا الفرج .
( وأن مع العسر يسرا ) فإذا تعسرت الأمور فإنها سوف يعقبها يسر من الله عز وجل كما قال تعالى : ( إن مع العسر يسرا ) .
والمقصود بهذه الجمل الثلاث ( أعلم أن النصر مع الصبر ..) أن الإنسان يثبت على هذا الدين وعلى هذا الالتزام فلا يكون مستعجلا للنتائج فإنه ما من صبرا إلا ومعه نصر وما من كرب إلا ومعه فرج وما من عسر إلا ومعه يسر ،هذا في كل شيء ،في كل أمور الدنيا بناه الله عز وجل على ذلك ، فكذلك ما يعتري طالب العلم من الملل والسآمة . فنقول : اصبر فإن العلم مع الصبر والتحصيل إنما تكون مع العسر ومع الاحتساب.(1/71)
والحاصل أن هذه كما تلاحظ جمل عظيمة أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه ابن عباس وهي وصية لكل الأمة حري بالإنسان أن يتعاهد دراسة هذه الوصية حتى يستفيد بهدي النبي صلى الله عليه وسلم حول هذه الجمل الجامعة النافعة .
نسأل الله سبحانه أن ينفعنا بهدي نبيه إنه على كل شيء قدير . ا .هـ
الحديث العشرون
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت" .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:3483].
ابن مسعود عقية بن عمرو الأنصاري نسبة إلى الأنصار الذين ناصروا النبي صلى الله عليه وسلم . البدري محتملة إلى أن تكون نسبة إلى الغزوة المشهورة المعروفة غزوة بدر ، ويحتمل أن تكون نسبة إلى المكان وإن لم يكن هذا الرجل ممن شهد الغزوة المباركة ، والمرجح عند أهل الحديث هو المعنى الثاني أن البدري نسبة إلى المكان المعروف ببدر وهو مكان إلى الآن معروف هي بلدة قائمة كبيرة تسمى بدر فهو منسوب إلى هذه البلدة وإلا فهو ليس من البدريين ممن شهدوا الغزوة والمرجح هو هذا وأيا كان فهو صحابي والصحبة منزلة عظيمة ثم قال فيما يرون عن النبي صلى الله عليه وسلم .
( إن مما أدرك الناس من كلام .......) في هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا أدركه الناس من كلام النبوة الأولى ، ومعنى من كلام النبوة الأولى يعني من كلام الأنبياء السابقين ، فإن الأنبياء لهم كلام فيما قالوا لقومهم وفيما أوصاه الله تعالى إليهم ولكن الأصل فيما كان في النبوة الأولى أنه منسوخ وفيما أتى في شرعنا كفاية وزيادة ولكن بقي كلام من النبوة الأولى لا بأس بأن نستفيد منه وأن نأخذه لحسن معناه وكمال ما فيه ومن ذلك ما ذكر في الحديث .(1/72)
( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) هذه الجملة نقلها لنا النبي صلى الله عليه وسلم مقرا إياها ونقلها لكي نستفيد من النبوة السابقة فهي إذا جملة صحيحة والسبب أن الشارع أقرها .
أما معنى ( إن مما أدرك الناس ..) يعني إذا لم يكن في نفسك حياء من الناس وقبل ذلك من الله عز وجل فإنك تصنع ما شئت .
(فاصنع ما شئت ) هذا وإن كان أمرا لكنه يراد به التهديد على حد قوله تعالى :
( اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير )فإن هذا الأمر لا يراد به الوجوب بل ولا يراد به الإباحة إنما يراد به التهديد . فالمعنى إذا نزع الحياء منك فاصنع ما شئت البس ما شئت وكل ما شئت وتكلم ما شئت ... هذا معنى الحديث .
إذا الذي يكون حاجزا عند الإنسان هو الحياء فإذا فقد الحياء فإنه يفعل ما شاء ولا يبالي أفي حلال هو أو في حرام . هذا هو المعنى المتبادر من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا لم تستح ......) إذا هذه الجملة على نظير قولك لمن تخاطبه إذا لم تخش عقوبتي فلا تحضر فقولك (فلا تحضر ) هل هو نهي على بابه أبدا ؟ هذا يراد به التهديد . أو تقول : إذا لم تخش عقابي فاحضر هذا ليس أمرا على بابه لكنه أمر يراد به التهديد والوعيد
فالخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن الحياء مانع لصاحبه من الوقوع فيما لا ينبغي وأنه إذا لم يستحي فإنه يصنع ما شاء ولا يبالي بأحد .
وهذا يراد به كما قلنا لك التهديد والوعيد هذا هو المعنى المتبادر من الحديث .(1/73)
بقي أن تعرف أن هناك احتمال آخر في معنى الحديث أن معنى الجملة أن الشيء إذا كان لا يستحيا منه فاصنعه يعني أنك لا تتردد في الشيء فإذا كان هذا الفعل مما لا يستحيا منه والناس لا يعيبونك إذا صنعته ولا حرج عليك هذا هو المعنى الثاني ، لكن على هذا القول يصح قوله فاصنع ما شئت للتهديد ؟ لا إنما للأمر أو للإباحة فالمعنى الثاني يقول انظر فيما تريد أن تفعل أو تتكلم فإن كان هذا مما لا يستحيا منه فنقول : مباح لا تشق على نفسك .
فإذا قال الإنسان أريد أن ألبس ثوبا صفته كذا وكذا فنقول إذا كان لا يستحيا من لبسه عند الرجال فإنه مباح لك البس لأن هذا لا يستحيا منه .
إنسان آخر يتجنى على الناس بلسانه بالغيبة يتكلم على العلماء والأمراء فنقول في حق هذا : إذا لم تستح فاصنع ما شئت يعني إذا كنت لا تستحي من الله عز وجل وليس في قلبك تعظيم للغيبة فاصنع ما شئت ليس المعنى أنك تبيح له لكنك تتهدده وتتوعده في قولك فاصنع ما شئت وكلا الاحتمالين صحيح . ا . هـ
الحديث الحادي والعشرون
عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَقِيلَ: أَبِي عَمْرَةَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ: "قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَك؛ قَالَ: قُلْ: آمَنْت بِاَللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:38].
اختلف في كنيته هل هو أبو عمرو أم أبو عمرة .
(قل لي في الإسلام قولا ...) المعنى أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له قولا جامعا لا أحتاج بعده أن أذهب وأسأل فطلب قولا يكون مغنيا له .
( قل آمنت بالله ... ) هذا يتعلق بالقلب فآمن بقلبك ثم استقم بفعلك وجوارحك .
فالنبي صلى الله عليه وسلم اختصر ما يتعلق في الجواب عليه من أعمال القلوب فقال :
( قل آمنت بالله ) ثم ما يتعلق بالجوارح وذلك بالاستقامة .(1/74)
ما معنى قوله : ( ثم استقم ) ؟ الاستقامة هي الاعتدال ، ومعنى قوله : ( استقم ) يعني اعتدل في أمرك الله عز وجل وهاته على وجهه الصحيح فإذا كنت على ذلك فأنت مستقيم معتدل على ما أراد الله عز وجل تفعل ما أمر بفعله ، وقد أثنى الله في كتابه في أكثر من موضع على المستقيمين ومنها ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ..... ) .
قوله هنا :( ثم استقم ) يجب أن تربط بقوله تعالى : ( فاستقم كما أمرت ) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله له ذلك لأن الاستقامة قد تكون على ما يريده الناس وقد تكون استقامة على ما تريده النفس فهذه لا تعتبر استقامة شرعية . فالاستقامة الشرعية هي التي تكون على ما يريده الله عز وجل .
فالناس مثلا يرون المستقيم هو الذي يجاريهم في جلساتهم في خروجهم في دخولهم وإن وقعوا في بعض المخالفات فهذا هو المستقيم .
النفس كذلك ترى الاستقامة أن تحقق رغباتها وتعطيها طلباتها وإن كانت مخالفة للشرع .
لكن الاستقامة التي تعتبر في الشرع ما قاله الله عز وجل ( فاستقم كما أمرت ) ليس لهؤلاء ولا لهؤلاء ، وقد نبه شيخنا رحمه الله في شرحه للأربعين على استبدال كثير من الناس كلمة الاستقامة بكلمة الالتزام وكلمة المستقيم بكلمة الملتزم ، وقال المستقيم هي الكلمة الصحيحة الشرعية التي لها دلالة مقبولة ، أما الملتزم فهي كلمة حديثة أحدثها الناس والبقاء على ما عبر به أولى وأحرى فهو تنبيه في محله من الشيخ رحمه الله تعالى . ا . هـ
الحديث الثاني والعشرون(1/75)
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَرَأَيْت إذَا صَلَّيْت الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْت رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ، وَحَرَّمْت الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا؛ أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:15].
أربع جمل ‘ قال: ولم أزد على ذلك شيئا أأدخل الجنة قال : نعم .(1/76)
قوله في بداية الحديث ( أن رجلا سأل .. ) لم يبين هذا الرجل ، وبيان الرجل في مثل هذا لا يترتب عليه حكم . وهذه الصيغة ( رجل) تعرف عند المحدثين بصيغة الإبهام يعني أن هناك شخصا أو رجلا مبهما . من هذا المبهم ؟ كما قلت لك لا يترتب عليه فائدة ، ولكن جرت عادة كثير من المحدثين أن يشتغلوا في تتبع هؤلاء المبهمين سواء في القرآن أو في السنة وربما ألفوا فيه بعض المؤلفات في الأعلام المبهمين ، وصاروا يبحثون من هذا الرجل الذي دخل ومن هذا الرجل الذي يسأل ؟ وفي القرآن ( وجاء رجل من أقصى المدينة ) وعلى هذا الرجل ، وهذا في الحقيقة أن كان شيء ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمن عنده خبر من الصحابة فلا بأس به وأما الظنون والأقوال التي ربما يكون بعضها من بني إسرائيل فلا يليق أن الإنسان يشتغل بها فهذه قد تكون أحيانا مضيعة للوقت على حساب العلم الشرعي النافع ، فمثلا يأتي بعضهم إلى بعض أصحاب الكهف ويبحث عن أسماء أصحاب الكهف . ما أسمائهم وما أسماء أبائهم بل بالغ بعضهم فذهب يبحث عن اسم الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف وهو موجود ومسطر في الكتب بل بعضهم ذهب يبحث ويحقق في لون كلب أصحاب الكهف . ما لونه ! فيه خلاف ونقولات في هذا ! ومن طريف ما يذر في هذا أن رجلا سأل مقاتل بن سليمان المفسر فقال : سألني رجل عن لون كلب أصحاب الكهف فلم أجد جوابا . فما الجواب ؟ فقال مقاتل : قل له أبقع فلن تجد أحدا يرد عليك . هذا صحيح لو قال أبقع هل يمكن أن يأتي إنسان ويقول أخطأت ؟ ما من أحد يرد عليك .
بل قد يفتر بعض السفهاء فيقول إن عندك علما بلون كلب أصحاب الكهف . على كل حال القصة فيها ما فيها من حيث يقول له قل كذا بلا علم فيها نظر لكنها طريفة من حيث الجملة .
( صليت المكتوبات ) يعني الصلوات الخمس التي أوجبها الله على عباده .
( وصمت رمضان ) وهو الشهر الذي أوجبه الله على عباده .(1/77)
( وأحللت الحلال ) الذي لم يرد فيه تحريم فإنه يحله ، يعني يفعله معتقدا حله كما قال النووي في شرح هذه الجملة فيأتي إلى الطعام الذي لم يرد فيه تحريم يأكله معتقدا حله ، اللباس الذي لم يرد فيه تحريم كذلك المعاملة ، البيع ، ما أسبه ذلك الذي لم يرد فيه تحريم فإنه يفعله معتقدا حله .
( وحرمت الحرام )يعني امتنعت عن الحرام ولم أقع فيه فهو ذكر مثالين لما يفعل على وجه الإجمال صلاة وصيام ، وأيضا ذكر ( تحليل الحلال ، وتحريم الحرام )
( ولم أزد على ذلك شيئا ) يعني ليس عنده اشتغال بنوافل العبادات ومزيد من الطاعات هل يدخل الجنة ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم .
إذاً الجنة تدرك بهذه الأعمال : تدرك بالصلاة وبالصيام وإحلال الحلال وتحريم الحام لكب هذه أيضا وإن كانت يسيرة في الظاهر لكنها صعبة تحتاج إلى معونة الله عز وجل فمن الذي يصلي الصلوات المكتوبة على أتم وجه ويصوم رمضان على أتم وجه ، ويحل الحلال ، ويحرم الحرام على ما أراده الله ورسوله . من هذا ؟ قليل من الناس من يوفق لهذا ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يخاطر بنفسه فيترك النوافل بحجة أن النوافل ليست شرطا في دخول الجنة . فنقول هي كذلك ولكنك تحتاج النوافل إلى تكميل الفرائض وتقوية إيمانك وإلى إصلاح قلبك وما أسبه ذلك . فإياك أن يتلاعب بك الهوى وتقتصر على الفرائض فقط .(1/78)
فنقول هذا الواجب ولكن من يضمن لك أنك تأتي بالواجب فتعرض نفسك للنقص من حيث لا تشعر . إذا هذا ما دل عليه الحديث من هذه المسألة المذكورة ، ودل هذا الحديث أيضا على فائدة عامة وهي حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم رأى من هذا الشخص أنه لا يحب التكلف ولا يحب التزود فلذلك قال له نعم وإلا فإنه يدل على الخير ويرغب فيه ، ولكنه أيضا كان حكيما في جوابه فلما أحس من هذا الرجل الاقتصار على بعض الأعمال أقره عليها ولم يزد عليه لما قلت لك .أنه أحس من نفسه الاكتفاء وعدم الرغبة في الخير يعني في التزود منه وإلا فهو صحابي راغب في الخير .
فالحاصل : أن هذه فائدة ينبغي أن تراعيها ألا وهي في إجابة من تجيب من السائلين وأنك تراعي حاله من الهمة في الخير أو عدمها فتجيبه بما يناسب حاله حتى لا يكون عنده نفور عن طاعة الله عز وجل .
نسأل الله سبحانه أن ينفعنا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم . ا . هـ
الحديث الثالث والعشرون
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ -أَوْ: تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَك أَوْ عَلَيْك، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:223].(1/79)
الطهور يقرأ بالضم لأنك إذا قلت الطهور بالفتح فإن المعنى يتغير تغيرا كثيرا ، والمراد به هنا فعل التطهر يعني التطهر شطر الإيمان وأما إذا قلت الطهور بالفتح فإنه ما يتطهر به من ماء أو تراب وليس هذا المراد بالحديث ، بل المراد بالطهور يعني بذلك التطهر . فالتطهر شطر الإيمان.
لكن ما المعني بالتطهر الحسي :هو أن الإنسان يتطهر من النجاسات والأقذار ونحوها ، أما التطهر المعنوي فهو تطهر القلب من الشرك ومادونه مما لا يرضاه الله عز وجل .
فأقول الطهور يشمل النوعين : الحسي والمعنوي . فالطهارة بشقيها الحسي والمعنوي هذه شطر الإيمان يعني بذلك نصف الإيمان فهذه منزلتها في الدين منزلة عظيمة وهي أنها نصف الإيمان . إذا الإيمان منقسم إلى قسمين :
النصف الأول : الطهارة ( الطهور شطر الإيمان) .
النصف الثاني : العمل الصالح . فهو شق عملي وذلك بالأعمال على اختلاف درجاتها .
وأما الشق الأول فهو الطهور فهو ترك وتخلي عما لا يريده الله عز وجل سواء بالطهارة الحسية أو المعنوية . والحاصل : أن هذه الجملة ( الطهور شطر الإيمان ) بينت لك أن الإيمان مكون من شطرين : شطر بالتخلي وهذا بالتطهر ، وشطر آخر بالعمل ونسميه بالتحلي حتى يمكننا أن نقول: أن الإيمان تخلي وتحلي .
فهذه الجملة بينت لك منزلة الطهارة وبينت لك أن دين الإسلام دين الطهارة وهي النظافة والنزاهة بخلاف غيره من الديانات او من المذاهب التي اخترعها أصحابها فإنهم قد لا يعتنون بالطهارة ولا يعتنون بالنظافة الإنسان يخرج إلى الناس في أقذر حال وأسوأ صورة ويرون أن هذا تدينا يتدينون به لله عز وجل . فليس كذلك بل ديننا بعكس هذا تماما ديننا دين طهارة والأدلة على هذا كثيرة ، ومن أظهر الأدلة :
1/ أن المسلم يتوضأ في كل يوم ما لا يقل عن خمس مرات في الغالب .
2/ أمر الله عز وجل عباده وأمر بني آدم إذا أتوا إلى المسجد أن يأخذوا زينتهم بقوله:( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )(1/80)
3/ وكان النبي صلى الله عليه وسلم عنده حلة يلبسها للوفود وللجمعة إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على هذا المعنى وهو أن ديننا دين الطهارة ودين النظافة .
( الحمد لله ) هذه الجملة العظيمة تملأ الميزان . أي ميزان ؟ ميزان العبد الذي توزن به أعماله فإذا أتيت بهذه الكلمة فإنها من كثرتها ومن بركتها أنها تملأ الميزان ، فهذه الكلمة قليلة في نظرك لكنها كبيرة ومباركة في ميزان الله عز وجل ولذلك تملأ ميزانك يوم القيامة مع خفتها على لسانك وقلتها في لفظك فما معنى قولك : الحمد لله ؟ معناها وصف الله عز وجل بالكمال فإذا قلت : الحمد لله يعني أنك تصف الله عز وجل بالكمال الذي يليق به .
( وسبحان الله والحمد لله تملأن أو تملأ ما بين السماء والأرض ) هاتان الجملتان قال النبي صلى الله عليه وسلم تملأن أو تملأ . (أو ) هنا للشك شك من الراوي هل قال الكلمة الأولى أو قال الثانية . لكن كما تلاحظ ليس بينهما فرق كبير لكن الرواة رحمهم الله كانوا حريصين على نقل ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم . كيف تملأ ؟ نقول : نعم تملأ لأن هاتين الجملتين الله قادر على أن يجعلهما أعيانا وأجراما بحيث لو فردت لكانت مالئتا ما بين السماء والأرض . والمراد بهذا تعظيم شأن هاتين الكلمتين وأن لهما من التعظيم والاهتمام ما لو كانت أجراما وبسطت فإنها تملأ ما بين السماء والأرض وأنت تعرف أن ما بين السماء والأرض أنها مسافة هائلة جدا وعظيمة .
( سبحان الله ) معناها التنزيه لله عز وجل فينزه الإنسان ربه عز وجل عن كل نقص أيا كان سواء كان نقصا يلحق ذاته عز وجل أو نقصا يلحق صفاته فالله منزه تنزيها تاما عن أي نقص يكون.
( والصلاة نور ) صلاة العبد نور له . أين يكون هذا النور ؟ يكون نور في أشياء كثيرة :(1/81)
1/ هي نور له في الدنيا بحيث تنير قلبه وتنير وجهه ويصبح المصلي متميزا عن غير المصلي من نور الوجه وكذلك النور القلبي فإن قلت هل معنى هذا أن قلبه يشع وأن وجهه يشع كما يشع الشيء الذي يشتعل ؟ نقول : ليس بلازم هذا ولكن النور يرى وقد لا يراه كل أحد إنما يراه من كان مستنير البصيرة فيرى هذا النور في غيره ممن كان محافظا على الصلاة .
2/ كذلك نور في القبر بفضل هذه الصلاة التي يصليها .
3/ كذلك نور في القيامة وفي عرصاتها وفي الانتقالات التي ينتقل بها الناس تكون هذه الصلاة نورا لهم فالحاصل أن الصلاة خير عظيم وهي نور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
إذا حريا بالمسلم أن يأخذ من هذا النور الذي يكون في الصلاة بالمحافظة عليها والاشتغال بها وكذلك بالاشتغال بما يكون وسيلة لها من طهارة وتبكير وما أشبه ذلك .
والحديث عام في صلاة الفريضة والنافلة ولكنه في الفريضة أكد وأولى .
( والصدقة برهان ) الصدقة وهي بذل ما يتصدق به سواء كان من مال أو غيره .
( برهان ) يعني دليل . دليل على إيمان هذا العبد وصدق توكله على الله عز وجل . كيف ذلك ؟ هو أن الإنسان يشتغل بجمع المال وبتحصيله ثم يذهب بمناسبة وبغير مناسبة ويعطيه مسكينا . أليس هذا دليلا على إيمان وصدق توكله على الله عز وجل ؟ بلى لولا إيمانه أن الله سيتقبل صدقته وأن الله يخلف ما تصدق به لما بذله . فالمقصود أن الصدقة برهان على إيمان صاحبها ودليل عليه ، والصدقة هنا شاملة للفريضة والنافلة فإنها داخلة في الحديث .
فإن قلت أليست الصلاة أيضا برهان على الإيمان ؟
بلى هي برهان لكن لا يلزم إذا وصف شيء بوصف ألا يكون هذا الوصف موجودا في غيره.
فالصلاة برهان وكذلك سائر الأعمال برهان ودليل على الإيمان ولكن الصدقة أوضح في الدلالة في أنها برهان من غيرها .
هذه قاعدة نستفيدها في هذا وفي غيره وهي أن وصف الشيء بوصف لا يعني انتفاءه عن غيره(1/82)
( والصبر ضياء ) الصبر هو حبس النفس . يكون ضياء . فما الفرق بين الضياء والنور ؟ الجواب ننظر في الشيء الذي ينير والشيء الذي يضيء الله قال عن الشمس والقمر : (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) وأنت إذا نظرت إلى الشمس وإلى القمر لوجدت أن الشمس تشع بنفسها والقمر يعكس هذا الإشعاع .إذا كان الشيء يشع بنفسه فإنه يكون ضياء ، وإذا الشيء يعكس ما يقع عليه فإنه يكون نور فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الصبر ضياء ) يعني يشع هذا النور الذي ينير درب الإنسان . ولكن لتعلم أن هناك فرقا بين النور والضياء علاوة على ما سبق فالضياء فيه شيء من الحرارة بخلاف النور فإنه قد لا يكون كذلك . فلذلك عبر في الصبر بضياء لأنه فيه حرارة وكلفة وفيه شدة ومعالجة فقال عن الصبر ضياء . اما الصلاة فإنه ليست كذلك لا يجد فيها الحرارة بل قد يجد ضدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) فالمقصود أن وصف الصبر بالضياء مناسب لما فيه من الحرارة وهو الكلفة والشدة التي يجدها الصابر .
ثم ما المراد بالصبر هنا ؟ صبر على طاعة الله ، وصبر عن معصيته ، وصبر على أقداره المؤلمة . أنواع ثلاثة فأي الأنواع المراد هنا ؟ كلها . الصبر على طاعة الله ضياء ، وعن معصيته ضياء ، وعلى أقداره ضياء . فإذا قلت أي أنواع الصبر الثلاثة أفضل ؟ أفضلها على طاعة الله ثم عن معصيته ثم على أقداره المؤلمة . ولكن لتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( الصبر ضياء ) وعرفت أنواعه الثلاثة وعرفت أفضلها أن هذا من حيث الأصل لكن ربما يكون الصبر عن معصية الله على بعض الناس أشق من الصبر على طاعته وربما يكون الصبر على أقدار الله المؤلمة عند بعض الناس أشق من الصبر على طاعة الله أو عن معصيته . فإذا كان هناك إنسان يتيسر له أسباب الفاحشة فانعدم الرقيب عليه ولم يكن هناك أي مانع إلا أن يواقع الفاحشة .(1/83)
فهذا لا شك أنه يعاني الآن صبرا عن معصية الله فالصبر عن معصية الله في هذا المثال أشق عليه من الصبر على طاعة الله فنقول الصبر عن معصية الله في هذه الحالة أفضل بالنسبة لك أنت لأنك سوف تتعب وسوف تجاهد نفسك على ترك هذه لمعصية .
الخلاصة : أن الصبر أنواعه ثلاثة وأن أفضلها أعلاها لكن قد يكون الصبر على النوع الثاني أو الثالث أفضل عند بعض الناس من الصبر الأول .
( القرآن حجة لك أو عليك ) القرآن الذي هو كلام الله عز وجل هذا حجة لك يعني شاهد لك يوم القيامة أو شاهد عليك . متى يكون لك ومتى يكون عليك ؟
يكون لك إذا كنت قائما بحق القرآن تلاوة وعملا ، وإذا لم تقم به تلاوة ولا عملا فإنه يكون حجة عليك ، ولذلك جاء في بعض الآثار رب حامل للقرآن والقرآن يلعنه لأنه لم يمتثل بما في القرآن مثلا ( ألا لعنة الله على الظالمين ) وهو من الظالمين . إذا هو حمل ما يلعنه وما أشبه ذلك. والمقصود أن الإنسان ليس معه مع القرآن إلا أحد طريقتين: إما أن يكون حجة له . متى هذا ؟ إذا قام بتلاوته والعمل به ، وإما أن يكون حجة عليك إذا كان بضد ذلك .
هل يوجد من الناس من يكون له ولا عليه ؟ أبدا . القرآن إما لك أو عليك حتى الإنسان العامي الذي لا يقرأ فالقرآن حجة له إذا كان ممتثلا هذا الشرع مطبقا لما في القرآن ، أو حجة عليه إذا كان بعكس ذلك .
ثم قال صلى الله عليه وسلم هذه الجملة الرائعة في معناها وفي لفظها قال : ( كل الناس يغدو) الكبير والصغير الشريف والوضيع كلهم يغدون في هذه الدنيا لكنهم ينقسمون إلى قسمين :
( بائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) .
فمعنى ( يغدو ) يذهب في هذه الدنيا ثم في النهاية ينقسمون إلى قسمين :
من يبيع نفسه فيعتقها من عذاب الله عز وجل . كيف يعتق نفسه من عذاب الله ؟ بفعل أوامره وترك نواهيه فإذا فعل أوامر الله وترك نواهيه فقد أعتق نفسه من النار .(1/84)
وعكسه الذي يوبقها يعني يهلكها . بأي شيء ؟ بعدم فعل الأوامر والوقوع في النهي .
فهذان قسمان لا ثالث لهما .
فإذاً الناس في هذه الدنيا فغنهم ينقسمون إلى من يعتق نفسه وهو الذي يحملها على طاعة الله عز وجل ، أو الذي يهلكها إذا أوقعها فيما حرم الله عز وجل . فانظر يا أخي حينما تخرج من بيتك صباحا لتنظر من أي النوعين ستجعل نفسك . هل أنت ممن يعتق النفس ويشتريها من عذاب الله عز وجل أو من الصنف الثاني الذي يهلكها حينما يتخبط في معاصي الله عز وجل ؟ فقسم النبي صلى الله عليه وسلم تقسيم حاصر ليس هناك قسم ثالث غما أن تعتق فتفتك من عذاب الله ، وإما ان توبق فتهلك نفسك في عذاب الله عز وجل .
إذا الحديث كما تلاحظ كل جملة تستحق أن تجعل في طريق الإنسان ينظر إليها كل وقت ، كل جملة منيرة تعطيك دليلا وهاديا لك في هذه الحياة ،وكل جملة أيضا تحتمل من الكلام والشرح والإيضاح أضعاف ما قلنا لأنها تتضمن أصولا وجوامع تجمع لك أشياء كثيرة لكن هذه إشارات نسأل الله سبحانه أن ينفع بها . ا . هـ
الحديث الرابع والعشرون(1/85)
عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي: إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي! إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي! إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:2577].(1/86)
هذا الحديث فريد من نوعه بالنسبة للأحاديث السابقة لأن الأحاديث السابقة كلها أحاديث نبوية يقولها النبي صلى الله عليه وسلم من عنده ، أما هذا فإنه يرويه عن ربه كما قال الراوي ولذلك اصطلح العلماء على أن يسموا هذا النوع من الأحاديث ( أحاديث قدسية ) نسبة إلى التقديس والقداس وهو وصف من أوصاف الله عز وجل وبعضهم يسميه ( أحاديث إلهية ) نسبة إلى الإله عز وجل ، هذه الأحاديث يرويها النبي صلى الله عليه وسلم عن الله فهل لفظها من الله أم لفظها من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فالجمهور على أن لفظها من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما معناها فإنه من الله عز وجل أوحاها إلى نبيه ثم عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بما عبر به .
ثم العلماء تكلموا رحمهم الله عن الفرق بين الحديث القدسي والقرآن هل بينهما فرق؟
لا شك أن بينهما فرق . القرآن من الله ولذلك له أحكام تخصه : فلا يمسه إلا طاهر ولا يقرأه جنب وما أشبه ذلك ، أما الحديث القدسي كما قلت ألفاظه من النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك الإنسان يمسه وهو غير طاهر ويقرأه الجنب وهل يصلي الإنسان بحديث قدسي ؟ الجواب: لا لأنه غير متعبد بتلاوته بخلاف القرآن الكريم ، وهناك فروق كثيرة بين هذا وهذا وهذه أهمها ، ثم لتعلم أن الغالب والكثير في الأحاديث القدسية أنها ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن صحت طائفة من الأحاديث القدسية.
