فيسن تسميته في العقد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاطب الواهبة نفسها (التمس ولو خاتماً من حديد)، ولا يشترط ذلك، فلو نكحها ولم يسمِّ لها مهراً فالنكاح صحيح، أي مع ثبوت المهر لكنه لم يسمِّ لها أي لم يفرض ويحدد قدره، لكنه نكاح على مهر، وكذا قال تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } ، ولا طلاق إلا بعد عقد فعلى ذلك تسمية الصداق في العقد مستحبة قطعاً للنزاع ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمره كذلك كما في قوله: (التمس ولو خاتماً من حديث).
قال: [من أربعمائة درهم إلى خمسمائة]
لما ثبت في سنن أبي داود والترمدي والنسائي بإسنادٍ صحيح عن عمر قال " ألا لا تغالوا في صُدُق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته إلا ثنتي عشرة أوقية "، أي تزيد على أربع مائة درهم بشيء يسير، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: " كان صداق النبي لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشَّا قالت: أتدري ما النش ؟ فقال الراوي (لا) فقالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم فهذا صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه "، فالمستحب في صدق النساء أن تكون يسيرة، وأما ما روي من إنكار المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة، فاستدلت عليه بالآية { أو آتيتم إحداهن قنطاراً } فإنه لا يصح فقد رواه البيهقي بإسنادٍ منقطع، فالمستحب من أربعمائة إلى خمسمائة فإن زاد فلا بأس فقد روى أبو داود بإسنادٍ صحيح، أن أم حبيبة مات عنها زوجها عبدالله بن جحش في الحبشة فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعثها مع شرحبيل بن جسنة.
قال: [وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل]
كل ما صح ثمناً لمبيع من عين أو دين أو منفعة.(20/90)
من عين: كدرهم ودينار .
أو دين: سواء كان مؤجلاً أو حاضراً.
أو منفعة: كأن يقول " على أن أعمل لكم سنة " فهذا جائز.
فسواء كان عيناً أو ديناً أو منفعة معلومة قياساً على البيع والإجارة بجامع أن كليهما عوض، قال تعالى: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } ، فهذا من باب الإنكاح بالمنفعة، فكل ما صح ثمناً لمبيع أو أجرة، ـ وتقدمت شروط الثمن وشروط الأجرة ـ فإنه يصح مهراً ولو قل أي ولو كان درهماً ولو كان ديناراً ولو كان خاتماً من حديد ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التمس ولو خاتماً من حديد)، وثبت في الصحيحين أن عبدالرحمن بن عوف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب فقال: (بارك الله عليك، أولم ولو بشاة) "، فإن قل فذلك جائز.
إذن لا حد لأقله فما يصدق عليه أنه ثمن أو أجرة فإنه يصح مهراً، وقال المالكية والأحناف: بل لا يصح إلا مما تقطع به اليد بجامع استباحة العضو "، فهذا قياس يخالف النص فلا اعتبار به، وقد تقدم قوله التمس ولو خاتماً من حديد، وعلى ذلك أقل المهر عند المالكية ربع دينار، وعند الأحناف عشرة دراهم، وقد روى الدارقطني بإسنادٍ ضعيف جداً: (ألا مهر أقل من عشرة دراهم)، فالراجح ما ذهب إليه الشافعي والحنابلة من أنه لا أقل للمهر كما أنه لا حد لأكثره، ولذا قال تعالى: { أو آتيتم إحداهن قنطاراً } ، والقنطار الشيء الكثير الوافر من الذهب، وهذه الآية لا يستدل بها على استحباب المغالاة، وإنما فيها الإخبار والإخبار لا يدل على الجواز فضلاً عن استحباب ذلك، إذن لا حد لأقله ولا حد لأكثره.
قال: [وإن أصدقها تعليم قرآنٍ لم يصح]
فلا يصح أن يكون صداقها تعليمها القرآن وهذه المسألة تقدم ذكرها، وهي هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ؟(20/91)
فالأحناف والحنابلة يمنعون من ذلك، وهنا كذلك يمنعون من ذلك مهراً، والشافعية والمالكية يجيزون أخذ الأجرة على القرآن، ويجيزون هنا أيضاً أن يكون عوضاً عن الزواج، ويستدلون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن)، وتقدم أن الراجح في المسألة السابقة جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن للمحتاج، فهذا كذلك، والرجل الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن)، كان محتاجاً ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس ولو خاتماً من حديد ولم يجد ذلك، فدل على أن ذلك مخصوص بالمحتاج.
قال: [بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم]
فهذا جائز لأن أخذ الأجرة عليه جائز، فيجوز أن يكون صداقاً، وهكذا سائر العلوم الدينية والدنيوية.
قال: [وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها]
إذا قال صداقك أن أطلق ضرتك، فلا يصح ذلك لأن هذا محرم في الشرع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها)، أو هي قالت له: عوضي في النكاح طلاق ضرتي، فهذا محرم، وعليه فلا يصح هذا مهراً لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي المسند بإسنادٍ ضعيف: (لا تنكح المرأة بطلاق اختها) ويشهد له ما تقدم في الصحيحين، وحينئذٍ فلها مهر مثلها
في مذهب جمهور أهل العلم وذلك لفساد التسمية،
وقال بن عقيل من الحنابلة: أن لها قدر مهر الضرة، قال شيخ الإسلام كما في الإختيارات وهذا أجود،
وقال أيضاً رحمه الله " ولو قيل ببطلان النكاح لم يبعد " وهذا هو الراجح، قياساً على نكاح الشغار بجامع أن كليهما لا بدل له، فهناك قد أنكح ابنته وجعل بضعها صداقاً لابنة الآخر وهذا المهر لابد له، وهنا كذلك المهر لابدل له هذا أولاً، ولأنه كالشرط وتقدم أن مثل هذا الشرط يُبطل النكاح.
قال: [ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل](20/92)
إذا بطل المسمى في العقد لجهالته أو لعدم ماليته أو لكونه مغصوباً فيجب مهر المثل، مثال ما كان فاسداً لجهالته كأن يصدقها عبداً أن يصفه يعينه، ومثال ما كان فاسداً لعدم ماليته: أن يصدقها شيئاً محرماً كخمر ونحو ذلك كما تقدم مما يقع في نكاح النصارى …. وغيرهم، فهذا المهر فاسد فيجب لها مهر المثل وعنه يجب مثله خلاً، ومثال ما كان فاسداً لكونه مغصوباً: كأن يقول لك هذه الدار، وتكون هذه الدار مغصوبة، فحينئذٍ لها مهر المثل -واختار شيخ الإسلام فيما إذا كان فساده لكونه مغصوباً، أنها يكون لها مثل المغصوب أو قيمته، وهذا ظاهر، وذلك لأنها قد رضيت بهذا المغصوب وهذا يماثله أو يساويه في القيمة، بخلاف مهر المثل فقد لا تكون راضية به وهو أيضاً قد لا يكون راضياً به. وهو القول الراجح.
وإذا كان غير مالي فكما ذكر الحنابلة: فيجب لها مهر المثل لأن هذه الأشياء لا قيمة لها ولا يمكن أن تحول، فحينئذٍ يجب مهر المثل وذلك لأن فساد العوض يقتضي رد المعوض فإذا فسد الثمن في البيع فهذا يقتضي رد المبيع، وهنا قد تعذر رد المعوض لأن النكاح صحيح فوجبت قيمته أي قيمة النكاح وقيمة مهر المثل، هذا هو مذهب جماهير العلماء، وأما إذا كان مجهولاً، فالمذهب أن الجهل إن كان يسيراً فإن الثابت هو هذا المهر الذي قد حدد وعين لأن جهالته يسيرة.
مثال ذلك: لو قال: لك أرض من الأراضي التي أملكها أولك دار من الدور التي أملكها، ولم يعين لها الدار فإنه يمكن التعين بالقرعة، فهنا الجهل يسير لأنه يمكن تعينه بالقرعة، هذا هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وإن كان الجهل غير يسير، فهنا خلاف في المذهب:
فالمشهور في المذهب أنه يجب مهر المثل مطلقاً.(20/93)
واختار القاضي من الحنابلة أن المسألة فيها تفصيل: فقال " إذا كان هذا الشيء المجهول لا تزيد جهالته على جهالة مهر المثل فإنه يصح، مثال ذلك إذا قال " صداقك دارٌ، فيمكن أن نحدد هذه الدار بأن نجعلها الدار الوسط أو اللائقة بمثلها عرفاً ونحو ذلك، فهنا الجهالة أيسر من جهالة مهر المثل أما إذا كانت جهالته أكثر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويثبت مهر المثل.
مثال ذلك: أن يقول صداقك ما يحصل لي من تجارتي هذه السنة أو ما يحصل من مزرعتي هذه السنة، من ربح ونحوه فهذا جهالته أشد من جهالة مهر المثل فلا يصح، أو قال لك دور أو حنطة أو نحو ذلك فهذا لا يمكن تحديده فجهالته تزيد على مهر المثل، وهذا هو القول الأرجح، وذلك لأنه أقرب للرضى من الطرفين كليهما، وعليه فما اختاره القاضي هو الراجح . فيقال إذا كان المهر مجهولاً وجهالته لا تزيد على جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يصح وتزال جهالته بأن يوضع الوسط، فأما إن كان يزيد كأن يقول: لك قمح أو غير ذلك مما لا يمكن تحديده، وجهالته أعسر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويجب حينئذ مهر المثل.
فصل
قال: [إن أصدقها ألفاً إن كان أبوها حياً و ألفين إن كان ميتاً]
فيجب مهر المثل لفساد التسمية، فهنا التسمية فاسدة في المشهور في المذهب، و ذلك لانه لا يعلم أبوها حي أو ميت، و لانه لا غرض له في موت أبيها .(20/94)
وعن الإمام أحمد: أن المهر يثبت على ما شرط، وذلك لأن ألفاً معلومة، لأنه قال: " إن كان أبوها ميتاً فلها ألفان " فلها ألف حيث كان أبوها حياً أو ميتاً، وحينئذ فألف معلومه وإنما الألف الأخرى هي التي فيها الجهالة، وهي موقوفة على شرط فإن ثبت هذا الشرط كانت زيادة في صداقها وهذا لا محذور فيه، والجهالة هنا تؤول إلى العلم، فليس المهر كله مجهولاً ؛ بل ألفٌ معلومة وألفٌ هي التي فيها الجهالة، ثم إنها قد علقت بشرط إن وجد هذا الشرط فهي لها فيكون ذلك زيادة في مهرها، وهذا القول هو الأصح فليس في مثل هذا محذور، وكونه له غرض أو ليس له فيه غرض هذا لا يؤثر فلا يترتب على ذلك فساد التسمية .
قال: [وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألف يصح بالمسمى]
إذا قال: إن كانت لي زوجة فمهرك ألفان، وإن لم تكن فمهرك ألف، قال هنا: صح، والفرق بين المسألتين أن المسألة الأولى لا غرض له فيها وهنا للمرأة في ذلك غرض ومصلحة، وعلى ترجيح القول المتقدم في المسألة السابقة فلا تشكل هذه المسألة.
قال: [وإذا أجل الصداق أو بعضه صح]
إذا أجل الصداق فقال: لك عشرة آلاف إلى سنة أو قال: لكِ خمسة آلاف حالة وخمسة آلاف مؤجلة إلى سنة، فإن هذا التأجيل يصح كثمن المبيع بجامع أن كليهما- أي المهر وثمن المبيع - عوض في معاوضة صحيحة سواء كان هذا التأجيل للمهر كله أو لبعضه.
قال: [فإن عَيَّن أجلاً]
كأن يقول لك كذا إلى سنة أو سنتين أو خمس سنوات فإنه يتعين، فيجب عليه أن يعطيها هذا المهر إذا حل الأجل المعين.
قال: [وإلا فمحله الفرقة](20/95)
إذا لم يعين له أجلاً فمحله الفرقة، سواء كانت الفرقة عن بينونة أو كانت بموت، هذا هو المشهور في المذهب، وقال الشافعية: إذا لم يعين أجلاً فيكون لها مهر المثل لعدم بيان المحل الذي يجب فيه إعطاء هذه المرأة مهرها المؤجل فتفسد التسمية، وقال الأحناف: بل يبطل التأجيل وتجب حالة، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف- فيما إذا كان المهر مؤجلاً - أنه يجب بالطلاق البائن، فإذا أبانها أعطاها مهرها المؤجل، أو بالموت فإذا ماتت فإنه يكون من إرثها، وعليه فإذا طلقها طلاقاً رجعياً ولم تنقض عدتها فلا يجب أن يعطيها هذا المهر، أي لا يحل بالطلاق الرجعي، وإنما يحل بالطلاق البائن أو غيره من الفسوخ كالخلع وغير ذلك، وهذا هو الذي يقضي به العرف.
قال: [وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل]
هذه المسألة تقدمت في الدرس السابق، وتقدم اختيار شيخ الإسلام في المال المغصوب، وتقدم ترجيح ما ذهب إليه الحنابلة في الخنزير ونحوه مما ليس بماليٍ.
قال: [وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشِه وقيمته]
إذا أصدقها شيئاً من العبيد أو شيئاً من الحيوان أو غير ذلك من الأموال فوجدته معيباً فتخير المرأة بين الأرش والقيمة إن كان مقوماً وإلا فالمثل، فلها أن ترد هذا المعيب وتأخذ قيمته إن كان مقوماً أو مثله إن كان مثلياً، والخيار الآخر أن تأخذ الأرش فيقوم هذا الشيء معيباً ويقوم صحيحاً، والفارق بينهما هو الأرش، وفرق بين البيع – و قد تقدم ألا أرش فيه -، وبين النكاح هنا، فإن البيع يمكنه أن يرجع السلعة، وأما هنا فإنه قد تعذر رد المعوض لأننا نصحح النكاح وقد استباح بضعها.
قال: [وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية]
إذا قال الأب في النكاح مهرها ألف لي وألف لها، فهذا صحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك).(20/96)
قال: [فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما]
إذا طلق المرأة قبل الدخول وكان قد أعطاها ألفاً لها وألفاً لأبيها، وبالطلاق لا يكون للمرأة إلا نصف المهر فحينئذٍ لا يجب على الزوج إلا ألف، وحينئذٍ فيرجع بالألف إلى الزوجة وأما الأب فقد أخذ ما أخذ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك)، ويشترط في الأب أن يكون ممن يصح تملكه كما في الإنصاف، وعليه ما إذا كان المال للأب جميعه كأن يقول: " أزوجك ابنتي على أن يكون لي مائة ألف " ثم طلق المرأة قبل الدخول وبعد قبض المائة ألف.
فالمذهب أن الزوج يرجع إلى الزوجة ولا يرجع إلى الأب، أما في المسألة الأولى فهذا فيه قوة، وأما هنا فإن المرأة أصبحت غارمة، والذي يترجح كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: والصحيح - وهو الوجه الثاني في المذهب - أنه يرجع إلى من قبضه، أي سواء كان القابض هو الولي أو المرأة، وهذا هو الراجح، وأن الزوج إذا أقبض الأب المهر وكان الأب قد اشترطه لنفسه أو اشترط النصف لنفسه فإنه يرجع إلى الأب لأنه هو القابض، وإن كانت الزوجة التي قبضت فإنه يرجع إليها، هذا هو الأظهر وهو وجه في المذهب وهو اختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، أما لو طلقها قبل القبض كأن يقول مهرها ألف درهم ثم طلق قبل أن تقبض فحينئذٍ يدفع النصف وهو خمسمائة درهم وحينئذٍ للأب أن يأخذها كلها أو ما شاء منها بالشروط التي تقدم ذكرها عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك).
قال: [ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها](20/97)
إذا قال: أتزوج أختك على أن يكون لك كذا وكذا ولها كذا وكذا، فالمسمى كله للمرأة، وذلك لأنه عوض على بضعها والشرط باطل هنا، فإذا شرط الأخ أو الجد أو غيرهم سوى الأب مالاً، فإن هذا المال يدخل في مهر موليته وليس له منه شيء لأن ذلك عوض على بضعها فهو مستحق لها دون غيرها، وعليه فهذا الشرط شرط باطل ويكون المسمى كله للمرأة فإذا قال: علي عشرة آلاف لك وعشرة آلاف لها، فيكون مهرها عشرين ألفاً، لأن هذا المال المذكور المسمى كله عوض لبضعها فكانت هي المستحق له، وأما الأب فله حكم آخر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) وقول الله تعالى في شرع من قبلنا: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } ، فمهرها هنا منفعة للأب.
قال: [ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح]
إذا كان مهر مثيلاتها عشرة آلاف درهم، فزوجها بخمسة آلاف درهم. فيصح هذا، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك)، ولأنه إذا جاز أن يشرط المهر لنفسه كله فأولى من ذلك أنه يجوز له أن يزوجها بدون مهر مثلها، ولو قيل بتقييد ذلك بألا يكون في ذلك إضرار بها فإن في ذلك قوة، كما تقدم في شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده، فإن كان يضر بها فلا يتبين هذا، لأن الأب إنما يجوز له أن يأخذ من مال ولده بالمعروف حيث لا ضرر، وأما إن كان هناك ضرر فلا.
قال: [وإن زوجها به وليٌ غيره بإذنها صح]
إذا زوجها جدها أو أخوها بعشرة آلاف درهم ومهر مثيلاتها عشرون ألفاً وكان ذلك بإذنها ورضاها فلا بأس لأنها قد أسقطت حقها بنفسها.
قال: [وإن لم تأذن فمهر المثل]
فإن زوج الأخ الأخت بخمسين ألفاً ومهر مثيلاتها مائة ألف ولم تأذن فيجب على الزوج مهر المثل على المذهب، لأنه عوض بضعها ولم تأذن بإسقاطه.(20/98)
واختار شيخ الإسلام وهو نص الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: "أنه يجب على الولي ولا يلزم الزوج"، وهو أظهر، لأن هذا الولي كالوكيل في البيع، فكما أن الوكيل يضمن إن باع بثمن أنقص من ثمن المثل فكذلك الولي في النكاح، فعلى ذلك الولي هو الذي يجب عليه أن يكمل لها مهرها إلا أن ترضى.
قال: [إن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج]
إذا كان له ابن صغير ولهذا الابن مال فزوجه بمهر المثل وبأكثر من مهر المثل فإنه يصح لأن الأب أعلم بمصلحته فقد يكون في زيادة المهر مصلحة له، ويجب في ذمة الابن، إلا أن يعين المهر، كأن يقول: " زوجت ابني ابنتك والمهر هذا الدار "، فهنا المهر معين وعليه فلا يكون في الذمة، بل يكون المهر عين هذا المال.
قال: [وإن كان معسراً لم يضمنه الأب]
إذا كان هذا الابن معسراً لا مال له، لم يضمنه الأب، لأنه نائب عنه فلا يلزمه ما لم يلتزمه.
وعن الإمام أحمد أنه يجب عليه للعرف، وهذا حيث كان الفرق يدل على ذلك، وعن الإمام أحمد أنه يجب على الأب أصالةً وهذا يرجع إلى مسألة يأتي البحث فيها، وهي (هل انكاح الابن من النفقة الواجبة أم لا).
…الدرس الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وتملك المرأة صداقها بالعقد]
تملك المرأة مهرها بالعقد، قياساً على البيع، فكما أن ثمن المبيع وهو عوض السلعة يملك بالعقد، فكذلك المهر وهو عوض بضعها يملك بالعقد وعنه لا تملك إلا نصفه.
قال: [ولها نماء المعين قبل القبض]
فلها نماء المهر المعين لا المبهم.
المعين: كأن يقول: " لك نخل هذا البستان صداقاً " فهذا الصداق معين.
فقبل القبض لها نماؤه المعين، فإذا نمت هذه النخلات وأثمرت وأنتجت نخلاً فإن هذا النماء من الثمر وغيره يكون لها.
قال: [وضده بضده](20/99)
أي ضد المعين وهو المبهم بضده في الحكم، فالمبهم نماؤه لا تملكه المرأة، والمبهم كأن يقول: " لك عشر نخلات من نخلي "، فليس لها النماء لأنه لم يعين والضمان كذلك، فهناك عليها الضمان ولذا كان النماء لها وهنا الضمان على الزوج ولذا فالنماء له، وهذه المسائل كمسائل البيع في القبض، وقد تقدم ذكر مسائل القبض في البيع وهنا كذلك.
قال: [وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه]
إذا تلف المهر فإنه يكون من ضمانها إلا أن يمنعها زوجها من القبض فإذا تلف فإن الضمان يكون عليه لأنه قد منعها أن تقبضه فأشبه الغاصب، هذا فيما يشترط فيه القبض، وأما ما لا يشترط فيه القبض فلا فرق ما بين قبل القبض وبعده.
قال: [ولها التصرف فيه وعليها زكاته]
فلها التصرف في صداقها لأنه ملك لها، كما أن عليها زكاته وذلك لأنه مالها فهو مال فيدخل في عموم قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة } ، وهو مال لها فوجبت الزكاة عليها، فيجب عليها أن تزكي المعين، ويجب أن تزكي المبهم من تعيينه، فإذا قال: " لك عشر نخلات، وهي هذه النخلات "، فتزكي عليها إذا أثمرت، وإذا قال: " لك كذا وكذا من الدراهم "، فإن عليها أن تزكيها إذا مضى عليها الحول، وأما إن قال: " لك أربعون شاة من شياهي " ولم يعين لها، فهذا من المبهم فلا تزكيه حتى يعينه لها.
قال: [وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكماً](20/100)
أي قهراً كالإرث، فليس راجعاً إلى إرادته واختياره فهو ماله، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول بها وقد سمى لها صداقاً، فلها نصفه وله النصف قال تعالى: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وإن تعفوا أقرب للتقوى } ، فله هو أن يعفو ولها هي أن تعفو فلكلٍ منهما العفو عن صاحبه، فللزوجة أن تعفو فتقول: " أنا لا أريد شيئاً منها " فلكل واحدٍ منهما له أن يعفو بشرط أن يكون جائزَ التصرف؛ لأن من ليس كذلك لا يصح تصرفه، ودليل جواز العفو وأن لكل منهما العفو قوله تعالى: { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وليس للولي أن يعفو عن مولاه ذكراً كان المولى أو أنثى، فليس لولي الزوج أن يعفو وليس لولي الزوجة أن يعفو وذلك لأن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها هبته ولا إسقاطه – هذا في ولي الزوجة -، وولي الزوج كذلك، فهو مال له وقد دخل في ملكه كالإرث فليس لأحدٍ أن يتصرف بهبته ولا إسقاطه، ولأنه لا مصلحة له في ذلك، فليس لولي المحجور عليه أن يسقط النصف الذي وجب لمولاه؛ وذلك لأنه لا مصلحة له في هذا الإسقاط بل هو ضرر محض، وولي الزوجة لا يملك إسقاط هذا المهر المستحق لها لأنه مال لها فليس لأحد أن يتصرف فيه، هذا إن كانت رشيدة، وكذلك إن كانت غير رشيدة لأن الولي لا يجوز له أن يتصرف بما ليست فيه مصلحة، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ، هل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الولي ؟
1- فمن قال هو الزوج قال بالقول الذي تقدم ذكره وهو مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة.(20/101)
2- ومن قال هو الولي - وهو مذهب المالكية – فإنه يجيز للولي أن يسقط نصف مهر المرأة، فمذهب المالكية أن للولي سواء كان أخاً أو عماً أو ابن عم أو غيره له أن يسقط ما استحقته المرأة بطلاقها قبل الدخول، ويفسرون هذه الآية بالولي، فهو الذي بيده عقدة النكاح وذلك لأن الزوج لا يملك عقدة النكاح بعد طلاقها.
والقول الأول - وهو مذهب الجمهور- أرجح وأن المراد بذلك الزوج وانه هو الذي بيده عقدة النكاح، وأن المراد بالنكاح هو النكاح الأول الذي وجب له المهر وهو قول علي بن أبي طالب، وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح، وفي الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولي العقد الزوج)، والحديث لا يصح مرفوعاً فإن إسناده ضعيف، لكنه صحيح موقوفاً على علي بن أبي طالب، كما روى ذلك ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ورجح هذا القول ابن جرير في تفسيره، ويرجح هذا القول ما تقدم من التعليل المذكور وهو أن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها إسقاطه فإن في ذلك --عليها وتعدٍ على مالها، ولأنه قال بعد ذلك { وإن تعفو أقرب للتقوى } وليس هذا أقرب للتقوى، فليس حرمان المرأة من نصف مهرها الثابت لها بالطلاق قبل الدخول ليس هو بأقرب للتقوى، بل الأقرب للتقوى أن تعطى حقها وألا تحرمه إلا برضا منها وإسقاط.
قال: [دون نمائه المنفصل]
إذا أصدقها أربعين شاة مثلاً - فإنها تملك ذلك بالعقد – ثم أنتجت هذه الشياه، وقبل الدخول طلقها، فإن النتاج يكون للمرأة ويرجع بعشرين شاة، كذلك إذا أصدقها عشرين نخلة مثلاً ثم طلقها قبل الدخول ؛ فالثمر لها وله نصف هذه النخلات وذلك لأنه نماء ملكها، و نماء الملك لمالك.
قال: [وفي المتصل له نصف قيمته دون نمائه](20/102)
أما النماء المتصل كسمن في عبد أو غير ذلك، أو كبر في نخل أو غير ذلك فله نصف قيمته بدون نمائه، فيقوم هذا الشيء الذي قد نما نموا متصلاً - يقوم في يوم الصداق - ويعطي نصف القيمة، وأما النماء المتصل فإنه نماء في ملكها فهو لها، وإن قالت: " أنا ارضى أن أعطيه النصف بنمائه " وكانت رشيدة فذلك جائز.
