ـ والمقنع: لم يذكر فيه الأدلة أو التعليلات للاختصار ، والموفق له أربع مؤلفات في الفقه جعلها مرتبة.
1ـ كتاب العمدة وهذا المؤلف لا يذكر فيه الخلافات في المذهب وإنما يكتفي بقول واحد وربما ذكر الدليل أحياناً ليتمرس الطالب على معرفة الأدلة الشرعية.
2ـ ثم يترقى معه إلى كتاب المقنع وقد تقدمت صفته.
3ـ ثم يترقى إلى كتاب الكافي : وهو على طريقة المقنع ، لكن فيه زيادة أدلة وتعليلات فيضيف الأدلة والتعليلات التي تركها في كتاب المقنع .
4ـ ثم يأتي بعد ذلك كتاب (المغني) في الفقه المقارن يذكر أقوال الحنابلة ويذكر أقوال الشافعية وغير ذلك من أقوال أهل العلم فهو في الفقه المقارن ، ويذكر أدلة هؤلاء وهؤلاء ويستدل للحنابلة فهو كتاب واسع.
قال بعضهم جامعاً كتبه:
كفى الخلق بالكافي وأقنع طالباً…… بمقنع فقه عن كتاب مطول
وأغني بمغني الفقه من كان باحثاً……وعمدته من يعتمدها يحصل.
ولا شك أن كتبه واختياراته ومؤلفاته ـ رحمه الله ـ من أنفع المؤلفات في الفقه الحنبلي وأكثرها بركة ونفعاً فرحمه الله تعالى .
* قوله: (( وربما حذفت فيه مسائل نادرة الوقوع وزدت على ما مثله يعتمد ، إذ الهمم قد قصرت 000 )):
ففيه مسائل قد حذفها من المقنع لا لشيء إلا لندرة وقوعها ، فهي مسائل يقل وقوعها فلم يحتج إلى ذكرها ؛ لأن الحاجة إليها ضعيفة.
( وزدت على ما مثله يعتمد ) : فهو قد زاد على المقنع زيادات رأى أنها مهمة فزادها .
قال: ( إذ الهمم قد قصرت والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت ) : هذا تعليل للاختصار ولحذف المسائل النادرة الوقوع.
( والأسباب المثبطة عن نيل المراد ) : ومن أعظمها المعاصي .
* قوله: (( ومع صغر حجمه حوى - جمع - ما يغني عن التطويل )):
فهو كتاب مع صغر حجمه كما قال ، قد حوى مسائل كثيرة تغني عن التطويل الموجود في غيره من الكتب.
* قوله: (( ولا حول ولا قوة إلا بالله )):(33/18)
لا حول: أي لا تحول لنا من حال إلى حال لا يمكننا أن نتحول من شدة إلى خفة من فقر إلى غنى من جهل إلى علم من شرك إلى توحيد من معصية إلى طاعة لا حول لنا إلا بالله سبحانه وتعالى.
أي لا تحول لأحد من حال إلى حال من حال سيئة إلى حسنة إلا بالله سبحانه وتعالى.
(ولا قوة): كذلك لا قوة يستعان بها إلا قوة الله عز وجل.
* قوله: (( وهو حسبنا )):
حسبنا: أي كافينا ، فالحسب هو الكافي { يا أيها النبي حَسْبُكَ الله } (1) أي كافيك الله.
* قوله: (( ونعم الوكيل )):
أي نعم الوكيل الله سبحانه وتعالى.
أي نعم المتوكل عليه الذي تفوض الأمور إليه فيدفع الضر ويجلب النفع الله سبحانه ، فهو المتوكل عليه سبحانه وتعالى.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني
( يوم الاثنين 9/10/1414هـ )
* قوله: << كتاب الطهارة >>
الكتاب: مصدر كتب يكتب كتبا وكتاباً وكتابة ، وهو بمعنى مكتوب.
والكتب في اللغة: الجمع ، يقال: (تكتب بنو فلان) إذا اجتمعوا.
ومنه سميت الكتيبة " وهي جماعة الخيل " سميت كتيبة لاجتماعها.
فيكون المعنى هنا : الجامع لأحكام الطهارة .
فهذا المكتوب هنا قد جمع فيه المؤلف ما يحتاج إليه في مسائل الطهارة.
ـ أما الطهارة في اللغة: فهي النظافة والنزاهة عن الأقذار سواء كانت هذه الأقذار حسية أو معنوية.
فإذا أزال القذر الثابت على بدنه أو على ثوبه أو على بقعته فإن هذا طهارة.
وإذا أزال القذر المعنوي كالشرك بالله والمعاصي فهذه طهارة أيضاً.
ومنه سمي المشركون نجس ؛ لكونهم قد وقع فيهم القذر المعنوي ، وإن كانوا طاهرين طهارة حسية وأن الكافر إذا صوفح أو جلس على بقعة فلا تتنجس اليد ولا البقعة ؛ لأن نجاسته نجاسة معنوية.
فالنجاسة الحسية والمعنوية : التنزه عنهما يسمى طهارة ، هذا هو تعريف الطهارة لغة.
والذي يهمنا تعريفها اصطلاحاً ، وقد عرفها المؤلف بقوله:
__________
(1) سورة الأنفال 64 .(33/19)
* قوله: (( وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث )):
( ارتفاع الحدث)
الحدث هو : وصف " أي معنى من المعاني فهو ليس حسياً " يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها مما يشترط فيه الطهارة كمس المصحف والطواف عند جمهور أهل العلم ونحوه مما تشترط فيه الطهارة.
فهو إذن ـ أي الحدث ـ ليس شيئاً محسوساً يرى بالأبصار أو يمس بالأيدي وإنما هو شيء معنوي .
إذن الطهارة : هي ارتفاع الحدث : فلا يبقى قائماً في الجسد بل يزول عنه ويرتفع.
فإذا توضأ المسلم الوضوء الشرعي وكان قد أحدث قبل ذلك ، فإن هذا الوضوء يرفع الحدث الذي قام به ، فهو طهارة.
والغسل كذلك ، فالجنب مثلاً قد قام به وصف - فليس شيئاً محسوساً قام به - يمنعه من الصلاة ، وإنما هو شيء معنوي ، فإذا اغتسل ذهب منه هذا الشيء المعنوي فبقي ليس بمحدث بل طاهر.
( وما في معناه):
كذلك ما في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة كما أن ارتفاع الحدث بالغسل أو الوضوء يسمى طهارة فكذلك ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة.
وفي هذه الصورة إما أن يكون الحدث موجوداً أو لا يكون موجودا ، وهو إن كان موجوداً فإن هذا الفعل الذي يسمى طهارة لم يزله بل هو باق ، لذا قلنا (ما في معناه) ؛ لأنه لو كان ارتفاعاً لما قلنا (في معنى ارتفاع الحدث).
إذاً : يدخل في لفظة ( وما في معناه ) صورتان :
1ـ الصورة الأولى : أن يكون الحدث ليس بمرتفع بل هو باق ، ومع ذلك يسمى طهارة.
2ـ ألا يكون محدثاً لكنه فَعَلَ فِعْل الطهارة.
أما الصورة الأولى : فمثالها من لديه سلس بول والمرأة المستحاضة ونحو ذلك ، فإنهم عندما يتوضؤون الوضوء الشرعي حدثهم باقٍ غير ذاهب ؛ لأن الحدث عندهم متجدد ولكنهم قد تطهروا طهارة شرعية صحيحة ، فهي على صورة الوضوء الشرعي الصحيح ، ولكن مع ذلك الحدث باقٍ ، فهذه تسمى طهارة شرعية لكنها ليست ارتفاعاً للحدث.
فالحدث باق وإنما هي في معنى ارتفاع الحدث.(33/20)
ـ وأما إذا كان الحدث غير موجود ، فمثال ذلك : الوضوء المستحب أو الغسل المستحب كغسل الجمعة ؛ فإنه يسمى طهارة ، والشخص عندما يغتسل غسل الجمعة ليس عليه حدث ، فهو في معنى ارتفاع الحدث ؛ لأنه شابهه في الصورة فغسل الجمعة كغسل الجنابة تماماً.
وكذلك: الوضوء المستحب: وهو ما يسمى بتجديد الوضوء ، فعندما يجدد وضوءه فإنه عليه طهارة وليس بمحدث ومع هذا فإن الفعل يسمى تطهراً وما فعله فهو طهارة.
كذلك الغسلات التي بعد الغسلة الأولى ؛ فإن الشخص عندما يتوضأ ، الواجب عليه أن يغسل كل عضو مرة مرة ، فالتكرار لا يرد على الحدث ؛ لأن الوارد على الحدث إنما هو غسل واحد ، فعندما يغسل يديه ثلاثاً فالغسلة الأولى تزيل الحدث المتعلق بيديه ، وأما الغسلتان الأخريان فإنهما لا تردان على حدث فهما في معنى ارتفاع الحدث.
إذن: ما يكون في معنى ارتفاع الحدث يسمى طهارة ، فمن به سلس بول أو نحوه من الأحداث المتجددة ، فوضوءه أو غسله يسمى طهارة.
والغسل المستحب كغسل الجمعة - أو على القول بوجوبه أيضاً - فهو لا يرد على حدث حتى على القول بوجوبه ويسمى طهارة.
وكذلك غسل الميت يسمى طهارة ، وكذلك الوضوء المستحب يسمى طهارة ، وسائر الأغسال المستحبة تسمى كذلك طهارة ونحو ذلك .
( وزوال الخبث ) :
الخبث : المراد به هنا : النجاسة الحسية ؛ لأن الفقهاء ليس مبحثهم في الخبث المعنوي كالشرك ، وإنما مبحثهم في الخبث الحسي : وهي النجاسة التي حكم الشارع بنجاستها.
وسيأتي البحث في هذا ؛ فإن المؤلف قد بوَّب باباً كاملاً في النجاسة وإزالتها ، والذي يهمنا هنا هو تعريف الطهارة.
فالنجاسة الحسية كالبول والعذرة ونحو ذلك زوالها عن البدن أو البقعة أو الثوب يسمى طهارة ، فعندما يزول الخبث الواقع الطارئ على الثوب فينظَّف بالماء أو يزول بغير ذلك ؛ فإن هذا يسمى طهارة.
وقال هنا ( زوال الخبث ) ، ولم يقل : ( إزالة الخبث ) ؛ لأن النية لا تشترط في إزالة النجاسة.(33/21)
فلو أن رجلاً علق ثوباً فنزل عليه مطر وفيه نجاسة ؛ فإنه لم يفعل المكلف هنا التطهير ، والثوب قد طهر بزوال نجاسته بسبب نزول المطر عليه.
ولو غسل ثيابه وفيها نجاسة وهو لا يعلم بوجود هذه النجاسة وغسل ثيابه لإزالة ما فيها من الأوساخ الأخرى ولا يعلم أن فيها نجاسة ، فهو لم ينو إزالة النجاسة ومع ذلك تزول ؛ لأن النجاسة من باب التروك وليس من باب الأفعال ، فالمقصود هو إزالتها سواء زالت بفعل المكلف ونيته أو بفعله بدون نية أو زالت بفعل غير واقع عليه التكليف كماء السماء أو نحو ذلك ، فإن النجاسة تزول وعلى هذا فلو أن المؤلف قال: (رفع الحدث): لكان الأولى ؛ لأن الحدث لابد في رفعه من نية.
فلو أن رجلاً اغتسل بغير نية وتبيّن أن عليه جنابة ، فإن هذا الغسل لا يجزئه ؛ لأنه لم ينو إزالة الجنابة الواقعة عليه، وسيأتي الكلام على هذا في بابه إن شاء الله.
* قوله: (( المياة ثلاثة )):
المياه: جمع كثرة لماء ، وأصله موه ، لذا جمع القلة منه (أمواه) ، وجمع الكثرة منه (مياه).
( ثلاثة ): أي شرعاً ، وإلا فإنها في الواقع قد تنقسم إلى أكثر من هذه الأقسام ، لكن المقصود هنا أقسامها من حيث حكم الشارع فيها.
فذكر هنا أن المياه تنقسم إلى ثلاثة وهي:
1ـ الطهور أي المطهر 2ـ والطاهر وهو الطاهر بنفسه غير المطهر لغيره.
3ـ والنجس.
هكذا قسمه فقهاء الحنابلة وغيرهم فهو مذهب الجمهور ، وأن المياه تنقسم إلى ثلاثة .
والمؤلف هنا سيذكر القسم الأول وما يتعلق به من مسائل ثم يذكر القسم الثاني وما يتعلق به من مسائل ثم يذكر القسم الثالث وما يتعلق به من مسائل ، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم من أن المياه تنقسم إلى ثلاثة .
والراجح ما ذهب إليه المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية من أن المياه تنقسم إلى قسمين اثنين:
ماء طاهر ، وماء نجس ، فالطاهر هو الطهور المطهر ، والقسم الثاني هو الماء النجس.(33/22)
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: " وإثبات ماء طاهر غير مطهر لا أصل له في الكتاب والسنة " (1).
وسيأتي البحث في هذا عند الكلام في القسم الثاني من أقسام المياه.
ـ إذن: قوله: (ثلاثة): فيه نظر ، فالصواب والصحيح ـ وسيأتي الاستدلال له ـ أن المياه إنما تنقسم إلى قسمين: مياه طاهرة يصح للمسلم أن يتطهر بها ، ومياه نجسة.
وأما أن يكون هناك ماء يسمى ماءً وهو مع ذلك لا يطهر فهذا ليس بصحيح وسيأتي مزيد بحث فيه في موضعه – إن شاء الله - .
قوله: (( طهور لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره )):
هذا القسم الأول : هو الطهور : فهو طاهر بنفسه مطهر لغيره ، بل لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره.
( النجس الطارئ ): لأن هناك نجس ليس بطارئ ، بل هو نجس نجاسة عينيّة.
النجس الطارئ: هو الموضع أو المحل الذي وردت عليه النجاسة ، فهو في أصله طاهر لكن وردت عليه نجاسة ، فهذا يسمى النجس حكماً ، والنجاسة هنا طارئة عليه ، ليست بأصلية ، فهذا هو الذي قابل لإزالة النجاسة فيعود طاهراً كما كان .
وأما النجس عيناً : فهو الذي قد خلقه الله نجساً فهذا لا يُزال بأي شيء كان.
مثال ذلك: البول أو العذرة أو الكلب أو الخنزير ونحو ذلك ، فهذه نجاستها نجاسة عينية ، بمعنى : أنها لا يمكن أبداً أن تزول عنها هذه النجاسة التي خلقها الله عز وجل عليها مهما فعل فيها من أدوات التطهير.
إذن الكلام إنما هو على المحل الذي ترد عليه النجاسة ، فهذا هو النجس حكماً ؛ لأنه طاهر في الأصل فالنجاسة طرأت عليه فأصبح في حكم الشيء النجس .
فإذا أزيلت هذه النجاسة فإنه حينئذ يعود طاهراً.
(ولا يزيل النجس الطارئ غيره):
إذن يقرر المؤلف أن هذا النوع من المياه أولاً يرفع الحدث ، وهو كذلك يزيل النجس ، بل لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس الطارئ غيره.
أما كونه لا يرفع الحدث غيره فسيأتي البحث في باب التيمم ، عن التيمم أهو رافع أو مبيح؟(33/23)
وفقهاء الحنابلة يرون أنه مبيح ، لذا هذا التعريف يجري على قاعدتهم ، وسيأتي البحث في هذا.
* وقوله هنا كذلك : (( لا يزيل النجس الطارئ غيره )):
يدل على أنه لو كانت هناك نجاسة فصب عليها شيء آخر من المواد كالكيميائية مثلا ، أو أزيل بتراب أو نحو ذلك فإن النجاسة تبقى ولا تزول .
بمعنى : ثوب أزيلت نجاسته بغير الماء أو زالت نجاسته بغير الماء ، هل يزول ذلك أم لا ؟
قالوا: لا يزول إلا بالماء ، هذا هو مذهب الحنابلة. فعلى ذلك إذا أزيل بحكة مثلاً وكان مما يقبل الحك ، أو أزيل بأي طريق آخر ، بمواد كيميائية أو نحو ذلك أو بتراب فإنه عندهم لا يزول واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: في دم الحيض يصيب الثوب: ( تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه ) (1) متفق عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب غسل الدم ( 227 ) : عن أسماء قالت : جاءت امرأةٌ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : أرأيت إحدانا تحيض في الثوب ، كيف تصنع ؟ قال : ( تحته ثم تقرصه بالماء وتنضحه وتصلي فيه ) ، وانظر ( 307 ) . وأخرجه مسلم ( 291 ) كتاب الطهارة ، باب نجاسة الدم وكيفية غسله عن أسماء قالت : جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض كيف تصنع به ؟ قال : ( تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه ) .(33/24)
قالوا : فقد خصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الماء بالذكر ، واستدلوا كذلك بالحديث المتفق عليه في أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهراق على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ) (1) متفق عليه.
قالوا: فخصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك الماء بالذكر.
ـ وذهب فقهاء الأحناف : إلى أن الماء ليس فقط هو المزيل للنجاسة ، بل أي شيء تزول به النجاسة ؛ فإن المحل يطهر ، كأن يزول بالتراب أو بمرور الزمن ونحو ذلك مما تزول به النجاسة بالشمس وغير ذلك ، فمتى زالت النجاسة ولم يبق لها أثر يمكن إزالته فإنها حينئذ تطهر ، وهذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب صب الماء على البول في المسجد ( 220 ) : أن أبا هريرة قال : قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) وانظر 219 ، 221 ، 6128 . وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد ( 284 ) ، ( 285 ) عن أنس : أن أعرابياً بال في المسجد فقام إليه بعض القوم ، فقال رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه ولا تزرموه ) قال : فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه " .(33/25)
ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في سنن أبي داود : ( إذا وطئ أحدكم الأذى في نعله فإن التراب لها طهور ) (1).
فجعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التراب طهوراً للنعل إذا أصابها الأذى.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الأذى يصيب النعل ( 385 ) قال : " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة ح وحدثنا عباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي ، ح ، وحدثنا محمود بن خالد ، حدثنا عمر - يعني بن عبد الواحد - عن الأوزاعي ، المعنى ، قال : أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور ) . وأخرجه برقم ( 386 ) من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه قال : ( إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب ) . وبرقم ( 387 ) قال : " حدثنا محمود بن خالد حدثنا محمد يعني ابن عائذ ، حدثني يحيى - يعني ابن حمزة - عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد أخبرني أيضاً سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعناه .(33/26)
ومثل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود ، أنه عليه الصلاة والسلام ، قال: ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه ثم يصل فيهما) (1)
فهذا الحديث يدل على أن المسح كاف في إزالة الأذى الواقع في النعلين.
ـ ثم إن النجاسة هي علة التنجس ، فإذا زالت هذه النجاسة بأي طريق فإنه لا مبرر لانتفاء الحكم عليه.
وقد قعّد الفقهاء القاعدة المشهورة: الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فإذا ثبتت العلة ثبت الحكم ، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم.
إذن الراجح: أنه ليس الماء الطهور فقط هو المزيل للنجاسة. بل كل طريق تزول به النجاسة فإنه يكون الشيء طاهراً.
فمثلاً: رجل وضع ثوبه في محل تشرق فيه الشمس فزالت النجاسة عنه ، ولم يبق لها أثر مطلقاً فإنه حينئذ يكون الشيء طاهراً وهكذا.
* قوله: (( وهو الباقي على خلقته )):
هذا هو الماء الطاهر ، وهو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها من مياه الأنهار ومياه البحار ومياه الآبار ومياه الأمطار ونحو ذلك .
فالباقي على خلقته هو الطهور ، ويدخل في ذلك البرد ، والثلج ونحو ذلك كل هذا داخل في ذلك الباب.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة باب الصلاة في النعل ( 650 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن زيد عن أبي نُعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه ، فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال : ( ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ ) قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن جبريل - صلى الله عليه وسلم - أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً ) أو قال : أذى ، وقال : ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ) .(33/27)
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد ) (1). لكن يجب أن يعلم أن الثلج والبرد لا يثبت به - مع كونه طهوراً لا يثبت به - الغسل حتى يجري على الأعضاء ؛ لأن حقيقة الغسل جريان الماء على أعضاء المغسل أو المتوضئ.
فغسل الأعضاء حقيقته جريان الماء عليها. فإذا كان البرد أو الثلج خفيفاً يجري الماء عند إدراته(2) على الأعضاء - يجري عليها - فإنه يثبت غسلاً ويصح الوضوء به أو الغسل.
وأما إذا كان لا يجري كأن يكون ثخيناً ثقيلاً فإنه حينئذ لا يجزئ ، فإذا ماع فتوضأ أو اغتسل فإنه حينئذ يجزئه ذلك.
ـ وهل يستثنى من الماء شيء ؟
(أ) ذهب بعض الفقهاء المتقدمون(3) كما يروى ذلك عن ابن عمرو ، من أن مياه البحار ليست بطهورة ، وخالف في ذلك جماهير الفقهاء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وقالوا بطهوريتها وأنها مياه طهورة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ما يقول بعد التكبير ( 744 ) بلفظ " اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد " . وفي كتاب الدعوات ، باب الاستعاذة من أرذل العمر ( 6375 ) بلفظ : ( اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد .. ". وأخرجه مسلم في كتاب في كتاب الذكر والدعاء ، باب التعوذ من شر الفتن ( بعد ( 2705 ) بلفظ " اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد " وفي كتاب المساجد ، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة ( 598 ) بلفظ : ( اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد ) .
(2) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : إدارته .
(3) لعل الصواب : المتقدمين .(33/28)
وهذا هو الحق وقد دل عليه الحديث الذي رواه الأربعة وغيرهم وصححه البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل له: يا رسول الله: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ، قال: (هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته) (1).
فالبحر هو الطهور ماؤه ، فمياه البحار يجوز للمسلم أن يتوضأ منها وأن يغتسل ولا حرج في شيء من ذلك.
(ب) واستثني بالنصوص الصحيحة عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ، آبار ثمود سوى بئر الناقة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الظهارة ،اب الوضوء بماء البحر ( 83 ) : " أن المغيرة بن أبي بُردة - وهو من بني عبد الدار - أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( هو الظهور ماؤه الحل ميتته ) ، وأخرجه الترمذي في الطهارة ( 69 ) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والنسائي في الطهارة ( 59 ) و ( 333 ) وفي الصيد ( 4355 ) وابن ماجه ( 386 ) . سنن أبي داود مع المعالم ( 1 / 64 ) .(33/29)
فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (نزل الناس مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة) (1).
فهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يتطهر بمياه آبار ثمود سوى بئر الناقة فإنه يجوز له أن يتطهر به.
(ج) الثانية: بئر برهوت:
فقد كره الفقهاء أن يتوضأ منها أو يغتسل وهي بئر بحضرموت.
وقد روى الطبراني في "الكبير" ، وقد رواه الضياء في "المختارة" من طريق الطبراني في "الكبير" أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ) إلى أن قال: ( وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت) (2) وهو حديث حسن.
وهي بئر معروفة في حضرموت. فهذا الحديث يدل على كراهية الغسل أو الوضوء فيها كما قال ذلك الفقهاء.
* مسألة: ( ماء زمزم ):
هل يكره أن يتوضأ وأن يغتسل وأن يزيل الخبث منه أم لا يكره ؟؟
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قول الله تعالى : { وإلى ثمود .. } ( 3379 ) : " أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره : أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود ، الحِجْر ، فاستقوا من بئرها واعتجنوا به ،فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُهَريقوا ما استقوا من بئرها وأن يعلقوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة " ، وراجع ( 3378 ) . وأخرجه مسلم ( 2981 ) في كتاب الزهد والرقائق ، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا(33/30)
ـ أما الوضوء منه ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك جائز ، واستدلوا بما رواه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على مسند أبيه ، من حديث علي بن أبي طالب: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ(1).
هذا الحديث يدل على جواز الوضوء من ماء زمزم وأنه لا حرج في ذلك ولا بأس .
ـ وعند الإمام أحمد خلاف المشهور في المذهب عنه كراهية ذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بكراهية الاغتسال دون الوضوء وأن الغسل مكروه دون الوضوء.
ـ أما القول بأن الوضوء مكروه فإنه لا دليل عليه والحديث النبوي الذي تقدم ذكره يرده.
وأما الغسل منه فليس في الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اغتسل.
وهل هناك ما يمنع من الاغتسال أم يقال إن الاغتسال مثل الوضوء ؟؟
روى الفاكهي في "أخبار مكة" وهو من علماء القرن الثالث ، بإسناد صحيح عن العباس بن عبد المطلب وابنه "والعباس هو ساقي الناس من ماء زمزم فكان على سقاية زمزم ـ رضي الله عنه" قالا : ( لا أحله لمغتسل وهو لمتوضئ وشارب حل وبِلّ ) (2) أي برؤ من الأمراض.
فهنا قال هذان الصحابيان من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهما. قالا: (لا أحله لمغتسل) فكل واحد منهما قال هذه المقالة.
ولم يصب النووي عندما قال فيه: أنه لم يصح ما ذكروه عن العباس ، بل قد صح ذلك بإسنادين أحدهما إسناد حسن والآخر إسناد صحيح ، وقد احتج بهذا الأثر الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى.
وهذا الأثر عن العباس وابنه يدل على النهي عن الاغتسال من ماء زمزم وأن ذلك منهي عنه.
وقد كرهه ـ كما تقدم شيخ الإسلام ابن تيمية وحكى ذلك عن طائفة من العلماء. ولم أر أحداً من أهل العلم صرّح بتحريمه.
ـ ثم إن هناك شيء من الفارق بين الغسل والوضوء فإن إزالة الجنابة أشد من إزالة الحدث الأصغر.(33/31)
فإن إزالة الحدث الأكبر أشد من إزالة الحدث الأصغر. لذا لا تزال إلا بتعميم الماء في البدن كله ، بخلاف الحدث الأصغر فإنه يزول بغسل بعض الأعضاء التي أمر الله عز وجل بغسلها.
فما ذهب إليه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قوي في النظر ، وهو كراهية الاغتسال من ماء زمزم.
وأما الوضوء فلا حرج فيه.
ـ وأعظم من الاغتسال أن يزيل به النجس فإن كراهيته أشد ؛ لأن هذا الماء ماء مبارك وقد قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم : ( هو طعام طعم ) ، وزاد الطيالسي بإسناد صحيح: (وشفاء سقم) (1).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) (2).
فهو ماء مبارك فلا ينبغي أن يزيل الخبث به ، فإزالة الخبث مكروهة وقد نص على ذلك فقهاء الحنابلة وغيرهم.
والحمد لله رب العالمين.
قال المصنف رحمه الله:
(( فإن تغيّر بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي أو سُخِّن بِنَجِس كره ، وإن تغيّر بمكثه أو بما يشق صون الماء عنه من نابت فيه وورق شجر أو بمجاورة ميتة أو سخن بالشمس أو بطاهر لم يكره ، وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة وغسلة ثانية وثالثة كره )) :
قوله: ( فإن تغير بغير ممازج كقطع كافور أو دهن أو بملح مائي ) :
( فإن تغير ): أي هذا الماء الطهور الذي تقدم أنه هو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها.
وهو الذي يرفع به الأحداث وتزال به الأنجاس كما تقدم تقريره في المذهب.
(بغير ممازج): بأن يحدث في هذا الماء تغير في لونه أو رائحته أو طعمه ، ويكون سبب هذا التغير وقوع شيء غير ممازج ، يعني : لا يمازجه ولا يخالطه بل يحدث التغير بغير ممازجة.
يعني : يقع في الماء هذا الشيء ولا يخالطه مخالطة الممازج ، وإنما خالطه مخالطة غير الممازج ، فهذا المخالط ما يزال باقياً على حالته ومع ذلك أحدث ذلك التأثير.(33/32)
مثال ذلك: (كقطع كافور): والكافور طيب معروف ، وإنما ذكر القطع ؛ لأنه إذا دُقَّ فإنه يمازج ويخالط ، لكنه وهو على هيئة القطع إذا وقع في الماء فإنها تبقى قطع غير متحللة تحللاً واضحا في الماء لكنها تقع فيه وتؤثر فيه من غير ممازجة.
(أو دهن): دهن من الأدهان سواء كان من الأدهان الحيوانية أو النباتية ، فإذا وقع هذا الدهن في الماء أو قطع الكافور أو عود الغماري ومثله الشمع أو القطران والزفت ، فكل هذه الأشياء إذا وقع شيء منها في الماء فإنه يؤثر فيه لكنه ليس عن ممازجة وإنما بمجرد المجاورة.
فهنا ما حكمه ؟؟
هل يكون ليس بطهور أو نقول: هو طهور لكنه يكره التطهر به ، أو يقال: إنه ليس بمسلوب الطهورية بل هو طهور وليس بمكروه شرعاً ؟؟
ـ ثلاثة أقوال في مذهب الحنابلة :
(1) القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا ، حيث قال بعد ذلك : " كره " .
إذن هو طهور تصح الطهارة به ، فيصح أن يتوضأ به أو يغتسل به وتزال به النجاسة لكنه مكروه.
قالوا : هو طهور ؛ لأن هذا التغير لم يكن عن ممازجة وإنما كان عن مجاورة.
ـ وهو مكروه قالوا : للخلاف فيه ، فقد وقع الخلاف فيه ، هل هو طهور أو طاهر (وقد تقدم الكلام أن تقسيم الماء إلى طهور وطاهر ونجس ليس بصحيح على هذه القسمة الثلاثية ، وإنما الراجح أنه ينقسم إلى قسمين طهور ونجس) ، هم يعتقدون أن الماء ينقسم إلى طهور وطاهر ونجس.
قالوا: فبعض العلماء قد نازعنا فقال: هو ليس بطهور ، بل هو طاهر فلأجل هذه المنازعة قلنا بكراهيته خروجاً من الخلاف ، هذا هو المشهور في المذهب.
(2) القول الثاني: قالوا : هو طاهر مسلوب الطهورية فهو طاهر بنفسه لكنه لا يطهر.
قالوا: لأن التأثر قد وقع فيه والتغيّر قد وقع فيه ، وما ذكرتموه من التفريق بين المجاورة والممازجة فارق ليس بمؤثر ، فما دام قد حدث التغيير والتأثير فهذا فارق ليس بمؤثر.(33/33)
وهذا القول أصح من القول السابق ؛ لأن ذلك ليس بمؤثر يعني : هذا التفريق ليس بمؤثر إذ الماء قد تغير سواء كان هذا التغير بممازجة أو بغير ممازجة .
(3) القول الثالث - وهو القول الراجح ، وهو قول الجمهور - ، قالوا : الماء طهور وليس بمكروه.
أما كونه طهور فنحن نستدل عليه بما سنستدل عليه على صحة القول بأن الماء ينقسم إلى طاهر ونجس .
فنقول: هذا يسمى ماء وكونه قد تغيّر أو تأثر فإن هذا لا يخرجه عن مسمى الماء ، وقد قال تعالى : { فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً }(1) هذه هو دليلنا.
ـ أما الجمهور فاستدلوا بالدليل الذي تقدم تضعيفه وهو التفريق بين المجاورة وبين الممازجة.
ونحن نقول بهذا القول لكن بغير هذا الدليل. ولكن بدليل آخر ، وهو أن هذا طهور وقع فيه شيء ، هذا الشيء طاهر ولم ينقله عن مسمى الماء ، بل مازال يسمى ماءً ، فلم ينتقل عن مسماه.
ـ فلو أن رجلاً غسل كأساً – قد وقع فيها شيء من الشاي أو القهوة – في إناء فإن هذا الإناء الذي فيه ماء سيتأثر ويتغير شيئاً قليلاً لكنه مع ذلك يبقى يسمى ماء .
بخلاف ما إذا وضع فيه ما يغيره فأصبح شاياً أو قهوة أو غير ذلك ، فإنه حينئذ لا يسمى ماءً.
وقد قال تعالى { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } ، وهذا ماء ، وسيأتي مزيد بحث عن هذا وذكر من قال به من أهل العلم.
ـ والذي يهمنا هنا: هو ترجيح هذا القول وأن الماء إذا وقع فيه شيء لا يمازجه فإنه يبقى طهوراً.
__________
(1) سورة المائدة ( 6 ) ، وسورة النساء ( 43 ) .(33/34)
ـ وهو كذلك ليس بمكروه ؛ لأن التعليل الذي عللوه ليس بقوي من أجل أن نحكم على هذا الماء بأنه ماء مكروه الاستعمال ؛ ذلك لأن التعليل بالخلاف ضعيف ، فكثير من المسائل العلمية وقع فيها الخلاف بين أهل العلم ، فهل نقول بكراهية هذه المسائل التي وجدنا الأدلة الشرعية أو القواعد العامة الشرعية – أيضا ، التي(1) - تدل على جوازها وإباحتها لوجود هذا الخلاف ، هذا ليس بصحيح.
نعم: إذا كان الخلاف معتبراً قوياً فإننا نجتنب ما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم إن أمكننا اجتناب ذلك من باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (2)
__________
(1) كذا في الأصل .
(2) أخرجه أحمد في المسند من حديث الحسن بن علي [ 1 / 200 ] برقم ( 1723 ) ، ( 1727 ) ، ومن حديث أبي سعيد الخدري [ 3 / 112 ] برقم ( 12123 ) ، [ 3 / 153 ] برقم ( 12578 ) ، وأخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة ( 2518 ) قال : " حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا شعبة عن بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال : قلت للحسن بن علي : ما حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة ) وفي الحديث قصة .
قال : وأبو الحوراء السعدي اسمه ربيعة بن شيبان .
قال : وهذا حديث حسن صحيح " .
وأخرجه النسائي في كتاب الأشربة ( 5711 ) قال رحمه الله : " أخبرنا محمد بن أبان قال حدثنا عبد الله بن إدريس قال أنبأنا شعبة عن بُريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي قال : قلت للحسن ما حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : حفظت منه .. "(33/35)
. رواه أحمد النسائي وغيرهما ، من غير أن نكره ذلك ، فإن الكراهية حكم شرعي ، فإن الأحكام الشرعية أحدها الكراهية ، فلا يحل لمسلم أن يحكم على شيء بكراهية ولا تحريم ولا تحليل ولا إيجاب ولا استحباب إلا بدليل شرعي.
إذن الصحيح : أن الماء ـ كما ذهب [ إليه ] الجمهور - الذي خالطه شيء قد أثّر به من غير ممازجة، فإن هذا الماء طهور ، وهذا الماء ليس بمكروه الاستعمال .
قوله: (( أو بملح مائي )):
هنا أعاد حرف الجر ؛ لأن الملح المائي ليس من المخالِط غير الممازج بل هو مخالط ممازج .
الملح المائي هو الملح المنعقد عن الماء ، وهو الملح الذي يوضع في الأطعمة وهو المستخرج من المياه.
ـ وقيده بالمائي : احترازاً من الملح المعدني ، وهو ما يستخرج من باطن الأرض فهذا يسمى ملحاً معدنياً ، والملح المعدني في المذهب إذا خالط الماء فإنه ينتقل الماء إلى الطاهرية ، فيكون مسلوب الطهورية ، وسيأتي الكلام عليه.
أما الملح المائي ، فإنه منعقد عن الماء وأصله من الماء وهو مستخرج من الماء وهو شبيه بماء البحر ، فإذا خالط الماء فغيّره وأوجد فيه ملوحة يغير عذوبه ، فإن الماء يبقى طهوراً ، لكنه قال : يكره ؛ لأن بعض أهل العلم من الحنابلة ذهب إلى أن الماء يكون طاهراً.
وهذا تعليل بالخلاف وهو ضعيف كما تقدم بل هو ماء طهور ولا كراهية في استعماله.
إذن: إذا وضع في الماء ملح فغيّره وأوجد فيه طعم الملوحة فإنه حينئذ يكون شبيها بماء البحر الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) (1).
ثم إن هذا المغيِّر أصله من الماء فليس بمؤثر.
إذن: الماء الذي خالطه الملح المائي أو البحري هو طهور لا كراهية في استعماله ، وهو قول في مذهب أحمد ـ رحمه الله.
قوله: (أو سخن بنجس):
إذا سخن الماء بنجس ، قال: (كره).
ـ رجل أتى بإناء فيه ماء فسخنه بنجاسة ، فقال هنا: يكره.
هكذا على الإطلاق.(33/36)
ـ والواجب أن يفصل ، فيقال: لا يخلو هذا من ثلاثة أحوال:
1ـ الحال الأول: أن تسري النجاسة إلى الماء ، فحينئذ: إما أن تغيّره وإما أن لا تغيّره. ، فإن غيّرته فهو حينئذ نجس. وإن لم تغيّره فلا يخلو ، إما أن يكون يسيراً أو كثيراً.
ـ فإن كان يسيراً فهو على المذهب نجس ، والصحيح أنه ليس بنجس ، كما سيأتي تقريره إن شاء الله.
ـ إذن على القول الراجح : إذا سرت النجاسة على الماء فإن غيرته فهو نجس ، وإن لم تغيره فليس بنجس سواء كان كثيراً أو قليلاً.
2ـ الحالة الثانية: أن يكون الإناء محكماً ، وتحقق أن النجاسة لم تصل إليه فحينئذ: لا معنى للقول بكراهيته ، وهما قولان في المذهب.
القول الأول: أنه مكروه ، والقول الثاني: أنه ليس بمكروه ، وأصحهما أنه ليس بمكروه إذ لا معنى لكراهيته.
ذلك فإننا قد تحققنا وتيقنا من عدم وصول النجاسة ؛ لأن هذا الإناء محكم قد أحكم تمام الإحكام فليس للنجاسة إليه نفوذ ، فحينئذ لا معنى لكراهيته.
3ـ الحالة الثالثة : ألا نتحقق أن النجاسة لم تصل ولا نتحقق وصولها ، فوصولها محتمل فهنا:
المشهور في المذهب أنه مكروه حينئذ: وعليه قول المؤلف هنا: (كره) .
وذهب الجمهور إلى أنه لا يكره ، وهذا هو الراجح.
ـ أما حجة المذهب في كراهية ذلك فقالوا: لأنه لا يؤمن أن تصل إليه هذه النجاسة فحينئذ قلنا بكراهيته.
ـ والراجح: أنه ليس بمكروه ؛ لأن هذا مجرد احتمال والأصل في الماء أنه طهور ووصول هذه النجاسة إليه مجرد احتمال فلا يكون ذلك مؤثراً.
إذن: الراجح أنه إذا سخن بنجس فاحتمل أن تصل النجاسة إلى الماء ؛ فإنه لا يقال بكراهيته كما أنه لا يقال بأنه طاهر أو بأنه نجس ، بل هو طهور وليس بمكروه الاستعمال.
إذن: إذا سُخّن الماء بنجاسة فلا يخلو من أحوال ثلاثة على الراجح.
1ـ الحال الأولى: أن تصل إليه شيء من النجاسة ، فإذا وصل إليه شيء من النجاسة نظرنا:
فإذا تغيّر الماء فهو نجس.
وإذا لم يتغيّر فهو طهور.(33/37)
2ـ الحال الثانية: أن نتحقق عدم وصول النجاسة إليه تحققا تاماً لإحكام الإناء ، فحينئذ: لا مجال للقول بكراهيته.
3ـ الحال الثالثة: أن يكون الأمر محتملاً فكذلك لا يقال بكراهيته على القول الراجح.
قوله: (( وإن تغيّر بمكثه 0000 لم يكره )):
إن تغيّر بمكثه: بمعنى: ماء نزل من السماء ثم أقام في أرض زمناً فحدث له شيء من التغير بسبب طول الإقامة فإن الأرض تؤثر في الماء بسبب طول الإقامة لكنه مازال يسمى ماءً ولم يغير هذا المكث مسماه ، بل ما زال يسمى ماءً .
فحينئذ: هو طهور وليس بمكروه أيضا ، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم.
إذن الماء إذا تغير بسبب طول مكثه فهو ماء طهور وليس بمكروه وهو ما يسمى بالماء الآجن أي المتغيّر بسبب طول المكث.
قوله: (أو بما يشق صون الماء عنه من نابت فيه وورق شجر):
كذلك قد يتغير الماء في بِرْكَةٍ أو موضع يجتمع فيه الماء فحدث فيه تغير وكان هذا التغير يشق الاحتراز من سببه ، كأن يتغير بسبب تساقط أوراق الأشجار التي تحفه أو بسبب هبوب الرياح فتأتي بشيء من الأوراق أو نحو ذلك فتقع فيه أو بسبب ما ينبت فيه أو الطحالب أو نحو ذلك ، فإن الماء قد تغير لكن هذا التغير ليس بأمر يسهل الاحتراز منه بل هو بأمر يشق علينا الاحتراز منه. فهو باتفاق العلماء طهور وليس بمكروه لمشقة الاحتراز منه.
قوله: (أو بمجاورة ميتة):
الميتة عندهم نجسة.
فإذا سقطت شاة ميتة حول بركة ماء وبسبب تحرك الرياح أحدثت في هذا الماء رائحة كريهة بسبب مجاورة هذه الميتة لهذه المياه فتغيرت المياه أي تغيرت رائحتها بسبب مجاورة الميتة.
قال هنا (هو طهور ليس بمكروه):
قال في المبدع: ( بغير خلاف تعلمه ) (1) ، وكذلك قال غيره ، فهي إذن مسألة اتفاقية بل هي مسألة تقرب أن تكون إجماعية ولم أر في هذه المسألة خلافاً وقد قال صاحب المبدع وغيره بما تقدم.(33/38)
وهذا مشكل ، وهو على قاعدتهم المتقدمة من أن المجاورة تفرق عن الممازجة ، فما يتغير بالمجاورة لا يؤثر وما يتغير بالممازجة فإنه يؤثر .
وهذا تفريق في الحقيقة ليس بمؤثر فإن الماء الذي جاورته أشياء نجسة فتغيرت رائحته فتُشم النجاسة منه ، هو ماء متغير بالنجاسة ، فإن لم يكن هناك إجماع في هذه المسألة فالأقوى أن يقال بنجاسته ؛ لأنه قد تغير بالنجاسة ونحن لا يهمنا إلا التغير سواء كان هذا التغير بمخالطة أو كان ذلك بمجاورة ؛ لأن الماء قد تغيّر وهو مادة التطهر ، وهو ماء متغير بالنجاسة.
فإذن: الجمهور بل لم يذكر فيه نزاع أن الماء الذي جاورته ميتة ونحوها فتغيرت بها رائحته ، فهو ماء طهور بل لا يكره التطهر به .
قوله: (أو سخن بالشمس):
إذا سخن الماء بالشمس قال: (لم يكره) ، وهذا كذلك مذهب الجمهور.
وأما ما رواه الدارقطني من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعائشة وقد سخنت الماء بالشمس فقال لها: ( ياحميراء ـ وهو تصغير حمراء ـ لا تفعلي فإنه يورث البرص ) (1) ، فهذا حديث ضعيف جداً لا يصح نسبته إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ورُوي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ كما عند الدارقطني(2) ، وفي إسناده جهالة.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأن الماء إذا سخن بالشمس فإنه لا حرج فيه ـ إلا أن يثبت طبياً أن فيه ضرراً.
فإذا ثبت طبياً أنه فيه ضرر فإنه ينهى عنه كما قال الإمام الشافعي: ( لا أكره الماء المشمس إلا أن يكره من جهة الطب ) (3).
__________
(2) وأخرجه الشافعي في الأم [ 1 / 3 ]
(3) الأم للشافعي [ 1 / 3 ] بلفظ : " ولا أكره الماء المشمس إلا من جهة الطب " .(33/39)
فإذا ثبت طبياً أن له أثراً على البدن فإنه ينهى عنه لحديث : (لا ضرر ولا ضرار) (1)
__________
(1) قال النووي في الأربعين : " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً ، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد ، وله طرق يقوي بعضها بعضاً " .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام ( 2341 ) قال رحمه الله : " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
( 2340 ) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار " .
وأخرجه الدارقطني في سننه ( 4 / 227 ) قال : " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره ، والطريق الميتاء سبع أذرع ، ولا ضرر ولا إضرار ) .
نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا إضرار ) .
نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال : أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا ضرورة ، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ) " .(33/40)
ولم يثبت عندي أن ذلك فيه أثر طبي ، فيبقى ذلك على الخيار.
فإذا نقل من طريق الثقات عن الأطباء ، أو أثبته الأطباء في كتبهم فإنه ينهى عنه لضرره.
قوله: ( أو بطاهر لم يكره ):
كذلك إذا سخن بطاهر قال (لم يكره).
ـ قد يستغرب البعض فيقول: هذا طاهر وسخن ، فكيف يذكر ، فإن مثل هذا أمر معلوم لا يحتاج إلى ذكر؟؟
والجواب على ذلك:
ـ أن مراده كون الماء ساخناً حاراً ، أي هل يكره للمسلم أن يستخدم الماء الحار الساخن أم لا يكره له ذلك ؟؟
فليست المسألة في كونه سخن بطاهر وإنما المسألة بكونه ماءً ساخناً ، فهل يكره ذلك أم لا ؟؟
قال: (هو طهور ولا يكره):
ولا شك في طهوريته لكن قد يقع في القلب شيء من اعتقاد كراهيته ؛ ذلك لإخراجه عن أصل الماء وطبيعته وهو ليس بمكروه بل قد ثبت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ، الاغتسال به.
ـ من ذلك: ما رواه الدارقطني أن عمر ـ رضي الله عنه ـ ( كان يسخن له ماءً في قمقم "الجرة" فيغتسل منه) (1).
وثبت عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن ابن عمر كان يغتسل بالحميم) (2).
ـ وإنما ينهى عنه وضوءاً أو غسلاً إذا كان مانعاً لإكمال الطهارة ، ومثله البارد برداً شديداً ، فإنه إذا كان مؤثراً في إتمام الطهارة فإنه ينهى عنه.
إذا كان بسبب شدة حرارته أو شدة برودته يؤثر في كمال الطهارة فإنه ينهى عنه لذلك أما إذا كان ساخناً سخونة أو بارداً برودة لا تؤثر في تمام الطهارة ، فإنه حينئذ لا يقال بكراهيته مطلقاً.
قوله: (وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء ، وغسل جمعة ، وغسلة ثانية وثالثة كره):
ما هو الماء المستعمل ؟
الجواب : الماء المستعمل هو الماء المتساقط من الأعضاء بمعنى : عندما يجري الماء على الأعضاء ويتساقط منها قد يجتمع فهذا المجتمع هو الماء المستعمل الذي يبحث فيه الفقهاء.
ـ هذا الماء المستعمل وهو المتساقط من أعضاء المتوضئ أو المغتسل له ثلاثة أحوال:(33/41)
1ـ الحال الأولى: أن يكون متساقطاً عن حدث سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر وسيأتي الكلام عليه.
والحنابلة يرون أن الماء يكون طاهراً ، فلا يصح التطهر به.
2ـ الحال الثانية: وهي المذكورة هنا: وهي ألا يكون عن حدث لكنه عن طهارة مستحبة كتجديد وضوء أو غسل جمعة أو غسل عيد أو غسل يوم عرفة أو غسلة ثانية وثالثة ، فإن المتساقط عن غسلة ثانية وثالثة ليس عن حدث ، ومثل ذلك ما يكون عن غسل جمعة أو وضوء مستحب ، فإن ذلك كله ليس عن حدث .
فما حكم هذا الماء ؟
الجواب:
هنا قال: (كره) ، إذن هو مكروه عندهم.
قالوا: للخلاف فيه ، فقد اختلف فيه هل هو طهور أم لا ، فلما كان الأمر كذلك قلنا بكراهيته خروجاً من الخلاف.
وقد تقدم أن هذا تعليل ضعيف.
ـ فإن قيل: هل فيه خلاف؟؟
فالجواب: أنه قد ذهب بعض الحنابلة إلى أن الماء المتساقط من الوضوء المستحب أو الغسل المستحب هو كالمتساقط من الغسل الواجب أو الوضوء الواجب لا فرق قالوا: كلاهما طهارة .
والصواب: أن بينهما فرقاً ، فإن ذاك غسل أو وضوء عن حدث.
وهذا وضوء أو غسل عن غير حدث ففرق بين الأمرين ، وسيأتي أن الصحيح أن كليهما طهور لا شيء فيه.
إذن: الحنابلة في المشهور عنهم كرهوه لوجود الخلاف فيه ، فإذا توضأ الرجل وضوءاً مستحباً فصار الماء يقع على الإناء فيكره أن نستعمله في طهارة.
فإذا تساقط عن حدث فإنه لا يحل له.
3ـ وهناك صورة ثالثة: اتفق العلماء على أن الماء المتساقط فيها أنه ليس بمكروه بل هو طهور لا كراهية فيه وهو: ما إذا تساقط فيه عن غير حدث وعن غير طهارة مستحبة بل عن تبريد ونحوه.
مثلاً: رجل اغتسل للتبريد ونحوه فتساقط الماء فهو ليس عن حدث ولا عن طهارة مستحبة بل للتبريد ، فإن الماء يكون طهوراً لا كراهية فيه باتفاق العلماء.
إذن أصبح عندنا ثلاث صور ، الراجح فيها كلها أن الماء طهور لا كراهية فيه.
أما على المذهب:
فالأولى(1): الماء يكون طاهراً وليس بطهور.
__________
(1) ما كان عن حدث .(33/42)
والثانية(1): الماء يكون فيها طهوراً مكروهاً.
والثالثة(2): الماء فيها طهور وليس بمكروه. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين .
قوله: (( وإن بلغ قلتين وهو الكثير ، وهما خمسمئة رطل عراقي تقريباً ، فخالطته نجاسة غير بول آدمي أو عذرته المائعة فلم تغيره ، أو خالطه البول أو العذرة ، ويشق نزحه كمصانع طريق مكة فطهور )):
قلتين: تثنية قلة ، وهي مقدار معروف مشهور عند العرب ، ويسمى بالقلة الهجرية نسبة إلى هجر التي شبّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبق سدرة المنتهى بقلالها وهذه القلة ذكر المؤلف أنها تسع (500 رطل) عراقي وهذه ليست من المقاييس المشهورة عندنا .
وهي تساوي في المقاييس المشهورة ثلاثة وتسعون صاعاً نبوياً وثلاثة أرباع الصاع النبوي ،( ¾ 93 صاع نبوي).
وهو ما يساوي في المقاييس الحاضرة مئتان وسبعون لتراً (270 لتراً).
وهما ـ أي القلتان ـ تساويان خمس قرب .
ـ هذه المسألة ذات شطرين.
1ـ الشطر الأول: أن هناك تقسيم للماء من حيث الكثرة والقلة ، وأن الماء ينقسم إلى قليل وكثير ، وأن ضابط الكثير هو ما بلغ القلتين ، فما بلغ قلتين فأكثر فهو الكثير ، وما نقص عن ذلك فهو القليل هذا هو أصل المسألة.
2ـ الشطر الثاني: أن الماء الكثير البالغ قلتين إذا وقعت فيه نجاسة ولم يكن بول آدمي أو عذرته فإن الماء إذا لم يتغير فهو طهور.
أما إن خالطه البول أو العذرة من الآدمي فهو نجس وإن كان كثيراً لم يتغير.
3ـ وهناك شطر ثالث وهو تبع للشطر الثاني:
وهو: أنه إذا كان هذا الكثير الذي وقع فيه البول أو العذرة من الآدمي ولم يتغير إذا كان ما وقع فيه يشق نزحه عنه فإنه طهور.
ـ إذن أصبح ينقسم الماء إلى قليل وكثير:
أما القليل: فإنه ينجس عندهم بمجرد الملاقاة سواء تغير أو لم يتغير.
__________
(1) ما كان عن طهارة مستحبة .
(2) ما كان عن تبريد .(33/43)
فإذا وقعت نجاسة ، أياً كانت هذه النجاسة سواء في قربة أو قربتين أو ثلاث دون القلتين فإن الماء ينجس وإن لم تغير رائحته أو طعمه أو لونه.
ـ فإن كان الماء كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير سوى بول الآدمي وعذرته فإنهما ينجسان الماء كما لو كان قليلاً بمجرد الملاقاة ، لكن يستثنى من ذلك إن شق نزحه بأن شق إخراج الماء من هذه البئر أو البركة لكثرته فإنه إن شق نزحه أي استخراجه حتى يتغير ويوضع مكانه ماء آخر فإنه حينئذ يكون طهوراً لمشقة ذلك والمشقة تجلب التيسير.
هذا هو تقرير المذهب.
ـ وذهب بعض فقهاء الحنابلة وهو المشهور عند المتأخرين منهم ، فهذا القول قد اختاره أكثر المتأخرين : إلى أنه لا فرق بين النجاسات ، فلا فرق بين بول الآدمي وعذرته ، وبين سائر النجاسات.
إذن: المشهور في المذهب وهو مذهب المتقدمين أن بول الآدمي وعذرته إذا وقعت في ماء كثير فإنه يتنجس. إلا إذا كان ذا كمية كثيرة شق نزحها ، فإنه لا ينجس لا لشيء إلا لمشقة ذلك والمشقة تجلب التيسير.
ودليلهم على التفريق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرها من النجاسات ، دليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) (1). وفي رواية: ( منه ).
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب البول في الماء الدائم ( 239 ) بلفظ ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ) . وأخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب النهي عن البول في الماء الراكد ( 282 ) بلفظ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه ) ، وفي لفظ له : ( لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه ) .(33/44)
قالوا: فهنا أطلق في الماء الذي لا يجري ، فيدخل في ذلك الماء الكثير والماء القليل ، فدل ذلك على أن البول إذا وقع على الماء الدائم الذي لا يجري سواء كان كثيراً أو قليلاً فإنه ينجس ، ولا فرق بين أن يتغير أو لا يتغير بل قد أطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ذلك.
ـ أما الذين ذهبوا إلى أنه لا فرق بين وقوع البول والعذرة وبين وقوع سائر النجاسات ، فقالوا: إن هذا الحديث لا يدل على ما قلتموه ، فإن الحديث ليس فيه أن الماء ينجس بذلك بل قد نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن هذا لأمرين اثنين:
1ـ الأمر الأول: أن ذلك ذريعة لتنجيسه ، فإن الماء الدائم الذي لا يجري ، إذا وقعت فيه النجاسة اليسيرة التي لا تغيره ثم أهمل ذلك ولم ينه عنه فتكرر ذلك فإن ذلك سوف يؤول إلى تنجيس هذا الماء وهو ماء دائم لا يجري ليس كالأنهار أو كالبحار التي تجري وهي كثيرة بحيث أن مثل ذلك لا يؤثر فيه.(33/45)
2ـ أما الأمر الآخر: قُبْح الجمع بين الأمرين ، بين أن يبول فيه وبين أن يغتسل منه أو فيه، وذلك كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المتفق عليه: ( لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم بجامعها ) (1) ، فالجمع بين الأمرين قبيح وليس فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم على هذا الماء بالتنجس ، فحينئذ لا فرق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرهما من النجاسات.
ـ ثم إن قولهم يلزم منه أن يكون بول الكلب والخنزير أو نحو ذلك أنه ليس له هذا الحكم ، وبول الآدمي له هذا الحكم وهذا لا شك باطل.
فإذن الراجح أنه لا فرق بين الأمرين وهذا هو المشهور عند المتأخرين.
إذن الماء إذا وقعت فيه النجاسة فلم تغيره وهو كثير فالأصح من قولي المذهب أنه لا فرق بين بول الآدمي وعذرته وبين غيرهما من النجاسات.
ـ تقدم التفريق بين القليل والكثير وأن ضابطه أن الكثير ما بلغ قلتين فأكثر ، والقليل ما دون ذلك ، والدليل على هذا:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، باب ما يكره من ضرب النساء ( 5204 ) بلفظ ( لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ) . وأخرجه مسلم في كتاب الجنة ، باب النار يدخلها الجبارون ( 2855 ) بلفظ : " عن عبد الله بن زمعة قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذكر الناقة وذكر الذي عقرها ، فقال : ( إذ انبعث أشقاها ، انبعث بها رجلٌ عزيز عارم منيع في رهطه ، مثل أبي زمعة ، ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال : ( إلام يجلد أحدكم امرأته - وفي رواية أبي بكر : جلد الأمة ، وفي رواية أبي كريب : جلد العبد - ولعله يضاجعها من آخر يومه ) ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة ، فقال : ( إلام يضحك أحدكم مما يفعل ) .(33/46)
ما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) (1). وهذا الحديث صحيح ، صححه جماهير العلماء منهم يحيى بن معين والدارقطني والنووي وابن حجر وابن منده وغيرهم من أهل العلم.
ـ وذهب بعض الحفاظ إلى تضعيفه كابن عبد البر وأعله المزي وابن تيمية بالوقف ، وأعله ابن القيم بعدم شهرته عند أهل العلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب ما ينجس الماء ( 63 ) قال : حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي وغيرهم قالوا : حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله – كذا في النسخة التي بين يدي ، ولعل الصواب : عبيد الله - بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) قال أبو داود : وهذا لفظ بن العلاء ، وقال عثمان والحسن بن علي : عن محمد بن عباد بن جعفر ، قال أبو داود : وهو الصواب . وقال ( 64 ) : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد ح وحدثنا أبو كامل حدثنا يزيد يعني ابن زريع ، عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر قال أبو كامل : ابن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه : أن رسو ل الله سئل عن الماء يكون في الفلاة ، فذكر معناه . وقال في ( 65 ) : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : حدثني أبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا كان الماء قلتين فإنه لا ينجس ) .وأخرجه الترمذي في الطهارة برقم ( 329 ) ، ( 67 ) ، والنسائي برقم ( 52 ) وابن ماجه في الطهارة برقم ( 517 ) ، ( 518 ) . سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 51 ] .(33/47)
ـ إذن هم استدلوا بهذا الحديث ورأوا صحته ، وقد صححه ـ كما تقدم ـ جماهير أهل العلم ، وهو الراجح فإنه صحيح ، والطعن فيه ضعيف.
فهذا الحديث يدل على أن الماء إذا بلغ قلتين فإنه لا يحمل الخبث ، قالوا: ومفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل النجاسات والأخباث فيكون حينئذ نجساً خبيثاً.
هذا هو مذهب الحنابلة والشافعية .
ـ القول الثاني: هو مذهب مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين: وهو مذهب بعض الحنابلة كابن عقيل(1) ، قالوا:(33/48)
لا فرق بين قليل الماء وكثيره ، بمعنى : أن الماء لا ينجس إلا بالتغيير قليلاً كان أو كثيراً ، فإذا وقعت النجاسة في الماء فإننا ننظر فإن حملها وتنجس بها وظهرت رائحة النجاسة فيه أو طعمها أو لونها ، فإن الماء يكون نجساً وإلا فهو طاهر لا فرق بين قليل أو كثير بلغ القلتين أو لم يبلغهما واستدلوا بالحديث الذي رواه الثلاثة (أبو داود والترمذي والنسائي) ، وصححه الإمام أحمد وهو كما قال ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن بئر بضاعة ، وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) (1).
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في بئر بضاعة ( 66 ) قال : " حدثنا محمد بن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سليمان الأنباري قالوا : حدثنا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله : أنتوضأ من بئر بُضاعة ، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) قال أبو داود : وقال بعضهم : عبد الرحمن بن رافع . ( 67 ) : حدثنا أحمد بن أبي شعيب وعبد العزيز بن يحيى الحرانيان قالا : حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سليط بن أيوب عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقال له : إنه يُستقى لك من بئر بُضاعة ، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعِذَرُ الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) " . وأخرجه النسائي برقم 327 ، 328 . والترمذي 66 ، قال الإمام أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح " سنن الترمذي مع المعالم [ 1 / 54 ] .(33/49)
فهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أثبت للماء الطهورية وأنه لا ينجسه شيء أي(1) إلا ما غيره وبدله ، فعلَّق النبي عليه الصلاة والسلام الحكم بالطهورية وجعل الماء متصفاً بهذه الصفة ملازماً لها لا ينجسه شيء ولم يربط ذلك بتحديد بقلتين ولا بغيرهما.
قالوا: والحديث الذي استدللتم به حديث ضعيف ، فقد رواه مجاهد عن ابن عمر موقوفاً من قوله(2) ، وهذا الحديث لم يشتهر عن غير ابن عمر وهو أمر عظيم فيه تحديد في المياه ، فينبغي أن يشتهر كالتحديد في الزكاة ونحوها.
ـ ولكن الراجح أن هذا الحديث صحيح ، وأما تعليلهم بالوقف له فهو ضعيف ؛ لأنه قد رواه عنه ليث بن أبي سليم ، وليث ضعيف.
ثم إنه هنا لا يعلل رفعه بوقفه ، فلو صح موقوفاً لصحّ أن يكون أيضا مرفوعاً إذ الإسنادان كلاهما صحيح لا مرجح لأحدهما على الآخر.
ومادام أنه لا مرجح لأحدهما على الآخر فإننا نقبله مرفوعاً وموقوفاً.
ـ أما التعليل بعدم الشهرة ، فنقول : هذا حديث ثابت صحيح رواه كثير من الأئمة في كتبهم وصححه جماعات كثيرة من أهل العلم ، فلا يشترط فيه الشهرة المقصودة المطلوبة ، ثم إنه سيأتي تأويل له يدل على أنه ليس كتحديد الزكوات ولا غيرها ، وهو الوجه الثاني لإثبات هذا القول.
ـ وهو أن يقال: إن هذا الحديث ليس فيه أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه ينجس.
وإنما فيه إثبات أن الماء إذا بلغ القلتين فإنه لا يحمل الخبث لكثرته وقوته.
وأنه إذا كان دون القلتين فإنه قد يحمل الخبث لضعفه.
إذن هذا الحديث فيه إخبار من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الماء الكثير لكثرته لا يحمل الخبث ، فليس فيه أن الماء القليل يحمل الخبث بل فيه إلفات النظر والانتباه إلى هذا الماء ، فإنه لقلته قد يحمل الخبث فعليك أن تنظر فيه وأن تتحرز من تغيير النجاسة له.
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : أي شيء .
(2) لم أر الموقوف في السنن الأربعة ولا في المسند .(33/50)
إذن هذا الحديث ليس فيه أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث ، ثم إنه لو كان فيه ذلك فإنه مفهومه ، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم ؛ لأن قوله (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) ، منطوقه أنه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير ، فهذه دلالة منطوق.
وأما الحديث فإنه دلالة مفهومه على القول تدل على أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس بذلك فهذه دلالة مفهوم ، ودلالة المنطوق مقدمة عليها.
ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث قد علّق الأمر وأناطه بالحمل فقال: (لم يحمل الخبث) ، فدل على أن مناط الحكم هو حمل الخبث ، وهذا يدل على القاعدة الشرعية التي تقول: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) ، فهنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لم يحمل الخبث) ، فدل على أن مناط الحكم هو حمل الخبث .
فعلى ذلك إذا استُهلك الخبث في القليل فإنه حينئذ لا ينجس وإذا حمله القليل فإنه ينجس.
إذن القول الراجح عدم التفريق بين قليل الماء وكثيره.
فالماء إذا كان قليلاً أو كان كثيراً فوقعت فيه نجاسة فإننا ـ حينئذ ـ ننظر هل غيرته أم لا ؟؟ فإن غيرته فهو نجس ، وإن لم تغيره فهو طهور ، هذا هو الراجح.
وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، فلا فرق بين قليل الماء وكثيره.(33/51)
وقد روى ابن ماجه من حديث رشدين بن سعد وهو ضعيف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه) (1) ، والحديث ضعفه أبو حاتم لكن الإجماع عليه.
فالإجماع على أن الماء إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه بالنجاسة فهو ماء نجس.
أما إذا لم يتغير فسيأتي الخلاف الذي تقدم والراجح أنه إذا لم يتغير فإنه لا ينجس سواء كان قليلاً أو كثيراً.
* قوله: (( ومصانع مكة )):
جمع مصنع والمراد بها أحواض المياه التي كانت موضوعة في طريق مكة من العراق ، كانت هناك مصانع أي مجابي للمياه ، وأحواض للمياه يردها الحجاج وهي مياه كثيرة يشق نزحها.
* قوله: ((ولا يرفع حدث رجل طهورٌ يسيرٌ خلتْ به امرأةٌ لطهارةٍ كاملة عن حدث)):
هذه مسألة ذات قيود كثيرة:
( ولا يرفع حدث رجل): إذن يرفع نجسه وخبثه ويطهره الطهارة المستحبة لغسل جمعة وتجديد وضوء لكنه لا يرفع حدثه الأكبر أو الأصغر.
(رجل): قالوا ويلحق به الخنثى ، فحكمه حكم الرجل هنا. ويخرج من ذلك المرأة والصبي ، فإنه يرفع حدثهما.
(طهور يسير): فلا بد أن يكون يسيراً ، فإن كان كثيراً فإنه لا يدخل في هذه المسألة.
(خلت به امرأة): خلت به امرأة عن المشاهد فلا يشاهدها أحد من الناس.
ـ وهل يشترط في المشاهد أن يكون مكلفاً مسلماً أو لا يشترط ذلك فلو كان صبياً أو امرأة أو كافراً صح ؟؟
قولان في المذهب.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه باب الحياض من كتاب الطهارة وسننها ( 521 ) قال : حدثنا محمود بن خالد والعباس بن الوليد الدمشقيان قالا حدثنا مروان بن محمد حدثنا رشدين أنبأنا معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " .(33/52)
( لطهارة كاملة ): كذلك أن يكون هذا لطهارة كاملة فلو كان لبعض طهارة كأن تكون غسلت وجهها ويديها وبقي غسل الرجلين فإنه حينئذ لا يدخل في هذه المسألة.
(عن حدث): فلو خلت به عن غسل نجاسة أو لغسل جمعة أو غيره من الأغسال المستحبة فإنه لا يدخل في ذلك.
ـ فهذه مسألة ذات قيود كثيرة.
وإيضاحها: أن الماء الذي تخلو به المرأة المكلفة سواء كانت مسلمة أو ذمية تخلو به هذه المرأة - وهكذا قالوا: ذمية ، وهو مشكل لكن هذا على أن يكون هناك قول بإيجاب طهارة الجنابة عليهم - .
إذن: إذا خلت امرأة مكلفة بماء يسير ، وهو ما دون القلتين لتزيل حدثاً أكبر وأصغر وقد خلت به عن المشاهدة فلا يشهدها مكلف مسلم على قول.
وعلى قول آخر امرأة أو صبي أو كافر.
فخلت بهذا الماء عن طهارة كاملة فإنه لا يحل للرجل أن يتطهر به.
ـ هل يحل لها هي أن تتطهر به ؟
الجواب: نعم .
وهل يحل لامرأة أخرى أن تطهر به ؟
الجواب : نعم .
وإنما هو محرم على الرجل بالخصوص .
ودليلهم: ماثبت في سنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح عن رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة وليغترفا جميعاً) (1).
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب النهي عن ذلك قال : حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير عن داود بن عبد الله ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن داود بن عبد الله عن حميد المحيري قال : لقيت رجلاً صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع سنين كما صحبه أبو هريرة قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة ، زاد مسدد : وليغترفا جميعاً " . وأخرجه النسائي برقم 239 . سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 63 ] .(33/53)
وعند الخمسة بإسناد صحيح من حديث الحكم بن عمرو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة) (1).
ونعود إلى القيود مرة أخرى:
هذا الحديث فيه النهي أن يغتسل الرجل ، أو أن يتطهر من فضل المرأة.
إذن ليست المرأة منتهية عن هذا الحكم فالحكم مختص بالرجل ، فلا يحل لرجل أن يتوضأ أو يغتسل بفضل طهور المرأة.
إذن هو مختص بالرجل لدلالة هذا الحديث أولاً ، والثاني: قوله في الحديث: (بفضل المرأة): يطلق على المرأة المكلفة.
الأمر الآخر: أنه قال بعد ذلك (وليغترفا جميعاً) فدل على أن المرأة قد خلت به.
لكن هذا الإستدلال ضعيف.
لذا الراجح من قولي المذهب ـ فهو قول في المذهب ـ أن خلوّ المرأة فيه ، معناه أن تخلو عن الرجل فتتوضأ به أو بمفردها أو تغتسل بمفردها وإن كانت مشاهده من الرجل أو غيره، ولكن الخلوة المراد بها أن تكون مشتركة مع الرجل؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال هنا (وليغترفا جميعاً).
أما قولهم: أنه من طهارة كاملة ، فلفظة (طهور) فالأصل أن تكون طهارة كاملة، والأصل كذلك أن تكون عن حدث.
إذن قول المذهب: أن الرجل لا يحل له أن يغتسل بفضل المرأة الذي قد خلت به لطهارة كاملة عن حدث ، هذا هو قول المذهب.
ـ وذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك جائز لا حرج فيه واستدلوا بحديثين صحيحين.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب النهي عن ذلك قال : حدثنا ابن بشار حدثنا أبو داود يعني الطيالسي حدثنا شعبة عن عاصم بن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو وهو الأقرع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة " . وأخرجه ابن ماجه بلفظ قريب منه ( 374 ) .(33/54)
1ـ ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يغتسل بفضل ميمونة(1).
2ـ وما ثبت عند الأربعة بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: (اغتسلت بعض أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حفنة فجاء يغتسل منها ، فقالت: إني كنت جنباً فقال: إن الماء لا يَجْنُب) (2).
فهذان الحديثان يدلان على أن الرجل يغتسل بفضل المرأة.
ثم إن الحديث الذي استدللتم به يدل كذلك على النهي عن اغتسال المرأة من فضل الرجل فلم لم تقولوا به.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة .. ( 323 ) بلفظ : " أن ابن عباس أخبره : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب الماء لا يجنب ( 68 ) قال : حدثنا مسدد ، حدثنا أبو الأحوص حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت له : يا رسول الله : إني كنت جنباً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الماء لا يجنب ) وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 326 ، بلفظ : ( لا ينجسه شيء ) ، والترمذي برقم 65 ، وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجه في الطهارة برقم 370 ، 371 .(33/55)
قالوا: لوجود الإجماع عليه ، فقد أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا خلا بالماء فإن المرأة تغتسل به ولا حرج وهذا هو شطر الحديث ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة فقد نهى المرأة أن تغتسل بفضل الرجل ، وقال: (وليغترفا جميعاً) ، وهذا الإجماع المذكور يقوي ما ذهب إليه الجمهور من أن النهي في هذا الحديث لا يدل على التحريم ، وإنما يدل على الأولوية أو الإرشاد فهو نهي إرشاد أي: الأولَى للرجل أن يغتسل بماء جديد غير فضل المرأة ، والأولى للمرأة أن تغتسل بماء جديد غير فضل الرجل وإن احتاجا إلى شيء من ذلك فليغترفا جميعاً.
إذن: هذا الحديث لا يدل على التحريم بدلالة فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبدلالة شطره الآخر فإن فيه نهياً للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل.
ـ وقول الحنابلة فيه شيء من النظر القوي ؛ ذلك ، لأن نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل أن يغتسل بفضل المرأة ورد في السُّنة ما يعارضه وهو ما تقدم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه.
وأما نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اغتسال المرأة بفضل الرجل فلم يرد في السنة ما يدل على جوازه فهو أعظم إحكاماً من ذلك ، ولولا الإجماع الوارد فيه لكان القول به قوياً ، ولكن تقدم ذكر الإجماع ومع ذلك فقد قالوا بما وردت السنة بخلافه ولم يقولوا بما لم ترد السنة بخلافه.
فإذن: الصحيح الراجح وهو مذهب الجمهور واختيار غير واحد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره : أن الماء إذا خلت به المرأة لطهارة كاملة أو غير ذلك فإن الرجل يجوز له أن يتطهر به ولا حرج مع أن الأولى له أن يتطهر بماء غير فضلها.
وكذلك المرأة فالمستحب لها والمشروع أن تتوضأ وتغتسل بغير فضل الرجل ولكن إن اغتسلت به فلا حرج ولا بأس والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس
( السبت : 14 / 11 / 1414 هـ )
* قال المصنف رحمه الله:(33/56)
(( فإن تغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بطبخ أو ساقط فيه 0000 فطاهر )):
(وإن تغيّر): الضمير يعود إلى الماء الطهور.
(بطبخ): كأن توضع فيه ورق شاي أو حب قهوة أو نحو ذلك.
(أو ساقط فيه): كأن تسقط فيه ثمرة أو يسقط فيه ورق أو نحو ذلك أو يسقط فيه زعفران وغيره مما قد يسقط في الماء.
فهو إذن ماء طهور في الأصل لكنه قد تغير وتكدر بشيء ليس بنجس بل هو طاهر سقط فيه فغيّر طعمه أو لونه أو ريحه ، فما حكمه ؟
قال المصنف: ( 00 فطاهر): أي طاهر غير مطهر ، فهو طاهر في نفسه ليس بنجس لكنه ليس بمطهر ، وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم.
وأن الماء إذا وقع فيه شيء من الطاهرات فغيّر رائحته أو طعمه أو لونه فإن الماء طاهر وليس بطهور ، فهو طاهر في نفسه وليس بمطهر لغيره ، فعلى ذلك على المذهب لا يزيل النجس ولا يرفع الحدث.
قالوا: لأن الماء ليس بماء مطلق بل هو ماء أضيف إليه شيء فهو ليس ماء مطلقاً بل ماء مضاف إليه مادة أخرى ، هذا هو قول المذهب وهو مذهب الجمهور ـ كما تقدم.
ـ والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عن الإمام أحمد بل قال شيخ الإسلام: " إن أكثر نصوص أحمد على هذا " أي على القول : بأنه طهور .
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من المحققين.
قالوا: الماء طهور ، فكما أنه طاهر في نفسه فهو مطهر لغيره ما دام باقياً على مسماه.
ويتضح قولنا: (ما دام باقياً على مسماه) بضرب مثالين :
1ـ المثال الأول : وهو ما كان فيه الماء باقياً على مسماه ، كأن يوضع في إناء شيء من أوراق الشاي أو شيء من الطعام فيتغير لونه فيأخذ من لون هذا الشيء الواقع فيه .
2ـ المثال الثاني : وهو ما تغير فيه مسمى الماء ، كأن يوضع في إناء أوراق شاي ثم يطبخ على النار ، فإنه يسمى شاياً فهو لم يبق على مسماه بل تغيّر.(33/57)
أما هذه الحال الثانية: فالراجح أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به ، ومثله لا ينبغي الخلاف فيه لأنه ليس بماء ، والشارع إنما خصص الماء بالطهارة عند وجوده ، فإذا ثبت ذلك وهو أنه ليس بماء فلا يحل لأحد أن يتطهر به.
ـ أما الحال الأولى: فهو المختلف فيها وهي ما إذا كان الماء قد تغير بهذا الشيء الطاهر لكنه لم يتغير مسماه بل بقي ماءً على مسماه.
فحينئذ: ذهب من تقدم إلى أنه طهور ، وهذا هو الراجح ، والأدلة على ذلك ما يلي :
1ـ قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءاً فَتَيَمَّمُوا }(1) ولفظه (ماء) نكره في سياق النفي ، والقاعدة الأصولية أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، فهذا يعم كل ماء.
فكل ماء يتطهر به قبل اللجوء إلى التراب "أي إلى التيمم" ، فإذا وقع فيه شيئ من الورق أو شيئ من الثمر أو غير ذلك فتغيرت رائحته أو طعمه أو لونه مع بقائه على مسماه فهو ماء فيدخل في عموم الآية (فلم تجدوا ماء).
2ـ الدليل الثاني: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للنساء المغسلات لابنته: (إغسليها بماء وسدر) (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: في المتفق عليه ، فيمن وقصته راحلته فمات (اغسلوه بماء وسدر) (3).
ومعلوم أن السدر يؤثر في الماء ويغير منه ، ومع ذلك فإنه يتطهر به هنا.
فالشريعة قد دلت على التطهر به كما في هذا الحديث.
3ـ الدليل الثالث: ما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة بإسناد صحيح أن أم هانيء ، قالت: ( إغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر عجين ) (4).
والشاهد قوله: (في قصعة فيها أثر عجين): ومعلوم أن العجين يغيِّر الماء ويؤثر فيه ومع ذلك اغتسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ به وميمونة.(33/58)
4ـ الدليل الرابع: الأصل ، فالأصل في الماء أنه طهور ، وقد أنزل الله من السماء ماءاً طهوراً لنتطهر به ، فالأصل في الماء الطهورية ما لم يدل دليل على نقله إلى الطاهرية أو غيرها ، وليس هناك دليل يدل على ذلك بل الشريعة تدل على أن الماء يتطهر به.
إذن الراجح مذهب أبي حنيفة وأحد الروايتين عند الإمام أحمد ، وهي ليست المشهورة عن أصحابه لكن عليها أكثر نصوصه ، وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
* قوله: (( أو رفع بقليله حدث 00000 فطاهر )):
تقدم تعريف القليل عندهم وهو ما دون القلتين.
(أو رفع بقليله حدث):أي استعمل في رفع حدث أكبر أو أصغر فتساقط الماء من أعضائه فاجتمع في إناء ، فهذا هو الماء المستعمل في رفع حدث سواء كان الحدث أصغر أو أكبر ، فهل هو طهور أم طاهر ؟؟
قال المصنف: (فطاهر): فهو لا يرفع الحدث ، بل طاهر وليس بطهور.
واستدلوا: بما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) (1).
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب ليرفع حدثه ، وذلك لكون الماء المغتسل فيه عن حدث يتأثر بهذا الغسل فيه وينتقل من الطهورية إلى غيرها.
قالوا: ولا ينتقل إلى النجاسة لما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( صبّ على جابر من وضوئه ) (2) ، ولو كان نجساً لما صبّ عليه منه ، قالوا: فهو ماء طاهر.
فلما نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الاغتسال بالماء الطهور وليس ذلك إنتقالاً إلى النجاسة بل إلى الطاهرية لحديث جابر المتقدم.
ـ إذن الماء المستعمل المتساقط من الأعضاء لا يحل للمسلم أن يتطهر به.
فلوا أن أحداً مسح رأسه بفضل يديه فهل يجزئ أم لا ؟؟
فالجواب: لا يجزئ ذلك ؛ لأن الماء طاهر وليس بطهور هذا هو مذهب الحنابلة.(33/59)
ـ وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ، وهو أشهر إحدى الروايتين عن الإمام مالك ، وأحد قولي الشافعي ، وهو قول ابن المنذر واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين ، أن الماء طهور وليس بطاهر.
1ـ واستدلوا: بما روى أبو داود وأحمد بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (مسح رأسه بفضل ماء في يديه) (1) ، فهنا الماء الذي في يديه ماء مستعمل ، وقد مسح به رأسه.
2ـ واستدلوا: بالأصل ، فالأصل أن هذا الماء طهور يتطهر به وهو ماء داخل في عموم قوله تعالى: { فلم تجدوا ماء } .
ـ وأما الحديث الذي استدل به أهل القول الأول ، فأجابوا عليه بجواب صحيح وهو: أن الحديث إنما فيه نهي المسلم أن يغتسل في الماء الدائم وهو جنب وليس فيه أن الماء ينتقل إلى الطاهرية فهذه مسألة أخرى.
ـ بل العلة الصحيحة في ذلك ـ للأدلة المتقدمة ـ العلة الصحيحة أن يقال: إن ذلك ذريعة إلى تقذيره وإفساده فإن الماء إذا اغتسل فيه من الجنابة ومن الأحداث ونحوها فإن ذلك يودي إلى تقذيره ، فهو ماء دائم ثابت فإذا تكرر الغسل فيه من الأحداث الكبرى أو الصغري فإن ذلك يؤدي إلى تقذيره.
وسواء قلنا إن ذلك يؤدي إلى تقذيره حساً أو يؤدي إلى تقذيره معنى.
وأما أن نحكم على الماء بأنه ينتقل عن الطهورية ، فليس في الحديث ما يدل على ذلك ، بل الأدلة تدل على خلاف ذلك.
ـ كما أن الماء عنما يوضع على المرفق وهو يجري على بقية اليد فإنه يرفع حدث الجزء الأعلى حتى يصل إلى أطراف الأصابع ، فعندما ينتقل من جهة إلى جهة إلى أسفل اليد فإنه يكون في نزوله بآخر اليد فهو في الحقيقة ماء قد استعمل في أعلى اليد ثم نزل إلى أسفلها.(33/60)
لذا الاستعمال عندهم أن ينتقل من عضو إلى عضو آخر ولم يرو ذلك استعمالا ؛ لأنه لو كان استعمالاً لأدى ذلك إلى أن يكون هذا الفعل غير جائز ، وقد دلت الأدلة الشرعية المعلومة ضرورة أن مثل هذا لا ينهى عنه أي انتقال الماء من جهة إلى أخرى في العضو نفسه.
فالراجح: هو القول الثاني وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو أن الماء المستعمل في الحدث أنه طهور.
ونحن باقون على الأصل حتى يأتينا الدليل الواضح اليقيني الذي ينقلنا عن ذلك.
وما ذكروه في الحديث المتقدم إنما هو مجرد نظر ومثل هذا النظر لا يترك بسببه المحكم بل يحكم الذي تقدم على غيره من الأحاديث.
* قوله: (( أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء000 فطاهر)):
أي إذا أدخل من هو مستيقظ من نوم ليل ناقضٍ للوضوء إذا أدخل يده في الإناء فإن هذا الماء ينتقل من الطهورية إلى الطاهرية.
ـ واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده) (1).
قالوا: هذا يدل على أن المستيقظ من نوم الليل إذا غمس يده في الإناء فإن الماء ـ حينئذ ـ ينتقل إلى الطاهرية.
* وهذا الحديث فيه مسائل:
1ـ المسألة الأولى: أن هذه الحديث يدل على وجوب غسل اليدين لمن استيقظ من نوم الليل وهذا هو مذهب الحنابلة.
ـ والجمهور على سنيته.
ـ واستدل الحنابلة على وجوب ذلك بأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمر يدل على الوجوب.
ـ وأما الجمهور فقالوا: إنه للاستحباب بقوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، وهذا شك فلهذا الشك ليس لنا أن نقول بوجوب ذلك بل نقول بمشروعيته ، فليس لنا أن نقول بالوجوب بل نقول بالاستحباب.
ـ وهذا فيه نظر ، فإن هذا الشك إنما هو من المكلف فإنه لا يدري أين وقعت يده، وأما الشارع فإن الحكم المنطلق منه هو إيجاب ذلك.(33/61)
ـ وأما كونه لا يدري ، فهذا تردد واقع على المكلف.
وأما الشارع فقد أمر بغسل يديه إذا أستيقظ من نومه.
ـ فالأرجح: مذهب الحنابلة وهو وجوب ذلك أي وجوب غسل اليدين ثلاثاً لمن استيقظ من النوم وأراد أن يغمس يده في الإناء.
2ـ المسألة الثانية: هل هذا خاص بنوم الليل ، أم فيه وفي نوم النهار ؟؟
ـ المذهب أنه إنما هو خاص في نوم الليل ، ولم أر أحداً من المذاهب المتبوعة يخالف ذلك ودليل هذا وجهين:
1ـ الوجه الأول: ما في رواية أبي داود: (إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل) محل قوله: (من نومه) التي تفيد العموم.
2ـ الوجه الثاني: قوله (باتت): والأصل في البيتوتة أن تكون ليلاً.
ـ وذهب الحسن البصري إلى أنه عام في نوم الليل والنهار وأن حكمهما واحد.
ويستدل له بعموم: قوله: (من نومه).
ولكن هذا الإستدلال فيه ضعف لما تقدم من الوجهين السابقين.
ـ فإن قيل: ألا يقاس نوم الليل على نوم النهار ؟
فالجواب: أن القياس ضعيف من وجهين:
أـ الوجه الأول: أن إلحاق نوم النهار بنوم الليل إلحاق مع الفارق. فإن الليل هو محل النوم ، الأصل فيه أن يستغرق في نومه وتطول مدة النوم ، بخلاف نوم النهار ، فليس في الأصل محلاً للنوم والأصل فيه ألا يكون طويل المدة.
ب ـ الوجه الثاني: أن العلة تعبدية ، فقوله: (أين باتت يده) فلا تدري ما العلة من ذلك.
لذا قال أهل العلم لو أن رجلا وضع يده في قفازين أو نحو ذلك فإنه مع ذلك يجب عليه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ؛ لأن العلة تعبدية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه) (1).
فإذن هي أمور معنوية ، وهو لا يدري أين باتت يده ، فقد يكون هذا في أمر مشاهد أو أمر غائب ، فالمسألة تعبدية.
وعندما يثبت ذلك ، أي أن العلة تعبدية غير معقولة المعنى ، فلا قياس حينئذ.
فالقياس لا بد منه أن تكون العلة معنوية فالراجح أن نوم النهار ليس كنوم الليل.(33/62)
قوله: (ناقض للوضوء): لقوله: (من نومه) والأصل في النوم أن يكون ناقضاً للوضوء.
ـ وعلى القول الراجح أنه نوم مستغرق لقوله: (لا يدري أين باتت يده) ؛ لأن من ليس بمستغرق يدري أين باتت يده ، فهو لايزال في الشاهد ولم يغب.
فإذن: هو نوم الليل وهو ناقض للوضوء.
ـ إذا تبين هذا فهل في الحديث المتقدم أن الماء ينتقل إلى الطاهرية ؟؟
الجواب: أن الحديث ليس فيه ذلك ، بل النهي منه صلى الله عليه وسلم ، ألا يغمسها في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، وليس فيه أن الماء ينتقل من الطهورية إلى غيرها.
والأصل في الماء أن يكون طهوراً ، ونقله إلى غير الطهورية يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك.
ـ وهناك قول ثالث في المذهب واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، أن الماء طهور وهو الراجح ؛ لأنه ماء لم يتغيّر بالنجاسة ، وهو ماء كذلك باق على أصله في الطهورية ، فأي دليل ينقله عن الطهور إلى الطاهر ، فهو ماء قد تحلل عن محل يراد تطهيره ، ولم يتغيّر بالنجاسة فحينئذ لا معنى للقول بطاهريته ولا بنجاسته بل هو طهور وهو الراجح.
ـ وننتهي ـ حينئذ ـ من مسائل القسم الثاني من أقسام المياه ، وهو الطاهر وتبين لنا أنها كلها مسائل مرجوحة ، وليس هناك ماء طاهر.
ـ والأصل أن الماء قسمان طهور ، ونجس وليس هناك ماء طاهر ، وهذا هو الأصل أن الماء طهور يحل التطهر به ما لم ينتقل عن مسماه فيكون شيئاً آخر أو يتغير بالنجاسة فيكون حينئذ ماء نجساً وقد تقدمت الأدلة الدالة على ذلك والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين.
(الدرس السادس)
* قال المصنف رحمه الله:
((والنجس: ما تغيّر بنجاسة أو لاقاها وهو يسير أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها)):
هذا هو القسم الثالث من أقسام المياه.(33/63)
وهو: (ما تغير بنجاسة): أي سقط فيه شيئ من الأشياء النجسة من بول أو عذرة أو نحوهما، فتغير بهذه النجاسة ريحه أو طعمه أو لونه ، فهو في الأصل طهور رائحته وطعمه ولونه ، لكن قد تدنست هذه الأوصاف كلها أو بعضها ، تدنست بهذه النجاسة.
فحكمه: أنه ماء نجس ، وهذا بإجماع أهل العلم ، فقد أجمع أهل العلم على أن الماء المتغير بالنجاسة أنه نجس سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو ماء نجس لا يحل التطهر به.
قوله: (أو لاقاها وهو يسير): هذا هو النوع الثاني من أنواع الماء النجس.
"وهو يسير": اليسير وعندهم ـ هو ما دون ـ القلتين.
فمثلاً: عندنا ماء يبلغ قلة أو قربتين أو مائة لتر ، فهو ماء قليل فوقعت فيه نجاسة ، وهذه النجاسة لم تغيره فأوصافه كلها لم تتغير بالنجاسة فطعمه ولونه وريحه نقيات من هذه النجاسة الواقعة فيه ، قالوا: فهذا ماء نجس ، وهذا هو مذهب فقهاء الحنابلة وهو مذهب الجمهور.
ـ وذهب الإمام مالك كما تقدم إلى أن الماء طهور وهو قول في المذهب ـ أي أنه طهور ـ واختاره المجد ابن تيمية ، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح.
فالماء الذي غمس فيه يد من قائم من نوم الليل ، أن هذا الفعل محرم ، والماء يبقى طهوراً مطهراً ، وليس بطاهر فقط كما هو في المذهب.
ـ والمشهور في المذهب أن الغمس يكون من مسلم مكلف لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن أحدكم) وهو خطاب للمسلمين ، وقوله: (فلا يغمس) وهو خطاب للمكلف.
ـ وهناك قول في المذهب أنه عام في المكلف وغيره. ولا شك أن هذا أقوى ، فإنه إذا ثبت هذا الحكم الذي ذكروه من إنتقاله إلى الطاهرية ، إذا ثبت بغمس المسلم المكلف ، فأولى من ذلك أن يثبت بغمس الكافر والصبي.
ولأن العلة المذكورة (فإنه لا يدري أين باتت يده) تنطبق على الكافر والصبي.
ـ وأما الخطاب فإنه موجه إلى من يجيب ، فهو إلى المسلم إلى من يجب عليه وهو على المكلف وهذا قول في المذهب.(33/64)
ـ لكن الراجح ـ ما تقدم ـ أنه لا ينتقل إلى الطاهرية بل هو طهور مطهر.
* قوله: (( أو كان آخر غسلة زالت النجاسة بها فطاهر )).
هذا المشهور في المذهب وسيأتي بيانه ـ أن النجاسة يجب أن تغسل سبع مرات.
فإذا وقع على الثوب نجاسة فيجب أن تغسل هذه النجاسة سبع مرات بالماء.
وعندهم أن الغسلات الست بالماء المتحلل منها ماء نجس ؛ لأنه ماء لاقى النجاسة ، وما لاقى النجاسة فهو نجس.
وأما الغسلة السابقة التي زالت بها النجاسة فقالوا: هذا الماء طاهر وليس بطهور وليس نجس.
ـ أما كونه ليس بنجس فقالوا: لأنه قد انفصل عن محل طاهر.
وأما الست فقد انفصلت عن محل نجس ، فكلما غسلناه في مرة فهو مازال نجساً وأما المرة السابقة فقد انفصل عن محل طاهر.
ـ وهناك قول في المذهب أنه نجس ، وهو أصحّ وأقيس بالنسبة للمذهب ؛ لأنه إنما طهر المحل بانفصال الماء في آخره ، وأما في ابتداء ذلك فالمحل لايزال نجساً.
وهذا القول هو الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، كما تقدم.
وقد تقدم الاستدلال بحديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) (1) ، فهذا ماء طهور باق على أصله وقد وقعت فيه النجاسة فلم تغيره بل استهللت فيه سواء كان قليلاً أو كثيراً فإن الماء لا ينجس بل الماء طهور.
إذن: هذا القول فيه نظر كما تقدم ، فقوله: (أو لاقاها وهو يسير): هذا قول ضعيف.
بل النجاسة إذا لاقت الماء اليسير فلم تغيره فهو ماء طهور ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
إذن: لا يصح تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام (طهور وطاهر ونجس) ، ولا يصح كذلك تقسيم الماء إلى قليل وكثير ؛ لأن هذا التقسيم يترتب عليه عندهم أن الماء الكثير لا ينجس إلا بالتغير ، أما القليل فإنه ينجس بمجرد الملاقاة.
* قوله: (( أو انفصل عن محل نجاسة قبل زوالها )):
إذا انفصل عن محل النجاسة قبل أن تزول.(33/65)
بمعنى: مازالت النجاسة باقية والماء يزال به النجاسة والمحل يتنظف ويتطهر به ، فالماء المنفصل عنها ماء نجس ؛ لأنه ماء قليل ، وهذا هو الأصل ، فهو ماء قليل قد لاقى نجاسة فيكون نجساً.
ـ وكذلك الغسلات الست ، فقد تقدم أن الغسلة السابعة للماء المستعمل منها ماء طاهر.
أما الغسلات الست الأولى ، فإن الماء فيها نجس.
إذن: مالاقي النجاسة أثناء الغسل والتنظيف فعندهم أنه ماء نجس.
ـ أما على القول الراجح: فنحن باقون على القاعدة المتقدمة وهي: أنه إن تغيّر بالنجاسة فهو نجس وإلا فهو طهور.
* قوله: ((فإن أضيف إلى الماء النجس طهور كثير غير تراب ونحوه أو زال تغير النجس الكثير بنفسه أو نزح منه فبقي بعده كثير غير متغير طهر )):
هذه مسألة: في طريقة إزالة النجاسة في الماء وتحويل الماء من نجس إلى طهور.
وقد ذكر المؤلف هنا ثلاث طرق بذلك:
1ـ الطريقة الأولى: أن يضاف إلى الماء النجس طهور كثير والكثير عندهم ـ قلتان ـ فما فوق.
فمثلاً: تأتي إلى الماء النجس سواء كان قليلاً أو كثيراً ، فتضيف إليه ماء كثيراً فيصبح طهوراً.
وقالوا: (كثير): لأن الذي يريد أن يطهره بنجس ، فإذا أضيف ماء قليل فإنه ينجس أي هذا الماء بمجرد الملاقاة ؛ لأنه ماء قليل.
فلابد حينئذ من أن يضيف إليه قلتين فأكثر ؛ لأنه إذا كان المضاف دون القلتين فإنه ينجس بملاقاة الماء الذي يراد تطهيره.
فإذن: يضاف إلى الماء المتنجس سواء كان قليلاً أو كثيراً فيضاف إليه ماء كثير فحينئذ ينتقل إلى طهور.
إن كان قليلاً فأصبح مع الكثير والنجاسة أصبحت لا تؤثر فيه.
وإن كان الماء من الأصل فتغير فإن مثل هذه الإضافة لا بد وأن تنظر فيها هل غيرت ريحه وطعمه ولونه ، فإن غيرته فإن الماء تطهر ، وإن لم تغيره فإننا نضيف حتى يذهب هذا التغير.
وهنا مثالان:(33/66)
1ـ المثال الأول: فيه ماء قليل وقعت فيه نجاسة فهو ماء لم يتغير بالنجاسة لكنه ، على المذهب ماء نجس فإذا أضيف إليه قلتان فأصبح بعد ذلك قطعاً طهوراً ؛ لأن الماء أصبح كثيراً والنجاسة لم تغير فيه.
2ـ المثال الثاني: إذا كان الماء قد تغير وقد أضفنا إليه قلتين فما زال متغيراً فإنه لا يطهر بذلك.
ـ فإذا أضفنا قلة أو قلتين فزال التأثر فحينئذ يصبح الماء طهوراً.
قوله: (غير تراب أو نحوه): التراب إنما نص عليه ؛ لأنه يعتبر عند بعض المذاهب مطهراً.
والمذاهب كلها على أن الماء رافع للحدث ـ كما سيأتي بيانه في باب التيمم.
قالوا: فإذا أضيف إلى الماء تراب فزالت النجاسة بعد إضافته فهذا لا يؤثر بل يبقى نجساً أو أضيف إليه نحو التراب كأن يضاف إليه صابون أو نحو ذلك.
فإذا أضيف إليه تراب أو نحو ذلك فهذا ليست طريقة ـ عندهم ـ للتطهير ولا يتطهر الماء بذلك.
ـ وذهب بعض الحنابلة إلى أنه يطهر بذلك. وهذا هو القول الراجح ؛ لأن المقصود إزالة النجاسة وقد زالت فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فبأي طريقة زالت النجاسة فإن الماء يصبح طهوراً ؛ لأن الخبث الذي نقل الماء من الطهورية إلى النجاسة قد زال فلا معنى ـ حينئذ ـ لأن يجعله من النجس وقد زال المؤثر والمفسر له ، وأي طريق فصلناه ، فإنه يكون صحيحاً.
ـ إذن التراب أو غيره ـ على القول الراجح ـ يعتبر مطهراً بل لو أضيف إليه شيء من المواد الكيميائية أو بعض الطرق الحديثة فزالت النجاسة فإنه يصبح ماء طهوراً.
2ـ الطريقة الثانية: قوله: (أو زال تغير النجس الكثير بنفسه) فالطريقة الأولى: طريقة لتطهير الماء القليل والماء الكثير جميعاً.
ـ لكن هذه الطريقة لتطهير الماء الكثير فقط.
فإذا مكث ماء كثير مدة فزالت عنه النجاسة من غير مؤثر ، فهو قد طهر نفسه فإنه يصبح طهوراً.(33/67)
ـ ولو كان قليلاً لم نقل به ـ على المذهب ـ ؛ لأن الماء القليل نجس بمجرد الملاقاة أصلا فضلاً عن أن نقول أن النجاسة ذهبت منه.
فإذن: الماء الكثير إذا تغير بالنجاسة ثم ذهبت عنه بنفسه فإنه ماء طهور ، قالوا: لأنه مطهر لغيره فهو كذلك مطهر لنفسه.
ـ وعلى القول الراجح كذلك الماء القليل المتغير بالنجاسة إذا زالت عنه النجاسة بنفسه فإنه يطهر ويصبح طهوراً ؛ لأن الماء متى زالت عنه النجاسة فإنه طهور ، بل كل عين تنجست ثم زالت عنها النجاسة فهي عين طاهرة.
3ـ الطريقة الثالثة: (أو نزح منه فبقى بعده كثير غير متغير): ما تقدم طريقة إضافة ، وهذه طريقة أخذ.
صورة ذلك: ماء كثير تغيّر بالنجاسة فأخذنا ننزح منه ونخرج حتى ذهبت النجاسة. مثال ذلك:
رجل عنده بركة فيها ماء فوقع في طرقها نجاسه فأخذ لينزح من الماء ويخرج حتى لم يبق أثر للنجاسة في هذه البركة ، فحينئذ يصبح الماء طهوراً ؛ لأنه بهذا النزح أصبح الماء المتبقي طهوراً غير متغير.
ـ فإن كان الماء قليلاً فما الحكم ؟؟
فالجواب: ما تقدم من أنه ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب.
ـ وعلى القول الراجح لاحاجة إلى هذه الطرق بل القاعدة: أنه متى ما زالت النجاسة فإن الماء يطهر فيصبح طهوراً على أصله ، قال تعالى: (( وأنزلنا من السماء ماءاً طهوراً)) (1) فمتى زالت النجاسة فإن الماء يعود إلى أصله من الطهورية.
ـ وعلى تقرير مذهب فقهاء الحنابلة:
هنا صاحب الزاد لم يستثن ما استثناه في مسألة سابقة وهي بول الآدمي وعذرته ، فإن البول إذا أصاب الماء ثم أضيف إليه ماء كثير فإنه ـ حينئذ ـ لا يطهر ، إلا أن يكون قد شق نزحه ، كما تقدم.(33/68)
ـ إذن لابد وأن يبقى بعد عملية التطهير ؛ لابد وأن يبقى ماء تتوفر فيه الشروط السابقة ومن الشروط السابقة : أن العذرة والبول في الآدمي إذا وقعا في الماء فإنه يبقى نجساً مطلقاً سواء كان قليلاً أو كثيراً ما لم يكن قد سبق نزحه ؛ فإنه حينئذ يكون طهوراً لمشقة النزح.
* قوله: ((وإن شك في نجاسة ماء أو طهارته بنى على اليقين)):
هذا داخل في القاعدة الشرعية العامة التي تقول: (اليقين لايزول بالشك).
وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن زيد أنه شكى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل يجد الشيئ في الصلاة أو يُخيّل إليه الشيئ ، فقال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (1).
ـ فإذا تيقنا أن الماء طهور ثم شككنا فيه هل وقعت فيها نجاسة أو لا ؟؟
ـ أو وقع فيه شيء ونحن لا ندري ، هل هذا الشيئ نجس أم لا ؟؟
ـ أو هو ماء كثير فوقعت فيه نجاسة ثم شككنا هل غيرته أم لا ؟؟
ـ وعلى الراجح إذا كان ماء قليلاً فوقعت فيه نجاسة ثم شككنا هل غيرته أم لا ؟؟
فحينئذ: حكم الماء أنه يبقى على أصله وهو أنه ماء طهور ، فاليقين لا يزال بالشك.
فاليقين ـ هنا ، أنه ماء طهور ونحن عندما نشك في تنجسه في هذا الشيئ فهذا شك وأما ذاك فهو يقين.
والعكس كذلك: فإذا كان الماء نجساً وقد تغيّر شيئ من أوصافه بالنجاسة ثم شككنا هل زال هذا التغير أو لا ؟؟
فاليقين أنه نجس ، واليقين لا يزول بالشك.
ـ أما أن نرى في أحد أوصافه تغيراً.
ـ أو بأن يخبره مسلم مكلف مستور الحال كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة) (2) ، فإذا أتى خبر من مسلم ذكر أو أنثى مكلف بالغ عاقل مستور الحال ـ كما هو المشهور في المذهب ـ فإنه حينئذ يقبل قوله.
ـ أو رأى هو أن الماء قد تغير فزالت عنه النجاسة فإن الماء حينئذ ينتقل من النجاسة إلى الطهورية.
فإذا: اليقين لا يزول بالشك.(33/69)
فالماء طهور ما لم تثبت لنا نجاسته ، والماء النجس نجس ما لم تثبت لنا طهوريته.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع
ـ تقدم الكلام على ما إذا شك في نجاسة ماء أو طهارته وأنه يبني على اليقين ؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
ـ وتقدم أنه يقبل خبر المسلم المكلف المستور في إثبات النجاسة.
ـ واعلم أن الخبر يشترط فيه في الأظهر من قولي العلماء ، وهما قولان في المذهب ، يشترط فيه أن يبين سبب النجاسة وذلك لاختلاف أهل العلم في النجاسة.
مثال ذلك: أن يقول له: هذا ماء نجس والسبب عنده أنه لاقى النجاسة وهو ماء قليل وهذا المخبر لا يعتقد أن اليسير ينجس بمجرد الملاقاة ، كأن يخبر شافعي مالكاً أو حنفي مالكياً بذلك.
فإذا تبين السبب علم ذلك المخبر أن الماء ليس بنجس.
إذن: لابد أن يبين له سبب النجاسة لاختلاف الناس في النجاسة طهارة ونجاسة.
ـ واعلم أن السؤال عن النجاسة ـ أي الإستخبار ـ عن طهارة الماء ونجاسته ، ليس بمشروع وأنه من التكلف وقد كرهه الإمام أحمد وغيره ، وقد نصّ على ذلك شيخ الإسلام.
فإذن: ليس من المشروع أن يسأل المسلم هل هذا الماء وقعت فيه نجاسة أم لا ؟؟.
وذلك ؛ لأن الأصل أن الماء طهور ويتطهر به ، ومثل هذا السؤال تكلف وتعنت.
ـ ما لم تقيم أمارة تقوى القول بنجاسته ، فإذا حدثت قرينة توقع الشك بالماء فإنه ـ حينئذ ـ يجوز له أن يسأل لوجود هذه القرينة.
ـ ومثل ذلك الأطعمة من اللحوم ونحوها ، فإنه إذا قام في قلبه قرينه على أن صاحب المنزل يأتي باللحوم المذبوحة على غير الطريقة الإسلامية ، فإنه يسأل.
أما إذا لم يقم في قلبه شيئ فإنه لا يشرع له ذلك.
فإذن: إنما يشرع له أن يسأل إذا قامت القرينة التي تجعل السؤال له محله فإذا لم تكن هناك قرينة فإن ذلك ليس بمشروع.
* قوله ـ رحمه الله ـ: ((وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما ولم يتحر ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما)).(33/70)
إشتبه على المسلم مائين أحدهما طهور والآخر نجس ، وهو يريد أن يتطهر فما الحكم ؟؟ فهو لا يدري الطاهر من النجس.
الحكم: قال هنا: (حرم استعمالهما): فيحرم عليه أن يستعمل أياً من المائين.
قالوا: لأن استعمال الماء النجس محرم ، واستعماله لهما كليهما متضمن لاستعمال الماء النجس ، هذا إذا استعملهما كلهما.
ـ أما إذا كان الإستعمال لأحدهما فقد يكون هو الماء النجس ، والواجب عليه أن يتحرز من استعمال النجس وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإذن: لا يحل له أن يستعمل أحدهما ولا كليهما ؛ لأن ذلك إما أن يكون يقينا يستعمل فيه الماء النجس وذلك إذا استعمل الماء من كليهما ، وأما إن استعمل أحدهما فإن ذلك ذريعة إلى استعمال الماء النجس ، والواجب التحرز منه وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ـ وهل يتحرى أم لا ؟؟
قال هنا (ولم يتحر): أي ليس له أن يتحرى ، بمعنى: ليس له أن ينظر إلى القرائن التي تقوي أن يكون أحدهما هو الطهور فيستعمله ويدع الآخر ؟؟
فلا يجوز له إلا أن يدع الإثنين كليهما ، ولو كان في قلبه قرينة تقوي أن هذا الماء هو الطهور وأن الآخر هو النجس.
إذن: لا يجوز له أن يتحرى مطلقاً سواء كان هناك مرجح ـ أي قرينة تقوي أحد الجانبين ـ أو لم يكن.
ـ أما إذا لم تكن هناك قرينة فلا إشكال في هذا ، ولكن إذا كان هناك قرينة:
فقد ذهب بعض أهل العلم وهو مذهب الشافعية إلى أنه يتحرى الطهور منهما فيستعمله.
قالوا: لأن ما يعجز عن اليقين فيه فإنه يلجأ إلى الظن الغالب ، ونحن قد عجزنا أن نتيقن أن هذا الماء الذي نستعمله طهور فحينئذ: يلجأ إلى الظن الغالب فنرجح أحدهما.
كما أن الرجل إذا استبهت عليه القبلة وغلب على ظنه إحدى الجهتين فإنه يرجح إحداهما. هذا هو مذهب الشافعية.(33/71)
وأما الحنابلة ، فقالوا: يكون الترجيح حيث كانت الضرورة ؛ لأنه إذا رجح فقد يقع في الأمر المحرم من استعمال النجس ، فقد يقع فيه وإن كان يظن أنه لم يقع فيه وإعمال الظن إنما يكون عند الضرورة ، وأما هنا فلا ضرورة فإنه بحكم غير الواجدين للماء فحينئذ يلجأ إلى التيمم ، ولا حاجة إلى أن يتحرى وإنما يلجأ إلى التيمم.
ـ كما أنه إذا اشتبه ماء مباح وماء محرم وليس مضطراً إلى أحدهما فإنه يدع الجميع ، ولا يمكن أن يتورع إلا بمثل ذلك ـ فإنه ـ حينئذ ـ يدع الجميع ويلجأ إلى شيء آخر سواهما.
أما إذا كان مضطراً كأن يكون إنسان عنده ماءان به أحدهما طهور والآخر نجس وهو مضطر ؛ لأن يشرب أحدهما فإنه ـ حينئذ ـ يتحرى فما غلب على ظنه أنه ماء طهور فإنه يشرب منه للضرورة.
وقد ذكر شيخ الإسلام القولين ولم يرجح بينهما.
ـ والأقوى فيما يظهر ، ما ذهب إليه الحنابلة للأمر الذي تقدم وهو أن الأمر ليس فيه ضرورة داعية إلى التحري ، واستعمال أحد الماءين مع إحتمال قوي أن يكون هذا المستعمل هو الماء النجس المحرم استعماله ، فلا ضرورة تدعو إلى ذلك فحينئذ يلجأ إلى التيمم. لذا قال المؤلف:
(( ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما )):
فإنهم يرون أنه ـ حينئذ ـ يتيمم.
ـ إذا كان عنده ماءان أحدهما طهور والآخر نجس ويمكنه أن يضيف أحدهما إلى الآخر فيطهران بذلك ، فلا يجوز له أن يلجأ إلى التيمم ؛ لأنه يمكنه أن يحول هذين الماءين إلى ماء طهور.
ـ مثال: إذا كان عندهما ماءان أحدهما قليل والآخر كثير ، والقليل قد نجس بالملاقاة أو كلا الماءين كثير وقد تنجس لكنه يشق وليس عنده استطاعة على تمييز الطهور من النجس كأن يكون أعمى أو نحو ذلك.
فحينئذ: يضيف أحدهما إلى الآخر ويطهران بذلك ولا يجوز له أن يتيمم.(33/72)
ـ لكن هنا إذا كان لا يستطيع ذلك بمعنى: لا يمكنه أن يحول الماءين إلى ماء طهور يتيقن عند استعماله أنه استعمل ماءاً طهوراً فحينئذ: يدع الجميع ويحرم عليه استعمالهما ويلجأ إلى التيمم.
ـ وهل يشترط للتيمم إراقتهما أو خلطهما ليكون غير واجد للماء ، فقد قال تعالى: (فلم تجدوا ماءاً) (1) فهل يشترط ذلك أم لا ؟؟.
قال: (ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما).
ـ وهناك قول آخر في المذهب أنه يشترط ذلك لكي يكون عادماً للماء حقيقة فإنه إذا خلطهما فأصبحا كليهما نجساً أو كان منه أن إراقهما فإنه لا يكون واجداً للماء.
ـ والقول الثاني وهو الأصح أن ذلك ليس بشرط ؛ لأن العاجز عن استعمال الماء كعادمه ، فهذا الرجل عاجز عن الماء أو جاهل ، أيهما الطهور من النجس فهو كالعادم للماء وقد قال تعالى: (فلم تجدوا ماءاً فتيمَّمُوا صعيداً طيباً) ، وهذا غير واجد للماء حكماً لا حقيقة ، ولا يشترط أن يكون عادماً للماء حقيقة.
لذا نفي المؤلف للإشتراط إنما هو دفع للقول الضعيف الذي يقول بإشتراط ذلك.
* قوله: (( وإن اشتبه بطاهر توضأ منهما وضوءاً واحداً من هذا غرفة ومن هذا غرفة ، وصلى صلاةً واحدة )):
إذا اشتبه عليه ماءان أحدهما طاهر والآخر طهور. ولا يدري أيهما الطاهر من الطهور.
ـ هذه المسألة مبنية على القول المرجوح الذي تقدم وهو تقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس ، وعلى هذا القول تتفرع هذه المسألة.
ونحن عندما نرجح ذلك القول الذي تقدم ترجيحه لا نحتاج إلى هذه المسألة فهي لا تكون واقعة على ذلك المترجح ، وإنما هذا مبني على المذهب ومن وافقه في أن الماء ينقسم إلى طاهر وطهور ونجس.
ـ فالمسألة:
إذا اشتبه عليه ماءان أحدهما طاهر والآخر طهور ولا يدري أيهما الطاهر من الطهور ؟؟
فالحكم قال: ( يتوضأ منهما وضوءاً واحدة من هذه غرفة ومن هذا غرفة ومع صلاة واحدة ).(33/73)
فإذن: يتوضأ منهما وضوءاً واحداً ، ولكم بغسل العضو مرتين مرة بالماء الطهور ومرة بالماء الطاهر.
ـ وهو لا يدري أيهما الطاهر من الطهور ولكن الأمر يقع هكذا فيكون مرة بماء طهور ومرة بماء طاهر فحينئذ يتيقن أن العضو قد وقع عليه ماء طهور ، ويكون وضوؤه وضوءاً واحداً فيغسل العضو مرتين. مرة بهذا الماء ومرة بالماء الآخر لكي يتيقن أنه قد تطهر بالماء الطهور.
فإذن: تغسل الأعضاء مرتين وله ثلاثاً بتكرار أحدهما ، ولكن الواجب أن يكون مرتين مرتين من هذا مرة ومن هذا مرة ، فيكون حينئذ قد تيقن من وصول الماء الطهور إلى أعضائه.
ـ فإن توضأ من هذا وضوءاً ومن هذا وضوءاً ؟ فالمصرّح به في المغني وغيره أن هذه هي الصورة.
ـ وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في العمدة التي شرحها على طريقة الحنابلة ذكر أنه أن شاء توضأ وضوءين.
ـ وينبغي أن يكونا وجهين في المذهب.
فبعض الحنابلة قال: إنه يتوضأ وضوءاً واحداً كما تقدمت صورته.
ـ وبعضهم قال: يتوضأ وضوءين وضوء بهذا الماء ووضوء بالماء الآخر.
ـ ولكن القول الأول أصحّ ؛ لأنه إذا فعل الطريقة الأخرى فإنه يكون في نيته غير جازم ، فإنه في كلا الوضوءين غير جازم أنه يستخدم ما تصح به الطهارة.
والواجب أن تكون النية في الوضوء جازمة وهو ـ حينئذ ـ لا يكون جازماً بارتفاع حدثه في كلا الغسلين أو الوضوءين بخلاف ما إذا كان الوضوء واحداً.
إذن: هذه الطريقة هي الطريقة السالمة من هذا الإعتراض الذي تقدم ذكره ، فيتوضأ وضوءاً واحداً بغسل كل عضو مرتين مرة بالماء الطهور ومرة بالماء الطاهر.
قال: (وصلى صلاة واحدة):
فإذا توضأ بالماءين حينئذ يصلي صلاة واحدة.
ـ فإذا احتاج لأحد الماءين للشرب فما الحكم ؟
قالوا: يتحرى فيبقى الماء الطاهر لشربه ويتوضأ بالماء الطهور.
وليس هذا بيقين. لذا قالوا: فيحتاج حينئذ أن يتيمم مع ذلك.(33/74)
وفي هذا نظر بل الأظهر أنه إذا احتاج إلى الماء للشرب فإنه ليس له أن يتوضأ من الآخر بل يكتفي بالتيمم.
ـ ولكن هذه المسألة كلها ـ كما تقدم ـ مبنية على القول بتقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس والصحيح خلاف ذلك.
* قوله: (( وإن اشتبهت ثياب طاهرة ينجسه أو بمحرمه صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة )):
ـ رجل عنده ثياب قد أصابت بعضها نجاسة وهو لا يعرف الثياب النجسة بعينها ولا يمكنه أن يأخذ ثوباً فيغسله ويتأكد من تطهره فما الحكم ؟؟
قالوا: يصلي بعدد الثياب النجسة ويزيد واحدة.
مثال: رجل عنده عشرة ثياب يعرف أن ثمان (8) منها نجسه ولكن لا أدري ما هي بعينها، فيقال له: صلّ ثمان صلوات ثم زد صلاة تاسعة فيكون قد صلى تسع صلوات ويكون بذلك قد تيقن أنه صلى بثوب طاهر ؛ لأنه قد أنفذ ثمان صلوات بثمان ثياب ، ولنفرض أنها هي الثياب النجسة.
فتبقى هذه الصلاة الأخيرة يُتأكد من كونه قد صلى بثوب طهور.
فعلى ذلك: لو أن رجلاً عنده مائة ثوب نجس وثوب طاهر فإنه يصلي مائة صلاة ويزيد صلاة واحدة. هذا هو مذهب الحنابلة.
قالوا: هذا إذا علم عدد ثيابه النجسة.
ـ أما إذا لم يعلم ، قالوا: يصلي حتى يتيقن ولا يمكن أن يتيقن حتى يصلي فيها كلها ، هذا إذا كان يقول: غالبها أو نصفها نجسه لكنه لا يدري عددها.
ـ أما إذا كانت كلها نجسه فإنه لا يحل له أن يصلي بشيء منها ، هذا هو المشهور في المذهب حتى في المسألة الأخرى.
ـ وذهب بعض الحنابلة في المسألة الأخرى ، أنه يتحرى لمشقة ذلك كما قال ذلك ابن عقيل وغيره.
ـ وذهب الشافعية والأحناف إلى القول بالتحري وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهذا هو القول الراجح ؛ لأن الله عز وجل قال: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1).(33/75)
ولأن الله رفع الحرج عن هذه الأمة وفي فعل ذلك حرج ، فكونه يضع هذه الصلوات الكثيرة منه حرج ، كما أن الصلاة لا تصلى في أكثر من مرة إلا إذا ثبت فيها خلل فإنها تعاد ، أما إذا لم يثبت فيها خلل فإنه ليس له أن يعيدها كما نهى عن ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
إذن: الصواب: أنه إذا اختلطت عليه الثياب الطاهر والنجسة فلا يدري أين الطاهرة من النجسة.
فإنه يتحرى سواء علم عدد الثياب أو لم يعلم ذلك ، فإنه يتحرى ويجتهد ثم يصلي وتجزئ صلاته ، هذا هو القول الراجح.
ـ ومثل ذلك إذا كانت الثياب منها ثياب محرمة عنده وثياب مباحة ومنها ثياب محرمة لا يعلمها بعينها كأن يكون ثوباً أو مغصوباً ولم يتميز هذا الثوب المغصوب منها فإنه حينئذ يصلي بعدد الثياب المغصوبة ويزيد صلاة. أو يصلي حتى يتيقن إن لم يعلم عدد الثياب النجسة ، هذا هو المذهب.
ـ والراجح أنه يتحري (ما جعل عليكم في الدين من حرج) (1).
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثامن: الثلاثاء 17/10/1414هـ
( باب الآنية )
الباب: هو ما يدخل منه إلى المقصود سواء كان حسياً كأبواب الدور أو معنوياً كأبواب العلم.
والآنية: جمع إناء ، ويجمع على "أواني": فهي جمع لها ، فالإناء جمعه آنية ، والآنية جمعها أواني.
ومثل ذلك: سقاء ، وإسقية ، وأساقي.
والإناء: هو الوعاء.
ـ واعلم أن المؤلف بدأ بباب المياه ؛ لأن المياه هي مادة التطهر ، والطهور هو مفتاح الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وقد روى الإمام أحمد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (مفتاح الصلاة الطهور).
وهنا شرع المؤلف بعد باب المياه بباب الآنية ؛ لأن الماء بطبيعته سيّال : يحتاج إلى طرق يحفظه ، فشرع بذكر حكمها بعد باب المياه.
* قوله: (( كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله )):
كل إناء: من خشب أو صفر أو نحاس.(33/76)
والإتخاذ المراد به: اتخاذه في المحل من غير استعمال وما دام الإستعمال مباحاً فأولى منه أن يباح الإتخاذ.
فكل إناء من الأواني من خشب أو صفر أو جلد ونحو ذلك يباح إستعماله كما يباح كذلك إتخاذه ، وقوله: (ولو ثميناً): لفظة: (لو) إشارة إلى خلاف.
ومثلها لفظة: (حتى) و: (إنْ).
قال الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ : ( لو ): للخلاف القوي و (حتى): للخلاف المتوسط و (إنْ) للخلاف الضعيف.
وقد قال: هنا: (لو) فهي للخلاف القوي ، لكن ليس الأمر في الحقيقة على هذا ، فإن الأمر من حيث القائل ضعيف ، فإن ذلك هو قول الشافعي في أحد قوليه والشافعية اختاروا إتفاقاً قوله الثاني وهو جواز ذلك ـ أي جواز استعمالها ـ وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
إذن: جمهور الفقهاء وهو أحد قولي الشافعي الذي اختاره أصحابه أن الأوعية الثمينة من الجواهر والزمرد أنها مباحة لا حرج فيها.
ـ وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنها محرمة ـ أي إستعمالها ـ.
ـ أما حجة أهل القول الأول: فهي الأصل ، فالأصل في الأشياء الإباحة كما قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فكل ما في الأرض فهو مباح ما لم يثبت تحريمه ، والأواني التي من الجواهر الثمينة مباحة ما لم يأت دليل يدل على تحريمها وليس هناك دليل على ذلك.
أما حجة الإمام الشافعي في قوله الآخر فهي: أن الأواني الثمينة فيها من الخيلاء والإسراف والكبر وكسر قلوب الفقراء.
وهذا القول قوي ؛ لأن الشارع حرم الخيلاء والكبر والإسراف وكل ما هو ذريعة إلى المحرم فهو محرم.
ـ ثم إن الشارع حرم الإسراف ، وفي الحديث (كلوا واشربوا والبسوا في غير اسراف ولا مخيلة) ، وهذا فيه إسراف وكسر لقلوب الفقراء.
فهذا قول قوي ، والجمهور على خلافه وأن الأواني الثمينة استعمالها جائز.
والقول بتحريمها قول قوي لما في إستعمالها من الكبر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء.
وأجاب الجمهور ـ عن ذلك ـ بأن إستعمال الجواهر نادر.(33/77)
ولكن هذا الجواب ضعيف ؛ لأن الحكم تبع للوجود فمتى ما وجد هذا فإنه محرم ولو كان هذا على هيئة الندرة ، نعم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينص على ذلك لندرته ، فهذا يصح أن يكون دليلاً على عدم تنصيص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريم ذلك ؛ لأن الغالب الكثير إنما هو استخدام الأواني من الذهب والفضة ، وأما استخدامها من الجواهر ونحوها فإن ذلك نادر قليل.
فيصبح أن يكون ذلك سبباً لعدم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريم استخدام الجواهر الثمينة في المطاعم والمشارب ونحوها.
وأما أن يكون ذلك دليلاً على الجواز فلا ؛ فإن هذا الشيء وإن وقع نادراً فإن فيه علة الكبر والخيلاء ونحو ذلك من العلل فهو حرام. فهذا القول قول قوي.
* قوله: (( إلا آنية ذهب وفضة )):
فآنية الذهب والفضة من سائر الأواني قد نصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تحريمها ، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة ).
(صحافها): جمع صحفة وهي ما يشبع الخمسة ، ومثل ذلك غيرها من الأواني ، وهذا إنما هو للغالب ، فالغالب في الأواني أن يكون كذلك ، وغيرها من الأواني لها نفس الحكم فالقصعة وهي ما تكفي العشرة ، والمئكلة وهي ما يشبع الأثنين والثلاثة لها نفس الحكم.
( فإنها لهم في الدينا): أي للكفار.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم).
ـ قوله: ( الذي يشرب في آنية الفضة): وأولى منها آنية الذهب فإنها أعظم وأشد وأقبح من الفضة في هذا الحكم:
بل ثبت في مسلم في هذا الحديث نفسه: (من شرب في إناء ذهب وفضة).(33/78)
وقوله: (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم): أي إنما يصب في جوفه نار جهنم ، والجرجرة: هي صوت الشراب الواقع في الجوف أو المتحرك في الحلق.
فهذا يدل على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب.
فهذه عقوبة عظيمة لا يثبت مثلها ، إلا لفاعل كبيرة.
فإذن: الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة من كبائر الذنوب وهذا مجمع عليه إلا ما روى عن داود الظاهري من إباحته للأكل ولعل ذلك لعدم بلوغ الحديث إليه.
* قوله: (( أو مضبباً بهما )):
المضبب هو الإناء ينكسر فيوضع فيه صحفة من حديد أو نحاس أو ذهب أو فضة فتصل بعضه ببعض وتضم بعضه إلى بعض.
فهو إذن أن يكون في الإناء شعبة أو كسر ثم يؤتي بصحفة أو سلسلة من معدن من المعادن فيصل الطرفين بعضهما ببعض فهذه الضبة وهذا هو الإناء المضبب.
وقوله: (أو مضبباً بهما) أي كذلك ما كان مضبباً بالذهب والفضة.
وظاهره سواء كان قليلاً أو كثيراً فأي ضبه من فضة أو ذهب فإنها تحرم الأكل والشرب في الإناء وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من أن الضبة سواء كانت يسيرة أو كبيرة فإنها محرمة سواء كانت من ذهب أو فضة وسيأتي الكلام على الفضة إن شاء الله.
فإذن: الضبة محرمة وذلك لأن الشارع إذا نهى عن الشيء فإنه يدخل في النهي أجزاء ذلك الشيء.
فإذا حرم الشرب في آنية الذهب والفضة فكذلك الذي تتخلله فضة أو ذهب فهو محرم كذلك.
فإذن: الإناء الذي فيه ضبة من ذهب أو فضة محرم.
ـ ومثل ذلك المموه والمطلي بالذهب والفضة فهو محرم كذلك.
صورة المموه: بأن يؤتي بالإناء ثم يوضع في إناء قد صهر فيه ذهب أو فضة فتتموه ويأخذ من لون الذهب والفضة ، فهذا محرم كذلك لوجود الذهب أو الفضة.
ـ وصورة المطلي: أن يجعل الذهب والفضة كهيئة الورق ثم بعد ذلك يلصقها بالإناء.(33/79)
ـ ومثله ـ كذلك: المكفت: وصورته: أن يبرد الإناء حتى يخرج هذا البرد كهيئة المجاري الصغيرة ثم يلصق بها قطع ذهب أو قطع فضة ، فهذا ونحوه كله محرم للتعليل المتقدم ، وهو وجود الذهب والفضة فيه ، والشارع إذا نهى عن شيء فهذا نهي عن أبعاضه وأجزائه.
* قوله: (( فإنه يحرم إتخاذها واستعمالها )):
أما الإستعمال فهذه اللفظة شاملة للإستعمال في الأكل والشرب وغيرهما.
فنبدأ بهذه اللفظة ثم نعود إلى لفظة الإتخاذ فهي مترتبة عليها.
أما الإستعمال: فأما الأكل والشرب فقد نصّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على النهي عن الأكل والشرب فيهما ، فالأكل والشرب فيهما لا شك في تحريمه.
ـ وما هي العلة ؟؟
العلة عند جماهير أهل العلم هي ما فيها من الكبر والخيلاء والإسراف وكسر قلوب الفقراء ، فحرمه الشارع لما فيه من الإستطالة على عباد الله ولما فيه من الإسراف والكبر والخيلاء.
ولذلك فإنه من تعاطاه في الدنيا فإنه لا يتعاطاه في الآخرة ، كما في الحديث:
(( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )).
وفي سنن النسائي بإسناد قوي: (آنية الذهب والفضة آنية أهل الجنة).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (فإن من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة).
فإذن: هي آنية أهل الجنة ومن شرب فيها في الدنيا فإنه لا يشرب فيها في الآخرة.
ـ لكن هذا ـ أي كونها آنية أهل الجنة ـ في الحقيقة ليس هو التعليل ، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرم الخمر وأخبر أنها شراب أهل الجنة ، وأنه من شرب منها في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة ، ولكن العلة فيها أضرارها الواقعة على العقول فحرمها الشارع لذلك ، فلذلك هنا ـ في آنية الذهب ، والفضة فإنها آنية أهل الجنة في الجنة وهي آنية أهل الكبر والخيلاء والمستطيلين على عباد الله في الدنيا فليست من آنية المؤمنين بل هي من آنية الكفار في الدنيا ، وأما المؤمنون فهي آنيتهم في الآخرة.(33/80)
فالعلة هي ما فيها من الكبر والإسراف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
لذا ذهب عامة أهل العلم على أن المحرم ليس الأكل والشرب فحسب بل ذلك يشمل الأكل والشرب وغيرهما من الإستعمالات ، بل حكاه النووي وغيره إجماعاً.
ـ ولكن ذهب أهل الظاهر ، وممن ذهب إليه الشوكاني والصنعاني إلى أن المحرم الأكل والشرب فحسب ؛ لأن النص وارد فيها فحسب.
الراجح هو القول الأول: وكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نص عليها فحسب لا يعني أنهما المحرمان فقط ، فإن الشارع يذكر الشيء في الحكم ثم يلحق به ما شابهها من باب القياس.
فالله ـ عز وجل ـ قال في كتابه: (( وربائبكم اللاتي في حجوركم)). ومعلوم أن الربيبة محرمة مطلقاً سواء كانت في حجر زوج أمها أم لا.
فيكون نص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة بناءاً على الغالب ، فالغالب في استعمال الذهب والفضة إنما هو في الشرب ولكن يلحق بالأكل والشرب ما شابههما من الإستعمالات كأن يتوضأ أو يغتسل أو يتطيب أو نحو ذلك من الإستعمالات.
ـ فإذن: كل استعمال لأواني الذهب والفضة فإنه محرم.
ـ فإن قيل : قد ثبتت أدلة تدل على جواز إستعمال الفضة؟؟ من ذلك ما ثبت في البخاري: أن أم سلمة كان عندها جلجل فيه شعر من شعرات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تستشفي بهن أي إذا أتاها أحد من المرضى فإنها تضع في هذا الجلجل ماءاً ثم تحركه ثم يشرب منه فيشفى بإذن الله.
قالوا: فهذا يدل على جواز إستعمال الفضة.
واستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) أي تصرفوا بها كيف شئتم.
ـ وقد ذكر شيخ الإسلام أن الأصل في الفضة الإباحة ما لم يثبت دليل يدل على التحريم.
ـ لذا الذي يتبين ـ والعلم عند الله ـ أن استعمال الفضة في غير الأكل والشرب أن ذلك مباح ، فإذا استعملها في قلم ومكحلة ومدخنة ونحو ذلك فإنه مباح.(33/81)
ـ أما الذهب فهو محرم على الإطلاق لا يحل منه إلا حلي النساء ، وما اضطر المسلم إليه.
أما الفضة: فالأكل والشرب فيها محرم.
أما في غير الأكل والشرب فإن ذلك جائز.
ـ ولا يخفى أن الأثر عن أم سلمة أثر راو ، فإنها هي التي روت قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الفضة ومع ذلك فإنها كان عندها جلجل وكانت تضع فيه شعرات النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
فعلى ذلك الذي يتبين: أن استعمال الفضة في غير الأكل والشرب مباح أما الذهب فإنه محرم على الإطلاق.
إلا ما تقدم من حلي النساء وما أضطر إليه المسلم ، وسيأتي مزيد بحث عن هذا إن شاء الله.
* وقوله (( فإنه يحرم إتخاذها )):
يحرم الإتخاذ ؛ لأن الإتخاذ وسيلة الإستعمال والشارع قد يسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات.
ـ فلو كان هناك إناء يمكن أن يشرب فيه أو يؤكل فيه وهو من ذهب أو فضة فإذا وضعه صاحب المنزل وإن قال إنه لا يأكل به ولا يشرب فإن ذلك محرم ؛ لأنه قد إتخذه والإتخاذ وسيلة الإستعمال وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم.
ـ كما أنه يحرم إتخاذ آلات اللهو والطرب ونحوها من الآلات ؛ لأن التي تبث المنكرات فيحرم إتخاذها ؛ لأن ذلك ذريعة إلى إستعمالها.
فالإتخاذ محرم للشيء الذي يحرم إستعماله وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
* قوله: (( ولو على أنثى )):
فإن الإنثى إنما يباح لها الحلي ـ وسيأتي إن شاء الله ـ.
* قوله: (( وتصح الطهارة فيه )):
أي من آنية الذهب والفضة.
إذن: لا يحل لها أن تتوضأ في إناء ذهب أو فضة أو يغتسل لكنه لو فعل ذلك فإن وضوءه صحيح.
ـ هذا هو مذهب جمهور الفقهاء.
وذلك لأن هذا الفعل فيه لم يقع على شرط العبادة ولا ركنها. بل هو أجنبي عن العبادة فإنه قد توضأ وضوءاً صحيحاً قد توفرت فيه شروطه والماء كذلك ليس بمغصوب ـ بخلاف الماء المغصوب فسيأتي الكلام عليه.
إذن الطهارة صحيحة ، مع تحريم الفعل ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
* قوله: (( إلا ضبة يسيرة من فضة لحاجة )):(33/82)
هذا إستثناء من التحريم ، فإن الضبة اليسيرة التي تكون من الفضة لحاجة فإن ذلك جائز في المشهور من المذهب.
إذن: المشهور من المذهب أن الضبة اليسيرة من الفضة للحاجة في الإناء إن ذلك جائز.
والحاجة هي ألا يكون ذلك للزينة وإن كان يمكنه أن يسوي هذا إلاناء بغير الفضة بأن يسويه بحديد أو نحاس أو نحو ذلك.
ـ إذن ليست المسألة ضرورة بحيث أن الفضة تعينت ، بل المسألة حاجة ، فالفضة لم تتعين بل يمكنه أن يستعمل غير الفضة.
قالوا: فذلك جائز.
ـ فالضبة اليسيرة من الذهب محرمة فتبقى في العموم المتقدم ، والضبة الكثيرة من الفضة محرمة فتبقى في العموم المتقدم.
والضبة اليسيرة لغير حاجة كزينه ونحوها فإن ذلك محرم.
وإنما المباح الضبة اليسيرة عند الحاجة هذا هو مذهب الحنابلة.
ـ وذهب بعض الحنابلة إلى أنه مباح للحاجة وغيرها. وهذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا أصح ، إذ الحاجة لا تبيح محرماً ، ونحن إذا قلنا بجوازه فلا فرق بين أن يكون ذلك للحاجة أو غيرها.
ـ واستدل الحنابلة وهو مذهب الجمهور على قولهم ، بما ثبت في البخاري من حديث أنس بن مالك: (( أنه كان عنده قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنكسر فاتخذ مكان الشَّعب سلسلة من فضة )).
قالوا: لفظة (فاتخذ) تدل على أن المتخذ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالمتخذ ـ عندهم ـ هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي إتخذ مكان الشعب ـ أي هذا الشق اتخذ مكانه سلسلة من فضة ، فالمتخذ ـ على هذا القول هو: النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
ـ وذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ وهو مذهب الليث وهو مذهب طائفة من الصحابة والتابعين إلى أن الضبة اليسيرة كذلك لا تجوز.
وقالوا: المتخذ هنا إنما هو أنس بن مالك ويدل على ذلك ما في البخاري من رواية عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند أنس بن مالك، وقد انصدع فسلسلة سلسلة من فضة) فالمسلسل هنا إنما هو أنس.(33/83)
وأصرح منه رواية محمد بن سيرين قال: إنه كان فيه ـ أي في هذا القدح ـ حلقة من حديد فأراد أنس بن مالك أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة فقال له أبو طلحة: (( لا تغيرن شيئاً صنعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتركه )).
إذن: كان هذا الإناء الذي هو قدح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان فيه حلقة من حديد ، فأراد أنس أن يغيرها فنهاه أبو طلحة الإنصاري ـ زوج أمه ـ ثم بعد ذلك غيَّره أنس وجعل ذلك فضة على الإختيار.
إذن: فاعل ذلك ليس هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما هو أنس.
ـ وأنس ـ رضي الله عنه ـ صحابي وقوله حجة لكن إذا لم يعلم له مخالف.
وهنا له مخالف وهو ابن عمر ، فقد ثبت في سنن البيهقي بإسناد صحيح: أنه كان لا يشرب من إناء فيه حلقة فضة ، أو ضبة فضة ).
إذن: قد خالفه ابن عمر ، فلم يبق قوله حجة.
فالقول الراجح: هو ما ذهب إليه الإمام مالك من النهي عن ذلك مطلقاً فالضبة محرمة مطلقا كثيرة كانت أو يسيره من فضة أو غيرها لحاجة أو وغير حاجة كما هو مذهب الإمام مالك ـ رحمه الله ـ.
ـ واعلم أن مما استدل به أهل العلم على تحريم الضبة على الإطلاق: مارواه الدارقطني وقال: إن إسناده حسن: من حديث ابن عمر: ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( نهى أن يشرب من إناء ذهب أو إناء فضة أو إناء فيه شيء منهما فمن فعل ذلك فإنما بجرجر في بطنه نار جهنم) ، لكن الحديث من حديث زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن ابن عمر. وزكريا مجهول وكذلك أبوه فالحديث ضعيف ، وقول الدارقطني: "إسناده حسن" ليس بحسن بل الحديث ضعيف وقد ضعفه ابن القطان وابن تيمية والذهبي وابن حجر، فالحديث ضعيف لا يحتج به ، ومع ذلك فإن الضبة محرمة للتعليل المتقدم.
* قوله: (( وتكره مباشرتها لغير حاجة )):
إذن: هي جائزة أولاً ، ولكن مباشرتها مكروهة لغير حاجة.(33/84)
فكونه يستعملها فيشرب مباشرة من هذه الضبة فَتُمَس بَشْرَتُه ذلك مكروه إلا إذا احتاج إلى ذلك ، فإذا احتاج إلى ذلك فإن الكراهية تزول.
وعللوا ذلك: بأن مباشرتها إستعمال لها ، ومقتضى هذه العلة التحريم؛ لأن الإستعمال محرم.
والظاهر أن ذلك لا حرج فيه مادام أن هذه الضبة جائزة ، وأبيح فعلها في الإناء فإنه ـ حينئذ ـ لا حرج في مباشرتها ، والكراهية حكم شرعي لابد له من دليل.
والحمد لله رب العالمين.
* قوله: (( وتباح آنية الكفاية ولو لم تحل ذبائحهم ، وثيابهم إن جهل حالها )).
ـ (تباح آنية الكفار): من المشركين ، وأهل الكتاب.
( ولو لم تحل ذبائحهم): أي وإن كانوا غير كتابيين.
فالمشركون إو كفار وإن كانوا غير كتابيين فإن آنيتهم طاهرة يحل للمسلم أن يتطهر فيها ويحل له أن يأكل فيها ويشرب ، وهذا هو الأصل ؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة. قال تعالى:
(( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرْضِ جَمِيعاً ))
ـ ولكن إن ثبت أن فيها نجاسة أو عين محرمة فإنه لا يحل له أن يتسعملها حتى يغسلها.
ـ والأدلة الدالة على هذه المسألة ـ أي مسألة حل آنيتهم وأنها لا تحل إن علمت النجاسة فيها ـ.
ـ ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أضافه يهوديّ على إهالة ـ وهي الودك المذاب (سنخه) أي متغيرة) فهذه آنية يهودي وهو من أهل الكتاب.
ـ أما أواني المشركين: فقد ثبت في الصحيحين من حديث عِمران بن الحصين وهو حديث طويل: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( توضأ من مزادة امرأة مشركة) ، فهذان الحديثان تدلان على طهارة آنية الكفار.(33/85)
ـ أما إذا ثبت أن فيها نجاسة ، فإنه لا يحل له أن يأكل أو يشرب أو نحو ذلك من الإستعمالات ـ لا يحل له ذلك ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ثعلبه الخشني قال: ( قلت يا رسول الله: إنا بأرض قوم أهل كتاب "وفي رواية لأبي داود: وإنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر" ، فنأكل في آنيتهم فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:( لا ، إلا أن لا تجدوا غيرها ، فاغسلوها وكلوا فيها). ، وقد تقدم في رواية أبي داود أن هؤلاء النصارى كانوا بطبخون في قدورهم الخنازير ويشربون في أوانيهم الخمر.
ـ وقد ثبت في مسند أحمد بإسناد حسن عن ابي ثعلبة الخشني أنه قال: للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها "وآنية المجوس الغالب فيها أنها تستعمل في الطعام المحرم فإنه لا تحل ذبائحهم وهم يأكلون الميتة" فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " إذا اضطررتم إليها فاغسلوها واطبخوا فيها".
ـ إذن: هذه الأدلة تدل على أن آنية الكفار طاهرة ما لم يثبت أن فيها نجاسة فإنه لا يحل للمسلم أن يأكل فيها حتى يغسلها.
ـ مما يدل على طهارة أواني الكفار ـ أيضاً ـ ما ثبت في مسند أحمد وسننن أبي داود بإسناد صحيح عن جابر قال: كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم ، فنستمتع بها فلم يعب ذلك علينا).
ـ ومثل ذلك ثيابهم التي يستعملونها في اللبس فإنها كذلك حلال لبسها وهي طاهرة إن جهل حالها.
إذن: إذا علمت طهارتها فلا شك في جواز لبسها وفي طهارتها.
ـ وإذا جهل حالها ـ أي لم تعلم نجاستها فإنها كذلك.
أما إذا ثبتت نجاستها فلا تحل حتى تُغسل.
ـ أما أوانيهم أو ثيابهم التي صنعوها أو نسجوها للمسلمين فهذه لا يشك في حلها. وقد ذكر الموفق وابن القيم ، وهو أمر لا يحتاج إلى استدلال بدليل خاص ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون من ثياب الكفار التي صنعوها).(33/86)
فإن هذا لا شك في حله ، وإنما البحث في الثياب التي استعملت أو الأواني التي استعملت.
ـ وثياب الصبيان لبسها ـ كذلك ـ لا يؤثر ،وإذا كان شيء من ثيابهم التي لم تعلم نجاستها ـ إذا وقع على ثوب فصلي أو كان على شيء من ثيابه ، فإن ذلك لا حرج فيه ، وقد ثبت في الصحيحين ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( صلى وهو حامل أمامة بنت زينب ، وهو لا يعلم ـ ولا شك ـ وجود نجاسة فالأصل هو عدم النجاسة).
* قوله: (( ولا يطهر جلد ميتة بدباغ ، ويباح إستعماله بعد الدبغ في يابسي إذا كان من حيوان طاهر في الحياة )).
( ولا يطهر جلد ميتة بدباغ ): هذا هو المشهور في المذهب ، وهو إحدى الراويتين عن الإمام أحمد ـ وهو كذلك المشهور في مذهب المالكية ـ وهو أن جلد الميتة مطلقاً لا يطهر بدباغه سواء كان مأكول اللحم كالشاة ونحوها ، أو لم يكن مأكوله.
ـ أما قبل الدباغ فاتفق أهل العلم على أن الجلد لا يحل الإنتفاع به ـ إلا ما روى عن الزهري ـ رحمه الله ـ من أباحته ذلك ، وهو محجوج بالسنة كما سيأتي.
ـ إذن: اتفق أهل العلم على أن جلد الميتة قبل الدباغ لا يحل الإنتفاع به.
وإنما الخلاف فيه بعد الدباغ.
فالمشهور في مذهب أحمد ومالك أن جلد الميتة إذا دبغ فإنه لا يطهر بذلك.
لكن يباح أن يستعمل مع يابس إن كان يابساً لأن الجلد نجس ، وإذا ماس شيئاً يابساً فإن النجاسة التي فيه لا تنتقل ؛ لأن النجاسة لا تنتقل من يابس إلى مثله.
قوله: (ويباح إستعماله بعد الدبغ في يابس ، إذا كان هذا الجلد من حيوان طاهر في الحياة).
واستدلوا على القضية الأولى ، أي أنه لا يطهر الجلد بدباغة بما روى الإمام أحمد ـ والحديث صحيح ـ وقد ضعفه بعض أهل العلم ، والأظهر هو تصحيحه ، عن عبد الله بن عكيم ، قال: ( قُرأ علينا كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أرض جهينة ، وأنا غلام شاب ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ).(33/87)
قالوا: فهذا الحديث يدل على أن الإهاب لا يحل الإنتفاع به.
قالوا: والإهاب هو الجلد.
ـ واستدلوا بما رواه ابن وهب بإسناده ـ وقال غير واحد كالموفق إسناده حسن ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا تنتفعوا من الميتة بشيء) ، وقال الموفق إسناده حسن.
ـ لكن الصحيح أن الحديث ضعيف فيه زمعة بن صالح ، وهو ضعيف.
ـ فإن قيل: فما هو الدليل على جواز إستعماله بعد الدبغ ؟؟ قالوا: الأحاديث التي ورد ذكر الدبغ فيها ، فنحن نستدل به على جواز إستعماله ، ونجاسته عندنا ، فنحن نشترط أن يكون في يابس ، هذا هو القول الأول.
ـ والقول الثاني، وهو مذهب جمهور أهل العلم وهي الرواية الأخرى عن الإمام أحمد وهي الرواية المتأخرة التي رجع إليها واختارها بعض أصحابه أن جلد الميتة إن دبغ فإنه يطهر.
وهذا القول هو مذهب الجمهور ـ في الجملة ـ أي أن هناك لكل مذهب تفاصيل.
فمذهب الظاهرية إلى أن كل جلد يطهر بالدباغ أي ولو كان جلد خنزير أو كلب.
ـ وقال الشافعية يطهر ـ بالدباغ ـ كل جلد سوى جلد الخنزير والكلب.
ـ واستثنى الأحناف جلد الخنزير.
ـ وأما الحنابلة في الرواية الأخرى فإنهم قالوا: يطهر جلد كل طاهر في الحياة.
ـ وهناك قول آخر (ثالث): أنه يطهر جلد مأكول اللحم ، وسيأتي.
واستدل ـ أهل القول الثاني ـ وهو الجمهور ، بأدلة كثيرة منها:
ـ ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس: قال تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر عليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: هلا أخذتم أهابها ، فدبغتموه) هكذا في مسلم ، وليست هذه اللفظه في البخاري ( فانتفعتم به ، فقالوا يا رسول الله أنها ميتة ، فقال: إنما حرم أكلها ).
وهذه في المسند بلفظ: (إنما حرم لحمها).
فهذا الحديث فيه أن جلد هذه الشاة قد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدبغها ، وأخبر أن الميتة إنما يحرم أكلها وأما غيره فليس بمحرم.(33/88)
ـ واستدلوا: بما رواه مسلم من حديث ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا دبغ الأديم فقد طهر ).
وهو عند الأربعة بلفظ: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: (أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت).
وثبت ـ عنده ـ أي ابن حبان ـ بإسناد صحيح أنه قال: (دباغ جلود الميتة طهورها).
فهذه أحاديث تدل على أن الميتة جلدها إذا دبغ فإنه يطهر.
ـ أما الجواب على دليل أهل القول الأول. فالجواب أن يقال: أما على القول يتضعيف الحديث فلا إشكال.
ـ أما على القول بتصحيحه ـ وهو الراجح ـ فالجواب: أن يقال إن الإهاب كما ذكر غير واحد من اللغويين كالخليل وغيره إن الإهاب إنما يطلق على الجلد قبل أن يدبغ ، أما إذا دبغ فإنه لا يسمى إهاباً.
فعلى ذلك ، حديث عبد الله بن عكيم (ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) معناه: أي لا تنتفعوا من جلود الميتة قبل أن تدبغوها ـ وهذا ما اتفق عليه أهل العلم.
ـ والجواب الآخر: أن يقال: إن هذه الأحاديث التي استدللنا بها أصح من هذا الحديث الذي لم يروه أحد من أهل الصحيحين ، وهو كذلك مختلف في صحته كما تقدم ـ وليس صريحا ـ كذلك ـ في تحريمه.
ـ أما أهل القول الأول: فقد أجابوا على أهل القول الثاني: بأن قالوا: إن حديث عبد الله بن عكيم ناسخ للأحاديث ، فإن في بعض رواياته: (قبل موته بشهر أو شهرين).
والجواب على هذا: أن يقال: وما المانع أن تكون الأحاديث الأخرى قد وردت قبل شهرين دون ذلك فإنها ليس فيها التصريح بأنها كانت قبل هذه المدة التي قرأ فيها كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أرض جهينة.
إذن: الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني من القول بأن جلود الميتة تطهر بالدباغ.
ـ فإذا ثبت لنا هذا ، فاعلم أن الأصحّ أن هناك مذهبان هما أصح المذاهب فيمن قال بطهارة جلود الميتة بعد دباغها:(33/89)
1ـ القول الأول: أن جلد ما كان طاهر في الحياة فإنه يطهر بالدباغ سواء كان مأكول اللحم أم لم يكن مأكول اللحم.
فكل جلد لحيوان طاهر في الحياة سواء أكل لحمه كالأنعام أم لم يكن مأكول اللحم كالهر فإنه يطهر إذا دبغ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وقد اختارها بعض أصحابه.
وحكى صاحب الإنصاف أن شيخ الإسلام ابن تيمية اختار هذا القول أن جلد الميتة التي هي طاهرة مأكولة اللحم أم لم تكن مأكولة ، وقد اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم ـ وسيأتي بحث أهل العلم فيما يكون نجساً في الحياة.
2ـ القول الثاني: أن الحيوانات التي يطهر جلدها إنما هي مأكولة اللحم فحسب.
فإذا كان الحيوان يؤكل لحمه فإن الدبغ يؤثر في جلده فيكون طاهراً ، وهذا مذهب الليث وإسحاق والأوزاعي ، وهو ما اختاره شيخ الإسلام كما في الفتاوي وكما في شرح العمدة ، فعلى ذلك يكون ما ذكره صاحب الإنصاف من اختيار شيخ الاسلام للقول الأول فيه نظر ، أو أن يكون المشهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية هو هذا القول ؛ لأن شيخ الاسلام شرح العمدة على طريقة المذهب وقد شرحه قبل أن يشتهر بالترجيح والاجتهاد وأما الفتاوى فهي بهد أن اشتهر بالإجتهاد.
فهذا إذن: هو قول شيخ الاسلام ابن تيمية ، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وطائفة من المعاصرين.
إذن عندنا قولان هما أصح الأقوال عند القائلين بطهارة الجلد بعد دباغها.
أما القول الأول: فهو أن الحيوان الطاهر في الحياة سواء أكل لحمه أم لم يؤكل فإنه يطهر.
واستدلوا: بعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ، وأصرح منه عموماً: (أيما إهاب دبغ فقد طهر).
وكذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستمتع بجلود الميتة إذا دبغت.
فهذه كلها عمومات تدل على أن كل حيوان يدبغ جلده فإن الجلد يطهر.(33/90)
وإنما استثينا ما كان نجساً في الحياة ؛ لأنه نجس عين ، لذا هو نجس حياً ميتاً فلم يكن الدبغ مؤثراً فيه: (وهذا فيه لمن عم الحيوانات النجسة في الحياة).
ـ أما أهل القول الثاني: فالذين قالوا: لا يطهر إلا جلد مأكول اللحم: فاستدلوا: بما رواه أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دباغ الأديم ذكاته).
فقالوا: قد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن دباغ الأديم الذكاة له ، فلم يكن ذلك مؤثراً ـ أي الدباغ ـ إلا فيما تؤثر فيه الزكاة من الحيوانات.
ـ وفي هذا الدليل نظر: فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (دباغ الأديم ذكاته) فنسب إضافة الذكاة إلى الإهاب أو الأديم ، ومعلوم أن الذكاة التي جعلوها دليلاً على هذه المسألة إنما تنسب إلى الحيوان نفسه ولا تنسب إلى أديمه.
فيكون المعنى هنا: (دباغ الأديم طهوره) أي ذكاته أي كما أن الذكاة تؤثر فيه طهارة وحلاً ، فإن دباغ الجلود كذلك يؤثر فيه طهارة وحلاً.
وحديث ابن عباس في بعض ألفاظه: (دباغة طهوره) وقد تقدم حديث سلمة بن المحبق (دباغ جلود الميتة طهورها) على ذلك: الذكاة هي نفسها الطهور.
ـ ولذا: لا يقال بحله طعاما وهو مذهب جمهور الفقهاء يقول تعالى: (حرمت عليكم الميتة) ، وقوله: (إنما حرم أكلها).
خلافا لما ذهب إليه بعض الشافعية وبعض الحنابلة إستدلالاً بهذه اللفظة.
فإن قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) صريح بتحريم كل شيء وأن الجلد إنما ينتفع به في غير الأكل.
فالأرجح: هو هذا القول وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية المتأخرة عنه: وأن الجلد الذي يطهر إنما هو جلد الحيوان الطاهر في الحياة فهذا هو الذي يؤثر فيه الدباغ وأما غيره فإنه لا يؤثر فيه.
ـ وقريب منه في القوة المذهب الذي هو أضيق منه وهو القائل: بأنه لا يطهر من جلود الميتة إلا جلد ما كان مأكول اللحم.(33/91)
ـ ومن أدلة أهل القول الثاني: ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن جلود السباع) وفي الترمذي: (أن تفترش).
قالوا: فهذا دليل ـ وقد استدل به شيخ الاسلام ـ على هذا القول.
ـ ولكن هذا الإستدلال فيه نظر ، فنعم الحديث إسناده صحيح لكن الاستدلال به فيه نظر فإن الحديث إنما فيه تحريم الإفتراش ونحوه الذي بجلود السباع وليس فيه أنها نجسه.
كما حرم الشارع الذهب والحرير على الرجال وليس ذلك لنجاستها.
وإنما حرم الشارع الجلوس والإفتراش على جلود السباع لما فيها من الخيلاء والاستطالة ونحو ذلك فليس في الحديث أن ذلك لنجاستها ـ على أنه لا يحل دباغها ؛ لأن في دباغها إستعمالاً لها ـ ولكن لا يعني ذلك أنه إذا فعل ذلك فإنها تكون نجسة بحيث أنها إذا أصابت ماءاً أو نحوه فإنها تنجسه فإن الحديث ليس فيه شيء من ذلك وإنما فيه النهي فحسب وليس فيه ذكر نجاسها.
ـ كما كان من شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كما تقدم في مسألة النهي عن البول في الماء الراكد ـ وذكر أن ذلك ليس لنجاسته وإنما فيه مجرد النهي وهذا نظير له.
فالأرجح إذن: طهارة الجلود أولاً: من حيث الجملة ، ثانياً: أن الجلد الذي يؤثر فيه الدبغ إنما هو جلد ما كان طاهراً في الحياة.
ـ واعلم أن الدبغ: يشترط أن يكون فيما يذهب خبثه ونجاسته ورجسه من القرظ ونحوه وقد ثبت في سنن أبي داود والنسائي أن النبي عليه الصلاة والسلام: ( مرّ بشاة يجرونها ، فقال: لو أخذتم أهابها ، فقالوا: إنها ميتة ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يطهرها الماء والقرْظ)
والقرظ: مادة مطهرة معروفة.
ـ وإذا طهر كذلك بعدها فلا بأس ، والواجب أن تكون هذه المادة مطهرة تزيل النجس ، والخبث الموجود في هذا الجلد.(33/92)
وقد ثبت في مستدرك الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ، ورواه البيهقي وقال: إسناده صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى إلى سقاءٍ يتوضأ منه ، فقيل: إنه ميته ـ أي هذا الجلد من ميته ـ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (دباغه يذهب خبثه أو نجسه أو رجسه).
فالدباغ لابد وأن يذهب الخبث أو النجس أو الرجس.
ـ وهل يشترط أن يكون مع هذا المزيل ماء أو لا يشترط ذلك ؟؟
قولان في مذهب الحنابلة.
1ـ أنه يشترط 2ـ أنه لا يشترط ذلك.
والأظهر: عدم إشتراط ذلك للقاعدة التي تقدم ذكرها ، وإنما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنه من أفضل المطهرات ، فقال: (يطهرها الماء والقرظ).
لذا نحن لا نشترط القرظ بعينه بل نجيزه كذلك بغيره فكل شيء أزال خبثه ونجسه من قرظ أو غيره مع ماء أو دون ماء ، فإن ذلك يزيله ، فإذا أزال الخبث الذي فيه فإنه لا يشترط أن يكون ماءً ولا قرظاً.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس العاشر:
* قال المصنف: رحمه الله: (( ولبنها وكل أجزائها نجسة غير شعر ونحوه )):
ـ تقدم البحث في جلد الميتة ، وأن الراجح من أقوال أهل العلم: أن جلد الميتة يطهر بدباغه إن كان طاهراً في الحياة.
أما هنا: ففي قصة أجزاء الميتة.
ـ أما لبن الميتة فالمشهور في المذهب أنه نجس ، وكذلك أنفحتها ، والإنفحة هي سائل أبيض صفراوي يوجد في وعاء في بطن الجدي ونحوه ، فيجبن اللبن ويسمى (المخبّنة: فهي التي تجعل اللبن ـ عندما توضع فيه ـ وتجعله جبنا.
فهذه ومثلها اللبن في المشهور من المذهب وهو مذهب الجمهور: هي نجسة واستدلوا: بالأثر والنظر.
أما الأثر: فاستدلوا بأثار عن الصحابة منها:(33/93)
ما روى الطبراني ورجاله ثقات: كما قال الهيثمي ، وقد رواه البيهقي عن ابن مسعود قال: (لا تأكلوا الجبن إلا ما صنع المسلمون وأهل الكتاب) ، وذلك لأنه يستخرج من ذبائحهم وذبائحهم حلال ، كما قال البيهقي وقد ذكره البيهقي عن ابن عباس وأنس ابن مالك ـ رضي الله عنه ـ وقال: وكل استدل بآثار ينقلها عن الصحابة.
قالوا: ـ أي الجمهور ـ فهذه آثار عن الصحابة ولم يتبين لنا مخالف لهم فحينئذ: تكون حجة على نجاسة الإنفحَّة ، ومثلها اللبن.
ـ أما النظر: فقالوا: هذا وعاء نجس ، وقد لاقى ـ أي اللبن أو الإنفحة ـ نجاسة فينجس بها ، فهذه الميتة نجسه وهذه الإنفحة أو هذا اللبن قد لاقاها فيكون نجساً ، وهذا على القول بأن المائعات تنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تتغير وهذا قول ضعيف.
بل الراجح أن المائعات لا تنجس إلا بالتغير كالماء.
قالوا: وهي جزء من الميتة ، فالأنفحة جزء من الميتة وكذلك اللبن قبل أن يستخرج منها فما هو إلا جزء فيها ، فعلى ذلك هو ميتة ، وقد قال تعالى (حرمت عليكم الميتة).
2ـ وذهب الأحناف إلى أن الإنفحة ليست بنجسه ومثلها اللبن وهو إحدى الروايتين عن أحمد إختارها صاحب الفائق ، وقال الشافعية إن كانت السخلة لا تشرب إلا اللبن دون غيره فهي طاهرة وهو قول الأكثرين واختاره النووي.
واستدلوا: بأن الصحابة لما أتوا المدائن كانوا يأكلون الجبن ، مع أن أهل المدائن كانوا مجوساً وذبائحهم لا تحل ومع ذلك أكل الصحابة هذا الجبن المصنوع.
أما النظر: فقالوا: اللبن والإنفحة منفصل عن الميتة فهي ليست من الميتة فعلى ذلك هي طاهرة.
ـ والأظهر هو القول الأول وهو مذهب جمهور أهل العلم.
ـ واختار قول الأحناف شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الفتاوي وغيرها.
والراجح القول الأول لصحة الآثار الثابتة عن الصحابة في ذلك.
ـ أما ما ذكره الأحناف وذكره شيخ الإسلام فإنهم لم يسندوه إلى كتاب فينظر في صحته هذا أولاً.(33/94)
وثانياً: وهو أضعف من الجواب المتقدم ـ قيل أن الجزارين الذين كانوا يذبحون ذبائحهم كانوا من اليهود والنصارى وذبيحة اليهود والنصارى حلال ، فهي دولة ذات ملك عظيم وكان الذابحون لهم من اليهود والنصارى فإذا ذبحوا فذبيحتهم حلال.
ـ لكن الوجه الأول أقوى ، وهو أن يقال: إن الآثار لم تسند إلى كتاب فينظر في صحتها، وعندنا آثار عن الصحابة لا نعلم لها مخالف.
والثاني: أنها جزء من الميتة وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) وقال تعالى: (( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة)).
والجبن مطعوم وهو متضمن للأنفحة ، وكذلك اللبن مطعوم وهو يستخرج من الميتة ، كما أنه لا يؤمن أن يتسرب إليه أشياء من تعفنات الميتة ، فعلى ذلك لا تحل الأجبان المصنوعة من الأنفحة التي تؤخذ من ذبائح غير شرعية تكون نجسة ، لأنها من الميتة وقد قال تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وقبل ذلك الألبان التي يستخرج منها فإنها نجسة وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وهو مذهب من تقدم ذكرهم من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
ـ أما البيضة التي في الميتة:
فالمشهور في المذهب: أنها إذا كانت ذات قشر فإنها تكون طاهرة وذلك لأنها قد تم تخلقها وهي ـ حينئذ ـ منفصلة عن الميتة فأشبهت الولد الذي يكون في بطن الميتة فإنه إذا استخرج منها فإنه له حكم الأحياء.
فإذن: إذا كان فيها قشر فهي كالولد.
وإن لم يكن بها قشر فهي كالأنفحة واللبن.
هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الشافعية.
ـ وأما مذهب أبي حنيفة فإنه كمذهبه في اللبن والأنفحة فقد رأى أنها مطلقاً تكون طاهرة وهذا هو المشهور في مذهب المالكية.
ـ وذهب بعض الشافعية إلى نجاستها مطلقاً.(33/95)
والراجح هو القول الأول للتعليل السابق: فهي إذا كانت ذات قشر فإنها كالولد في الميتة منفصل وهي ذات أجزاء منفصلة إنفصالاً تاماً لا مماسة إلا من خارجه ، ولا يكون مؤثراً فيه ولا يمكن أن يتسرب إلى البيضة شيء من ذلك فهي طاهرة.
أما إن لم تكن ذات قشر فهي كاللبن والأنفحة.
وهذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الشافعية وهو الراجح.
أما عظم الميتة وظفرها أو حافرها ونحوه هل هو نجس أم لا ؟؟
1ـ فذهب جمهور أهل العلم إلى القول بنجاسته ؛ لأنه داخل في الميتة وقد قال تعالى: (( حرمت عليكم الميتة )).
قالوا: وقد كان العظم أو نحوه يتألم ويتحرك وهذه هي الحياة ، فما كان قابلاً للحياة فهو قابل للموت فيدخل في قوله تعالى: (( حرمت عليكم الميتة )).
2ـ وذهب الأحناف وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى أن العظم والظفر ونحوهما ليس بنجس.
وهذا القول أصح من القول الأول ، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما حرم أكلها) وفي رواية أحمد: (إنما حرم لحمها).