( يا عبادي ) المنادي الله عز وجل .
( إني حرمت) هنا يخبر الله عز وجل أنه حرم الظلم ، ومعنى قوله: حرم يعني منع
الشيء المحرم معناه الممنوع كما قال عز وجل في قصة موسى: ( وحرمنا عليه المراضع ) يعني منعناه من المراضع .
فالله يقول : ( إني حرمت الظلم ) وما هو الظلم ؟ الظلم وضع الشيء في غير موضعه فالله حرمه على نفسه فلا يمكن أن يظلم ربنا أحدا ( وما ربك بظلام للعبيد )(1/87)
(وجعلته بينكم محرما ) أي جعله بين عباده . تحريم الظلم نفسه أمر تقرر . أيضا حرمه الله على عباده فلا يحق لأحد أن يظلم أحدا ، ثم لتعلم أيضا أن الظلم من الذنوب التي سنة الله فيها ألا يؤخر عقابها يعني أن سنة الله عز وجل أن يعاقب الظالم في الدنيا قبل الآخرة هذه هي السنة في ذلك التي دلت عليها أمور كثيرة ، فالظالم يعاقب لكن عقوبته تكون عاجلة بخلاف غيرها من الذنوب كالكذب مثلا والغيبة وما أشبه ذلك فربما يفلت في هذه الدنيا ومعنى يفلت أن الله يتركه لكن الظلم ليس كذلك ، بل الظلم سنة الله أن يعاقب عليها في الدنيا ، لكن قد يكون عقابه بالكلية وقد يكون العقاب لبعض ويبقى بعض يعاقب عليه في الآخرة
إذا ليحذر كل إنسان أن يظلم أحدا سواء مظلمة مالية أو عرضيه أو دموية فإن هذا محرم.
(يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته ) كلكم ضال وهذا عام كل أحد في هذه الدنيا ضال كما قال الله عز وجل عن نبيه : ( ووجدك ضالا فهدى ) لكن نستهدي الله عز وجل
ومعنى قوله : ( فاستهدوني )يعني اطلبوا هدايتي ، ( أهدكم ) أي الهدايتين ؟ يشمل هداية الدلالة والإرشاد وكذلك هداية التوفيق وهي العمل بما دل عليه الدليل .
( كلكم جائع ) الكل جائع ليس عنده ما يسد جوعه إلا من هيأ الله له طعاما يطعمه .
( استطعموني ) وكذلك ما بعدها وما قبلها يعني اطلبوا هذا الشيء مني فالسين والتاء معناها الطلب .
( كلكم عار إلا من كسوته ) فالإنسان عار ليس عنده ما يستر به بدنه لكن يسأل الله سبحانه وتعالى الكساء .
( فاستكسوني ) يعني اطلبوا الكساء . والعري هنا هل هو حسي أو معنوي ؟ الجواب أنه يشمل الحسي والمعنوي . الحسي بحيث ليس عنده ما يستر سوءته وكذلك المعنوي بحيث يكون الإنسان عار من ستر الله عز وجل ترى عيوبه الباطنة ويرى نقصه ويرى ذنبه لكن يسأل الله أن يستره فقال : فاستكسوني أكسكم .(1/88)
( يا عبادي إنكم تخطئون ..) هذا باب فتحه الله للمخطئين سواء كثرت خطاياهم أو قلت فما على هؤلاء المخطئين إلا أن يستغفروا الله تعالى لأنه لا غافر للذنوب إلا الله قال تعالى : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) فهذه الجملة فيها فتح باب الرجاء وباب التوبة لمن أخطأ بالليل والنهار ، وقوله : ( تخطئون بالليل والنهار ) إشارة إلى كثرة خطاياهم لأنها تقع في الليل والنهار ومعلوم أن الزمن إما أن يكون نهارا أو يكون ليلا فدل هذا على كثرتها حيث لم يخلو الزمن من خطايا وليس لابن آدم وقت لا يعصي الله فيه بل كل وقت يعصي الله فيه حتى وهو نائم ربما عصى الله عز وجل في نومه . هل يمكن هذا ؟ يمكن ربما ينام عن واجب أليس كذلك؟ فإذا نام عن واجب فهو عاص لله في نومه ، ربما ينام في أرض مغصوبة أو في فراش مغصوب فيكون عاص في نومه.
( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ..) وهذا متقرر عند كل ذي عقل أنه مهما بلغ من عقل ومن قوة فإنه لا يمكن ان يبلغ أن يضر الله عز وجل ، ولن يبلغ أن ينفع الله عز وجل لأن الله تعالى غني عن خلقه . لكن هل يبلغ أن يؤذي الله عز وجل ؟(1/89)
نعم كما قال تعالى في الحديث الآخر (يؤذيني ابن آدم بسب الدهر وأنا الدهر ...) فأذية الله ممكنة كما دل عليه الحديث بل كما قال تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ...) فأثبت الله تعالى أنه قد يؤذيه بعض عباده . إذا ما الفرق بين الضرر والأذى ؟ فالضرر يكون فيه شيء من ال ... وفيه شيء من الوقوع لمن أراد أن يضره ، أما الأذى بخلاف ذلك أن تأتي بخلاف ما أريد منك فإذا أتيت بخلاف ما أريد منك فإنك تؤذي الآخر . توضيح هذا بمثل للتقريب فقط وإلا فإن الله تعالى فوق ذلك : لو أن إنسانا قلت له: تعال إلي بعد العصر فلم يأت بعد العصر . الآن هل ضرك ؟ لا لم يضرك أنت سليم معافى لكنه آذاك بحيث أنه لم يلتزم هذا الموعد الذي بينكما هذه أذية . إنسان آخر أتى إليك وكسر يدك ماذا فعل ضرك أم آذاك ؟ هذا ضرك لأنه ألحق بك نقصا فهذا هو الفرق بين الضرر والأذى .
مثال آخر : هذا إنسان في وقت الشتاء شعر ببرودة البرودة هذه هل ضرته أم آذته ؟ آذته لكن لو أن هذه البرودة زادت حتى أصيب بمرض نتيجة البرد فهذا تضرر من البرد لأنه لحقه مرض ، وأما مجرد الشعور بالبرودة فهذه أذية ليست ضررا .
على كل حال لا يمكن لأحد أن يضر الله وقد يؤذيه كما دل عليه الحديث .
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ) إذا لا تظن أنك بتقواك وطاعتك أن الله يستكثر بهذا أو يستفيد أبدا ما يمكنك أن تزيد في ملك الله عز وجل إنما تنفع نفسك .
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل واحد..) هذا بعكس الأول هذا على أجر قلب . فجر في قلبه ثم فجر بعمله لكنه لا يضر إلا نفسه لا ينقص من ملك الله شيئا .(1/90)
ثم قال : ( قاموا في صعيد واحد ..) يعني في مكان واحد اجتمع الناس والجن الأولون والآخرين اجتمعوا فسألوا الله كل يسأل مسألته هذا يسأل مالا وهذا يسأل ولدا وهذا يسأل علما وهذا يسأل زوجة ..لا حد لها ثم إن الله أعطى كل واحد مسألته التي يريدها هذا لا ينقص من ملك الله شيئا أبدا ، فملك الله واسع لا يمكن أن ينقصه سؤال السائلين وفي هذا حث على أن الإنسان يسأل الله عز وجل ويكثر من السؤال ويكثر بشدة ولا يقول أكثرت بشدة ولا يقول أكثرت على ربي .فنقول : أكثرت على ربك وربك أكثر من هذا وأعظم من هذا فأنت اسأل الله عز وجل كل ما تريد العلم والصحة والمال كل ما تريد اسأل ربك عز وجل والله تعالى يعطيك إن شاء ولا يمكن أن ينقص ذلك من ملك الله عز وجل وإياك أن يأتي إليك الشيطان فيقول كيف تسأل ربك هذا الشيء هذا الشيء بسيط لا تسأله اسأل الله عز وجل الشيء الكبير العظيم . فنقول تسأل ولو كان بسيطا حتى جاء في الحديث أن الإنسان يسأل ربه أن يصلح نعله إذا انقطع .
الإنسان إذا انقطع نعله إذا لم يتيسر لك سبيلا إلى إصلاح نعلك فإنه يبقى نعلك منقطعا فاسأل الله عز وجل أن يصلح نعلك وأن يهيأ لك ما يكون سببا في إصلاحه هذا هو الذي ينبغي لك في سؤال الله عز وجل . ثم بين صلى الله عليه وسلم مثالا واضحا في أن المسألة لا تنقص ملك الله .(1/91)
قال : ( ما ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر ) بين الله عز وجل أنه لا ينقص ملكه إلا كما ينقص المخيط والمخيط معروف هو الإبرة لكن تكون كبيرة نسبيا فهي تقريبا بحجم القلم لو أدخلت هذا المخيط في البحر ثم أخرجته أظن أن الذين في الجانب الثاني يشعرون بالنقص أليس كذلك ويقولون ما الذي حصل للبحر ؟ أبدا لا يشعرون بل لا يتغير إطلاقا فهذا المخيط الذي غمس ثم أخرج لم ينقص البحر شيئا كذلك سؤالات هؤلاء جميعا لم تنقص خزائن الله عز وجل وهذا مثال يراد به بيان سعة ملك الله عز وجل وسعة فضله وأنه لا أحد ينقص ما عند الله تعالى .
( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ..) فالله يحصيها كما قال تعالى : ( أحصاه الله ونسوه ) فيحصي الأعمال التي يعملها الإنسان منذ أن جرى عليه قلم التكليف إلى أن ينقطع تكليفه بموته فإن الله تعالى يحصي أعماله صغيرها وكبيرها .
ثم ( أوفيكم إياها ) يعني يوفيها الله عز وجل على العباد فمن وجد خيرا فليحمد الله الذي يسر له الخير وجعل أعماله خيرا ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه هو الذي فرط وهو الذي أهمل ولم يأخذ نفسه بالجد والاجتهاد فلا يلومن إلا نفسه وهذه الجملة الأخيرة أصبحت مثلا يقال يقولوها الناس في مناسباتهم من وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فهي جملة تداولها الناس على أنها مثل وأصلها هذا الحديث القدسي عن ربنا عز وجل .(1/92)
فالحاصل أن هذا حديث عظيم وحديث مؤثر لو أن الإنسان تأمله وتدبره . مؤثر لأن فيه المناجاة من الله عز وجل يا عبادي يا عبادي فالله ينادي عبده هذه المناجاة في هذه المواضيع التي خلاصتها افتقارك إلى الله عز وجل هذه كلها تدلك على هذا على افتقارك إلى الله عز وجل وقد شرح شيخ الإسلام هذا الحديث في لا بأس به مطبوع ومفرد وهو موجود في الفتاوى وذكر أشياء متعلقة في جمل هذا الحديث فمن أراد أن يقف عليه فليقرأ في الفتاوى أو في الجزء المفرد . نسأل الله أن ينفعنا بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم . ا .هـ
الحديث الخامس والعشرون
عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أَيْضًا، "أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:1006].
هذا الحديث في قصة هؤلاء النفر الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكون حالهم وهؤلاء النفر كما بينت الرواية الثانية وكما يعلم من سياق الحديث هم من الفقراء من فقراء الصحابة رضي الله عنهم .(1/93)
قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور . المراد بقولهم أهل الدثور يعني أهل الغنى الذين كثر مالهم فأهل الغنى ذهبوا بالأجور يعني بأجور الأعمال وثوابها .
ثم بينوا ذلك قالوا : يصلون كما نصلي فليس لنا فضل عليهم بالصلاة ، ويصومون كما نصوم أيضا ليس لهم فضل علينا بالصيام لكن الفضل في قولهم : ويتصدقون بفضول أموالهم فهذا محل الشكوى أنهم يتصدقون بفضول أموالهم .
ومعنى قولهم : فضول . يعني ما زاد لأن الفضل هو الشيء الزائد فهؤلاء يتصدقون بالزائد من أموالهم والمعنى أن هؤلاء الفقراء لا يتصدقون فهذا هو محل التفريق بين الصحابة الفقراء والصحابة أهل الدثور فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رفعت إليه هذه الشكوى أجابها وقال ما يطيب نفوس هؤلاء الفقراء فقال : ( أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ) وهذا الاستفهام يراد به التقرير لما قال ذلك كأنهم استغربوا وتعجبوا كيف لنا ما نتصدق به وهم فقراء ليس عندهم مال ، ثم بين لهم أن الصدقة أوسع مما تظنون وأعم مما في نفوسهم فالصدقة كما هو متوقع وفي الفهم الأول أن تكون في المال لكن النبي صلى الله عليه وسلم وسع دائرة الصدقة وعممها فقال : ( إن لكم بكل تسبيحة صدقة .. ) فإذا قال الإنسان سبحان الله فهذه صدقة واحدة وإذا قال الله أكبر فهذه صدقة .
فهذه الجمل التي تكون ذكرا لله عز وجل كل واحدة منها صدقة . تسبيح وتكبير وتحميد وتهليل ( أربع صدقات ) وكل هذا مما يذكر الله به لكن أضف أنها تكون صدقة عن قائلها .
( وأمر بالمعروف ) يعني وأن تأمر بالمعروف لمن يفعله هذه تكون صدقة فإذا قلت لإنسان يا فلان اتق الله هذا أمر بالتقوى أمر بالمعروف هذه صدقة ، وإذا قلت يا فلان صل مع الجماعة هذا أمر بالمعروف فيكون صدقة إلى غير ذلك من الأشياء الكثيرة كل هذه تكون صدقة عنك(1/94)
( نهي عن منكر ) فإذا رأيت ذا منكر وقلت يا فلان لا تترك كذا أو يا فلان أترك كذا فإنك الآن نهيته عن منكر فهذا النهي يكون صدقة . وجدته يشرب الدخان فقلت يا فلان لا تشرب الدخان هذا نهي عن منكر فيكون صدقة لك يا فلان لا تغتب الناس يا فلان لا تنظر الحرام كل هذا نهي عن منكر فيكون صدقة منك .
( وفي بضع أحدكم صدقة ) البضع هو الفرج . وكيف ذلك ؟ إذا أتى هذا البضع على وجه حلال بنكاح أو ملك يمين فإنه يكون صدقة .
قالوا : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ! هذا غريب كيف يقضي الإنسان شهوته ويحقق لذته ثم يكون له بذلك أجر . فالنبي صلى الله عليه وسلم أجابهم جوابا مقنعا
فقال : ( أرأيتم لو وضعها في حرام ) الضمير في وضعها مؤنث يعود على الشهوة وفرغها في حرام يعني في فرج لا يحل له . ( أكان عليه وزر ) يعني أثم . قال الصحابة : نعم كما في رواية أخرى . قال : ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ) فالنبي صلى الله عليه وسلم قاس هذه على هذه ولكن القياس هنا هل قياس مماثلة أو معاكسة ومخالفة ؟
وهنا فيه معاكسة دليل على قياس العكس . فكما أنك تأخذ الوزر في هذا فكذلك تأخذ الأجر في ضده الذي يكون مباحا أو مشروعا فالنبي صلى الله عليه وسلم قرب المسألة للصحابة وقال : إذا كان الواحد يحصل على الوزر إذا وضع الشهوة في الحرام فإنه يحصل على الأجر إذا وضعها في الحلال من باب المعاكسة على هذا الشيء . فالحديث واضح وفتوى النبي صلى الله عليه وسلم واضحة .(1/95)
وفيه فوائد كثيرة من أهمها : 1/ حرص الصحابة رضي الله عنهم على التسابق في الخير وهذا خلافا لحال كثير منا فإن الواحد منا قد لا يسابق إخوانه يرى إخوانه على حرص على صلاة على صدقة على طلب علم لكن لا يسابقهم على هذا كأن شيئا لم يكن ، أو كأن هؤلاء هم الذين طلب منهم العمل وهذا لا ينبغي بل الذي ينبغي أن الإنسان ينافس إخوانه على الخير وهذه المنافسة قد أمر الله بها في قوله : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) وقال : ( لمثل ذلك فليعمل العاملون )
والمقصود : أن الإنسان يربي نفسه على مسابقة إخوانه في الخير وعلى مزاحمتهم في مواطن الفضل هذا الذي ينبغي . بعض الناس يسلك مسلكا آخر مسلكا خطأ إذا وجد أصحاب الفضل وكان لا يستطيع أن يسابقهم يبدأ ينقص من فضلهم وينقص من الخير الذي هم عليه وفي ظنه أنه إذا نقصهم انهم ينزلون إليه فيكونون مساويين له وبالتالي لا يكلف نفسه بالصعود إليهم وهذا خطأ .
فإذا علم حرص أحد على طلب العلم فتجده ينقص من قدره وينقص من جهده حتى يصل إلى المستوى الذي هو عليه وبالتالي يكفي نفسه مؤنة الصعود والطلوع إليه وهذا عين الخطأ وعين الكسل وعين التخاذل الذي تمليه النفس الأمارة بالسوء ، فالإنسان واجب عليه أن يسابق في الخير فإذا لم يستطع أن يسابق فلا يجوز له أن يقلل من جهد الآخرين أو من نشاطهم أو يقلل من رغبتهم في الخير فتجده مثلا إذا قيل فلان يحفظ في القرآن وهو جاد فيه أو يحفظ في متن من المتون وهو جاد فيه يقول : لا بأس لكنه قد فرط في حفظه الأول يحفظ ولا يراجع أو هو مفرط في حضور الحلق العلمية . ماذا يريد بهذا ؟ يريد أن ينزل من قدره حتى يصل إلى حد يصعد إليه هو ما أقل يصعد بل يصل إلى حد يساوي نفسه معه بلا صعود ولا تعب فهذا خطأ وخطر وهو كما قلت من أسباب ومن أساليب الكسالى المتخاذلين مع أنفسهم .
إذاً : هذه الفائدة الأولى وهي حرص الصحابة والتنافس في الخير .(1/96)
2/ وفي الحديث أيضا أن الصدقة أمرها واسع خلافا لما يتبادر إلى الذهن فالصدقة أمرها واسع . التسبيح صدقة والتهليل صدقة والأمر بالمعروف صدقة إلى غيره مما ذكر في الحديث وما لم يذكر . لكن الصدقة على الإطلاق تنصرف إلى المال الخاص وهي الصدقة بالمال فلو قال إنسان والله لأتصدقن اليوم فإننا نصرفها أول ما نصرفها إلى المعنى الخاص فنقول عليك أن تتصدق بمال تبذله فلو قال إنه قال في الصباح وقال هذه صدقة . نقول هذه صدقة لكن الصدقة عند الإطلاق تنصرف إلى معناها الخاص الذي هو بذل المال.
3/ وفي الحديث استعمال ما يسمى بقياس العكس وقياس العكس أن يثبت الشيء بإثبات عكسه فهنا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الأجر في النفع بإثبات الوزر في البضع الآخر الحرام وهذه المسألة ( مسألة قياس العكس ) ثابتة . ا .هـ
الحديث السادس والعشرون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:2989]، وَمُسْلِمٌ [رقم:1009].(1/97)
(كل) صيغة عموم فيدخل فيها كل سلامى لايستثنى من ذلك شيء والمراد بقوله السلامى هي المفاصل في الإنسان فمفاصل الإنسان هي السلامى فإن قلت كم عددها قلنا أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعددها في حديث آخر أنها ثلاثمائة وستون مفصلا وإياك أن تعدها فإن عددتها تعبت في عدها لأنك لا تحصيها في نظرك لأنك قد تعد المفاصل الظاهرة : مفاصل اليد والرجل والقبة لكن يبقى مفاصل أخرى خفية فعدها ليس مستحيلا لكنه صعب لأنك لو عددتها قد تجدها ستون لكن نقول هناك مفاصل أخرى لم تعدها .
فهذه المفاصل عليها صدقة . وقوله ( عليه صدقة ) على عند أهل العلم في الأصول يقولون إن معناها ظاهره في الوجوب ليست نصا في الوجوب لكنها ظاهره إذا يجب عليك أن تتصدق عن كل مفصل من المفاصل هذه الصدقة ليس لها حول سنوي إنما حولها يومي .
قال : ( كل يوم..) فإنه قد حل عليك صدقة ووجب عليك أن تؤديها ثم هون النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تعدل بين اثنين صدقة ) يعني تقيم العدل بينهما هذا صدقة سواء كانت هذه الإقامة للعدل على وجه الإصلاح بحيث يختصمان ُم يصلح بينهما ، أو كان على وجه القضاء والحكم والإلزام . والفرق بينهما واضح .
فبين إنسانين خصومة ثم قلت يا فلان تغاض عن بعض حقك فأنت الآن عدلت بينهما بطريق الإصلاح . وأحيانا تعدل بينهما بطريق الحكومة أن تحكم فتقول أنت يا فلان لك كذا فلا تتعداه، وأنت يا فلان لك كذا فلا تتعداه فأنت الآن عدلت بينهما بطريق الحكومة والإلزام كل هذا داخل في الحديث سواء في طريق الإصلاح أو من طريق الحكومة .
طريق الإصلاح كل يفعله القاضي وغيره وأما طريق الحكومة فإنه لا يفعله إلا القاضي ومن كان في رتبته من ألياء الأمور .(1/98)
قال : ( وتعين الرجل ... ) أيضا هذا صدقة . هذا إنسان معه متاع يريد أن يضعه على راحلته فتأتي تحمل المتاع على الراحلة هذا صدقة منك أحيانا تحمل هذا الرجل على الراحلة لماذا تحمله لكونه ضعيفا أو صغيرا فتحمله حتى يركب راحلته فهذا منك صدقة على هذا الرجل .
( والكلمة الطيبة صدقة ) الكلمة الطيبة في ذاتها وفي مقصدها هذه تكون صدقة .
كيف تكون في ذاتها صدقة ؟ يعني ليس فيها لفظ سيء بل هي طيبة ( جزاك الله خيرا ، أحسن الله إليك وما أشبه ذلك ) وكذلك طيبة في مقصدها ( تنبيه : قد تكون الكلمة طيبة في ذاتها غير طيبة في مقصدها ) تكون لك نية سيئة في هذه الكلمة . انتبه لهذا .
الكلمة الطيبة في ذاتها وفي مقصدها تكون كلمة فيها رفق ولين وتكون نيتك بهذه الكلمة طيبة . كيف تكون الكلمة طيبة في ذاتها غير طيبة في مقصدها ؟ لو ذكر عندك إنسان في مجلس وأنه كذا وكذا من الصفات فقلت سامحه الله هذه الكلمة طيبة لكنها في هذا السياق غير طيبة منك في مقصدها لأننا نفهم من قولك : سامحه الله أنك تلمزه أليس كذلك ؟ تلمزه أنه قد جاء بأمر لا يليق فتدعوا له بالمسامحة أنت قلت هذا فأدركنا أن قصدك غير طيب لأن قرينة الحال أحيانا تبين هذا الشيء فالكلمة طيبة في ذاتها غير طيبة في مقصدها لأن قرينة الحال تبين أنك تريد غمزه وهمزه بهذا الشيء وهذا كثير أحيانا الإنسان يقول الكلمة ظاهرها الرحمة ولكن باطنها العذاب والسب والنقيصة بإخوانه فلابد أن تكون الكلمة طيبة .
قال : ( وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ) فالخطوات التي تمشيها إلى الصلوات هذه صدقة على نفسك فعلى هذا إياك أن تمل كثرة الخطى لأن كثرة الخطى صدقة فاستكثر من الصدقات أو استقلل .
26/3
( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) الطريق فيه أذى ثم أتيت وأزلت هذا الأذى إما فيه حجر أو حديد ملقى أو شيء يسبب أن يعثر فيه أحد فتزله فإن هذا أيضا صدقة .
الطريق طريق من ؟ المشاة أو الركبان ؟ كلاهما .(1/99)
وإماطة الأذى عن الطريق بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أنها من شعب الإيمان ( وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )
فهذه عدة أمور ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال على مثل الصدقة . هذه الأمور إذا أتى بها الإنسان في يومه وجمع منها ما يساوي كم ثلاثمائة وستين فإنه قد أدى صدقة ذلك اليوم . وإذا لم يجمع فإنه يبقى عليه شيء من الزكاة لم يخرج في هذا اليوم ولذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحصل به الخروج من هذه العهده فقال : يجزئ من ذلك ركعتان يركعهما الإنسان من الضحى فإاذ ركع ركعتين من الضحى فإنه يضمن بإذن الله أداء زكاة ذلك اليوم لكن إن لم يصل ركعتين من الضحى لسبب أو لآخر فإن عليه أن يجتهد في تسبيح وتحميد وإلخ حتى يغطي زكاة هذه السلامى التي في بدنه .
هذا الحديث واضح دلالته على المراد ومن فوائده بالإضافة إلى ما قلنا في أثناء الكلام : فضيلة هذه الأعمال المذكورة في الحديث حيث جعلها النبي صلى الله عليه وسلم صدقة على كل سلامى ومن فضائلها أيضا : أن هذه السلامى التي متعك الله عز وجل بها إنها نعمة من الله عز وجل وجه دلالة الحديث على أنها نعمة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لها شكرا وجعل عليها صدقة ولا شك أن هذه السلامى التي في بدنك أنها نعمة . وإذا أردت أن تعرف كيف هي نعمة تخيل وقدر أن بعضها تعطل في بدنك سوف تلاحظ أنه يفوتك شيء كثير والشيء لا يعرف إلا بفقده . لكن من رحمة الله عز وجل أن الإنسان يتذكر حتى لا يصاب بالغفلة فأنت الآن تمسك بقلمك تكتب ما شئت من الكلام وتترك ما شئت حركاتك الآن التي تستخدمها بالقلم حركات كثيرة ومفاصل كثيرة أليس كذلك ؟ لو تعد المفاصل التي تستخدمها في مسك القلم ربما بلغت خمس مفاصل في يدك التي تكتب بها ناهيك عن الجهد الذهني وعن الجهد القلبي الذي تبذله فإن هذا أيضا شيء كثير(1/100)
فالمقصود أن الله سبحانه وتعالى لما أعطاك هذه السلامى وهذه المفاصل ومتعك فبها بالصحة والعافية فإنه واجب عليك وأن تشكر هذه النعمة ومن شكرها أن تؤدي زكاتها بما ذكر في هذا الحديث .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعا من الشاكرين له و صلى الله عليه وسلم على نبينا محمد . ا. هـ
الحديث السابع والعشرون
عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك، وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:2553]. وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ؟ قُلْت: نَعَمْ. فقَالَ: استفت قلبك، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ وَأَفْتَوْك" . حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَيْنَاهُ في مُسْنَدَي الْإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ [رقم:4/227]، وَالدَّارِمِيّ [2/246] بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
الحديث الأول : حديث نواس
في الحديث ذكر صلى الله عليه وسلم كلمتين جامعتين وعرفها بما ذكر
فقال : ( البر حسن الخلق ) كلمة البر لتعلم أنها كلمة عامة يدخل فيها أشياء كثيرة والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذا اللفظ شيئا مما يدخل في هذه الكلمة فذكر حسن الخلق وهذه كلمة البر ، وكذلك ما تعرف فيها هي من الكلمات الواسعة ، الكلمة هذه مثلثة : البر بالكسر ويقال البر بالفتح ويقال البر بضم الباء وهذه الكلمة بتثليثها الذي سمعته لو تأملت معانيها لوجدتها في كل واحدة من هذه المعاني تدل على شيء واسع وعلى شيء نفيس .(1/101)
فلنبدأ بكلمة البر بكسر الباء : تدل على خصال الخير كلها فهي كلمة واسعة يدخل فيها الدين كله ومن ذلك حسن الخلق الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هنا .
كذلك المادة الثانية ( البر ) بالفتح هي كلمة واسعة في دلالتها لأنها تعني السعة ولذلك تسمى الصحراء والخلاء البر لأنها واسعة ليست فيها حواجز ولا موانع في صحراء متسعة
كذلك ( البر ) بالضم وهو الحب المعروف وهذا النوع هو من أنفس أنواع الحبوب لأن الله جعل فيه من المنافع ما ليس في غيره من الحبوب فهو نافع وواسع النفع ، فهذه الكلمة كما تلاحظ مثلثة وفي كل معنى من هذه المعاني تدل على سعة وعلى كثرة نفع .
والتي معنا الآن البر بكسر الباء وهي مادة واسعة في أوجه الخير ومن ذلك ما ذكر هنا حسن الخلق
لتعلم أن حسن الخلق يكون مع الله عز وجل فيكون العبد حسن الخلق مع خالقه مع الله عز وجل وذلك بعبادته على الوجه الذي يرضاه عز وجل ، فإذا عبد العبد ربه على الوجه الذي يرضاه الله تعالى فإنه يكون حينئذ حسن الخلق مع الله عز وجل فهذا الوجه الأول والاحتمال الأول في حسن الخلق .