قال: [وإن اختلف الزوجان أو ورثهما في قدر الصداق أو عينه أو فيما يستقر به فقوله]
إذا اختلف الزوجان أو ورثهما أو ولياهما إذا اختلفوا في قدر الصداق فقالت المرأة: قد أمهرني عشرة آلف، وقال: بل امهرتها خمسة آلاف فالقول قول الزوج لأنه منكر، فإنه ينكر هذه الخمسة آلاف الزائدة، والمنكر القول قوله مع يمينه والأصل براءة ذمته، وهذا حيث لم تكن هناك بينة، كذلك إذا اختلفوا في عينه كأن يقول: " أصدقتها هذه الدار " وقالت: " بل أصدقني هذه الدار الأخرى "، فالقول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وكذلك إذا اختلفوا فيما يستقر به المهر كأن يقول: " أنا لم أدخل بها " فتقول: " بل دخل بي " فهنا القول قوله لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وهذا كله حيث أنه لم يعارض هذا الأصل ما هو أقوى منه، فلو جرت العادة بما يدل على عدم صدقه فإن القول قولها، فإذا جرت العادة أن المهر أربعين ألفاً فقالت أصدقني أربعين ألفاً وهي من النساء اللاتي يرغب بمثلهن وقال بل أصدقتها عشرة آلاف فالقول قولها لأن العادة جارية بما قالت ولأن هذا أقوى من الأصل .
إذن الأصل أن القول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة ذمته، ولكن لو جرت العادة بما قالت المرأة أو دلت القرائن على قولها فالقول قولها بيمينها.
قال: [وفي قبضه فقولها]
إذا اختلفوا في قبضه فالقول قولها لأن الأصل عدم القبض، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، ولأنها منكرةً.
مسألة:
إذا أصدقها صداقين، صداقاً في السر وصداقاً في العلن،(20/103)
فالمذهب الأخذ بالزائد مطلقاً، وصورة هذه المسألة: اتفق ولي المرأة - برضا المرأة - والزوج على أن يكون مهر المرأة عشرة آلاف، لكنْ لما كان العلن قالوا: نريد أن نجامل الناس فنقول أربعين، وكذلك العكس، كأن يقول: أنا لا أزوجك ابنتي إلا بمائة ألف، والناس يزوجون بعشرين ألفاً فيقول الآخر: قبلت ويتفقان على ذلك ويعقدان العقد في السر على ذلك، وأما في العلن فيكتبان ويتفقان على أنه عشرين ألفاً، فالمذهب على أنه يؤخذ بالزائد مطلقاً سواء كان الزائد هو السر أو العلن، أما إن كان الزائد هو صداق السر فذلك لأنه قد وجب به فقد تعاقدا بالنكاح على ذلك، وكان هذا هو الصداق الذي وقع عليه عقد النكاح فوجب به، وإن كان الزائد في العلن ؛ كأن يتفقا على عشرة آلاف في السر وعلى أربعين في العلن، فيجب الزائد وهو أربعون ألفاً، وذلك لأنه قد بدله لها فلزمه ذلك وإن كان العقد هو ما يكون في السر، هذا هو المشهور في المذهب للتعليل المتقدم.
والمشهور في المذهب أنه يستحب الوفاء لأنهما قد اتفقا وتشارطا على شيء يخالف هذا الزائد أو على الزائد وظاهر الأمر على أن ما في العقد أقل من الزائد، فيستحب لمن كان عليه الزائد أن يوفي، فيستحب للمرأة إذا كان العقد في السر على عشرة آلاف، وفي العلن على أربعين ألفاً، فيستحب لها أن ترد عليه ثلاثين ألفاً ولا تأخذ إلا العشرة آلاف، ويستحب للزوج إذا كان العقد في الباطن على أربعين ألفاً والعقد في الظاهر على عشرة آلاف فيستحب له ألا يعتمد على العشرة آلاف التي في الظاهر بل يدفع لها حقها الذي قد اتفقا عليه في الباطن، هذا على الاستحباب.(20/104)
والصحيح وجوب ذلك، وهو القول الثاني في المذهب، وصوبه صاحب الإنصاف وهو القول الراجح، وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولوجوب الوفاء بالعقود والعهود وهذا من العهد فولي الزوجة قد تعهد له والزوجة كذلك، وكذلك الزوج فإن المرأة لم تبح له بضعها إلا على المهر الذي هو الزائد وإنما اتفقا في المهر على شيء في الظاهر أقل من الزائد لعلة أخرى.
مسألة:
إذا أهدى الزوج إلى زوجته قبل العقد أو بعده هدايا فلا يدخل ذلك في المهر لأنه ليس مما يتفق عليه وإن كانت قبل العقد ولم يوفوا له بالنكاح، أو كانت الهدايا بعد العقد وحصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر كله كالفسخ بالعيب ونحوه فإن الهدايا ترجع إليه وذلك لأن هذه الهداية هدية مشروطة ببقاء عقد النكاح، ودلالة الحال تدل على ذلك فهو لم يهدي إلا لهذا السبب وهو ابقاء عقد النكاح وحيث ولم ينكحوه أو حصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر فإنه حينئذٍ لم يتم مراده ولا مقصوده وحينئذٍ يرجع له حقه لأن العقد قد زال وحينئذٍ يترتب على ذلك عدم السبب الذي قد أهد له، وهذا هو المشهور في المذهب.
الدرس الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال [يصح تفويض البُضع، بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر]
…التفويض في اللغة: الإهمال، فكأن المهر أهمل لما لم يسمّ وهو نوعان: تفويض بضع، وتفويض مهر .(20/105)
فأما النوع الأول: فهو أن يزوج الرجل ابنته المجبرة بلا مهر، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، فيكون المهر منفياً، فهذا يصح كما قال المؤلف ، فيكون لها مهر نسائها هذا هو مذهب جمهور الفقهاء واستدلوا: بقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة قالوا: ولما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال رضي الله عنه: (لها مثل صداق نسائها لاوَكسْ ولاشطط - أي لا نقص ولا ظلم -، وعليها العدة ولها الميراث)، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بروع بنت واشق -إمرأة منا- بمثل ما قضيت به "، والحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قالوا: فهذا يدل على صحة تفويض البضع، والقول الثاني في المسألة، وهو قول في مذهب أحمد واختاره شيخ الإسلام واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يصح النكاح إلا بمهر، والمهر إما أن يكون مسمى فيجب المسمى كأن يقول:" نكحت موليتك على عشرة آلاف "، وإما أن يكون مسكوتاً عنه فيجب مهر المثل، فهوا مسكوت عنه فليس بمنفي بل قد نكحها على مهر لكنه لم يفرض لها فيكون لها مهر مثيلاتها، وأما أن يكون منفياً فلا، وهو مخالف لكتاب الله تعالى ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم } ، أي – ما فرضنا من المهور-، وأيضاً قوله تعالى: { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } ، ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبح الواهبة نفسها لخاطبها مع فقره الشديد حتى قال له: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم ينكحه بلا مهر حتى أنكحه بما معه من القرآن، وهذا القول هو القول الراجح.(20/106)
وأما الأدلة المتقدمة فإنه ليس فيها أن المهر منفي، وإنما المهر مسكوت عنه، فالمهر لم يفرض -أي لم يسم- وليس في ذلك أنه منفي، وعلى ذلك فتفويض البضع باطل فالنكاح باطل،ولذا أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح الشغار لعدم المهر- أي المهر منفي فيه -.
قال: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما، أو أجنبي]
هذا هو النوع الثاني من التفويض وهو تفويض المهر كأن يقول " أتزوجك على ما شئت من المهر " أي على ما شئتِ من المهر أو تقول هي: " أرضى بنكاحك على أن يكون لي من المهر ما شئتُ "، أو يفوضاه إلى أجنبي عنهما كأن يقول: " على ما شاء فلان "، فهذا هو تفويض المهر فهنا قد فوض المهر وأهمل ولم يسمي فالنكاح صحيح ويجب مهر المثل . والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذه المسألة المهر ثابت وهي لا ترضى إلا به، فهي إنما نكحته على مهر لكن هذا المهر مجهول، فلما كان مجهولاً كان فاسداً وعليه فيجب لها مهر المثل، وأما المسألة السابقة فلا مهر بل هو منفي.
قال: [ولها مهر المثل بالعقد ويفرضه الحاكم بقدره]
فالحاكم - أي القاضي-، هو الذي يقدر مهرها بالنظر إلى نسائها ثم قال بعد ذلك:ولها مهر نسائها فيقدر الحاكم مهر المثل بالنظر إلى مهر نسائها والمشهور في المذهب أن مهر نسائها هو مهر قريباتها من أبيها وأمها، كالأم والعمة والخالة والأخت ونحو ذلك، ويقدر المهر لها على حسب ما يكون لقريبتها المساوية لها جمالاً ومالاً وسناً وعقلاً وبكارةً وثيوبةً وأدباً، وقال مالك: بل يقدر لها المهر باعتبار ما فيها من الصفات بقطع النظر عن نسائها، بمعنى ينظر ما فيها من الصفات من نسب وجمال ونحو ذلك فيقدر لها المهر بحسب ما فيها من الصفات.(20/107)
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختاره الموفق: أنه يقدر لها المهر بالنظر إلى نسائها من جهة أبيها لا من جهة أمها مع النظر إلى الصفات التي تقدم ذكرها بمعنى ينظر من جهة الأب كالأخت والعمة وعمة الأب وبنت الأخ، ثم ينظر من يساويها جمالاً ومالاً وأدبها وعقلها وبكارتها أو ثيوبتها ونحو ذلك، ثم يقدر لها المهر بحسب ذلك، وهذا القول هو أرجح هذه الأقوال.
أما ما ذهب إليه الإمام مالك ففيه ضعف، وذلك لأن ما ذكره من الشروط من جمال ونحوه في المرأة معتبر في القولين الآخرين لكنهم قيدوه بنسائها ولا شك أن نساءها – حسنهن واحد، ولا شك أن حسب المرأة له أثر في المهر ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لحسبها …..)، ورجحنا القول الثالث على القول الأول: ذلك لأن الحسب إنما هو معتبر من جهة الأبوة لا من جهة، الأمومة لأن أمها قد لا تكون من حسبها فقد تكون أعلى من عصبتها نسباً وقد تكون دونهن نسباً، فجهة الأمومة لا أثر لها هنا لأن الحسب إنما يكون من جهة العصبة لا من جهة الأم، فأرجح الأقوال ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الموفق أنه يجب أن يكون لها مهر نسائها من عصبتها - أي من قرابتها من جهة الأب - مع اعتبار الصفات الثابتة في المرأة من مال وجمال وأدب وعقل وبكارة أو ثيوبة ونحو ذلك، ويدل على اعتبار كونها من نسائها ما تقدم من قول ابن مسعود: " لها مثل صداق نسائها " وقول معقل بن سنان: " قضى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
قال: [وإن تراضيا قبله جاز]
فإذا تراضيا الزوجان على شيء من المهر قبل أن يقدره الحاكم، فذلك لهما وذلك لأنه حق لهما فلا يعدوهما.
قال: [ويصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه](20/108)
فإذا أبرأته المرأة من المهر قبل أن يفرضه الحاكم وذلك كأن تقولَ: " قد أبرأته منه" فحينئذٍ يسقط عنه، لأنها هي صاحبة الحق فذلك حقها وقد أبرأت زوجها منه، وقد صح النكاح لأن المهر ليس بمنفي، لكن لو كان المهر منفياً – ويدخل هذا في عموم عبارة المؤلف وهو المذهب أيضاً – لو كان منفياً فكذلك، لكن الصحيح كما تقدم أن المنفي باطل من أصله، ولو قبضت المهر ثم وهبته إياه وكانت جائزة التصرف فيجوز بلا خلاف.
قال: [ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها]
فمن مات من الزوجين قبل الإصابة - أي قبل الجماع وقيل الخلوة وقيل الفرض أي قبل أن يفرض لها صداقاً- فإنه يرثه الآخر للحديث المتقدم: (فعليها العدة ولها الميراث)، وكان لم يسم لها صداقاً وقد مات قبل أن يدخل بها.
قال: [وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره]
إذا طلق المفوضة – بفتح الواو – أو المفوضة – بكسر الواو – وكذلك من لم يسمي لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة.
المفوضة: قد نفي مهرها حيث كان التفويض في بضعها وحيث لم يكن في بضعها بل بمهرها فالمهر مجهول، وكذلك إذا لم يسمِّ لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره لقوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين } ، وفي قوله (حقاً) ما يدل على فرضيته، وفي قوله (متاعاً بالمعروف) ما يدل على أن هذا المتاع يرجع فيه إلى العرف من خادم أو سكن أو ثياب أو نحو ذلك مما تعارف الناس على أنه متاع للمطلقة، فإنه يجزئه أن يعطيه إياها.
واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: أن المطلقة بعد الدخول كذلك لها المتعة، خلافاً لمذهب جمهور العلماء لقوله تعالى: { وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين } وما ذهب إليه ظاهر فالآية تدل عليه.(20/109)
قال: [ويستقر مهر المثل بالدخول]
يستقر مهر المثل وكذلك المهر المسمى بالدخول والخلوة أيضاً، أما بالوطء فهو ظاهر قوله تعالى: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } ، فدل على أنه إن طلقها بعد المسيس فيجب المهر كاملاً، وأنه لا ينصف، هذا هو مفهوم المخالفة لهذ الآية فيجب للمرأة المهر كاملاً إذا مسها، وكذلك الخلوة في مذهب جمهور العلماء، فإذا خلا الرجل بالمرأة فيجب لها المهر وإن لم يمسها، وذلك لما روى سعيد بن منصور في سننه عن زُرارة بن أبي أوفى قال: " قضاءُ الخلفاء الراشدين: إذا أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة "، وزُرارة لم يدرك الخلفاء الراشدين، لكنه ثابت السند الصحيح في سنن البيهقي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب ولا يعلم لهما مخالف فكان إجماعاً.
والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: " لا يثبت لها المهر كاملاً إن خلا بها ما لم يمسها لظاهر الآية المتقدمة .
والراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لما تقدم، فهو قول عمر وعلي ولا يعلم لهما مخالف.
قال: [وإن طلقها بعده فلا متعة]
بالعقد وهو الوطء فقد فعلت ما يجب عليها، لكنه لم يطب وكان ذلك من جهته لا من جهتها ولأن التسليم المستحق وجد من جهتها فكان بوطئها.
وهل يجب المهر كاملاً بغير خلوة ولا وطء، وإنما بما دون الوطء كأن يستمتع بها في غير وطء بلا خلوة كمس يد أو قبلة أو نحو ذلك ؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو قول في المذهب وجوب المهر بذلك كالوطء، لأنه استمتاع فأشبه الوطء.(20/110)
والقول الثاني: وهو اختيار الموفق وهو قول أكثر الفقهاء: أن المهر لا يثبت كاملاً بذلك، وهو الراجح لأن ظاهر الآية إنما دل على أن المهر يثبت بالمسيس أي بالوطء، وذلت أثار الصحابة على أنه يثبت بالخلوة، وليست القبلة ونحوها في حكم المسيس ولا في حكم الخلوة، والذي يتبين والله أعلم أن الخلوة لا تثبت بها هذا الحكم إلا إذا كانت بحيث يمكنه أن يطأها معها، أما إذا كانت خلوة يسيرة لا يتمكن من وطئها فلا يتبين أنه يجب المهر بمثل هذه الخلوة، وذلك لأن ظاهر الآية أنه لا يجب إلا مع المسيس، وإنما وجب مع الخلوة لأن الخلوة مظنة المسيس، ولأن الخلوة تمكين من المرأة لنفسها، وليس هذا في أي خلوة، وإنما يثبت بالوطء في القبل على الصحيح، وأما الوطء في الدبر فلا يثبت فيه هذا الحكم، لأنه ليس هذا المسيس المشروع.
قال: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر]
…إذا نكحها نكاحاً فاسداً كأن ينكحها بلا ولي ثم فارقها قبل أن يدخل بها، فلا مهر، وذلك لأن هذا نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه، فالنكاح الفاسد وهو نكاح شبهة عقد، فإذا طلقها قبل الدخول فلا مهر لها، لأنه فاسد فكان وجوده كعدمه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها)، وظاهره أنه لا مهر لها إن لم يستحل فرجها.
قال: [وبعد أحدهما يجب المسمى](20/111)
فبعد الدخول أو الخلوة يجب المسمى، وإن لم يكن قد سمى المهر فيجب مهر المثل، أما إن مسها فهذا ظاهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها)، وأصرح منه ما ورد في رواية ابن حبان: (ولها ما أعطاها بما أصابها)، أي لها ما أعطاها من المهر بما أصابها، وأما إن كانت مجرد خلوة ولم يطأها فلا يتبين أنه يجب عليه المهر، وذلك لأنه نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أوجب المهر حيث أصابها وهنا لم يصبها، وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار الموفق ابن قدامة ورواية عن الإمام أحمد.
وأولى من ذلك النكاح الباطل كنكاح الخامسة، والنكاح الباطل عند الفقهاء هو: ما أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة، وأما النكاح الفاسد فهو: ما اختلف فيه كالنكاح بلا ولي، ففي النكاح الباطل إن طلقها قبل الدخول فلا شيء لها لأنه نكاح باطل فوجوده كعدمه، وإن كان بعد الخول، فالمذهب وهو الصحيح في هذه المسألة: أن لها المهر إن استحل فرجها للحديث المتقدم: (ولها ما أعطاها بما أصابها)، ولا فرق فيما حرمه الشارع بين ما أجمع عليه أو لم يجمع عليه، لكن إن كانت عالمة بأن النكاح باطل أو فاسد فلا شيء لها لأنها زانية مطاوعة فلا شيء لها.
قال: [ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة]
إذا وطئت بشبهة كأن يظنها زوجته فيطأها، فيجب مهر المثل، قال الموفق: بلا خلاف أعلمه.
قال: [أو زناً كرهاً](20/112)
فإذا أكرهها على الزنا فيجب لها المهر بما استحل من فرجها، هذا هو مذهب الجمهور للحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها)، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا مهر لها ولا عوض لها وإن كانت مكرهة وذلك لأن هذا العوض خبيث وهو سحت فهو مقابل حرام فكان سحتاً محرماً ولم يكن حلالاً مباحاً ولا يقاس هذا بهذا، ولا يلحق ما أباحه الله بما حرمه الله، وهذا هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي.
قال: [ولا يجب معه أرش بكارة]
هذا على القول بوجوب مهر المثل، فهل يجب أرش البكارة ؟
قال: لا يجب أرش البكارة، وذلك لأن مهر المثل يدخل فيه أرش البكارة، فإنها قدرت على أنها بكر، وقدر مهرها على أنها بكر، فنظر إلى بكارتها أثناء تقدير مهرها، وعلى القول الراجح المتقدم وهو أنه لا مهر لها فحينئذٍ يحتاج أن يجعل لبكارتها مهرا،ً وذلك لأنه قد أتلف عليها شيئاً مما ينتفع به، فكان عليه أرش ذلك، ويعرف أرش البكارة بأن ينظر إلى مهرها وهي بكر وينظر إلى مهرها وهي ثيب، والفارق بينهما هو أرش بكارتها.
قال: [وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال]
فإذا تزوج الرجل امرأة على أن يصدقها عشرة آلاف حالةً، ثم قال: أريد أن أبني بالمرأة ولم يعطها صداقها فللمرأة أن تمتنع ولوليها أن يمنع من ذلك، وذلك لأن العوض وهو المهر لم يقبض فكان لهم المنع من تسليم المعوض، فلهم المنع من تسليم المعوض وهو البضع حتى يستلموا عوضه، وهذا بإجماع أهل العلم وهذا ظاهر، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيتعذر عليها إرجاع المعوض، وظاهر قوله: "حالاً" أنه لو كان مؤجلاً فليس لها أن تمنع ولذا
قال: [فإن كان مؤجلاٍ ….. فليس لها منعها]
فإذا كان المهر مؤجلاً كأن يقول: " أتزوجها على عشرة آلاف إلى سنة،" ثم أراد أن يبني بها فليس لها أن تمنعه من نفسها، وذلك لأنها قد رضيت بتأخير صداقها وهو متضمن رضاها بتسليم نفسها قبل قبض صداقها.(20/113)
قال: [أو حل قبل التسليم]
إذا قال: المهر أدفعه لكم بعد شهر فرضوا بذلك فمر الشهر ولم يسلم الصداق، فيجب عليها أن تمكنه من نفسها وألا تمنع نفسها منه، وقالوا:وذلك لأنها قد وجب عليها واستقر وجوب تسليم بضعها قبل القبض فلم يكن لها أن تمتنع.
والقول الثاني في المذهب: أنه لا يجب عليها ذلك، وهذا فيما يظهر لي أظهر للعلة المتقدمة وهي منع تسليم المعوض قبل أخذ عوضه، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيفوت عليها منعه بضعها.
قال: [أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعها]
إذا اتفقوا على صداق حال، فسلمت نفسها له تبرعاً فليس لها أن تمنع نفسها بعد ذلك، وذلك لأن المهر قد استقر بهذا التسليم فلم يكن لها المنع، ولأنها قد رضيت فسلمت نفسها عن رضى فاستقر العوض بذلك.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة النعمان ورواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: أن لها أن تمنع نفسها وقد تبرعت له، وذلك لأن رضاها ليس مطلق بل هو مقيد بشرط وهو أن يعطيها صداقها، وأن يقبضها إياه، فقد مكنته من نفسها بهذا الشرط فليس رضاها رضا مطلقاً بل هو مقيد بهذا الشرط وهو أن يسلمها صداقها وحينئذٍ فلها أن تمنع نفسها، وهذا هو القول الراجح.
قال: [فإن أعسر بالمهر الحال، فلها الفسخ ولو بعد الدخول]
إذا أعسر بالمهر الحال قبل الدخول فلها الفسخ، وذلك لتعذر الوصول إلى العوض قبل تسليم المعوض، ولو كان بعد الدخول، فإذا دخل بها ولم يسلم مهرها الحال فلها أن تفسخ حيث أعسر، وذلك لأن لها حينئذٍ منع نفسها على الصحيح فكان لها الفسخ، ولأنها إنما مكنت نفسها لأخذ حقها وصداقها وحيث أعسر بذلك فلها الحق بالفسخ، لكن الفسخ لابد أن يكون بحكم حاكم في المشهور في المذهب ولذا قال المؤلف:
[ولا يفسخه إلا حاكم]
وتقدم كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة وأن الفسوخ تصح بغير حكم حاكم، وأن الحاكم إنما يأذن بذلك.
الدرس السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة(20/114)
باب وليمة العرس
الوليمة: هي طعام العرس خاصة، فلا تطلق الوليمة في اللغة إلا على طعام العرس خاصة.
قال: [تسن]
فالوليمة سنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبدالرحمن بن عوف كما في الصحيحين: (أولم ولو بشاة)، ولما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد من نسائه ما أولم عليها – يعني زينب بنت جحش – أولم بشاة، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الوليمة.
وإنما اختلفوا هل هي سنة مستحبة – كما ذكر المؤلف – أم هي واجبة ؟
فالجمهور على أنها سنة، وقال بعض أهل العلم بوجوبها وهو مذهب الظاهرية وقول في مذهب الشافعي وحكاه ابن عقيل عن الإمام أحمد، وهو الراجح لظاهر الحديث: (أولم ولو بشاة)، ولما ثبت في المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي لما تزوج فاطمة: (لا بد للعرس من وليمة)، والمذهب أنها تسن بالعقد، فوقتها المستحب في المشهور من المذهب العقد، وقال شيخ الإسلام: تسن بالدخول، وقال صاحب الإنصاف: " الأولى أن يقال إن وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس "، وما ذكره أظهر، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس أن الوليمة تكون بعد العقد فتسن كذلك وإن كان عرفهم بالبناء بالمرأة والدخول بها فتستحب كذلك.
قال: [بشاةٍ فأقل](20/115)
لا حد لأكثر الوليمة – بإجماع أهل العلم – فلو أولم بخمس شياه أو عشر فذلك كله جائز ما لم يكن ذلك إسرافاً أو مخيله، والمستحب أن تكون بشاة فأقل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة)، ولما تقدم أنه أولم لزينب بنت جحش بشاة، لكن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولم لو بشاة)، كما ذكر ذلك بعض الحنابلة أن الأولى أن تكون أكثر من شاة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل كونها وليمة قليلاً، فقال (أولم ولو بشاة) أي أولم ولو بشيء قليل كالشاة، فدل هذا على أن الأولى أن تكون الوليمة بأكثر من شاة، ولو أولم بأقل من شاة فذلك جائز، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على صفية بالأقط والتمر والسمن)، وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على بعض نسائه بمدين من شعير)، لكن الأولى له أن يولم بشاة فأكثر.
قال: [وتجب في أول مرة إجابة مسلمٍ]
تجب إجابة مسلم في أول مرة أي في وليمة اليوم الأول من أيام العرس، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (شر الطعام وليمة العرس يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) .
وذكر بعض فقهاء الحنابلة كابن عقيل والشيخ عبدالقادر الجيلاني استثناءً فيه قوة وهو: أنه يكره لأهل العلم والفضل الإسراع في إجابة الدعوة والتهاون لما فيه من البذلة والدناءة والشره، قالوا: لا سيما القاضي لأنه ربما كان فيه ذريعة إلى التهاون به وعدم المبالاة، وهكذا أهل العلم والفضل، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، فإنما تجب وليمة العرس في اليوم الأول، وأما اليوم الثاني فإجابتها سنة.(20/116)
وأما في اليوم الثالث فتكره، وذلك لما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طعام الوليمة في اليوم الأول حق، وطعام اليوم الثاني سنة، وطعام اليوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به) والحديث ضعفه الترمذي فقد رواه واستغربه فهو من حديث زياد بن عبدالله وعطاء بن السائب، وزياد بن عبدالله ضعيف الحديث، وعطاء بن السائب مختلط، وقد روى عنه زياد بن عبد الله بعد اختلاطه، وعلى ذلك الحديث ضعيف فيه علتان:
ضعف زياد بن عبدالله.
اختلاط عطاء بن السائب، وقد روى عنه عبدالله بن زياد بعد اختلاطه.
وبهذا الحديث احتج الحنابلة والشافعية على كراهية إجابة الدعوة في اليوم الثالث، وقال المالكية: لمن كان له سعة أن يولم سبعة أيام، لما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن حفصة بنت سيرين قالت: " تزوج أبي فدعا الصحابة سبعة أيام " قال البخاري: " ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ولا يومين " وثبت في مسند أبي يعلى بسندٍ حسن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج صفية " جعل عتقها صداقها وجعل الوليمة ثلاثة أيام "، والذي يتبين أن مرجع هذا إلى العرف، لكن لا يتبين وجوب إجابة الوليمة في أيامها كلها بل لو أجاب في اليوم الأول فإن ذلك يجزئ لما في ذلك من الحرج من إجابة الوليمة في أيامها كلها، ولأن تطيب خاطر الداعي يحصل في اليوم الأول، فالذي يتبين أنه يجب في اليوم الأول وأما سائر الأيام فيسن ولا يجب.