ـ أما كون العظم: يتحرك ويتألم ونحو ذلك فهذه ليست صفة ثابتة فيه بنفسه وإنما ثابتة له تبعاً لوجوده في هذا الكائن الحي ، فهي صفة ليست ثابتة فيه بإرادته فهو يتحرك بلا إرادة وإنما هو تبع هذا الكائن الحي ـ هذا هو الرد على تعليلهم.
وأما الدليل على ذلك: فهو أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكم على الماء الذي يقع فيه الذباب بأنه لا ينجس وقاس عليه أهل العلم ، باتفاقهم كل ما ليس له دم من الكائنات. فالكائنات التي لا دم لها فلا تنجس بالموت كالجراد ، ونحوه ، فإذا ثبت هذا فأولى منه في هذا الحكم العظم فإنه لا دم فيه.
وكذلك الحركة فيه أضعف من الحركة فيها ، فالحركة فيها بإرادتها فهي حركة تامة في حيوان تام ، أما هو فحركته تبعاً وليست بإرادية وهذا هو الأرجح وإنه ليس بنجس.
فإن قيل: قلنا بنجاسة الجلد ؟؟(33/96)
قالوا: لأن الجلد يتسرب إليه النجاسات بخلاف العظم.
فإن الجلد يتسرب إليه الدم الذي يكون محبوساً في هذا الحيوان وهذا القول ـ في الحقيقة ـ راجح.
إلا أنه قد يضعف فيما إذا تبين رقة العظم وأنه يتسرب إليه النجاسات ويمكن إنتقالها إليه فإنه ـ حينئذ ـ يقوى القول بنجاسته.
ـ هذا على القول بأن سبب نجاسة الميتة هذا الدم المحبوس فيها وهذا هو مذهب جماهير العلماء ـ أي أن سبب ـ نجاسة الميتة هو الدم المحبوس فيها.
إذن: عظم الميتة ، وظفرها ونحوه ليس بنجس كما هو مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام.
ـ أما ريش الميتة وشعرها ووبرها وصوفها ، فقد اختلف فيه أهل العلم:
1ـ فذهب جمهور أهل العلم إلى أنه طاهر.
ـ وذهب الشافعية إلى أنه نجس ، فدليلهم هو نفس الدليل المتقدم ، وهو قوله تعالى: ((حرمت عليكم الميتة)) ، والميتة شامل لكل ذي روح قد فارقته روحه ، وما يتصل به ، والشعر متصل به فعلى ذلك هو مُحَرَّم.
ـ وأما الجمهور فقالوا إنا بالإجماع نقول: إن الحيوان إذا جُزّ شعره وهو حي فإن هذا الشعر طاهر فدل على المفارقة بين اللحم والشعر ، فإن اللحم إذا فارق الحي فإنه نجس وهو ميتة.
أما الشعر فإنه طاهر بالإجماع وهو حلال ، فدل على أن هناك فرقاً بين الشعر وبين اللحم.
فالشعر ينجس بجزه من الحي ، ويكون طاهراً بإجماع أهل العلم كما حكاه ابن حجر.
وأما اللحم فإنه بالإجماع إذا قطع من الحية فإنه ميتة نجس محرم.
فدل على أن الشارع فرق بين الأمرين.
ـ على أن الشعر لا يحل فيه الحياة مطلقاً ، فهو ليس موضعاً للحياة على الإطلاق وعلى قولنا بأن العظم ليس بنجس وهذا الراجح فأولى منه الشعر وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما حرم لحمها).
فإذن: الميتة شعرها ووبرها وريشها وصوفها: كل ذلك طاهر سواء جُزّ منها ميتة أو حية ـ وسيأتي بيان هذا إن شاء الله عند الكلام على القضية الأخرى.(33/97)
ـ ومما استدل به أهل العلم على أن هذه الأشياء ـ أي الصوف ـ أنها طاهرة وليست بنجسه ، قوله تعالى: (( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين )) ، فذكر الله ـ عز وجل ـ أن مِنْ مِنَنِهِ على عباده أنه منّ عليهم بالأصواف والأوبار والشعور يتمتعون بها في هذه الحياة ، وما كان في سياق الإمتنان فإنه يدل على العموم ـ كما هو معروف عند أهل العلم ـ فتكون هذه الأصواف وغيرها طاهره في كل حال لأن الآية تدل على العموم.
وهي ـ عند جمهور العلماء طاهرة ، وقالوا: يشترط أن تكون من طاهر في الحياة.
إذن: إذا جُزّت من بهيمة الأنعام ونحوها مما هو طاهر في الحياة سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول فإنها طاهرة.
ـ أما إذا جُزّت من كلب ونحوه مما هو نجس في الحياة فمذهب جمهور أهل العلم أنها لا تكون طاهرة.
ـ وذهب شيخ الإسلام إلى أنها طاهرة ـ وهذا على مذهبه ـ في أن المستحيل من النجس ليس بنجس ، فإذا استحال شيء من النجاسات إلى شيء آخر فليس بنجس ، فالشعر الخارج من الحيوانات النجسة ليس بنجس وهذا القول هو الراجح ـ وسيأتي تقريره في باب إزالة النجاسة.
إذن شيخ الإسلام يرى أن كل صوف أو شعر طاهر سواء كان من طاهر أو نجس.
أما الطاهر فلا إشكال ، وأما النجس فلأنه طهر باستحالته.
* قوله: (( وما أبين من حي فهو كميتته )):
أي ما قطع من البهيمة فإن حكم هذا المقطوع كحكم ميتته أي كما لو أنك قطعتها وهي ميته.
ـ فإذا قطعت منها رِجْلاً مثلاً وهي حية ، فكما أنه قطعتها منها وهي ميته فتكون محرمة نجسة وإن كان هذا الحيوان طاهراً لأنه حي ، وهذه القطعة التي قطعت منه بها حكم الميتة.
ـ ويدل على ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجة بإسناد حسن ، والحديث حسنه التّرمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت).(33/98)
وفي الترمذي: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة وهم يحبون أسنمة الإبل وبقطعون أليات الغنم فقال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته).
فالسمك ميتته حلال فما قطع منها وهي حية فهو طاهر حلال ، وكذلك الجراد ونحوها.
أما بهيمة الأنعام فميتتها محرمة كذلك ما قطع منها وهي حية فهو نجس.
ـ وهل مثل ذاك المسك والطريدة ؟؟
المسك: هو ما يستخرج من غزلان المسك ، وذلك بأن يشد عليه حتى تجري جرياً سريعاً ، حتى يخرج عند سرته شيء يتعلق كأنه دم ، ثم تربط في أعلاها بعد أن تخرج ثم بعد فترة تقع).
ـ فهل هذا داخل في ذلك ؟؟
الجواب: ليس داخل في ذلك بل هي أشبه بالمولود وهي أشبه بالبيض وأشبه باللبن ونحو ذلك وليست من الدم في شيء بل هي مستحيلة إلى مادة أخرى وهي المسك لذا باتفاق أهل العلم هي طاهرة لا شيء فيها.
ـ وأما الطريدة: فهو بعض الصيد الذي لا يمكن أن يدرك صيداً فإنه يجري خلفه بالسيف ونحوه ثم يقطع منه فهذه القطع كذلك مباحة ؛ لأنه لا يمكن ذبحه وسمي بالطريدة وسيأتي بيان حكمها في باب الصيد.
إذن: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) كما قال ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين .
انتهى باب: الآنية) بحمد الله.
باب: [ الاستنجاء ]
الاستنجاء: استفعال من نجوْت الشيء: أي قطعته ، يقال: نجوْت الشجرة أي قطعتها.
فكأنه قطع الأذي الخارج من السبيلين.
ـ وقيل هو من النَّجْو: وهو المحل المرتفع ، كما قال ذلك ابن قتيبة ، وذلك لأن القاضي حاجته يقضيها عند محل مرتفع فسمي بذلك.
ـ وقيل غير ذلك.
وأما الاستنجاء في الإصطلاح الفقهي فهو: (إزالة الخارج من السبيلين بالماء أو حكمه بحجر أو نحوه).
قوله: (أو حكمه): لأنه لا يزول تماماً بل يبقى شيء من أثره الذي لا يضر وهو معفو عنه ، لذا قلنا (أو حكمه) أي حكم النجاسة.
* قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (( يستحب)):(33/99)
ما سيذكره المصنف من المسائل التي في هذا الدرس يثبت فيها حكم الاستحباب ، فمنها ما هو ثابت صراحة في السُّنَّة ، فيكون استحبابه عن الشارع بالنص.
ومنها ما يكون تعليلاً وقياساً فيكون استحبابه للتعليل أي ليس للدليل الوارد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما يكون بالقياس ونحوه.
* قوله: (( يُسْتحَبّ عند دخولِ الخلاء قول: بسم الله أعُوذُ باللهِ من الخُبُثِ والخبائثِ وعند الخروج منه: غُفرَانَك ، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني )):
الخلاء: هو موضع قضاء الحاجة ، وسمي خلاءً: لأنه يُخلي به وينفرد به ويسمى: بالمرفق والمرحاض والكنيف والمذهب والبراز ، فكل هذه من أسماء الخلاء وهذه أسماء للمبني لقضاء الحاجة ، وقد يكون في الصحراء.
(( بسم الله )): يستحب لمن أراد أن يدخل هذا البيت أن يقول: (بسم الله).
ويقولها ـ إذا كان في صحراء ـ قبيل أن يشرع في قضاء الحاجة ، فهذا ـ أي الذكر ـ ليس للكنيف ونحوه فحسب بل حتى إذا كان في الصحراء فالحكم كذلك ، ويكون ذلك عند أول تشمره لثيابه.
ويدل على ذلك ما روى الترمذي وأبي داود والحديث صحيح لشواهده ، وإلا فقد ضعفه الترمذي لكنه صحيح لا لطريقه الذي رواه الترمذي بل لشواهده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (سَتْرُ ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخلوا الكنيف أن يقولوا: بسم الله) أي إذا أرادوا أن يدخلوا.
وكذلك يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) ، لذا قال المؤلف هنا: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) وهي رواية.
وفي المتفق عليه: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث) ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث).(33/100)
ويقول ذلك إذا أراد أن يدخل الخلاء ، كما صرحت بذلك رواية البخاري في الأدب المفرد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان إذا أراد أن يدخل الخلاء قال ..).
الخُبُْث: تسكين الباء وضمها.
أما بالتسكين: الخُبْث: فهي الشر والقبح ، فتكون الخبائث بمعنى النفوس الشريرة. فيكون المعنى: اللهم إني أعوذ بك من الشر وأهله.
أما بالضم: الخُبُث: فهي جمع خبيث فيكون المعنى: أعوذ بك من ذكران الشياطين وإناثهم.
ـ وعند خروجه من الخلاء: (غفرانك) ، كما ثبت ذلك عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يخرج من الخلاء قال: (غفرانك) : أي أسألك غفرانك ، والحديث رواه الخمسة إلا النسائي وإسناده صحيح.
غفرانك: أي أسألك غفرانك ، من المغفرة وهي الستر عن الذنب والتجاوز عنه.
ـ وقد بحث العلماء عن الحكمة من قولها عند الخروج من الخلاء ـ أما قول: (بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) عند الدخول فواضح مناسبتها.
أما المناسبة من قول (غفرانك): فقد استشكل على بعض العلماء.
فقال بعضهم: لانقطاعه عن ذكر الله فإنه يستغفر الله ؛ لأن هذا ليس محلاً للذكر ، لكن هذا ضعيف.
إذن: مقتضى ذلك أن يستغفر الله من كل حال لم يذكر الله فيها والشريعة لم تدل على ذلك.
ـ والراجح: أنه تقول هذا ؛ لأنه لما ذهب عنه ثقل الأذي تذكر ثقل الذنب الذي يؤذيه ويثقل عليه. فهذا أشد من ثقل الأذي الدنيوي ، فلما تذكر ذلك دعا الله أن يغفر له ذنبه.
وقوله: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني):
هذا حديث آخر رواه ابن ماجة وغيره ، لكن إسناده ضعيف.
ومثله: الحم لله الذي أذاقني لذته ـ أي الطعام ـ وأبقى فيّ قوته ، وأذهب عني الأذى) فقد رواه ابن السُّنِّي بإسناد ضعيف.
ومثله: (الحمد لله على ما أحسن في الأولى والأخرى).(33/101)
ومثل ذلك ـ أي في الضعف ـ الحديث المشهور عند دخول الخلاء من قول: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم) ، فقد رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف ، فهذه أحاديث ضعيفه لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ فإذا قالها لا على أنها تثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن ذلك على أنها سنة فلا بأس بذلك ولا حرج.
وقوله: (المخبث): أي المفسد خبثاً الموقع وغيره في الخبث.
وكما تقدم فإنه يقول غفرانك إذا خرج من الخلاء.
أما إذا كان في صحراء فإنه يقولها إذا قام من حاجته ، فإذا قام من حاجتة وتحول عن موضعه فإنه يقول ذلك:
ـ ومثل هذا ـ في تقديم الرجل اليسرى دخولاً ، واليمنى خروجاً ـ كما سيأتي دليله. فكذلك إذا كانت الصحراء فإنه إلى الموضع الذي يقضي فيه حاجته قدم رجله اليسرى ، وإذا قام قدّم اليمنى.
* قوله: (( وتقديم رجله اليسرى دخولاً واليمنى خروجاً عكس مسجد ونعل )):
ولما لم يكن هناك دليل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منصوص عليه فإنه ـ حينئذ ـ يلجأ إلى القياس لإثبات هذه المسألة ، فقال: (عكس مسجد ونعل).
وهذا هو قياس العكس ، فإن المسجد يستحب ذلك أن تبدأ برجلك اليمنى دخولاً واليسرى خروجاً كما روى ذلك الحاكم في "المستدرك" من حديث أنس بن مالك ، وأما النعل فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ برجله اليمنى ، وإذا نزع فليبدأ برجله اليسرى).
وعكس ذلك بيت الخلاء ونحوه قال النووي: (وهو متفق عليه) أي بين أهل العلم.
فقد اتفق أهل العلم على أنه إذا دخل بيت الخلاء فإنه يقدم الرجل اليسرى دخولاً واليمنى خروجا.
ـ وهذا في كل ما هو ضد ما يكون من باب التكريم مما يكون من أذي ونحوه فإنه يقدم رجله اليسرى.
* قوله: (( واعتماده على رجله اليسرى )):
هنا: استحباب في المذهب أن يكون حال قضائه للحاجة قد إعتمد على رجله اليسرى.(33/102)
وصورة ذلك: أن يكون قد وضع رجله اليمنى في الأرض كأنه جالس للتشهد في الصلاة ، فيجعل اليمنى بمنزلة اليسرى في التشهد في الصلاة ، فإنك إذا تشهدت في الصلاة تنصب قدمك اليمنى ، وكذلك ينصب قدمه اليمنى ، وينصب ساقه اليسرى ويتورك عليها.
ـ واستدلوا بما رواه الطبراني في "الكبير" عن سراقة بن مالك ،قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن نتوكأ على رجلنا اليسرى وأن ننصب اليمنى) أي عند قضاء الحاجة.
وقالوا: لأنه أسهل للخارج وأكرم لليمين.
ـ أما الحديث الذي استدلوا به فهو حديث ضعيف فيه راو متهم.
ـ وأما العلة التي ذكروها فإن فيها شيئاً من النظر، وأما قولهم: أكرم لليمين: فإنه قد يكون الأيسر خلاف ذلك.
فالأظهر أنه يفعل ما يكون أيسر له.
* قوله: (( وبعده في قضاء واستتارة )):
يستحب لمن أراد أن يقضي حاجته إذا كان في فضاء أن يستتر ويبعد ، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة ، وفيه: (فانطلق ، أي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى توارى عني فقضى حاجته).
وروى أهل السنن بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا ذهب المذهب أبعد).
وفي سنن أبي داود بإسناد ضعيف ـ لكن الأحاديث المتقدمة تشهد له ، أن النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا أراد البراز أبعد حتى لا يراه أحد).
ـ أما استتارة: فالمراد به إستتار بدنه كلية ، ذلك لأن ستر العورة ليس من باب المستحبات ، وإنما من باب الواجبات ، يدل على ذلك ما ثبت في المسند وسنن أبي داود والترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إحفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك).
أما إستتاره بالبدن فهو المستحب ، وقد ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان أحب ما يستتر به هدف أو حائش نخل).
أما الهدف: فهو المكان المرتفع الذي يستتر به.(33/103)
أما حائش النخل: فهو مجمع النخل الذي يستتر به ومثله حائش الشجر ، فهذا هو المستحب وهو أن يكون في موضع يستتر فيه بدنه كله.
أما ستر العورة فهو واجب كما تقدم.
* قوله: (( وارتياده لبوله موضعاً رخواً )):
رَُِخواً: بتثليث الراء: وهو المكان السهل اللين ، وذلك لئلا يعود عليه رشاش البول فيدخل في قلبه شيء من الوسواس أو يصيبه شيء من النجاسة.
والدليل على ذلك: ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إرتاد لبوله محلاً دَمِثاً ـ أي سهلاً ليناً ، فقال: (إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله) لكن الحديث في إسناده جهالة فالحديث ضعيف.
لكن معناه صحيح فإن ذلك يورث الوسوسة وقد يقع عليه شيء من النجاسة ، فعليه أن يأتي إلى محل دمث أو نحوه مما لا يبعد إليه رشاش بوله فيقضي حاجته فيه.
* قوله: (( ومسحه بيده اليسرى إذا فرغ من بوله من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاً ونتره ثلاثاً )):
معنى هذا: قالوا، يمسح ذكره من أصله ـ أي من دون الأنثيين إلى أعلاه ، يفعل ذلك ثلاثاً ، وينتره من جوفه ثلاثاً فإن ذهب وإلا فليمش خطوات قيل: أكثرها سبعون خطوة ، فإن لم يذهب فليتنحنح ، وإلا فليتعلق بحبل ويرتفع ثم يجلس حتى يقضي حاجته من البول لئلا يخرج ذلك بعد الوضوء ، هذا هو مذهب الحنابلة.
ـ ومثل هذا: يبعد أن ينسب إلى الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقد سأله بعضهم: عما يكون من البلل بعد الوضوء ، فقال: (إذا بلت فاتضح على ذكرك ولا تجعل ذلك همك واله عنه) هذا هو قول الإمام أحمد ـ رحمه الله.
لذا قال شيخ الإسلام: ( بدعة ـ أي هذا الفعل ـ ولم يقل بوجوبه ولا باستحبابه أحد من أئمة المسلمين والحديث الوارد فيه ضعيف لا أصل له.
وكل ذلك بدعة ، فكل ما تقدم من الأوصاف التي تقدم ذكرها كل ذلك يدعه لا أصل له في الشريعة بل لا أصل له في قول أحد من أئمة الإسلام.(33/104)
ـ وهذا في الحقيقة يورث الوسوسة ويورث سلس البول ، وكما قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ (بل يترك بطبيعته ويخرج بطبيعته ويقف بطبيعته ، قال: وكما قيل هو كالضرع إن حلبته درّ وإن تركته قر) فرحمه الله وهذا هو الذي يقتضيه النظر الصحيح.
ـ فإن قيل: فما رواه أحمد وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً) فنقول: هذا الحديث فيه علتان:
الأولى: أن روايه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو يزداد اليماني ولا تصح له صحبه، فالحديث مرسل.
الثانية: أن فيه زَمْعة بن صالح ، وهو ضعيف ، فالحديث لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
إذن: عندهم أنه يمسح بذكره ثلاثاً وينتر من الداخل ثلاثاً ، والحديث الوارد في ذلك ضعيف وما ذكره من الأوصاف كل ذلك لا أصل له ، بل يورث الوسوسة وغيرها من الأمراض.
ـ فإن كان أصيب بشيء من الوسوسة وغيرها فيستحب له أن ينضح على ثوبه شيء من الماء.
ـ ويستحب له مطلقاً ـ أي سواء كان فيه وسوسة أم لا ـ أن ينضح على ذكره بعد بوله ماءً ، فقد صح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في أبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (بال ثم نضح على ذكره).
وأما الثوب: فلكي يدفع بذلك الوسوسة ، وقد قال الموفق: (يستحب له أن ينضح على ذكره وعلى ثيابه ليرفع عن نفسه الوسوسة).
* قوله: (( وتحوله من موضعه ليستنجي في غيره إن خاف تلوثاً )):
يستحب له أن يتحول من موضعه الذي قضى منه حاجته إلى مكان غيره ليستنجي فيه.
فإذا أراد أن يستنجي ويزيل الخبث فعليه أن ينتقل إلى موضع آخر لئلا يتنجس بهذه النجاسة أو يقع شيء من الماء على النجاسة فيصيبه شيء من رشاش الماء المختلط بالنجاسة.
ـ وقد روى أهل السنن الأربعة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يبولن أحدكم في مستحمه ـ أي مغتسله ـ ثم يغتسل فيه) وفي رواية: (فإن عامة الوسواس من ذلك).
فإن ذان يورث الوسواس.(33/105)
وكذلك هنا: فإنه إذا قضى حاجته انتقل للوضوء أو الغسل إلى موضع آخر لئلا بصيبه شيء من رشاش نجاسته.
ـ واعلم أن مما يستحب له أن يغطي رأسه وهي سنة بكرية ثابتة عن أبي بكر رضي الله عنه.
وروى ذلك البيهقي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أنه كان إذا جامع أهله غطى رأسه وإذا دخل الخلاء غطى رأسه).
واستنكره البيهقي ، وهو كما قال. لكن قال: "وروى عن أبي بكر وهو صحيح عنه) وهو ثابت عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أي من كونه مغطي رأسه عند قضاء الحاجة ، وقد نص على استحبابه الموفق والنووي رحمهما الله.
فهذه من المستحبات والآداب التي يستحب للمسلم أن يتأدب بها.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثاني عشر.
* قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (( ويكره دخوله بشيء فيه ذكر الله تعالى إلا لحاجة )):
يكره لقاضي الحاجة أن يدخل إلى موضع الحاجة بشيء من الأوراق أو شيء من الخواتيم أو بشيء من الدراهم أو الدنانير مما فيه ذكر الله تعالى ـ أي فيه ذكر اسمه ـ سبحانه وتعالى.
قال: (( إلا لحاجة)): لأن الحاجة تزيل الكراهية.
وأولى من ذلك أن يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى أصلاً كأن يدخل بأوراق فيها ـ إذا كان نحو ـ (سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر) أو شيء من كتب العلم.
وأولى من ذلك أن يكون دخوله إلى الخلاء بمصحف ، بل قال صاحب الأنصاف من الحنابلة: " لا شك في تحريمه ـ أي الدخول بالمصحف إلى الخلاء ـ ولا يتوقف فيه عاقل ".
وتقييده بالحاجة فيه نظر ، فإن ظاهره أنه لو أن هناك رجلاً غنياً ومعه مصحف ويخشى عليه السرقة فإنه يجوز له أن يدخل المصحف معه في بيت الخلاء مع أنه يمكنه أن يشتري غيره ـ للحاجة الثابتة هنا ، فليس هنا ضرورة وإنما حاجة ، فظاهر قوله أن ذلك جائز.
وفيه نظر ، فالأظهر أنه لا يجوز ذلك مطلقاً إكراماً للقرآن وإبعاداً له عن مواضع القاذورات.(33/106)
ـ أما إذا كانت أوراق فيها ذكر الله أصلاً ، كأن تكون أوراق فيها الأذكار الصباحية والمسائية نحو ذلك من ذكر الله فيكره دخوله بها.
ويدل على ذلك ـ وسيأتي من الإستدلال على كراهيته أن يتلفظ في الخلاء بشيء من ذكر الله ـ وأولى منه ما كان مكتوباً لثبوته ولزوقه ، فإن ما كان مكتوباً ثابت مستقر بخلاف التلفظ بذكر الله فإنه غالباً ما ينقطع.
ومما يدل على أن المكتوب أولى بالكراهية من المنطوق أن الشارع نهى المحدث حدثاً أصغر أو أكبر أن يمس المصحف ولم ينهه عن تلاوته بلسانه ، وقد اتفق العلماء على هاتين المسألتين كليهما.
فكونه يكره أن يتلفظ بشيء من ذكر الله أولى منه أن يكون حاملا لشيء فيه ذكر الله.
ـ أما ما ذكره المؤلف فمراده: أن يدخل إلى الخلاء ومعه شيء فيه ذكر اسم الله ـ عز وجل ـ كأن يدخل بورقة فيها إسم (عبد الله) أو نحو ذلك ، من الأوراق التي ليس فيها أذكار وإنما تضمنت إسم الله ـ عز وجل.
فإن المذهب كراهية ذلك.
واستدلوا: بما رواه أهل السنن الأربعة من حديث همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم : (كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه).
وفي المتفق عليه من حديث أنس بن مالك: (أن نقش خاتمه صلى الله عليه وسلم ، محمد رسول الله). لكن الحديث ـ أي حديث همام ـ ضعيف ، فقد تفرد به هكذا همام ، وفي حفظه شيء من الضعف.
وقد رواه الثقات عن الزهري عن زياد بن سعيد عن أنس ابن مالك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه) لذلك أعله أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم.
ـ وصححه الترمذي واستغربه ، فلعل استغرابه لهذه العلة المتقدمة ، وصححه المنذري وابن دقيق العيد.
والصواب تضعيفه للعلة المتقدمة ، لذلك ضعفه ابن القيم في تهذيب السنن. فالحديث معلول.(33/107)
فالثقات لم يأتوا لهذه اللفظة التي ذكرها همام ، وإنما ذكروا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إتخذ خاتما من ورق ثم ألقاه ، وليس في شيء من روايات حديث أنس ، مطلقاً ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يضعه إذا دخل الخلاء ، هذا هو دليل الحنابلة على الكراهية.
ـ وهناك رواية عن الإمام أحمد: أن ذلك لا يكره ، وهو الراجح.
ودليله: ما ثبت لنا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أنه كان له خاتم ونقشه محمد رسول الله) ، ولم يثبت لنا في حديث صحيح مطلقاً أنه كان يضعه إذا دخل الخلاء ، ولو كان ثابتاً لنقل ذلك فعلى ذلك لا كراهية في ذلك.
ـ ومثل ذلك الدراهم التي فيها ذكر اسم من أسماء البشر فيها ذكر الله.
ـ أما إذا كان فيه لفظه: (لا إله إلا الله) فإنه يدخل في الباب المتقدم.
وعن الإمام أحمد ، في كراهية الدراهم التي فيها ذكر الله ، عنه قولان:
الكراهية ، وعدمها.
والأظهر: الكراهية ، إذا كانت فيها لفظة: (لا إله إلا الله) و (سبحان الله) ونحو ذلك من الألفاظ التي هي ذكر الله عز وجل.
ـ أما إذا كان فيها لفظة: (عبد الله) ونحو ذلك ؛ فإنه لا يكره لمجرد هذا اللفظ الذي لا يقصد منه ذكر الله ، فليس المقصود منه إلا التسمية لهذا الشخص.
ـ ومع ذلك فإن الحاجة في الدخول بالدراهم إلى بيوت الخلاء ترفع كراهية ذلك.
فإذن: ـ أما المصحف فيحرم أن يدخل به.
ـ وأما الأوراق التي فيها ذكر الله عز وجل ويكون الذكر فيها مقصوداً فإنه يكون مكروها.
ـ وأما إذا كان ذكر الله عز وجل قد أتى عرضا ولم يكن مقصوداً بالذكر فإنه لا حرج في ذلك.
* قوله: (( ورفع ثوبه قبل دنوه من الأرض )):
يكره له أن يرفع ثوبه قبل دنوه من الأرض هذا إذا أراد أن يبول قاعداً ، والدليل على ذلك:
ما روى ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) رواه أبو داود ، والترمذي من حديث الأعمش عن رجل عن ابن عمر ، وهذا الرجل مبهم.(33/108)
وفي البيهقي أنه القاسم بن محمد ، فعلى ذلك الحديث صحيح.
ـ وهذا متفق عليه أي استحباب ذلك ؛ لأن كشف العورة مكروه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إحفظ عورتك إلا من زوجك وما ملكت يمينك) ، فقيل يا رسول الله: (أرأيت الرجل يكون في الخلاء فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (الله أحق أن يستحي منه).
أما ما رواه الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال: (إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وعندما يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوهم وأكرموهم) فإن الحديث فيه ليث بن أبي سُليم وهو ضعيف فالحديث ضعيف.
ما تقدم من كراهية رفع الثوب حتى يدنو من الأرض ، هذا إذا كان يبول قاعداً.
مسألة: حكم البول قائماً:
ثبت في الصحيحين عن حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( أتى سُباطة ـ أي زبالة ـ قوم فبالَ قائماً).
وثبت في سنن النسائي من حديث عبد الرحمن بن حسنة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بال قاعداً فقال بعض القوم انظروا يبول كما تبول النساء) ، ولعل القائلين كفار أو لعلهم مسلمين لم يذكروه على سبيل السخرية بل أرادوا الأخبار.
فهذه الأحاديث تدل على جواز ذلك.
ـ وقال بعض أهل العلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بال قائماً لجرحٍ كان في مأبضه ـ أي باطن ركبته ـ ، وقد روى ذلك الحاكم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (بال قائماً لجرحٍ كان في مأبضه) لكن إسناده ضعيف.
فعلى ذلك لا بأس به ولا حرج ولا كراهية في ذلك.
ـ فإن قيل: قد ثبت عن عائشة ـ كما روى ذلك الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم ـ أنها قالت: (من حدثكم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يبول قائما فلا تصدقوه ، ما كان يبول إلا قاعداً).
فالجواب: أنها حدثت بما علمت ورأت ، وأخبر حذيفة بما رأى وعلم.
ومن حديث عائشة يُستفاد أن الأغلب في حاله أنه كان يبول قاعداً ، لذا استنكرت ذلك أم المؤمنين عائشة وكانت من أعلم الناس بحاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.(33/109)
ـ فإن قيل: قد روى ابن ماجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمر: (يا عمر لا تبل قائماً) (1) ، وقد روى ابن ماجة من حديث جابر (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل قائماً).
فالجواب: هذان حديثان ضعيفان لا يثبتان عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد قال ابن القيم: (لم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث) أي في النهي عن ذلك.
وهذا هو المذهب أي عدم كراهية ذلك ، إلا إذا خاف تلوثاً أو خاف ناظراً فإنه يكره لذلك.
ـ كما أنه يُستدل على جواز البول قائماً بالأصل ؛ فإن الأصل في الأشياء الإباحة فالأصل في العادات الإباحة ما لم يأت دليل على التحريم أو الكراهية.
* قوله: (( وكلامه فيه )):
أي يكره أن يتكلم في الخلاء ، والكلام: منه ما يكون كلاماً فيه ذكر الله عز وجل ومنه ما ليسن كذلك.
ـ أما إذا كان الكلام ذكراً لله فإنه مكروه كما ذكره المؤلف يدل على ذلك ما ثبت في مسلم من حديث ابن عمر: (أن رجلاً سلم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فلم يردّ عليه) ، وفي ابن ماجة بإسناد ضعيف: (فتيمم ثم ردّ عليه) (2).
وقد ثبت في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح من حديث المهاجر ابن قُنفُذة ـ رضي الله عنه ـ ( أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فسلم عليه فلم يردّ عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) (3).
فهذه الأحاديث تدل على كراهية ذكر الله ، والسلام من ذكر الله.
فإذن: يكره أن يذكر الله ومن ذلك السلام ، فإن الله هو السلام ومنه السلام.
ـ فإن قيل: فإذا عطس أو سمع الأذان فماذا يفعل ؟؟
فالجواب: أن في ذلك قولين لأهل العلم ـ هما روايتان عن الإمام أحمد.
1ـ القول الأول: أنه يذكر الله في قلبه وهو ضعيف ، فإن الذكر القلبي فاقد للذكر اللساني، وإنما يحمد العاطس الله ، ويجيب المؤذن بلسانه والقلب وهذا لم يذكر الله بلسانه.(33/110)
2ـ القول الثاني: أنه يذكر الله مخافته ، كقراءته في الصلاة ، بمعنى: يذكر الله بقلبه وبلسانه لكنه لا يرفع صوته بالذكر.
وهذا هو إختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا قول قوي.
ـ وأقوى منه أن يقال: له أن يذكر الله بعد خروجه من الخلاء ، فإذا خرج حمد الله وأجاب المؤذن ويدل عليه حديث أبي داود المتقدم فإنه: أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه) (1).
إذن: ردّ عليه النبي عليه السلام بعد أن توضأ ، فدل ذلك على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يجبه لا في قلبه ولا مخافتة ، وإنما أجابه بعد ذلك.
فكذلك إجابة المؤذن وحمد العاطس الله مثل رد السلام: بل ردّ السلام أعظم من ذلك فإنه واجب بخلاف حمد العاطس الله ، وإجابة المؤذن فإنهما سنتان ، فهذا القول هو الظاهر.
ـ أما الكلام بشيء آخر غير ذكر الله عز وجل فلا يثبت حديث عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهي عنه.
وأما ما روى أبو داود من حديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير إلى أبي سعيد الخدري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك) (2).
فالحديث رواه عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير موصولاً ورواه الأوزاعي وغيره عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً ، وهو الراجح كما قال ذلك أبو حاتم.
ورواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير فيها ضعف.
وقد رواه مرسلاً بغير ذكر الصحابي ، فعلى ذلك الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
وفيه ذكر كشف العورة وهي محرمة ، فالحديث لا يدل على كراهية الحديث أبداً.
ولكن مع ذلك فإنه غير لائق من غير أن يكون ذلك مكروها في الشريعة.
أما إذا احتاج إليه فلا شك أنه لا يكون فيه كراهية.
إذن: مجرد الكلام الذي ليس فيه ذكر الله لا حرج فيه مطلقاً إلا أن تركه أولى مروءة لا شرعاً.(33/111)
ولكن مع ذلك لا يكره ـ وإذا احتاج إليه فيزول المنع منه مطلقاً.
* قوله: (( وبوله في شق ونحوه )):
الشق: هو المستدير.
وقوله: (ونحوه): كأن يكون ذلك من سرب وهو ما يكون منه الدواب وهو المستطيل.
وذكر بعض أهل التاريخ أن سعد بن عبادة بال في جحر فخرّ ميتاً فسمعوا قائلاً يقول:
نحن قتلنا سيد ال……خزرج سعد بن عبادة
رميناه بسهمين……فلم يخطىء فؤاده
وهؤلاء ـ على هذه الرواية ـ الجِنّ.
لكن هذه الرواية ضعيفة لا تصح.
ـ مستنده من كره ذلك ، حديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد صحيح ـ كما قال ذلك النووي من حديث قتادة عن عبد الله بن سَرْجِس أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى أن يبول الرجل في الجحر) (1) فقيل لعبادة: ما يكره من البول في الجحر ، فقال: أنها مساكن الجن.
وقد ذكر حرب عن أحمد أن قتادة لم يسمع من عبد الله بن سرجس ، فعلى ذلك يكون الحديث منقطع الإسناد.
وقد أثبت سماع قتادة من عبد الله بن سرجس ، علي ابن المديني ، ومن علم حجة على من لم يعلم.
فعلى ذلك قد ثبت سماعه كما ذكر ذلك ابن المديني وإنكار الإمام أحمد لذلك ، يكون بناءاً على علمه وقد صححه ابن خزيمة وابن السكن ، فالحديث إسناده صحيح.
وكراهية ذلك متفق عليها عند أهل العلم ـ كما حكى ذلك النووي.
* قوله: (( وَمَسّ فرجه بيمينه )):
هذا كذلك من المكروهات باتفاق العلماء ، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ، ولا يتمسَّح من الخَلاء بيمينه ولا يتنفَّس في الإناء) (2).
والشاهد قوله: (لا يمسَّن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول).
ـ لكن المؤلف هنا قد أطلق فذكر أنه يكره أن يمس فرجه بيمينه ، فظاهره أنه يكره له ذلك مطلقاً سواء كان في حال بوله أو بعدها أو قبلها ، وإلى ذلك ذهب بعض أهل العلم.(33/112)
قالوا: إذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهى عن مس الذكر في حال البول مع كونه يحتاج إلى ذلك ، فأولى من ذلك إذا كان بعد البول مع عدم الحاجة.
ـ والأظهر أن يقال: إنما يكره ذلك ـ أي مس الفرج باليمين ـ عند البول فقط للتقييد الذي تقدم.
ـ وقد ذكر شارح "المقنع" (إبن مفلح) ذكر أن هذا هو ظاهر الحديث ، وحكى عن بعض أهل العلم أن صاحب "المقنع" إنما ترك ذلك ـ أي إنما ترك التقييد بقوله (وهو يبول) ، إنما ترك ذلك لوضوحه ـ وهكذا يقال في مختصره مؤلف الكتاب فإنه ترك ذلك لوضوحه.
ـ والذي يدل على صحة ذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما هو بضعة منك) (1) ، كما في حديث طلق بن علي وهو حديث حسن.
فعلى ذلك مس الذكر باليمين لا كراهية فيه إلا إذا كان في حال البول.
ـ وذهب الظاهرية إلى تحريمه ، وجمهور الفقهاء على كراهيته.
إذن: يكره له أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول ، أما إن لم يكن في حال البول فإنه لا حرج في ذلك لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما هو بضعة منك).
* قوله: (( واستجازه واستجماره بها )): أي باليمين.
فيكره له أن يستنجى أو يستجمر بيمينه ، ويدل عليه الحديث المتقدم من حديث أبي قتادة: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) وبذلك قال جمهور الفقهاء ، فكرهوا أن يستنجى بيمينه.
فإذن: يكره أن يمس ذكره بيمينه وهو يبول ، وكذلك يكره أن يستنجى بيمينه.
ـ وفي قوله: (ومس فرجه) عموم ، فيدخل فيه القبل والدبر فكل ذلك مكروه.
* قوله: (( واستقبال النيرين )):
وهما الشمس والقمر ـ أي يكره إستقبال الشمس أو القمر عند قضاء الحاجة.
والدليل على ذلك:
قالوا: أن فيهما نور الله الذي يستضيء به الخلق.
فنقول: لازمه أيضاً أن ينهى كذلك عن استقبال النجوم ، فحينئذ: لا يجوز له أن يقضي حاجته إلا في بين خلاء ، أو ما هو أضيق من ذلك في الليل ، لكونها فيها نور الله الذي تستهدي به العباد ، وهي علة ضعيفة.(33/113)
ـ وقالوا: فيها أسماء الله مكتوبة عليها.
والجواب: أنه لا دليل على ذلك ، كيف والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأهل المدينة: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ، ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) (1) قال ابن القيم: (ليس لهذه المسألة أصل).
أما ما رواه الحكيم الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن ذلك) فقال فيه النووي: باطل لا أصل له ، وهو كما قال ، فلا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الباب شيء.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثالث عشر: الثلاثاء 24/10/1414هـ.
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (( ويحرم إستقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان )):
يحرم على المسلم أن يستقبل القبلة أو يستدبرها بغائط أو بول ويستثنى من ذلك: البنيان ، فإذا كان في كنيف أو مرحاض أو نحو ذلك من البيوت المبنية فإنه لا يحرم ذلك هذا هو مذهب جمهور الفقهاء.
واستدلوا ـ أولاً ـ على تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند الغائط والبول ـ بحديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا)).
وبما ثبت في مسلم عن سلمان الفارسي قال: (نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) (2) ونحوه من حديث أبي هريرة في مسلم.
فهذه الأحاديث تدل على تحريم إستقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول.
ـ أما استثناء البنيان: فدليله ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: (رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حاجته يبول مستقبل الشام مستدبر الكعبة) (3).(33/114)
وقد كان في بنيان ، كما في رواية ابن خزيمة (محجوباً بلبن) (1) وروى الحكيم الترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح: أنه كان في كنيف ، وهذا هو المعهود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنه كان يستتر غاية الإستتار ، فكان ما وقع من رواية ابن عمر كان ذلك في بنيان.
ـ وقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد جيد ، وهو من حديث محمد بن إسحاق وهو مدلس لكنه صرح بالتحديث في بعض روايات هذا الحديث ، عن جابر قال: (نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستقبل القبلة أو نستدبرها بفروجنا إذا نحن أهرقنا الماء ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة) (2) ، والحديث اسناده جيد ، وقد حسنه الترمذي ، وصححه البخاري وابن خزيمة والحاكم وابن السكن فالحديث حسن وهو حجة.
قالوا: فهذان الحديثان يدلان على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قضى حاجته مستقبل القبلة ومستدبرها وذلك إنما كان في البنيان.
ـ وقد روى مروان بن الأصفر عن ابن عمر: (أنه أناخ راحلته قِبَل الكعبة فجعل يبول ، فقيل له: أليس قد نُهِيَ عن ذلك ؟ فقال: إنما نهي عن ذلك إذا كنت في فضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء فلا بأس) (3) رواه أبو داود.
فهذه أدلة الجمهور في أن قضاء الحاجة قِبَل القبلة أو استدبارها محرم في غير البنيان أي في الفضاء ، أما في البنيان أو إذا كان بينه وبين القبلة شيء ساتر كراحلة أو مركبة ، فإنه لا حرج في ذلك ولا بأس ، وهذا هو إختيار الإمام البخاري كما في صحيحه.
ـ وعن الإمام أحمد رواية أخرى ـ وذهب إليها بعض الفقهاء أن ذلك جائز مطلقاً في البنيان وغير البنيان.
ودليل ذلك حديث ابن عمر وأنه يدل على النسخ.
لكن هذا القول قول ضعيف ؛ لأن القول بالنسخ صعب فلا يقال بالنسخ إلا مع عدم إمكان الجمع.(33/115)
وقد تقدم كيف أن الجمهور قد جمعوا ، وسيأتي كذلك موقف أهل القول الآخر من هذا الحديث فهذا القول هو أضعف الأقوال ، وهو مروي عن الإمام أحمد وذهب إليه داود الظاهري.
ـ والقول الآخر: وهو كذلك رواية عن الإمام أحمد وذهب إليه بعض الفقهاء جواز استدبار الكعبة دون استقبالها.
وهؤلاء قد أخذوا بحديث ابن عمر في رؤيته النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مستدبر الكعبة ، ولم يأخذوا بحديث جابر لكونهم يضعفونه ، ولكن تقدم تصحيح هذا الحديث.
ـ والقول الرابع: ذهب إليه أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ذهبوا إلى أن ذلك محرم على الإطلاق ـ أي في البنيان وغيره ـ.
واستدلوا: بعمومات الأحاديث التي تقدم ذكرها كحديث أبي أيوب وأبي هريرة وسلمان رضي الله عنهم ، فهي أحاديث عامة في البنيان وغيره.
وهذا هو قول أبي أيوب الأنصاري ، فقد قال بعد ما روى الحديث: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة فننحرف ونستغفر الله) (1).
فهذا هو مذهب أبي أيوب الأنصاري ، فعلى ذلك مذهب ابن عمر مخالف لقول أبي أيوب.
ـ وما هو جوابهم على الأحاديث الفعلية المتقدمة ؟؟
قالوا: أما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رؤية ابن عمر له ورؤية جابر فإن هذا الفعل الذي فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يحكي حاله تلك فإن الفعل لا عموم له ولا صفة له وإنما هو حكاية حال فقط. لذا يحتمل فيه الخصوصية والنسيان وغير ذلك.(33/116)
وإن كان على القول الصحيح أن احتمال الخصوصية هنا ضعيف ؛ لأن الأصل عدمها وكذلك النسيان فإن الأصل عدمه ، هذا في معارضة الفعل القول ، فإنه: يجب الجمع بين أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقواله ـ هذا في الأصل ـ أما هنا ـ في هذه المسألة ـ فإن أفعال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالتي تقدم ذكرها قد حدثت منه في غير محل التشريع وليست أفعالاً ظاهرة أمام أصحابه وإنما فعلها في محل لا يظن أنه يرى فيه، فهو ليس محل تشريع والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجوز عليه النسيان في غير الشريعة وكذلك يجوز عليه الخطأ في غير الشريعة.
فهو إنما يقضي حاجته مختفياً عن الناس حتى لا يراه أحد وكون هديه الصحابيين أطلعا عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك في غير محل التشريع ، بخلاف الفعل الذي يكون ظاهراً ، وقد قال تعالى: (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) (1).
أما هذا الفعل فليس في محل التشريع لعدم ظهوره ، ولما عرف من حاله من قضائه حاجته في غاية الإستتار والبعد عن الناس.
ـ ويدل على صحة هذا القول وأن هذه أفعال من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غير محل التشريع وأنها قد حدثت منه نسياناً ، أن الفارق بين البنيان وغيره ـ في هذه المسألة ـ غير معتبر ذلك لأن النهي إنما هو لإكرام القبلة ، ومعلوم أن الرجل عندما يقضي حاجته في فضاء ، فإن بينه وبين القبلة جبالاً وأشجاراً وغيرها مما تكون حائلة بينه وبين القبلة ، وكونه يقضي حاجته مستقبلاً القبلة في البنيان لا فرق ـ في الحقيقة ـ بين ذلك وبين قضائه في الفضاء الواسع ، ولكن بينه وبين القبلة ولابد حوائل تمنع عيانه للكعبة.(33/117)
ـ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما روى ذلك أبو داود وابن خزيمة وصححه والحديث صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه) (1) ، فإذا كان هذا في التفل تجاه القبلة فأولى منه في الغائط والبول ، ولم يفرق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين بنيان وغيره بل أطلق ذلك في هذا الحديث.
وفي حديث: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) (2).
فهذا القول هو القول الراجح ، وهو إختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وهو قول ابن العربي من المالكية وأبي ثور من الشافعية وذهب إليه من الحنابلة أبو بكر ابن عبد العزيز وذهب إليه الشيخ محمد بن إبراهيم من المتأخرين وهذا هو القول الراجح فإن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتقدم ، فعل ليس في محل التشريع.
والتفريق بين البنيان وغيره غير منظور إليه هنا ؛ لأن المقصود إنما هو إكرام القبلة والبول في البنيان يترتب عليه عدم إكرامها كترتبه في غير بنيان.
فإنه إذا قضى حاجته في الفضاء فإنه لابد أن يكون بينه وبين القبلة حوائل كثيرة من جبال ونحوها ، فحينئذ لا فرق بين ذلك وبين البنيان.
ـ وفي قوله النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) دليل لما ذهب إليه بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا يكفي الإنحراف اليسير خلافاً للمشهور عند الحنابلة من أنه يكفي الإنحراف اليسير.
والراجح عدم الإعتبار به ، وأنه لابد وأن يشرق أو يغرب ، فلا يكفي أن ينحرف يسيراً.
ويقاس كذلك على الصلاة فإن الرجل إذا انحرف عن القبلة شيئاً يسيراً فذلك لا يبطل صلاته ، أما إذا كان كثيراً فإنه يبطلها ، فإذا انحرف عن القبلة شيئاً يسيراً فذلك لا بأس به كما سيأتي وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) (3).(33/118)
والواجب أن يشرق أو يغرب ولا يكفي أن ننحرف شيئاً يسيراً.
ـ وظاهر المذهب: في مسألة جواز البول والغائط مستقبلاً القبلة أو مستدبرها في البنيان ـ ظاهر المذهب أنه لا فرق بين أن يدنوا من السترة أو يبعد عنها.
وهذا على القول المرجوح ، وإلا فالراجح ما تقدم من عدم الجواز مطلقاً.
ـ وهل يجوز الاستنجاء أو الإستجمار إلى القبلة ؟؟
1ـ المشهور في مذهب الحنابلة أن ذلك مكروه ، فيكره له أن يستنجي أو يستجمر قبل القبلة.
2ـ وقيل ـ أي في المذهب ـ أنه لا يكره.
3ـ وقال في "الإنصاف" ـ وهو من الحنابلة ـ: ( ويتوجه التحريم ).
وهذا أظهر ، فإن في إستنجائه واستجماره فيهما أعظم مما في التفل الذي تقدم تحريمه كما أنه قد يخرج منه شيء في حال إستنجائه أو استجماره ، فالأظهر أن ذلك محرم لا يجوز.
* قوله: (( ولبثه فوق حاجته )):
أي لا يحل له أن يلبث فوق حاجته ، ودليل ذلك ما تقدم من النهي عن كشف العورة إلا لحاجة وأن ذلك محرم.
وقد تقدم ترجيح كراهية ذلك وأنه مكروه ليس بمحرم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الله أحق أن يستحي منه) (1).
فالأرجح أنه لا يحرم له كشف عورته ولكنه يكره إلا إذا كان هناك ناظر فإنه يحرم عليه كما تقدم.
وقالوا: إنه يورث بعض المرض.
والجواب على هذا: أنه إن ثبت ذلك فنعم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، ومرجع ذلك إلى الطب ، فإن ثبت في ذلك ضرر فإنه يحرم.
إذن: الراجح في هذه المسألة الكراهية لكونه كشف عورته من غير حاجة ، وأما التحريم فلا ، إلا إن ثبت ضرر طبي في ذلك فإنه يحرم لذلك.
* قوله: (( وبوله في ظل نافع وتحت شجرة عليها ثمرة )):
لقوله صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسلم: (اتقوا اللاعنين ، قالوا: وما اللاعنان، قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) (2).(33/119)
فهذا الحديث يدل على تحريم التخلي في طريق الناس أو ظلهم والمراد بالطريق: قارعة الطريق التي يطرقها الناس ويطؤونها بأقدامهم ، أما الطرق المهجورة فليس لها ذلك الحكم.
ـ كما أن المراد بالظل ، الظل الذي ينتفع به في الإستظلال وإلا فقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقضي حاجته في جانبي النخل وهو ذو ظل ، ولكنه ظل لا يحتاج إليه ولا ينتفع به.
إذن: المحرم إنما هو الظل الذي ننتفع به ، ومثل ذلك المجلس المشمس فكل مجلس ينتفع به لا يحل قضاء الحاجة فيه.
ـ وقد روى أبو داود ـ والحديث حسن ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد ـ أي التي يرد إليها الناس للشرب والسقي ـ وقارعة الطريق والظل) (1) والحديث حسن لشواهده.
وأما قوله: (وتحت شجرة عليها ثمرة): فذلك لاحتياج الناس إلى هذه الثمرة فقد يحتاج الرجل إلى صعودها ، وقد تسقط الثمرة فتتنجس بالنجاسة فيحرم ذلك.
فإذن: هذا من باب المعنى ، وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) وقال تعالى ((والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا)) (2).
وقد ورد هذا عند الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن قضاء الحاجة تحت شجرة فيها ثمرة) (3) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً ، ولكن دليله ما تقدم من ثبوت الضرر في ذلك والأذية.
وقد ثبت عند الطبراني في "الكبير" بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (من آذى المسلمين في طرقهم فقد وجبت عليه لعنتهم) (4).
فالملاعن لكونها تسبب لعنة من الناس ولكونها تسبب قبول الله اللعنة من الناس.
(مسألة):
حكم إستقبال بيت المقدس واستدباره في البول أو الغائط. هل يحرم ذلك أم لا ؟؟(33/120)
روى أبو داود في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن إستقبال بيت المقدس بغائط أو بول) ، فالحديث فيه راو مجهول ، فعلى ذلك الحديث ضعيف ، فلا يكره ولا يحرم فعل ذلك وهو أحد القولين ، وهو مذهب المالكية ، وقال الشافعية يكره.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الرابع عشر: السبت 28/10/1414هـ
قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (( ويستجمر بحجر ثم يستنجى بالماء )):
أي يجمع بين الإستجمار بالحجارة ونحوها وبين الاستنجاء بالماء وهذه إحدى صور إزالة الخبث وهي أفضلها بإجماع أهل العلم كما حكى ذلك العيني.
فقد اتفق أهل العلم بل أجمعوا على أن هذه الصفة هي أفضل الصفات ؛ وذلك لأنها تجمع بين إزالة النجس عيناً بالحجارة وبين إزالته أثراً بالماء ، فإن الحجارة إنما تزيل عين النجاسة ولا تزيل أثرها.
أما الاستنجاء بالماء فإنه يزيل النجاسة عيناً وأثراً ، لكن ذلك يكون بإصابة اليد للخبث ، فإذا اجتمعا ـ أي الإستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء ، كانت هي الصفة الفضلى.
وهناك أدلة يستدل بها الفقهاء على هذه الصورة سوى الدليل المتقدم وهو تعليل.
ـ منها ما روى عن سعيد بن منصور ـ كما في المغني ـ عن عائشة قالت: (مُرْن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة بالماء من أثر الغائط والبول ، فإني أستحييتهم ، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله) (1) واحتج به الإمام أحمد.
ولكن سُنَنْ سعيد بن منصور ليست كلها مطبوعة ، بل ولا كلها موجودة ، فمنها ما هو مفقود ، ومما هو مفقود جزء الطهارة ، وهذا الحديث ثابت في سنن الترمذي والنسائي ومسند أحمد بإسناد صحيح من غير ذكر الحجارة ، إنما فيه: (مُرْن أزواجكن أن سيتطيبوا ـ أي يستنجوا ـ بالماء ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفعله) (2).
فهذا الحديث ليس فيه ذكر الجمع بينهما ، وإنما ذكر الاستنجاء بالماء دون ذكر الإستجمار بالحجارة.(33/121)
ـ ومنها: ما رواه البزار بإسناد ضعيف جداً ، نزلت: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)) ، نزلت في طائفة من الأنصار كانوا يتبعون الحجارة بالماء).
والحديث إسناده ضعيف جداً.
ـ وفي الخمسة إلا النسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ( أنها نزلت ـ أي آية ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا)) في أهل قباء كانوا يستنجون بالماء) (1) إسناده صحيح.
فإذن: نزلت في أهل قباء لكونهم يتطهرون بالاستنجاء بالماء وليس فيه إضافة الإستجمار بالحجارة . وهذا الحديث إسناده صحيح.
إذن: عندنا الإجماع لذلك المعنى المتقدم ، وهو أنه يجمع بين ألا تمس يده القذر وبين أن يزول أثر النجاسة فلا يبقى للنجاسة عين ولا أثر ، هذه هي الصورة الفضلى باتفاق أهل العلم بل حكى إجماعاً.
ـ ثم بعد ذلك الصورة الثانية: وهي الاستنجاء بالماء وهي أفضل من الإستجمار بالحجارة باتفاق أهل العلم.
ـ وقد كرهه ـ أي الإستجمار بالماء ـ طائفة من الصحابة والتابعين لكن السنة حجة عليهم.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجى بالماء) (2).
وقد تقدم حديث عائشة وحديث أبي هريرة في نزول الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) وهذه الصورة فيها إزالة الأثر والعين جميعاً.
وقد قال الترمذي: (والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون الاستنجاء بالماء وإن كان الإستجمار يجزئ ، واستحبوا الاستنجاء بالماء ورأوه أفضل).
إذن: هذه الصورة العمل عليها عند أهل العلم على جوازها وعلى استحبابها بل على تفضيلها على الإستجمار بالحجارة.
ـ الصورة الثالثة: هي الإكتفاء بالحجارة ونحوها ، وهذه الصورة ثابته صحيحه من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوله ، وسيأتي أدلة ذلك عند ذكر بعض المسائل ـ إن شاء الله ـ. وقد أجمع أهل العلم على جوازها.(33/122)
إذن: هذه الصورة كلها جائزة ، وأفضلها أن تجمع بين الإستجمار بالحجارة والاستنجاء بالماء ثم بعد ذلك الإستجمار بالحجارة ، وهذه الصور كلها جائزة وإن كان الإستجمار بالحجارة لا يزيل أثر النجاسة وإنما يزيل عينها ، وهذا معفو عنه في الشريعة ، أي بقاء أثرها معفو عنه في الشريعة.
* قوله: (( ويجزئه الإستجمار إن لم يتعد موضع العادة )):
إذن: تقدم أن الإستجمار يجزئ لكن بقيد ، وهو ألا يتعدى ـ أي لا يتجاوز ذلك موضع العادة.
فإذا تجاوز موضع العادة ـ أي موضع الأذى ـ فإنه لا يجزئه أن يكتفي بالإستجمار بالحجارة ، بل لا بد أن يغسل هذا الزائد بالماء ؛ لأن هذا الزائد قد تعدى موضع العادة ، كأن يصيب ما حول قبله أو دبره شيئاً من النجاسة ، فلا يجزئه الإستجمار بل لابد أنه يستنجى بالماء ، وذلك: لأن الشارع إنما عفى عن بقاء الأثر ما دام في موضع العادة.
فإذا تعدى موضع العادة فإنه لابد من الاستنجاء بالماء إذ لا مشقة في ذلك ، هذا هو المشهور في المذهب.
ـ وذهب بعض أهل العلم من الحنابلة ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ إلى أنه يجزئه الإستجمار بالحجارة وإن تعدى ذلك موضع العادة ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إجازته الإستجمار بالحجارة لم يقيد ذلك.
والأظهر القول الأول لقوة دليله.
أما كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقيد ذلك ، فإن ذلك بناءاً على الأصل فإن الأصل بقاؤه في موضع العادة ، وأما كونه يتعدى ذلك فله حكم آخر وهو اشتراط إزالته إزالة تامة حقيقية ـ أي عينه وأثره ـ وهذا هو الراجح.
* قوله: (( ويشترط للإستجمار بأحجار ونحوها أن يكون طاهراً منقياً غير عظم وروث وطعام ومحترم ومتصل بحيوان ، ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر ولو بحجر ذي شعب )):
هذه شروط ما يستنجى به.(33/123)
إذن: يجوز أن يستنجى بغير الحجارة ، فليس الإستجمار خاصاً بالأحجار ، فلوا استجمر بما يزيل الأذى عيناً أي جرماً وإن لم يزله أثراً كالأوراق في الجريد ونحوها فإنه يجوز ذلك ، وظاهر المذهب أنه يجزئ ، وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة ، بل هو مذهب أكثر أهل العلم.
ـ وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أنه لا يجزئ إلا الحجارة ؛ لأن الشارع خصص الحكم بذلك فلم تجزئ غيرها.
والراجح هو مذهب جمهور أهل العلم ؛ لأن هذا من باب القياس ، بل الأدلة الشرعية فيها إشارة إلى جوازه ، فمن ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( نهى أن يستنجى برجيع أو عظم ) (1).
فإذا: استثنى ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن ذلك يدل على أن سواه جائز ولو لم يكن سوى الحجر جائزاً لما احتاج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن يستثنيه ، ونحوه ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (سئل عن الإستطابة ـ أي الاستنجاء ، وسميت بذلك ؛ لأنها تطيب البدن بإزالة الخبث عنه ـ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع) (2).
فهنا استثنى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجيع ، وذلك لأن غيره جائز.
فإذن: الراجح هو ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو الذي يدل عليه المعنى ، فإن الشريعة قد أتت بالقياس الصحيح من إلحاق الشيء بنظيره ، فإذا ثبت في شيء من الأشياء ما ثبت في الحجر من إزالة النجاسة عيناً وجرماً فإنه يصح ذلك وهذا هو مذهب جمهور العلماء.(33/124)
قوله: (( أن يكون طاهراً)): إذن: النجس لا يحل أن يستنجى به ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين ـ وهو دليل على جواز الإستجمار ـ عن ابن مسعود قال: (أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الغائط فأخبرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده ، فوجدت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الروثة ، وقال: هذا ركس) ، وفي رواية ابن ماجة: (هذا رجس) وفي الترمذي: (يعنى نجساً) (1).
وقال النسائي: (ركس أي طعام الجنّ) واستغربه الحافظ ابن حجر وهو كما قال: فإن لفظة: (ركس) معناها نجس ، والأصل النجس أن يكون نجساً حسياً ، ما لم يدل دليل على نقله عن ذلك.
وهذا يدل على أنه لابد أن يكون طاهراً ليس بنجس.
وقوله: (( منقية)): فإن كان فيه رطوبة أو كان أملساً أو نحو ذلك كالزجاج أو حجر أملس أو أن يكون منه رطوبة لا يزيل الخبث فإنه لا يجزئه أن يستجمر به.
وقوله: (( غير عظم وروث)): فالعظم والروث لا يجوز له أن يستجمر بهما.
ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن سلمان قال: (لقد نهانا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نستنجى باليمين أو أن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستجمر برجيع أو عظم) (2).
وثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال للجنّ: ( لكم كل عظم ذكر إسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً ، وكل بعرة ـ أي روثه ـ علفت لدوابكم ، ثم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم).
وفي حديث رُوَيْفَع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (أخبر الناس) الحديث ، وفيه: (وأن من استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً برئ منه) (3) والحديث رواه أبو داود وغيره.
فهذه الأحاديث تدل على تحريم الاستنجاء بالعظم والروث.
ـ فإذا استجمر بعظم أو روث فهل يجزئه ذلك ؟؟
المشهور في مذهب الحنابلة أنه لا يجزئه ذلك.(33/125)
واستدلوا بما روى الدارقطني ، وقال: إسناده صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نهى عن الإستجمار بالرجيع أو العظم ، وقال: ( إنهما لا يطهران) (1) وأعله ابن عدي.
ـ وذهب شيخ الإسلام إلى ثبوت الإجزاء لهذا الفعل وإن كان الفعل محرماً ؛ لأن الخبث قد زال ، والمقصود من النجاسة إزالتها فبأي طريق زالت فإن حكمها يذهب والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فمادام أن النجاسة قد ذهبت وإن كان باستعمال ما يحرم عليه استعماله فإنه يجزئه ذلك وهذا قول قوي.
قال الزركشي: (وهذا جيد لولا حديث الدارقطني).
والذي يظهر قول شيخ الإسلام.
وأما الحديث فإنه يحمل على الغالب في العظم والروث.
فالغالب فيهما أنهما لا يطهران ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك بناءاً على الغالب بينهما (هذا على التسليم بصحة إسناده).
وأما إذا ثبت أنهما يطهران ويزيلان النجس فلا موجب لعدم الإجزاء.
فإذن: يحرم عليه ذلك لكنه يجزئه إن فعله على الإثم ، أما إذا فعله ناسياً أو جاهلاً فإنه يرفع عنه الإثم مع ثبوت الأجزاء له.
وقوله: (( وطعام )): وهذا من باب القياس ، قالوا: فإذا كان طعام الجنّ ودوابهم يحرم الاستنجاء به ، فأولى منه طعام الإنس ، وطعام دوابهم فهو أولى منه بهذا الحكم.
وقوله: (( ومحترم )): مثل كتب العلم ، فإذا كان الشيء محترماً فلا يجوز الاستنجاء به ، وهذا من تعظيم شعائر الله: (( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)) (2) والإستجمار بها إهانة لها ، وهذه الإهانة محرمة ، فلا يجوز إهانة ما يجب إحترامه.
وقوله: (( ومتصل بحيوان )): قالوا: لو أن رجلا استنجى بصوف أو شيء من بدن حيوان ، قالوا: فإن ذلك محرم ، هذا هو المشهور في المذهب ، وأن الإستجمار بشيء متصل بالحيوان محرم ، وهذا هو مذهب الشافعية.
ـ وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا بأس في ذلك.
ولم يتبين لي دليل على تحريم ذلك.(33/126)
فالأقوى هو القول بحله ، كيف والرجل يستنجى بيده اليسرى وهي عضو متصل به فأولى منه أن يستنجى بمتصل بحيوان ، والله أعلم.
وقوله: (( ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر ولو بحجر ذي شعب )):
يشترط أن يكون استنجاؤه بثلاث مسحات فإن كان بمسحتين أو يمسحه فلا يجزئه.
ـ ويشترط أن يكون بثلاثة أحجار ، لما تقدم من حديث سلمان وفيه: (وأن يستنجى بأقل من ثلاث أحجار): وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية ، وهذا الذي يدل عليه هذا الحديث.
وكذلك يدل عليه ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من ذهب إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئه) (1) ، ومفهومه أنها إن قلت فإنها لا تجزئه.
ـ وذهب المالكية إلى جواز ذلك ـ أي أن تقل عن ثلاثة أحجار ـ إذا أنقت ـ فإذا أنقت ولو كان ذلك حجراً واحداً فإنها تجزئه.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استجمر فليوتر) (2) ، والوتر يطلق على الواحد.
وكذلك بما ثبت في البخاري من حديث ابن مسعود في اتيانه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحجرين وليس فيه إعادته ليأتيه حجر آخر.
ـ والإستدلال بهذين الحديثين على هذه المسألة ضعيف.
أما الحديث الأول: فإن لفظة الوتر مطلقة هنا ، وقد أتانا حديث سلمان فقيده بإيجاب ثلاثة أحجار فموجب أن نقيده بثلاث.
ـ وأما حديث ابن مسعود ، فهو وإن لم يأته بحجر ثالث لكن الأمر مازال متعلقاً بذمته ، فقد أمره أن يأتيه بثلاثة أحجار فمازال الأمر متعلقاً بذمته.
وكونه لم يأت بها فهو لايزال مطالباً بإحضار ثالثة ثم إن قوله: (فالتمست الثالث فلم أجده): فيه أنه لم يجد ذلك ، فهو إن لم يجد ذلك ، فإنه يكون معذوراً والراجح هو القول بوجوب الإستجمار ثلاثة أحجار فأكثر وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
ـ وهل يشترط أن يكون كل حجر يعم المحل كله ؟؟(33/127)
ظاهر الحديث أنه لا يشترط ذلك مطلقاً ، بل يستنجى بثلاثة أحجار لكل حجر جزءاً من المحل ، فظاهر الحديث أنه لا يشترط أن يعمم المحل لكل حجر وهو قول في مذهب الحنابلة.
ـ والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يعمم المحل بكل حجر وقد تقدم أن ظاهر الحديث إطلاق ذلك.
وقد روى الدارقطني ، وقال: إسناده حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجرين للصفحتين وحجرة للمَسْرَبَة) وهي محل الأذى.
لكن الحديث فيه أُبيِّ(1) بن العباس وهو ضعيف ، فالأرجح: أنه لا يشترط ذلك.
وقوله: (( ولو بحجر ذي شعب )): بمعنى: أتى بحجر ذي ثلاث شعب فإنه بجزئه ذلك ، فكل شعبة تقوم مقام حجرة وهذا قياس واضح صحيح.
وقال هنا: (ولو) إشارة إلى خلاف في المذهب فهناك رواية عن الإمام أحمد أنه لا يجزئ ذلك بل لابد من ثلاثة أحجار لظاهر الحديث المتقدم.
والأظهر هو القول الأول لأن هذه الحجارة التي هي ذات ثلاث شعب بمقام ثلاثة أحجار فإنها تجزئه على الراجح.
* قوله: (( ويسن قطعه على وتر )):
لقوله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتقدم: (ومن استجمر فليوتر).
* قوله: (( ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح )):
يجب الاستنجاء لكل خارج عيني إلا الريح ، قال الإمام أحمد: (الاستنجاء من الريح ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة وإنما فيه الوضوء).
فليس من الريح إستنجاء ، وإنما الاستنجاء من البول أو الغائط أو نحوهما مما قد يخرج من أحد السبيلين ، وأما الريح فليس فيه استنجاء ، وليس للإستنجاء به أصل في الكتاب والسنة.
وأما ما رواه الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من استنجى من الريح فليس منا) (2) ، فالحديث اسناده ضعيف جداً.
* قوله: (( ولا يصح قبله وضوء ولا تيمم )):
هذه المسألة: فيها أنه لا يصح للشخص أن يتوضأ أو يتيمم ثم يستنجى.
__________
(1) بفتح الهمزة وتشديد الباء مع الكسرة : (( أَبِّي )).(33/128)
ـ فإن قيل: هذه مسألة متكررة ، فَلِمَا ذَكَرَهَا المؤلف ؟؟فالجواب: أنه يقع مثل هذا، بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى صحته مع وجوده.
ـ فلوا أن رجلاً توضأ أو تيمم ثم بعد ذلك استنجى وأزال الخبث ، فهل تجزئه ذلك؟؟
المشهور في المذهب أنه لا يجزئه ، واستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أصابه المذي: (يغسل ذكره ويتوضأ) (1) رواه مسلم.
وفي رواية النسائي: (ثم يتوضأ) لكن هذه اللفظة اسنادها ضعيف منقطع.
ـ فإن قيل: ألا يستدل بالرواية المتقدمة.
فالجواب: لا يستدل بها ، لأن لفظة (الواو) لا تفيد إلا الإشتراك: (يغسل ذكره ويتوضأ).
بل قد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (توضأ وانضح فرجك) فقدم الوضوء هنا.
ـ فإن قيل: المشهور من فعله صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يستنجى ثم يتوضأ؟
فالجواب: قالوا: هذا فعل ، والفعل لا يدل على الوجوب.
ـ وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو الراجح ، فلو أنه استنجى بعد وضوئه أو تيممه لكان وضوؤه صحيحاً وعلى ذلك: إن هذا الفعل منه لا يعدو ، إلا أن يكون إزالة للخبث، وإزالة الخبث ليست من شروط صحة الوضوء ، فلو أن رجلا أصاب شيء من بدنه نجاسة في غير محل الأذى فتوضأ ثم قام بإزالته فوضوؤه صحيح.
فالمسألة لا تعدو إلا أن تكون إزالة أذى أما كونه يمس ذكره أولا ، فهذه مسألة أخرى سيأتي تكريرها في بابها إن شاء الله ؛ لأنه لا يشترط أن يكون مس ذكره فقد يكون استنجى بحجر أو خرقة أو نحوها.
وهذا القول هو الراجح لعدم الدليل المانع منه ، وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن أصابه المذي: (توضأ واغسل ذكرك) (2).
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الخامس عشر (الأحد) التاريخ 29/10/1414هـ.
باب: السواك وسنن الوضوء:(33/129)
السواك: هو العود الذي يدلك في الفم ويحرك فيه ليطهره ويطلق أيضاً على الفعل أي الدَّلك والتحريك ويسمى سواكاً فيطلق على الأداة التي يستاك بها ، ويطلق على التسوك فكلاهما سواك.
وهو من التحرك والاضطراب ، يقال: جاءت الإبل بساوك هزلاً: إذا اضطربت أعناقها من هزالها أي من ضعفها.
ـ أما الوُضوء: فهو بالضم ، الفعل ، وبالفتح: الماء المتوضىء به وهذا في لغة العرب: النظافة والحسن ، يقال: وجه وضيء: أي حسن نظيف.
أما اصطلاحاً: فهو غسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
ـ قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (( السواك بعود لين منق غير مضرٍ لا يتفتت لا بأصبع أو خرقة ، مسنون )):
فالسواك مسنون بما يكون متصفاً بالشروط التي ذكرها المؤلف فهو مسنون باتفاق العلماء.
وهو أن يسوك بعود لين غير خشن يضر بلثته ، وليس كذلك بمضر ، ولا يتفتت وهو منقٍ مطهر منظف فما كان على هذه الصفة فإنه يسن أن يستاك به.
كعود الأراك والعرجون وعود الزيتون ونحو ذلك.
ـ قد ثبت في البخاري معلقاً مجزوماً به ووصله أحمد والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب).
ـ وأفضله كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم من بعض الحنابلة وبعض الشافعية وبعض المالكية ، أفضلة الأراك ، ويدل على ذلك:
ما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد من حديث ابن مسعود قال: (كنت أجتبي للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواكاً من أراك).
وثبت عند الطبراني وقال الهيثمي اسناده حسن في حديث وفد عبد القيس قال الراوي: فزودنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأراك نستاك به) فهذا أفضل أنواع الأعواد التي يستاك بها.
فإذن: السواك في كل عود منق لا يتفتت ولا يضر ، مشروع مستحب.
ـ أما إذا كان من الأعواد الضارة كعود الريحان ونحوه فإنه ليس بمشروع لكونه مضراً وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار).(33/130)
قوله: (( لا بأصبع أو خرقه )): هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الشافعية وأن السواك بالأصابع والخرق والمناديل ونحوها لا يجزئه ؛ لأن الثابت إنما هو السواك بعود ونحوه ؛ لأنه لا يحصل في السواك بالأصابع ما يحصل بالسواك بالأعواد من الإنقاء.
ـ وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ـ إلى أنه يجزئ ذلك ، واستدلوا:
بما روى البييهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (يجزئ من الساك الأصابع) لكن الحديث إسناده ضعيف وقد ضعفه البيهقي ، فالحديث ضعيف.
واستدلوا: بما رواه أحمد أن علي بن أبي طالب توضأ وفيه: أنه تمضمض وأدخل بعض أصابعه في فيه ، إلى أن قال: (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعل ذلك).
وفيه أنه أدخل أصابعه في فيه أي يستاك.
لكن الحديث فيه مختار بن نافع الكوفي وهو ضعيف. فعلى ذلك الحديث ضعيف.
ـ وصحح الموفق ـ رحمه الله ـ أنه يحصل له من الفضيلة والسنة بقدر ما يحصل له من الأنقاء وهذا قوي.
ـ وقال بعض الحنابلة: إنما يجزئ عنه إن لم يجد عوداً وهذا قوي. فإن لم يجد عوداً فإن مالا يدرك كله لا يترك كله.
فإنه إن لم يجد سواكا فإنه يستاك بأصبع أو نحوها ويحصل له من الثواب بقدر ما يحصل له من الإنقاء.
قوله: (( كل وقت )):
لعمومات الأدلة كما تقدم في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) ، وهذا عام في كل وقت ، وقد ثبت في البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أكثرت عليكم بالسواك) أي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر على أصحابه من الحث والترغيب في فعل السواك وهذا يدل على تأكيد استحبابه.
قوله: (( لغير صائم بعد الزوال )):
هذا هو المشهور في المذهب وأن السواك مكروه للصائم بعد الزوال فإنه لا يكره ، وهذا هو مذهب الشافعية.
واستدلوا:(33/131)
ـ بما روى البيهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) (1) قالوا: والعشي يكون من بعد زوال الشمس ، والحديث اسناده ضعيف.
ـ وأصح منه ثبوتاً ما في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـقال: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) (2).
قالوا: فإذا استاك بالعشي ـ وغالباً ما تطهر هذه الرائحة التي هي أطيب عند الله من ريح المسك ، غالباً ما تطهر بعد زوال الشمس ، فيكره السواك بعد الزوال لأنه سبب لإزالتها.
ـ وذهب أكثر أهل العلم وهو مذهب الأحناف والمالكية ورواية عن الإمام أحمد واختاره كثير من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، واستظهره في الفروع ، وقواه صاحب الشرح الكبير.
ورأوا أنه ليس بمكروه بل هو مستحب مشروع في كل وقت.
واستدلوا: بما روى أبو داود والترمذي وقال الحافظ إسناده صحيح عن عامر بن ربيعة قال: (رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مالا أحصي يستاك وهو صائم) (3).
لكن الحديث ليس إسناده بصحيح خلافاً لما قال الحافظ فإن فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف فالحديث إسناده ضعيف.
وأصح منه استدلالاً: استدلالهم بالعمومات الدالة على عموم فضل السواك من غير أن يستثنى من ذلك شيء ، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب) (4).
أما الجواب على أدلة أهل القول الأول:
ـ أما حديث: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي) فقد تقدم أن الحديث ضعيف.
ـ أما حديث: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).
فالجواب عنه: أن الحديث ليس فيه أنه لا يستاك وأنه يدع هذه الرائحة الكريهة ، وإنما فيه الترغيب بالصوم وأن هذه الرائحة الكريهة التي يكرهها المسلم أطيب عند الله من ريح المسك.(33/132)
وقد روى الطبراني بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن غنم قال: قلت لمعاذ بن جبل: أستاك وأنا صائم قال: نعم ، فقلت أي النهار ، فقال: غدوة وعشياً ، فقلت: إن الناس يكروهون الإستياك في العشي ، ويقولون: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فقال: سبحان الله (( وهي هنا للعجب)) إنما أَمَرَهُم بالسواك وليس بالذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً ، ليس في هذا من الخير شيء إنما إنما هو شيء).
ـ ثم إن هذه الرائحة إنما تخرج من المعدة ، وغاية السواك أن يطهر الفم ، فهو مطهر للفم، وأما هذه الرائحة فإنها مخرجها من الجوف على أن هذا ليس فيه إلا استحباب الصوم والترغيب فيه وأن الرائحة التي تخرج أطيب عند الله من ريح المسك وليس في الحديث الترغيب في تركها ، هذا هو القول الراجح.
قوله: (( متأكد عند صلاة وانتباه وتغير فم )):
والسواك مستحب مشروع لكنه يتأكد في مواضع فيكون السواك منها آكد استحباباً فمن ذلك:
(عند الصلاة): كما في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وفي الحديث الحسن لشواهده ، وقد جوده غير واحد من أهل العلم ، وقد رواه الحاكم وابن خزيمة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك ) (1).
وظاهر هذه الأحاديث أنه يتأكد استحبابه صلاة الفرض والنفل.
قوله: (وانتباه): أي الإنتباه من النوم سواء كان نوم ليل أو نوم نهار.
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم : كان إذا قام من الليل "أي من النوم" يشوص "أي يدلك" فاه بالسواك) (2).
قوله: (وتغير فم): أي تغير رائحة الفم إلى الكراهية سواء كان بسبب سكوت أو من طعام أو من شراب أو جوع ونحو ذلك لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب).(33/133)
فهذا الفم الذي أصيب بشيء من كراهية الرائحة بسبب جوع أو أكل أو نحوه يستحب له أن يدلكه بالسواك ليطهره.
ـ ويستحب ـ ولم يذكره المؤلف ـ عند دخول المنزل لما ثبت في مسلم عن عائشة: أنها سئلت بأي شيء كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبدأ إذا دخل المنزل قالت: بالسواك(1).
ـ وهل يقاس عليه دخول المسجد ؟.
صرح بذلك بعض الحنابلة ـ وأنه يستحب له ـ من باب القياس أن يستاك عند دخول المسجد.
وعللوا ذلك: بأن علة استحبابه عند دخول المنزل كون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي النافلة فيه ، فكذلك في المسجد فإنه سيدخل ويصلي فيه النافلة أو تحية المسجد أو الفريضة وفي هذا نظر ، فإن عائشة لم تستثن حالة عن حالة ولم يكن كل دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد صلاة يصلي نفلها ـ ثم إن هناك علة قوية ـ أقوى من هذه العلة فيما يظهر أو تنازعها في القوة ـ وهي أن يكون ذلك من حسن معاشرته عليه الصلاة والسلام لأهله كالتطيب ونحوه فيكون هذا من تطهير الفم ، وهي علة قوية.
فحينئذ لا يصح هذا القياس.
ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا فيما أعلم عن أحد من أصحابه الإستياك عند دخول المسجد.
ولكنه إذا استاك للصلاة فنعم ، فإنه حينئذ يدخل في عموم الحديث المتقدم (عند كل صلاة).
ـ وسيأتي تأكد استحبابه عند الوضوء.
ـ ويتأكد السواك عند قراءة القرآن ، لما روى البزار بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (طهروا أفواهكم للقرآن) (2) ، فيستحب له أن يطهر فمه لقراءة القرآن.
ـ وإن قيل: إنه يستحب لذكر الله والدعاء فهو حسن ، لقوله صلى الله عليه وسلم ـ (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر) ومن الطهارة السواك ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم).
قوله: (( ويستاك عرضاً مبتدئاً بجانبه الأيمن )):
هذه صفة الإستياك وكيفيته. وهي أن يستاك عرضاً(33/134)
ودليل ذلك ، ما رواه الطبراني أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يستاك عرضا) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف.
ـ وله شاهد من مراسيل عطاء ، وهو مرسل ، وفيه راوٍ مجهول فيكون ضعيفاً جداً فلا يصلح شاهداً.
ـ إذن لم يثبت ذلك في السُّنَّة الصحيحة ، وقد ضعف هذا الحديث النووي وابن الصلاح والضياء.
ـ وقال بعض أهل العلم: أنه يستاك طولا ـ هكذا قال بعض الحنابلة.
ـ وذكر بعضهم أن أهل الطب يستحبون ذلك ـ أي السواك طولاً.
والقائلون عرضاً ذكروا أن الإستياك طولاً أضر على اللثة وعللوا استحباب الإستياك عرضاً بأنه أبعد عن مضرة اللثة وأبعد عن فساد الأسنان.
فعلى ذلك لا يثبت شيء من السنة لا في الإستياك عرضاً ولا في الأستياك طولاً ومرجع ذلك إلى الطب أو إلى الإختيار ، فإذا ثبت أن الأبعد له عن الضرر أن يستاك طولاً أو عرضاً فإنه يفضل ذلك.
قوله: (( مبتدأ بجانب فمه الأيمن )):
وذلك لما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: (كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعجبه التيمن أو التيامن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله) (2) ، وفي أبي داود (وسواكه) ، فهذا الحديث صريح في مشروعية البداءة بالجانب الأيمن قبل الأيسر عند الإستياك.
ـ وهل المستحب أن يكون الإستياك باليد اليمنى أم باليسرى ؟
نص الإمام أحمد على استحباب ذلك باليد اليسرى ، وقال شيخ الإسلام: (ولا أعلم أحداً من الأئمة خالف في ذلك إلا المجد) يعني المجد ابن تيمية هو جده وهو من كبار الحنابلة وهو صاحب المنتقى وهو كبار الفقهاء ، وكان يستحب أن يستاك بيده اليمنى ، ويستدل: بحديث عائشة المتقدم.
والإستدلال بحديث عائشة فيه نظر ، فإنما هو دليل على البداءة بالجهة اليمنى.
وأما هنا فإن الباب آخر والبحث هنا آخر ، فالبحث في الأداة التي يتطهر بها.(33/135)
وعليه ما ذهب إليه عامة أهل العلم: أن السواك من باب التطهر لقوله (مطهرة للفم) هذا هو الغالب فيه وإلا فقد يكون لمجرد مرضاة الرب سبحانه وتعالى.
لكن الأصل فيه أن يكون مطهرة للفم ، وما كان هذا بابه فإنه مستحب باليد اليسرى ، كما أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستنشق باليد اليسرى كما ثبت في النسائي بإسناد صحيح ، وكذلك هنا فإنه يستحب أن يستاك باليداليسرى ؛ لأن ذلك من باب التطهر أو من باب إزالة الأذى وإماطته.
أما حديث التيامن فإنما ذلك دليل على استحباب البداءة بالجهة اليمنى قبل الجهة اليسرى.
روى ابن أبي شيبة ـ ولم أقف على اسناده ـ أن عبادة بن الصامت وأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا يروحون والسواك على آذانهم) (1).
وفيه حديث ضعيف عن البيهقي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يضعه على أذنه كما يوضع القلم) (2).
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السادس عشر………الإثنين…30/10/1414هـ
قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (( ويدهن غباً ويكتحل وتراً )):
غباً: أي يوماً يدهن ، ويوماً لا يدهن.
ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي والترمذي وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (نهى عن الترجل إلا غباً) (3).
والترجل هو: تسريح الشعر مع دهنه ، فهو منهي عنه إلا يوماً بعد يوم.
ـ وهل ذلك مستحب أم لا ؟
ظاهر هذه اللفظه من المؤلف: أن ذلك مستحب ، ويدل على استحبابه ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من كان له شعر فليكرمه) (4) ، وهذا عام في شعر الرأس وشعر اللحية.
ولكنه لا يستحب إلا غباً للحديث المتقدم.
ـ فإن قيل: أو ليس المقصود إزالة شعث الرأس ، وإذا كان الأمر كذلك فلو أنه ترجل بماء ونحوه غير الدهن فهل يكون مستحباً كذلك أو لا ؟.(33/136)
الجواب: الصحيح أنه يكون مستحباً كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه يفعل ما هو الأصلح لبدنه ، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا فعل فعلاً معيناً لمعنى مقصود ، وكان هذا المعنى المقصود يثبت بهذا الفعل وغيره ، فإن كل فعل يثبت فيه هذا المعنى الخاص فإنه مستحب.
وهنا: الادهان ، هل المقصود الادهان ذاته أم المقصود إكرام الرأس ؟
الجواب: أن المقصود إكرام الرأس ، فإذا ثبت إكرامه بغير الادهان بإنه يكون مستحباً كالادهان تماماً.
وقد ثبت من حديث رجل من الصحابة قال: (نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يمتشط أحدنا في كل يوم) (1) فهذا أمر مكروه ، وذلك لأن الشارع ينهى عن كثير من الأرفاه وكثير من التنعم.
وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن رجلاً من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد بمصر ثم قال له: (أما إني لم آتك زائراً ولكني سمعت أنا وأنت حديثاً من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجوت أن يكون عندك منه علم ، فقال له: ما هو ، قال: (كذا وكذا) "إذن أخبره بهذا الحديث" قال: فمالي أراك شعثاً وأنت أمير الأرض فقال: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ينهانا عن كثير من الإرفاه "أي كثير من التنعم" قال: فما لي لا أرى عليك حذاء ، فقال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرنا أن نحتفي أحيانا) (2).
ـ إذن هذا الحديث يدل على كراهية كثير الإرفاه وفي أبي داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن البذاذة من الإيمان) (3) : أي ترك كثير من التنعم في الثوب والبدن وهو البذاذة أنه من الإيمان.(33/137)
فإذن: يستحب له أن يدهن غباً ، ويكره له أن يدهن كل يوم ، ولكن إذا كان كثير الشعر بحيث يكون فيه شعث كثير جداً ، فحينئذ تزول الكراهية ، وقد روى النسائي بإسناد صحيح أن أبا قتادة الإنصاري: كان له جُمَّة "أي شعر كثير يضرب على كتفه" فأمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحسن إليه) (1).
ـ وهنا عند هذه الفقرة التي ذكرها المؤلف مباحث:
[المبحث الأول]: هل السنة إتخاذ الشعر أم حلقه ؟
قال الإمام أحمد: ( إتخاذ الشعر سنة ولو قدرنا عليه لفعلنا ، ولكن له كلفة ومؤؤنه) أي يحتاج إلى كلفة من مشط وترجيل ودهان ونحو ذلك.
وأما الدليل على سنيته: فهو أنه فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـكان له شعر يضرب على منكبه) (2).
وثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له شعر إلى شحمة أذنه) (3) يعني: كان أحياناً إلى منكبه ، وأحياناً إلى شحمة أذنه ، إذا أخذ منه في حج أو عمره.
ـ ومن أبقاه فعليه أن يكرمه فيكون له كلفة ومؤونة كما قال الإمام أحمد.
ـ أما حلق الرأس فقد أجمع العلماء على إباحته ، كما قال ذلك: ابن عبد البر رحمه الله ـ
لكن هل يكره له حلقه أم لا ؟.
نص الإمام أحمد على كراهية حلقه ، وقال : (كانوا يكرهونه) أي كان السلف.
وفي رواية عنه أن تركه أفضل ، فيكون حلقه غير مكروه.
وقد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صفة الخوارج أن سيماهم التحليق ، وهذا لا يقتضي التحريم ؛ لأن ليس كل تشبه محرم.
فالأظهر: أن تركه أولى إلا في حج أو عمرة.
[المبحث الثاني]: إذا اتخذ شَعْراً فهل يسدله سدلاً أم يفرقه فرقاً ؟
السدل هو أن ترسل الشعر من غير أن تفرقه ، والفرق: هو أن تجعل الشعر على صفقتين ، صفقه بيمينه وصفقه شماله ، فيظهر أصل الرأس.
والجواب:(33/138)
أن كلا الفعلين فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي السدل والفرق ، لكن الأول وهو السدل قد تركه لكونه قد نسخ فعله ، فقد ثبت في الصحيحين: (كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم ـ أي يرسلونها ـ وكان المشركون ـ أي من العرب ـ يفرقون رؤوسهم وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ، فسدل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناصيته ثم فرق بعدُ) (1).
وفي رواية: (ثم أمر بالفرق ففرق).
وقد اتفق أهل العلم على استحباب ذلك.
فإذا: فرقه فهل يجعله دؤابتين أو عقيصتين ؟
قال الإمام أحمد: ( وأبو عبيدة له عقيصتان وعثمان له عقيصتان) أي يجعله عقيصين وهذا كان فعل العرب.
إذن: والمستحب أن يفرق رأسه لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه أمر بذلك.
ـ ولكن اتخاذ الشعر إن كان فيه فتنة فإنه لا يجوز ذلك سداً للذريعة.
ـ هذا في شعر الرأس وإدهانه ومثل ذلك شعر اللحية ، وقد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعفاء اللحية ، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) (2).
وفي الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (خالفوا المشركين وفِّروا الحى وأحفوا الشوارب) (3).
وفي مسلم: (أرخوا اللحى).
واللحية: الشعر النابت على الخدين والذقن). كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب وغيره.
ـ الأحاديث المتقدمة تدل على وجوب إعفائها ، وقد صرح بتحريم حلقها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ، ويدل على ذلك الأحاديث السابقة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: : (من تشبه بقوم فهو منهم) ، والأصل في التشبه التحريم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين).
ـ وهل يجوز له أن يأخذ منها ما فوق القبضة ؟
ثبت ذلك من فعل ابن عمر في الحج والعمرة ، فقد روى البخاري أن ابن عمر: (كان إذا حج أو اعتمر قبض لحيته ، فما فضل أخذه) (4).(33/139)
ونص الإمام أحمد على جواز ذلك ، وكذلك نص عليه الشافعي إذا كان في حج أو عمره.
ـ وكره ذلك الحسن وقتادة.
فإذن: ذهب بعض أهل العلم إلى النهي عن ذلك ، وبعضهم ذهب إلى جوازه.
ـ أما القائلون بجوازه ، فقد استدلوا بفعل ابن عمر.
ـ وأما القائلون بالنهي عنه فاستدلوا بعمومات النصوص المتقدمة: (أرخوا اللحى) (واعفوا اللحى) وغيرها.
وكونه يأخذ شيئاً منها وإن كان فاضلاً عن القبضة ، فإن ظاهر الحديث وجوب إعفائها وهو فعل النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد ثبت في البخاري أن خباب بن الأرتّ سئل فقيل له: (أكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ في الظهر والعصر ، فقال: نعم ، فقيل له: بم كنتم تعرفون ذلك ، فقال: باضطراب لحيته.
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يثبت أنه يأخذ من لحيته شيء بل كان يدعها عرضاً وطولاً.
أما ما روى الترمذي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يأخذ من لحيته عرضاً وطولاً) (1) فالحديث منكر لا يصح ، قد استنكره البخاري وغيره.
ـ والأظهر من القول بالمنع منه ، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام ، أمر بإعفائها وإرجائها وأخذ شيء منها ينافي ذلك. والعمل برواية الصحابي لا برأيه إذا خالف رأيه روايته.
فابن عمر وإن كان من رواة الأحاديث في إعفاء اللحية لكن رأيه خالف روايته ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفائها وتركها مطلقاً وهذا ينافي ذلك. فالأظهر هو القول بالمنع.
ـ أما الشوارب فيجب ـ على الراجح ـ قص شيء منها بإحفائها وجزها وإنهاكها ، وقد ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أحفوا الشوارب) (2) وفي رواية: (جزوا الشوارب) وفي رواية: (أنهكوا الشوارب) وهو أن يبالغ في قصها.
ـ وجمهور أهل العلم على سنيته ، وقد قال النووي: (متفق على استحبابه).
وقد صرح الحنابلة بتأكد سنيته.
ـ والأظهر التحريم ؛ لأن الأمر للوجوب.(33/140)
ـ وأصرح منه ما في الترمذي وصححه وهو كما قال أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) (1).
وقد قال صاحب الفروع: (وهذه الصفة تقتضي ـ عند أصحابنا ـ التحريم) ؛ لأنه قال: (ليس منا).
وهذا هو مذهب الظاهرية ـ وهو الراجح ـ وهو أن قص الشارب وإحفاءه واجب ، ومن لم يفعله فليس منا: أي ليس على هدينا وطريقتنا. ويقتضي ذلك تحريمه وهو مذهب الظاهرية ، والأدلة الشرعية عليه.
قوله: (( ويكتحل وتَراً )):
أي يسن له أن يكتحل وتراً.
ويسن أن يكون ذلك بالإثمد ، والإثمد: نوع من أنواع الكحل ، وقد ثبت في ابن ماجة بإسناد جيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر) (2) أي شعر العينين.
وأما الإكتحال بغيره مما هو من باب الزينة ، فإن كان للنساء فذلك جائز.
وأما للرجال فهو محل توقف ، وقد توقف فيه شيخ الإسلام. وذكر أنه يقوي جوازه فيمن كان كبير السن يبعد ذلك عن الفتنة ، بخلاف الشاب ، ومثل ذلك محل توقف ؛ لأنه زينة وهو مختص بالنساء.
ومن لم يكن كبير السن وهو ليس محل فتنة فهو محل توقف.
والذي ينبغي أن يكون التوقف كذلك في كبار السن ، لأن التوقف عام. إلا أن التحريم يقوي في الشاب لما في ذلك من الفتنة ، والعلم عند الله.
وقوله: (( وتراً )): استدلوا عليه بما رواه أحمد وأبو داود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) (3) لكن الحديث فيه جهالة ، فهو ضعيف. فعلى ذلك يكتحل بما يكون مناسباً لعينه بالإثمد من غير أن يكون ذلك محدداً بوتر ، إلا أن يكون مناسباً.
قوله: (( وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر )):
أي: يجب على من أراد أن يتوضأ وكذلك من أراد الغسل أو التيمم يجب عليه أن يقول: (بسم الله) ولكن ذلك ـ أي الوجوب ـ مع الذكر ، أما إن نسي فلا حرج عليه.(33/141)
ـ أما الدليل على وجوب التسمية: فهو ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (1).
وهذا الحديث في إسناده ضعف ، لكن له شواهد كثيرة يرتقي إلى درجة الحسن.
وقد قال العيني: (روى هذا الحديث من طريق أحد عشر صحابياً) وقال ابن أبي شيبة: (ثبت لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاله) أي من كثرة طرقه.
وقد حسنه العراقي وابن الصلاح وابن كثير وابن حجر والمنذري ، ومن المحدثين المعاصرين الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ فالحديث حسن.
ـ أما سقوط التسمية بالنسيان: فاستدلوا بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2).
1ـ هذا هو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم: أن التسمية واجبة عند الوضوء ونحوه من الغسل والتيمم مع الذكر ، فلو ترك التسمية عمداً بطل وضوؤه.
2ـ وذهب جمهور الفقهاء وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختارها بعض أصحابه أن التسمية سنة.
وأجابوا: عن الحديث بأنه ضعيف لا يثبت ، قال الإمام أحمد: (لا أعلم فيها إسناداً جيداً) أي التسمية.
وكلامه ـ رحمه الله ـ إنما هو في الأسانيد بمفردها ، أي في كل إسناد بمفرده ، أما الأسانيد بمجموعها فإنها ترتقي إلى درجة الحسن.
قالوا: وإن ثبت الحديث فإن قوله: (لا وضوء) يؤول بأن (لا وضوء كامل) ، فليس وضوءاً باطلاً ، بل هو صحيح لكنه ليس بكامل بل هو ناقص لتركه السنة.
وهذا القول ضعيف ؛ لأن الأصل حمل الكلام على حقيقته ، فيقال: (لا وضوء موجود) ثم (لا وضوء صحيح) وهي المرتبة الثانية ثم (لا وضوء كامل) وهي المرتبة الثالثة.(33/142)
و(لا وضوء موجود): هذا لا يمكن أن يقال به ؛ لأن الوضوء قد وجد دون التسمية ، فننتقل إلى المرتبة الثانية (لا وضوء صحيح) ثم (لا وضوء كامل) ولا يجوز أن ننصرف عن مرتبة إلا إذا امتنعت المرتبة التي قبلها فنقول ـ حينئذ ـ (لا وضوء صحيح) كما هو ظاهر اللفظة أي لا وضوء صحيح شرعي.
3ـ وذهب الإمام أحمد في رواية عنه واختارها أبو الخطاب من الحنابلة والمجد بن تيمية وابن عبد القوي إلى أن التسمية فرض عند الذكر والنسيان.
فلو تركها ناسياً فإن وضوءه باطل ـ وهذا هو أصح الأقوال ـ وذلك لصحة الحديث الوارد في ذلك ، وظاهره أنه لا وضوء صحيح مطلقاً سواء كان ذاكراً أو ناسياً.
ـ أما حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي 0000) الحديث ، فإن ذلك لا يكون في ترك الواجبات ، فإن من ترك واجباً فإنه لايزال مطالباً بفعله ، فإذا فعله برأت ذمته.
ويكون ـ حينئذ ـ مغفوراً له غير آثم بسبب نسيانه ، أما كونه لا يجب عليه أن يفعل فلا.
فلوا أن رجلاً صلى بلا وضوء ناسياً ، فإنه لا يأثم لكنه يجب عليه أن يعيد الصلاة ، وهو معذور لنسيانه ، فلا تبرأ ذمته حتى يفعله.
وهذا القول هو أرجح الأقوال ، وأن من ترك التسمية ذاكراً أو ناسياً فوضوءه باطل.
فإن كان فعل ذلك في مرات سابقة فإنه لا يجب عليه الإعادة للمشقة.
لكن إذا كان الوقت مازال حاضراً فإنه يعيد الوضوء والصلاة وكذلك التيمم والغسل ـ وهذا هو مذهب الظاهرية ، ( ثم رجح الشيخ وفقه الله قول الجمهور بالاستحباب).
ـ قال الإمام مالك: (حلق الشارب بدعه) ، وهذا إذا كان على وجه العبادة ـ أما إذا كان على غير وجه العبادة فإنه محرم للأمر بإحفائه ؛ ولأنه من التشبه بالأعاجم.
ـ ذهب بعض الحنابلة إلى أنه إن كانت اللحية على صورة قبيحة قد يستهزأ به من أجلها فإنه يجوز تسويتها وهذا حسن لا بأس به ، لأنه نادر ، أما إذا كان تهذيباً فإن ذلك لا يجوز.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس السابع عشر……يوم الثلاثاء: 1/11/1414هـ(33/143)
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (( ويجب الختان ما لم يخف على نفسه )):
الختان: من أمور الفطرة ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط) (1).
وهذه اللفظة: (من الفطرة) لا تفيد وجوباً ولا استحباباً أي بالتنصيص.
وإنما تفيد أن هذا مشروع فقد يكون من الواجب وقد يكون من المستحب.
الختان: هو فعل الخاتن ، وهو ما يسمى عندنا بـ: (الطهارة): وهو قطع الجلدة فوق الحشفه.
ما حكمه ؟.
قال المؤلف: (ويجب الختان): وظاهره مطلقاً للذكر والأنثى وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
فجمهور أهل العلم قالو: إن الختان واجب للذكر والأنثى واستدلوا: بما ثبت في مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لمن أسلم: (ألق عنك شعر الكفر ثم اختتن) (2) فهذا أمر والأمر ظاهره الوجوب.
ـ ولأن في ذلك كشف عورة ، ولا يجوز كشفها إلا إذا كان الفعل واجباً.
ـ وعن الإمام أحمد رواية: أنه واجب في الرجال دون النساء.
ـ ومذهب أبي حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه سنة مطلقاً للرجال والنساء ، ودليل من قال بسنيته مطلقاً ، وهو كذلك دليل من قال بوجوبه على الرجال دون النساء: ما رواه أحمد في مسنده أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء) (3).
أما من قال بأنه سنة مطلقاً ـ أي لرجال والنساء ـ فإنه رأى أن لفظة (سُنَّة) ترادف الاستحباب.
ـ وأما من استثنى النساء عن السنية وأثبت الحكم للرجال ، فإنه رأى أن لفظة: (سُنَّه) لا تفيد الاستحباب ،وأن لفظة (مكرمة) تفيد الاستحباب.(33/144)
لكن الحديث ضعيف فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف ، على أن لفظة (سُنّة) لا تفيد الوجوب ولا تفيد الاستحباب بعينه ، وإنما تدل على أن هذه طريقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنما نريد بالاستحباب بعينه ما ينافي الوجوب فلا شك أن الأمر الذي يحكم بأنه سنة محبوب إلى صاحب الشريعة لكن هل هو واجب أم مستحب ـ يستحب من دليل آخر ـ وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) (1) فالسُّنَّة هي الطريقة.
بخلاف السُّنَّة عند الأصوليين فإنها: ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام ، وهي ما ترادف المستحب والمندوب.
والقول الأول أرجحها وهو وجوب الختان مطلقاً على الرجال والنساء.
وهو ميزة المسلمين عن النصاري ، فإن النصارى لا يختتنون ، بخلاف اليهود فإنهم يختتنون ، فالختان يتميز به المسلم وهو من شعار المسلمين ،كما في حديث البخاري في قول هرقل: "إني أجد ملك الختان قد ظهر).
قوله: (( ما لم يخف على نفسه )):
كأن يكون رجلاً كبيراً شيخاً هرماً ، فدخل في الإسلام فحينئذ: لا يجب عليه الختان إذا خشي على نفسه التلف ، لأن الواجب يسقط عند العجز.
وعند خوف التلف ، وقد قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار).
ـ فإن قيل: متى يكون الختان؟
فالجواب: أما وقت وجوبه فهو البلوغ ، فلا يجوز له أن يبلغ إلا وقد اختتن.
يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس: أنه سئل ، مثل من أنت حين قبض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (أنا يومئذ مختون ، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك) (2) أي حتى يناهز البلوغ.
فهذه سنة العرب ، وهو أنهم لا يختنون حتى يدرك.
ـ فإن اختتن قبل ذلك فما الحكم؟.
الجواب: سئل الإمام أحمد عن ذلك فقال: (لا أدري لم أسمع فيه شيئاً) أي لم أسمع فيه سُنَّة صحيحه فحينئذ:يبقى على الأصل، فالأصل في الأشياء الحل ما لم يثبت دليل يمنع من ذلك.(33/145)
ـ أما حكم الإختتان في اليوم السابع للمولود ، ففيه روايتان عن الإمام أحمد:
الرواية الأولى: الكراهية وهو قول الحسن البصري.
قالوا: لأنه فعل اليهود ، فإنهم يختنون في اليوم السابع.
الرواية الثانية: أنه لا يكره وهو قول ابن المنذر ، وقد قال ابن المنذر: (وليس مع من منع من الختان في اليوم السابع حجة).
ـ وقد ذكر شيخ الإسلام أن إبراهيم عليه السلام خَتَنَ إسحاق في يوم سابعه فكانت سنة في بنيه أي في بني إسحاق ومنهم اليهود.
وختن إسماعيل عند بلوغه فكانت سنة في بنيه.
فإذا ثبت هذا ، فإن فعل اليهود يكون سنة إبراهيمية عن إبراهيم عليه السلام.
ـ والأظهر: أنه لا مانع من ذلك.
فإذن: لا تحديد لذلك ، فلو اختتن في اليوم الأول أو الثاني أو السابع أو العاشر أو عند ذلك فلا بأس لكن لا يجوز أن يبلغ إلا وقد اختتن ؛ لأنه حينئذ يكون مكلفاً ، والختان واجب عليه ، فلا يجوز له أن يبلغ ولم يختتن.
كما أن له أثراً في الطهارة ـ فحينئذ ـ : لا يحل له أن يبلغ إلا وقد اختتن أما قبل ذلك فلا بأس ولا حرج.
ـ الثاني: من أمور الفطرة: (الإستحداد): وهو حلق العانة ، وهذا مستحب بالإتفاق كما قال ذلك النووي.
ـ الثالث: من أمور الفطرة: (قص الشارب) وقد تقدم البحث فيه.
ـ الرابع: من أمور الفطرة: (تقليم الأظافر) ، وتقليم الأظاهر مستحب بالإتفاق.
ـ وهنا مسائل في تقليم الأظاهر:
1ـ المسألة الأولى: في كيفية تقليم الأظاهر: ذكر الحنابلة في المشهور عندهم أن طريقة تقليم الأظافر أن يبدأ بخنصر اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم يأتي بعد ذلك البنصر ثم السبابة ثم يأتي إلى اليسرى: فيشرع بالإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم يعود إلى السبابة ثم إلى البنصر، وهذه صفة المخالفة.
ـ فإن قيل: فما الفائدة ؟.
قالوا: الفائدة من ذلك أنه لا يصاب بالرَّمَد ، فإذا فعل ذلك فإنه لا ترمد عيناه.
ـ فإن قيل: فما الدليل على ذلك ؟(33/146)
فالجواب: ما ينسب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو وضع عليه أو اختلق أنه قال: (من قلم أظفاره مخالفاً لم ير رمداً) (1) لكن الحديث لا أصل له ، بل قال ابن القيم: (هذا من أقبح الموضوعات.
ـ فإن قيل: فما السنة في ذلك ؟
فالجواب: أن السنة: التيامن فيبدأ بيده اليمنى ثم اليسرى ، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (2) ، كما ذكر ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
2ـ المسألة الثانية: أنهم قالوا: يستحب أن يدفن قلامة أظفاره أو ما يأخذه من شعر.
وفي ذلك حديث رواه الطبراني بإسناد ضعيف جداً أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (كان يدفن أظفاره) (3).
ونص على استحبابه ذلك ـ أي دفن الأظافر وما يأخذ من شعره ـ الإمام أحمد ، وقال: كان ابن عمر يفعله ، وقد أسنده إلى ابن عمر ، وفي بعض أسانيده العمري وهو ضعيف فإن ثبت ذلك عن ابن عمر كما ذكر ذلك الإمام أحمد واحتج به فإنه يكون مستحباً لفعل ابن عمر.
وقد وردت أحاديث صريحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنها ضعيفه لا تثبت.
3ـ المسألة الثالثة: في اليوم الذي نُقَلِّمُ فيه الأظفار ، روى البغوي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كان يأخذ أظفاره وشاربه في كل جمعة) (4) ، لكن الحديث إسناده ضعيف جداً ، لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
الخامس: من أمور الفطرة: (نتف الإبط).
والسنة أن ينتفه نتفاً ، فإن قدر على ذلك فإنه المتسحب ، وإن لم يقدر على ذلك فحلقه فلا حرج في ذلك ونتف الإبط مستحب باتفاق أهل العلم.
إذن: أمور الفطرة كلها مستحبه عند أهل العلم سوى الختان فإنه واجب ، وخالف في ذلك أبو حنيفة وكذلك على الراجح قص الشارب فإنه واجب خلافاً لجمهور العلماء.(33/147)
ـ وقد ورد حديث في مسلم عن أنس بن مالك ، قال: (وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألاّ نترك ذلك أكثر من أربعين يوماً) (1).
قال النووي ـ في بيان هذا الحديث ـ ومعناه: (( أنهم إذا لم يفعلوها في وقتها ـ أي مع كونها تحتاج إلى قص أو حلق أو نحوه ـ فإنهم لا يؤخرونها أكثر من أربعين يوماً ، وليس معنى ذلك الإذن في التأخير مطلقاً ، وهذا تأويل لكنه تأويل صحيح ، لذا قال بعد ذلك: (وإنما الإعتبار بطولها وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال )).
لأنه من المعلوم أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فلو أنها طالت بعد عشرة أيام ، فهل نقول إنه يتركها أربعين يوماً مع أنها تحمل الأوساخ.
لكن المراد: أنه إذا تركها فلا ينبغي أن يتعدى أربعين.اهـ
قوله: (( ويكره القَزَع )):
القَزَع: جمع قَزْعة ، والقزعة هي: القطعة من السحاب ، فإذا كان في السماء قطع من السحاب فيجمع على قزع.
والمراد به هنا: أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه الأخر سواء كان ما يحلقه مقدم رأسه أو مؤخره أو كان مبقياً لأعلاه آخذاً لجوانبه كما يفعله الأوباش والسفل ـ كما قال ابن القيم.
ـ والدليل على النهي: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (نهى عن القزع) قيل لنافع: ما القزع ؟ قال: (أن يحلق بعض رأس الصبي ويُترك بعضه) (2).
ـ وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم : (رأى صبياً قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (إحلقوه كله أو اتركوه كله) (3).
ـ وجماهير أهل العلم على أنه مكروه.
ولم أر أحداً صرح بتحريمه ، وظواهر الأدلة تحريمه. لا سيما إذا كان فيه تشبه ، فإنه يكون واضح التحريم ، وفي الحديث : (من تشبه بقوم فهو منهم).
مسألة:
لو أن رجلاً لم يختن حتى مات ، فهل يختن بعد موته أم لا ؟(33/148)
الجواب: أنه لا يختن باتفاق أهل العلم ؛ لأن الفائدة منه في الحياة وهذا قد مات.
ـ مناسبة ذكر النهي عن القزع في هذا الباب:
أنه ذكر السواك ومناسبة أنه سُنة من سُنَن الوَضوء فذكر المسائل التي تشابهه ، فهذا من باب ذكر المسألة مع ما يناسبها ، فقد ذكر السواك وهو من أمور الفطرة كما ورد في مسلم ومسند أحمد ، فذكر ما يشابهه من أمور الفطرة.
ـ ومن المعلوم أن هناك مسائل قد لا تنضبط في باب معين ، فحينئذ تذكر في أبواب مختلفة عندما يذكر شيء يشابهها في الحكم معه.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس الثامن عشر………الأربعاء: 2/11/1414هـ
قال المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ: (( ومن سنن الوضوء السواك )):
يدل على ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء(1)) ، فهذا الحديث يدل على مشروعية السواك ، وأنه ليس بواجب بدليل قوله: (لولا أن أشق على أمتي).
ـ فإن قيل: فهل يستحب له السواك قبل الوضوء أم أثنائه ؟
فالجواب:
صرح بعض الحنابلة ـ كما في كشاف القناع ـ أن المستحب أن يكون ذلك مع المضمضة ، ودليل ذلك ما تقدم من حديث علي رضي الله عنه: وفيه أنه تمضمض وأدخل بعض أصابعه في فيه) أي يستاك ورفع ذلك إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تقدم تضعيف هذا الحديث وأنه لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.(33/149)
ـ ولو قيل: إنه يستاك قبل الوضوء لكان قوياً ، ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن ابن عباس ، والحديث أصله في الصحيحين أنه بات عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فقام نبي الله من آخر الليل فخرج ثم نظر إلى السماء ثم قرأ هذه: (إن في خلق السموات والأرض .. إلى قوله: ( فقنا عذاب النار) قال: ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ ثم قام يصلي ، ثم اضطجع ثم قام فخرج ونظر إلى السماء فقرأ الآية ، إي قوله: ( إن في خلق السموات والأرض .. ، ثم رجع فتسوك فتوضأ ، ثم قام يصلي) ، فلفظة: (فتسوك فتوضأ) ، ولفظة: (فتسوك وتوضأ) ظاهرهما أنه فعل التسوك قبل وضوئه.
فالأظهر: أنه يتسوك قبل وضوئه كما هو ظاهر حديث ابن عباس المتقدم.
قوله: (( وغسل الكفين ثلاثاً )):
وذلك مستحب باتفاق أهل العلم ، قال الموفق: (بغير خلاف نعلمه) على أن المستحب أن يغسل كفيه ثلاثاً فهو مستحب باتفاق العلماء.
وهو ثابت في حديث عثمان ـ كما ثبت في الصحيحن: أنه دعا بوضوء فغسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال: (هكذا رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) ، والمراد بغسل الكفين: أن يغسل يديه من أطراف الأصابع إلى الرُّسْغِ.
قوله: (( ويجب من نوم ليل ناقض للوضوء )):
تقدم هذا ، وأنه هو مذهب الحنابلة وأنه هو الراجح وهو وجوب غسل الكفين لمن استيقظ من النوم خلافاً للجمهور.
قلت:مراد شيخنا بوجوبه ـ أي لمن أراد أن يغمس بده في الإناء وليس مطلقاً (أبو حافظ).
قوله: (( والبداءة بمضمضة واستنشاق والمبالغة فيهما لغير صائم )):
((البداءة بالمضمضة والاستنشاق)): أي المستحب أن يبدأ بالمضمضة ثم الاستنشاق وأن يكون ذلك قبل غسل الوجه.(33/150)
ودليل ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم (تمضمض ثم استنشق) فأتى بلفظة (ثم) التي تفيد الترتيب.
ـ وهل هذا الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والترتيب بينهما وبين الوجه ، هل هو واجب أم لا ؟.
سيأتي الكلام على هذه المسألة ، وأن مذهب الحنابلة الاستحباب.
ـ والمتسحب له أن يكونا ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ من غرفه واحدة ، لما ثبت في المتفق عليه من حديث عبد الله بن زيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم : (تمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات) فهو قد تمضمض واستنشق ثلاثاً ، وكان ذلك بثلاث غرفات فكل مرة بغرفة واحدة.
ـ والمتسحب أن يكون استنثاره بيده اليسرى ، كما صح ذلك في سنن النسائي بإسناد صحيح.
والمضمضة هي: تحريك الماء في الفم.
والاستنشاق هو: إدخاله إلى الإنف.
والإستنثار هو: طرحه منه.
والأظهر أن المضمضة والاستنشاق تكون باليد اليمنى ؛ لأنهما من التعبد لله ، بخلاف الإستنثار فإنه إزالة أذى وإخراجه ، فاستحب أن يكون ذلك بيده اليسرى.
ـ وقد روى أبو داود في سننه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يفصل بين المضمضة والاستنشاق) (1) أي يتمضمض بكف ثم يستنشق بكف آخر.
لكن الحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ، وقد قال ابن القيم: (لم يجىء في الفصل بين المضمضة والاستنشاق حديث صحيح البتة).
وقد ذكر صاحب الفتح حديثاً رواه ابن السكن من حديث عثمان وعلي وفيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصل بين المضمضة والإشتنشاق) ولم يذكر سنده ، وسكت عنه الحافظ والقاعدة: أن ما سكت عنه الحافظ فإنه حسن عنده.
ولكن مع ذلك نكون متوقفين في هذا الحديث الذي سكت عنه ، ولم يسق سنده لا سيما وأن ابن القيم ذكر أنه لم يجىء فيه حديث صحيح ، ولا سيما أنه ثبت لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتمضمض ويستنشق من كف واحدة.(33/151)
قوله: (( والمبالغة فيهما لغير صائم)): فالمستحب له أن يبالغ فيهما ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ إن لم يكن صائماً لما روى الأربعة وأحمد من حديث لقيط بن صبرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: (أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)
وقوله: (بالغ في الاستنشاق): فيه أن السنة في الاستنشاق ومثله المضمضة المبالغة إن لم يكن صائماً.
والمبالغة في الاستنشاق ليست مجرد إدخال إلى الأنف بل هي أشد من ذلك بأن يجذب الماء بنفسه حتى يصل إلى أقصى أنفه.
ـ وأما المبالغة في المضمضة فهي أن يحرك الماء في أقاصي فمه ، وقد يستدل عليها بقوله: (أسبغ الوضوء).
إذن: يستحب له أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق ما لم يكن صائماً.
ـ وفي قوله: (أسبغ الوضوء): فيه أن المشروع إسباغ الوضوء ، وهو إتمامه وتوفيته وتكميله ، فإن كان في الواجبات فهو واجب ، وإن كان في المستحبات فهو مستحب.
ـ وهل من المشروع أن يزيد على المفروض بأن يغسل اليدين إلى العضدين أو المنكبين ويغسل الرجلين إلى الساقين ، هل يستحب هذا أم لا ؟
ـ قولان لأهل العلم:
1ـ فمذهب جمهور أهل العلم إلى أن ذلك مستحب واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين فمن آثار الوضوء من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل).
وراوي هذا الحديث وهو أبو هريرة ثبت عنه ـ كما في مسلم ـ أنه غسل يديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين وغسل رجليه حتى ارتفع في الساقين) فمذهبهم أنه يستحب أن يزيد على المفروض.
2ـ وذهب المالكية وهو روايه عن أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين ـ ذهبوا إلى أن المستحب عدم الزيادة على المفروض بل يبقى على ما رود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ـ وأجابوا عن هذا الحديث بأن لفظة: (من استطاع منكن أن يطيل غرته فليفعل) بأن هذه مدرجة من كلام أبي هريرة.(33/152)
وقد ذكر الحافظ: أن هذا الحديث ورد عن عشرة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس في حديث واحد منهم ذكر هذه الجملة.
ـ وأن هذه الجملة لم يذكرها أحد من الرواة عن أبي هريرة إلا نعيم بن عبد الله المجمر ، فثبت لنا أن هذا موقوف على أبي هريرة ، فليس مرفوعاً.
فإذا ثبت هذا ، فإنه قد خالف السنة ، وقول الصحابي إذا خالفته السنة فليس بحجة ، وقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي ـ وهذا لفظ أبي داود ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: (هكذا الوضوء فمن زاد أو نقص ـ وقوله نقص ـ في أبي داود دون غيره ـ فقد أساء وظلم).
وتكلم الإمام مسلم في لفظة: (أو نقص ) ، وتأولها البيهقي بأن المراد أن ينقص عن القيام بغسل شيء من الأعضاء ، وذلك لأن غسل الأعضاء مرة مرة أو مرتين مرتين ليس فيه حرج ولا بأس .
ـ وهذا القول ـ أي عدم الاستحباب ـ هو الراجح ، ولم يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يزيد على المرفوع.
ـ أما ما ثبت في مسلم أن أبا هريرة كان يغسل يديه حتى يشرع في العضد ، ويغسل رجليه حتى يشرع في الساق ويقول: (هكذا رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ).
فالجواب:
أن هذا نحن نقول به ، ولا ننكر ذلك ، وذلك بأن يغسل يديه حتى يشرع في العضد أن بداية العضد ؛ لأنه يكون قد تيقن من غسل المرفقين.
ومثل ذلك عندما يغسل رجليه فيدير الماء على الكعبين فإنه يكون قد شرع في الساق ، وَغُسل الكعبين واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ـ وقوله صلى الله عليه وسلم ، في حديث لقيط بن صبرة : (وخلل بين الأصابع).
فيه أن المشروع أن يخلل بين أصابعه.
والتخليل: إدخال الشيء في خلل شيء آخر.
قال تعالى: (لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) (1) أي لأسرعوا فيما بينكم في إبقاء الفتنة وبثها فيما بينكم.
فهذا فيه مشروعية تخليل الأصابع ، ولفظه (الأصابع) عام في أصابع اليدين والرجلين.(33/153)
وقد ورد هذا مصرحاً به فيما رواه الترمذي بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فخلل بين أصابعك) (1).
أما تخليل أصابع اليدين فهو بأن يدخل أصابع كل يد في الآخر بمعنى يشبك بين أصابعه.
ـ وأما تخليل أصابع الرجلين ، فقد ورد في الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يخلل أصابع ـ وفي روايه يُدَلِّك ـ رجليه بخنصره) (2).
والأظهر: أن هذه الخنصر هي خنصر اليد اليسرى ؛ لأن ذلك في الغالب يكون موضع قذر وأذى فاستحب أن يكون باليد اليسرى.
ـ إذن: يشرع له أن يخلل أصابعه.
فإذن ثبت له أن الماء لم يصل فإنه يجب عليه أن يفعل ذلك ـ أي التخليل.
ولكن هذا التخليل لمزيد الطهارة ولكمالها.
أما إذا ثبت له أن شيئاً من ذلك لم يصل إليه الماء ، فإنه يجب عليه التخليل فيوصل الماء إلى هذا الموضع الذي لم يصل إليه الماء.
قوله: (( وتخليل اللحية الكثيفة والأصابع )):
تقدم الكلام على تخليل الأصابع.
أما تخليل اللحية ، فقوله (الكثيفة): قيد يُخْرِج اللحية الخفيفة وضابط الخفيفة: التي تتضح منها البشرة ، فإذا كانت البشرة تتضح منها فيجب عليه تخليلها ؛ لأنها ظاهرة من الوجه ، والوجه يجب أن يغسل ، كما قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) (3).
ـ أما اللحية الكثيفة: فهي التي لا تتضح منها البشرة.
فأما ظاهرها فيجب غسله ؛ لأنها ظاهرة من الوجه ، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم).
ـ وأما باطنها فيستحب تخليله.
يدل على ذلك ما رواه الترمذي وغيره من حديث عثمان أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: (كان يخلل لحيته) وهذا الحديث له طرق كثيرة ، حتى ذكر ابن القيم أنه قد ورد عن ثلاثة عشرة صحابياً ، فالحديث ثابت وقد قال الإمام أحمد: (لم يثبت في تخليل اللحية شيء).
ـ لكن هذه الطرق الكثيرة تتظافر على إثباته.(33/154)
ـ ولما لم ينقل نقلاً بيناً ظاهراً فإنه يستدل به على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يديم ذلك.
لذا قال ابن القيم: (وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفعله ولم يكن يداوم عليه) (1).
لأن أكثر الأحاديث في صفة وضوء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم تنقل تخليل لحيته: (أنظر شرح البلوغ للشيخ ـ حفظه الله ـ فإن فيه حديثاً عن ابن عباس يدل على ذلك).
لذا ذهب جماهير العلماء إلى أن ذلك ليس بواجب ـ أي التخليل.
ـ وذهب طائفة من العلماء إلى أن ذلك واجب.
ـ والأظهر ما تقدم وهو مذهب جماهير أهل العلم (المالكية والأحناف والشافعية والحنابلة) ـ إلى أنه ليس بواجب.
ودليل استحبابه حديث عثمان المتقدم.
ـ وصفة التخليل: ما ورد في أبي داود بإسناد حسن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كان يأخذ كفاً من الماء فيدخله تحت حنكه ثم يخلل لحيته ، ويقول: (هكذا أمرني ربي عز وجل) (2).
والحديث: إسناده حسن.
فإذن: تخليل اللحية الخفيفة واجب.
أما الكثيفة فهو مستحب تخليلها ، أما غسل ظاهرها فهو واجب ؛ لأنه من الوجه الذي يواجه به.
ـ وينبغي أن يكون هذا لما هو ظاهر منها في الوجه.
أما ما يكون على الحلق فإن إيجاب غسله موضع نظر ومع ذلك فالإحتياط أن يعمم ذلك.
قوله: (( والتيامن )):
لما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) (3).
وثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا توضأتم فابدؤا بميامنكم) (4).
فهذا يدل على أن المشروع أن يبدأ بميامنه ، وهو مستحب باتفاق أهل العلم.
ـ وليس هناك أحد من أهل العلم أوجب الإعادة في المخالفة.
فإذا غسل يده اليسرى قبل اليمنى فوضوؤه صحيح لكنه ترك المستحب والسنة.
قوله: (( وأخذ ماء جديد لأذنيه )):(33/155)
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو أن المستحب أن يأخذ لأذهيه ماء غير الذي أخذه لرأسه.
وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم ، واستدلوا:
بما رواه البيهقي بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخذ لأذنيه ماء غير الماء الذي مسح به رأسه) (1).
لكن الحديث شاذ ، فقد رواه مسلم بسنده نفسه : (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه بغير فضل يديه) (2).
فالرأس عضو واليدان عضو آخر ، وقد مسح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـالرأس بغير فضل يديه ، أما الأذنان فإنهما من الرأس ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الأذنان من الرأس) (3) رواه أحمد وغيره ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
وقد روى أبو داود من حديث الرُّبيِّع بنت عفراء أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مسح رأسه ما أقبل منه وما أدبر وصدغيه وأذنيه مرة واحدة) (4) وإسناده حسن.
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ـ أي أنه يمسح أذنيه بالماء الذي مسح به رأسه ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ وقد ضَعَّف ابن القيم الحديث واختار هذا القول طائفة من أصحاب أحمد كالمجد ابن تيمية والقاضي.
إذن: المستحب له أن يمسح أذنيه بماء رأسه فيأخذ ماء واحدا فيمسح به رأسه وأذنيه ـ هذا هو الراجح.
قوله: (( والغسلة الثانية والثالثة )):
هذه سنة من سنن الوضوء وهي الغسلة الثانية والثالثة فغسل اليدين المرة الثانية والثالثة مستحب ، وأما الغسلة الأولى فهي فرض.
وغسل الوجه ثلاثاً ، الغسلة الأولى فرض ، أما الثانية والثالثة بهما فمستحبان.
وقد ثبت في البخاري عن ابن عباس:(أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مرة مرة) (5).
وثبت في البخاري من حديث عبد الله بن زيد: (أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مرتين مرتين) (6).(33/156)
وثبت في البخاري من حديث عثمان بن عفان: (أن ـ صلى الله عليه وسلم ـ: توضأ ثلاثاً ثلاثاً(1)) ورواه أيضاً أبو داود الذي تقدم ذكره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ ثلاثاً ثلاثاً.
ـ وقد ثبت أنه توضأ فخالف ، فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله ابن زيد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم : غسل يديه ثلاثاً وتمضمض واستنشق ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يديه مرتين ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه).
فهنا غَسَل الرجلين مرة وَغَسَلَ يديه مرتين وغَسَلَ بقية الأعضاء ثلاثاً ثلاثاً.
وكل ذلك سنة ، على أن الأكثر في حاله هو أن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً.
والفرض إنما هو الغسلة الأولى ، وما سواها فهو سنة.
ـ والذي ينبغي له أن يفعل هذا تارة وهذا تارة ، وأن يكون غالب حاله الوضوء ثلاثاً ثلاثاً.
لأن ما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـفعله في صور مختلفة ، فالسنة أن يفعل هكذا تارة وهكذا تارة.
فإذن السنة: أن يتوضأ مرة مرة ، وكذلك مرتين مرتين وكذلك ثلاثاً ثلاثاً وكذلك أن يخالف.
فهذه من سنن الوضوء.
والحمد لله رب العالمين.
انتهى: (باب: السواك وسنن والوضوء) بحمد لله.
الدرس التاسع عشر……السبت: 5 / 11/1414هـ
باب: (( فروض الوضوء وصفته )):
(فروض): الفروض جمع فرض وهو في اللغة: القطع والحز.
أما اصطلاحاً: فهو ما أمر به الشارع على وجه الإلزام.
فإذن هو مرادف للواجب وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وغيرهم بل هو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين.
ـ وذهب الإمام أحمد في رواية وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الفرض أكثر من الواجب ، فالفرض عندهم: ما ثبت بدليل قطعي.
ـ فعلى القول الأول ـ وهو قول الجمهور ـ تسمى الصلاة فرضاً وكذلك الزكاة ، وكذلك إعفاء اللحية يسمى فرضاً: أي سواء ثبت بدليل قطعي كالصلاة أو ثبت بدليل ظني كإعفاء اللحية ونحوها من الواجبات.
ـ أما على القول الثاني: فالصلاة تسمى فرضاً ، لكن مثل إعفاء اللحية ونحوه يقال: واجب.(33/157)
ـ وهذا في الحقيقة أولى ؛ لأن هذا الإصطلاح ـ ولا مشاحة في الإصطلاح ـ فيه تمييز بين الواجبات نفسها.
فالأظهر هو القول بالتفريق بين الواجب والفرض ، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة.
قال المصنف ـ رحمه الله ـ: (فروضه ستة):
يريد بالفروض هنا: أركان الوضوء ، وذلك لأن ما ذكره المؤلف من هذه الست كلها جزء من ماهية الوضوء ، وجزء الشيء ركنه.
قوله: (( غسل الوجه)):
هذا هو الفرض الأول ، ودليله قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) وهذا بالإجماع وسيأتي مزيد تفصيل له عند الكلام على صفة الوضوء.
قوله: (( والفم والأنف منه )):
أي المضمضة والاستنشاق ، فعلى ذلك المضمضة والاستنشاق فرض ؛ لأنهما من الوجه، فالوجه ما يواجه به وهذه الأعضاء تتم بها المواجهة كما تتم المواجهة ببقية أجزاء الوجه.
ـ وهذا الكلام فيه نظر ، فالأظهر: أن الفم والأنف ليسا من الوجه حقيقة ، وذلك لأنهما وإن كانا في الظاهر من الوجه لكن الذي يتم تغسيله إنما هو باطنهما ولا شك أن الباطن ليس مما يواجه به.
كما أنهم لم يوجبوا تخليل اللحية الكثيفة وأوجبوا غسل ظاهرها ، مع أن اللحية مما يواجه به ، فأوجبوا غسل ظاهرها ؛ لأنه من الوجه ولم يوجبوا غسل باطنها وكذلك هنا: فالأنف والفم غسل ظاهرهما يجب بالإجماع.
ـ أما باطنهما ، فالراجح هو ما ذهب إليه الحنابلة من وجوب المضمضة والاستنشاق لكن ليس للتعليل الذي ذكره وإنما للأدلة الشرعية الدالة على ذلك منها:
ـ ما ثبت في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) (1) فهو فيه إيجاب الاستنشاق لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم والأصل في الأمر الوجوب.
ـ وأما المضمضة فدليلها: ما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـقال: (إذا توضأت فمضمض) (2) فهذا أمر والأمر للوجوب.(33/158)
ـ ولم يصح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث البته ـ كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم ـ أنه ترك المضمضة والاستنشاق.
ـ وذهب جمهور أهل العلم إلى أن المضمضة والاستنشاق ليسا بواجبين وإنما سنتان.
قالوا: لأن الله ـ عز وجل ـ في الآية إنما أمر بغسل الوجه ولم يأمر بالمضمضة والاستنشاق ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ـ كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح: (توضأ كما أمرك الله) (1) ، وليس مما أمر الله به المضمضة والاستنشاق.
وفي هذا الإستدلال نظر ، وذلك لأن ما يأمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما هو مثل ما يأمر به الله ، كما أن ما يحرمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ما يحرمه الله ـ كما صح في الحديث ، فقد أمرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمضمضة والاستنشاق ، وداوم على ذلك ولم يصح عنه أنه ترك ذلك البتة ، وقد أمرنا الله بمتابعته وسماع أمره ، فعلى ذلك قوله: (توضأ كما أمرك الله) وقد أمرنا الله بطاعة رسوله ، وقد أمر رسوله بالمضمضة والاستنشاق.
فالراجح: هو ما ذهب إليه الحنابلة من فرضية المضمضة والاستنشاق.
قوله: (( وغسل اليدين )):
وهذا هو الفرض الثاني ودليله قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) (2).
وسيأتي تفصيل الكلام على ذلك عند صفة الوضوء.
قوله: (( ومسح الرأس )):
هذا الفرض الثالث وهو مجمع عليه وأنه من أركان الوضوء.
قوله: (( وفيه الأذنان )):
1ـ أي أن الأذنين من الرأس ، فيجب مسحهما كما يجب مسح الرأس ، وهذا هو مذهب الحنابلة.
2ـ وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم إيجاب ذلك ، ورأوا أن مسح الأذنين من المستحبات المشروعات وليس من المفترضات الواجبات.
ودليل الحنابلة: ما روى عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (الأذنان من الرأس) رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي أمامة.
ورواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة.(33/159)
ورواه غيرهم من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأصحها إسناداً ما رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد جيد وهذه الطرق الكثيرة ترتقي بالحديث إلى درجة الصحة، لذا ذهب إليه الإمام أحمد فقال: (إن الأذنين من الرأس) ، فيجب مسحهما كما يجب مسح الرأس.
أما الجمهور: فقالوا: لم يصح هذا الحديث ، فعلى ذلك الأذنان ليسا من الرأس فلا يجب مسحهما وإنما يستحب.
ـ وإذا ثبت لنا الحديث فإننا نقول بإيجاب ذلك ، وهذا القول هو الراجح وهو مذهب الحنابلة من وجوب مسح الأذنين وإنهما من الرأس.
قوله: (( وغسل الرجلين )):
وهذا هو الفرض الرابع ، وهو فرض بالإجماع ، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم 000 وأرجلكم).
قوله: (( والترتيب )):
الترتيب فرض عند الحنابلة والشافعية.
ودليلهم: أن الله عز وجل في كتابه الكريم قد أدخل الممسوح بين المغسولات ، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) فأدخل الله الممسوح بين المغسولات ، فحينئذ: فصل النظير عن نظيره ، وهذا لا فائدة منه إلا الترتيب وفرضيته لأن الآية في ذكر فرائض الوضوء.
ولو أن رجلا قال: (أكرمت زيداً ، وأهنت عمراً ، وأكرمت بكراً) فهذا الكلام من العِيِّ لا من البيان.
وأنه فصل النظير عن نظيره والواجب ألا يفعل ، وأما أن يفصل فهذا من العي.
والله عز وجل ينزه عن ذلك فلا بد من فائده.
لذا استدل به أهل العلم على إيجاب الترتيب ، لأن الله أدخل الممسوح من المغسولات.
ولا يقال: إن الترتيب مستحب ؛ لأن الآية قررته في سياق الفرض وليس في سياق الاستحباب.
ـ كما أن الله ـ عز وجل ـ لم يرتب الأعضاء الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب بل رتبه هكذا مختلفة ، وذلك لا فائدة منه إلا إيجاب الترتيب.
ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يصح عنه أنه توضأ غير مرتب أبداً ، كما قرر هذا ابن تيمية وابن القيم والنووي وغيرهم.(33/160)
فالراجح: هو إيجاب الترتيب.
فلو أن رجلاً توضأ غير مرتب كأن يمسح الرأس قبل غسل اليدين فإن وضوءه باطل فيجب عليه أن يعيد الوضوء إن كان هناك فاضل.
أما إن لم يكن هناك فاصل فإنه يصح منه غسل اليدين ، فيجب عليه أن يمسح الرأس مرة أخرى.
فإن توضأ منكساً أربع مرات فهل يصح وضوءه أم لا ؟
بمعنى: غسل رجليه ثم مسح رأسه ثم غسل يديه ثم غسل وجهه وفعل ذلك أربع مرات.
قالوا: يصح وضوؤه ؛ لأن كل وضوء من هذه الوضوءات المنكسة يصح منها عضو واحد.
فعلى الوضوء الأول يصح غسل الوجه ، وفي الوضوء الثاني يصح غسل اليدين وفي الوضوء الثالث يصح مسح الرأس وفي الوضوء الرابع يصح غسل الرجلين. وهي صفة غريبة ولكن ذكرناها للفائدة.
ـ وذهب المالكية والأحناف إلى عدم وجوب الترتيب.
قوله: (( والموالاة وهي أَلاَّ يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله )):
هذا الفرض السادس من فروض الوضوء.
وهنا: ذكر فرضية الموالاة وذكر ضابطها ، فيه مبحثان:
ـ المبحث الأول: في فرضيتها.
(1) ـ مذهب الحنابلة هو فرضية الموالاة ، وأن الموالاة بين الأعضاء فرض وهذا مذهب المالكية.
واستدلوا: بما ثبت في المسند بإسناد جيد كما قال الإمام أحمد وصححه ابن كثير ، وغيره أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: رأى رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة قدر درهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة) (1).
ووجه ذلك: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمره أن يكتفي بغسل هذه البقعة التي لم يصبها الماء بل أمره أن يعيد الوضوء كله ، فلو لم تكن الموالاة واجبة لاكتفى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يغسل هذا المأمور البقعة التي لم يصبها الماء.
ـ وقد ثبت في مسلم: أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (إرجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى(2)).(33/161)
فهنا قوله: (فأحسن وضوءك) يفسره بالرواية المتقدمة وفي رواية لأحمد بإسناد فيه ابن لهيعة وهو ضعيف لكن ذلك التفسير يقوي هذه اللفظة: (ثم رجع فتوضأ ثم صلى).
قالوا: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المفسر للقرآن بفعله ، لم يثبت عنه أنه توضأ غير موال بل كل وضوئه على الموالاة.
(2) ـ وذهب الشافعية والأحناف إلى أن الموالاة غير واجبة بل هي مستحبة.
ودليلهم: أنه لم يثبت في الآية المتقدمة ، وقد قال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق 00) الآية.
والواو لا تفيد التعقيب ، بل لو تَرَاخَى فإنه لا حرج.
ـ لكن تقدم الدليل الدال على ذلك من السنة ، ثم إن القرآن قد فسره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفعله ، وقد تقرر عند الأصوليين أن فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجمل القرآن يعطي حكم ذلك المجمل.
مثاله: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً والفجر ركعتين والظهر والعصر أربعاً ، فهذا فعل وهو بيان لمجمل في القرآن ، فيكون فرضاً كما أن قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) (1) فرض.
ـ المبحث الثاني: في ضابط الموالاة:
قال المؤلف: (( وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله )): لو أن رجلا غسل وجهه ثم جلس زمناً فغسل يديه هذا الزمن قد جف فيه الماء الذي على وجهه، فحينئذ لا يكون وضوؤه صحيحاً بل يبطل لانتفاء الموالاة.
ـ فإن قيل لهم: لكن الزمان يختلف ، ففي الشتاء يتأخر الجفاف وفي الصيف يكون سريعاً.
قالوا: نقيد ذلك بالزمان المعتدل.
فمثلاً: الزمان المعتدل خمس دقائق لأن يجف الماء عن الوجه فلو لم يجف الماء فجلس خمس دقائق فإنه يكون قد قطع الموالاة ، وفي الصيف ذهب الماء بدقيقة بسبب حرارة الشمس.
فنقول: ينتظر خمس دقائق ؛ لأنه هو الزمان المعتدل.
هذا هو ضابط الحنابلة ، وهو ضابط الشافعية أيضا القائلين باستحباب الموالاة فإنهم يستحبونها وهو ضابطها عندهم.(33/162)
ـ وهذا الضابط أولاً: لا دليل عليه ، ثانياً: يشق ضبطه فإن عامة الناس لا يمكنهم أن يضبطوا فعل ذلك.
فإيقاع هذا الضابط في الواقع فيه مشقة وعسر.
ـ وذكر بعض أهل العلم ضابطاً آخر وهو أصح منه وهو رواية عن الإمام أحمد ، وقال الخلال فيها: (وهو الأشبه بقوله والعمل عليه) ، والضباط هو: إرجاع ذلك إلى العرف.
فإذا كان هناك فاصل عرفي ثبت عرفاً أنه طويل فإنه تنتفي الموالاة ، وإن كان قصيراً فإن الموالاة لا تنتفي.
مثال: رجل توضأ فلم يغسل عقبيه ، ثم ذهب إلى المسجد فلما دخله أخبره بعض المصلين ، بهذا الموضع الذي لم يصله الماء ، فهذا فاصل طويل عرفاً.
لكن لو أن رجلاً توضأ وبمجرد ما انتهى من الوضوء أخبر أن موضعاً من يديه لم يصبه الماء فإنه فاصل قصير عرفاً فلا يعيد.
فهذا القول هو الأرجح وهو أن ذلك راجع إلى العرف وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه.
ـ ومثل ذلك: كل ما لم يثبت في الشرع ولا في اللغة تحديد له فإنه يقيد بالعرف.
فإذن: الموالاة فرض من فروض الوضوء وضابطها: ألا يفصل بنهما بفاصل طويل عرفاً.
ـ فإن قيل: لو أن رجلاً توضأ فغسل وجهه ويديه ثم انقطع عنه الماء بأي سبب من الأسباب ثم بعد ذلك حضر الماء ، بعد فاصل طويل عرفاً ـ فهل يمسح رأسه ويغسل رجليه أم أنه يستأنف ؟
قولان لأهل العلم:
1ـ فالمشهور في مذهب الحنابلة أنه يعيد الوضوء ؛ لأن الموالاة شرط فوجب أن يأتي بها ولا يسقط بالعذر.
2ـ وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن العذر مسقط للموالاة ، لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) (2).
ـ وأوضح منه في الاستدلال ،ما في الصحيح ـ وسيأتي ذكره إن شاء الله ـ من العمل الكثير في الصلاة ، فإنه يقتل الحية والعقرب ، ونحو ذلك ثم يعود إلى الصلاة.(33/163)
فهذا قاطع عن الصلاة وهو معذور فيه ومع ذلك فإنه لا يعيد الصلاة بل يبني عليها.
ـ وهذا القول فيه قوة.
ـ والقول الأول: فيه أيضا: فإنه يمكن أن يجاب عما استدلوا به:
بأن قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، أن يقولوا: أنه لا مشقة في إعادة الوضوء ، فإنه لا مشقة في أن يوافق أمر الله عز وجل بالإتيان بالوضوء موالياً ، فليس في ذلك شيء به المشقة.
ـ وأما الإستدلال بقتل الحية ونحوها أثناء الصلاة فيمكن أن يقال: أنه مازال في الصلاة ، فهو يصلي لله وهو مازال في نيته لم يقطع صلاته ، ومازال يتعبد لله بالصلاة وأجيز له أن يتحرك بهذه الحركة التي هي في الظاهر منافية للصلاة لكنها أجيزت من قبل الشارع للضرورة.
ـ ولا شك أن كلا القولين فيه قوة إلا أن الأحوط ما ذهب إليه الحنابلة من أنه لا يسقط بالعذر.
ـ وقيل ذلك النسيان والجهل والإكراه ، فإنه لا يسقط بها.
بل الذي يسقط إنما هو الإثم.
ـ فلو أن رجلاً ترك الموالاة جاهلاً أو ناسياً فإنه لا إثم عليه ولكن يجب عليه أن يعيد الوضوء.
ودليل ذلك ما تقدم من الحديث ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الرجل الذي في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء أمره أن يعيد الوضوء ولم يستفصل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منه أهو ناسي أم لا ، أهو جاهلٌ أم لا ؟
ونحو ذلك: وترك الإستفصال في مقام الإحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما هو مقعد عند الأصوليين فهذه من العمومات.
إذن: الراجح أن المولاة لا تسقط بالإكراه ولا بالنسيان ولا بالجهل.
ـ وهل تسقط بالعذر أم لا ؟
تقدم البحث في هذا وتقوية كلا القولين وأن الإحتياط ما ذهب إليه أهل القول الأول.
مسألة:(33/164)
إذا ثبت وجوب الترتيب بين الأعضاء الأربعة ، فهل يجب عليه أن يرتب بين المضمضة والاستنشاق ، وبين المضمضة والاستنشاق والوجه ، وبين المضمضة والاستنشاق وبقية الأعضاء ؟ هل يجب ألا يرتب بين المضمضة والاستنشاق أم لا ؟ فلو أنه استنشق قبل أن يتمضمض فهل يكون فعله جائزاً أم لا ؟.
1ـ قال الحنابلة: فعله جائز ؛ لأنهما من الوجه.
فلو أن رجلاً غسل أعلى الوجه قبل أسفله أو أسفله قبل أعلاه فإنه لا حرج عليه في ذلك.
2ـ ووجه صاحب الفروع وهو مذهب لبعض أهل العلم وجوب ذلك ، وهو أظهر ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمر بهما ، لم يثبت عنه تقديم الاستنشاق على المضمضة بل كان يتمضمض ثم يستنشق.
فالأظهر: هو إيجاب ذلك كما هو فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أمر بهما وكان على هذه الطريقة في تقديم المضمضة على الاستنشاق.
ـ فإن قدم الوجه على المضمضة والاستنشاق.
قال الحنابلة: لا حرج لأنهما من الوجه.
ـ فإن قدم غيرهما عليهما ، فكان منه أن غسل وجهه ثم غسل يديه ثم مسح رأسه ثم تمضمض واستنشق فهل يكون صحيحاً أم لا ؟
روايتان عن الإمام أحمد وهما قولان في المذهب:
1ـ الأول: أن المضمضة والاستنشاق يجب أن يكونا مع غسل الوجه فحينئذ يجب أن يقدما على غسل اليدين ؛ لأنهما من أجزاء الوجه.
قالوا: وهذا المحفوظ من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث عثمان ، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد ، وفي السنن من حديث علي بن أبي طالب.
بأن المحفوظ هو تقديم المضمضة والاستنشاق مع الوجه على بقية الأعضاء.
2ـ الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد أن ذلك جائز وهو مذهب بعض أصحابه.(33/165)
ودليل ذلك: ما صح في سنن أبي داود من حديث المقدام بن معد يكرب الكندي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (غسل كفيه ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل ذراعيه ثلاثاً ثم تمضمض واستنشق ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما) رواه الإمام أحمد وزاد: (ثم غسل رجليه) (1).
ورواه الضياء في (المختارة) ، وقد اشترط فيها أن تكون كل الأحاديث التي فيها صحيحة ثابتة ، وقد أورد فيها هذا الحديث.
فهذا الحديث يدل على صحة الرواية الثانية فالحديث إسناده صحيح وهو ثابت.
وهذا يقوي القول المتقدم وأن المضمضة والاستنشاق ليسا من الوجه بل هي عضوان منفردان عنه.
فعلى ذلك إذا قدم غسل اليدين على المضمضة والاستنشاق فإنه يجوز ذلك مادام أنه قد فعلهما لأن الترتيب بين المضمضة والاستنشاق وبقية الأعضاء ليس بمفترض.
وهذا مذهب أحمد في رواية واختاره طائفة من أصحاب أحمد.
إذن: المضمضة والاستنشاق لها باب آخر في باب الترتيب.
أما تقديم الاستنشاق على المضمضة فالمشهور في المذهب جوازه ، وقد تقدم أن الراجح هو وجوب تقديم المضمضة على الاستنشاق.
وتقديمهما على الوجه وعلى بقية الأعضاء تقدم أن الراجح جواز تقديم بقية الأعضاء على المضمضة والاستنشاق وكذلك يجوز تقديم الوجه على المضمضة والاستنشاق.
والحمد لله رب العالمين.
الدرس العشرون………الأحد: 6 /11/1414هـ
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ: (( النية شرط لطهارة الأحداث كلها )):
النية: هي القصد والعزم على الفعل ، ومحلها القلب ولا يشرع التلفظ بها إلا في الحج لثبوت ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإلا فالنية محلها القلب وليس للسان فيها مدخل أصلاً.
ـ وأعلم أن الجهر بالنية قد اتفق بالعلماء على بدعيته حتى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن صاحبه يستحق التعزيز لأنه من البدع المحدثة في الدين.
ـ فإن أسرَّ به ولم يجهر ، ويزيد بالاسرار به أن يتلفظ بلسانه من غير أن يجهر به مثل قراءة القرآن في الصلاة فهل يشرع ؟(33/166)
ـ المشهور في المذهب مشرعية ذلك ، قالوا: ليواطىء اللسان القلب.
ـ أما الإمام أحمد فإن نصَّه الذي بقي عليه وهو مذهب مالك أن ذلك ليس بمشروع وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه وهو الصواب ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يثبت عنه ذلك ولم يثبت عن أصحابه ، وما كان كذلك فإنه بدعه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فالجهر أو الإسرار بالنية بدعة ، فالنية محلها القلب.
ـ والأصل في النية قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى) (1) متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وهو حديث عظيم وهو ثلث الإسلام كما قال غير واحد من أهل العلم ، فإن العبادات كلها مبناها على هذا الحديث العظيم.
لذا قال المؤلف: (النية شرط لطهارة الأحداث كلها).
والشرط: هو ما تنعدم العبادة بانعدامه وتبطل بفقدانه ولكن الشرط إذا وجد فلا يلزم وجودها.
فمثلاً: الوضوء شرط من شروط الصلاة ، فإذا فقد أو اختل شرط من شروطه فإن العبادة تكون باطلة ، ولكن إذا وجد الوضوء فليس شرطاً أن توجد الصلاة ، هذا توضيحه.
أما تعريفه فهو: ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم.
فالنية شرط في العبادات كلها وهي شرط من شروط الطهارة للأحداث كلها.
فإذا توضأ بلا نية كأن يتوضأ للتبريد ونحوه فإن هذا الوضوء باطل ؛ لأنه فقد شرطاً وهو النية ، فهو لم ينو بوضوئه التعبد لله ، وإنما نوى التبريد ونحوه.
قوله: (( فينوي رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها )):
بمعنى: رجل يريد أن يتوضأ فماذا ينوي ؟
قال: ( ينوي رفع الحدث 0000).
وقد تقدم تعريف الحديث وأنه: الوصف القائم في البدن الذي يمنع من الصلاة ونحوها.
ـ فإذا فعل ناقضا من تواقض الوضوء فإنه يكون متصفاً بهذا الوصف ، فإذا توضأ وهو ينوي رفع الحديث فإن حدثه يرتفع ويكون مجزئاً عنه ، وهذا مذهب جماهير العلماء.(33/167)
قوله: (( أو الطهارة لما لا يباح إلا بها )):
هناك أشياء لا تباح إلا بالطهارة ، مثل الصلاة ومس المصحف ، والطواف على قول ، ونحو ذلك فهذه العبادات لا تصح إلا بالطهارة ، فإذا فعل الطهارة كأن يتوضأ ليصلي أو ليطوف بالبيت أو ليمس المصحف فإن ذلك يجزئ عنه عند جمهور العلماء لأن هذا الفعل منه متضمن لرفع الحدث ؛ لأن هذه الأفعال لا تصح إلا بالطهارة ورفع الحدث.
ـ فلو أن رجلاً تطهر ليمس المصحف ، فيجوز له أن يصلي وغير ذلك من العبادات التي لا تصح إلا بالطهارة ؛ لأنه قد تطهر لما لا يباح إلا بالطهارة.
فإذن: إذا توضأ لما لا تباح العبادات إلا به ، فإن وضوءه صحيح وله أن يصلي فيه وأن يتعبد لله فيه بسائر العبادات.
قوله: (( فإن نَوَى ما تسن له الطهارة كقراءة أو تجديداً مسنوناً ناسياً حَدَثه ارتفع )):
فإذا نوى ما تسن له الطهارة كقراءة القرآن من غير مسٍ للمصحف أو نية ذكر الله عز وجل أو لغيرها من النيات التي تكون لأعمال لا تشترط فيها الطهارة فهل له أن يصلي فيه الصلاة المفروضة وغير ذلك ؟
قال المؤلف: ((نعم يصح أن يصلي فيه الصلاة المفروضة))
ـ وفي قول في المذهب أنه لا يجزئ عنه.
ـ والأصح هو المشهور في المذهب ؛ لأن هذا الفعل متضمن لرفع الحدث.
فإن هذا الوضوء فيه متضمن لرفع الحدث ؛ لأن هذا الوصف القائم بالبدن وهو الحدث يكره له أن يقرأ القرآن وهو عليه فتوضأ بنية قراءة القرآن فيكون متضمناً لرفع الحدث القائم به.
فعلى ذلك: إذا توضأ لما يسن له الطهارة ، فالراجح وهو المشهور في المذهب أنه يجزئ ذلك.
قوله: (( أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدثه ارتفع)): فهنا قيَّد التجديد بقيدين:
1ـ القيد الأول: أن يكون مستوناً
2ـ القيد الثاني: أن يكون ناسياً لحدثه.
والمراد بالتجديد: الرجل يكون عليه الوضوء الشرعي الذي يمكنه أن يصلي فيه ونحو ذلك لكنه مع ذلك يستحب له أن يتوضأ وضوءاً آخر وهو التجديد.(33/168)
وفي البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( كان يتوضأ لكل صلاة ) (1).
فتجديد الوضوء سنة.
وأما ما روى الأربعة إلا النسائي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات) (2) فهو ضعيف.
فالتجديد في الأصل سنة فلماذا قيده هنا بقوله: (مسنوناً).
قالوا: المسنون هو الوضوء الذي فعل بعد وضوء قد صلي فيه.
فعلى ذلك: لو أن رجلاً توضأ لصلاة الظهر ثم توضأ مرة أخرى لها قبل أن يصليها فهذا ليس بمشروع ، فالمسنون إذن هو: التجديد الطارئ على وضوءٍ قد صُلِّيَ فيه.
ـ وقيْده بفيد آخر وهو قوله: (ناسياً حدثه).
فلو أن رجلاً نوى التجديد وهو ذاكر للحدث فإنه لا يجزئ عنه لأنه متلاعب بالشرع ، فكيف ينوي هذه النية وهو ليس على طهارة شرعية ؛ لأنه ذاكر لحدثه فحينئذ لا يكون فعل التجديد الشرعي ، لأن التجديد الشرعي إنما يكون مع ثبوت الوضوء السابق وهذا لا وضوء عليه فحينئذ لا يجزئ عنه.
ـ إذن: إذا ثبت التجديد بهذين الشرطين وهما: أن يكون مسنوناً ، وأن يكون ناسياً لحدثه ، فإنه يرتفع الحدث بمعنى: رجل عليه حدث ، فلما أراد أن يصلي الظهر ظن أنه مازال على وضوئه فتوضأ وهو ناسٍ لحدثه ، فهذا الوضوء منه سنة ؛ لأنه طارئ على وضوئه لصلاة الفجر مثلاً فتَذَكَّر بعد أن انتهى من الوضوء أو بعد الصلاة ، تذكر أنه لا وضوء له سابق فيكون وضوؤه صحيحاً.
هذا هو المشهور في المذهب.
ـ وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار أبي الخطاب والقاضي ، ولعله مذهب جمهور الفقهاء إلى أن ذلك لا يجزئ عنه.
ـ أما أهل القول الأول: فقالوا: هي طهارة شرعية ؛ لأنه إنما جدد وضوءه وهو ناسٍ لحدثه فحينئذ تكون طهارته طهارة شرعية فمادام كذلك فإنها تجزئ عنه برفع حدثه.
ـ أما أهل القول الثاني: فقالوا: وإن نوى الطهارة الشرعية لكنه لم ينو طهارة ترتفع بها الأحداث ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).
وهذا القول أصح.(33/169)
فالأصح أنه لا يجزئ عنه ـ كما لو تصدق بصدقة بنية أنها صدقة فإنها لا تجزئ عن الزكاة.
فإن النية: تمييز العبادة عن العبادة ، فالنية تمييز غسل العبادة عن غسل التبريد ، وكذلك تميز الطهارة المستحبة عن الطهارة الواجبة.
فهذا قد نوى طهارة شرعية لكنها ليست متضمنه لرفع الحدث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
قوله: (( وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب وكذا عكسه )):
فإذا نوى غسلاً مسنوناً كغسل الجمعة على مذهب جمهور الفقهاء (أجزأ عن واجب) كغسل الجنابة.
مثال: رجل أصبح يوم الجمعة وعليه جنابة فاغتسل ناوياً غسل الجمعة ، فهل يجزئ عن غسل الجنابة ؟.
قالوا: نعم ، وقيده بعضهم: مع نسيان الحدث الأكبر.
إذن: هذا هو المشهور في المذهب وأنه إذا اغتسل بنية الغسل المسنونة كغسل الجمعة أو غسل العيد ولم ينو رفع الجنابة فإن ذلك يجزئ عنه.
والعلة هي: ما تقدم لأنها طهارة شرعية.
ـ وفي هذا ضعف كما تقدم.
ـ فالأرجح: وهو قول للحنابلة أنها لا تجزئ لحديث (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا قد تطهر طهارة لا ترفع بمثلها الأحداث وإنما تطهر طهارة مستحبه لا تطرأ على الأحداث فترفعها فهي طهارة مسنونة.
فالراجح: أنها لا تجزئ عنه.
وقد روى ابن حبان بإسناد حسن: ( أن أبا قتادة رأى إبنه وهو يغتسل يوم الجمعة ، فقال: (إن كنت على جنابة فأعد غسلاً آخر ) (1).
قوله: (( وكذا عكسه )):
رجل عليه جنابة وهو في يوم جمعة فاغتسل عن الجنابة فهل يجزئ عنه في غسل الجمعة أم لا ؟
قالوا: نعم يجزئ عنه.
واعلم أن العلماء قد اتفقوا على أنه إذا نواهما معاً فإنه يجزئ عنه.
أما هذه المسألة فتبحث فيما إذا انفرد بأحد النيتين ، ففي المسألة السابقة إذا انفرد بنية غسل الجمعة.
وفي هذه المسألة إذا انفرد بنية رفع الجنابة فهل يجزئ عنه ؟
قالوا: نعم يجزئ عنه.(33/170)
وفي هذا نظر ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا لم ينو غسل الجمعة فلا يجزئ عنه ، وهو قول في المذهب.
فلا تصح العبادة إلا بالنية وغسل الجمعة عبادة ولم ينوه فلا يجزئ عنه.
قوله: (( وإن اجتمعت أحداث توجب وضوءاً أو غسلاً فنوى بطهارته أحدهما ارتفع سائرها )):
مثاله: رجل عليه ناقضان ، ناقض بخارج من السبيلين ، وناقض بالنوم. فتوضأ بنية رفع الحدث الناتج عن الخارج من السبيلين ، فهل يرتفع حدثه مطلقاً أم يبقى الحدث المترتب على النوم ؟
قال المؤلف: (( إرتفعت سائرها ))
قالوا: لأنها ذات حكم واحد ، وهي متداخلة في هذا الباب فإذا ارتفع أحدها ارتفع سائرها فأصبح طاهراً مطلقاً.
ـ ولكن قيده بعض الحنابلة بقيد غريب وهو: (بشرط إلا ينوي عدم ارتفاع غيره).
بمعنى: رجل توضأ وقال: هذا عن حدث النوم وليس عن حدث الخارج عن السبيلين.
ـ وهذا في الحقيقة الذي ينوي هذه النية ليس محلاً للبحث ؛ لأنه ليس أهلاً للتكليف ، فمثل هذا الفعل لا يصدر في الحقيقة عن مكلف فضلاً أن تكون مسألة ولكنها في الحقيقة من غرائب العلم.
ولو قيل بمثلها وتوقع وقوعها في المكلف فالأصح أنه يرتفع حدثه وإن نوى عدم ارتفاع غيره.
لأن الحكم ليس إليه في رفع الأحداث ، وإنما إلى الله ـ عز وجل ـ فمادام أنه توضأ الوضوء الشرعي عن الحدث وإن نوى عدم ارتفاع بعضها فترتفع سائرها.
قوله: (( ويجب الإتيان بها عند أول واجبات الطهارة وهو التسمية )):
تقدم أن النية واجبة وشرط ، فإذا ثبت هذا فيجب أن يشمل النية سائر فرائض الوضوء. وأول فرائضه التسمية ، فيجب أن تكون النية سابقة للتسمية.
ـ فإذا قلنا بفرضية التسمية ، ثم سمَّى ولم ينو بعد ثم نوى فإنه لا تجزئ عنه ؛ لأن هذا الفرض وهو التسمية الذي يختل الوضوء باختلاله لم تثبت فيه النية فيكون حينئذ باطلاً.
وهذه المسألة يدل عليها حديث: (إنما الأعمال بالنيات).(33/171)
فإذن: يجب أن تشمل النية سائر فرائض الوضوء.
كما لو أنه كبَّر تكبيرة الإحرام ثم نوى الصلاة بعد ، فإنها لا تجزئ عنه ، فكذلك هنا.
إذن: يجب عليه أن ينوي قبل البداءة بفرائض الوضوء.
ـ وإذا قلنا إنهما ـ أي المضمضة والاستنشاق ـ ليسا بواجبين فيجب عليه أن ينوي قبل غسل الوجه.
ـ فأول الفرائض عند الجمهور خلافاً للحنابلة هو غسل الوجه.
فيجب عليه ـ حينئذ ـ أن ينوي قبل غسل الوجه.
إذن: يجب أن تشمل النية فرائض الوضوء كلها.
ـ فإن قدمها بزمن يسير عرفاً فلا يضر ما لم يقطعها بمعنى: لا تشترط في النية أن تكون ذلك بمجرد بدئه بل لو قدمها بزمن يسير فلا حرج ما لم يقطع النية.
ـ وذهب بعض فقهاء الحنابلة كالقاضي ـ إلى أنه لو قدمها بزمن كثير فإن ذلك لا يضر ما لم يقطعها ، وهذا قول قوي.
قوله: (( وتسن عند أول مسنوناتها إن وجد قبل واجب )):
تقدم أنه يجب عليه ذلك قبل فرائضها.
ويسن له عند أول مسنوناتها إن وجد قبله واجب كغسل الكفين قبل المضمضة والاستنشاق ، فإن قلنا إن التسمية ليست بواجبه فإنه يسن له أن ينوي قبل التسمية لتدخل التسمية وهي مسنونة في النية.
ـ وإن قلنا إنها واجبة فإن غسل الكفين قبل التسمية فيستحب له أن ينوي.
إذن: إذا كانت السنة في أول الوضوء قبل الواجبات فيسن له أن ينوي قبلها لتدخل السنن والمستحبات في السنة ، لأنها عبادات ولا تصح العبادة إلا بالنية.
فمثلاً: لو أن رجلاً غسل كفيه ثم سمَّى ثم تمضمض أو استنشق ، وهكذا لكنه قبل غسل الكفين لم ينو فإنه لا يثاب على ذلك ، فالمشروع له أن ينوي.
ـ هذا على تقدير وجود السنة قبل الواجب.
وإلا فالواجب أن يبدأ أولاً بالتسمية حتى يثبت له غسل الكفين.
لأن غسل الكفين قبل التسمية لا حكم له في الأظهر (بناء على ترجيح وجوب التسمية وقد سبق خلافه).
ـ فإذن: إذا قدر وجود سنة قبل فرائض الوضوء فإنه يسن أن ينوي قبلها لتدخل هذه السنة في النية ، فيثاب عليها.(33/172)
قوله: (( واستصحاب ذكرها في جميعها ، ويجب استصحاب حكمها )):
قوله: (( واستصحاب ذكرها في جميعها)): المراد بالذكر التذكر.