والوجه الثاني أن يكون حسن الخلق مع عباد الله على اختلاف طبقاتهم الغني والفقير والوجيه والوضيع كل بحسبه فيكون حسن الخلق مع هؤلاء وكيف يكون حسن الخلق مع هؤلاء ؟ باختصار أن يبذل لهم ما يستحسنون من قول أو فعل فإذا بذل ذلك فإنه يكون حسن الخلق معهم ولو لم يكن من ذلك إلا الابتسامة في وجه أخيك فإنها من حسن الخلق ومن الصدقة أيضا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فالحاصل أن حسن الخلق يتناول هذين الشيئين حسن الخلق مع الله عز وجل وحسن الخلق مع خلق الله تعالى . إذا هذا هو البر بمقتضى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم .
( والإثم ) يعني ما يستوجب الإثم وهو العقوبة من الله ( ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )(1/102)
ما حاك يعني ما أثر فيها بحيث أن الإنسان يجد شيئا يحز في خاطره ويحز في قلبه فهذا يقال حاك في نفسه فالإثم ما أثر في نفسك وبقيت منقبض القلب ضيق الصدر حينئذ هذا هو الإثم ، أضف قيدا آخر : وكرهت أن يطلع عليه الناس تكره كرها شديدا أن يطلع الناس على هذا الذي وقع منك فإذا اجتمع هذان الوصفان ( حاك في نفسك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فهذا هو الإثم الذي يجب أن تتخلى عنه وهذا الضابط الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ضابط للنفوس المطمئنة للنفوس المؤمنة أما غيرها من النفوس فليس باعتبار أو ليست معتبرة في هذا لأنها قد لا يحوك في نفوسها شيء وقد لا تكره أن يطلع الناس منها على شيء
فلذلك لابد أن هذا الميزان أن يطبق في النفوس المطمئنة التي هي على فطرتها الأولى وإنما قلت هذا لأن بعض الناس نسأل الله العافية قد يأتي كبائر المعاصي وكبائر الذنوب لكنه لا يجد في نفسه شيئا ولا يحس أنه قد خالف أمر الله الأمر عنده عادي فهذا صاحب النفس هذه ليس داخل في ميزان النبي صلى الله عليه وسلم فالميزان هذا يكون للنفوس المطمئنة التي بقيت على فطرتها الأولى .
إذا ما عليك يا عبد الله إلا أن تنظر فإن كان الأمر يؤثر في نفسك وتكره أن يطلع عليه الناس فإن هذا إثم لا يليق بك أن تتلبس به فهذا هو الضابط النبوي الذي إذا طبقه العبد المؤمن فإنه يستريح كثيرا من الآثام وانظر هذا في أي معصية من المعاصي فالسماع المحرم النفس المطمئنة يؤثر فيها هذا الشيء وتحس أنها الآن في نقص وأنها في إقبال على محرم ثم كذلك هي التي تكره أن يراها أحد وهي تسمع هذا السماع المحرم .
إذا نقول هذا السماع لما انطبق فيه الوصفان هو سماع محرم فهو إثم فتخلى عنه وتخلص منه وكذلك قل مثل هذا الكلام في النظر المحرم وفي الكلام المحرم .
الحديث الثاني : حديث وابصة بن معبد ..... الحديث(1/103)
المؤلف لم يجعل لهذا الحديث رقما جديدا لأن هذا الحديث بمعنى الذي قبله لكنه بسياق آخر .
قال : جئت تسأل عن البر . من المخاطب؟ النبي صلى الله عليه وسلم ومن المخاطب ؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم واجه وابصة وابتدأه فقال جئت تسأل عن البر . هذا سؤال أو خبر؟ سؤال ولذا جاءت علامة استفهام بعده . يقول هل جئت يا وابصة تسأل عن البر . قال : نعم فهذه فراسة من نبينا عليه الصلاة والسلام حيث عرف ما في نفس وابصة قبل أن يسأل وليس هذا من علم الغيب لأن الغيب لا يعلمه إلا الله ولكن هذا من الفراسة التي تكون عند بعض الناس فيعرف سؤالك قبل أن تسأل وتعرف ..قبل أن تسأل كيف يعرف هذا ؟
يعتمد على قرينة الحال وعلى مقدمات سابقة أو ما أشبه ذلك ثم يدرك ماذا تريد بكلامك قلت : نعم قال : ( استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب )
( استفت قلبك ) اسأل قلبك لا تسأل الناس .
( البر ما .. ) يعني بذلك أن البر هو الذي النفس فيه لا تقلق بل هي تطمئن إليه وكذلك يطمئن إليه القلب وهذا من باب التأكيد وإلا فإن اطمئنان النفس هو اطمئنان القلب لكن مبالغة في التأكيد وعدم القلق من هذا الشيء . فإذا اجتمع اطمئنان النفس واطمئنان القلب فإن هذا هو البر وهذا لا يناف الحديث الأول لأن حسن الخلق تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب .
علاقة هذا الحديث بالذي قبله : علاقته أن الأول من باب المثال وهذا من باب الضابط العام والقاعدة الكلية فالبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ومن ذلك حسن الخلق مع الله وحسن الخلق مع خلق الله لأنه تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب فالحديث الأول مثال للذي بعده .(1/104)
قال : ( والإثم ما حاك في نفسك وتردد في في الصدر ) هذا كما سبق ولكن زاد هنا فقال : ( وتردد في الصدر ) لماذا ؟ تردد في الصدر لأن الصدر غير مطمئن فهو يتردد يذهب ويجيء في صدر هذا الإنسان لأنه قلق منه فلذلك يتردد في الصدر وتأمل هنا قال : ( تردد في الصدر ) ولم يقل في القلب . هل بينهما فرق ؟ نعم . أيهما أبلغ ؟ تردد في الصدر أبلغ لأنه يفهم أن هذا الشيء قد ملأ الصدر ملأ القلب ثم خرج وملأ الصدر .
قال : ( وإن أفتاك الناس وأفتوك ) يعني هذا الضابط ولا تلتفت لكلام الناس وإن أفتاك الناس وأفتوك .
( وأفتوك ) مراده بهذه الجملة وإن كرروا عليك الفتوى وكرروا عليك الكلام لا تأخذ منهم كن مع قلبك وحكم قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك .
وفيه أن هؤلاء المفتين ليسوا من العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم ناس ولم يقل وإن أفتاك العلماء فدل هذا على أن فتوى الناس بغير علم لا توجب أولا ينبغي أن توجب ترددا عند الناس أو تقدما لأن الناس يقولون بآرائهم لكن أنت ارجع إلى قلبك فانظر ما اطمأنت إليه نفسك وما لا تطمئن له مما يحيك في النفس.
فالخلاصة : أن الحديث بروايتيه أو بطريقتيه قد أعطانا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضابطا شرعيا يتميز به البر وتميز به الإثم ، وأكد أن هذا الضابط ومقياس دقيق لمن كان مطمئن القلب على فطرته الأولى أما من انتكس وتغيرت فطرته فإنه لا يمكن أن يطبق هذا الضابط .
ثم أعلم أيضا أن الإنسان إذا زاد علمه وزاد إيمانه بالله عز وجل فإنه يزيد تطبيق أو انضباط هذا الضابط الذي ذكر لأنه يزيد بالإيمان ويزيد بالعلم . ا. هـ
الحديث الثامن والعشرون(1/105)
عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: "وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ".
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [رقم:4607]، وَاَلتِّرْمِذِيُّ [رقم:266] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
هكذا وصف أبو نجيح هذه الموعظة وأنها بليغة ومن بلاغتها أنها وجلت منها القلوب يعني خافت وذرفت منها العيون تأثرا وخشية لله عز وجل
قال : (فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ) يعني زدنا في الوعظ وزدنا في الوصية لأنهم أحسوا أن هذه الموعظة نافعة .
فقال : ( أوصيكم بتقوى الله ) بدأ بالوصية بتقوى الله لأنها رأس كل أمر . أن يتقي الله ربه بفعل أمره وترك نهيه فإذا اتقى المؤمن الله فإنه يستغني بذلك عن كل شيء ولذلك بدأ بها
قال : ( والسمع والطاعة ) يعني أوصيكم بالسمع والطاعة
( وإن تأمر عليكم عبد ) فهم من هذا أن السمع والطاعة إنها تكون لولاة الأمر يعني عليكم السمع والطاعة للذين يتولون أمركم ويكونون ولاة عليكم .
فما الفرق بين السمع والطاعة ؟ الفرق واضح السمع إدراك الكلام بحيث لا يخفى عليه شيء وأما الطاعة فإنها التنفيذ والتطبيق فربما يسمع الإنسان ولا يطيع . هل يمكن أن يطيع ولا يسمع ؟ لا يمكن لأن الطاعة قبلها السمع .(1/106)
( وإن تأمر عليكم .... ) يعني لوكان ولي الأمر عبدا من العبيد فإن هذا لا يخرجكم من وجوب الطاعة بل لا بد من الطاعة وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العبد لأن العبد مستخف به في الغالب في خلقته ومستخف به في الغالب في رأيه ولذلك ذكره مثالا فلأجل الاستخفاف به في خلقته وإنه عبد ناقص وربما ذميما فأيضا لا بد من الطاعة وكذلك هو ربما يكون مستخفا في رأيه لأنه عبد عند سيده ليس عنده تجربة كالناس فلذلك عليكم أيضا بالطاعة وفي بعض روايات الصحيح ( وإن كان عبدا حبشيا ) وفي بعضها ( كأن رأسه زبيبة) من صغرها . على كل حال لابد من السمع والطاعة لولي الأمر مهما كانت حاله .
( إنه من يعش منكم ...) الخطاب للصحابة يعني من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا وفي هذا إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قرب الاختلاف ، وأنه سوف يكون في عهد الصحابة ليس في عهد التابعين ولا في الذين بعدهم . من أين أخذنا هذا ؟ من قول :( من يعش منكم ...) وهل وقع كذلك ؟ نعم وقع كذلك ، فإنه ما إن قتل عمر رضي الله عنه حتى دب الخلاف وأتت الفتنة بأوسع مجالها لأن عمر رضي الله عنه كان الباب الموصد دونها فلما قتل انكسر الباب فأتت الفتن فتسلط الظالمون على عثمان رضي الله عنه وقتلوه وتسلط الخارجون على علي رضي الله عنه وقتلوه أيضا ثم مع أولاده الحسن والحسين ثم فتن كثيرة كقطع الليل المظلم لكن الله تعالى سلم منها . ولا تزال الفتن في زيادة وإقبال وإدبار حتى يأذن الله تعالى بتمحيص الحق ورسوخ الصحيح وإزهاق البطل .
فالمقصود أن هذا الاختلاف سيكون وقد كان فما المخرج ؟
قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ...) المخرج أن الناس يتمسكون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الذين يكونون من بعده ولكن بشرط أن يكونوا راشدين يعني في أمرهم الرشد على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم .(1/107)
( المهديين ) هذا تأكيد فالإنسان الراشد كاف لكن أكد فقال : (المهديين ) فهم راشدون وكذلك على هدى.
ماذا نفعل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين ؟
الجواب : نتمسك بها نعض عليها بالنواجذ . والنواجذ هي أواخر الأضراس تسمى نواجذ تأمل حالك حين تعض على شيء في آخر أضراسك هل يمكن أن يسحب أبدا إلا بشدة شديدة بالغة ، أما لو كان عضك بأسنانك بمقدمتها فربما تفلت هذا الشيء وربما انتزع منك إما أن يؤخذ أو أن تقلع أسنانك . لكن النواجذ فإنك إذا عضضت عليها بالشيء فإنه يكون يكون عضا شديدا وهذا تشبيه من النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحرص الصحابة على التمسك بهذا وإلا من المعلوم فإن السنة لا يعض عليها بالنواجذ بل السنة تطبق ويعمل بها وإنما يراد بهذا تأكيد الاهتمام بها وعدم التفريط بشيء منها .
السنة في الغالب لها ما يقابلها وهي البدعة . ماذا نصنع بهذه البدعة ؟
قال : ( وإياكم ومحدثات الأمور ) وهي البدع . أحذركم محدثات الأمور التي يحدثها الناس في دين الله احذروها حذرا شديدا .
( فإن كل بدعة ضلالة ) كل بدعة يحدثها الناس في دين الله فإنها ضلالة إذا ما بعد الهدى إلا الضلال .
نجمع الكلام التحذير به جمع الحث على التمسك بالسنة والتحذير من البدع وأن الناس قد يغترون بها لكن احذروها
وقوله : ( فإن كل بدعة ضلالة ) كل من ألفاظ العموم فكل بدعة ضلالة سواء أحدثت في القرن الأول أو الثاني أو في القرون المتأخرة فإذا صدق عليها الوصف أنها بدعة فإنها ضلالة وبهذا تعرف ما دام عمم صلى الله عليه وسلم كل بدعة أن من قسم البدع إلى أقسام إلى خمسة أو أقل أو أكثر أن هذا التقسيم غير صحيح . فبعضهم قسم البدع إلى بدع محرمة وبدع مكروهة وبدع مباحة وما أشبه ذلك فكل هذه التقاسيم مردودة لأنها عندنا فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم أن كل بدعة ضلالة سواء كانت في العقيدة أو في العبادة أو في المعاملة كثيرة أو قليلة كل بدعة ضلالة .(1/108)
وأي شيء يقولون بدعة مباحة أو حسنة فإنك إذا تأملته لم تجد أنه بدعة إذا كان مباحا أو حسنا .
فالحاصل أن هذا الحديث فيه وصايا جامعة من النبي صلى الله عليه وسلم وهي وإن كانت وصايا موجه للصحابة لكنها وصايا لكل الأمة
ومن فوائد هذا الحديث :
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على وعظ أمته واجتهاده في هذا . من أين أخذ اجتهاده؟ لأنها أثرت هذه الموعظة ووجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وهذا من الله عز وجل هو الذي يجعل موعظة فلان مؤثرة فالإنسان يجتهد أحيانا أن تكون مؤثرة لمن يعظهم لكن لا يكون كذلك فهذا من الله عز وجل لكن الإنسان يجتهد ويحاول ويخلص النية والتوفيق بيد الله عز وجل .
وفي الحديث أنه ينبغي لمن وعظ أن يبدأ بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم أن يعظ بتقوى الله سواء بهذا اللفظ أو ما كان نحو ذلك لأن الوصية بالتقوى وصية الله للأولين والآخرين وهي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وفيه أهمية السمع والطاعة لولاة الأمور وأن السمع والطاعة لا يمكن أن يعذر منها الإنسان وإن كان ولي الأمر كما ذكر في الحديث ( عبدا ) وهذا السمع والطاعة مربوطة ومضبوطة ما لم يأمر بمعصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . فالحديث كما تلاحظ فيه فوائد كثيرة لكن هذه أبرزها نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بكلام نبيه وصلى الله عليه وسلم.
ا .هـ
الحديث التاسع والعشرون(1/109)
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدْنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: " تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ " حَتَّى بَلَغَ "يَعْمَلُونَ"، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فقُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْك هَذَا. قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!" . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [رقم:2616] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
هذا الحديث حديث عظيم وفيه مواعظ وفيه أصول جامعة من الدين .(1/110)
سأل معاذ النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار فسؤاله مختصر من حيث الألفاظ ولكنه يجمع الدين كله يريد الدين كله بهذا السؤال لأن الدين كله إنما يدخل الجنة ويباعد من النار إذا ألتزمته . فهذا السؤال لا تظنه من الأسئلة المختصرة في إجابتها بل هو مختصر في لفظه طويل في إجابته .
سأل عن العمل الذي يدخل صاحبه الجنة فيستقر فيها استقرارا دائما ، وكذلك يبعد عن النار بعدا لا قرب معه وهذا في الحقيقة مراد كل إنسان في هذه الدنيا كل عامل في هذه الدنيا إنما يريد الجنة ويريد البعد من النار فالذي يصلي هدفه هذا والذي يصوم كذلك وطالب العلم إنما يريد هذا فهو سؤال يحتاجه كل أحد .
أما الجواب فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( لقد سألت عن عظيم ...) وهو عظيم لما قلت لك قبل قليل (لكنه يسير على من يسره الله عليه ) فهو يسير لكن ليس بحولك بل بحول الله وقوته يسير بتيسير الله عز وجل فهو الذي يجعل العسير يسيرا بتوفيقه وتيسيره
ثم أجابه قال :( تعبد الله ولا تشرك به شيئا ) فإذا عبدت الله العبادة الحقيقية واجتمع مع ذلك عدم الشرك فقد أتيت بذلك .
( تعبد الله ولا تشرك به شيئا ) لا بد منها جميعا لأن الإنسان قد يعبد الله ويشرك به شيئا فلذلك قال : ( تعبد الله ولا تشرك به شيئا ) وكثير من الناس كما قلت عنده عبادة واجتهاد لكن عنده شرك إما يحلف بغير الله وغما يتوسل بوسائل شركية فهو عنده عبادة وعنده شرك كما قال الله تبارك وتعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) فلابد من الإيمان بعبادة الله ولا بد من التخلي عن الشرك .
( وتقيم الصلاة ) المفروضة وكذلك ما يكملها من النافلة .
( وتؤتي الزكاة ) المفروضة بالمال الذي أوجبه الله تعالى والصفة المعروفة .
( وتصوم رمضان وتحج البيت ) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام وأركان الإسلام هي الأمور التي ينجو بها الإنسان ويدخل الجنة .(1/111)
وهنا لم يذكر الشهادة برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهي داخلة في قوله تعبد الله ولا تشرك به شيئا لأن من مقتضى عبادة الله الإقرار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم
فالمقصود أن هذه الأركان الخمسة هي جوابه على سؤاله الأول لما قال عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ولكن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم وسياسته في الأمة عرض عليه أمورا أخرى لما وجد حرصه قال: ( ألا أدلك على أبواب الخير ) لما آنس منه محبة الخير والحرص عليه قال : هل تريد أبواب الخير التي إذا دخلتها فإنك تدخل على الخير
قال : نعم .
ثم أجابه ( الصوم جنة ) هذا باب من أبواب الخير وهو الإمساك بصفته الشرعية هذا جنة يعني وقاية من عذاب الله عز وجل وكذلك وقاية أيضا مما حرم الله عز وجل على العبد فالصوم يقي الإنسان ما حرم الله عليه.
ولذلك الصائم يجد في نفسه إقبالا على الطاعة ويجد رغبة عن الشر فهو إذا جنة بمعنى جنة من عذاب الله يوم القيامة وجنة عن المعاصي والشرور وما أشبه ذلك .
الباب الثاني ( الصدقة ) أن يبذل الإنسان ماله لمن يحتاجه يتصدق عليه هذا باب من أبواب الخير .
( الصدقة تطفئ الخطيئة ) فإذا أخطأ الإنسان بخطأ ما ثم تأتي الصدقة فإنها تطفئها وقد تقول هل للخطيئة اشتعال ولهب حتى تطفأ ؟ نعم لها اشتعال ولها لهب ولكن معنوي فالخطيئة لها لهب في القلب ولها سعير في النفس فتأتي هذه الصدقة فتطفئها ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم كيف تطفئها ؟ كما تطفئ الماء النار .
كذلك الخطيئة إذا اتبعها بالصدقة وتصدق فإن هذه الصدقة تقضي عليها . هل الصدقة خاصة في بذل المال أو لنا أن نعمم لأنه سبق أن الكلمة الطيبة صدقة وأن الأمر بالمعروف صدقة إلخ ؟ نقول الأصل أنها صدقة المال ولكن لنا أن نتوسع فنقول الصدقة أيا كانت في المال أو بالكلام أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غير ذلك كل هذه تطفئ الخطيئة.(1/112)
الباب الثالث ( صلاة الرجل في جوف الليل ) يعني في وسطه حينما يكون الناس في رقادهم وفي ثباتهم العميق يأتي هذا الرجل ويصلي في الليل وأفضل صلاة الليل كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم هي في نصفه الثاني .
ثم استشهد النبي صلى الله عليه وسلم بآية كريمة وهي قوله تعالى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) في وصف عباد الله المتقين الصالحين
ما معنى تتجافى تتباعد عن المضاجع وهي الفرش وأماكن النوم . لماذا تتجافى عن المضاجع؟
(يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) فهؤلاء لما تجافت جنوبهم عن المضاجع كان لهم هذا الجزاء الذي لا يخطر على بالهم ولن يخطر على بالهم ولم تره أعينهم في قديم ولا حديث .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغا لمعاذ بن جبل ( ألا أخبرك برأس الأمر وعمده وذروة سنامه ) . ثلاثة أشياء :
(رأس الأمر ) المراد بالأمر الشأن , برأس هذا الشأن الذي نعيشه وهو هذا الدين الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم له رأس وله عمود وله سنام
ولسنامه ذروة يعني عالي
( رأس الأمر ) يعني أساس الأمر لأن الرأس هو الأساس
رأس الأمر ( الشأن الذي نحن فيه ) الإسلام يعني الاستسلام لله عز وجل بحيث يكون الإنسان على أهبة الاستعداد مستعد دائما لأوامر الله عز وجل لأنه حقق رأس الأمر الذي هو الإسلام . فإذا علم أن للإسلام أمر ببر الوالدين بادر ببر الوالدين وتقدم ولم يتأخر لما أمره بترك الكذب ترك مباشرة لأنه حقق رأس الأمر وهو الاستسلام .
( وعموده الصلاة) عمود هذا الأمر الذي هو الإسلام الصلاة فالصلاة هي العمود وأنت تعرف أن العمود بالنسبة للبناء أو بالنسبة للخيمة إذا أزيل تسقط الخيمة والبناء كذلك هذه الصلاة إذا فرط فيها الإنسان وأضاعها فإن بنيانه يتهدم ويتساقط عليه ولم يستفيد منه شيئا(1/113)
والمراد بالصلاة هنا الفريضة من باب أولى وربما يدخل فيها ما يكملها من النوافل .
الأمر الثالث ( الجهاد ) في سبيل الله عز وجل وقتال الأعداء والجهاد في سبيل الله ضابطه ما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا )
( ذروة سنامه ) فأعلى شيء في هذا الأمر في هذا الدين الجهاد وأيضا قوله ( ذروة ) ذروة الشيء عاليه فالجهاد ليس سناما بل هو ذروة السنام يعني أعلى السنام وفي هذا إشارة واضحة من النبي صلى الله عليه وسلم أن ارتفاع الدين وأن علو الدين إنما يكون بالجهاد فمتى قام الجهاد في الأمة الإسلامية على وجهه الحقيقي فإن الأمة الإسلامية ترتفع وتكون في الذروة وإذا أخلت به فإنها تكون في أسفل السافلين ولذا لما كان الجهاد قائما في صدر الأمة الإسلامية مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة لما كان قائما كانوا في الذروة بين الأمم وكان الناس في الإسلام يعيشون بالعز الذي ليس له نظير لأنهم أقاموا سببه أقاموا الجهاد الحقيقي . ولما انصرف الناس إلى الدنيا وإلى الملهيات وإلى الشهوات صاروا الآن ذنبا لغيرهم ويرونهم الآن في حضيض ما بعده حضيض فهذا هو السر في ارتفاع الأمة الإسلامية وهبوطها ( الجهاد )
ولكن لتعلم أن الجهاد لا بد أن يسبق بجهاد انتبه لهذه القاعدة الصحيحة أن يجاهد الإنسان نفسه وحينما نقول ذلك ليس المراد أن نتسلى بهذا وأن نجعل لنا عذرا في التخلف عن الجهاد الأكبر جهاد الأعداء بل نقول هذا من واقع الدليل الشرعي ومن واقع الدليل الذي مرت به الأمة في حروبها السابقة فلا بد أن الناس يحققوا الجهاد مع أنفسهم وقد جاء في حديث أنه الجهاد الأكبر أعني بذلك جهاد النفس . كيف جهاد النفس ؟ ألزمها طاعة الله عز وجل انتشالها من هذه الدنيا ألزمها ترك المعاصي فإذا جاهد الناس أنفسهم بهذه الصورة حينئذ يتأهلون للجهاد الأصغر وهو جهاد الأعداء .(1/114)
ثم ثقوا ثقة تامة أنهم إذا تأهلوا للجهاد الأصغر وهو جهاد الأعداء فإنهم منصورون ولا بد أن ينتصروا وإن كانت قوتهم ضعيفة في الظاهر لكن لا بد أن ينتصروا لأن الله وعدهم ذلك بعد أن ينصروا الله وعدهم أن ينصرهم ( إن تنصروا الله ينصركم )
فالمقصود أنه ينبغي أن نأتي الأمور من أبوابها وأن لا نخادع أنفسن نحن الآن أمة غير مؤهلة وهذا ليس بالسر هذا يجب أن يعرفه كل مسلم نحن الآن غير مؤهلين للجهاد لأننا متشبثون بالدنيا ومنغمسون في شهواتها والواحد يقدم أدنى هوى في نفسه على حساب ما أمر الله به وأمر به رسوله فإذا كان هذا واقعنا في الغالب وهو الغالب الكثير فنحن غير مؤهلين للجهاد وبيننا وبين الجهاد مسافاة طويلة لابد أن نقطعها بالصبر والجهد والاجتهاد مع أنفسنا وحينئذ لا تسأل عن الجهاد الأصغر الجهاد الأصغر يكون تبعا وييسره الله عز وجل فلا بد أن نصدق مع أنفسنا وقبل ذلك نصدق مع ربنا عز وجل ثم يتيسر كل شيء فهذه مسؤولية على الجميع نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا عليها.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ) كل ما سبق له ملاك ومعنى ( ملاك ) يعني الشيء الذي يجمعه لك ويلخصه ويكون بين عينيك مختصرا واضحا (قلت بلى يا رسول الله ) كأن الرسول صلى الله عليه وسلم أحس أنه أكثر على معاذ لأنه في الأول أعطاه سؤاله ثم زاده أبواب الخير ثم زاده ما ذكر من رأس الأمر وعموده وذروة سنامه ثم لخص له كل شيء .
( فأخذ بلسانه ) من الآخذ ومن المأخوذ ؟ الآخذ النبي صلى الله عليه وسلم وبلسان نفسه ثم قال : ( كف عليك هذا ) فجمع بين الإشارة وبين القول .
( كف عليك ...) احفظ هذا اللسان لا تطلقه فإنه يحتاج إلى كف وإلى حبس وإلى سجن فمعاذ رضي الله عنه أبدا استغرابا قال : (يا نبي الله وإنا لمؤاخذون ..)(1/115)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) ثكلتك أمك يقولون هذه دعوة لا يراد بها معناها ولكنها تقال في مقام التوبيخ والتقريع وإلا فإن معناها شيء لا يمكن أن يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ بأن تثكله أمه
ما معنى ثكلتك يعني فقدتك إما بموتك أو بضياعك فهذا يستحيل أن يراد معناه من النبي صلى الله عليه وسلم .
( هل يكب الناس في النار على وجههم ...) يعني هل يجدع وهل يكفي الناس في النار على وجههم أو قال على مناخرهم يعني أنوفهم والوجه والمنخر متلازمان فإذا كب على وجهه فإنه يكب على منخره فالشك من الراوي لا يوجب خلافا في المعنى.
( إلا حصائد ألسنتهم ) فالذي يكب الناس ويلقيهم في النار هو هذا اللسان الذي تستغرب منه يا معاذ فهؤلاء الناس الذين هم حصب جهنم هم حصائد للألسنة .
وتأمل هذا التشبيه من النبي صلى الله عليه وسلم كأن جعل اللسان مخلبا يحش به ما يكون نابتا على الأرض كذلك الناس يحصدون حصيدا في نار جهنم من طريق اللسان اللسان الذي يحصل به الكذب والغيبة والسباب ويحصل به الكفر بالله عز وجل .
فإذا لا غرابة إذا أن يكون أكثر الناس في نار جهنم من هذا اللسان وليس باللازم أن يكونوا في النار خلودا في النار قد يكونوا في النار بسبب كذبات بغيبة بأشياء دون الكفر فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم أمر اللسان وقال فيعذبون بها ثم يخرجوا منها بعد ذلك . إن اللسان عنده ملاك الأمر كله وبه النجاة أوبه الخسارة .
في الحديث من الفوائد الشيء الكثير ومنها :
فضيلة هذه الأعمال التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم والتي وصفها بأوصاف كما تلاحظ بالأول بأنها أبواب الخير ووصف الثانيات بما وصف رأس الأمر وعموده وسنامه(1/116)
فأوصي نفسي وإياكم أن نعتبر بهذا الحديث وأن نردده ليس الترديد اللفظي فقط بل الترديد المعنوي لأنه وصية من النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد أسأل الله عز وجل أن ينفعنا بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم. ا. هـ
الحديث الثلاثون
عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ جُرْثُومِ بن نَاشِبٍ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا". حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ["في سننه" 4/184]، وَغَيْرُهُ.