قال: [يحرم هجره إليها إن عينه]
فيجب إن عينه بالدعوة، وأما إذا كانت الدعوة عامة فسيأتي الكلام عليها، وبشرط أن يكون هذا المسلم ممن يحرم هجره، وأما إذا كان ممن يجب هجره فإن من الهجر عدم إجابة دعوته.
قال: [ولم يكن ثم منكر]
وسيأتي كلام المؤلف على هذا.
قال: [فإن دعاه الجَفلي]
الجَفَلى: هي الدعوة العامة كأن يقول: " يا أيها الناس احضروا ".
قال: [أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كُرهت الإجابة](20/117)
تقدم أن الدعوة في اليوم الثالث لا تصح كراهيتها وكذلك دعوة الجفلى، فلا يثبت دليل يدل على كراهيتها، والقول الثاني في المذهب: أنها مباحة وهذا هو الراجح فلا دليل على كراهيتها، بل لو قيل باستحباب الإجابة لعمومات الأدلة لكان فيه قوة، ولا يقال بالوجوب .
إذا دعاه ذمي فتكره الإجابة قالوا: لأنه مطالب بإذلاله.
وهذا التعليل ضعيف ولا يقوى على الكراهية والراجح إباحة إجابة دعوته، وهو القول الثاني في المسألة، ويدل عليه ما ثبت في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يجيب دعوة اليهود، فالراجح أن دعوة الذمي لا تكره إجابتها.
قال: [ومن صومه واجب دعا وانصرف]
فمن كان صومه واجباً فإنه يدعو لصاحب الوليمة وينصرف، وذلك لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم)، ولا يحل له أن يفطر لما تقدم في كتاب الصيام من أن الصوم الواجب لا يجوز الفطر فيه كصوم رمضان أو صوم النذر.
قال: [والمتنفل يفطر إن جبر]
أي إن جبر خاطر الداعي، فإذا كان في ذلك جبراً لخاطر الداعي فإنه يرجح الفطر، لما ثبت في البيهقي بإسنادٍ حسن عن أبي سعيد الخدري قال: " صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فجاءوا أصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل إني صائم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعاكم أخوكم وتكلف لكم – ثم قال له: – أفطر وصم يوماً مكانه إن شئت) "، ولا تجب إجابة الدعوة في غير العرس كالوكيرة والنقيعة وغير ذلك وإنما يستحب.
والوكيرة: هي دعوة البناء أي بناء البيت.
والنقيعة: هي الطعام للغائب.(20/118)
وظاهر الأحاديث المتقدمة وجوب إجابتها، لكن يدل على عدم الوجوب ما روى مسلم: " أن فارسياً كان طيب المرق فصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً ثم جاء يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:(وهذه) أي عائشة فقال: " لا " فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:(وهذه) قال: " لا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:(وهذه) فقال: " نعم " فقاما يتدافعان إلى منزله".، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الواجب لمثل هذا العذر، فهذا عذر لا يقوى على ترك الواجب، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم وأن إجابة غير وليمة العرس ليس بواجب بل مستحب.
قال: [ولا يجب الأكل]
إذا حضر الوليمة فإنه لا يجب عليه الأكل، وذلك لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ثم إن شاء فليطعم وإن شاء فليترك)، فلا يجب الأكل إنما يستحب لما تقدم في حديث أبي سعيد عند البيهقي فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل بالفطر.
قال: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة]
فلا يحل له أن يطعم إلا بإذن لفطر، أو إذن عرفي فالإذن اللفظي كأن يقول كلوا، والإذن العرفي بأن يدعى إلى الطعام سابقاً ثم تقدم بين يديه، وإلا فلا يحل له، وذلك لأنه مال غيره فلا يحل إلا بإذنه، ولا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه، ولا يملكه بذلك فلوا أنه إذا وضع له الطعام تصدق به أو أخذه فلا يحل له ذلك، وذلك لأنه إنما أباحه له ليطعمه ولم يُمّلِكهُ إياه، فعليه يهلك في ملكية الداعي أي يفنى الطعام في ملكية الداعي فليس له أن يتصدق به إلا إذا أذن له بذلك صاحب الدعوة.
قال: [وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغيّره وإلا أبى](20/119)
إذا علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره فإنه يحضر وجوباً، أولاً ؛ لوجوب إجابة وليمة العرس، وثانياً ؛ لإزالة المنكر.
فإن كان فيه منكر لا يقدر على إزالته كأن يكون فيه سماع محرم كالغناء أو يكون أشياء مرئية محرمة كخلطة النساء فلا يحل ذلك، وفي الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس من مأدُبةٍ يدار فيها الخمر)، وهو ثابت في المسند والحديث صحيح، وفي سنن البيهقي بإسنادٍ صحيح: أن أبا مسعود الأنصاري صنع له طعام فدعي إليه فقال: " أفي البيت صور " فقيل له: " نعم " فأبى أن يدخل حتى نزعت الصور ثم دخل.
قال: [وإن حضر ثم علم به أزاله]
فالمسألة الأولى قبل الحضور وهنا بعد الحضور، فلما حضر وأجاب الدعوة علم أن ثم منكراً فيجب عليه أن يزيله.
قال: [فإن دام لعجزه انصرف]
فإن دام المنكر لعجزه فهو غير قادر على إزالته، وإن كان أنكر بلسانه أو أنكر بقلبه لكنه لم يقدر على إزالة المنكر فإنه ينصرف، لئلا يكون مقراً للمنكر أولاً، ولئلا يكون هذا طريقاً لرؤيته للمنكر أو لسماعه له فلا يجوز أن يجلس وثمَّ منكر فإن قدر على إزالته جلس، وإلا فإنه يجب عليه أن ينصرف.
قال: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خُيِّر](20/120)
إذا علم أن ثم منكراً لكنه لا يراه ولا يسمعه، كأن يكون في مجلس وفي مجلس آخر منكرات سوى المجلس الذي هو فيه، فإنه يُخير بين الجلوس وبين الإنصراف فإن شاء انصرف لوجود هذا المنكر الذي علم به، وإن شاء جلس، ولم يذكر المؤلف موقفه من هذا المنكر، وظاهر كلامه أنه لا يجب عليه إنكاره، والصحيح أنه يجب عليه الإنكار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً …)، وهنا العلم يقوم مقام الرؤية فقد علم بالمنكر وتحقق منه فيجب عليه أن ينكره، وأما ما ذكر المؤلف من كونه بالخيار بين الجلوس والانصراف فهو ظاهر، وذلك لأنه لا يعد مقراً للمنكر ولا يتطرق المنكر -إن كان مسموعاً- إلى سمعه، -وإن كان مرئياً -إلى بصره لكونه في موضع آخر.
قال: [وكره النِّثارُ والتقاطُه]
النثار: هو أن يطرح طعام أو نحوه أي يرفع الطعام ثم يرمي في الهواء حتى يتساقط فهذا يكره فعله ويكره التقاطه، لما في ذلك من امتهان الطعام، ولما فيه من الدناءة.
قال: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله]
من أخذه أو وقع في حجره فإنه يكون له، وذلك لأنه حازه بذلك وقد جعله مالكه لمن حازه.
قال: [ويسن إعلان النكاح]
تقدم الكلام على هذا ودليله.
قال: [والدف فيه للنساء]
وتقدم الكلام على هذه المسألة، وتقدم أن هذا هو اختيار الموفق، وظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد التسوية بين الرجال والنساء.
الدرس السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب عشرة النساء
العشرة: في اللغة الاجتماع.
وفي الاصطلاح: ما يكون بين الزوجين من ألفةٍ وحسن صحبة.
قال تعالى: { وعاشروهن بالمعروف } وقال { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } .
قال: [يلزم الزوجين العشرة بالمعروف]
للآيتين المتقدمتين.
قال: [ويحرم مطل كل واحدٍ بما يلزمه للآخر والتكره لبذله](20/121)
المطل هو: دفع الحق، فيحرم مطل كل واحدٍ منهما بما يلزمه للآخر، والتكره لبذله من نفقة أو خدمة أو وطء أو غير ذلك لقوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف } ولقوله: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ، ولا شك أن مطل الحق والتكره في بذله ليس من المعاشرة بالمعروف.
قال: [وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه]
قياساً على البيع وهذا من باب تسليم المعوض، فيمكن الزوج منافع بضعها والاستمتاع بها، كما يمكن المشتري من السلعة التي قد وقع عليها، وذلك إن طلب لأنه حقه، فلا يجب تسليم الحرة إلا بطلبه لأنه حقه.
قال: [ولم تشترط دارها أو بلدها]
فإن اشترطت أن يكون التسليم في دارها أو بلدها فإنها لا تسلم إليه في بيته، بل تسلم إليه في دارها وفي بلدها، وذلك للأدلة المتقدمة في وجوب الوفاء بالشرط، فهذا شرط يجب الوفاء به.
قال: [وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً]
إذا طلب الزوج تسليم الزوجة فاستُمهل فيجب عليه أن يجيبهم إلى ذلك بما جرت العادة بمثله من يوم أو يومين أو ثلاثة أو غير ذلك مما جرت العادة بمثله، يدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطرقوا النساء ليلاً، حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)، أي التي غاب زوجها، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإمهال المرأة حتى تمتشط إن كانت شعثة وحتى تستحد - وهذا مع ثبوت المصاحبة - فإنها قد صاحبها فأولى من ذلك من لم يصاحبها، أي إذا ثبت هذا الإمهال للزوجة التي قد سبق صحبتها فأولى من ذلك المرأة التي لم يسبق صحبتها فإن حاجتها إلى الاستعداد له والتهيؤ أقوى.
قال: [لا لعمل جهازٍ]
جهاز بفتح الجيم، ويصح بكسرها وهو: ما تجهز به المرأة إلى بيت الزوج، فإذا استمهلوا للجهاز فلا يجب عليه القبول، وذلك لعدم الضرورة، فليس من باب تهيئة المرأة واستعدادها لزوجها بل هو أمر خارج عن ذلك، وموجِب العقد من التقابض مردود إلى العرف.(20/122)
قال: [ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط]
لأن الأمة مملوكة لسيدها الذي قد زوجها، فزمن الاستمتاع بها من الزوج بالليل، ولسيدها أن يستخدمها بالنهار فهو زمن الاستخدام، فزمن خدمتها لسيدها بالنهار فلا يجب عليهم أن يسلموها له إن طلبها نهاراً، وأما في الليل فهو زمن الاستمتاع بها.
قال: [ويباشرها ما لم يُضر]
يباشر المرأة ما لم يضر بها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
قال: [أو يشغلها عن فرض واجب]
كصلاة واجبة أو صيام واجب، قال تعالى: { نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ، فيستمتع بها في قبلها من دبرها، وفي قبلها من قبلها، ويستمتع بها بما دون ذلك وليس لها أن تمنعه.
قال: [وله السفر بالحرة]
دون الأمة؛ لأن الأمة لا بد من أن يأذن لها السيد، فهي ملك للسيد وله الخدمة منها وأما الحرة فله أن يسافر بها بشرط الأمن عليها أي ألا يعرضها في سفره لخطر.
قال: [ما لم تشترط ضده]
فإذا شرطت ألا يسافر بها عن بلدها فلها ذلك لأن المسلمين على شروطهم.
قال: [ويحرم وطؤها في الحيض]
لقوله تعالى: { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } ، وهذا بإجماع العلماء.
قال: [والدبر](20/123)
فجماعها في الدبر محرم، وهذا باتفاق السلف واتفاق أهل العلم، والأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة، فعند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد)، وروى الترمذي والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحيي من الحق)، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: (هي اللوطية الصغرى)، فجماع المرأة في دبرها أي إيلاجاً من دبرها محرم وهو من كبائر الذنوب، ولا يصح حكاية جواز هذا عن أحدٍ من السلف، ومن حكى ذلك عن بعض السلف فقد غلط في ذلك، ومنشأ الغلط عدم التفريق بين لفظة (من) و(في) فللرجل أن يأتي امرأته في قبلها من دبرها، أي من خلفها وأما أن يأتيها في دبرها فإن هذا محرم، وقد أخطأ من فهم عن بعض أهل العلم من السلف إباحة ذلك، ولو تطاوع الزوجان على ذلك فرق بينهما وقياسه الوطء في الحيض.
والعزل مكروه وجائز، أي جائز ليس محرم لكنه مكروه ودليل عدم تحريمه ما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهى عنه القرآن)، وفي مسلم (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينه عنه)، وكراهيته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك الوأد الخفي)، ويشترط استئذان الزوجة في العزل لأن لها حقاً في الولد، ولأن في ذلك كمال استمتاعها، وقد أجمع على هذا أهل العلم، وفي المسند بإسناد ضعيف - فيه ابن لهيعة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يعزل عن الحرة)، أي إلا بإذنها، والحديث ضعيف لكن أجمع أهل العلم عليه، فإن كانت أمة فقولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز أيضاً لحق السيد في الولد، ولأنها زوجة فأشبهت الحرة.(20/124)
القول الثاني: وهو مذهب الشافعية وهو احتمال في المذهب: أنه يجوز، وذلك لما فيه من الضرر عليه باسترقاق ولده لأن أولاده يكونون رقيقاً لسيد أمهم.
وهذا القول أظهر، فإن فيه استرقاقاً للولد وهو ضرر بالغ لا يعدل له هذا الحق الذي يضيع على السيد أو على الأمة بتحصيل الولد، فالراجح أنه يجوز له أن يعزل بلا إذن الأمة.
قال: [وله إجبارها على غسل حيض ونجاسة]
واجتناب المحرمات، وهذا لما فيه من المنكر فيجب عليه أن ينكر وهذا واجب عليها، وهو راعٍ ومسؤول عن رعيته.
قال: [وأخذ ما تعافه النفس من شعرٍ وغيره]
من ظفر ونحو ذلك لما فيه من كمال الاستمتاع.
قال: [ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة]
وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني: أنها تجبر، والصحيح أنها لا تجبر لأن هذا لا يضر بالوطء.
مسألة:
هل تجبر المرأة على خدمة زوجها أم لا ؟
قولان لأهل العلم:
فاتفقت المذاهب الأربعة على أنها لا تجبر، قالوا: لأن العقد مقتضاه الوطء والاستمتاع بها، وأما أن تكون خادمة له فليس هذا من مقتضى العقد.(20/125)
وقال بعض أهل العلم، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك واجب عليها بالمعروف، فيجب على مثلها أي قوةً في بدنها وشرفاً في نسبها ومالها، ما يجب لمثله، وهذا هو الراجح لقوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ، فعليهن واجبات قد أوجبها العرف والعادة فما جرت العادة به فهو واجب، وهذا كان عرف نساء الصحابة كما في قصة فاطمة في الصحيح، وكما في قصة أسماء في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذا القول الراجح حيث جرت العادة بذلك، فإن لم تجر العادة فلا يجب، فيلزمها ما يجب على مثلها لمثله، فإن كانت سيدة وهو وضيع فليس كما لو كانت هي وضيعة وهو سيد، وإذا كانت شريفة في قومها فليست كما لو كانت وضيعة، ويجب على صاحبة البلد الحاضرة ما لا يجب على من تعيش في البادية، فهذه أمور تختلف - وكما قرر شيخ الإسلام - بإختلاف الأعراف واختلاف العادات وباختلاف النساء.
فصل
قال: [ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع](20/126)
يجب عليه أن يبيت عند الزوجة الحرة ليلة من أربع ليالٍ هذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بما روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره – والأثر صحيح – في قصة المرأة التي ذكرت عند عمر تعبُّدَ زوجها فلم يفطن لمرادها وظن أنها تثني عليه خيراً، ففطن لذلك كعب بن سور- رحمه الله - وبين ذلك لعمر، فأمره عمر أن يقضي فيها، فقضى أن يكون لها ليلة من أربع ليالٍ، وذلك كما لو كانت رابعة له، قالوا قد اشتهر هذا الأثر ولا يعلم لعمر مخالف، وقال الجمهور: بل لا يجب لأن القسم لحقه، فإذا لم يبت عندها فقد أسقط حقه، وهذا ضعيف لأن للمرأة حقاً في ذلك، وليس صحيحاً أن القسم لحقه فحسب بل هو لحقيهما ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله وقد وعظه: (ولزوجك عليك حق) متفق عليه، واختار شيخ الإسلام أنه يكون بحسب الحاجة كالوطء وما ورد في قصة كعب تقدير شخص لا يراعى، كما لو فرض النفقة وكونه يجب حال الاجتماع ولا يلزم أن يجب حال الانفراد وهو أصح.
قال: [وينفرد إذا أراد في الباقي]
فإذا أراد في الليالي الباقية أن ينفرد فذلك جائز له.
قال: [ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة]
فيلزمه الوطء كل أربعة أشهر مرة وذلك لقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ، واختار شيخ الإسلام: أنه يجب عليه الوطء بقدر كفايتها ما لم يضر هذا ببدنه أو معاشه وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وهذا هو الراجح لأن هذا هو المعروف { وعاشروهن بالمعروف } وأما الآية فليس فيها أنه يجوز له هذا التأخر وإن كان مضراً بها، بل فيه أنه إذا حلف هذا اليمين فإنه يتربص هذه الأشهر.
قال: [وإن سافر فوق نصفها، وطلبت قدومه وقدر لزمه](20/127)
…أي فوق نصف السنة أي فوق الستة أشهر، وكان السفر غير واجب، فليس سفر حجٍ واجب ولا غزو واجب ولم يكن مما يحتاج إليه في معاشه، فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه ذلك، وذلك لما روى البيهقي أن عمر رضي الله عنه: " وقت للغزاة ستة أشهر " في قصة سماعه أبيات الشعر التي ذكرتها المرأة، فاستشار حفصة فيما تصبر المرأة عن زوجها فذكرت له أنها تصبر خمسة أشهر أو ستة أشهر، فوقت للغزاة ستة أشهر، قالوا فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه.
قال: [فإن أبى أحدهما فُرق بينهما بطلبها]
فإذا أبى الزوج الوطء في المسألة الأولى، وأبى القدوم من السفر في المسألة الثانية، فإنه يفرق بينهما بطلبها أي لها حق الفسخ، وقال أكثر أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الأصحاب كما قال ذلك الموفق: " أنه لا يفرق بينهما"، والصحيح في مثل هذه المسألة ما قرره شيخ الإسلام وهو: أن المرأة إذا حصل عليها الضرر بترك الوطء فإن ذلك مقتضٍ للفسخ بكل حالٍ، سواء كان مع عجز الزوج أو قدرته سواء مع عذره أو مع عدم العذر، وذلك حق الفسخ لدفع الضرر، فإذا لم يطئها أو كان في سفره تركٌ للوطء، فلها الفسخ سواء كان الزوج معذوراً أو لم يكن معذوراً، عاجزاً عن الوطء أو لم يكن عاجزاً عنه.
قال: [وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد]
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً)
قال: [ويكره كثرة الكلام]
أي يكره له كثرة الكلام عند الجماع، قالوا لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تكثروا الكلام عند المجامعة فإن منه الخرس والفأفأة)، لكن الحديث لا يصح وعليه فيجوز ذلك.
قال: [والنزع قبل فراغها](20/128)
أي يكره النزع من الجماع قبل أن تفرغ المرأة من حاجتها، وفي أبي يعلى بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جامع الرجل امرأته فقضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا ينزع حتى تقضيِ حاجتها)، والحديث إسناده ضعيف، لكنه مستحب لتحصيل المرأة على كمال استمتاعها.
قال: [والوطء بمرأى أحدٍ والتحدث به]
فيكره الوطء بمرأى أحدٍ، والتحدث بالجماع، لكن الكراهية غير كافية بل هو محرم بل هو من كبائر الذنوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مسلم: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)، وأعظم من ذلك أن يجامع بحيث يُرى، وهذا القول الثاني في المذهب وهو الراجح وأن ذلك محرم.
قال: [ويحرم جمع الزوجتين في مسكن واحد بغير رضاهما]
لما في ذلك من الضرر بسبب ما يكون بين النساء من الغيرة، فبسبب ذلك لا يجوز له أن يجمع بينهما إلا بالرضا وليس هذا من المعروف، والواجب المعاشرة بالمعروف.
قال: [وله منعها من الخروج من منزله]
اتفاقاً، وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسنادٍ صحيح: " أن معاذ بن جبل سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما هذا يا معاذ) فقال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أني إذا أتيت أن أفعل ذلك لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تفعل، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها على قتب لم تمنعه) "، فهذا فيه وجوب طاعة الزوج، ولذا اتفق أهل العلم على أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأن له أن يمنعها من الخروج وهذا حيث لا ضرر، أما إذا تضررت بذلك فليس له أن يمنعها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار).
قال: [ويستحب إذنه أن تمرض محرمها](20/129)
يستحب له أن يأذن في أن تمرض المرأة محرمها كعمها أو خالها، وكذلك تعوده، وقالوا: لما فيه من صلة الرحم، ولأن المنع قد يحملها على مخالفة أمره، وقال ابن عقيل من الحنابلة: يجب عليه أن يأذن لها لأجل العيادة، أي عيادة والديها أو أحد من محارمها / والذي يترجح أن هذا راجع إلى العرف والطاعة بالمعروف، فإن كان من العرف كزيارة والديها أو زيارة بعض أقاربها ونحو ذلك فإنه ليس من المعروف أن يمنعها وإنما الطاعة بالمعروف، ولذا فالمذهب ؛ أنه له أن يمنعها من زيارة والديها وليس له أن يمنعها من زيارتهم لها، والصحيح ؛ أنه ليس له أن يمنع من ذلك إذا كانت الزيارة بالمعروف أي بما جرى العرف به مما ليس فيه إسراف بالزيارة، لما يثبت معه الصلة وينتفي العقوق، ولا تضيع المرأة معه بيتها ولا حق زوجها.
قال: [وتشهد جنازته]
قال: [وله منعها من إجارة نفسها]
لما فيه من تفويت حقه، فليس لها أن تؤجر نفسها إلا بإذنه، ومن ذلك الأعمال التي تقوم بها المرأة خارج بيتها فيشترط فيها إذن الزوج أو أن تشترط المرأة ذلك في العقد وإلا فله أن يمنعها.
قال: [ومن إرضاع ولها من غيره]
له أن يمنعها أن ترضع ولدها من غيره، لأنه يفوت عليه كمال الإستمتاع بها وهو حق له.
قال: [إلا لضرورته]
فإذا خشي على الولد الهلاك فليس له أن يمنع، وأما لو كان ولدها منه فليس له أن يمنعها من إرضاعه لأن هذا حق لها، فالمرأة إذا كانت بها عصمة زوجها فمن حقوقها إرضاع ولدها، بخلاف ما إذا كانت مفارقة له.
الدرس الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء](20/130)
هذا فصل في القسم بين النساء، فيجب عليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لقوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف } ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الخمسة بإسنادٍ صحيح: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) فهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب، واتفق أهل العلم على أن القسم لا يجب في الحب والجماع لقوله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } ، وروى البيهقي عن ابن عباس وعبيدة السلماني في قوله تعالى: { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } ، قالا: في الحب والجماع.
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: من أحب الناس إليك؟ فقال: (عائشة) ومن الرجال؟ قال: (أبوها)، فالعدل في الحب والوطء غير واجب، نعم يجب عليه أن يطأ امرأته بالمعروف، لكن لا يجب عليه العدل بين النساء في الوطء، كما أنه لا يجب عليه العدل بينهم في الحب.
هل يجب عليه أن يعدل بينهم في النفقة والسكن والكسوة ؟
قال الحنابلة: لا يجب ذلك، قياساً على الوطء لما فيه من الحرج، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره من المتأخرين الشيخ محمد عبدالوهاب وعبدالرحمن بن سعدي: أن ذلك واجب لأنه عدل مقدور عليه، ففارق بين الحب والوطء فإنه عدل غير مقدور عليه لأن الوطء تبع للرغبة والرغبة قلبية والحب إلى القلب فليس بوسع المكلف أن يعدل بين النساء في ذلك.
وأما النفقة والسكن والكسوة فإن العدل مقدور عليه، وهو داخل في المعاشرة بالمعروف، فليس من المعاشرة بالمعروف أن ينفق عليها دون ما ينفقه على بقية زوجاته ولا أن يكسوها دونهن وهو قادر على العدل، نعم قد يقال بما ذهب إليه الحنابلة في النفقات الطارئة التي تحتاج إليها إحداهن فيتوجه القول بعدم وجوب العدل، لما في ذلك من المشقة والحرج، فإذا احتاجت إحداهن إلى شيء لا تحتاج إليه غيرها فلا يقال بوجوب العدل حينئذٍ بل يعطى صاحبة الحاجة لأنها مميزة لحاجتها.(20/131)
قال: [وعماده الليل لمن معاشه النهار]
عماد القسم عند النساء الليل، لأنه وقت السكن قال تعالى: { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } ، والنهار تبع له، هذا لمن معاشه أي عمله بالنهار وأما من كان عمله بالليل كبعض الجند أو غيرهم فقال المؤلف هنا:
[والعكس بالعكس]
لأنه هو وقت سكنه.
مسألة:
الدخول على الضرة في ليلة ضرتها ليلاً لا يجوز إلا عند الضرورة وفي النهار يجوز عند الحاجة، كمرض يصيبها فتحتاج إليه، وأما في النهار فيجوز أن يدخل على الضرة عند الحاجة كأن يكون قادماً من سفر أو تكون مريضة فيعودها.
فإذا دخل عند الضرة ليلاً فهل يجب أن يقضي لمن كانت ليلتها ؟
إن كان دخوله لضرورة فلا كما تقدم، وإن كان لغير ضرورة فعليه أن يقضي إن كان مكثه كثيراً عرفاً، أما إذا كان يسيراً عرفاً فإنه لا يقضي لأنه لا فائدة من القضاء، فإن جامعها فأصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقضي ما دام الوقت يسيراً عرفاً، وذلك لأن الوطء لا يجب القسم فيه ولا يجب العدل فيه وحينئذٍ فلا يتغير الحكم.