فهنا: يسن له أن يستصحب التذكر بمعنى: يكون قلبه متذكراً أنه إنما يتوضأ لله ولإقامة الصلاة.
هذا هو السنة لتكون أفعاله كلها متعلقة بالنية لله عز وجل.
ـ هذا مستحب وليس بواجب ، فلو غفل عن تذكر النية فإنه لا يضره.
ـ بمعنى: رجل نوى الوضوء ثم غفل عن النية واستمر في الوضوء فإنه لا يضره ذلك باتفاق العلماء ، إذ لا يشترط تذكر النية بل هو مستحب لتكون أفعاله متعلقة بنيته.
ولكن قال : (( ويجب استصحاب حكمها)): هذا هو الواجب أن يستصحب حكمها ، والمراد بحكمها نية إبقائها وعدم قطعها ، فينوي الوضوء ويستمر فيه حتى ينتهي منه من غير أن ينوي أن يقطعه.
ـ رجل لمَّا غَسَّل وجهه وغسل يديه نوى أن يقطع الوضوء فقطع النية ، فإنه ـ حينئذ ـ يبطل وضوؤه ؛ لأنه قطع النية بقطع حكمها.
وأما إذا لم ينو قطع ذلك فإن وضوءه صحيح.
إذن: لا يشترط تذكر النية وإنما يشترط استصحاب حكمها.
إذن: يشترط في النية أن يبقى مستصحباً لحكمها وهو نية عدم قطعها والبقاء عليها.
فإن خالف فإن وضوءه يَبطُل بذلك.
وأما تذكر النية فإنه مشروع لتبقى أفعاله متعلقة بنيته.
ـ فإن نوى قطع العبادة بعد فعلها فإنه لا يضره باتفاق العلماء ، فإن قطع النية بعد إنتهاء العبادة لا أثر له إجماعاً.
ومثل ذلك الشك فإن الشك بعد العبادة لا يؤثر.
فإذا توضأ ثم شك هل سَمَّى أم لا ؟
فإن هذا الشك بعد العبادة لا يؤثر.
ـ فالشك بعد العبادة وقطع النية ليس لهما أثر باتفاق العلماء.
إذ العبادة أولا صحت فقطع النية لا أثر له بعد رفعها إلى الله وثبوتها.
وأما الشك فإنه طرأ على يقين فإن العبادة إذا انتهت فقد تيقن قبولها فليس له بعد ذلك أن يشك فيها والشك يكون طارئاً على يقين فلا أثر له.
والحمد لله رب العالمين.
الفهرس :
كتاب الطهارة
إلى
من
الموضوع
21
1
المقدمة
73
22(33/173)
أنواع المياه
98
74
الآنية
134
99
الاستنجاء
167
135
السواك وسنن الوضوء
188
168
فروض الوضوء
إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإذا رأى في نعليه قذراً أو أذى ................. 21
إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ............................................. 34
إذا وطئ أحدكم الأذى في نعله فإن التراب لها طهور ............................. 21
اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ............................................... 10
اللهم صل على آل أبي أوفى ................................................. 10
اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد ............................................... 22
أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة ...................................... 10
أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهراق على بول الأعرابي ذنوباً ............. 21
أن ابن عمر كان يغتسل بالحميم .............................................. 31
إن الماء طهور لا ينجسه شيء .............................................. 35
إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه ................. 36
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ... 23
بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم .......... 6
تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه ...................................... 21
خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم ........................................... 23
دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ .................................... 23
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ............................................... 26
فأمرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل ......... 23(33/174)
كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا رأى ما يكره.. 8
كان يسخن له ماءً في قمقم "الجرة" فيغتسل منه ................................. 31
كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع ..................... 6
كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع .................................... 7
لا أحله لمغتسل وهو لمتوضئ وشارب حل وبِلّ ................................. 24
لا ضرر ولا ضرار ....................................................... 30
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ................. 33
لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم بجامعها ................................ 34
ماء زمزم لما شرب له ...................................................... 24
نزل الناس مع النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها ............. 23
هو طعام طعم ............................................................ 24
هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته ................................................. 22 ، 27
وشر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت ................................ 23
وشفاء سقم ........................................................... 24
ياحميراء ـ وهو تصغير حمراء ـ لا تفعلي فإنه يورث البرص ............... 30(33/175)
الدرس الثالث والعشرون
( يوم السبت : 12 / 11 / 1414 هـ )
باب مسح الخفين
المسح هو إمرار اليد على المحل .
والمراد به هنا مسحهما : أي الخفان بإمرار اليد بالماء ، فعلى ذلك يكون المعنى : إمرار اليد بالماء مبتلة على الخفين من غير إسالة للماء ، فلا يكون فيه إسالة وإنما مجرد بلُّ العضو بالماء .
الخفان : هنا : ما يلبس علي الرجل من الجلد الرقيق وهو ما يسمى عندنا بـ" الكنادر " بخلاف الجوارب وهي ما تكون من صوف ونحوه فسيأتي الكلام عليها .
إذن : هذا الملبوس الذي يغطي القدمين ويباشر الأرض لأنه يمشى عليه ويصنع من الجلد ونحوه يسمى الخف .
والمسح على الخفين دل عليه الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فهي آية المائدة : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة …… }(1) في قراءة سبعية ، فقد قرأ بعض السبعة { وأرجلِكم } بالكسر ، فتكون الرجل ممسوحة ، وذلك لأنه سبحان وتعالى قال { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلي المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلِكم }(2) هذا على توجيه من توجيهات اللغة في هذه الآية ، وهو ما اختاره بعض أهل العلم . وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله بإثبات المسح على الخفين .
وأما السنة : فقد تواترت في الدلالة علي جواز المسح على الخفين ، حتى ذكره الإمام أحمد عن سبعة وثلاثين صحابياً ( 37 ) فقال رحمه الله : " سبعة وثلاثون نفساً يروون المسح على الخفين " وذكره ابن مندة عن أكثر من ثمانين صحابيـ[ـاً] ، منهم العشرة المبشرون بالجنة .
ولعل ذكر الإمام أحمد لذلك العدد إنما هو في الأحاديث الصحيحة ، وما ذكره ابن مندة في الأحاديث الصحيحة وغيرها .وقد ذكر صاحب " نصب الراية " عن ثمانية وأربعين حديث(3) ( 48 ) في المسح على الخفين .
__________
(1) سورة المائدة .
(2) سورة المائدة .
(3) وكذا ، ولعل الصواب : صحابياً ، أو حديثاً دون " عن " . فليراجع نصب الراية .(34/1)
وقد جزم كثير من أهل العلم بأن الأحاديث في هذا الباب متواترة ، وممن جزم بذلك شيخ الإسلام والحافظ ابن حجر وغيرهما من أهل العلم .
وقد أنكر المسح على الخفين طوائف من المبتدعة كالرافضة والخوارج ، ومن هنا أدخل أهل العلم هذا الباب في باب العقائد فيشيرون إلي هذه المسألة لخلاف المبتدعة في هذا الباب .
ومن أنكر المسح علي الخفين فهو مبتدع ؛ لأن الأحاديث فيه متواترة ، ومن أنكر شيئاً مما ثبت بالتواتر فهو مبتدع كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فمن أنكر شيئاً مما ثبت بالتواتر كأحاديث الحوض ونحوها فهو مبتدع .
أما الإجماع : فقد أجمع العلماء علي جواز المسح علي الخفين وممن ذكره : ابن المبارك وابن المنذر .
فإذن : المسح علي الخفين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
لذا قال المؤلف : ( يجوز …. ) .
فالمسح على الخفين جائز ولا ينكر جوازه عالم بالسنة إذ السنة قد تواترت بجوازه .
لكن إذا ثبت لنا جوازه فهل الأفضل غسل القدمين أم الأفضل المسح على الخفين ؟
قولان لأهل العلم :
1- فذهب جمهور الفقهاء إلى : أن غسل القدمين أفضل من المسح وهو راوية عن الإمام أحمد .
قالوا : لأن هذا هو الأصل ، فالأصل هو الغسل .
2- وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى : أن الأفضل هو المسح .
واستدلوا :(34/2)
بما رواه الخمسة إلا أبا داود من حديث صفوان بن عسَّال قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم ) (1) والحديث إسناده صحيح لكن في رواية للنسائي : ( رخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم ) .
فعلي ذلك يكون الأمر الوارد في حديث صفوان إنما هو أمر لبيان الإباحة والرخصة كما في قوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا }(2) .
واستدلوا : بما روى أبو داود إن النبي صلى الله عليه وسلم ( مسح على خفه وقال : بهذا أمرني ربي ) (3) لكن الحديث إسناده ضعيف .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم ( 95 ) باللفظ نفسه ، وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة ، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر ( 126 ) قال : أخبرنا قتيبة قال حدثنا سفيان عن عاصم بن زر عن صفوان بن عسال قال : رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن " . وابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب الوضوء من النوم ( 478 ) .
(2) سورة المائدة .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، آخر حديث في باب المسح على الخفين ( 156 ) قال : " حدثنا أحمد بن يونس حدثنا بن حَيٍ هو الحسن بن صالح عن بكير بن عامر البَجَلي عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم عن المغيرة بن شُعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين فقلت : يا رسول الله أنسيت ؟ قال : ( بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي عز وجل ) .(34/3)
وأصح ما استدلوا به " ثبوتاً واستدلالاً " ما رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) (1) .
- واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم : أن الأفضل هو الموافق لحال الماسح أو الغاسل فإذا كان لابساً لخفيه والأفضل له أن يمسح عليها .
وإذا كان خالعاً لهما كاشفاً قدميه فالأفضل له الغسل ولا يشرع له تكلف لبس الخفين بل يفعل ما يوافق حاله .
وهذا هو الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إذا كان لابساً خفيه فإنه يمسح عليه ، وإن كان خالعاً لهما فإنه يغسل قدميه ، وقد ثبت في الصحيحين إن النبي صلى الله عليه وسلم ( ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ) (2) .
فعلي ذلك : يفعل الموافق لحاله ، فلا يتكلف حالاً بل يفعل ما يوافقه ، وبذلك يكون قد فعل ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يثبت عنه أنه كان يتكلف شيئاً من الحالين بل كان يفعل الموافق لحاله .
قوله : ( يجوز للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها )
يجوز للمقيم أن يمسح يوماً وليله أي أربعاً وعشرون ساعة ، وأما للمسافر فثلاثة أيام بلياليها أي اثنتان وسبعون ساعة ، ولا يحسب ذلك بالصلوات ، بل يحسب باليوم والليلة وهما أربع وعشرون ساعة .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند ، مسند المكثرين ي، مسند عبد الله بن مسعود ( 5866 ) ( 5873 ) بلفظ : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " .
(2) أخرجه البخاري كتاب الحدود ، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله ( 6786 ) ، وأخرجه في كتاب المناقب ،باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3560 ) . وفي كتاب الأدب ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يسروا ولا تعسروا ( 6126 ) . وأخرجه مسلم ( 2327 ) .(34/4)
ودليل ذلك : ما ثبت في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب قال : ( جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ) (1) .
- وهذا مذهب جمهور أهل العلم : وأن مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليها ، وللمقيم يوم وليلة .
- وذهب المالكية في المشهور عندهم : أنها لا وقت لها بل تفعل مطلقاً من غير مدة محددة
واستدلوا بأحاديث :
الحديث الأول : ما رواه أبو داود من حديث أبي بن عمارة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح الخفين فقال : ( أمسح على الخفين ؟ قال : نعم ، قال : يوماً ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يوماً ) فقال : ويومين ؟فقال : ( ويومين ) فقال : وثلاثة ؟ قال : نعم وما شئت ) (2)
لكن الحديث إسناده ضعيف فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب التوقيت في المسح على الخفين ( 276 ) بلفظ : عن شُريح بن هانئ قال : أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت : عليك بابن أبي طالب فسله ، فإنه كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسألناه فقال : " جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم " .
(2) أخرجه أبو داود في باب التوقيت في المسح من كتاب الطهارة ( 158 ) قال : " حدثنا يحيى بن معين حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن عبد الرحمن بن رَزين عن محمد بن يزيد عن أيوب بن قَطن عن أُبيّ بن عمارة - قال يحيى بن أيوب : وكان قد صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلتين - أنه قال : يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال : ( نعم ) قال : يوماً ؟ قال : ( يوماً ) قال : ويومين ؟ قال : ( ويومين ) قال : وثلاثة ؟ قال : ( نعم ، وما شئت ) . وأخرجه ابن ماجه في الطهارة 557 ، سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 109 ] .(34/5)
الحديث الثاني : ما رواه خزيمة بن ثابت – كما في أبي داود وغيره – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة ، قال ( ولو استزدناه لزادنا ) (1) .
والحديث فيه انقطاع ، وقد ضعفه البخاري ثم إن قول الصحابي لو صح فليس فيه دليل على أن المدة مطلقة ، كيف وقد قيدها النبي صلى الله عليه وسلم بما تقدم بل فيه أن الصحابي قد ظن وتوقع أنهم لو طلبوا منه الزيادة لزاد ولم يطلبوا منه فلا يحكم بالظن ولا يحكم بأمر لا يعلم .
فهذا الحديث لو صح فلا يدل علي أن المدة مطلقة .
__________
(1) أخرجه أبو داود في نفس الباب السابق ( 157 ) قال : " حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم وحماد عن إبراهيم عن أبي عبد الله الجَدَلي عن خزيمة بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ، وللمقيم يوم وليلة ) قال أبو داود : رواه منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي بإسناده ، قال فيه : " ولو استزدناه لزادنا ) . وأخرجه الترمذي في الطهارة 95 ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجه في الطهارة 553 . سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 109 ] .(34/6)
الحديث الثالث : ما رواه البيهقي وصححه شيخ الإسلام ورواه الحاكم وصححه : أن عقبة بن عامر خرج من الشام إلي المدينة من الجمعة إلي الجمعة فقال له عمر : ( متي أولجت الخفين في رجليك ) فقال ( يوم الجمعة ) فقال : ( فهل نزعتها ) فقال : لا ، فقال ( أصبت السنة )(1)
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم ( 1332 ) ، في كتاب الطهارة ، باب ما ورد في ترك التوقيت قال رحمه الله : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا بحر بن نصر بن سابق الخرلاني – كذا - ، ثنا بشر بن بكر ، ثنا موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه عن عقبة بن عامر الجهني قال : خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب ، فقال : متى أولجت خفيك في رجليك ؟ قلت : يوم الجمعة ، قال : فهل نزعتهما ؟ قلت : لا ، قال : أصبت السنة " . قال ( 1333 ) : وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن ، قالا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأ ابن وهب ، قال : وثنا بحر بن نصر ، قال : قرئ على ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة وعمرو بن الحارث اولليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي أنه سمع علي بن رباح اللخمي يخبر أن عقبة بن عامر الاجهني – كذا ، ولعل الصواب : الجهني - قال : قدمت على عمر بن الخطاب بفتح من الشام وعلي خفان لي جرمقانيان غليظان ، فنظر إليهما عمر فقال : كم ذلك منذ لم تنزعهما ؟ قال : قلت : لبستهما يوم الجمعة واليوم يوم الجمعة ثمان ، قال : أصبت . ورواه مفضل بن فضالة عن يزيد بن أبي حبيب وقال فيه : أصبت السنة " . وقال أيضاً ( 1334 ) أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، ثنا أحمد بن عبيد ، ثنا عبيد بن شريك ، نا يحيى بن بكير ، ثنا مفضل بن فضالة ، عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن الحكم البلوي ، عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر عن عمر مثله ، وقال : أصبت السنة " .(34/7)
والحديث صحيح .
لا شك أن هذا الحديث يشكل على مذهب الجمهور ، ولكن ليس فيه ما يدل علي تمام قولهم بل فيه دليل على ما اختاره شيخ الإسلام من أن المسافر إذا كان يشق عليه خلع الخفين ولبسهما ، كأن يكون بريداً في مصلحة المسلمين وشق عليه لئلا يؤخر الخير على المسلمين ويشق عليه أن ينزل فيخلع الخفين ، فإنه يجوز له أن يمسح ما شاء – هذا هو الذي يدل عليه الحديث المتقدم ، وهو حديث لأنه قال ( أصبت السنة ) ففيه رفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول هو الراجح – أي أنه لا يجوز أن يزيد علي الوقت المحدود إلا إذا كان في حال السفر وكان يشق عليه أن يخلع ويلبس فإنه يجوز له ذلك .
ويصح أن تكون هذه المسألة من باب القياس علي الجبيرة فإنها لا تؤقت وهي ما توضع علي الكسر ، فإنه يمسح عليها مطلقاً من غير تحديد بوقت .
إذن الراجح : ما اختاره شيخ الإسلام من استثناء من يشق عليه أن يخلع ويلبس كأن يكون بريداً في مصلحة المسلمين .
قوله : ( من حدث بعد لبس ) :
صورة ذلك :
رجل لبس خفه ثم أحدث ، كأن يكون توضأ الفجر ولبس خفيه ثم نام بعد الفجر في حوالي الساعة العاشرة ، فإنه حينئذ : يكون قد انتقض وضوؤه بمجرد نومه ، ففي أول النوم يكون قد انتقض وضوؤه ، وهو نام في الساعة العاشرة فيستمر وقت المسح إلي الساعة العاشرة من الغد فيتم له أربعاً وعشرين ساعة .
إذن : الحساب يكون – من الحدث بعد اللبس – وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم .
وحجتهم : قالوا : إنه إذا أحدث فإنه – حينئذ – يكون قد جاز له أن يمسح علي الخفين وينقلهما بها الطهارة وسواء فعل الطهارة أم لم يفعلها ، فالمقصود أنه جاز له أن يمسح .
لكن هذا فيه نظر فإننا في المثال السابق : إن قلنا إنه نام في الساعة العاشرة واستيقظ في الثانية عشر فهل يمكنه أن يتوضأ في الساعة الحادية عشرة أو الحادية عشرة ونصف وهو غير مكلف وهو نائم ، فهذا القول فيه نظر ظاهر .(34/8)
- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار ابن المنذر ، ومن الشافعية النووي وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي : وأنه يكون التوقيت من المسح ، ودليل ذلك ظواهر الأدلة الشرعية ، فإن الأدلة الشرعية إنما صرحت بالمسح .
وهو قبل أن يمسح لم يشرع به بعد فكيف يكون محسوباً من وقته ، فعلى ذلك يكون الحساب من المسح إلى أن تتم المدة .
ففي المثال السابق إذا نام في الساعة العاشرة ثم استيقظ في الساعة الثانية عشر فتوضأ ومسح علي خفيه فإنه يبدأ التوقيت من الساعة الثانية عشر ويستمر إلي الثانية عشرة من الغد .
فعلي ذلك يكون من المسح لا من الحدث ، هذا هو الراجح .
قوله : ( على طاهر مباح ساتر للمفروض يثبت بنفسه ) .
قوله " طاهر " قيده الشرَّاح بأن يكون طاهر العين ، وقد تقدم أن جلد الميتة نجس ، فلو كان الخف من جلد ميتة فإن ذلك لا يجوز أن يمسح عليه ما لم يبت فيه الدباغ .
وأظهر منه في التمثيل أن يضرب ذلك بجلد الكلب فهو نجس ولو دبغ ، فإذا كان الخف من جلد كلب قالوا فلا يصح المسح عليه ؛ لأن ذلك منهي عنه ، والمسح رخصة فكيف يستباح بها المحرم ، فإن هذا محرم ، وهذه رخصة فكيف تجيز الرخصة فعل أمر محرم .
وظاهر قولهم ( طاهر العين ) : أنه لو كان نجس الحكم وليس بنجس العين أنه لا شيء فيه فيجوز المسح عليه .
إذن : نجس العين فهذا لا يجوز المسح عليه كجلد الكلب ونحوه .
أما ما كان نجس الحكم وهو طاهر العين ، كأن يكون من جلد حيوان طاهر في الحياة فهو طاهر لكن في أسفله نجاسة فهل يجوز المسح عليه ؟
الجواب : يجوز ذلك وإن كانت الصلاة لا تجوز فيه في أصح الوجهين في مذهب الحنابلة ، لأن إزالة النجاسة من شروط الصلاة ، وأما الوضوء فإنه يصح وإن كان على بعض أعضاء الجسم نجاسة .
فإذن عندنا حالتان :
الحالة الأولي : ما كان نجس العين ، فلا يمكن أن يطهر مطلقاً كجلد الكلب ونحوه – فهذا لا يصح أن يمسح عليه .(34/9)
وعللوا ذلك : بأن الشارع قد نهى عنه فكيف يستباح من أجل رخصة .
الحالة الثانية : ما كان نجساً حكماً فهو في الأصل طاهر لكن وقعت عليه النجاسة ، فيصح أن يمسح على الخف . لأن إزالة النجاسة شرط في الصلاة وليس شرطاً في الوضوء وقد تقدم البحث في هذا في مسألة هل يجوز الوضوء قبل الاستنجاء .
إذن : إن كان نجس العين فلا يصح ، وأما إذا كان نجس الحكم فإنه يصح المسح عليه .
وهناك تعليل آخر – في مسألة ما كان نجس العين – وهي أنه عندما يمس الماء فإن الماء ينجس بذلك فتكون الطهارة بماء نجس .
فإن كان جلداً رقيقاً عليه مادة أخرى بحيث إن الماء لا يتغير بالنجاسة ففي عدم إجزاء المسح عليه نظر ، نعم هو محرم لكن في عدم الإجزاء نظر .
إذن : إذا مسح علي خف من جلد نجس العين فقد حرمه الحنابلة وقالوا : هو لا يجزئ .
ونحن نوافقهم علي التحريم .
وأما الإجزاء فإننا نقول :
إن كان الماء ينجس بالملاقاة فما قالوه قوي ؛ لأن التطهر حينئذ يكون بماء نجس .
وأما إذا كان لا يتغير كأن يكون مطلياً بمادة أخرى فإن في عدم الإجزاء نظر ، بل الأظهر أن ذلك يجزئ مع التحريم .
ومثل ذلك : فيما إذا كان محرماً ، فإنه قيده بقوله ( مباح ) أي على أن يكون الخف مباحاً أي حلالاً ، فإذا كان الخف مما يحرم أن يستخدمه كأن يكون مغصوباً فلا يجوز المسح عليه . لكن هل يجزئ المسح عليه ؟
قالوا : لا يجزئ لأن هذا الخف منهي عن لبسه فلا تستباح بمثله رخصة .
والأظهر ما تقدم : وأنه يجزئ ، وهو قول في المذهب مع أنه يكون آثماً للبسه هذا الخف المحرم .
فإذا كانت هناك ضرورة فلبس خفاً محرماً فحينئذ يزول التحريم ؛ لأن المحرمات تباح عند الضرورة .
إذن : إذا لبس خفاً محرماً فالمشهور في المذهب أنه لا يجزئ لأنه منهي عنه فلا تباح الرخصة .
وذهب بعض الحنابلة إلي أنه يجزئ عنه وهو أرجح فإن الرخصة في المسح ، أما ما فعله فإنه يكون آثماً عليه ، والعلم عند الله تعالى .(34/10)
قوله : ( ساتراً للمفروض ) .
أن يكون ساتراً للمفروض فلا يظهر منه شيء من القدمين من أطراف الأصابع إلي الكعبين .
فعلي ذلك : لو ظهرت الكعبان أو أطراف الأصابع فلا يجزئ ولو كان ساتراً من أطراف الأصابع إلي الكعبين ولكن اللون يظهر منه أي لون البشرة فكذلك لا يجزئ .
وظاهر ذلك : ولو كان فيه خرق يسير جداً فإنه لا يجزئ المسح عليه .
إذن : يشترط أن يكون ساتراً للمفروض ستراً كاملاً فلا يظهر منه(1) البشرة شيء .
فإذا كان واسعاً أو مخروقاً أو كان صافياً أو لا يغطي الكعبين فإن ذلك كله لا يجزئ ، واستدلوا بتعليل : وهو قولهم : إن الأمر إذا كان على خلاف ما تقدم فإنه يجب غسل الظاهر ومسح المغطى فحينئذ : يجمع بين الغسل والمسح وهذا أمر لا يشرع ، فلا يشرع الجمع بين الغسل والمسح .
لكن هذا التعليل ضعيف ، ذلك لأن المسح إنما يكون لظاهر القدم ولا يعمم العضو كله بالمسح ، فليس المسح للمغطى كله بل إنما يكون لظاهر القدم .
والصواب : أن هذه المسائل المتقدمة كلها يجوز المسح .
ونقف عليها واحدة واحدة :
أما إذا كان الخف صافياً :
- فمذهب الشافعية : جواز المسح عليه ؛ لأنه يسمى في الحقيقة خفاً ، وهو كذلك – على قاعدتهم - مغط للكعبين وساتر للمفروض وكونه صافياً لا يمنع من المسح عليه .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز المسح علي التساخين ؛ لأنها تسخن القدم ، والخف الساتر الذي يكون صافياً يثبت فيه التسخين ، فمذهب الشافعية جواز المسح عليه وهو الراجح .
أما الخف المخرقة :
فلا يخلو هذا الخرق أن يكون يسيراً أو كبير .
أما إذا كان يسيراً : فذهب المالكية والأحناف خلافاً للشافعية والحنابلة : إلى جواز المسح عليه .
وعلل المالكية والأحناف جواز ذلك : بأن خفاف الصحابة مع فقرهم لا تخلو من أمثال هذه الخروق ولم يثبت النهي عن ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : من .(34/11)
أما إن كانت خروقاً كثيرة : فالأحناف والمالكية فيها كمذهب الحنابلة والشافعية .
- وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية : إلى أن الخرق وإن كان واسعاً فيجوز أن يمسح على الخف ما دام يسمى خفاً .
فما دام هذا الجلد الملبوس للقدمين يسمى خفاً فإنه يجوز المسح عليه ، لأن الشارع أجاز المسح على الخفين مطلقاً ولم يقيده بقيد ولا حدده بحد ، فما دام يسمى خفاً فإنه يجوز المسح عليه – وهذا هو الراجح - .
فالراجح : أنه وإن كانت خروقاً كثيرة فيجوز المسح عليه ما دام يسمى خفاً ، فما دام يسمى خفاً فما هو الدليل الذي يمنع من المسح عليه وهو ما زال خفاً يدخل في إطلاقات النصوص المتقدمة .
أما إذا كان الخف غير ساتر للكعبين :
- فالجماهير على أنه لا يجوز المسح عليه .
- وذهب الأوزاعي وهو اختيار ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية : إلى أنه يجوز المسح عليه ، والعلة هي العلة المتقدمة قالوا : لأنه يسمى خفاً فيدخل حينئذ في إطلاقات النصوص الشرعية ، فما هو الدليل على المنع منه .
فعلى ذلك : ما يلبس على الأقدام – في هذا الزمان – من الأحذية التي الغالب فيها أن تكون دون الكعبين فإنها على هذا المذهب وهو الراجح يجوز المسح عليها ، فهي وإن كانت غير ساترة للكعبين ، فما هو الدليل الذي يدل على المنع من ذلك !
فإن إطلاقات النصوص تدل علي دخول ذلك .
وهذا القول مع قوته فإن في النفس منه شيء ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخفين في الحج أمر بتقطيعهما حتى يكونا كهيئة النعلين أي دون الكعبين ، فظاهر هذا أن خفافهم – المعتادة – كانت فوق الكعبين ، ولكن لقائل أن يقول : إن خفافهم التي حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك هي المعتادة عندهم .(34/12)
وأما إطلاقات النصوص فهي شاملة للمعتادة عندهم وغيرها ، و النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر قطعها وأن يكون أسفل من الكعبين – ذكر ذلك ؛ لأن المعتاد عندهم أن يكون ذلك دون الكعبين ، وأما خفاف غيرهم فلا يمنع أن تكون دون الكعبين وهي داخلة في عمومات النصوص الشرعية – والعلم عند الله تعالى - .
قوله : ( يثبت بنفسه )
أي لابد وأن يثبت الخف بنفسه من غير أن يكون مشدوداً أو مربوطاً أو غير ذلك .
فلو كان الخف لا يثبت على القدم إلا بربطه بحبل ونحو ذلك فإنه لا يجزئ المسح عليه ، فلابد أن يكون ثابتاً بنفسه بصنعته ، وأن تكون الصنعة بمجرد ما يلبس الخف يكون ثابتاً بنفسه .
أما إذا كان يحتاج إلى ربط أو نحو ذلك فإنه لا يجوز المسح عليه – وهذا القول ضعيف .
– لذا ذهب بعض الحنابلة وهو وجه عندهم وهو اختيار شيخ الإسلام : إلى أنه تجزئ عنه إذا كان ثابتاً بنفسه أو كان ثابتاً بغيره ؛ وذلك أنه إذا كان ثابتاً بغيره فهو في معنى ما كان ثابتاً بنفسه ، فلا فرق بين أن يكون ثابتاً في الصفة(1) أو يكون ثابتاً بغيره بربط أو شد ونحوه .
وعلل الحنابلة عدم جواز ذلك بأن المعتاد من الخفاف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الخفاف الثابتة بنفسها .
والجواب على ذلك :
أن يقال : هي وإن كانت العادة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن القياس يدخل ما كان ثابتاً بغيره فيها .
فما كان ثابتاً بغيره فإنه يقاس على ما كان ثابتاً بنفسه .
إذاً : المشهور عند الحنابلة أنه لابد أن يكون الخف ثابتاً بنفسه ، وإن كان ثابتاً بغيره بربط أو شد أو نحوه فإنه لا يجزئ وهذا قول ضعيف .
وهناك وجه عند الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أن ذلك لا يشترط والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الرابع والعشرون
( يوم الأحد : 13 / 11 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( من خف وجورب صفيق ونحوهما ) :
شرع المؤلف في بيان ما يجوز مسحه فقال :
__________
(1) لعلها : الصنعة(34/13)
( من خف ) : وقد تقدم تعريف الخفاف وأنها ما يصنع من الجلود ، ويتمكن بسبب صنعتها من الجلود من المشي عليها .
ولا شك أن ما يصنع من بعض المواد التي هي شبيهة بالجلود كأن يصنع من البلاستيك ونحو ذلك ، فحكمه حكمها أي حكم الجلود وقد تقدم اتفاق أهل العلم على جواز مسح الخفاف .
قوله : ( وجورب صفيق ) :
الجورب : هو ما يصنع على القدمين من الصوف ونحوه من الخرق ونحوها وهو ما يسمى عندنا ( بالشرابات ) .
وهي لا يمكن أن تباشر الأرض بها علي سبيل الدوام وإنما يمكنه أن يمشي بها ، ولكن إذا أكثر فيها من المشي فإنها تفسد وتتقطع .
فهذه الجوارب يجوز المسح عليها وهو مذهب الحنابلة خلافاً لمذهب جمهور الفقهاء ، وذهب إلى جواز المسح إسحاق وأبو يوسف .
وما ذهب إليه الحنابلة هو مذهب جمهور السلف بل هو مذهب الصحابة فقد ذكر ابن المنذر عن تسعة من الصحابة ، وزاد عليه أبو داود أربعة من الصحابة فثبت عن ثلاثة عشر صحابياً ، ولم يثبت لهم مخالف .
والقاعدة : أن الصحابي إذا قال قولاً ولم يعرف له مخالف فإن قوله حجة .
فهذه الآثار عن الصحابة دلت على جواز المسح علي الجوارب .
وهناك أدلة على جواز المسح علي الجوربين .
منها ما رواه أبو داود في سننه والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا علي العصائب " العمائم" والتساخين ) (1) وهي ما يسخن القدم من الخفاف ، ومثلها الجوارب فإنها كذلك تسخن القدم .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب المسح على العمامة ( 146 ) قال : " حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل ، حدثنا يحيى بن سعيد عن ثور عن راشد بن سعد عن ثوبان قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأصابهم البرد ، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين " .(34/14)
واستدلوا : بما رواه الترمذي من حديث هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مسح على الجوربين والنعلين ) (1) .
والحديث حسنه الترمذي ، ولكن هذا التحسين منه مخالف بعامة أهل الحديث ، فإن عامة أهل الحديث خالفوا الترمذي في ذلك ، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي وابن معين وسفيان الثوري والإمام أحمد وكذلك ضعفه النسائي وغيرهم ، وتضعيفهم ليس لسنده فإن سنده صحيح وإنما التعليل لأن عامة الرواة عن المغيرة سوى هزيل بن شرحبيل قد رووه بلفظ المسح على الخفين لا المسح على الجوربين ، فخالف عامتهم فرواه بلفظ المسح علي الجوربين ، فكان الحديث بذلك شاذاً ، فالحديث إذن : معلل عند عامه أهل العلم .
واستدلوا : بالقياس الصحيح ، فإن الجوربين كالخفين ولا فارق مؤثر بينهما فالخفان وإن كان يمكن المشي بهما على الأرض فإن هذا السبب ليس مما يغير من الحكم شيئاً ، فإن الجوارب تلبس معها النعال فتكون كهيئة الخفاف تماماً .
__________
(1) أخرجه الترمذيفيكتاب الطهارة ، باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين ( 99 ) قال : " حدثنا هنَّاد ومحمود بن غيلان قالا حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي قيس عن هُزيل بن شُرحبيل عن المغيرة بن شعبة قال : توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسح على الجوربين والنعلين " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق ، قالوا : يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كان ثخينين . وقال وفي الباب عن أبي موسى . قال أبو عيسى : سمعت صالح بن محمد الترمذي قال : سمعت أبا مقاتل السمرقندي يقول : دخلت على أبي حنيفة في مرضه الذي مات فيه فدعا بماء فتوضأ وعليه جوربان فسمح عليهما ثم قال : فعلت اليوم شيئاً لم أكن أفعله ، مسحت على الجوربين وهما غير منعَّلين " .(34/15)
ثم إن المشي بالخفاف ليس هو العلة الحقيقية في جواز المسح عليها ، وإنما العلة الحقيقية لها هي مشقة نزعها ، فلما ثبتت المشقة في نزعها والحرج ، والشريعة قد أتت برفع الحرج كان هذا الحكم ، فحينئذ لا فرق في ذلك بين الجوارب والخفاف .
إذن : ما ذهب إليه الحنابلة وهو مذهب جمهور السلف وهو مذهب الصحابة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه وغيرهما من المحققين أن الجوارب يجوز المسح عليها هو الراجح .
وقوله : ( صفيقين ) : الصفيق هو الكثيف أي الذي لا يظهر منه الجلد ، فلون الجلد لا يظهر منه .
فعلى ذلك الشرابات التي لا تستر الجلد بل تظهره لا يجوز المسح عليها في المشهور من المذهب ، وقد تقدم البحث في مسألة شبيهة لها في الكلام على الخفاف ، ومثلها هذه كذلك ، فقد ذهب بعض أهل العلم وهو مذهب إسحاق وأبي يوسف إلى : أنه لا حرج في المسح علي الصافية التي لا تستر الجلد بل تظهره ، فلا يشترط أن يكون الجورب صفيقاً كما لا يشترط أن يكون الخف صفيقاً بل لو كان غير ساتر فلا بأس ؛ لأن العلة ثابتة فيه أي في الجورب غير الصفيق – كما هي ثابتة في الصفيق ، فإن مشقة النزع والحاجة إليه ثابتة له كما هي ثابتة في الصفيق ، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات .
كذلك إذا كان فيه خروق وهو باق علي مسماه فيجوز المسح عليه خلافاً للمشهور كما تقدم .
قوله : ( ونحوهما ) :
كأن يكون من مادة أخرى غير الصوف أو غير الجلد فإنه يجوز المسح عليها .
أما اللفائف ، فسيأتي الكلام عليها ، وأن المشهور في المذهب عدم جواز المسح عليها ، وأن الراجح خلاف ذلك .
قوله : ( وعلى عمامة رجل محنكة أو ذات ذؤابة )
العمامة : معروفة
وقوله ( محنكة ) : أي مدارة تحت حنكه .
( ذات ذؤابة ) : الذؤابة هي الطرف المرخى من العمامة خلف الرأس .
إذن هنا مسألتان :
المسألة الأولي : جواز المسح على العمامة .
المسألة الثانية : أن هذا مخصوص بالمحنكة وذات الذؤابة .(34/16)
أما المسألة الأولي : فهذا هو المشهور في المذهب ، وأن المسح على العمامة جائز .
واستدلوا : بما روى البخاري عن عمرو بن أمية قال ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه ) (1) .
قال الإمام أحمد : " هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم "
أي ورد عن خمسة من الصحابة لكل واحد منهم طريق منفرد وأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته .
قال ابن المنذر : ( ومسح على العمامة أبو بكر ، وبه قال عمر و أبو أمامة وأنس ) وهولاء الصحابة الذين جزم ابن المنذر بمسحهم على العمامة لا يعلم لهم مخالف .
- وذهب الجمهور : إلى أن المسح على العمامة لا يجوز ؛ قالوا : وإنما مسح النبي صلى الله عليه وسلم عمامته مع ناصيته ، فلم يكتف بالعمامة ، بل مسح معها الناصية ، كما ثبت ذلك في مسلم من حديث المغيرة بن شعبة .
واستدلوا : بقوله تعالى { امسحوا برؤوسكم }(2) والمسح على العمامة ليس مسحاً علي الرأس .
والراجح هو القول الأول .
أما الجواب على أهل القول الثاني :
أما قولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته ، فهذا إنما هو في حديث المغيرة .
وأما الأحاديث الأخرى فمخرجها يختلف .
نعم يستحب له أن يمسح على ما يخرج من رأسه عادة مع العمامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة ، وأما الأحاديث الأخرى كحديث عمرو بن أمية فإنما فيها مجرد المسح علي العمامة فقط ، والفعل لا عموم له ، ففعله في حديث المغيرة لا يقيد به غيره من الأحاديث .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الوضوء ، كتاب المسح على الخفين ( 204 ) بلفظ : عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري أن أباه أخبره : أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين . وبلفظ ( 205 ) : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته " .
(2) سورة المائدة .(34/17)
قالوا : وقد أمر الله بغسل الرجلين ، ومع ذلك مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين ، كما أننا أجزنا المسح على الخفين فكذلك نجيز المسح على العمامة .
قالوا : والقياس الصحيح يدل على ذلك ، فإن الرأس يسقط مسحه في التيمم كما أن الرجلين يسقط مسحهما في التيمم ، فيقاس هذا على هذا .
إذن : الصواب مذهب الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام من جواز المسح على العمامة – وسيأتي البحث في المسائل المتفرعة على القول بمسح العمامة وشروط ذلك .
ولكن من باب ربط المسائل بعضها ببعض : فإن حكم العمامة كحكم الخف تماماً ، فعلى ذلك – على المذهب – لابد أن يكون طاهر العين مباحاً ونحو ذلك مما تقدم من أحكام الخف وما سيأتي كذلك .
أما المسألة الثانية :
وهي قوله : ( محنكة أو ذات ذؤابة ) .
إذن لابد أن تكون محنكة أو ذات ذؤابة .
قالوا : لأنها هي عمائم العرب وهي المعتادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعلى ذلك لا يمسح إلا عليها .
فعلى ذلك : العمامة الصماء - وهي ما ليست بمحنكة ولا ذات ذؤابة - لا يجوز المسح عليها عندهم .
واختار شيخ الإسلام جواز المسح عليها من باب القياس الصحيح من إلحاق النظير بنظيره ، فإنه لا فرق مؤثر بين العمامة الصماء وبين ذات الذؤابة والمحنكة .
هل يجوز المسح على القلنسوة ؟
القلنسوة : هي شبيهة بالطاقية التي نلبسها لكنها كبيرة تشبه العمامة ويشق نزعها .
صح المسح علي القلنسوة عن صحابيين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
الأول : أنس بن مالك كما في مصنف عبد الرزاق(1) .
والثاني : أبو موسى الأشعري كما عند ابن المنذر .
__________
(1) مصنف عبد الرزاق ج: 1 ص: 190
باب المسح على القلنسوة 745 عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن ضرار قال : رأيت أنس بن مالك أتى الخلاء ثم خرج وعليه قلنسوة بيضاء مزرورة فمسح على القلنسوة وعلى جوربين له مِرعزاً أسودين ثم صلى ، قال الثوري والقلنسوة بمنزلة العمامة " .(34/18)
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختاره بعض أصحابه .
والمشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم : عدم جواز المسح عليها .
والصحيح جواز ذلك ؛ لثبوت ذلك عن هذين الصحابيين ولا يعلم لهما مخالف .
ولأن النظير يلحق بنظيره والقلنسوة كالعمامة تماماً .
أما الطاقية فليست العلة الثابتة في العمامة ثابتة فيها فعلى ذلك لا يجوز المسح عليها ، قال الموفق : " لا نعلم في ذلك خلافاً "
إذن : كل ما يوضع على الرأس من العمائم وما يشابهها فإنه يجوز المسح عليه .
قوله : ( وخمر نساء مدارة تحت حلوقهن )
هذه المسألة ذات شقين :
الشق الأول : جواز المسح علي خمر النساء ، وواحده خمار وهو ما تضعه المرأة على رأسها .
والشق الثاني : وفيه أنه يكون مداراً تحت حلوقهن .
ودليل هذه المسألة ما رواه ابن المنذر وهو ثابت عن أم سلمة أنها كانت تمسح على خمارها.
أما دليل إدارته تحت الحلق : فلأنه إن لم يكن مداراً على الحلق فإنه لا مشقة في نزعه مطلقاً فحينئذ لا يجوز أن يمسح عليه بخلاف ما إذا كان مداراً على الحلق .
فإن المشقة تكون ثابتة في نزعه .
- وهذا خلاف ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من عدم جواز المسح على الخمار .
والصحيح هو القول بجواز المسح كما تقدم عن أم سلمة .
ولقياس النظير على النظير ، فهذا شبيه بالعمامة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( النساء شقائق الرجال ) (1) أما إن لم يكن مداراً على الحلق بل كان مرخى مطلق فهل يجوز المسح عليه ؟
الجواب : لا يجوز المسح عليه لأنه لا مشقة في نزعه فلم يكن في حكم العمامة .
فإن قيل : فهل يجوز للرجل أن يمسح على شماغه(2) ونحو ذلك ؟
فنقول : إذا أداره على حلقه جاز له المسح عليه وإن لم يدره فإنه لا يجوز أن يمسح عليه .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم ( 24999 ) ، باقي مسند الأنصار ، باقي المسند السابق ، وبرقم ( 25869 ) نحوه في مسند أم سليم . انترنت ، موقع الإسلام .
(2) أي الغترة .(34/19)
فإن قيل : فهل له أن يديره مطلقاً أم ليس له ذلك إلا لحاجة ؟
فالجواب : ليس له ذلك إلا لحاجة كأن يكون في برد شديد فأداره على حلقه وخشي إذا كشفه أن يحدث له شيء من المشقة من البرد ونحوه فإنه – حينئذ – لا فرق بينه وبين ما تقدم من المسائل .
وهذه من المسائل التي هي مسائل بحث .
إذن : لا بأس أن يقال كذلك بما نلبسه من شماغ ونحوه إذا فعله في برد ونحوه فإنه يجوز له أن يمسحه فإنه شبيه بالخمر وبالعمائم ونحوها لمشقة نزعه .
قوله : ( في حدث أصغر )
هذا في الخفاف والجوارب والعمامة والخمر ، فحل ذلك إنما يكون من حدث أصغر .
لحديث صفوان بن عسال وفيه : ( إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم ) (1)
فعلي ذلك : إذا أراد أن يغتسل فلا يجوز له أن يمسح على خفيه ولا عمامته ولا جوربه ، ولا المرأة على خمارها ، وإنما يجب أن يباشر العضو بالغسل .
إذن : الخفاف وما يلحق بها من العمائم ونحوها إنما يجوز المسح عليها إذا كان ذلك في حدث أصغر ، وأما الحدث الأكبر فلا يجوز المسح عليها .
قوله : ( وجبيرة لم تتجاوز قدر الحاجة )
الجبيرة هي ما يشد به الكسر أو الجرح من خشب أو خرق أو نحوها .
ما حكم المسح عليها ؟
قال هنا : ( وجبيرة ) أي يمسح عليها .
__________
(1) رواه الخمسة إلا أبا داود كما تقدم صْ 2 .(34/20)
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في المسح على الجبيرة ، لكن صح ذلك عن ابن عمر كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح وذكره ابن المنذر عن ابن عباس ولا يعرف لهما مخالف ، وبه قال جماهير أهل العلم من جواز المسح علي الجبائر وهو موضع ضرورة وقد قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }(1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (2)
__________
(1) سورة التغابن 16 .
(2) متفق عليه ، وقد تقدم . أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ( 7288 ) فقال رحمه الله تعالى : " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) "
وأخرجه مسلم في كتاب الحج ( 1337 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 9 / 100 ) ] فقال : " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ) فقال رجلٌ : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) " .
وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث ( 2357 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 15 / 109 ) ] فقال : " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا : كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) .
وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء .
حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة ، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم ، وفي حديث همام : ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة " .(34/21)
أما ما روى أبو داود وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم ( قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب علي جرحه خرقة ثم يمسح عليها ثم يغسل سائر جسده ) (1) فالحديث إسناده ضعيف .
فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجبيرة حديث وإنما ثبت ذلك عن بعض الصحابة كما تقدم .
لكن قيده بقوله : ( لم يتجاوز قدر الحاجة ) وذلك بأن تكون في موضع الجرح وما يكون حوله مما يحتاج إليه في وضع الجبيرة .
فإن الجبيرة : إذا كانت في كسر عظم ونحوه فإنها تكون على طرفي الصحيح من أجل أن يستقيم الكسر .
فوضعها على طرفي الصحيح إذا كان بقدر الحاجة لها فذلك جائز .
فإن وضعها زائدة فإنه لا يجوز أن يمسح على هذا القدر الزائد لأنه لا حاجة إليه .
إذن : لابد أن تكون على قدر الحاجة ، فتوضع على الكسر وما قارب الكسر مما لا يتم الجبر إلا به ، أما إذا زاد على ذلك فإنه لا يجوز .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في المجروح يتيمم ( 336 ) قال : حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجَرٌ فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك فقال : ( قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا ، فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى – على جرحه خرقة ثم يسمح عليها ويغسل سائر جسده ) .(34/22)
ولا يجوز كذلك المسح عليه بل يجب عليه أن يزيله ويغسل موضعه – هذا إذا كان هذا الزائد في موضع الغسل – لكن مثلا كان الكسر في المرفق فكان منه أن جبر المرفق ورفقه إلى العضد مع أنه يكفي أن يكون إلى منتصف العضد وكانت الطهارة طهارة صغرى فهذا لا يغيره لأن الموضع ليس موضع غسل .
أما في الطهارة الكبرى فلا يجوز له أن يترك هذا الموضع من غير غسل فهو مغطى من غير حاجة إلى تغطيته .
قال : ( إلى حَلِّها ) :
فهي ليست مؤقتة بوقت لأنها ضرورة ، فليست مقيدة بيوم وليلة ولا ثلاثة أيام بلياليها لأنها ضرورة .
وقوله : ( ولو في أكبر ) :
لأنها ضرورة فليست كالخف أو نحوه يمكنه أن ينزعه ويغسل جسده فليس الأمر في الجبيرة كذلك فإنه يتضرر بنزعها ويتأخر برؤه بل ربما زاد ذلك في مرضه ، فحينئذ المسألة مسألة ضرورة فيجوز له أن يمسح عليها سواء كان ذلك في حدث أصغر أو أكبر.
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الخامس والعشرون
( يوم الثلاثاء : 15 / 11 / 1414 هـ )
تقدم اختيار شيخ الإسلام في أن الخفين لا يشترط في جواز المسح عليهما أن يبلغا الكعبين .
ورأيت اختياراً له ذكره تلميذه ابن مفلح : " وهو أنه يجوز له أن يمسح على النعلين والقدمين إن كانا " أي النعلان " يشق نزعهما بيد أو رجل كما جاءت به الآثار "
فالحجة في ما وردت به السنة ، وذلك نحو النعال السبتية التي يشق نزعها فيحتاج في نزعها إلى اليد أو الرجل ونحو ذلك فإنها في حكم الخفين .(34/23)
وهذا كما يدل عليه القياس على الخفين ، تدل عليه كذلك الآثار فقد روى أبو داود – والحديث صحيح – من حديث أوس بن أوس(1) الثقفي أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مسح على نعليه وقدميه ) (2) وصح أيضاً المسح على النعلين في ابن خزيمة والبزار من حديث ابن عمر بإسناد صحيح .
ونحوه من حديث ابن عمر من طريق آخر في سنن البيهقي ، فعلى ذلك ، يجوز أن يمسح على النعلين إن ثبت فيهما ما ثبت في الخف من مشقة النزع ، ويمسح معهما القدمين أي ظاهر القدمين .
قال المؤلف رحمه الله : ( إذا لبس ذلك بعد كمال الطهارة )
قوله " ذلك " : إشارة إلى ما تقدم ذكره من الخفاف والعمائم والجبائر ، أنها لا يجوز المسح عليها إلا إذا لبست بعد كمال الطهارة .
أما الخف والجورب فإن دليلهما ، ما ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة قال : ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما فإني أدخلتهما طاهرين ) (3) أي أدخلتهما القدمين وهما أي القدمان طاهرتان .
__________
(1) كذا في الأصل ، والصواب : أوس بن أبي أوس الثقفي كما في سنن أبي داود .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، بعدبابالمسح على الجوربين ( 160 ) قال : " حدثنا مسدد وعباد بن موسى ، قالا : حدثنا هُشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه قال عباد : قال أخبرني أوس بن أبي أوس الثقفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه ،وقال عباد : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى كظامة قوم - يعني الميضأة – ولم يذكر مسدد الميضأة والكظامة ، ثم اتفقا : " فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه " .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ( 206 ) ، ولفظه : " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) فمسح عليهما . وأخرجه مسلم برقم ( 274 ) .(34/24)
والجورب مثل الخف في الحكم تماماً فإنه لا فارق بينهما .
وأما العمائم فقالوا : قياساً على الخفاف والجوارب .
ووجَّه شيخ الإسلام عدم شرطية ذلك في العمائم ، وأنه لا يشترط أن يكون لبسها على طهارة
ومثل ذلك : ما تقدم من خمر النساء والقلانس ونحوه مما يلبس على الرأس .
فقد وجه شيخ الإسلام القول بعدم شرطية لبس العمائم على طهارة .
وما قاله قوي ، وعلة ذلك : الفرق الواضح بين العمائم وبين الخفين ، فإن العمائم يكثر خلعها ونزعها فلم يكن القياس له وجه .
فإذن : العمائم يكثر نزعها بخلاف الخفاف ، لذا تقدم أنه يمسح على الخفاف في السفر ثلاثة أيام بلياليهن ، وللمقيم يوماً وليله ، بخلاف العمائم فإنها يكثر خلعها لذا وجه شيخ الإسلام عدم شرطية ذلك فيها .
ويدخل في قولهم : الجبائر ، فعلى ذلك يشترط في الجبيرة أن يلبسها على طهارة كاملة .
فمثلاً : رجل أصيب بكسر أو جرح فعلى هذا القول : ينتظر به حتى يتطهر .
لكن هذا القول ضعيف وذلك لأن الجبيرة إنما تلبس للضرورة ، وإذا ثبت هذا فإن تكليف المكلف الطهارة قبلها فيه حرج ومشقة .
لذا ذهب بعض فقهاء الحنابلة وهو الوجه الثاني عندهم : إلى عدم اشتراط ذلك ، وهو الراجح .
فالراجح أنه لا يشترط أن يشدها على بدنه على طهارة لأن الجبيرة موضع ضرورة ويلحق المكلف الحرج في اشتراط ذلك .
فإذن : لا يجوز المسح على الخف والجورب إلا إذا لبس على طهارة .
أما العمائم فالأقوى أنه لا يشترط لبسها على طهارة ومثل ذلك الجبائر .
وفي قوله : ( بعد كمال الطهارة ) مسألة وهي :
أنه لابد أن يكون هذا اللبس للخفين بعد أن تمت طهارته ، فلو لبسهما وقد بعَّض(1) الطهارة ولم يتمها فإن هذا لا يجزؤه .
ومن صور هذه المسألة :
لو أن رجلاً توضأ فلما غسل رجله اليمنى لبس الخف الأيمن ثم لما غسل رجله اليسرى لبس الخف الأيسر .
فإن هذا لا يجزؤه وهذا هو مذهب الشافعية .
__________
(1) بتشديد العين .(34/25)
واستدلوا : بما رواه ابن خزيمة وحسنه البخاري من حديث أبي بكرة الثقفي : أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للمسافر بثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما ) .
والشاهد قوله : ( إذا تطهر فلبس خفيه ) فجعل لبس الخفين بعد التطهر ، وهو قبل أن يغسل قدمه اليسرى لم تتم له الطهارة بعد .
ومثله الحديث المتفق عليه ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرين ) (1) أي أنه أدخل الخفين القدمين وهما – أي القدمان – طاهرتان .
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية – : إلى أنه لا يشترط ذلك .
قالوا : لأنه يصدق عليه أنه لبس الخفين على طهارة .
وفيما يظهر القول الأول فيه قوة ، فإن الطهارة لا تتم إلا بعد أن يغسل قدميه ، والمسألة محل بحث ونظر .
إذن فهنا قولان :
الجمهور قالوا : إنه يشترط أن يتم الطهارة كلها .
والقول الثاني : إنه لا يشترط ذلك ، بل لو لبس الخف الأيمن ثم غسل الرجل اليسرى ثم لبس الخف الأيسر فإنه يجوز له بعد ذلك أن يمسح عليها .
وعلة هذا القول : أنه يصدق عليه أنه لبس الخفين طاهراً ، لكن ظاهر الحديث المتقدم أن اللبس يكون بعد التطهر .
فإن قيل : إذا فعل ذلك بمعنى : غسل رجله اليمنى ثم لبس الخف الأيمن ثم غسل رجله اليسرى ثم لبس الخف فما المخرج ؟
الجواب : يخلع الخف الأول ثم يلبسه ، لأنه لا يشترط الترتيب في لبس الخفين فلو أن رجلاً مثلاً : غسل رجليه ثم لبس الخف الأيسر قبل الأيمن فلا بأس ولا حرج .
فإن قيل : فما الفائدة من هذا الخلع فإنه لا فرق بين الأمرين ؟
فالجواب : أنه ثمت فرق بينهما ، فإن الفرق أنه لبسه في المرة الأولى وهو لم يثبت طاهراً بعد ، فإنه لا يثبت طاهراً من الحدث الأصغر أو الأكبر إلا إذا تمت له الطهارة أما لبسه الثاني فإنه قد فعله بعد تمام طهارته .
__________
(1) تقدم قريباً .(34/26)
قوله : ( ومن مسح في سفر ثم أقام أو عكس أو شك في ابتدائه فمسح مقيم )
هنا ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : ( من مسح في سفر ثم أقام )
إذا مسح وهو مسافر بأن لبس خفه في سفر ومسح عليها لكنه قبل أن يتم المدة انتقل إلى الإقامة ، فحينئذ يتم مسح مقيم ، فينظر ما بقي له من مدة المقيم وهذا بإجماع أهل العلم كما حكاه ابن المنذر رحمه الله .
المسألة الثانية : عكس ذلك وهي أن يمسح في حال الإقامة ثم يسافر .
قالوا : يتم مسح مقيم ، إذن : يتم ما كان قد بدأه فإذا مضى يوم وليلة فإنه يجب عليه أن يغسل قدمه هذا هو مذهب الحنابلة .
وتعليلهم : أنه قد اجتمع عندنا مانع ومبيح فرجحنا المانع على المبيح.
فالمبيح أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن هو السفر ، والمانع هو كونه ابتدأه بالحضر ، فيرجح الجانب المانع على المبيح تغليباً له ، وهذا من باب الاحتياط
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذكر الخلال أن الإمام أحمد رجع إلى هذا القول : وأنه يمسح مسح مسافر .
وهذا هو الراجح ، لأنه أصبح مسافراً فحينئذ جاز له أن يرخص برخص المسافرين ومن ذلك تمام المدة .
ثم أن العلة وهي رفع المشقة والحرج في المسافر ثابتة لمن ابتدأه في حال الإقامة كثبوتها فيمن ابتدأه في حال السفر ، وهذا هو الراجح لأنه أصبح مسافراً ولا نظر إلى ابتدائه .
نعم يبني عليه ابتداء الوقت لكنه لا يمنع من أن يكون قد أتم المدة العليا وهي ثلاثة أيام بلياليها .
فالراجح أن المسافر إذا كان قد مسح وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر لأن الوصف الذي علق الشارع به هذا الحكم ثابت به وهو السفر
وكذلك العلة ثابتة فيه وهي رفع الحرج
المسألة الثالثة : ( أوشك في ابتدائه فمسح مقيم )
مثال : رجل مسافر قال : لا أدري هل ابتدأت المسح وأنا مسافر أو مقيم ؟
قالوا : يمسح مسح مقيم تغليباً لجانب الحظر .(34/27)
والراجح أنه يتم مسح مسافر لأن هذه المسألة أولى من المسألة السابقة ، فإن المسألة السابقة التي تقدم ترجيحها قد تيقن أنه ابتدأه مقيماً ومع ذلك جاز له مسح مسافر ، فهذه المسألة أولى لأنه يجهل هل ابتدأه مسافراً أم مقيماً ،
فإذا رجحنا في المسألة السابقة أنه يمسح مسح مسافر فأولى من ذلك إذا شككنا فيه .
فالراجح : بناءً على القول الراجح ، أنه إذا شك في المسح وهو مسافر هل ابتدأه وهو مسافر أم مقيم فإنه يتم مسح مسافر .
مسألة : إذا شك في المدة يعني مدة المسح هل ما زالت باقية أم إنها انتهت فما الحكم ؟
مثال : رجل مسافر وقال : لا أدري هل بقي من مدة المسح شيء أم لا ؟
فإنه يبني على الأصل ، والأصل هو الغسل ، فالأصل أن القدمين يغسلان ، والمسح إنما هو رخصة .
فعلى ذلك : تبني على الأصل وهو غسل القدمين – وهذا قد اتفق أهل العلم عليه – كما أنه هو الاحتياط في هذا الباب العظيم الذي هو مرتبط بهذا الباب العظيم وهو الصلاة .
قوله : ( وإن أحدث ثم سافر قبل مسحه فمسح مسافر )
هذا استثناء لما تقدم في المسألة السابقة .
تقدم أن المذهب أنه لو مسح مقيماً ثم سافر فإنه يتم مسح مقيم . لكن إذا لبس رجل خفيه وأحدث ثم سافر ومسح عليهما وهو مسافر :
قالوا : يتم مسح مسافر وهذا مما اتفق عليه أهل العلم حتى حكي إجماعاً
وذلك لأنه مسافر ، فالوصف الذي علق فيه الشارع الحكم ثابت فيه ، والعلة وهي رفع الحرج ثابتة فيه .
وهذا مشكل على المذهب ، فإنه قد تقدم أن مدة المسح تبدأ – عندهم – من الحدث وهو مذهب الجمهور ، وهو هنا قد أحدث في حال الإقامة ، وقد مضى من ذلك مدة ثم سافر ، فهذا مشكل على المذهب وعلى غيره ممن قال بهذا القول .
- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية : إلى أنه يتم مسح مقيم ، وهذه الرواية أصح بناء على القول المتقدم .(34/28)
وهذا مما يدل على ضعف القول المتقدم الذي فيه أن الوقت يبدأ من الحدث ، وقد قال الموفق في هذه المسألة – أي مسألة من لبس خفيه ثم أحدث ثم سافر ومسح وهو مسافر قال : ( لا نعلم في ذلك خلافاً ) حتى حكي ذلك إجماعاً ، وإن كان فيه رواية عن الإمام أحمد بخلاف ذلك لكن المشهور عنه هو أنه يتم مسح مسافر وهذا من الاضطراب والاختلاف ، فإن مما يدل على ضعف القول أن يضطرب فيه أو أن يختلف فيه .
فإذا رأيت القول يختلف فيه في الفروع أو المسائل فإن ذلك يدل على ضعفه .
فإذن على المذهب : رجل لبس خفيه ثم أحدث ثم سافر ومسح فإنه يمسح مسح مسافر .
ولو أنه لبس خفيه ثم أحدث ثم مسح مقيماً ثم سافر فإنه يتم مسح مقيم ، فخالفوا بين أمرين لا فارق مؤثر بينهما ، بل الواجب عليهم أن يتقيدوا بقولهم المتقدم فتكون المدة مبتدأة من الحدث .
فالراجح : أنه من سافر وقد بقيت مدة من مسحه وهو مقيم فإنه يمسح مسح مسافر لأن الوصف وهو السفر ثابت به ، والعلة هي رفع الحرج ثابت فيه .
قوله : ( ولا يمسح قلانس ولا لفافة ولا ما يسقط من القدم أو يرى فيه بعضه )
قوله : ( ولا يمسح قلانس ) هذا هو المذهب
وقد تقدم أن الراجح وهو رواية لأحمد جواز المسح عليها .
قوله : ( ولا لفافة )
اللفافة هي : ما يلف على الرجل حتى يكون كهيئة الخف أو الجورب .
والعلة أنها لم تثبت بنفسها بل تثبت بالربط والشد .
لكن هذا القول تقدم ضعفه وأنه لا يشترط في الخف والجورب أن يثبت بنفسه ، بل لو ثبت بربط أو شد فإنه يثبت له الحكم كما يثبت له لو ثبت بنفسه .
بل – في الحقيقة – أن مسح اللفافة أولى من مسح الجورب أو الخف وذلك لأن مشقة النزع في اللفافة أشد منها في الخف والجورب ، فإن خلع الخف والجورب أهون من خلع اللفافة ، فهي أولى بهذا الحكم .
لذا اختار شيخ الإسلام وهو قول في المذهب : إن اللفافة يصح المسح عليها وهو اختيار كثير من المحققين كالشيخ السعدي – خلافاً للمشهور في المذهب –(34/29)
قوله : ( ولا ما يسقط من القدم )
فالذي يسقط من القدم كذلك لا يجوز المسح عليه .
قالوا : لأنه لا يثبت بنفسه .
وقد تقدم تضعيف هذا التعليل وأنه إذا كان يسقط من القدم ثم شد بشيء أو ربط فيه بشيء فإنه يجوز المسح عليه .
ومثل ذلك : قوله : ( أو يرى منه بعضه ) : إذا كان فيه خرق بحيث أنه يرى من خلاله شيء من القدم ، فإن المذهب أنه لا يجوز المسح عليه سواء كان الخرق يسيراً أو كثيراً .
وسواء كان ذلك لخرق أو كان لشفافيته وصفائه ، فلو ظهر من القدم شيئاً لصفاء الخف فلا يجوز المسح عليه .
وتقدم ترجيح جواز المسح على الخف الصافي وكذلك المخروق .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس السادس والعشرون
( يوم الأربعاء : 16 / 11 / 1414 هـ )
تقدم شرح قول المؤلف : ( إذا لبس ذلك بعد طهارة كاملة )
واعلم أن مما يستثنى من الطهارة التيمم ، فإن من تيمم ولبس خفيه فليس له أن يمسح عليهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح – وسيأتي تخريجه في موضعه – ( فليتق الله وليمسه بشرته ) أي عليه إذا وجد الماء أن يتقي الله وأن يمس الماء بشرته .
وهذا يدل على أن طهارة التيمم لا يجوز أن يبنى عليها مسح الخفين – وهذا هو المشهور في المذهب –
واعلم أن لفظة ( بعد كمال الطهارة ) يدخل فيها من فيه حدث متجدد كسلس البول والاستحاضة ذلك لأن هذه الطهارة كمال في حقه .
فلو أن من به حدث متجدد وهو يجب عليه الوضوء لكل صلاة فلو توضأ فلبس خفيه فيجوز له أن يمسح عليهما لأن هذه هي الطهارة الكاملة في حقه .
واعلم أنه لا يشترط – كما هو والمشهور في المذهب – لا يشترط أن يبني المسح على الخفين علي طهارة خالية من المسح خلافاً لبعض الحنابلة .
فمثلاً : رجل توضأ فمسح على عمامته ، فهذا الوضوء مستحل فيه مسح ، ثم لبس خفيه ، فهل يجوز أن يمسح عليهما ؟(34/30)
الجواب : نعم لأن هذا المسح منه في طهارة كاملة فهو قد بني هذا على طهارة ذات مسح ، فإنه قد استبدل مسح رأسه بمسح عمامته ولكن هذا الوضوء مع ذلك وضوء كامل لأن هذا البدل قام مقام المبدل منه .
قال المؤلف رحمه الله : ( فإن لبس خفاً على خف قبل الحدث فالحكم للفوقاني )
رجل لبس خفاً على خف في كل رجل ، أو جمع بين جوربين في كل رجل ، فحينئذ ما حكم المسح على الفوقاني ؟
هنا ثلاث صور :
الصورة الأولى : وهي ما ذكره المؤلف : رجل توضأ فلبس خفيه ثم مباشرة وقبل أن يحدث لبس خفين آخرين .
إذن : ما زال عليه وضوؤه الأصلي فما زال وضوؤه ذا غسل للرجلين .
فالحكم : إنه يمسح على الفوقاني .
ولا شك أن له أن يمسح على التحتاني أيضاً ؛ لأن التحتاني لم تثبت بدليته بعد عن القدم فإنه لم يمسح عليه بعد وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم .
وحينئذ : يكون الخفاف كالخف الواحد – أي في الحكم –
إذن : إذا لبس خفين ثم لبس فوقهما خفين فإنه يمسح على الفوقاني لأن هذا خف ساتر وقد لبسه على خف لم يمسح بعد ولم يثبت الحدث بعد .
الصورة الثانية : وهي مقابلة لهذه الصورة وهي : أن يلبس الخف الثاني بعد الحدث .
مثال : رجل لبس الخفين ثم أحدث ثم لبس خفين آخرين فهذا اللبس ليس مما يبنى عليه المسح ؛ ذلك لأنه لبسه على غير طهارة بل على حدث .
ومعلوم أن اللبس على الحدث لا يجيز المسح على الخفين ؛ لأنه ولابد أن يكون لبسه على طهارة ، وهنا قد لبس الخفين على حدث ويخرج على قول شيخ الإسلام العمامة المسح عليه لكثرة نزعه .
الصورة الثالثة : أن يلبس الخفين ثم يحدث ثم يمسح عليهما ثم يلبس خفين آخرين .
فهل يجوز له أن يمسح على الخفين الآخرين أم لا يجوز بل يمسح على الخفين الأولين ؟
قولان لأهل العلم :
فالمشهور في المذهب : أنه لا يجوز أن يمسح على الفوقانين بل الحكم للتحتانين .(34/31)
و عللوا ذلك : بأن الخفين الأوليين بدلان عن القدم فهما يمسحان مكان غسل القدم ، والبدل لا يجوز أن يوضع عنه بدل ، فهو بدل فكيف يكون له بدل آخر .
هذا هو المشهور في المذهب وهو أنه لا يجوز المسح على الفوقاني ، لأن الخفين الأوليين بدل عن غسل القدم والبدل لا بدل له .
2- والقول الثاني ، وهو مذهب ذهب إليه بعض الشافعية قالوا : بل يجوز أن يمسح عليهما – أي الفوقانيين ؛ لأنه قد أدخل هذين الخفين على طهارة ، وهذان الخفان يكون لهما حكم واحد فهما كالخف الواحد فكلاهما غطاء للقدم ، فيكون حكمهما كالخف الواحد الذي له ظهارة(1) وبطانة ، فهذا ظهارته وهذا بطانته .
فقالوا : يجوز المسح عليهما لأن الخفين في حكم واحد .
وهذا القول أظهر من القول الأول .
نعود إلى الصورة الأولى وهي : ما إذا لبس خفيه بعد الخفين الأولين مباشرة وليس بعد حدث ، فقد تقدم أنه يجوز المسح على الخف الفوقاني – فإذا مسح عليه فالمشهور في المذهب أنه يثبت الحكم له دون التحتاني ويكون التحتاني كأنه جزء من القدم .
صورة ذلك :
رجل لبس خفين وقبل أن يحدث فما زالت طهارته طهارة غسل القدمين ، لبس خفين آخرين فمسح عليهما ، فهذا المسح جائز له عند جمهور أهل العلم ، فإذا ثبت هذا المسح فإنه – حينئذ – يكون للفوقاني .
فلو خلع الفوقاني فإنه يثبت ذلك الحكم للتحتاني فيكون كأنه قد خُلع – أي التحتاني – وحينئذ يجب عليه أن يغسل قدميه .
إذن : لو لبس الفوقاني فمسح عليه ثم أراد أن يخلع الفوقاني فيجب عليه أن يخلع التحتاني .
قالوا : لأن المسح ثابت له – أي الفوقاني – فإذا انكشف فقد انكشف محل المسح وبقي الغسل ، وهو إنما ثبت للقدمين .
__________
(1) كذا في الأصل .(34/32)
والقول الثاني ، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره جماعة من أصحابه كالمجد وهو مذهب الجمهور : أنه لا يثبت الخلع للتحتاني بخلع الفوقاني قالوا : لأنه إذا خلع الفوقاني فإن القدم ما زالت مغطاة بخف قد لبس على طهارة وهي كخف واحد ، وقد تقدم هذا التعليل – فكأن أحدهما ظهارته والآخر بطانته .
وهذا القول أظهر ، وأنه إذا لبس الخفين الآخرين ومسح عليهما ثم نزعهما فإنه لا يجب عليه أن ينزع التحتاني ويغسل القدمين بل له أن يمسح على التحتاني ويبقى على المدة الأصلية للخفين أو الأربع خفاف .
واعلم أن الخفين - ونريد بالخفين الخف الأعلى والخف الأسفل - لهما أربع أحوال :
الحالة الأولى :
أن يكونا صحيحين ، فهنا لا إشكال في المسألة المتقدمة ؛ لأن كليهما يصح أن يمسح عليه منفرداً .
الحالة الثانية :
أن يكونا كلاهما منخرقاً ، فكلاهما فيه خرق :
فالمشهور في المذهب : أنه لا يجوز له أن يمسح عليهما جميعاً ؛ لأن القدم لم يثبت عليها خف صحيح .
والقول الثاني في المذهب : أنه يجوز أن يمسح عليهما لأنهما بمجموعهما يستران القدم .
وهذا أصح لأن القدم قد ثبت ساتر لها فجاز أن يمسح عليه .
الحالة الثالثة :
أن يكون الأسفل منخرقاً والأعلى صحيحاً ، فلا يجوز له أن ينفرد بمسح الأسفل دون الأعلى لأن الأسفل المباشر للرجل منخرق غير ساتر لها – وهذا على القول المرجوح – ، خلافاً للراجح الذي تقدم .
وأما الأعلى فإنه يمسح عليه ؛ لأنه إذا مسح عليه فيقع المسح على ساتر للقدم .
الحالة الرابعة :
أن يكون الأسفل صحيحاً والأعلى منخرقاً
فهل يجوز أن يمسح الأعلى أم لابد أن يمسح الأسفل ؟
قولان في المذهب .
القول الأول : إنه لا يجوز له أن يمسح على الأعلى لأنه بمسحه على الأعلى يباشر المسح بما لا يجوز المسح عليه ،
وأما الأسفل فإنه خف صحيح فإذا مسح عليه فإنه يمسح على ساتر صحيح فوجب عليه أن يمسح على الأسفل دون الأعلى .(34/33)
وهذا من حيث القواعد المذهبية أصح ، وأما من حيث القول الراجح الذي تقدم - وأن المسح على الخفين – يجعلهما كالخف الواحد ، فإنه يترجح القول الذي يقول بجواز المسح على الخف الأعلى وإن كان منخرقاً .
وكذلك من باب أولى على القول بأن الخف يجوز المسح عليه وإن كان منخرقاً فإنه لا أشكال في ترجيح هذا القول .
إذا كان أحدهما منخرقاً والآخر صحيحاً فيجوز على القول الراجح أن يمسح على الأعلى – في الصورتين كليهما – .
وأما إذا تقيدنا بقاعدة المذهب من عدم جواز المسح على المنخرق إذا كان هو الأسفل فلا يجوز المسح عليه وإن كان هو الأعلى فكذلك لا يجوز المسح عليه بل يجب أن يباشر المسح بساتر صحيح .
قوله : ( ويمسح أكثر العمامة )
قياساً على الخف ، فلا يجب عليه أن يمسح العمامة كلها ، بل يجوز له قياساً على الخف – أن يمسح أكثرها فكلاهما بدل عن عضو ، فهذا بدل عن القدمين ، والخف يمسح ظاهره – كما سيأتي – فكذلك العمامة يكتفي بمسح أكثرها ولا يجب أن يستوفيها بالمسح .
وذكر الحنابلة أنه يختص المسح بدوائرها أي بكوْر العمامة دون وسطها ، ولم أر دليلاً يدل على ذلك .
بل الأظهر أنه يمسح على الإطلاق عمامته ، وأن يكتفي بمسح أكثرها من غير أن يحدد ذلك بكورها دون وسطها .
قوله : ( وظاهر قدم الخف من أصابعه إلى ساقه دون أسفله وعقبه )
( وظاهر قدم الخف ) : أي فلا يمسح أسفله وإنما يمسح أعلاه أي أعلى الخف .(34/34)
ودليل ذلك : ما روى أبو داود والترمذي من حديث علي قال : ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من أعلاه ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه ) (1)
ويدل عليه ما رواه أبو داود والترمذي من حديث المغيرة بن شعبة قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما ) (2)
ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على أسفل الخف .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب كيف المسح ( 162 ) قال : " حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حفص - يعني ابن غياث - عن الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير ، عن علي رضي الله عنه قال : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفيه " . ولم أجده في الترمذي ، بل قال في حاشية أبي داود : " تفرد به أبو داود " .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في المسح على الخفين ظاهرهما ( 98 ) ، وأخرج أبو داود في كتاب الطهارة ، باب كيف المسح عن المغيرة ( 161 ) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسمح على الخفين " وقال غير محمد : على ظهر الخفين " .(34/35)
وأما ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مسح أعلى الخف وأسفله ) (1) فالحديث إسناده منقطع ، وقد ضعفه أحمد والبخاري وأبو زرعة وغيرهم من أئمة الحديث ، فالحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن : المشروع له أن يمسح ظاهر خفيه .
فإن مسح أسفله دون ظاهره فلا يجزئه ذلك ؛ لأن كل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد ، وأمره إنما هو مسح ظاهر الخف دون أسفله .
فإذن : يجب أن يمسح ظاهر الخف دون أسفله ولا يشرع له أن يمسح أسفله ، فإذا اكتفى بأسفله فإن المسح باطل ؛ لأن ذلك خلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( من أصابعه إلى ساقه ) :
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في المسح على الخفين أعلاه وأسفله ( 97 ) . وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب كيف المسح ( 165 ) قال : " حدثنا موسى بن مروان ومحمود بن خالد الدمشقي ، المعنى ، قالا : حدثنا الوليد ، قال محمود : أخبرنا ثور بن يزيد عن رجاء بن حَيْوَة عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال : وضَّأت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فمسح أعلى الخفين وأسفلهما " . وأخرجه ابن ماجه في الطهارة برقم 550 ، سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 116 ] .(34/36)
لما روى البيهقي من حديث الحسن عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مسح على خفيه فوضع اليمنى على خفه الأيمن واليسرى على خفه الأيسر ثم ذهب منهما إلى أعلاه مسحة واحدة ) (1)
لكن الحديث إسناده منقطع ، فإن الحسن لم يسمع من المغيرة .
قال الإمام أحمد : ( كيفما فعل أجزأه باليد الواحدة أو باليدين ) سواء بدأ من الأسفل إلى الأعلى ، أو من الأعلى إلي الأسفل ، وسواء مسح ذلك على الصورة المتقدمة في الحديث : اليمنى على الأيمن واليسرى على الأيسر
أو اليمنى على الأيسر ، واليسرى على اليمنى ، أو مسح باليمنى كليهما أو باليسرى كليهما ، فكل ذلك جائز لا حرج فيه ، والحديث الذي تقدم ذكره إسناده ضعيف
قوله : ( وعلى جميع الجبيرة )
هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وأنه يجب المسح على الجبيرة كلها ، فلا يكتفي بمسح بعضها ، ولو كان ذلك الممسوح أكثرها ، بل يجب أن يعمها بالمسح ؛ وذلك لأنها بدل عن العضو الواجب غسله وهي يجب مسحها من باب قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }(2) .
فإن قيل : ألا تقاس على الخفين ؟
فالجواب : لا تقاس على الخفين للفوارق بينهما وقد تقدم ذكر بعضها .
منها إنها لا ترتبط بالمدة .
ومنها إنها لا يشترط فيها الطهارة .
ومنها أنها لا تختص بعضو من الأعضاء وإنما عامة في أي عضو – وغير ذلك من الفوارق الثابتة بينهما .
وكذلك ، أنها يمسح عليها من الحدث الأكبر بخلاف الخف .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم [ 1385 ] قال : " وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو الوليد الفقيه ثنا الحسن بن سفيان ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثناأبوأسامة عن أشعث عن الحسن عن المغيرة بن شعبة قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم جاء حتى توضأ ثم مسح على خفيه ووضع يده اليمنىعلىخفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسرثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلى أصابع رسول الله على الخفين"(34/37)
والفرق الخامس كونها تمسح جميعها .
فإذا ثبت الفارق فإنه لا يجوز القياس بل نبقى على الأصل ، وهو أن البدل له حكم المبدل ، والمبدل : يجب أن يعمم بالغسل ولكن الغسل غير ممكن فحينئذ ينتقل إلى المسح ، ولا شك أن غسل الجبيرة يؤثر فيها إفساداً فناب المسح عنه .
قوله : ( ومتى ظهر بعض محل الفرض بعد الحدث أو تمت مدته استأنف الطهارة )
إذا طهر بعض محل الفرض فإنه يبطل وضوؤه .
صورة ذلك :
رجل عليه خفان وكان منه مسح عليهما فخلعهما فإن الوضوء يبطل – وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء – ؛
قالوا : لأنه بخلع خفه قد أزال محل المسح ولأن النبي صلى الله عليه وسلم – وهذا في تمام المدة – قد وضع مدة محددة فمتى انتهت هذه المدة يبطل المسح .
إذن : إذا خلع أحد الخفين أو انكشف بعض القدم فإنه يبطل وضوؤه ؛ ذلك لأن محل المسح قد زال فما دام قد زال فإنه يبطل الوضوء في القدم ، وإذا بطل الوضوء في القدم فإنه يبطل الوضوء في سائر الأعضاء .
وكذلك تمام المدة ، فإذا تمت المدة التي حدد النبي صلى الله عليه وسلم فيبطل هذا المسح وببطلان المسح تبطل طهارة القدم ، وببطلان طهارة القدم تبطل الطهارة كلها .
- وذهب الحسن وقتادة في المسألتين كلتيهما وهو – اختيار شيخ الإسلام ومذهب ابن حزم – ذهبوا : إلى أن الخلع وتمام المدة لا يبطلان الوضوء فإذا خلع خفيه فإن وضوءه باق وكذلك إذا تمت المدة فإن وضوءه باق .
أما الخلع : فقالوا هو نظير حلق الرأس ، فمن حلق رأسه فإن وضوءه يبقى .
ثم إن خلع الخفين ليس من نواقض الوضوء فليس بحدث ينقض الوضوء ، والأصل بقاء الطهارة وثبوتها ولا يمكن أن ينقض إلا بدليل ، فما هو الدليل على النقض .
وزوال الممسوح لا يدل على انتقاض الطهارة بدليل أن حلق الرأس لا ينقض الطهارة بالاتفاق .(34/38)
وأما تمام المدة فقالوا إنما وضع النبي صلى الله عليه وسلم المدة لبيان الوقت الذي يجوز فيه المسح وقد تقدمت الأدلة التي ظاهرها هذا القول وأن هذه المدة إنما للمسح وليس في الأدلة أنه لا يجوز له أن يصلي بوضوء ثبت في وقت المسح .
فلو أنه مسح قبل ساعة من انتهاء مدة المسح فإذا تمت المدة فلا يجوز له أن يمسح ، هذا هو ظاهر الأدلة ، وليس في الأدلة أنه لا يجوز له أن يصلي بهذا الوضوء الذي قد انبنى على هذا المسح ، والأصل بقاء الطهارة ولا دليل يدل على نقضها .
إذن : الراجح : ما ذهب إليه الحسن البصري وهو اختيار شيخ الإسلام من أن خلع الخفين وانتهاء مدة المسح لا ينقض الوضوء .
والحمد لله رب العالمين .
انتهى باب مسح الخفين
باب : نواقض الوضوء
الدرس السابع والعشرون
( يوم السبت : 19 / 11 / 1414 هـ )
نواقض : جمع ناقض وهو فاعل النقض .
والنقض : هو النكث و إفساد الشيء بعد إحكامه .
يقال : " نقض الشيء " أي أفسده بعد إحكامه
فيكون المعنى : مفسدات الوضوء أو مبطلاته .
فعندما يقع النقض ، فإن ذلك الوضوء الذي ثبت تصحيحه شرعاً يبطل .
والوضوء : تقدم تعريفه لغة واصطلاحاً ، وهو هنا بالضم ( الوُضوء ) ؛ لأن المراد فعل الوضوء لا ماؤه .
قال المؤلف رحمه الله : ( ينقض ما خرج من سبيل )
السبيل في اللغة : الطريق ، وهو هنا : مخرج البول والغائط .
( ما خرج من السبيل ) : من بول أو غائط أو مذي أو ودي فكله يخرج من السبيل .
المذي : هو سائل لزج(1) يخرج بسبب تحرك الشهوة – وسيأتي الحكم عليه من حيث النجاسة وعدمها - .
أما الودي : فهو سائل أبيض ثخين يخرج بعد البول .
والبول والغائط والمذي والودي والريح كلها مما يخرج من السبيل – وقد أجمع العلماء على نقضها للوضوء - .
أما الودي فدليله الإجماع .
__________
(1) في الأصل – المذكرة - : زلج .(34/39)
وأما المذي فدليله : ما تقدم مما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يغسل ذكره ويتوضأ )(1) .
وأما الريح فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )(2) متفق عليه .
وأما البول أو الغائط فدليله ما تقدم من حديث صفوان بن عسال وفيه : ( ولكن من غائط وبول )(3)
فهذه أشياء معتادة يثبت النقض بها إجماعاً .
* فإن خرج منه شيء غير معتاد كالحيض والدم ونحو ذلك مم قد يخرج من السبيلين مما ليس بمعتاد ، فهل ينقض الوضوء أم لا ؟
قال الحنابلة - وهو مذهب جمهور أهل العلم – : ينقض الوضوء بخروجه، فلو خرج من السبيلين حيض أو نحوه مما ليس بمعتاد فإنه ينقض الوضوء به عند جمهور الفقهاء .
__________
(1) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في باب المذي من كتاب الحيض ( 303 ) . وأخرجه البخاري بلفظ ( توضأ واغسل ذكرك ) في باب غسل المذي والوضوء منه ( 269 ) ، وبلفظ ( 132 ) : " فيه الوضوء " .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ( 137 ) ، ( 177 ) عن عباد بن تميم عن عمه : أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : ( لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك ( 361 ) .
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم ( 95 ) باللفظ نفسه ، وأخرجه النسائي في كتاب الطهارة ، باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر ( 126 ) قال : أخبرنا قتيبة قال حدثنا سفيان عن عاصم بن زر عن صفوان بن عسال قال : رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن " . وابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب الوضوء من النوم ( 478 ) . وقد تقدم صْ 2 .(34/40)
وخالف الإمام مالك فقال : بأن الوضوء لا ينتقض ، لأن الشارع ذكر نواقضه كما في قوله ( ولكن من غائط وبول ونوم ) وغير ذلك من الأحاديث .
والراجح : ما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، وذلك لدليل من السنة وهو ما رواه أبو داود في سننه من حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها – وكانت مستحاضة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها : ( إذا كان دم الحيضة وهو دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئ فإنما هو عرق )(1) أي دم عرق قد خرج من السبيلين فوجب فيه الوضوء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – من حديثها – كما في البخاري : ( توضئي لكل صلاة )(2)
قالوا : والدم هنا ليس بمعتاد وقد أوجب الشارع فيه الوضوء .
ثم أيضاً : الإجماع(3) على الودي ، والودي ليس بمعتاد ومع ذلك يجب الوضوء عند خروجه – وهما غير معتادين – فغيرهما – مما قد يخرج وليس بمعتاد – مثل ذلك .
__________
(1) أخرجه أبوداود في كتاب الطهارة ، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة ( 286 ) قال : " حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن أبي عدي عن محمد يعني ابن عمرو قال : حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان دم الحيضة ، فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك أمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما هو عرق ) . وأخرجه النسائي برقم 201 ، سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 197 ] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب غسل الدم ، ( 228 ) بلفظ : عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أظهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ، إنما ذلك عرق .. ) قال : وقال أبي : ( ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت ) .
(3) كذا في الأصل ، ولعل الأقرب : القياس .(34/41)
ثم إن هذا الغير معتاد يحمل – إلا في أحوال نادرة جداً ، يحمل – شيئاً من البلل أي من بلَّة السبيلين وخروج هذه البلة ينقض الوضوء .
لذا لا يشترط أن يكون الخارج منه خرج هكذا بطبيعته بل لو أدخل شيئاً من الدهن ونحوه كأن يتطيب به فيخرج فإن ذلك ناقض للوضوء أيضاً .
ولو وضعت المرأة خرقة أو نحو ذلك فخروجها ناقض للوضوء ؛ لأن هذا خارج من سبيل يحمل بلته فينتقض الوضوء منه .
وأطلق الحنابلة في كل خارج سواء كان فيه بلة أو لم يكن فيه بلة .
وذهب بعض فقهاء الحنابلة : إلى إنه إن لم يكن الخارج فيه بلة فلا ينتقض به الوضوء .
لذا قالوا في مسألة غريبة ذكرها الموفق وذكر أنها لا توجد أصلاً ، ولكن هذا الذكر منه إنما هو لما بلغه من العلم وإلا فقد يبلغ غيره من العلم ما لم يبلغه – : وهو خروج الريح من القبل فإذا خرجت فعلى القول الأول ينتقض الوضوء .
وعلى القول الثاني لا ينتقض .
وهذه الريح لا تحمل بلة فعلى ذلك لا ينقض الوضوء على هذا القول ، ولكن القول الأول أحوط ، وأما الثاني ففيه – في الحقيقة – قوة ، ولكن على القياس المتقدم مع الاحتياط المذكور يتقوى ما هو مشهور عند الحنابلة من وجوب الوضوء من ذلك .
قوله : ( وخارج من بقية البدن إن كان بولاً أو غائطاً )
إذا خرج من بقية البدن ، كأن يكون في معدته خرق أو فتح فيخرج منه بول أو غائط ، فإذا خرج منه بول أو غائط فإنه ينتقض وضوؤه ؛ لأنه بول وغائط ، وفي الحديث : ( ولكن من غائط وبول ) وهذا بول أو غائط ، فينتقض الوضوء .
وظاهره سواء كان الخرق فوق المعدة أو تحتها .
وذهب بعض فقهاء الحنابلة والشافعية : إلى إن ذلك إذا كان تحت المعدة .
أما إذا كان من المعدة فأعلى فلا ينقض الوضوء .
قالوا : ودليلنا على ذلك : القيء فإنه لا ينقض الوضوء فإذا ثبت أنه لا ينقض الوضوء فمثله غيره ، فالحكم عندهم منوط بما تحت المعدة .(34/42)
لكن القول الأول أقوى ؛ لأن هذا بول وغائط وقد خرج ولو كان من غير السبيلين فيثبت به الحكم المتقدم .
* وهنا لم يذكروا الريح ، فلو خرجت الريح من موضع غير السبيلين فظاهره أن الوضوء لا ينتقض
وقد يقال : إن في هذا شيئاً من الاضطراب فكيف الريح إذا خرجت من القبل فإنها تنقض أما إذا خرجت من غير السبيلين فإنها لا تنقض ؟
لذا ذهب بعض الحنابلة : إلى إنها تنقض إذا خرجت من غير السبيلين .
فإذن : إذا خرجت الريح من موضع غير السبيلين فهل تنقض أم لا ؟
قالوا : لا تنقض الوضوء ، وهناك – أي عند خروجها من الدبر أو القبل – تنقض فما الفارق ؟
الفارق : أنها عند خروجها من السبيلين هي رائحة ثبتت في مخرج طبيعي لها أو قريب من الطبيعي ، وأما إذا خرجت من قريب من المعدة فهي أشبه بالجشاء وهو متفق أو مجمع على أنه ليس بناقض للوضوء .
لذا يتوجه أن الريح إذا خرجت من المعدة إنها لا تنقض الوضوء(1) .
قوله : ( أو كثيراً نجساً غيرهما )
إذن : لا ينقض إلا البول أو الغائط أو الكثير النجس كالدم فالدم نجس ، وكالقيء فإن القيء عندهم نجس ، أو الصديد أو ماء الدم أو القيح ونحو ذلك ، كل هذا إذا خرج منه شيء من البدن فإنه ينقض الوضوء .
إذن : إذا خرج النجس من شيء من البدن سواء كان من الفم أو الأنف وهو الرعاف أو أي موضع فإنه ناقض للوضوء من دم أو قيء وهو ما يخرج من المعدة ثم يخرج من الفم ، ومثله القلس وهو أقل منه ، ومقداره ملء الفم فما دون مما يخرج من المعدة ، وأما القيء فهو ما زاد(2) على ذلك ، فهذه كلها أشياء نجسة إذا خرجت من شيء من البدن فإن الوضوء ينتقض .
وهنا احترازان ذكرهما المؤلف :
__________
(1) وهنا عبارة بخط آخر نصه : " فيترجح أن لها حكم الغائط والبول ، فإن خرجت من تحت المعدة نقضت وإلا فهي كالجشاء".
(2) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : ما زاد .(34/43)
الأول قوله : ( كثيراً ) فعلى ذلك إذا كان يسيراً من دم أو قيء فإنه لا ينقض الوضوء ، فالكثير هو الناقض .
والمشهور في المذهب : أن الكثير لكل أحد بحسبه ، فكل مكلف ينظر في الدم الذي خرج منه أهو قليل أم كثير .
ولكن هذا القول – في الحقيقة – لا ينضبط ؛ لأن الناس يختلفون في النظر إلى القليل والكثير .
- وذهب ابن عقيل من الحنابلة : إلى أن الكثير إنما ينظر فيه إلى أوساط الناس أي غير المتبذلين ولا الموسوسين .
فالموسوسون قد يرون القليل كثيراً ، والمتبذلون قد يرون الكثير قليلاً ، فيكون النظر إلى أوساط الناس ، فما كان كثيراً بالنظر إلى أوساط الناس فهو كثير ، وما كان قليلاً فهو قليل .
فعلي ذلك القطرات التي تخرج ، هذه لا تنقض الوضوء .
ومثلاً : رجل أدخل منديلاً في أنفه فخرج فيه شيء من الدم فإنه لا ينتقض وضوؤه في المذهب .
أما إذا خرج كثير رعافاً فإنه ينتقض الوضوء .
ومثلاً : خرج شيء يسير من معدته فلا ينتقض الوضوء ، أما إذا كان يملأ الفم أو نحو ذلك فإنه ينتقض .
وهذا القول أصح ؛ لأن الضابط الأول – في الحقيقة – ليس بمنضبط ؛ لأن الناس يتفاوتون في هذا الباب .
الثاني : قوله : ( نجساً ) فلو كان هذا الخارج من البدن ليس نجساً بل هو طاهر فلا ينقض الوضوء ، فلو خرج منه كالبصاق أو ماء العين أو نحو ذلك – هذه أشياء تخرج من البدن طاهرة وليست بنجسة فلا تنقض الوضوء .
إذن : الناقض للوضوء هو النجس الكثير الخارج من البدن سواء من السبيلين أو غيرهما ينتقض به الوضوء .
أما السبيلان فلا يشترط أن يكون قليلاً أو كثير ، بل القليل ينقض الوضوء لإطلاقات الأحاديث ، فإن البول أو الغائط أو نحو ذلك ليس فيه هذا التفريق المذكور في الدم ونحوه .(34/44)
1- هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة واستدلوا بأدلة منها : ما رواه ابن ماجه من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم )(1)
وبما رواه الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( قاء فتوضأ )(2) .
2- وذهب الشافعية والمالكية : إلى إن هذه لا ينتقض بها الوضوء ، فلا ينتقض الوضوء بالدم والقيء قليلاً كان أو كثيراً واستدلوا :
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة ، باب ما جاء في البناء على الصلاة ( 1221 ) قال : " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مُليكة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أصابه قيء أو رُعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم " .
(2) أخرجه الترمذي في باب ما جاء في الوضوء من القيء والرعاف من كتاب الطهارة ( 87 ) عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ .. "(34/45)
بما رواه أحمد وأبو داود وذكره البخاري معلقاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان في غزوة ذات الرقاع فأصيب رجل من أصحابه ( وهو من حراسه ) فنزفه الدم فمضى في صلاته ) (1)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد برقم ( 14760 ) وبرقم ( 14926 ) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب الوضوء من الدم ( 198 ) قال : " حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا ابن المبارك ، عن محمد ابن إسحاق ، حدثني صدَقة بن يسار ، عن عقيل بن جابر ، عن جابر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرقاع – فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين ، فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دماً في أصحاب محمد ، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل النبي صلى الله وعليه وسلم منزلاً ، فقال : ( من رجل يكلؤنا ؟ ) فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ، فقال ( كونا بفم الشِّعْب ) قال : فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري ، وقام الأنصاري يصلي ، وأتى الرجل ، فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم ، فرماه بسهم فوضعه فيه ، فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ، ثم ركع وسجد ، ثم انتبه صاحبه ، فلما عرف أنهم قد نَذِروا به هرب ، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال : سبحان الله ! ألا أنبهتني أول ما رمى ، قال : كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها " . وذكره البخاري بلفظ : " ويُذكر عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع ، فرُمي رجلٌ بسهم فنزفه الدم ، فركع وسجد ومضى في صلاته " في كتاب الوضوء باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر .(34/46)
فهنا هذا الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع وهو من حراسه – وهو كما في البيهقي عباد بن بشر وهو من عباد الصحابة وعلمائهم . ومثل هذا يبعد أن يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم – وهذا الأثر إسناده صحيح – فهو متضمن لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم إذ يبعد أن يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وهو من حراسه في غزوة قد خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم .
وبما رواه مالك في موطئه أن عمر رضي الله عنه : ( صلى وجرحه يثعب دماً ) (1)
وقال الحسن – كما في البخاري – معلقاً ووصله سعيد بن منصور - : ( ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم )(2)
قالوا : إن هذه مسألة تعم بها البلوى ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها حديث .
أما الحديث الأول الذي استدل به أهل القول الأول : ( من أصابه قيء ……..) إلى آخره .
قالوا : فهذا الحديث من حديث إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وإسماعيل روايته عن الحجازيين ضعيفة ، وابن جريج حجازي .
ورواه الحفاظ غير ابن جريج مرسلاً ، فعلى ذلك الحديث ضعيف .
أما حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( قاء فتوضأ ) ، فالحديث صحيح لكنه فعل منه صلى الله عليه وسلم ، ونحن نقول بمشروعية الوضوء من القيء – ولكنا لا نقول بوجوب ذلك – فإن الحديث ليس فيه ما يدل على الوجوب فهو فعل ، والفعل لا يدل على الوجوب .
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب الطهارة ، باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف ( 79 ) : " عن هشام عن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طُعن فيها ، فأيقظ عمر لصلاة الصبح ، فقال عمر : نعم ، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، فصلى عمر وجرحه يثعب دماً " .
(2) ذكره البخاري في كتاب الوضوء ، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين بلفظ : " وقال الحسن : ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم " .(34/47)
قالوا : ومعنا الأصل ، فإن الأصل أن الوضوء ثابت لا نتزحزح إلى بطلانه إلا بدليل ، وليس ثمت دليل صحيح صريح يدل على ذلك . واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الراجح .
فالراجح : أن الدم والقيء والصديد ونحوها كل ذلك لا ينتقض الوضوء بخروجها خلافاً للمشهور في مذهب الحنابلة .
إذن : الخارج من بقية البدن غير السبيلين :
إن كان بولاً أو غائطاً فإنه ينقض الوضوء .
- أما غير ذلك فالراجح أنه لا ينتقض الوضوء به - لعدم الدليل الدال على ذلك .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثامن والعشرون
( يوم الأحد : 20 / 11 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( وزوال العقل إلا يسير نوم من قاعد أو قائم )
" وزوال العقل " أي ناقض للوضوء .
فزوال العقل بالجنون أو سكر أو إغماء أو نحو ذلك كله ناقض للوضوء بإجماع العلماء .
ومثل السكر – الأدوية التي يتعاطاها المتداوي فتزيل عقله فإنها في الحكم وما تقدم سواء ، فهي ناقضة للوضوء بالإجماع قياساً على الأدلة الدالة على نقض الوضوء بالنوم ونقض الوضوء بما تقدم أولى .
قوله : " إلا يسير نوم من قاعد أو قائم "
إذن : النوم ناقض للوضوء لأنه يثبت به زوال العقل فيدخل – حينئذ – فيما ذكره من قوله : ( وزوال عقل ) لكنه استثنى يسير النوم من قاعد وقائم .
إذن : نوم المضطجع والساجد والراكع نوم ناقض للوضوء مطلقاً لا فرق بين يسيره وكثيره.
وأما نوم القاعد المتمكن بخلاف المستند أو المتكئ أو المحتبئ ، فنوم القاعد إن كان يسيراً فلا ينتقض به الوضوء ومثله القائم .
إذن : هناك من النوم ما ينقض الوضوء ، ومنه ما لا ينقض .
أما نوم المضطجع وما شابهه فإنه ينتقض به الوضوء مطلقاً لا فرق بين يسيره وكثيره .
وأما نوم القاعد أو القائم فإنه لا ينتقض به الوضوء إلا إن كان كثيراً أما إن كان يسيراً فلا ينتقض به الوضوء .(34/48)
واستدلوا : على ثبوت النقض بالنوم بحديث صفوان بن عسال وفيه : ( ولكن من غائط وبول ونوم )(1) فدل على أن النوم ناقض للوضوء .
وأما كونهم فرقوا بين نوم القاعد والقائم وبين غيرهما ، فجعلوا يسير نوم القاعد والقائم ليس بناقض ، وأما يسير نوم المضطجع فإنه ناقض : استدلوا : بما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : ( كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون ) (2) وفي رواية لأبي داود : ( حتى تخفق رؤوسهم ) (3) أي حتى تضرب أذقانهم على صدورهم .
قالوا : هذا نوم قاعدين ، فهم كانوا فيما يرى الحنابلة - ومن وافقهم – أنهم كانوا قاعدين ، ولا شك أن رواية أبي داود تشير إلى هذا .
وأما القائم فيما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس قال : ( فجعلت كلما أغفيت يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بشحمة أذني يفتلها ) (4)
__________
(1) أخرجه الخمسة إلا أبا داود كما تقدم ص 2 .
(2) أخرجه مسلم في آخر كتاب الطهارة ، ( 376 ) . وأخرج الترمذي نحوه برقم 78 ، سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 138 ]
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الوضوء من النوم ( 200 ) قال : " حدثنا شاذُّ بن فيَّاض ، حدثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون " .
(4) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب الدعاء في صلاة الليل ( 1277 ) [ انترنت / موقع الإسلام / بواسط ردادي ] قال : و حدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحاك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس قال :
بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث فقلت لها إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إلى جنبه الأيسر فأخذ بيدي فجعلني من شقه الأيمن فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني قال فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقدا فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين "
وأخرجه البخاري في مواضع من صحيحه بألفاظ مختلفة لكن دون قوله " أغفيت " ، انظر الأحاديث ( 7452 ) ( 117 ) ( 6215 ) .(34/49)
وهنا قد وقع منه الإغفاء ومع ذلك لم ينتقض وضوؤه .
كما أنه يقاس على نوم القاعد ، فنوم القائم كنوم القاعد .
وأما غيرها فيبقونه على النقض بأصل النوم .
وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال ] : ( إنما الوضوء على من نام مضطجعاً ) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف .
إذن : هذا هو تقرير مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر الفقهاء وأن النوم ينقض مطلقاً يسيره وكثيره إلا نوم القاعد والقائم فلا ينتقض بيسيره وإنما ينتقض بكثيره .
فإن قيل : فما هو ضابط اليسير ؟
قالوا : ضابطه : العرف ، فما كان يسيراً عرفاً فإنه لا ينقض الوضوء .
فعندما ينام الرجل قاعداً أو قائماً ويسمع كلام الناس حوله وإن لم يفهمه فهذا في العرف يسير ، بينما إذا سقط من قيامه ، أو قعوده أو رأى رؤيا فهو في عرف الناس قد نام نوماً كثيراً فينتقض وضوؤه بذلك .
ولا شك إن هذا الضابط حسن ، لأن مرجعه إلى العرف وبعبارة أخرى لك أن تقول : النوم المستغرق وغير المستغرق .
فالنوم المستغرق : هو الكثير الناقض للوضوء .
وأما غير المستغرق فهو الذي يحس الإنسان به في نفسه فلا ينتقض به الوضوء .
فإن قيل : فإن شك لا يدري أهو نوم يسير أم نوم كثير ؟
فحينئذ : يبني على اليقين واليقين هو بقاء وضوئه فلا يزول هذا اليقين بشك .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ،باب في الوضوء من النوم ( 202 ) قال : " حدثنا يحيى بن معين وهنّاد بن السري وعثمان بن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب ، وهذا لفظ حديث يحيى ، عن أبي خالد الدَّالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان يسجد وينام وينفخ ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ " قال : فقلت له : صليت ولم تتوضأ وقد نمت ؟ فقال : ( إنما الوضوء على من نام مضطجعاً ) زاد عثمان وهناد : ( فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله ) . وأخرجه الترمذي في الطهارة برقم ( 77 ) ، سنن أبي داود [ 1 / 139 ] .(34/50)
وفي قوله : ( إلا نوم ) يخرج النعاس والسنة .
والنعاس : يكون في الرأس من غير أن يكون في القلب والعقل فهذا لا ينتقض به الوضوء ، وقد قال تعالى :{ لا تأخذه سنة ولا نوم }(1) ففارق بينهما(2) ، فالناقض للوضوء هو النوم ، وأما النعاس وهو ما يكون في الرأس فهذا لا ينقض الوضوء . هذا هو تقرير مذهب الحنابلة .
أما ما ذهبوا إليه من أن نوم القاعد والقائم اليسير لا ينقض الوضوء فهو قول قوي .
وأما قولهم إن نوم المضطجع ونحوه ينقض يسيره ، فهذا قول ضعيف ؛ ذلك لأنا إذا قلنا : [ إنْ ] كان مناط الأمر ومتعلقه هو النوم الكثير أو اليسير ، أو النوم المستغرق أو غير المستغرق فإنه لا فرق بين مضطجع وغيره .
وفي رواية للبزار – من حديث أنس المتقدم – بإسناد صحيح : ( يضعون جنوبهم ) (3) أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلى ذلك منهم من يخفق رأسه ومنهم من وضع جنبه على الأرض ، وكلهم لم يثبت بهذا النوم نقض وضوئهم بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الأوزاعي وربيعة واختيار شيخ الإسلام – وهذا القول هو الراجح لما تقدم –
فعلى ذلك : النوم المستغرق وهو النوم الكثير ناقض للوضوء .
أما غير المستغرق فإنه لا ينتقض به الوضوء .
__________
(1) سورة البقرة ( 254 ) .
(2) في الأصل : ففارق بين بينهما .(34/51)
ومما يدل على هذا أن النوم مظنة الحدث ، لذا ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نام حتى نفخ ثم صلي ولم يتوضأ ) فقيل له في ذلك فقال : ( إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي ) (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان من كتاب التهجد ( 1147 ) عن عائشة بلفظ : " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان … قالت عائشة : فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ قال : يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي " ، وفي باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه من كتاب المناقب ( 3569 ) وأخرجه كذلك في باب فضل من قام الليل من كتاب صلاة التراويح ( 2013 ) بلفظ عائشة رضي الله عنها ، وأخرجه أيضاً في باب التخفيف في الوضوء من كتاب الوضوء ( 138 ) عن ابن عباس قال : بت عند خالتي .. ثم اضطجع فنام حتى نفخ ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة ، فقام معه إلى الصلاة ، فصلى ولم يتوضأ ، قلنا لعمرو : إن ناساً يقولون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ؟ قال عمرو : سمعت عبيد بن عمير يقول : رؤيا الأنبيا وحي .. " وأخرجه مسلم ( 738 ) بلفظ عائشة رضي الله عنها ، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الصلاة .(34/52)
وفي رواية أبي داود – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العين وكاء - أي باط(1) - السه - أي الدبر - فمن نام فليتوضأ ) (2) .
فهو مظنة للحدث ، وإذا كان النوم يسيراً فإن هذه المظنة تكون يسيرة لأنه يشعر بنفسه ويحس بها ، بخلاف ما إذا تمكن منه النوم فإن المظنة تكون قوية فيتعلق الحكم بها وينتقض الوضوء .
إذن : الراجح التفريق بين النوم المستغرق وغيره وهو ما اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله .
قوله : ( ومس ذكر متصل أو قبل بظهر كفه أو بطنه ، ولمسهما من خنثى مشكل ولمس ذكر ذكره أو أنثى قبلها لشهوة فيها ) .
قوله : " ذكره " المراد به عضو الرجل ، والقبل : المراد به عضو المرأة .
(متصل ) هنا قيد فيه غرابة ، كيف يكون متصلاً ؟
قالوا : ليخرج الذكر المقطوع ، كأن يقطع لعلاج ونحوه فإنه لا يدخل في هذا الحكم لأنه ليس بمعنى الذكر المتصل .
قوله : ( ومس ذكر ) لم يقل ( ذكره ) لتعميم ذكره وذكر غيره ، أو القبل من المرأة نفسها أو من غيرها فإذا لمست المرأة ذكر زوجها أو لمس الرجل قبل امرأته فإنه ينتقض الوضوء بذلك.
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : رباط .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الوضوء من النوم ( 203 ) قال : " حدثنا حيوة بن شريح الحمصي في آخرين قالوا : حدثنا بقية عن الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن عبد الرحمن بن عائذ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وكاء السه العينان ، فمن نام فليتوضأ ) " وأخرجه ابن ماجه في الطهارة برقم 477 ، سنن أبي داود [ 1 / 140 ] .(34/53)
ودليل ذلك هذه المسألة : ما ثبت في الخمسة بإسناد صحيح من حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مس ذكره فليتوضأ ) (1)
وثبت في مسند أحمد – والحديث حسن – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس دونها ستر فقد وجب عليه الوضوء ) (2)
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطاهرة ، باب الوضوء من مس الذكر ( 181 ) ، والترمذي في الطهارة ، باب الوضوء من مس الذكر ( 82 – 83 – 84 ) ، والنسائي في الطهارة ،باب الوضوء من مس الذكر ، وابن ماجه في الطهارة باب ( 63 ) الوضوء من مس الذكر ( 479 ) ، ومالك في الطهارة ، الوضوء من مس الفرج ، قال ابن حجر في البلوغ : " أخرجه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان ، وقال البخاري : " هو أصح شيء في هذا الباب " سبل السلام [ 1 / 139 ] .
(2) أخرجه النسائي في كتاب الغسل ، باب الوضوء من مس الذكر ( 441 ) [ انترنت / موقع الإسلام / بواسط ردادي ] قال : أخبرنا عمران بن موسى قال حدثنا محمد بن سواء عن شعبة عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن بسرة بنت صفوان
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ
وهو في مسند الإمام الشافعي بحاشية الأم [ 6 / 12 ] وترتيب مسند الإمام الشافعي للسندي [ 1 / 35 ] ، وليس فيهما : ( فقد وجب عليه الوضوء ، وفيهما : فليتوضأ " ، حاشية المغني [ 1 / 243 ] . ولم أجده في فهرس المسند طبعة بيت الأفكار ، ولا في الانترنت .(34/54)
وفي صحيح ابن حبان وصححه أحمد وأبو زرعة – وإسناده صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مس فرجه فليتوضأ ) (1)
وفي مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ ) (2)
بل قد ثبت ذلك من حديث بضعة عشر صحابياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي في أن مس الذكر ناقض للوضوء وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء ، أن من مس ذكره فيجب عليه الوضوء .
- وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد : إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء واستدلوا : بما رواه طلق بن علي من حديث ابنه قيس عن أبيه طلق أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء قال : ( لا ، إنما هو بضعة منك) (3) وقد صححه ابن حبان وابن حزم .
قالوا : فهذا يدل على أن مس الذكر لا ينقض الوضوء .
ومن أجوبة الجمهور على هذا الحديث ما يلي :
أن الحديث ضعيف ، فقد ضعفه الشافعي والدارقطني والبيهقي وغيرهم ، بل قال النووي : " ضعيف باتفاق الحفاظ " .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند ( 27837 ) قال : " حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمعه من عروة بن الزبير وهو مع أبيه يحدث أن مروان أخبره عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من مس فرجه فليتوضأ ) قال : فأرسل إليها رسولاً وأنا حاضر فقالت : نعم ، فجاء من عندها بذاك " .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند 2 / 22 ، كما في حاشية المغني [ 1 / 244 ] ، ولكن بلفظ ( أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ ) .
(3) أخرجه أبو داود في باب الرخصة في مس الذكر من كتاب الطهارة ، والنسائي في باب ترك الوضوء من مس الذكر من كتاب الطهارة ، والترمذي في باب ترك الوضوء من مس الذكر من أبواب الطهارة ، وابن ماجه في باب الرخصة في مس الذكر من كتاب الطهارة ، وأحمد في المسند : 4 / 22 ، 23 ، المغني [ 1 / 241 ] .(34/55)
وقيس بن طلق ، قال فيه ابن معين وأبو حاتم وهما إمامان في الجرح والتعديل وقد قالا فيه : " لا يحتج بحديثه " .
وقال البخاري : " سألنا عن قيس فلم نجد من يعرفه " أي هو مجهول .
وقد وثقه ابن حبان والعجلي ، وكذلك ينبغي أن يكون موثقاً عند كل من صحح هذا الحديث ، لكن تقدم أن الحديث ضعيف كما قال ذلك النووي .
قالوا : ولو قلنا بتحسينه فإنه لا يخالف به هذه الكثرة الكاثرة من الأحاديث الثابتة في هذا الباب فغايته – أي قيس بن طلق – أن يقبل حديثه ما لم يخالف ، لذا قال الإمام أحمد في حديثه : " غيره أثبت منه " .
كيف وقد روى النقض بمس الذكر – رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر صحابياً ، هذا الوجه الأول .
والوجه الثاني : قالوا : كيف يكون المس في الصلاة ، فإنه يستبعد أن يمس الرجل ذكره في الصلاة ، فعلى ذلك المس هنا يخالف الظاهر ، نعم الظاهر في لفظة المس أن تكون بلا حائل لكن هنا بحائل ؛ لأنه يستبعد أن يكون ذلك في الصلاة .
وقالوا : أيضاً حديث طلق بن علي مبق على الأصل بينما حديث بسرة وغيرها ناقلة عن الأصل ، والأحاديث الناقلة عن الأصل مقدمة على المبقية على الأصل .
قالوا : حديث طلق بن علي ، وكان ممن أسلم و النبي صلى الله عليه وسلم يؤسس مسجده ، بينما بسرة قد آمنت في عام الفتح وكذلك أبو هريرة قبل أن يتوفى النبي صلى الله عليه وسلم بأربع سنين قالوا : فهذه قرينة قوية تقوي القول بالنسخ ، وإن كانت ليست نصاً على النسخ ، كما أن كون حديثها ناقل عن الأصل كذلك يقوي القول بالنسخ بخلاف حديث طلق بن علي ، ويقوي هذا ما رواه الطبراني لكن الحديث إسناده ضعيف فهو يتقوى لو صح لكن الحديث إسناده ضعيف خلافاً لتصحيح الطبراني له وهو من القائلين بالنسخ لحديث طلق بن علي – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من مس ذكره فليتوضأ ) فعلى ذلك يكون قد روى كما روى غيره النقض بمس الذكر .(34/56)
وأما حديثه الأول فهو حديث يوم إسلامه ثم بعد ذلك روى أحاديث النسخ كغيره .
وهذه الأوجه كلها تقوي ما ذهب إليه الجمهور من أن الراجح في هذه المسألة أن مس الذكر ناقض للوضوء .
- واختار شيخ الإسلام الجمع بين الحديثين ، أي بين حديث بسرة وغيرها وبين حديث طلق فحمل حديث بسرة وبقية الأحاديث على الاستحباب وحمل حديث طلق على نفي الوجوب .
فعلى ذلك يكون المعنى في حديث طلق : الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء " أي أيجب عليه الوضوء " ، فقال : ( لا ، إنما هو بضعة منك ) أي لا يجب عليك الوضوء ، ولم ينف الاستحباب .
بخلاف حديث بسرة فلفظه : ( من مس ذكره فليتوضأ ) فهذا يمكن أن يحمل على الاستحباب .
لكن هذا القول فيه ضعف ، لما تقدم من قوة الأحاديث الواردة في مسألة نقض الوضوء بمس الذكر ، بخلاف حديث طلق وما تقدم من كلام أهل العلم فيه ، فلا تترك ظواهر الأحاديث المتاكثرة لهذا الحديث الذي تقدم ذكر الأوجه في تضعيفه سنداً أو تضعيفه رواية .
إذن : الراجح : أن مس الذكر ينتقض به الوضوء لكن الفقهاء انطلقوا من هذا الحديث الصحيح ففرعوا فروعاً كثيرة جداً وهي هذه القيود التي ذكرها المؤلف .
فهنا قوله : ( ومس ) لفظة مس أي بلا حائل فإن كان من حائل فإنه لا يثبت به هذا الحكم ، وهذا هو الذي تفيده لفظة ( مس ) وقد ورد مصرحاً في حديث الإمام أحمد الذي تقدم ذكره : ( إذا أفضي أحدكم بيده إلى ذكره ليس دونها حجاب فقد وجب الوضوء ) (1) فعلى ذلك إذا كان دونها حجاب فلا وضوء ، وهذا باتفاق العلماء .
قال : ( ومس ذكر ) : هنا أطلق سواء كان ذكر نفسه أو غيره قالوا : إذا ثبت هذا في ذكر نفسه مع الحاجة إلى لمسه فأولى منه غيره وهذا هو مذهب الجمهور .
فإذا مست المرأة ذكر زوجها انتقض وضوؤها .
وفي قوله : ( مس ذكر ) يشمل كذلك الصغير والكبير فالمرأة تغسل طفلها ، فمست ذكره فينتقض الوضوء بذلك لأنه ذكر متصل – وهذا هو مذهب الجمهور - .
__________
(1) تقدم .(34/57)
- وذهب الأوزعي وهو رواية عن الإمام أحمد : إلى أن مس ذكر الصغير لا ينقض الوضوء – وهذا هو الراجح – ؛ لأن ذكر الصبي ليس بمعنى ذكر الكبير المنصوص عليه ، فإنه ليس محلاً للشهوة بمسه فبينهما فارق ، ففرق بين مس الذكر [ من ] البالغ ومس ذكر الطفل الصغير .
- وقيَّد المالكية مس فرج الصبية بألا تشتهى فالتي لا تشتهى – لاينقض الوضوء .
فكذلك ينبغي أن يقيد به الصبي ، فإذا مست المرأة أو الرجل فرج صبي أو صبية مما لا يشتهون أو مما لا يكونوا(1) محلاً للشهوة ، كالأم تمس فرج طفلها فإن ذلك لا ينقض الوضوء ، هذا مذهب الأوزعي ورواية عن الإمام أحمد وهو القول الراجح .
وفي قوله: ( ذكر ) ينبغي أن يقيده لتتم هذه الفروع ، بقوله : ( ومس ذكر آدمي ) لأنهم اتفقوا على أن مس ذكر الحيوان لا ينقض الوضوء .
وفي قوله : ( متصل ) يخرج من ذلك المنقطع وهذا لا شك فيه ، فلا ينقض بمسه الوضوء .
قالوا : لأن المنقطع ليس في حكم المتصل .
وفي قوله : ( ذكر متصل ) ظاهره ولو كان من ميت ، وهذا هو مذهبهم .
فلو أن امرأة مست ذكر زوجها الميت لتغسيله فإنه ينقض بذلك وضوؤه(2) – وهذا غريب – فإن ذكر الميت ليس بمعنى ذكر الحي بل هو شبيه بالمنقطع فكيف ينتقض الوضوء بمسه .
إذن : الراجح وهو قول في المذهب أن الميت لا ينقض الوضوء بمس ذكره .
قال : ( أو قبل ) أي قبل امرأة ، للحديث المتقدم : ( وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ ) (3) .
فالمرأة كذلك إذا مست فرجها أو مس أحد فرجها فإنه ينقض ، وعلى الماس الوضوء .
واعلم أن الوضوء إنما يجب على الماس دون الممسوس ؛ لظواهر الأدلة المتقدمة ، وهذا باتفاقهم .
قال : ( بظهر كفه أو بطنه ) :
الكف : من أطراف الأصابع إلى الرسغ ، فإذا كان المس في شيء من اليد فإنه ينتقض به الوضوء .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : يكونون ، لأن " لا " هنا نافية وليست ناهية .
(2) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : وضوؤها .(34/58)
قالوا : لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أفضى أحدكم بيده )
قالوا : واليد إذا اطلقها الشارع فإنما يطلق الحكم بها إلى الرسغ ، كما قال تعالى{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما }(1) وإنما تقطع أيديهم من الرسغ لا من المرفق ولا من المنكب .
قالوا : وظاهر الحديث يدخل ذلك أي ظاهر الكف وباطنها .
وقال الجمهور(2) : بل إذا مس الذكر بظاهر الكف فإنه لا ينتقض بذلك الوضوء .
قالوا : لأن اليد إنما خصصت لأنها آلة اللمس وإنما موضع اللمس فيها باطنها بخلاف ظاهرها فإنه ليس آلة للمس .
__________
(1) سورة المائدة .
(2) مغني المحتاج ج: 1 ص: 35 : " والمراد بالمس مس جزء من الفرج بجزء من بطن الكف وبطن الكف الراحة مع بطون الأصابع والأصبع الزائدة إن كانت على سنن الأصابع انتقض بالمس بها وإلا فلا ، خلافا لما نقله في المجموع عن الجمهور من بها ". الاسطوانة .
القوانين الفقهية لابن جزي في المذهب المالكي ج: 1 ص: 22 : " ومنها مس الذكر والمراعى فيه باطن الكف والأصابع وقيل اللذة " . الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ج: 1 ص: 30 : "ويعتبر المس إذا كان بباطن الكف أو بباطن الأصابع أو بجنبيهما " . الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ج: 1 ص: 66 : " ظاهره أنه لا يجب الوضوء من مس الذكر إلا إن كان المس بباطن الكف وهو للإمام أشهب ومذهب ابن القاسم يجب الوضوء من مس الذكر بباطن الكف أو بباطن الأصابع وفي المختصر للشيخ خليل أو بجنبيهما " . وأما الأحناف فإنهم لا يرون النقض بمس الذكر كما تقدم .(34/59)
وهذا هو القول الراجح ؛ لأنه في الحقيقة لا يكون من فرق بين الذراع وبين ظاهر الكف ، والشارع لا يفرق بين المتماثلات ، لأنهم قد اتفقوا على أن من مس ذكره بذراعه(1) أو بعضده أو بفخذه أو نحو ذلك فإنه لا ينتقض بذلك الوضوء ، ولا فارق بين هذه المواضع وظاهر الكف ، أما باطن الكف فنعم لأنها آلة اللمس .
إذن الراجح : ما ذهب إليه الجمهور من أن باطن الكف هو المُعيَّن بالحكم دون ظاهره .
وهل يدخل في ذلك الظفر ؟
قولان في المذهب :
والمشهور أن الظفر لا يدخل قالوا : بل هو في حكم المنفصل .
ولا حاجة لنا وقد رجحنا أن الباطن هو الذي يثبت به الحكم – لا حاجة لنا للكلام في الظفر ؛ لأن الظفر من ظاهر الكف وليس من باطنها .
وإن كان الأرجح بالنظر إلى المذهب دخول الظفر ؛ لأنها داخلة في عموم اليد ، فاليد من أطراف الأصابع إلى الرسغ ويدخل في ذلك الأظفار .
إذن : الراجح أن الحكم إنما يثبت للمس بباطن الكف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد اليد بذلك ، واليد في باطنها لها من المعنى ما ليس لغيرها لأنها هي آلة اللمس .
وظواهر الأدلة المتقدمة أنه لا فرق عامد وغيره فسواء مس ذكره عامداً أو ساهياً – وهذا هو مذهب الجمهور – وظواهر الأدلة تدل على ذلك .
- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب طائفة من التابعين : إلى أنه إن مسه غير عامد فإن الوضوء لا ينتقض بذلك .
قالوا : لأنه إذا مسه بغير عمد فإن الفعل منه يكون غير مقصود فحينئذ ليس له معنى مطلقاً .
ولكن الراجح : دخول السهو وغيره في هذا الباب ؛ لأنه وإن كان بغير قصد فقد يحصل القصد عند المس فيثبت حينئذ الحكم ، أو يترتب المعنى بمجرد المس سواء كان بقصد أو لم يكن بقصد مع أن ظواهر الأدلة تدل على أنه لا فرق بين عامد وغيره .
قال : ( ولمسها من خنثى مشكل )
__________
(1) المغني ج: 1 ص: 117: " فصل ولا ينقض مسه بذراعه ، وعن أحمد أنه ينقض ؛ لأنه من يده وهو قول عطاء والأوزاعي والصحيح الأول "(34/60)
الخنثى المشكل : هو من له آلة ذكر وآلة أنثى ولم يتميز أهو ذكر أم أنثى لوجود آلتي التناسل فيه فلا يدرى أذكر هو أم أنثى ولم يتبين بعد .
أما إذا تبين فإنه يزول الإشكال .
وهي مسألة – حقيقة – في غاية الندرة وإذا وقعت ففي غاية الندرة أن تقع المسائل التي يفرع عليها الفقهاء .
وهنا قال : ( ولمسها من خنثى مشكل ) : أي هو ناقض .
" لمسهما " أي العضوان جميعاً .
أذن : إذا مس من الخنثى المشكل أحد العضوين فلا ينتقض الوضوء بذلك ؛ لأنه لا يدرى هل هذا الممسوس أصلي أم زائد ومع الشك نبقى على اليقين المتقدم وهو ثبوت الوضوء .
فإذا لمسهما جميعاً فحينئذ يزول الشك ويتيقن إنه مس فرجاً أصلياً .
إذن : إذا لمسهما من خنثى مشكل فإنه ينتقض وضوؤه أما إذا مس أحدهما فلا ينتقض بذلك الوضوء .
قال : ( ولمس ذكر ذكره أو أنثى قبلها لشهوة فيهما )
" لمس الذكر " الماس ذكر .
" ذكره " الآلة المذكرة من الخنثى المشكل ولم يمس الآلة المؤنثة ، بل مس الذكر ذكره ثم قال : ( لشهوة ) .
إذا مس الرجل الآلة المذكرة للخنثى المشكل فحينئذ يثبت النقض ، لأنه إذا كان ذكراً فقد مس عضوه الأصلي ، وإذا كان أنثى فقد مس أنثى لكن لشهوة ، لأن الأنثى – عندهم – لا ينتقض الوضوء بمسها إلا إذا كان بشهوة .
فإذن : هذا مفرع على القول بأن مس المرأة بشهوة ينقض الوضوء .
قال : ( أو أنثى قبله بشهوة )
أتت أنثى ومست قبله بشهوة وهذا غريب أنثى تمس أنثى ويكون ذلك للقبل ويكون بشهوة وهذا من غرائب العلم .
قالوا : ينقض الوضوء لأنها إن كانت أنثى حقيقة فقد مست قبلها وهو قبل أنثى أصلي فينتقض به الوضوء .
وإن كانت ذكراً فقد مست جزء رجل ، ومس جزء الرجل ينتقض به الوضوء إن كان بشهوة
فإذن : إذا مس عضوي الخنثى المشكل انتقض الوضوء .
وإذا مس الذكر ذكر الخنثى المشكل بشهوة انتقض أيضاً .
وإذا مست الأنثى قبل الخنثى المشكل بشهوة انتقض الوضوء بذلك .(34/61)
وهل يقاس على مس الذكر مس الدبر أي حلقة الدبر ؟
قال الحنابلة : نعم – وسيأتي ذكرها – والدليل قوله صلي الله عليه وسلم : ( من مس فرجه ) ، والفرج يدخل فيه القبل والدبر خلافاً لمذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد لعموم الحديث المتقدم .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس التاسع والعشرون
( يوم الاثنين : 21 / 11 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ومسه امرأة بشهوة أو تمسه بها )
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وأن من مس امرأة بشهوة فإن وضوءه ينتقض بذلك .
واستدلوا : بقوله تعالى :{ أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً }(1) الآية .
قالوا : والملامسة هنا هي حقيقة المس ، فإذا مس المرأة بشهوة فإنه ينتقض وضوؤه .
وقد دلت السنة على أن مطلق المس غير المصحوب بشهوة أنه لا ينقض الوضوء ، دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت : ( كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضتها ) (2) وفي رواية للنسائي :( مسني برجله ) (3)
__________
(1) سورة النساء .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب التطوع خلف المرأة ( 513 ) عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : " كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، فإذا قام بسطتهما ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح " ،وأخرجه أيضاً برقم ( 382 ) ، وأخرجه مسلم ( 512 ) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الطهارة ، باب ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة ( 166 ) قال : " أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم عن شعيب عن الليث قال أنبأنا ابن الهاد عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت : " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله " .(34/62)
قالوا : فهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مس عائشة برجله فلم ينتقض وضوؤه بل ثبت في صلاته ومضى فيها فهذا يدل على أن مطلق المس للمرأة ، وهو المس غير المصحوب بالشهوة أنه لا ينقض الوضوء ، والآية الكريمة دلت على أن المس ينقض الوضوء ، فعلى ذلك تقيد الآية بمس الشهوة للحديث المتفق عليه – هذا هو مذهب الحنابلة - .
- وذهب الشافعية - استدلالاً بالآية الكريمة – : إلى أن مس المرأة ناقض للوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة .
وأجابوا – عن الحديث المتفق عليه - : بأن هذا المس يحتمل أن يكون فيه بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينها حائل ، وإذا ثبت الحائل أو الحجاب فإنه لا يثبت الحكم ، فحينئذ يبقى الحكم على ما هو عليه ؛ لأن هذا هو المس الذي يتعلق به الحكم ، فإن المس الذي يتعلق به الحكم الشرعي هو المس المباشر الذي لا يقع فيه الحجاب بين الماس والممسوس .
لكن هذا الاحتمال ضعيف ، لأن حقيقة المس أن يكون من غير حجاب ، بدليل رواية النسائي فإن لفظة : ( مسني برجله ) .
قال شيخ الإسلام – في هذا القول - : " وهذا أضعف الأقوال وليس له أصل في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم " ، وهذا مما تعم به البلوى – أي مجرد مس المرأة – ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عن وجوب الوضوء عند مس المرأة مطلقاً .
ولكن القول بأن مس المرأة بشهوة ينقض الوضوء مع ما سيأتي من تضعيفه فإنه أقوى من القول بأنه ناقض مطلقاً .
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه كالآجرى – وهو اختيار شيخ الإسلام – : إلى أن مس المرأة لا ينقض مطلقاً لا بشهوة ولا بغيرها .
وأجابوا – عن استدلالهم بالآية – بأن المس في الآية إنما هو الجماع .
فقوله تعالى : { أو لامستم النساء } أي واقعتموهن جماعاً وليس المراد مطلق المس ، وهذا هو قول ابن عباس وعلي بن أبي طالب في تفسير هذه الآية وهو اختيار ابن جرير .(34/63)
بينما تفسيرها على القول المتقدم هو قول ابن مسعود .
قالوا : وسياق الآية يقرر هذا – أي أنه الجماع – فإن الله عز وجل ذكر الوضوء في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلي الصلاة }(1) إلى أن قال :{ وأن كنتم جنباً فاطهروا } فذكر الطهارتين طهارة الوضوء وطهارة الغسل ، ثم قال – سبحانه – :{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً } وهذا التيمم بدل عن الطهارتين ، عن طهارة الغسل وطهارة الوضوء وذكر الله السبب الأول ، في قوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } فهذا حدث أصغر ، فإذا فسرنا قوله تعالى { أو لامستم النساء } بالمس الموجب للوضوء فإنه يتعدد السبب لطهارة واحدة ، أما الطهارة الأخرى فلا يذكر لها سبباً ، والأليق ببلاغة القرآن أن يذكر لكل طهارة سبباً لبيان أن التيمم بدل عن طهارة الوضوء وطهارة الغسل كما دلت علي ذلك السنة .
وابن مسعود رضي الله عنه قد فسر الآية بالحدث الأصغر وهو مس المرأة الموجب للوضوء ، وهو لم يكن يرى أن التيمم بدل عن الغسل ، وإنما كان يرى أنه بدل عن الوضوء فحسب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ، لذا فسر الآية بحدث أصغر ولم يفسره بحدث أكبر لأنه لا يعتقد أن الحدث الأكبر يجزئ فيه التيمم .
إذن : الراجح في تفسير هذه الآية وهو أصح قولي العلماء كما قال شيخ الإسلام وهو اختيار ابن جرير وقول ابن عباس أن قوله تعالى : { أو لامستم النساء } المراد به الجماع والقرآن يكني عن الجماع بالمس ، كما في قوله تعالى{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن }(2) وليس المراد إجماعاً مجرد المس ، وإنما مراده الجماع الحقيقي .
__________
(1) سورة المائدة .
(2) سورة البقرة .(34/64)
وكني عنه بالمباشرة مع أن حقيقة المباشرة ما دون الجماع لكن قد كني بها في القرآن عن الجماع ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }(1) أي لا تجامعوهن والمباشرة قد دلت السنة على جوازها(2) ، إذن المراد بالمس في الآية : الجماع .
__________
(1) سورة البقرة .
(2) لعل المراد المباشرة للصائم ، وأما المعتكف فقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره [ 1 / 213 ] : " المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معطاهة الشيء ونحره فلا بأس " .(34/65)
وقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث حبيب بن أبي ثابت(1) عن عروة عن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ )(2)
__________
(1) قال في التقريب : " حبيب بن أبي ثابت : قيس ، ويقال : هند بن دينار الأسدي ، مولاهم ، أبو يحيى الكوفي ثقة فقيه جليل ، وكان كثير الإرسال والتدليس ، من الثالثة ، مات سنة تسع عشرة مئة / ع "
(2) أخرجه أبو داود في باب الوضوء من القبل من كتاب الطهارة ( 179 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ " قال عروة فقلت لها : منهي إلا أنت ؟ فضحكت " . قال أبو داود : ورُوي عن الثوري قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني ، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء " وقال أبو داود : " وقد روى حمزة الزيات عن حبيب عن عروة بن الزبير عن عائشة حدثاً صحيحاً " . سنن أبي داود [ 1 / 124 ] . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة من كتاب الطهارة ( 86 ) قال : حدثنا قتيبة وهنّاد وأبو كريب وأحمد بن منيع ومحمود بن غَيلان وأبو عمّار الحسين بن حُريث قالوا : حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل .. " قال أبو عيسى : " وقد رُوي نحو هذا عن غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ، وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة ، قالوا : ليس في القبلة وضوء ، وقال مالك بن أنس والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : في القبلة وضوء ، وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ، وإنما ترك أصحابنا حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ؛ لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد ، قال : وسمعت أبا بكر العطّار البصري يذكر عن علي بن المديني قال : ضعّف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث جداً ، وقال : هو شبه لا شيء ، قال : وسمعت محمد بن إسماعيل يضعّف هذا الحديث وقال : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة . وقد رُويَ عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبّلها ولم يتوضأ ، وهذا لا يصح أيضاً ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعاً من عائشة ، وليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء " . وأخرج النسائي في كتاب الطهارة ، باب ترك الوضوء من القبلة ( 170 ) قال : " أخبرنا محمد بن المثنى عن يحيى بن سعيد عن سفيان قال أخبرني أبو رَوْق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ " ، لكن قال أبو داود [ 1 / 124 ] : " إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئاً " . فالله أعلم . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب الوضوء من القبلة ( 502 ) . ولم أجده في المسند - طبعة بيت الأفكار - بعد البحث في فهرس الأحاديث والرواة .(34/66)
قال الراوي ما أظنها إلا أنت فضحكت ".
وهذا الحديث قد استدل به من يرى أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً ، لأن القبلة لا تكون في الغالب إلا بشهوة من الزوج .
والحديث صححه ابن عبد البر وابن جرير ، لكن أكثر الحفاظ قد ضعفوه ، وقد ضعفوه بعلتين :
1 - العلة الأولى : أنه من حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة قالوا : ولم يسمع من عروة ، كما قال البخاري .
وأجيب عن ذلك : بأن حبيباً قد روى عن طبقة الصحابة كأنس بن مالك وغيره ممن هو أكبر من عروة وأقدم منه موتاً ، وقد قال ابن عبد البر : ( لا شك أنه لقي عروة ) فإذا ثبت أنه لقي أنس بن مالك وهو أقدم منه موتاً فأولى أن يكون قد لقي عروة .
2 - العلة الثانية : قالوا : ليس هو عروة بن الزبير وإنما هو عروة المزني وهو مجهول ، لكن الجواب واضح ، فيقال : كيف يتجرأ عروة المزني وهو مجهول ليس من الثقات لذا ضعف به هذا الحديث ، لا يمكن أن يتجرأ على أم المؤمنين عائشة . بخلاف عروة بن الزبير فإنه ابن أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة فعائشة خالته .
فعلى ذلك تضعيف هذا السند غير وارد ، فالصحيح أن هذا الحديث إسناده صحيح .
ومع ذلك فقد ورد من حديثها من عشرة طرق عن عائشة وله شواهد .
فعلى ذلك : لو سلم بتضعيف هذا السند فإن له عشرة أوجه عن عائشة ، وله شواهد ، فالحديث صحيح . وهو مبق على الأصل – فإن الأصل أن المس غير ناقض للوضوء – والآية الكريمة قد تقدم ترجيح أن المراد بالمس الجماع وليس مجرد مس المرأة .
والراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء .
ولكن : إذا كان إذا كان بشهوة فيستحب له أن يتوضأ كما قرر هذا شيخ الإسلام قياساً على الوضوء عند الغضب بجامع أن الغضب والشهوة من الشيطان ، فيستحب له أن يتوضأ من الشهوة كما يستحب له أن يتوضأ من الغضب .
وعلى القول بأن مس المرأة ناقض للوضوء إن كان بشهوة تتفرع هذه المسائل :
منها : قوله : ( أو تمسه بها ) :(34/67)
إذا مست المرأة الرجل بشهوة فإن الوضوء ينتقض ؛ لأن النساء شقائق الرجال ، فما ثبت للرجال فهو ثابت للنساء إلا أن يدل دليل على تخصيص الرجال به .
فعلى ذلك : المرأة إذا مست الرجل وقلنا : بأن مس المرأة ناقض للوضوء - كما هو مذهب الحنابلة - فإنه ينتقض وضوؤها . أما إذا قلنا : بأن مس المرأة غير ناقض فكذلك إذا مست المرأة رجلاً .
وقوله : ( ومس حلقة دبر ) تقدم الكلام على هذا في الدرس السابق .
وقوله : ( لا مس شعر وظفر )
الشعر والظفر ومثل ذلك السن في حكم المنفصل ، فإذا مس من المرأة شعرها أو ظفرها أو سنها بشهوة فإن الوضوء لا ينتقض بذلك .
وهذا في الحقيقة على إطلاقه محل نظر ، فإنا لو قلنا بأن مس المرأة ناقض للوضوء إن كان بشهوة فإنه إذا مس شيئاً من أجزائها المذكورة مما يورث الشهوة وإن كان في حكم المنفصل فإن الحكم باق . فإذا مس شعرها أو شيئاً من بدنها بشهوة فإنه ينتقض وضوؤه .
إذن الحنابلة وهم القائلون بأن مس المرأة بشهوة ناقض للوضوء استثنوا ما هو في حكم المنفصل كظفرها وشعرها .
وعلى الترجيح المتقدم نقول : إن مس المرأة كلها ليس بناقض .
ولكن على تسليم ما ذهب إليه الحنابلة فإن إطلاق ذلك فيه نظر ، فإن مس الشعر قوي مؤثر فهو قريب من مس شيء من بدنها ، فإذا قلنا بنقض الوضوء إذا مسها بشهوة فينبغي أن نقول بنقض مس الشعر بشهوة ، لكن الراجح أن مس المرأة غير ناقض مطلقاً .
قوله : ( وأمرد )
الأمرد : هو من اخضرَّ أو طرَّ - أي اخضرَّ - شاربه ولم تنبت لحيته ، فإذا مس الأمرد فإنه لا ينتقض وضوؤه .
قالوا : لأنه ليس محلاً للشهوة .(34/68)
وهذا التعليل ضعيف ، فإن الله قد ذكر أنه من أعظم المعاصي وأن طائفة من الناس قد ابتلوا بشهوة المعصية وحب التشهي بمثل ذلك كما قال تعالى : { أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم }(1) فعلى ذلك متى أورث مسه شهوة ، وقلنا إن مس المرأة بشهوة ناقض للوضوء – فمثله كذلك مس الأمرد – ولكن الصحيح أن مس المرأة لا ينقض مطلقاً فكذلك مس الأمرد .
ولا شك أن مسه محرم إذا كان بشهوة وهذا بإجماع العلماء .
كما أن النظر إليه بشهوة محرم أيضاً . أما النظر بغير شهوة فإنه مباح . فإ
ن كان النظر يخشى منه أن يورث شهوة فحينئذ قولان في مذهب الحنابلة :
القول الأول : إنه ليس بمحرم .
القول الثاني : إنه محرم ، وهو أصح واختاره شيخ الإسلام ؛ لأنه ذريعة إلى محرم ، والشريعة قد أتت بسد الذرائع .
قوله : ( ولا مع حائل )
إذا كان هناك حجاب أو حائل بينه وبين المرأة التي قد مسها فإنه لا ينتقض الوضوء ، بل لا ينتقض إلا بمسها مباشرة من غير حائل . وهذا على القول بأن مس المرأة ناقض ، والراجح خلافه كما تقدم .
قوله : ( ولا ملموس بدنه ولو وجد منه شهوة )
الملموس بدنه قالوا : لا ينتقض وضوؤه بذلك ، لأن اللامس الشهوة فيه أشد ، فعلى ذلك لا يقاس الملموس بدنه باللامس لأن الشهوة في اللامس أشد .
وهذا فيه نظر ، فإنها وإن سلم أنها أشد لكن الشهوة قد ثبتت ووقعت باللمس ، فالقياس الصحيح أن يقال : بأن الملموس كذلك إذا لمس وثارت شهوته باللمس فإنه بذلك ينتقض وضوؤه ، فإذا مس الرجل امرأة بشهوة – وقلنا بانتقاض الوضوء بمس المرأة – فكذلك ينتقض وضوء المرأة إن أحدث بها ذلك شهوة .
ولكن كما تقدم الراجح خلاف هذا كله ولكن هذا الترجيح لبيان ضعف هذه العلة المذكورة . وأنّا متى قلنا بأن مس المرأة ناقض للوضوء فإن علينا ألا نفرق بين لامس وملموس .
قال : ( ولو وجد منه شهوة )(34/69)
هنا ( لو ) إشارة إلى وجود خلاف ، فقد ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ، والإمام الشافعي في أحد قوليه : إلى أن الملموس بدنه إذا ترتب على هذا المس شهوة فإنه ينتقض وضوؤه ، وهو الراجح كما تقدم تعليله ، فلا فرق بين لامس وملموس فقد ثبت المس وثبتت الشهوة والقياس يقتضي ذلك .
ولا فرق بين مس امرأة أجنبية أو ذات محرم ، فإذا مس ذات المحرم بشهوة وقلنا بأن المس بشهوة ينقض الوضوء فلا فرق بين أن تكون أجنبية أو غير أجنبية ، ولا فرق بين صغيرة وكبيرة ولا فرق بين حية وميتة ؛ لأن الأمر معلق بالشهوة ، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
لكن – كما تقدم – كل هذه التفريعات على القول بأن مس المرأة ناقض للوضوء إذا كان بشهوة .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثلاثون
( يوم الثلاثاء : 22 / 11 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( وينقض غسل ميت )
هذا من مفردات المذهب وقال بهذا القول إسحاق بن راهويه : وأن من غسل ميتاً أي باشر غسله سواء كان ذلك من حائل أو لم يكن من حائل ولكنه هو الذي يقلبه بالتغسيل فإنه ينتقض وضوؤه ، بخلاف من يصب الماء فإنه لا يتوفر فيه ذلك فلا ينتقض وضوؤه .
إذن المراد من باشر الغسل ولو كان ذلك عن قميص فإن الوضوء ينتقض بذلك .
واستدلوا : بما رواه البيهقي عن ابن عباس أنه سُئل هل على من غسل ميتاً غسل فقال : ( أنجستم ميتكم يكفي فيه الوضوء ) (1) ، ونحوه عن ابن عمر في البيهقي .
قالوا : ولا يعلم لهما مخالف فيكون قولهم حجة .
- وذهب الجمهور : إلى أن غسل الميت ليس بناقض للوضوء ، واختار هذا الموفق وشيخ الإسلام .
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي [ 1 / 456 ] بلفظ : " أنجستم صاحبكم يكفي منه الوضوء " .(34/70)
واستدلوا : بما رواه الحاكم في مستدركه بإسناد حسن وقد حسنه الحافظ ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس عليكم في غَسْل ميتكم غُسْل [ إذا غسلتموه ] ، فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) (1) .
قالوا : والأصل ثبوت الطهارة وبقاؤها ، وما ورد عن ابن عباس وابن عمر لا يتعين أن يكون ذلك للوجوب حتى نبقى على هذا الأصل ، ويقوي هذا الأصل الحديث المتقدم وفيه : ( فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) (2) . وهذا القول هو الراجح .
ومع ذلك فإنه يستحب أن يتوضأ لما تقدم من الآثار قال شيخ الإسلام : " وأما الاستحباب فمتوجه ظاهر " .
ومثل ذلك الغسل من غسل الميت ، فكذلك لا يجب وإنما يستحب ، وقد روى الخمسة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من غَسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ ) (3) والحديث صحيح ، وقد أعله بعض الحفاظ بالوقف لكن الحديث له طرق كثيرة حتى ذكر ابن القيم أن له أحد عشر طريقاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " وهذه الطرق تدل على أنه محفوظ " .
قال الخطابي : " ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بوجوب الغُسل من غَسل الميت ولا بالوضوء من حمله ويشبه أن يكون ذلك للاستحباب " .
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب الجنائز[ 1 / 386 ] وقال : " صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه " ورواه البيهقي [ 1 / 457 ] موقوفاً على ابن عباس وقال : " وروي مرفوعاً ولا يصح رفعه " .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز ، باب في الغسل من غسل الميت ( 3161 ) ، والترمذي في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت ( 993 ) ، وابن ماجه في كتاب الجنائز باب ( 8 ) ما جاء في غسل الميت ( 1463 ) ، وأحمد : 2 / 280 ، 433 ، 454 ، 472 ، و 4 / 346 ، سبل السلام [ 1 / 144 ] .(34/71)
وما قاله هو الذي تدل عليه آثار الصحابة : فقد روى الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عمر قال : " كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل "(1) .
وروى مالك في موطئه بإسناد صحيح : " أن أسماء بنت عميس لما غسلت أبا بكر سألت الصحابة وفيهم المهاجرون والأنصار هل عليَّ من غسل ؟ فقالوا : لا "(2) .
وقد تقدم الحديث الذي فيه : ( ليس عليكم في غسل ميتكم غسل [ إذا غسلتموه ] فإن ميتكم ليس بنجس ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) .
إذن : لا يجب بغسل الميت الغسل ولا الوضوء ، وإنما يستحب ، فيستحب لمن غسل الميت أو أعان في غسله بالمباشرة أن يغتسل أو يتوضأ ولا يجب عليه ذلك ، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم .
قوله : ( وأكل اللحم خاصة من الجزور )
الجزور هو : الأنثى أو الذكر من الإبل جمعه جُزُر ، وهذا القول هو المشهور في المذهب وأن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء ، وهو مذهب أهل الحديث ، وهو مذهب عامة الصحابة كما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن جابر بن سمرة قال : ( كنا نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم ) (3) ولا يصح نسبة خلاف ذلك إلى الخلفاء الراشدين - كما ذكر ذلك النووي وغيره - ، وإنما روي عنهم عدم الوضوء مما مست النار ، وهذا عام في الإبل وغيرها ، فالآثار إن صحت عنهم – فهي أنهم كانوا لا يتوضئون مما مست النار - وهذا مذهب عامة الصحابة كما تقدم ، وهو مذهب أحمد وإسحاق ، وذهب إليه بعض الشافعية كالنووي والبيهقي والإمام ابن خزيمة ، ومن المالكية ابن العربي ويحيى بن يحيى ، بل قال الشافعي : " إن صح الحديث قلت به " .
__________
(2) أخرجه مالك في الموطأ ، كتاب الجنائز ، باب غسل الميت ( 521 ) بلفظ : " عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عُميس غسّلت أبا بكر الصديق حين تُوفي ، ثم خرجتْ فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت : إني صائمة ، وإن هذا يومٌ شديد البرد ، فهل عليّ من غُسْل ؟ فقالوا : لا " .(34/72)
واستدلوا : بحديثين صحيحين – صححهما أحمد وإسحاق وغيرهما - :
الحديث الأول : ما رواه مسلم في صحيحه : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أأتوضأ من لحوم الغنم ، قال : إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم فتوضأ من لحوم الإبل ، قال : أصلي في مرابض الغنم قال : نعم قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : لا ) (1)
الحديث الثاني : ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي – والحديث تقدم تصحيح أحمد وإسحاق وغيرهما له –عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( سُئل عن الوضوء من لحوم الإبل فقال : ( توضؤوا منها ) وسُئل عن الوضوء من لحوم الغنم ، فقال : ( لا تتوضئوا منها )(2) .
فهذان الحديثان يدلان على وجوب الوضوء من لحوم الإبل .
فإن قيل : أولا يحمل الأمر على الاستحباب ؟
فالجواب : أن الأصل في الأمر الوجوب ، لكن قد يكون هذا أنه أتى جواباً لسؤال ، ولكن مع ذلك هناك قرينة في الحديث تدل على أن الأمر للوجوب ، وهي : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ( سئل عن الوضوء من لحوم الغنم فقال : ( إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ ) ، والوضوء من لحوم الغنم مستحب .
__________
(1) أخرجه مسلم بنفس اللفظ في كتاب الحيض ، صحيح مسلم بشرح النووي [ 4 / 48 ] .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب الوضوء من لحوم الإبل ( 184 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل ، فقال : ( توضؤوا منها ) وسئل عن لحوم الغنم فقال : ( لا توضؤوا منها ) ، وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل .. " وأخرجه الترمذي برقم 58 مختصراً ، وابن ماجه برقم 494 مختصراً . سنن أبي داود [ 1 / 128 ] .(34/73)
فقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( توضؤا مما مست النار ) (1) وهذا الحديث ظاهره وجوب الوضوء من لحوم الغنم ونحوه مما مست النار .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب الوضوء مما مست النار ( 351 ) : أن خارجة بن زيد الأنصاري أخبره أن أباه زيد بن ثابت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الوضوء مما مست النار ) . وبلفظ ( 352 ): أن عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أخبره أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد ، فقال : إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( توضؤوا مما مست النار ) ، وبلفظ ( 353 ) : فقال عروة : سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( توضؤوا مما مست النار ) .(34/74)
لكن ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكل من كتف شاة ولم يتوضأ ) (1) وهذا يدل على أن الوضوء مما مست النار من لحوم الغنم ونحوها ليس بواجب ، لذا قال جابر كما في سنن أبي داود والنسائي : ( كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ) (2) أي عدم الإلزام به والإيجاب ، بحيث أنه كان يتوضأ ويأمر أصحابه بذلك ثم لم يتوضأ أي بالفعل وإلا فقد بقي استحباب ذلك كما هو اختيار شيخ الإسلام .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق ( 207 ) ، ومسلم في كتاب الحيض ، باب نسخ الوضوء مما مست النار بلفظ : " عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب ترك الوضوء مما مست النار ( 192 ) قال : " حدثنا موسى بن سهل أبو عمران الرملي ، حدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيّرت النار " ، والنسائي في كتاب الطهارة ، باب ترك الوضوء مما غيرت النار ( 185 ) . وأخرج البخاري في كتاب الأطعمة ، باب المنديل ( 5457 ) : عن سعيد بن الحارث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أنه سأله عن الوضوء مما مست النار ؟ فقال : لا ، قد كنا زمان النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلاً ، فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا ، ثم نصلي ولا نتوضأ " .(34/75)
إذن : الوضوء من لحوم الغنم مستحب ، و النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ ) أي هذا ليس بواجب عليك ، وأما لحوم الإبل فقال : ( نعم فتوضأ من لحوم الإبل ) ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بأن قال : ( نعم ) كما قال ذلك في قوله : ( أصلي في مرابض الغنم ) ، أما هنا فقال : ( نعم فتوضأ من لحوم الإبل ) فأجابه ثم أن أنشأ أمراً بالوضوء من لحوم الإبل .
وقد تقدم قول الشافعي وأنه إن صح الحديث فهو مذهبه ولم يكن منه – رحمه الله – التوقف في دلالته ، وكذلك غيره من الأئمة .
وإنما من قال بخلافه من الأئمة ، فإنما قال بالنسخ وأما التوقف في دلالته فليس هناك أي أحد من الأئمة .
- وذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه لا يجب الوضوء من لحوم الإبل .
واستدلوا : بحديث جابر قال : ( كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ) .
قالوا : ولحوم الإبل مما مست النار ، فآخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار وهي منها
ولكن هذا ضعيف ، لأن هذا عام ، فآخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ، مطلق في لحوم الغنم والبقر وغيرها . وأما الحديث الذي نستدل به فهو حديث خاص فحينئذ : يخصص به هذا العموم المتقدم .
ثم إن جابراً إنما يحكي فعل النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم من أكله من لحم ولم يتوضأ ، وهو لحم شاة كما تقدم .
والراجح : هو القول الأول وأن لحم الجزور ناقض للوضوء ، وهذا هو أصل المسألة .
وقوله : ( وأكل اللحم خاصة )
هذا هو المشهور في المذهب وأن اللحم خاصة وهو الأحمر أو الأبيض هو الناقض للوضوء ، أما ما يكون على الرأس والطحال والكبد وغيرها فهذا ليس من اللحم فلا ينقض الوضوء .(34/76)
فاللحم وهو الأحمر من الإبل والبقر والغنم ونحوها ، والأبيض من الطير ونحوه ، وهو ما يسمى بالهبر(1) ، فدخول اللحم في النقض هذا لا شك فهو داخل قطعاً .
أما غير اللحم كالكبد والطحال والكرش والمصران والمرق ونحوه ففيه قولان :
القول الأول : أنه ليس بناقض ، لأن النص ورد في اللحم خاصة وأما غيره فلا يدخل فيه .
القول الثاني : أنه ليس خاصاً باللحم ، بل عام فيه وفي غيره مما يؤكل من الإبل ، فيدخل في ذلك المرق والدهن وغيره .
واستدلوا : بأن الشارع لما حرم لحم الخنزير دخل في ذلك كل أجزائه من شحم ونحوه ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة وكما قام على ذلك الإجماع ، وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على اللحم ؛ لأن هذا أكثره وأغلبه فعلى ذلك : يكون جملة ناقض ثم إنه يتغذى بدم واحد ، وهذا هو القول الراجح ، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي .
إذن : كله ناقض للوضوء ، فكل ما يطعم من الإبل فهو ناقض للوضوء .
* أما ألبان الإبل :
فيها قولان في المذهب :
القول الأول : وهو المشهور في المذهب إنها لا تنقض الوضوء .
__________
(1) قال في اللسان [ 5 / 247 ] : " الهَبْرُ : قطع اللحم ، والهَبْرَة : بضعة من اللحم أو نَحْضَة لا عظم فيها ، وقيل : هي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة .. "(34/77)
القول الثاني : إنها تنقض ، واستدلوا بما رواه ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا توضؤا من ألبان الغنم وتوضؤا من ألبان الإبل ) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما أهل القول الأول : فقالوا : إنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على اللحم وأما اللبن فليس في معناه ، ونحن نقول في معناه الكبد ونحوه ولكن اللبن ليس بمعناه .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر العرنيين أن يشربوا من ألبان الإبل لم يأمرهم أن يتوضؤوا ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وهذا القول هو الراجح ، وأن من شرب لبن الإبل فإنه لا يجب عليه الوضوء .
وهل يقاس على الإبل غيرها أم لا ؟
هذا ينبني على العلة ، فما هي العلة التي جعلت الوضوء ينتقض بأكل لحم الإبل؟
المشهور في المذهب : أنها تعبدية ، بمعنى : لا يدرى معناها .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل ( 496 ) قال : " حدثنا أبو إسحاق الهروي إبراهيم بن عبد الله بن حاتم ، حدثنا عبّاد بن العوّام عن حجاج عن عبد الله بن عبد الله مولى بني هاشم وكان ثقة وكان الحكم يأخذ عنه ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيد بن حضير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تتوضؤوا من ألبان الغنم ، وتوضؤوا من ألبان الإبل " . والحجاج هو ابن أرطاة وهو ضعيف .(34/78)
وذهب بعض أهل العلم إلى أن العلة : أن أكل لحم الإبل يورث قوة شيطانية فيطفأ بالماء ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسنن أبي داود – والحديث لا بأس به : ( إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) (1) فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء من الغضب ، وهنا لحم الإبل يورث قوة شيطانية لأنها خلقت من شياطين ، فقد ثبت في المسند وأبي داود والترمذي والحديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين ) (2) أي خلقت منها ، وهو ثابت مصرح به كما في سنن ابن ماجة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنها خلقت من شياطين )(3)
__________
(1) أخرجه أبو داود ، باب ما يقال عند الغضب من كتاب الأدب ( 4784 ) قال : " حدثنا بكر بن خلف والحسن بن علي ، المعنيّ ، قالا : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا أبو وائل القاص ، قال : دخلنا على عروة بن محمد السعدي ، فكلمه رجل فأغضبه ، فقام فتوضأ ،ثم رجع وقد توضأ ، فقال : حدثني أبيعن جدي عطية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الغضب من الشيطان ، وإن الشطان خُلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل ( 493 ) ، وفي باب الوضوء من لحوم الإبل من كتاب الطهارة ( 184 ) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل ( 348 ) مختصراً بلفظ : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل ) .
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد ، باب الصلاة في أعطان الإبل ومُرَاح الغنم ( 768 ) قال : " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هُشيم عن يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل المُزني قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلفت من الشياطين ) .(34/79)
فعلى ذلك أمر الشارع بالوضوء من لحمها لما يورث من قوة شيطانية فعلى ذلك يقاس عليها ما كان فيه هذا الوصف كالسباع ونحوها ، كما قال شيخ الإسلام ، فما كان فيه هذه القوة الشيطانية كما يكون في السباع ونحوها فإنه يقاس عليه في هذا الحكم ، فمن أكله مضطراً فإنه يجب عليه الوضوء .
قوله : ( وكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً إلا الموت )
هذه قاعدة ، فكل ما أوجب غسلاً أوجب وضوءاً .
[فـ]ـالحيض والنفاس وخروج المني والكافر أو المرتد إذا أسلم ، فهذه توجب الغسل ، وهي كذلك توجب الوضوء ، لأنها لما أوجبت الطهارة الكبرى فيلزم من ذلك أن توجب الطهارة الصغرى ، فعلى ذلك : إذا أرادت المرأة أن تغسل عن الحيض مثلاً ، فلا يكفي لها لكي تصلي بهذا الغسل ، لا يكفي أن تنوي رفع الحدث الأكبر المتمثل بالحيض ، بل يجب عليها أن تنوي رفع الحدث الأصغر – إذا أرادت أن تصلي بعد الغسل – .
ومثلاً : رجل دخل في الإسلام ، فاغتسل ولم ينو رفع الحدث الأصغر ، فإن هذا الغسل لا يجزئه فلا يستطيع أن يصلي به ؛ لأنه لم ينو رفع الحدث الأصغر ، لكنه يسقط عنه وجوب الغسل عند الدخول في الإسلام .
ولو أن جنباً اغتسل بنية رفع الحدث الأكبر ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإنه لا يحل له أن يصلي بهذا الغسل .
فالقاعدة عندهم : أن كل ما أوجب غسلاً فإنه يوجب وضوءاً ومن ذلك الردة – فهي عندهم من نواقض الوضوء – واستدلوا بقوله تعالى :{ لئن أشركت ليحبطن عملك }(1)
- وجمهور أهل العلم : على أن من ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه فإنه لا ينتقض وضوؤه بذلك ، لأن الوضوء عمل ، والعمل لا يحبط إلا بالموت على الكفر كما قال تعالى :{ ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم }(2) فالأعمال الصالحة لا تحبط إلا بالموت على الكفر فالمرتد يبقى عمله فإذا مات على الكفر حبطت وبطلت .
__________
(1) سورة الزمر ( 65 )
(2) سورة البقرة ( 217 ) .(34/80)
فإذا حج ثم ارتد ، ثم عاد فإن حجه يجزئ عنه . وهذا القيد تقيد به الآية المتقدمة : { لئن أشركت ليحبطن عملك } ، وهذا القول هو الراجح فالردة لا تبطل الوضوء فلو أن رجلاً تلفظ بلفظ يكفر به ثم استتيب فتاب وهو متوضئ قبل ذلك فوضوؤه لا ينتقض بذلك .
فالقاعدة : عند الحنابلة أن كل ما يوجب غسلاً فإنه يوجب وضوءاً إلا الموت ، فإنه يوجب الغسل أما الوضوء فلا يجب أن يتوضأ بل يكفي تغسيله .
ولعل ذلك : إما لكون النية منتفية في حق الميت فلا يمكن أن ينوي – ولم أر لهم تعليلاً – .
ولعل ذلك – وهذا أظهر – لكون الغسل للميت ليس عن رفع حدث ، فليس عليه حدث ، بل وجب عليه الوضوء بسبب الموت ، وإنما هو غسل واجب ليس عن حدث ، لعل هذه العلة لاستثناء ذلك .
إذن : الموت لا يشترطون فيه ذلك .
فإن قلنا : إن نية الغاسل تكفي ، فإنه لا يشترط أن ينوي توضيئه ؛ لأن ذلك ليس عن حدث .
والراجح في هذه المسألة كلها أن الوضوء لا يجب ، فإن من وجب عليه الغسل فلا يجب عليه الوضوء .
ذلك : لأن الشارع قال سبحانه وتعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا }(1) أي الطهارة الكبرى ، ولم يأمرنا بالوضوء ولم يثبت دليل صحيح يوجب ذلك .
فعلى ذلك : الصحيح أن من اغتسل من الجنابة مثلاً فإن ذلك يجزئ عنه في رفع الحدث الأصغر وإن لم ينوه ؛ لأن الحدث الأصغر داخل في الحدث الأكبر فإذا ارتفع الحدث الأكبر فقد ارتفع الحدث الأصغر – هذا من حيث المعنى – .
وأما من حيث الدليل : فإن الشارع لم يوجب الوضوء على من وجب عليه الغسل ، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل صحيح .
إذن القاعدة المتقدمة فيها نظر ، والأظهر أن الغسل هو الواجب فقط ، فمن نوى رفع الحدث الأكبر فذلك يجزئ عنه . والحمد لله رب العالمين
الدرس الحادي والثلاثون
( يوم الأربعاء : 23 / 11 / 1414 هـ )(34/81)
قال المؤلف رحمه الله : ( ومن تيقن للطهارة وشك في الحدث أو بالعكس بنى على اليقين، فإن تيقنهما وجهل السابق فهو بضد حاله قبلهما )
فإذا تيقن أنه على وضوء ثم شك هل انتقض وضوؤه أم لا ؟
إذن الوضوء متيقن منه ، والحدث مشكوك فيه أو العكس بأن يتيقن الحدث ثم شك هل توضأ أم لا لم يتوضأ ؟ فهنا الحدث متيقن ، والوضوء مشكوك فيه ، ومثل ذلك في الغسل .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) (1) وهذا دليل على القاعدة المشهورة عند أهل العلم وهي : ( أن اليقين لا يزول بالشك ) .