أبي ثعلبة الخشني هذا الصحابي وقع خلاف في اسمه خلاف كثير والمؤلف هنا ذكر أشهر ما قيل وإلا فالأقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا في تعيين اسم أبي ثعلبة
ومما قيل في اسمه : أنه جرهم بن ناشب والمؤلف اختار أنه جرثوم بن ناشر وأيا كان فإن هذا لا يضر كيف وقد عرفت كنيته وأنه أبو ثعلبة الخشني ولا يخفاك أن راوية الإسلام وأكثر الصحابة رواية اختلف في اسمه أعني بذلك أبا هريرة رضي الله عنه فإن وقع خلاف في اسمه فهذا لا يضر .
( إن الله فرض فرائض ) معنى فرض يعني أوجب واجبات فلا تضيعوها ولتعلم أن الفرض والواجب كلاهما واحد في اصطلاح الشرع لكن في اصطلاح أهل الأصول الفرض أعلى من الواجب وهذا اصطلاح حادث لا يضر لكن الاصطلاح السابق في تعريف الفرض والواجب كلاهما واحد .
( إن الله فرض فروض فلا تضيعوها ) يعني لا تتركوها مضيعين لها بل اعملوها وهاتوها على وجهها الذي أراده الشارع . فمعنى تضيعوها : تتركوها مضيعين لها .
( وحد حدودا فلا تعتدوها ) يعني لا تتجاوزها(1/117)
فالحديث في جملته الأولى يفيد التساهل والترك والحديث في جملته الثانية يفيد التعدي والتجاوز ، فالفرائض والحدود لا تضيع بتركها ولا يتعدى فيها ويتجاوز ما حده الله بل واجب أن يمتثل فيها أمر الله عز وجل .
إذاً بين الجملتين في الحديث بينهما حصر للطريق الذي يجب أن يسلكه المكلف فلا يضيع بالترك ول يتعدى بالتجاوز والزيادة على ما طلبه الشارع هذا الذي قلته هو أحد أقوال في معنى الحديث الذي معك .
وقيل إن قوله : ( فرض فرائض فلا تضيعوها ) هذا يشمل المحرمات والواجبات ، وأما قوله : ( حد حدودا) فهذا في العقوبات الشرعية التي حدها الشارع فأنت تعرف أن هناك حدوداً شرعية حداً للزنا وحداً للسرقة . وهذه الحدود قال الله : ( فلا تعتدوها ) يعني لا تتجاوزها فعلى هذا القول الثاني تكون الجملة الأولى موجه لعامة الأمة للجميع ، وتكون الجملة الثانية موجه لولاة الأمر الذين ينفذون الحدود بحيث يقال لا تعتدوها فعندك مثلا حدا في السرقة وهو القطع فيقال اقطع في السرقة ولا تزد على ذلك لا تتعدى هذا الحد فلا تجمع بين القطع والجلد لأن الحدود لا يتعدى فيها . عندك حا في الزنا بالنسبة للبكر وهو الجلد فيقال : اجلد العدد الوارد وهو مئة جلدة ولا تزيد إلى مئة وخمسين وهكذا يكون معنى الجملة الثانية .
إذا نعود إلى الحديث الحديث قيل فيه قولان كما أسلفت :
الأول/ فلا تضيعوها أي فلا تتركوها وتهملوها بالتضييع ، فلا تعتدوها أي لا تتجاوزوها بالتنفيذ والعمل.
الثاني / فلا تضيعوها هذا في المحرمات والواجبات والخطاب للعامة ، فلا تعتدوها هذا للسلاطين الذين ينفذون الأوامر .
( وحرم أشياء فلا تنتهكوها) وتقعون فيها غير مبالين بتحريم الله عز وجل . فحرم الله الغيبة فلا يجوز لأحد أن يغتاب أحد . حرم الله النظر المحرم فلا يجوز لأحد أن ينظر نظرا محرما وهذا معنى قوله : ( فلا تنتهكوها ) يعني لا تقعوا فيها .(1/118)
( وسكت عن أشياء رحمة لكم ) وفي بعض الروايات رحمة بكم والمعنى متقارب .
قال : ( غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) سكت عن أشياء فلم يعط الله فيها حكما لا بتحريم ولا إباحة فهذه لم يتركها ربك ناسيا لها ( وما كان ربك نسيا )الآية .ولكن سكت الله عنها رحمة بنا حتى لا يشق على عباده هذه لا تفتش عنها ولا نكلف أنفسنا هل هي حرام أم حلال ؟ نقول سكت الله عنها فنأخذها لأن الله تعالى تركها وسكت عنها رحمة لعباده فإذا جاءك شيء من الأشياء المأكولات أو المعاملات أو الملبوسات وليس عندنا نص من الشا فإننا لا نبحث وننقب ونتعب أنفسنا بل نقول سكت الله عنها فنأخذها ونقول الحمد لله الذي لم يجعل فيها ما يكلف علينا ويشق علينا وليس التتبع فيها والبحث مما يحمد عليه الإنسان لأنه إذا بحث ونقب وجعل يفتش فإنه ربما يشق على نفسه ويوقعها في موارد الضيق فنستفيد من قوله : ( وسكت عن أشياء ...) قاعدة أصولية ذكرها العلماء وهي ( أن الأصل في الأشياء الإباحة ) فإذا ورد طعام لا ندري هل هو مصنوع من شيء حلال أو من شيء حرام فنقول الأصل في الأشياء الإباحة لأن الله سكت عنها فلا بد أنها على الإباحة الأصلية وليس من الشرع أن تبحث وتفتش هل هذه حرام أو هل هذه حلال نقول عندك الأصل فمن قال هي حرام فعليه أن يأتي بالدليل الذي يخرجك عن هذا الأصل .
وفي الجملة الأخيرة في قوله : ( وسكت عن أشياء ....) دليل على مسألة عقدية وهي جواز وصف الله عز وجل بالسكوت وهذه ثابتة لا إشكال فيها بل نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله الإجماع على ذلك أن ربنا عز وجل يوصف بالسكوت وسكوته ليس عن عجز ولكن عن كمال في هذه الصفة التي اتصف الله بها .(1/119)
قال المؤلف : حديث حسن رواه الدار قطني وغيره . فالحديث على ما قال المؤلف حديث حسن وما ذكره المؤلف هو وسط في الحكم على هذا الحديث وإلا فإن بعضهم ضعف الحديث ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن تحسينه هو الأقرب وقد ذكر ابن رجب في شرحه لهذا الحديث أن لحافظ أبو بكر بن الإسماعيلي قد حسن الحديث أيضا وهو قبل النووي صاحب هذا الكتاب فالحاصل أنه حديث حسن لابأس به إن شاء الله تعالى.ا.هـ
الحديث الحادي والثلاثون
عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؛ فَقَالَ: "ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ" .
حديث حسن، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ [رقم:4102]، وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ.
هذا مطلوب هذا الرجل يريد عمل يحصل به محبة الله ومحبة الناس . وأيهما أهم ؟ لا شك محبة الله تعالى ، ولكن أيضا محبة الناس مطلوبة وانتبه لهذه الفائدة في قوله : وأحبني الناس دليل على أن محبة الناس مطلوبة ، ومحبة الناس ما لم توقع في محرم فإذا وقعت في محرم فإن الإنسان لا يجوز له أن يسأل عنها لكن في الحدود المباحة والمستحبة لا بأس أن يطلب الإنسان محبة الناس ، وأما ما يظنه بعض الإخوان أن يقول أنا لا يهمني أن يحبني الناس أو يكرهوني فنقول هذا خطأ بل الذي ينبغي أنك تسعى في محبة الناس لك وهذا له أسباب كثيرة منها التودد لهم والسلام عليهم والتعاون معهم إلى أشياء كثيرة .
فالمقصود أن طلب محبة الناس هذا مقصد شرعي ينبغي للإنسان أن يحرص عليه .(1/120)
أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجواب فقال : ( ازهد في الدنيا يحبك الله ...) فإذا زهدت في الدنيا يعني أعرضت عنها غير طامع فيها فإن ثمرة ذلك أن الله تعالى يحبك فلا يكن في نفسك علقة بهذه الدنيا الزائلة تتكثر منها وتجمعها من كل فج ومن كل وجه فإنك إذا كنت كذلك فإن الله لا يحبك لكنك إذا زهدت فيها وأعرضت عنها وجعلت الدنيا وسيلة إلى الآخرة فإن الله تعالى يحبك .
ووجه المناسبة واضح ( وجه المناسبة في أن من زهد في الدنيا أن الله يحبه ) هو لأن زهدك في الدنيا دليل على محبتك في الآخرة وعلى محبتك في ما عند الله تعالى فكان الجزاء من جنس العمل أن الله تعالى أحبك .
أما الأمر الثاني قال : ( ازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) فإذا أردت محبة الناس اقطع الطمع فيما عند الناس لا تكن دائما تنظر إلى ما في أيدي الناس ماذا يعطونك ؟ وتنظر ماذا أهدوك ، وماذا قالوا لك ؟ فإنك إذا كنت كذلك فإن الناس لا يحبونك لكنك إذا قطعت قلبك من التعلق بما عند الناس فإن ثمرة هذا أن يحبك الناس لأن الناس علموا أنك صادق معهم لا تريد منهم شيئا لا تريد مالا ولا واسطة ولا جاه وبالتالي يحبونك محبة صادقة لقوله في الحديث : ( ازهد فيما عند الناس ) مثلنا للزهد بالمال والزهد بالجاه وما أشبه ذلك .ومنه ما ذكره ابن القيم رحمه الله أن الزهد فيما عند الناس الزهد في ثناء الناس لا يكون لك مطمع في ثناء الناس عليك كلما صنعت شيئا تقول ماذا قال الناس هل شكروني ؟ هل ذكروني في مجالسهم ؟ اترك هذا ازهد في الثناء من الناس لأجل ان يكون عملك لله تعالى حتى تحقق قوله تعالى : ( لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) وهذه مسألة تحتاج إلى تدريب من الإنسان لنفسه لأن بعض الناس زاهد في مال الناس وزاهدا فيما عندهم لكن يكون متطلعا إلى ثنائهم يحب أن يحمده زميله أن يحمده مديره أن يحمده قريبه .(1/121)
فنقول لا . لا تكن حريصا على هذا فإن مدحوك وأثنوا عليك بغير اختيارك فهذا من فضل الله عز وجل فهذه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (عاجل بشرى المؤمن أن يثنى عليه بالخير ) لكن لا يكون همك أن تسعى لطلب ثناء الناس هذا محل الشاهد من الحديث .
إذاً هذا الجواب في هذا الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم جواب وافي كافي
( ازهد في الدنيا يكون ثوابك أن الله يحبك ، ازهد فيما عند الناس يحبك الناس ) والإنسان ماذا يريد في هذه الدنيا إلا محبة الله عز وجل ثم محبة الناس فإذا حصل المحبتين فإن هذا عنوان سعادتي .
وفي الحديث من الفوائد العامة :
أن الله تعالى يصرف قلوب الناس تؤخذ من قوله ( يحبك الناس )فكأنك قبل ذلك لا تحبك قد لا تكون كارهة لك لكن لا تحبك لأنها ليس لها علاقة معك لكن إذا زهدت فيما عندهم فإن الناس يحبونك فهذا دليل على أن الله يصرف القلوب .
المؤلف يقول : حديث حسن رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنه أيضا المؤلف حسن الحديث بالأسانيد التي أشار إليها . ولكن لتعلم أن هذا الحديث أقل درجة من الذي قبله لأن هذا الحديث فيه راو متهم بالكذب فيه خالد بن عمرو القرشي رحمه الله وهو متهم بالكذب والحديث إذا كان في إسناده متهم بالكذب فإنه ضعيف وضعيف جدا ولكن المؤلف رحمه الله لعله حسنه بطرقه الكثيرة التي ترتقي بمجموعها أن تكون حسنة .
ولكن الحديث بهذا الكلام حسن لغيره أو لذاته ؟ حسن لغيره .
ا. هـ
الحديث الثاني والثلاثون
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" .(1/122)
حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ [راجع رقم:2341]، وَالدَّارَقُطْنِيّ [رقم:4/228]، وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا. وَرَوَاهُ مَالِكٌ [2/746] فِي "الْمُوَطَّإِ" عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا، فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
هذا الحديث حديث حسن كما قال المؤلف رواه ابن ماجه ..... وله طرق يقوي بعضها بعضا . نعم هو كما قال له طرق يقوي بعضها بعضا .
وقوله : مرسلا فاسقط أبا سعيد الصحاح والمرسل ما رواه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فما رواه التابعي ورفعه يكون مرسلا وهذا أحسن من تعريف بعضهم للمرسل ( ما سقط منه الصحابي ) نقول ما يدرينا لو كان الذي سقط الصحابي لا إشكال لأن الصحابة عدول لكن المرسل هو الذي رفعه التابعي وقد يكون التابعون أسقط صحابي وقد يكون أسقط تابعيا أو أكثر على كل حال الحديث الذي معنا ( حسن ) لطرق كثيرة.
( لا ضرر ) هذا نفي أو نهي ؟ نفي ولكنه نفي بمعنى النهي يعني كأنه قيل ( لا يضر ولا يضار ) فهو نفي بمعنى النهي .
وما معناه ( لا ضرر ولا ضرار ) قيل معناه لا ضرر منك على أحد فإياك أن يقع منك ضرر.( ولا ضرار ) عليك فأنت لا يكون ضرر ولا يكون ضرار عليك فكما أنك مخاطب فيقال لا تضر أحدا فكذلك يخاطب غيرك ويقال لا يلحق ضررا بك فالحديث نهي عن الضرر الذي يصدر منك وكذلك نهي أن يوصل أحد ضررا إليك .
وقيل إن المعنى : لا ضرر بغير قصد ولا ضرار بقصد فكلاهما ممنوع
على كل حال المعنيان صحيحان فالضرر ممنوع منك وإليك وكذلك بقصد وبغير قصد.(1/123)
وهذا الحديث أنه قاعدة فقهية قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) فأي عمل أو معاملة يكون فيها ضرر بظلم أو ما أشبه ذلك فهي محرمة لأجل هذا الحديث فإذا أراد أحد أن يبني بيتا وأراد أن يرفعه حتى يحجب الهواء والشمس عن جاره نقول لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا ضرر ولا ضرار ) فبناء البيت أصله مباح لكن لكونك ترفعه هذا الرفع الشديد فيه ضرر على جارك فتمنع من هذا .
رجل أراد أن يوقف سيارته في الشارع هذا مباح لكن لو وضعها أمام بوابة جاره فيضيق عليه في دخوله وخروجه فهذا لا يجوز ( لا ضرر ولا ضرار )
فالمقصود أن هذه القاعدة يدخل فيها كل شيء كل ما فيه ضرر على أحد فإنه لا يجوز ارتكابه . فإن كان الضرر يسيرا فهل يغتفر ؟لا يغتفر .لأن الضرر ما هو ؟ هو ظلم الغير .
هل يجوز أن تظلم الغير ظلما يسيرا ؟لا يجوز . هل يجوز أن تأتي إلى إنسان وتضربه برأسه ثم إذا قال لماذا ضربتني ؟ قلت هذه يسيرة والمحرم هو الضرر الذي يلقيك مغما عليك أو يخرج دمك . نقول : لا ، الظلم يسيره وكثيره محرم لقوله في الحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) وأحاديث كثيرة . والمقصود أن هذا الحديث حديث عظيم وهو قاعدة شرعية وقد تكلم الطوفي رحمه الله على هذا الحديث كلاما طويلا في شرحه على الأربعين وأطال لأن الطوفي كما لا يخفاك من علماء الأصول فأشبع هذا الحديث كلاما وتفريعا وأمثلة .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها .
ا.هـ
الحديث الثالث والثلاثون
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ" .
حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ [في"السنن" 10/252]، وَغَيْرُهُ هَكَذَا، وَبَعْضُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".(1/124)
هذا الحديث كما قال المؤلف حديث حسن ، وهو أيضا كما قال المؤلف بعضه في الصحيح وإنما اختار المؤلف اللفظ الذي ليس في الصحيح لأنه أوضح في المعنى وأبين في التفصيل .
والذي في الصحيح فيه اختصار ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) هذا هو الذي في الصحيح وهذه الجملة فيها شيء من الاختصار وشيء من الإجمال فعدل المؤلف للفظ الذي في غير الصحيح لما ذكرت لك أن لفظ غير المتفق أوضح في البيان وأتم في التفصيل .
( لو يعطى الناس ...) المعنى أن الناس لو يعطوا ويوافقون على ما يدعونه لكانت في ذلك فرصة فيدعي أقوام دماء أناس وأموالهم .
يعني لو كانت الدعاوى تقبل هكذا لأتى إنسان وأدعى أن فلان قد قتل أباه أو قتل أخاه أو ما أشبه ذلك فيستحل بذلك دمه . أو يدعي أن عنده من المال ما لم يعطه أباه فيستحل بذلك ماله لكن الأمر ليس كذلك .
وفي هذا إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة الشرع لأن الإنسان بطبيعته ظلوم جهول كما قال الله . فالإنسان ظالم لنفسه وجاهل عليها فلا بد من هذا الشرع الذي يحكمها ويسويها. ومن ذلك أن الدعاوى لا تقبل إلا بما ذكر في أخر الحديث .
( لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) عندنا شخصان أحدهما مدعي والآخر منكر . المنكر هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر ( المدعى عليه ) في الصحيحين .
المدعي : الذي يزعم الحق .
و المدعى عليه : هو الذي ينكر ما ادعى عليه
فإذا كان هناك مدعي ومدعى عليه كيف نفصل بينهما في القضية نقول البينة على المدعي.
البينة : اسم ما يبين الحق . ما معنى يبين الحق ؟ يظهره ويوضحه . فالشهود بينة ، القرينة الواضحة القوية بينة. فالمقصود / أن البينة في الحديث عامة في كل ما يبين الحق ولا تحصر بشيء . قد تكون بالشهود ، قد تكون بالقرائن الواضحة وبغير ذلك .(1/125)
( واليمين على من أنكر ) يدفع الدعوى بيمينه . يقسم أن ليس عنده شيء لفلان فإذا أقسم فإنه حينئذ لا يلزم بشيء فيدفع الدعوى بيمينه .
إذا هذا الحديث أصل في القضاء وأصل في فض المنازعات وأن يقال البينة على المدعي والآخر هات يمينك هل يطلب من هذا البينة ويطلب من هذا اليمين في آن واحد ؟ أو يطلب من الثاني اليمين إذا تعذرت البينة ؟ بمعنى هذا إنسان ادعى على شخص أنه يطلبه ألف ريال قال هذا الشخص لي عنده ألف ريال فقلنا هات البينة فقال : البينة هذا الكتاب الذي بيننا ورقة مكتوبة وموقعة رسمية أنه يطلبه ألف ريال . أتى بالبينة هل نقول للمدعى عليه هات يمينك احلف على أنه ليس في ذمتك شيء نقول : لا ما نقول احلف لكن نقول احلف إذا لم يكن هناك بينة مع المدعي وإلا إذا قلنا هات البينة من المدعي وأنت حلف ( المدعى عليه ) ما استفدنا شيء لكن نقول هات البينة فإذا أتت البينة فإنه يقام عليه بمقتضى البينة فإن لم يأت بالبينة نقول أنت أيها المدعى عليه احلف ثم تنتهي الخصومة تدفع المطالبة عنك بيمينك على أنه ليس شيء في ذمتك .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( البينة .....) فيه دليل على مسألة قضائية مهمة كبيرة وهي أن القاضي لا يحكم بعلمه ووجد ذلك واضح لأنه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي إلا أن يعلم القاضي صدق المدعي بل قال : عليك أن تأتي بالبينة سواء علم القاضي صدقك أو جهل حالك فلا بد من البينة .
فلو فرض أن تخاصم عند القاضي رجل على شخص أنه يطلبه ألف ريال والقاضي يعلم أن الذي يدعيه صحيح وأنه يطالب فلان ألف ريال لكن هذا الذي ادعى ما عنده بينة هل يحكم القاضي بعلمه وبمعرفته السابقة أن هذه عنده في ذمته ألف ريال هل يحكم له ؟ لا يحكم بعلمه(1/126)
إذا لم يستطيع المدعي أن يحضر البينة هل يضيع الحق ؟ لا ما يضيع الحق فأنت أيه القاضي اجعل القضية عند شخص آخر وكن أنت فيها شاهدا في صدق المدعي . أما أن تحكم بعلمك السابق فإن هذا لا يجوز .
وقوله في الحديث : ( واليمين على من أنكر ) ظاهر الحديث أنه يكتفى بيمين واحدة فإذا حلف يمينا واحدة فإنه يكفي وهذا الظاهر هو الصحيح أن يقال احلف وإذا حلف انتهى الموضوع لكن فيما يطلب منه تكرار اليمين لا بد من تكراره كما سيأتيك في القسامة أنه يطلب منها تكرار اليمين إلى خمسين يمينا وأما ما عدا ذلك مما لم يرد به الشرع بالتكرار فإنه يكتفى بيمين واحدة .
فائدة أخرى : أن اليمين لا يحتاج فيها إلى تغليظ. الأولى لا يحتاج فيها إلى تكرار وهذه لا يحتاج فيها إلى تغليظ . والتغليظ في اليمين إما أن يكون بالمكان أو بالزمان أو بالصيغة . كيف تغلظ في المكان ؟ بأن يقال احلف بالمسجد . أو في زمن فاضل كآخر الليل أو في ساعة الجمعة . أو في الصيغة بأن بقال قل أقسم بالله العظيم القادر وما أشبه ذلك.
فالحديث دليل على أن اليمين لا تغلظ لا في المكان ولا في الزمان ولا في الصيغة ولكن إذا رأى القاضي أن يغلطها حتى يقيم الحجة أكثر على المنكر فإن له ذلك .
والخلاصة / أن هذا الحديث أصل في باب القضاء وفض المنازعات وعمدة الخصومات ترجع إلى هذا الحديث . ا.هـ
الحديث الرابع والثلاثون
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:49].
هذا الحديث هو أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في هذا الباب حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم المراحل التي ينكر بها المنكر .(1/127)
المراد بالمنكر هنا ما أنكره الشرع . كيف ذلك ؟ الشرع أتى بمعروغ وأتى بمنكر فالمنكر ما أنكره الشرع . فمثلا : الكلام في الناس ؟ منكر . من الذي أنكره ؟ الشرع .
سماع الأغاني ؟ منكر . من الذي أنكره ؟ الشرع . فما أنكره الشرع فإنه يكون منكر . لماذا لم نقل ما أنكره العرف ؟ لأن العرف قد ينكر معروفا فمثلا : إسبال الثياب منكر لكنه في بعض الأعراف معروف والمنكر عندهم أن ترفع ثوبك إلى ما فوق الكعبين .
فالعرف لا ضابط له فنقول المنكر ما أنكره الشرع .
قوله : ( رأى ) هذا باعتبار الغالب وإلا إذا علم بالمنكر من غير رؤية وتحقق فإن هذا داخلا في الحديث فمثلا : سمع منكرا ولم يره هل يدخل في الحديث ؟ نعم
كذلك نقل له الثقة أن هناك منكرا هل هو داخل في الحديث ؟ نعم
فتعلق الحكم بالرؤية باعتبار الغالب ، ونضيف أيضا وباعتبار أقوى طرق التحقق فالإنسان إذا سمع ربما يوهم في سمعه وإذا نقل له ربما يوهم الناقل لكن إذا رأى فالغالب الكثير لا يرى إلا الواقع ، وإن كان الإنسان قد يوهم فيما يراه لكن وهمه قليل ونادر بالنسبة في وهمه في سمعه وفيما ينقل إليه .
( فليغيره ) متى يغيره ؟ مباشرة بعد أن يرى . وفي هذا دليل على أن تغيير المنكر أنه على الفور ووجه ذلك من الحديث قوله ( فليغيره ) فإن قيل ألا يجوز تأخير المنكر ؟لا يجوز إلا لمصلحة راجحة . فإذا رأيت من يدخن هذا منكر فنقول غير هذا التدخين الذي يفعله فلان . فإن قيل لو غيرته الآن أصبح في ذلك مفسدة وربما العزة بالإثم فأخره إلى وقت آخر فنقول إذا كان الكلام صحيحا فلا بأس بالتأخير لأن المصلحة راجحة حينئذ .
( فليغيره بيده ) مثلا يكسره إذا كان يكسر أو يرغم فاعلة على تركه إذا كان يترك فإذا احتاج إلى اليد الثانية هل يغيره بالثانية ؟(1/128)
( بيده ) المراد الجنس أو هي مفرد مضاف فتعم ؟ فيغيره بيده الثنيتين إن احتاج وبغيرهما إذ احتاج إلى ذلك فلا بأس بذلك فالمراد فليغيره بيده يعني بالفعل إما باليد أو بما هو غير اليد .
( فإن لم يستطع فبلسانه ) كيف يغيره بلسانه يعني يأمر متعاطي المنكر بالكف عنه فإذا وجد مثلا من يغتاب فالغيبة يقول لصاحبها يا فلان اسكت يا فلان لا تغتب الآن غير المنكر بلسانه . لو قال : يا فلان اتق الله الغيبة محرمة ومن كبائر الذنوب .. هل هذا تغيير للمنكر ؟ لا هذا أمر بالمعروف .
فلا تخلط بين المر بالمعروف وبين تغيير المنكر فتغيير المنكر بمعنى قطعه والتحول عنه وأما الأمر بالمعروف فشيء ثاني . من باب أولى أن نفرق بين تغيير المنكر وبين النهي عن المنكر . قلت له اسكت عن الغيبة هذا تغيير باللسان لأن لك سلطة عليه فهذا تغيير للمنكر ، والآخر قلت له لاتغتب الناس فإن الغيبة محرمة لعلك تعرض عن هذا فهذا نهي عن المنكر بدليل أنه قد يمتثل وقد لا يمتثل فالتغير لا بد أن يمتثل والنهي قد يستجيب وقد لا يستجيب .
إذا نخلص أن بين أيدينا مرحلتين ( مرحلة إنكار ومرحلة تغيير ) أيهما أعلى ؟ التغيير لأنه قطع للشيء وتحويل له ، والإنكار بذل النصيحة وإبداء المفسدة ثم قد يمتثل أو لا يمتثل وعامة الناس يستطيعون الإنكار أما التغيير فقد لا يستطيعه إلا من له قوة في هذا أو له ولاية .
أيهما أكمل الأول أو الثاني ؟ المغير بيده أو بلسانه ؟ الأول لأنه أكمل سلطة حيث يغير بيده .(1/129)
المرحلة الثالثة ( فليغير بقلبه ) كيف ذلك ؟ قالوا بأن يكره هذا المنكر وأن يعزم في قلبه على أنه لو قدر على التغيير لغيره ، ثم ما يترتب على ذلك من مغادرة المكان أمر زائد وهي الثالثة فتبين لك أن الذي يجلس عند أصحاب السوء وعند مشاهدة ما لا يجوز من الأفلام ونحوها ويقول أنا منكر بقلبي هل هذا صحيح ؟ لا الإنكار في القلب يقتضي الكراهة ويقتضي كذلك العزم على أنك إذا قدرت غيرت ويقتضي كذلك المفارقة في المكان .
( وذلك أضعف الإيمان ) فالذي لا يستطيع إلا بقلبه فذلك أضعف الإيمان . لكن قد يقول يكون أضعف الإيمان وهو لا يستطيع إلا هذا (الإنكار بقلبه )؟ أضعف الإيمان بالنسبة للأول والثاني . وإن كان الضعف في الإيمان هنا قد لا يكون إثما فيه ولكنه أضعف الإيمان بالنسبة للأول والثاني .
مسألة : هل هذه المراتب على الترتيب بحيث يقال أبدأ بأعلاها ثم بأدناها ثم بالأخيرة أو هذه تفعل حسب حال المنكر ؟ الجواب : الحديث واضح في هذا أن هذه على الترتيب ولكن أيضا لا بد من سلوك الحكمة في ذلك فإذا أمكن تغيير المنكر باللسان فلا حاجة إلى تغييره باليد لأن المقصود من المنكر إزالته فإذا زال باللسان فلست ملزما أن تغيره بيدك بمعنى أن هذا إنسان يدخن وهذا منكر وأنت تعلم أنك لو قلت له يا فلان اترك الدخان سوف يتركه فليس لازم أن تقول أنا الآن صاحب سلطة فأذهب وآخذ لدخان منه وأتلفه أمامه نقول ما يلزم والمبغي سلوك الحكمة بلسانك ومخاطبتك فإن هذا هو المقصود .(1/130)
ولتعلم أن شيخ الإسلام ذكر قاعدة وهي قاعدة صحيحة مأخوذة من نصوص الشرع وهي أن إنكار المنكر يراد به في الدرجة الأولى القضاء عليه فإن لم بمكن فتقليله وهذا تغيب عن بعض الناس يظن أن المنكر لا بد أن يزال فنقول لا بأس هذا في الدرجة الأولى فإن لم يمكن فإنه يسعى في تقليله وكذلك عكس هذه القاعدة في المعروف يسعى في إيجاده فإن لم يتمكن إيجاده فإنه يسعى في تحصيل ما تيسر منه ( فالشر يقضى عليه أو يقلل والخير يجلب أو يؤخذ منه ما يستطاع منه ) وهذا الذي قاله شيخ الإسلام هو الذي تدل عليه النصوص الكثيرة والقواعد الشرعية العامة . والحمد لله رب العالمين . ا . هـ
الحديث الخامس والثلاثون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" . رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:2564].