قال: [ويقسم لحائضٍ ونفساء ومريضةٍ ومعيبةٍ ومجنونةٍ مأمونةٍ وغيرها]
لأنهن زوجات فيدخلن في العموم، ولأن القسم يراد به السكن، وذكر الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن العرف عندهم أي في نجد في زمنه أن النفساء لا تطلب القسم، فيما يظهر هكذا عندنا وإن هذا العرف يأخذ في بلاد نجد من ذلك الوقت، وعليه فلا يقسم للنفساء لأن المعاشرة تجب بالمعروف، وهنا العرف قد دل على أن القسم لا يجب للنفساء، وهذا هو الأظهر خلافاً للمشهور في المذهب لأن العرف جاء بذلك.
قال: [وسافرت بلا إذنه أو بإذنه في حاجتها أو أبت السفر معه أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة]
هنا مسائل لا تجب فيها للمرأة النفقة والقسم:
المسألة الأولى: إن سافرت بلا إذنه.
المسألة الثانية: إن أبت السفر معه .
المسألة الثالثة: إن أبت المبيت عنده.(20/132)
فهنا لا يجب لهن القسم ولا النفقة وذلك لأنهن ناشزات والناشزة لا قسم لها ولا نفقة فهي عاصية لزوجها والعاصية لا تجب لها النفقة ولا القسم.
المسألة الرابعة: وهي فيما إذا سافرت بإذنه في حاجة، فالمذهب كما ذكر المؤلف أنه لا قسم لها ولا نفقة، وذلك كأن تسافر المرأة للعلاج أو لزيارة الأقارب وأذن لها الزوج فلا يجب لها القسم ولا النفقة، أما القسم فظاهر وذلك لأنها مسافرة وهو مقيم، ولا يقضي لها لأن العذر جاء من جهتها، ثم إنه إذا سافر هو فلا يجب أن يقضي فأولى من ذلك ألا يقضي لها إذا سافرت.
وأما النفقة فالقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة وذكره الموفق احتمالاً: أن النفقة واجبة وهذا هو الظاهر، لأن النفقة ثابتة لها فلا تسقط إلا بدليل يدل على إسقاطها، وهنا لا دليل يدل على ذلك، وليست بناشزة فتسقط النفقة عليها بل إنها قد استأذنته فأذن لها، إلا أن يكون قد شرط عليها ألا ينفق عليها وأما إن لم يشرط ذلك فإن النفقة واجبة.
قال: [ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أوله فجعله لأخرى جاز]
إذا وهبت قسمها لضرتها بإذنه أي بإذن الزوج، فيشترط أن يأذن الزوج بذلك لأنه حق له فاشترط إذنه، أو وهبت قسمها له، كأن يكون له ثلاث نسوة فقالت إحداهن: لك ليلتي فجعله لأخرى من نسائه جاز، لما ثبت في الصحيحين: " أن سودة بنت زمعة وهبت لعائشة يومها فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة "، فالهبة جائزة لأن هذا حق للمرأة وحق للرجل، فقد رضى الرجل بإسقاط حقه، والمرأة الواهبة رضيت بهبته وإسقاط حقها، وحينئذٍ فإن وهبته لفلانة جاز ذلك بإذنه وإن وهبته له فإنه يهبه لمن يشاء من نسائه.
وهل للمرأة أخذ العوض على الهبة ؟
المذهب أنه لا يجوز، واختار شيخ الإسلام وذكر أنه المذهب: أن ذلك جائز، وهو الراجح، لأنه أخذ عوض على حق فأشبه سائر الحقوق، فإذا أخذت عوضاً من زوجها أو من الموهوب لها فذلك جائز لأنه حق لها.(20/133)
قال: [فإن رجعت قسم لها مستقبلاً]
إذا رجعت بعد ذلك فإنه يقسم لها في المستقبل لأنها هبة لم تنقض فالليالي السابقة قد قبضت فلا يقضى لها وأما الليالي المقبلة فإنها لم تقبض فلها الرجوع.
قال: [ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده بل يطأُ من شاء متى شاء]
فلا قسم لهن، وذلك لقوله تعالى: { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ، فدل على أن ملك اليمين لا يجب لهن العدل، أي إن خفتم ألا تعدلوا بين النساء فأنكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
قال: [وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار وثيباً ثلاثة]
إذا تزوج بكراً على زوجة سابقة فإنه يمكث عندها سبعاً ثم يقسم بين نساءه بعد ذلك، وإن كانت ثيباً فإنه يمكث عندها ثلاث ليالٍ وما يتبعهن من النهار، ثم بعد ذلك يقسم بينهن، لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ".
قال: [وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي]
ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن أم سلمة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ثم قال: (إنه ليس بك على أهلك – أي على نفسه - صلى الله عليه وسلم - - هوانٌ إن شئتِ سبّعت لك وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي) ".
هل له أن يسافر بإحدى نسائه ؟
الجواب: أنه ليس له ذلك إلا برضا الباقيات، فإن لم ترض الباقيات فإنه يسهم بينهن، أي يضع بينهن القرعة، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها "، وظاهر الحديث وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقضي للباقيات فإن عائشة لم تذكر قضاءً.
فإن سافر بإحداهن بلا قرعة ولا رضا فهل يجب القضاء أم لا ؟(20/134)
قولان لأهل العلم: أظهرهما وهو مذهب الحنابلة والشافعية ؛ وجوب القضاء وذلك لأنه قد سافر بها بلا حقٍ وميزها عن بقية النساء بلا حق فكان لهن القضاء.
قال الموفق: وعليه فينبغي أن لا يلزم قضاء المدة، وإنما يقضي منها ما أقام منها معها أما زمان المسير فلم يحصل به المشقة.
فصل
قال: [النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها]
النشوز: من النَشْزِ، بتسكين السين وفتحها ؛ وهو المكان المرتفع.
وسمي خروج المرأة عن طاعة زوجها نشوزاً لأن هذا تكبر منها وتعالٍ على أمر زوجها، كما أن الرجل إذا خرج عما يجب عليه من العدل وغير ذلك من واجبات المرأة التي أمره الله بها وجفا المرأة وأبغضها فإن ذلك نشوزا منه، فالنشوز يكون من الزوجين، أما الزوجة فلقوله تعالى: { واللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن } ، وأما الزوج فقوله تعالى: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } .
قال: [فإذا ظهر منها أماراته بأن لا تجيبه إلى الإستمتاع أو تجيبه متبرمةً أو متكرهةً وعظها]
متبرمةً: أي متثاقلةً.
فإذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز فإنه يعظها أي يذكرها بما يجب له من الحق، وما عليها من الإثم في مخالفة ذلك، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها)، والدليل على أنه يعظها قوله تعالى: { وللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن } .
قال: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء]
قال تعالى: { واهجروهن في المضاجع } ، فيهجرها في المضجع فلا يجامعها ويهجرها في المضجع ما شاء من الأيام والليالي.
قال: [وفي الكلام ثلاثة أيامٍ](20/135)
ففي الكلام ليس له أن يهجرها أكثر من ثلاثة أيام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، ولم أرَ من الحنابلة أو ممن ذكر هذه المسألة، من تعرض لذكر خلاف في هذه المسألة، وفيما ذكر نظر، وذلك لأن الهجر لمعصية، والهجر لمعصية لا يقدر بثلاثة أيامٍ، بل تهجر بما يكون فيه مصلحة، فلا يقدر هذا بثلاثة أيام.
قال: [فإن أصرت ضربها غير مبرح]
أي ضرباً غير شديد، قال تعالى: { واضربوهن } ، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكن أحداً تكرهونه - أي أحدٍ من النساء أو الرجال الذين تكرهونهم وليس المقصود بذلك الفاحشة - فإن فعلت فاضربوهن ضرباً غير مبرح)، فيعظها ثم يهجرها ثم يضربها، هذه على الترتيب والآية لا تفيد ترتيباً فإن الله عطف بين هذه الثلاث بالواو وهي لا تفيد الترتيب، لكن اتفق أهل العلم على الترتيب، قال ابن الوزير: " اتفق أهل العلم على أن له ضربها إذا نشزت بعد أن يعظها ويهجرها في المضجع "، والمعنى يدل على ذلك فإنه من البدء بالأسهل فالأسهل.
فإن حصلت المشاقة بينهما ولم يستطيعا أن يتفقا فلم تستقم المرأة لزوجها أو لم يستقم الزوج لزوجته وتمادى الشر بينهما، فإن الحاكم يبعث حكمين من أهلهما، حكماً من أهل المرأة وحكماً من أهل الرجل كما قال تعالى: { فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } ، وهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: هل يشترط أن يكون الحكم من أهلها ومن أهله ؟
المشهور في المذهب أن ذلك لا يشترط.
واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك وهو ظاهر الآية الكريمة، والمعنى يدل على ذلك فإن الحكم من أهلها يطلع على باطن الأمر ويعرف من أحوالهما ما يهتدى به إلى الإصلاح بينهما ومعرفة هل الأنسب أن يفرق بينهما أم أن يجمع بينهما، فالأرجح أن هذا شرط.(20/136)
المسألة الثانية: هل هما حَكَمان أم وكيلان ؟
هل حكمان أي يحكمان بما شاءا مما رأيا فيه مصلحة من تفريق أو جمع أم هما وكيلان عن الزوجين فليس لهما أن يفرقا إلا بإذن من الزوجين ؟
المشهور في المذهب أنهما وكيلان، فالحكم الأول وكيل عن المرأة، والحكم الثاني وكيل عن الرجل، وليس لهما أن يفرقا بينهما سواء كان بعوض أو بغير عوض إلا بإذن الزوجين.
وذهب المالكية إلى أنهما حكمان، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو القول الراجح وهو ظاهر الآية الكريمة، فإن الله سماه حكماً، ولم يسمه وكيلاً، ثم إن الله أمر الإمام بذلك فقال: (فابعثوا - أيها الحكام - حكماً من أهله وحكماً من أهلها)، والتوكيل لا يحتاج إلى أمر من الإمام بل هو ابتداءً منهما.
المسألة الثالثة: أنه يشترط في الحكمين العدالة والإسلام والذكورية.
هل يشترط في الحكمين الحرية والفقه أم لا ؟
المشهور في المذهب: أنه يشترط أن يكونا حريين، والقول الثاني في المسألة:لا يشترط، وهو الراجح لإطلاق الآية الكريمة، ولا مانع من أن يكون الرقيق حكماً، وأما اشتراط الفقه وعدمه، فهو ينبني على المسألة المتقدمة وهي هل هي وكالة أم حكم، فإن كانت حكماً فيشترط فيه أن يكون فقيهاً أي فقيهاً في مثل هذه المسائل، وإن قلنا هي وكالة فلا يشترط أن يكون فقيهاً، والأول هو الظاهر بناءً على المسألة المتقدمة وأنهما حكمان، فعليه يشترط أن يكونا، مسلمين، مكلفين، عدلين، ذكريين، ولا يشترط أن يكونا حريين، ويشترط أن يكونا فقيهين في هذه المسائل.
مسألة:
هل يجوز أن يكون الهجر في خارج البيت ؟(20/137)
ثبت في المسند وسنن أبي داود والنسائي وغيرهم من حديث معاوية بن حيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له: ما حق زوجة أحدنا عليه فقال: (أن تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) والحديث حسن، فهذا فيه ألا يهجر إلا في البيت والله قيده في القرآن بقوله: { واهجروهن في المضاجع } ، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: آلى من نسائه شهراً فأقام في مشربه – أي غرفه – تسعة وعشرين يوماً فقيل له: آليت شهرا،ً فقال: (الشهر تسع وعشرون)، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - هجرهن في غير البيوت، وبوب عليه البخاري، والجمع بينهما أنه ينظر إلى الأصلح، فإن كان الأصلح هجرها في البيت هجرها فيه وهو الأولى، وإن كان الأصلح هجرها في خارج البيت هجرها في خارجه.
الدرس التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب الخلع
الخلع لغةً: مصدر خلع، وخلع المرأة خلعاً.
وذلك أن المرأة لباس للرجل، والرجل لباس المرأة كما قال تعالى: { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } ، فإذا افتدت المرأة نفسها من زوجها على عوض تبذله له فهذا خلع لأنها قد خلعت زوجها وزوجها لباس لها.
وإصطلاحاً: فراق الرجل امرأته على عوض تبذله له، والأصل فيه قوله تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ، لا جناح على المرأة في فراق الرجل، ولا جناح على الرجل في فراقها على هذا العوض.
قال: [من صح تبرعه من زوجةٍ و أجنبي صح بذله لعوضه]
من صح تبرعه وهو الحر الرشيد غير المحجور عليه لحظ نفسه، فإنه يصح بذله لعوض الخلع، سواء كان الباذل للعوض الزوجة أو أجنبي كولي المرأة أو غيره، فلا يصح بذل العوض إلا لمن يصح تبرعه لأن العوض تبرع فلا يصح إلا ممن يصح تبرعه، أما المحجور عليه لحظ غيره، فإن بذله للعوض صحيح، وذلك لأن ذمته سالمة ويصح له أن يتصرف فيها.
فالقاعدة: أن من صح تبرعه صح بذله للعوض.(20/138)
وعليه فإذا كانت الزوجة لا يصح تبرعها كأن تكون أمةً أو صبية صغيرة أو سفيهة فلا يصح بذلها للعوض لأن تصرفها غير صحيح، وكذلك إذا كان الأجنبي الباذل للعوض الذي يريد خلع هذه المرأة من زوجها إذا كان صبياً أو سفيهاً أونحوذلك فلا تصح مخالعته لأن بذله للعوض لا يصح.
قال: [فإذا كرهت خُلق زوجها أو خَلقه]
فإذا كرهت خلقه بأن كان سيء الخلق – أي سيء الصورة الباطنة -، أو كرهت خَلق زوجها كأن يكون سيء الصورة.
قال: [أو نقص دينه]
كأن يكون لا يقيم الجماعة، والجماعة واجبة، أو لفعل غير ذلك من المعاصي التي يثبت الفسق معها على الزوج، أو كرهت كبره أو ضعفه أو نحو ذلك.
قال: [أو خافت إثماً بترك حقه أبيح الخلع]
فيباح للمرأة أن تخالع إن كرهت من زوجها خلقاً أو خلقاً أو كرهت كبره أو ضعفه أو نقص دينه أو خشيت ألا تقيم حدود الله معه، أي كرهت كفران العشير، وفي البخاري:أن امرأة ثابت بن قيس قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:" ما أنقم من ثابت خلقاً ولا ديناً ولكن أكره الكفر في الإسلام – أي أكره الكفر الأصغر وهو كفران العشير – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتردين عليه حديقته ؟– أي وكانت مهراً لها – قالت: نعم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، وليس للزوج في المشهور من المذهب الإجابة أي حيث كان ما تقدم بأن كرهت خَلقه أو خُلقه أو غير ذلك، والقول الثاني في المسألة وهو أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب ذلك، فيجب عليه أن يقبل العوض الذي دفعته ا
لمرأة ويطلقها، وهذا القول أظهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة)، وهذا الأمر للوجوب ولما فيه من إزالة الضرر عن المرأة مع ثبوت حق الرجل وعدم ضياع حقه، وهذا هو الذي يترجح، وعليه فالقاضي يلزمه بذلك.
قال: [وإلا كره ووقع](20/139)
أي وإلا يكن الأمر كما تقدم فإن ذلك مكروه، فإن كانت الحال مستقيمة بين الزوجين، فليس بينهما ما يخشى معه عدم القيام بالحقوق الزوجية فحينئذٍ يكره الخلع، ويقع الخلع، هذا هو مذهب جمهور العلماء، والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن الخلع هنا محرم وهو قول ابن المنذر وداوود الظاهري ودليل ذلك، ما روى أحمد وأبو داوود وغيرهما، والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة)، فهذا يدل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها من كبائر الذنوب، وفي الترمذي وغيره، والحديث صحيح: (المختلعات هن المنافقات)، فعلى ذلك الراجح هو التحريم، ووقوع الخلع فيه خلاف فالقول الثاني في ذلك وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية وقول ابن النذر: أن الخلع باطل وأن الثمن مردود، وهو الراجح وذلك لأن الخلع محرم ومنهي عنه والنهي يقتضي الفساد.
قال: [فإن عضلها ظلماً للافتداء ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضاً ففعلت ….لم يصح الخلع](20/140)
إذا عضل الزوج امرأته ظلماً أي ضربها أو ضيق عليها أو منعها شيئاً من الحقوق الزوجية، كأن يمتنع من وطئها أو المبيت عندها أو نحو ذلك، إذا فعل ذلك ظلماً لتفتدي منه، ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضها كأن تترك الصوم أو غيره من الفرائض، ففعلت أي اختلعت منه فدفعت له عوضاً وخلعها، فلا يصح الخلع لقوله تعالى: { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن إلا أي يأتين بفاحشة مبينة } ، والنهي يقتضي التحريم والبطلان، وعليه فالعوض مردود لأنه قد أخذه بغير حق، أما إذا كان منها زناً أو نشوز أو ترك شيء من الفرائض فعضلها لتفتدي منه، فإن الخلع يصح وذلك لأنه أخذ العوض هنا بحق وقد قال تعالى: { إلا أي يأتين بفاحشة مبينة } ، وكذا النشوز وترك الفرض فإن له أن يعضلها على ذلك لتفتدي منه وظاهر كلام المؤلف أنه إن عضلها لتفتدي منه فافتدت فإن الخلع يصح، لأنه قيده هنا بالإفتداء فلو أن رجلاً عضل امرأته ظلماً بغير حق ولم يكن ينوي أن تفتدي منه لكنها افتدت منه، فالخلع يصح، وله أخذ العوض في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أنه لا يحل أيضاً، وعليه فالخلع باطل وهذا هو الراجح، وذلك لأنه أخذٌ للمال بوسيلة الظلم فإنه وإن لم ينوِ لكنه كان ظالماً لها، وبسبب هذا الظلم توصل إلى هذا المال.
قال: [أو خالعت الصغيرة والمجنونة والسفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع](20/141)
فالأمة إذا أذن لها السيد بالخلع فالخلع صحيح، لأن الرقيق إنما يمنع من التصرف بغير إذن السيد، قالوا: وأما الصغيرة والسفيهة فليس لهما المخالعة ولو أذن الولي، وأما المجنونة فهو ظاهر لأنه لا عقل لها فلا اعتبار بإذن الولي لها، واختار الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي وهو الراجح ؛ أن الصغيرة والسفيهة إذا أذن لهما الولي بالخلع، فالخلع صحيح كسائر المعاملات، فلا فرق بين الخلع وبين غيره من المعاملات، وهذا هو الراجح، وما يخشى من سوء تصرفها فمدفوع بإذن الولي، وليس للولي أن يأذن إلا حين كان في ذلك مصلحة لها.
مسألة:
هل للأب أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها أم ليس له ذلك ؟
المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك، فمثلاً ؛ دفع لها هذا الرجل داراً مهراً لها ثم تبين للولي أن في هذا الرجل سوء خلق أو غير ذلك – فهل للأب أن يخلع البنت بما لها بأن يقول: خذ هذه الدار التي أمهرتها إياها واخلع ابنتي – ليس له ذلك في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من الحنابلة ومال إليه الموفق واختاره الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: أن ذلك جائز، وذلك لابد له أن يتملك من مال البلد ما شاء، وأولى من ذلك أن يكون له الحق في خلعها من زوجها لما في ذلك من دفع الضرر عنها، وهذا هو الراجح، لكن ليس له ذلك إلا أن يكون فيه مصلحة للبنت.
قال: [ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]
هذه المسألة فيما إذا خلع، وكان العوض محرماً أي مردوداً، كأن تخالع الصغيرة أو السفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها ونحو ذلك فالخلع لا يصح، كما تقدم لكن هل يقع الطلاق أم لا ؟
في المسألة تفصيل:
فإن كان الخلع بلفظ الخلع أو نية الخلع فالطلاق لا يقع لأن الخلع قد بطل ولا طلاق، فليس هنا لفظ طلاق ولا نية طلاق.(20/142)
الحالة الثانية ؛ أن يتلفظ بالطلاق أو ينويه كأن تقول: " خذ هذا المال عوضاً "، فيقول: " قد طلقتك " أو " قد خالعتك " أو " فارقتك " وينوي الطلاق، فحينئذٍ يصح الطلاق ويكون طلاقاً رجعياً أي إن لم يتم عدده، لكن لو كان قد تم عدده كأن يكون قد طلقها طلقتين سابقتين ثم خالعها بنية الطلاق أو تلفظٍ بالطلاق فحينئذٍ يكون الطلاق بائناً، هذا هو المشهور في المذهب، وهم هنا قد نظروا إلى اللفظ أو النية، فإذا تلفظ بالطلاق ونواه فإنه يقع وإن كان العوض موجوداً.
القول الثاني في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، وهو القول الصحيح في هذه المسألة: أن الطلاق لا يقع واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد وذلك لأنه إنما فسخ للعوض، فإذا لم يحصل العوض لم يحصل المعوّض، فالمعوض هو الفراق، والعوض هنا هو هذا المال الذي قد دفعه إليه، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ ولا بالمباني، وهنا هو طلاق على عوض فهو خلع، والطلاق الذي يكون فيه ما ذكره الحنابلة إنما هو الطلاق الذي لا يكون على عوض، أما هنا فهو طلاق على عوض فهو خلع سواءً كان بلفظ الطلاق أو كان بغير لفظه، وسواء كان بنية الطلاق أو بغير نيته، فليس بطلاق لأنه بمعنى الخلع، فالراجح أن العوض إذا كان مردوداً إلى المرأة فالمعوض مردود إليه فلا يقع الطلاق وإن نواه أو تلفظ به.
الدرس الأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [والخلع بلفظ صريح الطلاق]
بأن يقول للمختلعة: طلقتك، فهذا صريح الطلاق.
قال: [أو كناياته وقصده]
أي كناية الطلاق وقصده، بأي لفظ من الألفاظ، كأن يقول للمختلعة: " أبَنْتُكِ " وينوي الطلاق.
قال: [طلاق بائن](20/143)
فهو طلاق بائن، أما كونه طلاقاً فلاعتبار اللفظ، أو الكناية مع النية فقد تلفظ به أو نواه مع كنايته فكان طلاقاً، وأما كونه بائناً لا رجعياً، لما كانت مالكة لنفسها، لأن له حق المراجعة، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور العلماء، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه فسخ ولو كان بلفظ الطلاق أو كنايته مع قصده وذلك لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني، فالعبرة ليست بالألفاظ وإنما بالمعاني، فهنا قد قال: " طلقتك " لكنه ليس هو الطلاق المطلق بل هو طلاق مقيد حيث فيه العوض، فهو فداء وليس بطلاق، فلا عبرة بلفظه ولا بنيته مع كنايته، يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزوج المختلعة: (وطلقها تطليقه)، ومع ذلك فقد جعل عدتها حيضة، ولو كان طلاقاً لجعل عدتها ثلاث حيض، لأن عدة المطلقة ثلاث قروء بنص القرآن وإجماع أهل العلم، فدل على أنه فسخ وليس بطلاق بائن وإن كان بلفظ الطلاق، فالراجح هو القول الثاني وهو أنه فسخ وليس بطلاق، وثمرة الخلاف:- أنا إذا قلنا: إنه طلاق بائن، فإنها تحسب عليه ثلاث طلقات إن خالعها ثلاثاً فلا يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره وإن قلنا هو فسخ: فإذا خالعها ثم نكحها بعد ذلك فلا يحسب عليه طلقة بل لو خلعها عدة مرات فله أن ينكحها من غير تقييد ذلك بنكاح زوج آخر، وهذه الثمرة ثابتة في المسألة الأخرى وهي..
قال: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً، لا ينقص عدد الطلاق](20/144)
إذا وقع بلفظ الخلع كأن يقول: " خالعتك "، أو بلفظ الفسخ كأن يقول: " فسختك "، أو الفداء بأن يقول: " فاديتك "، ولم ينوه طلاقاً فإنه يكون فسخاً، هذا هو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي، وأما الجمهور فقالوا: هو طلاق بائن أيضاً، ويستدلون بما تقدم ذكره في المسألة الأولى، وهو قول ضعيف كما تقدم، والراجح أنه فسخ، لما تقدم في قصة المختلعة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة وهذا يدل على أنه ليس بطلاق بائن، إذ لو كان طلاقاً بائناً لأمرها أن تعتد بثلاثة قروء، ويدل عليه أيضاً أن الله عز وجل قال: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان …..إلى أن قال …. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به …. إلى أن قال … فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ، فذكر طلقتين أولاً، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر طلقة، فلو كان الخلع طلاقاً لكانت الطلقة التي ذكرها في { فإن طلقها } رابعة لا ثالثة وهذا ممتنع باتفاق أهل العلم، فدل على أنه فداء وليس بطلاق، ويدل عليه أيضاً أن الله ذكره بلفظ الفداء فقال: { فيما افتدت به } ، فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة فإذا قال: فسختك أو فاديتك أو نحو ذلك من ألفاظ الخلع فإنه فسخ وليس بطلاق، وعليه فكل طلاق بعوض سواء كان بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق، وسواء كان بنية الخلع أو بنية الطلاق فهو فسخ وليس بطلاق بائن في الراجح من المسألتين المتقدمتين، وهوا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وفي قوله: " لا ينقص عدد الطلاق "، فإذا طلقها مرتين مثلاً ثم اختلعت منه فيحل له أن ينكحها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجاً آخر، فلا تجب عليه طلقة بل هو فسخ.
قال: [ولا يقع بمعتدةٍ من خلع طلاقٌ]
إذا طلبت منه امرأته الخلع، فخالعها، فإذا طلقها بعد ذلك فإن هذا الطلاق لا يقع وذلك لأنه لا يملك بضعها فهي أجنبية عنه.
قال: [ولو واجهها به](20/145)
هذا إشارة إلى خلاف أبي حنيفة في هذه المسألة وهو: أنه إذا واجهها بالطلاق الصريح المعين فإنها تحسب طلقة وهو قول ضعيف ولا دليل عليه، والطلاق الصريح بأن يقول: " أنت طالق "، فقوله: " طالق " طلاق صريح وليس بكناية، وهو معين لقوله " أنت "، بخلاف ما لو كان مرسلاً كأن يقول: " كل نسائي طوالق " فلا تطلق عليه المختلعة، هذا مذهب أبي حنيفة ولا دليل عليه، فالراجح أنه لا فرق بين ما إذا واجهها بالطلاق الصريح أو لم يواجهها بل كله لا يقع.