إذن : يجب عليه أن يبني على اليقين فإذا كان المتيقن أنه متوضئ ، والمشكوك فيه أنه محدث فهو متوضئ ، وإن كان العكس فهو محدث .
وقوله : ( فإن تيقنهما وجهل السابق فهو بضد حاله قبلهما ) :
أي تيقن أنه توضأ وتيقن أنه أحدث ، ولكن جهل السابق منهما ، لأنه إذا علم السابق من المتأخر فلا إشكال ، فإذا علم أن الحدث هو المتأخر فهو محدث وإن علم أن الوضوء هو المتأخر فهو متوضئ .
ولكنه قد جهل السابق أو الآخر ، فلا يدري أيهما السابق ، وهنا قد علم حاله قبلهما .
مثال : رجل صلى الفجر ثم جلس يذكر الله وهو على طهارة ثم بعد طلوع الشمس تيقن حدثاً وتيقن وضوءاً فما الحكم ؟
قالوا : بضد حاله قبلهما بمعنى : ننظر على أي حال كنت سابقاً ، هؤلاء – أي اليقين واليقين – قد تعارضا فتساقطا ، فما هي حالك قبل ذلك ؟
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ( 137 ) ، ( 177 ) عن عباد بن تميم عن عمه : أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : ( لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك ( 361 ) .(34/82)
فإن كان متوضئـ[ـاً ] فهو بضد ذلك ، فيكون في حكم المحدث ، ويجب عليك الوضوء ؛ لأنه هذه الحالة قد تيقن زوالها ، لأنه قد طرأ عليها حدث .
أو العكس : بأن كان قبلهما محدثـ[ـاً ] فيكون متطهراً ؛ لأن هذه الحالة السابقة قد تيقن زوالها .
إذن : المشهور في المذهب أنه إذا تيقن الطهارة وتيقن الحدث وجهل السابق وله حال سابقة من وضوء أو حدث فيكون حكمه بضد ذلك ، أما هذه فقد تعارضت فتساقطت فحكمنا بما يكون بضد حاله قبلها .
وذهب بعض الحنابلة إلى : أنه يجب عليه الوضوء ، وهذا هو الراجح ، لأن اليقينَيْن قد تعارضا فتساقطا والصلاة لابد لها من وضوء متيقن أو وضوء مستصحب - المراد به ما تقدم – .
فعندما يقول : اليقين أني متوضئ فهذا هو الاستصحاب بمعنى : طرأ عليك شيء من الشك والاحتمال لكنه احتمال قد عارض الأصل فلا يؤثر فيه .
وهنا ليس عندنا لا تيقن ولا استصحاب حال أي ليست حاله السابقة على وضوء فنستصحبها ونقول : هذا شك ، فيكون عندنا استصحاب الحال ، وليس عندنا تيقن أنه متوضئ .
وهذا القول هو الراجح ، وأنه يجب عليه أن يتطهر ، فإذا تيقن الحدث والوضوء فلا نقول هو بضد حاله قبلهما بل يجب عليه الوضوء ؛ لأنه في هذه الحالة لم يثبت – في الحقيقة – وضوؤه لا يقيناً ولا ظناً وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) (1) والطهارة المتقدمة لو قلنا : أنه كان طاهراً سابقاً فقد أتاها الحدث ، وإذا كان محدثاً سابقاً فإن الطهارة الأخرى لم يتيقن أنها المتأخرة .
إذن : إن تيقن الاثنين فيجب عليه أن يتطهر .
ومثل ذلك - وهو مذهب الحنابلة وهو واضح راجح- أنه إذا كان لا يعلم حاله قبلهما ؟
بمعنى : تيقن الوضوء وتيقن الحدث لكنه لا يدري ما حاله قبلهما . فحينئذ : يحكم عليه بفرضية الوضوء ؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بوضوء متيقن أو مستصحب كما تقدم .
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة .(34/83)
قوله : ( ويحرم على المحدث " أي حدثاً أصغر " مس المصحف والصلاة والطواف ) :
قوله : " مس المصحف " : المصحف يصح بفتح الميم وكسرها وضمها فيحرم عليه أن يمس المصحف .
والمصحف يصدق على الورق التي كتبت عليها الآيات القرآنية ، ويصدق على الحواشي ، وهي ما يكون أعلى الصفحة وأسفلها ويمينها وشمالها ، ويصدق على الغلاف الذي يتصل به ، فكل ذلك مصحف فكما يقع عليه التبع ، تقع عليه بقية الأحكام ، ودليل ذلك ما رواه النسائي والترمذي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وأن لا يمس القرآن إلا طاهر )(1) .
قالوا : هذا الحديث وإن كان مرسلاً من حيث السند لكن له شهرة عظيمة في الأمة من عصور التابعين فمن بعدهم ، حتى قال الشافعي : " يثبت عندهم – أي أهل الحديث – أنه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم " ، وقال الإمام أحمد : " لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه " .
والحديث قد تلقته الأمة بالقبول مما يغني عن النظر في إسناده ومع ذلك فإن هذه القطعة ثبت لها شاهدان شاهد رواه الدارقطني من حديث ابن عمر وشاهد آخر عند الطبراني في الكبير من حديث عثمان بن أبي العاص .
فهذه القطعة صحيحة ثابتة ، من غير النظر إلى المعاني المتقدمة من تلقي الأمة لها بالقبول ، بل هي كذلك على موازين الاصطلاح المجردة عن تلقي الأمة ، هو صحيح بشاهديه .
فإذن : ( وأن لا يمس القرآن إلا طاهر ) قاله: النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) قال في بلوغ المرام : " رواه مالك مرسلاً ، ووصله النسائي وابن حبان ، وهو معلول " . وقال محققا المغني [ 1 / 203 ] : " أخرجه الدارمي في باب لا طلاق قبل نكاح من كتاب الطلاق ( 2166 ) ، والإمام مالك في باب الأمر بالوضوء لمن مسّ القرآن ، من كتاب القرآن " . أخرجه مالك في كتاب الصلاة ، باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن ( 469 )(34/84)
وقوله : ( طاهر ) لفظ مشترك أي التي تحمل معان ، فيحتمل أن يكون معناها ( إلا طاهر ) أي : ( إلا مؤمن ) لذا ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ) (1) .
ويحتمل أن يكون المعنى : أن لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث الأكبر لقوله تعالى : { فإن كنتم جنباً فاطهروا }(2) ويحتمل أن يكون المعنى : ( لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث الأصغر ودليل تسمية المتطهر من الحدث الأصغر طاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإني أدخلتهما طاهرتين ) (3) ، فمن تطهر من الحدث الأصغر فهو طاهر ، ومن تطهر من الحدث الأكبر فهو طاهر ، ومن تطهر من الشرك والكفر فهو طاهر .
فإذن : لفظة : ( طاهر ) لفظ مشترك .
والراجح عند الأصوليين أن اللفظ المشترك يحمل على كل ما يدل عليه من المعاني ، إن لم توجد قرينة تدل على أن المراد به أحد المعاني بعينه ، لا سيما في هذه اللفظة النبوية فإنها أي لفظة ( طاهر ) قد وقعت في سياق النفي فتفيد العموم .
أي : لا يمس القرآن إلا مؤمن ولا يمس القرآن إلا طاهر من الحدث الأكبر ، بل لا يمس القرآن إلا متوضئ .
وهذا المذهب هو مذهب جماهير الفقهاء ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص كما في الموطأ بإسناد صحيح(4) ، وحكاه شيخ الإسلام عن سلمان الفارسي وعن ابن عمر ، وقال الموفق : " ولا نعلم لهم مخالفـ[ـاً ] " .
فإذن : هو مذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد حكاه - أي هذا القول – ابن هبيرة في الإفصاح – إجماعاً .
- وخالفت الظاهرية : فقالوا يجوز أن يمس القرآن وإن كان محدثاً .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو ( 2768 ) ، ومسلم كتاب الإمارة ، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار ( 3474 ) .
(3) تقدم .
(4) لم أجده في باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن من كتاب الصلاة ، في الموطأ .(34/85)
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كتب رسالته إلى هرقل وفيها : ( بسم الله من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم – الرسالة – وفيها آية { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء …} ) (1) .
قالوا : وقد وقعت في أيدي كفار ووقوعها في أيديهم أعظم من وقوع المصاحف في أيدي المحدثين من المؤمنين . ولكن هذا الاستدلال ضعيف ، ذلك لأن هذه الرسالة ليست بمصحف بل هي كتاب كتب فيه آيات من القرآن .
لذا قال الفقهاء إذا كانت الكتب كتب تفسير أو كتب فقه أو نحو ذلك ، أو فيها آيات قرآنية فإنه لا يجب على من أراد أن يمسها أن يتوضأ ، بل للمسلم أن يمس كتب التفسير وهو محدث حدثاً أصغر ، مع كونها متضمنة للقرآن كله ؛ لأنها ليست بمصحف ولا يطلق عليها قرآن .
لكن إذا كانت التفاسير كهيئة المصحف تماماً ، كما يوجد في مثل تفسير الجلالين بأن يكون كهيئة المصحف إلا أن الحواشي قد علقت عليها بعض التفسيرات فهذا في حكم المصحف ، لأنه كالمصحف تماماً إلا أن حواشيه لم يخل من كتابات بل كتب فيها تفسير هذه الآيات ، أما الكتب العلمية ككتب الفقهاء وكتب المفسرين وغيرها وإن تضمنت القرآن كله أو تضمنت آيات كثيرة منه فإنها ليست بمصاحف .
إذن الراجح مذهب الجمهور من أن مس المصحف يشترط فيه أن يتوضأ ماسه .
__________
(1) أخرجه البخاري : في كتاب بدء الوحي ، رقم 7 ، وأخرجه كذلك برقم 51 ، 2681 ، 2804 ، 2940 ، 2978 ، 3174 ،4553 ، 5980 ، 6260 ، 7196 . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ( 1773 ) .(34/86)
واعلم أن المس يصدق على أي موضع من مواضع اليدين فليس مختصاً بباطن اليد ولا بظاهرها ولا نحو ذلك ؛ لأن المس يصدق على كل مباشرة من غير حائل فمتى باشر المصحف من غير أن يكون بينه وبينه حجاب سواء كان ذلك بيديه أو بأي موضع من مواضعه كأن أن يضعه على وجهه أو نحو ذلك ، كل هذا محرم وهو من مس القرآن ، لأن لفظة المس تصدق على ذلك .
وهل يؤذن للصبيان أن يمسوا المصاحف بلا وضوء كما يكون هذا في الكتاتيب وغيرها ؟
قولان لأهل العلم :
فالمشهور في مذهب الحنابلة : أنه لا يجوز لهم مسه إلا بوضوء .
وذهب المالكية وهو وجه عند الحنابلة : إلى أنه يجوز لهم ذلك .
والقول الثاني هو الراجح ؛ لأنهم غير مكلفين ثم إن في تكليفهم ذلك مشقة وحرج ، فلما كان الأمر كذلك لم يشترط أن يتوضؤوا ولكن على وليهم أن يرشدهم إلى الوضوء عند إرادة المصحف من غير أن يجب ذلك عليهم .
وقوله : ( والصلاة )
فالصلاة تحرم على المحدث وهذا بالإجماع ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) (1) متفق عليه .
وفي مسلم : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ) (2) فقد أجمع أهل العلم علي أن الصلاة لا تجوز بغير وضوء ولا فإن فعل فإنه قد فعل معصية من المعاصي وارتكب خطيئة لا يكفر بها خلافاً لأبي حنيفة لعدم الدليل الدال علي تكفيره لكن إن فعل ذلك مستهزءاً بالصلاة أو مستحلاً لهذا الفعل المحرم ، فهو كافر لإجماع العلماء علي شرطية ذلك .
إذن : لا يكفر بذلك إلا إذا كان هذا مستهزءاً أو مستحلاً وهذا هو مذهب جماهير أهل العلم .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيل ، باب في الصلاة ( 6954 ) ، وفي باب لا تقبل صلاة بغير طهور من كتاب الوضوء ( 135 ) ، وأخرجه مسلم في باب وجوب الطهارة للصلاة من كتاب الطهارة ( 225 ) .
(2) أخرجه مسلم في باب وجوب الطاهرة للصلاة من كتاب الطهارة ( 224 ) بلفظ : ( لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهُور ولا صدقة من غُلُول ) .(34/87)
قوله : ( والطواف )
أي يشترط للطواف بالبيت أن يتوضأ ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء .
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لما قدم مكة كان أول ما بدأ أن توضأ ثم طاف بالبيت ) وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لتأخذوا عني مناسككم ) (1)
قالوا : فقد فعله وقال : ( لتأخذوا عني مناسككم ) واستدلوا : بما رواه الترمذي والنسائي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الطواف في البيت صلاة إلا أن الله قد أحل به النطق فمن نطق فلينطق بخير )(2) وفي رواية : ( فأقلوا فيه الكلام ) (3)والحديث صحيح مرفوعاً ، وموقوفاً " على ابن عباس " .
__________
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الحج ، باب ما جاء في الكلام في الطواف ( 960 ) قال : " حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير ) قال أبو عيسى : وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفاً ، ولا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن السائب " . وأخرجه النسائي في كتاب مناسك الحج ، باب إباحة الكلام في الطواف ( 2922 ) بلفظ : عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الطواف بالبيت صلاة فأقلوا من الكلام " ،وفيه أن : عبد الله بن عمر قال : " أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في الصلاة " قال فيه الألباني " صحيح الإسناد موقوف " وليس فيه لفظ الترمذي .
(3) هذا لفظ النسائي كما تقدم ( فأقلوا من الكلام ) .(34/88)
قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الطواف بالبيت صلاة ) ومن شروط الصلاة الطهارة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( مفتاح الصلاة الطهور ) (1) .
- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وهو مذهب طائفة من السلف : أن الوضوء ليس بشرط للطواف .
قالوا : لأن الله لم يوجب ذلك ولا رسوله ولا إجماع في هذه المسألة .
قال ابن القيم : " ولا نص ولا إجماع لاشتراط الطهارة – أي في الطواف – بل قد وقع فيه النزاع قديماً وحديثاً "
وذكر شيخ الإسلام أنه قد وقع النزاع فيه بين السلف .
قالوا : وهذا هو الأصل فإنا لا نوجب إلا ما أوجبه الله ورسوله أو ما أجمعت عليه الأمة .
قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت عنه في حججه ولا عمره أنه أمر الناس بالوضوء .
وما ذكرتموه من الأدلة فإنها لا تدل على المطلوب وهو فرضية الوضوء ، وإنما تدل على مجرد استحبابه فإن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قبل طوافه هذا فعل والفعل لا يدل على الوجوب .
وأما كونكم تستدلون بقوله : ( لتأخذوا عني مناسككم )(2) ، فإنكم لم تستدلوا بهذا الدليل على مسائل هي أعظم من الوضوء ، فإن المسائل المتصلة بالطواف نفسه كالاضطباع والرمل ونحو ذلك من مسائل الطواف ، هذه مسائل متصلة بالطواف نفسه ومع ذلك لم توجبوها ، بل جعلتموها من السنن والمستحبات باتفاقكم فأولى منها ما هو خارج عنه وهو الوضوء وغاية الأمر أن يدل ذلك على استحباب الوضوء .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم ( 1006 ) ، ( 1072 )من حديث علي بن أبي طالب ولفظه ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) ، وبرقم( 14717 ) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ : ( مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح االصلاة الطهور ) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور ( 3 ) .
(2) أخرجه مسلم [ 4 / 79 ] ، وغيره ، الإرواء 1074 .(34/89)
فإذن : لا يستدل مطلقاً على إيجاب كل فعله(1) - النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( لتأخذوا عني مناسككم ) .
وأما الحديث : فإنه لا يصح الاستدلال به على هذا المطلوب بدليل : أن هذا الحديث قد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد أحل النطق ، وقال هو موضع استدلالهم : ( الطواف بالبيت صلاة ) ، فظاهر اللفظ غير الواقع ، فإن ظاهره أن كل ما في الصلاة ثابت بالطواف ، وهذا ليس بصحيح ، فإن غالب مسائل الصلاة لا تثبت مسائل بالطواف كالأكل والشرب والحركة الكثيرة والالتفات الكثير ونحو ذلك مما حرم بالصلاة بالإجماع ، وهو جائز في الطواف بالإجماع ، فغالب مسائل الصلاة ليست ثابتة بالطواف .
وأعظم من ذلك أن الطواف لو كان صلاة حقيقة لافتتح بالتكبير واختتم بالتسليم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) (2) وليس في الطواف بالاتفاق تكبير مفترض ولا تسليم مطلقاً .
فإذن : يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الطواف بالبيت صلاة ) ليس مراده أنه صلاة له أحكام الصلاة ، وإنما المراد أنه عبادة يتقرب بها إلى الله ، وهي عبادة متصلة بالبيت كاتصال الصلاة وأنه مأجور عليها بنية ما يؤجر عليه في الصلاة .
__________
(1) كذا في الأصل .
(2) أخرجه أحمد في المسند برقم ( 1006 ) ، ( 1072 )من حديث علي بن أبي طالب ولفظه ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) ، وبرقم( 14717 ) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ : ( مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح االصلاة الطهور ) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور ( 3 ) .(34/90)
فيكون نظير قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ) (1) ، فإن الرجل الذي ينتظر الصلاة قد نص الشارع أنه في صلاة مع أنه ليس في الصلاة حقيقة لكنه في عبادة هي انتظار للصلاة ، ومع ذلك بالإجماع لا يشترط فيه ما يشرط في المصلي ، وكذلك إذا غدا إلى المسجد أو راح فإنه في صلاة كما ثبت في أبي داود – ومع ذلك فإنه لا يجب عليه ما يجب على المصلى .
إذن : يقال : حديث : ( الطواف بالبيت صلاة ) لم لا تستدلون به على تحريم الأكل والشرب أو غير ذلك من المسائل ، فعلى ذلك : ليس المراد أنه في حكم الصلاة ، وإنما المراد نظير قوله : ( فإن أحدكم في صلاة ) أي عليه أن يكون في سكينة ووقار وانضباط ، فكما أنه إذا ذهب إلى المسجد فيجوز له ما يحرم على المصلي من الأحكام ، لكنه عليه أن يكون في سكينة ووقار فكذلك هنا ، عليه أن يكون كهيئة مشيته إلى الصلاة بسكينة ووقار ، فيقلّ من الكلام والحركة ونحو ذلك ، لكن ذلك كله جائز لا حرج فيه إلا ما دل دليل على تحريمه والنهي عنه .
وهذا – كما تقدم – هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو الراجح .
فالراجح أن الطواف بالبيت لا يشترط فيه الوضوء .
وهل يجوز له أن يطوف وهو محدث حدثاً أكبر وهل تطوف الحائض ؟
محل هذا في غير هذا الباب ، فسيأتي الكلام على هذا في باب الحج ، والمسألة الأولى في باب الغسل إن شاء الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين .
انتهى باب نواقض الوضوء
الدرس الثاني والثلاثون
( يوم الجمعة : 25 / 11 / 1414 هـ )
باب الغسل
الغُسل : لغة هو فعل الاغتسال ، ويصح أيضاً بالفتح ( الغَسل ) والأول أشهر .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب الصلاة في مسجد السوق ( 457 ) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة ( 1059 ) ( 1060 ) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي .(34/91)
إلا أن الفتح أشهر في الماء الذي يغتسل به ، فإنه يطلق عليه غَسلاً(1) بالفتح على الأشهر ، ويطلق عليه غُسلاً بالضم ، ويسمى مُغتسلاً وغسولاً ، وأما الغِسل بالكسر : فهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو أشنان ونحوهما .
قال المؤلف رحمه الله : ( موجبه خروج المني دفقاً بلذة ، لا بدونها من غير نائم )
( موجبه ) : أي موجب الغسل وستأتي صفته الواجبة وصفته المستحبة .
( خروج المني دفقاً بلذة لا بدونها ) : هذا موجبه الأول وهو خروج المني دفقاً لقوله تعالى: { من ماء دافق }(2) بلذة لقوله صلى الله عليه وسلم – كما في مسلم - : ( إنما الماء من الماء ) (3) وفي أبي داود : ( إذا فضخت فاغتسل ) (4) ، وفي المسند بإسناد حسن : ( إذا حذفت فاغتسل وإن لم تكن حاذفاً فلا تغتسل ) (5) فلا يجب الغسل إلا بخروجه بلذة .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : غَسلٌ ؛ لأنه نائب فاعل .
(2) سورة الطارق .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب إنما الماء من الماء ( 343 ) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في المني ( 206 ) قال : " حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبيدة بن حميد الحذاء عن الركين بن الربيع ، عن حصين بن قبيصة ، عن علي رضي الله عنه قال : كنت رجلاً مذاءً فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أو ذُكر له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تفعل ، إذا رأيت المَذْي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة ، فإذا فضخت الماء فاغتسل ) . قال في لسان العرب : " فضْخُ الماء : دَفْعُه ".
(5) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 847 ) قال : " حدثنا أبو محمد ، حدثنا رِزَام بن سعيد التيمي ، عن جوَّاب التيمي عن يزيد بن شريك ، يعني التيمي ، عن علي ، قال : كنت رجلاً مذاء ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إذا حذفْتَ فاغتسل من الجنابة ، وإذا لم تكن حاذفاً فلا تغتسل ) .(34/92)
فإن خرج بغير لذة كأن يخرج مرضاً أو نحوه من برد وغيره فإنه لا يثبت به نقض الطهارة الكبرى .
( لا بدونهما ) : أي لا بدون الدفق بلذة .
( من غير نائم ) : ونحوه كسكران ونحوه ممن زال عقله أو مغمى عليه ، فإن هؤلاء متى خرج المني منهم فإنه يثبت به النقض أي نقض الطهارة الكبرى سواء كان ذلك بلذة أم لا ، لأنه قد زال عقله فلا يمكن أن يحكم هل ثبتت اللذة أم لا .
يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن امرأة قالت يا رسول الله : ( إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ ) فقال : ( نعم إذا رأت الماء ) (1) فعلق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بالاحتلام ، وغيره مثله علق برؤية الماء ، فبمجرد رؤية الماء يثبت نقض الطهارة الكبرى .
إذن : الناقض الأول هو خروج المني دفقاً بلذة ، لا بدونها من غير نائم .
قوله : ( وإن انتقل ولم يخرج اغتسل له )
رجل جامع ولكنه لم ينزل لكن المني قد جانب موضعه الأصلي ولم يخرج بعد ، قالوا : فينقض بذلك الطهارة الكبرى .
وعللوا ذلك : بأن الجنابة هي مجانبة الماء " أي المني " لموضعه ، فإذا جانب الماء موضعه أي باعد فهذه جنابة ، وقد قال تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } .
وذهب عامة أهل العلم وهو اختيار بعض كبار الحنابلة كالموفق وهو اختيار شيخ الإسلام : إلى أن النقض لا يثبت بمثل هذا ، بل لا يثبت إلا بخروجه ، واستدلوا : بحديث : ( إنما الماء من الماء ) وحديث : ( نعم إذا رأت الماء ) ، والماء لم يثبت خروجه بعد .
وأما من حيث الاستعمال اللغوي فإن الجنابة لا تسمى جنابة إلا إذا فارقت البدن كله وجانبته .
أما وقد فارق موضعه إلى موضع آخر من البدن نفسه فليس بجنب : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } وهذا ليس بجنب حتى يفارق ويباعد الماء البدن كله .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم ، باب الحياء في العلم ( 130 ) ، وفي باب إذا احتلمت المرأة من كتاب الغسل ( 282 ) ، وأخرجه مسلم ( 313 ) .(34/93)
فإذن الراجح وهو مذهب جماهير العلماء – خلافاً للمشهور من المذهب – أن الماء إذا فارق موضعه فإنه لا يثبت به النقض ، بل لا يثبت النقض إلا بخروجه على الصفة المتقدمة .
كما أن تحرك الريح في المعدة لا يعتبر ناقضاً إلا بخروجها وهذا بإجماع أهل العلم – فكذلك هنا في هذه المسألة فيصح قياسها عليها .
قوله : ( فإن خرج بعده لم يعده )
رجل خرج منه المني دفقاً بلذة فاغتسل ثم خرجت منه قطرات بعد اغتساله – فلا يجب عليه الغسل .
وعلة ذلك : لأنه لم يخرج بلذة ، ولأنه قد اغتسل بعد خروجه وهذا تبع للمتقدم الذي قد ثبت الاغتسال له وإنما هما فعل واحد .
إذن : إذا خرج شيء من المني بعد الاغتسال فإنه لا يجب فيه الغسل مرة أخرى ؛ لأنه قد اغتسل لأصله ، ولأنه كذلك لا تتوفر فيه الشروط المتوفرة في الماء الناقض للطهارة الكبرى وهي كونه دفقاً بلذة .
* فإذا احتلم ولم ير ماءً أي بللاً بمعني : يذكر احتلاماً ولا يجد بللاً فلا يجب عليه إجماعاً الغسل .
والعكس بالعكس : فإذا رأى بللاً وعلم أنه مني ولم يذكر احتلاماً ، فإنه يجب عليه الغسل ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( نعم إذا رأت الماء )(1) .
إذن : إذا رأى بللاً وعلم أنه ماء الرجل فإنه يجب عليه الغسل وإن لم يذكر احتلاماً .
والعكس بالعكس فلو ذكر احتلاماً ولم يجد بللاً فإنه لا يجب عليه – إجماعاً – الغسل .
فإذا رأى بللاً وشك أهو مني أم مذي فما الحكم ؟
فالحكم أن يقال : إذا سبق نومه دواعي خروج المذي كفكر أو نظر وغيرها – فإنه يحكم بأنه مذي .
أما إذا لم تكن هذه الدواعي موجودة :
- فالمشهور في المذهب : أنه يثبت له حكم المني فيجب الغسل .
قالوا : لأن الغالب فيما يخرج بعد المنام أن يكون منياً ، فما دام هذا هو الغالب ولم يسبقه ما يغير هذا الأصل الذي أصلناه – من عدم وجود سبب المذي من فكر ونظر – نحكم عليه بأنه مني
__________
(1) متفق عليه ، وقد تقدم .(34/94)
إذن : إذا رأى ماءً فلم يدري(1) أمذي هو أم مني ، فيقال له :
إن سبق نومك دواعي المذي من فكر ونظر فهو في حكم المذي فيجب عليه الوضوء . أما إن لم تكن هذه الدواعي موجودة فهو مني .
وعن الإمام أحمد – رواية – وهو أقوى من المذهب المتقدم – : أنه يجب عليه الغسل إن ذكر احتلاماً .
بمعني : رجل رأى احتلاماً ، ووجد ماءً لا يدري أهو مني أم مذي ، فإنه يجب عليه الغسل – على هذا القول – .
فإن لم يذكر احتلاماً فلا .
وهناك قول ثالث – اختاره الشيخ محمد بن إبراهيم وهو رواية – عن الإمام أحمد ، قالوا : لا يجب عليه الغسل مطلقاً ؛ لأن الطهارة الكبرى متيقنة فلا تزول بمجرد الشك .
فهنا يشك هل هو مذي أم مني ولم يتيقن فلا نتزحزح عن اليقين المتقدم إلا بيقين .
وأقواها فيما يظهر لي القول الوسط(2) ، والذي جعلنا نتزحزح عن الأصل هو وجود قرائن قوية منها : عدم دواعي المذي ، ومنها أيضاً : كونها في منام ، ومنها - وهو أقواها - : أنه يذكر احتلاماً .
مع أن القول الثالث فيه قوة لقوله : ( نعم إذا رأت الماء ) فعلق الحكم برؤية الماء ، وهنا لا يمكن أن يقال إنه قد رأى الماء - مع كونه قد احتلم - لكونه قد شك فيه ، ولا يعد الشاك رائياً .
إذن هناك ثلاثة أقوال :
الأول : أنه تنتقض بذلك الطهارة الكبرى .
الثاني : أنها لا تنتقض إلا إذا كان هناك احتلاماً .
الثالث : أنها لا تنتقض مطلقاً .
قوله : ( وتغيب حشفة أصلية في فرج أصلي قبلاً كان أو دبراً ولو من بهيمة أو ميت )
( حشفة ) : هي ما يكون أعلى الذكر أو أعلى الفرج .
( تغيب ) : أي إخفاء .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : يدرِ .
(2) في حاشية الأصل - المذكرة - ما نصه : " تراجع الشيخ عن ذلك واختار القول الأخير ، وذلك بقاءً على الأصل ، وأما كونه يذكر احتلاماً ، فإنها لا تعتبر قرينة ؛ لأنه قد يحتلم ولا ينزل " .(34/95)
( حشفة أصلية )(1) : ليخرج حشفة الخنثى المشكل فإنها تستثنى ؛ لأنها ليست بأصلية – وهذه فروع على نادر جداً .
( في فرج أصلي ) : كذلك لابد أن يكون الفرج ليس فرج خنثى مشكل ؛ لأنه ليس أصلياً .
( ولو من بهيمة وميت ) : وكذلك ( غير إنسي ) كأن يكون جنياً ، على القول بثبوت هذا أي إمكان جماع الإنسي للجنية أو الجني للإنسية ، فإذا وقع هذا فإنه يجب الغسل .
فإذن : تغييب الحشفة الأصلية في فرج أصلي قبلاً كان أو دبراً ( ولو من بهيمة وميت ) يوجب الغسل وليس البحث هنا في تحريم ذلك بل البحث في فرضية الغسل .
ودليل هذا – أي أنه إذا التقى الختانان وثبت الإيلاج فيجب الغسل ، ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قعد على شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ) وفي رواية : ( وإن لم ينزل ) (2)
__________
(1) في الأصل : " فرج أصلي "
(2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل ، باب ( 28 ) إذا التقى الختانان / رقم ( 291 ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ) ، وقوله ( وإن لم ينزل ) عند مسلم في كتاب الحيض ، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل .. ( 348 ) .
قال الحافظ في الفتح [ 1 / 470 ] : " ثم جهدها بفتح الجيم والهاء ، يقال جهد وأجهد أي بلغ المشقة ، قيل : كدها بحركته أو بلغ جهده في العمل بها " .(34/96)
، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ) (1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح .
فإن قيل : فما الجواب علي ما ثبت في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أمر من أكسل أن يغسل ما مس من امرأته ويتوضأ ) (2)
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ الترمذي [ سنن الترمذي ج: 1 ص: 182 رقم 109] والنسائي في السنن الكبرى ، ولم أجده بهذا اللفظ في أبي داود ، وإنما رواه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الإكسال ( 216 ) قال : " حدثنا مسلم بن إبراهيم الفراهيدي ، حدثنا هشام وشعبة وقتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قعد بين شُعبها الأربع ، وألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل ) ، .
وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين ( 349 ) بلفظ : " إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل ) . ولم أره في النسائي " المجتبى " باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان من كتاب الطهارة . وإنما هو في السنن الكبرى للنسائي ج: 1 ص: 108 باب وجوب الغسل إذا التقى الختانان رقم ( 196 ) ، و ج: 5 ص: 352 رقم 9127 . من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله .
(2) أخرجه البخاري في باب غسل ما يصيب من فرج المرأة من كتاب الغسل ( 293 ) أن أبي بن كعب قال : يا رسول الله ، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل ؟ قال : ( يغسل ما مس المرأة منه ، ثم يتوضأ ويصلي ) ، وأخرجه مسلم ( 346 ) باب إنما الماء من الماء من كتاب الحيض بلفظ : " عن أبي بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يصيب من المرأة ثم يُكسل ؟ فقال : ( يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي ) .(34/97)
فالجواب : أن هذا الحديث منسوخ ، فقد ثبت في أبي داود والنسائي والترمذي بإسناد صحيح عن أبي بن كعب قال : ( كانت الفتيا التي يقولون ( الماء من الماء ) رخصةً رخص الله بها ثم أمر بالاغتسال بعد ) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الإكسال ( 214 ) قال : " حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو ، يعني ابن الحارث عن ابن شهاب ، حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبي بن كعب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب ، ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك ، قال أبو داود : " يعني الماء من الماء " . وقال ( 215 ) : " حدثنا حمد بن مهران البزاز الرازي ، حدثنا مبشر الحلبي عن محمد أبي غسان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، حدثني أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد " ، وأخرجه الإمام أحمد في المسند : 5 / 115 ، 116 ، وابن ماجه في باب ما جاغء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان من كتاب الطهارة ، والترمذي في باب ما جاء في أن الماء من الماء من أبواب الطهارة . المغني [ 1 / 272 ] . ولم أره في فهرس النسائي طبعة بيت الأفكار ، ولم يعزه محققا المغني إليه .
نصب الراية ج: 1 ص: 82
قال الشيخ تقي الدين في الامام وأعل هذا الحديث بأن فيه انقطاعا بين الزهري وسهل يدل عليه رواية بن ماجة قال قال سهل بن سعد الساعدي فلم يذكر الاخبار وعند أبي داود وقال بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بن شهاب قال حدثني بعض من ارضى ان سهل بن سعد الساعدي أخبره ان أبي بن كعب أخبره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا يقتضى ان الزهري لم يسمعه من سهل وقد جزم بذلك البيهقي فقال وهذا الحديث لم يسمعه الزهري من سهل انما سمعه من بعض اصحابه عن سهل قال بن خزيمة وهذا الرجل الذي لم يسمعه عمرو بن الحارث يشبه ان يكون أبا حازم بن سلمة بن دينار لان مبشر بن إسماعيل روى هذا الخبر عن أبي غسان محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب قال الشيخ قلت قد رواه بهذا السند أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه عن أبي جعفر الجمال عن مبشر بن إسماعيل بالسند المذكور ولفظه عن أبي بن كعب ان الفتيا التي كانوا يفتون ان الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد انتهى وأخرجه البيهقي في سننه من طريق أبي داود وقال قبل إخراجه وقد رويناه بإسناد آخر صحيح موصول عن سهل بن سعد ثم ذكره وقال بن حاتم سألت أبي عن أحاديث الماء من الماء فقال كلها منسوخة بحديث سهل بن سعد عن أبي بن كعب قال الشيخ وقد وقع لي رواية عن محمد بن جعفر من جهة أبي موسى عنه عن معمر عن الزهري وفيها قال أخبرني سهل بن سعد فعليك بالبحث عنها فانها مخالفة لما ذكره عمرو بن الحارث والله اعلم انتهى
تلخيص الحبير ج: 1 ص: 135
لكن وقع في أبي داود ما يقتضي انقطاعه فقال عن عمرو بن الحارث عن بن شهاب حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد أخبره أن أبي بن كعب أخبره وفي رواية بن ماجة من طريق يونس عن الزهري قال قال سهل وجزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل وقال بن خزيمة هذا الرجل الذي لم يسمه الزهري هو أبو حازم ثم ساقه من طريق أبي حازم عن سهل عن أبي أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعد وقد وقع في رواية لابن خزيمة من طريق معمر عن الزهري أخبرني سهل فهذا يدفع قول بن حزم بأنه لم يسمعه منه لكن قال بن خزيمة أهاب أن تكون هذه اللفظة غلطا من محمد بن جعفر الراوي له عن معمر قلت أحاديث أهل البصرة عن معمر يقع فيها الوهم لكن في كتاب بن شاهين من طريق معلى بن منصور عن بن المبارك عن يونس عن الزهري حدثني سهل وكذا أخرجه بقي بن مخلد في مسنده عن أبي كريب عن بن المبارك وقال بن حبان يحتمل أن يكون الزهري سمعه من رجل عن سهل ثم لقي سهلا فحدثه أو سمعه من سهل ثم ثبته فيه أبو حازم ورواه بن أبي شيبة من طريق شعبة عن سيف بن وهب عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عميرة بن يثربي عن أبي بن كعب نحوه وروى مالك في الموطأ عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وفي الباب عدة أحاديث في عدم الإيجاب لكن انعقد الإجماع أخيرا على إيجاب الغسل قاله القاضي بن العربي وغيره "(34/98)
.
وهذا مذهب جماهير أهل العلم ، أما إذا مس الختان الختان من غير إيلاج فلا يجب الغسل إجماعاً ، وإنما يثبت الغسل بالإيلاج .
قوله : ( وإسلام كافر )
إذا أسلم الكافر فيجب عليه أن يغتسل سواء كان(1) قد وقع في الجنابة في حال كفره أو لم يكن، وسواء كان كافراً أصلياً ثم أسلم أو كان مرتداً ، فيجب عليه الغسل ؛ لما ثبت عند الخمسة إلا ابن ماجه بإسناد جيد عن قيس بن عاصم أنه أسلم : ( فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر ) (2) ، وثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أسلم ثمامة بن أثال : ( اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل ) (3)
__________
(1) في الأصل : كانت .
(2) أخرجه أبو داود في باب في الرجل يسلم فيؤمر بالغسل من كتاب الطهارة ( 355 ) قال : " حدثنا محمد بن كثير العبدي ، أخبرنا سفيان ، حدثنا الأغر ، عن خليفة بن حُصين ، عن جده قيس بن عاصم قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام ، فأمرني أن أغتسل بماء وسدر " ، والنسائي في باب ذكر ما يوجب الغسل ومالا يوجبه غسل الكفار إذا أسلم ، من كتاب الطهارة ، كما أخرجه الترمذي في باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل من أبواب الجمعة ، والإمام أحمد في المسند 5 / 61 . المغني [ 1 / 275 ] .
(3) أخرجه أحمد 2 / 246 ، 452 ، 483 ، في طبعة بيت الأفكار برقم ( 8024 ) قال : " حدثنا عبد الرحمن حدثنا عبدا لله بن عمر ، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن ثمامة بن أثال – أو أثالة – أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اذهبوا به إلى حائط بني فلان ، فمروه أن يغتسل ) وبرقم ( 9832 ) بسند ولفظ آخر ، وبرقم ( 10273 ) . وقال الحافظ : " رواه عبد الرزاق وأصله متفق عليه " سبل السلام [ 1 / 179 ] ، أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال ( 4372 ) لكن بلفظ : " أنه سمع أبا هريرة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد … ، وفيه : " أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نجْل – كذا في طبعة بيت الأفكار ، ولعلها نخل كما في صحيح مسلم - قريب من المسجد ، فاغتسل ثم دخل المسجد .. " . وأخرجه مسلم بلفظ البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه ( 1764 ) . وأبو داود في كتاب الجهاد ( 2679 ) وفيه : " فاغتسل فيه ثم دخل المسجد " ، فليس في رواية الصحيحين وأبي داود أمر الرسول صلى الله عليه وسلم له بالاغتسال ، وإنما فيه فعله فقط رضي الله عنه .(34/99)
.
فهذان الحديثان حجة للحنابلة والمالكية خلافاً للشافعية والأحناف – في وجوب الاغتسال لمن أسلم سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً أو سواء ثبتت عليه الجنابة قبل إسلامه أو لم تثبت .
وحجة أهل القول الثاني : أن مثل هذه المسألة يجب أن تنتشر انتشاراً واضحاً فيثبت بأحاديث متواترة أو ظاهرة مشهورة ؛ لأن الذين أسلموا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا حصر لهم فهم كثرة كاثرة ومع ذلك لم يثبت إلا هذين الحديثين .
لكن هذا التعليل لا يرد بمثله الأحاديث الصحيحة ؛ لأنه ليس من شروط الحديث الصحيح أن يكون متواتراً أو مشهوراً بل متى ثبت وصح فإنه يجب الاحتجاج والعمل به .
قال الأحناف : لا يجب عليه الغسل مطلقاً .
وقال الشافعية : يجب عليه إن أجنب في حال كفره وإن اغتسل في حال كفره ، وإلا فلا يجب عليه الغسل .
لكن القول الأول هو الراجح وهو وجوبه مطلقاً .
قوله : ( وموت )
كذلك الموت فيجب فيه الغسل وليس ذلك لكونه حدثاً أي لرفع الحدث ، لكن هذا الحكم يتعدى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم – فيمن وقصة راحلته فمات - : ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ) (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم في ابنته : ( اغسلنها بماء وسدر ) (2) والحديثان متفق عليهما ، وفيهما وجوب غسل الميت .
قوله : ( وحيض ونفاس )
__________
(1) أخرجه البخاري [ 1 / 47 ، … ] ومسلم [ 4 / 2 ] وغيرهما ، الإرواء [ 1012 ] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ، باب غسل الميت ووضوئه بالاء والسدر ( 1253 ) بلفظ : ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور .. ) وانظر ( 1254 ) ، ( 1255 ) ، ( 1258 ) ، ( 1261 ) ، ( 167 ) . وأخرجه مسلم ( 939 ) في كتاب الجنائز ، باب في غسل الميت .(34/100)
إجماعاً ، فيجب الغسل فيها وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) (1)
فالحائض يجب عليها أن تغتسل ومثلها النفاس ، والنفاس حكمه حكم الحيض ، فإنما هو دم يخرج من الرحم .
وما هو إلا الدم المتجمع في الرحم عند توقف الحيض عن الحامل ، فهو دم خارج من الرحم بل في الظاهر أنه نفس الدم الذي يخرج من المرأة في أيام عادتها ، وقد منع خروجه الحمل ، وقد خرج بعد ذلك من رحمها فيجب عليها الغسل .
لكن يستثنى من ذلك قوله :
( لا ولادة عارية من الدم )
وهذا قد يكون في غاية الندرة ، فلا يجب عليها أن تغتسل لعدم وجود الدم ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، ولم يكن بمعنى المنصوص عليه أو المجمع عليه . فإذا ثبت مثل هذا فلا يجب عليها الغسل .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثالث والثلاثون
( يوم السبت : 26 / 11 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن )
( من لزمه الغسل ) : أي وجب عليه الغسل ، فانتقضت طهارته الكبرى فيحرم عليه أن يقرأ القرآن .
وقد تقدم أن الجنب ينهى عن مس المصحف لحديث : ( وأن لا يمس القرآن إلا طاهر )(2) ، أما هنا فهو حكم قراءة القرآن للجنب ، فقال المؤلف : ( ومن لزمه الغسل حرم عليه قراءة القرآن ) فيدخل في ذلك الحائض والنفساء فإنه يجب عليهن الغسل .
فيحرم على من لزمه الغسل – قراءة القرآن آية فصاعداً بقصد القراءة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب إقبال المحيض وإدباره ( 320 ) بلفظ : عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ) ، وأخرجه مسلم ( 333 ) .
(2) تقدم صْ 63(34/101)
أما لو دعا أو ذكر الله بآيات قرآنية فلا يثبت عليه هذا الحكم ، فلو دعا بقول : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) (1) أو قال دعاء الركوب وفيه : ( سبحان الذي سخر لنا هذا ) (2) ، أو قال : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) (3) أو : ( الحمد لله رب العالمين ) أو : ( بسم الله الرحمن الرحيم) فهي آيات قرآنية لكنه لم يقصد بها القرآن ، فإذا لم يقصد بها القرآن فلا بأس .
وما ذكره - من أنه يحرم على من لزمه الغسل قراءة القرآن - وهو مذهب الجمهور ، وأنه يحرم على الحائض والجنب قراءة القرآن ، واستدلوا :
__________
(1) سورة البقرة .
(2) سورة الزخرف .
(3) سورة البقرة .(34/102)
بما رواه الخمسة عن علي بن أبي طالب قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً ) (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ،باب في الجنب يقرأ القرآن ( 229 ) قال : " حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، قال : دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان ، رجل منا ورجل من بني أسد أحْسَبُ ، فبعثهما علي رضي الله عنه وجهاً وقال : إنكما عِلْجان فعالجا عن دينكما ، ثم قام فدخل المَخْرج ثم خرج فدعا بماء فأخذ منه حفنة فتمسَّح بها ثم جعل يقرأ القرآن ، فأنكروا ذلك فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن ،ويأكل معنا اللحم ، ولم يكن يحجبُه أو قال يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة " ، وأخرجه الترمذي مختصراً برقم 146 ، والنسائي برقم 266 ، 267 ، وابن ماجه برقم 594 . وأخرجه الإمام أحمد برقم ( 840 ) قال : " حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة ، قال : دخلت على علي بن أبي طالب ، فذكره بطوله . وأخرجه مختصراً برقم ( 627 ) قال : " حدثنا أبو معاوية ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سلمة ، عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً ) ، وأخرجه برقم ( 639 ) و ( 1011 ) و ( 1123 ) .(34/103)
وبما رواه الترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) (1) .
قالوا : فهذه أدلة تدل على أنه لا يجوز له أن يقرأ القرآن . قالوا : وهو مذهب علي بن أبي طالب ، فقد ثبت عنه عند الدارقطني وعبد الرزاق وابن أبي شيبة(2) بإسناد صحيح أنه قال : ( اقرؤوا القرآن ما لم يكن أحدكم جنباً ، فأما إن كان أحدكم جنباً فلا ولا آية ) .
إذن هذا هو مذهب جماهير العلماء .
وذهب بعض الفقهاء : إلى أن قراءة القرآن للجنب جائزة وأن الجنب لا يمنع من قراءة القرآن .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن ( 131 ) قال : " حدثنا علي بن حُجْر والحسن بن عَرَفَة قالا حدثنا إسماعيل بن عيّاش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) قال : وفي الباب عن علي ، قال أبو عيسى : حديث ابن عمر حديث لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر … قال : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير ، كأنه ضعّف روايته عنهمه فيما ينفرد به ، وقال : إنما حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام ، وقال أحمد بن حنبل : إسماعيل بن عياش أصلح من بقية ، ولبقية أحاديث مناكير عن الثقات ، قال أبو عيسى : حدثني أحمد بن الحسن قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول ذلك " . وأنكره الألباني رحمه الله تعالى . وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة ( 596 ) من طريق إسماعيل بن عياش حدثنا موسى .. "(34/104)
قالوا : كما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يذكر الله على كل أحيانه ) (1) قالوا : وقراءة القرآن من ذكر الله .
قالوا : والأصل جواز ذلك ما لم يدل دليل صحيح على المنع منه . قالوا : ولا دليل صحيح يدل على ذلك .
أما الحديثان اللذان استدللتم بهما فهما ضعيفان :
أما الحديث الأول : فإن فيه : عبد الله بن سلمة وهو ضعيف ، وقد قال فيه الشافعي : " كان أهل الحديث يوهنونه " ، وممن ضعفه الإمام أحمد .
أما الحديث الثاني : فإن فيه : إسماعيل بن عياش وقد رواه عن الحجازيين ، وروايته عنهم ضعيفة ، لذا اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث وممن نص على تضعيفه شيخ الإسلام ابن تيمية.
فإذن : هذان الحديثان ضعيفان .
قالوا : والأصل معنا ، فإن الأصل هو الجواز حتى يرد الدليل الدال على تحريم ذلك ، ولا دليل صحيح يدل عليه .
نعم : يستحب له ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في أبي داود بإسناد صحيح - : ( فإني كرهت أن أذكر الله على غير طهر ) (2)
أما أن يذكر الله أو يقرأ القرآن على غير طهر فذلك جائز ، ولكن مع ذلك يستحب له أن يتطهر لذلك من غير إيجاب .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحيض ، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها ( 373 ) عن عائشة قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب أيرد السلام وهو يبول ( 17 ) قال : " حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حُضين بن المنذر أبي ساسان ، عن المهاجر بن قُنْفذ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه ، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال : ( إني كرهتُ أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر ) أو قال : ( على طهارة ) . قال في حاشية سنن أبي داود [ 1 / 23 ] : " أخرجه النسائي في الطهارة برقم 38 ، وابن ماجه برقم 350 " .(34/105)
فيستحب له إذا أراد القراءة أن يتطهر ، ولكن من غير إيجاب .
وهذا المذهب هو مذهب ابن عباس ، كما صح ذلك عنه في البخاري معلقاً ، فقد قال البخاري : " ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً "(1) وقد وصله ابن المنذر .
فعلى ذلك : هذا يعارض ما ثبت عن علي ، والصحابة إنما تكون أقوالهم حجة إذا لما تتعارض .
فإذن القول بجواز القراءة هو قول ابن عباس وهو قول البخاري وابن المنذر والطبري وهو مذهب الظاهرية ، وهو الراجح ، لكن يستحب له أن يغتسل لذلك ، وكذلك هو – أي القول بالجواز- مذهب طائفة من التابعين كسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعكرمة وهو مذهب ذهب إليه أئمة كالبخاري وابن المنذر والطبري ، وهو الراجح .
وأولى منه الحائض ، فإذا ثبت الحكم للجنب فأولى منه أن يثبت للحائض خلافاً للجمهور أيضاً .
إلا أن الإمام مالك أجازه إذا خشيت أن تنسى المرأة حفظها للقرآن فيجوز لها – وهو اختيار شيخ الإسلام – .
والقول بالتعميم هو الراجح لما تقدم ، فإن الحائض أولى من الجنب لأمرين:
1 – الأمر الأول : أن الحائض ما عليها من الحدث بغير اختيارها ولا يمكنها أن تزيله إلا أن يذهبه الله عنها ، وأما الجنب فليس أمره كذلك بل يمكنه أن يغتسل بمجرد أن يؤمر بذلك .
وأما الحائض فليس لها ذلك بل هو أمر قد كتبه الله على بنات آدم – كما قال النبي صلى الله عليه وسلم(2) - .
2- الأمر الثاني : أن الحائض قد تطول مدتها ، فقد يبلغ سبعة أيام أو دون ذلك أو أكثر من ذلك فتحتاج أن تقرأ القرآن .
__________
(1) ذكره البخاري معلقاً في باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت من كتاب الحيض بلفظ : " ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً " .
(2) ذكره البخاري تعليقاً في باب كيف كان بدء الحيض من كتاب الحيض فقال : " وقول النبي صلى الله عليه وسلم : هذا شيء كتبه الله على بنات آدم " .(34/106)
بخلاف الجنب فإن مدته تقصر ، لأنه مطالب بالصلاة ، وألا يصلي إلا بطهارة كبرى وصغرى ، فيجب أن يتطهر ، فمدته قصيرة غالباً .
فإذا ثبت لنا جوازه في الجنب فأولى منه أن يثبت للحائض ، وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما .
قوله : ( ويعبر المسجد لحاجة )
فإن لم يكن هناك حاجة فلا يجوز له أن يعبر المسجد .
ولو قيل : ( ولا يعبر المسجد إلا لحاجة ) لتبين الحكم ووضحت العبارة ، بخلاف : ( ويعبر المسجد إلا لحاجة ) (1) وإن كان يفهم منها أنه لا يجوز له ذلك لكن لو قال : ( ولا يعبر إلا لحاجة ) لكان أصرح في الحكم .
هذا هو المشهور في المذهب وأنه لا يجوز للجنب العبور في المسجد إلا لحاجة .
إذن : مكثه في المسجد ولبثه فيه محرم ، فلا يجوز للجنب أن يلبث في المسجد ، أما المرور فيجوز إن كانت هناك حاجة . واستدلوا : بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة }(2) قالوا : أي مواضع الصلاة وهي المساجد : { وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً } أي لا تقربوا المساجد وأنتم جنب :{ إلا عابري سبيل } فإذا كنتم عابري سبيل فيجوز لكم أن تعبروا المساجد .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : ويعبر المسجد لحاجة .
(2) سورة النساء .(34/107)
وبما رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) (1) وهو مذهب الشافعية كذلك وأن اللبث في المسجد محرم إلا إذا كان على هيئة العابر المار فإنه يجوز له ذلك .
لكنه يكره له ذلك إن لم يكن هناك حاجة ؛ لأن اتخاذ المساجد طرقاً مكروه ، فلا يجوز للمسلم سواء كان جنباً أو غير جنب أن يعبر المساجد إلا إذا كانت هناك حاجة ، لأن المساجد يكره أن تتخذ طرقاً كما ورد النهي عن ذلك في الطبراني في الكبير وغيره – وسيأتي في باب المساجد – لذا قال : ( إلا لحاجة ) ؛ لأن مروره من غير حاجة مكروه سواء كان جنباً أو غير جنب .
إذن : الحنابلة والشافعية : قالوا : لا يجوز المكث في المسجد للجنب إلا إذا كان عابراً للسبيل فإنه يجوز له ذلك . ويكره له أن يعبر لغير حاجة سواء كان جنباً أو لم يكن جنباً .
ووافقهم بقية المذاهب الأربعة بأن اللبث محرم استدلالاً بحديث : ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) .
ولكنهم لم يوافقوهم في جواز العبور ، بل ذهبت المالكية والأحناف : إلى أنه لا يجوز العبور .
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب في الجنب يدخل المسجد من كتاب الطهارة ( 232 ) قال : " حدثنا مسدد حدثن عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الأفلت بن خليفة ، قال : حدثتني جَسْرة بنت دجاجة ، قالت : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ، فقال : ( وجّهوا هذه البيوت عن المسجد ) ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل فيهم رخصة ، فخرج إليهم بعد ، فقال : ( وجهوا هذه البيوت عن المسجد ، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) ، وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم نادى بأعلى صوته ( إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض ) ،سنن أبي داود [ 1 / 159 ] .(34/108)
وأجابوا عن الاستدلال بالآية ، وقالوا : معنى :{ لا تقربوا الصلاة } أي لا تصلوا : { وأنتم سكارى …. ولا جنباً } أي ولا تصلوا وأنتم جنباً فإن الصلاة لا تحل للجنب { إلا عابري سبيل } أي إلا مسافرين ، فإذا كنتم مسافرين فيجوز لكم أن تصلوا وأنتم جنب إذا تيممتم ، ثم ذكر الله بعد ذلك التيمم .
وهذا التعبير أصح ، ذلك لأن هذا التعبير لا يحتاج فيه إلى تقدير محذوف ، قوله :{ لا تقربوا } أي لا تصلوا فإن المعنى هو الظاهر .
وأما إذا قلنا : ( لا تقربوا مواضع الصلاة ) فقد احتجنا إلى أن نقدر محذوفاً ، والأصل ألا يكون هناك تقدير محذوف وهذا هو الراجح في تفسيرها(1)
__________
(1) قال الشيخ في شرح أخصر المختصرات الذي شرح في رأس الخيمة عام 1419 هـ ما نصه : " ودليل منع الجنب من اللبث في المسجد قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل } يعني إلا مجتازين ، ولا يصح أن يكون المراد بعابري سبيل : المسافرين ، لأنهم يقال لهم : بنو سبيل ، ولا يقال : عابري سبيل . فالجنب يمنع من دخول المسجد إلا مجتازا ، يعني يدخل من باب ويخرج من باب إن احتاج إلى ذلك . ويدل على ذلك – كما يدل على جواز مكثه إن توضأ – ما رواه سعيد بن منصور عن عطاء بن يسار قال : كان أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة . مفهومه : أنهم إذا لم يتوضؤوا وضوء الصلاة فإنهم لا يجلسون في المسجد ، وفيه أيضا أنهم إذا توضؤوا فإنهم يجلسون ، وكما هو معلوم أن الوضوء يخفف الجنابة . إذا الجنب إذا توضأ فلا بأس أن يجلس في المسجد ، وأما قبل ذلك فلا يجوز له المكث فيه ، ويستثنى من ذلك أن يكون عابرا للسبيل .
والمالكية يمنعون من ذلك مطلقا ، يقولون : لا يجوز له مطلقا الدخول إلى المسجد ولو كان عابرا للسبيل . والجمهور أيضا : لا يجيزون له المكث في المسجد ولو توضأ . لكن الصواب كما تقدم ، وهو المشهور في مذهب أحمد ، وتدل عليه الآثار – منها الأثر المتقدم - . إذاً المكث لا يجوز في المسجد للجنب إلا إذا توضأ ، وأما الاجتياز فهو جائز عند الحاجة إلى ذلك "(34/109)
.
إذن : مذهب المالكية والأحناف في تفسير هذه الآية أصح .
لكن ما ذهبوا إليه من تحريم اللبث والمكث في المسجد قد خالفهم فيه بعض العلماء فقالوا : يجوز المكث للجنب في المسجد . وهو مذهب ابن المنذر والمزني ، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الظاهرية . قالوا : يجوز للجنب أن يمكث في المسجد .
قالوا : والحديث ضعيف ، وقد ضعفه البيهقي وعبد الحق الأشبيلي وابن حزم . وفيه جَسْرة وقد ذكر البخاري أن في أحاديثها مناكير ، فإذا ثبت ذلك فإنه يجب التوقف في حديثها ، فإن في بعض أحاديثها مناكير فوجب أن يتوقف في حديثها ، ولم يوثقها إمام معتبر بل وثقها ابن حبان والعجلي فلم يكن من الحق اعتماد حديثها في مسألة من المسائل الشرعية والأمر كذلك .
فإذن : الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم للتوقف في حال جسرة ، فإن ثبت التوقف كان العمل كذلك ، والحديث المتوقف فيه – كما ذكر ابن حجر في النزهة – كالحديث المردود تماماً .
إذن : الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك فيجوز مطلقاً كما هو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب المزني من كبار أئمة الشافعية ، وهو مذهب ابن المنذر وهو إمام مجتهد مشهور ، فهذا هو مذهبهم ؛ لضعف الحديث ، ولأن الآية الكريمة الصحيح في تفسيرها ما ذهب إليه المالكية والأحناف ، وأن المراد بقوله :{ لا تقربوا الصلاة } أي لا تصلوا ، فعلى ذلك لا تصلوا وأنتم جنب ، إلا إذا كنتم مسافرين فلم تجدوا ماءً فتيمموا وصلوا – وإنما استثنى في الجنب المسافر ؛ لأن الغالب فيمن يفقد الماء إنما هو المسافر . بخلاف الحاضر فإنه يقل فقده للماء فلم يحتج إلى التنبيه عليه .
إذن : الراجح مذهب بعض العلماء وهو مذهب الظاهرية وأن المكث في المسجد – للجنب – جائز مطلقاً .(34/110)
أما الحائض فلا يجوز لها كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمر الحيض أن يعتزلن المصلى ) (1) وثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : ( ناوليني الخمرة من المسجد فقالت : إني حائض فقال : إن حيضتك ليست بيدك ) (2) فهذا يدل على أنه قد تقرر عندها – وقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك – أن الحائض لا تدخل المسجد ولا يجوز لها ذلك .
ومن ثمَّ نهيت عن الطواف بالبيت ، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري )(3) متفق عليه .
فإذن : الراجح أنه يجوز المكث واللبث في المسجد للجنب ، أما الحائض فلا يجوز لها مطلقاً المكث في المسجد واللبث فيه .
وقبل ذلك : مرورها إلا عند الضرورة ، لأن المرور نوع مكث ، فلا يجوز لها المرور إلا للضرورة .
قوله : ( ولا يلبث فيه بغير وضوء )
هذه هي مسألة اللبث ، فيكون هذا تصريح منه بأن اللبث ينهى عنه الجنب ، والحائض ممن يلزمه الغسل فلا يجوز له اللبث إلا بوضوء .
وهذا من مفردات المذهب وأن الجنب – وهذا على القول بتحريم مكثه في المسجد – لا يجوز له أن يلبث في المسجد إلا إذا توضأ فيجوز له اللبث .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب شهود الحائض العيدين .. ( 324 ) عن أيوب عن حفصة قالت : كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن في العيدين ، فقدمت امرأة .. فلما قدمت أم عطية .. سمعته يقول : ( يخرج العواتق وذوات الخدور … ويعتزل الحيض المصلى ) وفي باب وجوب الصلاة في الثياب من كتاب الصلاة ( 351 ) بلفظ : عن أم عطية قالت : أمرنا أن نخرج الحيض … ويعتزل الحُيّض عن مصلاهن .. ) ، وأخرجه مسلم ( 890 )
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها .. ( 298 ) .
(3) رواه البخاري [ 1 / 83 … ] ومسلم [ 4 / 30 ] وأبو داود والنسائي والترمذي ، الإرواء رقم 191 .(34/111)
وحجتهم : ثبوت ذلك عن الصحابة ، كما روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن عطاء بن يسار قال : ( كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة )(1) وسيأتي الكلام على أن الوضوء مخفف للجنابة عند الكلام على استحباب الوضوء عند النوم .
فإذن : مذهب الحنابلة – ولو قلنا بتحريم المكث واللبث لقلنا به - لأن هذا فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلو احتلم رجل في المسجد ثم قام فتوضأ ثم عاد فنام فإنه قد فعل أمراً جائزاً ، فيجوز له أن يمكث إذا توضأ .
ومثله – كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – النفساء والحائض إذا توقف عنهما الدم ، فإنهما في حكم الجنب ، فإذا توضآ جاز لهما المكث ، فإذا قلنا أنه لا يجوز للجنب المكث في المسجد إلا إذا توضأ ، فكذلك الحائض والنفساء إذا انقطع عنهما الدم .
وما ذكره شيخ الإسلام قد يقال فيه شيء من النظر وهو أن الحُيَّض في الغالب ، فيهن من يتصف بهذا الوصف وهو الانقطاع عن الدم ، ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم عند أمرهن باعتزال المصلى ، لا سيما النفساء – على القول بأن النفساء لا تطهر بانقطاع دمها – فهذا فيها أوضح .
فأمرهن باعتزال المصلى ولم يستثن النساء اللاتي انقطع عنهن ، وهن في الغالب يكن كثيرات .
وقد يقال : لم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ لأن الغالب أن من انقطع دمها فإنها تغتسل وتحضر الصلاة فيذهب هذا التنظير .
فعلى ذلك قول شيخ الإسلام لا يحمل على انقطاعه أثناء مدة الحيض أو النفاس وإنما يحمل على انقطاعه الذي يجب منه الغسل ، ومتى كان كذلك فلها أن تتوضأ وتلبث أو تمكث في المسجد .
إذن : ما ذكره شيخ الإسلام – وهو على المذهب – وجيه واضح .
فالحائض لا يجوز لها المكث في المسجد فإن انقطع دمها فيجوز لها المكث بعد الوضوء ، وهو اختيار شيخ الإسلام وهو قياس واضح بيِّن .(34/112)
قوله : ( ومن غسل ميتاً أو أفاق من جنون أو إغماء بلا حلم سن له الغسل )
( ومن غسل ميتاً ) : تقدم استحباب الغسل من غسل الميت للحديث : ( من غسل ميتاً فليغتسل )(1) وقد تقدم تصحيحه . وفيه استحباب الغسل من غسل الميت ، وأن من باشر غسل الميت سواء باشره كله أو بعضه فإنه يستحب له الغسل .
( أو أفاق من جنون أو إغماء بغير حلم ) : لأنه إذا ثبت الاحتلام فقد وجب الغسل ، وقد ثبت في الصحيحين(2) أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لما أغمي عليه في مرض موته اغتسل بعد أن أفاق ) فهذا يدل على استحبابه في المغمى عليه .
ومثله من أفاق من جنون من باب أولى، وقد قال الموفق : " ولا أعلم فيه خلافاً " .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجنائز ، باب في الغسل من غسل الميت ( 3161 ) ، والترمذي في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الغسل من غسل الميت ( 993 ) ، وابن ماجه في كتاب الجنائز باب ( 8 ) ما جاء في غسل الميت ( 1463 ) ، وأحمد : 2 / 280 ، 433 ، 454 ، 472 ، و 4 / 346 ، سبل السلام [ 1 / 144 ] . وقد تقدم صْ 54 .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة ( 198 ) بلفظ : أن عائشة قالت : لما ثَقُل النبي واشتد به وجعه … أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعدما دخل بيته واشتد وجعه : ( هريقوا عليّ من سبع قرب ، لم تُحْلَل أَوْكِيَتُهُنّ ، لعلِّي أعهد إلى الناس ) وأُجْلِس في مخْضَب لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه تلك ، حتى طفق يشير إلينا أن قد فعلتنّ ، ثم خرج إلى الناس ) ، وأخرجه في كتاب المغازي ، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ( 4442 ) وفي آخره : قالت : ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم " . وأخرجه مسلم ( 418 )(34/113)
قوله : ( بلا حلم ) : أما إذا وقع احتلام في الإغماء أو نحوه فإنه يجب عليه أن يغتسل ؛لأن ذلك موجب من موجبات الغسل كما تقدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم إذا رأت الماء ) (1).
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والثلاثون
( يوم الأحد : 27 / 11 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( والغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي ويغسل كفيه ثلاثاً …..)
قوله : " والغسل الكامل " أي الغسل الجامع بين ما يفترض وما يسن .
قوله : " أن ينوي " لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العلم ، باب الحياء في العلم ( 130 ) ، وفي باب إذا احتلمت المرأة من كتاب الغسل ( 282 ) ، وأخرجه مسلم ( 313 ) ، وقد تقدم صْ 70 .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم ( 54 ) فقال : " حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الأعمال بالنية ، ولكل امرئ ما نوى ... ) الحديث .
في كتاب بدء الوحي ( 1 ) فقال رحمه الله : " حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير ، قال حدثنا سفيان ، قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع عَلْقَمَةَ بن وقاص الليثي يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) . ومسلم في كتاب الإمارة ( 1907 ) - شرح النووي المجلد الخامس [ 13 / 53 ] – قال : " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى ، فما كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
حدثنا محمد بن رُمْح بن المهاجر أخبرنا الليث ح وحدثنا أبو الربيع العَتَكي حدثنا حماد بن زيد ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب يعني الثقفي ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حفص يعني ابن غياث ويزيد بن هارون ح وحدثنا محمد بن العلاء الهَمْدَاني حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا ابن أبي عُمر حدثنا سفيان ، كلهم عن يحيى بن سعيد بإسناد مالك ، ومعنى حديثه وفي حديث سفيان سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يُخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(34/114)
.
قوله : " ثم يسمي " قياساً على الوضوء ، فإن الغسل إحدى الطهارتين .
قوله : " ويغسل كفيه ثلاثاً " ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ( وهنا قال المؤلف : ويغسل كفيه ثلاثاً ) ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء فيُبلغ أصول الشعر، ثم حثى على رأسه ثلاث حثيات ثم غسل سائر جسده ) (1) .
فهذا الحديث فيه صفة الغسل وأنه : يبدأ أولاً بغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيخلل به أصول شعره ثم يحثي علي رأسه ثلاث حثيات ثم يغسل سائر جسده ، أي بقية جسده ، فإن سائر الشيء بقيته .
وهنا عند قوله : ( ويعم بدنه غسلاً ثلاثاً ) هذا هو المذهب وأنه يستحب أن يعم بدنه غسلاً ثلاثاً قياساً على الوضوء .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل ، باب الوضوء قبل الغسل ( 248 ) بلفظ : " كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء ، فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله ) ( 262 ) . وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب صفة غسل الجنابة بلفظ : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ، ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه .(34/115)
لكن هذا القياس قياس ليس صحيحاً لمخالفته لظواهر الأدلة الشرعية كحديث عائشة وحديث ميمونة وليس في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل جسده ثلاثاً ، فظواهر الأدلة الواردة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اكتفى بغسل يديه مرة واحدة . وقد بوب عليه البخاري باباً بهذا المعنى وهو اختيار شيخ الإسلام وذهب إليه بعض الحنابلة .
إذن : ذهب بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام أنه لا يشرع له أن يعم بدنه ثلاثاً وأنه ليس بمستحب بل إنما يعم بدنه بالغسل مرة واحدة .
أما استحباب الثلاث فلا دليل عليه بل ظواهر الأدلة تدل على أنه يغسل بدنه مرة واحدة وبذلك بوب البخاري .
وقوله : ( ويحثي على رأسه ثلاثاً يرويه ) : عليه أن يروي رأسه ويتأكد من وصول الماء إلى أصول الشعر .
وعلى الرجل أن ينشر رأسه إن كان غير منشور لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وأما الرجل فلينشر شعره فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر ) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الوضوء بعد الغسل ( 255 ) قال : " حدثنا محمد بن عوف قال : قرأت في أصل إسماعيل بن عيّاش قال ابن عوف : وحدثنا محمد بن إسماعيل عن أبيه ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد قال : أفتاني جُبير بن نفير عن الغسل من الجنابة أن ثوبان حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : ( أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر ، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقضه ، لتغرف على رأسها ثلاث غرفات بكفيّها ) .(34/116)
وأما المرأة سواء كانت حائضاً أو جنباً – وقد ضفرت شعرها - فلا يجب عليها أن تنقضه ، لما ثبت في مسلم أن أم سلمة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : إني امرأة أشد ضفر شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) (1) .
أما الجنب فهو باتفاق العلماء .
وأما الحائض فهل يجب أن تنقض شعر رأسها عند الغسل أم لا ؟
قولان في مذهب أحمد وغيره : أصحهما أنه لا يجب عليها ذلك للحديث المتقدم(2)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب حكم ضفائر المغتسلة ( 330 ) بلفظ : " عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني امرأة أشد ضفر رأسي ، فأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال : ( لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) .. وفي حديث عبد الرزاق : فأنقضه للحيضة والجنابة ؟ فقال ( لا ) ...
(2) قال الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات الذي شرحه في رأس الخيمة أواخر عام 1419 وبداية 1420 هـ ما نصه : " المرأة إذا اغتسلت للجنابة فلا يجب عليها أن تنقض شعر رأسها ، بل تكتفي بصب الماء على الشعر حتى تروي أصوله ، يدل عليه ما ثبت في مسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سئل عن نقض الشعر للجنابة ، فقالت أم سلمة رضي الله عنها : أنا امرأة – يا رسول الله – أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة . فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - : ( لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضي الماء فتطهرين ) . إذا دل هذا الحديث أن غسل الجنابة في حق المرأة لا يجب معه نقض الشعر . وأما الرجل فإنه يجب عليه إن كان شعره ملبدا أن ينقضه ، لما ثبت في أبي داود أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ( وأما الرجل فلينشر شعر رأسه وليغسله حتى يبلغ أصول شعره ) .
إذا المرأة لا تنقض شعر رأسها من الجنابة ، وهذا باتفاق العلماء .
وأما الحيض فقال المؤلف هنا : وتنقض المرأة شعرها لحيض . لما ثبت في ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال : ( انقضي شعرك واغتسلي ) قال ذلك للحائض ، ولأن غسل الحائض آكد من غسل الجنابة ، فإن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما سألته أسماء – كما في مسلم – عن غسل الحائض ، ذكر لها الماء والسدر ، ولما سألته عن غسل الجنابة ذكر لها الماء فقط . ولما ذكر الشعر قال- صلى الله عليه وسلم - : ( وتصب الماء على شعرها وتدلكه دلكا شديدا ) قاله في شعر الحيض ، وأما في الجنابة فقال- صلى الله عليه وسلم - : ( فتدلكه دلكا ) ولم يقل : شديدا . فغسل الحيض آكد من غسل الجنابة وأبلغ . وغسل الجنابة يتكرر ، وشق مع ذلك أن تنقض كلما اغتسلت المرأة للجنابة ، وأما الحيض فإنه لا يتكرر . هذا هو الشهور في مذهب الإمام أحمد وعليه نصوصه ، وهو من مفردات المذهب .
وأما الجمهور فقالوا : يستحب ، فلو لم تنقضه فلا بأس .
-واستدلوا : برواية في مسلم من حديث أم سلمة – في بعض الروايات – أنها قالت : أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة ، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - : ( لا ) .
-والجواب : ما ذكره ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن : أن هذه اللفظة غير محفوظة ، فقد تفرد به عبد الرزاق عن الثوري ، وعامة الرواة لم يذكروا هذه اللفظة ، وكذلك قال ابن رجب في الفتح : ولعلها غير محفوظة . وقد ورد هذا الحديث من طريقين ، وفي أحد الطريقين قد تفرد عبد الرزاق عن غيره من الرواة ، وأما الطريق الثاني فقد اتفق الرواة فيه على ذكر الجنابة دون الحيضة .
فالمقصود أن هذه اللفظة معلولة ، وعلى ذلك فإن الحائض تنقض شعرها ، ولأن هذا هو الأصل ، ولذلك قلنا في الرجل أن ينشر شعر رأسه .(34/117)
.
وأما ما روي ابن ماجه في غسل الجنابة وفيه قال : ( انقضي شعرك واغتسلي ) فهذا يحمل على الاستحباب لحديث أم سلمة المتقدم وفيه : ( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ) ، فعلى ذلك قوله – في غسل الحائض - : ( انقضي شعرك واغتسلي ) يكون للاستحباب .
إذاً : أصح قولي العلماء أنه لا يجب على المرأة إذا كانت حائضاً أن تنقض شعر رأسها إذا ضفرته بل تحثي عليه ثلاث حثيات ، وأما الرجل فيجب أن ينقض شعر رأسه وأن يصل الماء إلى أصول الشعر .
قوله : ( ويدلكه )
فيستحب له أن يدلك بدنه ليتأكد من وصول الماء إلى أجزاء البدن ، ليتأكد من ذلك أو ليغلب على ظنه ، ولا يجب عليه ذلك – أي الدلك – متى تيقن وصول الماء إلى أجزاء البدن أو غلب على ظنه .
إذن : لا يجب أن يدلك بدنه متى تيقن وصول الماء أو غلب على ظنه . وإنما يشرع له ذلك ليتيقن .
أما إذا علم أن بعض أجزاء بدنه لم يصلها الماء فإنه يجب عليه أن يتأكد من وصول الماء إلى هذه الأجزاء .
قوله : ( وتيامن )
استحباباً ، لحديث عائشة : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) (1) والغسل من الطهور ، فيستحب له أن يتيامن فيه بأن يبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر .
قوله : ( ويغسل قدميه مكاناً آخراً )
__________
(1) أخرجه البخاري في باب التيمن في الوضوء والغسل من كتاب الوضوء ، وفي باب التيمن في دخول المسجد وغيره من كتاب الصلاة ، وفي باب التيمن في الأكل وغيره من كتاب الأطعمة ، وفي باب يبدأ النعل باليمنى ، وباب الترجيل من كتاب اللباس ، ومسلم في باب التيمن في الطهور وغيره من كتاب الطهارة ، وأبو داود في باب الانتعال من كتاب اللباس وبقية الخمسة ، المغني [ 1 / 136 ] . أخرجه أبو داود ( 4140 ) بلفظ : " كان رسول الله يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله ، في طهوره وترجله ونعله ، قال مسلم : وسواكه ، ولم يذكر في شأنه كله "(34/118)
فيستحب له إذا انتهى من الغسل على بدنه أن يغسل رجليه مكاناً آخر .
ودليل ذلك ، حديث ميمونة وفيه : ( ثم تنحى من مكانه فغسل قدميه ) .
فعلى ذلك يستحب له أن يتنحى عن موضعه الذي اغتسل فيه ثم يغسل قدميه .
وذهب بعض الحنابلة : إلى أنه لا يستحب مطلقاً بل عند الحاجة وهي ما إذا كان موضعه الذي اغتسل فيه قد حدث فيه الطين ونحوه ، فينتقل إلى موضع آخر ، وهذا القول أولى ؛ لأن حديث عائشة ليس فيه غسل القدمين بعد غسله .
وأما ما رواه مسلم – من ذكر ذلك أي غسل القدمين بعد الغسل – فهي رواية معلومة ، فهي من رواية أبي معاوية عن هشام ، وروايته عن هشام فيها مقال ، وقد تفرد بها عن أصحاب هشام ، فلا يثبت هذا في حديث عائشة .
وإنما الأظهر أنه غسل قدميه لما قالت : ( ويتوضأ ) وفي ذلك غسل القدمين .
وما ذكره هؤلاء أولى ؛ لأن مثل ذلك لا يتعلق بمثله استحباب ، ولعدم ثبوته في حديث عائشة ؛ ولأنهم كانوا يغتسلون في أراضي ترابية ، فإذا اغتسل فإن الماء ينزل على موضعه فيتطين بذلك فيبقى على قدميه طين ، فإذا انتقل إلى موضع آخر فغسل قدميه يكون أكمل لطهارته .
فإذن : الأظهر أنه لا يستحب ذلك مطلقاً ، وإنما عند الحاجة كأن تكون الأرض قد أصيبت بالطين بسبب تنازل الماء من جسده .
قوله : ( والمجزئ أن ينوي ثم يسمي ويعمم بدنه بالغسل مرة ) .
( أن ينوي ) : إذن النية لا يجزئ الغسل بدونها ، فهي شرط من شروطه لحديث : (إنما الأعمال بالنيات )(1) فلابد للغسل لأن يكون مجزءاً أن ينويه ، فلو اغتسل لتبريد ونحوه فلا يجزئه ذلك .
لكن إذا اغتسل لرفع الحدث الأكبر عنه أو اغتسل لما لا يصح فعله إلا بالغسل بنية ذلك : فإنه يرتفع حدثه .
وما قيل في النية من مسائل في الوضوء ، فهو كذلك في الغسل .
__________
(1) متفق عليه ، وقد تقدم .(34/119)
إذن : النية شرط من شروط الغسل ، فإذا نوى رفع الحدث الأكبر أجزأه . وإذا نوى أن يمس المصحف أو يقرأ القرآن – على القول باشتراط الطهارة من الجنابة – . أو اغتسل بنية دخول المسجد – على القول بعدم جواز دخول الجنب – فإن هذه النية تجزئ عنه .
أما إذا اغتسل بنية غسل الجمعة أو غسل عرفات أو غير ذلك من الاغتسال المستحبة فلا يجزئ عنه على الصحيح ، ويجزئ على المذهب كما تقدم في الوضوء .
إذن : ما تقدم من نية الحدث الأصغر كذلك هي نفس الأحكام المترتبة على النية بالحدث الأصغر(1) .
قوله : ( ثم يسمي ) : إذن التسمية ركن فيه قياساً – كما تقدم على الوضوء – ( تراجع الشيخ عن ركنية التسمية في الوضوء إلى استحبابها ، فكذلك الغسل ) (2) .
( ويعم بدنه بالغسل مرة )
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - من حديث عمران بن حصين – لمن أجنب : ( اذهب فأفرغه عليك ) (3) فهذا الحديث يدل على أن الواجب عليه في الغسل أن يعم بدنه أي يعم بشرته وأصول الشعر ونحو ذلك وكل أعضاء بدنه أن يعمها بالغسل .
وهل يدخل في ذلك المضمضة والاستنشاق أم لا ؟
قولان لأهل العلم :
فذهب الحنابلة والأحناف : إلى فرضية المضمضة والاستنشاق ، فلو غسل بدنه ولم يتمضمض ولم يستنشق فإن غسله ليس بمجزئ .
وذهب الشافعية والمالكية : إلى أجزائه دون المضمضة والاستنشاق .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : الأكبر .
(2) راجع الجزء الأول من الطهارة صْ 121 .
(3) سيأتي قريباً .(34/120)
أما أهل القول الأول : فاستدلوا بحديث ميمونة في الغسل وفيه : ( ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده ) (1) .
قالوا : فقد ثبت هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تمضمض واستنشق و النبي صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً فيه بيان لمجمل القرآن فإنه يجب ، فإن الله قال : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } فتمضمض النبي صلى الله عليه وسلم واستنشق في غسله فعلى ذلك يجب ؛ لأنه بيان لمجمل القرآن .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الغسل ، باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة ( 259 ) بلفظ " حدثتنا ميمونة قالت : صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلاً .. . ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه وأفاض على رأسه ثم تنحى ، فغسل قدميه ثم أتي بمنديل فلم ينفض بها " ، وأخرجه مسلم ( 317 ) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب صفة غسل الجنابة ( 317 ) بلفظ : " قالت : أدنيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثاً ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ به على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض ، فدلكها دلكاً شديداً ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه ، ثم غسل سائر جسده ، ثم تنحى عن مقامه ذلك ، فغسل رجليه ثم أتيته بالمنديل فرده " قال مسلم بعد ذلك : " وفي حديث وكيع وصف الوضوء كله يذرك المضمضة والاستنشاق فيه " .(34/121)
واستدل أهل القول الثاني : بالحديث المتقدم وهو حديث عمران بن حصين وفيه ( اذهب فأفرغه عليك ) (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم ، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم ( 344 ) قال : حدثنا مسدد قال : حدثني يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف قال : حدثنا أبو رجاء عن عمران قال : كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل ، وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها ، فما أيقظنا إلا حر الشمس ، وكان أول من استيقظ فلانٌ ثم فلانٌ ثم فلان – يسميهم أبو رجاء فنسي عوف - ثم عمر بن الخطاب الرابع ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه . فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس ، وكان رجلاً جليداً ، فكبّر ورفع صوته بالتكبير ، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم قال : ( لا ضير أو لا يضير ، ارتحلوا ) فارتحل فسار غير بعيد ، ثم نزل فدعا بالوضوء ، فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس . فلما انفتل من صلاته ، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، قال : ( ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ ) قال : أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : ( عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك ) . ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه الناس من العطش ، فنزل فدعا فلاناً - كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف - ودعا علياً فقال : ( اذهبا فابتغيا الماء ) ، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها ، فقالا لها : أين الماء ؟ قالت : عهدي بالماء أمسِ هذه الساعة ، ونفَرُنا خُلُوف ، قالا لها : انطلقي إذاً ، قالت : إلى أين ؟ قالا : إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : الذي يقال له الصابئ ؟ قالا : هو الذي تعنين ، فانطلقي ، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وحدثاه الحديث ، قال : فاستنزلوها عن بعيرها ، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء ، ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو سطيحتين ، وأوكأ أفواههما ، وأطلق العزاليَ ونودي في الناس : اسقوا واستقوا . فسقى من شاء واستقى من شاء ، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال : ( اذهب فأفرغه عليك ) وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها ، وأيم الله لقد أُقلع عنها وإنه ليخيّل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( اجمعوا لها ) فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة ، حتى جمعوا لها طعاماً ، فجعلوها في ثوب ، وحملوها على بعيرها ، ووضعوا الثوب بين يديها ، قال لها : ( تعلمين ، ما رَزِئْنا من مائك شيئاً ، ولكن الله هو الذي أسقانا ) فأتت أهلها وقد احتبست عنهم ، قالوا : ما حبسك يا فلانة ؟ قالت : العجب ، لقيني رجلان ، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ ، ففعل كذا وكذا ، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه ، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة ، فرفعتهما إلى السماء – تعني : السماء والأرض - أو أنه لرسول الله حقاً ، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يُصيبون الصِّرْم الذي هي منه ، فقالت يوماً لقومها : ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً ، فهل لكم في الإسلام ؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام " . وأخرجه في كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ( 3571 ) .
وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل فضائها ( 682 ) بلفظ : عن عمران بن حصين قال : كنت مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له ، فأدلجنا ليلتنا .. ) الحديث ، وهو طويل .(34/122)
وليس فيه ذكر المضمضة والاستنشاق وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وكذلك في حديث أم سلمة : ( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين )(1) .
وهذا القول - فيما يظهر لي – أصح ؛ ذلك لأن هذه الأحاديث ليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق .
وأما حديث ميمونة المتقدم فإن المضمضة والاستنشاق فيه ليس صريحاً أنها من الواجبات ؛ لأنهم لم يوجبوا ما تضمنه هذا الحديث مما فيه سوى المضمضة والاستنشاق ، من وضوئه قبل ذلك وفيما ذلك المضمضة والاستنشاق ، فإن الوضوء ومنه المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه وغسل اليدين وبقية الوضوء الذي يكون قبل الغسل بالاتفاق ليس بواجب ، ومنه المضمضة والاستنشاق .
والأحاديث التي استدلوا بها ظاهرة في عدم وجوب المضمضة والاستنشاق لاسيما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمه : ( إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) ، والعلم عند الله تعالى(2)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب حكم ضفائر المغتسلة ( 330 ) بلفظ : " عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني امرأة أشد ضفر رأسي ، فأنقضه لغسل الجنابة ؟ قال : ( لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) .. وفي حديث عبد الرزاق : فأنقضه للحيضة والجنابة ؟ فقال ( لا ) … وقد تقدم صْ 86 .
(2) قال الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات ما نصه : " وهل تدخل في ذلك المضمضة والاستنشاق أم لا ؟
قال الحنابلة والأحناف : أنه تدخل فيجب عليه أن يتمضمض و يستنشق 0
وقال الشافعية : لا يجب عليه أن يستنشق و يتمضمض 0
الشافعية والمالكية : لا يوجبون المضمضة والاستنشاق لا في الوضوء ولا في الغسل 0
والحنابلة : يوجبونه في الغسل و الوضوء 0
والأحناف : فلا يوجبونهما في الوضوء ويوجبونهما في الغسل 0 وأنكر هذا أحمد والشافعي وقد تقدم لنا من الأدلة على وجوب المضمضة والاستنشاق ، هذا القول هو أقرب القولين وكذلك الغسل وذلك أن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى . فما ثبت في الطهارة الصغرى يثبت في الطهارة الكبرى ولذا تقدم أن من اغتسل فإن ذلك يجزئه عن الطهارة الصغرى . فما وجب في الطهارة الصغرى يجب في الطهارة الكبرى وإذا كان يجب أن يغسل أسفل شعره مع أنه مغطى بالشعر فكذلك يجب أن يغسل باطن الأنف والفم .
وفي حديث ميمونة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - تمضمض واستنشق ، كما في الصحيحين . وهذا القول هو أقرب القولين والأحوط . والله أعلم .(34/123)
.
إذن : المسألة فيها قولان :
وجوب المضمضة والاستنشاق ، وهذا مذهب الحنابلة والأحناف .
عدم وجوبهما ، وهو مذهب المالكية والشافعية .
قوله : ( ويتوضأ بمد ويغتسل بصاع )
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يتوضأ بمد - وهو ربع الصاع – ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد )(1) ، هذا هو المستحب وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن غسل بدنه بأقل من الصاع أو توضأ بأقل من المد ، لذا قال :
( فأن أسبغ بأقل …… أجزأ )
فإذا أسبغ بأقل من الصاع فإنه يجزئ عنه ، ولكن عليه أن يتيقن الغسل أي غسل الأعضاء .
أما إذا كان مسحاً فإنه لا يجزئ عنه فلابد وأن يجري الماء على أعضائه .
قوله : ( أو نوى بغسله الحدثين أجزأه )
رجل اغتسل – وسواء قلنا أن المضمضة والاستنشاق من فرائض الغسل أو لم نقل ذلك – رجل اغتسل ونوى رفع الحدثين ، الحدث الأكبر والحدث الأصغر ، قال : ( أجزأ عنه ) .
إذن لا يشترط أن يتوضأ ، بل يجزئ عنه إذا نوى رفع الحدث الأصغر والأكبر .
- وعن الإمام أحمد وهو قول للشافعي : أنه لا يجزئ عنه حتى يتوضأ ؛ لأن الله قال :{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا …}(2) فيجب على من قام إلى الصلاة أن يتوضأ .
واستدل الجمهور : بقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا }(3) فلم يوجب سوى الطهارة ، ولم يوجب وضوءاً ، والطهارة من الجنابة الغسل ، فإذا اغتسل فقد طهر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ) (4) ، وهذا هو الراجح – وهو مذهب جماهير العلماء - وأنه لا يشترط أن يتوضأ .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب الوضوء بالمد ( 201 ) بلفظ : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ أو كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ، ويتوضأ بالمد " ، وأخرجه مسلم ( 325 ) .
(2) سورة المائدة .
(4) وأخرجه مسلم وقد تقدم .(34/124)
لكنه إن أحدث أثناء غسله كأن يمس ذكره فحينئذ لا يجزئ عنه الوضوء ؛ لأنه قد انتقض أثناء الغسل .
أما إذا لم يحدث أثناء غسله فإن هذا الغسل يجزئ عنه إذا نوى رفع الحدثين .
إذن : لو أنه رفع الحدث الأكبر فحسب فإنه لا يجزئ عنه عن الوضوء ، بل يجب عليه أن يتوضأ لحديث : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي ) (1) .
- وذهب بعض الفقهاء ، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي : إلى أنه يجزئ عنه إذا نوى رفع الحدث الأكبر ، ويدخل في ذلك الحدث الأصغر تبعاً له . واستدلوا بالآية المتقدمة وهي قوله :{ وإن كنتم جنباً فاطهروا } قالوا : فلم يوجب الله عز وجل وضوءاً ولا نيته بل أوجب علينا الطهارة ، فمن طهر فإنه يرتفع بذلك حدثه الأكبر والأصغر .
وهذا القول هو القول الراجح ، وأنه متى اغتسل عن الحدث الأكبر فإنه يرتفع عنه الحدث الأصغر تبعاً ؛ لأنه عز وجل قال : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } ، والطهارة هي الغسل كما تقدم في الأحاديث المتقدمة ، ولم يشترط الله عز وجل سوى ذلك فلم يشترط وضوءاً ولا نيته ، فعلى ذلك : متى نوى رفع الحدث الأكبر بغسله فإنه يرتفع الحدث الأصغر تبعاً له ، والعلم عند الله .
قوله : ( ويسن لجنب غسل فرجه ، والوضوء لأكل ونوم ومعاودة وطء )
__________
(1) متفق عليه وقد تقدم .(34/125)
أما الأكل : فلِما ثبت في مسلم عن عائشة قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن ينام أو يأكل توضأ وضوءه للصلاة " (1) ، وفي الصحيحين عن عمر أنه قال : ( يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم إذا توضأ فليرقد ) وفي رواية : ( اغسل ذكرك وتوضأ ثم نم ) (2) ، فهذه الأحاديث واضحة في استحباب الوضوء للأكل والشرب وكذلك النوم . وهي واضحة أيضاً في استحباب غسل الفرج عند النوم .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج .. ( 305 ) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب ، توضأ وضوءه للصلاة قبل أن ينام " ، وبلفظ : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة " .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل ، باب نوم الجنب ( 287 ) بلفظ : أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيرقد أحدنا وهو جنب ؟ قال : ( نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب ) ، وفي باب الجنب يتوضأ ثم ينام ( 290 ) بلفظ : ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( توضأ واغسل ذكرك ثم نم ) ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب جواز نوم الجنب .. ( 306 ) بلفظ : عن ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله ! أيرقد أحدثنا وهو جنب ؟ قال : ( نعم إذا توضأ ) ، وبلفظ : أن عمر استفتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل ينام أحدنا وهو جنب ؟ قال : ( نعم ، ليتوضأ ثم لينم ، حتى يغتسل إذا شاء ) ، وبلفظ : " ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه جنابة من الليل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( توضأ واغسل ذكرك ثم نم ) .(34/126)
وأما استحباب غسل الفرج عند الأكل والشرب كما هو ظاهر قول المؤلف فليس هذا بواضح ، ولم أر دليلاً يدل عليه . وإنما يستحب له إذا أراد أن يأكل ويشرب أن يتوضأ وأما غسل فرجه فلم أر دليلاً من الأدلة الشرعية يدل على ذلك ولم أرهم استدلوا بدليل لهذه المسألة .
ولا يضره حدث ؛ لأن هذا الوضوء ليس لرفع الحدث ، لأنه محدث حدثاً أكبر وليس في هذا الوضوء إزالة حدث عنه وإنما فيه تخفيف الجنابة .
فعلي ذلك لو أحدث فيكفيه ما فعله من الوضوء السابق فلو أنه توضأ ثم أكل وشرب ثم أحدث وأراد أن يأكل ويشرب فلا يقال باستحباب الوضوء مرة أخرى ؛ لأن هذا الوضوء إنما يراد بها(1) التخفيف للجنابة فلا يؤثر الحدث فيه .
قوله : ( ومعاودة وطء ) .
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً ) (2) ، وللحاكم بإسناد صحيح : ( فإنه أنشط للعود ) (3) .
فالحكمة إذن هي التنشيط ، وعليه فإنه إذا أحدث فلا يضره أيضاً ؛ لأنه ليس المقصود من ذلك رفع حدث .
* وما ذكرناه في الجنب مستحب أيضاً في الحائض والنفساء اللتين قد انقطع عنهما الدم ، فإذا انقطع الدم عن الحائض والنفساء فيستحب لهما أن يفعلا ما يفعله الجنب ، فهما في حكم الجنب تماماً .
والحمد لله رب العالمين .
انتهي باب الغسل بحمد الله .
الدرس الخامس والثلاثون
( يوم السبت : 17 / 12 / 1414 هـ )
باب التيمم
التيمم لغة : القصد ، يقال : تيممت الشيء أي قصدته .
__________
(1) كذا في الأصل .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أني أكل أو يشرب أو ينام أو يجامع ( 308 ) . بلفظ : " عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ك ( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ ) زاد أبو بكر في حديثه : بينهما وضوءاً ، وقال : ثم أراد أن يعاود " .(34/127)
اصطلاحاً : هو التعبد لله عز وجل بمسح الوجه واليدين على وجه مخصوص . وسيأتي ذكر صفته .
وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب ، فقوله تعالى :{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً }(1) .
ومن السنة ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي – وذكر منها – وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) (2) أي بالتيمم .
وقد أجمع العلماء على مشروعيته .
قال المؤلف رحمه الله : ( وهو بدل طهارة الماء )
فالتيمم بدل طهارة الماء ، والبدل له حكم المبدل .
فالبدل له حكم المبدل ما لم يثبت دليل يدل على اختصاص المبدل بحكم من الأحكام الشرعية – هذه قاعدة شرعية – و إلا فالأصل أن البدل له حكم المبدل منه ، فكل حكم يثبت للبدل فهو ثابت للمبدل .
فعلى ذلك : كل حكم يثبت للغسل والوضوء فإنه يثبت للتيمم إلا إذا دل دليل على أن الوضوء والغسل لهما حكم مختص بهما .
فعلى ذلك يثبت التيمم للصلاة والطواف ومس المصحف وغير ذلك من الأحكام الشرعية .
فإذن كل حكم يثبت للغسل والوضوء فهو ثابت للتيمم ؛ لأنه بدل عنهما .
فإذا قلنا – مثلاً – إن الطواف من شروطه الوضوء فلم يجد الماء فيجب عليه التيمم .
وإن قلنا إنه سنة – كما هو الراجح – فإنه يستحب له التيمم إذا لم يجد الماء ، وكذلك غيره من الأحكام .
مسألة :
__________
(1) سورة النساء والمائدة .
(2) أخرجه البخاري في بداية كتاب التيمم ( 335 ) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهرة وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس عامة ) ، وانظر ( 3122 ) ،وأخرجه مسلم ( 521 ) .(34/128)
رجل ليس بجنب بل الطهارة الكبرى ثابتة له وهو في خلاء ولا ماء عنده فهل يجوز له أن يطأ زوجته فتنتقض بذلك طهارته الكبرى أم يكره أم ما الحكم ؟
روايتان عن الإمام أحمد :
الرواية الأولى : أنه يكره له ذلك ما لم يخف العنت ؛ لأنه يبطل بذلك الطهارة الأصلية .
الرواية الأخرى – وهي المشهورة في المذهب ، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية – : أنه لا يكره له ذلك ؛ لأن التيمم طهارة وهو عادم للماء ، وكونه قد انتقضت طهارته باختياره فإن هذا لا يضر .
فعلى ذلك : لو وطئ من يعلم أنه عادم للماء وإنه متي أجنب فلا يمكنه الغسل بالماء إنما التيمم فإنه يجوز له ذلك ولا يكره له ذلك .
قوله : ( إذا دخل وقت فريضة أو أبيحت النافلة )
هذا هو الشرط الأول .
وقوله : ( إذا دخل وقت فريضة ) فمثلاً صلاة الظهر وقتها إذا زالت الشمس ، فإذا زالت الشمس فيجوز له أن يتيمم لها – إن كان عادماً للماء وتوفرت فيه الشروط الأخرى – .
وكذلك في النافلة ، فلا يتيمم إلا إذا أبيحت له .
فمثلاً : رجل أراد أن يتطوع تطوعاً مطلقاً ، فليس له أن يتيمم في وقت النهي ؛ لأنها لم تبح له النافلة ، بل لا يتيمم إلا إذا خرج وقت النهي .
مثاله : رجل أراد أن يصلي تطوعاً مطلقاً بعد طلوع الشمس ، فليس له أن يتيمم قبل طلوعها، بل لا يتيمم إلا بعد طلوعها .
ومثل ذلك : إذا ذكر صلاة فائتة ، فإن الفائتة وقتها عند ذكرها . فليس له أن يتيمم إلا إذا أراد أن يصليها .
أما إذا قال أريد أن أؤخرها ساعة أو ساعتين فليس التيمم .
ومثل ذلك : إذا اجتمع الناس للاستقاء فإنه لا يتيمم إلا عند اجتماعهم ، أما قبل ذلك فلا يتيمم .
ومثل ذلك إذا كسفت الشمس فإنه يتيمم لكسوفها .
- هذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب جمهور الفقهاء .
ودليل ذلك – عندهم - : هو أن التيمم مبيح للصلاة ونحوها وليس رافعاً للحدث .(34/129)
بمعنى : أن الصلاة تكون مباحة لكن الحدث باق ، فإن من أحدث حدثاً أصغر أو أكبر فتيمم فإن الحدث ما زال باقياً ، لكن الشارع أباح له هذه العبادة التي تشرط لها الطهارة .
فإذن : عندهم أن التيمم مبيح ، يعني يبيح الصلاة ونحوها ، لكن الحدث باق غير مرتفع ، وعلى ذلك : فيكون كمن به حدث متجدد – كالمستحاضة - فإنها تتوضأ إذا دخل وقت الصلاة ، ووضوء المستحاضة لا يرفع حدثها بل يبيح لها الصلاة ونحوها وإلا فالحدث باق عليها .
واستدلوا : على أن التيمم مبيح لا رافع : بما ثبت في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن في ذلك خيراً ) (1) .
قالوا : فالشاهد قوله : (فليمسه بشرته ) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء ( 124 ) قال : " حدثنا محمد بن بشار ومحمود بن غيلان قالا حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير ) ، وقال محمود في حديثه : إن الصعيد الطيب وضوء المسلم " قال : وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين " قال أبو عيسى : وهكذا روى غير واحد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بُجدان عن أبي ذر . وقد روى هذا الحديث أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر عن أبي ذر ولم يسمه . قال : وهذا حديث حسن صحيح ، وهو قول عامة الفقهاء أن الجنب والحائض إذا لم يجدا الماء تيمما وصليا . ويروى عن ابن مسعود أنه كان يرى التيمم للجنب ، وإن لم يجد الماء ، ويروى عنه أنه رجع عن قوله فقال : يتيمم إذا لم يجد الماء ، وبه يقول سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق " .(34/130)
وبما ثبت في الصحيحين – في قصة سفرٍ للنبي صلى الله عليه وسلم – من حديث طويل رواه عمران بن حصين ، وفيه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أصابتني جنابة ولا ماء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) (1) فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالماء أعطاه إناء من ماء وقال له : ( اذهب فأفرغه عليك ) .
قالوا : فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرغه عليه ولو كان رافعاً للحدث لما أمره بذلك .
وقد أجمع أهل العلم على أن المتيمم إذا وجد الماء فعليه أن يمسه بشرته .
وإنما اختلفوا في هل هو في هذه المدة التي يجوز له التيمم ، هل التيمم يرفع حدثه أم لا ؟
فذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه مبيح .
وذهب أبو حنيفة وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره جماعة من محققي العلماء كشيخ الإسلام وتلميذه ، ذهبوا : إلى أن التيمم رافع للحدث .
واستدلوا :
بقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم ) وقوله : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) (2) .
قالوا : فهذه الأدلة مصرحة بأن التيمم طهور ، والطهور هو المطهر فاعل الطهارة .
فعلى ذلك إذا تيمم فإنه تثبت له الطهارة وهي رفع الحدث ، فإن حقيقة الطهور هو المطهر أي المثبت وصف الطهارة في فاعل التطهر .
فحينئذٍ : يكون طاهراً ، والطاهر من ارتفع حدثه ، فالطاهر في الأصل من ارتفع حدثه كذا لما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر )(3) فهم من ذلك وجوب الوضوء والغسل أي فعل التطهر .
أما أدلة أهل القول الأول : فإن غايتها أن تدل على أنه مؤقت ، وأن هذا الرفع مؤقت إلى أن يأتي الماء ؛ لأنه بدل عنه ، فمتى ما وجد الماء فإنه يبطل ، فهو ما قائم مقامه ما لم ينب المبدل .
فما دام قد ثبت المبدل ، فإن البدل يبطل ، فيعود غير طاهر .
__________
(1) متفق عليه ، وقد تقدم صْ 89 .
(2) متفق عليه ، وقد تقدم .(34/131)
ومن الأدلة على القول الثاني :
قالوا : إن الأصل أن البدل يقوم مقام المبدل منه ، فالأصل أن التيمم يقوم مقام الوضوء والغسل ، فما دام غير واجد للماء فمقتضى ذلك أن يرتفع الحدث .
وهذا هو القول الراجح .
وعليه : فلا يشترط أن يتيمم بعد زوال الشمس في صلاة الظهر – مثلاً – .
وله أن يتيمم قيل أن تباح له النافلة ما لم يجد الماء ، فإذا وجد الماء فيجب عليه أن يمسه بشرته .
وعليه كذلك : لا يبطل تيممه بخروج الوقت ، بل إذا تيمم لصلاة الظهر فله أن يصلي فيه صلاة العصر والمغرب ونحو ذلك ما لم ينتقض بحدث .
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتيمم لكل صلاة ولا أمر بذلك ، والأدلة الشرعية مطلقة ليس فيها تحديد بشيء من ذلك ، فأين بيان الشارع ؟! فالشارع قد أطلق التيمم ومقتضى هذا الإطلاق أن يرفع الحدث وأن له أن يتيمم قبل دخول الوقت وأن يبقى بعد خروج الوقت . وهذا هو الراجح وهو أن التيمم رافع للحدث .
قوله : ( وعدم الماء )
هذا هو الشرط الثاني وهو أن يعدم الماء فلا يكون واجداً له ، أي ليس ثمت ماء بعد تطلب الماء ، فمتى عدم الماء وقد تطلبه بالطريق التي ستأتي ذكرها ثم لم يجده فهو عادم له .
فإذاً : الشرط الثاني أن يكون عادماً للماء .
فعلى ذلك : إذا كان واجداً للماء فلا يجوز له أن يتيمم إلا فيما سيأتي من المسائل ، وهذا قد أجمع عليه أهل العلم .
وهذا الشرط دل عليه قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا }(1) .
فإذا نسي الماء ؟
بمعني : رجل تيمم وصلى ثم تذكر أن عنده ماء فيجب عليه أن يعيد الصلاة ويكون معذوراً لنسيانه ، كما لو صلى بلا وضوء فإنه يجب أن يعيد ؛ لأن هذا من باب الأفعال ، والأفعال لابد من فعلها وإنما يعذر الشخص بجهلها أو نسيانها وأما أن يسقط فلا .
قوله : ( أو زاد على ثمنه كثيراً أو ثمن يعجزه )
رجل غير واجد للماء لكن هذا الماء مملوك لغيره ولم يبذله إلا بثمن فهل يجب عليه أن يشتريه أم لا ؟(34/132)
لا تخلو هذه المسألة من ثلاثة أحوال :
ا- الحالة الأولى : أن يبذله له بثمن مثله أي ثمنه العادي ، فإنه يجب عليه أن يشتريه ؛ لأنه في حكم الواجد للماء ، لأنه مالك للثمن الذي يمكنه أن يشتري به الماء فكان في حكم الواجد للماء ، وهذا بإجماع أهل العلم .
* فإن كان المال ليس حاضراً عنده لكنه يمكنه أن يقترض وهو قادر على الوفاء في الحكم ؟
قولان في المذهب :
أظهرهما - وهو اختيار شيخ الإسلام – أنه يجب عليه أن يشتريه ؛ لأنه في حكم من معه المال .
فإن كان المال ليس حاضراً عنده ويمكنه الاقتراض لكن لا يمكنه الوفاء ، فلا يجب عليه أن يشتريه .
* فإذا وُهب الماء إليه :
فالمشهور في المذهب أنه لا يجب عليه قبوله للحرج الواقع بسبب المنة .
فإن لم تكن هناك مِنَّة فيزول ذلك ويجب عليه أن يقبل الماء .
إذاً هذه الحالة الأولى وهي أن يكون الماء بثمن المثل .
2- الحالة الثانية : أن يزيد على ثمن المثل يسيراً ، كأن يكون ثمنه درهماً فيبيعه بدرهمين - والمرجع في ذلك إلى العرف – فيجب عليه أن يشتريه ؛ لأن هذه الزيادة لا تلحقه حرجاً .
3 – الحالة الثالثة : أن يكون ثمنه كثيراً .
ففيه قولان في المذهب :
القول الأول : أنه يجب عليه ما لم يجحف بماله – وهو رواية عن الإمام أحمد – .
فمثلاً : رجل عنده مال كثير جداً ولا يجحف بماله مئة ألف ، فوجد ماء قليلاً يكفيه للوضوء فأرُيد بيعه بمائة ألف فيجب عليه أن يشتريه .
القول الثاني : أنه لا يجب عليه وإن كان لا يجحف بماله ، وهذا هو الراجح ؛ لأن الله عز وجل شرع التيمم لرفع الحرج وكونه كثيراً فيه حرج وإن لم يجحف بالمال – هذا هو المشهور في المذهب – ، لذا قال المؤلف :
( أو زاد على ثمنه كثيراً )
أي كثيراً لم يجحف بالمال .
أما إذا كان كثيراً يجحف بالمال فلا يجب عليه قولاً واحداً ؛ لأن في ذلك ضرراً .
فعلى ذلك :(34/133)
إذا كان الثمن مثلياً أو زاد يسيراً فإنه يجب عليه أن يشتريه . أما إذا كان كثيراً يجحف بماله أو لا يجحف لكنه كثير في إنفاقه حرج ، فلا يجب عليه الشراء – هذا هو المشهور في المذهب – وهو الراجح .
ومثل ذلك في الحكم : ما يمكنه إخراج الماء به من حبل ودلو فإن كان بثمن المثل أو زاد زيادة يسيرة فيجب عليه أن يشتريه .
أما إذا زاد على ثمن مثله زيادة كثيرة فلا يجب عليه شراؤه .
ومثل ذلك استئجار من يخرج له الماء ، فإنه إذا كان مثلياً أو زائداً زيادة يسيرة فيجب عليه أن يستأجر لأنه بحكم الواجد للماء .
قوله : ( أو ثمن يعجزه ) :
ولو كان يسيراً ، ولو كان أقل من ثمن المثل لكنه يعجزه فلا يجب عليه ؛ لأن العاجز بحكم العادم .
بمعنى : رجل لا يملك قيمة الماء والمراد قيمته الأصلية وثمنه العادي فإنه يتيمم لأنه بحكم العادم للماء فالعاجز في حكم العادم للماء .
قوله : ( أو خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه شرع التيمم )
قوله : ( أو خاف باستعماله ضرر بدنه ………….إلى أن قال ( بعطش ) :
فإذا خاف باستعمال الماء الضرر بالعطش ، يعني معه ماء إن توضأ به فإنه يخاف على نفسه العطش فإنه يتيمم ولا يتوضأ ولا يغتسل ، لأن في وضوئه منه أو غسله إلحاق لنفسه بالضرر ، وقد قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }(1) وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) (2)
__________
(2) قال في الأربعين النووية : " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً " .
أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام ( 2341 ) قال رحمه الله : " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
( 2340 ) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار " .
وأخرجه الدارقطني في سننه ( 4 / 227 ) قال : " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره ، والطريق الميتاء سبع أذرع ، ولا ضرر ولا إضرار ) .
نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا إضرار ) .
نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال : أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا ضرورة ، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ) " .(34/134)
، وثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص قال : ( بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل قال : فاحتلمت وكانت ليلة شديدة فخشيت على نفسي فتيممت فصليت بأصحابي فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ، فأخبرته بما منعني من الاغتسال قلت : قد سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً }(1) قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً ) (2) أي أقره ولم ينكر فعله .
فإذا خشي على نفسه الضرر أو استعمل الماء بعطش أو مرض ، فإن المرض مبيح للتيمم كما قال تعالى :{ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً }(3) .
__________
(1) سورة النساء 29 .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب إذا خاف الجنب البرد ، أيتيمم ؟ ( 334 ) قال : " حدثنا ابن المثنى ، أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا أبي ، قال : سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جُبير المصري عن عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ، ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ ) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعت الله يقول : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ) فضحك رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً " .(34/135)
فإذا كان استعمال الماء يزيد مرضه أو يؤخر برؤه فيشرع له التيمم ، وكذلك من خاف على نفسه المرض لقوله تعالى :{ فاتقوا الله ما استطعتم } ولحديث : ( لا ضرر ولا ضرار ) ولأن في ذلك حرجاً وقد قال تعالى :{ ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج }(1) وإيجاب شيء يظن ثبوت المرض به ممنوع شرعاً ، فلا يوجب الشارع أمراً يثبت به غالباً المرض ، فما دام أن هذا الرجل متى توضأ خاف على نفسه فيجوز له التيمم .
ولا شك أن هذا الخوف مع توفر الأسباب ، أما إذا كان خوفاً من غير وجود أسبابه فإن هذا الخوف ليس معتبراً .
وإنما كأن يكون في ليلة باردة وخشي المرض أو نحو ذلك من الأسباب .
أما إن تيمم بمجرد توهم فإنه لا يجوز ذلك ، وكل الخوف المذكور إنما هنا مع توفر الأسباب التي هي مظنة وقوع الأمر الذي يخاف منه .
قال : ( أو هلاك ) :
كذلك إذا خشي على نفسه الهلاك باستعمال الماء فكذلك كما تقدم في حديث عمرو بن العاص ، كأن يكون ذلك في ليلة شديدة البرد ولا يمكنه أن يسخن الماء أو كان في مكان مكشوف ويخشى أن يصيبه الهواء فيضر بدنه فيلحقه موتاً أو – كما تقدم – مرضاً أو نحو ذلك .
قال : ( أو رفيقه ) :
خشي العطش على رفقائه .
أو على ( حرمته ) : أي امرأة أو أخت أو نحو ذلك مما معه فإنه يتيمم .
بمعنى : رجل لا يخشى على نفسه العطش لكنه يخشى على رفيقه والمراد به رفيقه المحترم وهو من له حرمة كالمسلم والذمي .
وأما الحربي فليس له ذلك ؛ لأنه حربي دمه هدر ومثل ذلك الزاني المحصن أو نحو ذلك فإن هؤلاء لا حرمة لهم .
( أو ماله )
بأن يكون معه دواب ونحو ذلك من ماشية ونحوها فخشي عليها العطش فكذلك يجوز له التيمم مع وجود الماء .
إذن : متى خاف باستعمال الماء أو طلبه ضرر بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله بعطش أو مرض أو هلاك ونحوه من الضرر فإنه يشرع له التيمم .
__________
(1) سورة الحج ، الآية الأخيرة .(34/136)
أو – كذلك خاف هذه المخاوف على بدنه أو رفيقه أو حرمته أو ماله – خاف ذلك بطلبه وليس باستعماله .
يعني : الماء قريب منه يمكنه أن يأتي به لكنه يخشى على نفسه كأن يكون بينه وبينه لص أو سبع أو امرأة وبينها وبينه فساق ويخشى على عرضها أو نحو ذلك فيجوز لهؤلاء أن يتيمموا .
فهم في الأصل واجدون للماء لأن الماء قريب منهم ويمكنهم استعماله ولكن المانع إنما هو وجود ما يلحقه الضرر ، فيوجد بينه وبين هذا الماء القريب لص أو سبع أو نحو ذلك يخشون الضرر على أبدانهم وأموالهم أو تخاف المرأة على عرضها فإنهم يتيممون ويصلون بهذا التيمم .
إذن : القاعدة : ( أنه إذا لم يجد الماء أو وجده لكنه خشي الضرر باستعماله أو بطلبه فيجوز له التيمم ) سواء كان الضرر به أو برفقته أو حرمته أو بماله أو بمن معه من الناس .
ومثل ذلك من أتاه رجل فطلب منه الماء فإنه في مثل الرفيق وكان له حرمة ومتى منعه الماء فإنه يموت عطشاً فيلحق هذا الطالب الضرر ، فإنه يجب عليه أن يدفع لهذا الطالب الماء ويتيمم للخوف من الضرر ، ولهذا حرمة كما أن لنفسه حرمة .
والحمد لله رب العالمين
الدرس السادس والثلاثون
( يوم الأحد : 18 / 12 / 1414هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ومن وجد ماءً يكفي بعض طهره يتيمم بعد استعماله ) .
صورة هذه المسألة : فيمن وجد ماء يكفي لبعض غسله أو بعض وضوئه ، فلفظة ( طهره ) شاملة للغسل والوضوء .
كأن يجد رجل ماءً يكفي غسل وجهه ويديه ومسح رأسه دون غسل رجليه فما الحكم ؟(34/137)
قال هنا : ( تيمم بعد استعماله ) إذن : يجب عليه أن يستعمله لقوله : ( بعد استعماله ) فيجب عليه أن يستعمل هذا الماء فيغسل ما أمكنه من بدنه أو ما أمكنه من أعضاء وضوئه ، لقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } ولحديث : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ( 7288 ) فقال رحمه الله تعالى : " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) "
وأخرجه مسلم في كتاب الحج ( 1337 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 9 / 100 ) ] فقال : " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ) فقال رجلٌ : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) " .
وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث ( 2357 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 15 / 109 ) ] فقال : " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا : كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) .
وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء .
حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة ، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم ، وفي حديث همام : ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة " . وقد تقدم صْ 16 .(34/138)
.
ويجب عليه أن يتيمم لقوله : ( يتيمم ) ؛ وذلك لأن هذا الماء الذي غسل به بعض بدنه أو بعض أعضاء وضوئه ليس متماً لطهارة البدن فوجب عليه أن يتيمم ليتم طهارته .
والواجب أن يكون هذا التيمم بعد الاستعمال ، فلو تيمم قبل الاستعمال أو معه لم يجزئه ، بل يجب أن يكون التيمم بعد استعماله للماء .
وعلة ذلك : أن العذر هو عدم الماء ، فلو تيمم قبل أن يستعمل هذا الماء فإنه تيمم مع وجود الماء والواجب أن يكون التيمم عند عدم الماء ، فإن عذره ليس لمرض أو حرج وإنما هو لعدم الماء ، ولو تيمم قبل استعماله الماء فهو ليس عادماً له ، بل الماء موجود فوجب أن يكون التيمم بعد استعماله ، هذا هو تقرير مذهب الحنابلة وهو مذهب الشافعية .
إذن : من وجد ماءً يكفي لبعض طهره فإنه يجب عليه أن يغسل ما يمكنه غسله بهذا الماء ثم بعد ذلك يتيمم ، فيجمع بين غسل ما أمكنه لقوله تعالى :{ فاتقوا الله ما استطعتم } وبين التيمم للتعليل المتقدم .
- وذهب المالكية والأحناف : إلى أنه يكتفي بالتيمم وأنه لا يغسل جسده ، وعللوا ذلك بعلتين :
العلة الأولى : أن التيمم بدل عن الغسل والوضوء ، ولا يجمع بين البدل والمبدل منه .
وأجيب عن هذا من أهل القول الأول : بأن التيمم هنا إنما هو بدل عن الأعضاء التي لم تغسل .
ففي المثال المتقدم : التيمم إنما هو بدل عن غسل الرجلين فحسب ، وليس بدلاً عما تم غسله من أعضاء البدن ، بل هو بدل عما لم يغسل دون ما تم غسله .
وأوضح من ذلك أن يقال : إنما هو هنا متمم للطهارة فلما غسل بعض بدنه وبقيت أعضاء لم يمسها الماء وعدم الماء فإنه يتيمم عن الباقي ، فيكون التيمم هنا متمماً للطهارة .
ولنا أن نضرب على هذا نظيراً ، وهو قوله تعالى :{ فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فمن لم يجد فإطعام ستين مسكينا }(1)
__________
(1) سورة المجادلة .(34/139)
قالوا : فلو أمكنه أن يعتق بعض الرقبة فإنه لا يفعل ذلك بل يعدل – بالاتفاق – إلى صيام شهرين متتابعين ، لأن الله إنما أمر بعتق رقبة كاملة وكذلك قوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا }(1) والمراد فلم تجدوا ماء تتطهرون به الطهارة الكاملة ، فإنه – حينئذ – تعدلون إلى التيمم .
والعلة الثانية : أن غسل بعض البدن ليس هو الطهارة وإنما الطهارة غسل البدن كله ، أي أن هذا الفعل منه لا تتم به الطهارة وإنما تثبت الطهارة بالماء بغسل البدن كله في الغسل ، وبغسل الأعضاء الأربعة كلها في الوضوء ، وأما غسل بعض الأعضاء أو غسل بعض البدن فليس طهارة .
وهذا هو قول أكثر أهل العلم كما قال ذلك البغوي وهو قول قوي إلا أن الاحتياط هو ما ذهب إليه الحنابلة من الجمع بين التيمم وغسل بعض البدن أو بعض الأعضاء فيغسل بعض بدنه أو بعض أعضاء وضوئه ثم يتيمم عن الباقي بعد استعمال الماء .
قوله : ( ومن جرح تيمم له وغسل الباقي )
إذا أصيب بجرح في بدنه وكان – مثلاً – جنباً وإذا مس الماء هذا الجرح فإنه يضر به أو يخشى الضرر وقد يكون هذا ليس خاصاً بمحل الجرح بل قد يكون فيما حوله ويعلم أنه متي غسل ما حوله فإن الماء يتساقط على هذا الجرح فيتضرر .
فالحكم هنا أنه : يغسل ما ليس مجروحاً من بدنه أو أعضاء وضوئه ويتمم عن الجرح .
ولو مسحه فكذلك حتى لو كان عليه جبيرة فمسح عليها فإنه يتيمم كذلك ، لأن الواجب إنما هو الغسل ، وهذا إذا مسح فإنما ذلك لأن ذلك استطاعته ويبقى واجب الغسل فيجبره بالتيمم .
وهنا لم يوجب أن يكون التيمم بعد الوضوء أو الغسل كما أوجبه في المسألة السابقة .
وعليه : فلو تيمم أثناء الوضوء ، أو الغسل أو قبله أو بعده فإنه يجزئ عنه ، فإنه قال هنا :
( ومن جرح تيمم له وغسل الباقي ) ولم يقل : ( تيمم له بعد غسل الباقي ) كما تقدم في المسألة السابقة .
* واعلم أن من كان مجروحاً فإنه لا يخلو حكمه من حالتين :(34/140)
الحالة الأولى : أن يكون الواجب عليه هو الغسل كأن يكون جنباً وجرح فإذا تيمم قبله أو معه أو بعده فإنه يجزئ عنه ؛ لأن التيمم بدل غسل هذا الجرح ، ومعلوم أن الترتيب في الغسل ليس بواجب فلو غسل أسفل بدنه قبل أعلاه أو أيسره قبل أيمنه فإنه يجزئ عنه فالغسل لا يجب فيه الترتيب ، والتيمم بدل عن غسل هذا الجرح الذي أصابه .
فلو تيمم ثم اغتسل وترك موضع الجرح فإنه يجزئ عنه .
ولو غسل بعض بدنه ثم تيمم ثم أتم الباقي دون موضع الجرح فإنه يجزئ عنه .
ولو تيمم بعد الغسل فإنه يجزئ عنه .
الحالة الثانية : أن يكون الواجب عليه وضوءاً ، والوضوء الترتيب فيه واجب ، وعليه : فإنه يجب عليه أن يتيمم في موضع غسل هذا العضو .
فإذا كان مثلاً الجرح في يده فإنه يغسل وجهه ثم يتيمم ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه .
وإن كان الجرح ليس عاماً في اليد كلها فإنه يغسل ما أمكنه من اليدين ويتيمم أو يتيمم ثم يغسل ما أمكنه من اليدين ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ؛ لأن التيمم هنا بدل عن غسل هذا الجرح ، فإذا كان بدلاً عنه فإنه يجب أن يكون في موضعه لأن الترتيب واجب في الوضوء .
إذن : على ذلك يجب على من أصيب بجرح أن يغسل بدنه الذي لم يصبه الأذى ، وما أصابه الأذى فإنه يتيمم عنه ، وإن كانت عليه جبيرة مسح عليها مع التيمم .
وعليه - إن كان وضوءاً - أن يتيمم مرتباً التيمم مع الوضوء ، فيجعل التيمم في موضع العضو الذي سقط غسله بسبب هذا الجرح .
وأما إن كان غسلاً فلا يجب فيه الترتيب هذا هو المذهب .
- وذهب بعض الحنابلة وهو اختيار المجد ابن تيمية وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية : إلى أن الترتيب ليس بواجب فلا يجب أن يجعل التيمم موضع العضو المجروح .
قال : - أي شيخ الإسلام - : لأن إدخال التيمم بين أعضاء الوضوء بدعة ، فالمشروع أن يتوضأ ما أمكنه ثم بعد ذلك يتيمم أو يتيمم قبل ذلك .(34/141)
أما أن يدخل التيمم أثناء الوضوء فإن إدخال شيء من الطهارة بين أعضاء الوضوء بدعة ، وما دام بدعة فإنه لا يكون مشروعاً . ولكن إن فعل ذلك فإنه يجزئ عنه لكونه قد فعل ما وجب عليه ، وإنما الابتداع في كونه قد فعله أثناء الوضوء .
فشيخ الإسلام – إذن – يقول : الأصل في الوضوء الوارد عن الشارع أن يتوضأ الوضوء بقدر ما استطاع من غير أن يدخل بينه التيمم .
والعلة الأخرى : أن التيمم طهارة أخرى ، والوضوء طهارة ، فكل طهارة متباينة عن الطهارة الأخرى ، فهذه طهارة بالماء ، وهذه طهارة بالتراب ، والأصل في مثل ذلك أن يفرق بينهما .
إذن الراجح - هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام من - أنه لا يجب عليه الترتيب بوضع التيمم في موضع العضو الواجب عليه التيمم عنه لوجود جرح أو نحوه . بل له أن يتيمم قبل الوضوء وله أن يتيمم بعده ؛ لأن الشارع قد ثبت عنه الوضوء من غير أن يثبت في خلاله التيمم ، ولأن التيمم طهارة أخرى .
وقال الحنابلة أيضاً – يجب الموالاة – فعلى ذلك يكون التيمم كأنه غسل للعضو تماماً .
فعلى ذلك إذا قلنا إن التيمم مبيح – كما هو مذهب الحنابلة – فإذا خرج الوقت فإنه يبطل التيمم ، فما حكم الغسل ؟
بمعنى : رجل غسل بدنه كاملاً أو رجل توضأ وضوءاً تاماً سوى موضع جرح تيمم له فخرج الوقت ، فإنه يبطل التيمم ويبطل الغسل أيضاً ، فيجب إعادة الغسل لوجوب الموالاة .
وقد تقدم ترجيح : أن التيمم أولاً طهارة منفردة ، وتقدم أن الصواب أن التيمم رافع لا مبيح .
فعلى ذلك : الصحيح أنه إذا حدث فيه ذلك وخرج الوقت فإن التيمم يبقى صحيحاً ولا يبطل بخروج الوقت .
ولو قلنا إنه مبيح فإنه لا يجب عليه أن يعيد ما غسله من الأعضاء بل يكفيه التيمم لأن التيمم طهارة منفردة .
إذاً : يجب على من كان في شيء من بدنه جرح أن يغسل بدنه ويتيمم للباقي .
وذهب – من ذهب من أهل القول المخالف في المسألة السابقة – إلى خلاف هذه المسألة فقالوا : يكتفي بالتيمم .(34/142)
وهذا فيه شيء من النظر ، لأن الله عز وجل قال : { فاتقوا الله ما استطعتم }، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (1) وهنا ليس عادماً للماء كما في المسألة السابقة – بل الماء موجود لكنه عجز عن استعمال الماء في موضع من المواضع فناب عنه التيمم .
ويستأنس له بالحديث الضعيف الذي تقدم ذكره ، وهو ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قتلوه قتلهم الله ألا سئلوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ) (2) .
فجمع بين المسح والتيمم – وهو الاحتياط - . فعلى ذلك : إذا أصاب شيء من جسده جرح فإنه يغسل سائر جسده ويتيمم لجرحه .
والمشروع أن يكون ذلك التيمم قبل الغسل أو بعده ، ولا يشرع أن يكون أثناءه خلافاً لما ذهب إليه الحنابلة في الوضوء وجوباً ، وما ذهبوا إليه في الغسل جوازاً ، بل المستحب والسنة ألا يفعل ذلك أثناء الوضوء والغسل وإنما يفعله قبلهما أو بعدهما .
قوله : ( ويجب طلب الماء في رحله وقربه )
فيجب عليه أن يتطلب الماء .
__________
(1) متفق عليه ، وقد تقدم صْ 16 .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في المجروح يتيمم ( 336 ) قال : حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خُريق عن عطاء عن جابر قال : خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجَرٌ فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك فقال : ( قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا ، فإنما شفاء العي السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب - شك موسى – على جرحه خرقة ثم يسمح عليها ويغسل سائر جسده ) . وقد تقدم صْ 16 .(34/143)
بمعني : رجل ليس الماء حاضر عنده فإنه لا يكتفي بمجرد ذلك من غير أن يتطلبه ويبحث عنه ، بل يجب عليه أن يتطلبه عن يمينه وشماله وأمامه ووراءه ، وإذا كان هناك محلاً خضراً أو ربوة أو مكاناً مرتفعاً يحتمل أن يكون فيه الماء وهو قريب إليه فعليه أن يبحث فيه .
إذن : عليه أن يتطلب الماء في الأماكن القريبة منه وإذا كان هناك أهل خبرة - ممن معه – بمواضع الماء فإنه يسأله ، فإن كان قريباً عرفاً فيجب عليه أن يذهب إليه ، وإن كان بعيداً فلا يجب عليه ذلك ؛ لأنه لا يمكن أن يحكم عليه بأنه غير واجد للماء إلا بفعل ذلك .
كما أنه لا يحكم عليه بأنه غير واجد للرقبة فينتقل إلى صيام شهرين إلا بمثل هذا من التطلب .
فلابد من تطلب الماء والبحث عنه في المواضع القريبة وسؤال أهل الخبرة وسؤال من معه من الرفقة ، فإذا لم يجد ماءً فإنه يتيمم ولا شيء عليه في ذلك وهو في حكم غير واجد للماء .
لذا قال : ( ويجب طلب الماء ) للدليل المتقدم وهو قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ولا يحكم عليه بأنه غير واجد للماء إلا بتطلبه والبحث عنه بحيث لا يلحقه الحرج في ذلك ، لذا قلنا إنه إذا كان يعلم أن هناك ماء لكنه بعيد يلحقه الحرج والمشقة في الذهاب إليه فإنه لا يجب عليه أن يتطلبه ويذهب إليه ، بخلاف ما إذا كان قريباً فإنه يجب أن يذهب إليه .
قوله : ( في رحله ) : الرحل هو المنزل .
( وقربه ) : أي ما قرب من منزله ، والقرب هنا قرب عرفي .
أما إذا كان بعيداً في العرف – وهذا يختلف من زمن إلى زمن باختلاف وسائل النقل – فإنه لا يجب عليه أن يذهب إليه .
قوله : ( فإن نسي قدرته عليه وتيمم أعاد )
نسي أنه قادر على وجود الماء ليس الماء بعيداً عنه بل هو قريب إليه وهو يعلم قربه إليه ونسي ذلك فتيمم فإنه يجب عليه أن يعيد – تقدمت هذه المسألة في الدرس السابق .(34/144)
إذن : من ترك الوضوء وهو قادر على أن يتوضأ فالماء قريب إليه لكنه نسي ذلك وتيمم فإنه يجب عليه أن يعيد كما لو نسي الوضوء فيجب عليه أن يعيد .
قوله : ( وإن نوى بتيممه أحداثاً )
أي نوى بتيممه أحداثاً كأن ينوي إباحة الصلاة – على القول بأنه مبيح – وحدث النوم وحدث أكل لحم الجزور وغيرها فينوي عدة من الأحداث فإنه يجزئ عنه .
أو نوى حدثاً واحداً منها كأن يتيمم عن أكل لحم الجزور أو النوم ولم ينو دخول شيء من الأحداث ، فكذلك يجزئ عنه ؛ لأن حكمها واحد وهو إيجاب الوضوء أو الغسل .
فلو أن رجلاً تيمم عن أكل لحم الجزور فكما لو توضأ عنه ، وقد تقدم أنه إذا توضأ عن حدث من الأحداث ولم ينو غيره ولم ينفيه(1) فإنه يثبت له ما يثبت للمتوضئ عن الأحداث كلها ، ولأن التيمم بدل عن الوضوء والبدل له حكم المبدل .
قوله : ( أو نجاسة على بدنه تضره إزالتها أو عدم ما يزيلها )
بمعنى : عليه نجاسة لا يمكنه أن يزيلها أو عجز أن يزيلها فما الحكم ؟
كأن يكون عليه دم على بدنه – وقلنا إن الدم نجس – ولا يمكنه أن يزيله ، أو أن عليه نجاسة يمكنه أن يزيلها ولا ضرر عليه في إزالتها لكنه عادم للماء الذي تزول به النجاسة ، فما الحكم حينئذ ؟
قال : تيمم ، وقيَّد ذلك بالبدن ، أما التيمم عن النجاسات الواقعة على الثياب أو البقاع فإنه لا يجزئ التيمم فيها وهذا من مفردات مذهب أحمد .
فمذهب الحنابلة : إذا كان على بدنه نجاسة لا يمكنه أن يزيلها إما لعدم الماء أو للضرر بإزالتها فإنه يتيمم ما دامت النجاسة على البدن .
أما إذا كانت على الثوب أو البقعة فإنه لا يتيمم عنها .
قياساً على التيمم عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر الواقعين على البدن .
لكن هذا القياس ضعيف ؛ للفارق بين الأصل والفرع ؛ ذلك : لأن الحدث الأكبر والحدث الأصغر معنويان ، وأما الخبث أو النجاسة فهي حسية .
__________
(1) كذا ، ولعل الصواب : ينفه .(34/145)
فكون الشارع أجاز لنا أن نتيمم عن الجنابة وهي حدث أكبر أو عن أكل لحم الجزور – مثلاً – وهو حدث أصغر ، فإن هذا الحدث معنوي ، وأما النجاسة فهي خبث حسي .
الأمر الآخر : أن إزالة النجاسة لا تشترط فيها النية ، وأما رفع الحدث فيشترط فيه النية .
فعلى ذلك ثبت لنا فوارق بينهما ، وإذا ثبتـ[ـت] الفوارق ، فلا قياس صحيح . وهذا هو المذهب الصحيح وهو اختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين .
فالراجح : أن التيمم عن النجاسة لا يجزئ ، بل إذا كان على بدنه نجاسة ولم يمكنه أن يزيلها فإنه يصلي على حسب حاله ولا بدل عن إزالتها ، فالتيمم ليس بدلاً عن إزالة النجاسة ، وإنما هو بدل عن رفع الحدث الأصغر أو الأكبر .
إذا ثبت لنا هذا : فإذا وقع على رجل نجاسة وهو محدث حدثاً أصغر وعنده ماء يكفي لإحدى الطهارتين ، إما أن يغسل هذه النجاسة وإما أن يتوضأ، ولا يكفي الطهارتين كلتيهما فما الحكم ؟
الجواب : أنه يزيل النجاسة بالماء ، ويتيمم عن الحدث ؛ ذلك : لأن إزالة النجاسة لا بدل لها ، وأما رفع الحدث بالوضوء أو الغسل فإن بدله التيمم .
قوله : ( أو خاف برداً )
خاف برداً فتيمم سواء كان في حضر أو سفر ، فخشي على نفسه فإنه حينئذٍ يتيمم .
قوله : ( أو حبس في مصر)
أي : في(1) حصر في مدينة من المدن الحاضرة فحبس فيها فيتيمم لعدم الماء ، فهو حاضر وليس بمسافر ويتيمم لعدم وجود الماء بسبب هذا الحبس فقد حبس عنه الماء .
قوله : ( أو عدم الماء والتراب )
بمعنى : كان في موضع من المواضع لا يمكنه أن يتوضأ ولا أن يتيمم ، لا يمكنه أن يغتسل ولا أن يتيمم ، وهو عادم للماء والتراب كليهما فإنه يصلي .
قال : ( ولم يعد )
في هذه المسائل كلها .
يعني : رجل نوى بتيممه أحداثاً أو نجاسة على بدنه يضره إزالتها أو عدم ما يزيلها فإنه يصلي ولا يعيد .
__________
(1) كذا في الأصل ، والأولى حذف " في " .(34/146)
أو خاف برداً فإنه يتيمم ويصلي ولا يعيد أو حبس في مصر فتيمم أو عدم الماء والتراب فإنه يصلي ولا يعيد ودليل هذه المسائل كلها : قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }(1) وحديث : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (2) .
وما دام أنه فعل ما أمر به فإنه يخرج من عهدته ويحتاج إيجاب القضاء إلى دليل آخر ولا دليل على ذلك .
وما دام أنه فعله فالأصل أنه يجزئ عنه إلا أن يأتي دليل يدل على خلاف ذلك ولا دليل .
إذن : القاعدة : أن من تيمم أو ترك الوضوء والتيمم جميعاً سواء كانت الحال التي تيمم بها أو الحال التي ترك فيها الوضوء والتيمم جميعاً ، سواء كانت هذه الحال حالاً نادرة أو حالاً كثيرة ، فإنه يجزئ عنه تيممه أو تجزئ عنه صلاته التي ترك فيها الوضوء والتيمم ولا يجب عليه الإعادة .
فإن قيل : إن الله عز وجل قال : { وإن كنتم مرضى أو على سفر ……….} الآية . فهنا قوله تعالى : { على سفر } أليس يخرج الحضر .
فالجواب على ذلك : أن هذا التقييد إنما هو تقييد للحال الغالبة .
لأن الحال الغالبة لإعواز الماء وفقده إنما يكون في السفر دون الحضر فإنه يندر أن يفقد فيه الماء .
لقوله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم }(3) الآية .
وهذا مذهب جمهور أهل العلم .
والحمد لله رب العالمين
الدرس السابع والثلاثون
( يوم الاثنين : 19 / 12 / 1414 هـ )
قال المؤلف - رحمه الله تعالى : ( ويجب التيمم بتراب طهور غير محترق له غبار )
__________
(3) سورة النساء .(34/147)
" ويجب التيمم بتراب " : لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم - : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) (1) وهنا في رواية لمسلم : : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) (2) .
قالوا : فدل هذا على أن التيمم إنما يشرع بالتراب من الأرض دون غير التراب الرمل ، والسبخة – وهي الأرض المالحة التي لا تنبت – أو الأرض الطينية ونحو ذلك فإنه لا يصح التيمم بها .
وأما التراب فإنه هو الذي يتيمم به أما غيره كالرمل والسبخة وغيرها مما هو على وجه الأرض – فإنه لا يصح التيمم به – لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) .
قوله : ( له غبار ) : بمعنى : يكون تراباً ليس تراباً ندياً وهو التراب الذي ليس فيه غبار بل لابد أن يكون التراب ذا غبار ، فإن لم يكن فيه غبار فلا يجوز التيمم به .
واستدلوا - على ذلك - : بقوله تعالى : { فامسحوا بوجهكم وأيديكم منه }(3)
وقالوا : " من " تبعيضة أي لابد وأن يعلق بعض التراب وهو غباره ، لابد وأن يصيب وجوهكم وأيديكم ، وإذا كان التراب لا غبار له فإنه لا يعلق منه شيء في الوجه ولا اليدين . هذا تقرير مذهب الحنابلة .
- وذهب بعض أهل العلم إلى : أنه يجزئ بكل ما صعد على وجه الأرض من تراب ورمل وسبخة ونحو ذلك مما يصعد على الأرض مما هو من جنس الأرض أما ما لم يكن من جنسها كعشب أو جبل أو نحو ذلك فلا .
__________
(1) أخرجه البخاري في بداية كتاب التيمم ( 335 ) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهرة وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ،وبعثت إلى الناس عامة ) ، وانظر ( 3122 ) ،وأخرجه مسلم ( 521 ) . وقد تقدم صْ 95 .
(3) سورة المائدة .(34/148)
أما ما كان من جنس الأرض فإنه يجزئ التيمم به ، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وغيرهما من المحققين .
واستدلوا : بقوله تعالى :{ فتيمموا صعيداً طيباً }(1) .
قالوا : والصعيد هو ما صعد على وجه الأرض وقال صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) وفي رواية لأحمد : ( وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً ) (2) .
قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في سفراتهم وغزواتهم لم ينقل عنهم أنهم كانوا يحملون التراب وكانوا يمرون بالأراضي الطويلة من الرمال والسبخة ونحو ذلك ولم يكونوا يحملون من الماء ما يكفيهم ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يحملون التراب ، فهذا ظاهر في أنهم كانوا يتيممون بما يمرون عليه من الأراضي .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ) (3)
وهذا – كذلك – ظاهر أن من بالأراضي السبخة أو الطينية أو الرملية أو غيرها فإنه يدخل في عموم هذا الحديث وهذه الأرض طهور له .
__________
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 14314 ) من حديث جابر وفيه : ( وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً .. ) ، ومن حديث ابن عباس ( 2742 ) وفيه : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) . ومن حديث أبي موسى ( 19973 ) وفيه : ( وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ) . ومن حديث علي ( 1362 ) و ( 763 ) وفيه : ( وجعل التراب لي طهوراً ) . ومن حديث أبي هريرة ( 10524 ) و ( 7397 ) وفيه : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً .. )
(3) متفق عليه .(34/149)
وأجابوا - على الحنابلة في استدلالهم بقوله : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) – : بأن ذكر فرد من أفراد العموم بحكمه لا يفيد تخصيصاً ، وهذه قاعدة ذكرها جمهور الأصوليين من أن ذكر فرد من أفراد العام لا يعد تخصيصاً ، وهنا قد ذكر التراب ، والتراب فرد من أفراد ما يكون على وجه الأرض من الصعيد ، فذكره لا يفيد التخصيص ، وإنما ذكر لكونه هو الغالب كما أن قوله : ( وجعلت تربتها لنا طهوراً ) : هنا قد سيق في مساق الامتنان ، وما كان كذلك فإنه لا يفهم منه مفهوم مخالفة فلا يفهم منه أن ما سوى التراب لا يتيمم به .
إذاً : الصحيح أن كل ما كان على وجه الأرض مما هو من جنس الأرض ، فإنه يتيمم به .
وأما الجواب : على الاستدلال بالآية : { فامسحوا بوجهكم وأيديكم منه }(1)
فالجواب : أن ( مِنْ ) هنا لابتداء الغاية وليست تبعيضية ، أي : ابتدؤا فعل التيمم من الصعيد بأن تضرب بيديك على الأرض ، كما يقال : سافر من البلدة الفلانية إلى الأخرى ، فإن ( من ) هنا ابتدائية ، ومنه قوله تعالى : { وروح منه }(2) أي روح مبتدأة من الله عز وجل .
والظاهر أن (من) هنا ابتدائية لا تبعيضية ؛ لأن الله عز وجل قال بعد ذلك : { ما يريد ليجعل عليكم في الدين من حرج }(3) .
فهنا نفى الحرج ، وقدمه بـ"من" التي تفيد التنصيص على العموم ، فلفظة ( حرج ) وقعت نكرة في سياق النفي فتفيد العموم ، وقدم عليها لفظة (من) التي تفيد التنصيص على العموم .
أي : أن الله إنما شرع التيمم على الصعيد الطيب لئلا يجعل عليكم أي حرج كان ، ولا شك أن إيجاء التراب دون غيره فيه حرج ؛ لأن كثيراً من الأراضي تكون سبخة أو رملية أو طينية ، فإيجاب التراب يكون فيه حرج ومشقة لذا الراجح أن (من) هنا ابتدائية .
- وذكر الحنابلة : أنه إذا كان على الثوب والفراش ونحوهما إذا ضربتهما فخرج منهما غبار فإنه يجزئ التيمم فيهما .(34/150)
وكما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : " في النفس من هذا شيء " ؛ ذلك لأن هذا ليس من الصعيد الطيب ، فإن هذا ثوب أو فراش أو حصر أو نحو ذلك وليس من الصعيد الطيب الذي أمرنا الله بالتيمم به .
قوله : ( طهور ) :
لا نجس ، لقوله تعالى :{ صعيداً طيباً} ، أما الصعيد النجس فلا يجوز التيمم به ، فيشترط أن يكون الصعيد طيباً أي طهوراً ليس بنجس .
قوله : ( غير محترق )
فإن كان محترقاً كما يكون في الخزف ونحوه من إحراق التراب ، فإنه لا يجزئ التيمم به ، ذلك لأن هذا التراب قد تغير بسبب إحراقه بالنار ، فلم يبق كهيئته السابق .
وقيل بجوازه – كما ذكر ذلك صاحب الإنصاف – .
والأظهر ما ذكره الحنابلة من أنه لا يجزئ أن يتيمم به لتغير مسماه ، فقد تغير مسماه من تراب إلى خزف أو نحو ذلك ، إلا إذا كان قد احترق احتراقاً لا يغير مسماه فإنه يجزئ أن يتيمم به .
قوله : ( وفروضه : مسح وجهه ويديه إلى كوعيه وكذا الترتيب والموالاة بينهما في حدث أصغر )
قوله : " كوعيه " هو العظم الناتئ المقابل للإبهام أي إلى الرسغ .
فعليه أن يمسح كفيه ، ولا يشرع له أن يمسح العضد أو الذراع ، وإنما يكتفي بمسح اليدين إلى الرسغ ( الكوع ) .
قوله : ( مسح وجهه ) : أي كل وجهه ، ويستثنى من ذلك الفم والأنف .
وقد تقدم أن الراجح أن الفم والأنف ليسا من الوجه .
وأما الحنابلة فذكروا دليل استثنائهم : تقذر الفم والأنف بذلك .
والدليل الواضح أن الفم والأنف - أي داخل الفم والأنف - ليس من الوجه ، أما الظاهر فيجب أن يمسحه .(34/151)
إذن : يمسح وجهه ويديه إلى كوعيه لقوله تعالى :{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه }(1) واليد إذا أطلقت في كتاب الله فإنها تقيد إلى الرسغ ، كما قال تعالى في السارق والسارقة : { فاقطعوا أيديهما }(2) وكان ذلك إلى الرسغ وهذه هي القاعدة الشرعية وأن اليد إذا أطلقت في الأدلة الشرعية فإنها تقيد إلى الرسغ كما قرر هذا أهل العلم . وهنا كذلك ، وقد ورد في السنة ما يدل عليه وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال باليمين وظاهر كفيه ووجهه ) (3) فعلى ذلك إنما يمسح في التيمم اليدين إلى الرسغ دون بقية اليد .
ومن فروضه – أيضاً – التسمية عند فقهاء الحنابلة – كما تقدم عند الكلام على فرضية التسمية عند الوضوء .
قوله : ( وكذا الترتيب والموالاة في حدث أصغر )
أما الحدث الأكبر فلا يجب فيه هذا .
إذن : يجب الترتيب والموالاة في الحدث الأصغر ، أما التيمم عن الحدث الأكبر فلا يشترط فيه الترتيب ولا الموالاة . أما عدم وجوب الترتيب : فقالوا : لأن التيمم فرع عن الغسل ولا يجب في الغسل الترتيب .
__________
(3) أخرجه البخاري في كتاب التيمم ، باب التيمم ضربة ( 347 ) عن شقيق قال : كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى الأشعري فقال له أبو موسى : لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً … وفيه : فقال أبو موسى : ألم تسمع قول عمار لعمر : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد ماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إنما يكفيك أن تصنع هكذا ) فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله ، أو ظهر شماله بكفه ، ثم مسح بهما وجهه .. " . وأخرجه أيضاً في أبواب أخرى من كتاب التيمم مختصراً بألفاظ مختلفة ، وأخرجه مسلم ( 368 ) .(34/152)
فإذا : ثبت أنه لا يجب في الغسل الترتيب فكذلك لا يجب في التيمم الذي هو فرعه .
وأما الموالاة : فالظاهر وجوبها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وُصف لنا غسله فإنه كان فيه الموالاة ، وهذا بيان مجمل في القرآن .
فيجب الموالاة في الغسل وهو الحكم الأصلي ، وكذلك يجب في التيمم عن الحدث الأكبر القائم مقام الغسل .
أما وجوب الترتيب والموالاة في الحدث الأصغر ؛ فقالوا : لأن الترتيب والموالاة واجبان في الوضوء وهو أصل التيمم هنا فوجب كذلك في فرعه وهو التيمم .
والتفريق بين التيممين محل نظر ، فالظاهر أن التيمم عن الغسل وعن الوضوء أن حكمهما واحد لأن صفته واحدة وهي طهارة كاملة تنوب عن الاثنين ولها صفتها المنفردة عنهما .
فالأظهر أن ما يجب من الأحكام في التيمم من الحدث الأصغر(1) واجب كذلك في الحدث الأصغر ، فالأظهر أن حكمهما واحد .
ومع ذلك : فالراجح أن التيمم لا يجب فيه الترتيب كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية سواء كان التيمم عن الحدث الأكبر أو الحدث الأصغر فإنه لا يجب فيه الترتيب .
وأما الموالاة فإنها واجبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تيمم وفسر بفعله مجمل القرآن تيمم موالياً فكان الواجب أن يكون التيمم على هيئة الموالاة ، والموالاة تقدم الخلاف في ضابطها وهنا : لو تأخر عن مسح العضو الآخر فإن الغبار ليس فيه جفاف فإنه يقيد بالماء أي لو أن ذلك كان بماء فجف الماء بزمن معتدل ، أما إذا لم يجف فلا تبطل الموالاة .
وتقدم أن الراجح في ضابط الموالاة وهو ألا يكون بين غسل الأعضاء فاصل طويل عرفاً ، فالأمر في التيمم كذلك ، فإذا مسح وجهه بالتراب ثم مكث زمناً طويلاً عرفاً ثم مسح يديه فإن التيمم يبطل وأما إن كان يسيراً فإن التيمم لا يبطل .
__________
(1) كذا ولعل الصواب : الأكبر .(34/153)
وأما الترتيب فالراجح عدم وجوبه وهو اختيار شيخ الإسلام ذلك ، لأن الله قال :{ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ابدؤا بما بدأ الله به ) (1) معنى ذلك أن التيمم يمسح الوجه أولاً ثم يمسح اليدين .
وثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح يديه أولاً ثم مسح وجهه مما يدل على أن هذا الترتيب ليس بواجب ، وذلك فيما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ضرب بكفيه الأرض ومسح شماله بيمينه ويمينه بشماله ثم مسح وجهه ) (2) و(ثم) تفيد الترتيب .
فعلى ذلك الترتيب ليس بواجب وهذا مذهب شيخ الإسلام وهو الحق وهو مذهب المالكية والأحناف .
فعلى ذلك : التيمم تجب فيه الموالاة سواء كان من حدث أكبر أو أصغر ، وأما الترتيب فلا يجب على الراجح .
قوله : ( وتشترط النية )
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )(3) وهذا مما اتفق عليه أهل العلم .
( وتشترط النية لما تيمم له من حدث أو غيره )
المراد بقوله : ( أو غيره ) النجاسة .
وقد تقدم تقيده بالنجاسة البدنية .
فعلى ذلك ينوي استباحة الصلاة أو نحو ذلك من العبادات فينوي استباحتها بالتيمم عن الحدث الفلاني أو عن الأحداث الفلانية أو عن النجاسة البدنية على القول بها .
وما يذكره المؤلف هنا : بناءً على ما ذهب إليه الحنابلة من أن التيمم مبيح لا رافع .
وإذا قلنا بأن التيمم رافع وهو الراجح ، فإن المسائل التي تقدم في النية في باب الوضوء تثبت للتيمم ؛ لأنه بدل عنه ، فكل ما تقدم من المسائل في النية في الوضوء هي ثابتة للتيمم لأنه فرع عنه .
__________
(1) أخرجه النسائي باب القول بعد ركعتي الطواف رقم 2962 ، من كتاب المناسك .
(2) أخرجه البخاري في كتاب التيمم ، باب التيمم ضربة من كتاب التيمم ( 347 ) ، وأخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب التيمم ( 321 ) .
(3) متفق عليه ، وقد تقدم .(34/154)
أما إذا قلنا إنه مبيح فهنا : هذه المسائل عليه أولاً : ألا ينوي رفع الحدث ؛ لأنه متى نوى رفع الحدث فإنه لا يجزئ عنه لأنه ليس رافع بل هو مبيح .
وعلى الراجح إذا نوى رفع الحدث فإنه يجزئ عنه .
قوله : ( فإن نوى أحدهما لم يجزئه عن الآخر ) .
إذا تيمم عن الحدث الأصغر فهل يجزئ عنه عن الحدث الأكبر ؟
الجواب : لا يجزئ عنه ؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، فمتى نوى أن يرتفع حدثه الأصغر وكانت عليه جنابة نسيها فإن هذه الجنابة لا ترتفع بهذه النية ، كما تقدم فيمن توضأ وعليه جنابة فإنه لا يجزئ عنه عن الغسل .
والعكس كذلك – عند الحنابلة – فلو نوى أن هذا التيمم للحدث الأكبر ولم ينوه عن الحدث الأصغر فإنه لا يجزئ عنه ، وقد تقدم ترجيح أن من اغتسل ولم ينو رفع الحدث الأصغر فإنه يرتفع عنه على القول الراجح .
فإذن : لو أن رجلاً عليه جنابة فتيمم عنها فإنه يجزئ عن الحدث الأصغر من غير أن ينويه لقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } وقد تقدم أن الغسل طهارة وقد أمر الله المجنبين بالغسل للصلاة فمتى اغتسلوا حلت لهم الصلاة وإن لم يتوضؤوا وأن لم ينووا الوضوء فكذلك هنا .
أما إذا تيمم بنية رفع الحدثين الأصغر و الأكبر فإنه يجزئ قولاً واحداً .
إذن : إذا نوى رفع الحدث الأصغر دون الحدث الأكبر فإنه لا يجزئ عنه ، وأما إذا نوى رفع الحدث الأكبر " وهذه الألفاظ على القول الراجح " فإنه يجزئ عنه عن الحدث الأصغر على القول الراجح .
وعلى قولي العلماء : يجزئ عنه إذا نوى الحدثين بلا استباحة .
قوله : ( وإن نوى نفلاً أو أطلق لم يصل به فرضاً )
بمعنى : رجل تيمم للسنة القبلية للظهر أو لسنة الضحى أو نحو ذلك ، فتيممه لنفل لا لفرض .
أو أطلق : بأن قال : أتيمم لاستباحة الصلاة هكذا أطلق من غير أن يعين بقلبه أن تكون الصلاة فريضة ، والواجب عندهم التعين لأن التيمم مبيح فوجب التعين .(34/155)
( لم يصل فرضاً ) : رجل تيمم لسنة الضحى فتذكر صلاة فائتة من الفرائض فهل يجوز له أن يصلي هذه الصلاة بهذا التيمم ؟
الجواب : لا يجوز له ذلك .
ذلك لأن ما نواه نفل أو صلاة لم تعين ، فإذا كان كذلك فلا يجزئ عنه أن يصلي ما هو أعلى منها لأنها لا تتضمن ما هو أعلى منها .
والقاعدة عند المذهب في هذه المسألة وما يأتي بعدها : " أنه إذا نوى استباحة شيء مما تشترط الطهارة له سواء كان نفلاً أو فرضاً إذا نواه فإنه يفعله ويفعل ما يساويه وما هو دونه ولا يفعل ما هو أعلى منه " …
فإذا نوى استباحة صلاة تطوع فإنه لا يصلي به صلاة فرض وله أن يفعل ما هو تطوع كأن يمس المصحف أو ما هو دون ذلك كدخول المسجد ونحوه .
وعليه : إذا تيمم لصلاة فرض فإنه يصلي بها الفائتة ويصلي ما دونها كالنفل وله أن يمس المصحف ونحو ذلك وهذا كله على أن التيمم مبيح ، والراجح أنه رافع – كما تقدم – .
فعلى الراجح : متى نوى ما لا تصح العبادة إلا به فإنه يجزئ كما تقدم هذا في الوضوء .
فمثلاً : رجل نوى بتيممه مس المصحف، فالرجل لا يجوز له مس المصحف إلا بوضوء، فله أن يتطوع ما شاء ويصلي ما شاء من الفرائض ؛ ذلك لأن هذا وضوء شرعي مفترض لمن أراد أن يفعل هذه العبادة .
بخلاف الوضوء المستحب ، فلو أنه تيمم استحباباً كأن يكون أراد أن ينام فلم يجد ماء فتيمم فهذا التيمم مستحب للنوم وليس مفترضاً فعلى ذلك لا يجوز أن يصلي في هذا التيمم.
إذن على الراجح : جميع ما تقدم من المسائل في نية الوضوء هي ثابتة في نية التيمم لا فرق في ذلك ؛ لأن التيمم بدل عنه والبدل له حكم المبدل إلا أن يدل دليل على خروج شيء من مسائله ولا دليل على خروج شيء من ذلك .
قوله : ( وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونفلاً(1) )
( إن نواه ) : أي نوى الفرض ، فيفعل الفرض وما يساويه من الفرائض وما هو دونه .
__________
(1) كذا في الأصل ، وفي نسخة بين يدي : " ونوافل " .(34/156)
وهنا على المذهب : لو أن رجلاً تيمم لتطوع فهل يجزئه أن يطوف به في البيت ؟
الجواب : يجزئ عنه على المذهب .
قالوا : لأن الطواف بالبيت شرط الطهارة فيه مختلف فيه ، فلما اختلف فيها أصبح كقوة ذلك في التطوع .
مسألة :
الإمام أحمد استحب حمل التراب في الأراضي التي لا يكون فيها تراب .
واختار شيخ الإسلام خلاف ذلك وأن هذا مكروه ، وهذا هو الراجح ، واستظهره صاحب الفروع وصوبه في
الإنصاف ؛ إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا عن أحد من السلف فعل ذلك وهذا هو الراجح .
فإذا كانت أرض ليس فيها تراب ، كأن يكون في أرض فيها فرش أو غير ذلك مما تتبلط به الأرض فأدركته الصلاة وليس معه ماء ولا يمكنه أن يخرج من هذا الموضع ليتيمم في غيره ، كأن يكون مريضاً لا يمكنه الخروج ولا يمكنه إحضار التراب وليس هناك من يحضره له فإنه يصلي على حسب حاله لقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }.
وعند الحنابلة لو كان في أرض رملية أو سبخة فإنه يصلي بلا وضوء ولا تيمم ؛ لأن هذه هي قدرته ولا يجزئ إلا التراب وتقدم ذكر الراجح .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثامن والثلاثون
( يوم الثلاثاء : 2 / 12 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ويبطل التيمم بخروج الوقت )
هذا شروع من المؤلف بمبطلات التيمم أي نواقضه .
( ويبطل التيمم بخروج الوقت ) : للتعليل المتقدم وهو أن التيمم مبيح لا رافع ، وما دام مبيحاً فإن الطهارة طهارة ضرورة ، وطهارة الضرورة تنتهي بخروج الوقت كطهارة من به حدث متجدد كاستحاضة ونحوها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( توضئي لكل صلاة )(1) .
لكن الراجح أن التيمم لا يبطل بخروج الوقت ؛ لأن التيمم رافع لا مبيح كما هو الصحيح من قولي العلماء ، فهو رافع وما دام رافعاً فإن له حكم الوضوء أو حكم الغسل فلا يبطل بمبطلات الوضوء أو الغسل أو بوجود الماء .
__________
(1) أخرجه البخاري كما في البلوغ . وقد تقدم صْ 32 .(34/157)
إذن : لا يبطل التيمم على الراجح بخروج الوقت وهذا مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد .
قال : ( وبوجود الماء )
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا وجد الماء فليمسه بشرته )(1) وهذا بإجماع العلماء ، وأن التيمم في الجملة ينتقض بوجود الماء .
ومثل ذلك : ذهاب العذر المبيح للتيمم ، فإذا تيمم لمرض فبرأ فيجب عليه أن يمس الماء بشرته كما لو كان عادماً للماء .
إذن : يبطل التيمم بوجود الماء أو بزوال العذر المبيح للتيمم ، كأن يتيمم عن الجنابة في ليلة باردة فيجب عليه أن يغتسل إذا ذهب العذر .
…
قال : ( وبمبطلات الوضوء )
وكذا الغسل ، فمبطلات الوضوء أو الغسل تبطل التيمم ؛ ذلك لأن التيمم بدل عنهما والبدل له حكم المبدل ، فهذه نواقض تبطل المبدل فكذلك تبطل بدله .
قال : ( أو بوجود الماء ولو في الصلاة )
لذا تقدم في التقرير السابق أن هذا – أي بطلان التيمم بوجود الماء – أن هذا في الجملة .
وهذا له صور :
الصورة الأولى : أن يوجد الماء قبل الصلاة .
مثال : رجل أذن الظهر وهو عادم للماء فتيمم ولم يصل بعد ثم وجد الماء قبل الصلاة ، فتيممه ينتقض وعليه أن يتوضأ لهذه الصلاة .
الصورة الثانية : أن يوجد الماء بعد الصلاة ، فلا يخلو من حالتين :
- الحالة الأولى : أن يكون هذا بعد خروج الوقت .
مثال : رجل تيمم لصلاة الظهر وصلاها ثم وجد الماء بعد خروج الوقت .
- الحالة الثانية : أن يوجد قبل خروج الوقت .
ففي هاتين الصورتين الصلاة صحيحة باتفاق العلماء ، وأما التيمم فهو باطل ، ويجب عليه أن يمس الماء بشرته بغسل أو وضوء ولكن الصلاة صحيحة باتفاق العلماء .
الصورة الثالثة : أن يوجد الماء أثناء الصلاة .
قال المؤلف : ( ولو في الصلاة ) ولفظة ( ولو ) إشارة إلى خلاف :
__________
(1) أخرجه الترمذي ، وقد تقدم صْ 97 .(34/158)
1- فمذهب الحنابلة : أن الصلاة تبطل ويجب عليه أن يتوضأ ؛ قالوا : لأنه بمجرد حضور الماء يبطل التيمم وهو في الصلاة فحينئذ إذا بطل التيمم تبطل الصلاة أيضاً – فحينئذ – يجب عليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة .
إذن : دليلهم ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) وهذا في الصلاة وفي غيرها .
وقالوا : من التناقض أن يجعله مبطلاً في خارج الصلاة وليس مبطلاً فيها .
2- وذهب المالكية والشافعية : إلى أن التيمم لا ينتقض إذا وجد الماء في الصلاة .
واستدلوا : بدليل وتعليل :
أما الدليل : فهو قوله تعالى :{ ولا تبطلوا أعمالكم }(1) قالوا : وفي ذلك إبطال للعمل .
ولكن هذا الاستدلال بها ضعيف ؛ ذلك لأن المبطل هو الله أي الشارع ، فالتيمم عند وجود الماء يبطل ، والذي أبطله ليس المكلف بل هو الله عز وجل .
وأما الآية :{ ولا تبطلوا أعمالكم } أي بسوء تصرف منكم إما برياء أو بمنٍّ في الصدقات أو نحو ذلك مما يبطل العمل ويحبطه ، وهذا من فعل المكلف فإن النهي هنا موجه للمكلف .
أما كون الصلاة تبطل بوجدان الماء فإن هذا ليس من حكم المكلف ولا من تصرفه بل هو حكم الله .
وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بهذه الآية .
وأما التعليل : فإنهم قالوا : إن من لم يجد رقبة في كفارة القتل فإنه يفعل بدلها وهو صيام شهرين متتابعين ، فإذا شرع في هذا الصيام ثم أمكنه أن يعتق الرقبة فإنه لا يجب عليه أن يعتقها بل يستمر في صيامه ، قالوا : فكذلك هنا .
وهذا التعليل ضعيف ؛ ذلك لأن التيمم هو بدل الوضوء أو الغسل وليست الصلاة ، ونحن و إياكم متفقون على أنه لو وجد الماء وهو يتيمم أو بعد أن تيمم وقبل أن يصلي فإن تيممه بطل وهنا قد شرع بالبدل بل قد انتهى منه .
__________
(1) سورة محمد 33 .(34/159)
ثم إن الشارع لم يأمر من شرع بالصيام بعتق الرقبة مع تجدد الغنى وإمكان العتق لما في ذلك من المشقة وقد شرع في الصيام وفي ذلك مشقة فلم يوجب عليه الشارع أن يعود إلى الرقبة فيعتقها وقد شرع في صوم شاق عليه .
إذن : الراجح : مذهب الحنابلة من إنه إذا وجدا الماء في الصلاة فإن التيمم يبطل بذلك وعليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة .
إذن : تبقي عندنا قاعدة واضحة وهي : " أنه متى ما وجد الماء بطل التيمم ".
فإذا كان لم يصل بعد فيجب أن يعد تيممه فيصلي .
وأما إذا كان قد صلى فإن صلاته صحيحة فإنه أداها على ما أمره الله عز وجل به ، وسواء كان ذلك في الوقت أو بعده ، وكذلك إذا وجده في الصلاة .
فعلى ذلك تكون القاعدة منضبطة وأنه متى وجد الماء فإن التيمم يبطل .
ومعلوم أن بطلان التيمم بعد العبادة كبطلان الوضوء بعد فعلها ، فتبقى العبادة صحيحة ويكون الوضوء منتقضاً .
قال : ( والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى )
التيمم آخر الوقت أولى إذا كان يرجو وجود الماء .
بمعنى : رجل أدركته صلاة الظهر ولم يجد ماءً يتوضأ به ، ويقول : أنا أرجو أن أجد الماء بعد حين من الزمن قبل خروج الوقت ، فنقول له : الأولى لك أن تؤخر صلاتك إلى أن يحضر الماء فتوضأ به أو تغتسل .
وأولى من ذلك إذا كان يتيقن وجود الماء
مثال ذلك : رجل أذن الظهر وهو دون المدينة بمسافة قصيرة يعلم أنه يصل إلى المدينة ويتوضأ بها قبل خروج الوقت فحينئذ الأولى له أن ينتظر فيدخل المدينة ويتوضأ .
وكذلك – صورة ثالثة – : وهو ما إذا كان قد استوى عنده الأمران ، يقول : يحتمل أن يوجد الماء ويحتمل ألا يوجد ، وهذه أضعف من رجاء وجود الماء .
إذن : عندنا ثلاث صور :
الصورة الأولى - وهي أضعفها – : أن يقول أنا لا أدري هل أجد الماء أم لا أجده ، ولكن يحتمل أن يوجد الماء قبل خروج الوقت كما أنه يحتمل ألا يوجد ففي ذلك شيء من الرجاء .
أعلى من ذلك : أن يكون كفة وجود الماء هي الراجحة .(34/160)
وأعلى من ذلك أن تكون هي المتيقنة .
فهذه الصور ، قالوا : المستحب له أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت .
قالوا : لأن الصلاة بالطهارة الأصلية فريضة ، والصلاة في أول الوقت فضيلة ، فيترجح الشق الأول وهو كونه يصلي في آخر الوقت بفريضة الطهارة الأصلية .
وحقيقة هذا التعليل مقتضاه وجوب ذلك ؛ لأن ترجيح الفريضة على الفضيلة واجب ومفترض .
لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه : أنه متى كان يرجو الماء فيجب عليه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت .
وذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام : إلى أنه يصلي عند دخول الوقت استحباباً مطلقاً إلا إذا تيقن وجود الماء ، فإذا تيقن وجود الماء ، فإنه ينتظر آخر الوقت .
فإذا كان يرجو وجود الماء فحسب أو استوى عنده الأمران أو يغلب على ظنه عدم وجود الماء أو يئس من وجود الماء فإنه في هذه الصورة الخمس كلها يصلي في أول الوقت .
إلا الصورة السادسة وهي ما إذا تيقن وجود الماء كمن أدركته الفريضة وهو قريب من المدينة وتيقن أنه سيصل قبل أن يخرج الوقت .
وهذه صورة التيقن ؛ لأن اليقين في الحقيقة ممتنع ؛ لأنه قد يحدث له ما قد يقدره الله عز وجل من الأمور التي تعوقه ولكن المقصود من ذلك مع بقاء الأمور على السلامة ، وأما احتمال أن يحدث شيء فهذا أمر موجود .
لا شك أن مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام أصح من مذهب الحنابلة .
ولكن الأظهر أنه يصلي مطلقاً في أول الوقت ، وهذا مذهب ابن عمر فقد ثبت عنه عند ابن المنذر : " أنه تيمم قبل المدينة بميل أو ميلين ثم دخل والشمس مرتفعة فلم يعد " (1) .
" والشمس مرتفعة " : أي في وقت العصر والشمس مازالت مرتفعة ، وهذا في أوائل وقت صلاة العصر ، ومعلوم أن من بعد ميل أو ميلين عن المدينة فإنه يتيقن أنه سيصل إلى المدينة قبل خروج الوقت ، ومع ذلك فإن ابن عمر قد صلى الصلاة في أول وقتها .(34/161)
وهو الذي يفيده قوله صلى الله عليه وسلم : ( فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ) وفي رواية : ( فعنده مسجده وطهوره ) (1) ، وهذا حديث عام فيمن أدركته الصلاة وهو عادم للماء غير واجد له ، سواء كان يرجو الماء أو يتيقن وجوده قبل خروج الوقت مادام أن الماء ليس حاضراً عنده .
ومع ذلك فإن الاحتياط له أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها إذا كان قد تيقن وجود الماء .
إذن : الراجح إذا حضرت الصلاة وليس ثمت ماء موجود وليس الماء قريباً – فإنه – وقد حكمنا له بأنه غير واجد للماء وأذنا له بالتيمم فإن التيمم بدل الوضوء ، فإنه – حينئذ – يكون قد صلى بالفريضة ، فإن الطهارة بالتراب تنوب تماماً عن الطهارة بالماء ، فما دام قد أذن له بالتيمم فلا مانع حينئذ أنه يقال باستحباب تعجيل الصلاة والحديث المتقدم ظاهر في العموم .
قال : ( أن ينوي ثم يسمي ويضرب التراب بيديه مفرجتي الأصابع ويمسح وجهه بباطنهما وكفيه براحتيه ويخلل أصابعه )
قوله : ( أن ينوي ) تقدم الكلام في النية .
قوله : ( ثم يسمي ) وقد ذكرنا أن الحنابلة يوجبون ذلك ، فإن التيمم يقاس على الوضوء فمتى قلنا بوجوب التسمية في الوضوء فكذلك في التيمم .
( ويضرب بيديه ) أي ضربة واحدة – هذا هو المستحب – وقد تقدم حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( إنما يكفيك أن تفعل بيديك هكذا ) وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال باليمين وظاهر كفيه ووجهه "(2) .
وفي قوله : ( مفرجتي الأصابع ) نظر ؛ فإن الأحاديث لم تدل على ذلك ، وإنما فيها مجرد ضرب التراب بيديه ، وليس في شيء من الروايات أن اليدين مفرجتا الأصابع ، فإن هذا فعل يحتاج إلى دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ومثله بل أضعف قوله : ( يمسح وجهه بباطنهما وكفيه براحتيه ) .
قوله : ( بباطنهما ) أي باطن الأصابع .
و( راحتيه ) أي راحتي كفيه .
__________
(1) تقدم .
(2) متفق عليه وقد تقدم .(34/162)
وهذا عندهم بناءً على أن الماء المستعمل لا يرفع الحدث ، فكذلك التيمم قياساً .
وقد تقدم تضعيف هذا في الماء فأولى أن يضعف في التراب فإنه فرع عنه .
فهم إذن قالوا : يمسح وجهه بباطن الأصابع ، والكفين بالراحة ؛ ليكون لكل عضو تراب طهور لم يستعمل .
ولكن هذا ضعيف بل هو بدعة – كما قال شيخ الإسلام – ولا أصل له في الشريعة .
وقال شيخ الإسلام أيضاً : " ولا أصل له في كلام أحمد رحمه الله وظواهر الأحاديث تدل على خلافه " .
فإن ظواهر الأحاديث تدل على أنه يمس بيديه هكذا عامة بباطن الأصابع وراحتيه ، ويمسح كفيه كذلك .
وقد تقدم حديث عمار وفيه : ( أنه يمسح شماله بيمينه وظاهر كفيه ووجهه ) (1) وظاهر هذه الأحاديث أنه مسح ذلك بباطن اليدين من غير تجزئة ، فإنها بدعة لا أصل لها في الدين ، ولا أصل لها في كلام الأئمة كأحمد رحمه الله تعالى .
قال : ( ويخلل أصابعه )
وهذه كذلك قياساً على الوضوء ، ولكن هذا القياس يصادم ظواهر الأدلة الشرعية فإن ظواهر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها أنه كان يخلل أصابعه .
فإذن : ليس هذا بمشروع لعدم دلالة الأدلة الشرعية عليه .
ونختم هذا الباب بمسألتين :
المسألة الأولى :
فيما إذا كانت الصلاة مما يخاف فوتها كصلاة الجمعة فإنها إذا فاتت فإنها تصلى ظهراً ومثل ذلك صلاة العيد وصلاة الجنازة وسجود التلاوة ، فإن هذه الصلوات وهذا السجود متى لم يفعلها في الوقت فإنها تفوت بأن يخرج عن هيئتها وصفتها وتكون لها هيئة مختلفة عن الهيئة السابقة .
فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب أبي حنيفة : إلى أن [ من ] لم يجد الماء بحيث يمكنه أن يصليها على صفتها الأولى فإن له أن يتيمم ، وإن كان الماء حاضراً ، لكنه يعلم أنه متى توضأ فإن هذه الصلاة تفوت عليه .
__________
(1) متفق عليه ، وقد تقدم .(34/163)
كأن يذكر حدثاً في صلاة الجمعة ويعلم أنه متى توضأ أو اغتسل فإن صلاة الجمعة تفوت عليه أو صلاة الجنازة مع الإمام أو نحو ذلك فإن له أن يصليها بالتيمم .
والمشهور في مذهب الحنابلة : أنه لا يجوز ذلك ؛ لأن هذه الصلوات تشترط فيها الطهارة المائية .
والراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ، لأن حضور هذه الصلوات بالتيمم أولى من فوتها ولا يمكنه حضورها على وجهها إلا بالتيمم ، فلما كان ذلك جاز له [ هذا ] الحكم .
فإن الشارع لما شرع لنا التيمم كان من الممكن لنا أصلاً أن نؤمر بقضاء هذه الصلاة التي لم نجد فيها الماء ، فنقضيها إذا حضر الماء ، ومع ذلك فإن الشارع أمرنا بالتيمم لمصلحة حضور الصلاة في وقتها وخشية فواتها .
المسألة الثانية :
فيما إذا خاف فوات الفريضة ، كأن يقول : متى اغتسلت أو توضأت فإن الفريضة تفوتني .
وهذه له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون مستيقظاً من أول وقت الصلاة ، ويقول : الماء قريب وأنا متى طلبت الماء وأحضرته فتوضأت أو اغتسلت فإن الوقت يخرج أو يكون الماء في بئر ويعلم أنه متى عالج الماء بإحضاره من البئر ونحو ذلك مما يحتاج إليه في إخراجه ، فإن الصلاة تفوت عليه .
وهنا ذكر شيخ الإسلام على أن جمهور أهل العلم : على أن التيمم يجوز له في هذه الحالة ، وأن المشروع في حقه هو التيمم ، فله أن يصلي بالتيمم .
وذكر الموفق رحمه الله : أنه لا يصلي بالتيمم ، وإنما ينتظر الماء حتى يأتي به من البئر أو حتى يأتي به من المكان الذي بقربه ولو خرج الوقت فيصلي به .
لأن الله إنما أجاز التيمم مع عدم الماء ، فإن الله قال : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهذا واجد للماء .(34/164)
والراجح : ما ذكره شيخ الإسلام عن الجمهور واختاره رحمه الله ؛ ذلك – لما تقدم – وأن التيمم إنما شرع لإدراك الصلاة في وقتها ، وهذا متى ذهب إلى الماء ليتوضأ به أو يغتسل أو متى عالجه بتسخين أو إحضار من بئر فإن الوقت يخرج ، ومصلحة الصلاة في وقتها بالتيمم أولى من فوات وقتها بالوضوء .
فالراجح : مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام من أنه إذا كان مستيقظاً في الوقت وعلم أنه متى يطلب الماء أو اشتغل بتسخينه أو إحضاره أو نحو ذلك فإن الصلاة تفوته ، فإنه يجوز له أن يتيمم ويصلي بل المشروع له أن يتيمم ويصلي في الوقت .
الصورة الثانية : أن يكون نائماً فيستيقظ في آخر الوقت : كأن يستيقظ قبل أن يخرج وقت صلاة الفجر مثلاً بدقائق يسيرة ، ويعلم أنه متى استعمل الماء في الوضوء أو الاغتسال من الجنابة فإن الوقت يخرج .
ففي هذه المسألة : ذهب الجمهور : إلى أنه لا يتيمم بل يصلي بعد الوقت .
فإن هذه الصورة مفارقة للأولى فإنه لم يستيقظ إلا قبل خروج الوقت بوقت يسير وعلم أنه متى توضأ أو اغتسل فإن الوقت يخرج .
وعلة هذا – أي إنه يجب الوضوء ولا يجوز التيمم – وهذا مذهب الجمهور – : أن من استيقظ من النوم فإن وقت الصلاة له عند استيقاظه ، فإنه إنما يخاطب بالصلاة عند استيقاظه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) (1) فالنائم إنما يكون وقت الصلاة له من استيقاظه .
- وذهب المالكية في المشهور عندهم : إلى أنه كالمسألة السابقة وأنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا ينتظر حتى يجد الماء .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1 / 157 ) ومسلم ( 2 / 142 ) ، وأبو داود ( 442 ) ، وكذا أبو عوانة ( 2 / 260 ، 261 ) والنسائي ( 1 /100 ) والترمذي ( 1 / 335 ) وغيرهم ، الإرواء [ 1 / 291 ] رقم 263 .(34/165)
وعللوا قولهم هذا : بأنه إذا صلى في الوقت فإنه يكون في ذلك مصلحة الصلاة في وقتها قبل خروج الوقت ، وهذا مرجح على أن يصلي بعد خروج الوقت بالطهارة المائية .
إذن قالوا : كونه يصلي بالتيمم في الوقت ، أولى من كونه يصلي بعد خروج الوقت بالوضوء أو بالغسل .
وهذا القول - فيما يظهر لي – راجح قوي .
ذلك : لأن الشارع – كما تقدم – إنما أباح التيمم لمصلحة الصلاة في وقتها وإلا لكانت الصلاة إنما تشرع قضاءً ، فلو كان المرجح أن تصلى الصلاة بالوضوء أو الغسل لكان ذلك سبباً في عدم شرعية التيمم .
فلو كان المحبوب عند الشارع أن يصلي الصلاة خارج وقتها بالوضوء لأَمَر من لم يجد الماء أن ينتظر حتى يجد الماء فيصلي الصلاة المكتوبة خارج وقتها بالطهارة المائية .
فلما لم يكن ذلك علمنا أن مراد الشارع ومطلوبه هو أن يصلي الصلاة بالوقت بالتيمم .
فعلى ذلك : الراجح أنه يصلي بالتيمم في الوقت .
وكون الصلاة – إنما يكون وقتها في حقه - من استيقاظه ، هذا لكونه معذوراً ، وهكذا من كان الماء قريباً إليه كأن يكون في البئر أو بارداً ويعلم أنه إذا سخنه فإنه يخرج الوقت ، فإنه لا فارق في الحقيقة بينه وبين النائم لأن كليهما معذور .
فهذا معذور لعدم استيقاظه ، وهذا معذور لأن الماء يحتاج إلى معالجة ، فلا فرق بين الاثنين .
فلو كان من حكم في المسألة الثانية فيما ذكره الجمهور لكان في المسألة الأولى ولقلنا : أنت معذور في معالجتك الماء وتسخينه وتصلي بالوضوء ولو كان ذلك خارج الوقت ، وهذا هو أول وقتك لكونك معذور .
فالراجح : في هاتين المسألتين كليهما : أنه متى خشي فوات الوقت سواء كان مستيقظاً في أول الوقت أو في آخره أنه متى علم أنه إذا استعمل الوضوء في(1) الغسل وكان الماء يحتاج إلى معالجة أو تسخين ، وعلم أنه لا يمكنه فعل ذلك إلا وقد خرج الوقت فإنه يتيمم ويصلي الصلاة في وقتها .
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : أو .(34/166)
الدرس التاسع والثلاثون
( يوم الأحد : 25 / 12 / 1414 هـ )
بابُ : إزالةُ النجاسةِ
" إزالة " : الإزالة هي التنحية ، أزال الشيء أي نحَّاه وأقصاه .
" النجاسة " : هي الشيء المستقذر شرعاً .
فهذا الباب بوبه المؤلف لبيان الطريقة الشرعية في إزالة النجاسات .
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( يجزئ في غسل النجاسات كلها …….. )
هذه المسألة في القدر المجزئ في غسل النجاسات كلها سواء كانت هذه النجاسة نجاسة آدمي أو كلب أو خنزيراً ونحو ذلك فما حكمها ؟
قال : ( غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة ) أي وأثرها فيذهب رائحتها ولونها .
فهذه المسألة في حكم النجاسات الواقعة على الأرض .
حكمها : أنها تغسل غسلة واحدة أياً كانت هذه النجاسة فما دامت النجاسة على الأرض فطريقة إزالتها أن تغسل غسلة واحدة ، بأن يغسل الموضع الذي وقعت فيه النجاسة تغسل غسلة واحدة تذهب بالنجاسة .
وعليه إن لم تذهب النجاسة فيجب عليه تكرار الغسل مرة أخرى حتى تزول النجاسة ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
فإن قيل : ما الدليل على أن الكلاب – التي سيأتي حكمها في غسل الإناء عند ولوغها سبعاً إحداهما بالتراب – ما الدليل على إدخالها في هذا الحكم ؟(34/167)
فالجواب : الدليل ما ثبت في أحمد والبخاري وأبي داود وهذا لفظه عن ابن عمر قال : ( كنت أنام في المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر فلم يكونوا يرشون من ذلك شيئاً )(1)
فهنا اكتفى بزوال النجاسة بالشمس أو نحوها – ولم يكونوا يرشون على هذه النجاسة شيئاً ؛ لأن مثلها يزيله الشمس .
وسيأتي أن الراجح أن النجاسة متى زالت فإن حكمها يزول .
فما دامت النجاسة واقعة على الأرض فإنه يزول حكمها بزوالها – يدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : ( أتى أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه )(2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في طهور الأرض إذا يبست ( 382 ) قال : " حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، حدثني حمزة بن عبدا لله بن عمر ، قال : قال ابن عمر : كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً عزباً ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك " قال الخطابي : " يتأول على أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها وتقبل وتدبر في المسجد عابرة … " سنن أبي داود مع المعالم : [ 1 / 265 ] . وأخرجه البخاري في الطهارة في كتاب الوضوء ، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان .. وممر الكلاب في المسجد ( 174 ) [ باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ] . سنن أبي داود [ 1 / 265 ] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب يهريق الماء على البول ( 221 ) وباب صب الماء على البول في المسجد ( 220 ) ، وباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد ( 219 ) . وأخرجه مسلم 285 ) ( 284 ) .(34/168)
وليس في ذلك ذكر للعدد ، بل ظاهره أن الماء وضع على موضع النجاسة مكاثرة ومغامرة ، فمتى ذهبت فقد ذهب حكمها .
فنصب الماء على الأرض التي وقعت عليها النجاسة حتى يغمر الماء النجاسة ، فإذا ذهبت فقد ذهب حكمها .
أما إذا كان لا يمكن زوالها بمثل ذلك ولو كثر الماء بحيث أنه لا يمكن أن تزول إلا بأن يزال التراب فإنه يفعل به ذلك ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
إذن : يصب الماء على موضع النجاسة ولا يشترط تكرار غسل ولا إزالة موضع إلا إذا كان لا يمكن إزالة النجاسة إلا بمثل ذلك .
قال : ( وعلى غيرها سبع )
قوله : " وعلى غيرها " غير الأرض كثوب أو حائط أو نحو ذلك .
اعلم أن جمهور أهل العلم أن الكلب والخنزير نجسان ، أما الكلب فدليله قوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم وأصله في الصحيحين قال : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً أولاهن بالتراب )(1) والشاهد قوله : ( طهور ) وهذا دليل على ثبوت النجاسة في المحل ، فدل هذا الحديث على أن ولوغه نجاسة في المحل وهذا هو طهورها .
قالوا : ويقاس على ذلك الخنزير ؛ لأنه أخبث منه وأشد تحريماً وأشد استقذاراً فيقاس عليه .
وقد حكى ابن المنذر إجماع أهل العلم على نجاسة الكلب والخنزير .
إلا أن هذا الإجماع منتقض بمخالفة الإمام مالك فإنه خالف في ذلك ورأى أن الخنزير ليس بنجس والكلب ليس بنجس .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب حكم ولوغ الكلب ( 279 ) من حديث أبي هريرة بلفظ : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ) ، وبلفظ : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرارٍ ) ، وبلفظ ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات ) . وأخرجه البخاري 172 ، في كتاب الوضوء ، باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً بلفظ : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ) .(34/169)
واستدلوا على ذلك : بقوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم }(1) قال : فلو كان ذلك نجساً لأمر الشارع بغسله .
* واعلم أن أهل العلم في غسل أثر الكلب المعلم في الصيد على قولين :
أظهرهما كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك أنه لا يجب ذلك ؛ لأن الشارع لم يأمر به وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز فإذا ثبت هذا فإن هذا يدل على أن ريقه ليس بنجس ، فدل على أن الكلب ليس بنجس .
ولكن هذا الاستدلال فيه نظر ، فإن الشارع من قواعده رفع الحرج فيما تلحق الأمة به المشقة ، ومن المشقة أن يؤمر صاحب الصيد بغسل ما أصابه الكلب ، فلما كان الأمر كذلك لم يأمر الشارع بغسله وكان من النجاسات المعفو عنها ، كما أن الدم الذي يكون بين اللحم معفو عنه ، بخلاف الدم المسفوح فإن الشارع قد نهى أن يطعم – كل ذلك – لرفع الحرج عن الأمة .
وما دام أن الإمام مالك استدل بهذا الدليل على الكلب فكذلك عنده الخنزير .
والأظهر ما ذهب إليه الجمهور من نجاسة الكلب وقياس الخنزير عليه ، والعلم عند الله تعالى
…
قال : ( سبع أحدها بالتراب في نجاسة كلب وخنزير )
الحديث إنما فيه ذكر الولوغ وهو أن يدخل الكلب لسانه بالإناء ويحركه ، فيدخل من ريقه في هذا الإناء ، فأمر الشارع بغسله تطهيراً له ، وهذا فيه إثبات نجاسة ريقه – ومثله غيره من بول وروث وغير ذلك فإنها في الحكم سواء – فما دام ريقه نجس فبوله وروثه من باب أولى .
لذا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن نجاسة الكلب وهي ما تخرج منه وما يتولد منه كل ذلك نجس من ريق أو بول أو نحو ذلك .
وذهب شيخ الإسلام : إلى أن الرطوبة ( العرق ) التي تكون على شعر الكلب أنها معفو عنها ، وأن شعر الكلب طاهر .
وقد تقدم ترجيح هذا المذهب في الحكم على شعر الميتة وحكم الكلب كذلك هنا .
__________
(1) سورة المائدة .(34/170)
ثم إن القول بالتنجيس بالرطوبة التي تكون على الكلب محل حرج ومشقة ، فإن الشارع قد أباح من الكلاب ما أباح فعندما تتنجس الأيدي أو الثياب بالرطوبة فهذا فيه مشقة .
بخلاف ما يكون من الريق - والرطوبة المراد بها العرق - ونحوه الذي يكون في الأواني فإن هذا لا يلحق به المشقة ، ويمكن أن يكون له إناء خاص به .
وأما ما يكون رطباً على شعره فقد يصيب اليد وقد يصيب الثوب ففيه مشقة فكان الأولى ألا يقال بالتنجيس به ، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله .
وهذا كما أن الشارع قد أباح لنا الصيد الذي يقع في فمه رفعاً للحرج لاحتياج الناس إلى ذلك فكانت الرطوبة الواقعة على شعره كذلك .
إذن : الراجح أن شعره طاهر كما تقدم في باب الآنية وكذلك الرطوبة التي تكون على شعره لا يثبت التنجيس بها ؛ لكون ذلك فيه حرج ومشقة فيكون – حينئذ – من النجاسة المعفو عنها
قوله : ( إحداها بالتراب ) :
ولا يشترط أن تكون الأولى ولا الثانية ولا السابعة ، فالمشروط أن تكون إحدى هذه الغسلات بالتراب ، يدل على ذلك حديث مسلم المتقدم وفيه : ( أولاهن بالتراب ) ولكن في الترمذي : ( أولاهن أو أخراهن )(1) فدل ذلك على أن الموضع من الغسل ليس مشترط إنما المشترط أن يغسل الموضع بالتراب ولا يشترط أن يكون ذلك في الأولى ولا في السابعة ، وأن كان الأولى أن تكون الأولى ؛ ليزيل الماء الوارد بعد ذلك على التراب - ليزيل - التراب وما يحمله من النجاسة .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في الوضوء بالنبيذ ( 91 ) قال : " حدثنا سوَّار بن عبد الله العنبري ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال سمعت أيوب يحدث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات ، أولاهن أو أخراهن بالتراب ، وإذا ولغتْ فيه الهرة غُسل مرة ) . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق " .(34/171)
قوله : ( في نجاسة كلب وخنزير )
…أما الكلب فقد تقدم الحديث الدال عليه ، وأما الخنزير فقالوا : هذا من باب القياس ، لكن هذا القياس ضعيف ؛ ذلك لأن العلة من أمر الشارع بهذا الحكم في نجاسة الكلاب تعبدي لا تظهر لنا علته ، والقياس واقع إذا كانت علة الأصل معقولة كما هو مقرر في علم الأصول ، فلابد أن يكون الأصل معقول المعنى ، وهذا الأصل ليس بمعقول المعنى – هذا إذا قررنا ما يقرره الفقهاء المتقدمون وأن العلة تعبدية .
وأما إذا قررنا ما يقرره المتأخرين وأن العلة في ذلك وجود دودة شريطية في الكلب لا يزيلها إلا التراب فإن هذا الحكم لا يمكن أن يثبت في الخنزير إلا إذا ثبت وجود هذه الدودة الشريطية ، فما دام أنه لم يذكر ثبوته فحينئذ لا يمكن القياس .
فالراجح : ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الخنزير لا يلحق بالكلب في هذا الحكم وإنما نجاسته كنجاسة غيره من النجاسات .
…
قوله : ( ويجزئ عن التراب أشنان ونحوه )
كصابون ونحوه .
قالوا : لأن هذه في معنى التراب ، فعلى ذلك تقاس على التراب فتعطى حكمه ، فيقاس النظير على نظيره .
لكن في هذا القياس نظر أيضاً ؛ ذلك لأن الشارع قد خصص التراب والعلة تعبدية ، فما دامت العلة تعبدية فالقياس غير صحيح .
وإذا قلنا ما ذكره المتأخرون مما نقلوه من الاكتشافات العلمية من وجود مادة في التراب تزيل هذه الدودة الشريطية لا يزيلها سواه ، فإن إلحاق غير التراب به واضح البطلان وأن الحكم مخصوص به .
إذن : الراجح أنه لا يجزئ سوى التراب وهذا أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد .
…إذن : في هذه المسألة في المذهب وجهان :
الوجه الأول : – وهو المشهور – أنه يجزئ ما سوى التراب من المنظفات .
الوجه الثاني : أنه لا يجزئ إلا التراب ، وهذا هو الراجح ؛ لأن القياس يشترط أن يكون فيه معقول المعنى ، فإن لم يكن معقول المعنى فإن القياس يكون باطلاً .
قال :( وفي نجاسة غيرهما سبع بلا تراب )(34/172)
أي نجاسة غيرهما : أي غير الكلب والخنزير .
والراجح : - في غير الكلب – فالخنزير له هذا الحكم .
(سبع بلا تراب ) : قالوا : لما روى ابن عمر قال : ( أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغسل الأنجاس سبعاً )(1) وقد ذكر الموفق في المغني ولم يعزه . وقد ذكر الشيخ الألباني أنه لم يجده بهذا اللفظ ، وهو كما قال ، فإن هذا الحديث في الحقيقة لا أصل له .
__________
(1) راجع الإرواء [ 1 / 186 ] برقم ( 163 ) حيث قال رحمه الله تعالى : " لم أجده بهذا اللفظ " .(34/173)
لكن روى أبو داود بإسناد ضعيف – وسبب ضعفه أيوب بن جابر وهو ضعيف – أن ابن عمر قال : ( كانت الصلاة خمسين وكان الغسل من الجنابة سبع مرار ، وكان غسل الثوب من البول سبع مرار فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمساً وغسل الجنابة مرة وغسل الثوب من البول مرة واحدة )(1) .
هذا هو الحديث الوارد عن ابن عمر ولو صح فإن فيه النسخ وأن الأمر بغسل النجاسة سبعاً قد نسخ .
وأما أن يكون محكماً فلا ، على أن الحديث الدال على الناسخ والمنسوخ حديث لا يصح .
- لذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو اختيار الموفق من الحنابلة ، واختيار شيخ الإسلام : أن النجاسات كلها سوى نجاسة الكلب – والخنزير على الخلاف المتقدم – أنها يجزئها غسلة واحدة تذهب النجاسة ، فمتى غسلت غسلة واحدة تذهب النجاسة فإن ذلك يجزئ .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة في الغسل من الجنابة ( 247 ) قال : " حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أيوب بن جابر ، عن عبد الله بن عُصْم عن عبد الله بن عمر قال : " كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرارٍ ، وغسل البول من الثوب سبع مرارٍ ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جُعلت الصلاة خمساً ، والغسل من الجنابة مرة ، وغسل البول من الثوب مرة " ، وضعفه الألباني في الإرواء ( 163 ) فقال : " وهذا إسناد ضعيف ، أيوب هذا ضعفه الجمهور ، وشيخه ابن عُصم مختلف فيه " وقال أبو داود في سننه برقم ( 246 ) : " حدثنا حسين بن عيسى الخراساني ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن شعبة ، قال : إن ابن عباس كان إذا اغتسل من الجنابة يفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى سبع مرار ، ثم يغسل فرجه ، فنسي مرة كم أفرغ ، فسألني كما أفرغت ؟ فقلت : لا أدري ، فقال : لا أمّ لك ، وما يمنعك أن تدري ؟ ثم يتوضأ وضو[ء]ه للصلاة ، ثم يفيض على جلده الماء ، ثم يقول : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطهر " .(34/174)
واستدلوا : بما تقدم من حديث الأعرابي(1) فإنه فيه أنه قد غسل مرة واحدة ولا فرق بين النجاسة في الأرض ولا في غيرها .
وأصرح منه – وهو ما يكون في غير الأرض – ما ثبت في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر – وقد سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب فقال صلى الله عليه وسلم : ( تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه وتصلي فيه )(2) ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم عدداً .
والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فقد حكمنا على هذا الثوب بأنه نجس لوجود هذه النجاسة ، فإذا زالت بغسلة واحدة وذهب أثرها فإن المحل يكون طاهراً ؛ لأن هذا الثوب إنما حكم عليه بالتنجيس وهو ما تسمى بالنجاسة الحكمية –إنما حكم عليه بذلك لوجود هذه النجاسة – فما دام أنها ذهبت بغسلة واحدة فإن المحل يطهر .
فإن لم تذهب بواحدة – فحينئذ – يكرر حتى تزول النجاسة .
__________
(1) أي لما بال في المسجد ، فأهريق عليه ذنوباً من ماء ، وهو في الصحيحين .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب غسل الدم ( 227 ) بلفظ : " جاءت امرأةٌ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أرأيت إحدانا تحيض في الثوب ، كيف تصنع ؟ قال : ( تحته ، ثم تقرصه بالماء ، وتنضحه وتصلي فيه ) ، وأخرجه مسلم ( 291 ) في كتاب الطهارة ، باب نجاسة الدم وكيفية غسله بلفظ : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة ، كيف تصنع به ؟ قال : ( تحته ثم تقرصه بالماء ، ثم تنضحه ، ثم تصلي فيه ) .(34/175)
فإن بقي ما لا يمكن إزالته كرائحة أو لون ونحو ذلك فلا حرج في ذلك لما ثبت في الترمذي – والحديث حسن – فإنه من حديث ابن لهيعة وقد رواه عنه بعض العبادلة ، وروايتهم عنه حسنه وله شواهد من الشرع تدل عليه أن خولة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : فإن لم يذهب الدم ؟ أي دم الحيض ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( يكفيك الماء ولا يضرك أثره )(1) .
فإذا عجز المكلف عن إزالة أثر النجاسة فإن الحرج مرفوع ، فيكفيه ما فعل من الغسل ولا يضره هذا الأثر .
إذن : مذهب الحنابلة أن الموضع إذا وقعت عليه نجاسة سوى النجاسة المتقدمة فإنه يغسل سبع مرات .
والمراد بسبع مرات : هكذا على الحقيقة وليس المراد بعد التطهير ، فلو كانت السادسة وقعت على النجاسة ، والنجاسة ما زالت ثم أزالته السابعة فإن هذه سبع غسلات .
إذن : يغسله الغسلة الأولى وإن كانت النجاسة لم تذهب بها ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك ، المقصود أن تذهب بالسابعة ، فإن لم تذهب بالسابعة فيغسله ثامنة أو تاسعة حتى تزول النجاسة .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الأربعون
( يوم الاثنين : 26 / 12 / 1414هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك )
إذا وقع على ثوب نجاسة فأصابتها الشمس فزالت ولم يبق لها أثر لا طعم ولا ريح ، أو ذهبت تلك النجاسة بالريح ، كأن تذهب بسبب ريح شديدة ، والمقصود من ذلك : ذهاب تام بحيث لم يبق لها أثر في المحل .
أو كان المحل نحو مرآة أو سيف أو سكين فوقعت عليه نجاسة كالدم – على قول من قال بنجاسته – فدُلك فزالت نجاسته ، فهل يحكم بنجاسة المحل أم لا – في كل هذه المسائل ؟
قال هنا : ( ولا يطهر متنجس بشمس ولا ريح ولا دلك )
__________
(1) لم أجده في فهرس الترمذي طبعة بيت الأفكار ، ولا في باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب من كتاب الطهارة في سنن الترمذي .(34/176)
وقد تقدم الكلام في هذا في باب المياه ، وأن الماء الطهور هو ما لا يزيل النجس الطارئ غيره ، وقد تقدم دليل المذهب .
وتقدم رجحان ما ذهب إليه أبو حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : من أن هذا المحل طاهر .
ودليل ذلك : ما روى البخاري وأبو داود من حديث ابن عمر من أن الكلاب كانت تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم تكن تغسل محالها(1) .
ولو كانت باقية ، لوجب تغسليها ، فتبين أنها كانت تذهب بنحو شمس أو ريح إذ لو كانت باقية لوجب تغسيلها .
وبما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ماذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ) (2) فأمر بالمسح وهو الدلك – الذي تثبت فيه إزالة النجاسة .
فالراجح : أن النجاسة متى زالت بأي مزيل من المزيلات بحيث إنه لم يبق للنجاسة أثر سواء كان ذلك بدلك أو ريح أو شمس فإن المحل يطهر ، ومحل هذا حيث تذهب النجاسة فلا تبقى لها أثر .
قال : ( ولا استحالة )
يقال : استحال الشيء عما كان عليه : أي زال ، وذلك بأن يتحول من صورة إلى أخرى أو من مادة إلى مادة أخرى .
__________
(1) تقدم صْ 126 .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب الصلاة في النعل ( 650 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي نُعامة السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه إذ خلع نعليه ، فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القول ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال : ( ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ ) قالوا : رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن جبريل أتاني فأخبرني أنفيها قذراً ) أو قال : أذى ، وقال : ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما ) .(34/177)
كتحول الدم والصديد واللحم في الميتة إلى تراب وكتحول الروث النجس إلى رماد ونحو ذلك فهل هذه المتحول إليها طاهرة أم نجسة ؟
هنا : المذهب يقول : إنها نجسة وإنها لا تطهر .
فعلى ذلك : التراب الذي دفن فيه الإنسان فتطاول الزمن عليه فتحول بما فيه من صديد ودم – وهذا على القول بأن الصديد نجس – أو كانت ميتة أخرى من التي يحكم بنجاستها ، فتحولت إلى تراب أو إلى ملح أو تحول هذا الروث إلى رماد أو الدخان المتحلل من الشيء النجس كأن يحرق شيء نجس فيخرج منه غبار :
- فذهب الحنابلة إلى إنها نجسة
واستدلوا : بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن النبي صلي الله عليه وسلم : ( نهى عن الجلالة ) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة ، باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها ( 3785 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ع ابن عمر قال : نهى رسول الله عن أكل الجلالة وألبانها " وقال ( 3787 ) : حدثنا أحمد بن أبي سريج أخبرني عبد الله بن جهم حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة في الإبل : أن يركب عليها ، أو يشرب من ألبانها " وقال ( 3786 ) " حدثنا ابن المثنى ، حدثني أبو عامر ، حدثنا هشام ، عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صى صلى الله عليه وسلم نهى عن لبن الجلالة " أخرجه النسائي في البيوع حديث 4453 ، باب النهي عن لبن الجلالة .
أخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة ، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها قال : " حدثنا هنَّاد حدثنا عَبْدَة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها " قال : وفي الباب عن عبد الله بن عباس . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب ،وروى الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً . وقال ( 1825 ) : " حدثنا محمد بن بشّار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المُجَثَّمة ولبن الجلالة وعن الشرب من في السقاء " وصححهما الألباني . وأخرجه ابن ماجه في في الذبائح حديث 3189 ، باب النهي عن لحوم الجلالة ، سنن أبي داود [ 4 / 149 ] .(34/178)
وسيأتي الكلام على هذا الحديث في بابه – إن شاء الله - .
قالوا : إنما هذا النهي لنجاستها ، لكون هذه النجاسات ثابتة فيها باقية ، ومعلوم أن هذه النجاسات قد تحولت إلى دم ونحوه فإنها ليست كهيئتها السابقة بل تحولت في هذا الحيوان إلى مادة أخرى ، ومع ذلك فإن الشارع نهى عنها .
لكن هذا الاستدلال ضعيف ، إذ ليس في الحديث أن ذلك لنجاستها ولكن لقاعدة الشريعة في تحريم ما خبث طعمه كما حرم ما يأكل الجيف ، وسيأتي الكلام عليه في باب الأطعمة .
والحنابلة – وهم القائلون هنا بأن الاستحالة لا تحول الشيء إلى شيء ظاهر ، مستدلين كذلك بالجلالة – هم أنفسهم يقولون إنها متى حبست – أي الجلالة – ثلاثة أيام كما هو مذهب ابن عمر فمتى حبست فإنها تطهر .
ومعلوم أن هذا الدم قد نبت منه بعض اللحم ، ومجرد الحبس لا يغير الحكم ، فإنه متى نبت لحمها وحبست بعد ذلك أياماً يسيرة فإن هذا لا يغير من الحكم شيـ[ـئاً ] .
إذن : يدل على حرمتها بجريان هذا الدم الذي ما زال قريباً بالنجاسة فمتى منعت من الطعام زمناً وتؤكد بعد هذا الزمن من أن هذا الخبث قد ذهب وإن كان قد تحول إلى مادة أخرى فإنها تحل .
- وذهب أبو حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم : إلى أن الاستحالة تطهر بها الأعيان .
ولكن مع ذلك ينبغي ألا يقال إنها تطهر بالاستحالة ؛ ذلك : لأن ليس مجرد الاستحالة هو سبب الطهارة ، بل سببها إنها انتقلت إلى عين أخرى هذه العين عين طاهر .
واستدلوا : بأن الشارع وقد حكم بتنجيس هذه العين التي قد استحالت إلى مادة أخرى قد حكم بنجاستها لما فيها من الخبث ، وأما وقد تحولت إلى مادة أخرى وهي مادة حكم الشارع بطهارتها كتراب أو ملح أو رماد أو نحو ذلك ، فهذه مادة طيبة قد حكم الشارع بطهارتها ولم يبق اسم ولا معنى مما حكم الشارع بنجاستها .(34/179)
فما حكم الشارع بنجاسته كالروث مثلاً : قد تحول إلى رماد فلم يبق فيه ما في الروث من المعنى ، وكذلك لم يبق فيه التسمية فهي مادة طاهرة ، وكذلك الملح والتراب .
و النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى مسجده أمر بنبش ما فيه من قبور المشركين ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحمل التراب الذي حوله ومن المعلوم أن من الدم والصديد ما تحول إلى تراب – وهذا على القول بأن الدم والصديد نجس فيكون رد على المذهب ومن قال بقوله - .
فالراجح : مذهب أهل القول الثاني وأنه متى استحال إلى مادة أخرى فإن هذه العين تكون طاهرة فلا معنى للحكم بنجاستها وهي مادة أخرى ، مادة لها نظير آخر قد حكم الشارع بطيبه ولم يبق للنجاسة اسم ولا معنى وهذا حيث زالت النجاسة تماماً فلم يبق لا لون ولا طعم ولا ريح .
قوله : ( غير الخمرة )
أي الخمر
فالخمر إذا تحول إلى مادة طيبة من الطيبات فإنه – حينئذ – يكون طاهراً .
واعلم أن الخمر فيه خلاف بين أهل العلم هل هو نجس أم طاهر ؟
فذهب جمهور أهل العلم : إلى أن الخمر نجس واستدلوا بقوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان }(1).
قالوا : والرجس هو النجس ، كما قال تعالى : { قل لا أجد فيما أوحى إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتا أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس }(2) قالوا : أي نجس فالآية الأولى نظير الآية الثانية .
قالوا : فيدل هذا على نجاسة الخمر .
فإن قيل : فلم لم تحكموا على الأزلام والميسر والأنصاب – بالنجاسة فهي ليست نجسة حساً عندكم ؟
قالوا : هذه أخرجها الإجماع ، فقد أجمع العلماء على أن نجاستها ليست حسية بل معنوية .
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم وقد حكى هذا القول إجماعاً ، لكن هذا الإجماع ليس بصحيح لوجود المخالف .(34/180)
- وقد ذهب بعض أهل العلم وهو قول داود والمزني والليث بن سعد وربيعة وذهب إليه بعض المتأخرين وممن اختاره الصنعاني وغيره : أن الخمرة طاهرة وليست بنجسة .
واستدلوا : بالأصل وأن الأصل في الأشياء الطهارة وكون الشيء يحرم لا يعني تنجسه ،فإن الشارع قد حرم الأنصاب والأزلام وهي ليست نجسة بالأصل فليس كل محرم نجس ، فالأصل في الأشياء الطهارة وهذه منها .
قالوا : وقد ثبت في البخاري عن أنس بن مالك قال : ( لما حرم الخمر خرج الناس وأراقوها في الطرقات ) (1) .
قالوا : والاستدلال بهذا الحديث من وجهين :
الوجه الأول : إيقاع النجاسات في طرق الناس محرم فلو كانت الخمر نجسة لما جاز أن تراق في طرقات الناس كما تقدم من تحريم التبرز ونحوه في الطريق فهذا محرم وكذلك غيره من النجاسات ، فلو كانت الخمر نجسة لما جاز أن تراق في الطرقات .
والوجه الثاني : أنه لابد وأن يصيب الماشي وهو ذاهب إلى الصلاة شيء منها ، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم أن يغسلوا ما تقع عليه الخمرة في أبدانهم ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
لكن في الاستدلال بهذا الدليل من هذين الوجهين نظر :
أما الوجه الأول : وهو قولهم : أن في إراقتها في الطرقات تنجيس لها وهو محرم .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم ، باب صب الخمر في الطريق ( 2464 ) عن أنس رضي الله عنه قال : كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، وكان خمرهم يومئذ الفضيخَ ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً يُنادي : ألا إنّ الخمر قد حُرّمتْ قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فأهْرقْهَا ، فخرجتُ فهرقتُها ، فجرتْ في سكك المدينة ، فقال بعض القوم : قد قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } ، وأخرجه مسلم ( 1980 ) . في كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر .. .(34/181)
فلأهل القول الأول أن يقولوا : إن فعل ذلك لمصلحة شرعية راجحة وهي إظهار ترك هذا المحرم الذي قد اعتاد عليه العرب وألِفوه ، وفي ذلك تشجيع للناس على تركه فلهذه المصلحة العظيمة جاز أن يراق وإن كان نجساً ولا شك أنه سيذهب بعد زمن يسير بالشمس أو الريح أو نحو ذلك ، وبقاؤه على هذه الصورة فيه مصلحة عظيمة للتعاون على ترك هذا المنكر وإظهار حرمته .
وأما الوجه الثانية : وهو قولهم : أنه لو كان نجساً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من يأتي إلى المسجد أن يغسل ما يصيبه منه ، وهو كثيراً ما يصيب المشاة إلى المسجد .
فهذا فيه نظر – على قول الجمهور – وهو أن يقولوا : إن الله قال { رجس من عمل الشيطان } فما دام أن الله قال ذلك فلا يحتاج إلى أن يبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك .
ومع ذلك : فإن الراجح القول الثاني وذلك لصحة الدليل الأول وهو الأصل فإن الأصل في الأشياء الإباحة .
وأما الاستدلال بالآية : { إنما الخمر والميسر ….} فإن الرجس في لغة العرب هو القذر ولا يلزم في ذلك أن يكون نجساً حسياً فلا يلزم من القذارة النجاسة الحسية فكم من شيء قذر ومع ذلك ليس بنجس فليس كل شيء مستقذر يستقذره الناس ويحكمون عليه بالقذارة ليس كل ذلك نجساً ، فإذا ثبت هذا فإن الآية لا تدل إلا على أنه قذر .
والأظهر فيها أن المراد بالنجاسة هنا : المعنوية وليس الحسية وذلك لقرينتين اثنتين :
القرينة الأولى : قوله تعالى عاطفاً الثلاث على أن نجاستها نجاسة معنوية وهي قوله : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } فهذه الثلاثة بالإجماع طاهرة العين نجسة المعنى ، فكذلك الخمر فهذه القرينة تقوي أن الخمر نجاستها نجاسة معنوية .
القرينة الثانية : قوله : { رجس من عمل الشيطان } فحكم عليها بالنجاسة مرتبطاً ذلك بكونه من عمل الشيطان .(34/182)
وأما النجاسة التي يخلقها الله طبيعة فإنها نجاسة لا يقال فيها إنها من عمل الشيطان فإنها نجاسة طبيعية أصلية حقيقة في هذا الشيء .
فدل على أن قوله : { من عمل الشيطان } أي نجاسة عملية معنوية ، أي هذا من عمل الشيطان في الناس من النجاسة التي يزرعها الشيطان في الناس لما في الخمر من إلقاء العداوة والبغضاء وترك ذكر الله والصلاة ونحو ذلك مما هو من عمل الشيطان .
فعلى ذلك : الراجح أن الرجس هنا : هو الرجس المعنوي .
إذن : الخمر طاهرة وليست بنجسة ، فإذا أصاب البدن منها شيء – ومن ذلك هذه الأطياب التي يتطيب بها فإنها من الخمر – فإنها ليست بنجسة على الراجح من قول أهل العلم .
والمسألة المرتبطة بالمسائل السابقة : هي أن الخمر إذا تحولت بنفسها فتحولت إلى خل بعد أن كانت خمراً فحينئذ يحكم بطاهرتها .
وقد قالوا بطهارتها : لأن الخل عين أخرى فليست خمراً وإنما خل ، والخل طاهر .
لكنهم : قالوا : هي في الأصل أشياء طاهرة فحولت إلى خمر ثم رجعت إلى أصلها .
والجواب على ذلك : أن يقال : كذلك النجاسات فقد كانت في الأصل أطعمة ثم تحولت إلى قذر ثم تحولت بالاستحالة إلى مواد أخرى ، فالدم مثلاً – إذا حكمنا بنجاسته – أصله طعام وشراب طاهر فتحول إلى شيء نجس وهو الدم ثم عاد بعد ذلك إلى عين أخرى طاهرة .
* واعلم أن الخمر إذا تخللت بنفسها من غير عمل فإن ذلك جائز بإجماع العلماء ، فلا حرمة في ذلك ، فبالإجماع هي طاهرة ، فهذا هو فعل الله عز وجل فيها وهذا قول عمر كما في البيهقي(1) ولا يعلم في هذه المسألة خلافاً .(34/183)
أما إذا خللت الخمر ووضعت إليها مواد فرجعت إلى خل ، فهذا الفعل اتفاقاً محرم لا يجوز ؛ لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : سئل عن الخمر تتخذ خلاً قال : ( لا )(1) أي لا يجوز ذلك ، فلا يجوز تحويل الخمر إلى خل بل يراق .
* لكنها إن خللت فهل تكون طاهرة أم نجسة ؟
قولان لأهل العلم هما قولان في مذهب أحمد وغيره .
والراجح : أنها طاهرة كما تقدم ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ،وقول في مذهب الإمام أحمد ، وأنها إذا خللت فهذا الفعل محرم ولا يجوز أن تطعم لكنها مع ذلك طاهرة فهي طاهرة ، لكن هذا التخليل منه هو آثم لمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم .
لذا قال : ( فإن خللت – إلى أن قال - لم تطهر )
هذا هو المذهب ، فالمشهور في المذهب أنها إذا خللت فإنها لا تطهر .
والراجح وهو قول في المذهب أنها تطهر كما تقدم .
قوله : ( أو تنجس دهن مائع لم يطهر )
إذا كان عندنا دهن مائع يبلغ الشيء الكثير جداً ، فوقعت فيه نجاسة ، ولو كانت هذه النجاسة يسيرة – وهو مائع – فإنه نجس ولا يحل أن يطعم ، ولا يطهر .
وقيَّد ذلك بمائع ، لأنه لابد أن يكون مائعاً لترتب هذا الحكم .
أما إذا كان جامداً فإنه تزال النجاسة وما حولها ويطعم الباقي .
وأما المائع فإنه يراق مطلقاً قليلاً كان أو كثيراً – إذا وقعت فيه نجاسة – ولا يطهر .
وهذا هو المشهور في مذهب الحنابلة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة ، باب تحريم تخليل الخمر ( 1983 ) . وأخرجه الترمذي في كتاب البيوع ، باب النهي أن يتخذ الخمر خلا ( 1294 ) .(34/184)
واستدلوا : بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : ( إن كان جامداً فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه ) (1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة ، باب في الفأرة تقع في السمن ( 3842 ) قال : " حدثنا أحمد بن صالح والحسن بن علي ، واللفظ للحسن ، قالا : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا وقعت الفأرة في السمن : فإن كان جامداً فألقوه وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه ) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الأطعمة ، باب ما جاء في الفأرة تموت في السمن ( 1798 ) قال بعد أن ذكر حديث ميمونة ( ألقوها وما حولها وكلوه ) قال : " وقد رُويَ هذا الحديث عن الزهري عن عبيد الله بن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ، ولم يذكروا فيه عن ميمونة ، وحديث ابن عباس عن ميمونة أصح . وروى معمرٌ عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ، وهو حديثٌ غير محفوظ . قال : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : وحديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذَكَرَ فيه أنه سئل عنه فقال : ( إذا كان جامداً فألقوها ، وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه ) هذا خطأٌ ، أخطأ فيه معمر ،قال : والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة " . اهـ سنن الترمذي ،طبعة بيت الأفكار صْ 307 . وحديث ميمونة أخرجه أبو داود أيضاً . وأخرجه النسائي في الفرع والعتيرة ، باب الفأرة تقع في السمن حديث ( 4263 ) .(34/185)
- وذهب أبو حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام : إلى أنه لا يتنجس إلا بالتغير كحكم الماء تماماً ، ويمكن أن تزال النجاسة بأي طريقة من طرق الإزالة كما تقدم في الماء تماماً .
فإذا وقع شيء يسير من النجاسة في زيت كثير ولم يغيره فهو طاهر ، وإذا غيره فأضيف إليه شيء من الزيت فذهب التغير وزال أثر النجاسة فهو طاهر .
واستدلوا : بما روى البخاري من حديث سفيان عن الزهري إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( في فأرة سقطت في سمن فماتت : ( ألقوها وما حولها وكلوه ) (1) ولم يفرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون مائعاً أو جامداً .
وهذا مذهب ابن عباس وابن مسعود – كما رواه عنهما الإمام أحمد في مسائله ، وهو مذهب طائفة من السلف وهو اختيار شيخ الإسلام – وأنه لا فرق بين جامد ومائع بل تلقى النجاسة وما حولها ثم ينظر في المتبقي ، فإن كان هذا الزيت - مثلاً – المتبقي متغير بالنجاسة فهو نجس وإن لم يتغير بالنجاسة لا طعماً ولا لوناً ولا ريحاً فإنه طاهر.
وأجابوا عن الحديث الأول بأنه معلول ، فإن معمراً باتفاق علماء الرجال – كما قال شيخ الإسلام – كثير الغلط على الزهري ، وهذا من غلطه عليه ، فإن الرواة عن الزهري كما رووه بهذا اللفظ المتقدم ، وغلط معمر فرواه بسند آخر إلى أبي هريرة فأخطأ في الإسناد ثم أخطأ في المتن بذكر الجامد ، فهو وهم وغلط منه كما قرر ذلك البخاري والترمذي وأبو حاتم والدار قطني وكذلك ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم ، فعلى ذلك الحديث ضعيف لأنه معلول .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الذبائح ( 7 / 126 ) باب إذا وقعت الفأرة في سمن ، سنن أبي داود [ 4 / 180 ] .(34/186)
وعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني : وأن النجاسة إذا وقعت في المائعات من دهن أو غير ذلك أو وقعت في بعض الأطعمة ونحوها ، فإننا نزيل النجاسة وما حولها مما تنجس ، وإن كان الزيت أو غيره طاهراً لم يتغير بالنجاسة فهو على ظاهره طاهر ، وأما إن كان متغيراً بالنجاسة وأمكن إزالة النجاسة عنه بأي طريقة فأزيلت فإنه يطهر أيضاً ، كحكم الماء تماماً .
ولا شك أن هذا أولى من الماء ؛ لما فيه من إفساد المال بوقوع أدنى نجاسة فيه .
قوله : ( وإن خفي موضع نجاسة غسل حتى يُجزم بزواله )
إذا خفي موضع نجاسة وكان الموضع ضيقاً لا مشقة في تغسيله كله كأن تقع نجاسة على ثوب أو على موضع صلاة صغير أو نحو ذلك يمكن أن ينظف كله ولا مشقة في ذلك فوقعت النجاسة ولا يدرى موضعها فإننا نغسل كل الموضع حتى نتيقن من زوال النجاسة .
أما إذا كان واسعاً كأن يكون بقعة من الأرض في فضاء أو نحو ذلك فإنه – حينئذ – لا يجب عليه ذلك بل يتحرى في أي موضع النجاسة ثم يغسله لمشقة غسل الموضع كله ، بل يغسل ما يتوقع فيه النجاسة أو يتحرى فيغسل هذا الموضع الذي يظن أن النجاسة واقعة فيه .
فإذا لم يكن هناك ظن فإنه يصلي حيث شاء من المواضع ولا شيء عليه في ذلك .
أما إذا يمكن أن يغسله كله ولا مشقة في ذلك فيجب عليه أن يغسله كله .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الحادي والأربعون
( يوم الثلاثاء : 27 / 12 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ويطهر بول غلام لم يأكل الطعام بنضحه )
" بول " دون غائطه .
" غلام " وهو الصبي الذي لم يبلغ ، ويقابله الجارية وهي الصبية التي لم تبلغ .
" لم يأكل الطعام " فطعامه لبن أمه أو غيره ، ولا يكون الطعام أي ليس الطعام المأكول من خبز أو نحوه فليس هو مطعمه بخلاف ما قد يوضع فيه مما لا يكون عن اختيار منه فإن هذا لا يعتبر أكلاً يثبت تغير الحكم عليه ، كأن يوضع في فيه شيء من التمر أو يلعق عسلاً أو نحو ذلك .(34/187)
" بنضحه " النضح هو الرش أي الغمر والمكاثرة بالماء من غير أن يجري الماء كما يجري في الغسل ، بل مجرد ما يريق الماء على موضع النجاسة مكاثرة وغمراً لها به غير أن يكون بإزالته واستخراجه ، فهذا هو النصح .
ودليل ذلك : ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي وغيرهم بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ينضح من بول الغلام ويغسل من بول الجارية ) (1) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب بول الصبي يصيب الثوب ( 375 ) قال : " حدثنا مسدد بن مسرهد والربيع بن نافع أبو توبة ، المعنى قالا : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن قابوس ، عن لبابة بنت الحارث قالت : كان الحسين بن علي رضي الله عنه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال عليه ، فقلت : البس ثوباً وأعطني إزارك حتى أغسله ، قال : ( إنما يُغسل من بول الأنثى ،وينضح من بول الذكر ) ، وفي لفظ من وجه آخر ( يغسل من بول الجارية ، ويرش من بول الغلام ) ، وفي لفظ من وجه آخر موقوفاً على علي رضي الله عنه : ( يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم ) . وأخرجه ابن ماجه برقم 525 ، والترمذي في آخر الصلاة برقم 610 ، وقال : " حديث حسن " ، سنن أبي داود [ 1 / 263 ] . وأخرج البخاري في كتاب الوضوء ، باب بول الصبيان حديث عائشة ( 222 ) قالت : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء فأتبعه إياه " .(34/188)
وثبت في الصحيحين من حديث أم قيس رضي الله عنها قالت : ( جئت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي لم يأكل الطعام فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره فبال عليه فدعا بماء ونضحه ولم يغسله ) (1)
فإذن وهذا مختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أما غيره والجارية فإنه يجب فيه الغسل .
وهل يقاس عليه القيء أم لا ؟
قالوا : ويقاس عليه القيء إذا كان من غلام لم يأكل الطعام ، وهذا مبني على ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن القيء نجس ، والقيء هو : ما يخرج من الطعام من المعدة . وجمهور العلماء على أنه نجس ، فعلى ذلك يجب غسل ما يصيب من الثياب .
وهذا من باب القياس ، فقاسوه على البول والغائط ، فكما أن هذا مستخرج من الطعام فكذلك هذا فهذا من باب القياس .
وهذا قد حدث به من النتن والفساد كما حدث في البول والغائط ولما روى الدار قطني والبيهقي عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والمذي والدم والقيء ) (2) .
لكن الحديث ضعيف وقد ضعفه البيهقي والدار قطني .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ،باب بول الصبيان ( 223 ) بلفظ : " عن أم قيس بن محصن : أنها أتت بابن لها صغير ، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْرِه ، فبال على ثوبه ، فدعا بماء فنَضَحَه ولم يغسله " وأخرجه مسلم ( 287 ) .(34/189)
* وذهب بعض أهل العلم وهو مذهب الظاهرية : إلى أن القيء ليس بنجس واختاره الشوكاني ؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة ، وقياسه على البول والغائط ليس أولى من قياسه على المخاط والعرق فإنها – كذلك – يخرج من البدن وقد ظهر فيها نتن وفساد وهي متحللة من طعام ، وقد دلت الأدلة الشرعية – وهو مذهب الحنابلة – على أن المخاط والعرق طاهر ، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليفعل هكذا فتفل في ثوبه فمسح ببعضه بعض ) (1) وهذا في الصلاة ، فإذا ثبت فمعلوم أن الصلاة لا يحل أن يقع في ضمنها شيء من النجاسة فهذا يدل على أن النخامة(2) ليست بنجسة .
وقياس القيء به أولى من قياسه بالغائط والبول ، وحقيقة القيء إنما هو هذا الطعام الذي دخل إلى المعدة فخرج بسبب المرض متغيراً بشيء من الفساد والنتن فمثل هذا لا يقال بنجاسته ، فإن نقل هذا الطعام إلى النجاسة بسبب تغيره في المعدة لا يدل على نجاسته .
فالراجح : أن القيء ليس بنجس .
وإذا قلنا بنجاسته فإن ما يقع من الصبي الغلام الذي لم يأكل الطعام فإنه يكفي في قيئه النضح ، ويجب الغسل فيما يكون من الجارية والغلام الذي يأكل الطعام كما يكون ذلك في البول .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب حك البزاق باليد من المسجد ( 405 ) عن أنس بلفظ : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة ، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه ، فقام فحكّه بيده ، فقال : ( إن أحدكم إذا قام في صلاته ، فإنه يناجي ربه ، أو : إن ربه بينه وبين القبلة ، فلا يبزقن أحدكم قِبل قبلته ، ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ، ثم رد بعضه على بعض ، فقال : ( أو يفعل هكذا ) ، ورواه في أبواب أخرى بألفاظ متخلفة ، وأخرجه مسلم ( 493 ) و ( 551 ) .
(2) كذا في المطبوع ، وفي الأصل : النخاعة .(34/190)
قوله : ( ويعفى في غير مائع ومطعوم عن يسير دم نجس من حيوان طاهر )
" ويعفى " : فهذا في النجاسة المعفو عنها .
" في غير مائع " : من ماء أو زيت ونحوهما .
" ومطعوم " : كالخبز أو نحو ذلك .
" عن يسير " : عرفاً .
" دم نجس " : لا دم طاهر ، فإن الدم الطاهر معفو عنه كله ، فكله عفو .
ومثلوا للدم الطاهر بدم الشهداء فإنه طاهر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسله .
ومثل ذلك : دم مأكول البحر ، فما يخرج من مأكول البحر من الدم فهو طاهر .
إذن : إذا وقع دم نجس كالدم الذي يخرج من البهيمة ، أو من الآدمي على المذهب فإذا وقع شيء من هذه الدماء - الدماء خاصة ليس سائر النجاسات – إذا وقع على ثوب أو بقعة – لا على ماء أو زيت وكان ذلك على(1) حيوان طاهر ليس من حيوان نجس ككلب أو خنزير فإنه لا تعفى منه .
إذن : يعفى من النجاسات عن الدم النجس اليسير إذا كان من حيوان طاهر وكان وقوعه على ثوب أو نحوه .
وهذه التفاصيل في الحقيقة لا دليل عليها .
- لذا ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة : إلى أنه يعفى عن يسير النجاسات مطلقاً سواء كانت في مائع أو غيره ولكن بقيد : وهو أن يكون يشق التحرز منها .
قياساً على النجاسة المعفو عنها في موضع الاستجمار ، فإن الاستجمار لا يذهب أثر النجاسة كما هو معلوم ، وما يبقي بعد الأثر معفو عنه ، فقد عفي عنه لمشقة التحرز منه فكذلك عامة النجاسات التي يشق التحرز عنها فإنه يعفى عن يسيرها .
والمراد باليسير : اليسير عرفاً .
مثال ذلك : رجل يشتغل بالجزارة فإنه قد يتساقط على ثوبه قطرات من الدم يشق عليه أن يتحرز منها ليصلي – دائماً – بثوب خال من ذلك ، فإنه عندما يصلي وعليه شيء من القطرات اليسيرة فلا بأس بذلك .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : من .(34/191)
ومثاله أيضاً : في المجروح ، فإنه إذا توقف عنه الدم فإنه يبقى في موضع الدم قطرات – وقلنا : على المذهب بأن الدم من الآدمي نجس – فإن هذه القطرات التي تكون في موضع الجرح معفو عنها .
قال : ( وعن أثر استجمار بمحله )
كما تقدم .
" بمحله " : أي موضع الاستجمار .
وأما إذا خرج بسبب عرق أو نحوه إلى الثوب فإنه لا يعفى عنه .
وهذا ضعيف ، فإنه من المعلوم أن مثل هذا يقع غالباً كما يكون هذا في الاستجمار ، فإذا وقع على الثوب المقابل لموضع الاستجمار فإنه لا حرج فيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بغسله وهذه رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن القيم والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهما .
* وعند لفظة الدم :
اعلم أن جماهير العلماء على أن الدماء الأصل فيها النجاسة سوى ما دلت الأدلة الشرعية على استثنائه كدم الشهداء ، وكدم مأكول اللحم البحري وكالدم الذي يكون في اللحم المذبوح وما يكون في العروق فإن هذا كله معفو عنه وأما سواه من الدم فإنه نجس – هذا مذهب جمهور الفقهاء - .
فعلى ذلك : دم الآدمي نجس ، ودم مأكول اللحم البري كالشاة ونحوها نجس ، وكذلك غيرها من الدماء .
واستدلوا : بقوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس " أي نجس " أو فسقاً أهل لغير الله به }
أي لا أجد فيما أوحى إلى محرماً من الأطعمة إلا هذه الأربع وهي : الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير فإنها رجس ، والرابع هو الفسق الذي أهل به لغير الله وهو ما خرج به عن طاعة الله وأمره وشرعه ولو حيدة بأن ذبح لغير الله ، فهذه الأربعة هي المحرمة وقد دلت الأدلة الشرعية على عدم الاكتفاء بها ، فقد ورد بعد ذلك آيات وأحاديث مدنية تدل على مزيد من المحرمات وسيأتي ذلك – في باب الأطعمة إن شاء الله – .(34/192)
- وذهب الظاهرية وهو اختيار الشوكاني : إلى نقيض القول المتقدم ، وهو أن الدماء كلها طاهرة إلا(1) ما استثني بالنجاسة فدم الحيض قد دلت الأدلة الشرعية على نجاسته كقوله صلى الله عليه وسلم : ( تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه وتصلي فيه ) (2) قالوا : فهذا يدل على أن دم الحيض والنفاس نجس .
وأما ما لم يرد الدليل بنجاسته فهو طاهر .
واستدلوا : بالأصل ، فإن الأصل في الأشياء هو الطهارة .
والأظهر ما ذهب إليه جمهور العلماء ، فإن الرجس في هذه الآية هو النجس وقرينة ذلك أن الله لما ذكر هذه الثلاثة وحكم عليها بالرجسية أضاف إليها بعد ذلك ما أهل به لغير الله من الفسق ، ومعلوم أن ما أهل به لغير الله من الفسق رجس – كذلك – معنوي فإنه نجاسة معنوية كما أن الأزلام والميسر والأنصاب رجس معنوي ، فإن هذا الذي أهل به لغير الله رجس معنوي ، فعلم من ذلك أن المراد بالرجس في الثلاثة الأولى أنه الرجس الحسي وهو القذر الشرعي فالمراد به النجاسة التي حكم الشارع عليها بالنجاسة ، فعلى ذلك : الميتة والدم ولحم الخنزير أنجاس لهذه الآية الكريمة .
إذن : الراجح أن الدماء كلها نجسة سوى ما دلت الأدلة على استثنائه كدم الشهيد ونحوه .
وهذا هو القول الراجح إلا أنه ينبغي أن يستثنى دم الآدمي مطلقاً خلافاً للجمهور ، لأن الأدلة الشرعية دلت على ذلك :
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : إلا .
(2) متفق عليه ، وقد تقدم .(34/193)
فمنها ما تقدم في قصة عباد بن بشر وعمار بن ياسر فلما صلى في ثوبه عباد أصابه السهم فانتزعه وقد أهريق الدم على ثوبه ثم أتى السهم الثاني ثم الثالث وهو في صلاته وكان ذلك في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولابد أن مثل هذا يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقره على أن هذا ليس بنجس إذ لو كان نجساً لبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب عليه أن يقطع صلاته وما زال المسلمون يصلون بجراحاتهم ، كما قال الحسن البصري(1) وقد تقدم البحث في هذه المسألة في باب سابق فالراجح أن دم الآدمي طاهر .
ويقاس كذلك على ما يكون من الحيوانات طاهراً في الممات كميتة البحر وكما لا دم له فإنها طاهرة في الممات فيقاس عليها الآدمي فإنه طاهر في الحياة .
فالراجح : أن دم الآدمي طاهر وأما سائر الدماء فإنها نجسة إلا دم الحيض والنفاس فإنه نجس للحديث .
قال : ( ولا ينجس الآدمي بالموت )
الآدمي من مسلم وكافر لا ينجس بالموت ، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمن لا ينجس ) (2) متفق عليه .
ولما دلت عليه الأدلة الشرعية من وجوب غسل الميت فإن ذلك يدل على طهارته إذ لو كان نجساً بمماته لما شرع تغسيله إذ لا فائدة من ذلك .
__________
(1) ذكره البخاري تعليقاً ، وقد تقدم .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الغسل ، باب عَرَق الجنب ، وأن المسلم لا ينجس ( 283 ) بلفظ : " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جُنُبٌ ، فانخنستُ منه ، فذَهَبَ فاغتسل ثم جاء ، فقال : ( أين كنت يا أبا هريرة ) قال : كنت جنباً ، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة ، فقال : ( سبحان الله ، إن المسلم لا ينجس ) ، أخرجه مسلم ( 371 ) .(34/194)
ويقاس عليه الآدمي الكافر فإن حكم الطهارة والنجاسة فيهما واحد ، وهي الطهارة الحسية وإنما الفارق بينهما في الطهارة أو النجاسة المعنوية ، فالمؤمن طاهر حساً ومعنى ، وأما الكافر فإنه طاهر حساً ونجس معنى ، قال تعالى { إنما المشركون نجس }(1) أي في شركهم بالله تعالى بدليل جواز نكاح الكتابيات وحل ذبائحهم ولو كان الكفار أنجاساً حساً لما جاز ذلك ولأمر الناس أن يغسلوا أيديهم بمسهم فدل ذلك على أنهم طاهرون ، وهذا مذهب جمهور أهل العلم .
فالآدمي مطلقاً سواء كان كافراً أو مسلماً فهو طاهر وأما الكافر فنجاسته معنوية ، فعلى ذلك لا تغسل الأيدي ولا الثياب التي لبسوها ومست أبدانهم ووقع عليها شيء من عرقهم فإن كل ذلك لا يؤثر لأنهم طاهرون حساً .
وعرق الآدمي وريقه ومخاطه كل ذلك طاهر باتفاق العلماء .
ودليل ذلك : ما تقدم من حديث النخامة وغيرها مثلها أو هو أولى منها بهذا الحكم .
قال : ( ومالا نفس له سائلة متولد من طاهر )
" ومالا نفس " : أي ما لا دم له ، فالنفس هنا هي الدم ، وهذا معروف في لغة العرب ؛ وذلك لأن قوام النفس بالدم فسمي نفساً .
" سائلة " : أي ليس له دم يسيل إذا حدث قتل أو جرح فإنه لا يسيل دمه كالجراد والذباب والبعوض وغير ذلك مما لا دم له سائل .
" متولد من طاهر " : هذا قيدٌ ، فلا بد أن يتولد من طاهر ، فإن تولد من نجس كما يكون من الحشرات في الحشوش ونحوها فهذا لا يدخل في هذا الحكم ، لكن هذا مبني على عدم الطهارة بالاستحالة وهذا كما تقدم ضعيف .
فالراجح : الطهارة بالاستحالة ، إذن : هذا الاستثناء ليس بوجيه .
فعلى ذلك : كل ما لا نفس له سائلة سواء تولد من شيء طاهر أو من شيء نجس فإنه طاهر ولا ينجس الماء ونحو ذلك ، فإذا وقع شيء مما تقدم ذكره حياً كان أو ميتاً – في ماء ونحوه - فإنه لا ينجس هذا الماء ولو تغير به .
فإذن : كل ما لا نفس له سائلة فإنه طاهر حياً وميتاً .
__________
(1) سورة التوبة .(34/195)
إذ العلة عند جماهير العلماء من تحريم الميتة والحكم بنجاستها هو الدم وهذا ليس له دم سائل .
وقد دل على ذلك ما في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ) (1) وهذا يدل على أن كل ما ليس له نفس سائلة فإن له هذا الحكم وأنه لا ينجس الإناء وأن ميته طاهر ، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثاني والأربعون
( يوم الأربعاء : 28 / 12 / 1414 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( وبول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه – إلى أن قال – طاهر )
هذا في حكم بول ما يؤكل لحمه وروثه ومنيه وأنها طاهرة .
وما يؤكل لحمه : كبهيمة الأنعام وغيرها مما هو من المطعومات فإن بوله وروثه وريقه ومنيه طاهر .
فإن بوله وروثه طاهران وكذلك من باب أولى منيه وريقه ودمعه ومخاطه وغير ذلك .
__________
(1) أخرجه البخاري في آخر كتاب الطب ، باب إذا وقع الذباب في الإناء ( 5782 ) ، وراجع ( 3320 ) .(34/196)
ودليل هذا : ما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : ( قدم ناس من عُكل أو عُرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من أبوال الصدقة وألبانها ) (1) أي أبوال الإبل وألبانها ولو كانت نجسة لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا منها ، لأنها نجسة والنجس محرم أن يطعم لقوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحى إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس }(2) فالأنجاس لا يجوز أن تطعم ولو كان ذلك للتداوي بها .
فإن الدواء لا يكون لأمة محمد بما حرم الله عليها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم وغيره(3) – ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسلوا أفواههم ولا أوانيهم فدل ذلك على أنها طاهرة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها ( 233 ) بلفظ : " عن أنس قال : قدم أناس من عُكْلٍ أو عُرينة ، فاجتووا المدينة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاحٍ ، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها ، فانطلقوا فلما صَحُّوا ، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم ، واستاقوا النَّعَمَ ، فجاء الخبر في أول النهار ، فبعث في آثارهم ، فلما ارتفع النهار جيء بهم ، فأمر فقَطع أيديهم وأرجلهم ، وسُمِرَتْ أعينُهم ، وألْقُوا في الحَرَّة يستسقون فلا يُسقون ، قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا ، وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله ) ، وأخرجه مسلم 1671 .
(3) أخرج مسلم في كتاب الأشربة ، باب تحريم التداوي بالخمر ( 1984 ) حديث : ( إنه ليس بدواء ، ولكنه داء ) أي الخمر .(34/197)
ويدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلوا في مرابض الغنم ) (1) ومعلوم أن مرابضها ومباركها لا تخلو من بول وروث فدل ذلك على أنها بقعة طاهرة مع وجود ما يكون فيها من البول والروث .
فدل ذلك على أن أبوالها وأرواثها طاهرة ، ومثل ذلك – بل أولى منه – المني والدمع والريق – ونحو ذلك .
أما بول ما لا يؤكل لحمه وبول الآدمي فإنها نجسة بالاتفاق .
أما الآدمي ، فإن الأدلة عليه ظاهرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ) (2) وقوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين - : ( كان لا يستنزه من البول ) (3)
ولفظة البول هنا : " أل" فيها عهدية بدليل ما ورد في البخاري : ( من بوله ) ، فلا يرد هذا على القول بطهارة أبوال الإبل ، فإن البول هنا لا يدخل فيه بول الإبل ونحوها ، بل المراد بذلك البول المعهود وهو بول الآدمي .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب الوضوء من لحوم الإبل ( 360 ) حديث جابر بن سمرة : " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت ، فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ ) … قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : ( نعم ) .. " .
(2) أخرجه الدارقطني في سننه ، كتاب الطهارة ، باب نجاسة البول والأمر بالتنزه منه ، والحكم في بول ما يؤكل لحمه ، حديث 7 [ 1 / 128 ] ، وقال : الصواب مرسل " . سبل السلام [ 1 / 169 ] .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله ( 216 ) ( 218 ) ، وبرقم في كتاب الجنائز ( 1261 ) ( 1378 ) ، وفي كتاب الأدب ، باب الغيبة ( 6052 ) من حديث ابن عباس ولفظه ( يُعذبان وما يُعذبان في كبير ، ثم قال : بلى ، كان أحدهما لا يستتر من بوله ..) وبلفظ ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول .. ) ، وأخرجه مسلم ( 292 )(34/198)
ويقاس عليه : بول ما لا يؤكل لحمه – بل أولى في هذا الحكم من بول الآدمي .
بخلاف ما يؤكل لحمه فإنه طاهر .
إذن : كل بول وروث فهو نجس سوى ما يكون مما يؤكل لحمه فإنه طاهر .
قال : ( ومني الآدمي )
مني الآدمي طاهر .
ودليل ذلك : ما ثبت في مسلم عن عائشة قالت : ( كنت أفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه ) (1) .
وثبت في مسند أحمد وصحيح ابن خزيمة بإسناد صحيح عن عائشة قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلت المني بعرف الإذخر ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابساً فيصلي فيه "(2) .
إذا كان رطباً فإنه ، فإنه يسلته بعود الإذخر ، وإذا كان رطباً فإنه يحته ثم يصلي فيه .
ومثل هذا يدل على أنه ليس بنجس لأن الأنجاس يجب غسلها أو نضحها ، فلما كان كافياً في ذلك الفرك أو الحك أو الحت دل ذلك على أنه ليس بنجس .
- وذهب الأحناف والمالكية : إلى أنه نجس .
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل المني )(3) وقالت : ( كنت أغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ) (4)
قالوا : فلما ثبت الغسل دل على أنه نجس .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة ، باب ( 32 ) حديث رقم ( 288 ) ، سبل السلام [ 1 / 77 ] .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم ( 26587 ) قال : " حدثنا معاذ ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن عبد الله بن عُبيد بن عُمير عن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْلُت المني من ثوبه بعرْقِ الإذْخِرِ ، ثم يصلي فيه ، ويَحتُّهُ من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه " .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب ( 64 ) حديث ( 229 ، 230 ) ، حديث ( 231 ) ، ومسلم في كتاب الطهارة ، باب ( 32 ) حكم المني حديث ( 289 ) ، سبل السلام [ 1 / 77 ] .(34/199)
لكن هذا ضعيف لثبوت الفرك ، فدل هذا على [ أن ] الفرك والغسل ثابتان ، فدل على أن الفرك يجزئ في المني ، وما دام يجزئ فهذا يدل على أنه ليس نجس .
فعلى ذلك يفرك ويغسل وكلاهما يثبت به السنة ، ثم إنه أصل الخليقة بما فيهم أنبياء الله ورسله والصديقون والشهداء وبقية عباد الله الصالحين فلا يستقيم مع ذلك أن يكون نجساً (1).
ثم إن الأصل في الأشياء الطهارة ، ولم يرد دليل صريح يدل على نجاسته بل ولا دليل ظاهر ، بل الأدلة دالة على أنه طاهر وليس بنجس .
قال : ( ورطوبة فرج المرأة )
رطوبة فرج المرأة طاهر أيضاً
قالوا : قياساً على المني – هذا هو المذهب – .
- وذهب الشافعي : إلى أنه نجس .
واستدل : بما ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد قال : قلت لعثمان بن عفان : أرأيت الرجل يجامع امرأته ثم لا يمني فقال : ( يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره (2) سمعت ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم " .
أما الشطر الأول : وهو قوله : ( يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ) فقد دلت الأدلة الشرعية على نسخه كما تقدم هذا في باب الغسل وأن من جامع زوجته وإن لم ينزل يجب عليه الغسل ولا يجزئه الوضوء ، وأن الوضوء رخصة في أول الإسلام .
وأما الشطر الثاني : فهو محكم قال ( ويغسل ذكره ) وذلك من رطوبة فرجها فدل ذلك على نجاسته .
وهذا القول أصح ؛ فإن لفظة : ( ويغسل ذكره ) خبر بمعنى الإنشاء فيكون ذلك يدل على وجوب الغسل .
__________
(1) راجع نيل الأوطار .
(2) كتاب الوضوء ، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر ( 179 ) عن أبي سلمة : أن عطاء بن يسار أخبره أن زيد بن خالد أخبره أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قلتُ : أرأيت إذا جامع فلم يمن ؟ قال عثمان : ( يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره ) قال عثمان : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " وانظر ( 292 ) باب غسل ما يصيب من فرج المرأة من كتاب الغسل ، وأخرجه مسلم 347 في كتاب الحيض .(34/200)
وأما أهل القول الأول فقالوا : هذا على الاستحباب .
والأظهر هو الوجوب وأن رطوبة فرج المرأة نجس .
وهل ينقض الوضوء أم لا ؟
جمهور أهل العلم على أنه ينقض الوضوء ، فإذا سال من فرجها انتقض وضوؤها من ذلك ، لأنه خارج من السبيلين وكل خارج من السبيلين – كما تقدم- سواء كان معتاداً أو لم يكن – فإنه ينتقض به الوضوء – والمراد بالرطوبة الخارج ، فما خرج من رطوبتها انتقض به وضوؤها .
قال : ( وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر )
السؤر : هو بقية الشيء ، والمراد به : بقية الطعام أو الشراب .
فسؤر الهرة وما كان دونها في الخلقة من الطير أو الدواب التي تدب على الأرض ، فكل ما كان مثلها في الخلقة أو دونها فإنه طاهر ، وسؤره طاهر .(34/201)
فإذا شرب من الماء فإنه لا ينجس بذلك ، ودليل ذلك : ما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في الهرة - : ( إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم ) (1) فهذا يدل على أنها ليست بنجس ويقاس عليها كل ما ماثلها في الخلقة أو كان دونها – كذا في المذهب –.
لكن هذا القياس فيه نظر ، لأن الشارع لم يعلل ذلك بحجمها وإنما علله بكونها من الطوافين علينا فيشق التحرز من نجاستها لقوله : ( إنها من الطوافين عليكم ) فهذا يدل على أن العلة كونها من الطوافين فيشق التحرز من نجاستها .
ومع ذلك فإن ما ذكروه صحيح ولكن ليس لهذا القياس بل للأصل ، فإن الأصل في الأشياء الطهارة فالهرة وما دونها في الخلقة طاهر ، ا الهرة فقد دل الحديث على ذلك ، وأما ما قابلها في الخلقة أو كان دونها فليس للقياس عليها وإنما لدليل آخر وهو الأصل .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب سؤر الهرة ( 75 ) قال : " حدثنا عبدالله بن مسلمة القَعْنَبي عن مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ، عن كبشة بنت كعب بن مالك ، وكانت تحت ابن أبي قتادة ، أن أبا قتادة دخل ، فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة فشربت منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت : نعم ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنها ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) ، وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 241 ، وابن ماجه 367 ، والترمذي برقم 92 وقال : حديث حديث حسن صحيح " سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 60 ] . وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم ( 22950 ) و ( 22895 ) . قال الحافظ في البلوغ : " وصححه الترمذي وابن خزيمة " اهـ ، ورواه مالك في الموطأ في كتاب الطهارة ، باب الطهور للوضوء ( 13 ) ، سبل السلام [ 1 / 54 ] .(34/202)
فإن أكلتْ شيئاً نجساً فإن ريقها يطهره إذا طال الفصل كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم وهو قول في مذهب أحمد وغيره : أنها متى أكلت شيئاً من النجاسات فإن الفصل إذا أطال بحيث يظن أو يعلم أن النجاسة قد ذهبت بريقها ، فإن ريقها مطهر له .
وهذا مقتضى الدليل فإن الهر يأكل النجاسات كما هو معلوم ومع ذلك حكم الشارع بطهارة سؤره فدل ذلك على أن ريقها مطهر لما تضع من(1) فمها من النجاسات .
قال : ( وسباع البهائم والطير والحمار الأهلي والبغل منه نجسة )
" والبغل منه " : أي البغل من الحمار الأهلي ، بخلاف البغل من الحمار الوحشي أي المتولد منه ، لأن الحمار الوحشي طاهر لأنه يباح أكله فعلى ذلك بوله وروثه وغير ذلك – من الوحش – طاهر .
فقيده هنا بالأهلي ليخرج الوحشي ، لذا قال : ( والبغل منه ) أي من الحمار الأهلي .
" سباع البهائم " : كالأسد والذئب ونحو ذلك .
" والطير " : كالنسر والصقر أو غير ذلك .
فهذه كلها نجسة هذا هو المذهب ودليل ذلك : ما ورد في مسند أحمد والثلاثة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( سئل عن بئر بضاعة وما يرد إليه من السباع والدواب فقال : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) (2)
__________
(1) لعل الصواب : في .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في بئر بضاعة ( 66 ) قال : " حدثنا محمد بن العلاء والحسن بن علي ومحمد بن سليمان الأزدي قالوا : حدثنا أبو أسامة ، عن الوليد بن كثير ، عن محمد بن كعب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج ، عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يُطرح فيها الحِيَضُ ولحم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ، وأخرجه النسائي برقم 327 ، 328 ، والترمذي برقم 66 ، قال الإمام أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح ، سنن أبي داود [ 1 / 54 ] .(34/203)
والشاهد قوله : ( وما يرد عليه من السباع والدواب ) ولو كانت طاهرة لما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول ذلك ولقال له : إن السباع طاهرة وليست بنجسة .
وذهب الشافعية إلى أن هذه الأشياء طاهرة تمسكاً بالأصل ، لأن الأصل في الأشياء هو الطهارة .
ولما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي تكون بين مكة والمدينة وما يرد إليها من السباع فقال : ( لها ما شربت ببطونها ولنا ما غبر " أي بقى" طهور ) (1) لكن الحديث ضعيف لا يحتج به .
ومع ذلك : فإن الراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني ذلك للأصل الذي تمسكوا به .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للأمة مع كونهم يركبون البغل والحمار ، لم يبين لهم أنها نجسة وأن عرقها الخارج منها نجس وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة ، باب الحِياض ( 519 ) قال : " حدثنا أبو مصعب المدني ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، تردها السباع والكلاب والحُمُر وعن الطهارة منها ، فقال : ( لها ما حمَلَتْ في بطونها ، ولنا ما غَبَر طهورٌ ) ، قال البوصيري : هذا إسناد ضعيف ، عبد الرحمن بن زيد قال فيه الحاكم : روى عن أبيه أحاديث موضوعة . وقال ابن الجوزي : أجمعوا على ضعفه . رواه أبو بكر بن أبي شيبة من قول الحصين ، وضعفه الألباني " من زيادات طبعة بيت الأفكار على سنن ابن ماجه صْ 68 .(34/204)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ورسوله ينهانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ) (1) متفق عليه
فإنها نجسة ميتة ، فلحمها نجس ولا شك أنها إذا ماتت فهي نجسة ولو كانت بذكاة لأن الذكاة لا تغير شيئاً فهي ميتة وأن ذكيت فلحمها نجس .
وهذا لا يدل على أنها نجسة في حال الحياة ، فكم من طاهر في الحياة وهو نجس في الموت ، فالهرة ونحوها هي نجسة في الممات وهي طاهرة في الحياة .
فإن قيل : فما الجواب عما استدلوا من قوله : ( وما يرد إليه من السباع والدواب ) ؟
فالجواب : أن هذا ليس صريحاً في أن النجاسة المسكوت عنها أن ذلك بسبب سؤرها ، بل يكون ورودها مظنة بولها وروثها في هذه المياه ، فلما كان ورودها مظنة ذلك سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فهي غالباً ما يقع شيء من نجاستها في هذه المياه عندما ترد إليها ، فيكون هذا السؤال من هذا السائل كناية عن ذكر بولها وروثها وغير ذلك من نجاستها أي هي ترد عليه فلا يسلم أن يقع فيه شيء من بولها أو غيره وهي أشياء نجسة فهل ينجس الماء بذلك أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) .
وقد ذهب الموفق وبعض الحنابلة كصاحب الإنصاف إلى اختيار القول بطهارة البغل والحمار ؛ للدليل المتقدم وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي .
ومثله – على الراجح – بقية هذه الحيوانات .
فإذن : كل الحيوانات طاهرة إلا الكلب والخنزير فإنها نجسة هذا على الراجح .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب ( 130 ) التكبير عند الحرب رقم ( 2991 ) ، وفي كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، وفي كتاب الذبائح باب لحوم الحمر الأنسية ، ومسلم في كتاب الصيد باب ( 5 ) تحريم أكل لحم الحمر الأنسية ( 1940 ) ، والنسائي باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية ، وابن ماجه في كتاب الذبائح ، باب لحوم الحمر الوحشية ( 3196 ) . سبل السلام [ 1 / 74 ] .(34/205)
فعلى ذلك سباع البهائم والطير كل هذه طاهرة سواء كانت كالهرة فما دون أو كانت أعظم منها خلقة فكلها طاهرة .
وقياس الحمار الأهلي على الهرة أولى من قياس ما دونه في الخلقة لكونه من الطوافين ، فكونه يقاس أولى من أن يقاس
ما دون الهرة في الخلقة لأن العلة منضبطة فيه وليست منضبطة فيما دون الهرة لكونها قد لا تكون من الطوافين علينا .
إذن : الراجح : أن كل الحيوانات طاهرة إلا ما دل الدليل على نجاسته كالكلب والخنزير .
وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية .
مسألة :
حكم المذي والودي :
أما المذي : فإنه نجس اتفاقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه قال : ( يغسل ذكره ويتوضأ ) (1) .
واعلم أن الواجب عند جمهور العلماء الغسل لا النضح وأن النضح لا يجزئ بل يجب أن يغسل ما أصاب ثوبه من المذي غسلاً لا نضحاً .
وعن الإمام أحمد رواية اختارها شيخ الإسلام وهي جواز النضح وإجزاؤه .
لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( توضأ وانضح فرجك ) (2) .
__________
(1) تقدم صْ 30 .
(2) تقدم .(34/206)
وبما ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي بإسناد صحيح من حديث سهل بن حنيف : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( فكيف بما أصاب الثوب منه ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح منه ما أصاب ثوبك منه ) (1) .
فهذا يدل على صحة ما ذهب إليه شيخ الإسلام من أنه يجزئ النضح أي الرش وغمر الماء كما تقدم في نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام .
ويجب غسل الذكر والأنثين لما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يغسل ذكره وأنثييه ) (2)
وأما الودي : فقد أجمع أهل العلم على نجاسته .
فعلى ذلك : يجب غسله لأن الأصل في النجاسات هو الغسل ، فعلى ذلك يجب أن يغسل وليس في حكم المذي في جواز النضح بل يجب غسله لأن هذا هو الأصل في إزالة النجاسات وأن النضح لا يجزئ إلا ما دل الدليل عليه ، وليس هناك دليل ، فعلى ذلك يجب الغسل ولا يجزئ فيه النضح وهو ليس بمعنى المذي .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في المذي يصيب الثوب ( 115 ) قال : " حدثنا هنّاد ، حدثنا عَبْدَة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن عبيد هو ابن السبّاق عن أبيه عن سهل بن حنيف ، قال : كنت ألقى من المذي شدّة وعناء ، فكنت أكثر منه الغسل ، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته عنه ، فقال : إنما يجزئك من ذلك الوضوء ، فقلت : يا رسول الله ، كيف بما يصيب ثوبي منه ، قال : ( يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصاب منه ) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، ولا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق في المذي مثل هذا " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في المذي ( 208 ) قال : " حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، عن هشام بن عروة عن عروة ، أن علي بن أبي طالب قال للمقداد ،وذكر نحو هذا قال ، فسأله المقداد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ليغسل ذكره وأنثييه ) .(34/207)
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثالث والأربعون
( يوم السبت : 1 / 2 / 1415 هـ )
باب الحيض
الحيض : أصله في لغة العرب : السيلان ، ومنه حاض الوادي إذا سال .
أما في الاصطلاح فهو : دم طبيعة وجبلة يرخيه رحم المرأة عند بلوغها في أوقات معتادة وهو دم أسود كأنه محترق كريه الرائحة .
والحيض يترتب على معرفته أبواب كثيرة من أبواب العلم ، من أبواب الطهارة والصلاة والصيام والحج والطلاق وغيرها من الأحكام التي ترتبت على معرفته ، فكان من أهم الأبواب الفقهية .
قال المؤلف رحمه الله : ( لا حيض قبل تسع سنين ، ولا بعد خمسين سنة )
" قبل تسع سنين " : أي قبل تمامها والشروع في العاشرة فإذا لم يتم للمرأة تسع سنين فإن الدم الخارج منها وإن كان فيه علامات الحيض تماماً فلا يحكم بأنه حيض .
فإذا خرج منها دم فإنه يعتبر دم فساد ولا يكون له حكم الحيض ، فحينئذ لا يعطى هذا الدم حكم الحيض بل يكون دم فساد فلا يثبت به البلوغ ، ولا يترتب على هذا الدم أي شيء من أحكام الحيض .
وكذلك لا حيض بعد الخمسين ، فإذا بلغت المرأة الخمسين أي تم لها خمسون سنة ثم أتاها دم كدم الحيض ، فإن هذا الدم ليس بدم حيض .
واستدلوا : على هذه المسألة بالواقع وعدم المعرفة ، وأنه لا يعرف أن امرأة حاضت قبل تسع سنين ولا حاضت بعد خمسين سنة .
لكن هذا الدليل ضعيف إذ عدم العلم ليس معناه العدم فكونك لا تعلم ولم يبلغك العلم بشيء من الأشياء لا يعني أن هذا الشيء معدوم .
فكون هؤلاء الفقهاء لم يبلغهم أن امرأة حاضت قبل تمام التسع أو بعدم تمام الخمسين ، لا يعني أن هذا لم يقع أو أنه لا يقع مطلقاً .
والراجح : ما ذهب إليه شيخ الإسلام في هاتين المسألتين وهو مذهب المالكية والشافعية في المسألة الثانية ، أما في المسألة الأولى فقد وافقوا الحنابلة .(34/208)
فالراجح : أنه لا حد لأقل سن الحيض ولا لأكثره ، بل متى ما رأت الحيض فهي حائض سواء كان ذلك قبل تمام التسع أو كان بعد تمام الخمسين ؛ ذلك لأن هذا الدم دم حيض وهو أذى وقد توفرت فيه صفات الحيض الطبيعي فهو دم قد خرج من رحم المرأة وتوفرت فيه صفات دم الحيض فحينئذ يعطى حكم الحيض ، لعدم الدليل الدال على أنه ليس بحيض .
والأصل أنه ما دام قد خرج من رحم المرأة بصفاته المعتبرة فإنه – حينئذ – دم حيض وكوننا لا نطلق عليه دم حيض ولا نعطيه حكمه هذا يحتاج إلى دليل يدل على ذلك إذ الأصل أنه دم حيض ولا دليل يدل على [ خلاف ] ذلك .
والواقع كون هذا يبلغه شيء وهذا لا يبلغه لا يعني أن يحتج من لم يبلغه هذا الشيء على من بلغه فإن القضية قضية وقوع وكونه لم يبلغ وقوعه من قال بهذه المسألة لا يعني أن الأمر ليس واقعاً حقيقة .
إذن : الراجح ما ذهب إليه شيخ الإسلام في المسألة الأولى وكذلك في المسألة الثانية ، وهو مذهب المالكية والشافعية وأنه لا أقل لسن الحيض - كما أنه لا أكثر له ، بل متى رأت الدم الذي توفر فيه شروط دم الحيض فإنه يجب عليها التكاليف الشرعية وحينئذ : يترتب على هذا الدم الخارج فيها أحكام الحيض تماماً .
قال : ( ولا مع حمل )
فالحيض مع الحمل ليس بمعتبر .
فلو أن امرأة رأت الدم وهي حامل فإن هذا الدم لا حكم له ، وحينئذ يكون دم فساد ، وحينئذ تكون طاهرة وتتوضأ وتصلي لأنه خارج من السبيل ، فحينئذ يكون لها حكم المستحاضة ، أن تحفظ هذا الدم وتتوضأ وتصلي .
إذن : المذهب أن الحامل لا تحيض فإذا خرج منها دم وإن كان كدم الحيض تماماً فليس له حكم الحيض وإنما كحكم دم المستحاضة فحينئذ تتوضأ وتصلي ولا يترتب على هذا الدم شيء من أحكام الحيض مطلقاً وهو مذهب الأحناف .(34/209)
- وذهب المالكية والشافعية : إلى أن الحامل تحيض ، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وهو أن الحامل تحيض ، فمتى ما وقع ذلك فإنه حيض تثبت له الأحكام الشرعية المترتبة على الحيض .
قالوا : لأنه دم خرج من رحمها ، وقد توفرت فيه شروط دم الحيض ، فحينئذ هو حيض ، وله أحكام الحيض وليس هناك دليل يدل على إخراجه عن هذا أي عن كونه حيضاً .
والقول الأول أظهر وعليه الأدلة الشرعية ، منها ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال سبي أوطاس : ( لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض ) (1) فهنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وطء السبايا حتى تستبرأ ، أي حتى يعلم براءة رحمها من الحمل .
فلا توطأ من ثبت حملها وظهر حتى تضع حملها ، ولا توطأ غير ذات حمل أي لم يظهر حملها أي يشك هل هي حامل أم لا – حتى تحيض – فحينئذ يستبرأ رحمها ويعلم بالحيض أنها ليست بحامل .
قالوا : فهذا الدليل يدل على أن الشارع قد جعل الحيض علامة على عدم الحمل ، فإذا ثبت أنه علامة على عدم الحمل فإن هذا يدل على أن الحامل لا تحيض .
إذن : الشارع جعل استبراء غير ذوات الحمل بأن تحيض ليعلم أنها ليست بحامل .
قالوا : ومثله ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : في حقه وقد طلق امرأته وهي حائض : ( ليطلقها طاهراً أو حاملاً ) (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في وطء السبايا ( 2157 ) قال : " حدثنا عمرو بن عون ، أخبرنا شريك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الوَدَّاك ، عن أبي سعيد الخدري ،ورفعه أنه قال في سبايا أوطاس : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق 1471 ، ولم أجده في البخاري بهذا اللفظ .(34/210)
قالوا : فقد قال : ( أو حاملاً ) فدل على أن الحامل لا تحيض لأنها لو كانت تحيض لاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم كونها غير حائض وهذا هو قول عائشة رضى الله عنها كما ثبت ذلك في سنن الدارمي بإسناد صحيح أنها قالت : ( الحبلى لا تحيض فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصلي ) (1) وهذا من باب الاحتياط .
وهذا القول هو الراجح ، فقد دلت الأدلة الشرعية على أن الحامل لا تحيض .
إذن : هذا الدم الخارج وإن توفرت فيه صفات دم الحيض فإنه لا حكم له ، وبه أفتت عائشة ولا يعلم لها مخالف .
* واعلم أن محل الخلاف ، كما قال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن محل الخلاف : فيما إذا رأت الدم وهي حامل يعتاد عليها كما يعتاد عليها وهي ليست بحامل .
بمعنى : يأتيها في الشهر الأول في وقته المعتاد ثم تطهر كما تطهر وهي غير حامل وهكذا في الشهر الثاني والثالث أما مجرد خروج الدم بها وإن كان قد توفرت فيه صفات دم الحيض وهو غير معتاد فإنه لا تعتد به ولا تلتفت إليه ، وإنما تلتفت إليه إذا جاءها على هيئته المعتادة قبل حملها فهذا هو محل البحث .
أما مجرد خروج الدم كأن يخرج منها وليس على وجهه المعتاد فهذا الدم لا يمنعها من الصلاة ونحوها ولا تلتفت إليه بل تحفظ فرجها بشيء وتتوضأ وتصلي لأن له حكم دم الفساد .
وهكذا في كل دم قلنا أنه ليس بدم حيض فإن المرأة تحفظ فرجها بشيء وتحبسه وتتوضأ وتصلي ، وتتوضأ لكل صلاة .
إذن : الراجح ما ذكره الحنابلة من أن الحامل لا تحيض .
__________
(1)
أخبرنا زيد بن يحيى الدمشقي عن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت
إن الحبلى لا تحيض فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصل
سنن الدارمي ، الطهارة ، باب في الحبلى إذا رأت الدم ( 930 ) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي .(34/211)
كما أن هذا هو المعتاد عند النساء في معرفة الحمل وثبوته ، كما قال الإمام أحمد : " إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم " ، فانقطاع الدم دليل على ثبوت الحمل .
قال : ( وأقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً )
هذه مسألة أخرى وهي : ما هي أقل أيام الحيض وأكثرها ؟
هنا قال : إن أقلها يوم وليلة ، فأقل الحيض أربعاً وعشرين ساعة .
وأكثره خمسة عشر يوماً.
ودليلهم على هذه المسألة هو دليلهم على المسألة السابقة وهو الوقوع – وأن أقل مدة علمت في الحيض هي يوم وليلة – وأكثر مدة علمت خمسة عشر يوماً .
لكن هذا الدليل ضعيف .
- لذا ذهب شيخ الإسلام : إلى أنه لا حد لأقله ولا لأكثره ، فلو حاضت ساعة فهو حيض ، ولو حاضت أكثر من خمسة عشر يوماً فهو حيض ما لم يكن استحاضة .
وهذا هو الراجح كما تقدم ، وهذا هو الأصل وأن الدم الذي يخرج من الرحم وهو دم حيض له أحكام الحيض إلا أن يدل على(1) دليل على تحديده ولا دليل على تحديد أقله ولا أكثره ، فحينئذ : نبقى على إطلاق الشارع فقد أطلقه ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
فإذن : الراجح أنه لا تحديد لأقله ولا أكثره .
قال : ( وغالبه ست أو سبع )
__________
(1) كذا في الأصل ، والصواب : عدمها .(34/212)
فغالب الحيض ستة أيام أو سبعة ، ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش : ( تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أبعة وعشرين ليلة بأيامها أو ثلاثة وعشرين ليلة )(1)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب ( 110 ) من قال إذا أقلبت الحيضة تدع الصلاة 287 قال : " حدثنا زهير بن حرب وغيره ، قالا ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة ، عن عمه عمران بن طلحة ، عن أمه حمْنة بنت جحش قالت : كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره ، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش ، فقلت : يا رسول الله ،إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة ، فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصوم ؟ فقال : ( أنعتُ لك الكرسف ، فإنه يذهب الدم ) قالت : هو أكثر من ذلك ، قال : ( فاتخذي ثوباً ) فقالت : هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سآمرك بأمرين ، أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر ، وإن قويت عليها فأنت أعلم ) قال لها : ( إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان ، فتحيَّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي ، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها ، وصومي ، فإن ذلك يجزيك ، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ، ميقات حيضهن وطهرهن ، وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ، فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين : الظهر والعصر ، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين ، فافعلي ، وتغتسلين مع الفجر فافعلي ،وصومي إن قدرت على ذلك ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وهذا أعجب الأمرين إليّ ) . وأخرجه الترمذي برقم 128 ، وابن ماجه برم 622 ، 627 ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والإمام أحمد في المسند 6 / 439 ، سنن أبي داود مع المعالم [ 1 / 201 ] .(34/213)
والعدد يختلف بحسب تحيضها ، فإذا تحيّضتْ 6 فإنها تصلي 24 ، وإن تحيضت 7 فإنها تصلي 23 " فإن ذلك يجزئك ، وكذا فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وتطهرن في ميقات حيضهن وطهرهن ) (1).
والشاهد قوله : " كما تحيض النساء …." وقد قال قبل ذلك " فتحيضي ستة أو سبعة أيام "
قال : ( وأقل الطهر بين حيضتين ثلاثة عشر يوماً )
فلو أن امرأة حاضت ثم طهرت عشرة أيام ثم حاضت ستة أيام ، فإن الثلاثة الأيام الأولى لست بحيض ، بل تتوضأ وتصلي ، والثلاثة الأيام الأخيرة هي الحيض ، ويكون الدم في الثلاثة الأولى دم فساد لا دم حيض .
لأنه لابد أن يكون الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً .
ودليل ذلك ما رواه البخاري معلقاً أن امرأة جاءت إلى علي بن أبي طالب فذكرت أنها قد خرجت من عدتها في شهر أي يعني حاضت ثلاث حيض في شهر ، فقال علي لشريح : " قل فيها ، فقال : إن جاءت ببطانة من أهلها يرضى دينه وأمانته فشهد لها بذلك وإلا فهي كاذبة "(2)
قالوا : وأقل مدة للحيض هي يوم وليلة ، فعلى ذلك هذه المرأة حاضت يوماً وليلة ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً ثم حاضت يوماً وليلة فهذه خمسة عشر يوماً ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً ثم حاضت ثم طهرت فهذه ثلاث حيض .
ولما قال شريح ذلك قال له علي – وهذا موضع الشاهد - : (قالون) وقالون لغة رومية بمعنى جيد .
وهذا مما يدل على أنه لا حرج بأن يتلفظ المتلفظ بالألفاظ الأعجمية أحياناً من غير أن يتخذها على سبيل الدوام أو على سبيل التقليد .
لكن هذا الدليل ليس بظاهر على ما قالوه ، فما المانع أن تكون حاضت ثلاثة أيام ثم طهرت أربعة أيام ثم حاضت أربعة أيام ثم طهرت ، فهذا الدليل ليس بظاهر على ما ذكروه .
لذا الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره شيخ الإسلام : أن المرأة متى أتاها الحيض بعد حيضها الأول فإنه يحكم به وإن كانت المدة أقل من ثلاثة عشر يوماً .
__________
(2) ذكره البخاري بصيغة التمريض ، فتح الباري لابن حجر [ 1 / 505 ] .(34/214)
إذ لا دليل على هذه المدة المذكورة ، فإذا حاضت ثم طهرت ثم أتاها الحيض بعد ذلك فهو حيض قصرت المدة أم طالت فإنها يحكم لها بالحيض لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
وهذا هو ظاهر الأدلة الشرعية من الإطلاق قال تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض }(1) وهذا محيض فترتب عليه الأحكام الشرعية فهو حيض وله صفاته المعتبرة شرعاً فوجب حينئذ أن يحكم على المرأة بالحيض وأن يحكم عليه بأنه دم حيض يمنع المرأة مما يمنعها الأحكام .
فإذن الراجح وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه ليس هناك حد للطهر بين الحيضتين لا قلة ولا كثرة .
فيحتمل أن يكون بين الحيضتين الشهر والثلاثة لا مانع من ذلك ، ويحتمل أن يكون بينهما ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين لا مانع من ذلك .
فعلى ذلك : تكرر الحيض على المرأة في الشهر مرتين أو ثلاث فلا مانع من ذلك ما دام أنه دم أرخاه الرحم طالت مدة الطهر أم قصرت .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والأربعون
( يوم الأحد : 2 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( وتقضي الحائض الصوم لا الصلاة ولا يصحان منها بل يحرمان )
هذه المسألة مما أجمع عليه العلماء ، وأن الحائض يحرم عليها الصلاة والصوم ولا يصحان منها ، ولا تقضي الصلاة وإنما تقضي الصوم .
__________
(1) سورة البقرة .(34/215)
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ) (1) ، وثبت في الصحيحين من حديث معاذة أنها سألت عائشة فقالت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقال : " كنا نحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ( 304 ) عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى ، أو فطر إلى المصلى ، فمرّ على النساء ، فقال : ( يا معشر النساء تصدقن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار ) فقلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : ( تكثرنْ اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازم من إحداكن ) قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ) قلن : بلى ، قال : ( فذلك من نقصان عقلها ) ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ) قلن : بلى ، قال : ( فذلك من نقصان دينها ) ، وانظر ( 1951 ) ، وأخرجه مسلم باختلاف في الحوار رقم ( 80 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة ( 335 ) عن معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : أحرورية أنت ؟ قلتُ : لست بحرورية ، ولكني أسأل ، قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " ، وأخرجه أيضاً بلفظ : " أحرورية أنت ، قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا تؤمر بقضاء " وبلفظ : " أحرورية أنت ؟ قد كن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضن أفأمرهنّ أن يَجْزينَ ؟ " أي يقضين كما قال محمد بن جعفر كما في صحيح مسلم ، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب لا تقضي الحائض الصلاة ( 321 ) بلفظ : حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة : أتجزي إحدانا صلاتها إذا طَهُرت ؟ فقالت : أحرورية أنت ، كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به ، أو قالت : فلا نفعله " . ومعني أَتَجْزي : أي أتقضي .(34/216)
.
والعلة من ذلك : أن الصلاة تكثر فيشق قضاؤها والشريعة قد أتت برفع الحرج عن المكلفين ، بخلاف الصوم فإنه لا يشق قضاؤه فإنما هو شهر من السنة فتفطر فيه ستة أو سبعة أيام أو نحوها ثم تقضي ولا مشقة عليها في ذلك .
ولا يشرع لها أن تقضي الصلاة بل هو بدعة محدث ، فقد تقدم حديث عائشة وقولها : ( كنا نحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) وقول معاذة : ( ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ) فدل على أن الذي كان عليه النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهن يقضين الصوم ولا يقضين الصلاة ، وأن هذا هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
قال : ( ويحرم وطؤها في الفرج ) .
لقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض }(1) والمحيض كالمبيت والمقيل أي محل الحيض وهو الفرج ، فهو محرم أي وطؤها في الفرج وتجب فيه الكفارة .
قال ابن عباس – كما رواه ابن جرير - : " فاعتزلوا نكاح فروجهن " (2) .
فقوله تعالى { فاعتزلوا النساء في المحيض } أي في الفرج لأن المحيض في اللغة هو محل الحيض ، وقد ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) (3) فاستثنى الفرج فدل على تحريمه .
قال : ( فإن فعل فعليه دينار أو نصفه كفارةً )
__________
(1) سورة البقرة .
(3) أخرجه مسلم في نهاية باب جواز غسل الحائض رأس زوجها .. ( 302 ) عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت ، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض ، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } إلى آخر الآية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) ، فبلغ ذلك .. "(34/217)
هذه كفارة وطء الحائض ، فكما أنه يأثم في لو(1) وطئها ، فإن عليه الكفارة ، والكفارة هي دينار أو نصف دينار ، لما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن يأتي امرأته وهي حائض : ( ليصدق بدينار أو نصفه ) (2)
__________
(1) كذا في الأصل .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في إتيان الحائض ( 264 ) قال : " حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن شعبة ، حدثني الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مِقسم عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال : ( يتصدق بدينار أو نصف دينار ) . قال أبو داود : هكذا الرواية الصحيح ، قال : دينار أو نصف دينار ، وربما لم يرفعه شعبة "
ومسدد : هو ابن مسرهد بن مسربل بن مستورد الأسدي البصري أبو الحسن ، ثقة حافظ ، مات سنة ثمان وعشرين ومئتين ، يقال : إنه أول من صنف المسند بالبصرة ، وقيل : اسمه عبد الملك بن عبد العزيز ، ومسدد لقبه " .
يحيى : هو ابن سعيد بن فروخ القطان أو سعيد البصري ، ثقة متقن حافظ إمام قدوة ، مات سنة ثمان وتسعين ومئة .
شعبة : بن الحجاج بن الورد العَتَكي مولاهم ، أبو بسطام الواسطي ثم البصري ، ثقة حافظ متقن ، كان الثوري يقول : هو أمير المؤمنين في الحديث ، مات سنة ستين بعد المئة .
الحكم : بن عُتْبة أبو محمد الكندي الكوفي ثقة ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس ، مات سنة 113 .
عبد الحميد بن عبد الرحمن : بن زيد بن الخطاب العدوي ، أبو عمر المدني ثقة من الرابعة ، توفي بحرّان في خلافة هشام .
مِقسم : بن بُجْرة ، ويقال له مولى ابن عباس للزومه له ، صدوق ، وكان يرسل ، مات سنة 101 ، وما له في البخاري سوى حديث . كما في التقريب .
فالحديث على ذلك إسناده حسن إن سلم من تدليس الحكم ، وإرسال مقسم .
وأخرج برقم ( 266 ) قال : " حدثنا محمد بن الصباح البزاز ، حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مِقْسَم ، عنا بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا وقع الرجل بأهله وهي حائض فليتصدق بنصف دينار ) ، قال أبو داود : وكذا قال علي بن بذيمة عن مقسم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً .(34/218)
فقوله " ليتصدق " خبر بمعنى الأمر ، أي تصدق بدينار أو نصفه .
وظاهر المذهب أنه على التخيير وهي أشهر الروايتين عن الإمام أحمد ، وأنه سواء وطئها أول الحيض أو في آخره أو بعد انقطاع الدم ما لم تغتسل فعليه أن يتصدق بدينار أو نصفه على التخيير .
وذهب قتادة من التابعين : إلى أنه إن وطئها أثناء حيضها فإنه يتصدق بدينار ، وإن وطئها بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال فعليه نصف دينار .
وهذا هو مذهب ابن عباس راوي الحديث المتقدم فقد قال ابن عباس – كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح : ( إذا جامعها في أول الدم فدينار وإذا جامعها بعد انقطاع الدم فنصف دينار ) (1) .
إذن : مذهب ابن عباس هو الأظهر كما تقدم ؛ فإنه هو راوي الحديث ثم إن التخيير في مثل هذا الموضع فيه نظر ، فكونه يخير بينهما إنما محل هذا لو قلنا باستحباب هذه الكفارة ، و إلا فالأصل في الكفارات أن تكون معينة أو منوعة أنواعاً مختلفة .
أما أن تخير بين إطعام عشرة مساكين أو خمسة فإنه لا أصل له في الشريعة .
فالأظهر أن يقال : إنه إن جامعها في أول الدم فإنه يتصدق بدينار ، وإن جامعها بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال فإنه يتصدق بنصف دينار .
وعن الإمام أحمد – وقد يقال إن هذا مذهب ابن عباس وقتادة – : أنه إذا جامعها في أول الدم وعند فورانه فإنه يتصدق بدينار .
وأما إذا جامعها عند تقطعه قبل انقطاعه فعليه نصف دينار – وهي رواية عن الإمام أحمد – .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في إتيان الحائض ( 265 ) قال : " حدثنا عبد السلام بن مطهر ، حدثنا جعفر ، يعني ابن سليمان ، عن علي بن الحكم البناني ، عن أبي الحسن الجزري ، عن مقسم عن ابن عباس قال : ( إذا أصابها في أول الدم فدينار ، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار ) قال أبو داود : وكذلك قال ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم " .(34/219)
ولفظة ابن عباس تحتمل ذلك فقد قال : ( انقطاعه ) أي عند تقطعه، بدليل قوله : ( عند أول الدم ) وهي رواية عن الإمام أحمد كما تقدم ، وهذا فيما يظهر هو الأولى
فيقال : إنه إذا جامعها في أول الدم فعليه دينار وأما إذا جامعها في آخر حيضها عند تقطع الدم وخفته فيتصدق بنصف دينار .
قال : ( ويستمتع منها بما دونه )
أي بما دون الفرج لما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) (1) وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ) (2) .
وثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ) (3) فهذا يدل – وهو مذهب الحنابلة – على أنه له أن يباشرها فيما سوى النكاح فيباشرها مباشرة كاملة سوى الجماع .
- وذهب الأئمة الثلاثة : إلى أنه لا يجوز أن يباشرها فيما بين السرة والركبة .
واستدلوا : بحديث عائشة : ( أن أتزر ) قالوا : والظاهر أن الإزار يغطي الفخذين .
والجواب على هذا أن يقال : إن هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل على تحريم إتيانها دون فرجها ، بدليل قوله : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) لما ثبت في سنن أبي داود أنه كان يلقي على فرج الحائض ثوباً …، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يدع الشيء كراهية له واستقذاراً مع كونه مباحا كما ترك أكل الضب .
__________
(1) تقدم .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب مباشرة الحائض ( 300 ) وانظر ( 2030 ) ، وأخرجه مسلم ( 297 ) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في الرجل يصيب منها ما دون الجماع ( 272 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : كان إذا أراد من الحائض شيئاًَ ألقى على فرجها ثوباً " .(34/220)
فالراجح : مذهب الحنابلة وأنه يجوز أن يباشرها في كل موضع إلا أنه يحرم عليه الجماع أي إتيانها من فرجها ، وهذا هو ظاهر الآية الكريمة ، في قوله تعالى { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض }(1) أي اعتزلوهن في محل الحرث وهو فرجها ، لذا تقدم قول ابن عباس : ( اعتزلوا نكاح فروجهن ) (2) .
قال : ( وإذا انقطع الدم ولم تغتسل لم يبح غير الصيام والطلاق )
إذا انقطع الدم عن المرأة فقد طهرت من الحيض لكنها لم تغتسل .
والغسل واجب على الحائض ، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – للمستحاضة - : ( دعي الصلاة قدر أيام حيضك ثم اغتسلي وصلي ) (3) فالغسل من الحيض واجب باتفاق العلماء كالغسل من الجنابة .
لكن قبل اغتسالها وبعد انقطاع الدم عنها ما الذي يجوز لها ؟
قال هنا : لم يبح غير الصيام والطلاق .
__________
(3) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض ( 325 ) عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال : ( لا ، إن ذلك عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي ) ، وأخرجه مسلم ( 333 ) .(34/221)
فلا يحل سوى الصوم والطلاق ، أما الصوم ؛ فلأن المرأة إذا انقطع دمها فقد طهرت من حيضها وأصبحت كالجنب ، والجنب يصح صومه فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم : ( كان يصبح صائماً وهو جنب ) (1) فالمرأة إذا انقطع دمها قبيل آذان الفجر فيجوز لها أن تنوي وتصوم ، ثم تغتسل بعد آذان الفجر ، لأنه لا يشترط في الصوم الطهارة من الجنابة ، فكذلك الطهارة من الحيض وقد انقطع دمها .
ومثل الصيام الطلاق ، فإنه إنما حرم – أي حرم طلاق المرأة وهي حائض ؛ لأن في ذلك زيادة وتطويلاً في عدتها ، فإذا طلقت وهي حائض انتظرت حتى تطهر ثم استأنفت ثلاث حيض فيكون في ذلك زيادة في عدتها .
أما وقد طهرت من الدم وما بقى إلا فعلها وهو أن تغتسل فإنه لا يكون فيه هذا المعنى ، فحينئذ يجوز طلاق المرأة إذا طهرت من الحيض وإن لم تغتسل كما يجوز صومها .
ولا يستثنى إلا هذين ، فعلى ذلك : الصلاة لا يصح فيها ذلك ؛ لأنها في معنى الجنب ، فكما أن الجنب لا يصح صلاته فكذلك هي .
ولكن الصلاة متعلق بذمتها لأنها يمكنها فعل ما تتمكن به من الصلاة ، فإنها قد طهرت من دم الحيض وما بقى عليها إلا أن تغتسل وتصلي وهذا بإمكانها فهو فعلها المختص بها، بخلاف الطهارة من الحيض فإن هذا ليس فعلاً لها ولا من صنعها .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصوم ، باب اغتسال الصائم ( 1930 ) قالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الفجر في رمضان من غير حلم فيغتسل ويصوم ، وبرقم ( 1931 ) قال الراوي : أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن : كنت أنا وأبي ، فذهبتُ معه حتى دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت : أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان ليصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصومه " ثم دخلنا على أم سلمة فقالت مثل ذلك ، وانظر ( 1926 ) ، وأخرجه مسلم ( 1109 ) .(34/222)
وكذلك مما لم يستثن فيبقى على التحريم : الجماع ، فالمرأة إذا طهرت من الحيض ولم تغتسل فيحرم جماعها .
وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب عامة العلماء : وأن المرأة لا يجوز وطؤها في فرجها إلا إذا تطهرت أي اغتسلت .
وذهب طائفة من العلماء من التابعين كعطاء والأوزاعي وهو مذهب الظاهرية : إلى أنه يجوز وطؤها إذا طهرت فرجها من الدم بالماء .
والخلاف في هذه المسألة يبنى على الخلاف في تفسير الآية المتقدمة – قال تعالى { قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن }(1) أي حتى ينقطع الدم ولم يكتف الله عز وجل بذلك بل قال { فإذا تطهرن } وهذا من فعلهن أي التطهر وتكلف الطهارة فعل لهن ويحصل بها ، بخلاف الطهارة المتقدمة فإنها ليس من صنع المرأة .
فقوله { حتى يطهرن } أي ينقطع الدم وهذا باتفاق العلماء .
لكن بعد انقطاعه قبل الغسل فقد قال : { فإذا تطهرن } فهنا وقع الخلاف في تفسيرها .
- قال الجمهور : أي اغتسلن ، وهو قول مجاهد وهو قول عامة أهل العلم .
واستدلوا : بقوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا }(2) فكما أن الطهارة هي الاغتسال هناك ، فكذلك هنا ، فإن الطهارة هنا مسبوقة بالحيض ، وهناك مسبوقة بالجنابة .
- وذهب بعض العلماء : إلى تفسيرها { فإذا تطهرن } فسروها بغسل الفرج .(34/223)
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين : أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل فقال : ( خذي فِِرْصة " أي قطعة من صوف أي خرقة " من مسك فتطهري بها ، فقالت : كيف أتطهر ؟ فقال : ( تطهري ) فقالت : كيف ؟ فقال : ( سبحان الله تطهري ) فقالت عائشة : فاجتذبتها إلى وقلت : تتبعي أثر الدم ) (1) فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قال " تطهري " وفسرته عائشة رضي الله عنها ، وهذا بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بتتبع أثر الدم .
وهذا القول في الحقيقة فيه قوة ، وهو أن التطهر هو مجرد غسل فرجها ، وكذلك من الأدلة عليه القياس على الجنب ، فإن جماع الجنب يجوز اتفاقاً ، والمرأة التي قد طهرت من دم الحيض وبقي غسلها في حكم الجنب .
والحمد لله رب العلمين .
الدرس الخامس والأربعون
( 3 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( والمبتدأة تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي )
المبتدأة هي : المرأة ترى الدم في زمان يمكن أن يكون هذا الدم حيضاً ولم تكن حاضت قبل ذلك .
وقد تقدم ذكر الخلاف في زمنه ، وعلى المذهب أن تراه بعد شروعها بالسنة العاشرة ، فما حكم هذه المبتدأة ؟
قال : ( تجلس أقله ثم تغتسل وتصلي )
تجلس أقل الحيض وهو يوم وليلة ثم تغتسل وتصلي وإن رأت الدم .
فمثلاً : امرأة حاضت عشرة أيام ، وهذا هو أول دم رأته .
فالحكم : أنها تدع الصلاة يوماً وليلة وكذلك تدع كل ما يدعه الحائض فتعطى في هذا اليوم والليلة حكم الحائض تماماً ثم تغتسل .
قالوا : لأن المتيقن في الحيض أن يكون يوماً وليلة ، فهذا هو التيقن وهنا يحتمل أن يكون الدم ليس بدم حيض ، وإنما دم استحاضة ، فلما كان بذلك أمرناها أن تجلس يوم وليلة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، ، باب دَلْك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض ( 314 ) ، وأخرجه مسلم ( 332 ) .(34/224)
ونحن متى حكمنا بأن تجلس الأيام كلها فإنه يترتب على ذلك براءة ذمتها مما يجب عليها من صلاة ونحوها ، فلما كان كذلك أمرناها بجلوس يوم وليلة ثم بعد ذلك تغتسل وتصلي .
قال : ( فإن انقطع لأكثره فما دونه اغتسلت عند انقطاعه )
إذا انقطع هذا الدم لأكثر الحيض وهو15 يوماً – عندهم – أو قبله ، فإنها تغتسل عند انقطاعه اغتسالاً آخر ، لأنه يحتمل أن يكون حيضاً ، فلما كان كذلك كان من الاحتياط أن تغتسل لاحتمال أن يكون حيضاً .
قال : ( فإن تكرر ثلاثاً فحيض )
إن تكررت المدة التي بلغتها المبتدأة في الشهر الأول والثاني والثالث ، فهذه هي مدة الحيض .
بمعنى : حاضت في الشهر الأول 10 أيام وفي الثاني والثالث كذلك فتكون عادتها عشرة أيام .
فإن لم تكن الأيام متساوية بأن كان أحد الأشهر خمسة والآخر أربعة والثالث ثلاثة ، فيحكم بالأقل لأنه قد تكرر ، فإن الأربعة متضمنة لتكرار الثلاثة ، وكذلك الخمسة فإنها متضمنة للثلاثة .
فإذا كانت المدة متساوية في الشهر الأول والثاني والثالث فإننا نحكم بها في الشهر الرابع ؛ لأننا قد تيقنا أن هذه عادتها .
مثال : إن كانت المدة في الشهر الأول 8 وفي الثاني 8 وفي الثالث 6 ، فإننا نحكم بستة ، فإن كان في الشهر الرابع 8 ، فإننا نحكم بالعدد ثمانية ، فنحكم بما تكرر ؛ لأنه إعادة للعادة .
هذا هو المذهب .
والصحيح خلاف ذلك ، وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام وهو : أن كل الدم الذي يخرج من رحم المرأة أنه دم حيض ، فهذا هو الأصل ، فالأصل أن ما يخرج من رحمها حيض .
فإذا ابتدأت المرأة فإنها تجلس الأيام كلها التي خرج فيها الدم منها .
بمعنى : ابتدأت بعشرة أيام فإنها تجلس هذه العشرة كلها ؛ لأن هذا دم خرج من رحمها ، والأصل في الدم الخارج من الرحم أن يكون حيضاً ؛ لأن الأصل هو ذاك ، وليس الأصل أن يكون استحاضة ، بدليل أن الاستحاضة دم مرض ، بخلاف الحيض فإنه دم طبيعة وجبلة ، والمرض طارئ ليس بأصل .(34/225)
فالراجح : أنها لا تمكث يوم وليلة بل تمكث بقدر خروج الدم منها ، وهذا هو الذي عليه عمل النساء .
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر من ابتدأت في عصره بأن تجلس يوم وليلة عن الصلاة ونحوها ، بل أطلق ، وكذلك أطلق القرآن ، وظاهر إطلاق القرآن وإطلاق السنة ظاهر ذلك أنها تمكث مدة خروج الدم .
ثم إن هذا التحديد بيوم وليلة يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأن أقل الحيض يوم وليلة ، وقد ذكر شيخ الإسلام : أن المحدثين قد اتفقوا على أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد في ذلك .
فالراجح : أنها لا تمكث يوماً وليلة بل تمكث قدر أيام خروج الدم منها كلها ، ولا تكتفي بالمكث يوماً وليلة .
ثم إن هذا التكرار لا دليل عليه ، فإن الحكم معلق وجوداً وعدماً بخروج الدم .
إذن هذه المسألة مرجوحة ، والراجح فيها ما ذهب إليه شيخ الإسلام .
أما مذهب جمهور أهل العلم فإنهم ذهبوا إلى قريب من قول شيخ الإسلام ، فإنهم قالوا : تمكث أكثر الحيض .
لكن تقدم أن الراجح أنه لأحد لأكثر الحيض ولا لأقله .
قال : ( وتقضي ما وجب فيه )
وهذا مما يدل على ضعف هذا القول ، أنهم يوجبون عليها قضاء ما فعلته في حال حيضها.
فمثلاً : امرأة ابتدأت بعشرة أيام ، فعلى المذهب يجب أن تمكث يوماً وليلة ثم تغتسل وتصلي وتصوم ، فإذا ثبت لها بعد ثلاثة أشهر أن حيضها عشرة أيام ، فيجب عليها أن تقضي صوم هذه الأيام التي صامتها ، بخلاف الصلاة فإنها لا يجب قضاؤها .
وهذا مما يضعف هذا القول ، فإنه لا يؤمر بأن يفعل الشيء مرتين ، كما نهي أن تصلي الصلاة مرتين وكذلك غيرها .
فالراجح مذهب شيخ الإسلام كما تقدم .
قال : ( وإن عبر أكثره فمستحاضة )
يعني : امرأة ابتدأت بعشرين يوماً مثلاً ، فإنها قد تجاوزت أكثر الحيض على المذهب ؛ لأن أكثره 15 يوماً ، فإذا جاوز أكثر الحيض فيثبت أنها مستحاضة .
والراجح أنها لا تحديد لأكثره ، لكن هذا على تقرير المذهب .(34/226)
ونحتاج أن نميز دم الحيض عن دم الاستحاضة ، لأن الدم الخارج من المستحاضة منه ما هو حيض ومنه ما هو مستحاضة.
والاستحاضة هي : سيلان الدم من أدنى الرحم من عرق يقال له " العازل " فهو دم عرق لا دم حيض ، بمعنى عرق ينفجر على المرأة في أدنى رحمها .
وهو دم أحمر يخالف لونه لون دم الحيض ، فإن دم الحيض أسود وهو كذلك دم رقيق بخلاف دم الحيض فإنه ثخين .
وهو دم رائحته طبيعية أي كرائحة سائر الدم ، بخلاف دم الحيض فإنه دم كريه الرائحة .
وهو دم يمكن أن يتجمد على الجسد بخلاف دم الحيض فإنه لا يتجمد كتجمده قبل ذلك في رحمها .
هذه من مميزات دم الحيض عن دم الاستحاضة فهو دم أحمر رقيق ليست رائحته بكريهة ويمكن تجمده .
قال : ( وإن كان بعض دمها أحمر وبعضه أسود ولم يعبر أكثره لم ينقص عن أقله فهو حيضها )
هذا نوع من أنواع التميز ، فدم الاستحاضة دم أحمر ، ودم الحيض دم أسود .
فهنا الدم قد تجاوز بمجموعه 15 يوماً ، لكن بعضه أحمر وبعضه أسود .
والأسود لم يتجاوز خمسة عشر يوماً ولم يقل عن يوم وليلة - وهذا على القول المرجوح - .
فعليها أن تجلس أيام خروج هذا الدم الأسود ، وقعت(1) - تجلس - في هذا الباب أن تدع الصلاة ونحوها مما تمنع عنه الحائض ، فإذا انقطع الدم الأسود ، وبدأ الدم الأحمر فإنها تغتسل وتصلي ، وتتوضأ لكل صلاة .
ودليل على هذه المسألة حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني امرأة استحاض فلا أطهر أفادع الصلاة فقال : ( لا إنما ذلك عرق وليس بالحيض فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) (2) .
وقد دلت الأدلة الشرعية على وجوب الوضوء عليها لكل صلاة .
__________
(1) كذا في الأصل ، أو كلمة نحوها ، ولعلها : قعدت .
(2) متفق عليه ، وقد تقدم نحوه .(34/227)
وقد ثبت هذا الحديث في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي بإسناد صحيح – وفي بعض روايات هذا الحديث - : ( إذا كان الحيض فإنه أسود يعرِف ) أي له رائحة كريهة ، وضبطت " العرَف " بفتح الراء ، أي تعرفه النساء ( فأمسكي عن الصلاة وإذا كان الآخر فتوضئ وصلي ) (1)
إذن هذا في حكم المبتدأة المميزة التي يمكنها أن تميز الدم هل هو دم حيض أم دم استحاضة .
فإن كانت هذه المبتدأة تميز الدمين بعضهما عن الآخر فإنها تجلس أيام الحيض .
ومتى انقطع الدم الأسود فإنها تغتسل وتصلي وتتوضأ لكل صلاة مع خروج هذا الدم .
وكذلك إذا عرفت دم الحيض من دم الاستحاضة بأي علامة أخرى ، كالثخانة أو الرائحة الكريهة أو غيرها من المميزات .
قال : ( وإن لم يكن دمها متميزاً جلست غالب الحيض من كل شهر )
يعني : امرأة ثبت أنها مستحاضة وليس عندها تميز للدم أو الدم الذي يخرج منها دم مخلط في هذه الفترة لا يمكن تميز الحيض عن الاستحاضة .
فالحكم أنها تجلس غالب الحيض ، وقد تقدم أن غالبه ست أو سبع ، كما تقدم في حديث حمنة بنت جحش : ( تحيض ستة أيام أو سبعة أيام – إلى أن قال : ( كما تحيض النساء ويطهرن في ميقات حيضهن وطهرهن ) (2)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة ( 286 ) قال : " حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن محمد - يعني ابن عمرو - قال : حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا كان دم الحيضة ، فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر ، فتوضئي وصلي ، فإنما هو عرق ) . وأخرجه أيضاً في باب من قال توضأ لكل صلاة من كتاب الطهارة ، بنفس السند واللفظ دون قوله ( فإنما هو عرق )
(2) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وقد تقدم صْ 158 .(34/228)
فإن قيل : هل هذا على التخيير والتشهي أم إلى الاجتهاد ؟
فالجواب : إنه ليس على التخيير والتشهي ، وإنما ذلك راجع إلى الاجتهاد ، فتجتهد وتختار ستة أو سبعة أيام بناء على التحري والنظر ، فتنظر إلى ما يظن أن يكون عادتها ستة أو سبعة ، فتنظر إلى عادة نسائها أمها وأخواتها ونحو ذلك فتحكم على نفسها .
فحينئذ : تمكث ستة أيام أو سبعة على الاجتهاد ثم تغتسل وتصلي .
فإن قيل : متى يكون تحيضها في أول الشهر أم آخره ؟
فالجواب : أنه يكون في أول الشهر كما ورد في الحديث المتقدم وفيه : ( تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام وصلي أربعة وعشرين يوماً أو ثلاثاً وعشرين يوماً ) فتحيض في أوله .
وحينئذ : ينظر إن كانت تعرف أول يوم خرج الدم فيه فإنه تبدأ منه .
فإذا لم تعرف ذلك فإنها تبدأ من أول الشهر الهلالي .
إذن : المبتدأة : إما أن تكون مميزة أو لا .
فإن كانت مميزة فإنها تجلس متى تعرف أنه دم حيض ، وتغتسل وتصلي فيما تعرف أنه دم استحاضة وتتوضأ لكل صلاة .
أما إذا كان دمها لا يتميز أو هي ليست بمميزة فإنها تمكث ستة أيام أو سبعة أيام من بداية نزول الدم معها من كل شهر ، فإن لم تذكر ذلك فإنها تبدأه من أول الشهر الهلالي ، لأن الاستحاضة تمكث في المرأة الشهر كله أو غالبه فلا تنقطع عنها إلا زمناً يسيراً اليوم واليومين .
والحمد لله رب العالمين
الدرس السادس والأربعون
( يوم الثلاثاء : 4 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( والمستحاضة المعتادة ولو مميزة تجلس عادتها )
المستحاضة هي : التي أصيبت بالاستحاضة وهي - كما تقدم - : سيلان الدم من أدنى الرحم من عرق يقال له : العاذل ويكون ذلك في الشهر كله أو غالبه .
فقد تقدم الحكم في المستحاضة المبتدأة التي لم يسبق لها عادة ، والعادة هي خروج دم الحيض ، وسميت عادة لكونها تعود في كل شهر .(34/229)
وهنا المستحاضة المعتادة وهي التي أصيبت بالاستحاضة لكنها مسبوقة – أي الاستحاضة – بعادة ، فكانت تحيض مثلاً ستة أيام أو سبعة أيام في كل شهر ثم بعد ذلك أصيبت بالاستحاضة – وهذه أنواع :
منها : أن تكون غير مميزة أي لا تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة .
أن تكون مميزة – تميز دم الحيض عن دم الاستحاضة – .
فالمستحاضة المعتادة سواء كانت مميزة أو غير مميزة حكمها قال :
( والمستحاضة المعتادة ولو مميزة ) لكي يدخل النوعان ( تجلس عادتها ) .
فإنها تجلس عادتها فإذا كانت عادتها السابقة 10 أيام فإنها تجلس عشرة أيام وهكذا .
أما إذا كانت غير مميزة فهذا لا إشكال فيه .
لكن الإشكال في المميزة ، فيقال : كيف تجلس عشرة أيام ، وقد تكون هذه العشرة أيام توافق الدم الأحمر ، لأنها عندما تستحاض المرأة قد يضطرب حيضها فيكون في أول الشهر – مثلاً – بعد أن كان في آخره ، ويكون – مثلاً – ستة بعد أن كان سبعة أو بالعكس ونحو ذلك مما يحدث من الاضطراب بسبب الاستحاضة .
فلماذا لا يقال : إنها ترجع إلى التمييز ؟
وقد قال المصنف : ( ولو ) إشارة إلى خلاف .
قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في حديث حمنة بنت جحش(1) - : ( دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي ) (2) ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم منها هل هي مميزة أو غير مميزة مع أنه احتمال كبير أن تكون مميزة .
والقاعدة : أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال .
__________
(1) كذا في الأصل ولعل الصواب : فاطمة بنت أبي حُبيش كما في البخاري .
(2) تقدم أنه أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ، فقال : ( لا ، إن ذلك عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي ) ، وأخرجه مسلم ( 333 ) .(34/230)
أي يكون الحكم شاملاً للنوعين كليهما .
فهنا يحتمل أن تكون مميزة ، ويحتمل ألا تكون مميزة، فلما لم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم دل على دخول هذين النوعين كليهما في العموم ، فدل على أن المرأة التي سبق لها حيض أنها تجلس عادتها وإن كانت مميزة .
فعلى ذلك : لنفرض أنها كانت تحيض عشرة أيام من أول كل شهر هلالي ، ثم استحيضت فإنها تمكثها من كل شهر ولو كان الدم معها متميزاً على أنه دم استحاضة بلونه أو رائحته أو نحو ذلك .
قالوا : والعلة من ذلك أنه أضبط ، لأن دم الحيض قد لا يكون منضبطاً ، فتارة يكون في أول الشهر وتارة في وسطه وتارة في آخره ، وتارة يكون ستة أيام وتارة سبعة ، فيلحق المرأة المشقة في متابعة التمييز ، فإنه لا يكون ثابتاً فأحياناً يكون على حالة وأحياناً يكون على حالة أخرى ، ولها عادة سابقة فحينئذ ترجع إليها ، والمشقة تجلب التيسير .
قال : ( وإن نسيتها عملت بالتمييز الصالح )
إذن : هي مستحاضة معتادة لكنها نسيت عادتها .
فحينئذ : تعمل بالتمييز الصالح ، والمراد به - أي الصالح لأن يكون حيضاً – ألا يكون أقل من يوم وليلة ولا أكثر من خمسة عشر يوماً – وهذا على المذهب - ، والراجح عدم تحديده بأقل ولا أكثر .
فإذن : إذا نسيت عادتها عملت بالتمييز الصالح ، فمثلاً رأت أن الدم أحمر في الشهر كله سوى يومين فإنه أسود فحينئذ : تجلس هذين اليومين ، لأنهما أكثر من أقل الحيض وهما يوم وليلة.
وإذا كان الدم الأسود خمسة عشر يوماً فإنها تجلسها لأنه تمييز صالح .
أما إذا لم يكن كذلك : كأن يكون – أي الدم الأسود – ساعات يسيرة أو بعض يوم أو أكثر من خمسة عشر يوماً فإن له حكماً آخر سيأتي ، فلا ينطبق عليه هذا الحكم .
إذن : إنما ينطبق عليه هذا الحكم بشرطين :
الأول : أن يكون لها تمييز .
الثاني : أن يكون التمييز صالحاً .(34/231)
وإلا فإنه ليس بتمييز صالح أن يحكم به عليه بأنه دم حيض ، وهذا كله على تقرير المذهب ، وإلا فالراجح خلاف ذلك .
وعلى الراجح : فإنها تمكث مدة خروج الدم الذي ميزته ورأت أنه دم حيض سواء كان أقل من يوم وليلة أو أكثر من 15 يوم .
ودليل التمييز : حديث فاطمة بنت أبي حبيش – الذي رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : ( إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يُعرف فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق ) (1) فهذا الحديث يدل على الإرجاع إلى التمييز ، ومحل هذا حيث كانت ناسية .
وقد ذكر الإمام أحمد : أنها – أي فاطمة – كانت كبيرة فيحتمل عليها النسيان ، وعلى أنها كانت لها عادة فنسيتها جميعاً بين الأحاديث .
قال : ( فإن لم يكن لها تمييز فغالب الحيض )
يعني : امرأة مستحاضة كانت لها عادة سابقة فنسيتها ولا يمكنها أن تميز ، فإنها تجلس غالب الحيض وهو 6 أو 7 أيام ، كما تقدم في حديث حمنة بنت جحش وفيه : أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ( تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله – إلى أن قال – كما تحيض النساء ويطهرن في ميقات حيضهن وطهرهن ) (2) فهذا الحديث يدل على أن غالب مدة الحيض ستة أيام أو سبعة ، وهذه المرأة ليس لها عادة يمكن أن ترجع إليها ، وليس لها تمييز .
فحينئذ : ترجع إلى غالب عادة النساء وقد تقدم أن هذا التخيير ليس على التشهي وإنما على الاجتهاد ، فتجتهد وتبني حكمها بالنظر إلى نسائها وقريباتها ، فالمقصود أنها تتحرى وتجتهد وتقرر ستة أيام أو سبعة .
قال : ( كالعالمة بموضعه الناسية لعدده )
كذلك من كانت عالمة بموضعه ناسية لعدده ، أي تعلم أن حيضها في أول الشهر لكنها لا تعلم عدده ، فهي نسيت العادة لكن ليس نسياناً مجملاً وإنما تذكر موضعه لكن نسيت عدده .
__________
(1) تقدم صْ 169 ، وقد أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما .
(2) تقدم صْ 158 ، وقد أخرجه أحمد وأبو داود .(34/232)
فحكمها : أنه يكون تحيضها في نفس الموضع الذي تذكره ، ولكن العدد ستة أو سبع أيام على الاجتهاد .
قال : ( وإن علمت عدده ونسيت موضعه من الشهر ولو في نصفه جلست من أوله كمن لا عادة لها ولا تمييز )
هذه عكس المسألة السابقة .
فهي تعلم العدد ، ولنفرض أنه عشرة أيام لكنها نسيت موضعه فلا تدري في أول الشهر أو في أوسطه أو في آخره .
فحينئذ : يجب إرجاعها إلى العادة السابقة كما تقدم ، ولكن الإشكال أنها نسيت موضعه من الشهر .
( ولو في نصفه ) : يعني لو قالت : أنا أذكر إني أحيض في نصف الشهر لكن لا أدري أي يوم بالتحديد ، أو قالت : في آخر الشهر لكن لا أدري أي يوم بالتحديد فإنها حينئذ : يكون لها نفس الحكم ، لذا قال :
( جلست من أوله )
إذن : تجلس في أول كل شهر هلالي .
إذن : امرأة تذكر العدد لكنها نسيت الموضع ، سواء نسيته تماماً ، أو كانت تذكر أنه في وسط الشهر من غير تحديد فإنها تجلس من أول الشهر الهلالي .
وقوله : ( ولو في نصفه ) : يشير إلى خلاف عند الحنابلة ، فقد ذهب بعض الحنابلة : إلى أنها تتحرى فإذا كانت مثلاً : تذكر أنه في وسط الشهر لكن من غير تحديد ، فإنها تتحرى ويكون إلى أقرب وقت كانت تحيض فيه .
فحينئذ : يكون حيضها من أول نصف أوسط الشهر ، فحينئذ : تبدأ من اليوم الحادي عشر ، وإذا كانت في آخره فيقال : تبدأ من الحادي والعشرين وهكذا ، وهذا القول هو الأرجح ؛ لأن هذا التحديد أقرب من الرجوع إلى أول الشهر .
إذن : الراجح أنها تتحرى الموضع فيقع فيه حيضها كما تقدم .
فإذا قالت : في أول الشهر لكن لا أدري بالتحديد فيقال لها : ليكن حيضك من أول الشهر ، وهكذا أوسط الشهر وآخره .
قوله : ( كمن لا عادة لها ولا تمييز )
وهي المبتدأة ، فقد تقدم أنها – إن كانت لا تذكر بداية خروج الدم منها فإنها تبدأ من أول الشهر الهلالي - .
وهذا القول هو الراجح إلا إذا أمكنها التحري فيجب العمل به لكونه أقرب إلى عادتها .(34/233)
والحمد لله رب العالمين
الدرس السابع والأربعون
( يوم الأربعاء : 5 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ومن زادت عادتها أو تقدمت أو تأخرت فما تكرر ثلاثاً فهو حيض )
" من زادت عادتها " : كأن تكون عادتها في الأصل خمسة أيام ، فزادت إلى ستة أيام أو سبعة أو أكثر .
" أو تأخرت " : كأن تكون تأتيها في أول الشهر فأتتها في آخره .
" أو تقدمت " : كأن تكون تأتيها في آخر الشهر فأتتها في أوله .
فما الحكم ؟
قال هنا : ( فما تكرر ثلاثاً فهو حيض )
فإذن هذه المسائل كلها لا يحكم عليها بأنها حيض حتى يتكرر ثلاثاً .
فمثلاً في المسألة الأولى : إذا كان حيضها خمسة أيام فزاد إلى سبعة أيام ، ففي الشهر الأول الذي رأت فيه حيضها سبعة أيام ، لا تمكث إلا خمسة أيام ثم تغتسل وتصلي وتتوضأ لكل صلاة ، وفي الشهر الثاني كذلك ، وفي الشهر الثالث كذلك ، فإذا جاء الشهر الرابع والعادة سبعة أيام فحينئذ : تمكث هذه السبعة أيام كلها وتقضي ما وجب عليها في هذه الأيام التي قامت فيها بواجبات لا تصح من الحائض ، فإذا صامت في اليومين الزائدين فإنها تقضيهما لأنهما من أيام الحيض ، كما تقدم في المسألة السابقة .
وقد تقدم النظر في تلك المسألة ، فكذلك هذه المسألة .
فالراجح فيها – ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية واختارها بعض الحنابلة ، واختارها شيخ الإسلام – الراجح أن ذلك كله حيض ، وأن هذه الزيادة يكون لها حكم الحيض مطلقاً من غير اشتراط تكرار .
وهذا القول تدل عليه عمومات النصوص الشرعية ، كقوله تعالى { قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض }(1) فأطلق الله عز وجل ، فمتى رأت المرأة دم الحيض سواء في وقت عادتها الأصلي أو زائداً عليها ، أو متقدماً أو متأخراً فإنها يجب عليها أن تمكثه وتجلسه ، لأنه دم حيض ، كما قال تعالى : { قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض }
قال : ( وما نقص عن العادة طهر )
__________
(1) سورة البقرة .(34/234)
هذه الصورة الرابعة ، لأن الصور المتصورة أربع : إما تقدم أو تأخر ، وإما زيادة أو نقص ، فتقدمت صور ثلاث وهنا صورة النقص ، فما نقص عن العادة فهو طهر .
فمثلاً : امرأة عادتها سبعة أيام فنقص إلى خمسة أيام ، فطهرت بعد خمسة أيام ، فهل تمكث هذين اليومين أم لا ؟
الجواب : لا ، لأنها قد رأت علامة الطهر ، وقد قال تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } وهذه قد طهرت .
فإذن : إذا مضت عليها خمسة أيام من عادتها ثم طهرت فإنها تغتسل وتكون في حكم الطاهرات .
قال : ( وما عاد فيها جلسته )
يعني : امرأة عادتها عشرة أيام ، فمرت خمسة أيام فرأت الطهر فإنها – كما تقدم تغتسل وتصلي ، فانقطع عنها يومين أو ثلاثة ثم عاد إليها في وقت عادتها الأصلي ، فالحكم قال ( جلسته ) ، فتجلس هذه الأيام .
وهذا مشكل على مذهبهم ؛ لأنهم يرون أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً ، وهذه أقل من ثلاثة عشر .
لكنهم يقولون : إنهما في حكم الحيضة الواحدة ، وهي ما يسمى بمسألة " التلفيق " وهي – على هذا المذهب – أن تكون الأيام المشتملة على الحيض والطهر مجموعها لا تزيد على أكثر الحيض ، فإذا كان مجموعهما عشرة أيام أو خمسة عشر فنعم ، أما ستة عشر يوماً فأكثر فلا .
فحينئذ : تكون هذان الحيضان وما بينهما من الطهر في حكم الحيضة الواحدة ، وهذه مسألة التلفيق ما لم يتعد أكثر الحيض .
إذن : ما عاد منه جلسته ، وهذا القول راجح واضح ، إلا ما سيأتي من البحث في مسألة النقاء في الحيض .
لكن على – القول الراجح في حد الطهر – وهو أنه ليس له حد مقدر ، بل قد يكون ما بين الحيضين يوم وليلة أو يومان أو أكثر أو أقل .
قال : ( والصفرة والكدرة في زمن العادة حيض )(34/235)
لما روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن أم عطية قالت : ( كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً ) (1) وأصله في البخاري(2) : بدون قوله : ( بعد الطهر ) .
والصفرة هي : كالصديد يعلوه صفرة .
وأما الكدرة فهي شبيهة بالماء العكر الوسخ .
فالصفرة والكدرة إن كانتا في أثناء الحيض أو أثناء مدة الحيض فإنهما من الحيض .
وأما إن كانتا بعد الطهر من الحيض فإنهما ليسا بشيء .
فالصفرة والكدرة إذا استقلتا عن الحيض فلا حكم لهما ؛ لأنهما ليسا بدم ، بل يثبتان تبعاً ، وأما إذا كانتا أثناء الحيض فإنهما يكونان بحكمه .
قال : ( ومن رأت يوماً دماً ويوماً نقاءً فالدم حيض والنقاء طهر ما لم يعبر لأكثره ) .
وقوله : " يوماً " ليس للتحديد وإنما للتمثيل ، وإلا فقد يكون أقل من يوم أو أكثر منه وإلا فالضابط فيه أن يكون هذا الوقت يتسع لعبادة من العبادات الشرعية .
فمثلاً : امرأة عادتها سبعة أيام فأصبحت ترى يوماً دماً ويوماً نقاء ، فالدم حيض ، والنقاء طهر .
ففي هذا المثال : الدم في أثناء هذه المدة يخرج منها إلا أنه يتوقف عنها في بعض الأيام بحيث يمكنها في وقت الانقطاع أن تعبد الله بعبادة من العبادات الواجبة ، فيمكنها أن تغتسل وتصلي .
فمثلاً : انقطع عنها الدم فنأمرها بالاغتسال ثم الصلاة ، ومثلاً : طهرت قبل الفجر فإنها تنوي وتصوم ذلك اليوم وإن عاد إليها الدم بعد غروب الشمس .
إذن : النقاء المتخلل لعادتها طهر ، فيجب عليها أن تغتسل فيه وأن تصلي – هذا هو المذهب – .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب في المرأة ترى الكُدْرة والصفرة بعد الطهر ( 307 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، أخبرنا حماد ، عن قتادة ، عن أم الهذيل ، عن أم عطية ، وكان بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : " كان لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً ) .
(2) أخرجه البخار يفي كتاب الحيض ، باب الصفرة والكدرة .(34/236)
وهذا القول ضعيف ، لأنه من عادة الدم أن يتجزأ وأن يتقطع ، وفي إلزامها بهذا الحكم المتقدم مشقة وحرج إذ قد يتخلل عادتها عدة اغتسالات .
ثم إن هذا الانقطاع في الحقيقة أمر طبيعي ، و النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر النساء – مع وجود هذا الأمر الطبيعي – لم يأمرهن أن يغتسلن فيه ويصلين فهذا أمر طبيعي يحدث للنساء .
وهذا هو مذهب أكثر الفقهاء وهو اختيار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد – وهذا القول هو الراجح الذي لا يسع النساء إلا هو – وإلا ففي القول المتقدم مشقة وحرج إذ أن من طبيعة الدم التوقف .
فالراجح : أنها لا تطهر حتى يثبت لها شيئان :
الأمر الأول : القصة البيضاء وهي : سائل أبيض يخرج من المرأة علامة لطهرها .
وقد روى البخاري معلقاً : أن النساء كن يبعثن إلى عائشة بالدُرجة " الخرقة " فيها الكرسف " القطن " فيه الصفرة فتقول : ( لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ) (1)
والعلامة الثانية : أن ينقطع عنها الدم بحيث إذا وضعت القطن أو نحوه لا يخرج صفرة أو كدرة ، ويكون ذلك آخر عادتها .
لأن بعض النساء لا يرين القصة البيضاء فعلامته انتهائه : انقطاع الدم في آخر عادتها .
فإذا وقع أحد الأمرين فإنها يجب عليها أن تغتسل وتكون في حكم الطاهرات .
وقوله : ( ما لم يعبر أكثره )
هذه تدخل فيها المسألة السابقة وهي مسألة التلفيق .
يعني : قد يشكل فيقال : إن هذا الطهر أقل من ثلاثة عشر يوماً التي هي أقل الطهر بين الحيضين !
فالجواب : إنها بمجموعها في حكم الحيضة الواحدة ، لذا قال : ( ما لم يعبر أكثره )
فإذا كان مجموع النقاء والطهر يتجاوز أكثر الحيض ، كأن يمضي عليها 18 يوماً ، يوماً نقاء ، ويوماً دم ، فتكون هذه الأيام الزائدة عن أكثر الحيض في حكم الاستحاضة – هذا على المذهب –
قال : ( والمستحاضة ونحوها تغسل فرجها وتعصبه )
__________
(1) ذكره البخاري في باب ( 19 ) إقبال المحيض وإدباره ، من كتاب الحيض .(34/237)
( ونحوها ) مما به سلس بول ونحوه من الأحداث المتجددة .
( تغسل فرجها ) لأن الدم نجس فيجب غسله لنجاسته ، وكذلك من به سلس بول لأن البول نجس فيجب غسله .
قال : ( وتعصبه ) بخرقة أو نحوها لئلا يخرج ، فتضع على فرجها عصابة تحفظ الدم من الخروج .
يدل على ذلك ، ما روى أبو داود والترمذي وهذا لفظه من حديث حمنة بنت جحش أنها شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الدم فقال : ( أنعت لكِ " أي أصف " الكرسف فإنه يذهب الدم ) فقالت : إنه أكثر من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فتلجمي ) أي ضعي خرقة شبيهة بلجام الفرس الذي يوضع عليه (1) ليكون ذلك حافظاً لخروج الدم .
إذن يجب عليها حفظ دمها من الخروج ، بحيث لا تتضرر ، أما إذا كان هذا الحبس يلحقها بالضرر فلا يجب إذ لا ضرر ولا ضرار .
قال : ( وتتوضأ لوقت كل صلاة )
كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة : ( وتتوضأ لكل صلاة ) (2)
وهكذا من به سلس بول ونحوه من الأحداث المتجددة وتصلي فرضاً ونفلاً .
فمثلاً : تتوضأ لصلاة الظهر وتصلي بهذا الوضوء نوافلها وما يلحقها من العبادات التطوعية .
وهذا باتفاق أهل العلم وأنها تصلي بالوضوء الفرائض والنوافل .
هل تُصلي به الصلاة المقضية ؟
بمعنى : امرأة توضأت لصلاة الظهر ، فهل لها أن تصلي بهذا الوضوء صلاة فائتة أم لا ؟
ومحل هذا حيث خرج الدم ، أما إذا توضأت فلم يخرج الدم فهي على وضوئها .
بمعنى : امرأة توضأت فلم يخرج الدم فإنه لا ينتقض وضوؤها فلها أن تصلي فيه ما لم يخرج الدم .
لكن محل هذا حيث خرج الدم بعد وضوئها فهل تصلي فيه الصلاة المقضية أم لا ؟
مذهب جمهور أهل العلم : أن لها أن تصلي الصلاة المقضية بهذا الوضوء .
وذهب الشافعية : إلى أنها لا يجوز لها أن تصلي بهذا الوضوء الصلاة المقضية .
__________
(1) تقدم صْ 158 .
(2) قال في البلوغ : " وللبخاري ( ثم توضئي لكل صلاة ) وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً " صْ 27 .(34/238)
وهذا القول أظهر ؛ لموافقته لظاهر الحديث ( توضئ لكل صلاة ) (1) .
ولولا المشقة وإجماع أهل العلم لقلنا بوجوب الوضوء للنوافل لقوله : ( لكل صلاة ) .
أما المشقة هنا – أي في الصلاة المقضية – فهي منتفية ولا إجماع بل الخلاف فيها ثابت .
أما الصلاة المجموعة فإنها يكفيها الوضوء الواحد ، لأن وقتهما واحد .
وقد يقال : بأنها يجب عليها أن تصلي الصلاة المجموعة بوضوء آخر .
لكن لكون الصلاتين أحدهما متصلة بالأخرى وهذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو المشروع .
فالراجح : أن يقال : إنها تكتفي بالوضوء الذي توضأته للصلاة الأولى ، والعلم عند الله .
قال : ( ولا توطأ إلا مع خوف العنت )
يعني : إذا خشي أن يقع في الزنا أو نحوه فإنه يجوز أن يطأها .
فعلى ذلك : المستحاضة لا يجوز وطؤها على المذهب .
قالوا : قياساً على الحائض .
ودم الاستحاضة دم نجس فوجب أن يجتنب وألا يباشر.
ومذهب أكثر الفقهاء : أنه يجوز أن توطأ ، وهذا هو الراجح ؛ لأن القياس قياس مع الفارق ، والفارق هو : أن المستحاضة تصلي وتصوم وتفعل ما لا تفعله الحائض من الأحكام الشرعية ولا تمنع مما تمنع منه الحائض ، فإذا ثبتت هذه الفوارق فهو قياس مع الفارق .
وأما كون هذا الدم دم أذى ، فنقول : هو و إن كان نجساً وأذى فإنه لا يعني أنه لا يجوز له أن يجامعها ؛ لأن الأذى الذي نهى الشارع عنه إنما هو دم الحيض فقط : { قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض }(2) أي دم المحيض دم أذى ، أي إنه أذى يعتزل النساء فيه ، ولا يعني أن كل دم يقع في المرأة وإن كان جرحاً يجب أن تعتزل فيه ، ولا يجوز أن توطأ مع جروحه ، كيف والأدلة تدل على جواز ذلك فإن المستحاضات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت في السنة نهي عن أن توطأ إحداهن .(34/239)
بل قد ثبت في سنن أبي داود بإسناد جيد : أن حمنة كانت مستحاضة وكان زوجها يطؤها "(1) فالمستحاضات كن ذوات عدد ولم يثبت أن نهي زوج إحداهن أن يطئها ، وعدم نقل ذلك مع الحاجة إلى نقله يدل على عدم ثبوته إذ الدواعي متوفرة على نقله ومع ذلك لم ينقل .
وكون هذا قد تكرهه النفوس فإن هذا لا يعني أنه محرم .
فالراجح : جواز وطئها .
- قال فقهاء الحنابلة : فإذا وطئها فلا كفارة عليه .
قالوا : لأننا وإن قلنا بأن وطئها محرم فإنه ليس كوطء الحائض فهي دون ذلك فبينهما فوارق كبيرة ، فعلى ذلك : على القول بأنها لا يجوز وطؤها فلا كفارة في ذلك .
فالراجح : جواز وطئها ، ومن الأدلة أيضاً : المشقة في اعتزالها بخلاف الحيض ، فالاستحاضة تكون الشهر كله أو أغلبه فاعتزالها فيه مشقة ، والمشقة تجلب التيسير .
قال : ( ويستحب غسلها لكل صلاة )
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب المستحاضة يغشاها زوجها ( 310 ) قال : " حدثنا أحمد بن أبي سُريج الرازي ، أخبرنا عبد الله بن الجهم ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن عاصم ، عن عكرمة عن حمْنَة بنت جحش أنها كانت تستحاض وكان زوجها يجامعها " .(34/240)
لما روى الشيخان في صحيحهما : أن أم حبيبة أستحيضت فسألت النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة ) (1) .
وهذا الحديث كما قال الشافعي : ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل لكل صلاة وإنما فعلت ذلك تطوعاً من عند نفسها .
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تغتسل من الحيض كما أمر غيرها من المستحاضات أن يغتسلن إذا ذهبت الحيضة وأمرهن أن يتوضأن لكل صلاة كما في غير حديث غير أنها باجتهادها كانت تغتسل لكل صلاة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب عِرْق الاستحاضة ( 327 ) بلفظ : عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فأمرها أن تغتسل فقال : ( هذا عِرْقٌ ) فكانت تغتسل لكل صلاة " ، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها ( 334 ) بلفظ : " عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أم حبيبة بنت جحش خَتَنَة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف استُحيضت سبع سنين ، فاستفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن هذه ليست بالحيضة ، ولكن هذا عرف فاغتسلي وصلي ) قالت عائشة : فكانت تغتسل في مركن في حُجْرة أختها زينب بنت جحش ، حتى تعلو حمرةُ الدم الماءَ " .(34/241)
وأما ما روى أبو داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرها أن تغتسل لكل صلاة ) (1) فإنه ضعيف عند الحفاظ فلا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وهذا الأمر لا يقتضي التكرار ، فإن الأمر لا يقتضي التكرار كما هو معلوم في أصول الفقه وكما هو مقرر في قواعد اللغة .
فقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وهذا اللفظ إنما يفيد الاغتسال مرة واحدة وهي الاغتسال من الحيض ثم كانت تغتسل لكل صلاة ولذا لم يوجب ذلك أحد من الأئمة وإنما هو عندهم على الاستحباب .
مسألة :
امرأة مثلاً : يؤذن الظهر وتمر خلال الوقت نصف ساعة ينقطع فيها الدم ، فهل يجب أن تتوضأ في هذه النصف ساعة وتصلي ويكون الدم متوقفـ[ـاً ] إلى صلاتها ومن بدايتها بالصلاة إلى انتهائها منها ؟
الجواب : يجب عليها ذلك ، لأن الصلاة تكون سالمة مما يجيز فعله العذر ، فحينئذ إذا كان ينقطع عنها أحياناً ويمكنها أن تصلي فيه فيجب فعل ذلك .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثامن والأربعون
( يوم السبت : 8 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( و أكثر مدة النفاس أربعون يوماً )
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب من قال : تغتسل من طُهر إلى طهر ( 298 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة ،قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر خبرها ، وقال : ( ثم اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة ، وصلي ) . قال أبو داود بعد أن ذكر حديثين بعده : " وحديث عدي بن ثابت والأعمش عن حبيب وأيوب أبي العلاء كلها ضعيفة لا تصح ، ودل على ضعف حديث الأعمش عن حبيب هذا الحديث ، أوقفه حفص بن غياث عن الأعمش ، وأنكر حفص بن غياث أن يكون حديث حبيب مرفوعاً ، وأوقفه أيضاً أسباط عن الأعمش ، موقوف عن عائشة .. " اهـ .(34/242)
النفاس : في اللغة مشتق من النفس ، والنفس هو الدم ، وقيل مشتق من النفس لما فيه من زوال الكرب .