قال أولا : ( لا تحاسدوا ) نهي عن الحسد نهي أن يقع حسد والحسد كما يعرف البعض هو تمني زوال النعمة عن الغير . إذا تمنى زوال النعمة عن الغير فإنه يكون حاسدا ، والنعم تختلف فقد يحسده على نعمة الأولاد أو على نعمة المال أو على نعمة العلم او على نعمة الجمال ........(1/131)
والحسد يتفاوت فيها . والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحسد فقال : ( لا تحاسدوا ) والواجب على الإنسان أنه يرضى بقضاء الله عز وجل وقدره لما كان أخوك أكثر منك مالا أو أكثر منك علما الواجب أن ترضى بقدر الله عز وجل ثم كذلك تسعى في تحصيل ما حصله هذا هو الواجب وقد أرشدنا اله إلى هذا ( واسألوا الله من فضله ) بعد نهيه أن يتمنى بعضنا ما فضل الله به بعضنا على بعضا فالذي أعطى فلان من الناس هل هو قادر على أن يعطيك ؟ نعم ولا شك قادر على أن يعطيك وعلى أن يزيدك وتصبح أكثر منه .
إذاً هذا هو العلاج الذي تقابل به نعمة الغير وهو أن تسأل الله من فضله فإذا رأيت إنسانا ذا مال أو ذا علم أو ذا جاه فإنك أدب نفسك فقل في وقتها أسأل الله من فضله لأنك إذا قلت ذلك رددت الحسد الذي في نفسك ، وثانيا : سألت الله من فضله فهو القادر على أن يعطي وهو لقادر على أن يزيد في العطاء . فالأدب الرباني الذي أرشد إليه تجاه النعم التي يتفاضل بها بعض الناس على بعض .
والنهي الثاني ( ولا تناجشوا ) والتناجش هو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراؤها فيأتي إلى أناس يتزايدون سلعة فيزيد معهم وهو لا يريد شراؤها إذا كان لا يريد شراؤها لماذا يزيد فيها ؟ له في ذلك أغراض قد يكون نجشه لينتفع البائع صدقه أو قريب له فبدلا من أن تباع السلعة بخمس تباع بسبع بسبب النجش ، وقد يكون غرضه أن يضر المشتري رآه يشتري فقال لا يمكنك أن تصلك السلعة بسعر قليل لابد أن نضرك فيزيد فيها حتى يشتريها المشتري بثمن مرتفع ، وقد يكون له غرض آخر وهو قليل أن ينفع نفسه وصورة ذلك أن تباع سلعة وعنده نظير لها فيزيد في السلعة حتى تباع سلعته بثمن مرتفع حتى إذا جاءت سلعته قال الناس هذه السلعة بيعت أختها مثلا بكذا وبكذا فيشترون سلعته بنفس الثمن الذي بيعت به الأولى وهذا قليل أعني هذه الصورة .(1/132)
والنهي الثالث : ( لا تباغضوا ) والتباغض أمر قلبي يكون بغضا وحقدا على إخوانك المسلمين فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البغضاء وهي تهجم على القلب ليس للإنسان فيها خيار والإنسان يبغض فلانا وهو لا يحب أو بوده لو تخلص من هذه البغضاء فكيف قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تباغضوا ) ؟ المعنى لا تأخذوا بأسباب البغضاء ، والأمر الثاني: أنها إذا وقعت يتخلص منها ويحاول أن يطهر قلبه من هذه البغضاء فصار معنى ( لا تباغضوا) أمران : لا تأخذوا بأسباب البغضاء ، وإذا وقعت خذوا بأسباب الخلاص منها وتطهير القلب منها .
على الاحتمال الأول : زميلك يكره أن تناديه باسم لا يحبه فنقول لا تفعل ذلك لأنك أخذت بسبب من أسباب البغضاء حتى لا يكون في قلب أخيك بغضاء .
على الاحتمال الثاني : وقع في قلبك بغضاء لأخيك فنقول سارع في علاجه وبادر إلى أن تطهر قلبك وأن تلتمس العذر لأخيك وأن تجعله في مصاف الذين لا يريدون الإساءة إليك .
النهي الرابع : النهي عن التدابر . نهى المسلم أن يعطي أخاه دبره يعني قفاه غير مبال به وهنا ( لا تدابروا ) تحتمل معنيين تحتمل المدابرة الحسية بحيث تعطيه قفاك حسا إذا قابلك في شارع تعطيه قفاك وترجع عن لقياه ، وكذلك من المدابرة الحسية إنك إذا جلست مجلسا يعطي كل واحد منهما دبره للآخر احتقارا له . وانتبه لهذا القيد ( احتقارا له ) أما لو أعطاه قفاه لا على وجه الاحتقار فإن هذا لا بأس به الآن أنتم متدابرون فطبيعة الجلوس في الحلقة يقتضي ذلك . لكن المراد ما ذكرت لك على وجه الاحتقار فإن هذا لا يجوز .(1/133)
ويحتمل المدابرة المعنوية : يعني يعطيه قفاه معنا لا حسا فإذا قال رأي فإنه لا يلقي له بالا ويدبر عنه ، إذا حدثه بمشورة لا يلقي له بالا ويدبر عنه إذا أعطاه نصيحة أو توجيها لا يلقي لها بالا ويدبر عنه . فالإدبار هنا معنوي ، والواجب على الإنسان أن يحترم آراء إخوانه ونصائحهم ومشورتهم ثم إن راقت له فليأخذ بها وإن كانت غير مناسبة وغير لائقة غير ملزم بأخذها .
الجملة الخامسة ( لا يبيع بعضكم على بيع بعض ) فإذا باع أخوك سلعة فإنك لا تبيع على بيعه باعه بخمس إياك أن تذهب للمشتري وتقول عندي نفس السلعة بأربع فهذا لا يجوز لأنك بعت على بيعه ، والسبب هنا واضح أنه يؤدي إلى الكراهية والحسد وما أشبه ذلك .
هل يشمل هذا كل بيع قليلا كان أو كثيرا ؟ نعم يشمل
هل يشمل هذا إذا كان البيع في خيار أو ليس فيه خيار ؟ يشمل فلا تبع على بيع أخيك سواء كان في البيع خيار أو ليس في البيع خيار .
ومثله الشراء على شراء البعض فإن هذا لا يجوز وصورة الشراء أن يبع سلعة بخمسين مثلا ثم يأتي هذا فيشتريها على شراء أخيه يقول أنت بعتها بخمسين وأنا أشتريها بستين فهذا لا يجوز والمتضرر هنا المشتري .
ومثله أيضا سائر عقود المعاوضات فإذا أتاك إنسان وقال أجرت فلان بكذا أنا استأجر بكذا إجارة على إجارة أخيك .
ومثله المصانعة على مصانعة أخيك . والمعنى يتفق إنسان مع شخص أن يصنع له أبوابا أو على أشياء أخرى بكذا وكذا فيأتي هذا ويقول أنت اتفقت مع فلان على أن يصنع لك بكذا وكذا بخمسين مثلا أنا اصنعه لك بأربعين .
المهم أن سائر عقود المعاوضات لا يجوز أن تتعدى على أخيك فيها .
فإن قلت إنه باعه الآن و غبنه في بيعه . فهل يجوز لي أن أبيع على بيعه ؟
باعه سلعة بخمسين ريال وأنت تعلم أنها لا تساوي إلا ثلاثين ريال فالعشرين هذه غبن . فهل يجوز لي أن أقول افسخ هذا البيع واشتر مني بثلاثين ريال بحجة أن هذا غبنك ؟ لا يجوز .(1/134)
كيف أصنع في مسألة الغبن ؟ أقول يا فلان اشتريت السلعة بخمسين وهي لا تساوي ثلاثين رجعها واشتر غيرها ، ثم أذهب إلى البائع وأقول إنك بعت بخمسين وهي لا تساوي ثلاثين ، وأنا في كلا الحالتين لا اذكر سلعتي انتبه .
إذا نصحه وأرجع سلعته لأجل الغبن هل له أن يعرض سلعته في هذه الحال ؟ لا ينبغي أن يعرض السلعة التي عنده لكن لو علم بها أو عرضها غيرك فلا بأس أما أن تعرضها أنت فهذا قد يوجب أن يقعوا في عرضك وأنت ما [ماعلمت ].
إذاً قوله : ( لا يبيع بعضكم ..) انتهينا أنه عام في سائر عقود المعاوضات .
( وكونوا عباد الله إخوانا ) أي متآخين بينكم لأن هذا هو الواجب وبه استقامة الحال . أن تكون عباد الله متآخين يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه ولذلك أكدها صلى الله عليه وسلم بقوله : ( المسلم أخو المسلم ...) أخوة إيمانية لا نسبية أقوى من النسبية فالمسلمون إخوة ولو تباعدت أقطارهم واختلفت أجناسهم واختلفت لغاتهم .
ولو فقه كثير من الناس هذا التوجيه النبوي لزالت الخلافات بين الشعوب وزالت الخلافات بين الأمم أو بين الأمة الإسلامية وأصبح الناس كلهم كالجسد الواحد وأصبح المسلم إذا رأى أخاه المسلم كالمكمل له إن كان فقيرا أعطاه من ماله وإذا رآه جاهلا لا يحسن العبادة لا يقر قراره ولا يأتيه النوم ولا يستريح باله إلا أن يعلمه كيف يصلي لماذا لأنه أخوه .
لكن للأسف الآن مما نجح فيه المستعمر الخائن الكاذب أن أوجد الفواصل بين المسلمين فأصبحنا نرى المسلم الفقير كأنه من جنسية ثانية غير المسلمة وبالتالي لا تتحمس لمشاكله ولا لتعليمه ولا للدفاع عنه ولا لمحبته كما نحب الأخ الذي لنا في النسب وبالتالي هذا كما قلت لك هذا مما نجح فيه العدو الكافر .
والواجب أن نبعث الأخوة الإيمانية لأنها واجبة ليس نبعثها لأنها سنة بل لأنها واجب نتعبد لله فيها ، فالمسلم أخوك اتفق معه إذا كنت قادر وكان غير قادر علمه إذا كان جاهل ، انصحه إذا كان مخطأ.(1/135)
( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ...) هذه الجمل من مقتضيات أخوة المسلمين بعضهم لبعض لا يظلمه يعني لا يوصل إليه الظلم لا بمال ولا بكلام ولا بغير ذلك لا يظلمه في نفسه.
( ولا يخذله ) في مظلمة غيره له فلا يخذله إذا ظلمه غيره وهو قادر على نصره فأنت لا تظلم أخاك المسلم وأنت لا تخذل أخاك المسلم وأنت قادر على نصره ، فإذا أخذ أحد ماله وأقام الحجة عليه وظلمه مظلمة مالية نقول لا تخذله أنت تعرف أن المال له انصره في هذه المظلمة دافع عنه اشهد معه إذا كان المقام يحتاج إلى شهادة فالمقصود أنك لا تخذله يعني لا تمكن أحدا في إيصال الظلم إليه وأنت قادر على نصره .
( ولا يكذبه ) يعني لا يخبره بالخبر الكاذب ويكون مطية لكذباته التي ينقلها بل أخبره بالصدق .
( ولا يحقره ) لا يقع في قلبه استصغار له ويقول ما هذا لا يعرف شيئا هذا فيه كذا وكذا من النقائص هذا لايجوز أن تحقر أخاك المسلم وإن كان عاصيا يتعاطى كبائر الذنوب فإنك لا يجوز أن تحقره .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التقوى ها هنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات ) يشير إلى صدره مبينا محل التقوى وأن الأمور التي سبقت هذه منبعها التقوى فإذا وجدت التقوى فإنها يسهل على الإنسان ألا يحسد وأن لا ينجش وألا يبغض .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار في هذه الكلمة إلى منبع هذه المذكورات وأن منبعها التقوى ، والتقوى تكون في القلب ليست في اللسان ولا في الجوارح .
فإذا وجدت التقوى القلبية استقامة الأمور السابقة ( الظاهرية ).
ثم قال : ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يعني يكفيه من الشر أن يحقر أخاه المسلم فأنت يكفيك من الشر والشر كله لا خير فيه لكن يكفيك منه إذا أردت شرا أنك تحقر أخاك المسلم تستقل شأنه في خلقته في علمه في رأيه في أصله في حسبه .. كل هذا إذا احتقرته فإن هذا يكفيك من الشر .(1/136)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لو لا تأتي يوم القيامة بشر إلا أن احتقرت أخاك المسلم لكان هذا كافيا في حقك وكافيا في إدخالك النار وكافيا في العار والذل الذي يلحقك إذا من لازم هذا أن لا تحتقر أخاك المسلم ، واجب عليك أن لا تحتقره فإن رأيته خفيف العقل نقول وإن كان كذلك لا تحتقره بل أعطه حقه بحسب حاله ولذلك أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسألة فقال :( كل المسلم على المسلم حرام .....)
فالمسلم تجاه أخوه المسلم محرم ومحترم في دمه وماله وعرضه فلا يحل سفك دمه لا بقتل ولا بما دونه لأن دمه محرم ، كذلك في ماله لا يحل له شيء من ماله قل أو كثر كذلك في عرضه وهي سمعته لا يجوز لك أن تتجرأ عليها لا بغيبة ولا بما فوقها لأن عرضه محرم .
إذا حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق الإنسان الثلاثة : حفظ دمه ، حفظ ماله ، حفظ عرضه كلها محترمة ومحرمة .
إذا هذا الحديث كما تلاحظ جملة من أجمع الجمل التي يجب على الإنسان أن يأخذها وأن يتعامل بها تجاه إخوانه المسلمين وإذا فعل ذلك فإنه يحصل براءة ذمته وكذلك احترام الآخرين ومعاملته بالمثل تجاهه . فنسأل الله أن ينفعنا بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم إنه على كل شيء قدير . ا . هـ
الحديث السادس والثلاثون(1/137)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِما سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ إلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبَطْأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ [رقم:2699] بهذا اللفظ.
في هذا الحديث رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في التنفيس عن المؤمن .
وقوله ( كربة ) يعني بذلك شدة وقعت به إما في خاصة نفسه أو في أهله أو في ما له علاقة به بحيث تكون شدة وضيق عليه فيأتي هذا الإنسان وينفس هذه الكربة وهي من كرب الدنيا فإن ثوابه من جنس عمله أن الله تعالى ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة .
وفي قوله ( نفَّسَ ) فيه إشارة إلى شدة هذه الكربة لأنه قال : نفس فكأنه من شدة الكربة منع النفس الذي هو مادة الحياة ثم إذا أزيلت هذه الكربة أو الشدة كان كأن النفس يعود إليه فتعود إليه الحياة مرة ثانية .
وفيه دليل على أن يوم القيامة كربا كثيرة وشدة كثيرة وهذا معلوم فإن يوم القيامة يوم عظيم فيه كرب تكون للناس عامة وكرب للناس خاصة لا سيما العصاة فإنه يلحقهم من الضيق والشدة ........ ( انقطاع في التسجيل )(1/138)
على أن قوله صلى الله عليه وسلم ( من كرب يوم القيامة ) يدخل في ذلك ما يكون في قبر الإنسان فإن ما يكون في القبر هو مما يكون في يوم القيامة لأنه من مات فقد قامت قيامته ولا شك أن القبر فيه كرب وابتلاء وسؤال فهذه كرب يحتاج الإنسان من ربه أن ينفس عنه فكان من أسباب هذا التنفيس أن ينفس عن أحد كربة في هذه الدنيا .
( عن مؤمن ) واضح أن الحكم في المؤمن لكن الكافر إذا نفس عن كافر كربة هل يثاب على ذلك أم لا ؟ الكافر إذا كان حربيا فهو غير داخل ، وإذا كان ليس حربيا كالذمي مثلا فإنه داخل لأن الله أمر بالإحسان والإحسان عام في ذلك المسلم والكافر إلا أنه يستثنى الحربي فإنه محارب حقه أن يضيق عليه حتى يقلع عن كفره أو يقتل في هذا الكفر الذي هو فيه
إذا التقيد بالإيمان هذا باعتبار الغالب وباعتبار الأهم وإلا فإن غير المؤمن من أهل الذمة ومن في حكمهم داخلون في هذا ويندب في الإحسان إليهم .
قال: ( ومن يسر على معسر ) يسر يعني جلب اليسر على معسر يعني على من عنده عسر وهذا عام أيضا قد يكون العسر في مسألة تخصه في أولاده وقد يكون في مال ضائقة مالية ركبه دين أو ما أشبه ذلك أو قل ما شئت فيمن ركبه عسر قد يكون في الدنيا فإنك إذا جلّيت العسر عليه وسهلت هذا فإن الجزاء من جنس العمل.
قال : ( يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) فيكون ذلك من جنس العمل ولكنه أعظم يكون تيسير من الله لهذا الذي يسر على المؤمن تيسر أموره وتكون أموره دائما في سهولة وفي توفيق لأنه يسر على معسر .
تيسير أمور الدنيا واضح وكذلك تيسير أمور الآخرة لأن الآخرة كما سبق قبل قليل فيها شدة وفيها كرب فتكون أموره في الآخرة ميسرة ييسر حسابه ييسر دخوله إلى الجنة ييسر قصاص الناس منه إن كان أحد يريد أن يقتص منه فييسر عليه لأنه يسر على عبد في الدنيا فالمقصود أن هذا جزاء عظيم تيسير في الدنيا وتيسير في الآخرة .(1/139)
قال : ( ومن ستر مسلما ستره اله في الدنيا والآخرة ) من ستر مسلما على أمر يستدعي أن يستر عليه فإن الله يستره في الدنيا والآخرة وهذا فيمن أوجب مثلا تعذيرا إذا ارتكب ما يوجب تعذيرا أو حدا ثم ستره في الدنيا فإن الله يستر عليه في الدنيا والآخرة وهذا الحكم لابد أن يقيد بأمرين ( اعني الستر على المسلم ) هما :
1/ أن يكون في الستر إصلاح لمن سترت عليه .
2/ ما لم يبلغ الإمام .
فإذا بلغ الإمام فإنه لابد أن يستوفى منه والستر عليه في هذه الحالة لا يجوز.
فهذا الإطلاق يقيد بالنصوص العامة وهي أن يكون في الستر إصلاح لأنه إذا لم يكن في الستر إصلاح كان في الستر عليه فساد وإفساد فمن كان شاربا للخمر ويتكرر منه هذا ويستر عليه المرات العديدة ولا يتوب ففي هذه الحالة لا يستر عليه بل بلغ عليه .
والثاني إذا لم يبلغ ذلك السلطان فإذا بلغ السلطان فلا يجوز للسلطان إلا أن يقيم الحد فالستر والتجاوز والعفو هذا ما لم يبلغ بها السلطان .
ستر الله في الدنيا واضح فإن الإنسان لا يأمن أن تزل قدمه هو في أمر يطلب ستر الله فإن الله يسترك ، فإن الله يهيئ لك من لا يكشف سترك كما أنك سترت على أخيك فكذلك يهيئ الله لك من يستر عليك ، وكذلك الستر في الآخرة فإن الإنسان محاسب في الآخرة وسوف يقر بذنوبه وسوف يعاين بعيوبه فإذا كان الإنسان قد ستر أحدا في الدنيا فإن من ثواب الله عليه أن يستره في الآخرة . وأي السترين أهم وأفضل ؟ في الآخرة لأن الفضيحة في الآخرة أعظم فكان الستر فيها أعظم .
( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) الله في عون العبد يعني يعين العبد ويكون ميسرا أموره ويكون قاضيا لحاجته متى ما كان العبد في عون أخيه وينظر الشيء الذي يسهل عليه ويفعله فليؤمل أن الله يكون في عونه ويكون له نصيرا وظهيرا .(1/140)
( والله في عون العبد ) ليس المعنى أنه يعينك في هذه المدة التي تكون معينا لأخيك ليس هذا المراد ، بل يعينك وإن انقضت إعانتك لأخيك وبهذا تعرف خطأ من يروي هذا الحديث برواية ثانية يقول : ( والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ) هذا خطأ فالحديث الصحيح ( ما كان العبد في عون أخيه )
إذا قلت مادام يصبح المعنى أن الله يعينك مدة إعانتك لأخيك تصبح إعانة الله في هذه المدة فلو فرض أن أعانة أخيك تحتاج إلى أسبوع فإن إعانة الله تكون لك في هذا الأسبوع إذا قلنا مادام .
وإذا قلنا (ما كان العبدفي عون أخيه) فإن إعانة الله مستمرة مادام هذا الوصف قد وجد فيك وإن كان في زمن قد انتهى .
( ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) هذه الجملة من أعظم الجمل الحافزة لطلب العلم .
من سلك يعني من أخذ طريقا . يلتمس فيه علما يعني يريد هذا العلم وتلمسه ويحاول أن يجمع منه فإن الله يسهل له به طريقا إلى الجنة .
وقوله ( من سلك طريقا..) الطريق هنا حسي أومعنوي ؟ نقول يشمل كليهما .
من سلك طريقا حسيا بحيث سافر إلى حلق العلم أو مشى إليها من مسجد إلى مسجد فإن هذا سلوك حسي يمشي فيه الإنسان ويتنقل . وكذلك الطريق المعنوي كيف ذلك ؟ طلب العلم له طرق من الناس من يسلك طريق الحفظ فيقال له من سلك طريقا .
من الناس من يسلك طريقا في الفهم والتلخيص فنقول داخل في الحديث .
من الناس من يسلك طريقا في العلم في المدارسة يتدارس مع زميله فهذا طريق أيضا
من الناس من يسلك طريقا في العلم بالسؤال والجواب والاستفتاءات فهذه طرق لتحصيل العلم فالمهم أن من سلك طريقا حسيا كان أو معنويا وهي طرق شتى فإن الله يسهل له به طريقا إلى الجنة .(1/141)
وعلى المعنى الثاني ( من سلك طريقا .......) فيه إشارة والله أعلم أن على طالب العلم أن ينتهج طريقا في طلبه العلم وأن لا يكون طلبه للعلم خبط عشواء مرة يسأل ومرة يقيد ومرة يحضر حلقة لفلان ومرة لفلان ويضيع وقته في التنقلات فنقول هذا قد يحصل معلومات لكن هل يحصل علما ؟ لا يحصل علما يحصل معلومات وفوائد هنا وهنا . لكن العلم يحتاج إلى طريق يثبت عليه ويستمر عليه حتى يجني الثمرة .
وهذه المسألة ينبغي أن تكون على بال الإنسان لأن الإنسان في أول طلبه للعلم يروق له التنقل والتقليد يقلد زميله أسبوع وزميله الآخر أسبوع ثم تقضى السنة والسنتان وينتهي زمن التحصيل وهو يتنقل هنا أو هنا فنقول هذا لا ينبغي فمتى ارتضيت طريقا ورأيت أنك مستفيد وأنه مفيد وأنك مستمر فيه فاثبت على هذا ، وإن كان في ظاهر الأمر أنه بطيء وأنك لا تحصل شيئا يعجبك في أول الأمر ، فنقول اثبت فالقليل مع القليل يصبح بفضل الله كثيرا ويصبح علما غزيرا .
لكن القضية التي هي التنقل تقضي على وقتك وتصيبك بالملل والسآمة في وقت مبكر ،والجنة لها طرق ومن طرقها أن الإنسان يطلب العلم .
إذاً من مات وهو يطلب العلم مات في الطريق فيؤمل بالله عز وجل أن يوصله إلى مراده وأن يكون من أهل الجنة بهذا العلم الذي سلك طريقه .
( وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ...) ما هنا شرطية أو نافية ؟ نافية يعني لم يجتمع قوم يعني جماعة قلة أو كثرة . في بيت من بيوت الله يعني في مسجد من المساجد يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم هذا عملهم ، ويتدارسونه يعني يتباحثون في معناه وفي دلالته ، وظاهر هذا الحديث أنهم يتدارسون أي كل ما يأتي بما عنده من المعاني والفهم وليس هناك لهم مقرر ومدرس فهم يتدارسون كل يعطي الذي عنده ويتباحثونه بينهم فإذا فعلوا ذلك في مسجد من المساجد فقد ذكر ثوابهم في الحديث(1/142)
وقوله ( يتلون كتاب الله ) هل المراد يتلونه تلاوة جماعية بصوت واحد مجتمعين على ما يقرؤون ؟ نقول لا ليس هذا لأن هذا لم يعرف عن السلف ولا في هدي الصحابة وهم في مقدمة السلف لم يعرف أنهم يجلسون ويقرؤون الفاتحة بصوت جماعي أو يقرؤون آيات بصوت جماعي .
في قوله ( يتلون ) فيما يظهر فردا فردا كما يقال بالدور كل واحد يقرأ ما تيسر له فإذا كان كذلك فإن هذا معنى يتلون كتاب الله يعني يتلو الواحد تلو الثاني هكذا هو هدي السلف ما ثوابهم؟
قال : ( إلا نزلت عليهم السكينة ..)الأول نزلت عليهم السكينة .
من أين نزلت ؟ من الله . والسكينة والطمأنينة بينهما فرق فالطمأنينة تكون في القلب والسكينة تكون في الجوارح هذا إذا جمع بين الطمأنينة والسكينة أما إذا جاءت السكينة فقط فإنها تكون في القلب يعني يسكن قلبه ثم باللازم إذا سكن قلبه تسكن جوارحه .
إذا تنزل عليهم السكينة في قلوبهم طمأنينة في قلوبهم بحيث أن الإنسان يسكن قلبه إلى الله عز وجل و يخلد قلبه ويحس بشيء في داخلة من الراحة القلبية .
( وغشيتهم الرحمة ) يعني غطتهم الرحمة من الله عز وجل نزلت عليهم من الله رحمة وغطتهم وغشيتهم تغشية تامة ، وهذه الرحمة وإن كانوا لا يرونها بأعينهم لكن يحسونها في قلوبهم وفي جوارحهم سكينة وراحة .
( وحفتهم الملائكة ) يعني أحاطت بهم ، والإحاطة هنا أمر غيبي لا يراه بعينه لكنه يؤمن به إيمانا تاما ، وقد يستدل على قوله (وحفتهم الملائكة ) بالأثر الذي يجده الإنسان في قلبه من الثبات واليقين والتعلق بالله عز وجل حتى كأنه يرى الجنة ويرى النار فهذا أثر من آثار حفتهم الملائكة .
الأمر الرابع ( وذكرهم الله فيمن عنده ) ذكر رضا وذكر احتفاء وأجر .(1/143)
وممن عند الله ممن نعلمهم الملائكة هذا الذين نعلمهم وقد يكون غير هؤلاء ، ولا شك أن ذكر الله عز وجل لهؤلاء القوم عند الملائكة أو عند غيرهم أن هذا تزكية لهم لو قيل لك إن المعلم الفلاني أو الأمير الفلاني ذكرك في مجلسه عند أصحابه ألا تفرح بهذا لاشك أنك تفرح بهذا . إذا إذا ذكرك ملك الملوك فإن هذا أعظم وأجل أن يذكرك فيمن عنده .
هل هذا الحكم خاص في الذين جلسوا في بيت من بيوت الله ؟ لا شك أن هذا هو لفظ الحديث ، ولكن لاشك أن من جلس في بيت لهم أو في مكان آخر فإنهم يرجى لهم الخير إن شاء الله ، ويكون ما ذكر في الحديث من باب الغالب لأن الجلوس في المساجد هو الغالب وهو الأيسر على عموم الناس لكن من أراد صورة الحديث فليحرص أن يجعل ذلك في بيت من بيوت الله .
قال : ( ومن أبطأ به عمله ..) هذه جملة نبوية عظيمة .