قال: [ولا يصح شرط الرجعة فيه]
إذا شرط الرجعة في الخلع، فلا يصح الشرط، كأن يقول " نعم أقبل هذا الفداء بشرط أن يكون لي حق الرجعة " فهنا لا يصح الشرط، وذلك لمخالفة مقتضى عقد الخلع، فإن مقتضاه البينونة الصغرى، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية ؛ أن هذا الشرط يصح فيكون الخلع رجعياً لكن العوض مردود، فالعوض يرد والشرط يصح، والراجح هو القول الأول وذلك لأن هذا الشرط يخالف الشرع، فإن الشرع إنما أذن في الخلع حيث كانت البينونة، بخلاف الطلاق فإنه في الأصل يكون طلاقاً رجعياً، وهنا ليس طلاقاً وإنما فيه عوض، والأصل أن الزوج إنما يملك الطلاق ولا يملك الفسخ وهو إنما ملك الفسخ هنا بالعوض المدفوع، فإذا أثبتنا له حق الرجعة فإن ذلك يخالف الشرع.
قال: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح](20/146)
إذا خالعها بغير عوض كأن يقول: فسختك أو خالعتك بلا عوض أي مجاناً فهذا الخلع باطل، وذلك لأن الفسخ الوارد في الشرع إنما هو فسخ بعوض، فالزوج إنما يملك في الأصل الطلاق، وإنما أذن له بالفسخ حيث كان العوض، وهنا لا عوض فلا حق له بالفسخ، وليس هذا هو الخلع الوارد في الشرع وعليه فيكون هذا الخلع باطلاً، إذا خالعها بمحرم يعلمه الزوج كأن يخالعها على خمر وهو يعلم أنه خمر، أو خالعها على مغصوب وهو يعلم أنه مغصوب، أو على حرٍ وهو يعلم أنه حرٍ، فهنا الخلع باطل، وذلك لأن الخمر لا قيمة له فهو محرم والمحرم لا قيمة له، فكما لو كان بلا عوض، وكذلك لو خالعها على مغصوب أو على حرٍ وهو يعلم ذلك، وذلك لأنه رضي بشيء لا قيمة له، والشيء الذي لا قيمة له ليس بشيء، فكما لو كان بلا عوض، هذا إذا كان يعلم التحريم، وأما إذا كان يجهله كأن يخالعها على خمر ظنه خلاً أو على حرٍ ظنه عبداً أو على مغصوب ظنه مملوكاً فيثبت له البدل لأنه إنما خالع على عوضٍ له بدل فكان الواجب البدل، فإذا خالعها على دار فثبت أن هذه الدار مستحقة للغير فهي مغصوبة فإن العوض دار بقيمتها، كذلك إذا كان على حرٍ ظنه عبداً، فيكون على عبدٍ بقيمته وهكذا.
قال: [ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]
وهذا كالمسألة التي تقدم البحث فيها في الدرس السابق.
قال: [وما صح مهراً صح الخلع به]
فهل ما صح مهراً يصح الخلع به، وقد تقدم ما صح مهراً ؟
دليل هذه المسألة عموم قوله تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به } ، أي في الذي افتدت به، ولفظة " ما " من ألفاظ العموم فكل ما صح مهراً فإنه يصح الخلع به، كنفعٍ أو دين أو عين أو نحو ذلك.
قال: [ويكره بأكثر مما أعطاها]
فإذا كان قد أمهرها عشرة آلاف درهم فيُكره أن يكون الخلع عشرين ألفاً، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:(20/147)
القول الأول: الجواز بلا كراهة، وهو مذهب الجمهور لعموم قوله تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به } ، وقالوا: هذا يعم القليل والكثير.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الحنابلة وهو ما ذكر المؤلف هنا وهو أن ذلك مكروه فهو جائز مع الكراهة، واستدلوا بما روى ابن ماجة بإسنادٍ صحيح وجود إسناده ابن كثير في قصة المختلعة في حديث ابن عباس وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن ترد إليه الحديقة " ولا يزداد " أي لا يزيد عليها، وله شاهد مرسل عند البيهقي عن عطاء.
والقول الثالث في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة، وهو قول طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس والزهري أن ذلك محرم مردود.
ويستدلون بالحديث المتقدم وهو قوله: " ولا تزداد "، والنهي يقتضي التحريم والفساد، وهذا القول فيه قوة فيخصص به عموم الآية المتقدمة ويجاب عن الآية المتقدمة بأنها مسبوقة بقوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً … إلى أن قال .. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به } ، أي من ذلك المذكور المتقدم الذي لا يحل لكم، فلا يحل أن تأخذوا من مهور النساء الذي دفعتموه لهن، لا يحل لكم ذلك إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليكم في ذلك، إذن قوله تعالى: { فلا جناح عليها فيما افتدت به } ، أي من ذلك المذكور وهو المهر الذي لا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئاً، وهذا القول في قوة.
قال: [وإن خالعت حاملٌ بنفقة عدتها صح](20/148)
الحامل لها النفقة إذا طُلقت، فإذا طلبت من زوجها الخلع على أنه لا نفقة لها فقالت: " أخلعني ولا نفقة لي عليك "، فيصح ذلك خلعاً وذلك لأن النفقة مستحقة بسبب موجود وهو الحمل، وهي في حكم المالكة له، ومثل ذلك لو أبرأته من دين لها في ذمته أو من نفقة ماضية واجبة في ذمته، فأبرأته من هذه النفقة الواجبة في ذمته على أن يطلقها، ولو خالعته على إرضاع ولده فكذلك، فإن النفقة واجبة لها عليه مقابل إرضاع الولد حولين كاملين فإذا قالت ارضع الولد وتطلقني – أي على الإرضاع مجاناً بلا أجرة – فإن هذا يصح المخالعة عليه.
قال: [ويصح بالمجهول]
يصح الخلع بالشيء المجهول، كأن يقول: " أخلعتك على ما في يدك من الدراهم " وهو يجهل عددها، أو على ما في بيتك من المتاع أو نحو ذلك، وذلك لأن الخلع إسقاط حق، وإسقاط الحق فيه مسامحة ظاهرة فجاز كالوصية وغيرها كما سبق ومثل المؤلف على ذلك بمسائل فقال:
[فإن خالعته على حمل شجرتها]
كأن يكون لها نخل وتقول: " أخلعني ولك حمل نخلي "، وحمل النخل مجهول.
قال: [أو أمتها]
أي أو على حمل أمتها.
قال: [أو ما في يدها أو بيتها من دراهم أو متاعٍ، أو على عبدٍ صح]
أي عبدٍ غير موصوف فإن ذلك يصح لأن الخلع إسقاط حق، وإسقاط الحق فيه مسامحة ظاهرة، فما يحصل من الحمل من الشجرة له، وله ما يحصل من حمل الأمة، وله ما في يدها وله ما في بيتها وله المتاع المذكور.
قال: [وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه]
إذا خالعها على حمل الشجرة أو الأمة ثم لم تحمل، أو خالعها على ما في بيتها من المتاع فلم يوجد شيء، أو خالعها على عبدٍ فلم يوجد لها عبد، فإن له أقل مسماه، أي ما يصدق عليه أنه عبد، وما يصدق عليه أنه حمل وهكذا، وذلك لأن الاسم يصدق عليه.
قال: [ومع عدم الدراهم ثلاثة]
فإذا خالعها على ما في يدها من الدراهم، فلم يكن معها شيء فيكون العوض ثلاثة دراهم لأنها أقل الجمع.
الدرس الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل(20/149)
قال: [وإذا قال متى أو إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنتِ طالقٌ طلقت بعطيته وإن تراخى]
إذا قال الزوج لزوجته: إن أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أو قال الزوج لأجنبي: إن أعطيتني ألفاً فزوجتي طالق، طلقت بعطيته، وذلك لحصول المعلق عليه، فهو قد ربط الخلع والطلاق بصفة وقعت هذه الصفة، قوله " وإن تراخى " أي وإن كان هذا الإعطاء على سبيل التراخي، فلو أنها لم تعطه إلا بعد شهر أو نحو ذلك فإن هذه العطية تثبت مع الطلاق، وذلك لحصول المعلق عليه، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وفصل الشافعية في هذه المسألة فقالوا: إن أتى بلفظ متى ونحوه فإن الحكم المتقدم يثبت ولو مع التراخي وذلك لأن هذا اللفظ يدخل فيه ما لو تراخى، فإذا قال: " متى ما أعطيتني ألفاً فأنت طالق "، فأعطته بعد شهر فإن هذا الإعطاء داخل في لفظه المتقدم، أما إذا قال: "إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق"، فإنه لا يكون إلا على الفور، فإن أعطته على التراخي فإن المشروط وهو الطلاق لا يحصل وذلك لأن هذا الباب هنا باب فداء ومعاوضة، والمعاوضة إنما يكون قبولها على الفور، فإذا قال: " بعتك هذا الشيء بألفٍ " فيقول: " قبلت "، فإذا تراخى فإن هذه المعاوضة لا تثبت، فهنا معاوضة، والأصح ما ذهب إليه الشافعية.
قال: [وإن قالت ؛ اخلعني على ألفٍ أو بألفٍ أو ولك ألفٌ ففعل بانت واستحقها]
إذا قالت أخلعني على ألفٍ أو بألفٍ ففعل فوراً – حتى في المذهب – ونحن نستدل عليه بالدليل المتقدم وهو أنه من باب المعاوضة، والمعاوضة إنما تقبل على الفور ولا يتراخى فيها، فإذا فعل فقال: " خالعت " ولم يقل: " خالعتكِ على ألفٍ " فلم يأت بالمال الذي هو عوض عن هذا الخلع فإن الخلع يصح ويستحق المال الذي قد ذكرته في سؤالها، وذلك لأن السؤال كالمعاد في الجواب، فالسؤال كأنه معاد في الجواب، بمعنى لما قالت له: " اخلعني ولك ألف "، كأنه قال: " خالعتك على هذا الألف ".(20/150)
قال: [وطلقني واحدة بألفٍ فطلقها ثلاثاً استحقها]
إذا قالت له: " طلقني واحدة ولك ألف " فقال: " أنت طالق ثلاثاً "، فإنه يستحق الألف لأنه فعل ما استدعته وزيادة.
قال: [وعكسه بعكسه]
إذا قالت له " طلقني ثلاثاً " فقال ؛ " أنت طالق " فطلقها واحدة فلا يحصل له العوض المذكور وذلك لأنه لم يجبها إلى الشيء الذي قد بذلت العوض له، وهذا كله مبني على ما تقدم في المذهب من أن الخلع بلفظ الطلاق طلاق، والصحيح أن الخلع بلفظ الطلاق فسخ فلا فرق بين قوله: " أنت طالق " و " أنت طالق ثلاثاً " .
قال: [إلا في واحدةٍ بقيت]
إذا قالت: " طلقني ثلاثاً ولك ألف، فقال: " أنت طالق -" وكان قد طلقها طلقتين سابقتين - فهنا يأخذ العوض وذلك لحصول البينونة بهذه الطلقة، فالحاصل من قوله: " أنت طالق ثلاثاً " هو نفسه الحاصل من قوله: " أنت طالق " حيث كان قد طلقها طلقتين سابقتين، وهذا أيضاً مبنيٌ على المسألة التي تقدم أنها مرجوحة.
قال: [وليس للأب خلعُ زوجةِ ابنه الصغير ولا طلاقها]
فليس للأب أن يخلع زوجة ابنه الصغير وليس له أيضاً أن يخلع زوجة ابنه المجنون، هذا في المشهور من المذهب وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بما روى ابن ماجة والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق)، أي إنما الطلاق للزوج، والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن له الخلع والطلاق.(20/151)
واختار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: أن له الخلع، وذلك لأن الأب له أن يمتلك من مال ولده ما شاء، وقد أجازته الشريعة كما تقدم، فأولى من ذلك أن يقبل الفداء من المرأة أي من زوجة ولده الصغير حيث ساءت العشرة بينهما، وهذا القول ظاهر، فهذا القول هو القول الأرجح، والحديث المتقدم إنما هو في الطلاق، كما أن الحديث عام، والذي يظهر أيضاً، استثناء الأب في مسألة الطلاق عن ابنه الصغير بشرط أن يكون للابن حظ ومصلحة في هذا الطلاق، فقد يتضرر الابن في هذا النكاح وتلحقه النفقة ولا فائدة له به فحينئذٍ لأبيه أن يطلق، حيث كان في ذلك مصلحة.
قال: [ولا خلع ابنته بشئ من مالها]
تقدم البحث في هذا وترجيح خلافه .
قال: [ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق]
هذه مسألة ظاهرة جداً، فإن الخلع لا يسقط غيره من الحقوق، إذا كان للمرأة حقوق على زوجها كأن تكون لها نفقات ماضية في ذمة الزوج، ولها – مثلاً – مهر مؤخر ونحو ذلك، فخالعته على عشرة آلاف فقبل هذه العشرة آلاف، فثبوت الخلع لا يسقط ما في ذمته من الديون التي عليه لزوجته من نفقة أو مهر أو نحو ذلك، هذا ظاهر جداً، إذ لا دليل على إسقاطه، لكن لو شرطه في الخلع فقال: " بشرط ألا يكون في ذمتي لكِ شيء " فذلك يبرئ ذمته، أما إذا خالعته على شيء من المال ولم تتعرض على ما في ذمته من الديون لها، فإن هذه الديون يبقى ثابتة لها.
قال: [وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوجدت، ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتقٍ وإلا فلا](20/152)
هذه مسألة تحتاج إلى إيضاح، قوله: " وإن علق طلاقها بصفة " ؛ قال لزوجته: " إن دخلتِ هذه الدار فأنتِ طالق "، وسيأتي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه المسألة أي في مسألة التعليق، قوله: " ثم أبانها " ؛ بخلع أو بطلاقٍ بثلاث أو بدون الثلاث ثم نكحها بعد ذلك، قوله: " ثم نكحها " ؛ سواء شرطنا عليه أن يكون ذلك بعد زوج آخر أو لم يكن ذلك، قوله: " فوجدت " ؛ أثناء البينونة دخلت هذه الدار أثناء البينونة، إذاً قال لها: " إذا دخلتِ هذه الدار فأنت طالق، ثم ثبت الخلع بينهما أو الطلاق البائن أو طلاق دون الثلاث ثبتت معه البينونة يعني إنتهت العدة ولم يراجعها، وفعلت في أثناء البينونة هذه الصفة فدخلت في هذه الدار، ثم نكحها بعد ذلك فوجدت بعد، أي دخلت هذه الدار مرة أخرى وهي في عصمته.
قوله: " طلقت كعتقٍ " ؛ أي كمسألة العتق فالعتق أيضاً إذا قال للعبد: " إن فعلت كذا فأنت حر " ثم باعه ففعل هذا الشيء وهو مملوك لغيره، ثم اشتراه مرة أخرى ففعله مرة أخرى فإنه يعتق، قوله: " وإلا فلا " ؛ أي وإن لم توجد هذه الصفة بعده فلا، إذا لم تدخل هذه الدار وهي في عصمته فإن الطلاق لا يثبت لعدم حصول المعلق عليه، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وذهب الجمهور، وهو القول الثاني في مذهب الإمام احمد إلى أنه: لا يحصل الطلاق بفعل هذا الشيء.
فإذا دخلت الدار بعد أن تزوجها فلا تكون طالقاً بهذا الدخول، وذلك لأن الشرط وهو دخول الدار قد حصل في وقت لا يمكن الطلاق معه وهو وقت البينونة، فحينئذٍ فلا يقع الطلاق في المرة الثانية لأنه لما حصل في المرة الأول كان ذلك في وقت لا يمكن إيقاع الطلاق معه وذلك لأن الزوجة بائن، فهي أجنبية عنه والأجنبية لا يقع عليها الطلاق وكذلك العبد غير مملوك له، وغير المملوك لا يحصل له عتق لأنه ليس بمملوك .(20/153)
وهنا حالة أخرى وهي فيما إذا لم تفعل هذا الشيء في البينونة، يعني قال لامرأته: إن دخلتِ هذه الدار فأنت طالق ثم خالعها لم تفعله في البينونة، لكنها فعلته بعد النكاح الثاني، فالجمهور على أن اليمين تعود، فإذا فعلته في النكاح الثاني فإن الطلاق يقع، وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الإمام الشافعي واختاره المزني من الشافعية وأبو إسحاق: أن اليمين لا تعود وهذا فيما يظهر لي أظهر، وذلك لأنه إنما أوقعها في النكاح الأول وهذا نكاح جديد وقد بطل النكاح الأول بالبينونة المتقدم ذكرها .
وهنا مسألة إذا كان الخلع حيلة لفعل المحلوف عليه أو لئلا يحنث فيقع الطلاق، مثال ذلك: إن قال لمرأته: " إن دخل شهر رمضان فأنت طالق " فقرب الشهر، فأراد أن يحتال على عدم طلاقها فأوقع بينهما خلعاً حتى خرج شهر رمضان فحينئذٍ هذه الحيلة لا تنفعهما شيئاً، وذلك لأن الحيل لا تحل ما حرم الله عز وجل والخلع باطل، وذلك لأن الخلع أذن فيه الشارع للفرقة ولقطع النكاح وهنا بخلاف ذلك، فإن المراد منه إبقاء النكاح فهو حيلة لإبقائه والشارع إنما أذن فيه مع أن النكاح في الأصل لازم وليس للزوج أن يفسخه إلا بالطلاق، أباح الشارع الفسخ للفرقة ولقطع النكاح، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره.(20/154)
الدرس الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة
كتاب الطلاق
الطلاق لغةً : التخلية
وفي الاصطلاح : حل قيد النكاح أو بعضه . و" حل قيد النكاح " : أي كله بأن يطلق المرأة الطلاق البائن ، " أو بعضه " : بأن يطلقها الطلاق الذي تثبت معه الرجعة.
قال : [ يباح للحاجة ]
فإذا كان الطلاق لحاجة فهو مباح وهذا بإجماع أهل العلم ، وهذا كأن يكون في المرأة سوء خلق أو نحو ذلك.
قال : [ ويكره لعدمها ]
فيكره الطلاق لعدم الحاجة ، فإذا كانت الحالة مستقيمة بين الزوجين فإن الطلاق حينئذٍ مكروه ، وهذا هو المشهور من المذهب ، قالوا : لما روى أو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أبغض الحلال إلى الله الطلاق )(1) ، والحديث ورد موصولاً ومرسلاً ، والإرسال هو الصواب فيه كما رجح هذا أبو حاتم والدارقطني والبيهقي وغيرهم، قالوا : ولأن الطلاق فيه إزالة النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها من تحصين الفرج ومن النسل ، وفي البزار بإسنادٍ ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا يطلق الرجل إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات ) (2) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة : أن الطلاق محرم ؛ وذلك لما فيه من إعدام المصلحة الحاصلة للزوجين ، فكان كإتلاف المال وإتلاف المال بلا حاجة محرم وفي هذا القول قوة والله أعلم.
قال : [ ويستحب للضرر ]
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في كراهية الطلاق برقم [ 2178 ] .(21/1)
يستحب الطلاق للضرر الواقع على المرأة بسبب الشقاق الحاصل بينها وبين زوجها ، وذلك لما فيه من دفع الضرر الواقع على المرأة بسبب سوء العشرة ، وتقدم أن العشرة إذا ساءت بين الزوجين بحيث لم يمكن التلاؤم بينهما فإنه يُبعثُ حكمان ، حكم من أهله وحكم من أهلها ، وأصح قولي العلماء أنهما حكمان يقضيان بما يريانه وقد تقدم البحث في هذا ، قالوا : ويستحب الطلاق إن كانت المرأة تاركةً لبعض الحقوق الواجبةِ عليها من صلاة أو صيام أو نحو ذلك ويريدون بالصلاة بحيث لا تكفر ، كأن تكون تترك شيئاً من الصلوات بحيث لا تكفر بها .
قالوا : ويستحب الطلاق إن كانت المرأة غير عفيفة .
وعن الإمام أحمد وجوب ذلك ، فإذا كانت تاركة لبعض الواجبات أو كانت غير عفيفة ، فيجب طلاقها ، وهذا هو القول الراجح ، وهذا حيث لم يمكنه تقويمها ، وذلك لما في إبقائها معه مما يخشى من سريان ذلك إلى دينه بالنقص ، أي إن كانت فاسقة ، فإن كانت غير عفيفة ، فيخشى على فراشه منها ، وأن يدخل إلى نسبه ما ليس منه .
والقول بوجوب الطلاق ظاهر جداً لقوة التعليل المتقدم فإن هذه المرأة يخشى أن تفسد على زوجها فراشه وأن تنسب إليه ما ليس منه، وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن سعدي .
وغير الصالحة إن لم يمكن تقويمها فالقول بوجوب الطلاق أضعف ، وإن كان فيه شيء من القوة ، والذي يتبين في غير الصالحة هو التفصيل بأن يقال : إن كان الرجل يأمن على نفسه ويعلم من نفسه أي بالظن الغالب أنه أقوى بأن تؤثر المرأة عليه بنقص دينه فلا يقال بوجوب الطلاق وإنما يقال باستحبابه كما هو المشهور في المذهب، وأما إن كان لا يأمن على نفسه الضعف ونقص الدين فيقوى الوجوب لأن إبقائها معه ، والحالة كما تقدم ذريعة مفسدة ، والشريعة قد أتت بسد الذرائع.
قال : [ ويجب للإيلاء ](21/2)
هذا هو الحكم الرابع للطلاق ، فيجب للإيلاء ؛ وهو أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر ، ويأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله ، فإذا قضت الأربع أشهر ولم يفئ فيطأ المرأة ، فإنه يجب عليه الطلاق.
وهل يجب على الزوج أن يطلق امرأته بأمر والديه أم لا يجب ؟
المشهور في مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجب .
وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك في حق الأب إن كان عدلاً وأمر ولده أن يطلق امرأته ، فإنه يجب عليه أن يطلقها ، ودليل ذلك ؛ ما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه وهو ثابت في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر قال : كان لي امرأة أحبها ، وكان عمر يكرهها فقال طلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( طلقها )(1) ، وهذا القول هو الأظهر حيث كان الأب عدلاً ، فعمر رضي الله عنه لا يشك في تحريه للعدل وعدم اتباعه للهوى ، فالذي يتبين أن الأب إذا أمر ولده أن يطلق امرأته وكان الأب عدلاً معروفاً برعاية الأصلح فإن الولد يجب عليه أن يطلق امرأته ، وأما الأم ؛ فقد سئل شيخ الإسلام عن أمٍ تأمر ولدها أن يطلق امرأته فقال : " لا يحل له أن يطلقها بل عليه أن يبرها ، وليس تطليقه امرأته من برها ".آهـ
وليست الأم كالأب في معرفة المصالح.
قال : [ ويحرم للبدعة ]
أي يحرم الطلاق البدعي اتفاقاً ، كطلاق الحائض ويأتي الكلام عليه إن شاء الله ، وعليه فالطلاق له أحكام خمسة فيباح ويكره ويستحب ويجب ويحرم.
قال : [ ويصح من زوج مكلف ]
بلا خلاف بين أهل العلم ، فالزوج العاقل البالغ يصح طلاقه بلا خلاف بل قد أجمع أهل العلم على هذا ، والشريعة دالة عليه.
قال : [ ومميزٍ يعقله ]
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد(21/3)
المميز الذي يعقل الطلاق ، طلاقه يقع في المشهور من المذهب ، والمراد بكونه يعقل الطلاق : أن يعلم أن هذا الطلاق يترتب عليه فراق المرأة وأنها لا تحل له ، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره وهو حديث حسن : ( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق )(1) ، وبقول علي الذي رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح أنه قال : " اكتموا الصبيان الطلاق "(2) ، ومفهومه يدل على أن الطلاق من الصبيان يقع ، ولأنه طلاق وقع من عاقل في محله .
وذهب الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد : إلى أنه لا يقع واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( رُفع القلم عن ثلاثة – وذكر منهم – الصبي حتى يبلغ ) (3) .
والذي يتبين ترجيحه هو القول الأول.
وأما الجواب عن دليل القول الثاني : فإن المراد بالرفع رفع الإثم ، أي لا إثم عليهم ، وهذه المسألة متعلقة بحق آدمي وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق ، بخلاف ما يتعلق بحقوق الله .
أما إذا كان الصبي لا يعقل الطلاق ، فلا يعلم ما يترتب عليه من أحكام ، من فراقه للمرأة وتحريمها عليه ، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقع .
__________
(3) ذكره البخاري معلقاً موقوفاً على علي رضي الله عنه في كتاب الطلاق ، باب الطلاق في الإغلاق .. ، وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود ، باب في المجنون يسرق ( 3822 ) بلفظ آخر ، وبرقم ( 3824 ) ( 3825 ) ، وبقية الخمسة . انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي ، وللسبكي مؤلف عن حديث رفع القلم ، اسمه " إبراز الحكم من حديث رفع القلم " كما في موقع الوراق .(21/4)
وجماهير أهل العلم على أن السفيه غير الراشد إن طلق وقع ، وذلك لأنه إنما حجر عليه في ماله ، وكونه يحجر عليه في ماله لا يمنع من تصرفه في غيره ، وعلى ذلك يصح توكيل الصبي في الطلاق وكذلك السفيه ، وذلك لأن من صح تصرفه في الشيء صح توكيله فيه كما تقدم في باب الوكالة ، فتوكيل الصبي أباه أو أخاه ، وهو يعقل الطلاق ، توكيل صحيح لصحة تصرفه ، [ ومن صح تصرفه ] في شيء صح توكيله فيه.
قال : [ ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه ]
من زال عقله بجنون أو إغماء أو ببنج لتداوٍ أو نحو ذلك فإن طلاقه لا يقع ، وكذا طلاق الموسوس فيه وكذا طلاق النائم وهذا باتفاق المسلمين ، وذلك لأن الأقوال إنما تعتبر في الشرع ممن يعقلها ويقصدها وهؤلاء لا يعقلون ما يتلفظون به ولا يقصدونه وفي البخاري معلقاً عن علي قال : " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه "(1).
إذن : إن زال عقله معذوراً كأن يُجن أو يغمى عليه أو أن يشرب دواءً أو أن يشرب مسكراً غير عالم بتحريمه أو هو عالم بتحريمه لكنه مكره ونحو ذلك ، فهؤلاء باتفاق أهل العلم لا يقع طلاقهم.