أما في الاصطلاح : فهو دم يرخيه الرحم بسبب الولادة ، وهذا الإرخاء إما أن يكون بعد الولادة أو معها أو قبلها .
أما الدم الخارج معها أو بعدها فواضح حكمه .
وأما الدم الذي قبل الولادة وهو ما يخرج من الدم أثناء مقدمات الوضع مع الطلق ، فإن هذا الدم الخارج وقت مخاض المرأة واستعدادها للوضع دم سببه الولادة .
وقد حدده أهل العلم بثلاثة أيام فأقل .
فالدم الخارج من المرأة قبل ولادتها بثلاثة أيام فأقل دم نفاس .
ويعرف ذلك بالأمارات التي تبين قرب الوضع ، فإن هذا الدم الخارج منها دم نفاس .
وعليه فإذا خرج قبل أربعة أيام أو خمسة فإنه ليس بدم نفاس بل دم فساد ، وليس بدم حيض لأن الحبلى لا تحيض – كما تقدم – .
فعلى ذلك هو دم فساد فتصلي وتصوم وغير ذلك وهي بحكم المستحاضة .
وما ذكره الفقهاء من تحديد ذلك بثلاثة أيام فأقل موضع نظر ؛ فإنه لا دليل على ذلك ، بل الأمر متعلق بكون هذا الدم خارج مع مقدمات الوضع سواء كان ثلاثة أيام فأقل أو أكثر من ذلك .
- وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد الرحمن السعدي ، ونظَّر في مذهب الفقهاء بما تقدم وأن هذا التحديد لا دليل عليه شرعاً ولا عرفاً ، والأمر متعلق بمقدمات الولادة .
فالدم الخارج عند مخاض المرأة وطلقها هو دم نفاس ، فعلى ذلك : تدع المرأة الصلاة والصوم ونحو ذلك من الأحكام .
وأما الدم الخارج مع الولادة أو بعدها فهو واضح .
ولكن على القول بتحديد النفاس بأربعين يوماً وسيأتي الدليل عليه ، هل الثلاثة الأيام السابقة للولادة هل تحسب من النفاس أم لا ؟
إذا قلنا إنها تحسب فيكون نفاسها إذا ولدت سبعة وثلاثين يوماً .(34/243)
قال الفقهاء : لا تحسب هذه المدة من النفاس ؛ وذلك لأنه قد ثبت في الحديث الحسن أن أم سلمة قالت : ( كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ) (1) في رواية لأبي داود : ( بعد نفاسها ) أي بعد ولادتها ، والحديث حسن رواه الخمسة إلا النسائي .
قوله : ( أكثر مدة النفاس أربعين يوماً ) : هذه أكثر مدته فلا يتجاوز النفاس أربعين يوماً .
- وهذا هو مذهب الحنابلة وهو مذهب أكثر أهل العلم ، بل قد ذكر الترمذي إجماع أهل العلم عليه فقال : " وأجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر فتغتسل وتصلي " .
قال أبو عبيد : " وهو قول جماعة الناس " .
وهذا القول قد دل عليه حديث أم سلمة المتقدم فإنها ذكرت أن النفساء كانت تمكث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ومعلوم أن النساء يختلفن في الطبيعة والواقع فلما ذكرت أم سلمة هذه المدة المحدودة دل ذلك على أنه توقيت من الشارع وتحديد منه ، لأن النساء يختلفن فيه فلا معنى للتحديد الذي ذكرته ، وإنما المعنى أن مكثهن هذا العدد كان مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم .
- وذهب المالكية والشافعية : إلى أنه يوقت بستين يوماً ( 60 ) فلا يتجاوزها .
ودليل هؤلاء الواقع وأن النفاس بلغ هذه المدة .
لذا ذهب بعض أهل العلم إلى تحديده بسبعين .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب ما جاء في وقت النُّفَساء قال : " حدثنا أحمد بن يونس ، أخبرنا زهير ، حدثنا علي بن عبد الأعلى ، عن أبي سهل ، عن مُسَّةَ عن أم سلمة ، قالت : كانت النفساء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة ، وكنا نطلي على وجوهنا الوَرْس تعني من الكلَفِ " ، وأخرجه الترمذي في الطهارة ، برقم 139 ، وابن ماجه برقم 648 ، سنن أبي داود [ 1 / 218 ] .(34/244)
وذهب شيخ الإسلام : إلى أنه لا حد لأكثره كقاعدته في الحيض .
لكن الراجح الأول ؛ للدليل ، ولما ذكر من الإجماع .
وقد ذكر الموفق هذا القول عن عمر وابن عباس وأنس وأم سلمة وعائذ بن عمرو ، وقال : " لا يعلم لهم مخالف " .
وأكثر هذه الآثار رواها البيهقي في سننه ، وأثر ابن عباس رواه ابن الجارود في منتقاه بإسناد صحيح(1) .
فلا يعلم لهؤلاء الصحابة مخالف فكان قولهم حجة .
فإذا استمر الدم مع المرأة بعد أن تمت الأربعين فما الحكم ؟
الجواب : أنه لا يخلو من حالين : إما أن يكون موافقاً لوقت عادتها فحينئذ هو دم حيض وإلا فهو دم فساد ، فإذا لم يكن موافقاً لوقت عادتها فهو دم فساد ، - وله أحكام دم الاستحاضة - .
قال : ( ومتى طهرت قبله تطهرت وصلت )
إذن لا حد لأقله ، وهذا هو المذهب وهو مذهب جمهور أهل العلم .
فإذا انقطع الدم عن النفساء بعد خمسة أيام أو عشرة أيام أو يومين أو يوم ، أو لم يخرج منها الدم مطلقاً وهذا قد يكون من الحالات النادرة ، فإنها لا تدع الصلاة وغيرها ، بل حكمها حكم الطاهرات .
وقد تقدم الإجماع الذي ذكره الترمذي وفيه : " ألا أن ترى الطهر فتغتسل وتصلي " .
وللقاعدة المشهورة : الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، فهنا العلة خروج الدم وقد توقف فحينئذ لا يثبت الحكم .
واعلم أن الولادة التي يترتب عليها حكم النفاس – عند العلماء – هي الولادة التي تنتج مضغة مخلقة ، أي تخلق منها الآدمي .
أما إذا سقطت نطفة أو علقة أو مضغة غير مخلقة فإنها – عند أكثر أهل العلم – لا يثبت بها النفاس .
وهذا – أي كونها مضغة مخلقة – يكون زمن 81 يوماً فأكثر ، فإذا سقط لإحدى وثمانين يوماً فأكثر ورؤيت المضغة مخلقة أي تبيّن فيه خلق إنسان ، والغالب أن يكون ذلك بعد تسعين يوماً أي بعد ثلاثة أشهر .(34/245)
قالوا : لأن هذا الواقع الساقط مشكوك فيه هل هو إنسان أم لا ، ومتى كان مشكوكاً فيه فإنه لا ينتقض الحكم الثابت عندنا وهو أنها مطالبة شرعاً بأحكام شرعية ، والنفاس يمنعها من أداء الأحكام الشرعية ، وإذا حكمنا أنه نفاس فهذا يعني إبراء ذمتها من ذلك ، وهذا مجرد شك ولا ننتقل من الحكم الثابت بمجرد الشك ، فيحتمل أن يكون قطعة إنسان .
أما إذا كانت النطفة متخلقة ، وقد تبين فيه خلق إنسان فإن الحكم يثبت على ما تقدم ، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم .
قال : ( ويكره وطؤها قبل الأربعين بعد التطهر )
إذا طهرت بعد عشرة أيام من نفاسها – مثلاً – فإنها يكره وطؤها – كما روى البيهقي والدارمي وغيرهما – عن الحسن بن أبي الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص أن امرأته أتته وقد طهرت قبل الأربعين فقال : ( لا تقربيني ) (1)
قالوا : فهذا يدل على كراهية وطئها إذا طهرت قبل الأربعين هذا هو المشهور في المذهب .
- وذهب جمهور أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد : أنه لا يكره ذلك .
إذن : هم متفقون على أنه لا يحرم ، وإنما الخلاف في الكراهية فالحنابلة كرهوا ذلك .
والجمهور قالوا : بعدم الكراهية ، قالوا : لأنها طاهرة ولها حكم الطاهرات ، والكراهة حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل . والأثر ليس صريحاً في ذلك ، فقد يكون تركه تورعاً أو احتياطاً أو خشية من عدم ثبوت الطهر أو نحو ذلك .
وهذا على القول بثبوت الأثر ، وقد ذكر الحافظ أن الحسن لم يسمع من عثمان بن أبي العاص ، فإذا ثبت هذا فإنه يكون منقطعاً .
ثم لو صح – فكما تقدم – ليس صريحاً في ذلك فقد يكون تركه احتياطاً لشبهة وقعت في طهرها أو نحو ذلك .
إذن : الراجح مذهب الجمهور ورواية عن الإمام أحمد وهو عدم كراهية ذلك .
قال : ( فإن عاودها الدم فمشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الواجب )
فإن عاودها الدم بصفته وهيئته في أثناء الأربعين .(34/246)
بمعنى : نفست عشرة أيام ثم انقطع الدم خمسة أيام ثم عاد إليها عشرة أيام ثم انقطع ، فقد عاودها في زمنه .
" فمشكوك فيه " إذن : لا يكون في حكم النفاس ، لأن هذا الدم مشكوك فيه .
" تصوم وتصلي وتقضي الواجب " إذن : تجمع بين فعل الواجبات أثناء خروج الدم ، وقضاء ما يجب قضاؤه بعد انقطاع الدم وإن كانت فعلته .
فعلى ذلك – في المثال السابق – العشرة الأيام الثانية التي رأت فيها الدم تصلي وتصوم لاحتمال أن يكون دم فساد ثم إذا انتهت فيجب عليها قضاء الصوم لاحتمال أن يكون دم نفاس .
لكن هذا القول ضعيف .
لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه : إلى أن هذا الدم دم نفاس ؛ لأنه على هيئة دم النفاس ، وهو واقع في زمن النفاس ولم يكن حيضاً ، وفيه صفة دم النفاس فيكون له حكم النفاس تماماً .
فتدع الصلاة والصوم وتقضي الصوم بعد ذلك ، وهذا هو الراجح .
وأما كونها تقضيه ؛ فقد تقدم ضعف هذا ، وأن الشارع لا يأمر بفعل الشيء مرتين – كما نهى أن تصلى الصلاة مرتين .
فإذن : إذا عاودها في زمن النفاس فإنه دم نفاس ، فتدع الصلاة وغيرها من الأحكام .
قال : ( وهو كالحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط )
فأحكام النفاس كأحكام الحيض .
" فيما يحل " من مباشرتها فيما دون الفرج .
" ويحرم " كوطئها من فرجها .
" ويجب " كقضاء الصوم والغسل عند انقطاع الدم .
" ويسقط " كالصلاة والصوم .
قال : ( غير العدة والبلوغ )
هذان استثناءان واضحان .
" غير العدة " فلا يحسب النفاس من العدة ، فالله عز وجل إنما ذكر الحيض فقال تعالى { ثلاثة قروء }(1) فلا يكون النفاس محسوباً من ذلك .
وهذا لا يتصور مثله : لأن المرأة إذا طلقت قبل نفاسها فإنها تنقضي عدتها عند نفاسها أي عند وضعها للحمل .(34/247)
وإن كان الطلاق أثناء النفاس فهو كالطلاق أثناء الحيض على القول بصحته ، فإنه لا يحسب من العدة ، فإن الرجل إذا طلق امرأته وهي حائض – على القول بصحته – فإنها لا تحسب هذه الحيضة ، وكذلك النفاس .
وأما البلوغ فإن المرأة متى حملت فإن ذلك دليل سبق بلوغها ، فإنه لا يكون حمل إلا بعد الاحتلام والإنزال ، وهذا دليل البلوغ – فحينئذ : لا يتعلق البلوغ بالنفاس ؛ لأن هذا مسبوق بحمل والحمل لا يكون إلا باحتلام .
ومن الاستثناءات : أن المُولي وهو الذي يحلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر ، فإن الحيض يحسب ، إذا تُربص به أربعة أشهر .
أما النفاس فلا يحسب ؛ لأن مدة الحيض معتادة بخلاف مدة النفاس فإنها ليست بمعتادة .
قال : ( وإن ولدت توأمين فأول النفاس وآخره من أولهما )
امرأة ولدت توأمين فأنجبت الأول ثم بعد أربعين يوماً جاءت بالثاني فما الحكم ؟
فأول النفاس وآخره من أولهما ، إذن الثاني على المدة التي تقدم ذكرها لا يكون له شيء من النفاس ، فالمدة متعلقة بالأول ؛ لأن هذا الدم خرج بسبب الولادة وهما كانا حملاً واحداً فحكمهما واحد – وهذا مذهب الجمهور - .
- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه – وهو وجه عند الشافعية – : إلى أنه يحسب من الثاني .
قالوا : لأن الدم الخارج مع الثاني دم خارج بسبب الولادة فلا معنى لعدم اعتباره ، وظاهر هذا القول أن المدة التي توقفت لها عن وضع الثاني لا تحسب من النفاس ، وإنما تحسب من الثاني ، وهذا – كذلك – فيه ضعف .
والذي ينبغي أن يقال : أن كليهما له نفاسه ، فالأول له نفاسه ، فإذا وضعت الثاني فتستأنف النفاس مرة أخرى وتحسب أربعين يوماً .
إذن الراجح : أن الدم الخارج مع المولود الثاني معتبر خلافاً للمشهور في المذهب – كما هو رواية عن الإمام أحمد – ؛ لأنه دم خارج بسبب ولادة مستقلة وإن كانت عن حمل واحد ، فهي ولادة مستقلة وقد خرج بسببها هذا الدم فكان الواجب اعتباره لا إلغائه .(34/248)
فعلى ذلك : الدم الخارج مع الثاني محسوب من النفاس .
والأظهر أن الأول كذلك يكون محسوباً من النفاس ، فإذا وضعت الأول ثم جلست خمسة أيام وهي يخرج ويجري معها الدم فهي في حكم النفساء على القول الأول .
فإذا انقطع عنها الدم خمسة أيام ثم ولدت الثاني ، فهذه الخمسة أيام على القول الأول ليست من النفاس ، وخروج الدم الخارج بعد عشرة أيام مع المولود الثاني ليس في مدة النفاس .
وهذا ضعيف ؛ لأن الدم قد انقطع بعد خمسة أيام ،ولو ولدت بعد الطهر ، فحينئذ المولود الثاني لا دم له .
وهذا ضعيف ، وضعفه ظاهر .
فعلى ذلك : الراجح ما تقدم وأن الدم الخارج مع الثاني محسوب من النفاس .
( فائدة )
هل يجوز للمرأة أن تأكل مانعاً للحيض أم لا يجوز لها ذلك ؟
نص الإمام أحمد – رحمه الله – على جواز ذلك ، وأنه يجوز للمرأة أن تأكل مانعاً للحيض حيث أمنت الضرر .
قال بعض الحنابلة : بشرط أن يأذن زوجها ، قال في الإنصاف : وهو الصواب .
وهو كما ذكرا ، فإن هذا الشرط لابد منه .
فلابد أن يكون ذلك بإذن من الزوج ؛ لكون ذلك يؤثر في الولادة في تأخرها وتقدها ، فكان لابد من إذن الزوج بذلك .
والحمد لله رب العالمين
انتهى باب الحيض
وكذلك : انتهى كتاب الطهارة بحمد الله
والله أعلم
فهرس الموضوعات
باب المسح على الخفين …………. 1 إلى 30
باب نواقض الوضوء ………….. 30 إلى 66
باب الغسل ………………… 67 إلى 93
باب التيمم ………………… 94 إلى 125
باب إزالة النجاسة ………..… 126 إلى 154
باب الحيض ……………….. 155 إلى 187
فهرس الأحاديث والآثار
ابدؤا بما بدأ الله به …………………………………………… 114
أتى أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم .. 127
إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ بينهما وضوءاً …………….. 91
إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس دونها ستر فقد وجب عليه الوضوء …… 40
إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي …………... 73(34/249)
إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ........................................ 16 ، 105
إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ماذا رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما .. 133
إذا جامعها في أول الدم فدينار وإذا جامعها بعد انقطاع الدم فنصف دينار …… 163
إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ………………………….. 71
إذا حذقت فاغتسل وإن لم تكن حاذفاً فلا تغتسل ……………………. 67
إذا فضخت فاغتسل ………………………………………… 67
إذا كان دم الحيضة وهو دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة.. 31 ، 169
إذا قعد على شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ………………… 70
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء .. 146
اذهب فأفرغه عليك …………………………………………. 87 ، 95
اذهبوا به إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل ………………………. 72
استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر ……………………….. 147
أصبت السنة ............................................................... 4
اصنعوا كل شيء إلا النكاح …………………………………….. 162
أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي – وذكر منها – وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا .. 93
اغسل ذكرك وتوضأ ثم نم ……………………………………. 91
اغسلنها بماء وسدر …………………………………………. 73
اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه …………………………….. 73
اقرؤوا القرآن ما لم يكن أحدكم جنباً ، فأما إن كان أحدكم جنباً فلا ……… 75
أكل من كتف شاة ولم يتوضأ …………………………………. 54
ألقوها وما حولها وكلوه …………………………………….. 139
أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ……………………………… 161
أمر الحيض أن يعتزلن المصلى ………………………………… 79
أمر من أكسل أن يغسل ما مس من امرأته ويتوضأ ………………….. 71
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغسل الأنجاس سبعاً ………………. 131
أمرها أن تغتسل لكل صلاة …………………………………. 181(34/250)
أمسح علي الخفين ؟ قال : نعم ، قال : يوماً ؟ ................................ 3
إن جاءت ببطانة من أهلها يرضى دينه وأمانته فشهد لها بذلك وإلا فهي كاذبة .. 159
أن حمنة كانت مستحاضة وكان زوجها يطؤها ……………………… 180
إن حيضتك ليست بيدك …………………………………… 79
إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ ……………………………. 54
إن الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ..95
إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي ………………………………… 39
إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء ….. 57
إن كان جامداً فألقوها وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه …………… 138
إن الله ورسوله ينهانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ……………… 152
إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ......................... 3
إن المؤمن لا ينجس …………………………………………. 145
انقضي شعرك واغتسلي ………………………………………. 85
إنما الأعمال بالنيات …………………………………………. 82
إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والمذي والدم والقيء …………… 141
إنما الماء من الماء ……………………………………………. 67 ، 68
إنما الوضوء على من نام مضطجعاً ………………………………. 37
إنما يكفيك أن تفعل هكذا وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ومسح الشمال .. 113
إنما يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح منه ما أصاب ثوبك منه ………….. 153
إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم ……………………….. 150
أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ …………… 40
بسم الله من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم …………………….. 62
بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يمسحوا ............ 11
تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه وتصلي فيه ………………………….. 131، 144
تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي وصلي أبعة وعشرين ليلة ….. 158
توضأ وانضح فرجك ………………………………………… 153(34/251)
توضؤا مما مست النار ……………………………………….. 54
توضؤوا منها …………………………………………….. 54
توضئي لكل صلاة …………………………………………. 31 ، 117 ، 179
تيمم قبل المدينة بميل أو ميلين ثم دخل والشمس مرتفعة فلم يعد ……….. 121
ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده .. 87
ثم تنحى من مكانه فغسل قدميه ……………………………….. 85
جئت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي لم يأكل الطعام فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره .. 141
جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوماً وليلة ... 3
الحبلى لا تحيض فإذا رأت الدم فلتغتسل ولتصلي …………………….. 157
خذي فِِرْصة " أي قطعة من صوف أي خرقة " من مسك فتطهري بها ………. 166
دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ............................................... 18
دعي الصلاة قدر أيام حيضك ثم اغتسلي وصلي ……………………. 164 ، 171
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على عمامته وخفيه ..................... 12
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما ............... 27
رخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - .......................................................... 2
الصعيد طهور المسلم ………………………………………... 118 ، 95
صلى وجرحه يثعب دماً ……………………………………. 35
صلوا في مرابض الغنم ……………………………………… 147
ضرب بكفيه الأرض ومسح شماله بيمينه ويمينه بشماله ثم مسح وجهه ……. 114
طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعاً أولاهن بالتراب ……. 127
الطواف في البيت صلاة إلا أن الله قد أحل به النطق فمن نطق فلينطق بخير … 64
العين وكاء السه ، فمنام فليتوضأ ……………………………… 39
غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ……………………………… 80
فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليفعل …….. 142
فاعتزلوا نكاح فروجهن …………………………………… 161(34/252)
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر ……………….. 72
فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة ………………………. 180
فإن أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه ……………………… 65
فإني كرهت أن أذكر الله على غير طهر …………………………. 76
فتلجمي ………………………………………………... 178
فجعلت كلما أغفيت يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بشحمة أذني يفتلها …. 37
فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ……………………….. 59
قاء فتوضأ ………………………………………………. 34
قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم .. 16 ، 105
قدم ناس من عُكل أو عُرينة فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا .. 147
كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ……… 54
كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ………………………. 164
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون ……….36 ، 37
كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون .. 80
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض ………… 163
كان في غزوة ذات الرقاع فأصيب رجل من أصحابه ( وهو من حراسه ) فنزفه الدم ..34
كان لا يستنزه من البول ……………………………………….. 147
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه …………. 82
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن ينام أو يأكل توضأ ……….. 90
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام .. 2
كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلت المني بعرف الإذخر ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابساً فيصلي … 148
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه .. 85
كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل المني ………………………….. 148(34/253)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ ……….. 48
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً ……………… 74
كان يتوضأ بمد - وهو ربع الصاع – ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ……… 89
كان يذكر الله على كل أحيانه …………………………………… 75
كان يصبح صائماً وهو جنب …………………………………… 164
كانت الصلاة خمسين وكان الغسل من الجنابة سبع مرار ، وكان غسل الثوب من البول سبع .. 131
كانت الفتيا التي يقولون ( الماء من الماء ) رخصةً رخص الله بها ثم أمر بالاغتسال … 71
كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ……. 182
كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً …………………………. 176
كنا نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم …………………… 53
كنا نحيض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة .. 161
كنت أغسل المني من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم …………………… 148
كنت أفركه من ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه …………… 148
كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وكانت رجلاي في قبلته فإذا ……. 46
كنت أنام في المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وكنت فتى شاباً .. 126
كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما ..18
لا ……………………………………………………… 138
لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ……………………………….. 77
لا إنما ذلك عرق وليس بالحيض فإذا أقبلت الحيضة …………………… 169
لا ، إنما هو بضعة منك ……………………………………… 41
لا إنما يكفيك أن تحثي علي رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين … 84 ، 88
لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين …………………………. 57
لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ………………………………... 177
لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ………………………… 75
لا تقربيني ………………………………………………… 184(34/254)
لا توضؤا من ألبان الغنم وتوضؤا من ألبان الإبل ……………………….56
لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض ………………….. 156
لا ضرر ولا ضرار ……………………………………………. 99
لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ………………………. 60 ، 63
لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ………………………….. 30
لما أغمي عليه في مرض موته اغتسل بعد أن أفاق …………………….. 81
لما حرم الخمر خرج الناس وأراقوها في الطرقات ……………………… 136
لما قدم مكة كان أول ما بدأ أن توضأ ثم طاف بالبيت …………………… 64
لها ما شربت ببطونها ولنا ما غبر " أي بقى" طهور …………………….. 151
لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى من أعلاه ولقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ........ 27
ليس عليكم في غَسْل ميتكم غُسْل [ إذا غسلتموه ] ، فإن ميتكم ليس بنجس …. 52
ليصدق بدينار أو نصفه ……………………………………….. 162
ليطلقها طاهراً أو حاملاً ……………………………………….. 157
ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما .......................................... 3
ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم ……………………………. 35
الماء طهور لا ينجسه شيء ……………………………………. 151
مسح أعلى الخف وأسفله .................................................. 28
مسح على الجوربين والنعلين ................................................ 11
المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة ........................ 4
مسح على خفيه فوضع اليمنى على خفه الأيمن واليسرى على خفه الأيسر ...... 28
مسح على نعليه وقدميه .................................................... 18
مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ……………….. 65
من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن ………. 34
من غَسل ميتاً فليغتسل ومن حمله فليتوضأ …………………………. 52 ، 81
من مس ذكره فليتوضأ ………………………………………40(34/255)
من مس فرجه فليتوضأ ………………………………………. 40
من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ……… 124
النساء شقائق الرجال ...................................................... 14
نعم إذا توضأ فليرقد ……………………………………….. 90
نعم إذا رأت الماء ………………………………………….. 68 ، 81
نعم فتوضأ من لحوم الإبل ……………………………………. 54
نعم وما شئت .............................................................. 3
نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ……………………………. 61
نهى عن الجلالة ……………………………………………. 134
وأما الرجل فلينشر شعره فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر …………….. 83
وأن لا يمس القرآن إلا طاهر ………………………………….. 61
وتتوضأ لكل صلاة ………………………………………… 178
وجعلت تربتها لنا طهوراً …………………………………….. 110
ولم ير ابن عباس بالقراءة للجنب بأساً ……………………………. 76
ولو استزدناه لزادنا ......................................................... 4
يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب …………………………… 99
يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره …………………………. 149
يضعون جنوبهم ……………………………………………. 38
يغسل ذكره وأنثييه …………………………………………. 153
يغسل ذكره ويتوضأ ……………………………………….. 30 ، 153
يكفيك الماء ولا يضرك أثره ………………………………….. 132(34/256)
الدرس التاسع والأربعون
( يوم الاثنين : 10 / 2 / 1415 هـ )
كتاب الصلاة
الصلاة لغة : الدعاء
اصطلاحاً : أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم(1) .
وقد فرضها على عباده ليلة أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كما في الحديث المشهور المتفق عليه(2) .
قال المؤلف رحمه الله : ( تجب على كل مسلم مكلف )
الصلاة فرض على كل مسلم مكلف ، قال تعالى : { وأقيموا الصلاة }(3) وقال تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً }(4) .
__________
(1) قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في الشرح الممتع [ 1 / 5 ] : " أما في الشرع : فهي التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير ، مختتمة بالتسليم ، وإن شئت قلت : هي عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسيلم . أما قول بعض العلماء : إن الصلاة هي أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم فهذا فيه قصور ، بل يشترط أن نقول : عبادة ذات أقوال ، أو نقول : التعبد لله تعالى بأقوال … حتى يتبين أنها من العبادات " ا.هـ .
(2) أخرجه البخاري في أول كتاب الصلاة ( 349 ) ، وانظر ( 1636 ) ، ومسلم ( 163 ) .
(4) سورة النساء .(35/1)
وقوله صلى الله عليه وسلم لجبريل : حين سأله عن الإسلام : ( أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وتقيم الصلاة ) (1)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ( 8 ) [ 1 / 150 ] فقال رحمه الله تعالى : " حدثني أبو خيْثمة زُهير بن حرب ، حدثنا وكيع عن كَهْمسٍ عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحِمْيري حاجين أو معتمرين ، فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوُفّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله ، فظننت أنا صاحبي سيكل الكلام إليّ ، فقلت : أبا عبد الرحمن ، إنه قد ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم ، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ، قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ، والذي يَحلف به عبد الله بن عمر ، لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب ، قال : بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند رُكبَتَيْه إلى ركبتيْه ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) قال : صدقت ، قال : فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك ) قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) قال : فأخبرني عن أمارتها ، قال : ( أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) قال : ثم انطلق فلبثت ملياً ، ثم قال لي : يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) " .
وقال رحمه الله : " حدثني محمد بن عُبيد الغُبَري وأبو كامل الجَحْدري وأحمد بن عَبْدة قالوا : حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال : لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك ، قال : فحججت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حجة ، وساقوا الحديث بمعنى حديث كهمس ، وإسناده فيه بعض زيادة ونقصان أحرف .
وحدثني محمد بن حاتم حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا عثمان بن غياث حدثنا عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا : لقينا عبد الله بن عمر ، فذكرنا القدر وما يقولون فيه ، فاقتص الحديث كنحو حديثهم عن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه شيء من زيادة وقد نقص منه شيئاً .
وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا يونس بن محمد حدثنا المعتمر عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديثهم .
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعاً عن ابن عُلية قال زهير : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان عن أبي زُرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزاً للناس ، فأتاه رجل فقال : يا رسول الله ، ما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر ) قال : يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال : ( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة والمكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان ) قال : يا رسول الله ، ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه ، فإنه يراك ) قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، ولكن سأحدثك عن أشراطها ، إذا ولدت الأمة ربها ، فذاك من أشراطها ، وإذا كانت العُراة الحفاة رؤوس الناس ، فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء البَهْم في البنيان ، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا صلى الله عليه وسلم { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير } قال : ثم أدبر الرجل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ردوا عليّ الرجل ) فأخذوا ليردوه ، فلم يروا شيئاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ) .
حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمير حدثنا محمد بن بشر حدثنا أبو حيان التيمي بهذا الإسناد مثله ، غير أن في روايته : ( إذا ولدت الأمة بعلها ) يعني السراري . " .
ورواه البخاري في كتاب الإيمان ( 50 ) فقال رحمه الله : " حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا أبو حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزاً يوماً للناس فأتاه رجل فقال : ما الإيمان ؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث ، قال : ما الإسلام ؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان ، قال : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) قال : متى الساعة ؟ قال : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) قال : ( وسأخبرك عن أشراطها ، إذا ولدت الأمة ربها ، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهْم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله ، ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - { إن الله عنده علم الساعة } الآية ، ثم أدبر ، فقال : ( ردوه ) ، فلم يروا شيئاً ، فقال : ( هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم ) قال أبو عبد الله : جعل ذلك كله من الإيمان . " . طرفه في [ 4777 ] .(35/2)
.
وقد أجمع العلماء على أنها فرض على المكلفين .
والمكلف هو : البالغ العاقل – ذكر كان أو أنثى حراً كان وعبداً (1) – .
قال: ( إلا حائضاً ونفساء )
فلا تجب الصلاة عليهما أداءً ولا قضاءً .
فلا يحل الصلاة للحائض – كما تقدم – أن تصلي أو تصوم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ) (2)
وكذلك : العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز للحائض ولا النفساء الصلاة .
__________
(1) كذا في الأصل بالواو ، ولعل الأقرب " أو " .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ( 304 ) عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أضحى ، أو فطر إلى المصلى ، فمرّ على النساء ، فقال : ( يا معشر النساء تصدقن ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار ) فقلن : وبم يا رسول الله ؟ قال : ( تكثرنْ اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازم من إحداكن ) قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ) قلن : بلى ، قال : ( فذلك من نقصان عقلها ) ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ) قلن : بلى ، قال : ( فذلك من نقصان دينها ) ، وانظر ( 1951 ) ، وأخرجه مسلم باختلاف في الحوار رقم ( 80 ) .(35/3)
كما أنهم أجمعوا على أنها لا تقضي – كما في حديث عائشة : ( كان يصيبنا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ) (1)
قال : ( ويقضي من زال عقله بنوم أو إغماء أو سكر أو نحوه )
قوله ( أو نحوه ) كأن يشرب دواءً مباحاً فيزيل عقله مثلاً .
قوله ( بنوم ) اتفاقاً ، فيجب عليه القضاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )(2)
قوله : ( أو إغماء ) فالمغمى عليه يجب عليه قضاء ما فاته من الصلوات كأن يكون أغمي عليه عن صلاة أو صلاتين أو يوم أو يومين فيجب عليه القضاء .
قالوا : قياساً على النائم .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض ، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة ( 335 ) عن معاذة قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : أحرورية أنت ؟ قلتُ : لست بحرورية ، ولكني أسأل ، قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " ، وأخرجه أيضاً بلفظ : " أحرورية أنت ، قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لا تؤمر بقضاء " وبلفظ : " أحرورية أنت ؟ قد كن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضن أفأمرهنّ أن يَجْزينَ ؟ " أي يقضين كما قال محمد بن جعفر كما في صحيح مسلم ، وأخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب لا تقضي الحائض الصلاة ( 321 ) بلفظ : حدثتني معاذة أن امرأة قالت لعائشة : أتجزي إحدانا صلاتها إذا طَهُرت ؟ فقالت : أحرورية أنت ، كنا نحيض مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يأمرنا به ، أو قالت : فلا نفعله " . ومعني أَتَجْزي : أي أتقضي .
(2) أخرجه البخاري ( 1 / 157 ) ومسلم ( 2 / 142 ) ، وأبو داود ( 442 ) ، وكذا أبو عوانة ( 2 / 260 ، 261 ) والنسائي ( 1 /100 ) والترمذي ( 1 / 335 ) وغيرهم ، الإرواء [ 1 / 291 ] رقم 263 .(35/4)
ولما ثبت في سنن البيهقي : ( أن عمار بن ياسر أغمي عليه الظهر والعصر والمغرب والعشاء فلم يفق إلا بعد منتصف الليل فقضى تلك الصلوات )(1) هذا هو مذهب الحنابلة .
- وذهب أكثر الفقهاء إلى : أن المغمى عليه لا يجب عليه القضاء فلو أغمي عليه – مثلاً – قبل صلاة الظهر فلم يفق إلا بعد خروج وقتها فإنه لا يقضيها .
قالوا : لأن الأصل عدم القضاء إلا أن يدل دليل على وجوبه ، وقياسه بالمجنون أشبه بجامع زوال العقل زوالاً غير طبيعي .
ولا يقاس على النائم – كما ذكرتم – لأن النائم زوال عقله زوال طبيعي وهو يتكرر فلو لم تُقض الصلاة بالنوم والنسيان لأدى ذلك إلى ترك كثير من الصلوات ، بخلاف الإغماء فإنه إنما يقع على القلة أو على الندرة فلم يكن حكمه كحكم النوم ، فإن الحكم بترك القضاء مع النوم يؤدي إلى ترك صلوات كثيرة والشارع قد أكد وجوبها والمحافظة عليها غاية المحافظة وكون النائم لا يقضي ينافي ذلك .
بخلاف المغمى عليه فإن حالته نادرة وقليلة ، وهو أثناء الإغماء ليس بمكلف لأنه قد زال عقله في تلك الحال والذي لا عقل له كالمجنون لا يجب عليه القضاء اتفاقاً ، وقياسه بالمجنون أشبه .
ثم إن النائم إن أُوقظ استيقظ وزال عنه مانع الصلاة ، وأما المغمى عليه فإنه لا يستيقظ بإيقاظه، وهذا القول هو الراجح .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [ 1 / 571 ] رقم ( 1822 ) قال : " أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنا علي بن عمر الحافظ ، أنا علي بن عبد الله بن مبشر ، ثنا أحمد بن سنان ، ثنا عبد الرحمن بن سفيان ، عن السدي ، عن يزيد مولى عمار : أن عمار بن ياسر أغمي عليه في الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأفاق نصف الليل فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء " .(35/5)
أما أثر عمار بن ياسر فإسناده ضعيف فقد رواه البيهقي وغيره بإسناد ضعيف ، وقد نبَّه على هذا ابن التركماني في تعليقه على سنن البيهقي(1) .
وعندنا أثر يخالفه وهو صحيح رواه مالك في موطئه وغيره بإسناد صحيح : ( أن ابن عمر أغمي عليه فلم يقض ) (2) .
إذن : هذا الأثر صحيح لا مخالف له عندنا ، وهو ترجيح ما ذهب إليه أكثر الفقهاء أن المغمى عليه لا يقضي سواء كان الإغماء أكثر من يوم وليلة أو أقل .
فمن أغمي عليه فلا يجب عليه القضاء ما لم يدرك الوقت ؛ لأنه غير مخاطب شرعاً بهما(3) بزوال عقله وليس عندنا دليل جديد يوجب عليه القضاء بخلاف النائم .
" أو سكر " : حكى غير واحد من العلماء اتفاق أهل العلم على من ذهب عقله بسكر فإنه يجب عليه القضاء . ويستدل لهذا : أن أمره بالقضاء عقوبة له على تركه للصلاة .
ويمكن أن يستدل عليه بقياسه على النائم .
لكن ذهب شيخ الإسلام إلى أن من ذهب عقله بسكر لا يجب عليه القضاء . وقد حكى شيخ الإسلام – كما في الفتاوى المصرية – أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن السكران يجب عليه القضاء .
لكنه - رحمه الله – خالف هذا الاتفاق ، وذهب إلى أن من ذهب عقله بسكر فإنه لا يجب عليه القضاء وقوله قوي ظاهر .
أما قياسه على النوم فهو قياس مع الفارق ، فالنوم ذهاب العقل طبيعة ، وكما تقدم ترك القضاء يؤدي إلى ترك صلوات كثيرة .
بخلاف السكر فإنه ليس بطبيعي .
والعقوبة يجب أن تكون مما وردت به الشريعة ، فإن عقوبة شارب الخمر أنه يجلد ثمانين جلدة ، أما أن يعاقب بغير ذلك فيحتاج إلى دليل شرعي .
وكما تقدم فإن من لم يكن صاحب عقل فليس بمخاطب من قبل الشريعة أثناء زوال عقله .
__________
(1) قال ابن التركماني : " سكت عنه ، وسنده ضعيف ، ومخالف للباب " السنن الكبرى للبيهقي [ 1 / 571 ] .
(2) صححه ابن حزم كما في المحلى [ 2 / 234 ] .
(3) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : بها .(35/6)
وكوننا نأمره بالقضاء يحتاج إلى أمر جديد ، وليس عندنا أمر جديد يوجب القضاء .
فما ذهب إليه شيخ الإسلام فيه قوة .
ومثل ذلك ، من ذهب عقله بدواء مباح بل أولى بأن لا يقال بوجوب القضاء – وهو مذهب المالكية والشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام – كما تقدم(1) .
إذن : الراجح أنه لا يجب القضاء إلا على من نام أو نسي أما المغمى عليه أو من ذهب عقله بدواء مباح أو بسكر فإنه لا يجب عليه القضاء .
مسألة :
هل يجب القضاء مع الجهل فيمن فعل أو ترك قبل وصول الشريعة إليه وقبل بلوغ العلم له ؟
بمعنى : هل تلزم الأحكام قبل بلوغ العلم أم لا ؟
أمثلة ذلك :
فمن باب الصلاة : فلو أن رجلاً ترك الصلاة لكونه ناشئاً في بادية ، أو لكونه نشأ في بلد حرب فأسلم فلم يعلم بوجوب الصلاة ، فإذا علم بوجوبها فهل يجب عليه القضاء أم لا ؟
رجل ترك الزكاة في باب من أبواب الزكاة كأن يتركها في عروض التجارة ، ولم يبلغه وجوب ذلك ، فإذا بلغه فهل يجب عليه أن يقضي السنوات السابقة أم لا ؟
المشهور عند فقهاء الحنابلة وغيرهم وجوب ذلك .
وهناك وجه عند الحنابلة اختارها شيخ الإسلام : أنه لا يجب ، وأن الشرائع لا تجب إلا بعد العلم بها فالقاعدة – عند شيخ الإسلام – أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم بها .
وهو قول دلت عليه النصوص الشرعية فمن ذلك :
__________
(1) قال في الشرح الممتع [ 2 / 17 ] : " مسألة : من زال عقله ببنج فإنه يقضي ؛ لأن هذا وقع باختياره ، والغالب في البنج أنه لا تطول مدته " .(35/7)
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أساء المسيء صلاته عند النبي صلى الله عليه وسلم تأدية فريضة كان من النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره أن يعيد صلاة الوقت ولم يأمره بإعادة الصلوات السابقة(1) لكونه جاهلاً بأركنها وفرائضها التي لا تصح الصلاة إلا بها ، ولو كانت الشرائع واجبة قبل العلم بها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الصلوات التي صلاها مختلة الشروط فيها والأركان مما لا تصح العبادة معه .
ومن ذلك قصة الرجل الذي رقب الخيط الأبيض من الخيط الأسود فأفطر بعد دخول الوقت(2) ظناً أن المراد به الخيط الأسود الطبيعي والخيط الأبيض الطبيعي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ولم يأمره بقضاء ذلك اليوم .
إذن : لا يجب القضاء إلا بعد العلم بل لا تلزم الشرائع إلا بعد العلم بها سواء كان ذلك في المسائل الكلية كالصلاة أو في المسائل الجزئية كشيء من أركان الصلاة وشرائطها .
فمن عمل عملاً ينقض الصلاة أو يبطلها أو ينقض الطهارة أو يبطلها وهو مداوم على عمله ولا يعلم أن هذا مبطل فإنه لا يلزمه إلا إعادة فريضة الوقت .
قال : ( ولا تصح من مجنون )
والمجنون في عرف الفقهاء من زال عقله بجنون أو خرف أو غير ذلك ، فكل هذا يطلق عليه في عرفهم جنون فلا تصح من مجنون لأنه لا نية له ، ولا كذلك ممن لا تمييز له كالصبي غير المميز ، فإنها لا تصح منه الصلاة .
فلا تصح من مجنون ولا غير مميز ، لأنهما لا نية لهما
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم ( 757 ) ، وانظر في الصلاة باب 31 ، و ( 6252 ) ، وأخرجه مسلم ( 397 ) .
(2) وهو عدي بن حاتم رضي الله عنه كما أخرجه البخاري في كتاب الصوم ، باب قول الله تعالى { وكلوا واشربوا } ( 1916 ) وقال سهل كما في البخاري ( 1917 ) : " فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله .. " ، وأخرجه مسلم ( 1901 ) ( 1090 ) .(35/8)
ومن شروط العبادة النية فإنما الأعمال بالنيات ، لذا أجمع أهل العلم على أنها لا تصح من المجنون وغير المميز .
قال : ( ولا كافر ) :
فلا تصح صلاته ، ودليل ذلك قوله تعالى : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله }(1)
فإذا كانت النفقات التي فيها النفع المتعدي لم تقبل منهم بسبب كفرهم بالله وبرسوله فأولى من ذلك الصلاة التي نفعها لازم لصاحبها .
فإن قيل : فالمرتد ؟
إذا أسلم ثم أرتد ثم أسلم ، فما حكم صلاته ؟
في هذه المسألة ثلاثة أقوال ، وهي مبنية على مسألة حبوط العمل ، هل يحبط العمل بالردة أم لا ؟
- فذهب بعض أهل العلم : إلى أن الردة محبطة للعمل مطلقاً وإن مات على الإسلام .
فرجل حج وصلى ثم أرتد ثم عاد إلى الإسلام فأعماله التي قام بها قبل الردة هي أعمال حابطة فعلى ذلك يجب عليه أن يعيد الحج ونحوه مما فعله من الفرائض .
- والقول الثاني : أن العمل لا يحبط إلا بالموت على الردة وهذا القول هو الراجح ؛ لقوله تعالى : { ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم }(2) فشرط الله هذا الشرط ، فمن ارتد عن دينه ومات على الكفر فهو حابط العمل ، وأما من ارتد ثم عاد إلى الإسلام فإن عمله الصالح الذي قام به قبل ردته لم يحبط بل هو مكتوب له عند الله – هذا هو الراجح – .
وعلى هذا الخلاف اختلف العلماء في المرتد وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد .
1- الرواية الأولى - وهي مبنية على القول الأول – : وأن المرتد يحبط عمله وإن مات على الإسلام .
__________
(1) سورة التوبة .
(2) سورة البقرة .(35/9)
قالوا : لا يلزمه القضاء مطلقاً أي لا العبادات التي تركها في حال إسلامه ولا التي تركها في حال ردته . فالعبادات التي تركها في حال كفره لا يجب عليه قضاؤها وهذا واضح ظاهر ، فقد قال تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }(1) أما ما تركه من العبادات في حال إسلامه فهذه ينبغي أن تكون معلقة به قالوا : قد حبط عمله فأصبح في حكم الكفار ، والكافر كما قال الله – فيه - : { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }(2) فهو في حكم الكافر في حال إسلامه وفي حال كفره .
2- والرواية الثانية : قالوا : يلزمه القضاء في حال إسلامه وفي حال كفره .
قالوا : لأن العمل لا يحبط إلا بالموت على الردة .
فعليه : ما تركه من الصلوات والصيام في حال إسلامه يجب عليه أن يقضيه ، وما قام به من الأعمال الصالحة كالحج لا يجب عليه أن يعيده .
وأما ما فعله أثناء الردة فيجب عليه أن يقضيه ، وهذا القول : أما في شقه الأول فراجح واضح ، وأما في شقه الثاني فهو ضعيف ؛ لأنه كيف نؤمر بالقضاء في حالة ردته ، فهو في تلك الحال كافر بالله عز وجل فوجب أن يعطى حكم الكفار وليس هذا القول – في شقه الثاني – ليس له وجه صحيح .
3- ويتم الترجيح للرواية الثالثة واختارها طائفة من أصحابه فإنهم قالوا : يقضي ما تركه في حال إسلامه ، وأما في حال ردته فهو بحكم الكفار وهذا القول هو الراجح .
فما تركه من الأفعال في حال الردة لا يجب قضاؤها ؛ لأنه في تلك الحال كافر ، وقد قال تعالى عن الكفار { قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } أما التي تركها في حال إسلامه فإن عمله لم يحبط لكونه قد فقد الشرط الثاني من شروط حبوط العمل وهو أنه لم يمت وهو كافر ، فعلى ذلك عمله الصالح الذي قام به حال إسلامه قبل ردته عمل ثابت له لكونه لم يمت على الردة – وحينئذ – يجب عليه قضاء ما تركه من العبادات أثناء إسلامه ، لأنه في تلك الحال مخاطب وقد عاد إليه عمله كما كان .(35/10)
قال : ( وإن صلى فمسلم حكماً )
رجل ذمي في بلاد إسلامية صلى صلاة المسلمين فحينئذ يحكم له بالإسلام بالظاهر فإذا مات يرثه المسلمون ويصلى عليه ويغسل ويكفن وغير ذلك من أحكام المسلمين هذا في الظاهر وأما السرائر فالله يتولاها ودليل ذلك :
قوله صلى الله عليه وسلم : ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله ) (1) والحديث رواه البخاري ولما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) (2) وقوله : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ) (3) .
فهذه الأدلة تدل على أن من صلى صلاتنا فهو مسلم قد ثبت إسلامه بهذه الصلاة ما لم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام فإن فعل ناقضاً بعد أن صلى أو قال : كنت هازلاً في الصلاة أو نحو ذلك فلا يقبل ذلك منه بل يحكم أنه مرتد ، ولا يعطى أحكام الكفار الأصليين بل يعطى حكم الكفار المرتدين ، لأننا حكمنا عليه لما صلى بأنه مسلم في الحكم الظاهر ، فإذا ادعى خلافه وأصر على الكفر فهذا ارتداد منه وله حكم المرتدين ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) (4) ولا يحكم عليه بحكم أهل الذمة بتركهم في البلاد الإسلامية بالشروط بل يعطى حكم المرتد .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب فضل استقبال القبلة ( 391 )
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة .
(3) أخرجه الإمام أحمد والترمذي في كتاب الإيمان ، باب ما جاء في ترك الصلاة ( 2621 ) وقال : " هذا حديث حسن صحيح غريب " . وغيرهما .
(4) أخرجه البخاري في باب لا يعذب بعذاب الله ، من كتاب الجهاد ، وفي باب قول الله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } من كتاب الاعتصام ، وأبو داود ، باب الحكم في من ارتد من كتاب الحدود وغيرهما ، المغني [ 9 / 550 ] .(35/11)
إذن : من صلى صلاة المسلمين بطبيعتها وهيئتها فإنه يحكم عليه بالإسلام للأدلة الشرعية المتقدمة .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الخمسون
( يوم الثلاثاء : 11 / 2 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ويؤمر بها صغير لسبع ، ويضرب عليها لعشر )
يؤمر بها : أي الصلاة .
الصغير : سواء كان ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً .
" لسبع " : أي تمام سبع سنين ، فإذا شرع في الثامنة وقد تم له سبع سنين فإنه يؤمر بالصلاة .
وإذا تم له عشر سنين وشرع في السنة الحادية عشر فإنه يضرب ضرب تأديب على الصلاة .
وهذا خطاب للولي أو الوصي ، أو القيم على أمر الصبي ، فيجب على الولي ، سواء كان أباً أو جداً أو غير ذلك . فإن لم يكن ولياً ، فيجب على الوصي ، فإن لم يكن وصياً فيجب على القيم الذي يولى أمر الصبي من جهة القاضي أن يأمر الصبي بالصلاة لسبع ويضربه عليها لعشر أي إذا تم له عشر سنين .
* وظاهر المذهب وجوب ذلك ، وأن هذا واجب على الأولياء ، بل يثبت التعزير على الترك كما قال شيخ الإسلام : " فمن لم يفعل فإنه يعزر تعزيراً بليغاً " ؛ لأنه ترك ما وجب عليه من الأمر بهذه الصلاة .
فالصبي وإن كانت الصلاة منه لا تكون على وجه الفرضية بل هي له نفل ، لكن هذا الأمر لتعليمه وتعويده على الصلاة المكتوبة فيألفها و يعتادها فتسهل عليه بالغاً ، وإلا فإن الصلاة غير مفترضة على من لم يبلغ لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الخمسة : ( رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق )(1)
__________
(1) أبو داود [ 4398 ] والنسائي [ 2 / 100 ] ، والترمذي [ 1 / 267 ] وابن ماجه [ 2041 ] . الإرواء برقم 297 ج 2 .(35/12)
والصبي لا تجب عليه الصلاة إلا إذا بلغ ، وهذا الأمر أمر وجوب للأولياء أو نحوهم ، أما الصبي فإنه لا يعاقب عند الله على تركه الصلاة سواء كان هذا الترك بسبب تهاون الأولياء بأمره أو كان مع تشددهم وقيامهم لهذا الواجب تجاه الصبي ، لكنه لا يجب عليه مطلقاً ، فإن فِعْله تنفل ولكن الأمر من الولي أمر وجوب .
إذن : يجب على الولي ونحوه أن يأمر الصبي بالصلاة لسبع أي إذا تم له سبع سنين ، وأن يضربه عليها إذا تم له عشر سنين ، ويدخل في ذلك تعليمه الطهارة وما يشترط للصلاة ، كتعليم صفتها فإن هذا واجب على الأولياء فإذا قصروا فيه أثموا .
وقد ثبت ما يدل على هذا في السنة الصحيحة ، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والحديث عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع )(1)
قوله : ( مروا ): أمر ، والأمر للوجوب ما لم يأت صارف ولا صارف له .
إذن : الصلاة من الصبي تنفل وتطوع بشرط العقل ، وهو أن يكون مميزاً .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ( 495 ) قال : " حدثنا مؤمل بن هشام - يعني اليشكري – حدثنا إسماعيل عن سوار أبي حمزة - قال أبو داود : وهو سوار بن داود أبو حمزة المزنني الصيرفي - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مروا أولادكم الصلاة .. ) قال في حاشية سنن أبي داود : " تفرد به أبو داود " . لكن رواه الترمذي في باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة من أبواب الصلاة ( 407 ) عن عبد الملك بن الربيع بن سَبْرَة عن أبيه عن جده بلفظ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها بن عشر " ، المغني [ 2 / 350 ] .(35/13)
أما إن لم يكن الصبي مميزاً فإن الصلاة لا تصح منه لما تقدم ، فإن الصلاة لا تصح إلا بنية ، وغير المميز لا نية له .
و النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد بسبع سنين ، أي بعد تمامها والشروع بالثامنة ؛ لأن الغالب أن التمييز يكون في ذلك وإلا فإن مناط الحكم هو التمييز ، فإن التمييز هو ثبوت العقل في الطفل بحيث يفهم الخطاب ويرد الجواب ، فمتى كان ذلك فإنه مميز ، وقد يميز وهو ابن خمس سنين أو ست سنين أو سبع سنين ، فتصح منه الصلاة .
* ولكن هل يجب على الولي أن يأمره بالصلاة وهو ابن ست سنين وقد ميز ؟
ظاهر المذهب : أن ذلك لا يجب وأنه معلق ببلوغ سبع سنين .
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه متى ميَّز فإنه يجب عليه أن يأمره بالصلاة ، وهذا قوي ظاهر ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق ذلك بالسبع لكون هذا هو الغالب وإلا فقد يميز قبل ذلك فيجب أمره بذلك ، وغاية ذلك إنما هو التعليم له وترغيبه بالصلاة وترهيبه من تركها ، بخلاف ما إذا بلغ عشر سنين فإنه يضرب ضرب تأديب على ترك الصلاة .
قال : ( فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها أعاد )
أمر الصبي بالصلاة فصلى وأثناء الصلاة بلغ ، وهذا فيه إشكال ، فكيف يكون البلوغ أثناء الصلاة ، لكن لا بأس بذلك فقد يكون مثل ذلك .
إذن : يجب عليه إذا بلغ في أثنائها أن يعيدها ، وكذلك إذا بلغ بعدها في وقتها أن يعيدها .
قالوا : الدليل على ذلك : أنها فريضة عليه وهو إنما صلى على هيئة التطوع والتنفل فلا يجزئ التنفل عن الفرض فصلاته إنما هي نفل وتطوع ، وما يجب عليه إنما هو فرض وإلزام ووجوب ، وهو إنما قام به على وجه التطوع والتنفل ، فالواجب عليه أن يعيده على وجه الافتراض والوجوب .
- وذهب الشافعية وهو مذهب بعض أصحاب الإمام أحمد واختار ذلك ابن تيمية : إلى أن ذلك ليس بواجب ، فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة ولا يؤمر بذلك .(35/14)
وعللوا ذلك : بأنه قد أمر من وليه بالصلاة وعوقب على تركها ولا يجمع عليه أمران فإنه قد أمر بالصلاة فأداها كهيئة صلاة الناس إلا أنها كانت له نفلاً وكانت لهم فرض بسبب عدم أهليته بذلك ، وقد أمر بها وعوقب على تركها فلم يكن – حينئذ – للأمر الثاني وجه ، فلا يؤمر بالإعادة مرتين .
قالوا : ونحن لا نقول أنها تنقلب من النفل إلى الفريضة لكننا نقول : أنه قد قام بالعبادة كما يقيمها(1) غيره ، ولم يكن أهلاً لأن تكون فرضاً فإنه ليس مما يفترض عليه ذلك ، فكانت في حكم الله له نفل وإلا فقد قام بها كما يقوم بها غيره فصلى صلاة غيره من الناس .
وهذا القول أظهر وأنه لا يجب عليه أن يعيدها ؛ لأنه قد أمر بها كما تقدم من الولي بأمر الشارع للولي بذلك فلم يكن من الوجاهة أن يجدد له أمر جديد بذلك .
قال : ( و يحرم تأخرها عن وقتها إلا لناوي الجمع ولمشتغل بشرطها الذي يحصله قريباً )
هذه المسألة هي في باب المواقيت أنسب منها في هذا الباب ، فإنها في تأخير الصلاة عن وقتها ، وستأتي الأدلة الدالة على أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بل يجب أن تصلى في المواقيت التي وقتها الشارع .
فهنا قال : ( ويحرم تأخرها عن وقتها )
إذن : يستثني من التحريم صورتان :
الصورة الأولى : ناوي الجمع ، مثال : رجل أخر صلاة الظهر عن وقتها أخرها بنية أن يجمعها مع العصر جمع تأخير وهو ممن يجوز له الجمع ، فيجوز له ذلك بالإجماع ، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ودلت عليه الشريعة ومثل ذلك جائز إجماعاً .
__________
(1) في الأصل : يقيهما .(35/15)
الصورة الثانية : لمشتغل بشرطها " كالطهارة " الذي يحصله قريباً - وتقدم هذا في باب التيمم – فإذا اشتغل بالغسل وكان هذا من متناوله وهو قريب إليه فاشتغل بالطهارة حتى خرج الوقت فأخر الصلاة لاشتغاله بشرط الطهارة مثلاً فإن هذا جائز – وقد تقدم البحث في هذه المسألة في باب التيمم – وأن هذا جائز على مذهب طائفة من أهل العلم لاشتغاله بشرطها .
وهنا قد قيده بقوله : ( الذي يحصله قريباً ) فإن لم يحصله قريباً ، بأن كان بعيداً بالعرف كأن يكون الماء بعيداً عنه وفي ذهابه إليه تفويت لصلاة الوقت وتأخير لها عن وقتها فإن ذلك لا يجوز له وليس معذوراً بذلك ؛ لأن هذا الشرط ليس يحصله قريباً عرفاً بل هو بعيد عرفاً .
إذن : المشتغل بشرط من شروط الصلاة يجوز له أن يؤخر الصلاة حتى يتم له القيام بهذا الشرط ، هذا على القول المتقدم .
وقد تقدم ترجيح وجوب الصلاة في وقتها كما في باب التيمم .
وفي قوله : ( ويحرم تأخيرها عن وقتها ) :
ظاهره جواز تأخيرها في وقتها ، فله أن يصلي صلاة الظهر في آخر وقتها ونحو ذلك فإن هذا جائز ما لم يكن الوقت محرماً أي وقت ضرورة – وسيأتي بيانه في باب المواقيت – .
فإذن يجوز له أن يؤخر الصلاة في وقتها ، وقيدوا هذا بشرطين :
الشرط الأول : ألا يظن وجود مانع ، فمتى ظن وجود مانع فإنه لا يجوز له ذلك .
مثال ذلك : رجل أذن الظهر ويعلم أنه سيكون عليه مانع بعد ساعة يمنعه من الصلاة كقصاص ونحوه فإنه لا يجوز له أن يؤخرها ؛ لأن في تأخيرها عن هذا الوقت تفويتاً وتضيعاً لها .
مثال آخر :
امرأة تظن أن يقع عليها الحيض بعد وقت من دخول وقت الفريضة فإنها يجب عليها أن تصلي في هذا الوقت قبل أن يقع عليها هذا المانع .
فإن أخرها وقد ظن المانع فيكون آثماً لتفريطه .
الشرط الثاني : قالوا : أن يعزم على الصلاة .(35/16)
يعني : رجل قال : أريد أن أوخرها إلى قبيل أذان العصر أو امرأة ولم تظن مانعاً ولكنها لم تعزم في أول الوقت أن تصلي . قالوا : فإنها تأثم وإن أدركت الوقت للصلاة .
- وذهب بعض الحنابلة : إلى أن هذا ليس بشرط ، وهذا هو الراجح ، فإنه لا دليل يدل عليه .
فإن هذا المصلي قد صلى الصلاة في وقتها الموسع الذي يجوز له أن يصليها فيه ، وكونه لم يعزم أن يصليها في آخر وقتها فإن هذا لا يعني أن يكون آثماً ، فهو وإن نوى ألا يصلي ثم صلاها في آخر الوقت فإن هذا لا يقتضي تأثيمه ما دام أنه قد قام بالواجب عليه ، فقد صلى الصلاة في وقتها كما أمره الله تعالى .
وهذا ما ذهب إليه بعض الحنابلة وأنه لا معنى لاشتراط هذا الشرط .
فإذا توفر هذان الشرطان على المشهور في المذهب أو توفر الشرط الأول – على القول الراجح – فإنه يجوز أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها .
وهذا ما لم تكن هناك جماعة يجب عليه أن يصلي معها فهذه مسألة أخرى .
فهذا حيث لم يكن هناك أمر آخر يتعلق بوجوب الصلاة في وقت ما من هذا الوقت الموسع .
إذا أخرها تأخيراً جائزاً له في وقتها الموسع فمات فهل يناب عنه أولاً ، وهل يأثم ثانياً ؟
الجواب : أنه لا يناب عنه فإن الصلاة بإجماع أهل العلم(1) لا تدخلها النيابة لا بالنفس بأن يصلي أحد عن أحد ولا نيابة بالمال بأن تكون فيها كفارة بإطعام أو نحو ذلك ، بل قد أجمع أهل العلم – لعدم الدليل الشرعي الدال على ذلك – أن النيابة ليست مشروعة في الصلاة لا النيابة بالنفس ولا بالمال .
وهل يأثم أم لا ؟
الجواب : بالإجماع أنه لا يأثم ؛ لأنه قد فعل ما يجوز له وما يسوغ .
فإنه يجوز له تأخيرها إلى آخر وقتها فمات قبل أن يصليها ولم يكن يظن هذا المانع ، وقد تقدم التقيد بهذا ، فوقع عليه الموت من غير أن يظنه فلا يأثم لأنه فعل ما يجوز له .
__________
(1) بخلاف مسألة إهداء ثواب العمل للميت حتى ولو كان صلاة ففيه خلاف بين أهل العلم ، والجمهور على الجواز .(35/17)
ومثل هذا ونظيره – كما قال شيخ الإسلام : الرجل يؤخر الصوم من رمضان ، يريد أن يؤخر قبيل رمضان الآخر ، فإن هذا جائز له والقضاء من رمضان إلى رمضان وقت موسع ، فالفضيلة في الاستعجال بذلك ، ولكن الجواز وقته موسع ، فإذا أخر القضاء – حيث يجوز له – فمات قبل أن يقضي فلا إثم عليه بالإجماع .
وهل يناب عنه أم لا ؟
هذه مسألة أخرى دلت الشريعة عليها ، وأنه يصام عنه على قول أهل العلم .
والقول الثاني : أن عليه الكفارة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) (1) والمسألة في صيام الفرض مختلف فيها .
والراجح : أن الفرض لا يصام عنه وإنما يصام النذر ونحوه من الواجبات .
وأما الفرض فإنه فيه الكفارة .
وليس هذا محل البحث في هذه المسألة وإنما المقصود أن من أخر الصيام حيث يجوز له التأخير كأن يمر عليه شوال وذي الحجة وما زال الوقت ممكنا له أن يصوم وكان عليه يوم مثلاً فمات قبل يومين من رمضان القادم فإنه لا إثم عليه بإجماع أهل العلم لأنه قد فعل ما يجوز له .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الحادي والخمسون
( يوم الأربعاء : 12 / 2 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( من جحد بها كفر )
من جحد بالصلاة كفر وإن فعلها – إجماعاً – فمن جحد وجوبها وقال : هي ليست بواجبة وإنما هي نفل أو نحو ذلك فهو كافر ، لأنه منكر لما ثبت بالتواتر من دين الله تعالى مما ثبت في الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة ، وأن الصلاة فريضة على عباد الله فمن أنكر ذلك وجحده فهو كافر لإنكاره ما أثبته الله ورسوله مما علم ضرورة من الدين .
إلا إذا كان يمكن أن يخفى عليه مثل ذلك كأن يكون حديث عهد بإسلام أو ناشئاً ببادية بعيدة عن الإسلام فإنه لا يكفر حتى يعرف .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب من مات وعليه صوم ، من كتاب الصوم ، ومسلم باب قضاء الصيام عن الميت من كتاب الصيام ، وأبو داود والإمام أحمد . المغني [ 4 / 398 ] .(35/18)
إذن : جاحد فريضة الصلاة كافر بالإجماع فمن أنكر وجوب الصلاة فقد كفر وإن صلى .
قال : ( وكذا تاركها تهاوناً )
فمن ترك الصلاة كسلاً تهاوناً فهو كافر أيضاً - وهذا هو مذهب الحنابلة – خلافاً لمذهب المالكية والأحناف والشافعية فإنهم قالوا : إن تارك الصلاة غير الجاحد لوجوبها لا يكفر وإن تركها مطلقاً .
واستدل الحنابلة – وهو مذهب جمهور السلف ، وممن ذهب إليه إسحاق وابن المبارك - :
1- بقول الله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين }(1) فدل ذلك على أنهم إن لم يفعلوا ذلك فليسوا بإخوان لنا في الدين ، والأخوة الدينية لا تنفى إلا مع الكفر بدليل أن الله تعالى أثبتها مع قتل النفس قال تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف }(2)
فإن قيل فلم لا تكفرون تارك الزكاة ؟
فالجواب :
عن الإمام أحمد رواية أخرى بتكفير تارك الزكاة .
والمشهور في المذهب : أنه لا يكفر – وهذا هو الراجح – فعلى هذا ما الجواب ؟
الجواب أن يقال : إن أدلة أخرى دلت على استثناء غير المؤدي للزكاة من نفي الأخوة ، من قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثم يرى مقعده إن شاء في الجنة وإن شاء في النار ) (3) فهذا يدل على أن تارك الزكاة لا يكفر .
إذن : هذه الآية تدل – سوى تارك الزكاة فإن الدليل الشرعي قد دل على استثنائه وسوى ذلك - فإنه يكفر ، { فإن تابوا } من الكفر والشرك { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } .
2- واستدلوا بما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ) (4).
__________
(1) سورة التوبة .
(2) سورة البقرة .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب إثم مانع الزكاة ( 987 ) ، وانظر تفسير ابن كثير [ 2 / 337 ] .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، وقد تقدم صْ 9 .(35/19)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة فاصلاً بين الإيمان والكفر ، وذكر الكفر معرفاً بأل الاستغراقية التي تفيد أن هذا مستغرق في الكفر ، فدل على أنه هو الكفر الأكبر .
وهذا هو الأصل في إطلاق لفظة الكفر وأنها الكفر الأكبر إلا أن يأتي دليل يدل على أن المراد بها الكفر الأصغر .
3- واستدل [كـ]ـذلك بنحوه : بما ثبت عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) (1) .
4- واستدلوا : بإجماع الصحابة ، فقد ثبت في سنن الترمذي بإسناد جيد عن عبد الله بن شقيق قال : ( ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة ) (2)
قالوا : والصحابة أعلم من أن لا يروا أن هناك شيئاً من الأعمال تركه كفر أصغر ، فإن الشريعة قد دلت على أن هناك من الأعمال ما هو شرك أصغر فرواه لنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كالحلف بغير الله وكيسير الرياء ، وكالنياحة ، وكالفخر بالأحساب والطعن في الأنساب ونحو ذلك ، فإنها من الأعمال التي فعلها كفر أصغر ، وهنا قال الراوي " ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " فلما كانوا يرون أن هناك شيئاً من الأعمال تركه كفر أصغر دل على أن مراده بالكفر هنا ، الكفر الأكبر .
لذا ذكر ابن حزم أن الصحابة قد أجمعوا على كفر تارك الصلاة .
وظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة كما قال ابن رجب : " ظاهر كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة الذين يرون كفر تارك الصلاة أنه يكفر بخروج وقتها " .
__________
(1) تقدم صْ 9 .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان ، باب ما جاء في ترك الصلاة ( 2622 ) بلفظ : " عن عبد الله بن شقيق العُقيلي قال : كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " .(35/20)
واختار شيخ الإسلام أنه لا يكفر إلا إذا كان تاركاً مطلقاً للصلاة ، أما إذا كان يصلي تارة ويدع تارة كما يقع لكثير من المسلمين فإنه لا يكفر بذلك ، واختار هذا الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب . وسيأتي الدليل الدال على ذلك .
وأما الأحناف والشافعية والمالكية فاستدلوا :
1- بما ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك وليسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية ، ويبقى أناس فيهم الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آبائنا يقولون " لا إله إلا الله " فنحن نقولها ) قال صلة بن زفر - وهو الراوي عن حذيفة – " وهل تغنيهم هذه الكلمة وهم لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا صدقة ولا نسك ؟ فأعرض عنه حذيفة فسأله ثلاثاً وهو يعرض عنه ثم قال : تنجيهم من النار – ثلاثاً - "(1) .
قالوا : فهذا يدل على أنهم ليسوا بكفار إذ لو كانوا كفاراً لما قال حذيفة : " تنجيهم من النار " وهذا الاستدلال ضعيف من جهتين :
*- الأولى : أن هؤلاء لهم حكم خاص ، فإنهم لا يدرون ما صيام ولا صلاة ولا صدقة ولا نسك لارتفاع الشرائع فقد سري بكتاب الله ولم يبق من شريعة الله في الأرض إلا " شهادة أن لا إله إلا الله " فهم جهال بترك الصلاة ونحوها ، وهم معذورون بذلك لذا قال : " تنجيهم من النار " .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن ، باب ذهاب القرآن والعلم ( 4049 ) قال : " حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو معاوية عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حِرَاش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يدرس الإسلام .. )(35/21)
وقد تقدم أن الجاحد لوجوبها والتارك لها إذا كان يمكن أن يجهلها فإنه لا يكفر ، وهؤلاء قد عاشوا حياة قد ظهر فيها الجهل إلى الغاية ، حيث لم يبق في الأرض كتاب ولا سنة فهم أولى بهذا الحكم من غيرهم .
*- الثاني : أن هذا قول حذيفة .
فلو سُلِّم أن مراده أن هؤلاء ينجيهم من النار قول لا إله إلا الله مع تركهم للصلاة وهم عالمون بذلك كما يريد المستدل بهذا الحديث فإن هذه غايته أنه قول حذيفة ، وقوله لا تعارض به الأدلة الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهو مخالف بقول غيره من الصحابة كما تقدم من قول عبد الله بن شقيق . هذا لو سُلم بأنه على هذا النحو قول حذيفة ولا نسلم بذلك بل هو قوله حيث كانوا جهالاً معذورين بالجهل ، وإلا فإنا لا نجزم بأن قوله حيث كذلك فيما لو كانوا عالمين وتركوا ذلك تهاوناً وكسلاً .(35/22)
2- واستدلوا : بما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – فيمن يخرج من النار إلى أن قال - : ( فيخرج منها قوم لم يعملوا خيراً قط )(1) وهذا من المتشابه الذي لا يترك به المحكم ، ومما تقدم من الأدلة تدل على كفر تارك الصلاة وهذا من المتشابه ؛ ذلك لأن هذا الحديث عام في هذه الأمة وغيرها ممن يدخل النار من هذه الأمة وغيرها ، ولا تمنع أن تكون الصلاة مفروضة على طائفة من الأمم التي بعث إليها بعض أنبياء الله ، ولا يمنع أن تكون قد فرضت ولكن لم يحكم بكفر تاركها كما في هذه الأمة ، فإن قوله : " ثم يخرج منها قوم لم يعملوا خيراً قط " لا نسلم أنه في هذه الأمة التي فرضت عليها الصلاة وحكم بكون تاركها كافراً ، فإنه من المحتمل – والحديث عام - أن يكون هذا في أمة من الأمم التي لم تفرض عليها الصلاة أو فرضت عليها الصلاة ولم يحكم بكون تاركها كافراً .
ثم لو قلنا بدخول هذه الأمة بهذا العموم فإنه لا مانع أيضاً أن يكون هؤلاء معذورون بشيء من الأعذار لأنها قضية عين فيحتمل أن يكون لهم عذر ما كجهل ونحوه ويكونون قد عوقبوا بدخولهم في النار بأسباب أخرى ، بمعاصي أو نحوها قد فعلوها عالمين بحكمها فعوقبوا عليها فأما الصلاة فكانوا جاهلين بها فلم يعاقبهم الله بالخلود في نار جهنم .
إذن : هذا من المتشابه والواجب العمل بالمحكم وإرجاع المتشابه إليه .
__________
(1) لم أجده بهذا اللفظ ، وإنما أخرجه البخاري في كتاب التوحيد / باب ( 24 ) وجوه يومئذ ناضرة .. / رقم ( 7439 ) وفيه : " فيقول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثال نصف دينار فأخرجوه … " ، ومسلم ، صحيح مسلم ج: 1 ص: 170 بلفظ : " .. فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط " رقم ( 183 ) / كتاب الإيمان / باب ( 81 ) معرفة طريقة الرؤية .(35/23)
3- واستدلوا بما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ) (1)
قالوا : فهنا قال : ( ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء عذبه ) قالوا : فدل هذا على أنه داخل تحت المشيئة ولا يدخل تحت المشيئة إلا المسلم .
والجواب على ذلك : أن قوله : " فمن لم يفعل " راجع إلى ما تقدم أي : من لم يفعل الصلوات الخمس على النحو المتقدم بأن يصليهن لوقتهن وقد أتم ركوعهن وخشوعهن وأحسن وضوءهن ، فمن لم يفعل ذلك بأن أخل بشيء مما تقدم كأن يكون يصلي تارة ويدع تارة أو يؤخر الصلاة عن وقتها أو لا يتم خشوعها أو ركوعها أو نحو ذلك فإنه تحت مشيئة الله تعالى ، أما من تركها فإنه لا يدخل في هذا العموم وقد استثنته الأدلة التي تقدم ذكرها القاضية بكفر تارك الصلاة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 337 ) فيمن لم يوتر ( 1420 ) قال : " حدثنا القعنبي عن مالك ، عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن مُحَيريز أن رجلا من بني كنانة يُدعى المُخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ، قال المخدجي : فرحُت إلى عبادة بن الصامت فأخبرته ، فقال عبادة : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد ، فما جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة … ) ، وأخرجه النسائي في الصلاة باب المحافظة على الصلوات الخمس ( 462 ) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة ، باب فرض الصلوات الخمس ( 1401 ) . سنن أبي داود [ 2 / 130 ] .(35/24)
والقول الراجح : هو ما ذهب إليه الحنابلة وجمهور السلف إلا أنه يقيد بما ذكره شيخ الإسلام، وأن من تركها تارة وتارة فإنه لا يكفر بذلك للحديث الآخر الذي تقدم الاستدلال به للقائلين بعدم كفر تارك الصلاة .
فإن من لم يحافظ على الصلوات محافظة تامة بحيث يحافظ عليهن خمساً فهو يصلي تارة وتارة فهو داخل تحت الوعيد إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له ، والعلم عند الله تعالى .
قال : ( وكذا تاركها تهاوناً ودعاه إمام أو نائبه فأصر وضاق وقت الثانية عنها )
إذن : ذكر شرطين في تكفيره :
الشرط الأول : أن يدعوه الإمام أو نائبه .
الشرط الثاني : أن يضيق وقت الثانية عنها .
أما الشرط الأول فقالوا : لا يكفر إلا إذا دعاه الإمام أو نائبه لأنه قد يظن أن له عذراً بترك الصلاة وليس ذلك بعذر فلا يكفر حتى يدعوه الإمام أو نائبه ، وإنما خص ذلك بالإمام أو نائبه لأن الأحكام الشرعية أو الحدود إنما مرجعها إلى الأئمة ونوابهم دون غيرهم من آحاد الناس .
ولكن هذا القول ضعيف ، لذا قال ابن رجب في تتمة كلامه المتقدم قال : " وظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة الذين يرون كفر تارك الصلاة أنه يكفر بخروج وقتها ولم يعتبروا دعاءه ولا الاستتابة " وهذا هو الواضح والحق .
فإن هذا ما دام أنه قد فعل ما دلت الأدلة الشرعية على تكفيره به ، فإن اشتراط دعاء الإمام أو نائبه في تكفيره لا دليل عليه بل يكفر متى ترك الصلاة وإن لم يدعه إمام ولا نائبه .
أما قضية القتل فسيأتي الكلام عليها .
وكذلك الشرط الثاني : وهو قولهم " وضاق وقت الثانية عنها " يعني مثلاً : ترك صلاة الظهر حتى خرج وقتها ، لا يكفر بذلك حتى يضيق وقت الثانية ، فإذا ضاق وقت العصر فما بقي لوقت المغرب إلا ما يكون ضيقاً على العصر فإنه – حينئذ – يكفر بذلك .
قالوا : لأنا لا نجزم بأنه عازم على ترك الصلاة إلا بهذا .(35/25)
ولكن هذا ضعيف ، وتقدم ما قاله ابن رجب عن الإمام أحمد وغيره وأن ظاهر كلامهم أن المعتبر هو خروج الوقت الصلاة ، وهذا هو اختيار المجد واستظهره في الفروع ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية – وهذا الترجيح لشيخ الإسلام إنما هو في القتل وأما التكفير فقد تقدم اختياره من أنه لا يكفر(1) ، ولكن هذا بناء على القول بالقتل وسيأتي دليله - .
إذن : أصح قولي المذهب – وهو رواية عن الإمام أحمد – أنه : إذا خرج وقت الصلاة عنها فإنه يكفر .
فهذان الشرطان الصحيح أنهما ليس بمعتبرين بل متى خرج وقت الأولى ولم يصل فإنه يكفر ولو لم يضق الوقت – هذا على القول بخلاف ما ذكره شيخ الإسلام .
قال : ( ولا يقتل )
القتل عقوبة لتارك الصلاة في الدنيا ، لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نهيت عن قتل المصلين ) (2) ، ولما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع قالوا : أفلا نقاتلهم يا رسول الله قال : لا ما صلوا ) (3) وهو مذهب أكثر الفقهاء وأنه يقتل .
ويشترط ما تقدم من الشرطين السابقين : وهما أن يدعوه الإمام وألا يقتل حتى يضيق وقت الثانية عنها .
__________
(1) إلا إذا ترك الصلاة مطلقاً ، وقد تقدم صْ 16 .
(2) أخرجه أبو داود في باب الحكم في المخنثين من كتاب الأدب ، والنسائي في باب الحكم في تارك الصلاة ، وابن ماجه في باب ما جاء في ترك الصلاة من كتاب إقامة الصلاة ، والإمام أحمد في المسند 5 / 346 ، 355 ، المغني [ 3 / 36 ] ، ولم أجده في فهرس الصحيحين طبعة بيت الأفكار ، ولم يعزه إليهما محققا المغني .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب ( 16 ) وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ( 1854 ) ، وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن ، باب ( 78 ) رقم ( 2265 ) ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .(35/26)
ولكن هذا أيضاً - أي في كونه يضيق وقت الثانية – ليس كافياً لأنه متى ضاق وقت الثانية حكم – حينئذ – بكفره فإذا حكم بالكفر فإن هذا مرتد ، والمرتد يقتل كفراً ، ولكن بشرط أن يستتاب ثلاثاً لذا قال :
( ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً فيهما )
أي في جحود الصلاة أو في تركها تهاوناً وكسلاً ؛ وذلك لأنه مرتد فمتى دعاه الإمام أو نائبه وضاق وقت الثانية فلم يصل فهو مرتد ، والمرتد يُقتل ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً كما هو مذهب الجمهور .
والصحيح أن الاستتابة ليست بواجبة كما هي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وأحد القولين للإمام الشافعي ومذهب طائفة من التابعين كما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) (1) ولم يذكر استتابة .
وثبت في الصحيحين أن معاذ بن جبل قدم على أبي موسى الأشعري وعنده رجل موثقاً فقال : ما هذا ؟ قال : كان يهودياً فأسلم ثم راجع دينه دين السوء ، فقال : ( لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله فقال : اجلس ، فقال : " لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال ذلك ثلاثاً ثم أمر به فقتل ) (2)
فهذا الفعل من معاذ والإقرار من أبي موسى شرح لهذا الحديث النبوي ، وأن من بدل دينه ، وتارك الصلاة مبدل لدينه لا يستتاب ثلاثاً بل يقتل .
ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في الاستتابة .
وكذلك لا يصح الأثر المروي عن عمر بن الخطاب ، وقد رواه مالك في موطئه(3) بإسناد ضعيف فيه انقطاع وجهالة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب لا يُعذب بعذاب الله ( 3017 ) ، وفي كتاب استتابة المرتدين ، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم ( 6922 ) . ولم أجده في مسلم ، ولم يعزه إليه محققا المغني [ 9 / 550 ] ولا طبعة بيت الأفكار .
(2) أخرجه البخاري في كتاب استتابة المرتدين ، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم ( 6923 ) ، وأخرجه مسلم 1733 ، وفي الإمارة 15 ، وفي الأشربة 70 .(35/27)
فالراجح : عدم اشتراط الاستتابة لكنها مستحبة من غير أن يشترط بيوم ولا يومين ولا ثلاثة وإنما بقدر المصلحة .
كما أن النظر يدل على أنها ليست بواجبة ، لأن الكافر الأصلي المحارب المهدر دمه لا يستتاب وجوباً بل يقتل من غير استتابة ولا دعاية " أي دعوة إلى الإسلام " فيجوز أن يُغار على الكفار بحيث يقع المسلمون عليهم على غرة منهم فإن هذا جائز وقد دلت عليه الأدلة الشرعية ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم استتابتهم ولا إنذارهم – وإنما لا يجوز قتل من لم يبلغه الشريعة حتى يدعى إليها – وهذا المرتد قد علم حكم الله ودعي إليه وكفر وثبتت ردته – فحينئذ – لا يجب أن يستتاب ، لكن الاستتابة مستحبة .
إذن الراجح : عدم وجوب الاستتابة بل متى ثبت كفره وذلك يثبت بترك الصلاة مطلقاً على الراجح ، وعلى القول المرجح(1) من قولي المذهب يكفر بترك صلاة حتى يخرج وقتها مصراً على ذلك فإنه يكفر ويقتل من غير أن يستتاب أي ما دام أنه قد بين له دين الله وشرع الله وعرف الحق من الباطل فإنه لا يجب أن يتربص به فترة ليستتاب بل متى ثبت كفره فإنه يجوز قتله من غير استتابة .
* واعلم أن شيخ الإسلام اختار – وهو القول الحق – أن من ترك الصلاة فإنه لا يقضيها بل ولا يصح منه بل يجتهد بقدر استطاعته بالتطوع .
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول يوم القيامة : ( انظروا هل لعبدي من تطوع ) (2) فيمن اختلت بعض فرائضه .
__________
(1) كذا في الأصل .
(2) سنن أبي داود ج: 1 ص: 229 باب ( 150 ) قول النبي صلى الله عليه وسلم كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه / رقم 864 . سنن الترمذي ج: 2 ص: 269
30سنن الترمذي ج: 2 ص: 269 باب ( 305 ) ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة رقم 413 . وابن ماجه ، الاسطوانة ، وسنن أبي داود [ 1 / 540 ] .(35/28)
فلا يؤمر بقضاء الصلاة وقد فوتها بغير عذر ؛ لأن الأدلة الشرعية لم تدل على ذلك بل أمرت الشريعة بأداء الصلاة في وقتها ، وأمرت بالقضاء لمن كان معذوراً بنوم أو نحوه فلم يدخل بذلك من تركها بلا عذر وتكون مردودة عليه لو فعلها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) (1) .
فعلى ذلك : من تعمد تأخير صلاة الفجر عن وقتها فإنها لا تصح منه ولا تقبل منه ولا يؤمر بأن يصليها إذا استيقظ ما دام أنه قد تركها
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلح ( 2697 ) فقال رحمه الله : " حدثنا يعقوب حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد ) رواه عبد الله بن جعفر المَخْرَمي وعبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم "
وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية ( 1718 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 12 / 15 ) ] فقال رحمه الله : " حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح وعبد الله بن عون الهلالي جميعاً عن إبراهيم بن سعد قال ابن الصَّبَّاح حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا أبي عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبدُ بن حميد جميعاً عن أبي عامر قال عبدٌ حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم قال : سألت القاسم بن محمد عن رجل له ثلاثة مساكن فأوصى بثلث كلِّ مسكن منها ، قال يجمع ذلك كله في مسكن واحد ثم قال : أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) . "(35/29)
متعمداً فلم يسع أو يجتهد بقدر استطاعته للقيام لها بل تعمد النوم عنها فلا يقبل منه بل عليه أن يجتهد بالاستغفار وبالتطوع ليسد الخلل الواقع في فريضته .
والحمد لله رب العالمين .
( انتهى هذا الباب ، ويليه باب الأذان والإقامة )
الدرس الثاني والخمسون
( يوم السبت : 15 / 2 / 1415 هـ )
باب الأذان والإقامة
الأذان : في اللغة : الإعلام ومنه قوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر }(1) أي إعلام وإخبار .
أما اصطلاحاً فهو : الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة .
والإقامة في اللغة : مصدر أقام يقيم إقامة ، وحقيقتها الإزالة من القعود إلى القيام ، وهذا واضح في الإقامة فإنها تزيلهم من القعود إلى الوقوف لأداء الصلاة المفروضة .
أما اصطلاحاً فهي : الإعلام بإقامة الصلاة بألفاظ مخصوصة .
وقد ورد في فضله أدلة كثيرة : تدل على فضل الأذان وعظيم الأجر بأدائه ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين : " أن أبا سعيد قال لأبي صعصعة : إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم )(2) .
وفي مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذنون ) (3) .
__________
(1) سورة التوبة .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب رفع الصوت بالنداء ( 609 ) وفي كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الجن وثوابهم وعقاهم ( 3296 ) . ولم أجده في مسلم في باب فضل الأذان .. .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه ( 387 ) بلفظ : " عن طلحة بن يحيى عن عمه قال : كنت عند معاوية بن أبي سفيان فجاء المؤذن يدعوه إلى الصلاة فقال معاوية : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة ) .(35/30)
* وقد اختلف أهل العلم في التفضيل بينه وبين الإمامة :
1- فالأصح في مذهب الحنابلة الذي اختاره طائفة من كبار الحنابلة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختاره شيخ الإسلام : أن الأذان أفضل .
واستدلوا : بما روى أحمد وأبو داود – والحديث صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين ) (1)
فالإمام ضامن أي ضامن للقيام بالصلاة على صفتها الشرعية .
وأما المؤذن فإنه مؤتمن بالقيام بالأذان على الوجه الشرعي فهي أمانة في عنقه يتعلق بها فريضتان من فرائض الله على عباده وهي الصيام والصلاة ، ثم دعا للأئمة بالرشد وهو العلم النافع مع العمل به ، ودعا للمؤذنين بالمغفرة .
قالوا : هذا الحديث يدل على تفضيل الأذان لكنه في الحقيقة ليس فيه دليل على ذلك إذ ليس فيه إلا الإخبار بأن الإمام في عمله ووظيفته ضامن ، بألا يطرأ على الصلاة ما يخل بها من سهو ونحو ذلك .
وأما المؤذن فإنه مؤتمن بحيث لا يؤذن قبل دخول الوقت فيخون الناس في صلاتهم وفريضتهم .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت ( 517 ) قال : " حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الأعمش ، عن رجل عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإمام ضامن .. ) ، وقال ( 518 ) : " حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا ابن نمير ، عن الأعمش ، قال : نُبئت عن أبي صالح قال : ولا أراني إلا قد سمعته منه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله " .(35/31)
ثم دعا للأئمة بالرشد وهم أحق به لأنهم موضع اقتداء فيكونون أحق بالعلم والعمل ، ودعا للمؤذن بالمغفرة لكونه أحق بها ، فقد يقع – وهذا لا يسلم منه المؤذن – بما يكون خطأ في الأذن(1) بالأذان قبل الوقت لا سيما في أوقات سابقة عندما كان الاعتماد على التحري فقد يقع مثل ذلك فدعا له بالمغفرة .
فهذا الحديث ليس فيه إلا الإخبار عن حالهما والدعاء لكل واحد منهما بما هو الأليق بحاله ، وليس في هذا تفضيل لأحد منهما على الآخر .
2- وعن الإمام أحمد : تفضيل الإمامة .
واستدلوا : بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا قائمين بهذا الواجب ولم يقوموا بالأذان ولم يكونوا ليختاروا إلا الأفضل .
ولكن هذا الاستدلال محل نظر ، فإنهم كانوا قائمين بالإمامة العظمى من القيام بشأن الأمة ولا شك أن القيام بالأذان يخل بهذا فإنه شاق يحتاج إلى التحري بالنظر إلى أمارات وعلامات دخول الوقت وخروجه ، والخلافة أهم من ذلك بكثير ولا شك ولا يقارن مثل هذا بها ، لذا في البيهقي بإسناد صحيح أن عمر قال : ( لولا الخلافة لأذنت )(2) فالخلافة مشغلة عن القيام بالأذان .
ولم يتبين لي ترجيح أحد القولين على الآخر ، ومثل هذه المسائل – في الحقيقة – لا تحتاج إلى البحث في التفضيل بينهما بل كل منها له الفضل العظيم عند الله ولا شك أن الأذان قد يكون لبعض الناس أفضل كما أن الإمامة قد تكون لبعض الناس أفضل .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعلها : الأذان .
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة ، في آخر باب الترغيب في الأذان ( 2041 ) قال : " أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب ، أنا جعفر بن عون ، أنا إسماعيل يعني ابن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : قال عمر : " لو كنت أطيق الأذان مع الخليفة لأذنت " .(35/32)
فمثلاً : من كان من أهل العلم وله قدرة على تعليم الناس في شأن الصلاة وغيرها فهذا الأولى له أن يتولى الإمامة لكونها محل الاقتداء والتلقي من المأمومين بخلاف الأذان ، وأما من كان من عامة الناس وله معرفة بالأوقات وقدرة على تحريها والقدرة على الانضباط فالأولى له أن يقوم بالأذان ، وكلاهما له فضيلته وأجره عند الله .
إذن : في هذه المسألة قولان هما روايتان عن الإمام أحمد :
الأولى : أن الإمامة أفضل . والثانية : أن الأذان أفضل .
قال المؤلف رحمه الله : ( هما فرض كفاية )
هما : أي الأذان والإقامة
" فرض كفاية " هو الذي إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، فإذا قام به البعض من الأمة بحيث تسد بهم الخلة ويقومون بتبليغ الأذان إلى الأمة فإن ذلك كاف .
ودليل هذا : ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم )(1)
وفي رواية في الصحيحين : ( ثم أذنا ثم أقيما )
والشاهد هنا قوله هنا قوله : " فليؤذن " وقوله : " ثم أذنا ثم أقيما " والأمر للوجوب .
ولما أمر به أحد الرجلين دل على أنه فرض كفاية .
قال : [ على الرجال ]
وهنا ذكرهم على وجه الجمع ، وتثبت الجماعة باثنين فأكثر ، فمن كانا اثنين فأكثر فيجب أن يؤذن أحدهما كما تقدم في حديث مالك : ( فليؤذن لكما أحدكما )
أما إذا كان فرداً فلا يجب عليه الأذان ولا الإقامة لأن الحديث إنما هو وارد في الاثنين فأكثر .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان ، باب الأذان للمسافرين ( 631 ) ، ومسلم في المساجد ، باب من أحق بالإمامة ( 674 ) ، الشرح الممتع [ 2 / 38 ] .(35/33)
أما الواحد فلا يجب عليه الأذان ولا الإقامة ولكن ذلك مستحب له ، فقد ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يعجب ربك لرجل في شظية لجبل يؤذن ثم يصلي فيقول الله ( انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة ، يخاف مني قد غفرت له وأدخلته الجنة )(1) لما فيه من عظم الإخلاص لله إذ لا يراه إلا الله ولا يسمعه غيره ومع ذلك أذن وأقام للصلاة خوفاً من الله .
وفي قوله : " الرجال " تخرج منه النساء ، فالنساء كما في المشهور في المذهب : لا يشرع لهن الأذان ولا الإقامة .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 272 ) الأذان في السفر ( 1203 ) قال : " حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، عن عمرو ابن الحارث ، أنا أب عُشَّانة المعافري حدثه عن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( يعجبُ ربكم من راعي غنم في رأس شَظِيَّةٍ بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي ، فيقول الله عز وجل : انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة ، يخاف مني ، قد غفرت لعبدي ، وأدخلته الجنة ) ، قال المنذري : رجال إسناده ثقات ، وأخرجه أيضاًَ النسائي 667 ، سنن أبي داود [ 2 / 9 ] .(35/34)
واستدلوا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس على النساء أذان ولا إقامة )(1) ولكن الحديث إسناده ضعيف جداً وقد رواه البيهقي وغيره .
ورُوى موقوفاً إلى ابن عمر – كذلك عند البيهقي – وإسناده ضعيف فلا يثبت عنه .
بل قد ورد عن ابن عمر ما يخالفه ، فقد ثبت عند ابن أبي شيبة بإسناد جيد أنه سئل هل تؤذن النساء وتقيم فقال : أنا أنهى عن ذكر الله ؟(2) على وجه الاستفهام أي لست أنهى عن ذكر الله ، والأذان والإقامة من ذكر الله .
- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه وهو قول للشافعي : إلى أن الإقامة مشروعة لهن دون الأذان ، لما في الأذان من رفع الصوت الذي ينافي ما ينبغي أن تكون عليه المرأة من الحشمة ولأنه مثار الفتنة .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى في كتاب الصلاة ، باب ( 60 ) ليس على النساء أذان ولا إقامة ( 1920 ) قال : " أخبرنا أبو زكريا المزكي ، وأبو بكر بن الحسن القاضي ، قالا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا بحر بن نصر ، قال : قرئ على ابن وهب أخبرك عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال : ليس على النساء أذان ولا إقامة " . وقال ( 1921 ) : " أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني ، ثنا أبو أحمد بن عدي ، ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ، ثنا الحكم بن موسى ، ثنا يحيى بن حمزة ، عن الحكم ، عن القاسم ، عن أسماء قالت : قال رسو ل الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا اغتسال جمعة ، ولا تقدمهن امرأة ، ولكن تقوم في وسطهن ) . قال البيهقي : " هكذا رواه الحكم بن عبد الله الأيلي ، وهو ضعيف ، ورويناه في الأذان والإقامة عن أنس بن مالك موقوفاً ومرفوعاً ، ورفعه ضعيف ، وهو قول الحسن ، وابن المسيب ، وابن سيرين والنخعي " ا.هـ(35/35)
- وذهب الإمام أحمد في رواية أخرى عنه : إلى مشروعيتهما معاً ، وهذا أصح ولكن هذا إذا أمنت الفتنة برفع صوتها كأن يكون صوتها محصوراً بين النساء بحيث لا يخرج الصوت إلى الرجال بحيث تفعله المرأة في مكان خال خاص بالنساء أو تفعله في بيتها بحيث لا تخرج الصوت إلى الأجانب لما فيه من الفتنة ويدل على هذا أن ( النساء شقائق الرجال )(1) كما ثبت ذلك في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم فما ثبت في حق الرجل فهو ثابت في حق المرأة إلا أن يدل دليل على تخصيصه ، لذا نحن خصصنا من ذلك ما يكون فيه فتنة لأن الشريعة قد وردت بمثل هذا ، أما ما لم يكن كذلك فلها أن تؤذن أو تقيم .
لكن يشكل عليه ما ورد عن عائشة أنها قالت : ( كنا نصلي بغير إقامة )(2) وإسناده جيد .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم ( 24999 ) ، باقي مسند الأنصار ، باقي المسند السابق ، وبرقم ( 25869 ) نحوه في مسند أم سليم . انترنت ، موقع الإسلام .
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ، كتاب الصلاة ، باب أذان المرأة وإقامتها لنفسها وصواحباتها ( 1923 ) قال : " أخبرنا أبو بكر الحارثي الفقيه ، أنا أبو محمد بن حيان ، ثنا ابن صاعد ، ثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي ، ثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال سألت ابن ثوبان هل على النساء إقامة ، فحدثني أنا أباه حدثه ، قال : سألت مكحولا فقال : إذا أذن فأقمن فذلك أفضل ، وإن لم يزدن على الإقامة أجزأت عنهن . قال ابن ثوبان : وإن لم يقمن فإن الزهري حدث عن عروة عن عائشة قالت : كنا نصلي بغير إقامة " قال البيهقي : " وهذا إن صح مع الأول – أي أنها كانت تؤذن وتقيم - فلا ينافيان ، لجواز فعلها ذلك مرة وتركها أخرى ، لجواز الأمرين جميعاً ، والله أعلم ، ويذكر عن جابر بن عبد الله أنه قيل له : أتقيم المرأة ؟ قال : نعم " ا.هـ(35/36)
ويعارض هذا عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم ، رواه ابن المنذر(1) ، لكن إسناده ضعيف .
إذن يشكل على هذا قول عائشة والذي يظهر لي أن هذا الأثر يحمل على ما تكون فيه المرأة في الغالب من كونها تصلي منفردة ، والمنفرد لا يجب عليه الأذان ولا الإقامة وإنما ذلك مستحب له .
ويعارضه كذلك قول ابن عمر فإنه قال : " أنا أنهى عن ذكر الله " ولو كان ذلك غير مشروع لنهى عنه .
والأظهر عندي أن يقال : إنه في(2) مشروع في حقهن بل قد يقال بوجوبه كما صرح به صاحب الروضة الندية " وهو قول قوي ؛ لأن النساء شقائق الرجال إلا أنه بالقيد المتقدم حيث لا تكون مثاراً للفتنة .
أما إذا كانت منفردة فيشرع لها أن تؤذن وأن تقيم إن كانت في موضع ومحل أذان(3) .
أما إذا كانت في بلدة فإنها تكتفي بأذان الناس وتقيم لنفسها ، والله اعلم .
قال : ( المقيمين )
فيخرج : المسافرين ، فالمسافرون – في المشهور من المذهب – لا يجب عليهم الأذان والإقامة بل هما مستحبان .
وهذا القول ضعيف ، فإن الأدلة الشرعية السابق ذكرها يشمل المسافرين .
- لذا عن الإمام أحمد رواية أخرى اختارها بعض أصحابه كصاحب المبدع : أن المسافرين عليهم الأذان والإقامة فرض كفاية كالمقيمين ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمم في الأدلة الشرعية : ( فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ) هذا عام في الحضر والسفر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك الأذان والإقامة سفراً ولا حضراً فدل على فرضيتهما .
قال : ( في الصلوات الخمس المكتوبة )
__________
(1) ورواه البيهقي ( 1922 ) قال : " وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا أحمد بن عبد الجبار ، ثنا عبد الله بن أدريس ، ثنا ليث ، عن عطاء ، عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم وتؤم النساء وتقوم وسطهن " .
(2) كذا في الأصل ، والأولى أن تحذف .
(3) كذا العبارة في الأصل .(35/37)
دون غيرها ، كأن يوجب على نفسه صلاة أو صلاة الكسوف أو الاستسقاء أو صلاة العيد أو نحو ذلك من الصلوات فهذه لا يفرض فيها الأذان ولا الإقامة بل لا يشرع بل هو بدعة لأن الأذان والإقامة إنما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات المكتوبة ، وأما غيرها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن فيها ولم يقم فدل على أن المشروع فيها هو ترك الأذان والإقامة كصلاة الكسوف والاستسقاء .
فالأذان والإقامة خاصان بالصلوات المكتوبة كما يدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو محل التشريع .
وهنا : الصلاة الفائتة والمقضية هل يشرع فيها الأذان والإقامة أم لا ؟(35/38)
الجواب : يشرع ذلك ، فقد ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين في قصة نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قال فيه : ( ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأذن فصلينا ركعتين " أي سنة الفجر " ثم أقام فصلينا )(1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم ، باب الصعيد الطيب وضوء المسلم ( 344 ) قال : حدثنا مسدد قال : حدثني يحيى بن سعيد قال : حدثنا عوف قال : حدثنا أبو رجاء عن عمران قال : كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل ، وقعنا وقعة ، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها ، فما أيقظنا إلا حر الشمس ، وكان أول من استيقظ فلانٌ ثم فلانٌ ثم فلان – يسميهم أبو رجاء فنسي عوف - ثم عمر بن الخطاب الرابع ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه . فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس ، وكان رجلاً جليداً ، فكبّر ورفع صوته بالتكبير ، فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم قال : ( لا ضير أو لا يضير ، ارتحلوا ) فارتحل فسار غير بعيد ، ثم نزل فدعا بالوضوء ، فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس . فلما انفتل من صلاته ، إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم ، قال : ( ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم ؟ ) قال : أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : ( عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك ) . ثم سار النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه الناس من العطش ، فنزل فدعا فلاناً - كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف - ودعا علياً فقال : ( اذهبا فابتغيا الماء ) ، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها ، فقالا لها : أين الماء ؟ قالت : عهدي بالماء أمسِ هذه الساعة ، ونفَرُنا خُلُوف ، قالا لها : انطلقي إذاً ، قالت : إلى أين ؟ قالا : إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : الذي يقال له الصابئ ؟ قالا : هو الذي تعنين ، فانطلقي ، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وحدثاه الحديث ، قال : فاستنزلوها عن بعيرها ، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء ، ففرّغ فيه من أفواه المزادتين أو سطيحتين ، وأوكأ أفواههما ، وأطلق العزاليَ ونودي في الناس : اسقوا واستقوا . فسقى من شاء واستقى من شاء ، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال : ( اذهب فأفرغه عليك ) وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها ، وأيم الله لقد أُقلع عنها وإنه ليخيّل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( اجمعوا لها ) فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة ، حتى جمعوا لها طعاماً ، فجعلوها في ثوب ، وحملوها على بعيرها ، ووضعوا الثوب بين يديها ، قال لها : ( تعلمين ، ما رَزِئْنا من مائك شيئاً ، ولكن الله هو الذي أسقانا ) فأتت أهلها وقد احتبست عنهم ، قالوا : ما حبسك يا فلانة ؟ قالت : العجب ، لقيني رجلان ، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ ، ففعل كذا وكذا ، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه ، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة ، فرفعتهما إلى السماء – تعني : السماء والأرض - أو أنه لرسول الله حقاً ، فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يُصيبون الصِّرْم الذي هي منه ، فقالت يوماً لقومها : ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً ، فهل لكم في الإسلام ؟ فأطاعوها فدخلوا في الإسلام " . وأخرجه في كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ( 3571 ) .
وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل فضائها ( 682 ) بلفظ : عن عمران بن حصين قال : كنت مع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له ، فأدلجنا ليلتنا .. ) الحديث ، وهو طويل .(35/39)
.
والذي يظهر لي هو القول بوجوبها فلا يستحب بل يجب ذلك وقد حكاه صاحب الفروع بلفظة " قيل " فهو قول لبعض أهل العلم ، والذي يدل عليه : عمومات الأدلة الشرعية وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم بلالا من الأذان والإقامة ولأن القضاء يحكى الأداء .
هذا إذا كانت في محل الصلاة المكتوبة تماماً ، كأن يكون هناك جماعة في بر ونحوه فاتتهم صلاة الفجر فاستيقظوا بعد طلوع الشمس فإنهم يؤذنون ويقيمون فيرفعون النداء بالأذان ليتجمعوا على الصلاة بخلاف ما لو فاتته الصلاة في الحضر فإن الأمر يختلف .
نعم : إذا كانوا جماعة في بيت فأذنوا أذاناً يكفي أهل البيت فكذلك .
إذن : المذهب أن الأذان والإقامة للفائتة مستحب حيث توفرت فيها ما يكون في الحاضرة تماماً .
ولنا أن نقول : إذا كان في الحضر فإنه لا يفعل ذلك اكتفاء بالمؤذن الذي يسمعه .
لكننا نقول بوجوبه حيث كان في محل لا يؤذن فيه ، كأن يكون في حضر أو سفر ولم يؤذن في موضعه الذي فيه فإن الأذان يقضى ويجب الأذان وتجب الإقامة لما تقدم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بلالاً والأمر للوجوب ولدخول ذلك في الأدلة الشرعية .
فإذا كان عليه مجموعة من الفوائت فإنه يكتفي بأذان واحد لأن هذا الأذان قد جمع الناس إلى هذا الموضع فيكتفي به ، ولكن لكل صلاة إقامة .(35/40)
يدل على ذلك : ما رواه أحمد والترمذي والنسائي والحديث حسن عن ابن مسعود قال : " شُغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن أربع صلوات ، فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء "(1) فيكتفى بالأذان الأول وتقام لكل صلاة .
كما أنه لا يشرع للصلاة المجموعة إلا أذاناً واحداً كما دلت عليه السنة الصحيحة المتفق عليها .
قال : ( يقاتل أهل بلد تركوهما )
لأنهما من الشعائر العظيمة في الإسلام .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الأذان ، باب الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد .. ( 662 ) قال : " أخبرنا هنَّاد عن هُشيم عن أبي الزبير عن نافع بن جبير ، عن أبي عُبيدة قال : قال عبد الله : " إن المشركين شغلوا رسول الله عن أربع صلوات يوم الخندق ، فأمر بلالاً فأذَّن ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء " ، وأخرج أيضا ( 661 ) عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال : " شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنز الله عز وجل { وكفى الله المؤمنين القتال } ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام للعصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ثم أذن للمغرب ، فصلاها كما كان يصليها في وقتها " .
وأخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ ( 179 ) بنفس السند السابق ، قال فيه الألباني : " ضعيف " .(35/41)
وإذا تمالأ – كما في القاعدة الشرعية - أهل بلد على ترك شعيرة من الشعائر الإسلامية فإنهم يقاتلون وهذه المقاتلة ليست فرعاً عن التكفير ، بل كونهم قد تمالؤوا على ترك شعيرة من الشعائر الظاهرة هذا يقتضي قتالهم على ذلك كما قرر ذلك شيخ الإسلام كأن يتمالؤوا على ترك الزكاة أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة كصلاة العيد ونحوها فإنهم يقاتلون ومن ذلك الأذان .
وقد ثبت في مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان يغير إذا طلع الفجر فإذا سمع أذاناً وإلا أغار ) (1) فمن تركوا شعيرة من الشعائر فإنهم يقاتلون حتى يظهروا هذه الشعيرة .
والحمد لله رب العلمين .
الدرس الثالث والخمسون
( يوم الأحد : 16 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( وتحرم أجرتهما لا رزق من بيت المال لعدم متطوع )
" أجرتهما " : أي الأذان والإقامة .
في هذه الجملة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : أن الرزق على الأذان والإقامة من بيت المال لعدم المتطوع جائز.
وهذا مما اتفق عليه أهل العلم ، وقد ذكر الموفق أنه لا يعلم بين أهل العلم فيه خلافاً وهذا كرزق الغزاة والقضاة وغيرهم . فالرزق يجوز أخذه مطلقاً .
المسألة الثانية : أنه لا يجوز للإمام أن يدفع رزقاً للمؤذن إلا إذا عدم المتطوع . أما إذا كان ثمت متطوع فلا يجوز ذلك حفظاً لمال المسلمين وصيانة له من الضياع ، وهذه المسألة هي ظاهر المذهب في قوله " لعدم متطوع "
المسألة الثالثة : أن الأجرة محرمة على الأذان والإقامة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان ( 382 ) عن أنس بن مالك قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان ، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار … "(35/42)
والمراد بالأجرة : ما يأخذه من آحاد الناس ، بمعنى لا يكون هذا من بيت المال ، كأن يكون جماعة المسجد يضعون له راتباً فهذه هي الأجرة بخلاف الرزق فإنه يكون من بيت المال ، فهذه الأجرة محرمة لقول النبي صلى الله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم – بإسناد صحيح من حديث عثمان بن أبي العاص وفيه : ( واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ) (1) هذا هو المشهور في المذهب .
- وعن الإمام أحمد رواية أخرى وهي اختيار شيخ الإسلام : أن ذلك جائز مع الفقر ، فإذا كان المؤذن محتاجاً إلى الأجرة على الأذان فهذا جائز له ، لقوله تعالى : { ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف }(2) وهذا فيما يكون في مال اليتيم ، فيجب عليه أن يتعفف عن أكله إلا أن يكون فقيراً فيحق له أن يأكل بالمعروف ومثل ذلك القيام بالأذان .
فالقيام على مال اليتيم قربة يتقرب بها إلى الله وكذلك القيام بالأذان وغيره من العبادات التي نفعها متعد إلى الغير فكذلك .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب أخذ الأجرة على التأذين ( 531 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا سعيد الجريري ، عن أبي العلاء ، عن مطرف بن عبد الله ، عن عثمان بن أبي العاص ، قال : قلت - وقال موسى في موضع آخر : إن عثمان بن أبي العاص قال : - يا رسول الله ، اجعلني إمام قومي ، قال : ( أنت إمامهم ، واقتد بأضعهم واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً ) ، وأخرجه النسائي 673 ، وأخرج الترمذي القسم الأخير برقم 209 ، ومسلم أخرج القسم الأول برقم 468 ، وأخرج ابن ماجه القسم الأخير 714 ، سنن أبي داود [ 1 / 363 ] .
(2) سورة النساء .(35/43)
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ) (1) وهذا قد فتح له باب رزق ليسد به فقره ويكفي به نفسه وعياله فحينئذ يجب(2) عليه قبوله .
وسيأتي مزيد بحث عن هذه المسألة في باب الإجارة إن شاء الله تعالى .
أما الرزق من بيت المال فإنه جائز مطلقاً عند جماهير أهل العلم إلا أن شيخ الإسلام حكى كذلك في هذه المسألة قولان مع الغنى ، هل يجوز مع الغنى أم لا ؟
وأما جماهير أهل العلم فإنهم على القول بجواز ذلك .
إذن : يجوز أن يأخذ على الأذان أجرة إن كان فقيراً أما إن كان غنياً فلا يجوز له ذلك .
قال : ( ويكون المؤذن صيتاً )
أي رفيع الصوت ، لما ثبت في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعبد الله بن زيد بن عبد ربه وقد رأى الأذان : ( فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك ) (3) أي أرفع صوتاً منك .
وعلة ذلك واضحة فإن الصوت كلما ارتفع كلما تم الإعلام وظهر ووضح . فكلما كان الصوت أرفع كلما كان الإعلام أتم وأظهر .
ويسن أن يكون حسن الصوت : لما ثبت في ابن خزيمة من حديث أبي محذورة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجبه صوته فعلمه الأذان )(4) . وقد ذكر استحباب ذلك الموفق وغيره ، وأن المستحب أن يكون المؤذن حسن الصوت .
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود ، الإرواء برقم 894 ، 989
(2) في حاشية الأصل ما نصه : " في نسخة : فيجوز أو يجب " .
(3) أخرجه أبو داود في حديث طويل بنفس اللفظ في كتاب الصلاة ، باب كيف الأذان ( 499 ) قال : " حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال : حدثني أبي عبد الله بن زيد ، قال : " لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس … "(35/44)
قال : ( أميناً(1) )
فيستحب أن يكون أميناً لا فاسقاً وسيأتي البحث في آخر الباب عن حكم أذان الفاسق فالمستحب أن يكون أميناً عدلاً ، يدل على ذلك ما تقدم من حديث : ( والمؤذن مؤتمن ) فهو مؤتمن على صلاة الناس وسحورهم مؤتمن على عوراتهم فكان المستحب أن يكو أميناً .
وروى البيهقي بإسناد ضعيف لكن له شاهد مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المؤذنون أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم )(2) والحديث حسن بشواهده .
قال : ( عالماً بالوقت )
فيستحب أن يكون عالماً بالوقت أي يعرف أمارات وعلامات يعرف بها دخول الوقت وخروجه ويعرف بذلك الأوقات كلها – هذا أمر مستحب وليس بواجب .
__________
(1) أي ظاهراً وباطناً ، وأما أمانته وعدالته ظاهراً فشرط في الأذان كما سيأتي عند قوله " من عدل " .
(2) أخرجه البيهقي في باب ( 77 ) لا يؤذن إلا عدل .. من كتاب الصلاة ( 1999 ) قال : " أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقري الحمامي رحمه الله تعالى ببغداد ، ثنا أحمد بن سلمان الفقيه ، ثنا محمد بن عبد الله بن سليمان ، ثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثني إبراهيم بن أبي محذورة ، وهو إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبيه عن جده ، عن أبي محذورة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أمناء المسلمين على صلاتهم وسحورهم المؤذنون ) ، وقال ( 2000 ) : " أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن ، وأبو زكريا يحيى بن إبراهيم ، قالا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، أنبأ الربيع بن سليمان ، حدثنا الشافعي ، أنا عبد الوهاب ، عن يونس عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( المؤذنون أمناء المسلمين على صلاتهم ) قال : وذكر معها غيرها " قال البيهقي : " وهذا المرسل شاهد لما تقدم " ا.هـ .(35/45)
والذي يدل على أنه ليس بواجب ما ثبت في الصحيحين أن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم وكان أعمى لما ثبت في البخاري قال : ( وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت ) (1) .
فإذا كان الأعمى يصح آذانه فأولى منه الجاهل بالوقت ، إلا إذا كان لا يمكن معرفة الوقت إلا بالمؤذن – كأن يكونوا محتاجين لأن يضعوا مؤذناً في بلد ما لا يمكنهم أن يعرفوا الوقت إلا بأذانه – وليس هناك من يعينه على معرفة الوقت فيجب أن يختار فيها من يكون عالماً بالوقت لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
لكن لما كان الأصل في البلاد أن يكون فيها من يعين المؤذن على معرفة الوقت – حينئذٍ – كان هذا من الأمور المستحبة .
فكان مستحباً لوجود من يعينه على معرفته ، وإنما استحب ذلك لأنه إن كان غير عالم بالوقت فلا يؤمن عليه الخطأ والغلط في الأذان فيلحق الناس الضرر في صلاتهم وفي سحورهم .
قال : ( فإن تشاح فيه اثنان قدم أفضلهما فيه )
" تشاح " : أي اختلفا وتنازعا .
" قدم أفضلهما فيه " : أي في صفات الأذان وهي الأمانة وحسن الصوت وارتفاعه والعلم بالوقت ، فمن كانت فيه الصفات أكمل فهو أولى وأحق بالأذان .
قال : ( ثم أفضلهما في دينه وعقله )
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان / باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره ( 617 ) ، ومسلم في الصيام / باب أن الدخول في الصيام يحصل بطلوع الفجر ( 1092 ) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، الشرح الممتع [ 2 / 47 ] .(35/46)
واستدلوا : بما ورد في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يؤذن لكم خياركم )(1) لكن الحديث إسناده ضعيف .
ولكن هذا أمر ظاهر فإنه أكرم عند الله ممن هو دونه – كما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }(2) وكلما زادت هذه الصفة في العبد كلما زادت كرامته عند الله فكان أولى من غيره بالعبادة المتنازع فيها .
قال : ( ثم من يختاره الجيران )
كلهم أو أكثرهم ، فإن اختاروا أحد الرجلين قدم ذلك ؛ لأنهم أعلم بهما من غيرهم ، من حفظ عورة وقيام بالأذان على الوجه المستحق فلما كان كذلك رُجع بالأمر إليهم مما اختاره الجيران بالمرتبة الثالثة .
فنقدم : الأكمل في صفات الأذان ثم الأتقى ثم من يختاره الجيران ، ثم بعد ذلك القرعة .
قال : ( ثم قرعة )
ودليلها ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليهما لاستهموا ) (3) فهذا فيه إثبات القرعة .
ومن القواعد الشرعية أنه متى ثبت التنازع في شيء ما وليس ثمت مرجح وازدحمت فإنه يقدم من قدمته القرعة فهنا كذلك ، فقد اختلفوا في الأذان ولا مرجح لأحدهما على الآخر فلم يكن ثمت مرجوع إليه سوى القرعة التي ثبت بها حكم الله تعالى .
قال : ( وهو خمس عشرة جملة )
وهو : أي الأذان .
__________
(1) لم أجده في باب بدء الأذان في سنن أبي داود ، بل أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، آخر حديث في باب ( 16 ) من أحق بالإمامة ( 590 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا حسين بن عيسى الحنفي ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم ) ، وأخرجه ابن ماجه ( 726 ) .
(2) سورة الحجرات .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب الاستهام في الأذان ( 615 ) ، وفي باب الصف الأول ( 721 ) مختصرا ، وأخرجه مسلم ( 437 ) .(35/47)
" خمس عشرة جملة " : وهو الأذان المشهور عندنا وهو أذان بلال الثابت في الصحاح والسنن والمسانيد(1) ، وقد اختاره الإمام أحمد وأبو حنيفة .
واختار الشافعي ومالك أذان أبي محذورة الثابت في مسلم وهو كذلك ثابت في السنن(2) .
وعدد جمله تسع عشرة جملة " 19 " وفيها خفض الشهادتين بأن يقول بعد قوله " الله أكبر أربعاً " يقول : " أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله " خافضاً صوته ثم يرفع صوته " أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله "
وفي مسلم أنه قال : ( أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله – خافضاً صوته – ثم: أشهد ألا إله إلا الله أشهد ألا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله رافعاً بها صوته " ) (3) ويكون الخفض بحيث يسمع نفسه ويسمع القريب منه .
- واختار أبو حنيفة إقامة أبي محذورة ، وهي سبع عشرة جملة ، كأذان بلال بزيادة " قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة " بعد الحيعلتين .
* واعلم أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على أوجه مختلفة فإن السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة – كما قرر هذا شيخ الإسلام وغيره – وهذا كذلك .
__________
(3) لفظه في مسلم عن أبي محذورة : أن نبي الله علمه الأذان : ( الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ) ثم يعود فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداًَ رسول الله ، حي على الصلاة مرتين ، حي على الفلاح مرتين ، زاد إسحاق : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ) . وهو في باب صفة الأذان من كتاب الصلاة ( 379 ) .(35/48)
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بأذان بلال وأُذن له به ، وثبت أنه أمر بأذان أبي محذورة وأذن له به وكان هو أذان أهل مكة ، وأذان بلال هو أذان أهل المدينة .
فعلى ذلك : السنة أن يفعل هذا تارة وهذا تارة ما لم يكن في ذلك فتنة ، لذا الإمام أحمد نص على أنه لا بأس بأذان أبي محذورة لثبوت ذلك(1) .
قال : ( يرتلها )
يترسل بها ترسلاً ويتمهل في الأذان لأن المقصود منه إعلام الغائبين فكان المستحب فيه الترسل .
وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لبلال : ( إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر ) (2) أي أسرع وتعجل ، والحديث إسناده ضعيف لكن العمل عليه كما قال ذلك الترمذي(3) ، وكذلك المعنى يدل عليه فإن المقصود من الأذان إعلام الغائبين فكان المشروع فيه الترسل والتمهل.
وأما الإقامة فإنها إعلام لمن حضر في المسجد بإقامة الصلاة فكان المشروع فيها الحدر والإسراع .
قال : ( على علو )
على منارة ونحوها ، لأن ذلك أبلغ في الإعلام .
__________
(1) هنا عبارة في الأصل ما نصه : " انظر آخر الدرس " .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في الترسل في الأذان ( 195 ) قال : " حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا المعلى بن أسَد حدثنا عبد المنعم ، هو صاحب السِّقَاء ، قال حدثنا يحيى بن مُسْلم عن الحسن وعطاء ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال : ( يا بلال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر ، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر .. ) .
(3) لم أجد كلامه في باب ما جاء في الترسل في الأذن ، من كتاب الصلاة ، سنن الترمذي ، طبعة بيت الأفكار .(35/49)
ويدل عليه ما رواه أبو داود مبوباً عليه بقوله " باب الأذان على المنارة " ثم روى أن بلالاً كان يؤذن على أرفع بيت حول المسجد(1) .
وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق هو تابعي قال : من السنة أن يؤذن على المنارة ، وأن يقيم في المسجد ) (2) والإسناد صحيح إلى عبد الله – والتابعي إذا قال " من السنة " فهو مرفوع .
وأما مع ظهور رافعات الصوت فإن استعمالها كاف عن ذلك فإن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
* ويستحب للمؤذن أن يؤذن قائماً إجماعاً وهو كذلك أرفع لصوته وأبلغ في الإعلام ، فإن أذن جالساً فأذانه صحيح بالإجماع(3) .
قال : ( متطهراً )
يستحب أن يؤذن متطهراً وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤذن إلا متوضئ ) (4) لكن الحديث إسناده ضعيف .
وروى موقوفاً إلى أبي هريرة وإسناد ضعيف أيضاً فلا يصح موقوفاً ولا مرفوعاً .
__________
(1) قال أبو داود في سننه [ 1 / 357 ] في كتاب الصلاة : " باب الأذان فوق المنارة " ( 519 ) ثم قال : " حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت : كان بيتي من أطول بيت حول المسجد وكان بلال يؤذن عليه الفجر .. "
(3) وقيل بعدم الإجزاء ، راجع حاشية الروض المربع .
(4) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء ( 200 ) قال : " حدثنا علي بن حُجْر حدثنا الوليد بن مسلم عن معاوية بن يحيى الصدفي عن الزهري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يؤذن إلا متوضئ ) . وقال ( 201 ) حدثنا يحيى بن موسى حدثنا عبد الله بن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال : قال أبو هريرة : لا يُنادي بالصلاة إلا متوضئ ) .(35/50)
لكن يستدل له بما روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر ) (1) فإن أذن بغير وضوء فأذانه صحيح باتفاق العلماء .
قال : ( مستقبل القبلة )
إجماعاً – وهذا ما عليه العمل عند أهل العلم – فإن أذن لغير القبلة فصحيح ، لكن المستحب أن يؤذن إلى القبلة ، وقد أجمع أهل العلم على القول به .
قال : ( جاعلاً إصبعيه في أذنيه )
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة ، باب أيرد السلام وهو يبول ( 17 ) ، وأخرجه النسائي في الطهارة برقم 38 ، وابن ماجه برقم 350 . سنن أبي داود [ 1 / 23 ] .(35/51)
لما ثبت في حديث بلال وفيه : ( وجعل إصبعيه في أذنيه ) (1) والحديث ليس فيه ذكر الإصبع أهي السبابة أم غيرها ، ولكن قد جزم غير واحد من أهل العلم كالنووي وغيره أن المستحب أن تكون السبابة . وهذا حسن ، ولكن الحديث لم يعين ذلك ، والأحرى أن تكون هي السبابة فهي أنسب من غيرها في ذلك .
قال : ( غير مستدير )
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأذان والسنة فيه ، باب السنة في الأذان ( 711 ) قال : " حدثنا أيوب بن محمد الهاشمي حدثنا عبد الواحد بن زياد بن حجّاج بن أرطاة عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح وهو في قبة حمراء فخرج بلال فأذّن فاستدار في أذانه وجعل إصبعيه في أذنيه " ، وقال أيضاً ( 710 ) " حدثنا هشام بن عَمَّار قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد بن عمّار بن سعد مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه وقال : " إنه أرفع لصوتك " قال البوصيري : هذا إسناد ضعيف لضعف أولاد سعد القرظ : عمار ، وسعد وعبد الرحمن " سنن ابن ماجه طبعة بيت الأفكار . وذكره البخاري معلقاً في كتاب الأذان باب هل يتتبع المؤذن فاه ههنا وههنا وهل يتلفت في الأذان فقال رحمه الله تعالى : " ويذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه ، وكان ابن عمر لا يجعل إصبعيه في أذنيه " . وأخرجه الترمذي في أبواب الصلاة باب 144 ما جاء في إدخال الاصبع في الأذن عند الأذان رقم ( 197 ) ، والنسائي في الأذان ، باب كيف يضع المؤذن في أذانه ، وأحمد 4 / 308 ، من حاشية سبل السلام [ 1 / 254 ] .(35/52)
أي لا يستدير ببدنه ، وفي أبي داود من حديث بلال وفيه : ( ولم يستدر ) (1) فلا يشرع له أن يستدير بل ينبغي له أن يبقي بدنه على استقبال القبلة ، ولا تشرع له الاستدارة لما فيها من التحول عن القبلة .
قال : ( ملتفتاً في الحيعلتين يميناً وشمالاً )
وظاهر المذهب أنه يقول " حي على الصلاة ، حي على الصلاة " عن اليمين ، ثم " حي على الفلاح ، حي على الفلاح " عن الشمال – هذا هو المصرح به في المذهب .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في المؤذن يستدير في أذانه ( 520 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا قيس - يعني ابن الربيع ح وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري ، حدثنا وكيع عن سفيان جميعاً عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو في قبة … فأذن ، فلما بلغ : حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، لوى عنقه يمينا وشمالا ، ولم يستدر .. " .(35/53)
- وذهب بعض أهل العلم : إلى أن المستحب أن يقول " حي على الصلاة " عن اليمين ، ثم " حي على الفلاح " عن الشمال ، ثم " حي على الصلاة " عن اليمين ،ثم " حي على الفلاح " عن الشمال. وهو أولى ، وممن اختار هذا القول ابن دقيق العيد في شرحه للعمدة(1) .
وهذا أولى ، لأن كلاً من الجهتين تأخذ نصيبها من هاتين الجملتين ، فتنال جهة اليمين التي يصل الصوت منها إلى أهل اليمين تصل إليهم " حي على الصلاة " وكذلك " حي على الفلاح " وكذلك من كان عن شماله .
ومعلوم أنه ربما لا يسمع أهل الجهة اليسرى مثلاً ما يؤديه المؤذن إلى الجهة اليمنى مع البعد .
والمناسب أن تصل كل جملة من الجملتين إلى أهل كل جهة فكان الأنسب ما اختاره ابن دقيق العيد .
ودليل ذلك : ما ثبت في أبي داود أن بلالاً كان يلوي عنقه ويقول : ( حي على الصلاة حي على الفلاح يميناً وشمالاً ) (2) .
__________
(1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات صْ 17 ما نصه : " واختار ابن دقيق العيد – وهو الأرجح - : أنه يقول عن يمينه : حي على الصلاة ، وعن يساره : حي على الصلاة ، ثم عن يمينه : حي على الفلاح ، ثم عن يساره : حي على الفلاح ، لتأخذ كل جهة حقها ، ويدل عليه ظاهر الحديث في أبي داود : أنه كان يقول : " حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، يمينا وشمالا " . فالظاهر : أنه يقول : حي على الصلاة ، يمينا ، و : حي على الصلاة ، يسار ، ثم يقول : حي على الفلاح ، يمينا ، ثم : حي على الفلاح ، يسارا . هذا إذا لم هناك ميكروفون أمامه ينقل الصوت عن اليمين وعن الميسرة ، إذ ليس هذا الأمر تعبديا ، بل المقصود منه : إبلاغ من عن يمين المسجد ومن عن يساره " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب الأذان فوق المنارة ( 520 ) وقد تقدم .(35/54)
وهذا الحديث ظاهره ما ذهب إليه ابن دقيق فإنه جمع للجملتين كليهما جهة اليمين وجهة الشمال ، فقال : " حي على الصلاة حي على الفلاح يميناً وشمالاً " ، وظاهره أن كل جملة ثبت لها جهة اليمين وجهة الشمال .
قال : ( قائلاً بعدها في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم مرتين )(1)
وهل هو في الأذان الأول أم في الثاني ؟
ظاهر إطلاقات الفقهاء – كما قال ذلك الشيخ على بن محمد بن عبد الوهاب وغيره – أنه يقول ذلك بالأذانين كليهما .
ودليل ذلك : ما ثبت في ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أنس بن مالك قال : ( من السنة أن يقول المؤذن في أذان الفجر بعد حي على الصلاة حي على الفلاح : الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم ) (2) وهنا قال " في أذان الفجر " والأول والثاني كلاهما أذان للفجر .
__________
(1) قال الترمذي في باب ما جاء في التثويب في الفجر من كتاب الصلاة بعد حديث ( 198 ) ما نصه : " وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب ، فقال بعضهم : التثويب أن يقول في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول ابن المبارك وأحمد . وقال إسحاق في التثويب غير هذا ، قال : التثويب المكروه هو شيء أحدثه الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة حي على الفلاح " ا.هـ .وعليه حمل ما رُويَ عن ابن عمر .(35/55)
وقد ثبت أن هذا من أذان بلال وأنه كان يقولها في أذانه كما ورد هذا عن بلال من طرق ترتقي إلى درجة الحسن في مسند أحمد وغيره(1) ، وبلال كان يؤذن تارة أذان الفجر الأول ، وتارة أذانه الثاني ، وكان يقول في أذانه " الصلاة خير من النوم " .
__________
(1) روى الإمام أحمد في مسنده ( 24409 ) قال : " حدثنا حسن بن الربيع وأبو أحمد ، قالا : حدثنا أبو إسرائيل - قال أبو أحمد في حديثه - حدثنا الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أثوب في شيء من الصلاة إلا صلاة الفجر " وقال ( 24410 ) حدثنا علي بن عاصم ، عن أبي زيد عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال : أمرني رسول الله أن لا أثوب إلا في الفجر " وقال : ( 24411 ) حدثنا أبو قَطَن ، قال : ذكر رجل لشعبة الحَكَمُ ، عن ابن ابن - كذا في طبعة بيت الأفكار - أبي ليلى عن بلال ، فأمرني أن أثوب في الفجر ونهاني عن العشاء . فقال شعبة : لا والله ما ذكر ابن أبي ليلى ولا ذكر إلا إسناداً ضعيفاً ، قال : أظن شعبة قال : كنت أراه رواه عن عمران بن مسلم " ا.هـ(35/56)
فإن قيل : فما الجواب : عما ورد في النسائي من حديث أبي محذورة قال : ( كنت أؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة فكنت أقول في أذان الفجر الأول : " الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم " ) (1)
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الأذان ، باب التثويب في أذان الفجر ( 647 ) ، ورواه الإمام أحمد في مسنده ( 15453 ) قال : " حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي جعفر - قال عبد الرحمن : ليس هو الفراء – عن أبي سلمان ، عن أبي محذورة قال : كنت أؤذن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح فإذا قلت : حي على الفلاح قلت : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ، الأذان الأول " وقال أيضاً ( 15452 ) : " حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال : قلت : يا رسول الله ، علمني الأذان فمسح ... فإن كان صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم … " وروى الأخير أبو داود بنفس السند إلا أن في أوله مسدد بدل سريج بن النعمان في كتاب الصلاة ، باب ( 28 ) كيف الأذان ( 500 )
سريج بن النعمان : بن مروان الجوهري ، أبو الحسن البغدادي ، أصله من خراسان ، ثقة يهم قليلا من كبار العاشرة ، مات يوم الأضحى ، سنة سبع عشر / خ 4 .
الحارث بن عبيد : الإيادي ، أبو قدامة البصري ، صدوق يخطئ ، من الثامنة . / خت م د ت ، التقريب ، وتهذيب الكمال [ 5 / 258 ] . وقال البيهقي في السنن الكبرى ( 1980 ) : " أخبرنا أبو علي الروذباري ، ثنا أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثنا الحسن بن علي ، ثنا أبو عاصم وعبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني عثمان بن السائب ، أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، وفيه : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح " ا.هـ .
محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة الجُمَحي ، المكي المؤذن ، مقبول ، من السابعة / د .
عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي ، مقبول ، من الثالثة / عخ د ت س .(35/57)
فالجواب : أن في هذا الحديث راو مجهول وهو أبو سليمان(1) وهو مجهول الحال – فعلى ذلك الحديث يتوقف في قبوله لوجود هذه الجهالة – وما كان كذلك فهو في حكم المردود .
وأما ما ثبت في البيهقي بإسناد جيد عن ابن عمر أنه قال : ( كان يقال : في الأذان الأول بعد : حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم ) (2)
فالجواب على ذلك : أن ذلك ليس بظاهر في أنه أذان الفجر الأول ، بل قال : " في الأذان الأول " وأذان الفجر هو الأذان الأول ، بدليل أن العصر هي الصلاة الوسطى ، وهذا أمر ظاهر فإن الفجر أول النهار فكان هو الأذان الأول .
__________
(1) كذا في الأصل وهو كذلك في سنن البيهقي [ 1 / 622 ] وفي السلسلة الصحيحة [ 4 / 334 ] ، ولعل الصواب : أبو سلمان كما في النسائي ( 647 ) ومسند الإمام أحمد ( 15453 ) وفي تهذيب الكمال والتقريب ، قال في التقريب : " قيل اسمه همام ، مقبول من الثالثة . / س " . وذكر المزي في التهذيب [ 33 / 367 ] أنه روى عن علي بن أبي طالب وأبي محذورة ، وروى عنه العلاء بن صالح الكوفي ، وأبو جعفر الفراء " .
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة ، باب ( 74 ) التثويب في أذان الصبح رقم ( 1986 )(35/58)
ومع ذلك فإنه لو كان من اكتفاء به في أحد الأذانين كما يفعله الناس اليوم من كونهم يكتفون بهذا في أذان الفجر الثاني – فلو كان من اكتفاء لكان الأولى به هو أذان الفجر الأول الذي إنما شرع لإيقاظ النائم كما ورد هذا في الحديث المتفق عليه – في أذان بلال قال : ( ليوقظ نائمكم ) (1) فشرع لإيقاظ النائم أي " أذان الفجر الأول " فكان أحق أن يقال فيه هذه اللفظة ، بخلاف أذان الفجر الثاني لأنه يؤذن وقد استيقظ الناس فهم يستعدون لصلاة الفجر .
وما يفعله الناس من الفارق البعيد بين الأذان الأول والأذان الثاني من الفجر خلاف السنة وسيأتي الدليل عليه في باب المواقيت إن شاء الله .
إذن : المستحب أن يقولها في الأذانين كليهما ، ولو كان من اكتفاء بها في أحد الأذانين ، فالمستحب أن يكون هو الأول لما فيه من المعنى المتقدم وهو إيقاظ النائم ليستعد للصلاة وليتسحر إن أراد الصيام .
وما ذكرته هو ما قرره الشيخ علي بن محمد بن عبد الوهاب في مسألة له في مجموعة المسائل النجدية(2) .
قال : ( وهي - أي الإقامة - إحدى عشر جملة )
كما هي إقامة بلال الثابتة – كما تقدم – في الصحاح والسنن والمسانيد(3) .
وأما إقامة أبي محذورة فإنها سبع عشرة جملة ، وهي ثابتة في المسند وسنن أبي داود والنسائي(4) وغيرهم بإسناد صحيح .
قال : ( يحدرها )
أي يسرع بها ويتعجل ، فلا يتريث كالأذان بل يحدرها ، ودليل ذلك الحديث المتقدم وقد تقدم تضعيفه(5) لكن العمل عليه .
قال : ( ويقيم من أذن )
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب الأذان قبل الفجر ( 621 ) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يمنعن أحدكم … ليرجع قائمكم ولينبّه نائمكم ) . وأخرجه مسلم ( 1093 ) .
(5) تقدم صْ 34 .(35/59)
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أذن فهو يقيم ) (1) رواه الترمذي لكن الحديث إسناده ضعيف، وعليه عمل أكثر أهل العلم – كما قال الترمذي(2) – فعليه العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فما بعده ، فإن بلالاً هو الذي كان يؤذن وهو الذي كان يقيم ، وإذا أذن ابن أم مكتوم فهو الذي كان يقيم وهكذا .
قال : ( في مكانه إن سهل )
يعني : إن سهل عليه فيقيم في مكانه أي على المنارة .
لكن هذا ضعيف لا دليل عليه .
- لذا ذهب بعض فقهاء الحنابلة : إلى أن المستحب أن يقيم في المسجد .
وقد تقدم أثر عبد الله بن شقيق وهو قوله : " من السنة أن يؤذن في المنارة ويقيم في المسجد"(3) وهذا كذلك الذي عليه العمل سلفاً وخلفاً .
فالمستحب أن تكون الإقامة في المسجد ، والمعنى يدل على ذلك فإن الإقامة شرعت لإعلام الحاضرين بخلاف الأذان فهو لإعلام الغائبين .
والأذان لإعلام من هو خارج المسجد ليحضر إليه أما الإقامة فهي هنا لإعلام من حضر في المسجد فناسب أن تكون فيه لا سيما وأنه قد يكون الأمر على خلاف هذا المعنى تماماً – فقد لا يسمع من في المسجد الإقامة إن كانت على المنارة وهذا يخالف المقصود تماماً .
فالراجح : ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنابلة من أن المستحب أن تكون الإقامة في المسجد ؛ لأنها لإعلام الحاضرين وهم في المسجد فناسب أن تكون فيه ، بخلاف الأذان فإنه لإعلام الغائبين فناسب أن يكون على المنارة .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ( 32 ) ما جاء أن من أذن فهو يقيم ( 199 ) بلفظ : " إن أخا صُدَاء قد أذن ، ومن أذن فهو يقيم " .
(2) قال في كتاب الصلاة ، باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم : " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم "(35/60)
* واعلم أن الإمام أملك بالإقامة كما أن المؤذن أملك بالأذان ، فالمؤذن أملك بالأذان وهو إليه ، وأما الإقامة فلا يشرع له أن يقيم إلا بإذن الإمام فإن فعل ذلك فقد أخطأ السنة ، واستدلوا على ذلك: بما رواه ابن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة ) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف ولكنه ثابت عن علي رضي الله عنه – كما في البيهقي(2) بإسناد جيد .
وهو الذي يدل عليه النظر الصحيح فإن الصلاة التي تقام من شؤون الإمام فيما يختاره من الوقت الأنسب لها فيما يوافق السنة وبما فيه الرفق بالمأمومين ، فكان ذلك إلى الإمام بخلاف الأذان فإنه راجع إلى تحرى الوقت فكان راجعاً إلى المؤذن .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الرابع والخمسون
( يوم الاثنين : 17 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ولا يصح إلا مرتباً متوالياً )
" ولا يصح " : أي الأذان
" إلا مرتباً " : كما ورد " الله أكبر الله أكبر ………الخ
لابد أن يكون مرتباً
" متوالياً " : بحيث لا يكون بين جمله فاصل طويل عرفاً .
ودليل هذه المسألة أن الوارد في الأذان الشرعي أن يكون مرتباً متوالياً ، فلم يثبت التنكيس فيه ولا القطع .
__________
(1) قال الحافظ في البلوغ : " رواه ابن عدي وضعفه " سبل السلام [ 1 / 268 ] .
(2) أخرجه البيهقي في كتاب الصلاة ، باب ( 131 ) لا يقيم المؤذن حتى يخرج الإمام ( 2279 ) قال : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق ، أنبأ محمد بن غالب ، أنبأ أبو عمرو الحوضي ، وعمرو بن مرزوق ، ومسلم بن إبراهيم ، قالوا : أنبأ شعبة ، عن منصور ، قال : سمعت هلالاً بن يساف يحدث عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه قال : " المؤذن أملك … " قال البيهقي : " وروي عن شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً وليس بمحفوظ " .(35/61)
فإذا ثبت ذلك فإن سواه مردود لكونه يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد فإذا قدم بعض جمله على بعض فإن الأذان يبطل بذلك ، وكذلك إذا فصله بفاصل طويل عرفاً كسكوت أو كلام طويل قاطع - ومرجع ذلك إلى العرف ؛ لما تقدم - وكل عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد .
قال : ( من عدل(1) )
أما إن كان فاسقاً فلا يصح أذانه وهذا رواية عن أحمد وهو المشهور عند الحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( والمؤذن مؤتمن )(2) والفسق ضد الأمانة ، فالواجب أن يكون أميناً ومن كان فاسقاً فليس كذلك .
قالوا : ولأن الله سبحانه وتعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا }(3) وهذا خبر فوجب أن يرد ؛ لأن خبر الفاسق مردود .
- وذهب الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد : إلى صحة أذان الفاسق ؛ لأنه قد قام بوظيفة الأذان وهو مسلم وداخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( فليؤذن لكم أحدكم ) (4) .
وأما قضية الخبر فهي راجعة إلى السامعين .
ولكن هذا فيه نظر ظاهر ، فالأرجح مذهب أهل القول الأول ، ولكن هذا ليس على الإطلاق ، وإنما ذلك حيث يعتمد على أذانه أما إذا كان في بلدة فيها غيره من المؤذنين الذي يعتمد على أذانهم في الصلاة والصيام فإنه يصح أذانه لأن الله قال : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وهنا يتم التبين والتثبت بسماع غيره من المؤذنين الذين هم من أهل العدالة والصدق .
فإذن : إنما يرد ولا يصح أذانه حيث كان في حالة يعتمد على أذانه فيها كأن يكون في قرية أو نحوها هو المؤذن .
__________
(1) أي ظاهراً ، وأما عدالته باطناً وظاهراً فمستحب ، كما تقدم عند قوله " أميناً " . قاله في حاشية الروض .
(2) رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وقد تقدم صْ 23 .
(3) سورة الحجرات .
(4) متفق عليه ، وقد تقدم صْ 25 .(35/62)
أما إذا كان أذانه بمنزلة السنة المؤكدة ، فإنه إذا أذن بعض المؤذنين في البلد وقامت بهم الكفاية فأذان غيرهم من باب السنة المؤكدة لأنه قد قام الفرض بأذان غيره – فعلى ذلك أذانه صحيح لأنه يمكن التبين والتثبت بسماع غيره من المؤذنين .
قال : ( من عدل ولو ملحناً )
أي ولو كان مطرباً ، أي فيه تطريب وتحسين صوت على هيئة غير شرعية بأن يكون فيه زيادة في المد وفيه شيء من ترديد الصوت أو نحو ذلك مما يخرجه عن هيئته الشرعية إلى أن يكون مشابها للغناء فهذا هو الملحن ، فإنه لو كان ملحنا فالأذان صحيح .
وهذا أحد الوجهين في مذهب أحمد وهو المشهور .
وأما الوجه الثاني في المذهب فهو : أن أذان الملحن لا يجزئ .
واستدلوا : بما رواه الدار قطني : أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال له : ( إن الأذان سهل سمح " أي بغير تكلف " فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فاعتزلنا ) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف .
وهو ثابت عن عمر بن عبد العزيز كما رواه البخاري عنه معلقاً مجزوماً به ووصله ابن أبي شيبة(2) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني في كتاب الجنائز / باب ( 16 ) تخفيف القراءة لحاجة / رقم 1852 . في إسناده إسحاق بن يحيى الكعبي ، قال المحقق : " قال ابن حبان : وليس لهذا الحديث أصل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ا.هـ قال الحافظ عن إسحاق الكعبي : هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات ، وكذا قال الذهبي ، وقال أيضاً : " ومن أوابده عن ابن جريج حديث : إن كان أذانك سهلا .. " ا.هـ بتصرف .
(2) ذكره البخاري في بداية باب رفع الصوت بالنداء من كتاب الأذان بلفظ " وقال عمر بن عبد العزيز : أذِّنْ أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا " .(35/63)
والذي استدل به أهل القول الأول من صحة الأذان : قالوا : إن الأذان الملحن يحصل به المقصود من إبلاغ السامعين الأذان الشرعي بألفاظه الصحيحة مستقيمة الألفاظ ليس فيها تغيير ، إلا أن التغيير قد طرأ على أدائه أما الألفاظ فإنها هي الألفاظ الواردة ، فعلى ذلك يكون مخطئاً مبتدعاً في فعله ذلك ، وأما الأذان فإنه صحيح - وما ذكره أهل المذهب قول قوي – والعلم عند الله تعالى .
قال : ( أو ملحوناً )
الملحون : الذي فيه خلل في اللغة العربية برفع ما يكون حقه النصب ، أو نصب ما يكون حقه الجزم أو نحو ذلك ويصح أذان الملحون ما لم يحل المعاني ، أما إذا أحال المعاني فإنه يبطل .
مثال غير المحيل للمعاني : إذا قال : " أشهدَِ" فهذا ليس مما يحيل المعنى فهو أذان صحيح لكنه مكروه كما نص عليه أهل المذهب .
وأما مثال ما يحيل المعاني : كقوله : " أشهد أن محمداً رسولَ الله " فهذا الأذان باطل على المذهب ؛ لأنه يحيل المعنى ويبطله فإن المعنى هنا فاقد الخبر .
مثال آخر : " آلله أكبر " فهذا استفهام ، كأنه يستفهم هل الله أكبر أم لا ؟ فالأذان باطل .
أو قال : " الله أكبار " والأكبار هو الطبل وهذا مشهور عندنا فهذه كلها تُبطل الأذان ؛ لأنها تحيل اللفظ عن معناه فتصرفه عن معناه المراد إلى معنى آخر وهذا كالقراءة أي قراءة الفاتحة .
قال : ( ويجزئ من مميز )
اتفق أهل العلم على أن أذان الكافر والمجنون وغير المميز لا يصح ؛ لأنهم لا نية لهم ، وفي الحديث : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )(1) .
والأذان عبادة يشترط فيها النية ، وهؤلاء لا نية لهم فلم تصح عبادتهم .
وأما الكافر فلقوله تعالى : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله }(2) .
__________
(1) متفق عليه .
(2) سورة التوبة .(35/64)
وأما أذان المميز وهو من بلغ سن التمييز حيث يفهم الخطاب ويرد الجواب وهذا يكون في الغالب عند تمام سبع سنين فإنه يصح أذانه لذا قال هنا : " ويجزئ من مميز " . وهذا مذهب الجمهور .
قالوا : لصحة صلاته .
وذهب بعض أهل العلم إلى : أن أذان المميز لا يجزئ .
قالوا : لأنه ليس محلاً لقبول الخبر لذا لا يقبل خبره في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ ، وهو ليس محلاً لقبول الأخبار لكونه غير مكلف فليس محلاً للمحاسبة على الصدق والكذب فلما كان كذلك لم يقبل أذانه .
وفصَّل شيخ الإسلام في هذه المسألة تفصيلاً حسناً حمل عليه قول أهل القول الأول ، فقال – كلاماً معناه : والأشبه أن الأذان الذي يعتمد عليه في الصلاة والصيام لا يقبل من المميز ولا يعتد به قولاً واحداً ، فأهل القول الأول لا يقبلونه في مثل هذه الحال ؛ لأنه ليس أهلاً لذلك فليس بمكلف وليس بمؤاخذ على الكذب وغيره من الأمور المحرمة فلم يكن محلاً لقبول الخبر .
أما إن كان بحيث لا يعتمد عليه – وحينئذ – يكون الأذان سنة مؤكدة كأن يكون في مصر فيه مؤذنون يعتمد عليهم وهو من جملة من يؤذن في هذه البلدة فإن أذانه يصح – وهذا تفصيل حسن من الشيخ رحمه الله – قال : " وفيه روايتان عن الإمام أحمد والصحيح جوازه "(1) .
إذن : في هذه المسألة روايتان عن الإمام أحمد ، وينبغي حمل هاتين الروايتين على المميز حيث لا يعتمد عليه في صلاة الناس وصيامهم ، والصحيح الجواز كما تقدم في مسألة الفاسق ، فهو أولى بقبول الخبر من الفاسق .
وأما إذا كان بحيث يعتمد عليه فحينئذ : لا ينبغي القول بقبول أذانه ولا الاعتماد عليه وينبغي أن يكون هذا قولاً واحداً في المذهب .
قال : ( ويبطلهما فصل كثير )
فيبطل الأذان إذا كان فيه فصل كثير لاشتراط الموالاة في الأذان ، فالفاصل الكثير عرفاً يبطله .
والفصل الكثير سواء كان بسكوت أو بكلام .
[ ويسير محرم ]
كيف يتصور هذا أي أن يتكلم بكلام يسير محرم ؟(35/65)
كأن يغتاب أو يقذف أو يسب أثناء الأذان وهذا في الحقيقة مسألة مستبعدة ، فحينئذ ينقطع بذلك الأذان .
وعللوا ذلك : بعلة غريبة أيضاً : وهي أنه يظن أنه مستهزئ بالأذان فحينئذ : يرد أذانه لكونه يظن فيه أن يكون مستهزئاً حيث أدخل في الأذان هذا الكلام اليسير المحرم .
لكن هذه المسألة على ندرة وقوعها ، الصحيح أنها إذا وقعت فالأذان صحيح ؛ لأن الأذان قد وقع على الوجه الشرعي ، فقد أذن أذاناً مرتباً متوالياً ، وليس من شرط الأذان ألا يتخلله شيء ولم يدل دليل شرعي على مثل ذلك ، فالأذان صحيح لا شك فيه ، وأما الإثم فهو واقع عليه .
والدليل على جواز الكلام فيه ، ما رواه البخاري معلقاً قال : ( وتكلم سليمان بن صرد وهو يؤذن ) (1) ثم إنه لا دليل يدل على المنع منه والإبطال به ، والأصل عدم التحريم وعدم البطلان .
قال : ( ولا يجزئ قبل الوقت إلا الفجر بعد نصف الليل )
لا يجزئ الأذان قبل الوقت فإذا أذن قبل زوال الشمس وقبل غروبها فالأذان باطل ؛ لأنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد وهذا مما اتفق عليه أهل العلم ، فعلى ذلك يجب إعادته حيث كان مما يعتد به ، لأنه أذان ليس على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ) (2) فلا أذان قبل حضورها .
" إلا الفجر " : لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) (3) متفق عليه .
والليل ما كان قبل طلوع الفجر الصادق ، فدل هذا على أن الفجر مستثني من هذه المسألة وأنه يؤذن قبل دخول الوقت وهو الأذان الأول .
" بعد نصف الليل " : إذن وقت الأذان الأول بعد نصف الليل .
__________
(1) في باب الكلام في الأذان من كتاب الأذان قبل ( 616 ) قال رحمه الله : " وتكلم سليمان بن صُرَد في أذانه ، وقال الحسن : لا بأس أن يضحك وهو يؤذن أو يقيم " ا. هـ
(2) متفق عليه ، وقد تقدم .
(3) تقدم .(35/66)
لكن هذا ضعيف ، قال في الإنصاف : " وقيل لا يصح إلا قبل الفجر بوقت يسير وهي رواية عن الإمام أحمد " .
وهذا القول هو الراجح ؛ لأن الأذان الوارد في هذا الباب وهو الأذان الأول للفجر كان قبيل أذان الفجر الصادق بوقت يسير ، قالت عائشة – كما في النسائي(1) في أذان بلال وابن أم مكتوم – وكان بلال يؤذن الأذان الأول وابن أم مكتوم يؤذن الأذان الثاني قالت : ( لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا ) (2) فهو وقت يسير ، ونحوه عن القاسم بن محمد في البخاري معلقاً(3) .
__________
(1) هو في مسلم من قول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ، وفي البخاري من قول القاسم ، كما سيأتي .
(2) كذا في المطبوع ، ويحتمله الأصل ، وقد أخرجه البخاري في كتاب الصوم ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ) ( 1918 ) ( 1919 ) ، من قول القاسم ، وأخرجه مسلم في كتاب الصيام ، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر .. ( 1092 ) من قول ابن عمر وعائشة ، وأخرجه النسائي في كتاب الأذان ، باب هل يؤذنان جميعاً أو فُرادى ( 639 ) من قول عائشة .
(3) قال البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الصوم ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ) ( 1918 ) ( 1918 ) ما نصه : " حدثنا عبيد بن إسماعيل ، عن أبي أسامة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، والقاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها : أن بلالا كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر ) قال القاسم : ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا " ا.هـ .(35/67)
ومما يدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم – في المتفق عليه - : ( لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال عن سحوره ) (1) ومن هنا نستفيد أنه كان قبيل أذان الفجر بحيث أنه يخشى على الناس أن يلبس عليهم أهو الأذان الأول أم الثاني " فإنه يؤذن بليل ليرجع قائمكم " ليستريح قليلاً في فراشه ليستعد لصلاة الفجر " ولينبه نائمكم "(2) ليستعد لصلاة الفجر وليستعد للسحور .
إذن : هو بقدر ما إذا كان الرجل نائماً بحيث أنه يستعد للوضوء أو الغسل أو نحو ذلك ، ويستعد – إن كان مريداً للصوم بأن يطعم ، فيكون قدراً كافياً لسحوره .
ومن هنا نعلم أن الأذان بعد نصف الليل وقبل الوقت المذكور أنه ليس بمشروع لأنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد .
ويستحب لمن أذن الأذان الأول أن يكون هناك من يؤذن الأذان الثاني وأن يعرف الناس أنه يؤذن الأول لئلاً يلتبس عليهم فيتضررون في صلاتهم وعبادتهم .
يستحب أن يكون عرف الناس أنه يؤذن بليل لئلا يلتبس الأمر عليهم ، ويستحب أن يكون هناك مؤذن آخر يؤذن للفجر .
وهذا الاستحباب في الاكتفاء به نظر ، والأظهر وجوب ذلك أو شرطيته وأن ذلك شرط وهذا مقتضى كلام الموفق في كتاب الكافي(3) ؛ وذلك لأنه متى ترك الأذان الثاني فإنه يكون قد أخل بالواجب الأصلي وهو أذان الفجر عند دخول الوقت وإذا أذن بحيث يلبس على الناس فإنه قد أوقعهم بخلاف المقصود من الأذان الشرعي ، فكان الواجب لا المستحب فقط أن يكون هناك من يؤذن الأذان الثاني وأن يعرف الناس أن هذا هو الأذان الأول بحيث لا يلبس عليهم أمر صلاتهم وصيامهم .
وقال في المبدع : " وأما ما يفعله الناس في زماننا من الأذان في أول الثلث الأخير فهو خلاف السنة وفي جوازه نظر "(4) وهو كما قال بل الراجح أنه ليس بصحيح .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الخامس والخمسون
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب الأذان قبل الفجر ( 621 ) ومسلم ( 1093 ) .(35/68)
( يوم الثلاثاء : 18 / 2 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : [ ويسن جلوسه بعد أذان مغرب يسيراً ]
" يسيراً " : قال بعض فقهاء الحنابلة : بقدر ما يكفي لقضاء الحاجة والوضوء وصلاة ركعتين .
وقال بعضهم غير ذلك .
ولعل التي استحبت هذه المسألة من أجلها : أن الأذان مشروع للإعلام فاستحب أن يمكث المؤذن عن الإقامة بقدر ما يدرك الناس الصلاة ، فلما كان الأذان للإعلام استحب أن يمكث يسيراً فلا يقيم إلا بعد هذا المكث حتى يتمكن الناس من إدراك الصلاة التي أذن لها ، وحينئذ فإن مثل التقدير الذي تقدم ذكره لا يكون في كل حال من الأحوال ، وإنما يكون في بعض الأحوال .
فالضابط على ذلك أن يقال : أن يمكث بقدر ما يتمكن الناس فيه من الحضور إلى المسجد وإدراك الصلاة تامة ، فيمكث بقدر ما يكون كافياً لقضاء الحاجة والوضوء .
دليل هذا القائل الذي ذكر هذا القدر مع الركعتين استدل بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من صلاة ركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاتها .
لكن هذا الدليل ليس بظاهر في هذا ، فإنه من المحتمل أن يكونوا قد حضروا الأذان في المسجد ، فيصلون ركعتين .
إذاً : المقصود من ذلك : أنه يسن له أن يمكث بعد أذانه - فلا يقيم إلا - بقدر ما يتمكن الناس الذين أعلموا بالأذان من إدراك الصلاة .
وهذا ليس خاصاً لصلاة المغرب بل هو عام فيها وفي غيرها من الصلوات التي يسن تعجيلها ، فكل صلاة يستحب تعجيلها يسن هذا الفعل من المكث فيها .
وإنما خصت صلاة المغرب بهذا الحكم لقصر وقتها وضيقه ، فهي أضيق من غيرها بالوقت .
ولما روى تمام في فوائده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ قال ](1) : جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة ) ، لكن الحديث إسناده ضعيف .
__________
(1) ليست في الأصل .(35/69)
ومثله ما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال : ( إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر لقضاء الحاجة ولا تقيموا حتى تروني ) (1) ، والحديث فيه عبد المنعم صاحب السقاء وهو منكر الحديث ، فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فعلى ذلك : العلة التي تقدم ذكرها هي : أصل الاستدلال في هذه المسألة ، فالأذان شرع للإعلام ، فناسب أن يكون هناك فترة زمنية يتمكن بها الخارجون عن المسجد بعد سماعهم للنداء من الوضوء ونحوه مما يحتاجون إليه ، وهذا بقدر عشر دقائق ونحوها ، وهذا ليس خاصاً بصلاة المغرب بل فيها وفي غيرها ، لكن غيرها أوسع منها لأمرين :
الأمر الأول : ثبوت الصلاة الراتبة فيها ، لاسيما الفجر والظهر ، بخلاف العصر فإنها شبيهة بالمغرب من هذا الوجه حيث لا سنة راتبة فيها ، وإنما السنة الواردة في العصر والمغرب ليست براتبة .
الأمر الآخر : أن الصلوات الأخرى أوسع منها وقتاً .
ثم إن كثيراً من هذه الصلوات تكون غالباً بعد عمل الناس ، فربما احتاجوا إلى وقت أوسع من ذلك ، لذا الوقت بين أذان المغرب والإقامة يكون أقل من غيرها من الصلوات .
أما الصلوات الأخرى فإنه يزاد عن هذا الوقت بقدر الحاجة ، فإن صلاة الفجر تكون بعد النوم فيحتاج ذلك إلى مزيد من الوقت للاستعداد لصلاة الفجر ، وربما احتاج إلى غسل أو إحضار ماء وتسخينه ونحو ذلك مما يحتاج إليه ، وكذلك صلاة العصر .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في الترسل في الأذان ( 195 ) قال : " حدثنا أحمد بن الحسن ، حدثنا المعلى بن أسَد حدثنا عبد المنعم ، هو صاحب السِّقَاء ، قال حدثنا يحيى بن مُسْلم عن الحسن وعطاء ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال : ( يا بلال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر ، واجعل بين أذانك وإقامتك قدر .. ) .(35/70)
وصلاة الظهر تكون بعد إتيان الناس من أعمالهم ، فالمقصود من ذلك : أنه ينبغي للإمام أن لا يأمر بالإقامة إلا بعد مضي وقت كاف لإدراك الناس الصلاة تامة ولإدراك ما يستحب قبلها من السنن الراتبة إن كان ثمت راتبة كالظهر والفجر .
قال : [ ومن جمع أو قضى فوائت أذن للأولى ثم أقام لكل فريضة ]
أما الجمع فلما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين "(1) .
وأما الفوائت فقد تقدمت الأدلة عليها .
قال :[ ويسن لسامعه متابعته سراً ]
لما ثبت في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد ألا إله إلا الله ، فقال : أشهد ألا إله إلا الله ، ثم قال : أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال : أشهد أن محمداً رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة ، فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال :حي على الفلاح ،فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : الله أكبر ، الله أكبر ، فقال : الله أكبر ، الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله ، فقال : لا إله إلا الله ، من قلبه دخل الجنة ) (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج ، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر رضي الله عنه .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب استحباب القول مثل قول المؤذن .. ( 385 ) .(35/71)
وثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ) وفيه استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيد الأذان ( ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وإني أرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) (1) .
.
وثبت في أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا ، فقال : ( قل كما يقولون ثم سل تعطه ) (2) .
ففي هذه الأحاديث سنية إجابة المؤذن .
ويستثنى من ذلك المصلي والمتخلي .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب استحاب القول مثل قول المؤذن .. ( 384 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهو في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ : " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " ، البخاري ، كتاب الأذان ، باب ما يقول إذا سمع المنادي ( 611 ) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ما يقول إذا سمع المؤذن ( 524 ) قال : " حدثنا ابن السَّرْح ومحمد بن سلمة ، قالا : حدثنا ابن وهب ، عن حُيَي ، عن أبي عبد الرحمن - يعني الحُبُلِّي – عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إن المؤذنين يفضلوننا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( قل كما يقولون ، فإذا انتهيت فسل تُعْطه ) ، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة ، سنن أبي داود [ 1 / 360 ] .(35/72)
أما المصلي ؛ فلأن الصلاة شغل ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن في الصلاة لشغلاً ) (1) ، فيستثنى ؛ لأنه متى أجاب المؤذن انشغل عن تدبر الصلاة والخشوع فيها . وهذا هو مذهب الجمهور ، وحكاه شيخ الإسلام في الفتاوى ولم يتعرض لخلافه بترجيح .
- ورجح – رحمه الله – كما في كتب الحنابلة في النقل عنه استحباب ذلك في الصلاة ، وهو رواية عن الإمام مالك ، وأنه يستحب إجابة المؤذن في الصلاة نفلاً وفرضاً ، واختاره شيخ الإسلام كما تقدم ، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ، قال : " والعمومات تؤيده " .
والجواب : إن العمومات وإن كانت تؤيده ، لكن الصلاة لها معنى خاص يقتضي إخراجها من هذا الحكم ؛ لأنه متى أجاب فإن هذا يخل في خشوعه في صلاته وإقباله على الله فيها بمتابعة المؤذن .
فالأظهر مذهب الجمهور ، وأن إجابة المؤذن لست بمشروعة في الصلاة ، وكما تقدم فإن شيخ الإسلام ذكر في الفتاوى قول الجمهور ولم يعقب عليه .
وأما ما ذكره من الترجيح السابق فقد ذكر عنه في كتب الحنابلة ، فلعله قول قديم له . والعلم عند الله تعالى .
* وأما المتخلي ، فكذلك ، قالوا : ويجيب بعد خروجه من الخلاء .
واختار شيخ الإسلام أنه يجيب في الخلاء سراً .
والراجح خلافه ؛ لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب المسلِّم عند قضاء حاجته ، وأجابه بعد ذلك ، وقال : ( إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر ) (2) ، وكذلك الأذان فإنه يجيب بعد خروجه من الخلاء ، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - لما سلم عليه ، فإنه لم يجب حتى قضى حاجته .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب العمل في الصلاة ، باب ما ينهى من الكلام في الصلاة ( 1199 ) ،وباب لا يرد السلام في الصلاة ( 1216 ) وفي كتاب مناقب الأنصار ، باب هجرة الحبشة ( 3875 ) ، ومسلم ( 538 ) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 170 ) رد السلام في الصلاة ( 923 ) .