من أبطأ تأخر به عمله يأتي يوم القيامة في أخريات الناس عمله بطيء قليل ليس عنده إلا صلوات معدودة ذكر قليل صيام قليل عمله بطيء لم يلحقه بالقوم الآخرين . فنقول لهم لهذا ما دام أن عملك أبطأك إذا لا ترجي إسراعا بالنسب فدل هذا على أن الإنسان ينبغي أن يعتني بعمله وأن لا يعتمد على نسبه فالنسب لا يسرع بك إذا أبطأك بك عملك ، فإذا أسرع بك عملك وأسرع بك نسبك فهذا خير إلى خير بمعنى من كان من علية القوم بنسبه وكان مجتهدا في العمل الصالح فإن هذا خير إلى خير ، لكن إذا فقد العمل الذي هو الأساس فإن هذا لا ينفع ، ولذلك أبو لهب من أشرف الناس وعم الرسول صلى الله عليه وسلم أبطأ به عمله بل قعد به عمله فلم ينفعه نسبه فلا قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم فصار في نار تلظى وكذلك غيره من صناديد كفار قريش وكذلك غيرهم من أشراف الفاسقين وأشراف القوم العاصين كل هؤلاء إلى يوم القيامة لم يسرع بهم عمهم وبالتالي لم يسرع بهم نسبهم .(1/144)
ففي هذا الحديث أن الإنسان يحرص على أن يكون ذا عمل صالح ولذلك لو تأملت بعض الذين أسرع بهم عملهم واجتهادهم في سلف هذه الأمة لوجدت أنهم سبقوا أشراف القرشيين فهذا عطاء بن رباح تابعي من كبار التابعين ليس بذي نسب بل هو مولى رحمه الله بل وخلقته ليست بذاك رحمه الله ، ومولى عند امرأة يخدمها ويقوم بشأنها حتى اعتقته .
الشاهد أنه طلب العلم واجتهد فيه حتى صار يرجع إليه فيه وكان الخليفة في ذلك الوقت يغار منه ويقول هذه السيادة الحقيقية ليست سيادة الملك والجبروت بل سيادة العلم .
فنسبه تأخر به لكن ما ضره . وغيره كثير وكثير .
فالمقصود / أن الإنسان إذا قل نسبه فإنه يجتهد في أن يكون سباقا بالنافع بالعمل الصالح الذي يرفعه في الدنيا والآخرة .
فالحاصل أن هذا الحديث حديث عظيم واجمع الأحاديث نظير حديث الأمس في كونه من جوامع الكلم .
نسأل الله أن ينفعنا بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم . ا.هـ
الحديث السابع والثلاثون
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: "إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:6491]، وَمُسْلِمٌ [رقم:131]، في "صحيحيهما" بهذه الحروف.(1/145)
معنى ( كتب الحسنات ..) يعني قدرها مكتوبة فالحسنات التي يعملها ابن آدم من أولهم إلى آخرهم هذه مكتوبة ومقدرة وكذلك السيئات مكتوبة.
إذا المسألة في أمر قضى وكتب وفرض فلا مزيد فيه ولا نقص وذلك أن الله تعالى كتب كل شيء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قدر المقادير وكتبها في كتاب عنده ومن ذلك الحسنات والسيئات لكنه مع ذلك لا يجوز أن يعتمد أحد على الكتابة الأولى لأنه لا يعرفها فالواجب أن يجتهد مع نفسه بالحسنات ويجتهد معها في ترك السيئات ولا يقل هذا شيء قد كتب هو لا شك قد كتب ولكنك لا تدري ما كتب وبالتالي لا تعتمد إطلاقا على الكتابة الأولى لأنها أمر غيبي ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
( من هم بحسنة ..) هذا إنسان هم بالحسنة . والهم يكون بالقلب يعني هم بقلبه ونوى الحسنة ولكنه لم يعملها فمن رحمة الله عز وجل أن تكتب له حسنة كاملة فهذا الهم الذي هم به في قلبه ونواه لا يضيع عليه بل من توفيق الله تعالى أن يكتب له في صحيفة أعماله يكتب له حسنة كاملة فدل هذا على أن الإنسان ينبغي له أن تكون همته في الصالحات والحسنات فإن يسر الله وعملها فهذا خير إلى خير وإن لم يتيسر فإنه على أقل تقدير يحصل أجر النية وأجر الإرادة الباطنية ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (نية المؤمن خير من عمله) فالإنسان ينوي نيات كثيرة ينوي الصلاة ،الزكاة ، الحج ثم لا يفعلها لسبب أو لأخر فيحصل بنيته الطيبة الأعمال فنيته خير من عمله .هذا قسم.(1/146)
القسم الثاني : إن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وهذا أعلى من القسم الأول لأنه هم بالحسنة وعملها نوى أن يصوم ثم صام فإن هذا أعلى من الأول ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (كتبها الله عشر حسنات ) وهذا متمشي مع القاعدة الشرعية أن الحسنة بعشر أمثالها قال :(إلى سبعمائة ضعف ...) فالحسنات مضاعفة لا حد لنهايتها الله أعلم بنهايتها ليس إلى سبعمائة بل سبعمائة مرحلة ثم يزاد في التضعيف إلى أضعاف كثيرة .
عندنا الآن رجلان : رجل هم بحسنة فلم يعملها يكتب له حسنة واحدة كاملة ، ورجل هم بحسنة فعملها يكتب له عشر حسنات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة .
الجانب الثاني : جانب من هم بالسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، فهذا \إنسان هم بغيبة أو نظر إلى محرم أو سماع محرم لكنه لم يعمل هذا الذي هم به فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ( يكتب له حسنة كاملة ) وهذا شيء يدل على كرم الله عز وجل أن هذا الذي هم بالسيئة كتب له ما كان يهم بالشيء السيئ كتب له حسنة كاملة مع أن همته دنيئة ولكن انتبه فإنه يقول ( فلم يعملها ) ولكن السؤال لماذا لم يعمل هذه السيئة ؟ والإنسان يترك السيئة لأغراض كثيرة . فأقول إن قوله ( فلم يعملها ) يفسره حديث أخر حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه : ( إن تركها من أجلي فاكتبوها حسنة ) إذا من هم بسيئة فلم يعملها فلابد أن يكون السبب أنه تركها من أجل الله عز وجل لقوله ( إن تركها من أجلي ) فهذا الحديث المطلق يحمل على الحديث المقيد وهو أنه لابد أن يتركها من أجل الله عز وجل .(1/147)
وقد تقول كيف يتركها من أجل الله . المعنى أنه يتركها تعظيما لله عز وجل وخوفا منه وما أشبه ذلك ، وكان في الأول استولت عليه من الغفلة واستولت عليه شيء من الوساوس الشيطانية لكنه سرعان ما استيقظ فترك المعصية من أجل الله عز وجل وهذا له أمثلة كثيرة:
ومن أمثلته :يوسف عليه السلام لما هم بامرأة العزيز ولقد همت به وهم بها لكنه ترك هذا الذي هم به من أجل الله عز وجل ولذلك قال الله تعالى :( لولا أن رأى برهان ربه ..).
من أمثلته : ما حصل لأحد الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم تمكن من ابنة عمه وقعد منها مقعد الرجل من امرأته لكنه استيقظ الإيمان في قلبه ثم قام عنها تركها لأجل الله عز وجل لأنه قام عنها وهي أحب الناس إليه وهذا مثال لمن ترك السيئة لأجل الله تعالى .
إذاً حملنا هذا الحديث المطلق على الحديث المقيد وهو أنه لابد أن يتركها لله عز وجل فإن تركها لغير الله هم بزنا فلم يستطيعه عجز عنه ، هم بسرقة فلم يستطيعها فإن هذ غير داخل في الحديث بل هو يؤاخذ بهمه ويعاقب عليه .
ومثله لو ترك السيئة ليس عجزا عنها ولكن خوفا من الناس أو خوفا على سمعته أو من كلام الناس فهذا داخل في النوع الذي قلنا إنه عاجز وتكتب عليه سيئة ، فمثاله إنسان أراد أن ينظر النظرات المحرمة لمن لا تحل له ولكنه رأى أصحابا له ينظرون إليه فترك هذا النظر المحرم خوفا من زملائه أو حياء منهم فهذا لم يتركها لأجل الله عز وجل إنما تركها لمن ذكرنا فهذا النوع يكتب له ما هم به سيئة واحدة .
فإن كان هذا النوع الثاني قد بذل وسعه في تحقيق معصيته فهذا إثم أخر يضاف إلى الإثم الأول لأنه لم تعد المسألة مسألة هم داخلي بل أصبحت فعل ومحاولة ومعالجة فيأخذ إثم المحاولة والمعالجة .(1/148)
مثال هذا من هم بسرقة في قلبه فهذا له سيئة له عليها وزرها فإن عمل محاولات وأحضر أدوات السرقة وما يستعين على السرقة فإنه يكون بهذا الفعل فعل فعلا زائدا على الهم فيأخذ إثم عمله هذا .
فتبين من هذا أن من هم بسيئة ولم يعملها وتركها عجزا أو خوفا أو محافظة على سمعته أنه يأثم من جهة واحدة من جهة الهم السيئ ، ويزيد على هذا إثما أخر أنه لو بذل وعمل وعالج وما أشبه ذلك فيزداد إثمه من حيث الزيادة في العمل .
إذا الخلاصة في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وإن هم بسيئة ...) أننا نقول : فيه تفصيل:
إن كان لم يعملها من أجل الله فله حسنة ، وإن كان لم يعملها لأجل العجز أو الخوف عليه سيئة فإن بذل وسعه وعمل عملا لتيسير معصيته فهذا يضاف إلى ذلك عقوبة ما عمله واشتغل فيه لتحقيق ما أراده .
القسم الأخير : ( وإن هم بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) وهذا من عدل الله عز وجل أنه من عدله أنه يجازي السيئة بمثلها وما ربك بظلام للعبيد ، لكن في الحسنة يعامل بفضله فيضاعف الحسنات فمعاملة الله عز وجل لعبيده دائرة بين الفضل والعدل .
بقي نسبة ثالثة وهي الظلم فهذه ممتنعة فالله تعالى حرم الظلم على نفسه كما سبق لنا
إذا انتهى ما يتعلق بهذا الحديث . ا.هـ
الحديث الثامن والثلاثون(1/149)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:6502].
قوله ( من عادى ) يعني من نصب العداوة وأظهرها لولي من أولياء الله عز وجل .
( فقد آذنته بالحرب ) يعني أعلمته بالحرب .
إذا الله عز وجل يحارب من عادى له وليا حربا علنية لا سرية ، وما ظنك بإنسان يحارب الله عز وجل هل يستطيع أن يصمد في هذه الحرب ؟ فهي محاربة معلومة النتيجة مسبقا فهو المهزوم المخذول إذ لا طاقة له بحربه لخالقه وهو الله عز وجل .
من هو ولي الله ؟
هل خلقتهم تغاير خلقة غيرهم من الناس ؟
هل لهم علامات في وجوههم وأعضائهم ؟ لا . أولياء الله عز وجل أعطانا الله وصفا لهم ( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) فمن كان مؤمنا تقيا فهو لله وليا ، هذا هو خلاصة ضابط الولي ( الإيمان والتقوى ) إذا ولاية الله لا تكون بالدعاوى ولا بالمعاريض ولا بالكلام الطويل إنما تكون بالإيمان والتقوى ، فقد يكون الولي كبيرا في سنه وقد يكون صغيرا في سنه وقد يكون من جنسية كذا وكذا وقد يكون من جنسية كذا وكذا وقد يكون غنيا وقد يكون فقيرا فالأولياء أوصافهم وصفان اثنان ( أن يكون مؤمنا وأن يكون تقيا ) فقد يكون في هذا البلد عشرة من أولياء الله وقد يكون في البلد الثاني مئة وقد تخلو بلاد من ولي الله عز وجل .(1/150)
بقينا في أصحاب القبور الذين يقال إنهم أولياء . فهل هم أولياء لله عز وجل ؟
الجواب : نقول ننظر ليس لنا حق أن نخرج أحدا من ولاية الله ولا أن ندخل أحدا في ولاية الله .
فنقول من كان منهم مؤمنا تقيا واشتهر عنه هذا فإنه من أولياء الله ولا حرج في ذلك ، ومن كان بعكس هذا معروف من سيرته التجرؤ على معاصي الله بحجة أن هذه قرب يتقرب بها فهذا ليس بولي فهو عدو وفاسق ولا يحق أن به الولاية ثم على التقديرين أن أصحاب القبور موتى مدفونون سواء كانوا أولياء وتحقق فيهم الوصف أم ليس كذلك هم على كل حال أصحاب قبور لا يجوز التقرب إليهم ولا التوسل بهم ولا أي شيء لم يحدثه السلف في القبور .
إنما قدموا إلى ما قدموا والظن بهم خلاف ذلك وإقحامهم بما ليس من اختصاصهم هذا لا يجوز إطلاقا وما ضر الأمة الإسلامية وما جعلها تختلف فيما تختلف فيه إلا انشغالهم بمثل هذا انشغالهم بالأضرحة وبالقبور التي تسمى أو يسمى من فيها أولياء وما أشبه ذلك . والعجب أن هذه القبور كما يذكر بعض أهل الإطلاع أنها قبور بلا شيء إنما هي زبر من التراب أوهم أصحابها أن فيها ميتا . ليس فيها شيء إطلاقا لكن أرادوا أن يكسبوا منها وأرادوا أن تكون مزارات فزعموا أنها قبور ، وأيضا من له إطلاع بأموال هؤلاء يجد العجب فإن قبور هؤلاء معظمة عند أصحابها أعظم بكثير من حرمات الله ! أعظم من تعظيم الكعبة ! وأعظم من تعظيم المساجد ! يعظمونها تعظيما كثيرا ولذلك تجد أن عندهم سكينة وطمأنينة إذا كانوا يطوفون بالقبور ولا تجد بعض هذه إذا كانوا يطوفون بالكعبة هذا لاشك أنه من تزيين الشيطان وتلبيسه على هؤلاء المساكين . فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إلى دينه ردا جميلا .(1/151)
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وما تقرب إلي ..) بين الله عز وجل في هذا الحديث القدسي أن العبد إذا تقرب له بشيء فإن أحب شيء إلى الله عز وجل في قربات هذا العبد أن يتقرب بالذي افترضه الله تعالى عليه . فالفريضة أحب إلى الله من النافلة بصريح الحديث فصلاة الظهر أربعا أحب إلى الله من الراتبة القبلية أربعا أليس كذلك؟ هذا ما دل عليه الحديث .
والعجب أن الشيطان تلاعب في كثير منا فأصبحنا نتقن الأربع ركعات قبل الظهر ونتساهل في الفريضة مع أن الفريضة أحب إلى الله عز وجل وأولى بالاهتمام لكن تجد أحدنا يهتم بالسنة القبلية سواء الظهر أو في غيرها ويعتني بالوتر وبأشياء كثيرة لكنه قد يتساهل أو قد يفوته شيء من الحرص في الفريضة وهكذا في غير الصلاة حتى في صيام النفل تجد الإنسان حريصا على إكمال نافلته في الصيام لكن قد يتساهل في الفرض وهكذا في صدقته وهكذا في أشياء كثيرة . ومنبع هذا إما الجهل بأن الفريضة أحب إلى الله ، أو غفلة عن هذا الشيء .
( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) لما ذكر الله عز وجل في الحديث القدسي أن الفريضة أفضل لا يكن منك تساهل في النافلة فالنافلة مهمة وهي طريق إلى محبة الله عز وجل .
( ولا يزال عبدي ) يعني مستمرا يتقرب إلىّ بالنوافل . أي نوافل ؟ عموم النوافل من صلاة وصيام وقراءة ونحو ذلك .
( حتى أحبه ) إذا هذه فضيلة عظيمة للنوافل وهي أنها سبب لمحبة الله عز وجل ، فالنوافل أيا كانت فهي سبب لمحبة الله . فإذا قال إنسان دلني على عمل يكون سببا في محبة الله . فماذا يقال له ؟ يقال له : احرص على النوافل أكثر منها فإنها لمحبة الله ثم إذا حصلت محبة الله تعالى استمع إلى الآثار .(1/152)
قال : ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به..) فإذا أحببته يعني عبده الذي يكثر من النوافل وهذه الجمل يراد منها حفظ الله تعالى للعبد وأنه الآن تحت إحاطة الله عز وجل والله تعالى يوفقه ويسدده فيكون سمعه الذي يسمع به فعلى هذا لن يسمع ما يسخط الله تعالى فإن الله سوف يسدده في سمعه ويحفظه في سمعه فلا يسمع إلا ما يرضي الله .
قال : ( وبصره الذي يبصر به ) أيضا يسدده الله في بصره فلا يبصر ما يغضب الله تعالى وكذلك قوله ( يده التي يبطش بها ) يكون الله تعالى مسددا له في يده فلا يأخذ ما حرمه الله عليه ولا يستعمل يده في أمر لا يريده الله تعالى .
كذلك يقول : ( رجله التي يمشي بها ) فتكون خطواته كلها إلى أمر يريده الله عز وجل .
إذاً هذا تسديد في الجوارح في السمع والبصر واليد والرجل .
هذه الجوارح مستعملة في طاعة الله عز وجل ، وما قلته لك من معنى الحديث هو المعنى الصحيح وليس هذا تأويلا للحديث حتى يقال الواجب أن تجري الحديث على ظاهره ونقول في قوله ( كنت سمعه الذي يسمع به) أن الله يكون سمعاً لهذا أو يكون بصراً له أو يكون يدا له أو رجلا .نقول : أبداً هذا ليس هو المراد , وهذا المعنى منكر فالله عز وجل لا يحل في شيء من خلقه ولا يحل في شيء منه بل هو عز وجل بائن عنهم بائن سبحانه وتعالى عن خلقه منفصل .
إذاً معنى الحديث ما ذكرناه أنه في التسديد والتأييد والحفظ ، وهذا المعنى مقتضى ظاهر الحديث في اللغة العربية .
قال : ( ولئن سألني لأعطينه) هذا التزام منه سبحانه وتعالى أن من أحبه إذا سأل فإن الله تعالى يعطيه ما سأل .
قال : ( ولئن استعاذني ) من مكروه يحل به فضمن سبحانه أنه سيعذه
إذا هذه أمور وثمار عظيمة لمحبة الله عز وجل لهذا العبد كلها تسديد وإعانة وإحاطة وإعاذة . فحري بك أيه المسلم أن تتعرض لمحبة الله عز وجل بالإكثار من النوافل على إختلاف أبوابها وطرقها حتى يحصل لك ما ذكره الله عز وجل هنا في الحديث القدسي .(1/153)
أهم ما في الحديث ما أشرنا إليه في الشرح :
وهو فضيلة الفريضة على النافلة وهذه الفضيلة هل يستثنى منها شيء ؟ هل يقال إن هناك نافلة أفضل من الفريضة في بعض الأحوال ؟ لا على القول الصحيح ، وبعضهم التبس عليه شيء من الأمر فظن أن بعض النوافل أفضل من الفرائض ومثلوا لذلك بأمثلة نبينها لبيان الصحيح منها قالوا :
1/ إن انظار المعسر واجب للآية ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) وإعطائه الدين صدقة مستحب ( وأن تصدقوا خير لكم ) فقالوا : إن التصدق على المعسر بالدين هذا مستحب وهو أفضل من الواجب وهو الإنظار . فاستثنوا هذه من ما في الحديث ز
2/ السلام سنة ورده واجب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) إذا هذا مثال آخر فقال السنة هنا أفضل من الفريضة فالبداءة بالسلام سنة وهي أفضل من رده ورده واجب .
3/ الوضوء مرة في الأعضاء التي يجب غسلها واجب والوضوء مرتين وثلاثا ستة مستحب فقال المرتان والثلاث مستحبة وهي أفضل من المرة الواحدة .
نعود إلى موضوعنا فنقول الفريضة أفضل من النافلة بدليل الحديث ، وذكر بعضهم أن النافلة تكون أفضل من الفريضة وذكروا أمثلة ذكرنا ثلاثا منها ، ولكن الصحيح أن هذه الأمثلة غير مستقيمة والصواب أنه لا استثناء في أن الفريضة أفضل من النافلة والأمثلة التي ذكروها إذا تأملت وجدت أن فيها ملخصا لم ينتبه له فلما قالوا إن التصدق على المعسر أفضل من إنظاره نقول : إن المتصدق أتى بالواجب وزيادة ولذا صارت الصدقة على المعسر أفضل من إنظاره.
المثال الثاني : السلام يجب عنه . ولو لم يسلم فهل ترد؟ فالسلام وإن كان سنة في أصله إلا أنه كان سببا في واجب بل نقول لا دلالة في ذلك إذا ليس سنة محضة بل هو سنة كانت سببا في واجب فهي واجبة من حيث السببين .(1/154)
أما المثال الثالث فواضح فإن من غسل ثنتين وثلاث فقد أتى بالواجب وزيادة فكان أفضل من هذه الحيثية .فالصواب تقصيد القاعدة ولا إشكال فيها إن شاء الله تعالى . ا.هـ
الحديث التاسع والثلاثون
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" .
حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ [رقم:2045]، وَالْبَيْهَقِيّ ["السنن" 7
هذه ثلاثة أشياء بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تجاوز عنها .
ومعنى قوله ( تجاوز عنها ) يعني لا يؤاخذ بها فالتجاوز هنا معناه عدم المؤاخذة .
وقوله ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ...) ظاهر الحديث أن هذا التجاوز خاص بهذه الأمة وهذا هو الصحيح ، فلأمم السابقة ربما أخذت بشيء من النسيان والخطأ وهي من الأصار التي كانت عليهم بذنوبهم ، أما هذه الأمة فإن الله تجاوز لها عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
قوله ( الخطأ ) الخطأ ضد العمد يعني ما يكون بغير قصد .
وقوله ( النسيان ) هو الذهول عن الشيء .
وقوله ( ما استكرهوا عليه ) يعني ما أكرهوا عليه وألجئوا فهذا أيضا معفو عنه
فهذه ثلاثة أشياء بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى رفع الحكم فيها وهذا عام في كل شيء : في العقائد والعبادات والمعاملات فما وقع منها خطأ أو نسيانا أو أكره عليه سواء في عقيدة أو في عبادة أو في معاملة فإنه غير مؤاخذ بذلك.
في العقيدة : الخطأ في العقيدة مثاله الذي وجد راحلته لما أضلها قال اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح وعفي عنه .
في العبادة : سهي النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة .
في المعاملة : ما جرى من الصحابة في بعض الخصومات والنقاشات تصح تكون مثالا على كل هذه كلها من رحمة الله تعالى أنه عفا عنها،(1/155)
والمؤلف يقول حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما .
وليعلم أن هذا الحديث فيه خلاف كثير : المؤلف رأى أنه حسن ولكن غيره لم يرى هذا فقد أنكر الإمام أحمد وأبوحاتم أنكرا الحديث ولكن يظهر أن الحديث كما قال المؤلف حسن , لشواهده.
على أن بعضهم صحح الحديث لكن التوسط أن يكون حسنا , وإلا من العلماء من صححه لا سيما من المعاصرين كالشيخ أحمد شاكر والألباني رحمه الله .على كلٍ التوسط هو الأقرب
أما من حيث المعنى فلا شك أن معنى الحديث صحيح قد دل القرآن على ذلك فالله تعالى ذكر في كتابه قوله : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) فهذان النسيان والخطأ ، وقال : ( فليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) فهذا في الخطأ ، وقال في الإكراه : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فالحديث كما تلاحظ شواهده في القرآن واضحة فالحديث حسن من حيث الصناعة الحديثية ، ولكنه صحيح من حيث المعنى بل هو قاعدة شرعية وهي التجاوز عن الخطأ والنسيان والإكراه .
إذاً هذا هو الفصل في الحديث أنه حسن من حيث السند ولكنه صحيح من حيث المعنى بالشواهد التي أشرنا إليها ( ربنا لا تؤاخذا ..) وقال في الحديث في هذه الدعوة قد فعلت . وقوله ( فليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ..) وقوله (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ). اهـ
الحديث الأربعون
عَنْ ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْكِبِي، وَقَالَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ". وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرَضِك، وَمِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [رقم:6416].(1/156)
(أخذ بمنكبي) وفي بعض النسخ ( أخذ بمنكبي) بلفظ التثنية ولا فرق كبير بين هذا وهذا ، والمنكب معروف مجتمع العضد والكتف .
وهذا إذا أخذ الإنسان به دليل على اهتمامه بمن يخاطبه . إذا أخذه فإنه يدل على أنه يقول انتبه أو استمع لكلامي استماعا جيدا .
وأما على نسخة ( بمنكبي ) على رواية التثنية فإنه أبلغ في التشبيه ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ( كن في الدنيا ....) أرشد صلى الله عليه وسلم ابن عمر رضي الله عنه إلى أن يكون في هذه الدنيا الفانية كأنه أحد رجلين إما كأنه غريب والغريب هو الذي ليس من أهل البلد فهو وافد عليهم فهذا غريب ، والغريب لا يخفاك أنه يكتفي بأقل شيء من الطعام والمسكن واللباس فهو ليس متطلع إلى الكمال لأنه غريب وكل يوم يقول سوف اذهب إلى أهلي سوف اسافر إلى بلدي فهو غريب يكتفي بأقل القليل فلذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون مثل هذا ليس منبسط في الدنيا بل يكتفي بالقليل من مآكلها وملابسها ومساكنها لأنه غريب، وحقيقة أن الإنسان في هذه الدنيا غريب لأن الدنيا ليست دارا له ليست دار إقامة بل هي دار مؤقتة سرعان ما ينتقل إلى دار حقيقة الدار الدائمة فهذا تشبيه من أحسن التشبيهات لأنه مطابق للواقع ليس فيه مبالغة لأن الإنسان في الدنيا غريب لأنه سوف ينتقل منها .
ثم قال ( أو عابر سبيل ) يعني اجعل نفسك كالأول الغريب أو اجعلها كعابر سبيل .(1/157)
إذاً (أو) في الحديث ليست للشك من الراوي بل هذه قالها النبي صلى الله عليه وسلم للتنويع يعني إن شئت أن تجعل لنفسك مثلا بالغريب أو إن شئت أن تجعل نفسك مثلا لعابر السبيل أنت مخير بين هذا وهذا وأيهما أبلغ في التقلل من الدنيا الغريب أو عابر السبيل ؟ لا شك عابر السبيل والسبيل هو الطريق فمعنى عابر السبيل يعني المسافر فالمسافر أقل تعلقا في الدنيا من الغريب فالغريب وإن كان متقللا لكن ربما يوسع إلى حد ما وعكسه العابر وهو المسافر فربما اكتفى بأقل ما يكتفي به مما لو كان نازلا في بلد فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المثالين من باب الترقي يعني إما هذا أو هذا والأعلى منهما الثاني فأنت اجعل نفسك كأنك غريب ثم إذا نشطت وزالت همتك وزادت رغبتك في الآخرة فاجعل نفسك كعابر السبيل يعني كالذي يمر في الطريق ثم ينتهي منه وهذا التشبيه الثاني كالتشبيه الأول أنه مطابق للواقع تماما ، فالإنسان في هذه الدنيا عابر سبيل يعبرها يمشي عليها عشرين سنة أربعين سنة مئة سنة أقل أو أكثر ثم في النهاية يصل إلى داره في النهاية بعد هذا الطريق الطويل أو القصير حسب تقدير الله عز وجل .
إذا انتهى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه ، وكلامه لابن عمر هو كلام لكل أحد كلام لعامة المسلمين وأي إنسان لا ينبغي له أن يتوسع في الدنيا وأن لا يتشبث بها بل يأخذ منها كفايته ويعتبر نفسه كالغريب أو كعابر السبيل ولا يعني هذا تحريم ما أحل الله عز وجل من هذه الدنيا إطلاقا فإن تحريم ما أحل الله لا يجوز لكن المراد ما ذكرنا هو النهي عن التوسع والتشبث والتزود منها بما لا حاجة للإنسان به .
يقول الراوي : وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول كلاما من عنده. إذا هو مرفوع أو موقوف ؟ موقوف على ابن عمر رضي الله عنه .
( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ) إذا دخل عليك المساء فلا تقل غدا افعل وافعل .(1/158)
كذلك ( إذا أصبحت...) إذا جاءك الصباح لا تقول في المساء افعل كذا وكذا . لماذا ؟ السبب واضح لأن من قال لك أنك سوف تدرك الصباح إن كنت بالمساء والعكس
إذا بادر بالأعمال . أيضا تعليل آخر أنه على تقدير إدراكك للزمان الآخر فلا تدري هل تستطيع أن تفعل هذا الشيء في الزمن الآخر أو لا تدري لأن الزمن الآخر غيبي له شغله الذي قد يخطر على بالك وقد يكون له شغل ما خطر على بالك ولذلك كثيرا ما يقدر الإنسان أن هذا العمل سيعمله في المساء بعد العشاء ثم بعد العشاء يتذكر شغلا آخر أو يأتيه شغل آخر أو يأتيه ضيف أو يكون متعبا أو ما أشبه ذلك فلذلك من الحكمة أنك لا تؤخر الأعمال إلى الزمن المستقبل والسبب من جهتين :
الأولى : أنك لا تضمن بقاءك .
الثانية : أنك لا تضمن قدرتك وفراغك للوقت الثاني .
فلأجل هاتين العلتين فلا تؤخر . وكلام ابن عمر هنا هذا أبلغ من قول بعض الناس لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد . ابن عمر يقول لا تؤخر عمل الصباح إلى المساء وعمل المساء إلى الصباح فهذا أبلغ .
( وخذ من صحتك لمرضك ) يعني إذا كنت صحيحا معافا خذ منها واجتهد فيها حتى إذا أصابك المرض لاتندم ولا تتأسف على ما فاتك لأن الإنسان إذا مرض فإن نفسه تكون ضعيفة وكذلك قواه تكون ضعيفة سواء كان المرض كبيرا أو صغيرا حتى الإنسان إذا كان مزكوما فإنه لا يجد في نفسه الهمة التي يجدها إذا كان غير مزكوم أليس كذلك ؟
إذا خذ من صحتك حينما تكون معافا في بدنك مرضك الذي لا تدري متى يكون ولا تدري ما مقداره ولا مدته ولا شيء من هذا . فهذه وصية كما يقال في الصميم أن تأخذ من صحتك لمرضك .(1/159)
( وخذ من حياتك ...) وهي الفرصة التي أعطاك الله عز وجل لها خذ من حياتك لموتك لأن الموت لا عمل بعده فينقطع العمل . إنما العمل في هذه الدنيا في وقت الحياة فأنت خذ من حياتك ما دام الله عز وجل أمدك بالحياة خذ منها لموتك حينما ينقطع العمل ولذلك الموتى لا يتمنون الرجوع إلى الدنيا لكي يزرعوا مزارعهم ويقيموا قصورهم إنما يتمنون الجوع إلى الدنيا لزيادة العمل بتسبيحة أو ركعة أو ما أشبه ذلك .
إذا أنت ياأخي في الدنيا فاغتنم الفرصة التي أنت فيها واجتهد في طاعة الله عز وجل وخذ من نفسك لنفسك لا تأخذ من نفسك لغيرك بل تأخذ من نفسك وتنفع نفسك .
ما قاله ابن عمر من قوله من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك في الحقيقة منتزعة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره ( اغتنم خمسا قبل خمس ...) فكلام النبي صلى الله عليه وسلم أعم من كلام ابن عمر .
1/ شبابك قبل هرمك .
2/ وصحتك قبل مرضك . (وهي التي ذكرها ابن عمر رضي الله عنه )
3/ وغناك قبل فقرك .
4/ وفراغك قبل شغلك .
5/ وحياتك قبل موتك .(ذكرها ابن عمر رضي الله عنه ).
فابن عمر ذكر ثنتين من خمس قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم .
فهذه خمس فرص اغتنمها قبل فواتها جمعها النبي عليه الصلاة السلام الذي رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما . ا.هـ
الحديث الحادي والأربعون
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ".
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ "الْحُجَّةِ" بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
مر معنا معنى قوله : حديث حسن صحيح أن هذا في التردد في الراوي أو يكون باعتبار طريقين : طريق حسن ، وطريق صحيح .(1/160)
رويناه في كتاب الحجة ويجوز أن تقول رويناه وهو أصح في هذا المقام
معنى رويناه يعني رواه لنا أحد أو رواه غيرنا لنا يعني نقل إلينا .
الحجة في إقامة المحجة وهو كتاب معروف في العقيدة تكلم فيه المؤلف في العقيدة على ضوء ما جاء في السنة وفي كتاب الله عز وجل .
هذا الحديث لتعلم أنه وقع الخلاف في صحته فالمؤلف يرى أنه حسن صحيح ولكن غير المؤلف ضعف الحديث بل إن ابن رجب رحمه الله صاحب الشرح لهذا الكتاب قال إن تصحيحه بعيد جدا ، ولكن والله أعلم أن الحديث بطرقه الكثيرة يكون حسنا أو قد يكون صحيحا لغيره بطرقه الكثيرة وأنت تعلم أن الحسن أو الصحيح لغيره هو الذي كثرة طرقه فازداد بهذا رفعه .
أما معنى الحديث فمعناه صحيح ومعناه واضح : أنه لا يؤمن الإنسان الإيمان الكامل حتى يكون هواه ومعنى هواه ( رغبته وميله ) تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هذا معنى الحديث حتى يكون ما يهواه ويميل إليه موافقا لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
إذا في هذا دليل على أن الهوى يطلق على إرادة الحق وإن كان الغالب أن الهوى يطلق على إرادة الشر والباطل . فإذا قيل إن فلان صاحب هوى . ما المعنى ؟
الجواب : أنه صاحب ميل للشر والباطل هذا هو الغالب ولكن كما قلت الحديث يدل على أنه يطلق على الخير .
في قوله تعالى : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) في الشر هذا واضح فالآية مثال لاستعمال الهوى من باب الغالب .
ولكن الهوى في الحق له أمثلة كهذا الحديث وكذلك قول عائشة رضي الله عنها : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هوى النبي صلى الله عليه وسلم في الحق والصواب .(1/161)
فالحاصل أن هذا الحديث صحيح من حيث المعنى ويدل على أن معناه صحيح أن هناك نصوصا بمعنى هذا الحديث فقوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ) هذا بمعنى الحديث الذي معنا ، وكذلك قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة ..) هذا بمعنى الحديث الذي معنا أيضا .
فالخلاصة / في هذا الحديث في مسألتين :
الأولى : صحة هذا الحديث من ضعفه وعرفنا الصواب أنه حسن أو صحيح لغيره .
الثانية : أن معناه صحيح لا إشكال فيه لشواهده التي ذكرنا بعضها وكذلك لما دل عليه المعنى في هذا الحديث من أن الهوى يكون للحق كما يكون لغير الحق .
في قوله : ( تبعا لما جئت به ) المتابعة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم درجات متفاوتة فمن كانت درجة اتباعه أكبر فإنه يكون إيمانه أكبر ومن كانت درجة اتباعه أقل فإن إيمانه يكون أقل وهكذا لأن الإتباع درجات والناس فيه متفاوتون .
ا.هـ
الحديث الثاني والأربعون
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا ابْنَ آدَمَ! إِنَّكَ مَا دَعَوْتنِي وَرَجَوْتنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتنِي غَفَرْتُ لَك، يَا ابْنَ آدَمَ! إنَّك لَوْ أتَيْتنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ [رقم:3540]، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
هذا الحديث سبق أن سمي حديث قدسي أو إلهي أو رباني .
(يا ابن آدم ) الخطاب لبي آدم هنا يدخل كل أحد المسلم والكافر من بني آدم .
يقول : ( إنك ما دعوتني ) المعنى إنك إذا دعوتني يعني حصل منك دعوة .
( ورجوتني ) يعني حصل منك رجاء .(1/162)
ما في الحديث ما نوعها ؟ هل هي شرطية أو ظرفية ؟ هي والله أعلم ظرفية .
(انقطاع في التسجيل )
وما هو الزمام ؟ الحبل الذي يربط به فإذا عنان كزمام وزنا ومعنى عنان كسحاب وزنا ومعناه لو بلغت ذنوبك السحاب الذي في السماء وتراكمت وازدحمت حتى بلغت هذا السحاب الذي في السماء ثم استغفرت الله تعالى فقلت : يا ربي أسألك المغفرة . ولكن ليس طلبا باللسان لا يصدقه القلب لابد من اللسان والقلب ، قال الله تعالى : غفرت لك .
يا ابن آدم كل هذه الذنوب التي بلغت عنان السماء لما سألت الله عز وجل مغفرتها بسؤالك بصدق فيغفرها الله لك ولا يبقى لها أثر . أيضا أضف إلى ذلك
قال : (يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ) هذا مثال آخر لو أنك تخطئ وتكثر من الخطايا ليلا ونهارا حتى كانت قراب الأرض يعني قاربت أن تملأ الأرض وقاربت أن تماثل الأرض ثم لقيت الله تعالى لا تشرك به شيئا إذا ذنوبك التي كانت قراب الأرض ليس فيها شرك أنت على التوحيد لكنك خلطت في المعاصي الكثيرة ثم لقيت الله تعالى بهذه الخطايا الكثيرة ولكنك لا تشرك بالله تعالى فإن الله وعدك أن يأتيك بقرابها ( الأرض) مغفرة . يعني أن الله تعالى يغفر ذنوبك .
إذا هذا فضل كبير من الله سبحانه وتعالى وأمل واسع لكل مذنب أنه يقال يا فلان لا تيأس من روح الله هذا ربك عز وجل يناديك ويعدك أنك إذا صدقت معه ولم تشرك به فإنه سوف يغفر لك وسوف يأتيك بقراب الأرض مغفرة فكل ذنب منك له من الله مغفرة فهذا الذي يحولك إلى اللجوء إلى الله تعالى ولكن احذر أن تفهم هذا الحديث على خلاف وجهه يفهمه المتساهل فيستمر في تساهله أو يفهمه العاصي على غير وجهه فيصر على معصيته .
فنقول : لا هذه وعود لمن رجع إلى الله عز وجل ولمن تاب إليه أما من قلبه معلق بالمعصية ثم يتعلق بهذا الحديث فالحديث أبعد ما يكون عنه وأبعد الناس من هذا الحديث من هذه حاله الذي يصر على المعصية .(1/163)
لكن كما قلنا هذا الحديث وعد لمن رجع إلى الله عز وجل .
في الحديث من الفوائد العامة :
أنه لا يجوز لأحد أن يتعاظم ذنبه في جانب مغفرة الله عز وجل .
وفيه التحذير من الشرك وأنه سبب في عدم المغفرة من قوله ( لا تشرك بي شيئا ) فإذا كان هناك شرك فإنه لا يغفر له ( لا يؤتى بقرابها مغفرة )
وفيه فائدة عكسية فضيلة التوحيد ولذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكر هذا الحديث في كتاب التوحيد في باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ودلالته على هذا الباب صحيحة .
التوحيد له فضل ، التوحيد يكفر الذنوب أيضا كما دلت على ذلك النصوص . إذا هذا الحديث فيه فائدتان متقابلتان وهي التحذير من الشرك ، وبيان فضل التوحيد الذي يكون سببا في مغفرة الذنوب .
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من الشرك وأن يحقق لنا جميعا التوحيد إنه على كل شيء قدير . ا.هـ
الحديث الثالث والأربعون
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتَ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" .
رواه البخاري [رقم: 6732]، ومسلم [رقم: 1615].
هذا من أحاديث الأحكام .
( ألحقوا ) أعطوا الفرائض أهلها ، والتعبير بالإلحاق يدل على الإعطاء المبادر فيه كأنهم الآن في سباق مع الفرائض هذه فيلحقونه مسرعين بذلك حتى لا يفوت الأوان .
( الفرائض ) جمع ومفردها فريضة والمراد بالفريضة النصيب المقدر لوارث وذلك أن الله جعل التركة بعد صاحبها مقسمة على ورثته بقسمة إلهية يعجز العقل عن إدراك السر فيها وهذا ما يسمى بعلم الفرائض وهو العلم الذي يبحث في قسمة التركات ، وهذا البحث يبحث في علم الفرائض .(1/164)
ثم لتعلموا أن الفرائض التي هي الأنصبة المقدرة لوارث أنها في كتاب الله عز وجل ( ستة فرائض ) نبدأ بأكبرها وهو ( الثلثان ) ثم (النصف) ثم (الثلث )ثم (الربع )ثم (السدس) ثم (الثمن) .
ومن يأخذ هذا ومن يأخذ هذا . هذا بحث طويل في علم الفرائض .
فالفرائض التي سمعتها لها أهلون يأخذونها فلا يحق لأحد أن يأخذ الثلثين إلا أن يكون من أهله ولا يحق لأحد أن يأخذ النصف إلا أن يكون من أهله أيضاً .
وأهل الفرائض محصورون وجملتهم هم ( الوالدان ، الزوجان ، البنت ، بنت الابن ، الشقيقة ، الأخت لأب ، الأولاد لأم ) هؤلاء هم أهل الفرائض فلا يمكن أن تعطى نصيبا مقدرا إلا لواحدا مما ذكرت ، ولا يمكن أن يتخلف واحد منهم عن أخذ ميراثه إذا كان له ميراث في تركة معينة .
فالمقصود أن الله جعل الفرائض مقدرة وجعل أهلها أيضا مقدرين .
( الأخ ، الابن ) ألا يرثان ؟ بلى يرث وسيأتي كلامه في بقية الحديث .
إذا ألحقنا الفرائض بأهلها قال : ( فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) عندنا ورثة غير أهل الفرائض وهم (فلأولى رجل ذكر ) وهذا ما يسميه بعض العلماء الإرث بالتعصيب والمراد يرث من الميت بلا تقدير ، وهذا يعني أن نصيبه قد يزيد أليس كذلك ؟ وقد ينقص وقد يسقط أحيانا ولا يكون له شيء لأن إرثه بلا تقدير .
هذا الحديث تضمن نوعي الإرث ( الإرث بالفرض ، والإرث بالتعصيب )
( فلأولى ) يعني فلأحق رجل ذكر . علم منه هذا أن الورثة بالتعصيب بينهم تفاضل بالأحقية .
( فلأولى رجل ذكر ) أليس الذكر رجلا والرجل ذكرا ؟ بلى هو كذلك وهذا لا بد أن يكون الذكر رجلا في هذا الباب . ( رجل ) إشارة إلى أن إرثه في هذا التعصيب ملاحظ فيه معنى الرجولة ، ولأجل أنه رجل له شيء من القوامة والمسؤولية صار إرثه بالتعصيب وليس هذا مخرجا امن لم يكن رجلا من الذكور ( ليس قيدا ) ربما يرث الذكور ولو كانوا في المهد صبيا ، لكن الغالب لهؤلاء العصبة أن يكونوا رجالا يعني كبار .(1/165)
إذا انتبه تلخيص لهذه النقطة فأقول : إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( فلأولى رجل ذكر ) لا يكفي أن يقال فلأولى ذكر لأنه ملاحظ في الإرث الذي هو بالتعصيب معنى الرجولة التي فيها القوامة وفيها النفقة وفيها المستلزمات المعروفة على الرجل . ثم هذا قيد باعتبار الغالب لأنه قد يرث بالتعصيب من لا يكون رجلا وإن كان ذكرا أن يكون في المهد صغيرا فإنه يرث .
فالحديث هذا عظيم وأصل في باب الفرائض لأنه تضمن ما سمعت بيان الإرث بالفرائض وبيان الإرث بالتعصيب .
في قوله صلى الله عليه وسلم ( ألحقوا الفرائض ...) عرفنا أن فيه الإرث بالفرض والتعصيب . والسؤال : هل هذا الإرث بهذه الطريقة هل هو ملزم وواجب بمعنى لو اصطلح الورثة وقالوا لا نريد أن نقسم على حسب الفرائض بل أنت يا فلان خذ عشرة وأنت خذ ثلاثة وأنت اثنين , وتصالحوا على هذا هل يجوز هذا ؟ الحق في الإرث " المال " للورثة فإذا تصالحوا أن يأخذوا الميراث جزافا هكذا من غير تقدير الميراث فلا حرج عليهم فإذا مات الإنسان عن زوجته وبنته وعن ابيه القسمة الشرعية أننا نعطي الزوجة الثمن والبنت النصف والأب السدس والباقي تعصبا هذه القسمة الشرعية ، لو أن الأب قال : لا أريد مالا قد أغناني الله ولا حاجة لي بماله خذيه أنت أيتها الزوجة النصف والبنت النصف . البنت هذا نصيبها الذي قسمه الله عز وجل وكونه رفع نصيب الزوجة إلى النصف هل يجوز ذلك ؟ يجوز ولا إشكال لأنه خلاصة ما حصل أنه تبرع بنصيبه فعلى هذا يجوز للزوجة أن تأخذ النصف ليس على أنه قسمة من عند الله ولكن على أنهم اصطلحوا هكذا ، وهكذا لو كان الأب في المثال الذي ذكرت أخذ السدس فرضا وقال أنا لا أريد الباقي أعطوني السدس فقط والباقي اصطلحوا فيه .(1/166)
فمقصودي أن هذه قسمة الفرائض هي في الأصل لكن لو اصطلحوا على طريقة معينة واصطلحوا على هذا فإنه لا حرج في هذا . وهذا الكلام لا تظنوه مسألة فرضية قصدي تقديره بل هي مسألة واقعية لا سيما إذا كان المال قليلا فإن الورثة لا يجلسون لقسمته والتدقيق فيه كل يأخذ الذي يريد ويصطلحون على هذا هل يجوز ؟ يجوز لأن الحق لهم إذا كان المال قليلا أو كان المال أعيانا .
ا.هـ
الحديث الرابع والأربعون
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ".
رواه البخاري [رقم:2646]، ومسلم [رقم:1444].
هذا الحديث أصل في باب الرضاعة . فما هي الرضاعة التي تحرم ما تحرم الرضاعة؟ ذكر العلماء رحمهم الله تعريفا للرضاعة التي تحرم ما تحرم الولادة فقالوا : إن الرضاعة هي مص من دون الحولين لبنا ثاب عن حمل أو شربه أو نحو ذلك فالرضاعة هي مص دون الحولين :
1/ لابد أن يكون الذي مص الثدي وشرب اللبن دون السنتين
2/ ولابد أن يكون هذا اللبن ثاب ( نتج) عن حمل وسببه أما لو كان هناك لبن في امرأة ليس بسبب الحمل فإن هذا لا يعتبر فلا بد أن يكون اللبن نتج عن حمل .
3/ ( أو شربه) أحيانا لا يمص ولكن يشرب يسقى فيشرب فهل يؤثر ؟ نعم يؤثر .
( أو نحوه) أي نحو الشرب كأن يصنع طعاما أو جبنا ثم يلقم إياه فإنه يؤثر .
وهذا التعريف الذي ذكرته هو تعريف مشهور عند فقهاء الحنابلة وفي كل جزء منه تقريبا خلاف فيه خلاف ومناقشة لكن يكفيك أن تعرف التعريف الذي ارتضاه الفقهاء وفي مناسبة أخرى يكون فيه تفصيل آخر إذاً انتهينا من تعريف الرضاعة .(1/167)
ما هو الرضاع المحرم الذي يثبت به التحريم ؟ هل المص كافي بأقل قليلة ؟ أو المص بفترة محدودة وبعدد محدد؟ هذه المسألة كثيرة بين العلماء والخلاف فيها واسع أعني ما المجزئ ؟ أو ما الذي يثبت الحكم ؟ فقد ذهب بعض العلماء إلى أن الرضاعة يثبت بأقل شيء إذا وضع الصبي فمه على ثدي المرأة والتقمه ولو لثواني فهذه تعتبر رضعة ويثبت بذلك الأحكام المترتبة على الرضاع وهذا القول كما تلاحظ فيه شيء من السعة في الحكم يكون ابنا لها وهذا رواية عن الإمام أحمد في المسألة وهو مذهب مالك وأبي حنيفة
فمذهب هؤلاء الأعلام إثبات الرضاع بأقل شيء .
والقول الثاني : أن الرضاع لا يثبت بأقل شيء بل أنه لا يثبت إلا بأن يمص ثلاث مرات بحيث يمص الثدي ثم يتركه ثم الثانية ثم الثالثة وهذه رواية أخرى عن الإمام أحمد قالوا وهو قول داوود القياسي ( الظاهري ) واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم :
( لا تحرم المصة ولا المصتان ) مفهومه أن الثلاث تحرم إذا كانت لا تحرم المصة ولا المصتان إذا الثلاث تحرم .
القول الثالث : أن المعتبر خمس رضعات وما دونها لا تحرم وهذه رواية ثالثة عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو مذهب الشافعي وهو قول ابن حزم الظاهري .
إذاً اختلف إمامان من أئمة الظاهرية في هذه المسألة : داوود وهو مؤسس المذهب له قول وابن حزم وهو من مقرري المذهب وناصريه له قول آخر .
وهذه المسألة تعتبر من المسائل التي يعنى بها حيث خالف بعض أصحاب المذهب إمام المذهب .(1/168)
هذه الأقوال الثلاثة هي أشهر ما قيل في الموضوع على أن هناك أقوال أخرى لا دليل عليها كالذين يقولون لا بد من سبع رضعات وبعضهم يقول لا بد من عشر فكل هذه أقوال لأصحابها ليس هناك دليل واضح في المسألة ثم بعد هذه المسألة مسألة مرتبطة بهذه المسألة إذا قلنا بالثلاث او بالخمس فما مقدار الواحدة كيف نعد ثلاثا وكيف نعد خمسا؟ قيل يعتبر بأقل شيء فإذا التقم الثدي ثم تركه ليتنفس فهذه واحدة ثم التقمه فهذه الثانية وهكذا فهذه الرضعات الثلاث قد تتم في دقيقة وحدة أو أقل وكذلك الخمس ولكن الصواب في المسألة هذه ما ذهب إليه المحققون أن الرضعة للصغير بمنزلة الوجبة للكبير فعلى هذا لابد أن تكون الرضعة مشبعة فعلى هذا لا تكون الرضعات الثلاث أو الخمس في مجلس واحد فهذا هو الضابط في الرضعة أن تكون الرضعة كالوجبة للكبير وهذا هو اختيار الشيخ محمد والسعدي رحمهما الله أنه لابد من خمس مشبعات وهذا هو الراجح في المسألتين .
إنهاءً للبحث في الرضاعة نقول : النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) يعني أن الأحكام التي تقتضيها الولادة فإنها تقتضيها الرضاعة فمثلا لو أرضعت امرأة ولدا ولو ولدت امرأة طفلا فالولادة هنا تقتضي أن تكون أماً لهذا الطفل كذلك الرضاعة تقتضي أن تكون أما له إذا أرضعته لكن أما له بالرضاعة ، هذا الطفل الذي أرضعته كبر وتزوج وانجب ولدا تكون المرضعة له جدة كما أن أمه التي ولدته تكون جدة لهذا الطفل .
فالبحث الذي نريده وهو مهم هو انتشار الرضاعة كيف تنتشر الرضاعة ؟ لأن الرضاعة لو تأملتها لها جانبان : جانب الرضيع وجانب المرضعة . فجانب المرضعة كيف ينتشر الرضاع من جهتها ؟ ثم الرضيع كيف ينتشر الرضاع من جهته ؟ نبدأ بالجهة الأولى وهي جهة المرضعة : كيف انتشار الرضاعة من جهتها بمعنى أبو المرضعة هذه هل له علاقة بالطفل ؟ له علاقة ، وأمها لها علاقة , أخواتها وأبنائها لهم علاقة .(1/169)
تنتشر الرضاعة من جهة المرضعة من الجهات الثلاث ( من جهة الأصول ومن جهة الفروع ومن جهة الحواشي ) أصول المرأة سوف يكونون أبا أو أما لهذا الرضيع ( جد أو جدة ) ، فروع المرأة أولادها يكونون للرضيع إخوانا للرضيع لأنه ينتشر في فروعها ، أبناء أبنائها يكونون للرضيع أبناء أخ فيكون الرضيع عما لهم أو خالا لهم .
جهة الحواشي هذه المرأة لها أخت ما علاقتها بالرضيع تكون خالة له وهذه المرأة لها أخ يكون خالا لهذا الرضيع.
بقي جهة الرضيع له أباء وله إخوة ، وله أبناء إذا كبر هل يتأثرون بهذا الرضاع ؟ يتأثرون لكن الانتشار من جهة الرضيع محدود فلا ينتشر الرضاع من جهة الرضيع إلا من جهة فروعه فقط .
فابن الرضيع هذا تكون المرضعة جدة له لأنها أم أبيه أما أخو الرضيع لاتكون المرضعة لها علاقة به لأن الرضاعة لا تنتشر في الحواشي من جهة الرضيع فلا تكشف لهم المرضعة ،ومن جهة الأصول من باب أولى فلا تنتشر الرضاع من جهة الرضيع في أصوله فأبو الرضيع لا علاقة له بالمرضعة . هل تكشف له بحجة أنه أبو الرضيع ؟ لا تكشف له .
هناك جهة أخرى ينتشر فيها الرضاع ولكن لا نتكلم فيها وهي من جهة صاحب اللبن هذه نتركها لمقام أخر . ا.هـ
الحديث الخامس والأربعون(1/170)
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِم الشُحُومَ، فَأَجْمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".
رواه البخاري [رقم: 2236]، ومسلم [رقم:1581] .
عام الفتح كان في السنة الثامنة من الهجرة .
( حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) فهذه أربعة أشياء حرم الله ورسوله بيعها وإنما أضاف التحريم إلى الله ورسوله لأن الله هو المشرع أصلا والرسول مشرع بأذن الله تعالى وأمره ، ولا حرج في هذه الإضافة ولا تقتضي المساواة بل لله ما يخصه ولرسوله ما يخصه .
حرم بيع الخمر : والخمر كل ما خامر العقل وغطاه على جهة اللذة والطرب فإنه يكون خمرا .
( والميتة ) ما ماتت حتف أنفها إلا أنه يستثنى من الميتة ميتتان ( الجراد والسمك ) فيجوز بيع ميتة السمك والجراد لأنها ميتة مباحة .
( والأصنام ) ما تنصب وتوضع على أشكال معينة يصنعونها ويعبدونها من دون الله .
فهذه الأربعة حرمها النبي صلى الله عليه وسلم ولما حرمها قالوا يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ؟ هذا استدراك على أي الأربعة ؟ على الميتة عرفنا أنها حرام لكن شحوم الميتة هل هي حرام أم يجوز بيعها؟
ثم قالوا : فإنه يطلى بها السفن ( أي تدهن ) وتدهن بها الجلود هي بمعنى السابقة .(1/171)
ويستصبح بها الناس معنى يستصبح يوقدون بها المصابيح من شحوم هذه الميتة . فهل هذا جائز أم غير جائز ؟
انتبه قبل أن تعرف الحكم هل هو الجواز أم المنع . السؤال هنا هل هو سؤال عن بيعها ؟ أو سؤال عن الانتفاع بها بمعنى أنها تطلى بها السفن . و هل هذا جائز ؟ السؤال متوجه إلى البيع أو الانتفاع ؟ هذه المسألة اختلف العلماء فيها في قولهم ( أرأيت شحوم الميتة..) هل سؤالهم عن بيعها يجوز أو سؤالهم عن الانتفاع عن طلاء السفن ودهن الجلود ؟
بمعنى إنسان ما اشترى ميتة لكن ماتت شاة حتف أنفها فأخذ شحمها ودهن به جلدا عنده هل يجوز ؟
إن قلت السؤال عن الانتفاع فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لا هو حرام فلا تدهن جلدك بشحم ميتك ، وإن قلت السؤال وقع عن البيع وإذا حصل بلا بيع فلا بأس فإن هذ يبيح لك أن تدهن الجلد الذي عندك . انتبه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا هو حرام )
قوله ( هو حرام ) يعود فيه الخلاف الذي قلنا قبل قليل ما هو الذي هو حرام هل هو البيع أم الانتفاع ؟ وأنت إذا تأملت الحديث من أوله تجد الحديث يتكلم عن البيع إذا يتعين ويترجح أن معنى قوله هو حرام يعني البيع فلا يجوز بيع شحم الميتة لكن هل ينتفع به من غير طريق البيع ؟ يجوز . كما قلنا في المثال السابق يأخذ شحم ميتة عنده ويستفيد منه بالأشياء المذكورة فإن هذا لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم البيع ويدل على أن قوله ( لا هو حام ) أنه عائد إلى البيع ليس الانتفاع قوله فيما بعد . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( قاتل الله اليهود إن الله حرم عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها فأكلوا بثمنها ) فآخر الحديث يبين أن النهي كان عن البيع فاليهود دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( قاتل الله اليهود ) يعني لعن الله اليهود لأنهم متحايلون . ماذا صنعوا ؟(1/172)
لما حرم عليهم الشحم وقيل لا تبيعوا الشحم قالوا : سمعا وطاعة لا نبيع الشحم . ماذا فعلوا أيضا ؟ أتوا بالشحم فأذابوه ( جملوه ) ثم باعوه ودكا وقالوا نحن ما بعنا شحما الله عز وجل حرم علينا بيع الشحم ونحن بعنا الآن الودك هذه حيلة واضحة ولذلك استحقوا لعنة الله تعالى والدعاء عليهم بذلك فأكلوا الثمن الذي حرم عليهم بحيلة بالية واضحة كوضوح الشمس فلذلك استحقوا لعنة الله تعالى
فدل آخر الحديث على أن التحايل على محارم الله لا يجعلها حلالا بل إن التحايل يزيد في حرمتها لأن المتحايل كأنه مستغفل لربه يأتي الأمر خداعا ومكرا فلذلك الذي يأتي على وجهه الصريح أخف من الذي يأتي بالحيلة والتحايل عليه .