(2) أخرجه أبو داود ، وقد تقدم .(35/73)
فالراجح : أن المتخلي يجيب بعد خروجه من الخلاء .
فائدة :
ذكرها النووي :
أنه قال : " ولم أر لأصحابنا في متابعة المؤذن بعد الأذان تعرضاً " . وهي مسألة : إجابة المؤذن بعد فراغه من الأذان ، قال : " والذي يظهر إنه إن كان قد قرب فإنه يجيب وإن كان هناك فاصل كثير ، فإنه لا يجيب " ، وهو قول حسن ، وأن من ترك الإجابة فإن كان الفاصل بين الأذان والمتابعة قريباً فإنه يجيب ، أما إذا كان طويلاً عرفاً فإنه لا يجيب . هذا ما قرره النووي .
ومعلوم أن السنة أن يتابع المؤذن جملة جملة كما تقدم في حديث عمر .(35/74)
وقد ذكر الحنابلة وهو مستحب عند الشافعية كما هو مستحب عند الحنابلة إجابة المقيم أيضاً ؛ واستدلوا بما رواه أبو داود : أن بلالاً أخذ بالإقامة فلما قال : قد قامت الصلاة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أقامها الله وأدامها )(1) ، لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو ضعيف جداً . لكن عمدتهم في الاستدلال هو عمومات الأحاديث ، كقوله : ( إذا سمعتم المؤذن ) ، ومعلوم أن المقيم مؤذن ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( بين كل أذانين صلاة ) (2) ، فكما أن الإعلام الخارجي بالأذان الأول أذان ، فكذلك إعلام الحاضرين بالأذان الثاني هو أذان .
لكن الذي يظهر أن هذا الإطلاق من باب التغليب ، كما يقال : العمران والقمران .
والأظهر : أن الإقامة لا تشرع لها الإجابة ، وهو ما ذهب إليه بعض الشافعية ؛ وذلك لوجوه :
منها : أن الإقامة المشروع فيها الحدر ومتى كان ذلك فإن في المتابعة عسراً .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب 37 ) ما يقول إذا سمع الإقامة ( 528 ) قال : " حدثنا سليمان بن داود العتكي ، حدثنا محمد بن ثابت ، حدثني رجل من أهل الشام ، عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أو عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بلالا أخذ في الإقامة ، فلما أن قال : قد قامت الصلاة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أقامها الله وأدامها ) وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر رضي الله عنه في الأذان " .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء ( 627 ) ، ومسلم ( 838 ) ، وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب الصلاة قبل المغرب ( 1283 ) .(35/75)
ومنها : أنه قد ورد في الأحاديث في متابعة الأذان استحباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك واستحباب الدعاء بالدعاء الوارد للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالوسيلة والمقام المحمود ، وهذا لا يسعه الوقت الذي يكون بين الإقامة والصلاة ، فإنه وقت يسير جداً ، فمتى انتهى المقيم من الإقامة واعتدلت الصفوف كبر للصلاة ، وهذا في الغالب لا يسع لمثل هذا الدعاء .
ومنها : أن الإقامة إنما شرعت لإعلام الحاضرين بإقامة الصلاة في المسجد ، وقد أجابوا منادي الله فحضروا في المسجد .
وأما الأذان الأول فهو إعلام للغائبين فشرع لهم أن يتلفظوا بتلك الألفاظ إعلاناً منهم بإجابة المؤذن وإجابة ندائه ، وأنهم مستعدون ومتهيئون لحضور الصلاة وإجابة منادي الله تعالى .
فالأظهر ما ذهب إليه بعض الشافعية لهذه الوجوه المتقدمة .
مسألة :
هل تشرع الإجابة للمؤذن نفسه ؟ بمعنى يجيب نفسه ؟
ذهب الحنابلة : إلى مشروعية ذلك ؛ وعللوا ذلك : بالجمع بين الأجرين ، أجر الأذان وأجر المتابعة .
لكن الراجح خلاف ذلك ، فهذه مسألة فيها نظر ظاهر ، فإنه مناد لا مجيب ، فهذا منادي ،وهذا مجيب ، فكيف يكون المنادي مجيباً .
ثم إن هذا قد يشغله عن إقامة الإذان على وجهه الصحيح .
ثم إن عمومات النصوص الشرعية إنما وردت في السامع ( إذا سمعتم الأذان ) ، ونحو ذلك ، وليس يدخل في تلك الألفاظ إلا السامع ، وإدخال المؤذن يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك .
واعلم أن المستحب له أن يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " عن قول المؤذن : "حي على الصلاة ، حي على الفلاح " كما تقدم في حديث عمر .
وفي قول " الصلاة خير من النوم " في الإجابة قولان :
القول الأول ، وهو المشهور في المذهب : أن يقول : " صدقت وبرِرْت " .(35/76)
القول الثاني : أنه يجيبه بقول : " الصلاة خير من النوم " . وهذا هو الراجح ؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ) ، ويدخل في ذلك كل الألفاظ سوى الحيعلة ، فإن الحديث الآخر – حديث عمر – قد ورد باستثنائها .
قال الحافظ ابن حجر : " وليس لصدقت وبررت أصل "(1) .
ومثل ذلك " أقامها الله وأدامها " عند الإقامة فهي ضعيفة لا تصح .
قال : [ وحوقلته في الحيعلة ]
الحوقلة : هي اختصار لقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " .
والحيعلة : هي اختصار لقول : " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " .
فيسن أن يجيبه بـ" لا حول ولا قوة إلا بالله " أي ليس لي تحول من حالتي هذه إلى حالة أخرى أجيب بها المنادي وأحضر إلى الصلاة إلا بقوة وتأييد من الله تعالى .
قال : [ وقوله بعد فراغه : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ]
والحديث رواه البخاري في صحيحه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً الذي وعدته ) (2) وفي النسائي وابن خزيمة : ( وابعثه المقام المحمود ) (3) .
ولفظة ( مقاماً محموداً ) أولى لوجهين :
الوجه الأول : أنها ثابتة في الصحيح .
الثاني : أنها موافقة للقرآن في قوله تعالى في سورة الإسراء : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } .
__________
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب الدعاء عند النداء ( 614 ) ، وفي كتاب التفسير ، باب { عسى أن يبعثك ربك مقوماًَ محموداً } ( 4719 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الأذان ، باب الدعاء عند الأذان ( 680 ) .(35/77)
وفي التنكير من التعظيم ما هو ظاهر ، لقوله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا }(1) أي رجال عظماء ، وهنا ( مقاماً محموداً ) أي مقامً عظيماً محموداً .
أما لفظة ( إنك لا تخلف الميعاد )(2) فقد وردت في البيهقي بإسناد صحيح ، لكن راويها قد شذ عن بقية الرواة ، وهم عشرة الذي رووا هذا الحديث فلم يذكروا هذه اللفظة ، فشذ هذا الراوي – وهو ثقة – بذكرها . فعلى ذلك : هذه اللفظة شاذة لا تصح نسبتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه فالسنة أن يقف إلى قوله ( الذي وعدته ) .
ويستحب له أن يدعو الله بين الأذان والإقامة بما شاء ؛ لما ثبت في الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد ) (3) ، وهو حديث صحيح . وقد تقدم حديث ( قل كما يقولون ثم سل تعطه ) .
__________
(1) سورة التوبة .
(2) أخرجها البيهقي في كتاب الصلاة ، باب ما يقول إذا فرغ من ذلك ( 1933 ) .
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ( 44 ) ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة ( 212 ) من حديث أنس بن مالك ، قال أبو عيسى : " حديث أنس حديث حسن صحيح ، وقد رواه أبو إسحاق الهمْداني عن بريد بن أبي مريم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا " وقد أخرجه رحمه الله أيضاً في كتاب الدعوات ، باب في العفو والعافية ( 3594 ) ( 3595 ) .(35/78)
أما ما رواه الترمذي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له : فماذا نقول ؟ فقال : ( سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة ) (1) ، فالحديث فيه يحيى بن اليمان وهو ضعيف ، فهذا التخصيص ضعيف ، فيدعو الله بما شاء من خير الدنيا والآخرة , وهذا الموطن من مواطن الإجابة .
قوله : ( الدعوة التامة ) : هي دعوة التوحيد التي رفع المؤذن بها صوته .
" والصلاة القائمة " : أي الصلاة الدائمة المستمرة ، وهي الصلاة التي دعا الناس إليها .
" الوسيلة " : هي منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن يكون هو .
" مقاما محموداً " : هو مقام الشفاعة العظمى الذي يقومه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الله بعد أن يسجد له فيشفع لعباد الله للفصل بينهم يوم القيامة وهي الشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي وُهبه رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
مسألة :
لفظة " حي على خير العمل " هل تستحب في الأذان ؟
__________
(1) الترمذي ، كتاب الدعوات ، باب في العفو والعافية ، قال : " حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد الكوفي ، حدثنا يحيى بن اليمان ، حدثنا سفيان عن زيد العمِّيِّ عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة ) قالوا : فماذا نقول يا رسول الله ، قال : ( سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة ) .(35/79)
صحت هذه اللفظة عن ابن عمر ، كما في البيهقي بإسناد صحيح(1) ، وأنه قالها إثر قوله " حي على الصلاة ، حي على الفلاح " .
ورواها البيهقي عن علي بن الحسين ، وتعقب البيهقي ذلك بقوله : " وليست هذه اللفظة ثابتة في الأذان الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة " ، وهو كما قال ، فهذه اللفظة تعارض حصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان كما تقدم من تعليمه لبلال وأبي محذورة .
وقد ذكر شيخ الإسلام : أن هذه اللفظة إنما فعلها من فعلها من الصحابة لعارض تحضيضاً على الصلاة أي وجد تكاسلاً من الناس في الصلاة فوضع هذه اللفظة تحضيضاً على الصلاة ، فيكون ذلك أمر عارض وليست في الأذان الراتب ، كما قال شيخ الإسلام .
لكن في الحقيقة ليس بمبرر لمثل هذا ، فهذا الاجتهاد من صحابي خالف فيه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون مردوداً ، والسنة في فعله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما أفعال الصحابة فحيث لا تخالف ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال وأبي محذورة الأذان وبقاؤهما تلك الفترة الطويلة بين يديه من غير زيادة يدل على أن الزيادة فيه ليست من السنة .
على أنها أصبحت من شعار أهل البدعة ، فعلى ذلك : أصبحت بدعة ظاهرة ، لكونها وإن كانت في زمن ابن عمر قد يتردد بالجزم بأنها بدعة ، لكن لما أصبحت من شعار أهل البدعة فينبغي أن يشدد في النهي عنها .
مسألة :
هل يشرع الأذان على الراحلة ؟
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [ 1 / 624 ] باب ( 75 ) ما روي في حي على خير العمل ( 1991 ) ( 1992 ) موقوفاً على ابن عمر ، وبرقم ( 1993 ) مقطوعاً على علي بن الحسين . وبرقم ( 1994 ) مرفوعاً . ثم قال الشيخ : " وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه وبالله التوفيق " .(35/80)
لا بأس به ، وقد صح ذلك عن ابن عمر كما في البيهقي بإسناد صحيح أنه أذن على الراحلة ثم نزل فأقام "(1) .
مسألة :
يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان أو لمن دخل المسجد بعد الأذان ، فيحرم الخروج إلا لعذر أو إرادة الرجعة ، أما مع عدم ذلك فإنه لا يجوز . هذا ما صرح به الحنابلة .
ودليل ذلك : ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي الشعثاء قال : " كنا قعوداً في المسجد ومعنا أبو هريرة ، قال : فأذن المؤذن ، فقام رجل من المسجد يمشي ، فرماه أبو هريرة ببصره حتى خرج من المسجد ، فقال : " أما هذا فقد عصى أبا القاسم "(2) .
فهذا الحديث ظاهر في تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان ، ومثل ذلك من دخل المسجد وقد أذن فيه ؛ لأن هذا بمعنى الأول تماماً .
قال الترمذي : " والعمل على هذا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم ، يرون أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من المسجد إلا لعذر "(3) .
ومن الأعذار أن يخرج لقضاء الحاجة أو ضوء أو نحو ذلك ، أما أن يخرج لغير ذلك ، فلا يجوز .
وقد استثنى بعض الحنابلة : خروجه لمسجد آخر لا سيما إذا كان إمامه أفضل .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [ 1 / 577 ] في كتاب الصلاة ، باب ( 42 ) الأذان راكباًَ وجالساً ( 1841 ) ( 1842 ) وقال رحمه الله ( 1843 ) : " وروي فيه حديث مرسل ، أخبرناه أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، أنا عبد الوهاب ، ثنا إسماعيل ، عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالاًَ في سفر فأذن على راحلته ، ثم نزلوا فصلوا .. " .
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن ( 655 ) .
(3) سنن الترمذي ، كتاب الصلاة ، باب ( 36 ) ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان ( 204 )(35/81)
ونحن إذا نظرنا إلى اللفظ العام المتقدم فإننا نقول : إن هذا لا يجوز وأنه لا يجوز أن يخرج لجماعة أخرى .
لكن إذا نظرنا إلى المعنى وهو ما يورثه الخروج من التهمة في ترك الصلاة جماعة ، وما قد يكون سبباً لفوات الجماعة عليه فنحن نقيد(1) هذا الخروج بهذه القيود ، فإذا خرج حيث لا تهمة ، حيث لا يظن به ظناً سيئاً ، وأن يظن ظناً غالباً أن يدرك جماعة أخرى ، فإنه يرجى أنّ خروجه لا بأس به ، حيث توفرت هذه المعاني المتقدمة .
ومع ذلك : فالأولى له والأحوط ألا يخرج من المسجد إلا لعذر من وضوء أو نحوه .
وهذا فيمن يجب عليه الصلاة جماعة .
أما من لا يجب عليه الصلاة جماعة ، كامرأة أو من لا يجب عليه الصلاة أصلاً ، فإن خروجه جائز ؛ لأن الصلاة جماعة ليست بواجبة عليه ، بل الصلاة فرضاً ليست بواجبة عليه .
إذاً : يحرم الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لمن أراد الرجعة أو كان معذوراً .
مسألة :
أي مؤذن يجيب ؟
ذكر الحنابلة : أنه يجيب المؤذن ومؤذناً ثالثـ[ـاً ] ورابعـ[ـاً ] .. الخ . فهذا هو المستحب .
لكن هذا فيه نظر ، والراجح أنه لا يجيب إلا المسجد الذي يريد أن يصلي فيه ، وقد اختار هذا النووي .وقال صاحب المبدع : " فإن أجاب وحضر المسجد للصلاة فسمع المؤذن فإنه لا يجيب " ؛ لأنه ليس بمدعو .
وما ذكره – رحمه الله – ليس خاصاً فيمن أجاب وحضر المسجد فحسب ، بل هو عام فيه وفيمن(2) كان في حكمه وهو من يريد أن يذهب إلى مسجد خاص فسمع المنادي ينادي إليه ، فإنه يجيب هذا المسجد بخصوصه الذي يقصد حضور الجماعة فيه .
__________
(1) في الأصل : نقيده .
(2) في الأصل : فيمكن .(35/82)
والأظهر كذلك : أنه إن لم يحدد مسجداً فإنه يجيب مؤذناً واحداً ؛ لأن المقصود الإجابة ، وقد أجاب ،وإذا أمر الشارع بأمر فإنه يفعل لا على التكرار إلا إذا دل دليل على التكرار ، وإلا فإنه يفعل مرة واحدة ، وهذا قد أجاب مؤذناً لصلاة فرض ، فحينئذ لا يشرع له أن يجيب مؤذناً آخر للصلاة بعينها ، فإنهما مؤذنا صلاة واحدة فلم يشرع إلا أن يجيب المؤذن الذي أجابه .
وإذا كان الإنسان مسجده بعيداً وهو لا يسمع النداء فإنه يجيب أي مؤذن .
والحمد لله رب العالمين . (1)
انتهى باب الأذان والإقامة .
ويليه باب شروط الصلاة .
__________
(1) مسألة : ما الحكم إذا لم يفهم الصوت ؟
استظهر بعضهم أنه يعتبر فهمه ، أي إذا لم يفهم الصوت فلا يتابع المؤذن .
مسألة : ما الحكم إذا سمع بعض الأذان ؟
يتابعه فيما سمع فقط ، أما الذي لم يسمعه فلا يتابعه فيه . [ الحاشية : 1 / 453 ](35/83)
الدرس السادس والخمسون
( يوم السبت : 22 / 2 / 1415هـ )
باب شروط الصلاة
الشروط : جمع شرط وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته .
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( شروطها قبلها منها الوقت )
أي شروط الصلاة قبلها ، فالوضوء أو الغسل وهو الطهارة من الحدث وكذلك الطهارة من النجس ، واستقبال القبلة ، فهذه كلها يجب أن تكون قبل الصلاة .
وهذا ضابط في شروط الصلاة وأن كل شروطها يجب أن تكون قبلها إلا النية فإنها تصح مقارنة لها فجميع شروط الصلاة يجب أن تتوفر قبلها إلا النية فإنها تصح مقارنة لها .
ويجب في الشروط أن تستمر في العبادة ، وهذا هو الفارق بين الشرط والركن ، فالشرط في العبادة يستمر فيها ، أما الركن فإنه يمكث فيها زمناً فلا يستمر فيها كلها فالركوع مثلاً ركن ، وهذا الركن لا يتخلل إلا زمناً منها أما الوضوء فهو شرط منها كلها بحيث أنه يجب أن يشملها فلو تخلل ذلك شيئاً من الحدث فإن العبادة تبطل .
ومن الشروط : الإسلام ، فمن لا إسلام له لا عبادة له كما تقدم ، فإن العبادة مشروطة بالإسلام ، فلا يقبل الله عبادة بلا إسلام .
ومنها العقل : فلا تقبل عبادة من مجنون ولا غير مميز ؛ لأن النية شرط في العبادة ومن لا عقل له لا نية له .
قال المؤلف : ( منها الوقت )
وهذا بالإجماع ، والوقت من التوقيت وهو التحديد ، فالصلوات لها أوقات محددة شرعاً ، فكل صلاة لها وقتها المحدد شرعاً وهذا بالإجماع ، وسيأتي ذكر الأدلة عليه .
قال المؤلف : ( والطهارة من الحدث )
لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )(1)
قال : ( والنجس )
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحيل ، باب في الصلاة ( 6954 ) وفي كتاب الوضوء ، باب لا تقبل صلاة بغير طهور ( 135 ) ، وأخرجه مسلم 225 .(36/1)
أي الطهارة من النجس ، فمن شروطها الطهارة من النجاسة بدناً وثوباً وبقعة وهذا بالإجماع وسيأتي الكلام عليه .
فهذه ثلاثة شروط قد أجمع عليها أهل العلم وهي الوقت والطهارة من الحدث والطهارة من النجس ، وقد تقدم اشتراط الإسلام والعقل . ثم شرع المؤلف رحمه الله في ذكر شرطية الوقت ومباحثه .
فقال : ( فوقت الظهر )
اعلم أن الوقت كما قال شيخ الإسلام هو آكد شروطها ولذلك شرع التيمم مع فقد الماء الذي هو الأصل في الطهارة وانتقل من ذلك إلى التطهر بالتراب لمصلحة المحافظة على الوقت .(36/2)
وقد شرع بوقت الظهر أولاً ، لأن وقت الظهر هو أول وقت صلاة جبريل لما أمَّ النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في المسند وسنن الترمذي وغيره وأصله في مسلم(1) . وأيضاً لما ثبت في مسلم – وهو أصل من أصول إثبات المواقيت حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وقت الظهر … ) (2)
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ، مسند آل العباس ، مسند عبد الله بن عباس ( 3081 ) بلفظ " أمَّني جبريل عند البيت ، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس .. ) وبرقم ( 3322 ) ، وأخرجه الترمذي في بداية كتاب الصلاة ، باب ما جاء في مواقيت الصلاة ( 149 ) بلفظ : " عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أمني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر .. " . وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب أوقات الصلوات الخمس ( 610 ) مختصراً
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد باب ما جاء في مواقيت الصلاة ( 612 ) بألفاظ مختلفة وفي بعضها أنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن وقت الصلوات فقال : ( وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس .. ) فبدأ بالفجر ، وفي لفظ آخر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس .. ) فبدأ بالظهر . وفي مسلم أيضاً حديث بريدة في أوقات الصلاة ( 613 ) ولفظه : " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاًَ سأله عن وقت الصلاة ؟ فقال : ( صل معنا هذين ) يعني اليومين ، فلما زالت الشمس أمر بلالاًَ فأذن ثم أمره فأقام الظهر .. " فبدأ بالظهر ، وفي لفظ آخر أنه بدأ بالفجر : " أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن مواقيت السلاة ؟ فقال : ( اشهد معنا الصلاة ) فأمر بلالاً فأذن بغلس فصلى الصبح .. ) فبدأ بالفجر . وفيه أيضاً حديث أبي موسى ( 614 ) : " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ؟ فلم يرد عليه شيئاً قال فأقام الفجر حين انشق الفجر .. " فبدأ بالفجر .(36/3)
فشرع أولاً بوقت صلاة الظهر - فكان الأولى اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وجبريل – كان الأنسب والأولى هو البداءة بذلك .
وإلا فإن أول صلاته هي صلاة الفجر ، فهي أول صلاة النهار ، وقد تقدم أثر ابن عمر في تسمية الفجر بالأول ، وسيأتي أن العصر هي الصلاة الوسطى ، لذا شرع بعض أهل العلم كأبي الخطاب الحنبلي ، شرع أولاً بالكلام على صلاة الفجر لكن الأنسب ما تقدم .
قال : ( من الزوال إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال )
الفيء هو الظل بعد الزوال سمي فيئاً من فاء إذا رجع ، أما الظل قبل الزوال فلا يسمى فيئاً.
ولفظة " الظل " شاملة للظل قبل الزوال وبعده .
أما لفظة " الفيء " فهي خاصة بالظل بعد الزوال .
فوقت الظهر من زوال الشمس أي زوالها عن وسط السماء إلى جهة المغرب ، وهذا لا يدرك بالعين ، لكنه يميز بالظل ، فعندما ينصب عصاً أو نحوه ويكون الظل أولاً ناحية المغرب ثم كلما ارتفعت الشمس كلما قصر هذا الظل حتى تقف عند حد معين ثم بعد ذلك تتحرك الشمس من وسط السماء وبعده الظل إلى الحركة بعد التوقف ، فعند رجوعه هذا هو علامة زوال الشمس فحينئذ : يعرف أنه قد زالت الشمس .
وهذا الظل الذي ثبت للعصا يزيد وينقص ، فيختلف طوله وقصره صيفاً وشتاءً ، فإن في الشتاء يطول وفي الصيف يقصر ، لأن الشمس مرتفعة في الصيف فيقصر ، أما في الشتاء فهي أقل ارتفاعاً منها فيكون حينئذٍ الظل أطول منه في الصيف .
إذن : عندما يقف الظل بعد امتداده ثم يشرع بالامتداد مرة أخرى فهذا هو علامة زوال الشمس ، فإذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر .
قال : ( إلى مساواة الشيء فيئه بعد فيء الزوال )
هذا نهاية الوقت .
فالظل الثابت في الشاخص لا يحسب ، فلابد أن يكون الفيء مساوياً للشاخص بعد فيء الزوال .
فمثلاً : وضعنا شاخصاً طوله متر ، فكان توقفه على ربع متر ثم أخذ بالزيادة فلا تحسب هذه في المساواة فإذا وصل الظل إلى متر وربع فهذا انتهاء وقت صلاة الظهر .(36/4)
والدليل على ذلك : حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يغب الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت الفجر إذا طلع الفجر ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان ) (1) رواه مسلم .
الشاهد : قوله " وقت الظهر إذا زالت الشمس " هذا أول وقتها ، وقوله : " وكان ظل الرجل كطوله " هذا نهاية وقتها .
قال : ( وتعجيلها أفضل إلا في شدة الحر )
لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يصلي الظهر إذا دحضت الشمس ) (2) أي زالت .
قالت عائشة – كما في الترمذي بإسناد ضعيف وله شاهد في مسند أحمد عن أم سلمة فالحديث حسن – قالت عائشة : ( ما رأيت أشد تعجلاً للظهر من النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ) (3) .
__________
(1) تقدم قريباً .
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر ( 618 )
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ،باب ما جاء في التعجيل بالظهر ( 155 ) .(36/5)
وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان إذا كان البرد عجل وإذا كان الحر أبرد ) (1)
إذن : المستحب في صلاة الظهر تعجيلها ، فإذا زالت الشمس وتقدم المكث بين الأذان والإقامة فحينئذ تقام صلاة الظهر .
ما لم يكن الحر شديداً لذا قال : ( إلا في شدة الحر ) فبقي ما إذا كان الجو بارداً أو معتدلاً أو قريباً من الاعتدال أما إذا كان شديد الحر فالمستحب هو الإبراد ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم ) (2) أي من سعة انتشار حرارتها .
ومعنى " أبردوا " : أي ادخلوا في البرد بأن تصلي في وقت قد ذهب فيه حرارة الشمس .
وهذا الوقت – في الحقيقة – ليس محدداً إلا بهذا المعنى وهو متى : انكسر الحر وكان للجدران ونحوها ظل يستظل به الناس فإنها تشرع صلاة الظهر .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت ، باب تعجيل الظهر في البرد ( 499 ) من حديث أنس بن مالك بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الحر أبرد بالصلاة ، وإذا كان البرد عجّل ) ، وأخرجه البخاري في كتاب الجمعة ، باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة ( 906 ) من حديث أنس بلفظ : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتد البرد بكّر بالصلاة ، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة ، يعني الجمعة . قال يونس بن بكير : أخبرنا أبو خَلْدَة فقال : بالصلاة ، ولم يذكر الجمعة . وقال بشر بن ثابت : حدثنا أبو خلدة قال : صلى بنا أميرٌ الجمعة ، ثم قال لأنس رضي الله عنه : كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر ؟ " ا.هـ .
(2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر ( 536 ) ، ومسلم ( 615 ) ( 617 ) .(36/6)
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي ذر الغفاري قال : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أبرد ) ثم أراد أن يؤذن فقال له : ( أبرد ) حتى رأينا فيء التلول ) (1)
والتلول : جمع تل ، وهو ما يكون على ظهر الأرض من المجتمع من رمل أو تراب ، وهذا في الحقيقة لا يظهر له الفيء إلا بعد فوات شيء كثير من وقت صلاة الظهر حتى يدنو وقت العصر ، حتى ثبت في البخاري : ( حتى ساوى الظل التلول ) .
إذن : لم يحضر وقت العصر لأنه لابد أن يساويه ويساوي الظل الذي كان لها قبل الزوال فإنه يدل على أنه صلاها قبل دخول وقت صلاة العصر ، فهذا تأخير ظاهر فيها .
فإذا انكسر الحر وبرد الجو فإنه يشرع له أن يصلي ، وقد تقدم حديث البخاري : ( كان إذا كان البرد عجل ، وإذا كان الحر أبرد )(2) .
قال : ( ولو صلى وحده )
هنا مسألة وهي : هل هذا شامل لمن صلى وحده كما هو شامل لمن صلى جماعة ؟
لا إشكال في أن من صلى جماعة فيشرع له الإبراد وهذا فيما إذا كانت الطرق متعرضة للشمس كما هو الغالب فلا إشكال في مشروعية مثل هذا .
وإنما الإشكال فيمن يصلي وحده ، وكذلك قد يشكل هذا في هذه الأزمان فقد يوجد أماكن تكون الطرق فيها مغطاة عن الشمس ، فهل يشرع في مثل هذه الحال الإبراد أم لا ؟
قال هنا : ( ولو صلى وحده ) وهذا هو المذهب ، وهو مذهب أبي حنيفة واختاره ابن المنذر وشيخ الإسلام وحكاه عن أهل الحديث وأن السنة تعزر ذلك ولا ندفعه وأن الجمهور على ذلك – هذا ما حكاه شيخ الإسلام – فذلك مستحب ولو صلى وحده ( لعذر ) .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الإبراد بالظهر في السفر ( 539 ) ، ومسلم ( 616 )
(2) تقدم قريباً .(36/7)
- وذهب الإمام الشافعي : إلى أن ذلك لا يستحب لمن صلى وحده بل ذلك خاص فيمن يصلون جماعة ؛ لأنهم يحتاجون إلى الإبراد لتكون الطرق فيها شيء من الظل يستظلون به ، وهذا على القول بأن العلة من الإبراد هي ما ذكروه .
ولكن هذا ليس بمسلم ، فقد ذكر ابن رجب في شرح البخاري : أن أهل العلم قد اختلفوا في المعنى الذي من أجله شرع الإبراد فقيل : هو لتمام الخشوع في الصلاة ، فمن صلى في شدة الحر يكون خشوعه ليس كما لو كان في وقت الإبراد .
وقيل : لتنفس جهنم – كما ثبت في الصحيحين – وهذا أمر معنوي ، فلما كان ذلك وقت تنفس جهنم ناسب تأخير العبادة – وهذا المعنى يبقي الأمر على ما تقدم .
والمعنى الثالث : كما ذكره الشافعي من أنه يكون للحيطان ظل يستظلون به .
والراجح هو شمول مشروعية الإبراد لهذه المعاني كلها لنفس جهنم ولأن الخشوع يكون ليس كما لو كان في ذلك الوقت وكذلك لوجود الحر الشديد في الطرقات ، فلهذه المعاني كلها شرع الشارع هذا الحكم – وحينئذ- : يبقى الحكم على ما ذهب إليه الإمام أحمد وغيره وأن الإبراد مشروع سواء صلوا متفرقين أو مجتمعين .
قال : ( أو مع غيم لمن يصلي جماعة )
فإذا كان ثمت غيم فيشرع التأخير ، وعللوا ذلك باحتمال المطر واحتمال الريح ، فوجود الغيم مظنة ذلك فقالوا : يشرع تأخيرها إلى قبيل وقت العصر بحيث يمكث الناس بعد صلاة الظهر يسيراً فيؤذن العصر ثم يصلون العصر في أول وقتها ، فيكون ذلك جمعاً صورياً .
وحينئذ : لا يكون هذا المعنى خاصاً لصلاة الظهر والعصر بل كذلك في المغرب والعشاء ، فتؤخر المغرب إلى آخر وقتها وتصلى العشاء في أوله – فهذا جمع صوري .
والجمع الصوري جائز مطلقاً ، ولكن هل هو مستحب في مثل هذه الحال ؟
القول باستحبابه قول جيد وهو مذهب الإمام أحمد في المشهور عنه ومذهب أبي حنيفة – خلافاً للشافعي ومالك – حيث قالوا : السنة أن تصلى في وقتها لعمومات الأدلة الشرعية .(36/8)
لكن القول الأول حسن لإزالة ما يُخشى من المشقة ، هذا إذا كانت الدواعي قوية في ذلك ، أما إن لم تكن كذلك بأن كانت ضعيفة فحينئذ : يبقى على الأصل فتصلي الصلاة في وقتها .
إذن : إن كان هناك غيم والأمطار محتملة احتمالاً قوياً والريح كذلك فلإزالة هذه المشقة يستحب لهم أن يؤخروا الظهر إلى آخر وقتها ثم يصلون العصر في أول وقتها وكذلك المغرب والعشاء لإزالة المشقة المتقدمة .
أما إذا كان الغيم موجوداً لكن احتمال الأمطار والريح ونحو ذلك مما يلحق الناس المشقة في حضورها إلى المسجد ليس بتلك القوة ، فإن الأصل هو البقاء على الأصل من استحباب الصلاة في أول وقتها .
ولكن هنا قال : ( لمن يصلي جماعة ) ، لأن المعنى هنا واضح وهو احتمال نزول المطر وشدة الريح حيث كانوا مجتمعين .
أما إذا كانـ[ـوا] متفرقين يصلون في بيوتهم فإن هذه العلة ليست بموجودة فحينئذ نبقى على الأصل .(36/9)
ويستثنى من استحباب تأخير صلاة الظهر ، في شدة الحر – يستثني من ذلك صلاة الجمعة ، إذ الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث سلمة بن الأكوع قال : ( كنا نجمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ) (1) فالثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجمع إذا زالت الشمس ولم يثبت عنه صلاتها مؤخرة ، بل الثابت عن أنه كان يصليها إذا زالت الشمس حتى قال الصحابي : ( ما كنا نقيل ولا نتغدى يوم الجمعة إلا بعد صلاة الجمعة ) (2) كما ثبت في الصحيح : والقيلولة إنما تحتاج إليها في الغالب في الحر .
ثم إن المعاني الموجودة في صلاة الجمعة غير المتوفرة في صلاة الظهر فدعى إلى ترك هذا الحكم وهو التأخير حيث إن المستحب في صلاة الجمعة هو التبكير إليها ، وحيث عجل الناس إليها ثم أخرت يكون في ذلك مشقة على المجتمعين .
ثم إنها يجتمع إليها الناس من أماكن بعيدة بخلاف صلاة الجماعة فإن الغالب أن يحضرها القريب .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة ، باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس ( 860 ) بلفظ : " كنا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء " ، وأخرجه البخاري ( 4168 ) في كتاب المغازي ، باب غزوة الحديبية بلفظ : " كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم ننصرف ، وليس للحيطان ظل نستظل به " . لكن ما الجواب عن حديث أنس المتقدم في البخاري .
(2) أخرجه البخاري من قول سهل رضي الله عنه في باب قول الله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة } من كتاب الجمعة ( 938 ) ، وفي أبواب أخرى ، وأخرجه مسلم ، في باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس ، من كتاب الجمعة ( 859 ) ، وقال أنس : " كنا نبكر بالجمعة ، ونقيل بعد الجمعة " أخرجه البخاري في كتاب الجمعة ، باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس ( 905 ) وفي باب القائلة بعد الجمعة ( 940 ) ، وعن سهل برقم ( 941 ) نحوه .(36/10)
أما صلاة الجمعة فيأتيها الناس عن بعد فيشق عليهم أن تؤخر هذا التأخير الظاهر لذا استثنى أهل العلم من الحنابلة وغيرهم يوم الجمعة لهذه المعاني المتقدمة .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس السابع والخمسون
( يوم الأحد : 23 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ويليه وقت العصر إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال )
" ويليه " : أي يلي وقت الظهر وقت العصر بلا فاصل بينهما فليس بينهما فاصل ، بل ينتهي وقت الظهر فيبدأ وقت العصر .
فإذا كان ظل الرجل كطوله تماماً فهذا هو نهاية وقت صلاة الظهر ، ثم إذا زاد زيادة ولو كانت يسيرة جداً فهذا هو وقت صلاة العصر فليس بينهما اشتراك ولا فاصل ، والمراد بالاشتراك أن يكون بينهما وقت مشترك بحيث يكون الوقت النهائي للظهر ، والابتدائي لصلاة العصر .
ودليل ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم – في حديث ابن عمرو : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس )(1)
قال : ( إلى مصير الفيء مثليه بعد فيء الزوال )
تقدم ذكر هذا الاحتراز في المسألة السابقة أي قوله " بعد فيء الزوال " .
فإذا كان ظل الرجل مثليه ، وليس فيء الزوال محسوباً في ذلك فقد خرج وقت العصر .
قالوا : ودليل ذلك ما رواه الترمذي وغيره والحديث صحيح في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه أنه قال له : ( الوقت بين هذين ) (2) وقد صلى في اليوم الأول في أول الوقت وفي اليوم الثاني في آخره ، وفيه أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه ، وهذا هو مذهب الجمهور ، وأن وقت العصر ينتهي إذا كان ظل الرجل مثليه ، والمراد به وقت الجواز .
__________
(1) تقدم .
(2) تقدم .(36/11)
- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه اختارها طائفة من أصحابه واختار ذلك شيخ الإسلام - واستظهره صاحب الفروع – : أن وقت الجواز لصلاة العصر يمتد ما لم تصفر الشمس فإذا اصفرت أو احمرت فقد انتهى وقت العصر .
واستدلوا :
بحديث عبد الله بن عمرو وفيه : ( وقت العصر ما لم تصفر الشمس ) (1) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وقتها ممتداً ما لم يحدث اصفرار في الشمس .
وكذلك : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصلاة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( صل معنا هذين ) (2) أي هذين اليومين ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعله جبريل من الصلاة في اليوم الأول في أول الوقت ، وفي اليوم الثاني في آخره وفيه : ( ثم صلى العصر في اليوم الآخر والقائل يقول قد احمرت الشمس ) أي كادت تحمر الشمس .
وهذا القول هو الراجح .
أما الجواب على الاستدلال بحديث جبريل .
فالجواب أن يقال : هو حديث مكي ، وهذه أحاديث " أي حديث عبد الله بن عمرو وأبي موسى " أحاديث مدنية فهما متأخران عنه فيكونان ناسخين له ، فوقت الجواز ما لم تصفر الشمس.
قال : ( والضرورة إلى غروبها )
ما تقدم ذكره هو وقت الجواز وهو الوقت المختار فالمختار هو الذي تصلي فيه صلاة العصر فيكون فاعلها فيه قد أداها في وقتها الشرعي الذي لا يلحقه الإثم بفعلها فيه .
أما وقت الضرورة فهو ما بعد ذلك والصلاة تكون فيه أداءً لكنه يكون آثماً لصلاتها فيه إن لم يكن معذوراً .
لكن إذا غربت الشمس فصلاته تكون قضاءً لا أداءً .
إذن : كلاهما وقت للعصر لكن الأول وقت جواز ، والثاني وقت ضرورة ، فإذا اصفرت الشمس فقد خرج وقت الجواز ، وبدأ وقت الضرورة فإذا غربت الشمس فقد خرج وقت صلاة العصر .
__________
(1) أخرجه مسلم ، وقد تقدم قريباً .
(2) تقدم .(36/12)
وتقدم أن من صلى الصلاة في وقت الضرورة بلا عذر فإنه يأثم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً )(1) رواه مسلم . وفي رواية لأبي داود : ( فإذا اصفرت الشمس وكانت بين قرني شيطان ) (2)
فهذا الحديث يدل على إثم المؤخر لها إلى هذا الوقت فإن صلاها في هذا الوقت فإنه آثم إلا أن يكون معذوراً .
أما الدليل على صحة الصلاة في وقت الضرورة ، فهو ما يثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) (3) .
ففيه أن من أدرك ركعة من العصر – وهذا يكون عند احمرار الشمس قبل المغرب – فقد أدرك العصر ، لكنه يأثم للحديث المتقدم – إن لم يكن معذوراً ، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من علامات النفاق وذم صاحبه ومثل هذا يدل على أنه محرم .
وإنما يسمى هذا ضرورة ؛ لأن هذا الوقت يتدارك به أهل الضرورة الصلاة ، كأن يبلغ الصبي أو يسلم الكافر أو تطهر الحائض أو يستيقظ النائم ونحوهم من أرباب الضرورات ، فيتداركون بذلك صلاة العصر فهو وقت ضرورة لهذا المعنى .
فإذن : صلاة العصر لها وقتان : وقت جواز ووقت ضرورة .
قال : ( ويسن تعجيلها )
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب استحباب التبكير بالعصر ( 621 ) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في وقت صلاة العصر ( 413 ) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب من أدرك من الفجر ركعة ( 579 ) وأخرجه مسلم ( 608 ) .(36/13)
لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم : ( يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله " منزله " في أقصى المدينة والشمس حية ) (1) ، وثبت في مسلم عن أنس قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتي العوالي والشمس مرتفعة ) (2) فهذا يدل على أنه كان يصليها في أول وقتها .
وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى التي قال تعالى فيها : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }(3) وهذا لعظم شأنها ، فهي الصلاة الوسطى أي الصلاة الفضلى . فالوسطى مؤنث الأوسط أي الأفضل .
وقد ثبت ما يدل على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ثبت ما يدل على ذلك في غير ما حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) (4) . وهذا مذهب أحمد وغيره من أهل الحديث ، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، والأحاديث مستفيضة في هذا الباب .
قال : ( ويليه وقت المغرب إلى مغيب الحمرة ) .
فإذا غربت الشمس أي احتجبت وغاب قرصها جميعه فلم يبق منه شيء فلا يرى منه شيء فقد دخل وقت المغرب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وقت المغرب لم يغب الشفق ) (5) .
قوله : ( إلى مغيب الحمرة ) هذا الوقت النهائي لها ، والحمرة هي المعترضة في ناحية المغرب ، فهذه الحمرة هي الشفق الأحمر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( ما لم يغب الشفق ) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب ( 13 ) وقت العصر رقم ( 547 ) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب ( 40 ) استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها رقم 647.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ،باب استحباب التبكير بالعصر ( 621 ) .
(3) سورة البقرة .
(4) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب الدليل لمن قال صلاة الوسطى هي صلاة العصر ( 628 ) .
(5) أخرجه مسلم ، وقد تقدم .(36/14)
فإذا غربت الشمس ظهرت هذه الحمرة ، فإذا غابت فقد خرج وقت المغرب .
فأول وقت المغرب غروب الشمس وآخره غياب الشفق .
* وقت المغرب ينقسم إلى وقتين :
وقت جواز .
وقت كراهية لا تحريم ، أي تأخير الصلاة إليه مكروه إلا لعذر أو حاجة .
فقد ثبت في سنن أبي داود ومسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم ) (1) أي إلى انضمامها وظهورها ووضوحها . فإذا اشتبكت النجوم وظهرت في السماء ، فهذا أوان وقت كراهية صلاة المغرب ، أما قبل ذلك فهو وقت فضيلة .
إذن : وقت الفضيلة من غروب الشمس ما لم تشتبك النجوم فإذا اشتبكت فهو وقت كراهية ما لم يغب الشفق فيخرج بذلك وقت صلاة المغرب .
قال : ( ويسن تعجيلها )
وهذا باتفاق أهل العلم .
وقد ثبت في الصحيحين عن رافع بن خديج قال : ( كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فننصرف وإن أحدنا ليبصر مواقع نبله ) (2) أي في الأرض ، أي ما زال الجو فيه وضوح فلم تشتد بعد الظلمة بحيث أنه إذا رمى بالنبل فإنه يبصر مواقع نبله .
وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان : ( يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب ) (3) إذن : السنة في المغرب أن تعجل .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في وقت المغرب ، وابن ماجه في باب وقت صلاة المغرب من كتاب الصلاة ، والإمام أحمد في المسند 4 / 147 ، 5 / 417 ، 422 . المغني [ 2 / 21 ] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب وقت المغرب ( 559 ) ، ومسلم في كتاب المساجد ، باب بيان أن أول وقت المغرب عند غروب الشمس ( 637 ) .
(3) أخرجه البخاري في الباب المتقدم ( 561 ) ، ومسلم ( 636 ) من حديث سلمة بن الأكوع .(36/15)
وتعجيل العصر والمغرب مطلق ، إلا صلاة المغرب يستثنى فيها ما تقدم من الاستثناء عند الغيم على المشهور في المذهب وأنها تؤخر في الغيم مع مظنة نزول المطر ، فإنها تؤخر إلى قبيل غياب الشفق فتصلى حينئذ ثم يؤذن لصلاة العشاء فتصلى فيكون الجمع صورياً .
قال : ( إلا ليلة جمع " مزدلفة " لمن قصدها محرماً )
أي لمن كان على هيئة الإحرام ، أما من لم يكن كذلك فإنه ليس له ذلك . وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع ليلة جمع كما صح ذلك في مسلم وغيره(1) .
ولكن استثناء كون قاصدها محرماً ليس على إطلاقه .
نعم من ذهب إليها هكذا فلا يشرع له ذلك . لكن حيث كان مصاحباً للمحرمين فالظاهر أنه يفعل ما يفعلون .
فمن كان مصاحباً لهم كمن كان قائماً بشأن بعض الناس في الحج فإنه يصلي كما يصلون وإن لم يكن محرماً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحبه مثل ذلك، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حث أحداً بخلاف ما فعل ، ويثبت تبعاً ما [ لا ] (2) يثبت استقلالاً .
إذن : يشرع تأخير صلاة المغرب ليلة جمع .
ولكن هل هذا إلى وقت صلاة العشاء أو هو جمع صوري ؟
سيأتي تقرير هذا في باب الجمع .
إذن : المقصود : أن صلاة المغرب يستحب أن تعجل إلا حيث شرع الجمع .
فإذا شرع الجمع جمعاً صورياً فإنه يستحب تأخيرها إلى آخر وقتها .
وحيث لم نقل بالجمع الصوري وقلنا بأنه جمع حقيقي فحينئذٍ : نبقي على الأصل وهو استحباب تعجيلها مطلقاً لأنها إذا جمعت جمعاً حقيقياً فقد صليت في أول وقتها .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الثامن والخمسون
( 24 / 2 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ويليه وقت العشاء إلى الفجر الثاني وهو البياض المعترض )
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج ، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو داود في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من حديث جابر رضي الله عنه .
(2) ليست في الأصل .(36/16)
" ويليه " أي يلي وقت المغرب وهي نهاية المغرب وهو غياب الشفق الأحمر ، فإذا غاب فقد وجبت صلاة العشاء .
إلى الفجر الثاني : وهو الفجر الصادق وهو البياض المعترض في الجانب الشرقي .
فوقتها من غياب الشفق الأحمر إلى طلوع الفجر الصادق وهذا الوقت شامل لوقتي الجواز والضرورة .
أما وقت الجواز فإنه في المشهور من المذهب - إلى ثلث الليل – لذا قال المؤلف بعد ذلك : " وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل " .
واستدلوا - على أن آخره إلى ثلث الليل – بحديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني حيث أخر العشاء إلى ثلث الليل وقال له : ( الصلاة بين هذين الوقتين ) (1) .
- وذهب الإمام أحمد في رواية عنه واختارها بعض أصحابه كالموفق والمجد ابن تيمية وغيرهم من فقهاء الحنابلة : إلى أن آخر وقت الجواز هو نصف الليل .
واستدلوا : بحديث عبد الله بن عمرو وفيه : ( ووقت العشاء إلى نصف الليل ) (2)
وبما ثبت في البخاري عن أنس قال : ( أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ) (3) .
قالوا : فدل هذان الحديثان الأول من قوله والثاني من فعله – صلى الله عليه وسلم – على أن آخر وقت الجواز لصلاة العشاء هو نصف الليل .
وأما حديث جبريل فهو حديث مكي متقدم – وحينئذٍ – يرجح عليه الأحاديث المدنية .
وهذا هو الراجح - وأن وقت الجواز إلى نصف الليل – فإذا انتصف الليل فقد دخل وقت الضرورة فمن أخرها إلى ما بعد نصف الليل فقد أثم إن لم يكن معذوراً فهو وقت لأهل الضرورات .
فإن قيل :
__________
(1) تقدم .
(2) تقدم .
(3) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب ( 25 ) وقت العشاء إلى نصف الليل ( 572 ) ، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب وقت العشاء وتأخيرها ( 640 ) بلفظ : " أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة إلى شطر الليل أو كاد .. "(36/17)
فما الدليل على ذلك فإن : حديث عبد الله بن عمرو ظاهر في أن آخر وقتها هو نصف الليل، وأن ذلك آخر وقتها مطلقاً – وهذا ما ذهب إليه بعض الشافعية وأن نصف الليل هو آخر وقت العشاء مطلقاً .
أما جمهور أهل العلم فقد ذهبوا : إلى أن آخر وقتها على الإطلاق طلوع الفجر ، ووقت الاختيار إما نصف الليل أو ثلثه على قولين ، والراجح أنه إلى نصفه كما تقدم .
ودليل ذلك : - أي كونه إلى طلوع الفجر – ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى ) (1) .
قالوا : فهذا ظاهر أن الصلوات متصلة بعضها ببعض ، فليس بينهما فاصل من الوقت ، بل لا ينتهي وقت صلاة إلا ويدخل وقت صلاة أخرى .
قالوا : وإنما يستثنى من ذلك ما دل الإجماع على استثنائه وهو صلاة الفجر ، فنهاية وقتها على الإطلاق هو طلوع الشمس بإجماع أهل العلم .
أما العشاء فليس فيها إجماع بل جماهير العلماء على ما تقدم .
قالوا : ويدل على ذلك آثار الصحابة – كما صح عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس في سنن البيهقي – أنهم أفتوا بالحائض تطهر قبل الفجر أنها تقضي الصلاة أي صلاة العشاء "(2) .
قالوا : ولو لم يكن هذا من وقت العشاء لم يلزمها ولا يلزم غيرها من المعذورين من أهل الضرورات – لم يلزمهم قضاء العشاء ولا قضاء الصلاة المجموعة إليها .
وهذا القول هو الراجح للحديث المتقدم وللآثار عن الصحابة .
فعلى ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم إلى نصف الليل هذا نهاية وقت الجواز ، وما بعده فهو وقت ضرورة .
قال : ( وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل إن سهل )
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة ( 680 ) عن أبي قتادة رضي الله عنه ، الشرح الممتع [ 2 / 108 ] .
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [ 1 / 569 ] باب ( 33 ) قضاء الظهر والعصر بإدراك وقت العصر .. رقم ( 1815 ) ( 1816 ) .(36/18)
أي إن كان في ذلك سهولة ولم يكن فيه مشقة على المأمومين أو بعضهم ، فالمستحب أن تؤخر إلى نصف الليل أو ثلثه ، والمذهب قال : " إلى ثلثه " لكون آخر وقت الجواز عندهم هو ثلث الليل ، والراجح أن آخر وقت الجواز نصف الليل فعلى ذلك يستحب تأخيرها إلى نصف الليل ما لم يكن في ذلك مشقة .
فإن كان في ذلك مشقة على المأمومين أو بعضهم فيكره ذلك ودليل الكراهية : ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ) (1) . وهذا فيه مشقة .
ودليل استحباب تأخيرها :
ما ثبت في الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة ) (2)
وثبت في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه ) (3)
وثبت في سنن النسائي وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لولا ضعف الضعيف وسقم السقيم وحاجة ذي الحاجة لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل ) (4) .
لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفعاً للمشقة على المأمومين أو بعضهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها في أول وقتها.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر .. ( 1828 ) .
(2) تقدم حديث أبي برزة .
(3) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة ( 167 ) وقال : " حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح " .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في وقت العشاء الآخرة ( 422 ) دون قوله " وحاجة ذي الحاجة " . وأخرجه النسائي برقم 539 ، وابن ماجه 693 . سنن أبي داود [ 1 / 293 ] . من حديث أبي سعيد الخدري(36/19)
وقد ثبت عند الأربعة إلا ابن ماجه عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يصليها – يعني العشاء – لسقوط القمر لثالثة ) (1) وهذا يكون بعد غياب الشفق بوقت يسير قد لا يتجاوز ربع أو ثلث ساعة .
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر قال : ( وأما العشاء فأحياناً وأحياناً إذا رآهم اجتمعوا عجّل وإذا رآهم أبطؤوا أخّر ) (2)
قال : ( ويليه وقت الفجر إلى طلوع الشمس )
أي من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس لحديث ابن عمرو : ( ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس ) (3) وهذا بإجماع أهل العلم .
قال : ( وتعجيلها أفضل )
لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح بغلس ) (4) أي في شدة الظلام .
وثبت في الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي قال : ( وأما الصبح فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفتل منها حين يعرف الرجل جليسه ، وكان يقرأ بالستين إلى المائة ) (5)
__________
(1) أخرجه أبو داود في أول باب في وقت العشاء الآخرة ، من كتاب الصلاة ( 419 ) ، وأخرجه الترمذي 165 ، والنسائي 529 ، الدارمي ، سنن أبي داود [ 1 / 291 ] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب ( 18 ) وقت المغرب ، وباب 21 وقت العشاء ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب ( 40 ) استحباب التبكير بالصبح .. ، سبل السلام [ 1 / 227 ] . ولفظه في البخاري ( 560 ) عن جابر قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة … والعشاء أحياناً وأحياناً ، إذا رآهم .. " ، وفي مسلم ( 646 ) : " والعشاء أحياناً يؤخرها وأحياناً يعجلُ كان إذا رآهم قد اجتمعوا .. " .
(3) تقدم .
(4) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب وقت المغرب ( 560 ) ، ومسلم ( 646 ) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب وقت الظهر عند الزوال ( 541 ) ، وباب وقت العصر ( 547 ) ، ومسلم 461 .(36/20)
أي يعرف الرجل جليسه القريب منه ، وأما البعيد عنه فلا يعرفه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أطال بالصلاة ، فدل على أنه كان يعجلها .
وثبت في الصحيحين عن عائشة قالت : ( كن نساء المؤمنات يشهدن الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ما يعرفهن أحد من الغلس ) (1) فهذه الأحاديث تدل على استحباب تعجيلها .
فإن قيل : فما هو الجواب على ما رواه الخمسة بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) (2) ؟
فالجواب : أنه يجب الجمع بينه وبين ما تقدم ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى استحباب تأخيرها ومشروعيته لكن الجواب على ذلك أن يقال : الإسفار المذكور هنا هو بيقين دخول الفجر، كما يقال : " أسفرت المرأة " أي كشفت عن وجهها .
فالمقصود : أن ينكشف الوقت عن دخول وقت الفجر فيكون ذلك متيقناً غير مشكوك فيه .
أي : تيقنوا وتثبتوا فلا تحكموا على الفجر بدخول وقتها إلا بعد تثبت وتبين ، والفجر هي أكثر الأوقات التي قد يحصل فيها اللبس ، فاللبس فيها أكثر من غيرها وأظهر .
والحمد لله رب العالمين
الدرس التاسع والخمسون
( يوم الثلاثاء : 25 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( وتدرك الصلاة بالإحرام في وقتها ) .
فإذا كبر للإحرام فخرج وقت الصلاة ، فإنه يكون قد أدرك وقت الصلاة .
فمثلاً : كبر للإحرام فطلعت الشمس فإنه يكون قد أدرك صلاة الفجر .
فعلى ذلك : الصلاة تدرك بتكبيرة الإحرام .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة ، باب وقت الفجر ( 578 ) ، ومسلم ( 645 ) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 8 ) في وقت الصبح ( 424 ) وأخرجه النسائي ( 549 ) وابن ماجه ( 672 ) والترمذي ( 154 ) وقال : حديث حسن صحيح ، سنن أبي داود [ 1 / 294 ] . وصححه شيخ الإسلام في الفتاوى .(36/21)
واستدلوا : بما ثبت في مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) (1) الحديث .
قالوا : فهذا يدل على أن أي إدراك للوقت فإنه يكون إدراكاً صحيحاً ، كأن يدرك من الوقت قدر سجدة أو ركوع أو تكبيرة الإحرام فإنه يكون مدركاً للوقت .
- وذهب الإمام الشافعي وهو مذهب مالك : إلى أنه لا يدرك الوقت إلا بإدراك ركعة تامة ، بقيامها وركوعها وسجدتيها ، فإذا أدرك ركعة فخرج الوقت فإنه يكون مدركاً للوقت .
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ) (2) الحديث .
قالوا : فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قيد الإدراك بإدراك ركعة ، أي ركعة كاملة بتكبيرتها وركوعها وسجدتيها وقيامها . وهذا هو الراجح .
فإن قيل : فما الجواب عما استدل به الحنابلة ؟
فالجواب : أن السجدة هي الركعة ، لذا قال بعض الرواة كما في مسلم : ( وإنما السجدة الركعة ) فيكون هذا من باب المجاز في إطلاق الجزء واردة الكل ، كقوله تعالى : { وقرآن الفجر }(3) أي صلاة الفجر ، فيكون هذا من باب ذكر الجزء تنبيها إلى البقية .
بدليل : أن الإدراك لا يمكن أبداً أن يكون على هذه الهيئة لذا الحنابلة لا يقولون بظاهر الحديث ، وإلا فظاهره أنه إذا كبر وركع وسجد فيكون قد أدرك السجدة فحينئذ يكون قد أدرك الصلاة ، وهم يقولون بمجرد ما يدرك تكبيرة الإحرام ، مع أنه ليس مدركاً للسجدة .
وكون الشارع يعلقها بالسجدة ليس له معنى إلا أن يكون المراد ما تقدم وهو أن المراد بالسجدة الركعة إذ تعليق ذلك بالسجود لا معنى له .
ثم إن الحديث يفسر بعضه بعضاً ، فحديث أبي هريرة مفسر لحديث عائشة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة ( 609 ) .
(2) تقدم .
(3) سورة الإسراء .(36/22)
فالراجح : أن من أدرك ركعة كاملة من الصلاة بركوعها وسجدتيها فقد أدرك الصلاة أداءً وإلا فإنه لم يدرك وتكون صلاته قضاء لا أداءً .
قال : ( ولا يصلي قبل غلبة ظنه بدخول وقتها إما باجتهاد أو خبر ثقة متيقن )
فلا يصلي قبل تيقن دخول الوقت أو غلبة الظن بذلك إذ الأصل أن الوقت لم يدخل فلا يجوز له أن يصلي إلا إذا تيقن دخوله أو غلب على ظنه ؛ لأن الظن معمول به في الشريعة .
وأما مع الشك فلا يجوز له أن يصلي ، لأن اليقين لا يزول بالشك ، وبقاء الوقت للصلاة الأولى وعدم انتقاله إلى وقت الصلاة الجديدة هو الأصل فلا ينتقل عنه إلا بيقين أو غلبة ظن .
( إما باجتهاد ) : أي بأن كان عارفاً بعلامات دخول الوقت ، فيجتهد بأي نوع من أنواع الاجتهاد والتحري والنظر .
( أو خبر ثقة متيقن ) : فيشترط أن يكون هذا الثقة متيقنا ، كأن يقول : " رأيت الشمس طالعة أو رأيتها قد غربت " قالوا : لأنه إن لم يكن متيقناً أي بأن يخبر بغلبة ظن ، فإن هذا المكلف عليه أن يتعرف على ذلك بنفسه ، بأن يجتهد بنفسه ، لأنه عارف بعلامات الوقت فلم يجز له تقليد غيره مع إمكان اجتهاده بنفسه .
لكن إن كان المخبر قد بني خبره على يقين فيجب أن يقبل ؛ لأنه خبر ديني فيقبل من واحد كالرواية وكالشهادة بدخول رمضان فإنها تثبت بشاهد واحد .
أما إذا كان يقول : ( أظن أو تبين لي ) ونحوها مما لا يكون جزماً ولا يقينا ، فلا يجوز أن يقلده لأنه يمكنه أن يجتهد بنفسه في معرفة الوقت .
لكن إن لم يكن عارفاً بعلامات الوقت فعليه أن يقلد ذلك المجتهد وهذا الطريق الثالث لمعرفة الوقت .
فهنا ثلاث طرق لمعرفة الوقت :
1- الاجتهاد 2- خبر الثقة المتيقن 3- خبر الثقة المجتهد لمقلد ، لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بهذا الطريق فيكون من سؤال أهل الذكر .
إذن : هناك طريق ثالث لكنها خاصة بالمقلد وهي أن يقلد من عنده معرفة بهذا الباب .(36/23)
فإن لم يكن هناك من يقلده وهو غير عارف بالوقت وعلاماته كأن يكون أعمى أو رجل لا يعرف أدوات معرفة الوقت فإنه يصلي على حسب حاله – هذا هو الراجح – .
لكن هل يعيد ؟
المشهور في مذهب الحنابلة : أنه يعيد سواء أخطأ أم أصاب .
وذهب بعض الحنابلة : إلى أنه لا يعيد إلا إذا أخطأ .
وهناك قول ثالث : وأنه لا يعيد مطلقاً . وهذا هو الراجح .
فالراجح : أنه لا يعيد مطلقاً لأنه صلى على حسب ما أمر به ، فقد قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم }(1) فصلى فلا يجب عليه الإعادة أخطأ أم أصاب ، لأنه قد فعل ما يجب عليه وقد صلى الصلاة على وجه هو قادر عليه ، عاجز عن غيره فنقص شيء من شروطها وهو الوقت لسبب العجز عنه ما لم يكن هناك ما يجب عليه ، وقد اتقى الله ما استطاع .
إذن : عندنا قولان في المذهب :
المشهور : أن يعيد مطلقاً .
وذهب بعض الحنابلة : إلى أنه لا يعيد إلا إذا أخطأ .
والذي يظهر أنه لا يعيد مطلقاً سواء أخطأ أم أصاب ؛ لأنه قد أمر بأن يصلي الصلاة ، ويتقي الله ما استطاع ، فاتقى الله ما استطاع وصلى الصلاة وصحت وقبلت منه لأنه فعل ما وجب عليه وليس هناك دليل يدل على بطلانها وقد فعل ما أمر به من الصلاة ، ومن صلى صلاة على وجه شرعي فإن الأدلة الشرعية تدل على أنه لا يؤمر بإعادتها مرة أخرى وقد صلاها على الهيئة الواجبة .
قال : ( فإن أحرم باجتهاد فبان قبله فنفل )
رجل صلى الظهر – مثلاً – عن اجتهاد فثبت له بعد الصلاة أنه قد صلاها قبل وقتها فحينئذ : تكون له نفل .
قالوا : لأن الصلاة ، لم تجب بعد فوجب أن يصليها بعد دخول الوقت .
وعن الإمام مالك : تكون له فرضاً وذلك : لأنه قد صلى على الوجه المأمور به ، وليس هناك دليل يوجب الإعادة – وهو قول قوي - .
فالظاهر : أنها تقع له فرضاً ، لأنه قد صلى بعد اجتهاد ونظر فكانت الصلاة على هذه الهيئة مأموراً بها مطلوبة منه على هذا الوجه ، وكونها تنتقل إلى نفل هذا يحتاج إلى دليل ولا دليل .(36/24)
قال : ( وإلا ففرض )
فإذا كان الاجتهاد موافقاً للصواب فتبين له أنه قد صلاها في وقتها فإنها تكون فرضاً وهذا لا إشكال فيه ، فإنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع ، وأصاب الحق وليس هناك دليل يدل على الإعادة وقد فعل ما أمر به .
ومثله ينبغي أن يكون مما تقدم : المقلد الذي صلى على حسب حاله فبان صواباً ، فإنه لا معنى للأمر بالإعادة .
قال : ( وإن أدرك مكلف من وقتها قدر التحريمة ثم زال تكليفه أو حاضت ثم كلف وطهرت قضوها )
بمعنى : أذن المؤذن ثم بعد مرور قدر تكبيرة الإحرام حدث مانع يمنع من الصلاة ، كأن يجن أو تحيض امرأة .
لأنهم قد أدركوا منها قدراً تجب به الصلاة ، فالمؤذن قد أذن فأدركوا من الوقت قدر تكبيرة الإحرام لأن المؤذن لا يؤذن إلا عند دخول الوقت .
فإذن : إذا مر قدر تكبيرة الإحرام بعد دخول الوقت ثم حصل مانع فإن الصلاة تتعلق بذمتها فيجب عليها القضاء – هذا مذهب الحنابلة – .
- وذهب الشافعية : إلى أن الصلاة لا تجب حتى يدرك من وقتها ما يتسع للصلاة .
فمثلاً : صلاة الظهر بأن تدرك وقتاً لأربع ركعات بأخف ما يمكن أي بالقدر المجزئ في الصلاة .
وهل يشترط لإيجاب القضاء عليها أن تدرك زمناً للطهارة أم لا ؟
قولان للشافعية :
القول الأول : أنه يشترط أن يكون الوقت متسعاً للطهارة لأنها لا يمكن أن تفعل العبادة إلا بطهارة ، ولا تجب الطهارة إلا بدخول وقت الصلاة .
القول الثاني : - وهو أضعف – أنه لا يشترط أن يتسع الوقت للطهارة ، لأنه يمكن أن تفعل الطهارة قبل دخول وقت الصلاة .
لكن هذا ضعيف كما تقدم ؛ لأن الطهارة إنما تجب للصلاة عند دخول وقتها .
إذن : الراجح في مذهب الشافعية أن الحائض ونحوها إذا أدركوا من وقت الصلاة ما يتسع لها بأخف ما يمكن وما يتسع للطهارة فإنه يتعلق الصلاة بذمتهم .
فإن أدركوا أقل منه فلا يتعلق بذمتهم .
قالوا : لأنها أدركت من الوقت ما لا يمكنها أن تفعل العبادة فيه فلم يجب عليها القضاء .(36/25)
- وذهب الإمام مالك : إلى أنه لا يلزم القضاء إلا إذا تضايق الوقت ولم يصلوا .
بمعنى : الحائض أذن مؤذن الظهر فلم تصل حتى تضايق الوقت ، بأن بقي ما لا يتسع للصلاة وكانت مفرطة ، وكانت الصلاة قد خرج وقتها في الحقيقة لأنه بقي ما لا يتسع لها .
- وإذا قلنا أن الوقت يدرك بإدراك ركعة كما تقدم – فإذا بقي ما لا يتسع لذلك . وهذا هو الراجح .
فإذن : لا تلزمهم إلا إذا تضايق الوقت عليهما – هذا على القول بقضاء الصلاة لمن تركها عمداً – والراجح : أن من تركها عمداً فإنه لا يقضي - كما هو اختيار شيخ الإسلام – في هذه المسألة .
إذن : من أدرك الوقت فلم يصل فإنه لا يقضي مطلقاً سواء تضايق الوقت أم لا .
فإن لم يتضايق ؛ فلأنه غير مفرط فيجوز له التأخير .
فالحائض : إذا أخرت الصلاة ساعة أو ساعتين بعد دخول الوقت ، وكان الوقت مثلاً ثلاث ساعات فأخرتها إلى وقت يمكنها أن تصلي فيه فهنا لا تكون مفرطة في التأخير ، لأنها قد فعلت ما يجوز لها فلم تكن مفرطة ولم يكن في إيجاب القضاء عليها معنى ، فإنها قد حدث فيها المانع بعد أن أخرت الصلاة تأخيراً جائزاً لها وليس ثمت أمر جديد بالقضاء ، وكوننا نأمرها بالقضاء هذا يحتاج إلى دليل ولا دليل ، والأصل عدم إيجاب القضاء .
* ثم ذكر شيخ الإسلام مسألة النائم والناسي وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالقضاء مع أنهما غير مفرطين وذكر أن هذا ليس بقضاء ، بل ذلك وقتهما ، فالوقت لهما عند استيقاظ النائم وتذكر الناسي ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) (1) .
قالوا : هذا هو وقتها في حق النائم والناسي .
ثم إنه لو لم يكن ذلك وقتهما ، فقد دل الشرع على إيجاب القضاء عليهم ولا دليل على المسألة المتقدمة .
__________
(1) تقدم .(36/26)
فالراجح : ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب مالك وأبي حنيفة من أن القضاء لا يجب لأن هذا المكلف قد أخَّر الصلاة تأخيراً جائزاً غير مفرط في ذلك ثم حدث المانع فلم يجب عليه القضاء ، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولا أمر جديد في ذلك .
وعلى قول المذهب :
إذا أدرك قدر تكبيرة الإحرام من وقت صلاة الظهر ثم حاضت المرأة ، فهل يجب عليها أن تصلي الظهر والعصر إذا طهرت أم لا يجب عليها إلا الظهر ؟
روايتان في مذهب أحمد :
الرواية الأولى : أن الصلاة الثانية لا يجب قضاؤها ؛ لأنهم لم يدركوا من وقتها شيئاً ولا من وقت من يتبعها .
الرواية الثانية : أن الصلاة الثانية يجب قضاؤها .
وهذا القول هو الراجح – كما سيأتي ولما تقدم – من قضاء عبد الرحمن بن عوف وابن عباس في المرأة تطهر قبل الفجر بأنها تصلي المغرب والعشاء ، وهذا ما يقول به الحنابلة في المشهور عندهم ، لكنهم في هذه المسألة لم يقولوا بها ، لأنه عندما يدرك وقت الصلاة الثانية فإن الأولى تبع لها ، أما هنا فقد أدرك الأولى ولم يدرك من الثانية شيئاً .
لكن هذا في الحقيقة ليس بمؤثر ، لأن مناط الحكم فيمن طرأ عليهم عدم التكليف ، أو غير المكلف ثم طرأ عليه التكليف أنهم إذا حدث ذلك منهم قبيل خروج وقت الصلاة الثانية فإن الآثار الواردة عن الصحابة في إيجاب الصلاة الأولى عليهم لمعنى متوفر في هذه المسألة وهي :
أن هذا الوقت وقت لهما جميعاً عند العذر ، فإن وقت الأولى وقت للثانية عند العذر ، لهذا فإن من أدرك وقتاً من الثانية فيجب عليه أن يصلي الأولى ، لأن الظهر والعصر وقتهما واحد عند العذر وكذلك المغرب والعشاء ، فوقتهما واحد عند العذر ، لذا جاز الجمع فيما شرعه الشارع من ذلك ، وفي الحقيقة لا فرق - حينئذ - بين وقت الأولى ووقت الثانية ، لأن الوقت واحد للجميع .(36/27)
فالراجح ، ما ذهب إليه الإمام أحمد في الرواية غير المشهور عند الحنابلة وهي : - وهذا على ترجيح المذهب وإلا فقد تقدم أن الصلاة لا تجب – لكن هذا للترجيح بين الروايتين : أن من أدرك شيئاً من وقت الأولى فإن الصلاة الثانية أيضاً تجب عليه ؛ لأن وقتهما في العذر واحد ، وقد تقدمت آثار الصحابة فيمن أدرك شيئاً من وقت الثانية فكذلك من أدرك شيئاً من وقت الأولى لا فرق بين المسألتين لأن وقتهما واحد عند العذر .
قال : ( ومن صار أهلاً لوجوبها قبل خروج وقتها لزمته وما يجمع إليها قبلها )
بمعنى : إنسان غير مكلف لم يبلغ فبلغ قبل خروج وقت الصلاة . أو امرأة حائض فطهرت قبل خروج وقت الصلاة فإن الصلاة تلزم .
ويلزم ذلك بإدراك تكبيرة الإحرام كما تقدم بمعنى : قبيل أن يؤذن الفجر بقدر تكبيرة الإحرام طهرت المرأة فيجب عليها أن تصلي العشاء والمغرب لأنها أدركت شيئاً من الوقت فوجبت عليها الصلاتين وتعلقت الصلاة بذمتها .
- وذهب الإمام مالك إلى قول آخر هو القول الصحيح في هذه المسألة وهو : أن الصلاة لا تلزم إلا إذا أدرك من وقتها ما يثبت به الإدراك .
وقد تقدم ما يثبت به الإدراك في مذهب مالك وهو مذهب الشافعي وهو إدراك ركعة كاملة ، فإذا أدركت الحائض من وقت صلاة العشاء ركعة كاملة بركوعها وسجودها ، فإنها تلزمها صلاة العشاء .
وإذا أدركت أربع ركعات يعني : ثلاث ركعات للمغرب وركعة للعشاء ، فإنه يجب عليها أن تصلي المغرب والعشاء لأنها أدركت من وقت العشاء ما يتسع لصلاة المغرب والعشاء جميعاً .
وذلك يكون إما بإدراك ركعة في إدراك صلاة العشاء أو إدراك أربع ركعات في صلاة المغرب والعشاء جميعاً .
ولابد – كذلك – وأن يتسع الوقت للطهارة فلو أدركت من الوقت ما لا يمكنها أن تغتسل و تصلي فإنه لا يجب عليها القضاء ؛ لأنها لو اغتسلت يخرج الوقت أو يبقى وقت لا يكفي لإدراك ركعة .(36/28)
إذن : إذا أدركت من الوقت ما يكفيها للطهارة وإدراك ركعة فتلزمها صلاة العشاء ، وإذا أدركت ما يكفيها للطهارة وأربع ركعات فإن المغرب والعشاء تلزمانها .
مثال آخر : امرأة طهرت قبل أذان المغرب ، فهل يجب أن تصلي الظهر والعصر ؟
يجب عليها إن أدركت من الوقت ما يتسع للطهارة وصلاة أربع [ ركعات ](1) وركعة ، لأنها بالأربع ركعات قد صلت الظهر ، وبالركعة أدركت العصر .
فإن أدركت أقل من ذلك فلا يجب عليها إلا العصر .
فإن أدركت أقل من ذلك بحيث لا تتمكن من إدراك ركعة من العصر مع الطهارة ، فلا يجب عليها شيء من ذلك .
وهذا القول هو الراجح لما تقدم ، فقد تقدم أن الصلاة لا تدرك إلا بركعة كاملة ، وهذه المرأة الحائض قد أدركت من الوقت ما لا يكفيها لإدراك ركعة كاملة ، والطهارة واجب عليها ، فلم تتمكن من الطهارة وإدراك الركعة إلا بعد خروج الوقت فأدركت من الوقت ما لا يمكن أن تصلي فيه فلم تكن الصلاة واجبة عليها ؛ لأنها عاجزة عن الصلاة ، لأنها لم تدرك من الوقت ما تتمكن به من الطهارة والصلاة الواجبة عليها .
قال : ( وما يجمع إليها قبلها )
ودليله : ما تقدم : من أن وقتها وقت واحد للمعذورين ، ولأن ذلك قد صح عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس كما في البيهقي(2) وغيره ولا يعلم لهما مخالف فكان حجة .
والحمد لله رب العالمين
الدرس الستون
( يوم الأربعاء : 26 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : [ ويجب فوراً قضاء الفوائت مرتبة ]
في هذه الجملة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : وجوب قضاء الفوائت .
المسألة الثانية : وجوبه على الفور .
المسألة الثالثة : وجوبه على الترتيب .
__________
(1) في الأصل تكرار " أربع " .
(2) تقدم .(36/29)
أما المسألة الأولى : وهي وجوب قضاء الفوائت ، دليلها : ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إذا ذلك ) (1) . فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاتها عند ذكرها ، وأمره للوجوب .
وظاهر الحديث أنه واجب على المعذورين بنوم أو نسيان ، بدليل قوله : ( لا كفارة لها إلا ذلك ) ، ومعلوم أن من تركها غير معذور فإن كفارتها ولاشك التوبة إلى الله ، ولا قائل بأنه يكتفى بقضائها فحسب ، بل يجب أن يتوب إلى الله من تفريطه في إضاعتها عن وقتها .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس في النوم تفريط ) (2) ، فالنوم عذر ، فحيث كان معذوراً في فواتها فعليه القضاء .
أما إذا كان مفرطاً فيه وأداه ذلك إلى فوات الصلاة فإنه لا يكون معذوراً .
[ ولكن ](3) المذهب أن ذلك بمفروض مطلقاً ، وأن المعذور وغير المعذور يجب عليهما قضاء الفوائت ، فمن ترك الصلاة عامداً مفرطاً فيجب عليه قضاؤها وعليه أن يضم إلى ذلك التوبة . وهذا مذهب جماهير العلماء حتى حكاه النووي إجماعاً .
لكن ذهب بعض أهل العلم كابن حزم وابن تيمية وابن القيم : إلى أن القضاء ليس بمشروع .
__________
(1) أخرجه البخاري ( 1 / 157 ) ومسلم ( 2 / 142 ) ، وأبو داود ( 442 ) ، وكذا أبو عوانة ( 2 / 260 ، 261 ) والنسائي ( 1 /100 ) والترمذي ( 1 / 335 ) وغيرهم ، الإرواء [ 1 / 291 ] رقم 263 .
(2) تقدم .
(3) في الأصل : ولفظة .(36/30)
وحكاه ابن حزم عن عمر وابن عمر وسلمان وأنس بن مالك وابن مسعود ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله وعمر بن العزيز ، قال : " ولا يعلم لهم مخالف "(1) .
وعمدة استدلالهم : أن القضاء يحتاج إلى أمر جديد به ، وليس عندنا أمر جديد بقضاء الفائتة غير المعذور صاحبها ، وأما الحديث الوارد المتقدم فإنه في المعذورين .
وكون الجمهور يقيسون غير المعذور على المعذور هذا قياس ظاهر البطلان ؛ لأن هذا عاص لله بفوات الصلاة ، وهذا غير عاص له ، بل قد وقع ذلك منه على وجه يعذر به ، فكيف يقاس عليه من أخرها متعمداً .
وهذا القول هو الراجح : وأن من ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها فإنه لا يشرع له القضاء ،بل يتوب إلى الله ويكثر من النوافل ، فإن الله يقول يوم القيامة : ( انظروا هل لعبدي من تطوع فأتموا به فريضته )(2) كما في المسند وغيره ، فلا يقضيها إذاً ؛ لأنه عمل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون مردوداً على صاحبه ، ولم يرد أمر جديد بالقضاء .
المسألة الثانية : فهي قوله " فوراً " : وأن الفوائت يجب قضاؤها فوراً . وهذا مذهب الجمهور . ودليلهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فليصلها إذا ذكرها ) ، وظاهره أنه يصليها على وجه الفورية لا على التراخي ، فقد أمره بالصلاة بمجرد الذكر ، فمتى زال عنه النسيان أو استيقظ من النوم فيجب عليه أن يصلي الصلاة فوراً .
__________
(1) المحلى [ 2 / 238 ] قال رحمه الله : " وممن قال بقولنا في هذا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ، وسعد بن أبي وقاص ، وسليمان – كذا ، ولعل الصواب : سلمان - وابن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وبديل العقيلي ، ومحمد بن سيرين ، ومطرف بن عبد الله ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم " .
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند ، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 16731 ) ( 23590 ) ، وعن تميم الداري ( 17079 ) ( 17073 ) .(36/31)
وذهب بعض أهل العلم ، وهو مذهب الشافعية : إلى أنه لا يجب على الفور ، بل يسن أن يكون فوراً ولا يجب ، فتبقى في ذمته ، فمتى صلاها أجزأه ذلك ، لكن المستحب أن يصليها فوراً .
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث عمران بن حصين في نوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن صلاة الصبح ، ,فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا خير ، ارتحلوا ، فارتحل ثم نزل فتوضأ فنودي بالصلاة ، فصلى بالناس ) (1) .
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في نومه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في سفر عن صلاة الغداة ، قال : ( ليأخذ كل رجل فيكم برأس راحلته ، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان ، ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة ) (2) .
قالوا : فهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الفجر وقد فاتته إلا بعد أن ارتحل ثم نزل .وهذا على وجه التراخي .
والراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول .
والجواب على استدلال أهل القول الثاني : أن يقال : إن هذا الحديث قد وقع فيه التأخير لمصلحة الصلاة ، فإن هذا موضع غفلة وحضر فيه الشيطان ، فمن مصلحة الصلاة وتمامها وتمام خشوعها أن ينتقل لموضع آخر ، فكان هذا لمصلحة الصلاة .
ومثله لو أخرها يسيراً لانتظار اجتماع الناس ليصلوها جماعة ، فإذا احتاج هذا لوقت ليجتمع الناس عليها بالوضوء ونحوه ، فيشرع ذلك ؛ لأن هذا من مصلحتها .
إذاً : الراجح مذهب الجمهور ، وهو وجوب ذلك على الفورية ، ولكن تأخيرها لمصلحتها مشروع ، كأن يكون ذلك لإقامتها جماعة أو للانتقال عن هذا الموضع الذي وقعت فيه الغفلة وحضر فيه الشيطان ونحو ذلك .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم ( 344 ) ، ومسلم ( 682 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة .. ( 680 ) . ولم أجده من حديث أبي هريرة في فهرس البخاري ، طبعة بيت الأفكار .(36/32)
المسألة الثالثة : وهي وجوبها على الترتيب :
والمذهب : أنها ولو كثرت فإنه يجب أن يقضيها مرتبة ، أي عن اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث ، وهكذا ، وهذا وإن كان لا يتصور في مسألة النسيان والنوم ، لكنه متصور فيمن تركها عمداً ، فمن ترك الصلاة عمداً شهراً ، فمذهب الجمهور أن عليه القضاء .
وصورة القضاء : أن يقضي الصلاة مرتبات وأن يقضيها مرتبة على الأيام ، أي أيام الشهر ، أولاً فأول حتى ينتهي ذلك .
فالمشهور في المذهب وجوب الترتيب ، وهو شرط لصحتها ، فلو لم يرتب لم تصح الصلاة التي قد اختل الترتيب فيها ، فمثلاً : لو صلى العصر ثم الظهر ، فصلاة العصر باطلة ، فيجب عليه أن يعيدها بعد الظهر .(36/33)
واستدلوا بالأحاديث الواردة في ترتيب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أحاديث غزوة الخندق . فقد ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال : حبسنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب لهويِّ من بالليل كفينا ، وذلك قوله تعالى : { وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً }(1) فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ، ثم أمر فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمر فأقام المغرب فصلاها كذلك ، وذلك قبل أن ينزل الله قوله تعالى في صلاة الخوف : { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً }(2) ، والحديث رواه النسائي(3) إلا أنه ليس فيه ذكر المغرب ، والحديث صحيح ، وتقدم حديث ابن مسعود في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالخندق الظهر والعصر والمغرب والعشاء مرتبات(4) .
قالوا : فهذه أحاديث تدل على فرضية الترتيب بين الفوائت . قالوا : ومثل ذلك الترتيب بين الحاضرة والفائتة ، فرجل عليه فائتة وهي صلاة العصر ، وحاضرة وهي صلاة المغرب ، فيجب عليه أن يرتب بين الفائتة والحاضرة .
__________
(1) سورة الأحزاب .
(2) سورة النساء .
(3) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 11216 ) ، ( 11485 ) ، ( 11667 ) .
(4) أخرجه النسائي في كتاب المواقيت باب ( 55 ) كيف يقضي الفائت من .. ( 622 ) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيهن يبدأ من أبواب الصلاة ، والبيهقي . المغني [ 2 / 336 ] .(36/34)
واستدلوا بما ثبت في الصحيحن أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق : " ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب " ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( والله ما صليتها ، فتوضأ وتوضأنا ثم صلى بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب ) (1) .
وذهب الشافعية : إلى أنه ليس بفرض بل مستحب ، قالوا : لأن ما ذكرتموه فعل ، والفعل لا يدل على الوجوب .
وهذا القول قول – في الحقيقة – قوي ظاهر ؛ ذلك لأن الصلاة أوجبها الله تعالى مرتبة حيث تصلى في وقتها ، فالترتيب مستحق الوقت ، فيسقط بسقوطه ، فمادام الوقت سقط فالترتيب تبع له ،فيسقط بسقوطه . هذا هو الذي يظهر ويتبين ، ونحتاج إلى دليل على فرضية الترتيب ولا دليل يدل على ذلك .
والترتيب فرض الوقت وقد سقط الوقت فيسقط بسقوطه ، ومن صلى الصلاة فقد فعل ما أمر به ، وكوننا نفرض عليه الترتيب ، هذا يحتاج إلى دليل ، فإن الوقت قد سقط وكوننا نوجب عليه الترتيب وقد أدى الصلاة على ما أمره بها الشارع ، فإن ذلك محل نظر ظاهر . إذ لا دليل على ذلك .
إذاً : الراجح أن الترتيب بين الفوائت وبين الحاضرة والفائتة إنما هو مستحب . وهو مذهب الشافعية .
وهذه المسألة التي سيأتي ذكرها مبنية على المشهور في المذهب ، وهو مذهب الجمهور من وجوب الترتيب بين الفائتة والحاضرة وبين الفوائت .
قال : [ ويسقط الترتيب بنسيانه ]
فلو صلى غير مرتب ناسياً فالصلاة تصح ؛ قالوا : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب قول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما صلينا ، ( 641 ) ، ومسلم ( 631 ) .
(2) قال في الأربعين : " حديث حسن " .
أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق ( 2043 ) قال رحمه الله : " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهُذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) " .
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ( 7 / 356 ) في باب ما جاء في طلاق المكره فقال رحمه الله : أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين قالوا : نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا الربيع بن سفيان نا بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات ، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير .
أخبرناه أبو سعد الماليني أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ نا عمر بن سنان والحسن سفيان وغيرهما قالوا : نا محمد بن المصفى نا الوليد بن مسلم ، فذكره ، وقال : عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال : أنا عبد الله بن جعفر نا يعقوب بن سفيان نا محمد بن المصفى نا الوليد نا ابن لهيعة عن موسى بن ورد أنه قال : سمعت عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) " .(36/35)
.
وهذا محل نظر ، فإن الترتيب فرض على قول الجمهور ، وحيث كان فرضاً فلا يسقط بالنسيان ، فغاية النسيان أن يسقط الإثم والحرج ، وأما أن يسقط الترتيب فلا .
لذا ذهب الإمام مالك : إلى أنه لا يسقط بالنسيان ، فلو صلى غير مرتب ناسياً فصلاته غير صحيحة .
وعلى القول الراجح فأصل الترتيب ليس بواجب .
قال : [ وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة ]
إذاً : هذا فيما إذا كان بين فائتة وحاضرة .
مثال : رجل استيقظ من النوم أثناء وقت صلاة العصر وقد نام عن الظهر ، [فـ](1) يجب عليه الترتيب إلا إذا خشي إن صلى الظهر قبل العصر أن تصفر الشمس وإذا اصفرت فقد خرج وقت الجواز .
إذاً : إذا خشي فوات وقت الجواز للحاضرة فيجب عليه أن يصليها قبل الفائتة .
قالوا : لأن الحاضرة آكد ، وهذا هو وقتها الذي هي مختصة به ، وتأخيرها عن وقت الجواز محرم ، فحينئذ يقدم الحاضرة فيصليها في وقتها الجائز ثم يصلي الفائتة .
فإن كان يخشى فوات الوقت كله ، فحينئذ يقدم ولا شك الحاضرة ؛ لأنه متى لم يصلها اجتمع عليه فائتتان ، فتكون الحاضرة فائتة أيضا ، لأنه يصلي الفائتة في وقتها ، فتكون الحاضرة فائتة ، فيجتمع عليه فائتتان .
ويسقط الترتيب أيضاً إذا تذكر الفائتة بعد الحاضرة ، بمعنى : رجل لما صلى العصر وانتهى منها تذكر أنه لم يصل العصر(2) فيسقط عند جمهور العلماء الترتيب ، فيصلي الفائتة بعد صلاته الحاضرة ، وهذا يدل عليه الحديث المتقدم : ( فليصلها إذا ذكرها ) ، وهو لم يتذكرها إلا بعد الحاضرة ، فقد تذكرها حيث لا يمكن الترتيب فيسقط .
أما المسألة التي فيها البحث والنظر هي : ما إذا تذكر أثناء الصلاة الحاضرة ، بمعنى : رجل كبر للعصر واشتغل بها سواء كان إماماً أو مأموماً أو انفرد ، فتذكر أنه لم يصل الظهر ، فما الحكم ؟
__________
(1) في الأصل : فهل .
(2) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : الظهر .(36/36)
قالوا : يتم صلاته مع الإمام لقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم }(1) ثم يصلي الفائتة ثم يعيد الحاضرة .
هذا مذهب جمهور أهل العلم .
واستدلوا بما رواه أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الخندق صلى المغرب فقال لأصحابه : ( هل أحد منكم يذكر أنا صلينا العصر قالوا : ما صليتها ، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر ثم المغرب ) (2) ، والحديث ضعيف ، فيه ابن لهيعة ، ولا يحتج بحديثه .
واستدلوا بما رواه أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر مرفوعاً : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل مع الإمام ثم ليصل الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام )(3) . والحديث ليس بصحيح مرفوعاً . وإنما هو ثابت عن ابن عمر موقوفاً كما في الموطأ ، لذا صحح وقفه الدارقطني والبيهقي وأبو زرعة والنسائي . فالصحيح أنه من قول ابن عمر كما صح في الموطأ .
وعن الإمام أحمد : أنه يقطع صلاته .
وهذا لو قلنا بوجوب الترتيب ، وأنه يجب عليه أن يعيد الصلاة لكان هذا أوجه ، وذلك لأنه عمل ليس بمقبول وليس بصحيح ، فإبطاله لا حرج فيه . أو أن ينقله إلى نفل مطلق ، فيقلب نيته من فرض إلى نفل مطلق ، وهذا أظهر ليبقى أصل الصلاة .
وذهب الشافعي : إلى أنه لا يعيد ، وهذا بناء على أن الترتيب ليس بواجب ، وهو مذهب ابن عباس كما حكاه عنه شيخ الإسلام ، ورجّح هذا القول مع أنه من القائلين بوجوب الترتيب .
__________
(1) سورة محمد 33 .
(2) المسند 4 / 106 . المغني [ 2 / 336 ] .
(3) أخرجه الإمام مالك في باب العمل في جامع الصلاة من كتاب قصر الصلاة في السفر ، والدارقطني في باب الرجل يذكر صلاة وهو في أخرى من كتاب الصلاة ، والبيهقي في الباب نفسه . المغني [ 2 / 337 ] .(36/37)
وترجيحه مبني على تصحيحه صلاته الأولى ؛ لأنها صلاة قد أمر بها وأمر بإتمامها ، والعبد لا يؤمر بالصلاة مرتين ، وقد أداها ، فقد أدى الصلاة أولاً ، وأمر بإتمامها ، فليس من الشرع أن يؤمر بالصلاة مرة أخرى .
إذاً : الراجح أنه إذا تذكر في أثناء الصلاة ، صلاة فائتة فإنه يتم الحاضرة ثم يصلي بعد ذلك المنسية سواء قلنا بوجوب الترتيب أم لم نقل بوجوبه .
أما إذا لم نقل بوجوبه فهذا واضح ؛ لأن الترتيب ليس بواجب وغاية الأمر أن يكون قد ترك الاستحباب . وأما إن قلنا بوجوب الترتيب ، فكما قال شيخ الإسلام : قد أمرناه بالصلاة وأمرناه بإتمامها ، فهي صلاة شرعية قد أمر بها فكيف يؤمر بها مرة أخرى .
مسألة :
إذا كثرت عليه الفوائت ، فما الحكم ؟
الجواب : يجب أن يقضيها كلها كما تقدم ، ويجب كذلك أن يكون هذا على الفور ، كما تقدم .
لكن بشرط وهو ألا يكون عليه مشقة في بدنه أو ماله ، فإن كانت عليه مشقة وضرر في بدنه أو ماله فلا يجب عليه أن يشتغل بها على هذه الصورة من الفورية ، بل يصلي بحيث لا يحلقه الضرر ببدنه وماله .
ببدنه : بتعب أو إعياء أو مرض ونحوه .
وبماله : بضياع شيء من ماله أو بقطع رزقه بالعمل ونحو ذلك ، فإنه لا يؤمر بها متواصلة فورية ، بل يؤمر بها على الوجه الذي لا يلحقه الضرر ، فيصلي بقدر ما لا يلحقه الضرر ثم يقوم بمصالح نفسه ثم يعود إلى إتمام ما فاته ، وهكذا .
هل يشرع له أن يقضي نوافل هذه الصلوات أم لا ؟
كرجل فاتته خمس صلوات ، فهل يشرع أن يقضي نوافلها ؟
الظاهر : كما هو المشهور في المذهب التفصيل في هذا : فإن كانت الصلوات كثيرة فإنه لا يقال باستحباب قضاء النوافل ، وإن كانت قليلة يسيرة فيشرع له ذلك .
أما الدليل على عدم استحباب قضاء النوافل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قضى الفوائت يوم الخندق وكانت أربعاً لم يصل نوافلها .(36/38)
وأما إذا كانت يسيرة فإنه يصلي نوافلها ، فدليله : حديث أبي هريرة المتقدم وفيه : " فدعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة "(1) . والسجدتان هما سنة الفجر .
وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ولم أر قولاً يخالف هذا القول .
مسألة :
إذا نسي صلاة من يوم لا بعينها ؟
كأن يقول : أذكر أنه في يوم الجمعة تركت صلاة ناسياً ولا أذكر هذه الصلاة أي صلوات اليوم ، فما الحكم ؟
قالوا : يصلي الخمس صلوات كلها ؛ لأن التعيين فرض ، والصلاة يجب أن يعينها أظهرا أم عصراً ، ولا يتم ذلك إلا بإعادتها كلها ، فلا يتم التعيين إلا بذلك ، حيث إن الاحتمال يبقى ولا يكون التعيين إلا بإعادتها كلها . وهذا ما اتفق عليه أهل العلم ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
مسألة :
إذا ما ترك الترتيب بين الفوائت جاهلاً ؟
المذهب : أن الترتيب لا يسقطه الجهل .
والقول الثاني : أن الترتيب يسقطه الجهل ، كما هو مذهب شيخ الإسلام ، فإن الفرائض لا تجب إلا بعد العلم بها ؛ لقوله تعالى :{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً }(2) .
وهذا القول هو الراجح ، وأن الجهل يسقط الواجبات ، فلا تجب عليه إلا الصلاة الحاضرة كما تقدم ، وأما الفوائت وما فعله سابقاً فلا تجب عليه . فالفرائض لا تجب إلا بعد العلم ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واختيار شيخ الإسلام ، أن الواجبات [ لا تجب ](3) إلا بعد العلم بها .
ومثل هذه المسألة : من ترك صلوات جاهلاً بها ، لكونه حديث عهد بإسلام ، فكذلك :
المذهب : أنه يجب عليه القضاء .
والصحيح أنه لا قضاء عليه ؛ لأن الواجبات لا تجب إلا بعد العلم بها .
مسألة :
إذا خشي فوات الجماعة بصلاة الفائتة ؟
رجل نام عن صلاة العصر حتى أذن المغرب ، فقال : أخشى إن اشتغلت بالفائتة أن تفوتني الجماعة ، فما الحكم ؟
قولان في المذهب :
__________
(1) أخرجه مسلم ، وقد تقدم .
(2) سورة الإسراء .
(3) ليست في الأصل .(36/39)
الأول : إن الترتيب يسقط ؛ لأنه قد اجتمع عليه واجبان ، الواجب الأول هو الترتيب ، والواجب الثاني هو صلاة الجماعة ، فيسقط حينئذ الترتيب .
لكن هذا القول فيه تحكم ظاهر ، فإن ترجيح إسقاط أحد الواجبين يحتاج إلى دليل ، كيف والدليل يدل على إسقاط واجب الجماعة ؛ لأن الترتيب شرط في صحة الصلاة – هذا على المذهب – أما الجماعة فليست شرطاً في صحتها بل تصح الصلاة من المنفرد عن الجماعة وإن لم يكن معذوراً في ذلك ، فالصلاة صحيحة إلا إن أجره ينقص ويأثم ، بخلاف الترتيب ، فحيث قلنا بفرضيته فإن تركه يبطل الصلاة ، فهو أرجح من الجماعة ، ففوات الجماعة مرجح على فواته ؛ لأنه آكد منها .
أما على القول الراجح وأن الترتيب ليس بواجب ، فهذا ظاهر وواضح ، فحينئذ يصلي الحاضرة ويؤديها جماعة ، فهو مأمور بتأديتها جماعة ثم يقضي الفائتة .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الحادي والستون
( يوم السبت : 29 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ومنها ستر العورة )
ستر العورة : الستر بفتح السين هو التغطية ، وبكسرها هو ما يستر به ، سِتر وسَتر .
وسترها شرط بالإجماع ، قال ابن عبد البر : " وأجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً " وقد قال تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد }(1) أي عند كل صلاة .
قال : ( فيجب بما لا يصف بشرتها )
__________
(1) سورة الأعراف .
قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع [ 2 / 145 ] : " لم تأت كلمة ستر العورة في الكتاب أو السنة ومن أجل أنه لم تأت ينبغي أن لا نعبر إلا بما جاء في القرآن والسنة … ونظير هذا .. تعبير بعضهم في باب محظورات الإحرام بلبس المخيط بدلاَ عن القميص والسراويل .. ولما قال العلماء " ستر العورة " اشتبه على بعض الناس عورة الصلاة وعورة النظر … والذي جاء في القرآن { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } .. "(36/40)
أي لا تصف بشرتها من سواد أو بياض أو حمرة أو نحو ذلك فهذا هو الواجب في سترها وهو أن يسترها بثوب من خرق أو جلد أو نحوه بما لا يصف بشرتها .
فإذا وصف البشرة فبان بياض أو نحو ذلك فهو غير ساتر لعورته فالثوب الذي يصف البشرة لا يستر العورة باتفاق أهل العلم لأن العورة ليست بمستورة .
وأما حجمها فاتفق أهل العلم على أن ظهور الحجم إذ سترت البشرة أنه ليس بمعتبر في سترها ، وذلك لمشقة التحرز من ذلك .
فظهور حجمها لا يعد مخالفاً للستر الواجب الشرعي .
قال : ( وعورة رجل وأمة وأم ولد ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة ) .
فعورة الرجل من السرة إلى الركبة .
اتفق أهل العلم على أن السوأتين القبل والدبر أنهما من العورة في الرجل .
واتفقوا على أن السرة ليست من العورة .
واختلفوا في الفخذين والركبتين .
فأما الفخذان :
فجمهور أهل العلم على أنهما عورة واستدلوا : -بحديث جَرْهَد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( غط فخذك فإن الفخذ عورة )(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، ونحوه من حديث ابن عباس رواه أحمد والترمذي . ونحوه من حديث محمد بن جحش رواه الترمذي . وبحديث علي بن أبي طالب في سنن أبي داود – وهذه الأحاديث كلها فيها أن الفخذين عورة .
وذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مذهب ابن جرير الطبري والنووي وابن المنذر ومذهب الظاهرية واختاره طائفة من أصحاب أحمد كالمجد وصاحب الفروع : وهو أن الفخذين ليسا بعورة .
__________
(1) أخرجه أبو داود ( 3140 ، 4015 ) في باب النهي عن التعري ، من كتاب الحمام ، والبيهقي ( 2 / 228 ) ، ولفظه " لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " والترمذي في كتاب الأدب ، باب ما جاء أن الفخذ عورة . والإمام أحمد في المسند 3 / 478 ، 479 ، الإرواء ، والمغني [ 2 / 285 ] .(36/41)
واستدلوا : بما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه " - وفي المسند والطحاوي الجزم بأنهما الفخذان – " فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدثا ، ثم استأذن عثمان فجعل يسوي ثيابه ، قالت عائشة : فسألته فقال : ( ألا استحي ممن تستحي منه الملائكة )(1) .
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف فخذيه عند أبي بكر وعمر ولو كانتا عورة لما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الشك ، فقد ورد في رواية أحمد والطحاوي الجزم بأنهما الفخذان فتبين أن هذا شك من الراوي .
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك – في غزوة خيبر – وهو حديث طويل وفيه : ( وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثم حسر الإزار عن فخذه – وفي رواية ( ثم انحسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم ) (2) متفق عليه .
والاستدلال به من وجهين :
الوجه الأول : كون ركبة أنس تمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم والعورة لا يجوز مسها .
الوجه الثاني : انحسار الثوب عن فخذ النبي صلى الله عليه وسلم ونظر أنس بن مالك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مصون عن أن تنكشف له عورة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عثمان بن عفان ( 2402 ) . وأخرجه الطحاوي في المشكل ( 2 / 283 – 284 ) ، وأحمد ( 6 / 62 ) الإرواء [ 1 / 299 ] .
(2) أخرجه البخاري ( 1 / 105 ) برقم ( 371 ) ، ومسلم ( 4 / 145 ، 5 / 185 ) ، وأحمد ( 3 /102 ) والبيهقي ( 2 / 230 ) الإرواء [ 1 / 301 ] .(36/42)
ومن الأدلة على الوجه الأول : ما في البخاري عن زيد بن ثابت قال : ( أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم – أي القرآن – وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خشيت أن ترض فخذي )(1)
والشاهد منه ما تقدم : من مس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم لفخذ زيد والعكس وهذا لا يكون في العورة .
وأجاب أهل القول الثاني على أهل القول الأول :
بأن الأحاديث الواردة في هذا الباب كلها ضعيفة .
فحديث جرهد : حديث مضطرب وقد ضعفه البخاري وغيره .
وحديث ابن عباس فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف .
وحديث محمد بن جحش فيه أبو كثير وهو مجهول .
وحديث علي إسناده ضعيف جداً .
وهذه الأحاديث إنما تحسن لشواهدها لو لم يكن لها هذا المعارض وهي الأحاديث التي فيها ما اتفق عليه الشيخان ومنها رواه البخاري أو مسلم .
والقول الثاني هو الراجح ؛ لأن الأحاديث كلها ضعيفة ، وهذه الأحاديث صحيحة صريحة في أن الفخذ ليس بعورة .
وحيث قلنا إن الفخذ ليس بعورة ، فكما قال شيخ الإسلام : " موضع هذا خارج الصلاة ، أما في الصلاة ، فيجب سترها ، لقوله صلى الله عليه وسلم – في الثوب الواحد – ( إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به )(2) .
ثم إن الفقهاء يقع منهم في هذا الباب شيء من الخلط الكثير – كما قال شيخ الإسلام – في مسألة العورة في الصلاة وفيها خارج الصلاة وليس بينهما اجتماع .
__________
(1) ذكره البخاري تعليقاًَ مجزوماً به في باب ( 12 ) ما يذكر في الفخذ من كتاب الصلاة ، وأخرجه أيضاً مسنداً موصولاً في كتاب الجهاد والسير ، باب ( 31 ) قول الله تعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } ( 2832 ) .
(2) أخرجه البخاري في الصلاة / باب إذا كان الثوب ضيقاً ( 361 ) ، ومسلم في الزهد / باب حديث جابر الطويل ( 3010 ) ، ولفظه عند مسلم : " إذا كان واسعاًَ فخالف بين طرفيه ، وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك " ، الشرح الممتع [ 2 / 146 ] .(36/43)
فالعورة في الصلاة عورة ثابتة في الخلوة وغير الخلوة وعند حضور من يجوز أن ينظر إلى العورة ونحوه ، فيجب ستر العورة لعمومات الأحاديث .
وأما خارج الصلاة فهي عورة حيث وجد من لا يحل أن ينظر إليها ممن ليس بزوج أو نحوه ، أما نظر الزوج إلى الزوجة فهو جائز وهذا في خارج الصلاة .
ثم إن عورة المرأة على الصحيح – كما سيأتي – كلها إلا الوجه والكفين والقدمين ، ولا يستثنى شيء من ذلك في العورة خارج الصلاة .
فإذن : من يربط المسألتين فقد أخطاء ، فهذه مسألة وهذه مسألة .
إذن : المقصود أن العورة إنما هي السوأتان فقط أما الفخذان فليس بعورة .
وأما في الصلاة فيجب أن يستتر بثوب بحيث تغطى الفخذان والسوأتان – كما قرر هذا شيخ الإسلام - .
أما الركبة :
فجمهور أهل العلم على أنها ليست بعورة .
وهي عورة عند أبي حنيفة ، لحديث وارد في الدار قطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الركبة من العورة )(1) لكن الحديث إسناده ضعيف جداً .
فالراجح مذهب الجمهور .
وعلى القول بأن الفخذين ليسا بعورة – كما هو الراجح – فأولى منهما الركبتان .
قوله : ( وأمة أم ولد ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة )
فعورتها كعورة الرجل ، لحديث أحمد والدار قطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما بين السرة والركبة فإنه عورة )(2) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني في باب الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها وحد العورة التي يجب سترها ، من كتاب الصلاة ، سنن الدارقطني [ 1 / 231 ] ، المغني [ 2 / 286 ]
(2) أخرجه أبو داود في باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ، من كتاب الصلاة ، وفي باب قوله { غير أولي الإربة } من كتاب اللباس ، والدارقطني في باب الأمر بتعليم الصلاة والضرب عليها .. من كتاب الصلاة ، المغني [ 2 / 285 ] .(36/44)
والحديث – في الحقيقة – ليس بصريح في أن هذا عورة ، وأن غيره ليس بعورة وإنما فيه أنه عورة بالنسبة إلى السيد إذا زوج أمته فلا يجوز أن ينظر إلى ما بينهما ، وأما الركبة فما دون فإنه ليس بعورة بالنسبة إلى السيد المالك ، فليس فيه أن الركبة فما دون والصدر ونحو ذلك أنه ليس بعورة مطلقاً على السيد وغيره .
- لذا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه : إلى أن عورتها كالحرة وهذا في الصلاة – فالبحث هنا إنما هو في عورتها في الصلاة – . وهذا القول هو الراجح ؛ لعمومات النصوص الشرعية ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )(1) رواه الخمسة إلا النسائي وهو عام في الحرة والأمة ، وكلاهما تصح فيها أن تكون حائض ، فتوصف بأنها حائض وإخراج الأمة لا دليل عليه .
والدليل المتقدم إنما فيه ذكر العورة بالنسبة إلى السيد .
إذن الراجح : أن الأمة وأم الولد والمعتق بعضها والمكاتبة أن عورتها إنما هي كعورة الحرة تماماً لعمومات النصوص الشرعية .
وأما عورتها خارج الصلاة : فالأظهر ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وهو مذهب مالك والشافعي : إلى أن عورتها ما لا يظهر غالباً .
فما لا يظهر غالباً منها فهو العورة – فالوجه واليدان والشعر هذا يظهر غالباً فليس من العورة ، وأما ما لا يظهر غالباً فهو عورتها .
وألحق أهل العلم بالرجل من بلغ عشر سنين ، فمن بلغ عشر سنين فعورته كعورة الرجل ، وأما ما دون ذلك فالفرجان – هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد – وتقدم أن الصحيح أن العورة إنما هي الفرجان .
__________
(1) أخرجه أبو داود في باب المرأة تصلي بغير خمار ، من كتاب الصلاة ، والترمذي في باب ما جاء لا تقبل صلاة المرأة إلا بخمار من أبواب الصلاة ، وابن ماجه في باب إذا حاضت الجارية لم تصل إلا بخمار ، من كتاب الطهارة ، والإمام أحمد في المسند : 6 / 150 ، 218 ، 259 ، المغني [ 2 / 283 ] .(36/45)
وأما كشف ذلك فإن مرجعه إلى الفتنة ، فإذا كانت الفتنة فلا يجوز كشفه مطلقاً ، وأما حيث لا فتنة فيجوز كشفه .
إذن : ابن عشر سنين في المشهور من المذهب عورته كعورة الرجل ولم أر دليلاً يدل على هذا وأما ما دونه فعورته الفرجان .
والذي ينبغي أن يكون من لم يبلغ كهو بعد التمييز دون عشر سنين ، فإنه لا فرق بين ما إذا ميز وكان دون عشر سنين فيه [ وبين ما ] إذا بلغ عشر سنين ولم يبلغ بعد .
وقد تقدم ترجيح أن الفخذين ليسا بعورة ، فإذا ثبت هذا فيمن هو بالغ فأولى منه فيمن بلغ عشر سنين أو من دونه .
ومما يبين أن ما ذكره الفقهاء لا دليل عليه : أن المرأة غير البالغة جعلوها كعورة الرجل وهي المميزة التي لم تبلغ بعد ابنة عشر أو أصغر أو أكبر ما لم تبلغ فعورتها كعورة الرجل أي السوأتان والفخذان – ولم يجعلوها كالحرة .
وهنا جعلوا ابن عشر سنين كالبالغ ، ولم يجعلوا بنت عشر ونحوها ممن لم تبلغ لم يجعلوها كالبالغة وهذا تفريق بين مسألتين يعتبر فارق مؤثر .
فالمقصود : أن المرأة إذا بلغت فعورتها ستأتي وما لم تبلغ فعورتها كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) (1) وما لم تبلغ فليست بحائض .
إذن : من دون البلوغ من النساء عورتها في الصلاة ليست كعورة الحرة البالغة .
قال : ( وكل المرأة عورة إلا وجهها )
كل المرأة عورة ، كما ثبت في الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المرأة عورة ) (2) فهذا يدل على أن المرأة كلها عورة .
وقد أجمع العلماء على أن المرأة يجب عليها أن تستر كل شيء من بدنها من شعر أو بشرة أو ظفر(3) سوى الوجه واليدين والقدمين ، فهذه المسائل الثلاث هناك منها ما أدخله بعض أهل العلم فيما يجب ستره ومنه ما لم يدخله في هذا فهو محل خلاف .
__________
(1) تقدم قريباً .
(2) أخرجه الترمذي في باب حدثنا محمد بن بشار ، من أبواب الرضاع ، المغني [ 2 / 328 ] .
(3) كذا في الأصل .(36/46)
إلا أن الوجه قد اتفقوا على جواز إخراجه فالوجه لا يجب لها ستره للحاجة إليه .
واختلفوا في الكعبين والقدمين .
فأما الكفان :
فالمشهور في المذهب أنه يجب تغطيتهما لعموم الحديث المتقدم : ( المرأة عورة ) (1) .
وذهب الشافعية والمالكية والأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد : إلى أن الكفين يجوز كشفهما في الصلاة قياساً على الوجه .
وهذا قياس واضح ، فإن الكفين يحتاج إلى كشفهما كما يحتاج إلى كشف الوجه تماماً ، والشارع يسوى بينهما فكما سوى بينهما في الإحرام في النهي عن التغطية ، فبينهما في الشرع اتفاق .
وهنا بينهما اتفاق في المعنى ، فإن المعنى واحد فإن الحاجة إلى كشف الكفين واردة كالحاجة إلى كشف الوجه . وهذا هو الراجح .
وأما القدمان :
1- فجمهور أهل العلم : على النهي عن كشفهما .
واستدلوا : بما رواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمه : أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ( أتصلى المرأة في درع وخمار بغير إزار فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها ) (2)
على أن هذا الدليل : ليس دليلاً تاماً لهم ؛ لأنه ليس فيه تغطية باطن القدمين وإنما فيه تغطية ظاهرهما وظاهر كلامهم تعميم ذلك في باطن القدمين وظاهرهما .
2- وذهب أبو حنيفة وهو اختيار المزني من الشافعية واختيار شيخ الإسلام : إلى أن القدمين لا يجب تغطيتهما في الصلاة ؛ قياساً على الوجه ، فإن القدمين مما يظهر غالباً في المرأة في بيتها وحيث لا يراها الأجنبي ، وفي تغطيتهما مشقة ، والحاجة القاضية بكشفهما ، كالحاجة تماماً في كشف الوجه قال شيخ الإسلام : وأما حديث : ( المرأة عورة ) إنما هو حيث ينظر إليها الأجنبي ، ففي تمام الحديث : ( فإذا خرجت استشرفها الشيطان )
__________
(1) أخرجه الترمذي ، وتقدم قريباً .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب كم تصلي المرأة . المغني [ 2 / 329 ] .(36/47)
وقد تقدم أنه لا جامع بين ستر العورة في الصلاة وسترها خارج الصلاة .
والراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني .
وأما حديث أم سلمه فقد تفرد برفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار وحفظه ضعيف .
ورواه عامة الثقات موقوفاً على أم سلمة كمالك وابن أبي ذئب وإسحاق وحفص بن غياث وغيرهم ، فالراجح أنه موقوف .
ثم إن فيه أم محمد بن زيد وهي لا تعرف كما قال ذلك الذهبي ، فلا يبنى - على مثل هذا - هذا الحكم العظيم .
فعلى ذلك الراجح أن القدمين ليستا من عورة الصلاة وكذلك الوجه والكفان .
وأما خارج الصلاة فإنها من العورة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( المرأة عورة ) أي كلها عورة شعرها وبشرتها كلها عورة .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثاني والستون
( يوم الأحد : 30 / 2 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : [ وتستحب صلاته في ثوبين ]
يستحب للرجل أن يصلي في ثوبين ، قميص ورداء يلتحف به أو إزار ورداء ، أو قميص وإزار ، أو قميص وسراويل ، ونحو ذلك ، بأن يكون عليه ثوبان يصلي فيهما .
فالمستحب باتفاق أهل العلم أن يصلي في ثوبين ، قميص ورداء ، قميص وإزار ، قميص وسراويل ، إزار ورداء ، نحو ذلك .
ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أيصلي الرجل في الثوب الواحد ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أولكلكم ثوبان ) (1) فمفهومه مشروعية واستحباب أن يصلي الرجل في ثوبين .
فإن صلى في ثوب واحد فيجزئه اتفاقاً مادام أن ستر العورة ثابت فيجزئه إجماعاً .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به ، وباب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء من كتاب الصلاة ، ومسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه من كتاب الصلاة ، وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومالك وأحمد ، المغني [ 2 / 293 ] .(36/48)
والمستحب أن يصلي في ثوبين كما تقدم ، قال عمر - رضي الله عنه - : ( إذا وسع الله فأوسعوا ) (1) رواه البخاري .
قال : [ ويجزئ – يكفي – ستر عورته في النفل ]
فيجزئه أن يستر عورته في النفل .
فإذا صلى الرجل بثوب واحد قد ستر به عورته – السوأتين والفخذين ، على المذهب – فإن الصلاة صحيحة في النفل .
فلو صلى تطوعاً فلم يكن عليه إلا ثوب يستر عورته فالصلاة صحيحة كأن يصلي بإزار فقط .
وهذا لأن النفل مبناها على التخفيف والتيسير . هذا المشهور في المذهب .
وعن الإمام أحمد : أنه لا يجزئ ستر العورة فقط ،بل يجب عليه أن يضيف إلى ذلك تغطية أحد المنكبين أو كليهما ، كما سيأتي .
قال : [ ومع أحد عاتقيه في الفرض ]
العاتق : هو ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء في أعلى البدن أو موضع الثوب .
قال : يجب في الفرض أن يغطي أحد منكبيه ، فإذا صلى بإزار فقط ولم يغط أحد منكبيه وكانت فرضاً فلا تصح .
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء ) (2) .
قالوا : هذا يدل على نهي المصلي أن يصلي وهو مكشوف المنكبين ، بل يجب أن يرد طرف الثوب على أحد عاتقيه ، فإذا فعل ذلك فإن الصلاة تكون صحيحة .
واستثنوا النفل لما تقدم وأن مبناها على التخفيف .
وعن الإمام أحمد ، وهو ظاهر كلام الخرقي : أن النفل كالفرض ، فلا فرق بينهما .
وهذا هو الأصل ، فالأصل في الأحكام الشرعية الثابتة للفرض أن تثبت للنفل ، فما كان شرطاً في الفرض فهو شرط في النفل إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء ، من كتاب الصلاة ، المغني [ 2 / 294 ] .
(2) أخرجه البخاري في باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه ، من كتاب الصلاة ، ومسلم في باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه ، وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد ، المغني [ 2 / 289 ] .(36/49)
كيف والحديث المتقدم عام في النفل كما هو عام في الفرض .وهذا هو الراجح ، أن النفل والفرض يجب أن يستر عاتقيه فيهما .
المسألة الثانية : قوله " ومع أحد عاتقيه " :
فلا يجب عليه أن يستر العاتقين ، فإذا اكتفى بستر أحدهما أجزأه . هذا هو المشهور في المذهب .
وعن الإمام أحمد واختاره طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره : أنه لا يجزئه إلا أن يستر العاتقين كليهما . وهذا القول أظهر ؛ لقوله في الحديث المتقدم ( ليس على عاتقيه منه شيء ) ، فظاهره أنه فرض في العاتقين كليهما .
وقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن سلمة(1) قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد مشتملاً به في بيت أم سلمة واضعاً طرفيه على عاتقيه ) (2) . هذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إذاً : يجب عليه أن يغطي عاتقيه في الفرض والنفل على الصحيح في المذهب .
والجمهور على أن ذلك سنة ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الثوب : ( إن كان واسعاً فالتحف به وإن كان ضيقاً فاتزر به ) (3) ، وإذا اتزر به وشده على حقويه فإنه لا ينال العاتقين منه شيء .
والجواب على هذا أن يقال : إن هذا الحديث عند الضرورة ، فإنه ليس عنده إلا ثوب واحد فيتزر به لضيقه ، وإن كان واسعاً فإنه يلتحف به , فظاهر هذا الحديث وجوب تغطية المنكبين كليهما ، لقوله ( إن كان واسعاً فالتحف به ) ، وحقيقة الالتحاف أن يغطي به بدنه كما يوضع الجلباب ونحوه على البدن .
فالراجح ما ذهب إليه الحنابلة من الوجوب ، ولكن هل هو واجب فقط أم هو واجب لا تصح الصلاة إلا به ؟
__________
(1) في صحيح البخاري ومسلم : عمرو بن أبي سلمة ، كما سيأتي .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به ( 356 ) ( 355 ) ( 354 ) ، وأخرجه مسلم ( 517 ) في آخر باب من كتاب الصلاة وهو باب ( 52 ) الصلاة في ثوب واحد .. .
(3) متفق عليه ، وقد تقدم .(36/50)
فإذا صلى وقد كشف منكبيه وهو قادر على تغطيتهما ، فهو آثم على القولين ، لكن هل تصح الصلاة ؟
قولان في المذهب :
فالمشهور عند الحنابلة : أنه واجب لا تصح الصلاة إلا به . فإذاً : أدخل في شرط ستر العورة ، فأصبح مما يشترط ستره .
والرواية الأخرى : أنه ليس شرطاً في صحة الصلاة . وهذا القول هو الأظهر(1) ؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوجبه وفرضه ، وليس تركه يعود إلى الصلاة ولا إلى شرطها ، فإنه قد ستر عورته وتم بذلك شرط الصلاة من ستر العورة ، وأما ستر أعلى اليدين بتغطية المنكبين فإنه لا يدخل في الصلاة ولا في شرطها ، بل قد قام بالصلاة على وجهها الشرعي إلا أنه قد فعل أمراً محرماً لكونه لم يضع ثوبه على عاتقيه ، لكن صلاته صحيحة ؛ لأنه قد قام بها أركاناً وشروطاً ، وكونه يفعل أمراً محرماً فيها ككونه يلبس ثوب حرير ونحو ذلك . ومن صلى وقد ستر عورته بثوب حرير فإن صلاته صحيحة على الراجح ، وسيأتي الكلام عليه .
إذاً : الراجح هذه الرواية ، وأنه واجب وليس شرطاً في صحة الصلاة .
فعلى ذلك : حاصل أقوال أهل العلم ثلاثة أقوال ، وهي روايات عن الإمام أحمد :
الرواية الأولى : السنية ، وهذا مذهب الجمهور .
الرواية الثانية : أنه شرط في صحة الصلاة ، وهذا هو المشهور عند الحنابلة .
الرواية الثالثة : وهي أصحها أنه واجب ليس بشرط ، فلو ترك تغطية المنكبين عامداً ذاكراً عالماً بالحكم ، فتصح صلاته مع لحوق الإثم له .
قال : [ وصلاتها في درع وخمار وملحفة ]
الدرع : هو القميص ، وهو المفصل على البدن .
وخمار : هو ما تغطي به المرأة رأسها .
__________
(1) قال الشيخ حفظه الله تعالى ونفع به في شرحه لأخصر المختصرات عام 1420 هـ صْ 43 ما نصه : " فإن صلى وأحد عاتقيه مكشوف لم تصح صلاته في المشهور في المذهب ، وذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والنهي يقتضي الفساد " ا.هـ(36/51)
وملحفة : وهي ما نسميها العباءة ، وهي الجلباب ونحو ذلك مما تغطي به المرأة بدنها .
هذا هو المستحب لها ؛ لأن ذلك أستر لها .
فإن قيل : فلم يذكر الخمار ، مع أن الخمار تغطية الرأس ، وتغطية الرأس شرط في صحة صلاة الحرة ؟
فالجواب على ذلك : أن الاستحباب إنما هو في كونه خماراً ، فلو لبست برقعاً أو نقاباً أو نحوه مما يغطي الرأس فإنه خلاف الأولى ، والأولى لها أن تغطيه بخمار ، وهو قول عمر وعائشة .
قول عائشة رواه عنها سعيد بن منصور .
وقول عمر ، كما حكاه عنه في المغن(1) ي ، وقال صاحب الفروع : رواه محمد بن عبد الله الأنصاري في جزئه عن عمر بإسناد صحيح " أي استحباب أن تصلي المرأة بدرع وخمار وملحفة .
فالمستحب أن تصلي بدرع وخمار وملحفة ، هذا هو الأفضل لها باتفاق العلماء .
قال : [ ويجزئ ستر عورتها ]
هذا هو المجزئ ، فلو سترتها بأي ثوب ولو لم يكن خماراً أو اكتفت بالقميص ولم يظهر شيء من عورتها ، فصلاتها صحيحة ؛ لأنها قد قامت بالشرط ، فسترت العورة ، وحينئذ قد قامت بالشرط المفترض عليها ، وما فضل وزاد فهو خير وليس ذلك على هيئة الفرضية .
قال : [ ومن انكشف بعض عورته وفحش أو صلى في ثوب محرم عليه أو نجس أعاد لا من حبس في محل نجس ]
هنا أربع مسائل :
المسألة الأولى : من انكشف بعض عورته وفحش .
" فحش " : حجماً وزماناً عرفاً ؛ لأن المسائل التي لا تحدد في اللغة ولا في الشرع مرجعها إلى العرف .
فما فحش : خرج - منه خارج من - عورته ، كالفخذين – على المذهب – فانكشف شيء منهما وفحش زماناً أي طال وقته ، وحجماً ، أي من رآه ونظر إليه قال : هذا كثير فاحش ، فمرجعه إلى العرف ، وقد تقدم أن ذلك إلى أوساط الناس .
فلو خرج منه شيء كثير من الفخذين ، لكن الزمن قليل فلا تبطل الصلاة .
وكذلك إذا خرج شيء يسير في زمن كثير أي فحش الزمن ولم يفحش الحجم الخارج فإنه لا تبطل الصلاة بذلك .
__________
(1) المغني [ 2 / 330 ] .(36/52)
إذاً : لابد وأن يفحش حجماً وزماناً ، فإن لم يفحش حجماً وزماناً فهو معفو عنه ؛ قالوا : لأن اليسير لا يمكن التحرز منه حيث لم يقصد ذلك .
فإن قصد قالوا : بطلت ، وإن كان يسيراً ، يسيراً في الزمان أو الحجم . هذا هو المشهور في المذهب .
وذهب الشافعية : إلى أنه إذا خرج منه أي خارج سواء كان يسيراً أم فاحشاً سواء في زمن كثير أو زمن قليل ، أنه إذا خر ج منه شيء بقصد أو غير قصد ، الصلاة باطلة تجب إعادتها .
قالوا : لأن الواجب هو ستر العورة ، ومتى انكشف أي شيء منها فيجب حينئذ أن يعيد الصلاة ، وهي باطلة .
وهذا القول أقيس وأصح من مذهب الحنابلة ، لكن بقصد ، وهو مذهب المالكية .
فمذهب المالكية هو مذهب الشافعية ، لكنهم استثنوا من ذلك النسيان ونحوه .
فلو خرج منه شيء بغير قصد فيعفى عنه سواء كان فاحشاً أو لم يكن فاحشاً ، كأن يكون جاهلاً أو ناسياً .
وإذا خرج منه أي شيء وإن كان يسيراً فالصلاة تبطل إن كان عن قصد .
وهذا القول هو الراجح .
أما كون أي خارج يناقض ستر العورة ؛ فلأن الواجب هو سترها كلها وجميعها ، وحيث خرج شيء منها فإن هذا ينافي سترها .
وكوننا لا نبطل الصلاة حيث نسي أو جهل ؛ فلأن هذا من فعل المحذور ، ومن فعل المحذور جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه كما سيأتي الاستدلال عليه في شرطية الطهارة من النجاسة في الثوب والبقعة ونحوها .
فالراجح : أنه مادام أنه فعل المحذور جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه .
فالراجح مذهب المالكية وأنه إذا خرج شيء من عورته في الصلاة ، فلا تفسد صلاته إلا إذا خرج على وجه القصد والتعمد ، أما إذا خرج على وجه النسيان والجهل ونحوه فذلك لا يضر صلاته .
المسألة الثانية : " أو صلى في ثوب محرم عليه أعاد " :(36/53)
رجل ستر عورته بثوب محرم كثوب حرير أو مغصوب فإنه يعيد ؛ قالوا : لأن لبسه للثوب يلحقه به الإثم ، فهو عاص لله بلبسه لهذا الثوب ؛ لأنه محرم ، وهو يفعل قربة فلا يمكن أن يكون هذا قربة وهو مع ذلك إثم ومحرم ، بمعنى : لا يمكن أن يلحقه في آن واحد ثواب وإثم ،فهو آثم للبسه للحرير ،وإذا قلنا بصحة صلاته فهو مأجور على الصلاة ولا يمكن أن يجتمع في الشخص هذان الوصفان في آن واحد .
والجواب على هذا – وهو ما ذهب إليه شيخ الإسلام وغيره وهو مذهب أكثر أهل العلم - : أن الصلاة في الثوب الحرير ونحوه أنها صحيحة ؛ لأنه قد قام بالصلاة شروطاً وأركاناً ، وهذا المحرم الذي فعله لا يعود إلى الصلاة ولا إلى شرطها ، فإنه قد ستر العورة وقد صلى الصلاة بشروطها الباقية وأركانها .
وكونه يجتمع عليه إثم وثواب لا مانع من ذلك ، فلا مانع أن يكون مثاباً من جهة وآثما من جهة أخرى . فالأجر الذي يلحقه ليس للبسه هذا الثوب ، لكنه يلحقه لصلاته ، فهو مثاب لكونه صلى ، وهو آثم لكونه لبس ثوب حرير ، فلا مانع أن يجتمع عليه هذان الوصفان ؛ لأن كلا منهما له جهته الخاصة به .
فالصحيح أنه لا تجب عليه الإعادة إذا ستر عورته بثوب حرير ، وهو آثم على لبسه ، ومثله من صلى في ثوب مسبل أو مغصوب ، فالصلاة صحيحة ، لكنه آثم لفعله .
المسألة الثالثة : " أو نجس أعاد " :
رجل لم يجد ثوباً يستر به بدنه إلا ثوباً نجساً ، فصلى ، فيجب عليه أن يعيد صلاته .
قالوا : لأنه قد اختار ما يمكنه اختيار(1) غيره في الواقع ، فإنه كان بين خيارين أن يصلي عرياناً وأن يصلي في ثوب نجس ، فاختار أوكدهما وهو أن يسترها بثوب نجس ، فاختار أوكدهما عند التزاحم ، وعند وجدان الثوب الطاهر يزول هذا التزاحم ، فيجب أن يصلي مرة أخرى .
قال : [ لا من حبس في محل نجس ]
فمن صلى في موضع نجس محبوساً فلا يجب عليه أن يعيد الصلاة ، فكيف يفرق بين الأمرين ؟
__________
(1) في الأصل : اختياره .(36/54)
أنه في هذا الموضع والمحل النجس لا يمكنه أن يفعل أمراً آخر ، فلا خيار له ، فلم يجب عليه الإعادة ، ومثل ذلك ما لو حبس في محل مغصوب ، فكذلك لا تجب عليه الإعادة ؛ لأنه لا خيار له في ذلك .
فإن كان مسجوناً سجناً يمكنه أن يخرج نفسه منه ؟
بمعنى : رجل غصب أحداً حقه ، فيمكنه أن يخرج برد ذلك الحق ؟
فيجب عليه أن يعيد ؛ لأن له خيار آخر ، وهو أن يخرج من السجن بأداء الحق الواجب عليه ، هذا كله بناء على هذا التعليل .
لكن في الحقيقة هذا الفرق ليس له أثر في الشرع ،بل كلاهما قد فعل ما أمر به شرعاً واتقى الله ما استطاع ، فكانت صلاته صحيحة .
وكون هذا لا خيار له ، وهذا له خيار ، فهذا في الحقيقة لا أثر له ، أو كون هذا نادراً وهذا ليس بنادر ، هذا في الحقيقة لا أثر له .
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام .
إذاً : الراجح أن من صلى في ثوب نجس سواء كان محلاً نجساً أو لم يكن كذلك فلا تجب الإعادة عليه مادام أنه فعل ما أمر به شرعاً واتقى الله ما استطاع ،وقد قال تعالى :{ فاتقوا الله ما استطعتم }(1) . ولم يأمر الله تعالى العبد بأداء الفرض مرتين ، فقد أدى الفريضة على حسب ما أمره الله به ، فلم يكن هناك ما يدعى إلى إيجاب الصلاة عليه مرة أخرى وقد قام بها على الوجه المأمور به شرعاً .
فالراجح : أنه لا يجب عليه أن يعيد مطلقاً سواء كانت الصلاة بثوب نجس ، وهو معذور في لبسه وحيث له خيار أو كان ذلك حيث لا خيار له إذا صلى في محل نجس أو في محل مغصوب ونحو ذلك .
فمن صلى في ثوب محرم ناسياً فصلاته صحيحة بالإجماع ، فكأن المذهب علقوا البطلان في الإثم ، فإذا أثم بطلت صلاته وإلا صحت .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثالث والستون
( يوم الاثنين : 1 / 3 / 1415 هـ )
اعلم أن المشهور في المذهب أنه لا يجب أن يكون الساتر للمنكبين - لا يجب أن يكون - كثيفاً لا يظهر البشرة .(36/55)
لكن هذا فيه نظر كما قال ذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ؛ وذلك لأنه في حكم في ما يجب تغطيته في الصلاة ،فيجب أن يكون مغطٍ(1) للبشرة فلا يظهر لونها . هذا هو الراجح .
قال المؤلف رحمه الله تعالى : [ ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر ]
هذه مسألة في الحقيقة من المسائل النادرة ، وهذا معروف عن الفقهاء وأنهم يذكرون المسائل النادرة وغيرها .
قوله : " ومن وجد كفاية عورته " : العورة في المذهب : هي الفرجان والفخذان .
فمن وجد ما يكفي عورته ولا يغطي المنكبين فإنه يجب عليه أن يستر الفرجين والفخذين ، ويكتفي بذلك عن المنكبين ؛ ذلك لأن الفرجين والفخذين هما العورة الواجب سترها على المشهور في المذهب ، ومع ما ذكر شيخ الإسلام أن العورة في الصلاة هي الفرجان والفخذان فهما لاشك أولى من المنكبين المختلف في وجوب سترهما .
فقد اختلف العلماء في وجوب ستر المنكبين ، والحنابلة يخففون فيهما في تغطية البشرة .
والجمهور لا يرون فرضية سترهما ، فلاشك أنهما أولى بالترك مما ثبتت فرضية ستره .
وأما إذا قلنا بالمذهب المتقدم ترجيحه ، وهو رواية عن الإمام أحمد من أن المنكبين يجب تغطيتهما من غير أن يكون شرطاً في صحة الصلاة فإن ترجيح ستر الفرجين والفخذين واضح ؛ لأن سترهما شرط في صحة الصلاة .
إذاً : يغطي عورته ، وأما المنكبان فيكشفان ويرجحان في الكشف لأنهما مرجحان كما تقدم .
قال : [ وإلا فالفرجين ]
هل يقدم الفرجان أم الفخذان ؟
يقدم الفرجان ؛ لأنهما أفحش في العورة .
قال : [ فإن لم يكفهما فالدبر ]
قالوا : لأنه أفحش .
وفي قول آخر : القبل ؛ لأنه يواجه به الله تعالى ، فكان الواجب أن يستر لاستقبال الله تعالى .
وقيل : يخير بينهما والأولى هو الدبر .
__________
(1) اسم فاعل ، وليس اسم مفعول .(36/56)
وهذه في الحقيقة مسألة وإن كانت نادرة ، لكن المرجح هو وجوب ستر القبل لاسيما في المرأة ، ولاسيما - كما قال بعض الحنابلة - إن كان ثمت رجل ، فيترجح تغطية قبلها .
فإن كان ثمت رجل فيترجح تغطية قبلها – أي المرأة - ، وإن كان ثمت امرأة فيترجح تغطية قبله .
فإذاً : الأرجح في أصل المسألة تغطية القبل كما هو قول في مذهب الإمام أحمد ، فإن كان هناك رجل وهي امرأة فهو ظاهر ، وكذلك إن كانت امرأة وهو رجل فهذا ظاهر ؛ للفتنة العظيمة في هذا .
قال : [ وأن أعير سترة لزمه قبولها ]
لأن العارية لا منة فيها ، فمادام أنه ليس فيها منَّة وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ،فيجب عليه قبولها .
فإن لم يقبلها وصلى عرياناً فصلاته باطلة ؛ لأنه كان يمكنه أن يستر عورته بما لا يلحقه مِنَّة .
فإن وُهبها هبة ، فهل يلزمه القبول أم لا ؟
قولان في المذهب :
فالمشهور في المذهب : أنه لا يلزمه قبولها ؛ لأن الهبة تحلق بها المنة ، فلم يجب عليه قبولها .
والقول الثاني في المذهب : أنه يجب عليه قبولها .
والذي يتبين لي التفصيل في هذا :
فإن كان يترتب على ذلك انكشاف عورة ، كأن يكون في محل لا يحفظ عورته ،فإنه يجب قبولها ؛ لأن المفسدة المترتبة على كشف العورة أعظم من المنة ، ويجب ترجيح المفسدة الصغرى وقوعاً ، وهروباً من المفسدة الكبرى .
فأما إن كان في بيت ونحوه فلا يلزمه القبول للمنَّة المتقدمة .
وإن كانت بثمن فيلزمه شراؤها إن كان يمكنه ذلك بالقيود المتقدمة بماء الوضوء ، فإن الوضوء إذا بيع بمثن فيجب شراؤه بشروط تقدم ذكرها ، وهنا كذلك .
قال : [ ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما ]
هذه صفة صلاة العاري .
أن يصلي قاعداً قد ضم فخذيه بعضهما إلى بعض ويومئ بالركوع والسجود ، استحباباً فيهما لا وجوباً .
فلو صلى قائماً بالركوع والسجود فالصلاة صحيحة .(36/57)
فالمشهور في المذهب : استحباب الصلاة قاعداً ويومئ بالركوع والسجود ، ولو صلى قائماً بالركوع والسجود ، فالصلاة صحيحة .
وقال الشافعية والمالكية : يجب عليه أن يصلي قائماً بركوع وسجود ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ) (1) . قالوا : وهو مستطيع للقيام بلا ضرر .
والراجح كما هو قول في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد ،وهو ظاهر كلام الخرقي : أنه يجب عليه أن يصلي قاعداً ويومئ بالركوع والسجود .
ودليل هذا : هو ترجيح ستر العورة على القيام ، دليله وجهان :
الوجه الأول : أن ستر العورة لا يسقط في الفرض والنفل ، وأما القيام فهو ركن في الفرض مستحب في النفل ، فستر العورة مثقل ليس فيه شيء من التخفيف ، وأما القيام ففيه تخفيف بحيث أنه لا يجب في التطوع .
الوجه الثاني : أن ستر العورة فرض وواجب في الصلاة وفي غيرها ،فقد أمر الله تعالى بستر العورة في الصلاة وفي غيرها .
وأما القيام فلا يجب إلا في الصلاة ، فالمحافظة على الفرض الذي أمر الله به عباده في الصلاة وفي غيرها أولى من المحافظة على القيام الذي لم يؤمر به إلا في الصلاة .
فالراجح أنه يصلي قاعداً وجوباً ؛ لأنه يجب عليه أن يستر عورته بقدر الإمكان ، وحيث كان قاعداً فإن فيه ستر للعورة بقدر الإمكان ، فكان ذلك فرضاً عليه .
فعلى ذلك : صفة صلاة العاري : أن يصلي قاعداً قد انضم بعضه إلى بعض يومئ بالركوع والسجود .
قال : [ ويكون إمامهم وسْطهم ]
فلا يجوز أن يتقدم ؛ لأنه في تقدمه كشفاً للعورة والواجب هو سترها بقدر الإمكان كما تقدم .
قال : [ ويصلي كل نوع وحده ]
كل نوع من ذكور وإناث ، فالإناث يصلين وحدهن ، والذكور يصلون وحدهم .
__________
(1) أخرجه البخاري في باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب من كتاب التقصير ، وأبو داود في باب في صلاة القاعد ، من كتاب الصلاة ، والترمذي وابن ماجه وأحمد ، المغني [ 2 / 570 ] .(36/58)
قال : [ فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم عكسوا ]
بمعنى : إن كانوا في موضع واحد ولا يمكنهم أن يصلوا فيه منفردين ، فكيف يكون الحكم ؟
يصلي الرجال مستقبلين القبلة ، وتكون النساء مستدبرات القبل ، ثم بعد ذلك يكون العكس ، فتصلي النساء مستقبلات القبلة ويؤدين فريضتهن ، ويكون الرجال مستدبرين النساء مستدبرين القبلة .
هذا كله على القول بفرضية الصلاة جماعة ، وهو المذهب ، وهو فيما يظهر لي ضعيف جداً ، وأن القول بفرضية الصلاة جماعة مع كشف العورة ضعيف جداً .
استدلوا هم : بعمومات الأدلة الشرعية الدالة على فرضية الجماعة .
وذهب جمهور العلماء من المالكية والأحناف ، وهو قول للشافعية : إلى أن الجماعة تسقط ، فيصلون فراداً إلا في ظلمة شديدة لا تنكشف لأحد منهم عورة .
وذلك : لأن ما يلحقه في كشف العورة من المذمة والعار والفتنة ونحو ذلك أعظم مفسدة مما يترتب على فوات الجماعة . والواجب هو إسقاط ما يترتب عليه مفسدة صغرى والقيام بما يترتب عليه المفسدة الكبرى ، فحينئذ الواجب أن يصلوا فراداً إلا في ظلمة ، فإن الجماعة يبقى وجوبها لعدم المعارض لذلك .
قال : [ فإن وجد سترة قريبة في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ ]
وجد سترة لا تقطع صلاته ، فهي تحتاج إلى عمل يسير لا يؤثر في الصلاة ، فيجب عليه أن يستر بها عورته ويبني على صلاته ولا يستأنفها .
وأما إن كانت السترة بعيدة عرفاً بحيث تحتاج إلى عمل كثير مبطلٍ الصلاة فحينئذ يجب أن يقوم بالستر ، حيث استطاعه ، والصلاة لم تتم بعد فتثبت صحة ، فيجب عليه أن يستتر بها ويستأنف صلاته .
إذاً : الواجب عليه مطلقاً أن يستر عورته .
ويبني إن كان العمل قليلاً لا يؤثر في الصلاة .
وأما إن كان عملاً كثيراً يؤثر في الصلاة فإنه يستأنفها .(36/59)
* واعلم أن ما تقدم من كونه يصلي قاعداً ظاهر المذهب ،سواء كان في بيته أو جماعة ، فإنه يصلي قاعداً ، لكنهم قالوا : بالاستحباب ، والراجح الوجوب كما تقدم .
فليس هذا مختصاً حيث ترى عورته ، بل هو عام في هذا الموضع وفي غيره مما لو لم يكن ذلك ، كأن يكون في ظلمة أو يكون في بيته .
فإن قيل : فلم لم نبق القيام على وجهه ؟
فالجواب : إن ستر العورة شرط مطلقاً حيث كان في خلوة أو لم يكن فيها .
ثم إن الله - عز وجل - أولى بأن تستر له العورة ، لذا النظر إلى العورة ليس هو مناط العلة في هذا الباب ، بل مناطها هو نفس ظهور العورة ، كيف وهو في الصلاة في موضع يناجي الله تعالى فيه ، فكان الستر فيه أولى منه في غيره .
إذاً : ظاهر المذهب ، وهو الراجح ، لكنهم قالوا بالاستحباب ، والراجح الوجوب ، وجوب الصلاة قاعداً والإيماء بالركوع والسجود سواء كان في موضع ترى فيه العورة أولم يكن ذلك .
فإن كان في موضع ترى فيه العورة ، فهو ظاهر .
وإن كان في موضع لا ترى فيه ، فإن الله أحق أن يستحى منه ، كيف وهو يناجي الله تعالى ، ثم إن العورة شرط سترها في الصلاة حيث يرى أو لا يرى .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الرابع والستون
( يوم الثلاثاء : 2 / 3 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ويكره في الصلاة السدل )
السدل : هو ترك الثوب على المنكبين من غير أن يرد طرفه على جانبه الآخر أو من غير أن يضم جانبيه بعضهما إلى بعض .
وقيل : السدل هو : هو الإسبال أي إسبال الثوب .(36/60)
والحديث الوارد في النهي هو : ما رواه أبو داود وغيره والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه )(1) .
والراجح هو التفسير الأول ؛ وذلك لأن الإسبال قد ورد تحريمه في الأدلة أو كراهيته – على القول المشهور في المذهب أنه مكروه بغير خيلاء – فالمقصود أن الأدلة دلت على النهي عن الإسبال في خارج الصلاة والصلاة تدخل في عموم النهي بخلاف السدل فإنا عندما نقول بالنهي عنه فإنا نخص ذلك بالصلاة دون غيرها فكان حكمه مختصاً بالصلاة ، فعلى ذلك يكون هذا الحديث قد أتى بحكم تأسيسي ، بخلاف ما لو فسرناه بالإسبال فيكون قد أتى بما أتى به غيره .
ثم إن الإسبال – على الصحيح – محرم في الصلاة وفي غيرها فتخصيص النهي في الصلاة محل نظر ، فليس له فائدة – وقد نهى عنه الشارع في غير الصلاة .
ثم إنا لو قلنا تنزلاً إنه لفظ مشترك فاللفظ المشترك يفسر بجميع المعاني المحتملة فيه ما لم يدل دليل يمنع من تفسيره بأحدها .
فالراجح هو التفسير الأول ؛ لأن الحكم فيه يكون حكماً تأسيسياً ولأن الإسبال محرم في الصلاة وفي غيرها فلا معنى لتخصيصه في الصلاة ، ولو قلنا تنزلاً أن المعنيين كليهما يحتمل في الحديث فهذا من المشترك ويصح تفسير المشترك وحمله على جميع المعاني التي يصح أن يفسر بها ما لم يأت دليل يمنع من ذلك .
وهذا السدل في المشهور من المذهب مكروه مطلقاً أي سواء كان تحته ثوب آخر أم لم يكن تحته ثوب .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في السدل في الصلاة ( 643 ) قال : " حدثنا محمد بن العلاء وإبراهيم بن موسى ، عن ابن المبارك عن الحسن بن ذكوان ، عن سليمان الأحول ، عن عطاء ، قال إبراهيم : عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه ) ، وأخرجه الترمذي مختصراًَ على الأول ( 378 ) .(36/61)
- وعن الإمام أحمد : أنه لا يكره إلا إذا لم يكن تحته ثوب ، أما إن كان تحته ثوب فلا يكره .
وهذا إنما يبنى على أن العلة هي خشية ظهور شيء من العورة .
ولكن الذي يظهر أن العلة ليست هذه فحسب بل التشبه باليهود ، وفي الحديث : ( من تشبه بقوم فهو منهم )(1) ومما يدل على أن هذا السدل من فعل اليهود ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود )(2) أي لا يلقيه على عاتقه ويسدله كما يفعل اليهود .
ومما يدل على أن تفسير هذا الحديث هو السدل المذكور ، ما صح عن علي رضي الله عنه – كما رواه الخلال وغيره أنه رأى قوماً يسدلون في صلاتهم فقال : ( كأنهم اليهود خرجوا من فُهْرهم ) (3) - بضم الفاء وإسكان الهاء - أي من مدارسهم ، فهو من فعل اليهود .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب في لبس الشهرة ( 4031 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) ، وأخرجه أحمد في المسند أتم منه ، ولفظه ( بعثت بالسيف بين ... ) قال السخاوي عن هذا الحديث فيه ضعف ، ولكن له شواهد . وقال ابن تيمية : سنده جيد ، وقال ابن حجر في الفتح : سنده حسن ، وأخرجه الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان ، قال العراقي : سنده ضعيف ، ( من تعليق محي الدين عبد الحميد ) ، سنن أبي داود مع المعالم [ 4 / 314 ] .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به ( 635 ) قال : " حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو قال : قال عمر رضي الله عنه : ( إذا كان لأحدكم ثوبان .. ) .(36/62)
فعلى ذلك ينبغي أن يقال بالتحريم ؛ لأن التشبه يقتضي التحريم وهو رواية عن الإمام أحمد وهذا القول هو الراجح لأن التشبه فيه ثابت باليهود ومن تشبه بقوم فهو منهم .
وأقل أحوال التشبه – كما قال شيخ الإسلام – أن يقال بالتحريم وإلا فظاهره الكفر .
قال : ( واشتمال الصماء )
له تفسيران :
التفسير الأول : تفسير اللغويين : أن يتخلل بالثوب الواحد تخللاً يشمل بدنه كله بحيث لا يكون لإخراج اليد موضع فهذه صفة مكروهة ؛ لأنه يترتب عليها فوات شيء كثير من السنن كرفع اليدين ومن صفة النزول إلى السجود ونحو ذلك .
التفسير الثاني : هو تفسير الفقهاء وهو أن يضطبع بالثوب الواحد ليس عليه غيره .
وصورة ذلك : ما يفعله المحرم بردائه أثناء طواف القدوم هذا هو الاضطباع بأن يضع وسط الرداء تحت إبطه الأيمن ثم يرد الطرف على عاتقه الأيسر فحينئذ : يبدو شقه الأيمن أو العكس فكلاهما اضطباع وهو اشتمال الصماء في تفسير الفقهاء .
وهذا التفسير أصح لوجهين :
الوجه الأول : أن هذا قد وردت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن اشتمال الصماء ) (1) وفي رواية للبخاري : ( أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء )
وإن كان ما فسره اللغويون من حيث المعنى فالنهي عنه صحيح لكنه ليس تفسيراً لهذا الحديث كما تقدم من الرواية .
الوجه الثاني : أن الفقهاء أعلم بألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم من اللغويين كما أن اللغويين أعلم بعبارات أهل اللغة من الفقهاء ، لذا قال أبو عبيده – في تفسير الفقهاء – " وهم أعلم بالتأويل "(2) أي أعلم بتفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم أعلم بالشريعة من أهل اللغة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب ( 10 ) ما يستر العورة ( 367 ) ، وأخرجه مسلم ( 1512 ) .(36/63)
إذن : الراجح ما قاله الفقهاء من أن اشتمال الصماء من أن يضطبع بالثوب فيظهر أحد شقيه ، وهي صفة مكروهة .
- والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد : وهو القول بالتحريم وأن اشتمال الصماء محرم – وهو الراجح - .
وحينئذ : نعود إلى المسألة السابقة وهي فرضية تغطية المنكبين جميعاً – وهذا من الأحاديث التي تدل على ذلك – فإن هذا الحديث مناط النهي فيه بدو أحد شقيه لذا قال في الحديث المتقدم ( فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء ) فجعل العلة من النهي أو التحريم بدو أحد الشقين عارياً ليس عليه شيء .
وظاهر الحديث أن الاضطباع إنما يكون منهياً عنه حيث لم يكن تحته ثوب لقوله : ( فيبدو أحد شقيه ليس عليه شيء ) وحيث كان عليه ثوب يغطي هذا الشق فإنه لا يقع عليه النهي لأنه مغطى .
إذن : اشتمال الصماء ألا يكون عليه إلا ثوب واحد فيشتمل به مضطبعاً قد بدا أحد شقيه ، فالصحيح أن هذه الصفة محرمة لما تقدم من فرضية تغطية المنكبين جميعاً – وهو رواية عن الإمام أحمد وظاهر كلام الخرقي – كما تقدم .
قال : ( وتغطية وجهه واللثام على فمه وأنفه )
تغطية الوجه مكروهة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي غير مغطي الوجه ، ولتكون أعضاؤه مباشرة لمواضع السجود ، وللحديث الصحيح في النهي عن تغطية الفم وحيث غطى الوجه فإنه يترتب عليه تغطية الفم .
قالوا : قياساً على المحرم في النهي عن تغطية الوجه ، فإن الصلاة إحرام أيضاً لحديث : ( وتحريمها التكبير ) (1) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم ( 1006 ) ، ( 1072 )من حديث علي بن أبي طالب ولفظه ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) ، وبرقم( 14717 ) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ : ( مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح االصلاة الطهور ) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور ( 3 ) .(36/64)
وأما تغطية الفم ، فلما يثبت في سنن أبي داود في الحديث المتقدم : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه )(1) .
والأنف يقاس على الفم في الكراهية فيكره تغطية الأنف كما يكره تغطية الفم . وهذا كله – أي الحكم بالكراهية – حيث لا سبب يدعي إلى التغطية فإذا كان هناك سبب كحر أو برد أو نحو ذلك فإنه تزول الكراهية .
قال : ( وكفه كمه ولفه )
والعبارتان ( الكف واللف ) بمعنى واحد ، ولم تتكرر - كما قال المحشي على الروض المربع – إلا في عبارة صاحب الزاد ، وفي عبارة الشارح ، وإلا فإن عبارات الفقهاء إما بأن يقال : اللف أو الكف فهما في معنى واحد .
هذه الجملة فيها كراهية كف الثوب أو لفه فيكره في الصلاة أن يكف ثوبه أي أن يضمه ويجمعه كأن يجمع شيء من أطراف ثوبه .
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وألا أكف شعراً ولا ثوباً ) قالوا : فهذا يدل على كراهية كف الشعر والثوب .
فعلى ذلك ما يلبسه الشخص من العمامة يكره له أن يكف أطرافها وكذلك الثوب فيكره أن يكف أطرافه بل يجعله ينزل معه في السجود ونحو ذلك فيكره الكف .
- وذهب بعض أهل العلم إلى أنه محرم ، وهو مذهب الظاهرية وقول الحسن البصري – وهذا القول أظهر لقوله : ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وألا أكف شعراً ولا ثوباً )(2) وظاهر الأمر الوجوب .
قال : ( وشد وسطه كزنار )
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة / باب ما جاء في السدل في الصلاة ( 643 ) وابن خزيمة ( 772 ) ( 918 ) ، وابن حبان ( 2353 ) الإحسان ، والحاكم 1 / 253 ، والبغوي ( 519 ) والبيهقي 2 / 242 عن أبي هريرة رضي الله عنه ، والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، الشرح الممتع [ 2 / 190 ] .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب السجود على سبعة أعظم ( 809 ) وباب السجود على الأنف ( 812 ) . وأخرجه مسلم ( 490 ) .(36/65)
الزُنَّار : ما يشد على الكتابيين لما كانت للإسلام عليهم سلطة وكانوا في بلاد الإسلام فكانوا يؤمرون بما يتميزون به عن المسلمين بأي شيء مما يكون عليه أمر(1) السلطان بما يتميز به الكافر عن المسلم .
وكانوا يؤمرون بأن يشدوا زناراً رقيقاً جداً على وسط الواحد منهم ، حتى قيل في المثل : " إذا عطس الذمي انقطع زُنَّاره "(2) من دقته وشدة ربطه على وسطه .
فيكره للمسلم أن يشد وسطه بزنار ، كفعل النصارى لما فيه من التشبه ، لكن هذا – كذلك – للتحريم لما فيه من التشبه ومن تشبه بقوم فهو منهم .
وفي قوله : ( كزنار ) يدل على أنه لو شد وسطه بشيء غليظ لا يشبه الزنار أنه لا كراهية فيه وهذا هو الظاهر .
وأن الكراهية مختصة بما يكون على هيئة فعل النصارى ، وهذا في الحقيقة ليس مختصاً بالصلاة ، بل في الصلاة وفي غيرها لأن التشبه محرم وهو عام في الصلاة وفي غيرها .
قال : ( و تحريم(3) الخيلاء في ثوب وغيره )
يحرم الخيلاء في ثوب وغيره في الصلاة وفي غيرها .
فيحرم الخيلاء في الثوب من قميص أو عمامة ونحو ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ) (4) .
قالوا : فهذا يدل على أن جر الثوب خيلاء محرم بل من كبائر الذنوب . فإن كان لغير خيلاء فيكره – كما هو المشهور في المذهب – .
- وعن الإمام أحمد التحريم .
فعلى المشهور في المذهب – إذا فعل الإسبال لحاجة فلا بأس .
__________
(1) في الأصل : اخر .
(3) كذا في الأصل ، وفي الزاد : وتحرم .
(4) أخرجه البخاري في باب قول الله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } ، وباب من جر إزاره من غير خيلاء ، وباب من جر ثوبه من خيلاء ، من كتاب اللباس ، ومسلم في باب تحريم جر الثوب خيلا .. الخ من كتاب اللباس وغيرهما ، المغني [ 2 / 298 ] .(36/66)
لكن الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه أنه محرم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) (1) فهذا الحديث عام فيما يكون للخيلاء وفيما لا يكون كذلك وثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياك والإسبال فإنه من المخيلة ) (2) .
فدل هذا الحديث – كما قرر ذلك ابن العربي وغيره – أن مجرد جر الثوب أنه من المخيلة ، فإن كان وافق ذلك في قلب فاعله خيلاء ، فحينئذ لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم وإن لم يكن كذلك فإن الأمر يكون محرماً ويكون صاحبه متوعداً بالعقوبة بالنار .
واستدل الحنابلة وغيرهم القائلون بالكراهية ، بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ) فقال أبو بكر : يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أتعاهده فقال : ( إنك لست ممن يفعله خيلاء ) (3) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار ( 5787 )
(2) أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 23592 ) [ 5 / 378 ] ، ( 16733 ) [ 4 / 65 ] عن رجل من قومه .
(3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة ، باب ( 5 ) قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذا خليلا ، ( 3665 ) ، ومسلم ( 2085 ) .(36/67)
لكن هذا الحديث في الحقيقة ليس ظاهراً في ذلك ، ذلك لأن أبا بكر لم يكن يقصد جره بل كان يقع ذلك منه من غير قصد ولا إرادة ومتى كان ذلك فإنه لا يكون من المخيلة ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم – كما في البخاري – ( لما كسفت الشمس خرج وهو يجر إزاره ) (1) وهذا جر للإزار وهو في الأصل محرم لكنه لم يكن مخيلة لأنه فعله بغير قصد فهنا النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنك لست ممن يفعله – أي على هذه الحال المذكورة – خيلاء ) وحيث كان كذلك فإن الفاعل لا يكون فعله مخيلة ، وإنما يكون مخيلة حيث قصد ذلك وأراده ووضعه على هيئة يجر فيها .
أما إذا لم يكن كذلك بل كان مرفوعاً ثم وقع فيه استرخاء ونحو ذلك فلا يكون ذلك من المخيلة .
إذن : الراجح : أن جر الثوب محرم مطلقاً وكما قال صلى الله عليه وسلم – في النسائي : ( لا حق للكعبين في الإزار ) (2) فالكعبان فما دونه ليس لهما حق من الإزار ومتى فعل ذلك كان واقعاً في التحريم .
فإن صلى في ثوب قد أسبل وقلنا بالتحريم مطلقاً ، أو بالكراهية لكنه فعله خيلاء ، فهل تصح صلاته ؟
تقدم تقرر هذا في الصلاة في الثوب المحرم ، وأن الراجح أن من صلى في ثوب محرم فإن صلاته صحيحة مع الإثم .
قال : ( والتصوير واستعماله )
التصوير محرم " واستعماله " في ستر وثوب وأي شيء تقع الصورة عليه فهو محرم .
__________
(1) أخرجه البخاري في أول كتاب الكسوف ، باب الصلاة في كسوف الشمس ( 1040 ) .
(2) أخرجه النسائي في كتاب الزينة ، باب ( 102 ) موضع الإزار ( 5329 ) عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة ، فإن أبيت فأسفل ، فإن أبيت فمن وراء الساق ، ولا حق للكعبين في الإزار ) .(36/68)
سواء كانت الصورة منسوجة أو كانت مجسمة أو مرسومة رسماً أو فتوغرافية ونحو ذلك فكل هذا محرم ، لعمومات الأدلة الشرعية وفيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل مصور في النار ) (1) متفق عليه .
وقد تقدم البحث في هذا في شرح كتاب التوحيد .
فإن فعل ذلك بأن صلى في ثوب فيه صورة فصلاته صحيحة لكنه آثم بلبسه فيكون مثاباً للصلاة وآثماً للبسه هذا الثوب الذي وضعت فيه هذه الصورة .
وقد تقدم أن ذلك مخصوص في ذوات الأرواح لقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم – في الترمذي والحديث صحيح : ( مر برأس التمثال فليقطع حتى تكون كهيئة الشجرة ) (2) فدل ذلك على أن ما كان على هيئة الشجرة ونحوها مما ليس فيه روح أنه تصويره جائز .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الخامس والستون
( يوم السبت : 6 / 3 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ويحرم استعمال منسوج أم مموه بذهب قبل استحالته )
هذه الجملة فيها تحريم استعمال الذهب سواء كان منسوجاً أو كان مموهاً أو مكفتاً أو نحو ذلك ، فلبسه محرم على الذكور .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب ( 26 ) تحريم تصوير صورة الحيوان ، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه ( 2110 ) ، ولم أجده بهذا اللفظ في البخاري باب ( 104 ) بيع التصاوير من كتاب البيوع ، وكتاب اللباس : باب ( 88 ) التصاوير ، وباب ( 89 ) عذاب المصورين يوم القيامة ، وباب ( 90 ) نقض الصور ، وباب ( 91 ) ما وُطئ من التصاوير ، و ( 92 ) باب من كره القعود على الصورة ، وباب ( 93 ) كراهية الصلاة في التصاوير ، وباب ( 94 ) لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ، وباب ( 95 ) من لم يدخل بيتا فيه صورة ( 96 ) من لعن المصور ، وباب ( 97 ) من صورة صورة .
(2) أخرجه أبو داود، آخر حديث في كتاب اللباس ( 4158 ) ، وأخرجه الترمذي في الأدب 2807 ، ، وقال : " حديث حسن صحيح " ، سنن أبي داود [ 4 / 389 ] .(36/69)
ودليل ذلك ما ثبت في مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها ) (1) فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز للرجال لبس الذهب مطلقاً سواء كان على هيئة النسج أو التمويه أو نحوه وهو مذهب جماهير أهل العلم .
أما الفضة فكذلك لا يجوز لبسها عند جمهور أهل العلم .
ودليلهم : تحريم الآنية ، فقد حرم الشارع آنية الذهب والفضة فكذلك اللباس ، فلا يجوز لباس الفضة كما لا يجوز آنية الفضة .
لكن هذا الاستدلال ضعيف ، لذا ذهب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى جواز لبس الفضة للرجال خاتماً أو مقبضة سيف أو نحو ذلك .
__________
(1) حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم ) ، أخرجه الإمام أحمد 4 / 394 ، 407 ، والترمذي في اللباس / باب ما جاء في الحرير والذهب ( 1720 ) ، والنسائي في الزينة / باب تحريم لبس الذهب على الرجال 8 / 160 ، والطيالسي ( 506 ) ، والطحاوي في الشرح 4 / 251 ، والبيهقي 3 / 275 ، وقال الترمذي : " حسن صحيح " ، وقد أعل بالانقطاع ؛ لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئاً فيما قاله الدارقطني وغيره ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في يمينه ، وذهباً فجعله في شماله ثم رفع يده وقال : ( هذا حرام على ذكور أمتي ) ، أخرجه أحمد 1 / 96 ، 115 ، وأبو داود في اللباس ( 4057 ) ، والنسائي في الموضع السابق ، وابن ماجه في اللباس ( 3595 ) وغيرهم . الشرح الممتع [ 2 / 206 ] .(36/70)
ولا نص ولا إجماع – كما قال ابن القيم - في تحريم الفضة بل الأصل في الأشياء الإباحة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – في الحديث الحسن – : ( ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها ) (1) .
وثبت في البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( لبس خاتماً من فضة ) (2) وفي سنن أبي داود والنسائي والترمذي في الشمائل بإسناد صحيح : ( أن قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم من فضة ) (3) .
فالراجح : أن الفضة يجوز لبسها مطلقاً ، للرجال والإناث للأدلة المتقدمة ، ولا نص ولا إجماع على التحريم ، بل الأصل في الأشياء الإباحة ، والسنة قررت ذلك ، فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم في لبسه خاتم الفضة مع تحريم خاتم الذهب ، واتخاذه السيف ذي القبيعة من فضة هذا كله يدل على جوازه ، ويقرره أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها ) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الخاتم ، باب ما جاء في الذهب للنساء ( 4236 ) بلفظ : " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أحبّ أن يُحلّق حبيبه حلقة من نار ... ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها ) . وأخرجه أحمد في مسنده برقم ( 8397 ) ، ( 8897 )من حديث أبي هريرة في مسند المكثرين .
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب خاتم الفضة ( 5866 ) عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتماً من ذهب أو فضة … ثم اتخذ خاتماً من فضة ، فاتخذ الناس خواتيم الفضة .. ورقم ( 5865 ) . وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ( 2091 ) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب في السيف يحلى ( 2582 ) عن أنس قال : كانت قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضة " وأخرجه الترمذي ( 1691 في الجهاد ، ، وفي الشمائل 99 ، والنسائي في الزينة 5376 ، سنن أبي داود [ 3 / 69 ] .(36/71)
أما الجواب عما ذكره الجمهور : فالجواب : أن تحريم الآنية لا يلزم منه تحريم اللبس والتحلي . بدليل : أن آنية الذهب محرمة على النساء والتحلي بالذهب مباح لهن مطلقاً .
فإذن : لبس الفضة جائز مطلقاً للرجال والنساء ولا شك أنه بشرط عدم التشبه بالنساء وإنما يلبسونها بما جرت طبيعة الرجال بلبسه كالساعة من فضة أو الخاتم .