الحاصل أن هذا الحديث فيه تحريم النبي صلى الله عليه وسلم كما وقع فيه اليهود والراجح في معنى الحديث ما سلف القول فيه أن قوله ( هو حرام ) هذا نهي عن البيع ليس الانتفاع . على هذا القول الذي رجح أنه تحريم للبيع نستفيد فائدة وهي جواز الانتفاع بشحم الميتة والانتفاع بشحمها لا يعني أن شحمها طاهر بل شحمها نجس لكن يجوز الانتفاع به فإذا كان نجسا فلا بد أن نقيد الفائدة التي قلنا وهي جواز الانتفاع بشحم الميتة على وجه لايتعدى أمثال ذلك : ما ذكر في الحديث ( يطلي به السفن ) والسفن في البحر لا يتعدى ما فيها ، كذلك الجلود الناس بمعزل عنها كذلك الاستصباح يجعل زيتا ثم يوقد بها المصباح فإن هذا لا يتعدى فلا بأس بذلك إذا هذه الفائدة مترتبة على الترجيح وهو جواز الانتفاع بشحم الميتة على وجه لا يتعدى .(1/173)
قوله ( ويستصبح بها الناس ) هل يشمل إذا كانت المصابيح في المساجد إذا قلنا يشمل فمعنا هذا أننا سندخل النجاسة إلى المسجد فنقول يشمل كذلك للمصلحة ، والنجاسة إذا كانت محفوظة إذا كانت لا يتأثر بها المسجد لا بأس بها لحاجة المسجد ليس لحاجتنا نحن بل لحاجة المسجد . فنقول فيه جواز الاستصباح بالدهن النجس ولو كان ذلك في المسجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما منع يعني ما قال لا بأس ولكن جنبوها مساجدكم فدل هذا على عموم الانتفاع .
والحاصل أن هذا الحديث حرم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة أشياء وعرفت ماذا يستثنى من ذلك في قولهم فيما ذكروا من الفوائد في الشحم الذي عددوها .
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بكلام نبيه وصلى الله نبينا وسلم إنه على كل شيء قدير .
ا.هـ
الحديث السادس والأربعون
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: الْبِتْعُ وَالْمِزْرُ، فَقِيلَ لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا الْبِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَالْمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ، فَقَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام"ٌ .
رواه البخاري [رقم:4343] .
أبو بردة اختلفوا هل له اسم أو اسمه كنية ؟ والظاهر أن اسمه كنية يعني أنه يسمى بهذه الكنية وهو ابن لهذا الصحابي الجليل ابن لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه بعثه إلى اليمن ) بعث أبا بردة أو أبا موسى ؟ أبا موسى الصحابي .
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشربة تصنع بها . يعني تصنع باليمن لم تكن معروفة عندهم في المدينة فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل قال : ( وما هي ) وهذا هو شأن المفتي أنه إذا سأل عن شيء لم يتبينه أن يستفسر ويستوضح أكثر .(1/174)
قال أبو موسى : البتع والمزر . شرابان أحدهما يسمى البتع والآخر المزر لكن هذا الاسم غير واضح ولذلك سأل أبا بردة ما البتع وما المزر؟ فبينه رحمه الله تعالى فقال: البتع نبيذ العسل .
ومعنى قوله : نبيذ أن يؤتى بالعسل فينبذ يعني يطرح في ماء لفترة ثم بعد ذلك يكتسب الماء حلاوة العسل ويصبح بمنزلة العصير في وقتنا الحاضر شرابا حلوا يسمى النبيذ وهو نبيذ العسل كما بين .
وأما المرز فهو نبيذ الشعير يؤتى بالشعير ثم ينبذ بالماء لفترة يعرفونها ثم بعد ذلك يكتسب هذا الماء طعم الشعير فيشربونه كما يشرب العصير في وقتنا .فهذان النبيذان لا حرج فيهما ما لم يصلا إلى حد الإسكار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فكل
مسكر حرام لم يقل عليه الصلاة والسلام إن هذا الشراب حلال أو حرام بل جعل المسألة كما يقال:(مُأصله ) أعطني فيها ضابطا : كل مسكر حرام .
فالنبيذ بحد ذاته مباح ولكن يخشى أن النبيذ يتغير ويتحول إلى مسكر فلذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم منوطا بالعلة . ما هي العلة ؟ العلة الإسكار فقال : (كل مسكر حرام ) فإن أسكر هذا الذي تذكرون وهو البتع والمرز فإنه حرام ، وإن لم يسكر فإنه حلال على الأصل .
إذا نستفيد من هذا أن الخمر المحرم هو المسكر ( كل مسكر حرام ) فما دامت وجدت هذه العلة فيما أسكر أو فيما يشرب وهو الإسكار فإنه يكون حراما .
إذا كل مسكر حرام وهذه هي الرواية فيها شيء من الاختصار وفي رواية أخرى في الصحيحين أيضا ( أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام ) فهذه الرواية الثانية أبسط منها رواية البخاري هنا .
إذا هذا الحديث أصل في تحريم المسكر وأن مناط التحريم هو الاسكار ليست المسميات وليست الأوصاف المناط هو الاسكار وهو مطرد ، لكن يضاف إلى هذا الحديث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) والحديث عند أبي داوود والترمذي وهو حديث حسن .(1/175)
إذا يتبين لك أن ما أسكر فهو حرام وما لم يسكر فإنه ينظر إن كان كثيره يسكر فإن قليله حرام بمقتضى الحديث الآخر الذي ذكرناه بمعنى أن هناك من الأشربة لو شربت منها مقدارا يسيرا فإنه لا يسكر ولكنك لو زدت حتى أكثرت منه فإنه يسكر فهل القليل حلال أو حرام ؟ نقول إنه حرام لأن العبرة بالنهاية ( ما أسكر كثيره فقليله حرام )
إذا الآن تحصل لك أن المحرم هو ما أسكر فإن لم يسكر فننظر إن أسكر كثيره فقليله حرام وإلا فلا وبهذا تعرف الجواب عما يستشكله بعض الناس من بعض الأشربة حيث يقال إن فيها نسبة من المسكر .
فيقال: هذه النسبة لو أكثرت من هذا الشراب هل تسكر هل يذهب عقلك ؟ يقولون لا يذهب عقلك إذا لا يعتبر مسكرا .
بعض الأشربة يصير فيها نسبة من الكحول نسبة مستهلكة ضائعة في هذا الشراب فإنك لو تشرب قربة من هذا الشراب ما أثر عليك إذا هذه النسبة تبين أنها لا اعتبار لها نسبة مستهلكة غير داخلة في المسكر وغير داخلة في ما أسكر كثيره فقليله حرام .
وفي هذا الحديث من الفوائد أن الحكم يدور مع العلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ربط الحكم بالمسميات بل ربطها بالعلة وهي الإسكار .
وفيه أن المسكر لا يشترط فيه نوع دون غيره فإذا أسكر ما صنع من العسل فإنه خمر وإذا أسكر ما صنع من العنب فكذلك ومن غيره من المستحضرات المستجدة فالحكم يدور معها وبهذا تعرف المذهب الذي اشتهر به أبي حنيفة رحمه الله حيث خص الخمر بالعنب . فنقول : لا تخصيص وهذا قول مرجوح الجمهور على خلافه والصواب أن ما أسكر من عنب أو من غيره فإنه يعتبر محرما .(1/176)
ولكن انتبه حتى تفهم مذهب أبي حنيفة على وجهه الصحيح فإن بعض الطلاب يظن أن أبا حنيفة لا يحرم ما أسكر من العسل ولا يحرم ما أسكر من الشعير ليس كذلك بل هو يحرم المسكر مطلقا لكن ما كان من غير العنب فإنه لا يحرم منه إلا ما أسكر بمعنى أنك لو كان عندك كأس من نبيذ العسل وهو يسكر وشربت منه بمقدار فنجال الشاي هذا المقدار لا يسكر عند أبي حنيفة يجوز شربه لأنه إلى الآن ما وصل إلى حد الإسكار وأما عند الجمهور فإنهم يرون أنه مسكر بكثيره فلا يبيحون لك القليل منه إذا مذهب أبي حنيفة لما خص الخمر من العنب ولم يحرم إلا ما كان منه إلا أن يصل إلى حد الإسكار هذا مرجوح لعموم الحديث ( كل مسكر حرام )
ا .هـ
الحديث السابع والأربعون
عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيَكْرِبَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ" .
رَوَاهُ أَحْمَدُ [رقم: 4/132]، والتِّرْمِذِيُّ [رقم: 2380]، وابْنُ مَاجَهْ [رقم: 3349]، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ .
عن المقدام بن معديكرب ولا تقول بن معد يكرب فإن قراءتها الصحيحة بن معد يكرب بدون نطق الياء وإن كانت كتابتها الياء مع الكلمة الثانية .
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(ما ملأ آدمي وعاء شر من بطنه) هكذا عمم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما ملأ آدمي ) يعني من بني آدم (وعاء ) أي وعاء ملأه في الدنيا فليس هناك شر من وعاء واحد ما هذا الوعاء ؟ هو البطن . فبطنك وعاء تضع فيه ما تأكل وما تشرب فإذا ملأت أوعية متنوعة فإن شر وعاء ملأته فإنه بطنك الذي أدخلت الذي أدخلت فيه حتى بلغ ذروته .(1/177)
وفي هذه الجملة تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن يملأ الإنسان بطنه من الأكل لأن ملأ البطن هذا له آثار وله عواقب قد تكون وخيمة وقد تكون سيئة ، ولذلك يقال نصف الدواء في قلة الطعام ، والعامة في القديم يقولون الصحة في أطراف الجوع أما البطنة والشبع فإنها مظنة للأمراض .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ) بحسب : يكفي ، أكلات : وهذه جمع قلة أو كثرة ؟ جمع قلة يعني أكلات قليلة . ماذا يستفسد منها ؟ يقمن صلبه لا ينفخن بطنه ويربين الشحم في جسمه بل يقمن صلبه حتى يقوم صلبه ويشتد نشاطه ويستفيد من هذا ، أما ملأ البطن وتكثير الشحم فإن هذا ليس مما يليق بالمسلم بل بحسبه أكلات يقمن صلبه .
قال: ( فإن كان لا محالة ) إن كان مصر وعنده رغبة جامحة في التزود من الأكل ( فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)هذه الغاية التي رخص فيها الشارع أن يقسم وعاءه أي بطنه إلى أقسام ثلاثة :
للطعام وللشراب والنفس .
وبعض الناس يأخذ الحديث من آخره ويقول السنة أن تجعل ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس . وهل هذه السنة؟ السنة لقيمات يقمن صلبه فإن أبيت وأصررت إلا تكثر من الأكل فثلث وثلث وثلث لكن بعضهم يقفز المرحلة الأولى . ما هي المرحلة الأولى ؟ اللقيمات . ويقول السنة التثليث .
فنقول :لا السنة التثليث لمن أصر على التزود من الطعام وإلا فالسنة الأولى أن الإنسان يكتفي باللقيمات اللاتي يقمن صلبه .
وهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينصح به الأطباء أن الإنسان لا يملأ بطنه من الطعام
وكونك تقوم من الطعام وأنت تشتهيه خير من أن تقوم عنه وأنت تكرهه لأنك أثقلت نفسك منه .(1/178)
والصحة كل الصحة في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يلاحظ أنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أصر على أبي هريرة أن يتزود من اللبن فقال له : ( اشرب ثم اشرب ثم اشرب حتى قال في الأخير والذي بعثك بالحق نبيا لا أجد له مساغا أو مسلكا ) فهذه قضية عين لا تؤخذ على عمومها وإنما أرشده إلى التزود لأنه رضي الله عنه كان جائعا جوعا شديدا والشبع أحيانا لا بأس فيه هذا ما يدل عليه الحديث فالحديث الذي معنا يدل على القاعدة العامة التي ينبغي أن تسلكها ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على أنه لا بأس بالسبع وملئ البطن أحيانا لا سيما إذا ملأه من الشراب فأمر الشراب غير أمر الطعام الذي يحتاج إلى مصنع وصعوبة هضم .
فالحاصل أن ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في غاية التوجيه وهو حفاظ الصحة فاستعينوا بالله عز وجل على تنفيذه .
استعينوا بالله ولا تعجزوا . ا.هـ
الحديث الثامن والأربعون
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَإِنْ كَانَتْ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ".
رواه البخاري [رقم:34]، ومسلم [رقم:58].
في هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خصال النفاق وهذه الخصال إنما هي للنفاق العملي . وأما النفاق الأخر فإن أمره أعظم فإنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
وإن شئت أن تقول هذه في النفاق دون النفاق ، وعلى هذا يتبين لك أن النفاق يتبعض فقد يكون هناك مسلم وعنده شيء من النفاق . أي النفاق ؟ النفاق العملي ، أما النفاق الاعتقادي فلا.(1/179)
يقول صلى الله عليه وسلم ( أربع من كن فيه) قوله أربع لا ينافي ما جاء في الرواية الثانية أنه قال ( ثلاث ) لأن هذا يسمونه مفهوم عدد ومفهوم العدد لا اعتبار له .أو بعضهم يقول العدد لا مفهوم له لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحدث أصحابه بثلاث علامات ، وفي مجلس أخر يحدثهم بأربع وفي مجلس أخر بخمس وهكذا ، ولذا لو جمعت علامات النفاق الواردة في الأحاديث ربما تبلغها إلى الثلاثين أو أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر في كل مقام بما يناسب الحال .
ما هذه الخصال ؟ عدها بعد ذلك .
قال :(وإن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ) في هذا ما قلته قبل قليل أن النفاق يتبعض لأنه قال فيه خصلة من النفاق ، وقوله ( حتى يدعها ) فيه دليل على مسألة مهمة وهي أن المنافق له توبة ، وفيه أن التوبة من المعصية المعينة أن تكون بتركها أم التوبة العامة فتكون بترك الذنوب عموما فالترك إما أن يكون بعضيا فتكون التوبة مقيدة أو تركا كليا فتكون توبة عامة .
ما هذه الخصال ؟
قال ( إذا حدث كذب) إذا أخبر بخبر فإنه يكذب وهذا عام سواء كان حدث عن نفسه أو عن غيره . كيف يحدث عن نفسه ؟ يقول مثلا إنه سافر إلى مكة وهو كاذب .
وكيف يحدث عن غيره ؟ يقول مثلا إنه رأى فلانا قد سافر فيكذب عن غيره فكل هذا داخل في الحديث ولكن يستثنى من الكذب الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق يستثنى الكذب الذي رخص فيه وهو الكذب في المواطن الثلاثة . ما هي ؟ كذب الرجل على زوجته وكذبها عليه انتبه لهذا فإن بعض الناس يظن أنه يجوز له أن يكذب على زوجته ولا يجوز لها أن تكذب عليه ولحديث في هذا واحد.
ولماذا رخص فيه ؟ للمصلحة الراجحة .(1/180)
والحياة الزوجية بلغكم الله إياها قد لا تستقيم إلا بهذا إلا بالكذب وعلى كل حال لا ينبغي للإنسان أن يتهالك في هذه الرخصة ويكذب بداع وبغير داع بل عليه أن يكون هذا كالعلاج يأخذه عند الحاجة لأنه إذا جرت عليه الكذب عند أهله ربما لا يقبل كلامه في المستقبل فرخصة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تقيد بالحاجة .
الثاني / مما رخص فيه الكذب في الصلح تأتي إلى فلان الذي خاصم صاحبه منذ سنوات وتقول له يا فلان جلسنا مجلسا وذكرك فلان بخير وأثنى عليك وأنت كاذب بهذا ما قصدك ؟ الصلح فيما بينهما ولكن حكيما في هذا لا تقل هذا وأنت تعلم أن صاحبك سوف يتتبع الموضوع ويسأل هل هذا حصل أو لم يحصل إن كان كذلك فلا تفعل ، لكن إذا علمت أن صاحبك لن يتحقق ويأخذ ما قلت محل التصديق فلا بأس لأنه إذا تحقق وتبين أنك كاذب فالمصلحة التي تريدها لم تتحقق بل سوف يؤخذ عنك أنك كاذب فهذه لابد من الاحتراز بها أعني الكذب في الإصلاح .
الأمر الثالث مما رخص فيه الكذب الذب في الحرب ، تقول مثلا إننا سوف نذهب إلى الشمال تخاطب مثلا بعض من تعاديهم وأنت قصدك إليهم حتى لا يعرفوا وجهتك فيستعدوا لك وكذلك في غيرهذه المواطن أعني في الكذب في الحرب فهذه رخص فيها الشارع ( بين الزوجين ، وفي الإصلاح ، وفي الحرب ) وهذه تستغل حسب الحاجة حتى لا تؤدي عكس المقصود .
الأمر الثاني : قال ( إذا وعد أخلف ) إذا وعد إنسان أن يأتيه إذا إنسان أن يعطيه فإنه يخلف فإن هذا من علامات النفاق .
ودل هذا الحديث على وجوب الوفاء بالعهد خلافا لما ذهب إليه كثير من الفقهاء حيث قالوا : إن الوفاء بالعهد سنة مؤكدة بل ظاهر الحديث إن الوفاء بالعهد واجب لاسيما إذا ترتب على إخلاف الوعد مفسدة فإذا ترتب عليه مفسدة فإنه يحرم حينئذ بتأكيد وقوله ( إذا وعد أخلف ) هل يشمل وعد الصبيان الصغار ؟ نعم يشمل ،وقد يكون في الصبي أشد لأنه ...... ذلك عندك فالوعد ملتزم مع الصغير والكبير .(1/181)
قال: ( وإذا خاصم فجر ) هذا نسأل الله العافية إذا خاصم أحدا فإنه يفجر فيها يعني يتطاول فيها ويزيد فإذا خاصم عند بعض ريالات يأتي بكل سباب وبكل فجور وبكل قديم وحديث ، هذا فجور ليس من صفة المؤمن ، المؤمن مطالب أن يأخذ حقه ويجادل بالتي هي أحسن لكن أنه يفجر حتى إنك إذا رأيته قلت سبحان الله يخاصم في ماذا؟ هل قتل أباك ؟ وإذا هو يخاصم في مسألة يسيرة هينة .لكن لأجل أنه يخاصم فيها فإنه يفجر فيها .
إذاً معنى ( إذا خاصم فجر) يتطاول ويزيد في كل ما يستطيع أن يزيده .
قال: (إذا عاهد غدر ) إذا أعطى العهد لأحد فإنه يغدر يعني ينقض العهد
وقوله ( إذا عاهد ) هذا عام للعهد الخاص الذي يخصك في بيعك وإجارتك وكذلك يشمل العهد العام وهو طاعتك لولي أمرك في قليل الأمر وكثيره فإن هذا عهد عام لابد من الوفاء به. وهل يشمل قوله ( إذا عاهد غدر) يشمل المعاهدة مع الكافر ؟ نعم فإن الكافر الذي ليس بحربي يجب الوفاء بعهده فإذا اشتريت سيارة من كافر مقتضى الشراء أن تعطيه الثمن إذا الثمن عهد بمقتضى البيع فلابد أن تعطيه الثمن وأما الذين يتساهلون بهذه الحقوق ويقولون هذا كافر فنقول وإن كان كافر فإنه يجب الوفاء له بعض الناس يستأجر أجيرا عنده ثم يماطله بالأجرة ثم إذا قلت له قال هذا كافر هذا بوذي هذا هندوسي .
نقول : وإن كان كذلك أعطه حقه وأنت إذا كنت ورعا من استئجار هؤلاء فلا تستأجرهم أصلا فخذ المسلمين حتى تنفعهم . ا.هـ
الحديث التاسع والأربعون
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزَقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا".(1/182)
رَوَاهُ أَحْمَدُ [رقم: 1 0 و52]، وَالتِّرْمِذِيُّ [رقم:2344]، وَالنَّسَائِيُّ فِي "الْكُبْرَى" كَمَا فِي "التُّحْفَة: [رقم: 8/79]، وَابْنُ مَاجَهْ [رقم: 4164]، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (730)، وَالْحَاكِمُ 418، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
في هذا الحديث حث النبي صلى الله عليه وسلم على التوكل ( التوكل على الله ) والتوكل على الله معناه الاعتماد على الله مع بذل الأسباب .
والاعتماد أين يؤدي في القلب أم في الجوارح؟ في القلب يعني التوكل عبادة قلبية فتعتمد على الله عز وجل مع بذلك للأسباب ، تعتمد على الله في رزقك وأن الله هو الرازق وأن ما يجري لك من أيدي الناس فإنما هو واسطة ليس إلا ،تعتمد على في قبول العمل ، تعتمد على الله عز وجل في أمنك في نفسك وفي بلدك وفي أولادك إلى غير ذلك ، فالتوكل هو الاعتماد على الله مع بذل الأسباب ولابد هنا من بذل الأسباب لأنه إذا تخلفت الأسباب فإنه يسمى لا يسمى توكلا . ماذا يسمى ؟ تواكلا وتفريطا . لكن لابد من بذل الأسباب ، فإن قلت ما هي الأسباب التي أبذلها ؟ نقول الأسباب تختلف فاعتمادك على الله في الرزق ماهي الأسباب التي تبذلها ؟ السعي والاتجار وما شابه ذلك ، الاعتماد على الله في الأولاد وتحصيلهم ما هي الأسباب في تحصيلهم ؟ الزواج الشرعي
إذا بذل الأسباب يختلف حسب الأمر الذي توكلت على الله عز وجل فيه .
قال : ( لو أنكم توكلون على الله حق توكله ) دل هذا على أن التوكل درجات ، من أين أخذ ؟ من قوله ( حق توكله ) دل على أن التوكل درجات وهذا هو الصحيح أن التوكل كالإيمان واليقين درجات يختلف الناس في تحصيل هذا .(1/183)
قال : ( لرزقكم كما يرزق الطير ) يعني لو حصل هذا منكم التوكل على حق التوكل لرزقكم الله كما يرزق الطير ، إذا الطير عندها توكل على الله عز وجل واعتماد وعندها بذل الأسباب ، أين بذلها للأسباب ؟ قال : ( تغدوا خماصا وتروح بطانا ) هذا هو سعيها أنها تغدوا من أماكنها وأوكارها وأعشاشها، تغدوا يعني تذهب أول النهار ، وتروح يعني أخر النهار .(1/184)
( وتروح خماصا ) معنى خماصا يعني الضامرة ضامرة البطون فالطيور تذهب في أول النهار ليس في بطونها شيء ضامرة ثم ترجع في أخر النهار وبطونها ملئا ،من الذي رزقها ؟ الله عز وجل لكنها ما جلست في أماكنها بل توكلت على الله وباشرة السبب وهكذا الإنسان عليه أن يتوكل على الله ويبذل الأسباب وفي هذا التشبيه من النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أهمية بذل السبب لأنه شبه بحيوان يفعل سببا وهو خروجه في أول النهار ثم العود في الأخير فهذا هو السر والله أعلم من ذكر هذا المثال وهو أن يمثل للتوكل ويمثل لبذل السبب لأن هذه الطيور ما أتاها رزقها إلا ببذلها للسبب وتامل تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم للطير لما قال: ( كما يرزق الطير ) مع أن الأشياء التي يرزقها الله كثيرة . أليس كذلك؟ فهو يرزق الطير وهو يرزق الحيوانات ويرزق الحشرات وما أشبه ذلك ، ولكن السر والله أعلم بأنه شبه الإنسان في طلبه للرزق بالطير لأن الإنسان لا يأنف من تشبيهه بالطير أليس كذلك ؟ انتبه لهذه المسألة البلاغية الإنسان لا يأنف أن يشبه بالطير بل ربما يتمنى الإنسان أحيانا أن يكون كالطير يطير في السماء فهذا هو السر في التشبيه والله أعلم وإلا كما قلت لك فإن الله يرزق الطير ويرزق الحيوانات الأخرى لكن تشبيه الإنسان بالحيوانات الأخرى فيه ما فيه مما تعافه النفوس فلو قال لرزقكم كما يرزق الحشرات أظن هذا تعافه النفوس ولهذا يذكر أن إنسانا إذا أراد أن يغضب زوجته قال : (والذي خلقك وخلق البقرة واحد ) فهي تغضب من هذا مع أنه حقيقة لكن في هذا السياق مغضبة . وهي لو كانت ذكية لقالت : نعم الذي خلقني وخلقك وخلق البقرة واحد وهو الله عز وجل .
على كل حال ينبغي للإنسان إذا أراد التشبيه أن يأخذ الشيء الذي لا تعافه النفس(1/185)
أضف إلى ذلك شيئا أخر قالوا : التشبيه بالطير فيه أي الطير مشابهة للإنسان من جهة اعتنائه بصغاره وإطعامها فالإنسان يعتني بصغاره ويطعمهم وكذلك الطير أيضا يعتني بصغاره ويطعمها طعاما مشاهدة بخلاف غيرها من الحيوانات فليس عندها ما عند الطير من جلب الطعام للصغار بل وتلقيم الصغار كما تلقم الطيور من العصافير وغيرها .
الخلاصة أن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم رزق الإنسان برزق الطير من جهة أن الإنسان لا يأنف من هذا ومن جهة المشابهة لإعتناء الإنسان بصغاره كما الحال الموجودة عند الطير . ا. هـ
الحديث الخمسون
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: "أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ؟ قَالَ: لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ".
رواه أحمد [رقم: 188 و 190].(1/186)
قال: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فباب نتمسك به جامع ...) طلب هذا الرجل شيئا يكون جامعا يشتغل به ويستعين الله عز وجل عليه لأن الشرائع قد كثرت والإنسان إذا كثر عليه الشيء قد يضيع الكثير فهو يريد شيئا يتمسك به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل ) هكذا أوصاه أن لسانك أيه السائل لا يزال رطبا من ذكر الله عز وجل يعني أكثر من ذكر الله عز وجل فإنك إذا أكثرت من ذكره فإن هذا باب جامع ولا شك أن الذكر باب جامع لأن الذكر يقوي الروح وإذا قويت الروح قوي البدن وإذا قوي البدن اشتغل بطاعة الله عز وجل بأنواعها فهذا والله أعلم وجه كونه أنه جامع أن الذكر يقوي الروح وإذا قويت الروح قوي البدن ونشط ثم إذا نشط البدن سيشتغل بأنواع طاعة الله عز وجل ، والكلام في ذكر الله عز وجل كلام يطول وفوائد الذكر كثيرة أيضا لكني أحيلكم إلى كتاب ابن القيم رحمه الله تعالى المسمى بالوابل الصيب من الكلم الطيب فإنه ذكر للذكر أكثر من مئة فائدة في ذكر الله عز وجل ثم عد منها قرابة الثلاث والسبعين فائدة ما عد المائة كلها مما يدلك على أن الذكر شأنه عظيم ولذلك لم يأمر الله سبحانه وتعالى بالاستكثار من عمل كما أمر بالاستكثار من ذكره ( يأيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ) ولا تجد والله أعلم (صلوا كثيرا) ( قوموا كثيرا ) بنفس هذه الصيغة إنما وردت هذه بالذكر خاصة مما يدلك على ما قلت لك أن الذكر شأنه عظيم .(1/187)
وفي قوله ( لا يزال لسانك ..) في هذا تشبيه الذكر بالماء لأن اللسان يكون رطبا رطوبة حسية بالماء فكذلك يكون رطبا رطوبة معنوية بالذكر فالذكر يرطب اللسان لكن رطوبة معنوية ثم إذا سألت ما وجه الشبه بين الذكر والماء ؟ فالوجه واضح فالماء كما أن فيه حياة البدن الحياة الحسية فالذكر فيه حياة البدن الحياة المعنوية فالمناسبة واضحة جدا في تشبيه الذكر بالماء لما قال ( رطبا من ذكر الله ) وفي هذا فائدة مهمة نختم بها ما يتعلق بهذا الحديث وهو أنه لا بد من الذكر من عمل اللسان بمعنى أن الإنسان يحرك لسانه أما لو ذكر الله بقلبه أو أمر أدعية على قلبه فإن هذا لا يسمى ذكرا بل هذه خواطر قلبية يؤجر عليها الإنسان لكن الذكر الشرعي لا بد أن يكون باللسان ومن ذلك أذكار الصلوات فلو أن إنسان سبح بقلبه أو قرأ بقلبه هل يكفي ؟ لا يكفي لا بد من تحريك اللسان وهل لا بد من إسماعه نفسه أو إسماعه من حوله ؟ نقول الصحيح أنه لا يلزم أن يسمع نفسه أو يسمع من حوله بل في هذا نوع مفسدة وهي التشويش فالصواب أنه يكفي تحريك اللسان بالذكر الواجب في الصلاة وغيرها فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وعلى شكره وعلى حسن عبادته .
وبهذا تمت نعمت الله سبحانه وتعالى علينا بإتمام هذا المتن المختصر نسأل الله عز وجل أن ينفعنا به .
ولا يخالفكم أن العلم يحتاج إلى مدارسة فالإنسان قد يدرك الشيء في وقته لكن إذا تركه قد ينساه ويتفلت منه فلا بد من أن يراجعه وأن يتعاهد ما درس سواء في هذا الدرس أو في غيره ، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوالنا وأحوالكم ويجعلنا مجتمعين على خير في هذه الدنيا وفي الآخرة وصلى الله وسلم على نبيه محمد. ا.هـ(1/188)