وأما الذهب ، فإن ما تقدم يدل على تحريمه
* ولكن هل كل الذهب محرم أم أنه يستثنى منه اليسير ؟
- جمهور العلماء وهو المشهور عن الإمام أحمد : أن الذهب محرم مطلقاً ، لأن الشارع إذا نهى عن الشيء فإنه ينهى عن أبعاضه وأجزائه فما دام الأمر كذلك فاتخاذ الشيء اليسير من الذهب محرم .
فمثلاً : لا يجوز له أن يتخذ قبيعة من ذهب ولا يجوز أن يضع الشيء اليسير في ساعته من ذهب – هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد – .
- وعن الإمام أحمد قول آخر اختاره أبو بكر من كبار أصحابه واختاره المجد ابن تيمية ، واختاره شيخ الإسلام : أن اليسير جائز .
فإذا وضع في شيء من ملبوساته علماً من ذهب فإن ذلك لا حرج فيه .
واستدلوا : بما ثبت في مسند أحمد وسنن النسائي بإسناد صحيح من حديث معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن الذهب إلا مقطعاً ) (1) ومعلوم أن الذهب ، باتفاق أهل العلم – جائز للنساء مطلقاً ، فيبقى أن يكون هذا الحديث في الرجال .
قال شيخ الإسلام : " إلا مقطعاً " أي تابعاً لغيره، فالمقطع هو التابع لغيره .
وهذا هو القول الراجح .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الزينة ، باب تحريم الذهب على الرجال ( 5152 ) قال : " أخبرنا أحمد بن حرب قال أنبأنا أسباط عن مغيرة عن مطر عن أبي شيخ قال : بينما نحن مع معاوية في بعض حجاته إذ جمع رهطا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم : ألستم تعلمون أن رسول الله نهى عن لبس الذهب إلا مقطعاً ، قالوا : اللهم نعم " .(36/72)
ويدل عليه القياس على الحرير ، فإن اليسير في الثوب جائز كما دلت السنة الصحيحة عليه ، فمثله كذلك الذهب من باب القياس .
قال : ( أو مموه بذهب قبل استحالته )
أما إذا استحال إلى مادة أخرى فما بقيت فيه طابع الذهب بل انتقل إلى طبيعة أخرى فإنه يجوز أن يلبس وهذا مما اتفق عليه أهل العلم ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، والحكم يدور مع ثبوت الشيء ، وحيث انتفى واستحال إلى مادة أخرى فإن الحكم ينتقل عنه ، فإن الحكم إنما ثابت للاسم مع مسماه وحيث انتقل إلى مادة أخرى فإنه لا معنى للقول بتحريمه .
قال : ( وثياب حرير )
فثياب الحرير محرمة على الرجال أيضاً .
ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) (1) والنهي للتحريم .
وتقدم حديث أبي موسى الأشعري : ( أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها ) (2) وهو صريح في التحريم .
فالحرير محرم على الذكور لبسه والجلوس عليه والاتكاء عليه سواء كان ما يُتكأ عليه من حرير أو أن يكون ما يتوسد من حرير أو أن يتخذ نمرقة أو ستر من حرير فكل هذا محرم لا يجوز وقد ثبت في البخاري عن حذيفة قال: ( نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة أو أن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج أو أن نجلس عليه ) (3)
قال : ( وما هو أكثر ظهوراً على الذكور )
إذا كان عليه ثوب من نوعين من قطن وحرير ، وكان الغالب ظهوراً هو الحرير فإنه لا يجوز ؛ إعطاءً للغالب حكم الكل ، أو لأن الشارع إذا حرم شيئاً حرم أبعاضه إلا إذا دل دليل . لكن الغالب له حكم الكل في أكثر الأحكام الشرعية .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة ، باب ( 29 ) الأكل في إناء مفضَّض ( 5426 ) ، ومسلم ( 2067 ) .
(2) تقدم .
(3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب ( 27 ) افتراش الحرير ( 5837 ) ، وأخرجه مسلم 2067 باختلاف .(36/73)
قال : ( لا إذا استويا )
فإذا كان ثوب نصفه في الظهور من حرير ونصفه من قطن أو نحوه فإنه يجوز لبسه – إبقاءً على الأصل فإن الأصل هو الحل – والحرير هنا : ليس هو الكل وليس هو الغالب .
هذا أحد لوجهين في مذهب الإمام أحمد .
والوجه الثاني وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه يحرم . وهو الراجح لما تقدم من أن الشارع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه .
ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع ) (1) فهذا يدل على أن لبس الحرير محرم مطلقاً سواء كان هو الغالب أو كان كثيراً ما لم يكن موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع فإنه يجوز .
وهذا الدليل يصلح للاستدلال على المسألة السابقة وهو أن ما كان أكثره حرير فإنه يحرم ، ومن الأدلة الدالة على تحريم الكثير من الحرير الظاهر وإن كان ليس هو الغالب ما ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن القسِّي والمعصفر ) (2) .
والمعصفر : سيأتي الكلام عليه .
أما القسِّي : فهو نوع من الثياب يخلط فيه الحرير مع القطن – بحيث يكونان ظاهرين فيه .
__________
(1) أخرجه مسلم ( 2069 ) في كتاب اللباس ، باب ( 2 ) تحريم استعمال إناء الذهب والفضة …. ، وأخرجه البخاري بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس الحرير إلا هكذا ، وصفَّ لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه " وفي لفظ : " .. وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام " ، كتاب اللباس ، باب لبس الحرير وافتراشه للرجال .. ( 5828 )
(2) أخرجه مسلم ( 2078 ) من حديث علي بن أبي طالب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس القسي والمعصفر .. " وهو في باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر من كتاب اللباس والزينة ، وأخرج البخاري في كتاب اللباس ، باب لبس القَسِّيِّ ( 5838 ) عن البراء بن عازب قال : " نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المياثر الحُمْر والقسي " وانظر ( 1239 ) .(36/74)
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حرمه مطلقاً ولم يستثن من ذلك استواءهما ولا أن يكونا النوع الآخر هو الأكثر بل حرمه مطلقاً ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الثياب شامل لما كان الحرير فيه هو الأكثر أو كان هو الكثير المساوي أو كان هو الكثير الأقل فهو شامل لهذه الأنواع كلها ما لم يكن موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع فقد دل الحديث المتقدم على جوازه .
قال : ( ولضرورة أو حكة أو مرض )
" لضرورة " : من حر أو برد ، بأن لا يكون عنده إلا ثوب حرير ويخشى على نفسه الهلكة إن لم يلبسه .
أو كانت هناك حاجة وليست ضرورة : كأن يكون فيه حكة أو نحو ذلك فيحتاج إلى أن يلبس الحرير مع أنه إذا لبس غيره فإنه يزول المرض الذي عليه – وهو مع لبسه للحرير لا يقطع بزوال المرض فليس هذا ضرورة بل حاجة .
مع ذلك : لبس الحرير للحاجة من حكة أو مرض - ومن باب أولى للضرورة - جائز ، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير في سفر من حكة كانت فيهما ) (1)
ولبس الحرير للحكة من الحاجات وليس الضروريات ؛ لأنه لا يعلم اندفاع الحكة به ، فلا يثبت به زوال الحكة قطعاً بل هو نوع من أنواع التداوي(2) ، ومعلوم أن الدواء لا يقطع بزواله بل هو سبب قد يتم به الشفاء وقد لا يتم به . فاستعمال الحرير لحاجة لا بأس به .
قال : ( أو حرب )
في الحرب يجوز للمسلم أن يلبس فيها الحرير لإرهاب أعداء الله وإظهار قوة المسلمين .
وإظهار ما يكون فيه خيلاء في الحرب محمود لإرهاب الأعداء فلهذه المصلحة العامة جاز أن يلبس الحرير .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب الحرير في الحرب ( 2919 ) ، ومسلم 2076 ) .
(2) في الأصل : التدواي .(36/75)
– هذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وهو المشهور فيه وهو اختيار شيخ الإسلام : وأن لبس الحرير في الحرب جائز لما فيه من إظهار قوة المسلمين وإظهار غناهم وبأسهم ونحو ذلك .
فلبسه في الحرب جائز حيث أدى إلى هذه المصالح أما إذا لم يثبت فيه شيء منها ، كأن يكون خفياً غير ظاهر فلا يجوز له أن يستعمله في الحرب .
قال : ( أو حشو )
إذا اتخذ الحرير حشواً في ثوب ، كأن يضع ثوباً من قطن أو صوف ونحوه ، فيضع الحرير حشواً له أي ليس في ظهارته ولا بطانته .
فالبطانة هي ما تكون مباشرة للبدن ، وأما الظهارة فهي ما تكون خارجة للناس .
فهنا ظهارته وبطانته من نوع آخر غير الحرير ، لكنه حشاه بالحرير ، أو حشا وسادة به .
فهل يجوز أم لا ؟
نعم يجوز ذلك ، فلا حرج في مثل هذا ؛ لأن النهي لا يشمله وقد ثبت عن الصحابة أنهم لبسوا ثوب الخز وثوب الخز هو نوع من الثياب يكون سداه من حرير ولحمته من نوع آخر .
والسدا : هو ما يكون عرضاً عند النسج .
أما اللحمة : فهي ما تكون طولاً عند النسج ، واللحمة تغطى السدا فيجوز أن يكون الثوب سداه من حرير ، وقد لبس الصحابة ثياب الخز .
قال أبو داود : " وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أكثر لبسوا ثياب الخز منهم أنس والبراء " (1)
قال الحافظ ابن حجر : " وقد أوردها ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التابعين بأسانيد جيدة "(2) فهذه أفعال للصحابة لا يعلم لهم فيها مخالف .
وقد دلت السنة على ذلك – في قول ابن عمر – كما في سنن أبي داود : ( إنما نهى عن الثوب المصمت من الحرير ) (3)
__________
(3) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس ، باب الرخصة في العلم وخيط الحرير ( 4055 ) قال : " حدثنا ابن نفيل ، حدثنا زهير ، حد
ثنا خُصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب المصمت من الحرير ، فأما العلم من الحرير وسَدَى الثوب فلا بأس به "(36/76)
أي ما كانت لحمته وسداه من الحرير أي هو خالص حريراً .
ومن كان سداه حرير ولحمته من غيره فهو جائز ، وأما العكس فهو محرم : فلو كانت اللحمة من حرير والسدا من نوع آخر فهو محرم ؛ لأن الظاهر هو الحرير .
إذن : الحشو بالحرير جائز ، وكذلك يجوز أن يكون السدا من حرير .
أما البطانة فلا يجوز أن تكون من حرير ؛ لأنها – في الحقيقة – ظاهرة ، أي الحرير فيها ظاهر في الثوب وإن كان لا يبدوا للعيان ، لكنه ظاهر وثبتت مباشرته للبدن .
فإذا كانت البطانة من حرير والظهارة من غيره فإنه محرم .
قال : ( أو كان علماً )
فإن كانت خطوط أو طرزٍ على الثوب .
" أربع أصابع فما دون " مضمومة من الثوب كله .
يعني : جميع ما في الثوب أربع أصابع ، ففي عرضه أصبع وفي عرضه الآخر أصبع وفي وسطه أصبعين فيجوز ، أما إذا كان مجموعه خمسة أصابع فيحرم .
إذن : تكون مضمومة وهذا باتفاق أهل العلم .
ودليل ذلك حديث عمر المتقدم : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع )
قال : ( أو رقاعاً )
إذا رقع الثوب بشيء من الحرير فيجوز ما لم يكن ذلك أكثر من أربعة أصابع .
قال : ( أو لبنة جيب )
" لبنة جيب " : هي طوقه ، فطوق من العنق يسمى لبنة الجيب ، فهذا جائز بشرط ألا يزيد على أربعة أصابع ، ولو وضع أزراره من حرير فهو جائز أيضاً ما لم يجتمع من ذلك أربعة أصابع .
قال : ( وسَجْف فراء )
الفراء : هو ما يلبس في الشتاء من الثياب الغليظة ونحوها ، فحواشيها تسمى السجف .
فإذا وضع في أطرافه وحواشيه حريراً وكان مجموعه لا يتجاوز أربعة أصابع فإنه جائز .
قال : ( ويكره المعصفر والمزعفر للرجال )
" المعصفر " : هو المصبوغ بالعصفر وهو نوع من النبات تصبغ به الثياب فتكون حمراء .
دليل ذلك : الحديث المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن القسي والمعصفر ) (1) رواه مسلم .
__________
(1) تقدم .(36/77)
وفي مسلم عن ابن عمرو قال : رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبست ثوبين معصفرين فقال : ( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ) (1) .
فلبس المعصفر محرم ، وهو المصبوغ بالحمرة بحيث تكون الحمرة خالصة منه(2) .
أما إذا كانت الحمرة غير خالصة فيه ، بأن كانت الحمرة خطوطاً فيه وإن كانت غالبة فهو جائز ، لما ثبت في البخاري عن البراء قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً وقد رأيته عليه حلة حمراء ما رأيت شيئاً أحسن منه ) (3) فهنا قد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء فدل على جواز لبس الحلة الحمراء وهنا ليست حمرتها خالصة بل هي من أنواع البرُد اليمانية – كما ذكر ابن القيم – وهي ذات خطوط حمر مع سواد في بقية الثوب ، فهو ثوب أسود فيه خطوط حمراء .
وسميت حلة حمراء نسبة إلى هذه الخطوط الحمراء التي فيه وليس أن هذه الحلة كلها حمراء بل مع الحمرة غيرها .
وأما الثياب الحمراء الخالصة فلا يجوز لبسها .
وهنا قد ذكروا الكراهية .
والراجح هو التحريم للأحاديث المتقدمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قوله : ( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها )(4) فهذا فيه نهي ، وفيه أن هذه الثياب في لبسها تشبه بالكفار والتشبه بالكفار محرم .
وقد ذكر ابن حجر في هذه المسألة سبعة أقوال قال : " وأصحها المنع "(5) وهو كما قال .
فالراجح : أن لبس الثوب الأحمر إن كان خالصاً بحتاً ليس مشوباً فهو محرم ، وأما إن كان مخلوطاً بغيره فإنه جائز .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر ( 2077 ) .
(2) لعلها منه .
(3) أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب الثوب الأحمر ( 5848 ) ، وفي كتاب المناقب ، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3551 ) . وأخرجه مسلم في كتاب الفضائل ، باب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان أحسن الناس وجهاً ( 2337 ) .
(4) تقدم .(36/78)
وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن المياثر الحمر "(1) .
والمياثر هي السروج التي يركب عليها ، فهذا يدل على أن الجلوس على شيء من الفرش الحمراء أنه محرم وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك .
" والمزعفر للرجال " : المزعفر : هو الثوب الذي قد صبغ بالزعفران .
ودليل النهي عنه : ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى أن يتزعفر الرجل ) (2)
* وهل هذا التحريم للونه وهو الصفرة أو أن ذلك لرائحته ؟
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب لبس القسي ( 5838 ) ، وأخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة … ( 2066 ) من حديث البراء بن عازب ولفظه في مسلم : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع …. ونهانا عن خواتيم … وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي .. "
(2) أخرجه البخاري في كتاب اللباس ، باب التزعفر للرجال ( 5846 ) من حديث أنس قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل " وأخرجه مسلم بنفس اللفظ في كتاب اللباس والزينة ، باب نهي الرجل عن التزعفر ( 2101 ) .(36/79)
الأظهر أن التحريم ليس للونه بل لرائحته ، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود وأصله في الصحيحين والحديث إسناده صحيح : أن ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلأ ثيابه منها، فقيل له : لم تصبغ بالصفرة ؟ فقال : ( إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ولم يكن شيء أحب إليه منها ، وكان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته ) (1)
فهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة ، وهذا دال على جواز ذلك ما لم تكن الصفرة عن زعفران فإنه يكون محرم للنهي المتقدم .
والحنابلة يرون الكراهية ، والحديث ظاهر التحريم وهو مذهب الأحناف والشافعية وهو القول الراجح وأنه محرم لظاهر النهي .
فلا يجوز له أن يلبس ثوباً مزعفراً ، أما إذا كان الثوب أصفراً من غير زعفران فإنه جائز لا حرج فيه .
والحمد لله رب العالمين
الدرس السادس والستون
( يوم الأحد : 7 / 3 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ومنها اجتناب النجاسات )
ومنها : أي من شروط الصلاة .
فاجتناب النجاسات في الثوب والبدن والبقعة من شروط الصلاة .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب اللباس ، باب في المصبوغ بالصفرة ( 4064 ) قال : " حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، حدثنا عبد العزيز - يعن ابن محمد - عن زيد - يعني ابن أسلم - أن ابن عمر كان يصبغ لحيته … " وأخرج البخاري في اللباس ، باب النعال السبتية وغيرها ( 5850 ) ، عن ابن عمر : " أما الأركان فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها " ، وأخرجه مسلم في الحج مثل رواية البخاري ، باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة رقم ( 1187 ) .(36/80)
ومن أدلة ذلك : ما ثبت في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في دم الحيض يصيب الثوب – ( تحته ثم تقرصه [ بالماء ] ثم تنضحه وتصلي ) (1) وفي الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمر أن يراق على بول الأعرابي في المسجد ذنوباً من ماء ) (2) من حديث أنس .
قال : ( فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها )
فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها فصلاته لا تصح لذا قال بعد ذلك : ( لم تصح صلاته ) .
فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها وإن لم يباشرها بيده بل كانت بإناء ونحوه فإن الصلاة لا تصح .
وإنما قال : لا يعفى عنها ، لأن النجاسة المعفو عنها حملها لا يبطل الصلاة .
مثال ذلك : حمل الطفل مع ثبوت النجاسة الباطنة فيه ، فهذا لا يؤثر في الصلاة لأنها نجاسة معفو عنها ، لذا ثبت في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( حمل أمامة بنت زينب وهو يصلي فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها ) (3) .
فحمل الطفل حيث لم يكن على بدنه وثوبه نجاسة لا يبطل الصلاة .
ومثل ذلك : حمل أحد في الصلاة يحتاج إلى حمل مع أثر استجمار ، فإن أثر الاستجمار في محله معفو عنه فلم يكن ذلك مؤثراً في الصلاة .
وذلك : لأن النجاسة في معدتها فهي في باطن الآدمي فهي معفو عنها للحديث المتقدم في حمل أمامة بنت زينب .
أما لو حمل طفلاً وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة فصلاته باطلة ؛ لأن النجاسة غير معفو عنها فليست في معدتها .
فإذن : من حمل شيئاً فيه نجاسة وإن لم يكن يباشر النجاسة بيده فإن الصلاة لا تصح ؛ لأنه حامل للنجاسة أما إذا كانت النجاسة في معدنها الأصلي فالصلاة صحيحة .
__________
(1) متفق عليه وقد تقدم في الطهارة .
(2) متفق عليه وقد تقدم في الطهارة .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة ( 516 ) عن أبي قتادة الأنصاري : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة … ) ، وأخرجه مسلم ( 543 ) .(36/81)
قال : ( أو لاقها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته )
لاقي النجاسة بيده أو رجله أو ثوبه فإن صلاته باطلة ؛ للأحاديث المتقدمة ، فإنه إذا لاقها وباشرها فإنه خالف ما يجب عليه من اجتناب النجاسة ، كما أنه إذا حملها فكذلك ، والواجب عليه أن يجتنب النجاسة فإن من شروط الصلاة اجتنابها وهو حيث حملها أو باشرها فإنه لا يعد مجتنباً لها فيكون حينئذ : مخالفاً لشرط من شروط الصلاة ، فتبطل الصلاة به .
قال : ( وإن طيَّن أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت )
صورة ذلك : أرض نجسة فطينها بطين أو وضع عليها فراش فصلى عليها فصلاته صحيحة مع الكراهية .
ومثل ذلك : ما يوضع الآن في البيوت من مجمع النجاسة فإنه يوضع عليه شيء من العازل من الأسمنت وغيره فإذا صلى عليه ، فصلاته صحيحة مع الكراهية .
أما كونها صحيحة فلأنه لم يباشر النجاسة ولم يحملها فهو مجتنب للنجاسة في ثوبه و بدنه وبقعته .
وأما كونه يكره فقالوا : لأن هذه البقعة الطاهرة المباشرة له التي صلى عليها وهي معتمدة على أرض نجسة فالكراهية للاعتماد على الأرض النجسة .
- وعن الإمام أحمد : ألا كراهية – وهو الظاهر والراجح – ؛ لأن الكراهية حكم شرعي يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك .
فإنه قد فعل ما يجب عليه من اجتناب النجاسة في ثوبه وبدنه وبقعته فصلى على بقعة مباشرة له متصفة بالطهارة فلا معنى – حينئذ – للكراهية ولا دليل يدل على ذلك .
نعم الأولى أن يصلي في بقعة غير هذه البقعة ، ولكن لو صلى فيها فصلاته صحيحة بلا كراهية .
قال : ( وإن كانت بطرف مصلى متصل به صحت إن لم ينجر بمشيه )
هنا ثلاث صور :
الصورة الأولى : صلى على فراش في طرفه نجاسة أي صلى في جهة فيه وفي الجهة الأخرى نجاسة فهنا لا يؤثر ذلك في صلاته ؛ لأن البقعة التي باشرها في الصلاة بقعة طاهرة – وهذا باتفاق أهل العلم .(36/82)
- وإن كانت النجاسة تتحرك بتحرك المحل الطاهر ، بمعنى : هو فراش واحد فصلى في أحد طرفيه وفي الطرف الآخر نجاسة فإذا حركنا الطرف الطاهر تحرك الطرف النجس ولكن مع ذلك الصلاة صحيحة ؛ لأن بقعته بقعة طاهرة ، وقد صلى فيها ، فهو مجتنب للنجاسة .
الصورة الثانية : رجل صلى على بقعة طاهرة وهو مرتبط ببدنه بشيء نجس ، يعني : ليس بحامل له .
ولكن مرتبط به فهنا صورتان :
أ) الصورة الأولى : أن ينجر بمشيه كأن يربط به كلب أو خنزير وهو يصلي فهذا الكلب والخنزير ينجر بمشيه . فالصلاة باطلة .
ب) الصورة الثانية : رجل ربط به سفينة مصنوعة من عظام نجسة وهي لا تنجر بمشيه ، فالصلاة صحيحة .
فالصورة الأولى : هذه النجاسة ليست متصلة ببقعة بل متصلة ببدنه بحيث أنه لو تحرك لتحركت النجاسة معه قالوا : ولو لم تتحرك النجاسة معه ولو لم يمش فإن النجاسة هو مستتبع لها فيكون كحاملها .
أما إذا كانت لا تنجر بمشيه بطبيعتها فإنها حينئذ ليست بمستتبعة له .
هذا هو المشهور في المذهب .
ونظَّر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في هذه المسألة ؛ لأنه ليس من فرق بين الصورتين ، إلا أن الأولى نجاسة ثقيلة لا يمكن استتباعها وهنا النجاسة خفيفة يمكن استتباعها ، وهذا في الحقيقة – فرق غير مؤثر ، فإنه مرتبط بالنجاسة في كلتا الحالتين إلا أن هذه ثقيلة لا تنجر بالمشي وهذه خفيفة تنجر بالمشي وهذا ليس بمعتبر ، وهو في الخفيفة ليس بمباشر للنجاسة وليس بحامل لها ، فلا معنى للقول بأن الصلاة تكون باطلة ، لأنه مجتنب للنجاسة فليس بمباشر لها ولا حامل لها بل بينه وبينها عازل فمثله لا يبطل الصلاة ولا يعد مواقعاً للنجاسة .
وهذا هو الراجح ، وأنه إن كانت النجاسة متصلة به مستتبعة له أو غير مستتبعة ما لم يكن حاملاً لها أو مباشراً لها فصلاته صحيحة ؛ لأنه مجتنب للنجاسة مباشرة وحملاً .(36/83)
وهي – في الحقيقة – شبيهة بالمسألة المتفق عليها التي تقدمت ، عندما يصلي على فراش طرفه نجس فإنه شبيهة بهذه المسألة .
فالأظهر أن الصلاة تكون صحيحة في هذه الصور الثلاث كلها .
قال : ( وأن رأى عليه نجاسة بعد صلاته وجهل كونها فيها لم يعد )
رجل لما انتهى من الصلاة رأى على ثوبه نجاسة ، ولم يعلم هل حدثت فيه قبل الصلاة أو أثناءها أو بعدها فهو جاهل في وقت حدوثها .
فصلاته صحيحة ، لأنها قد صحت وثبتت شرعاً وإبطالها يحتاج إلى دليل ، والأصل عدم وقوع النجاسة عليه في الصلاة ، فالأصل أنه صلى صلاة صحيحة متعرية عن أي مبطل من مبطلاتها والشك هنا لا يزيل اليقين .
قال : ( وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد )
رجل صلى فلما انتهى رأى نجاسة على بدنه وقد كان يعلم بها قبل الصلاة لكنه نسيها أو كان جاهلاً بها بمعنى : جهل أنها نجاسة كأن يقال له : بعد أن صلى ، هذا الماء الذي على ثوبك ماء نجس .
1- فعلى المشهور في المذهب : يجب عليه أن يعيد .
قالوا : لأنه شرط كالطهارة من الحدث ، فكما أن المحدث يجب عليه إذا نسى حدثه أو جهله يجب عليه بالاتفاق أن يعيد الصلاة ، فما دام الأمر كذلك ، فكذلك في اجتناب النجاسة فهو شرط كالطهارة من الحدث .
2- والقول الثاني : وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب إسحاق وابن المنذر واختيار شيخ الإسلام : أنه لا يجب عليه أن يعيد .(36/84)
واستدلوا : بما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال : ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذا خلع نعليه ، فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم فلما قضى صلاته ، قال : ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن جبريل أتاني فأخبرني أن عليها قذراً أو قال أذى ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه أذى أو قذراً فليمسحه وليصل فيهما ) (1)
قالوا : في هذا الحديث النبي صلى الله عليه وسلم جهل النجاسة فلم يعلم بها إلا أثناء الصلاة فأتم صلاته ولو كان ذلك مبطلاً للصلاة لأبطل أولها ولوجب عليه أن يعيد الصلاة ، كما أنه لو تذكر أنه محدث أثناء الصلاة فيجب عليه أن يتوضأ ويستأنف الصلاة .
قالوا : والفرق بين الطهارة من الحدث والطهارة من النجس فرق واضح فلا يصح قياس أحدهما على الآخر فإن الطهارة من الحدث وهي الغسل والوضوء – من باب الأفعال – والطهارة من النجس من باب التروك .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب الصلاة في النعل ( 650 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي نُعامة السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه إذ خلع نعليه ، فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القول ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال : ( ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ ) قالوا : رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن جبريل أتاني فأخبرني أنفيها قذراً ) أو قال : أذى ، وقال : ( إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصلّ فيهما ) .(36/85)
وما كان من قسم التروك فإن الشارع يطالب العبد باجتنابه والبعد عنه ، وحيث فعله مخطئا أو ناسياً فإنه لم يناقض الشرع ، فالشارع يريد منه ألا يفعله أي متعمداً وحيث فعله مخطئاً أو ناسياً فإنه لم يناقض الشرع فلم يكن ذلك مبطلاً للعبادة ، والحديث المتقدم يدل على هذه القاعدة الصحيحة .
ومثل ذلك لو تذكر أو أخبر أثناء الصلاة فإنه يستمر في صلاته بعد إزالة النجاسة فإن لم يمكنه إزالة النجاسة إلا بعمل كثير مبطل للصلاة فإنه يجب أن يقطع الصلاة ثم يزيل النجاسة ويعيد الصلاة من جديد ؛ لأنه لا يمكنه أن يزيل النجاسة –حينئذ- إلا بعمل كثير مناقض ومناف للصلاة .
قال : ( ومن جبر عظمه بنجس لم يجب قلعه مع الضرر )
رجل جبر بعظم نجس أو خيّط جرحه بخيط نجس أو نحو ذلك فهنا الواجب عليه إذا صلى أن يجتنب النجاسة ، والنجاسة ثابتة فيه فيما وضع لجبر عظمه أو لخيط جرحه ، فحينئذ لا يجب قلعه مع الضرر ، لحديث ( لا ضرر ولا ضرار )(1)
__________
(1) قال في الأربعين : " حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً .
ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسقط أبا سعيد ، وله طرق يقوي بعضها بعضاً " .
وقد أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام ( 2341 ) قال رحمه الله : " حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
( 2340 ) حدثنا عبدُ ربه بن خالد النُّميري أبو المُغلِّس حدثنا فُضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار " .
وأخرجه الدارقطني في سننه ( 4 / 227 ) قال : " نا محمد بن عمرو بن البختري نا أحمد بن الخليل نا الواقدي نا خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
نا أحمد بن محمد بن أبي شيبة نا محمد بن عثمان بن كرامة نا عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( للجار أن يضع خشبته على جداره وإن كره ، والطريق الميتاء سبع أذرع ، ولا ضرر ولا إضرار ) .
نا إسماعيل بن محمد الصفار نا عباس بن محمد نا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن نا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا إضرار ) .
نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال : أراه قال عن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا ضرر ولا ضرورة ، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه ) " .(36/86)
والشارع لا يأمر ولا ينهي فيما يترتب على المسلم فيه الضرر في ماله أو بدنه أو نحو ذلك ، وهنا يترتب عليه الضرر فلم يجب ذلك عليه .
أما إن لم يثبت الضرر فيجب عليه أن يزيله ، لأن الواجب عليه أن يجتنب النجاسة ، وحيث كان ذلك عليه ، فإنه مباشر للنجاسة غير مجتنب لها مع قدرته على إزالتها فحينئذ : صلاته باطلة .
قال : ( وما سقط منه من عضو أو سن فطاهر )
لأن ما كان من الآدمي فإنه طاهر ، فالمسلم لا ينجس ومثله الكافر لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أبين من حي فهو كميتته )(1).
فما وقع من الإنسان من عظم أو سن ثم أعيد إليه ووصل به فصلاته به صحيحة ؛ لأنه ببينونته وانفصاله لم ينجس بذلك فإذا أعيد فإنه عضو طاهر وحينئذ : فلا يكون مواقعاً للنجاسة . فصلاته صحيحة وإن كان قادراً على إزالته لأنه ليس بنجس .
قال : ( ولا تصح الصلاة في مقبرة ، وحش وحمام وأعطان إبل ومغصوب )
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصيد ، باب في صيد قُطع منه قطعة ( 2858 ) قال : " حدثنا عثمان أبي شيبة ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي واقد قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ) . وأخرجه الترمذي أتم منه في الصيد حديث ( 1480 ) باب ما قطع من ا لحي فهو ميت ، وقا ل: " هذا حديث حسن غريب " ، وابن ماجه عن ابن عمر في الصيد حديث ( 3216 ) ، باب ما قطع من البهيمة وهي حية ، سنن أبي داود [ 3 / 277 ] .(36/87)
لا تصح الصلاة في المقبرة لقوله صلى الله عليه وسلم – فيما رواه أبو داود والترمذي - : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) (1)
وإن كان هناك موضع فيه قبر أو قبران فهل تصح فيه الصلاة أم لا ؟
ينبني على هذا الموضع هل يسمى مقبرة أم لا ؟
فالمشهور في المذهب : أنه ليس بمقبرة ، فعليه : يجوز أن يصلي فيه .
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره صاحب الفروع : أن الصلاة لا تصح فيه ؛ لأن اسم المقبرة شامل له ، فإن المقبرة ما يقبر فيها سواء كان فيها قبر أو قبران .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة ( 492 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ح وحدثنا مسدد حدثنا عبد الواحد عن عمرو بن يحيى ، عن أبيه عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال موسى في حديثه فيما يحسب عمرو : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ) ، وأخرجه ابن ماجه ( 745 ) والترمذي في الصلاة ( 317 ) وقال : " وهذا حديث فيه اضطراب ، روى سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل ، وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال : وكأن عامة روايته عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت وأصح مرسلاً .. " سنن أبي داود [ 1 / 330 ] .(36/88)
ثم إن العلة التي من أجلها نهى الشارع عن الصلاة في المقابر ثابتة فيه ، فإن العلة هي سد ذريعة الشرك فإن تعظيم القبور هو أصل الشرك الواقع في العالم ، والصلاة في الموضع الذي فيه قبر أو قبران ثابتة فيه هذه العلة سواء سميناه مقبرة أو لم نسميه .
فالراجح أنها صلاة باطلة .
وعليه – فكذلك – خلافاً للمشهور في المذهب ولو صلى في موضع في بيته قد دفن فيه ميت من أمواتهم كأن يدفنوا ميتهم في ناحية من نواحي البيت ، فهذا الموضع الذي حول القبر لا يجوز أن يصلي فيه للعلة المتقدمة وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً ) (1) فدل على أن القبور ليست موضعاً للصلاة .
فإن نبشت القبور فيجوز أن يصلي في هذا الموضع لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نبش قبور المشركين التي كانت في حائط لبني النجار ثم صلى فيه ، وبنى فيه مسجده )(2)
* وهل تدخل في ذلك صلاة الجنازة أم لا ؟
ثلاث روايات عن الإمام أحمد :
الرواية الأولى : أن صلاة الجنازة تدخل في هذا فعلى ذلك صلاة الجنازة في المقبرة باطلة .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت ( 451 ) عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ) وقال : " هذا حديث حسن صحيح " ، وأخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب كراهية الصلاة في المقابر ( 432 ) بلفظ : " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً ) ، وفي آخر كتاب التهجد ، باب التطوع في البيت ( 1187 ) ، وأخرجه مسلم ( 777 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ،باب هل تبنش قبور مشركي الجاهلية .. ( 428 ) عن أنس قال : " قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - … "، وأخرجه مسلم ( 524 ) في كتاب المساجد ، باب ابتناء مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في بناء المسجد ( 453 ).(36/89)
والرواية الثانية : أنها صحيحة مع الكراهية .
والرواية الثالثة : أنها تصح بلا كراهية .
وأصحها القول الأول وأن الصلاة على الجنازة في المقابر باطلة لا تصح ، لما ثبت في المختارة والطبراني في الأوسط بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى عن الصلاة على الجنائز بين القبور )(1) ولكن يستثنى من ذلك الصلاة على الميت في قبره بعد دفنه حيث فاتته الصلاة فإنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن : هل تدخل صلاة الجنازة في عموم النهي أم لا ؟
قولان في المذهب :
الأول : أنها تدخل وهو رواية عن الإمام أحمد .
الثاني : أنها لا تدخل وإذا قلنا بعدم دخولها فهل تكره أم لا ؟ قولان في المذهب .
والصحيح أنها باطلة في المقابر إلا ما ورد عن الشارع من الصلاة على الميت في قبره لمن فاتته الصلاة .(2)
__________
(1) قال في مجمع الزوائد ج: 3 ص: 36
في باب الصلاة على الجنازة بين القبور : " عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي على الجنائز بين القبور رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن " ا.هـ . من اسطوانة مكتبة الفقه وأصوله .
(2) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات ما نصه : " الفرع الثاني : - أنه إذا أتي إلى مقبرة ، فبني فيها مسجدا ، فالأرض أرض مقبرة : فإن الصلاة لا تصح بحال ، لأنها مقبرة ، ولا حكم للمسجد ، لم لا حكم للمسجد ؟ لأن المسجد هنا منهي عنه ، فهو كالمغصوب .
- الحال الثانية : أن تكون الأرض أرض مسجد ثم يبنى فيها قبر : فهنا تصح الصلاة فيها ، لأنها أرض مسجد ، وهذا القبر أجنبي ، وليس لعرق ظالم حق ، لكن لا يستقبل القبر ، فالمساجد التي توجد فيها قبور ، كالمسجد الأموي فيه قبر لكن في الأصل لم يكن فيه قبر . وهذا ما قرره شيخ الإسلام في شرح العمدة . إذاً : إذا كانت الأرض أرض مسجد ثم دفن فيها قبر أو قبران أو ثلاثة ، فالصلاة تصح ، لكن لا يستقبل القبر ، لأنه لو استقبله ، دخل في قول النبي- صلى الله عليه وسلم - : ( لا تصلوا إلى القبور ) .
ويدخل في المقبرة ، والمقبرة تتناوله : الفناء وحريمها ، كل ذلك داخل في المقبرة ، لأن ذلك كله يتناوله اسم المقبرة ، فليس له أن يصلي فيه .(36/90)
قال : ( أو حش )
هو موضع قضاء الحاجة .
وأما الحمام فهو موضع الاغتسال و الاستحمام ، فالصلاة في الحش باطلة لأن(1) إبطالها أولى من إبطال الصلاة بالحمام فهي أولى وأظهر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) (2) ولما ثبت عن ابن عباس – في مصنف عبد الرزاق – أنه قال : ( لا تصلين إلى حش ولا إلى حمام ولا في مقبرة ) (3) وإذا ثبت عنه النهي عن الصلاة إلى الحش فأولى منه الصلاة في الحش ، فهي صلاة باطلة .
( أو حمام )
للحديث المتقدم ، حديث أحمد والترمذي : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) .
قال : ( وأعطان إبل )
جمع عطن أي المواضع التي تبرك فيها وتأوي إليها ، فالصلاة فيها باطلة للحديث المتقدم في باب نواقض الوضوء من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تصلوا في معاطن الإبل ) (4) والنهي هنا يعود إلى ذات الصلاة وحيث كان ذلك فإنه يفيد بطلان الصلاة .
قال : ( أو مغصوب )
إذا صلى في أرض قد اغتصبها فهل تصح الصلاة أم لا ؟
قال هنا : لا تصح . هذا هو المشهور في المذهب .
للمعنى المتقدم : لأنه آثم حيث اغتصب هذه الأرض فلا يمكن أن يكون مثاباً مأجوراً على الصلاة فيكون في آن واحد مثاباً آثماً .
__________
(1) في الأصل : لأنها .
(2) أخرجه أبو داود والترمذي ، وقد تقدم .
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [ 1 / 405 ] برقم ( 1584 ) في باب الصلاة على القبور قال عبد الرزاق : عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس .. "
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل ( 493 ) ، وفي باب الوضوء من لحوم الإبل من كتاب الطهارة ( 184 ) . وأخرجه الترمذي في باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل ( 348 ) مختصراً بلفظ : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل ) .(36/91)
والقول الثاني وهو مذهب الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه : أن الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة .
قالوا : لأن النهي لا يعود إلى الصلاة ، فهي صلاة صحيحة لا معنى ببطلانها والنهي لا يعود إليها .
ولا مانع من أن يكون آثماً مأجوراً في آن واحد فهو آثم بكونه قد اغتصب الأرض وهو مواقع للاغتصاب مشتغل به .
وهو مأجور لكونه يصلي .
فليس ذلك من جهة واحدة بل من جهتين فحينئذ : الصلاة صحيحة وهو الراجح .
ومثل ذلك : المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق في المشهور من المذهب فلا تصح الصلاة فيها لما روى الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نهى أن يصلى في سبعة مواضع : المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام وأعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله ) (1) لكن الحديث إسناده ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فيه عبد الله بن عمر العمري المكبر وهو ضعيف .
إلا أن للفظ " قارعة الطريق " شاهداً عند ابن ماجه(2) من حديث ابن لهيعة .
لذا ذهب بعض أهل العلم من الحنابلة كالموفق وغيره وهو مذهب الجمهور : إلى أن الصلاة في هذه المواضع صحيحة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )(3)
والحكم ببطلان الصلاة في موضع والنهي عنه يحتاج إلى دليل يدل على ذلك ، والحديث الوارد فيها ضعيف .
__________
(1) قال في الإرواء : 1 / 318 ] : " ضعيف ، رواه الترمذي ( 2 / 177 – 178 ) وابن ماجه ( 746 ) وعبد بن حميد في " المنتخب من المسند " ( ق 84 / 2 ) والطحاوي في شرح المعاني ( 1 / 224 ) وأبو علي الطوسي في مختصر الاحكام ( ق 36 / 1 ) والبيهقي ( 2 / 229 – 230 ) عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر به " .
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها ، باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق ( 330 ) .(36/92)
إذن : الصلاة فيها صحيحة ، لكن الأولى ولا شك ترك ذلك .(1)
فلو صلى في قارعة الطريق فالصلاة صحيحة لكنه مخطئ حيث زاحم الناس في طرقهم فإن قارعة الطريق ما يقرعه الناس ويطرقونه ويحتاجون إلى المشي عليه ويكثر ذلك فيه .
قال : ( وأسطحتها )
فأسطحة هذه المواضع لا تصح الصلاة فيها فلو صلى في سطح حمام أو مقبرة أو غير ذلك قالوا : فلا تصح صلاته ، لأن الهواء تبع للقرار .
فالشخص إذا ملك بقعة من الأرض فهو مالك لهوائها . قالوا : فكذلك هنا .
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق : أن الصلاة صحيحة – وهذا هو القول الراجح(2)
__________
(1) قال شيخنا في شرحه لأخصر المختصرات الذي شرحه بداية عام 1420 ما نصه : " والقول الثاني في المسألة : أن الصلاة تصح في المزبلة والمزجرة وقارعة الطريق . وهو اختيار الموفق ابن قدامة .
لكن الراجح الأول لما تقدم ، لأن القياس يدل عليه " ا.هـ .
(2) قال شيخنا في شرح أخصر المختصرات ما نصه : " والراجح : هو التفصيل : إن كان السطح بحيث يصدق عليه اسم ما أسفل منه – فهو تبع له - ، فإن الصلاة لا تصح .
وإن كان بحيث لا يتبعه ولا يتناوله اسمه ، فإن الصلاة تصح فيه .
مثال : عندما يصلي في مسجد بني في مقبرة ، فيصلي في سطحه ، فهل يمنع من ذلك ؟
نعم ، لم ؟ لأن الاسم يتناوله ، منع من الصلاة في المقبرة فيدخل في ذلك هواؤها ، وهذا المسجد قد بني في المقبرة ، فسطحه وأسفله داخلان . لكن إذا بنى دورا علويا ووضع فيه غرفة ، والذي أسفل من هذه الغرفة حش ، فهل هذه الغرفة تتبع هذا الحش في الاسم ؟ لا ، إذا : الصلاة تصح .
مثال آخر : هذه الحشوش التي تكون في المساجد – كما تعلمون منفصلة - ، فهل سطحها يدخل فيها ؟ الظاهر : نعم ، لأن الأصل في السطح أنه يتبع ، وهذه لم يبن فوقها ما يخرجها عن أن تدخل في الاسم الحش . لكن لو بنى بيتا ، وفي أسفله قبر أو قبران – رجل مات والده ، فدفنه في أرضه ، ثم إنه بنى فوق هذا القبر فأصبح القبر في القبو ، فهل يدخل في المنع ؟ الظاهر : أنه لا يدخل في المنع ، لأن ما فوق لا يصدق عليه أنه مقبرة . إذاً : إذا صدق عليه أن له هذا الاسم ، وأن هذا الاسم يتناوله ، وأنه يتبعه ، فينهى عن ذلك ، وإلا فلا . وهذا نحو ما قرره شيخ الإسلام في شرحه للعمدة " ا.هـ(36/93)
؛ لأن الأصل هو صحة الصلاة والنهي عن الصلاة وإبطالها يحتاج إلى دليل .
وإنما نهى الشارع عن هذه المواضع لعلل ثابتة فيها ولا يثبت ذلك في أسطحتها .
فمثلاً : نهى الشارع عن الصلاة في المقبرة لوجود القبور فيها وهذا أصل شرك العالم .
أما لو صلى فوقها على سطح يغطي المقبرة كلها أو يغطي موضعاً فيه قبراً أو قبرين أو ثلاثة فإنه – حينئذ – لا معنى للقول بأن الصلاة باطلة وإن كان الهواء تبعاً للقرار ، لأن المعنى الموجود في القرار ليس موجوداً في الهواء فحينئذ : لا معنى لإلحاق الهواء بالقرار .
مع أن المشهور في المذهب أن العلة تعبدية غير معقولة المعنى – وحيث قالوا بذلك : وهو خلاف الحق – فإن القياس باطل ، لأن شرط القياس معرفة العلة وثبوتها وألا تكون العلة تعبدية . وما دام أنهم قالوا : إنها تعبدية فإنه لا معنى لإلحاق الهواء بالقرار لأن القياس باطل لعدم ثبوت العلة .
إذن : الراجح أن الصلاة في أسطحتها صحيحة .
قال : ( وتصح إليها )
فلو صلى إلى أعطان إبل أو حمام أو حش أو مقبرة قالوا : الصلاة صحيحة ، لأن النهي إنما ورد في الصلاة وفي هذه المواضع ، وحيث كانت في قبلته وصلى إليها فإنه لم يصل فيها فلا معنى – حينئذ – لإبطال الصلاة .
وهذا صحيح ، لكن ليس في كل هذه المسائل ، بل قد وردت الأدلة الشرعية في استثناء بعض المسائل ، فالصلاة إلى المقبرة صلاة باطلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها المجد بن تيمية وشيخ الإسلام .
واستدلوا : بما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ) (1) فهذا يدل على أن الصلاة إلى القبور محرمة وحيث كانت محرمة فهي باطلة لأن النهي يعود إلى ذات العبادة فالصلاة إلى المقبرة باطلة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنائز ، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه ( 972 ) .(36/94)
ومثل ذلك : الصلاة إلى الحش وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره بعض أصحابه ، للأثر المتقدم عن ابن عباس : ( لا تصلين إلى حش ) (1) ولا يعلم له مخالف فيكون قوله حجة .
فالصلاة إلى الحش وإلى الحمام قد ثبت عن ابن عباس ، والنهي عائد إلى الذات فتفيد البطلان .
وليس عندنا من يخالف ابن عباس فيكون قوله حجة .
إذن الصلاة إلى المقبرة والحمام والحش باطلة .
أما الصلاة إلى أعطان الإبل ، أو إلى أرض مغصوبة - على القول ببطلان الصلاة فيها - فإن الصلاة صحيحة ولا أثر إلى استقبالها .
وكيف يكون استقبالها ؟
المشهور في المذهب أنه إذا كان بينه وبين الحش أو المقبرة ما يستتر به من كان متخلياً بأن يكون بينه وبينها مؤخرة الرحل ، فإن الصلاة تكون صحيحة .
وعليه فحائط المسجد ساتر ، فإن كانت أمام المسجد مقبرة فحائطه يكون ساتراً .
وهناك قول ثاني في المذهب اختاره المجد ابن تيمية وهو القول الراجح : أن حائط المسجد لا يكفي بل لابد أن يكون هناك فاصل آخر يفصل بينهما ، ومثل مؤخرة الرحل لا يعد ذلك شيئاً ، فإن الرجل يعد مستقبل القبلة وإن كان بينه وبين القبلة شيئاً .
ولكن حيث كان بينه وبين المقبرة شيء فلا حرج في ذلك إذ المشقة تلحق بالنهي عن استقبالها حيث كانت هناك بيوت أو حوائل أو نحو ذلك .
وأما إيجاد ساتر بينهما فإنه لا مشقة فيه فعليه لا يكفي حائط المسجد ولا حائط المقبرة بل لابد أن يكون بينهما عازل آخر بحيث لا يكون المسجد مستقبلاً المقبرة .
ومثل ذلك الحش فلو صلى في غرفة تتوجه إلى الحش أو الحمام فالصلاة كذلك باطلة ولا يكفي الحائط بينهما بل لابد أن يكون هناك حائل آخر .
فلو كان هناك غرفة بينهما فإن ذلك يجزئ .
__________
(1) رواه عبد الرزاق ، وقد تقدم .(36/95)
هذا هو الأصح من الوجهين في المذهب وأنه لا يكفي ما هو كمؤخرة الرحل ولا حائط المسجد ولا حائط الغرفة التي يصلي فيها بل لابد أن يكون بينه وبين ذلك حائط يجعل هذا الموضع غير مستقبل لذاك الموضع والعلم عند الله تعالى .
قال : ( ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها ، وتصح النافلة باستقبال شاخص فيها )
أما كون النافلة تصح في الكعبة وعلى ظهرها فهذا قد أجمع عليه أهل العلم ، وثبتت السنة الصحيحة فيما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم :
( دخل البيت فصلى فيه ) (1) .
ولكن هل يشترط أن يستقبل شاخصاً منها أم لا ؟
يعني : رجل صلى في سطحها وليس أمامه إلا هواءها فهل تصح أم لا ؟
هنا قال : ( باستقبال شاخص فيها ) .
والقول الثاني في المذهب : أنه لا يشترط ذلك .
إذن : إذا صلى في سطح الكعبة حيث لا يستقبل شيئاً منها – أو صلى في الكعبة – واستقبل بابها وهو مفتوح فهو ليس بمستقبل شاخص منها فهل الصلاة صحيحة ؟
قالوا : لا تصح – هذا هو المشهور في المذهب – قالوا : لأنه ليس بمستقبل شيئاً منها ، والواجب أن يستقبل شيئاً منها أي من جدارها أو نحوه .
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار الموفق وهو الراجح : أن ذلك ليس بشرط لأن الواجب هو استقبال هوائها وموقعها وليس الواجب هو استقبال بنيانها .
بدليل : أن من صلى إلى جنب الكعبة على علو فإن صلاته صحيحة ، مع أنه يواجه ويسامت هواءها لا بنيانها .
فكذلك هنا فالواجب إنما هو استقبال هوائها وقد استقبله وليس الواجب أن يستقبل شيئاً منها . وهذا القول هو الراجح .
أما الفريضة فقال هنا : ( لا تصح في الكعبة ولا فوقها )
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب الصلاة بين السواري في غير جماعة ( 504 ) ( 505 ) . ومسلم ( 1329 )(36/96)
قالوا : لأن الله تعالى قال { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }(1) وهذا لم يتوجه إلى الكعبة حيث صلى فيها أو إلى شيء منها ، فالواجب أن يتوجه إليها ، وهو فيها أو عليها فليس متوجهاً إليها .
والنافلة فيها تسامح وتخفيف فجازت دون الفريضة هذا هو المشهور في المذهب .
والقول الثاني وهو مذهب الجمهور : أن الصلاة فريضة في الكعبة أو على سطحها صحيحة ؛ قالوا : لأنها صحت نافلة وحيث صحت نافلة فالفريضة كذلك ؛ لأن الأصل أن الفرائض والنوافل في حكم واحد وتخصيص الفرائض يحتاج إلى دليل ولا دليل .
وكونه يؤمر بالتوجه إليها ليس المقصود أن يتوجه إلى جميعها : بدليل أنه لو صلى إلى طرف الكعبة خارجاً عنها واستقبل ركناً من أركانها فإن الصلاة صحيحة اتفاقاً وهو إنما استقبل شيئاً منها ، وهو كذلك حيث صلى فيها أو في سطحها فقد استقبل شيئاً من هوائها ، فيكون قد استقبل منها ما تصح به الصلاة .
وهذا القول هو الراجح فصلاة الفريضة في الكعبة أو على سطحها صحيحة ؛ لأنه مستقبل لشيء منها ، كما لو كان خارجاً عنها وقد استقبل شيئاً من أركانها وإن لم يستقبلها جميعاً ، فإن الصلاة صحيحة .
وأما الآية الكريمة : فإنها فيمن كان خارج الحرم فإنها في أهل المدينة ونحوهم وأن الواجب عليهم أن يتوجهوا إلى شطرها أي ناحيتها وجهتها ومثل ذلك : من كان في مكة خارجاً عن الحرم فإنه يستقبل جهتها .
وأما من كان في الحرم فإنه يستقبل عينها ولا يشترط – كما تقدم – أن يستقبل جميعها بل لو استقبل بعضها يصح كما لو صلى خارجها مستقبلاً لركنها ، فكذلك إذا صلى مستقبلاً لشيء من جوانبها .
وقد تقدم عدم اشتراط الشاخص فيها وأن هواءها كاف ؛ لأن الواجب إنما هو استقبال هوائها وقرارها وموضعها لا استقبال بنيانها .
والحمد لله رب العالمين
الدرس السابع والستون
( يوم الاثنين : 8 / 3 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ومنها استقبال القبلة )
__________
(1) سورة البقرة .(36/97)
أي من شروط الصلاة استقبال القبلة – باتفاق أهل العلم لقوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره }(1) ولقوله صلى الله عليه وسلم – في حديث المسيء صلاته : ( ثم استقبل القبلة فكبر ) (2) .
قال : ( فلا تصح بدونه )
فلو صلى إلى غير القبلة مع قدرته على استقبالها فإن صلاته باطلة .
قال : ( إلا لعاجز )
أي عاجز عن استقبالها ، كمربوط أو مصلوب إلى غير القبلة فإن هذا لا يمكنه أن يستقبلها ، فيجب عليه أن يصلي الصلاة على حسب حاله لقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم }(3) والحديث : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )(4)
__________
(1) سورة البقرة .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان ، باب من رد فقال : عليك السلام ( 6251 ) ، وأخرجه مسلم ( 397 ) .
(3) سورة التغابن 16 .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ( 7288 ) فقال رحمه الله تعالى : " حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( دعوني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ) "
وأخرجه مسلم في كتاب الحج ( 1337 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 9 / 100 ) ] فقال : " وحدثني زهير بن حرب حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ) فقال رجلٌ : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) " .
وأخرجه أيضاً في كتاب الفضائل بعد حديث ( 2357 ) [ صحيح مسلم بشرح النووي ( 15 / 109 ) ] فقال : " حدثني حرملة بن يحيى التُّجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيَّب قالا : كان أبو هريرة يحدث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) .
وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا أبو سلمة وهو منصور بن سلمة الخزاعي أخبرنا ليث عن يزيد بن الهاد عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثله سواء .
حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو معاوية ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ح وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا المغيرة - يعني الحِزامي - ح وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان كلاهما عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ح وحدثناه عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة ، كلهم قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذروني ما تركتكم ، وفي حديث همام : ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم ثم ذكروا نحو حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة " .(36/98)
متفق عليه .
ومثل ذلك بعض صور صلاة الخوف – وسيأتي الكلام عليها في بابها - .
قال : ( ومتنفل راكب سائر في سفر )
" راكب " لا ماشي وسيأتي الكلام على الماشي .
" سائر " لا نازل ، فإذا كان نازلاً فيجب أن يصلي مستقبل القبلة .
" في سفر " سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً .
والسفر القصير عند الفقهاء : هو السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة ، وهو ما دون 4 برد أو 16 فرسخاً وهي ما تزيد على 80 كم .
فلو سافر إلى بلدة دون هذه المسافة فهذا هو السفر القصير .
وأما إذا كان أربعة برد فهذا الذي يحل فيه قصر الصلاة – هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور – من تقسيم السفر إلى سفر طويل وقصير – وسيأتي ترجيح الظاهر في هذه المسألة وأن السفر مطلق ليس منه القصير والطويل ، بل متى ثبت السفر فإن القصر يكون مشروعاً ولا فرق بين طويل السفر أو قصيره .
فعلى المذهب : لو خرج إلى قرية قريبة لا يقصر فيها الصلاة فيجوز له أن يصلي النافلة على راحلته غير مستقبل القبلة وأولى منه لو سافر سفراً تقصر فيه الصلاة .
هذا مذهب جمهور العلماء وأن السفر هنا مطلق يدخل فيه القصير والطويل .
وذهب الإمام مالك : إلى أن الصلاة على الراحلة في النفل لا تشرع إلا في السفر الطويل والسفر الطويل هو ما ثبت فيه القصر ، وما لم يثبت فيه القصر فلا يشرع فيه ذلك .
وعن الإمام أحمد قول ثالث : وهو جوازه في الحضر وهو قول أبي يوسف من الأحناف وهو مذهب الظاهرية ومذهب بعض الشافعية .
إذن في المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه يجوز حضراً وسفراً – وهو رواية عن الإمام أحمد – .
القول الثاني : أنه لا يجوز في الحضر ، وإنما يجوز في السفر مطلقاً طويلاً كان أو قصيراً – وهذا المشهور في مذهب الحنابلة – .
القول الثالث : وهو مذهب المالكية أنه لا يشرع إلا في السفر الطويل .(36/99)
والصحيح منها ما ذهب إليه المالكية ، للأحاديث الواردة في هذا الباب ، فمن الأحاديث الواردة في أصل الرخصة في صلاة النفل على الراحلة – ما ثبت في الصحيحين عن عامر بن ربيعة قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به ) زاد البخاري : ( يومئ برأسه ولم يكن يصنعه في المكتوبة ) (1)
وهذا الحديث ليس فيه أن ذلك في السفر ، بل هو مطلق في السفر وفي غيره . وبه استدل من رأى أن النافلة يجوز أن تصلى على الراحلة في الحضر وهو رواية عن أحمد كما تقدم .
والحديث الثاني في هذا الباب : ما ثبت في البخاري عن عبد الله بن دينار قال : ( كان عبد الله بن عمر إذا كان في السفر يصلي على راحلته أينما توجهت يومئ ، وذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله ) (2) وهنا فيه قيد السفر .
__________
(1) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة ، باب صلاة الطوع على الدواب وحيثما توجهت به ( 1093 ) بلفظ : " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى على راحلته حيث توجهت به " ، وفي باب ينزل للمكتوبة ( 1097 ) بلفظ : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الراحلة يسبح ، يومئ برأسه قبل أي وجه توجه ، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة " . وأخربجه مسلم مختصرا ( 701 ) في كتاب الصلاة ،باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت .
(2) أخرجه البخاري في أبواب تقصير الصلاة ، باب ( 8 ) الإيماء في الدابة ( 1096 ) بنفس اللفظ إلا أن في بدايته : " كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يصلي في السفر على راحلته .. "(36/100)
والحديث الثالث : ما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد جيد عن أنس بن مالك قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه ) (1) .
وفي هذا دليل لما ذهب إليه الجمهور في أن ذلك إنما يكون في السفر ، فإن مفهوم هذا الحديث أنه إن لم يكن في سفر فإنه لا يفعل ذلك – وهذا هو الأصل فإن الأصل في الصلاة أن تصلى إلى القبلة وأن يركع ويسجد وأن يفعل فيها ما يفعله المفترض إلا أن يدل دليل على ذلك ، فقيد أنس هذا الفعل بأنه في السفر فيحمل عليه حديث عامر بن ربيعة فيقيد به إطلاق حديثه .
وإنما نرجح مذهب مالك ؛ لأن ظاهر لفظة السفر في الشريعة السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، فإن الشارع شرع القصر في السفر ، وهنا قد أتى لفظ السفر ، فالأصل أن يكون هو السفر الذي رخص فيه بالقصر وغيره من الأحكام المختصة بالسفر ، فيحمل لفظ السفر في حديث ابن عمر وأنس على السفر الذي يشرع فيه القصر .
وتقسيم السفر إلى طويل وقصير لا دليل عليه شرعي ، وإطلاقات الشريعة ظاهرها أن السفر واحد وأن السفر الذي شرع فيه القصر هو السفر الذي شرعت فيه الصلاة على الراحلة تطوعاً حيث توجهت الراحلة .
إذن أرجح هذه المذاهب هو مذهب المالكية من أن هذا مشروع في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وأما ما يسميه الفقهاء من السفر القصير فلا تشرع فيه ، ومثله الحضر فكذلك لا تشرع فيه .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 277 ) التطوع على الراحلة والوتر ( 1225 ) قال : " حدثنا مسدد ، حدثنا رِبْعي بن عبد الله بن الجارود ، حدثني عمرو بن أبي الحجاج ، حدثني الجارود بن أبي سَبْرة ، حدثني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ، ثم صلى حيث وجّهه ركابه " قال المنذري : إسناده حسن " . سنن أبي داود مع المعالم [ 2 / 21 ] .(36/101)
والسنة له أن يومئ بركوعه وسجوده ، كما تقدم في حديث عامر بن ربيعة ( يومئ رأسه ) وحديث ابن عمر في قوله ( أينما توجهت يومئ ) وذكر عبد الله بن عمر أن : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله أي من الصلاة والإيماء ) (1) .
والسجود أخفض من الركوع لما ثبت في سنن أبي داود والترمذي والحديث صحيح عن جابر قال : ( بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئته وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع ) (2) .
وفي صفته ما ذكره المؤلف بقوله :
( ويلزمه افتتاح الصلاة إليها )
هذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد واختارها أكثر أصحابه أنه يلزمه افتتاح الصلاة إليها ، فعلى ذلك يجب عليه أن يستقبل بركابه أو ببدنه جميعه القبلة فيكبر ثم يتوجه حيث توجه ركابه .
واستدلوا بحديث أنس المتقدم وفيه : ( استقبل بناقته القبلة فكبر ) قالوا : فهذا يدل على أن هذا الاستقبال فرض ؛ لأنه ثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيص الصلاة تنفلاً عن التوجه إلى القبلة في الراحلة في السفر ، فيبقى على الأصل من استقبال القبلة فيكون توجهه إذا كبر مبق لهذا الركن على الأصل .
- والرواية الثانية عن الإمام أحمد : أنه لا يجب عليه ذلك . وهذا أظهر ، فيحمل حديث أنس على الاستحباب ؛ لأنه فعل مجرد ، والفعل المجرد يدل على الاستحباب .
فإن قيل : فلم لم تحمله على الفرضية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصص هذا الركن بالتوجه إلى القبلة عن سائر الأركان وهو الأصل فوجب أن يبقى على الأصل ؟
__________
(1) تقدم قريبا .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 277 ) التطوع على الراحلة والوتر ( 1227 ) ، وأخرجه الترمذي في الصلاة ، باب الصلاة على الدابة حديث 351 ، سنن أبي داود [ 2 / 22 ] .(36/102)
فالجواب أن يقال : إنه لا فرق بين التكبير وغيره فالتكبير جزء من أجزاء الصلاة لا فرق بينه وبين غيره ، ولم يُذكر في حديث عامر بن ربيعة ولا في حديث عبد الله بن عمر ولا في حديث جابر ، وحيث لم يذكر فإنه يدل على أنه لم يفعل في تلك الأحاديث .
فإن قيل : لم لا تقيد تلك الأحاديث بحديث أنس ؟
فالجواب : إن الأفعال لا يقيد بعضها بعضاً ، فإن كل فعل حكاية عين وحكاية واقعة ، فهذا يحكي الواقعة التي رآها وهذا يحكي الواقعة التي رآها وهكذا .
وظاهر - ما ذكره(1) - من لم يذكرها أنها لم تقع من النبي صلى الله عليه وسلم .
فأظهر الروايتين عن الإمام أحمد أن ذلك لا يجب وهو الذي يقتضيه النظر والقياس فإنه لا فرق بين تكبيرة الإحرام وغيرها من سائر الأركان .
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم حيثما فعل ذلك : أنه كان نازلاً فركب راحلته ، وفي تلك الحال لا يشق أن يتوجه إلى القبلة فكبر متوجهاً إلى القبلة .
بخلاف ما إذا كان سائراً فإن هناك مشقة أن يقف فيستقبل القبلة ويكبر تكبيرة الإحرام .
ومعلوم أن من أحب أن يصلي ركعات كثيرة ، كمن له ورد من الليل ، فإنه على ذلك يحتاج أن يقف بعد كل ركعتين فيستقبل القبلة فيكبر ، إن صلى مثنى مثنى .
ففي هذا مشقة ظاهرة ، فالأولى ما تقدم وأنه ليس بواجب وهذا ما يقتضيه التخفيف والتسهيل في أمر النافلة ، فمعلوم أن هذا أسهل للمحافظة عليها .
وهذا هو أصل مشروعية التنفل على الراحلة غير مستقبل القبلة وإخراجها عن الأصل من إيجاب الركوع والسجود ومن استقبال القبلة ، وكذلك ما يكون في الحضر من كونه يصلي قاعداً – كل هذا من باب تخفيف وتسهيل أمر النافلة لتتم المحافظة عليها – والعلم عند الله تعالى .
قال : ( وماشٍ )
كذلك الماشي من باب القياس ، فلو كان ماشي في سفر فإنه يصلي حيث توجه .
__________
(1) كذا في الأصل .(36/103)
قالوا : لأن المعنى الموجود في الراكب موجود في الماشي فكل منهما يحتاج إلى أن يحافظ على النافلة ، وكل منهما إذا وقف للنافلة فصلاها نازلاً فإنه ينقطع عن السير وربما فاتت عليه صحبته ونحو ذلك – فكان الماشي في هذا الحكم كالراكب لا فرق بين الاثنين وهو أحد نوعي المسافر . فالمسافرون : إما ركباناً أو مشاة .
- وعن الإمام أحمد : أن الماشي لا يشرع له ذلك ولا يجوز ؛ لأن النص إنما ورد في الراكب وليس الماشي كالراكب ؛ لأنه يحتاج إلى مشي كثير ، والمشي الكثير مبطل للصلاة .
والأظهر هو القول الأول ، لأنا حيث أسقطنا عنه استقبال القبلة وحيث أسقطنا عنه الركوع والسجود ونحو ذلك من فرائض الصلاة ، فمثل ذلك أن يسقط عن الماشي ما هو من طبيعة سيره من المشي على قدميه فهذا أولى أن يسقط مما تقدم ذكره .
فالأظهر ما هو مشهور في المذهب من قياس الماشي على الراكب .
وحيث قلنا بوجوب استقبال القبلة عند الافتتاح ، فيجب عليه ذلك ، لذا قال :
( ويلزمه الافتتاح )
فهو في حكم الراكب .
وحيث قلنا أن الاستقبال عند الافتتاح لا يجب على الراكب فكذلك الماشي .
قال : ( ويلزمه الافتتاح والركوع والسجود إليها )
فلا يجوز له أن يومئ بل يجب عليه أن يقف فيركع ويسجد إلى القبلة ، لأنه يجب عليه الركوع والسجود – عندهم – وحيث وجب عليه فإنه لا حاجة إلى ألا يستقبل القبلة أي لا حاجة إلى إسقاط استقبال القبلة عنه .
- وعن الإمام أحمد رواية أخرى اختارها المجد بن تيمية أنه يومئ بالركوع والسجود كالراكب .
وهذا هو الراجح ، لأنا حيث قلنا بكونه يصلي وهو ماشي كان من الممكن أن يقف ، والركوع والسجود يتكرر في الصلاة .(36/104)
وحيث أمرناه بالوقوف والركوع والسجود في كل ركعة ، فإن ذلك سيؤدى إلى انقطاع سيره ، وسيلحقه شيئاً من المشقة ، فلا فرق – حينئذ – بين أن يؤمر فيقف فيصلي وبين أن يؤمر بأن يقف فيركع ويسجد ؛ لأن هذه الأفعال متكررة في الصلاة ، فالركوع والسجود وما بينهما هذا يأخذ أكثر من شطر الصلاة ، فيناقض ما هو المقصود من التخفيف والتسهيل في أمر النافلة .
فالأظهر : أنه يومئ بركوعه وسجوده وهذا كذلك الذي يقتضيه القياس على الراكب .
فالراجح : أنه لا يجب عليه الركوع والسجود ولا يجب أن يكون ذلك إلى القبلة ، بل أصل الركوع والسجود ليس بواجب ، فيكفيه أن يومئ إيماء عن الركوع والسجود ، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من إيمائه في الركوع .
فعلى ذلك : صفة صلاة الماشي أن يكبر للإحرام مستقبل القبلة استحباباً ثم يتوجه حيث شاء ثم يومئ بالركوع والسجود .
أما صفته على المذهب : فيجب أن يستفتح الصلاة تجاه القبلة ثم يتوجه حيث شاء ثم إذا حان الركوع والسجود يقف فيركع أو يسجد إلى القبلة – والصحيح خلاف ذلك كما تقدم – .
قال : ( وفرض من قرب من القبلة إصابة عينها ، ومن بعد جهتها )
فالقريب من القبلة الذي ليس بينه وبينها شاخص ولا ستر يغطي القبلة عنه يجب عليه أن يصيب عينها اتفاقاً فلا يكون مائلاً عنها ولو شيئاً يسيراً ، بل يجب أن يكون بدنه كله متوجهاً إلى عين الكعبة ، لأنه قادر على ذلك .
فإن لم يكن كذلك بل كان بينه وبينها ستر أو جدران ويشق عليه إصابة عينها – بخلاف الجدران التي في الحرم وما حوله فإنه لا يشق عليه أن ينظر فيتوجه إلى القبلة عيناً – أما حيث كان على خلاف ذلك – فالواجب عليه أن يصيب جهتها ، لذا قال :
( ومن بعد جهتها )(36/105)
وهذا باتفاق أهل العلم ، لما ثبت في الترمذي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين المشرق والمغرب قبلة ) (1)
فإن كنت من أهل المدينة فجعلت المشرق عن يسارك ، والمغرب عن يمينك فأنت متوجه إلى القبلة ، وإن كان هناك انحراف يسير فهذا لا يؤثر .
فالواجب أن يصيب جهتها ، لأن إصابة عينها متعذر .
وعندما يكون قريباً إلى الحرم فإنه يشق عليه أن يتقصد إصابة عينها وحيث كان كذلك فالمشقة تجلب التيسير وحيث تعذر ذلك فالعجز عن الواجب يسقطه .
قال : ( فإن أخبره ثقة بيقين أو وجد محاريب إسلامية عمل بها )
إن أخبره ثقة ممن يجب قبول خبره وهو العدل المكلف ذكر كان أو أنثى حراً كان أو عبداً – أخبره عن القبلة عن يقين لا عن اجتهاد ونظر – فيجب عليه أن يقبل خبره ؛ لأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد . وثبت في الصحيحين عن البراء قال : ( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن يتوجه قبل البيت ، وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر فصلى معه رجال ، فخرج رجل منهم فمر على أهل مسجد وهو راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل البيت فداروا كما هم قبل الكعبة ) (2) فقبلوا خبر الواحد .
أما إذا كان الخبر عن اجتهاد فإنه لا يجوز أن يقبل خبره – وهذا على المجتهد .
__________
(1) أخرجه الترمذي ، في كتاب الصلاة ، باب ( 139 ) ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة ( 342 ) ، ( 344 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد ، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق ( 7252 ) ، وفي كتاب الإيمان ، باب الصلاة من الإيمان ( 40 ) وفي كتاب الصلاة ، باب ( 31 ) التوجه نحو القبلة حيث كان ( 399 ) وفي أبواب أخرى ، وأخرجه مسلم ( 525 ) .(36/106)
فمن كان عارفاً بأدلة القبلة ، فسأل آخر فأخبره باجتهاد فلا يجوز له قبول خبره ، بل يجب أن يجتهد لأنه قادر على الاجتهاد ، والاجتهاد الأول – أي اجتهاد المخبر – قابل للصواب والخطأ ، فلا يجوز له إلا أن يجتهد فينظر وهذا باتفاق أهل العلم وأن المجتهد لا يجوز أن يقبل خبر المجتهد مثله .
بخلاف المقلد وهو غير العارف بأدلة القبلة – فإنه إذا لم يمكنه أن يتعلمها ودخل وقت الصلاة وتضايق الوقت فإنه يجوز له تقليد المجتهد .
أما إذا كان يمكنه أن يتعلم فيجب عليه أن يتعلم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
فإذا دخل وقت الصلاة وأمكنه أن يتعلم ما به يعرف القبلة فيجب عليه ذلك ولا يَقبل الاجتهاد .
أما إذا كان غير بصير ونحوه ممن لا يمكنه أن يتعرف على القبلة ويصل إليها فإنه يجوز له أن يقلد غيره .
( أو وجد محاريب إسلامية )
فإنه يصلي إليها ولا يجتهد لأنها – في الحقيقة – تجري مجرى الخبر بل أولى منه فإن وضعها عند هؤلاء المسلمين واستمرارها بعد ذلك تقطع بثبوت صحة اتجاهها إلى القبلة وإن كانت منحرفة يسيراً فهذا لا يؤثر كما تقدم . ولا يجوز له الاجتهاد في هذه الحالة .
قال : ( ويستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما )
القطب : هو ما يكون في ناحية الشمال ، فمن كان في مثل بلدنا هذه يتوجه إلى الجهة المغايرة له ، فيكون في ظهره .
فهذه أساليب وطرق الاجتهاد ، ومثل ذلك " البوصلة " .
إذن يبحث ويتحرى جهة القبلة سواء كان ذلك بالشمس والقمر ومنازلهما ، أو بالرياح واتجاهاتها ، أو كان ذلك بالنجوم ، المقصود من ذلك أن يجتهد وينظر ويتجه إلى القبلة بعد ذلك .
قال : ( وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهة لم يتبع أحدهما الآخر )
لأن كلاً منهما مجتهد والواجب على المجتهد أن يعمل بما تبين له ، وهو يعتقد صواب نفسه وخطأ غيره .(36/107)
فإن صلى إلى الجهة الأخرى مقلداً فلا تصح صلاته ، لأنه صلى إلى ما يعتقد أنه غير القبلة ، فهو يعتقد أن القبلة في الناحية الأخرى – وهو من أهل الاجتهاد - ، لأنه توجه إلى غير القبلة في اعتقاده .
لكن هل يقتدي أحدهما بالآخر أم لا ؟
قولان لأهل العلم :
1- القول الأول وهو مذهب الشافعية وهو المشهور في المذهب : أنه لا يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر .
قالوا : لأنه يعتقد خطأ اتجاهه ، وحيث كان يعتقد خطأ اتجاهه فلا يجوز أن يصلي خلفه .
2- وقياس المذهب كما قال ذلك الموفق : أن الصلاة صحيحة . وهذا هو الظاهر .
فالراجح أن الصلاة صحيحة إذا ائتم بعضهم ببعض ؛ لأن كلاً منهما يعتقد صحة صلاة الآخر .
وهذا كصلاة من يعتقد النقض بنقض [ من ](1) نواقض الوضوء خلف من لا يعتقد ذلك فإنه يعتقد خطأه في هذه المسألة ولكنه يعتقد صحة صلاته – وفي هذه المسألة كذلك ، وحيث اعتقد خطأه في اتجاهه لا يبرر ذلك عدم ائتمامه .
فالراجح : ما رجحه الموفق وقال إنه قياس المذهب من أن الائتمام صحيح ؛ لأن كلا منهما يعتقد صحة صلاة الآخر .
قال : ( ويتبع المقلد أوثقهما عنده )
ظاهره وجوباً وهذا هو المشهور في المذهب .
والقول الثاني في المذهب : أن ذلك ليس على هيئة الوجوب بل الأولى له أن يقلد الأوثق وليس ذلك واجباً عليه .
حجة أهل القول الأول : قالوا : إن هذا هو الأقرب للصواب ، فلما كان الأقرب للصواب وجب التزامه .
وحجة أهل القول الثاني : أن كليهما دليل بمفرده يجوز أن يقلد لو لم يعارض ، وحيث كانا كذلك فهما كالمجتهدين في المسائل الشرعية لا يجب على المقلد أن يقلد أوثقهما ولا أورعهما ؛ لأن الله لم يوجب ذلك ، بل أوجب عليه أن يسأل أهل العلم ولم يوجب عليه أن يسأل أعلمهما أو أوثقهما أو أورعهما ، وللمسلم أن يقلد من العلماء خلاف الأوثق ما لم يكن ذلك عن هوى وشهوة لعموم قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر }(2) وهذه كتلك .
__________
(1) ليست في الأصل .
(2) سورة الأنبياء 7 .(36/108)
وكون أحدهما أوثق لا يكون ملزماً بتقليده بل يدل على أن الأولى هو تقليده – وهذا هو اختيار الموفق وهو القول الظاهر في هذه المسألة – وأنه لو اختلف مجتهدان أحدهما أوثق من الآخر فكما لو اختلف عالمان أحدهما أوثق فلا يجب على المقلد أن يقلد الأوثق أو الأعلم بل يجوز أن يقلد أحدهما لعموم قوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
قال : ( ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده )
إذا صلى بغير اجتهاد وهو يمكنه الاجتهاد ، أو صلى بغير تقليد وهو واجد لمن يقلده ، فيجب عليه أن يعيد الصلاة ، لأنه قد ترك فرضه .
فمن هو من أهل الاجتهاد وصلى بلا اجتهاد أو هو من أهل التقليد فلم يكن منه ذلك – فلم يكن منهم فعل ما فرض الله عليهم من الاجتهاد أو التقليد فالواجب عليهم : أن يعيدوا الصلاة وإن أصابوا القبلة ، لأنهم تركوا الفرض مع الاستطاعة ، فإن الفرض هو التوجه إلى القبلة عن علم إما بتقليد عالم حيث لا يمكن الاجتهاد أو باجتهاد ونظر أو بخبر(1) متيقن – والحالة هنا ليست على هذه الصور فكان الواجب عليهم أن يعيدوا الصلاة .
فإذن : من صلى إلى غير القبلة أو إلى القبلة بغير اجتهاد وهو قادر عليه أو هو من أهل التقليد وهو قادر عليه ومع ذلك لم يقلد سواء أصاب أم لم يصب فيجب عليهم الإعادة ؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم والفرض عليهم من وجوب تحري القبلة والصلاة إليها .
وهم صلوا على هيئة التخمين والظن غير المشروع مع قدرتهم على الظن الغالب المشروع أو اليقين .
أما من صلى باجتهاد أو تقليد ولم يصب القبلة فصلاته صحيحة اتفاقاً ، لأنه قد فعل ما أمر به واتقى الله ما استطاع فلم يجب عليه أن يعيد الصلاة مرة أخرى وقد صلاها على الوجه المشروع حيث أمر الله تعالى .
__________
(1) في الأصل تكرار بخبر ، أو أنها : يخبر بخبر .(36/109)
ومثل ذلك : المجتهد إذا لم يمكنه الاجتهاد مطلقاً كأن يكون في غيم أو ليلة مظلمة شديدة الظلمة وهي مصحوبة بقتر أو غيم فلم يمكنه أن يجتهد فصلى على حسب حاله فصلاته صحيحة .
يدل على هذا : ما ثبت في الترمذي والحديث حسن بشواهده : عن عامر بن ربيعة قال : ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا ، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزل قول الله تعالى : { فأينما تولوا فثم وجه الله }(1) أي أقر الله تعالى صلاتهم وقبلها منهم لأنهم قد فعلوا ما أمر الله به وهذه هي استطاعتهم وقدرتهم ، فقد اتقوا الله ما استطاعوا فلم يجب عليهم أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى .
قال : ( ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول )
__________
(1) سورة البقرة ، وقد أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ( 140 ) ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم ( 345 ) قال : " حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا وكيع ، حدثنا أشعث بن سعيد السَّمَّان عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة ، فصلى كل رجل منا عل حياله ، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل { فأينما تولوا فثم وجه الله } ، قال أبو عيسى : " هذا حديث ليس إسناده بذاك لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان ، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يُضَعَّف في الحديث . وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى هذا قالوا : إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة فإن صلاته جائزة وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق " وقد أخرجه أيضا في كتاب تفسير القرآن ، باب ( 2 ) ومن سورة البقرة ( 2957 ) .(36/110)
فيجب عليه لكل صلاة أن يتحرى وينظر في أدلة القبلة فلو صلى بناءً على اجتهاده في الصلاة الأولى فلا تصح صلاته ، بل يجب أن يجدد اجتهاده ؛ لأن هذه الواقعة جديدة فيجب الاجتهاد لها . قال في الفروع : " في الأصح " .
وحيث قال ذلك : فإنه يدل على أن هناك قول آخر والقول الآخر هو الظاهر ، فالظاهر أن ذلك لا يجب ؛ لأنه قد اجتهد للصلاة الأولى وظن ظناً غالباً أن هذا هو اتجاه القبلة ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، إلا أن يتبين له أن اجتهاده كان خاطئاً أو أن شيئاً من النظر والبحث الذي فعله كان على خطأ فحينئذ : يجب عليه أن يجدد الاجتهاد .
( ويصلي بالثاني ) : أي يصلي بالاجتهاد الثاني ولا يعيد الصلاة الأولى لأنه صلاها عن اجتهاد صحيح وفعل ما أمر به .
ومثل ذلك : لو تبين له أثناء الصلاة – كما تقدم في الحديث المتفق عليه – فلو تبين في الصلاة أنه إلى غير القبلة فإنه ينحرف وما تقدم من الصلاة صحيح .
* وإذا اجتهد اجتهاداً ثانياً فناقض الاجتهاد الأول ، فإن هذا الاجتهاد الثاني لا ينقض الأول للقاعدة الشرعية : " الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد " فالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله وإنما ينقض بنص ، فهنا حيث اجتهد ثم رأى اجتهاداً آخر ، فإن الاجتهاد الآخر لا ينقض الأول فلا تبطل الصلاة لأنه قد صلاها على ما أمره الله به .
لذا قال : ( ولا يقضي ما صلى بالأول ) لأنه صلاها صلاة شرعية صحيحة باجتهاد صحيح ففعل ما أُمر به واتقى الله ما استطاع فلم يؤمر بإعادة الصلاة مرة أخرى .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثامن والستون
( يوم الثلاثاء : 9 / 3 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( ومنها النية )(36/111)
أي من شروط الصلاة النية ، وهي شرط بالإجماع ، لحديث : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )(1)
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم ( 54 ) فقال : " حدثنا عبد الله بن مسلمة قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الأعمال بالنية ، ولكل امرئ ما نوى ... ) الحديث .
في كتاب بدء الوحي ( 1 ) فقال رحمه الله : " حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير ، قال حدثنا سفيان ، قال حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع عَلْقَمَةَ بن وقاص الليثي يقول : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
ومسلم في كتاب الإمارة ( 1907 ) - شرح النووي المجلد الخامس [ 13 / 53 ] – قال : " حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى ، فما كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
حدثنا محمد بن رُمْح بن المهاجر أخبرنا الليث ح وحدثنا أبو الربيع العَتَكي حدثنا حماد بن زيد ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب يعني الثقفي ح وحدثنا إسحق بن إبراهيم أخبرنا أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان ح وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حفص يعني ابن غياث ويزيد بن هارون ح وحدثنا محمد بن العلاء الهَمْدَاني حدثنا ابن المبارك ح وحدثنا ابن أبي عُمر حدثنا سفيان ، كلهم عن يحيى بن سعيد بإسناد مالك ، ومعنى حديثه وفي حديث سفيان سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يُخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(36/112)
متفق عليه من حديث عمر . وهذا الحديث أصل لمسائل هذا الباب وغيرها من مسائل النيات .
فلا يقبل الله عملاً إلا بنية ، فالنية تمحض العمل أو تمحضه لله تعالى ، والنية أيضاً تميز العبادات بعضها عن بعض ، تميز الفريضة عن الفريضة ، والفريضة عن النافلة ، فالعبادات التي فيها نوع التباس أو بينها اختلاف فالنية تفارق بينها وتميز .
فمن صلى بلا نية فصلاته باطلة .
وهي شرط في الصلاة كلها لا يستثنى شيء منها .
فينوى من تكبيرة الإحرام إلى السلام ، فإذا اختل شيء من ذلك عن النية فالصلاة باطلة كما سيأتي .
وتقدم أن الفرق بين الركن والشرط ، أن الركن جزء العبادة ، أما الشرط فهو شامل للعبادة كلها .
قال : ( فيجب أن ينوي عين صلاة معينة )
فينوي صلاة الظهر أو العصر أو الوتر أو راتبة الفجر ونحو ذلك ، فينوي الصلاة معينة .
فلو أنه صلى أربع ركعات في وقت صلاة الظهر ولم ينو أنها ظهراً فلا يجزئه ذلك .
ولو صلى ركعتين قبل صلاة الفجر ولم ينو أنهما ركعتا الفجر لم يجزئه ذلك عنهما .
فلابد أن ينوي الصلاة معينة بحيث تتميز عن غيرها لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) فيشترط أن يعين الصلاة فرضاً كانت أو نفلاً .
- وظاهر هذا أنه لو نوى فريضة الوقت فإنه لا يجزئه .
بمعنى : رجل صلى في وقت الظهر ولم ينو ظهراً وإنما نوى أن هذه فريضة وقته .
وذهب بعض الشافعية : إلى الإجزاء وهو الظاهر لأنه حيث نوى ذلك فقد نوى ما يجب عليه .
فإنه إذا نوى الصلاة الحاضرة ، فإنها في الحقيقة هي صلاة الظهر مثلاً ، فحيث نوى ذلك فإنه تقع العبادة على ما يجب عليه فقد نوى فريضة الوقت وهي الظهر فيجزئه ذلك .
وهذا ما يقع كثيراً حيث أن الصلوات لتكرارها قد يذهل الذهن عن استحضار الصلاة الحاضرة فينوي فريضة الوقت ، فإن ذلك على الراجح – يجزئه ؛ لأنه قد ميز هذه العبادة عن غيرها من العبادات المماثلة لها ، حيث أنها فريضة الوقت وغيرها ليست كذلك .(36/113)
قال : ( ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن )
فلا يشترط في الفرض أن ينويه ، كيف هذا ؟
عندما يريد أن يصلي الظهر فلا يشترط أن ينوي أن هذه فريضة بل بمجرد ما ينوي أن هذه الظهر فهذا كاف ، فإن كان بالغاً فلا يجب عليه أن ينوي أن هذه فريضته ، وإذا كان غير بالغ فلا يجب عليه أن ينوي أن هذه نافلته ؛ لأنه بمجرد نيته أنها ظهر اليوم هذا كاف في تمييز هذه العبادة عن غيرها ، ولكل امرئ ما نوى ، وهذا قد نوى الصلاة الحاضرة سواء كانت على حسب حاله فرضاً أو نفلاً .
فلا يجب ذلك لأنهما عير مؤثرين في تمييز العبادة ، فهي متميزة من غير ذلك .
وكذلك نية الأداء والقضاء .
فالأداء هو : القيام بالصلاة في وقتها .
وأما القضاء : فهو القيام بها بعد خروج وقتها .
فإذا صلى الصلاة في وقتها فلا يجب عليه أن ينويها أداء ، وإذا صلاها بعد وقتها فلا يجب عليه أن ينويها قضاءً ، لأن هذا غير مؤثر في تمييز العبادة ، فالعبادة متميزة من غير نية الأداء ولا نية القضاء .
وعليه : فلو أن رجلاً صلى صلاة الفجر يظن الشمس لم تطلع فبان أنها قد طلعت وأن صلاته كانت قضاء وهو قد نواها أداءً .
أو رجل يظن أن الشمس قد طلعت فصلاها والشمس لم تطلع في الحقيقة وكان قد نواها قضاء وهي في الحقيقة أداء ؛ لأن الوقت باق ، فإن هذا لا يؤثر في صلاته بل تكون الصلاة صحيحة فنية القضاء والأداء غير مؤثرة لأن النية قد ميزت هذه العبادة ، فنيته أنها صلاة الفجر قد ميزت العبادة ولا فرق بين أن يكون أداءً أو قضاءً .
" والإعادة " رجل صلى الصلاة وقد اختل شيء من شروطها فكانت باطلة فوجب عليه أن يعيد الصلاة ، فإذا أعاد فلا يجب أن ينوي الإعادة بل يكفي أن ينوي الصلاة الواجبة عليه ؛ لأنه بذلك تتميز عبادته ، فنيته أنه يصلي الصلاة الواجبة عليه وحيث نوى ذلك فإن العبادة تقبل منه لأنها مميزة بذلك .(36/114)
والمقصود من النية هو تمييز العبادة وهي هنا مميزة من غير نية الإعادة .
مسألة :
إذا نوى فائتة من الفوائت في وقت نظيرتها فبان ألا فائتة عليه فهل تجزئه عن فريضة اليوم ؟
يعني : رجل صلى قبل أن يصلي المغرب صلى مغرباً على أنها فائتة فبان ألا فائتة عليه ، فهل تجزئه هذه الصلاة عن فريضة الوقت أم لا ؟
قولان في المذهب :
القول الأول : أن الصلاة تجزئه ؛ لأنه قد نوى صلاة معينة ، وحيث نوى صلاة معينة فإن ذلك يجزئه عن فريضة الوقت وفريضة اليوم .
القول الثاني ، وهو القول الراجح : أن هذه الفائتة لا تجزئه عن فريضة اليوم ، لأن الواجب عليه هو تعين الصلاة الحاضرة ولم ينوها بل قد نوى صلاة فائتة ولكل امرئ ما نوى .
فإذن : من نوى فائتة فتذكر ألا فائته عليه وكانت موافقة عن فريضة اليوم فهل تكفي عن فريضة اليوم أم لا ؟ قولان : أظهرهما أنها لا تكفي ؛ لأن الواجب عليه أن ينوي الصلاة الحاضرة فريضة اليوم بعينها وهو إنما نوى مماثلاً لها وهذا غير كاف ، فالواجب عليه هو فريضة اليوم ولم ينو ذلك ولكل امرئ ما نوى .
قال : ( وينوي مع التحريمة )
هذا هو الواجب عليه ، فينوي فيكبر أي تكون النية قبيل تكبيرة الإحرام فتكون – حينئذ – النية شاملة للعبادة كلها . وقد تقدم أن الشرط يجب أن يكون شاملاً ، وحينئذ تكون النية شاملة لتكبيرة الإحرام .
ولكن إن قدمها قبل ذلك بيسير قال هنا :
( وله تقديمها عليها بزمن يسير في الوقت )
فلو قدم النية على التكبيرة بزمن يسير عرفاً فإن هذه النية تجزئ عنه .
- وهنا قول آخر هو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه ولو كان ذلك زمناً كثيراً ما لم يقطع النية ، فما دام أنه مستصحباً للنية لم يقطعها فإن ذلك يجزئ عنه .
فإذا خرج من بيته وهو يريد المسجد فخرج قبل الصلاة بزمن كثير فلم يقطع النية فإن الصلاة تصح بهذه النية – وهذا القول هو الراجح – .(36/115)
وهذا هو الذي يسع الناس ، فمتى خرج من بيته إلى المسجد سواء كان قبل الصلاة بزمن يسير عرفاً أو كثير عرفاً ولم ينو قطع النية فإن هذه النية تجزئه ، لأن النية ثابتة باقية وقد نواها فلم يقطعها فتكون كافية لصلاته .
إذن : لا يشترط الزمن اليسير للنية عرفاً بل لو قدمها قبل الصلاة بزمن كثير عرفاً لكنه لم يقطع هذه النية فإن هذا كاف مع نيته ، لأن النية باقية والواجب أن تكون شاملة للصلاة ، وقد شملتها لأنه لم يقطع هذه النية ، فعدم قبول هذه النية وإبطال الصلاة بمثلها باطل ؛ لأن النية باقية فلم يقطعها ، وليس ثمت دليل يوجب أن تتقدم بزمن يسير أو تكون مقارنة للتكبير بل متى نوى ولم يقطع فإن ذلك مجزئ .
قال : ( فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد بطلت )
إن قطعها أثناء الصلاة ، كأن يصلي رجل وهو في صلاته قطع النية ، أو تردد أي قال : هل أقطع الصلاة أم لا ، فهو لم يقطع النية لكنه تردد ، وهناك جزم .
إذن هنا صورتان .
وأصل هذه المسألة : أنه يجب عليه أن يستصحب حكمها ، واستصحاب حكمها ألا ينوي قطعها ، فإذا نوى قطعها فإن الصلاة تبطل .
أما إذا تردد فقولان في المذهب :
القول الأول : هو هذا ، وأنه متى تردد فإن الصلاة تبطل ؛ لأن التردد يخالف الجزم الواجب ، والنية يجب أن تكون جازمة ، ويجب عليه أن يكون مستديماً للنية ، وما دام متردداً فليس بمستديم لها .
والقول الثاني في المذهب : أن ذلك ليس بمبطل للصلاة ؛ ذلك لأنه قد نوى نية متيقنة واستصحب حكمها وتردد ولم يقطع ، فهو لم يقطع ومجرد تردده ليس بقطع ، وإن نافى الجزم فإنه لم يبطل النية الجازمة .
فإنه قد نوى نية متيقنة جازمة في أول صلاته ثم كان الواجب عليه أن يستصحب حكمها بأن لا ينوى قطعها فهو ما لم ينو القطع فهو مستصحب للحكم ، وهذا التردد خارج عن النية ، فالنية ما زالت مستصحبة وإنما وقع تردد في قلبه هل يبطل هذه النية أم لا .(36/116)
بخلاف التردد في أول الصلاة فإنه لم يدخل بنية متيقنة فلا تصح ؛ لأن النية غير مجزوم بها .
وهذا القول هو الأظهر : وأنه إن تردد تردداً مجرداً عن نية القطع فإن الصلاة تكون صحيحة ، ومثل ذلك الصيام وغيره من الأحكام التي يجب أن يكون مستصحباً للنية حكماً بألا ينوي القطع .
بخلاف فالو قال : قطعت الصلاة ، ثم قال : لا بل أبقى - أي في قلبه - ، فإن هذا قطع ، فهذا التردد ليس كالسابق ، بل هذا قطع ، فإذا فعل مثل ذلك فهذا باطل وليس هو المقصود فيما تقدم .
قال : ( وإن شك فيها استأنفها )
رجل في أثناء الصلاة [ شك ](1) هل نوى أم لا ؟ فحينئذ يجب عليه أن يعيد الصلاة فينوى ويكبر ، لأنه وهو في أثناء الصلاة قد شك في نيته والأصل عدم النية ، ولما وجد الشك ثبت لنا الحكم بأنه لا نية له ؛ لأن الأصل هو عدم النية وحيث شك فإنا نعود إلى الأصل ، هذا ما لم تكثر الشكوك والوسوسة في الصلاة .
فإن كثرت الشكوك والوسوسة فإنه حينئذ : لا يحكم له بذلك ، لأن الأصل هو بقاء النية لا عدمها .
فإن شك بعد الصلاة فلا يؤثر ذلك إجماعاً ؛ لأن الصلاة قد ثبتت صحيحة فلا يؤثر فيها الشك ، واليقين لا يزول بالشك ، فإن الأصل هو ثبوتها وصحتها ما لم يثبت مبطل لها ، وهذا المبطل مشكوك فيه فنبقى على الأصل من صحة الصلاة وهذا بالإجماع .
إذا شك في نيته في أثناء الصلاة ثم تذكر أثناء الصلاة أنه قد نوى الصلاة ؟
فهذا لا يؤثر في صلاته بل يتمها ، لأنه لم ينو قطعها ، والنية ثابتة وحكمها مستصحب لكنه شك في ثبوتها ، فمثل هذا لا يؤثر في النية ، لأنه لا يجب أن تكون النية متذكرة في الذهن ، وإنما الواجب ألا يكون قد نوى قطعها .
فإذا غابت عن ذهنه فأداه ذلك إلى الشك فتذكرها بعد شكه قبل أن ينوى القطع فإن ذلك لا يؤثر فيها .
قال : ( وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز )
__________
(1) ليست في الأصل .(36/117)
" منفرد " : ومثله المصلي مطلقاً ولعل هذا للتمثيل ، فإن في عبارة بعضهم " مصل " أي سواء كان هذا المصلي إماماً أو مأموماً أو منفرداً ، وإنما نص على المنفرد ؛ لأنه في الغالب هو الذي يحتاج إلى قلبها لأنه قد تحضر جماعة فيحتاج إلى أن ينقطع من صلاته هذه ويدخل مع الجماعة فيؤديها جماعة .
ولئلا يبطل عمله ، فإنه يقلب فريضته هذه إلى نفل .
والظاهر أن مرادهم : نفل مطلق لتعليلهم ، فإنهم قالوا في تعليلهم هذه المسألة : بأن نيته الأولى شاملة للنفل فهي نية فريضة لكنها شاملة للنفل أيضاً حيث أنه إذا صلى الفريضة فإنه ينوي أنها صلاة وأنها صلاة فرض أو أنها ظهر فيقوم مقام النية أنها فرض .
فالذي يصلي الفريضة يجتمع في نيته شيئان أنها صلاة وأنها فرض .
فإذا ألغى الفريضة وقطعها بقى أصل الصلاة له ، وهذا هو المشهور في المذهب ، وأن من نوى قلب فريضته نفلاً - والظاهر أنه نفل مطلق لإطلاقاتهم ولتعليلهم ، لأن النفل المقيد ليس بصلاة فقط بل هو صلاة مقيدة ، فكما أن الفريضة صلاة مقيدة بكونها فرض ، فالنفل المقيد صلاة مقيدة بكونها مثلاً راتبة ظهر ونحو ذلك ، فهي صلاة مقيدة فلم يتضمنها نية الفريضة .
إذن : المشهور في المذهب أن من قلب فريضة إلى نفل - والظاهر أنه مطلق - فإن ذلك يصح منه .
- والقول الثاني في المذهب وهو وجه عند الشافعية : أنه لا يجزئه ذلك ؛ لأن الواجب في العبادة فرضاً كانت أو نفلاً أن تكون النية من أولها إلى آخرها وهنا لم ينو من أولها .
ولكن هذا القول مع قوته هو ظاهر حيث كان التنفل مقيداً .
أما إذا كان مطلقاً فإن نية الفريضة شاملة لنية النفل ، فإنه إذا كبر بنية الفريضة فإن هذا شامل لكونها صلاة ولكونها فريضة ، فإذا نوى النفل إلى مطلق الصلاة فإنه يبقى على النية الأولى .(36/118)
ومع ذلك في القول الثاني قوة فينبغي التريث في مثل هذه المسألة من نقل الفريضة إلى نافلة ، وأن يتم صلاته فريضة على هيئتها ، فإن هذه النية وإن كانت متضمنة لكونها صلاة ، لكنها هنا صلاة مطلقة وهناك صلاة بقيد أنها فريضة ، وفرق بين نية الفريضة ونية النافلة . والعلم عند الله تعالى .
قال : ( وإن انتقل بنية من فرض إلى فرض بطلا )
كأن ينوي الانتقال من فريضة العصر إلى فريضة الظهر فلا يجزئ ذلك ؛ وذلك لأن النية يجب أن تكون شاملة لأول الصلاة وآخرها وهو قد قلبها في آخر الصلاة فلم تكن شاملة لأول الصلاة كما شملت آخرها ، والواجب فيها أن تكون شاملة لأولها وآخرها .
فلم تصح الثانية ؛ لأن الواجب في الصلاة أن تكون نية الظهر من أول الصلاة إلى آخرها ، وهو لم ينوها ظهراً إلا آخر الصلاة .
وكذلك الأولى لا تصح ؛ لأنه أبطلها بقطعها لذا قال " بطلا "
أما الفرض الأول فإنه بطل لأنه قطعه .
وأما الثانية فإنها بطلت ؛ لأن النية فيها لم تكن شاملة لها من أولها .
والأولى ألا يُعبَّر لها بالبطلان لأنها لم تنعقد أصلاً ، فهذه الصلاة لم تنعقد أصلاً حتى يحكم لها بالبطلان ، ولكن لعل هذا من باب التغليب مع الحكم على الفريضة الأولى .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس التاسع والستون
( يوم الأربعاء : 10 / 3 / 1415 هـ )
قال المؤلف رحمه الله : ( وتجب نية الإمامة والمأموم(1) )
فشرط في صحة الصلاة نية الإمام والمأموم سواء كانت الجماعة فرضاً كالفرائض الخمس أو نفلاً كصلاة التراويح ونحو ذلك .
فيجب ويشترط أن ينوي المأموم الائتمام والاقتداء ، وأن ينوي الإمام الإمامة – هذا هو المشهور في المذهب .
وعليه : إن لم تثبت النية فالصلاة باطلة .
- والقول الثاني في المذهب : أن الصلاة صحيحة فراداً ، فلا يكون لهم أجر الجماعة ، ويأثمون على أنهم صلوا فرادى .
__________
(1) وفي نسخة للزاد : " والائتمام " بدل : " المأموم "(36/119)
فعلى ذلك تكون هذه النية شرط في صحة الجماعة فتصح الصلاة دون الجماعة .
وحجة ما ذهب إليه أهل القول الأول : ما يترتب على الجماعة من الأحكام فيترتب عليها ترك سجود السهو للمأموم ، ووجوب المتابعة وسقوط الفاتحة – على المذهب – على المأموم ، فلما كان ذلك كانت شرطاً في صحة الصلاة ، فحيث لم ينو الإمامة أو الائتمام فالصلاة باطلة .
والقول الراجح هو القول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية ، فالراجح أن نية الإمام والمأموم شرط في صحة صلاة الجماعة ، فتصح الصلاة ؛ لأنها قد توفرت فيها أركانها وواجباتها وإنما يترتب عليها ما ذكروه من الأحكام المتقدمة حيث شرع في النية ، فإذا دخل المأموم بنية الائتمام فترتب عليه تلك الأحكام وحيث لم ينو ذلك فإن الأحكام لا يثبت فيها شيء من ذلك ، فهي إنما ثبتت حيث تعلقت صلاتهما ببعضهما وذلك إنما يكون بالنية وحيث لا نية فلا ارتباط ولا تعلق – وحينئذ تثبت لهم فرادى .
وإنما لم نقل ببطلان الصلاة لأنها قد ثبتت على الوجه الشرعي الذي يطالب به المكلف .
ويجب عليه أن يصليها جماعة بنية الجماعة والائتمام ، وحيث لم يفعل ذلك فإنها تصح لكنها تصح على أنهم فرادى لا على أنهم جماعة .
فعلى ذلك : لو دخل في الصفوف ولم ينو الائتمام بل نوى أن يصلي فرداً وإن كان ظاهر صلاته المتابعة فإن صلاته تصح .
قال : ( وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح كنية إمامته فرضاً )
هنا ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : أن ينوي الإمامة وقد كان منفرداً وكان ذلك في نفل – كالتراويح – .
المسألة الثانية : أن ينوي الإمامة في الفرض .
مثال : رجل منفرد يصلي صلاة الظهر فدخل معه أحد أثناء الصلاة ، فهل يقلب نيته إلى إمام بعد أن كان ناوياً الانفراد أم لا ؟
المسألة الثالثة : أن ينوي الائتمام أثناء صلاته منفرداً فرضاً أو نفلاً .
مثال : رجل يصلي منفرداً فحضرت جماعة فهل له أن ينوى الائتمام معهم فيصلي جماعة معهم أم لا ؟(36/120)
وإنما جعلت هذه مسألة مع أنه يمكن أن تقسم إلى مسألتين لأن الحكم فيها – على المذهب – واحد .
أما المسألة الأولى :
- فالمذهب على القول بصحتها ، وهي ما إذا نقل صلاته من منفرد إلى إمام أو من مأموم إلى إمام ، فالمذهب على القول بصحتها .
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس في بيتوته عند خالته ميمونة وفيه : أنه قال ( فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ، فقمت لما رأيته صنع ذلك فتوضأت من القربة ثم قمت إلى شقه الأيسر )(1) الحديث – فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه ، و النبي صلى الله عليه وسلم هنا قد نقل نيته من نية الانفراد إلى نية الإمامة .
لذا قال هنا المؤلف : ( لم تصح كنية إمامته فرضاً ) وظاهره أنه إذا نوى الإمامة في الصلاة نفلاً فإنها تصح .
أما المسألة الثانية :
فهي أن ينقل صلاته إلى صلاة جماعة من منفرد إلى إمام في صلاة فريضة :
فالمشهور في المذهب : أن هذه النية لا تصح ، لأن هذه النية لم تشمل أول الصلاة .
والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وصححه الموفق : أن نية الإمامة تصح هنا قياساً على النفل ، والأصل أن ما يثبت نفلاً فهو ثابت فرضاً إلا بدليل يدل على التخصيص ، والأعمال بالنيات في الفرائض والنوافل ، فهنا لما صحت في النافلة فالأصل أنها تصح في الفريضة إلا أن يدل دليل على ذلك ، ولا دليل على تخصيص النافلة في هذا الحكم .
وهذا القول الراجح وأنه في الفريضة يجوز له ذلك .
أما المسألة الثالثة :
فهي في نية الائتمام :
- فالمذهب أن ذلك لا يجوز ولا يصح سواء كانت الصلاة فرضاً [ أم نفلاً ](2).
مثال : رجل منفرد فنوى الائتمام أثناء الصلاة فلا يصح ذلك سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً .
والعلة ما تقدم وهي أنه لم ينو الائتمام من أول الصلاة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب التخفيف في الوضوء ( 138 ) ، وفي أبواب أخرى ، وأخرجه مسلم ( 763 ) .
(2) ليست في الأصل .(36/121)
- والقول الثاني في المذهب وهو رواية عن الإمام أحمد : أن هذا الفعل يصح ؛ لأنها نقل من الانفراد إلى الجماعة ، فأشبهت النقل إلى الإمامة .
تقدم أن النقل إلى الإمامة جائز فرضاً ونفلاً والأدلة تدل عليه ، فهو نقل من الانفراد إلى الجماعة .
وهنا كذلك نقل إلى الجماعة من الانفراد إلى الائتمام ، فإذا ثبت جواز نقل المنفرد صلاته إلى إمام ليصلي جماعة ، فكذلك نقله صلاته إلى مأموم ليصلي جماعة ، لا فرق بينهما .
وهذا القول الراجح .
فالراجح في هذه المسائل كلها أنه يصح أن ينقل المنفرد صلاته إلى صلاة جماعة سواء كان ذلك بنية الإمامة أو الائتمام وهو قول في المذهب .
قال المؤلف : ( إن نوى المنفرد الائتمام لم تصح )
ظاهره فرضاً ونفلاً ، هذا ظاهر الإطلاق .
" كنية إمامته فرضاً "
وظاهره أنه لو نواها نفلاً فإنه يصح .
قال : ( وإن انفرد مؤتم بلا عذر بطلت )
إذا كان رجل يصلي مأموماً ثم فارق إمامه .
هو عندما صلى مأموماً فقد تعلقت صلاته بصلاة إمامه حيث نوى ، فهنا فرق بين هذه المسألة ، والمسألة السابقة .
فالمسألة السابقة : صلى بلا نية الائتمام ، أما هنا فقد نوى الاقتداء بالإمام ثم فارق إمامه فما حكم ذلك ؟
له حالتان :
1- أن يفارق المأموم لعذر ، فالصلاة تصح .
والعذر : ما يباح له ترك الجماعة كأن يخشى فوات رفقة أو ضياع مال أو نحو ذلك فيفارق الإمام ويتم صلاته منفرداً .
ودليل ذلك : ما ثبت في الصحيحين : أن معاذاً صلى بأصحابه العشاء فافتتح البقرة فتأخر رجل من أصحابه فصلى وحده فقيل له : نافقت يا فلان ، فقال : ما نافقت لآتين النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( أفتان أنت يا معاذ )(1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب من لمير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا ( 6106 ) ، راجع ( 700 ) ، وخرجه مسلم 465 .(36/122)
فهنا طرأ عليه العذر وهو إطالة الإمام وهو في صلاة العشاء وكانوا يعملون بأعمال فيكون ذلك متعباً لهم فيكون في ذلك مشقة وحرجاً ففارقه وأجاز له النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالإعادة .
2- أن يفارقه بلا عذر : فإنها تبطل لأنه فارق الإمام .
ومفارقة الإمام ترك لواجب ، ومن ترك واجب عمداً بلا عذر فإن الصلاة تبطل ، أما إن كان عاجزاً فيسقط عنه ، وإن كان ساهياً فيجبره بسجود سهو .
قال : ( وتبطل صلاة مأموم بصلاة إمامه فلا استخلاف )
فيه أن صلاة المأموم تبطل بصلاة الإمام مطلقاً بعذر أو غير عذر ؛ لأن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام .
فنية الائتمام تربط صلاة المأموم بصلاة إمامه فيحمل عنه سجود السهو ، ويسقط الفاتحة وهناك أحكام كثيرة تترتب على ذلك فهي مرتبطة بها ، وحيث كان ذلك فإنها تبطل ببطلانها ، وهنا فلا استخلاف ؛ لأن صلاة المأمومين باطلة ، والاستخلاف إنما يبنى على الصحة ، وحيث كانت باطلة فلا استخلاف .
والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية : أن صلاة المأموم لا تبطل بصلاة إمامه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطؤوا فلكم وعليهم ) (1) .
ثم إن هذا المأموم قد قام بما يجب عليه من الائتمام وبما يجب عليه من فرائض الصلاة وواجباتها فلا دليل على إبطال صلاته .
وعليه : فيتمون صلاتهم فرادى ، وللإمام أو لهم أن يستخلفوا خلافاً للمذهب أيضاً .
كما ثبت في البخاري : ( أن عمر بن الخطاب لما طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فأتم بهم الصلاة ) (2) فهنا قد استخلف عمر عبد الرحمن بن عوف وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر ذلك فكان حجة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب إذا لم يُتم الإمام وأتم من خلفه ( 694 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة ، باب قصة البيعة ( 3700 ) ، وراجع ( 1392 ) .(36/123)
وعلى ذلك : فإن المأمومين يتمون صلاتهم إما فرادى ، ولهم – كذلك – وهو الأولى أن يستخلفوا ، إما بأن يستخلف الإمام من يتم الصلاة ، وإما بأن يتقدم أحد منهم فيتم الصلاة بهم – هذا هو القول الراجح في المذهب .
فالقول الراجح : أن صلاة المأموم مرتبطة متعلقة بصلاة الإمام ، لكن له أن يفارقه حيث كان معذوراً كما تقدم فإنه من المعلوم أن المأموم – وهو الذي دلت عليه السنة – يفارق الإمام حيث كان معذوراً ، وهنا هو معذور عن متابعة الإمام ، فالإمام قد بطلت صلاته وهو معذور حيث انفرد وفارق وصلى وحده ، فكما أنها انقطعت العلاقة بينهما في الصلاة حيث كان معذوراً ففارق إمامه ، فهنا أولى .
قال : ( وإن أحرم إمام الحي بمن أحرم بهم نائبه وعاد النائب مؤتماً صح )
يعني : رجل له نائب في المسجد ، فصلى النائب فحضر الإمام فتقدم الإمام وتأخر النائب ، فكان أن أحرم إمام الحي وهو الإمام الراتب ، بمن سبق أن أحرم بهم نائبه ، فذلك يصح .
فهنا : أتى الإمام الراتب فنوى الإمامة فهذا صلاته لا إشكال فيها لأنه من أول الصلاة قد نوى الإمامة – أي على المذهب لا إشكال في ذلك – .
وانتقل الإمام إلى مؤتم ، فيتحول النائب من نية الإمامة إلى نية دونها وهي نية الائتمام ، والاقتداء لمصلحة راجحة وهي ثبوت صلاة الإمام الراتب .
ودليله : ما ثبت في الصحيحين في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وفيه : ( فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر ) (1) لأنه هو القائم الظاهر لهم .
فهذا فعله والأصل عدم خصوصيته وإلحاق غيره به .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 47 ) من قام إلى جنب الإمام لعلة ( 683 ) . وأخرجه مسلم ( 418 ) مطولا .(36/124)
فمتى كان إماماً راتباً فتقدم وتأخر النائب ، فالصلاة صحيحة ؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، والأصل هو عدم الخصوصية .
والحمد لله رب العالمين .
انتهى باب شروط الصلاة .
ويليه باب صفة الصلاة .(36/125)
باب صفة الصلاة
الدرس السبعون
( يوم السبت : 20 / 3 / 1415 هـ )
" صفة الصلاة "
أي كيفيتها الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في ذلك الصفة المجزئة والصفة المستحبة .
والأصل في هذا الباب ما ثبت في البخاري من حديث مالك ابن الحويرث وفيه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )(1) ويستحب أن يمشي إلى الصلاة بسكينة ووقار. لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) (2) فهذا الحديث فيه أن المستحب أن يمشي بسكينة ووقار .
والسكينة : هي التأني بالحركات وعدم العبث .
والوقار : هو أن يكون بسمت حسن من غض للبصر ونحو ذلك ، وأكد ذلك بقوله ( ولا تسرعوا) فيكره الإسراع إلى الصلاة أو أن يمشي إليها بغير وقار ، بل ينبغي أن يتصف بالتأني المنافي للإسراع ، والوقار الذي ينبغي أن يتصف به العاقد إلى الصلاة .
وهذا الحديث عام في كل حال سواء كان إسراعه يفيده إدراكاً لتكبيرة الإحرام ، أو إدراكاً للركعة أو إدراكاً للجماعة ، فإنه لا يسرع الإسراع بل المستحب التأني مطلقاً .
وقد نص الإمام أحمد على أنه إذا كان يرجو إدراك تكبيرة الإحرام فإنه لا بأس بالإسراع غير القبيح .
وذهب بعض أهل العلم : إلى أنه لا بأس بالإسراع إذا كان لإدراك ركعة .
وذهب بعضهم : إلى أنه لا بأس بالإسراع إذا كان يدرك الجماعة .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة ، وكذلك بعرفة وجمع ( 631 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة ، باب المشي إلى الجمعة ( 908 ) ، وفي كتاب الأذان ، باب قول الرجل فاتتنا الصلاة ( 635 ) ، وباب لا يسعى إلى الصلاة وليأت بالسكينة والوقار ( 636 ) . وأخرجه مسلم ( 603 ) .(37/1)
والصحيح أنه لا يشرع الإسراع مطلقاً ، ودليل هذا ما ورد في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى صلاة فهو في صلاة ) (1) فدل ذلك على أن المشي إلى المساجد صلاة ، ولا يشرع في هذه الصلاة إلا أن يمشي بسكينة ووقار سواء كان يدرك بإسراعه تكبيرة الإحرام أو لا ، وسواء كانت تفوته الجماعة إن لم يسرع أو لا تفوته .
فالعلة – من عدم الإسراع - هي أنه في صلاة فلا يشرع له أن يسرع .
قال رحمه الله : ( يسن القيام عند " قد " من أقامها )
أي عند قوله : ( قد قامت الصلاة ) كما صرح بذلك صاحب المغني وغيره – وهذا إذا كان الإمام في المسجد يراه المأمومون .
هذا هو المشهور في المذهب – قالوا : لأن قوله ( قد قامت الصلاة ) خبر بمعنى الأمر ، أي قوموا إليها وانتصبوا قائمين لأدائها ، وهذا المشهور في المذهب وهو مروي عن ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق(2) ، وعن أنس كما عند ابن المنذر(3) .
والمذهب الثاني : أن المشروع أن يقوم إذا انتهى المقيم من إقامته ، وهذا مذهب الشافعية(4) .
والقول الثالث ، وهو مروي عن طائفة من التابعين كعمر بن عبد العزيز وسالم بن عبد الله بن عمر والزهري : أن المشروع أن يقوم عند أول شروع المقيم بالإقامة .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا ( 602 ) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ، باب قيام الناس عند الإقامة ، برقم ( 1940 ) [ 1 / 506 ] قال عبد الرزاق : عن إبراهيم بن محمد ، عن محمد بن عبيد الله ، عن عطية قال : كنا جلوساً عند ابن عمر فلما أخذ المؤذن في الإقامة قمنا ، فقال ابن عمر : اجلسوا فإذا قال : قد قامت الصلاة فقوموا " .
(4) قال في المنهاج : " ولا يقوم حتى يفرغ المؤذن من الإقامة " ، مغني المحتاج [ 1 / 500 ] .(37/2)
وهذه المسألة الباب فيها واسع ، ولكن مع ذلك – فيما يظهر – الأولى أن يقوم عند أول شروعه بالإقامة ؛ ذلك لعدة أوجه .
الوجه الأول : أن هناك إشارات إلى هذه المسألة في بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك : ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة : ( أن الصلاة تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه ) (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 24 ) هل يخرج من المسجد لعلة ( 639 ) ، وباب ( 25 ) ، وفي كتاب الغسل ، باب ( 17 ) إذا ذكر في المسجد أنه جنب ، ( 275 ) عن أبي هريرة قال : " أقيمت الصلاة وعُدّلت الصفوف قياما ، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قام في مصلاه ، ذكر أنه جنب فقال لنا : ( مكانكم ) ثم رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر ، فكبّر فصلينا معه " ، وأخرجه مسلم ( 605 ) .(37/3)
و النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بعد الإقامة أن يستووا ويعتدلوا ، كما وردت الأحاديث في هذا ، ومعلوم أنهم لو قاموا عند قوله ( قد قامت الصلاة ) أو بعد انتهاء الإقامة لما كان ذلك كافياً لأن يسووا صفوفهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه ، بل الظاهر أنهم كانوا يقومون عند شروع المؤذن بالإقامة أو عند رؤيتهم الإمام وهو يأتي لإقامة الصلاة ، وأن هذا هو الوقت الكافي لأن يأخذوا مصافهم حيث كان يأمر بتسوية الصفوف بعد إقامة الصلاة ، فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال : ( أقيمت الصلاة فأقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه وقال : ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ) (1) .
فهنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بتسوية الصفوف بعد الإقامة ، وفي الحديث السابق كانوا يقومون ويسوون الصفوف قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه ، فيبعد أن يكون قيامهم عند انتهائه ، وأظهر منه أن يكون ذلك عند قوله ( قد قامت الصلاة ) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 71 ) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها ( 718 ) بلفظ ( أقيموا صفوفكم فإني أراكم خلف ظهري ) ، وفي باب ( 72 ) إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف ( 719 ) بلفظ : أقيمت الصلاة ، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه ، فقال : ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من رواء ظهري ) . وأخرجه مسلم ( 434 ) .(37/4)
2- ويقوي هذا - وهو الوجه الثاني - : ما رواه عبد الرزاق في مصنفه إلى الزهري بسند صحيح قال : ( كان الناس ساعة يقول المؤذن ( الله أكبر ، الله أكبر ) يقيم الصلاة يقومون فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم مقامه ثم تُعدل الصفوف ) (1) .
الوجه الثالث : أن المعنى الذي ذكره الحنابلة في لفظة ( قد قامت الصلاة ) ثابت في الإقامة كلها .
نعم لفظة ( قد قامت الصلاة ) هي صريح الإقامة لكن ألفاظها كلها إنما شرعت ليقوم الناس إلى الصلاة ، فإنها تسمى إقامة ، كما أن النداء صريحه : ( حي على الصلاة حي على الفلاح ) وكله نداء ، فهذه كلها إقامة وإن كان صريحها لفظة ( قد قامت الصلاة ) .
فأقوى الأقوال - مع أن فيه سعة - ما ذهب إليه بعض التابعين : من أن المشروع أن يقوم عند شروع المؤذن بالإقامة .
وهذا – كما تقدم – إذا كان الإمام في المسجد أو كان في معنى من هو في المسجد كأن يكون قريباً إلى المسجد فأقام الصلاة له .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه ، آخر باب قيام الناس عند الإقامة ( 1942 ) [ 1 / 507 ] قال عبد الرزاق : عن ابن جريج قال : أخبرني ابن شهاب أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، يقيم الصلاة ، يقوم الناس إلى الصلاة ، فلا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقامه حتى يعدّل الصفوف " .(37/5)
أما إذا لم يكن الأمر كذلك فأقامها وهم ينتظرون الإمام ، والإمام ليس في المسجد ولا قريباً منه ، وهذا وإن كان يقل وقوعه في هذه الأزمان ، لكن كان يكثر وقوعه للنبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء ونحو ذلك ، فقد كانت الصلاة تقام قبل حضورهم فيسمعون الإقامة فيأتون إلى المسجد فمثل هذا لا يشرع القيام حتى يروه ؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ) (1) .
قال : ( وتسوية الصفوف )
أي يسن تسوية الصفوف وتسوية الصف بأن يتراص المصلون فيه بأن يلزق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعب صاحبه .
فقد ثبت في صحيح البخاري عن أنس في الحديث المتقدم الذي فيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بوجهه فقال : ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ) (2) قال أنس : فكان الرجل - أي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه " . فهذا الفعل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يراهم ، فإنه قال : ( فإني أراكم من وراء ظهري ) فكان يراهم .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 23 ) لا يسعى إلى الصلاة مستعجلا وليقم بالسكينة والوقار ( 638 ) عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني وعليكم بالسكينة ) ، وفي باب ( 22 ) متى يقوم الناس ، إذا رأوا الإمام عند الإقامة ( 637 ) ، دون قوله ( وعليكم بالسكينة ) . وأخرجه مسلم ( 604 ) .
(2) تقدم قريبا .(37/6)
وفي سنن أبي داود – وأصله في الصحيحين – من حديث النعمان بن بشير : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه فقال : ( أقيموا صفوفكم ثلاثاً – ثم قال : لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) قال : فكان الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبة صاحبه ، وكعبه بكعبه ) (1) .
فالإطلاق المتقدم في رواية البخاري من قول أنس من قوله : ( وقدمه بقدمه ) هنا قد ثبت التصريح بأن ذلك في الكعب .
وهذا ظاهر في أول الصلاة وأن الواجب أو المشروع للمصلين أن يتراصوا في الصف بأن يلزق منكبه بمنكب صاحبه وركبته بركبته وكعبه بكعبه – والأحاديث فيه واضحة – .
وأما بعد ذلك فالأظهر – ولم أر لأحد من أهل العلم في هذه المسألة كلام ، والأظهر - : أن يكون ذلك من غير مشقة ، ومعلوم أن متابعة ذلك في كل ركعة من ركعات الصلاة فيه مشقة بخلاف التراص فإنه لا مشقة فيه .
ففي آخر الصلاة لا يبقى ذلك مشروعاً في حقه لثبوت تراص فيما تقدم ، ومثل هذا فيه إلحاق مشقة وكلفة .
وظاهر قوله ( وتسوية الصفوف ) أن ذلك مسنون وهذا مذهب جمهور العلماء وحكى إجماعاً .
لكن هذا فيه نظر ، فقد ذهب شيخ الإسلام ووجَّه ذلك صاحب الفروع وهو مذهب الظاهرية ومذهب الإمام البخاري : أن ذلك واجب والأدلة دالة على ذلك .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف ( 662 ) . وهو في البخاري بلفظ : ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) ، كتاب الأذان ، باب ( 71 ) تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها ( 717 ) ، ومسلم ( 436 ) .(37/7)
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ) (1) أي ليلقين الله في قلوبكم العداوة والبغضاء ومثل هذا لا يقال إلا فيما كان محرماً ، ويفسره الرواية المتقدمة في أبي داود : ( أو ليخالفن الله بين قلوبكم ) (2) فهذا يدل على أن تسوية الصفوف واجبة إذا لا يترتب مثل هذه العقوبة إلا على أمر واجب وتركه محرم .
فإذا ثبت وجوب ذلك : فمثل ذلك على الراجح – وهو مذهب الظاهرية - : أن ترصَّ الصفوف بعضها ببعض فلا يكون بين الصفوف إلا ما يكفي المصلين لإقامة ركوعهم وسجودهم ، فيجب أن تكون قد اتصل بعضها ببعض ولا يكون بين كل صف وصف مسافة زائدة على ما يحتاج إليه المصلي لإقامة ركوعه وسجوده .
يدل على ذلك : ما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق والذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يتخلل بين الصفوف كأنها الحذف ) (3) وهي صغار المعز .
ففيه الأمر بأن تقارب الصفوف بعضها إلى بعض لقوله : ( وقاربوا ) .
وذلك – أي ما يكفي المصلي لركوعه وسجوده ذلك - بنحو ثلاثة أذرع .
وقد وردت أحاديث تدل على وجوب تسوية الصفوف :
__________
(1) تقدم قريبا .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف ( 662 ) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 94 ) تسوية الصفوف ( 667 ) قال : " حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبن ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( رصوا صفوفكم وقاربوا بينها ، وحاذوا بالأعناق ، فالوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحَذَف ) .(37/8)
فمن ذلك : ما ثبت في أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أقيموا صفوفكم وحاذوا بين الأعناق وسددوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم " أي لتسوية الصفوف " ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله ) (1)
فقوله ( قطعه الله ) ، ظاهر ذلك الإثم وأن من قطع شيئاً من الصفوف بأن جعل بينها خللاً فإنه يقطعه الله ، ومثل هذه العقوبة لا تكون إلا على فعل أمر محرم .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 94 ) تسوية الصفوف ، ( 666 ) قال : " حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي ، حدثنا ابن وهب ح ، وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، وحديث ابن وهب أتم ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن عبد الله بن عمر قال قتيبة : عن أبي الزاهرية ، عن أبي شجرة ، لم يذكر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أقيموا الصفوف ، وحاذوا بين المناكب ، وسدوا الخلل ، ولِينوا بأيدي إخوانكم ) ولم يقل عيسى : " بأيدي إخوانكم " ( ولا تذروا فرجات للشيطان ، ومن وصل صفا وصله الله ، ومن قطع صفا قطعه الله ) قال أبو داود : أبو شجرة كثير بن مرة ، قال أبو داود : ومعنى " لينوا بأيدي إخوانكم " إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف " ، وأخرجه النسائي مختصراً ومتصلاً حديث 820 ، سنن أبي داود [ 1 / 431 ] .(37/9)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبالغ في تسوية الصفوف حتى كان يقومها كالقِدْح . كما ثبت هذا في أبي داود عن النعمان بن بشير قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوينا في الصلاة كما يقوم القدْح ) (1) وهو خشبة الرمح أي كما تنحت خشبة الرمح وتسوى وتقوم بحيث تكون في غاية الاعتدال لا اعوجاج فيها ولا ميل .
وثبت في سنن أبي داود عن أنس بن مالك بإسناد صحيح قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل بين الصفوف من ناحية إلى ناحية يمسح على صدورنا ومناكبنا ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ثم يقول " إن الله وملائكته يصلون على الصفوف المقدمة ) (2)
مسائل في تسوية الصفوف :
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف ( 663 ) قال : " حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن سماك بن حرب قال : سمعت النعمان بن بشير يقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسوِّينا في الصفوف كما يقوَّم القدح حتى .. "
(2) أخرجه أبو داود من حديث البراء في كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف ( 664 ) قال : " حدثنا هناد بن السري ، وأبو عاصم بن جواس الحنفي ، عن أبي الأحوص ، عن منصور ، عن طلحة اليامي ، عن عبد الرحمن بن عوْسجة عن البراء بن عازب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول : ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ) وكان يقول : ( إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأُوَل ) ، وأخره النسائي حديث 812 ، سنن أبي داود [ 1 / 432 ] .(37/10)
منها : أن أفضل الصفوف الصفوف المتقدمة وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وشر صفوف النساء أولها وأفضلها آخرها ، كما ثبت هذا في مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) (1) وذلك للقرب من الرجال .
فالأفضل الصفوف المقدمة للرجال ، والمتأخرة للنساء .
والأفضل الصفوف التي تقع في ميمنة المسجد ؛ لما ثبت في سنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن البراء قال : ( كنا إذا صلينا وراء النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه فيقبل علينا بوجهه فسمعته يقول : ( ربنا قنا عذابك يوم تبعث عبادك ) (2) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 28 ) تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها ، والازدحام على الصف ( 440 )
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب استحباب يمين الإمام ( 709 ) عن البراء قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه ، يُقبل علينا بوجهه ، قال : فسمعته يقول : رب قني عذابك يوم تبعث - أو تجمع - عبادك ) ، والبيهقي [ 2 / 259 ] رقم ( 3000 ) . وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب الإمام ينحرف بعد التسليم ( 615 ) مختصراً ، أي دون قوله " رب قني عذابك .. " وكذا أخرجه النسائي 823 ، وابن ماجه 1006 .(37/11)
وأما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) (1) فالحديث وإن كان إسناده حسن لكنه معلول فهو شاذ ، وقد رواه الثقات كما في المسند وسنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ) (2) هذا هو اللفظ المحفوظ كما قرر هذا البيهقي(3)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 96 ) من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر ( 676 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا معاوية بن هشام ، حدثنا سفيان ، عن أسامة بن زيد ، عن عثمان بن عروة ، عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) ، وأخرجه ابن ماجه ( 1005 ) في باب ( 55 ) فضل ميمنة الصف من كتاب إقامة الصلاة ، سنن أبي داود [ 1 / 437 ] .
(2) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة ، باب ( 50 ) إقامة الصفوف ( 995 ) قال : " حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة قالت :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة ) . قال البوصيري : " هذا إسناد فيه إسماعيل بن عياش ، وهو من روايته عن الحجازيين ، وهي ضعيفة . رواه الإمام أحمد في مسنده ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه والحاكم ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، وروى أبو داود شطره الأول من حديث البراء بن عازب ، وله شاهد من حديث النعمان بن بشير ، رواه مسلم والترمذي في الجامع ، وقال : حسن صحيح ، قال : وفي الباب عن جابر بن سمرة ، والبراء بن عازب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس ، وأبي هريرة وعائشة " . من زيادات طبعة بيت الأفكار على سنن ابن ماجه . صحيح الجامع ( 1843 ) .
(3) السنن الكبرى للبيهقي [ 3 / 149 ] ، كتاب الصلاة ، باب 721 ما جاء في فضل ميمنة الصف ( 5199 ) .(37/12)
وغيره ، وأما لفظة ( على ميامن الصفوف ) فهي خطأ من بعض الرواة ، فعلى ذلك الحديث ضعيف .
وأما ما ورد في ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من عمر ميسرة المسجد كان له كفلان من الأجر ) (1) فالحديث فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف فلا يثبت .
فميمنة المسجد أفضل من ميسرته .
ولكن هل من بَعُد وهو عن يمين الصف أفضل ممن قرب وهو عن يساره ؟
قال صاحب الفروع : " ويتوجه أن بُعد يمينه ليس بأفضل من قرب يساره قال : ولعله مرادهم " أي مراد الحنابلة .
أي : أن ذكرهم تفضيل الميمنة على الميسرة ليس عاماً بل يكون حيث استويا أو كانا متقاربين في القرب من الإمام .
أما إذا كان صاحب الميسرة هو القريب من الإمام وصاحب الميمنة بعيد فهذا لا يدخل في مرادهم فهذا له فضيلة القرب وهذا له فضيلة الميمنة .
ولم يصرّح بتفضيل الميسرة حينئذ ، بل ذكر أن الميمنة – حينئذ – لا تكون أفضل من الميسرة فيحتمل أن تكون مثلها في الفضيلة أو أفضل منها .
والأظهر التفصيل في هذا :
فإن كان قريباً إلى الإمام بحيث يكون ممن يلي الإمام فهو أفضل ، وإن كان في ميسرة المسجد ممن كان بعيداً في الميمنة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ليَلَنِي منكم أولو الأحلام والنهى ) (2) رواه مسلم ، وهو شامل لمن كان والياً له عن يمينه وعن شماله .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة ، باب ( 55 ) فضل ميمنة الصف ( 1007 ) بلفظ : " عن ابن عمر قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن ميسرة المسجد تعطلت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر ) . قال البوصيري : " هذا إسناد ضعيف ضعف ليث بن أبي سليم " .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 28 ) تسوية الصفوف وإقامتها .. ( 423 ) عن أبي مسعود ، وعن ابن مسعود . صحيح مسلم بشرح النووي المجلد الثاني [ 4 / 154 ، 155 ] .(37/13)
وأما إن لم يكن ممن يلي الإمام فالأظهر التساوي فهذا قد فضل بالقرب وهذا قد فضل بالميمنة ، فكل منهما فضيلته فحينئذ : لا يجزم بتفضيل أحدهما على الآخر .
والمسألة الثانية :
صفة إقبال الإمام على المأمومين لتسوية الصفوف ؟
ظاهر الأحاديث الصحيحة أنه يقبل عليهم بوجهه ، فمن ذلك ما تقدم من حديث أنس قال : ( أقيمت الصلاة فأقبل علينا صلى الله عليه وسلم بوجهه ) (1) رواه البخاري ، وما تقدم من حديث النعمان بن بشير في أبي داود وفيه : ( أقبل علينا النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه ) (2) .
وأما ما رواه أبو داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أخذ عن يمينه فقال : ( سووا صفوفكم واعتدلوا ثم أخذ عن يساره فقال : سووا صفوفكم واعتدلوا ) (3) فهو حديث ضعيف فيه مصعب بن ثابت الزبيري وهو ضعيف ، فلا يكون معارضاً للأحاديث المصرحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الناس بوجهه .
فعلى ذلك الأظهر أنه يقبل على الناس بوجهه .
إذن : في مسألة تسوية الصفوف أربعة مسائل :
المسألة الأولى : في كيفية ذلك : وأن المشروع فيه أن يلزق كعبه بكعبه وركبته بركبته ومنكبه بمنكبه فلا يكون التساوي بأطراف الأصابع كما يفعله كثير من الناس هذا أمر ليس بمشروع ، فإن الناس يتفاوتون في ذلك فلا يتم حينئذ التساوي .
والثانية : في حكم ذلك وأن الراجح فرضية ذلك ووجوبه .
ومثل ذلك : أن يرص الصفوف بعضها ببعض .
__________
(1) تقدم قريباً .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف ( 662 ) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 94 ) تسوية الصفوف ، ( 670 ) قال : " حدثنا مسدد ، حدثنا حميد بن الأسود ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن محمد بن مسلم ، عن أنس بهذا الحديث ، قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه ثم التفت فقال : ( اعتدلوا سووا صفوفكم ) ثم أخذه بيساره فقال : ( اعتدلوا ، سووا صفوفكم ) .(37/14)
والثالثة : في تفضيل صفوف الرجال المتقدمة على صفوفهم المتأخرة والعكس للنساء .
وهذه المسألة ظاهرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما في الأزمان المتأخرة ، حيث وضعت الجدر بين الرجال والنساء وأصبح عازل كامل بين الرجال والنساء ، بخلاف المساجد كالحرمين أو نحوها أو عازل خفيف فإن الحكم يبقى – .
أما إذا كان هناك عازل قوي قد فصل الرجال عن النساء ، فيبقى القول بأن الصفوف المقدمة للنساء أفضل من الصفوف المتأخرة لزوال العلة ؛ ولأن النساء شقائق الرجال كما في مسند أحمد(1) .
فالأصل أن أحكام الرجال كأحكام النساء ، والعلة التي جعلت صفوف النساء المتقدمة مفضولة عن الصفوف المتأخرة علة قد ذهبت وزالت حيث وجدت الجدر العازلة أو كانت النساء يصلين جماعة وحدهن .
ثبت في مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ فقال : يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف ) (2)
الرابعة : في تفضيل ميامن الصفوف على مياسرها وأن الأفضل أن يصلي في ميمن الصف .
مسألة :
هل يشرع أن يكون الإمام وسط المأمومين ؟
الحديث الوارد في هذا : ( وسطوا الإمام وسدوا الخلل ) (3) فالحديث ضعيف فيه مجهولان .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند برقم ( 24999 ) ، باقي مسند الأنصار ، باقي المسند السابق ، وبرقم ( 25869 ) نحوه في مسند أم سليم . انترنت ، موقع الإسلام .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 27 ) الأمر بالسكون في الصلاة والنهي عن الإشارة باليد .. ( 430 ) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب مقام الإمام من الصف ( 681 ) قال : " حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن يحيى بن بشير بن خلاد ، عن أمه أنها دخلت على محمد بن كعب القرظي فسمعته يقول : حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وسِّطوا الإمام وسدوا الخلل ) .(37/15)
فعلى ذلك لا يقال بمشروعية هذا ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه .
نعم في الأصل في المسجد ينبغي أن يكون متوسطاً في المسجد(1) كما هي محاريب المسلمين ، وقد تناقله المسلمون خلفاً عن سلف من كون الإمام يكون في المسجد في وسط المسجد ، وأما كون هذا في الصفوف بحيث ينهى عن عدم ذلك ، فهذا ليس هناك ما يدل عليه .
مسألة :
إذا استوت الصفوف فهل يشرع أن يقول استووا ونحو ذلك - هذه المسألة في الحقيقة فيها إشكال – والأولى فيما يظهر لي : أن يقول ذلك قبل أن ينظر إلى الصفوف ، فإذا أقيمت الصلاة وهم بالاستواء والاعتدال ثم تابع ذلك بالنظر وحينئذ يكون قوله سابق لعدم تبينه استواء الصفوف ، وحيث لم نقل بمثل هذا فإن فيه شيئاً من النظر ؛ لأن المقصود حاصل ، والله أعلم .
ولو قيل : يترك ذلك لأنهم عالمون به فحقيقة هو قول قوي ، والعلم عند الله .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الحادي والسبعون
( يوم الأحد : 21 / 3 / 1415هـ )
قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( ويقول : الله أكبر )
__________
(1) كذا العبارة في الأصل ، ولعل الأقرب : الأصل في الإمام … ، أو : الأصل في المحراب … .(37/16)
وهي تحريمة الصلاة كما ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) (1) فبه(2) تثبت الحرمة في الصلاة ، فلا تنعقد الصلاة إلا بها اتفاقاً . فإن تركها ناسياً أو ساهياً لم تصح صلاته .
ولا يصح إلا هذا اللفظ الذي ذكره المؤلف " الله أكبر " ، أما لفظة : الله الأكبر أو الله أجل أو أعظم أو غير ذلك من الألفاظ ، فإنها لا تجزئ ، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح صلاته بغير لفظة " الله أكبر " وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) (3) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند برقم ( 1006 ) ، ( 1072 )من حديث علي بن أبي طالب ولفظه ( مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم ) ، وبرقم( 14717 ) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ : ( مفتاح الجنة الصلاة ، ومفتاح االصلاة الطهور ) . ، وأبو داود في كتاب الطهارة ، باب ( 31 ) فرض الوضوء ( 61 ) قال : " حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن عقيل ، عن محمد بن الحنفية ، عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مفتاح الصلاة .. ) . وأخرجه الترمذي في كتاب الطهارة ، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور ( 3 ) . وابن ماجه برقم 275 ، سنن أبي داود [ 1 / 49 ] .
(2) الفاء حرف عطف ، أي : به تثبت .. " .
(3) تقدم .(37/17)
وحقيقة التكبير الشرعي أن يقول " الله أكبر " فمتى قال غير ذلك من الألفاظ فإنه لا يجزئ ، وقد ثبت في الصحيحين في حديث المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( إذا قمت إلى الصلاة فكبر ) (1) ، وفي أبي داود من حديث المسيء صلاته : ( إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ) الحديث وفيه : ( ثم يكبر الله عز وجل ) (2) .
إذن : لا تنعقد الصلاة إلا بالتكبير " الله أكبر " .
فإن أتى به على صيغة الاستفهام كأن يقول " آلله أكبر " فلا يجزئه .
أو نكسه فلا يجزئه .
ولا يجزئه – اتفاقاً – إلا أن يقولها : قائماً في الفريضة ، فإن قالها قاعداً أو راكعاً وهو غير عاجز عن القيام فلا يجزئه .
قال : ( رافعاً يديه … حذو منكبيه )
السنة أن يرفع يديه مع تكبيرة الإحرام حذو منكبيه أو حذو فروع أذنيه ، فكلاهما ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الصفة الأولى : أن يرفع يديه حذو منكبيه أي يكون الكفان حذو منكبيه .
ودليله : ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ، وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع ولا يفعل بين السجدتين )(3) .
والصفة الثانية : الرفع إلى حذو الأذن أو فروع الأذنين .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 95 ) وجوب القراءة للإمام والمأموم ( 757 ) ، وباب ( 122 ) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة ( 793 ) ، وأخرجه مسلم ( 397 ) .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ( 858 ) ، وانظر ( 857 ) باب صلاة من لا يقيم صليه في الركوع والسجود .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 83 ) رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء ( 735 ) ، وباب ( 84 ) رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع ( 736 ) ، وأخرجه مسلم ( 390 ) .(37/18)
ودليله ما ثبت في مسلم عن مالك بن الحويرث قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه ) وفي رواية : ( حذو أذنيه ) وفي رواية ( حذو فروع أذنيه ) (1) أي شحمة أذنيه .
فيرفع إلى حذو الأذنين أو فروعهما ، والأمر واسع فله أن يكون حذو الأذنين مباشرة أو فروعهما .
وجمع بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم بين هاتين الصفتين .
فقالوا : تكون بطون الكفين حذو المنكبين وأطراف الأصابع حذو فروع الأذنين .
ويدل عليه ما رواه أبو داود من حديث عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر وفيه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه وإنها حذو فروع أذنيه ) (2) لكن الحديث منقطع فيه ابن عبد الجبار بن وائل لم يدرك أباه .
والأظهر أنهما ضعيفان ، فالحديث ضعيف لا يثبت ، فعلى ذلك هما ضعيفان ،فأيهما فعل فقد أصاب السنة .
والأفضل أن يفعل هذه تارة وهذه تارة .
وهل التكبير يكون سابقاً للرفع أو الرفع سابق للتكبير أو يكونا معاً ؟
المشهور في المذهب : أنه يرفع يديه مع شروعه بالتكبير ، فيبدأ برفع يديه مع شروعه بالتكبير . فإذا انتهى التكبير يكون قد رفع يديه ثم يحطهما .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 9 ) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام .. ( 391 ) بلفظ " حتى يحاذي بهما أذنيه " وفي رواية : " حتى يحاذي بهما فروع أذنيه " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 116 ) رفع اليدين في الصلاة ( 724 ) بلفظ : " أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه ، وحاذى بإبهاميه أذنيه ، ثم كبر " .(37/19)
ودليل ذلك : ما ثبت في أبي داود من حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يرفع يديه مع التكبيرة ) (1) .
وقد وردت السنة بصفتين أخريين :
الثانية : أن يرفع ثم يكبر ، فيكبر واليدان على ارتفاعهما ثم يحطهما .
ودليل ذلك : ما ثبت في مسلم من حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى الصلاة فرفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه ثم كبر ) (2) ونحوه من حديث أبي حميد الساعدي في أبي داود والترمذي(3) وغيرهما .
وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر : ( ثم كبر وهما كذلك ) (4) أي وهما مرفوعتان .
ومما يدل عليها كذلك حديث مالك بن الحويرث – في مسلم – ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى فرفع يديه ثم كبر ) (5)
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 116 ) رفع اليدين في الصلاة ( 725 ) قال : " حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد - يعني ابن زريع – حدثنا المسعودي ، حدثني عبد الجبار بن وائل ، حدثني أهل بيتي عن أبي أنه حدثهم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبيرة " .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 9 ) استحباب رفع اليدين حذو المنكبين .. ( 390 ) بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ، ثم كبر .. "
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 117 ) افتتاح الصلاة ( 730 ) ، والترمذي حديث 260 ، سنن أبي داود [ 1 / 467 ] .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 116 ) رفع اليدين في الصلاة ( 722 ) . بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكون حذو منكبيه ثم كبر وهما كذلك فيركع .. " .
(5) في صحيح مسلم عن ابن عمر قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه ثم كبر " وقد تقدم .(37/20)
والصفة الثالثة - ولم أر أحداً من أهل العلم قال بها - : وهي أن يكبر قبل رفع اليدين ، فإذا كبر رفع يديه ، وهي ثابتة في مسلم من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كبر ثم رفع يديه ) (1) .
ولم أر أحداً من أهل العلم قال بها ، لذا قال الموفق - وهو المشهور في المذهب – : أنه إذا كبر وانتهى من التكبير ولم يرفع يديه فإن السنة قد فات محلها ، وهذا خلاف السنة فقد تقدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر ثم رفع يديه .
فالسنة أن يرفع يديه حذو منكبيه .
فإن لم يستطع أن يرفعهما حذو منكبيه رفعهما بقدر الاستطاعة .
كما أنه إن لم يستطع أن يرفع يديه كلتيهما رفع ما يستطيع منهما بأن يرفع يده الصحيحة وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (2) .
وإذا كان مغط ليديه بثوب ونحوه من برد وغيره مما يحتاج فيه إلى تغطية اليدين فإنه يرفعهما بثوبه بقدر استطاعته .
لما ثبت في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث وائل بن حجر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الشتاء فرأيت أصحابه يرفعون أيديهم في ثيابهم في الصلاة ) (3) ، وهذا هو المشهور في المذهب .
قال : ( مضمومتي الأصابع ممدودة )
__________
(1) أخرجه مسلم برقم ( 391 ) ، وقد تقدم .
(2) متفق عليه ، وقد ذكره في الأربعين النووية ، وقد تقدم .
(3) أخرجه أبو داود في أول باب ( 117 ) افتتاح الصلاة من كتاب الصلاة برقم ( 729 ) .(37/21)
أما المد ، فقد ثبت عند الخمسة إلا النسائي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا قام في الصلاة رفع يديه مداً ) (1) وورد في الترمذي – هذا الحديث من حديث يحيى بن اليمان وهو ضعيف وتفرد به عن الثقات ، ورواه بنفس السند إلى أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه نشراً ) (2) أي مفرقة
لكن الحديث ضعيف لضعف يحيى ولكونه خالف الثقات .
وهنا قال : ( مضمومة الأصابع )
أي يلصق أصابعه بعضها ببعض .
ولم أر في السنة ما يدل على ذلك .
والمشهور عند الشافعية : أنه يفرقها ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، واستدلوا بحديث أبي هريرة الذي تقدم ضعفه .
وذهب الأحناف : إلى أنه لا يتكلف ذلك ، وهذا هو الراجح وأنه لا يتكلف ضماً ولا تفريقاً بل يدعهما على طبيعتها من غير ضم ولا تفريق .
قال : ( كالسجود )
__________
(1) أخرجه أبو داود في آخر باب ( 119 ) من لم يذكر الرفع عند الركوع ( 753 ) بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا " ، وأخرجه الترمذي حديث 239 ، وقال : " حديث أبي هريرة حسن " ، والنسائي حديث 884 ، سنن أبي داود [ 1 / 479 ] .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصلاة ، باب ( 63 ) ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير ( 239 ) بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة نشر أصابعه " قال أبو عيسى : " حديث أبي هريرة حسن . وقد روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن سمعان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل في الصلاة رفع يديه مدا " وهذا أصح من رواية يحيى بن اليمان ، وأخطأ يحيى بن اليمان في هذا الحديث " وقال أيضا : " قال عبد الله بن عبد الرحمن : وهذا أصح من حديث يحيى بن اليمان ، وحديث يحيى بن اليمان خطأ " . ا.هـ .(37/22)
فالسجود يستحب له أن يفعل ما تقدم من كونه يضم أصابعه ويجعلهما ممدتي الأصابع وأن يكون حذو منكبيه وسيأتي الدليل على ذلك – عند الكلام على السنة في السجود .
قال : ( ويسمع الإمام من خلفه )
لا زال الكلام في التكبير والسنة فيه .
فيسمع الإمام من خلفه فيرفع صوته بالتكبير لما ثبت في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يرفع صوته بالتكبير حتى يسمع من خلفه )(1) والحديث صحيح ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) (2) .
فإن كان الإمام لا يسمع من خلفه فيلجأ إلى التبليغ بأن يرفع أحد المصلين صوته بالتكبير ، فهذا مشروع فقد ثبت هذا من فعل أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسلم قال جابر : ( صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر النبي صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا ) (3) فهذا يدل على مشروعية التبليغ عند الحاجة إليه أما إن لم تكن هناك حاجة فإنه ليس بمستحب باتفاق المسلمين كما قال ذلك شيخ الإسلام .
بل قد نص الحنابلة على أنه مكروه ، بل هو بدعة محدثة في الدين .
قال : ( كقراءته في أولتي غير الظهرين )
أي كما يرفع صوته في الركعتين الأوليين من غير الظهرين وهما الظهر والعصر ، وهذا من باب التغليب كما يقال " الفجران والقمران " .
فهنا يسمع الإمام من خلفه التكبير كما يسمعهم القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء ومن صلاة الفجر ، ورفع الصوت بالقراءة مشروع للإمام بالإجماع في الركعتين الأوليين من غير الظهر والعصر .
قال : ( وغيره نفسه )
أي غير الإمام وهو المأموم والمنفرد يسمع نفسه ، فيجب على من كان مأموماً أو منفرداً أن يسمع نفسه القراءة فيحرك لسانه بالحروف فينطق بها بحيث أنه يسمع نفسه .
__________
(2) تفدم .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 19 ) ائتمام المأموم بالإمام ( 413 ) بنفس اللفظ .(37/23)
والمراد هنا : ما لم يكن هناك عارض يمنع من سماع ، فإن كان هناك عارض كأن يكون هناك أصوات أو لا يتمكن من إسماع نفسه كالعاجز عن الكلام أو كان لا يسمع نفسه كغير السميع فإنه يتلفظ بالقراءة والتكبير بحيث يسمع نفسه إن كان سميعاً أو يسمع نفسه لو لم يكن هناك هذا العارض الذي يمنع السماع .
إذن : يرفع صوته بالقراءة والتكبير بحيث يسمع نفسه لو كان ليس ثمت عارض يمنعه من السماع .
- واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية ومذهب بعض الأحناف وهو وجه عند الحنابلة – كما قال شيخ الإسلام – : أنه يحرك لسانه بالحروف ولو لم يسمع نفسه ، فليس شرطاً أن يسمع نفسه ، فالشرط هو أن ينطق بالحروف ، والنطق بالحروف هو تحريك اللسان بها وخروج الحروف من اللسان ، فإذا خرجت الحروف من اللسان وحرك اللسان بها ، فإن هذا كاف ولو لم يسمع – وهذا هو الظاهر – فإن إسماع نفسه لا دليل عليه .
وكونه قولاً ، يثبت ذلك بمجرد إخراجه للحروف من لسانه ، وليس بشرط القول والكلام أن يسمع نفسه أو يسمع غيره ، بل شرط ذلك أن يتكلم بالحروف بصوت ، فمتى خرجت الحروف وتحرك اللسان بها فهذا هو الكلام .
فإن كان ممن لا يمكنه أن يتكلم كأخرس أو نحوه : فإنه ينوي بقلبه التكبير ولا يحرك لسانه في أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد ، واختار ذلك الموفق .
والقول الثاني : أنه يحرك لسانه ؛ لأن المتكلم يحرك لسانه فينطق ، فكان عليه أن يحرك لسانه كذلك ، فكونه عاجز عن النطق لا يسقط عنه حركة اللسان .
لكن الراجح : القول الأول : وأنه لا يشرع أن يحرك لسانه بل ينوي بقلبه ، لأن تحريك اللسان بحيث لا فائدة منه .
وإنما يحرك المتكلم لسانه لتخرج الحروف فينطق بها وحيث لم يكن ذلك فإنه لا فائدة من تحريك اللسان بالحروف .
وظاهر قوله : ( وغيره نفسه ) : إن هذا في المفرد مطلقاً سواء كان يصلي صلاة سرية أو جهرية ، فلا يشرع له الجهر بالقراءة ، وسواء كانت أداءً أو قضاءً .(37/24)
وظاهره أيضاً – وهو المذهب – أن المرأة لا يشرع لها أن تجهر بصوتها مطلقاً سواء كانت في جماعة أو منفردة ، وهو المشهور في المذهب .
- واختار شيخ الإسلام : أن المرأة يشرع لها الجهر إن كانت تصلي في جماعة .
وهذا هو الظاهر : وأنها يشرع لها الجهر إن صلت في جماعة لمصلحة الإسماع ، ولأن النساء شقائق الرجال .
والصحيح أيضاً وهو قول في المذهب : أن المرأة يشرع لها أن تجهر مطلقاً وإن صلت وحدها صلاة تجهر بها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، و النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالصلاة فيشرع الجهر بها لمن صلى وحده منفرداً ، ذكراً كان أو أنثى .
وهذا أحد القولين في المذهب أيضاً : وأن المنفرد إذا صلى الصلاة الجهرية فيشرع له الجهر ، سواء كانت أداءً أو قضاءً ، لحديث : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، وهذا يدخل فيه المنفرد .
فإن قيل : إنما شرع الجهر لإسماع المأمومين ؟
فالجواب : ليس هذا بمسلم ، بل الأظهر أن هذا إنما شرع أصلاً ، وإنما شرع للإمام أن يزيد رفع صوته ليسمع المأمومين ، وأما مجرد الجهر فإنه لا دليل على أنه إنما شرع للإسماع ، وإنما لهذه الصلوات خصيصة في الصوت بها حيث أنها في وقت سكون وهدوء ، فيشرع لمن لم يصل خلف الإمام أن يجهر ، ويشرع للإمام أن يزيد في الجهر .
فالراجح وهو قول في المذهب إنه يشرع في الصلاة الجهرية الجهر بما يصدق عليه أنه جهر ، وليس كجهر الإمام .
ومثله المرأة فيشرع لها إذا صلت في جماعة أو منفردة أن تجهر بصوتها بحيث يصدق عليه أنه جهر لا برفع صوتها رفعاً شديداً ، فذلك إنما يشرع للإمام ، وهي كذلك إذا صلت إمامة للنساء فيشرع لها أن تجهر بصوتها بحيث تسمع من خلفها .
وهذا الحكم حيث لم يكن هناك أجنبي ، فإن كان هناك أجنبي فلا يشرع الرفع مطلقاً سواء في جماعة أو غيرها ؛ لكونه ينافي ما تؤمر به المرأة من الستر ولما في ذلك من دواعي الفتنة .
مسألة :(37/25)
والمذهب قولاً واحداً في أن رفع اليدين مشروع للإمام والمأموم والمنفرد ؛ لعمومات الأحاديث .
لكن اختلفوا في المرأة : هل تدخل في ذلك أم لا ؟
قولان في المذهب :
القول الأول : أنها ترفع يديها ، وقد رواه الخلال عن أم الدرداء وحفصة بنت سيرين(1) وكانتا فقيهتين وهو قول طاووس .
ودليله : أن النساء شقائق الرجال ، وأنهن مأمورات بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما أن الرجال مأمورون بذلك : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ولا دليل يخصص الرجال بهذا الحكم ، والأصل أن النساء شقائق الرجال ولا دليل على التخصيص .
القول الثاني : أنه لا يشرع لهن ذلك كالتجافي الذي تنهى عنه المرأة وذلك لكونه ينافي الستر .
والراجح القول الأول ؛ لأن هذا لا ينافيه مطلقاً إلا إذا كان هناك أجنبي .
فإن كان هناك أجنبي فلا يشرع لها ذلك ؛ لأنه قد يظهر شيء منها فلا يشرع ذلك .
أما إن لم يكن هناك أجنبي فيشرع لها ذلك .
إذن : إنما تمنع المرأة عن التجافي ورفع اليدين ونحو ذلك مما فيه منافاة للستر من أحكام الصلاة حيث كان هناك أجنبي ، أما إذا لم يكن هناك أجنبي فلا معنى لمنعها ، والأصل بقاؤها على حكم الرجال إلا أن يدل دليل على التخصيص ، ولا دليل .
والحمد لله رب العالمين .
الدرس الثاني والسبعون
( يوم الاثنين : 22 /3 /1415هـ )
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ثم يقبض على كوع يسراه تحت السرة )
الكوع : هو العظم الناتئ الذي يقابل الإبهام وهو عند الرسغ .
وهذه الجملة فيها ثلاثة مسائل :
المسألة الأولى :(37/26)
أن المستحب للمصلي أن يضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة. فقد ثبت في البخاري عن سهل بن سعد قال : ( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ) (1) ، وفي مسلم من حديث وائل بن حجر : أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( وضع يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة ) (2) فالمستحب أن يضع يده اليمنى على اليسرى فلا يرسل يديه .
المسألة الثانية :
في صفة الوضع : فيها صفتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم :
الصفة الأولى : القبض ، فيقبض بيمينه على شماله بأن يمسك كف اليسرى بباطن كف اليمنى .
ودليلها : ما ثبت في سنن النسائي من حديث وائل بن حجر قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة يقبض بيمينه على شماله ) (3) .
الصفة الثانية : أن يضع يده اليمنى من غير قبض على كفه اليسرى والرسغ والساعد .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان ، باب ( 87 ) وضع اليمنى على اليسرى ( 740 ) بلفظ : " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، باب ( 15 ) وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام .. ( 401 ) بلفظ " أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة كبَّر - وصف همَّام حيال أذنيه - ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب .. "
(3) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح ، باب ( 9 ) وضع اليمين على الشمال في الصلاة ( 887 ) ، عن وائل بلفظ : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائما في الصلاة قبض بيمينه على شماله " .(37/27)
ودليلها: ما ثبت في سنن النسائي : من حديث وائل بن حجر ، وهو حديث طويل وفيه : ( وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد ) (1)
المسألة الثالثة :
في محل الوضع ، هل المستحب أن يده على الصدر أو تحت السرة أو فوقها تحت الصدر ؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم :
1- المشهور عند الحنابلة : أن المستحب أن يضع يديه تحت السرة .
واستدلوا :
بما روى أحمد وأبو داود عن علي قال :(من السنة وضع اليمنى على الشمال تحت السرة) (2) وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك الحديث ، فعلى ذلك إسناده ضعيف جداً .
2- القول الثاني ، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو المشهور عند الشافعية : أنه يضعهما فوق سرته وتحت صدرته(3) .
واستدلوا :
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الافتتاح ، باب ( 11 ) موضع اليمين من الشمال في الصلاة ( 889 ) بلفظ : " أن وائل بن حجر أخبره قال : قلت : لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي ، فنظرت إليه فقام فكبر ورفع يديه حتى حاذتا بأذنيه ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد ، فلما أراد أن يركع … " .
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب ( 120 ) وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ( 756 ) قال : " حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن زياد بن زيد ، عن أبي جُحيفة ، أن عليا رضي الله عنه قال : " من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة " .
(3) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : صدره .(37/28)
بما رواه ابن خزيمة عن وائل بن حجر قال : ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره ) (1) ، والحديث فيه مؤمل بن إسماعيل وهو ضعيف لكن له شاهدان :
الشاهد الأول : عند أحمد مرفوعاً وموصولاً من حديث هُلْب الطائي لكن الحديث ضعيف .
والثاني عند أبي داود من حديث طاووس مرسلاً وسنده صحيح إلى طاووس ، ويصلحان شاهدين له فيكون الحديث حسناً بشواهده فالحديث من ثلاثة أوجه .
لكن الاستدلال به على هذا القول فيه نظر ؛ لأن أهل هذا القول لا يقولون بأنه يضع يديه على الصدر بل تحت الصدر وفوق السرة .
وإنما يصلح دليلاً لأهل القول الثالث ، وهو قول للشافعي وقول إسحاق بن راهوية وهو مذهب لبعض المالكية : أن السنة أن يضع اليدين على الصدر .
وهذا أوجهها لما تقدم فالحديث حسن بشاهديه ، ولم يعارضه معارض ينظر فيه ، والحديث المتقدم إسناده ضعيف جداً .
فالراجح : أن السنة أن يضع يديه على صدره أي بأن يضعهما قريباً من النحر على عظام الصدر وبين الثندؤتين .
قال : ( وينظر مسجده )
هذه سنة من سنن الصلاة وهي أن ينظر إلى مسجده أي إلى موضع سجوده .
قالوا : لأن ذلك أخشع للصلاة ، وهو كذلك أبعد عن النظر إلى السماء المنهي عنه وهي حالة يتبين فيها خشوع الأعضاء لله عز وجل ، وقد وردت فيها بعض الآثار .
__________
(1) وأخرج أبو داود في كتاب الصلاة ، باب 120 ، ( 759 ) قال : " حدثنا أبو توبة ، حدثنا الهيثم - يعني ابن حميد - عن ثور ، عن سليمان بن موسى ، عن طاووس ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى ، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة " .(37/29)
فقد روى البيهقي عن سليمان الخولاني عن أبي قلابة قال : حدثني عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين - يعني عمر بن عبد العزيز – قال سليمان : ( فرمقت عمر في صلاته فكان ينظر إلى موضع سجوده ) (1) والحديث فيه صدقة وهو ضعيف .
لكن له شاهد مرسل عند الحاكم ، ورواه الحاكم موصولاً من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة وقد أخطأ بعض الرواة فوصله ، وعامة الرواة أنه مرسل ، قال الذهبي : " والصحيح مرسل " .
ولفظه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره إلى السماء فلما نزلت :{ قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } طأطأ رأسه ) (2) فهذا يدل على أنه يطأطأ رأسه وحيث كان كذلك فإن بصره إلى موضع سجوده .
إذن : المستحب كما قرر الحنابلة ويد عليه ما تقدم من الآثار ويعضدها المعنى : أن المستحب للمصلي أن يرمي ببصره إلى موضع سجوده ، سوى ما يأتي من التشهد من كونه يستحب له أن يرمي ببصره إلى السبابة كما ثبت هذا في صحيح ابن خزيمة وسيأتي .
قال : ( ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك )
" سبحانك اللهم " : أي تنزيهاً لك اللهم .
" وبحمدك " : أي وبحمدك سبحتك .
" وتبارك اسمك " : أي كثر خير أسمائك وثبت .
" وتعالى جدك " : أي تعالت عظمتك وشرف قدرك .
" لا إله غيرك " : أي لا إله في الوجود على الحقيقة غيرك .
هذا هو الاستفتاح ، فيستحب أن يستفتح الصلاة بشيء مما ورد من الاستفتاحات عن النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [ 2 / 402 ] كتاب الصلاة ، باب ( 369 ) لا يجاوز بصره موضع سجوده ( 3543 ) قال البيهقي : " وليس بالقوي " .(37/30)