قال : [ وعكسه الآثم ]
__________
(1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق ، تحت باب الطلاق في الإغلاق والكره ، قبل رقم ( 5269 ) .(21/5)
فالآثم في إزالة عقله وهو من شرب المسكر طوعاً فطلاقه يقع ، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم ، واستدلوا ؛ بما روى الترمذي بإسنادٍ ضعيف جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ) (1) ، والحديث إسناده ضعيف جداً ، وإنما يصح عن علي كما تقدم ، واستدلوا ؛ بالنظر فقالوا : إن هذا الرجل فرط في إزالة عقله فرتبت عليه الأحكام المترتبة على ألفاظه عقوبة له ، وهذا أيضاً ضعيف ، وذلك لأن الشارع قد عاقبه بالحد وليس ثمت دليل يدل على عقوبته بما ذكروه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان ، باب ما جاء في طلاق المعتوه ( 1191 ) قال : " حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني أنبأنا مروان بن معاوية الفزاري عن عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد المخزومي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله ) ، قال الألباني : " ضعيف جداً والصحيح موقوف " .(21/6)
وذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب طائفة من التابعين : أنه لا يقع الطلاق ، وهو قول عثمان وابن عباس ولا يعلم لهما مخالف كما قال ذلك ابن المنذر ، وقول علي المتقدم كلام عام ، ورُويَ عن بعض الصحابة ما يخالف قول عثمان وابن عباس ولكن لا يصح ، وأثر عثمان رواه البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة(1) أنه قال : " ليس لسكرانٍ ولا لمجنونٍ طلاق " ، وقال ابن عباس : " طلاق السكران والمستكره ليس بجائز "(2) ، أي ليس بماضٍ، رواه البخاري معلقاً، قالوا: والشريعة دلت عليه ، فالشريعة دلت على أن الأقوال التي يتلفظ بها السكران غير مؤاخذ عليها ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم ؛ أمر أن يستنكه ماعزاً ، وقد أقر على نفسه بالزنا ولا فائدة من هذا إلا أن يرد إقراره ، ففيه أن إقراره وهو قول من أقواله لا يقبل حين كان شارباً للخمر ، ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في سنن أبي داود : ( لا طلاق ولا عَتَاق في إغلاق ) (3)
__________
(1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق ، باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ : " وقال عثمان : ليس لمجنون ولا لسكران طلاق " .
(2) ذكره البخاري معلقاً في باب الطلاق في الإغلاق .. .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في الطلاق على غلط ( 2193 ) قال : " حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري أن يعقوب بن إبراهيم حدثهم قال : حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن ثور بن يزيد الحمصي عن محمد بن عبيد بن أبي صالح الذي كان يسكن إيليا قال : خرجت مع عدي بن عدي الكندي حتى قدمنا مكة ، فبعثني إلى صفية بنت شيبة وكان قد حفظت عن عائشة قالت : سمعت عائشة تقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا طلاق ولا عتاق في غلاق ) كذا في سنن أبي داود [ 2 / 643 ] قال في الحاشية : " وأخرجه ابن ماجه في الطلاق باب طلاق المكره حديث 2046 ، والمحفوظ فيه : " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " .(21/7)
، ومن شرب الخمر فقد انغلق عليه قصده فلا يدري ما يقول ومنه الغضبان كما سيأتي ، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته ، فعلى ذلك من شرب الخمر طوعاً وأغماه الخمر فطلق امرأته فإن هذا الطلاق لا يقع ، والشرع إنما يعتبر الأقوال حيث كان المتلفظ بها في حالة عقل وقصد وأما حيث لا يعقل ما يقول ولا يقصده فإن الشارع لا يرتب على قوله شيئاً ولا يعتبر قوله.
الدرس الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة
قال المؤلف رحمه الله : [ ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو لولده ، أو أخذ مال يضره ، أوهدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به فطلق تبعاً لقوله لم يقع ]
هذه المسألة في حكم طلاق المكره، وجمهور أهل العلم على أن طلاق المكره لا يقع ، ودليل ذلك قوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان } (1) ، فإذا كان الكفر لا يقع بالتلفظ به للإكراه مع أن الصدر منشرح بالإيمان ، فأولى من ذلك الطلاق فإذا أكره فطلق بقوله ولم يقصد ذلك بقلبه فليس قلبه منشرحاً بالطلاق فإنه لا يقع ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ) رواه أبو داود ، والإغلاق هو انسداد باب العلم والقصد والمكره قد انسد باب قصده فهو غير قاصد للطلاق ولا مريدٍ له ، ويدل عليه أيضاً : ما روى ابن ماجه والحديث حسن لغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (2)
__________
(1) سورة النحل ( 106 ) .
(2) قال صاحب الأربعين النووية : " حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما " .
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق ( 2043 ) قال رحمه الله : " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهُذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) " .
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى ( 7 / 356 ) في باب ما جاء في طلاق المكره فقال رحمه الله : أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين قالوا : نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا الربيع بن سفيان نا بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات ، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير .
أخبرناه أبو سعد الماليني أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ نا عمر بن سنان والحسن سفيان وغيرهما قالوا : نا محمد بن المصفى نا الوليد بن مسلم ، فذكره ، وقال : عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال : أنا عبد الله بن جعفر نا يعقوب بن سفيان نا محمد بن المصفى نا الوليد نا ابن لهيعة عن موسى بن ورد أنه قال : سمعت عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) " .(21/8)
، والمكره إنما تلفظ بالطلاق لا لقصده وإنما لدفع الأذى الحاصل عليه ، وقد قال ابن عباس كما في البخاري : " الطلاق عن وَطَر "(1) ، أي قصدٍ ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير كما روى ذلك ابن حزم في المحلى .
وقول المؤلف " ظلماً " يخرج ما لو أكره عليه بحق فإن الطلاق يقع ، كإكراه الحاكم المولي بالطلاق إن أبى الفيئة .
قوله: " بإيلام له " : أي بضرب أو سجن طويل أو خنق أو غير ذلك ، وأما إن كان ضرباً يسيراً فإن الإكراه معه لا يعذر به ؛ وذلك لأنه لا يحتاج معه إلى الطلاق ، هذا إن كان ممن لا يبالي به ، وأما إن كان من ذوي المروءة الذين يؤذيهم ذلك أذىً عظيماً ويلحقهم ذلك إشهاراً وحطة عند الناس فإنهم يعذرون بذلك .
قوله: " أو لولده ": فإذا كان الإيلام بالسجن أو الضرب الشديد لولد فكذلك ، فيتوجه - كما قال ابن رجب - أن يكون كذلك في كل من يُلحق مشقة عظيمة في أذاه ، من ولدٍ أو والدٍ أو زوجٍ أو صديقٍ ، وذلك لحصول الإكراه ، فيدخل ذلك في عمومات الأدلة .
قوله: " أو أخذ مال يضره " : أي ضرراً كثيراً .
قوله: " أو هدده بأحدها: " أي بأحد المذكورات ، فإذا هدده بأن يؤلمه إيلاماً شديداً أو يأخذ من ماله ما يضر به ضرراً كثيراً ، أو بأن يؤلم ولده أو والده أو زوجته أو صديقه ، فإذا هدد بذلك فإن طلاقه لا يقع ، ففي الكلام السابق حيث يقع المذكور وهنا لم يقع المذكور وإنما هدد به .
قوله: " من قادر " : من سلطان أو متغلب كلص ونحوه .
__________
(1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق ، باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ : " وقال ابن عباس : الطلاق عن وطر ، والعَتَاق ما أريد به وجه الله " .(21/9)
قوله: " يظن إيقاعه به " : قالوا يظن ظناً غالباً أي يظن ظناً غالباً أن هذا السلطان أو هذا الذي السلطان ظهره ، أو هذا اللص يمكنه أن يوقعه بهذا الوعيد أو التهديد إيقاعاً غالباً ، فإذا علم أنه يفعل ما هدده به ، أو غلب على ظنه ذلك فإنه يحصل بذلك الإكراه ، وقال شيخ الإسلام: " بل يكون إكراهاً مع استواء الطرفين، أي بمجرد كونه يخشى ذلك فإن الإكراه ثابت ولو لم يكن الظن غالباً، وهو كما قال فإن ذلك إكراهٌ ، فإذا هدده من يخشى منه ويخشى أن يوقع ما هدده به فإنه يكون مكرهاً وإن لم يغلب على ظنه أنه يوقع ما توعده به ، قوله: " فطلق تبعاً لقوله لم يقع " : وذلك للأدلة المتقدمة ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " من سحر ليطلق كان إكراهاً " ، قال صاحب الإنصاف: " بل هو من أعظم الإكراهات " لأنه لم يقصد الطلاق وإنما أكره عليه بالسحر ، فإذا أثبت أهل الخبرة أن هذا الرجل مسحورٌ ، وأن طلاقه كان بسحرٍ فإن الطلاق لا يقع.
قال : [ ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه ](21/10)
كنكاحٍ بلا وليٍ ، فالنكاح المختلف فيه يقع الطلاق فيه ، فيكون طلاقاً بائناً إن كان الزوج يعتقد فساده ، وإن كان يعتقد صحته كالحنفي الذي يقول به ، فإن الطلاق يكون رجعياً ، أما الحالة الثانية وهي فيما إذا كان يعتقد صحته فهذا ظاهر، وأما إذا كان يعتقد فساده فليس بظاهرٍ فالأظهر أنه لا طلاق له ، وإن من نكح نكاحاً فاسداً فطلق وهو يعتقد فساده ، فإنه لا طلاق له بل يفرق بينهما ، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة لأنه كالنكاحِ الباطل، واختاره شيخ الإسلام، فهو يعتقد أنه نكاح فاسد و الطلاق فرع عن النكاح الصحيح ، وهو لا يعتقد صحته وإنما يعتقد فساده وعليه فإنه يفرق بينهما ولا يكون طلاقاً ، وقد أجمع أهل العلم على أن الطلاق في النكاح الباطل لا يقع ، كمن نكح امرأة معتدة ثم طلقها ، فلا يكون هذا طلاقاً بل يفرق بينهمـ[ـا] ، فإذا خرجت من عدتها فنكحها فلا تحسب عليه تلك الطلقة ، كذلك إذا نكح امرأة بلا وليٍ وهو يعتقد فساد هذا ، ثم نكحها بعد ذلك بولي ، فلا يحسب عليه طلقة لأنه ليس بنكاحٍ صحيح بل هو فاسد عنده ، والطلاق فرع عن النكاح الصحيح.
قال : [ ومن الغضبان ]
أي يقع الطلاق من الغضبان ، فطلاق الغضبان طلاق واقع ما لم يغمَ عليه ، أي ما لم يزل عقله به ، والطلاق في حالة الغضب له ثلاث صور ، صورتان لا نزاع فيهما وصورة فيها النزاع :
الصورة الأولى : أن يطلق في مبادئ الغضب بحيث أن له تصوراً صحيحاً ، فطلاقه واقع بلا إشكالٍ ، بل أكثر الطلاق من هذا القبيل ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الصورة الثانية : أن يطلق وهو غضبان غضباً قد زال عقله معه بحيث أصبح لا يدري ما يقول ، فأصبح كالمجنون أو المعتوه فهذا طلاقه لا يقع ، بلا نزاعٍ بين أهل العلم.(21/11)
الصورة الثالثة : وهي التي اختلف فيهـ[ـا] أهل العلم وهي أن يطلق وهو في الغضب المتوسط ، أي الذي قد تعدى مبادئ الغضب ولم يصل إلى منتهاه ، فالغضب ثابت والعقل لم يَزُل ، فقد اختلف فيه أهل العلم :
1.فالمشهور عند الحنابلة وغيرهم وقوع الطلاق .
2. واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ؛ عدم وقوع الطلاق .
وصفة الغضب المتوسط : أن يكون الغضب قد استحكم في الغاضب وأصبح غير كامل القصد ، بل أصبح الغضب يتصرف فيه فيسكته وينطقه كما قال تعالى : { فلما سكت عن موسى الغصب } (1)، فقصده ضعيف ، بل هو غير كامل وتصوره غير تامٍ ، بحيث أنه يقدم على الشيء ثم يندم عليه ، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وغيره : ( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )(2) ، والإغلاق ؛ هو انسداد باب العلم والقصد ، ويدخل فيه السكران والمكره والمجنون والمعتوه وأيضاً الغضبان بل قد فسر الإمام أحمد والشافعي وأبو داود قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( في إغلاق ) فسروه بالغضب ، وفسره أبو عبيدة بالإكراه ، والصحيح شموله لهما ولغيرهما مما تقدم ، وهذا الرجل الغضبان الذي قد طلق ، والغضب يسكته وينطقه وقد استحكم به وانتشر وهو غير تام القصد ، هذا قد انغلق عليه تمام قصده فلم يقع طلاقه ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه : " الطلاق عن وَطَر "(3) ، وهذا ليس عن وَطر فليس عن قصدٍ تام ، وقد نصر ابن القيم هذا القول بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، والنظر، في كتابه " إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ".
قال : [ ووكيله كهو ]
__________
(1) في سورة الأعراف { ولما سكت عن موسى الغضبُ .. } الآية رقم ( 154 ) .
(2) تقدم .
(3) ذكره البخاري معلقاً كما تقدم .(21/12)
وكيل الزوج كهو ، فللزوج أن يوكل في الطلاق، وذلك للقاعدة السابقة : " أن من صح تصرفه في الشيء صح توكيله فيه " ، فللزوج أن يوكل غيره سواء كان هذا الوكيل مكلفاً أو مميزاً يعقله ، فإذا وكل فإن الموكل يطلق عنه ؛ وذلك لأن الطلاق إزالة ملك كالعتق ، فكما يجوز التوكيل في العتق فيجوز التوكيل في الطلاق لأنه إزالة ملك.
قال : [ ويطلق واحدة ]
أي الوكيل ، فليس له أن يطلق أكثر من واحدة ، وذلك لأن الأمر المطلق يتناول ما يصدق عليه الاسم ، ثم إن الطلاق ثلاثاً بلفظٍ واحدٍ محرمٌ ، فليس له فعله.
قال : [ ومتى شاء ]
ولو كان بعد شهرٍ أو شهرين أو سنة ، وذلك لأن التوكيل فيه إطلاق ، فقد أطلق هذا الموكِّل توكيله فقال : " وكلتك أن تطلق امرأتي " ، ولم يوقت له وقتاً ، فكان هذا التوكيل غير مؤقت ، فلو طلق بعد سنة أو سنتين فإن الطلاق يقع ما لم يرجع عن التوكيل ، فإذا قال: رجعت عن توكيلك فذلك جائزٌ ، فللزوج الرجوع في التوكيل كسائر الوكالات ، وقد تقدم في باب الوكالة.
فإن طلق الوكيل وادعى الزوج أنه قد رجع في هذه الوكالة فما الحكم ؟
المشهور في المذهب: أنه يقبل قول الزوج .
وعن الإمام أحمد: أنه لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على أنه قد رجع قبل إيقاع الطلاق ، واختار هذا شيخ الإسلام وهو القول الراجح كسائر الوكالات ، ففي سائر الوكالات لا يقبل ادعاؤه الرجوع بعد فعل الوكيل الوكالة إلا ببينة ، وهنا كذلك.
قال : [ إلا أن يعين له وقتاً ]
فإذا قال له : " وكلتك أن تطلق امرأتي اليوم " فطلق غداً فلا يقع الطلاق ؛ لأن هذه الوكالة قد جعل لها وقتاً.
قال : [ وعدداً ]
فإذا قال له : " وكلتك أن تطلق طلقتين " ، فليس له أن يزيد على ذلك.
قال : [ وامرأته كوكيله في طلاق نفسها ]
إذا وكل امرأته بالطلاق فقال : " فوضت إليكِ أمر نفسك " ، فكذلك لأنه يجوز له أن يتصرف في الطلاق فجاز له أن يوكل به.
فائدة :(21/13)
ذكر شيخ الإسلام أن طلاق الفضولي كبيعه ، أي موقوف على الإجازة ، فإذا جاء أجنبي فقال لزوجة فلان: " أنت طالق من زوجك " فأجاز الزوج فأمضى ، [ فـ]ـذلك كبيع الفضولي.
الدرس الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في الطلاق سنيّه وبدعيّه
قال : [ إذا طلقها مرة في طهر لم يجامع فيه ، وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنّةٌ ]
إذا طلقها مرة فقال : " أنت طالق " في طهر لم يجامعها فيه بمعنى حاضت المرأة فطهرت وتطهرت فطلقها ولم يجامعها، هذا هو طلاق السنة بالإجماع ، قال تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } (1)، وفي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء فليمسك بعد، وإن شاء فليطلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء ) (2) ، وثبت في النسائي بإسنادٍ صحيح عن ابن مسعود قال : " طلاق السنة أن يطلقها طاهراً من غير جماع "(3) ، لكن يستثنى من ذلك ما دل عليه حديث ابن عمر وهو مستثنى عند فقهاء الحنابلة ، وهو ما إذا طلقها وهي حائض فإنه يؤمر بمراجعتها ، فإذا طهرت من حيضها فلا يطلقها بل ينتظر حتى تحيض ثم تطهر وبعد ذلك يطلقها إن شاء كما دل على ذلك
__________
(1) سورة الطلاق .
(2) أخرجه البخاري في بداية كتاب الطلاق ، باب قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } ( 5251 ) ، وأخرجه مسلم برقم ( 1471 ) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق ، باب طلاق السنة ( 3395 ) قال : " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : " طلاق السنة أن يطلقها طاهراً في غير جماع " ، وأخرجه برقم ( 3394 ) بلفظ : " أنه قال : طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع ، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد بعد ذلك بحيضة "(21/14)
حديث ابن عمر.
قال : [ فتحرم الثلاث إذاً ]
أي إذ هي طاهر لم تجامع فيه، فإذا طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات في مجلسٍ واحد أو في مجالس، و لم يكن هذا الطلاق المكرر بعد رجعة ولا بعد عقد فهذا محرم ، وذلك كأن يقول : " أنت طالق ثلاثاً " أو يقول: " أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق " ، سواء كان ذلك في مجلس واحد كما في المثالين السابقين ، أو كان بأكثر من مجلس ، بأن قال لها في مجلس يوم السبت: " أنت طالق " ولم يراجعها فلما جاء يوم الأحد قال لها " أنت طالق " أي طلقة ثانية فلما جاء يوم الاثنين قال: " أنت طالق " أي ثالثة وليس الثانية بعد رجعة ولا عقد ، وكذلك الثالثة فهذا كله محرم.(21/15)
ودليل ذلك ما روى النسائي والحديث صحيح من حديث محمود بن لبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أخبر عن رجلٍ طلق امرأته بثلاث تطليقات جميعاً " فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان فقال : ( أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ) (1) ، واللعب بكتاب الله محرم ، ولأن الطلاق الوارد في الشرع إنما أن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ، ولذا قال تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } وقال سبحانه وتعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً (2) } ، أي الرجعة وهذا الطلاق – أي طلاق الثلاث – ليس بعده رجعة فكان محرماً ، وهذا مذهب جمهور العلماء .
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق ، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ ( 3401 ) قال : " أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال أخبرني مخرمة عن أبيه قال : سمعت محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضباناً ثم قال : ( أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ) حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ألا أقتله " . وسليمان هو : ابن داود بن حماد المهري أبو الربيع المصري ابن أخي رشدين ثقة كما في التقريب . وابن وهب : هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي أبو محمد المصري الفقيه ، ثقة حافظ عابد كما في التقريب . ومخرمة : هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج أبو المسور المدني ، صدوق ، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه ، قاله أحمد وابن معين وغيرهما كما في التقريب ، وقال ابن المديني : سمع من أبيه قليلاً " . وأبوه هو : بكير بن عبد الله الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله أبو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة من الخامسة كما في التقريب ، وانظر تهذيب الكمال [ 4 / 242 ] . فعلى ذلك الإسناد حسن .
(2) سورة الطلاق .(21/16)
وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد : هو جائز واستدلوا بحديث عويمر العجلاني في قصة الملاعنة وفيه أنه قال: " كذبت عليها أن أمسكتها هي طالق ثلاثاً "(1) ، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أم رفاعة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - :أن أبا رفاعة بت طلاقي "(2) ، قالوا ؛ فهذا يدل على جوازه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكره.
والقول الأول هو الراجح.
والجواب عما استدل به الشافعية :
أما الدليل الأول : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عويمر لأن هذا اللفظ لا فائدة منه ولا قيمة له وذلك لأن الملاعنة يثبت معها البينونة الكبرى ، فيفرق بين المتلاعنين تفرقاً لا اجتماع بعده ، وأما حديث أم رفاعة(3) ففي رواية مسلم أنها قالت " طلقني آخر ثلاث تطليقات " ، فدل على أنه لم يقل: " هي طالق ثلاثاً " ، فالصحيح أن الطلاق ثلاثاً محرم .
واختلف أهل العلم هل يقع ثلاثاً أم لا ؟ على قولين :
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان ( 5308 ) ولفظه فيه : " قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وأخرجه مسلم ( 1492 ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب من أجاز طلاق الثلاث ( 5260 ) ولفظه : " أن عائشة أخبرته : أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت .. " وأخرجه مسلم ( 1433 ) .
(3) كذا في المذكرة – الأصل - ، ولعل الصواب : امرأة رفاعة .(21/17)
القول الأول ، وهو مذهب جماهير العلماء وهو قول الفقهاء الأربعة وعليه فتوى أئمة الدعوة النجدية : أن هذا الطلاق واقع ثلاثاً ، واستدلوا بفعل عمر ، وفي مسلم عن ابن عباس قال : " كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر – إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم - فأمضاه عليهم "(1) ، قالوا : لأنه قد طلق ثلاثاً فقد تلفظ بالطلاق ثلاثاً فأوقعناه عليه كذلك.
القول الثاني ، وهو قول طاووس وعكرمة من التابعين وهو مذهب أهل الظاهر واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول طائفة من أصحاب أحمد وطائفة من أصحاب مالك وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ، قالوا : الطلاق لا يقع ثلاثاً بل واحدة ".
واستدلوا بالحديث المتقدم ، قالوا : كان طلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة فهذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل أبي بكر وفعل عمر في بعض خلافته.
واستدلوا : بما روى أحمد في مسنده وصححه وجوّد إسناده شيخ الإسلام: أن أبا ركانة طلق امرأته في مجلس واحدٍ ثلاثاً فحزن عليها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنها واحدة "(2).
واستدلوا : بأن الشارع قد نهى عنه والنهي يقتضي الفساد ، هذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق ، باب طلاق الثلاث ( 1472 ) .
(2) رواه أحمد في المسند ( 2387 ) ، ورواه أبو داود ( 2196 ) في كتاب الطلاق ، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث بلفظ آخر وفيه : " فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة " .(21/18)
وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول : أن فعل عمر رضي الله عنه اجتهاد منه وكل يؤخذ من قوله ويرد ، والعذر له في مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر : هو أنه قد جعل هذا من باب التعزير وهو سائغ للإمام ، كما عزر في جلد شارب الخمر ثمانين وكان يجلد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ، وذلك أن الناس لما أكثروا من شرب الخمر وأظهروا ذلك عُزِروا بجعل الحد ثمانين ، كذلك هنا فإن الناس لما استهانوا بهذا الأمر المحرم وأكثروا منه عزرهم بذلك وأمضاه عليهم.
إذن الطلاق الذي يقع هو الذي يكون بعد الرجعة ؛ كأن يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها ، فهذه طلقة معتبرة .
أو طلقها فلما انقضت عدتها راجعها أي تزوجها بعقد جديد ثم طلقها فهذه الطلقة معتبرة أيضاً.
[ واختار الشيخ عبدالعزيز رحمه الله ؛ عدم الوقوع إذا كان بكلمة واحدةٍ نحو أنت طالق ثلاثاً أو مطلقة بالثلاث أو هي طالق بالثلاث.
وأما إذا كرره على وجهٍ يغاير فإنه يقع نحو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق، إلا إذا أراد بالثاني والثالث التأكيد أو إفهام المرأة فله نيته.(21/19)
أما لو قال أنت طالق طالق طالق فهي واحدة لأنه من باب التأكيد وفي الحديث - أبي ركانة - عند أبي داود : " والله ما أردت بها إلا واحدة فردها عليه " وهذا القول أصح. ] (1)
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل ، وإنما قاله الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات ، قال حفظه الله تعالى : " والصواب في هذه المسألة : ما اختاره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وأن قول القائل في مجلس واحد : أنتِ طالق ثلاثا ، هذا لا يقع إلا واحدة ، وأما إن قال : أنتِ طالق وطالق وطالق ، أو قال : أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق – هذا بالعطف – ، أو قال معيداً للجملة : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، أو قال : أنتِ مطلقة ، أنتِ مطلقة ، أنتِ مطلقة – فأعاد الجملة - ، فهنا يقع ثلاثا ، إلا أن يقصد إفهامها أو التأكيد . إذاً : إن قال أنت طالق ثلاثا ، بكلمة واحدة ، فحينئذ الطلاق لا يقع إلا واحدة . قال : وهذا هو ظاهر الأحاديث ، في حديث مسلم : " كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر طلاق الثلاث واحدة " قال : طلاق الثلاث ، بأن يقول : أنتِ طالق ثلاثا ، أو : أنتِ طالق بالثلاث ، وأيضا حديث رُكانة المتقدم ، فإن فيه : أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد " ، وعند أبي داود من وجه أحسن منه – كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله - : أنه قال : والله يا رسول الله ، ما أردتُ إلا واحدة ، فردّها إليه " ، فدل على : أنه ، إما أنه قال : أنت طالق ثلاثا ، أو قال : أنت طالق وطالق وطالق ، وأراد بالاثنتين إفهامها ، أو التأكيد ، ولذا قال : " والله ما أردت إلا واحدة " ، فيُدَيَّن فيما بينه وبين ربه – يعني إذا قال الرجل : أنت طالق ثم طالق ثم طالق ، فنقول : ما الذي أردت من قولك " ثم طالق ثم طالق " ؟ إن قال : أردت التأكيد ، أو أردت إفهامها ، فنقول : هي واحدة . وإن قال : لا ، أنا أردت البتة – أردتُ أن أبُتَّ طلاقها - ، فنقول : هي طالق ثلاثا . وكذلك إذا قال : أنتِ طالق وطالق وطالق ، فإن قال : أريد إفهامها ، أو : أريد التأكيد ، فنقول : لا تقع إلا واحدة . وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة .
وأما إن قال : أنتِ طالق ، طالق ، طالق ، هنا لم يأت بالعطف ، لم يقل : " و " ، ولم يقل : " ثم " ، ولم يكرر الجملة بإعادة المبتدأ ، وإنما قال : أنتِ طالق ، طالق ، طالق ، فهذا ظاهره أنه طلاق واحد ، كما هو أصح القولين ، وهو اختيار كثير من أهل العلم ممن يوقع الطلاق الثلاث ثلاثا ، لكن يقول : أنتِ طالق ، طالق ، طالق ، هذا ظاهره التأكيد ، لأنه من المعروف أن الكلمة إذا أُعيدت بلا عاطف ، فهي ظاهرة في التأكيد ، إلا أن يكون في نيته إيقاع الطلاق ثلاثا . إذاً : إذا كرر ، فقال : أنت طالق ، طالق ، طالق ، فنقول : هذه طلقة واحدة ، إلا أن يكون قد نوى في التكرار خلاف الظاهر ، فإذا نوى خلاف الظاهر ، فإنما الأعمال بالنيات . هذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة ، وعلى ذلك : فالذي يستثنى من الطلاق الثلاث قوله " أنتِ طالق ثلاثا " أو " بالثلاث " أو " مطلقة بالثلاث " بكلمة واحدة ، أو قوله " أنتِ طالق ، طالق ، طالق " أو قوله " أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق " أو " أنتِ طالق وطالق وطالق " ، وينوي إفهامهما أو التأكيد . " .(21/20)
.
قال : [ وإن طلق من دخل بها في حيض ، أو طهرٍ وطئ فيه فبدعة يقع ]
هذا أيضاً طلاق بدعي ، إذن النوع الأول من الطلاق البدعي الطلاق ثلاثاً ، والنوع الثاني هو الطلاق في الحيض ، والنوع الثالث أن يطلقها في طهر وطئها فيه ، ويدل على ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه وقد تقدم.
وطلاق الحائض يقع ، وهو مذهب جماهير العلماء ، وأن الطلاق في الحيض يقع ، وكذلك في طهر جامعها فيه ، فهو طلاق بدعة ومحرم لكنه يقع.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب أهل الظاهر : أن الطلاق لا يقع ، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه من حديث أبي الزبير عن ابن عمر سماعاً قال : " ولم يرها شيئاً "(1) أي لم ير تلك التطليقة التي طلقها ابن عمر في الحديث المتقدم – وكان قد طلقها وهي حائض – لم يرها شيئاً . وقالوا : لأن طلاق الحائض أو في طهر جامعها فيه طلاق محرم منهي عنه والنهي يقتضي الفساد.
وأما جمهور العلماء ، فاستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( مره فليراجعها ) (2) ، قالوا : والرجعة إنما تكون بعد الطلاق.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في طلاق السنة ( 2185 ) ولفظه : " قال عبد الله : فردها عليّ ولم يرها شيئاً " .
(2) متفق عليه .(21/21)
وهذا الاستدلال فيه نظر؛ وذلك أن الرجعة تسمى رجعة حيث كانت بعد الطلاق في عرف الفقهاء ، وأما في عرف الشرع فلا يتعين هذا ، والدليل قول الله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } (1)، وهذا التراجع بعد أن تنكح زوجاً غيره وهو ليس مسبوق بطلاق بل هو عقد جديد ، لكن الاستدلال القائم هو ما ثبت في البخاري عن ابن عمر أنه قال : " وحسبت علي بتطليقة "(2) ، وفي مسند الطيالسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( وهي واحدة ) ، وفي الدارقطني بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليحتسب تلك التطليقة التي طلقها أول مرة ) ، وقد بوب البخاري على حديث ابن عمر باباً فقال : " باب إذا طُلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق " ، وهذا القول الراجح وذلك لقوة أدلته ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبها تطليقة.
والجواب عن أدلة أهل القول الثاني : فالجواب عن رواية أبي الزبير عن ابن عمر : " ولم يرها شيئاً " ، فالجواب عليها من وجهين :
أنها منكرة ، قال الخطابي : " قال أهل الحديث لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا " ، وقال ابن عبد البر في رواية أبي الزبير هذه قال : " هو منكر لم يقله غير أبي الزبير " أي هذا القول منكر ، قال أبو داود: والأحاديث كلها تخالف ما قال أبو الزبير ، وفي الصحيحين أن ابن عمر قيل له : أفاحتسبت بتلك التطليقة ، قال : " فمه ! ، مالي لا أعتد بها أرأيت إن عجزت أو استحمقت "(3).
__________
(1) سورة البقرة .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب إذا طلقت الحائض .. ( 5253 ) ولفظه : " قال : حسبت علي بتطليقة " .
(3) أخرجه البخاري في باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق ( 5252 ) ، وأخرجه مسلم ( 1471 ) .(21/22)
الوجه الثاني وهو أولى من تغليط الراوي كما قال ابن حجر أن قوله: " لم يرها شيئاً " أي لم يرها شيئاً صواباً مستقيماً بل هي شيء خاطئ وإن كان يعتد به ويحسب ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ، ولا شك أن حمل قول الراوي على موافقة غيره من الرواة أولى من جعله مخالفاً، فيحكم عليه بالشذوذ أو الإنكار .
وأما أن النهي يقتضي الفساد ، فهذا يخالف النص الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يعبأ به ، ثم يقال إن الطلاق إزالة عصمة فيها حق آدمي فكيفما أوقعه وقع، لأنه ليس من العبادات بل فيه إزالة عصمة فيها حق آدمي فكيفما أوقعه وقع سواءً كان آثماً أو مأجوراً وهذا مذهب عامة أهل العلم .
واختلف أهل العلم في العلة من المنع من طلاق الحائض :
1.فذهب أكثر الحنابلة إلى أن العلة هي تطويل مدة العدة، لأنه إذا طلقها في الحيض ، فإنه لا تحتسب هذه التطليقة ، بل تنتظر حتى تطهر ثم تحيض ، فيكون في ذلك تطويلاً لعدتها.
2.وقال أبو الخطاب من الحنابلة : العلة أنه في زمن رغبةٍ عنها والشارع متشوف إلى إبقاء النكاح ، والمرأة في زمن النكاح(1) يكون زوجها في رغبة عنها فربما طلقها .
والذي يظهر أن العلة هي اجتماع هاتين العلتين ، فالعلة هي تطويل العدة ولما فيه من طلاقها في زمن يرغب عنها به ، بدليل أن الشارع نهى عن طلاق المرأة في الطهر الذي قد جومعت فيه مع أنه ليس فيه تطويل لعدتها لكن لرغبته عنها بعد قضاء وطره منها.
واختلفوا هل هذا لحق الله أو لحق المرأة ؟
فإذا قلنا إنه لحق المرأة فإذا سألته المرأة الطلاق فطلقها في الحيض فليس بمحرم لأنها قد أسقطت حقها ، أو سألته الطلاق في طهر قد جامعها فيه فأجابها إلى ذلك أو استأذنها في ذلك فإنه لا إثم ، وجهان في المذهب .
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : الحيض .(21/23)
والأرجح أنه لحق الله تعالى ، وهو ظاهر الكتاب والسنة ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل من ابن عمر هل أذنت بذلك وأسقطت حقها أم لا.
قال : [ ويسن رجعتها ]
الرجعة سنة ، فإذا طلقها وهي حائض أو في طهر جومعت فيه فيستحب له أن يراجعها ، لحديث ابن عمر المتقدم فإنه قال : ( مره فليراجعها ) ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد : أنه تجب مراجعتها إذا طلقها وهي حائض ، وهو أحد الوجهين في المذهب في الطاهر التي جومعت ، وهذا القول هو الراجح لظاهر حديث ابن عمر المتقدم : ( مره فليراجعها ) ، وظاهر الأمر الوجوب.
قال : [ ولا سنة ولا بدعة لصغيرة وآيسة وغير مدخولٍ بها ومن بان حملها ]
لا سنة ولا بدعة لا في عدد ولا في زمن لصغيرة ، فالصغيرة لا تحيض فإذا طلقها في أي حال كان فلا بدعة وذلك لأن عدتها الأشهر وليس عدتها الأقراء ، وعليه فليس في طلاقها ما يكون بدعة ، كذلك الآيسة التي لا تحيض لأنها لا تعتد بالأقراء كذلك غير المدخول بها لأنها لا عدة لها ، فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فيجوز له أن يطلقها وهي حائض فهذا الطلاق ليس بدعي لأنها لا عدة لها ، وكذلك المرأة إذا بان حملها بمعنى ظهر فيها الحمل فطلقها وهي حامل فليس فيه ما يسمى بالطلاق البدعي وذلك لأن عدتها وضع حملها فلا يعتد بالأقراء ، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد .
وهنا مسألتان : ما يتعلق بالزمن وما يتعلق بالعدة :
أما ما يتعلق بالزمن فهو مُسَلَّم وذلك لما تقدم من التعليل السابق ، وذلك لأن منهن من لا عدة لها ومنهن من عدتها في غير الحيض ، وعليه فليس ثمت طلاق بدعي من جهة الزمن .
أما ما يتعلق بالعدد – وهي المسألة الثانية – فما ذكره المؤلف هو المشهور في المذهب .(21/24)
- وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق : أنه من حيث العدد فيه البدعة ، وهذا ظاهر جداً ، فإذا طلق الصغيرة ثلاثاً فإن هذا الطلاق محرم لنهي الشارع عنه، وليس له تعلق بالحيض ، وهي إنما افترقت عن النساء اللاتي لا يحضن بأنها لا تحيض وهذا متعلقه الزمن وأما العدة فلا متعلق له هنا ، وعليه فطلاق الآيسة ثلاثاً - أو طلاق الصغيرة أو غير المدخول بها أو من بان حملها - ثلاثاً طلاق بدعي محرم.
الدرس الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة
قال المؤلف رحمه الله : [ وصريحه ]
أي صريح الطلاق .
اعلم أن عامة أهل العلم على أن من لم يتلفظ بالطلاق وقد نواه بأنه لا يقع ، ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم )(1) ، وكذا لو نواه وأشار بإشارة تدل عليه فإنه لا يقع الطلاق .
وأما لو كان أخرساً وأشار إشارةً مُفْهِمةً فإن الطلاق يقع بذلك بلا خلاف ، وذلك لأن الأخرس إشارته تقوم مقام نطقه.
كذلك إن كتب الطلاق في ورقةٍ قاصداً الكتابة فإن الطلاق يقع بذلك ، وذلك لأن الكتابة حروف تُفهم الطلاقَ فأشبهت النطق ، أما لو كتبه على هواء أو على شيء من ثوبه ونحو ذلك ولم يكن ذلك بالقلم فإن ذلك لغو لا يقع معه الطلاق.
قال : [ وصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه غير أمرٍ ومضارعٍ، ومطلِّقةٌ اسم فاعل ]
صريح الطلاق لفظ الطلاق ، ومتى قلنا إن هذا اللفظ صريح فلا تشترط النية ، بل يقع الطلاق بمجرد التلفظ بهذا اللفظ .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب الطلاق في الإغلاق والكره ( 5269 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " قال قتادة : إذا طلق في نفسه فليس بشيء " ، وأخرجه مسلم ( 127 ) .(21/25)
وأما الكناية فإن الطلاق لا يقع معها إلا إذا كان ثمة نية أو قرينة ، فإذا تلفظ بلفظ من كناية الطلاق وقال : أنا لم أنو فإن الطلاق لا يقع إلا إذا كان مقام النية قرينة ، كأن يتلفظ بها في غضب أو نحو ذلك .
وأما الألفاظ التي ليست بصريحة في الطلاق ولا كناية فإن الطلاق لا يقع وإن نواه كأن يقول " أقعدي " أو " كلي " أو نحو ذلك وينوي الطلاق فلا يقع الطلاق، وذلك لأن هذا اللفظ ليس بصريح فيه ولا بكناية فكما لو نوى بلا لفظ .
إذن الألفاظ ثلاثة أنواع :
لفظ هو صريح في الطلاق ، فيقع الطلاق به ولو لم ينوِ.
لفظ هو كناية في الطلاق فيقع الطلاق معه عند النية أو القرينة.
ألفاظ ليست بصريحة ولا بكناية ، كقوله: " اقعدي " وينوي الطلاق فهنا لا طلاق وإن نواه كما لو نوى ولم يتلفظ.
وصريح الطلاق لفظ الطلاق وما تصرف منه كقوله: " أنت طالق " أو " عليك الطلاق " أو قال " قد طلقتك " أو " أنت مطلَّقة " ونحو ذلك .
" غير أمر " : كقوله " اطلقي " .
" أو مضارع " : كقوله " تطلقين " .
" ومطلّقة اسم فاعل " : ، فهذه ليست من صريح الطلاق.
إذن صريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه سوى الأمر والمضارع واسم الفاعل هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية وهو قول لبعض أصحاب الإمام أحمد : أن صريحه ثلاثة ألفاظ " الطلاق " و " السراح " و " الفراق " ، فإذا قال لها : " قد سرحتك أو قد فارقتك "، فهو من صريح الطلاق ، قالوا : لأن السراح والفراق قد وردا في الشرع على الطلاق ، قال تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } (1) وقال : { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } (2).
__________
(1) سورة البقرة 229
(2) النساء 130 .(21/26)
وأجاب أهل القول الأول عن هذا الاستدلال ، قالوا : نحن لا ننازع في أن السراح والفراق يطلقان على الطلاق ولكن ننازع في أنهما صريحان منه بأن يكونا من ألفاظ الطلاق التي لا يفهم منها إلا الطلاق إلا باحتمال بعيد ، قالوا : وهذان اللفظان يطلقان على الطلاق ويطلقان على غيره فكان من كنايات الطلاق .
وقال بعض أهل العلم وهو القول الراجح في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، واختاره من المتأخرين الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، قالوا : مرجع هذا إلى العرف ، فليس صريح الطلاق ولا كنايته محصوراً بألفاظ محدده بل كل لفظ لا يحتمل إلا الطلاق فهو صريح في الطلاق، وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فهو كناية فيه ، والأعراف في هذا تختلف اختلافاً بيِّناً فقد يكون اللفظ عند قوم من صريح الطلاق، ويكون عند آخرين من كنايته وهذا القول الراجح في هذه المسألة.
قال : [ فيقع به وإن لم ينوه ]
فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق " وادعى أنه لم ينوِ ذلك فلا يقبل منه ذلك بل تكون المرأة طالقاً ؛ وذلك لأن هذا صريح لفظه فلا عبرة بنيته ، وإنما يعامل بما يقتضيه ظاهر لفظه.
قال : [ جادٌ أو هازلٌ ](21/27)
أي وإن كان هازلاً فإن الطلاق يقع ، وهو مذهب عامة أهل العلم ، ودليلهم ما روى الأربعة إلا النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد ، النكاح ، والطلاق ، والرجعة ) (1) ، وله شاهد مرسل عن الحسن عند أبن أبي شيبة ، وشاهد موقوف عند ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء ، وعليه العمل عند أهل العلم كما قال ذلك الترمذي وحكى القول به إجماعاً ابن المنذر.
قال : [ فإن نوى بطالقٍ من وثاق أو في نكاحٍ سابق منه أو من غيره أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً ]
لما قال طالق قال : إنما نويت أنها طالق من وثاق أي من قيد أو في نكاح سابق منه أو من غيره أي قال لها : طالق في طلاق طلقها إياه من سنة أو هي طالق من زوجها الأول الذي قد طلقها قبله ، أو قال : أردت أن أقول لها أنت طاهر فقلت لها أنت طالق لم يقبل حكماً في المشهور من المذهب .
وعن الإمام أحمد : أنه يقبل حكماً .
والأظهر أنه لا يقبل حكماً ، وذلك لأنه يعامل بما يقتضيه لفظه هذا في الحكم.
لكن هل يقبل فيما بينه وبين ربه ؟
الجواب : نعم فيُديَّن بنيته فيما بينه وبين ربه أي يجعل نيته ديناً بينه وبين ربه فإذا كان يعلم من نفسه الصدق فإن الطلاق لا يقع في الباطن.
إذاً : هل يقع الطلاق في الظاهر ؟
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في الطلاق على الهزل ( 2194 ) قال : " حدثني القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة ) . وأخرجه ابن ماجه في الطلاق باب من طلق أو نكح أو راجع لاعباً 2039 ، والترمذي في الطلاق باب في الجد والهزل في الطلاق 1184 ، سنن أبي داود [ 2 / 644 ] .(21/28)
الجواب : نعم يقع ، فإذا ترافعا إلى القاضي فإن القاضي يحكم بالطلاق ، لأن القاضي يحكم بما ظهر ، وقد ظهر للقاضي فيه الطلاق فقد تلفظ بما يقتضي الطلاق ، لكن في الباطن أي إن لم يترافعا إلى القاضي فهل يوقع على نفسه الطلاق أم لا ؟
إن كان يعلم من نفسه الصدق وأنه لم ينو الطلاق بل قد غلط ونحو ذلك فإن الطلاق لا يقع ، هذا كله حيث لا قرينة ، أما إن كان هناك قرينة تدل على أنه قد نوى الطلاق فإن الطلاق يقع قولاً واحداً.
فمثلاً : رجل غضب على امرأته ثم قال : أنت طالق ، وقال أنا أردت أن أقول : هي طاهر ، فهذا لا يقبل منه ؛ وذلك لأن القرينة تكذب دعواه ، أو قال هي طالق مني قبل ذلك أو طالق من زوج آخر ولم تطلق منه البتة ولم تطلق من زوج آخر قبله البتة ، فحينئذٍ يقع بذلك طلاقاً حتى فيما بينه وبين ربه ولا خلاف في ذلك .
فالخلاف المتقدم هل يقبل قوله في الحكم أم لا ؟ هذا كله حيث لا قرينة تدل على أنه قد نوى الطلاق.
قال : [ ولو سُئل أطلقت امرأتك فقال : نعم ، وقع ]
فلو أن رجلاً سُئل فقيل له: أطلقت امرأتك فقال : نعم ، فإن الطلاق يقع ، وذلك لما تقدم من أن المذكور في السؤال كالمعاد في الجواب ، فكما لو قال : نعم طلقتها.
إذن صريح الطلاق يكون أولاً : بلفظ الطلاق في المشهور من المذهب.
وثانياً : بالجواب الصريح باللفظ.
وثالثاً : ولم يذكره المؤلف ، إذا عمل عملاً وقال للمرأة هو طلاقك ، كأن يخرج امرأته إلى أهلها ويقول هذا طلاقك ، فهل يقع الطلاق بهذا أم لا ؟
المشهور في المذهب أن الطلاق يقع ويكون صريحاً فيه ، قالوا : والتقدير كأنه يقول : أوقعت عليك الطلاق ، وهذا الفعل – وهو الإخراج من المنزل – من أجله.
القول الثاني في المسألة ، وهو مذهب أكثر الفقهاء : أن هذا العمل منه ليس صريحاً في الطلاق ولا كناية وعليه فلا يقع.(21/29)
القول الثالث في المسألة ، وهو اختيار الموفق ابن قدامة : أنه من كنايات الطلاق ، وهذا القول أظهر ، والذي يدل على هذا أن هذا الفعل منه يحتمل الطلاق وليس صريحاً بدلالة احتياجنا إلى التقدير المتقدم فلو كان صريحاً لما احتجنا إلى التقدير المتقدم.
رابعاً : في المذهب ، إذا أشركها مع من صرح بطلاقها ، إذا قال لامرأته الثانية وقد طلق الأولى : " قد شاركتك في طلاق أختك " ، أي في طلاق زوجتي الأولى ، فهذا من الطلاق الصريح.
خامساً : كل لغة من اللغات يتلفظ بها الشخص وهو يفهم المعنى ، فإذا تلفظ الفارسي بكلمة في الفارسية هي صريحة في الطلاق فإن الطلاق يقع مع ذلك ، وأما إذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الطلاق بلغة ما وهو لا يفهم المعنى من هذا اللفظ فإن الطلاق لا يقع وذلك لأنه غير مختار للطلاق ، فهو غير مختار للفظ وغير مريد له فأشبه المكره.
قال : [ أو ألك امرأةٌ فقال : لا، وأراد الكذب فلا ]
فلو سُئل ألكَ امرأةٌ فقال : لا ، وأراد الكذب فلا يقع الطلاق وذلك لأن هذا القول منه كناية والكناية تحتاج إلى نية.
فصل
هذا الفصل في كنايات الطلاق ، وله كنايتان:
كناية ظاهرة : وهي الألفاظ التي يفهم منها البينونة.
كناية خفية : هي الألفاظ التي لا يفهم منها البينونة.
قال : [ وكنايته الظاهرة نحو أنت خليةٌ ، وبريةٌ ، وبائنٌ ، وبتةٌ ، وبتلةٌ ، وأنت حرةٌ وأنت الحرجُ ]
بتلةٌ : البتلة مقطوعة الوصل أي مقطوعة الوصل مني ، قوله: " أنت حرج " أي أنت الإثم والحرام ، بمعنى أنت حرام علي ، أو قال: " لا سبيل لي عليك " أو " حبلك على غاربك " أو " تقنعي مني " أو " غطي شعرك " أو نحو ذلك.
قال : [ والخفية نحو اخرجي ، واذهبي ، وذوقي ، وتجرَّعي ، واعتدي ، واستبرئي ، واعتزلي ، ولست لي بامرأةٍ ، والحقي بأهلك ، وما أشبهه ](21/30)
تجرعي : أي تجرعي مرارة الطلاق والفراق والطلاق ، وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن مرجع ذلك إلى العرف في الصريح والكناية.
قال : [ ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلا بنية مقارنة للفظ ]
فالكناية لا يقع معها الطلاق إلا بالنية أو دلالة الحال ، لا فرق في هذا الحكم بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية .
وقول المؤلف: " ولو ظاهرة " : إشارة إلى خلاف وهو خلاف الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد: أن الكناية الظاهرة يقع معها الطلاق بلا نية ، قالوا : لأن الكنايات الظاهرة تستعمل في الطلاق في العرف .
والراجح هو قول الجمهور وذلك لأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وتحتمل غيره فلم يتعين الطلاق إلا بنية أو قرينة.
قال : [ إلا حال خصومة أو غضب أو جواب سؤالها ]
الكناية الظاهرة والخفية لا يقع معها الطلاق إلا بنية ، فإن كانت هناك دلالة الحال تدل على النية ، وقد نفى هو النية كأن يكون ذلك حال خصومة أو غضب.
فمثلاً : رجل قال لامرأته في حال خصومة أو غضب " أنت بائن ولا سبيل لي عليك " ونحو ذلك .
أو كان جواب سؤالها ، كأن تقول له: طلقني، فقال: " أنت حرة " أو قال " أنت بتة " فهنا يقع الطلاق وإن قال : " أنا لم أنو " ، فذلك لدلالة الحال بأن هذه الألفاظ يظن معها في الأصل الطلاق فلما وجدت دلالة الحال كان الظن قوياً غالباً .
قال : [ فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً ]
فإن لم يرده أو أراد غيره في الأحوال المتقدمة لم يقبل هذا في الحكم ، لأن الحكم إنما ينظر فيه للظاهر ، وهذه الألفاظ التي تلفظ بها مع قرائن الأحوال تدل في الظاهر على الطلاق ، لكن لو كان في الباطن لا يريد ذلك ولم يترافعا للقاضي فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه.
قال : [ ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثٌ ]
فلوا أن رجلاً قال لامرأته: " أنت بائن " ونوى الطلاق فإنه يقع ثلاثاً في المذهب ، وذلك لأن هذا اللفظ يقتضي البينونة.(21/31)
قال : [ وإن نوى واحدة ]
أي وإن قال أنا أنوي واحدة ، وذلك لأن لفظه يخالف نيته ، والعبرة بالألفاظ الظاهرة في الحكم.
قال : [ وبالخفية ما نواه ]
فالخفية لا تدل على عدد ، فإذا كان قد نوى الطلاق أو كان في حال خصومة أو غضبٍ ، فأوقعنا عليه الطلاق فإنها تكون واحدة ، وذلك لأن لفظه لا يدل إلا على واحدة .
وهذه المسألة مبنية على المذهب .
والراجح ما تقدم وأن طلاق الثلاث واحدة كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
الدرس السادس والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
قال : [ وإذا قال : أنتِ علي حرام أو كظهر أمي فهو ظهار ]
إذا قال الرجل لامرأته: "أنت علي حرام" فإنه يكون ظهاراً ولو نوى به الطلاق ، لكن إن قال " أنت علي حرام " أعني به الطلاق فإنها تطلق به ثلاثاً ، وإن قال : أعني به طلاقاً ، فواحدة .
لأن قوله الطلاق فيه " أل " التي تفيد الاستغراق فاستغرق ذلك الطلاق كله والطلاق كله ثلاث طلقات ، وأما لو قال أعني به طلاقاً ، فإن هذا اللفظ وهو قوله " طلاقاً " ليس فيه ما يفيد الاستغراق فيكون طلاقاً رجعياً .
وهذا الحكم – أي كونه ظهاراً – ؛ لأن هذا اللفظ صريح في التحريم فكان ظهاراً كما لو قال : " أنت علي كظهر أمي " ، بل أولى ؛ وذلك لأن قوله " أنت عليّ كظهر أمي " إنما تحرم عليه زوجه باللزوم أي بالنظر إلى تحريم الأم .
وأما قوله لزوجته " أنت على حرام " فقد صرح بتحريمها ولا شك أن هذا منكر من القول وزور ، وذلك لأنه ليس له التحليل والتحريم ، بل ذلك إلى الله عز وجل.
- وعن الإمام أحمد في قوله " أنت علي حرام أعني به الطلاق " أنه ظهارٌ أيضاً ، وذلك لأن هذا اللفظ صريح في الظهار فلا ينتظر منه بيان مراده بقوله " أعني به الطلاق " وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .
وأما المذهب فإنه إذا قال: " أنت على حرام أعني به الطلاق " ، فإنه يكون طلاقاً وذلك لأن التحريم نوعان :
1. تحريم طلاق 2. وتحريم ظهار(21/32)
وحيث قال " أعني به الطلاق " فإنه يصرف إليه لأنه هو قائل ذلك فصرف إلى مراده الذي بيَّنه .
والصحيح هو ما اختاره شيخ الإسلام وهو وراية عن الإمام أحمد ، وذلك لأن هذا اللفظ صريح في الظهار ، فليس فيه احتمال فلا عبرة بتفسيره ، كما [ لو ] قال لامرأته : " أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق " فلا عبرة بقوله بل يقع ظهاراً لأن قوله: " أنت علي كظهر أمي " صريح في الظهار .
وفي المسألة أي مسألة قول الرجل لزوجته " أنت علي حرام " أقوال كثيرة ذكرها ابن القيم في كتابه زاد المعاد ، وأوصلها إلى ثلاثة عشر مذهباً ، وما ذكرناه هو مذهب الحنابلة وهو أحد المذاهب فيها .
واختار شيخ الإسلام وهو أحد المذاهب المتقدمة وهو القول الراجح في هذه المسألة: أن في المسألة تفصيلاً: فإن قال لامرأته أنت على حرام وأوقعه منجَّزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً سواء نوى به الطلاق أو لم ينوه ، وصله أم لم يصله بقوله " أعني به الطلاق " ، فإذا قال: "يا فلانة أنت علي حرام " فهنا قد أوقعه منجزاً ، أو أوقعه معلقاً مقصوداً أي يقصد به التحريم ، كأن يقول لامرأته: " إن وصل شهر رمضان فأنت علي حرام "، فهنا قد علقه تعليقاً مقصوداً فإنه يكون ظهاراً .
وأما إن كان حلفاً لا يقصد به الإيقاع كأن يقول: " إن فعلت الشيء الفلاني فامرأتي عليّ حرام " ، أو قال لامرأته : " أنت علي حرام إن فعلت كذا وكذا " ويقصد من ذلك حثها على الترك وأن تمتنع عن الفعل فهو لا يقصد إيقاع التحريم وإنما يقصد المنع والحث فهي يمين يكفرها.(21/33)
وهذا جارٍ على قاعدته رحمه الله التي خالف فيها أحمد وغيره وهي أنه يفرق بين الإيقاع والحلف ، وقد ثبت في الصحيحين وهذا لفظ مسلم عن ابن عباس قال : (إذا حرّم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها)(1) وفي النسائي أنه قال لمن حرم امرأته : " أعتق رقبة " (2) ، ويحمل هذان الأثران اللذان ظاهرهما التعارض على التفصيل المتقدم الذي ذكره شيخ الإسلام ، فقوله لمن حرم امرأته " أعتق رقبة " ، لأنه أوقع التحريم أو علقه تعليقاً مقصوداً ، وأما كونها يمين تكفر ، فذلك لأنه لم يرد إيقاع الطلاق وإنما أراد الحث أو المنع وذلك يكون من قبيل الحلف لا من قبيل الإيقاع.
قال : [ أو كظهر أمي فهو ظهارٌ ، ولو نوى به الطلاق ]
إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فهو ظهار نوى به الطلاق أم لم ينوه اتفاقاً فإذا قال الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " وهو ينوي به الطلاق فعامة أهل العلم على أنه ظهار وليس بطلاق وعلى ذلك أنزل الله القرآن ، فإن العرب كانوا يرون أن قول الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " طلاقٌ فخالفهم الله عز وجل في ذلك ولم يعتبر نيتهم وحكم بأن ذلك ظهار ويأتي بيان ذلك في باب الظهار.
قال : [ وكذلك ما أحل الله علي حرام ]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب { لم تحرم ما أحل الله لك } ( 5266 ) بلفظ : " إذا حرّم امرأته ليس بشيء ، وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق ، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق ( 1473 ) .
(2) لم أجده في فهرس بيت الأفكار . هو في النسائي في كتاب الطلاق ، باب تأويل قوله عزوجل { يا أيها النبي لم تحرم .. } ( 3366 ) بلفظ : " عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : إني جعلت .. قال : كذبت ليست عليك ... عليك أغلظ الكفارة : عتق رقبة " . انترنت / موقع الإسلام بواسطة ردادي .(21/34)
فإذا قال ما أحل الله علي حرام فهي كمسألة قول " أنت علي حرام " فالمعنى واحد لكن اللفظ مختلف ، فإن قوله: " ما أحل الله علي حرام " يدخل في ذلك تحريم امرأته.
قال : [ وإن قال : ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق طلقت ثلاثاً ، وإن قال : أعني به طلاقاً فواحدة ]
فإذا قال : ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق ، فإنها تطلق ثلاثاً ، لأن لفظة " أل " تفيد الاستغراق فحينئذٍ يوقع عليه الطلاق مستغرقاً وهو طلاق الثلاث وهذا مبني على القول بطلاق الثلاث وقد تقدم أنه قول مرجوح وإذا قال : أعني به طلاقاً فواحدة ، لأنه ليس فيه ما يدل على الاستغراق كما تقدم بيانه.
قال : [ وإذا قال : كالميتة والدم ولحم الخنزير وقع ما نواه من طلاقٍ ، وظهار ويمين ، وإن لم ينوِ شيئاً فظهار ]
إذا قال لامرأته: " أنت علي كالميتة " أو " كالدم " أو " كالخنزير " ، فإنه يقع عليه ما نواه، فإن كان نوى طلاقاً يقع طلاقاً وإن كان نوى ظهاراً وقع ظهاراً وإن كان نوى يميناً وقعت يميناً وإن لم ينوِ شيئاً كان ظهاراً.
وعند الشافعية أنه كقوله: " أنت علي حرام " وهذا هو الراجح ، وعليه فما تقدم ترجيحه في المسألة السابقة يقال هنا، فحينئذٍ يكون ظهاراً إن كان يريد إيقاعه وإلا فإنها يمين يكفرها.
قال : [ وإن قال حلفت بالطلاق وكذب لزمه حكماً ]
إن قال لامرأته: " أنا قد حلفت بالطلاق " ثم بعد ذلك كذّب نفسه ، فهل يقع الطلاق أم لا ؟
الجواب : نوقعه حكماً ؛ وذلك لأن الحكم يتعامل مع المكلفين في الظاهر ، وأما في الباطن – أي إن لم يترافعا إلى القاضي وهكذا يكون في الإفتاء – فإنه يديَّن فيما بينه وبين ربه ، فإن كان كاذباً فإن المرأة قد وقع عليها الطلاق ، وإن كان صادقاً فإن المرأة لا يقع عليها الطلاق ، أما إذا رفعت المسألة إلى القاضي ، فإنه يحكم بوقوع الطلاق ولا يقبل رجوعه، وذلك لأنه إقرار يتعلق به حق مكلف وهي الزوجة فلم يقبل رجوعه.(21/35)
قال : [ وإن قال أمرك بيدك ملكتْ ثلاثاً ، ولو نوى واحدةً ]
إذا قال لامرأته " أمرك بيدك " ، كأن تسأله الطلاق أو أن يشك في رغبتها به ولا يرغب أن تبقى معه إلا أن تكون تحبه فيقول لها " أمرك بيدك " فحينئذٍ تملك المرأة ثلاث تطليقات لأن هذا اللفظ من الكنايات الظاهرة ، وتقدم أن الكنايات الظاهرة يقع بها الطلاق ثلاثاً فتملك المرأة ثلاثاً ولو نوى واحدة وذلك لأن هذا هو مقتضى لفظه.
قال : [ ويتراخى ]
فإذا قال لها: " أمرك بيدك " وطلقت نفسها بعد شهرٍ أو شهرين أو بعد سنة ، فإن هذا التطليق صحيح ، وذلك لأن هذا اللفظ مطلق منه، فيه توكيل المرأة بطلاق نفسها فأشبه توكيل الأجنبي وتقدم الكلام في توكيل الأجنبي.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إن قال لها: " أمرك بيدك " ، فإنها تملك الطلاق في المجلس ، قالوا : لأن الطلاق بيد الزوج وإنما استثني هنا حيث كان ذلك في المجلس.
والراجح مذهب الحنابلة ، وذلك لأن هذا توكيل فأشبه توكيل الأجنبي .
ولكن له الرجوع ، ولذا قال:-
[ ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ ]
إذا وطئ المرأة بعد قوله: " أمرك بيدك " أو طلقها أو فسخ هذه الوكالة فقال: " قد رجعت " كل هذا قبل أن تطلق نفسها منه ، فإن هذا يعتبر رجوعاً منه والرجوع في الوكالة جائز وهذه وكالة.
وقال المالكية والأحناف : ليس له حق الرجوع ، وذلك لأن هذا تمليك منه ، فقد ملكها أمر نفسها ، وهذا ضعيف وذلك لأن الطلاق لا يُملَّك بل هو توكيل ، فالطلاق ملك الزوج لا يملكه غيره أبداً وهذا إنما هو من باب التوكيل ، فله أن يرجع ، وكل قول كقوله: " فسخت الوكالة " أو فعلٍ كالوطء ، يدل على الرجوع فإن الرجوع يثبت معه.
قال : [ ويختص اختاري نفسك بواحدة ](21/36)
أو قال لامرأته: " اختاري نفسك " إن شئت أن تختاري نفسك أو تختاري والديك ، فهنا يختص هذا بواحدة ، فإذا أوقعته المرأة فقالت: " اخترت نفسي " أو قالت " اخترت والدي " فإنها حينئذٍ تكون طلقة واحدة ، قالوا : لأنه تفويض معين ، فصدق على أقل المسمى.
وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يكون ثلاثاً ؛ وذلك لأن هذا اللفظ فيه إزالة سلطانه عنها ، وإزالة سلطة الرجل على المرأة لا تكون إلا بالثلاث، وهذا القول أقوى – من حيث النظر– من الأول ، لكن هذا كله مبني على إيقاع الطلاق ثلاثاً ، وقد تقدم أن هذا قول مرجوح كما هو اختيار شيخ الإسلام.
قال : [ وبالمجلس المتصل ]
في المسألة السابقة وهي فيما إذا قال لها : " أمرك بيدك " فإن ذلك يكون على التراخي ، وأما هنا فإنه يكون على الفورية ويكون بالمجلس المتصل ، أي الذي لم يقطع ، أما إذا كان في مجلس ثم حدث قطع للكلام ، فإنه لا يقع ، فإذا قال لها: "اختاري نفسك " ثم تشاغلا بشيء سواه ثم قالت: " اخترت نفسي " فإن هذا الاختيار لا عبرة له.
إذن : يجب أن يكون على الفور في المجلس الواحد وأن يكون متصلاً ، أما لو فصل بقاطع في العرف ، فإنه لا يعتد بقولها وذلك لأن هذا من باب الخيار ، فهو هنا خيار تمليك ، فأشبه الإيجاب والقبول المتقدم ، وقد تقدم أن الزوج إذا قال قبلت وكان ذلك في المجلس المنفصل فإنه لا عبرة بهذا القبول فكذلك هنا ، فالمقصود أن هذا خيار تمليك وخيار التمليك يكون على الفور.
قال : [ ما لم يزدها فيهما ]
فإذا قال للمرأة: " اختاري نفسك واحدة شئتِ أو اثنتين أو ثلاثاً " فهنا لو قالت : اخترت نفسي وأن يكون هذا ثلاثاً فإن هذا يعتد به ، وذلك لأن هذا حقه وقد رضي بذلك، وأتى بلفظه ما يدل على جواز هذا منها .(21/37)
كذلك إن قال : " ولك الخيار ما شئت " فلا نقيده بالمجلس المتصل لأن تقييدنا له بالمجلس المتصل مراعاة لحقه باعتبار لفظه ، وأما هنا فقد أسقطه بلفظه فقد قال : " ولك الخيار ما شئتِ " ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة كما في الصحيحين : ( إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك ) (1) ، وذلك لما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه فاخترنه واخترن الدار الآخرة.
وتخيير الرجل لامرأته بمجرده ليس بطلاق ، فإذا قال الرجل لامرأته: " اختاري نفسك " فإن هذا اللفظ بمجرده ليس بطلاق .
وإنما يكون طلاقاً إذا قالت المرأة: " اخترت نفسي" وقالت ذلك في المجلس المتصل ، ويدل عليه ما ثبت في مسلم قالت : خيرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم نعده طلاقاً "(2) .
إذن : مراده بقوله " ما لم يزدها " أي ما لم يزد المرأة – في المسألتين السابقتين، بأن يقوله " واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً " ، وبأن يقول " لك الخيار ما شئت ".
قال : [ فإن ردَّت أو وطئ أو طلق أو فسخ بطل خيارها ]
إذا ردت فقالت: " اخترت زوجي " فقد أسقطت خيار نفسها ، أو وطئ هذه المرأة أو طلقها أو فسخ هذا الخيار ، بطل اختيارها في الكل، وذلك لأنه قد جاء منه ما يدل على الفسخ قولاً لقوله: " قد فسختِ " ولقوله: " أنت طالق " أو فعلاً بالوطء.
الدرس السابع والأربعون بعد الثلاثمائة
باب ما يختلف به عدد الطلاق
من حرية أو عبودية أو غير ذلك من الأسباب التي يختلف بها عدد الطلاق.
قال : [ يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً ]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم ، باب الغرفة والعُليّة المشرفة في السطوح وغيرها ( 2468 ) في حديث طويل ، ومسلم ( 1479 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق ، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية ( 1477 ) .(21/38)
فإذا كان الزوج كله حراً أو كان مبعضاً أي بعضه حر وبعضه عبد فإنه يملك ثلاث تطليقات باتفاق أهل العلم سواءً كانت الزوجة حرةً أو أمة ، أما دليل من كان كله حراً فهو ظاهر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع أهل العلم عليه، وأما المبعض: فلأننا لو قلنا بأنه يكون بالنظر إلى حريته وعبوديته لبعضنا الطلاق كأن يكون له ثلاثة أرباع نصاب الطلاق ونحو ذلك ، والطلاق لا يتبعض ، لذلك ثبت له ثلاث تطليقات.
قال : [ والعبد اثنتين ]
اتفاقاً ، فقد اتفق أهل العلم على أن للعبد تطليقتين ، وفي أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( طلاق العبد – أي البائن – تطليقتان ) (1) والحديث إسناده ضعيف ، لكن العمل عليه عند أهل العلم ، وقد روي ذلك عن طائفةٍ من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
قال : [ حرةً كانت زوجتاهما أو أمة ]
__________
(1) أخرج أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في سنة طلاق العبد ( 2189 ) عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان " ، وأخرجه الترمذي بنفس لفظ أبي داود في كتاب الطلاق ، باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان ( 1182 ) ، وقال : " حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث مظاهر بن أسلم ، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم ، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق " .(21/39)
فإذا كانت تحت العبد حرة فإن تطليقه البائن تطليقتان، وكذلك إذا كانت الأمة تحت الحر فإن تطليقه ثلاث تطليقات ، فالمعتبر في الطلاق هو النظر إلى الزوج لا إلى الزوجة هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة ، ودليل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجه وغيره : ( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ) (1) ، فالطلاق حق للزوج فكان النظر إليه فيه.
قال : [ فإذا قال أنت الطلاق ]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت الطلاق ".
قال : [ أو طالقٌ ]
إذا قال لامرأته " أنت طالق ".
قال : [ أو عليّ ]
أي قال " علي الطلاق " وحنث.
قال : [ أو يلزمني ]
إذا قال يلزمني الطلاق إن فعلت كذا ثم فعل.
قال : [ وقع ثلاثاً بنيتها ]
أي بنيته الثلاث ، فالضمير في قوله بنيتها أي بنية الثلاث فإذا قال لامرأته ما تقدم وكان قد نوى الطلاق ثلاثاً فإنه يقع ثلاثاً ، وذلك لأن هذه الألفاظ المتقدم ذكرها تحتمل الثلاث والواحدة وهي في الطلقة الواحدة أظهر أي من جهة اللفظ ، لكنه لما نوى أن تكون ثلاثاً تعيَّن ذلك ، لأنه نوى ما يحتمله لفظه.
قال : [ وإلا فواحدة ]
فإذا لم ينوِ أن تكون ثلاثاً فإنها تكون واحدة ، فإذا قال لامرأته: " أنت طالق " ولم ينو شيئاً فإنها تطلق واحدة ؛ وذلك لأن الواحدة أقل ما تصدق عليه هذه الألفاظ ، فأقل ما يصدق عليه الاسم المتقدم هو الواحدة .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق ، باب طلاق العبد ( 2081 ) بلفظ : عن ابن عباس قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال : يا رسول الله إن سيدي زوجني وهو يريد أن ... فقال : يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق " .(21/40)
وهذه المسألة وما بعدها من المسائل تتفرع على القول بطلاق الثلاث البائن بلفظة واحدة ، أو في مجلس واحد أو في مجالس متعددة بلا رجعة ، وقد تقدم أنه قول مرجوح والراجح أن طلاق الثلاث طلقة واحدة كما هو اختيار شيخ الإسلام وتقدم ذكر دليله.
قال : [ ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك ثلاثٌ ولو نوى واحدة ]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو منتهاه أو غايته أو عدد الحصى أو الريح أو أنت طالق مائة طلقة أو ألف طلقة " أو نحو ذلك فإنه يقع الطلاق ثلاثاً ولو نوى واحدة ، فلا عبرة بنيته ؛ وذلك لأن صريح لفظه يخالف نيته ، فصريح لفظه الطلاق المتعدد الذي يحصل معه البينونة، فهنا ما نواه لا يحتمله اللفظ فإذا قال لها: " أنت طالق أكثر الطلاق " ونوى أن تكون واحدة فإن نيته لا يحتملها لفظه كما أنه لو قال: " أنت طالق واحدة " ونوى أن يكون ثلاثاً فإن هذا الطلاق لا يكون إلا واحدة، وذلك لأن هذه النية لا يحتملها اللفظ ، فإن قال لزوجته " أنت طالق عُظم الطلاق " أو " أنت طالق أقبح الطلاق " أو " أنت طالق كالجبل " أو " أعظم الطلاق " فإن لم ينوِ ثلاثاً فإنها تكون واحدة، وذلك لأن هذه الألفاظ لا ترجع إلى العدد وإنما ترجع إلى كيفية الطلاق، فترجع إلى الطلاق نفسه كيفاً لا عدداً فإن نوى ثلاثاً فإنها تقع ثلاثاً لأن اللفظ يحتمل ذلك لكن إن لم ينوِ شيئاً أو نوى أن تكون واحدة فإنها تقع واحدة لأن لفظه ليس فيه تصريح بالعدد بخلاف قوله: " أنت طالق أكثر الطلاق " أو " منتهاه " فهو يعود إلى العدد.
قال : [ وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً ]
إذا طلق عضواً : كأن يطلق يداً أو رجلاً أو كبداً .
أو جزئاً مشاعاً : كالنصف والربع فيقول: " نصفك طالق " .
أو معيناً : أي جزئاً معيناً كأن يقول: " النصف الفوقاني فيك طالق .
أو مبهماً : كأن يقول: " جزئك طالق " .(21/41)
فالحكم أنها تطلق طلقة ؛ وذلك لأن هذه المرأة لا تتبعض بالحل والحرمة، وفيها ما يقتضي التحريم وما يقتضي الإباحة فغُلِّب جانب الحرمة.
قال : [ أو قال نصف طلقة أو جزء من طلقة طلقتْ ]
إذا قال لها: " أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة " أي سواء أبهم كقوله: " جزء طلقة " أو حدد كقوله: " جزءاً من طلقة " فإنها تطلق، وذلك لأن الطلاق لا يتبعض فإذا طلق النصف أو الربع فإنها تقع عليه طلقة واحدة.
قال : [ وعكسه الروح ]
فإذا قال لها: " روحك طالق " فإنها لا تطلق ، هذا هو أحد القولين في المذهب وهو أحد قولي العلماء قالوا : لأن الروح ليست بعضو وليست شيئاً يُستمتع به.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في مذهب الإمام أحمد ، بل هو المذهب كما قال ذلك صاحب الإنصاف واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : أنه إذا طلق الروح فإنها تطلق عليه ؛ وذلك لأنه لا حياة للمرء بلا روح ، فإن قوام البدن الروح ، فعليه يقع الطلاق ، ولا شك أن هذا أولى من تطليق يدها أو رجلها ونحو ذلك ، فالراجح وهو المذهب – خلافاً لما ذكره المؤلف هنا – أن طلاق الروح يقع فتطلق به المرأة ، لأنه لا حياة للبدن بلا روح .
قال : [ والسن والشعر والظفر ونحوه ]
إذا قال: " شعرك طالق " أو " أو سنك طالق " أو " ظفرك طالق " ونحوه كالسمع والبصر ، فإنها لا تطلق عليه .
قالوا : لأن هذه الأشياء تنفصل عن الإنسان مع سلامته من غير عطب ، فإن الشخص قد يحلق شعره ويقلم أظفاره ويقلع سنه ولا يتضرر شيء من بدنه .
والقول الثاني في المسألة وهو قول الشافعية والمالكية : أن الطلاق يقع، لأن المذكور وهو الظفر والشعر والسن ونحوها مما استباحه الناس بالنكاح فيقع الطلاق بتطليقه .(21/42)
والأول أولى ؛ وذلك لأن الأصل بقاء عصمة النكاح وما ذكره أهل القول الأول من الاستدلال فيه قوة فإن هذه الأشياء المذكورة تنفصل مع السلامة ، بخلاف الإصبع فإنها لا تنفصل إلا مع عطب فإنها تجرح البدن ويتأذى البدن بذلك وكذلك اليد والرجل أو نحو ذلك.
قال : [ وإذا قال لمدخول بها : أنت طالق وكرره وقع العدد ، إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهامها(1) ]
إذا قال لامرأته التي قد دخل بها: " أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق " وقع العدد ، فإذا قال لها: " أنت طالق ، أنت طالق " فإنه يقع الطلاق اثنتين وإذا قال: " أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق " فإنها تقع ثلاثاً ، إلا أن ينوي تأكيداً ، فإذا كانت نيته تأكيد الطلاق أو إفهامها أو إفهام السامع فإنه تقبل نيته حكماً، وتقبل أيضاً في الباطن ويُديَّن بذلك فيما بينه وبين ربه بما ادعاه نيته ؛ وذلك لأنه أعلم بلفظه وهذا اللفظ يحتمل التأكيد أو الإفهام ويحتمل التعدد فلما ثبت هذان الاحتمالان قبلت نيته .
لكن لابد أن يكون ينوي تأكيداً يصح ، بأن يكون اللفظ يحتمل ذلك ، فإذا قال لها: " أنت طالق ، أنت طالق، أنت طالق " وقال نويت التأكيد فإنه يقبل معه ؛ لأن هذه الجمل قد اتصلت ، لكن إذا قال لها اليوم: " أنت طالق " وقال لها غداً: " أنت طالق " وقال أريد التأكيد، فإن هذا لا يقبل منه لأن هذا لا يكون منه تأكيداً.
إذن : إنما يقبل منه حيث أمكن التأكيد أو أمكن الإفهام أما إذا كان لا يمكن مع لفظه التأكيد والإفهام فإنه لا يقبل منه.
قال : [ وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء أو قال بعدها ، أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان ]
__________
(1) كذا في الأصل ، وفي النسخة التي بين يدي : " إفهاماً "(21/43)
إذا قال لها: " أنت طالق بل طالق " أو: " أنت طالق ثم طالق " أو: " أنت طالق فطالق " أو: " أنت طالق وطالق " أو قال: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق معها طلقة " فإنه تقع طلقتان ، وذلك لأن مثل هذه الألفاظ ظاهرة في التغاير .
فالثلاث الأول حروف عطف ، وحروف العطف الأصل فيها المغايرة ، فعليه ظاهر لفظه أنت طالق طلاقاً آخر .
كذلك إذا قال لها: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق طلقة معها طلقة " ونحو ذلك، فإنه لا يقبل ادعاؤه التأكيد ولا ادعاؤه الإفهام ، لأن التأكيد والإفهام هنا احتمال بعيد، لكن لو كان في الباطن أراد التأكيد فإنه يديَّن بذلك فيما بينه وبين ربه ، وأما في الحكم الظاهر فإن القاضي يحكم عليه بما يقتضيه لفظه.
قال : [ وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها ]
إذا كانت المرأة غير مدخول بها وقال لها: " [ أنت ] طالق ثم طالق " أو نحو ذلك، فإنها تبين بالأولى وحينئذٍ فتكون عليها طلقة واحدة ؛ لأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة فقوله لها: " أنت طالق " فبهذه اللفظة الأولى تبين منه، فإذا كرر بعدها طلقتين مثلاً فإن هاتين الطلقتين الأخريين قد وقعتا في حال البينونة ، وطلاق البائن لا يمضي .
فعلى ذلك له أن يتزوجها من غير اشتراط أن تنكح زوجاً غيره ، فيعقد عليها عقداً جديداً وهذه المسألة كلها ترجع إلى القول المرجوح المتقدم من أن طلاق الثلاث يقع.
والراجح أنه لا يقع إلا واحدة ، وأنه لا طلاق إلا بعد رجعة صحيحة.
إذن : على قول الجمهور إذا قال لامرأة غير مدخول بها: " أنت طالق ثلاثاً " فإنه تبين منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، أما إذا قال: " أنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين بالأولى والطلقة الثانية والثالثة لا تحسب عليه لأنهما صادفتا امرأة بائناً هذا هو المشهور في مذهب الجمهور.
قال : [ والمعلَّق كالمنجَزِ في هذا ](21/44)
المعلق كقوله: " إذا وصلت الدار فأنت طالق طالق " ، كالمنجز أي كقوله: " أنت طالق أنت طالق أنت طالق " .
فلو أن رجلاً قال لامرأة غير مدخول بها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين منه بالأولى إذا دخلت الدار ، ولا يقع عليها الثاني ولا الثالث لأنها أصبحت بائناً بالأولى.
الدرس الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في الاستثناء في الطلاق وأحكامه
قال : [ ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات ]
يصح من الزوج أن يستثني النصف فأقل من عدد الطلاق ومن عدد المطلقات ، هذه المسألة ترجع إلى ما هو مرجح في علم الأصول وهو مذهب الحنابلة من صحة استثناء النصف فأقل ، أما استثناء الكل أو الأكثر فإنه لا يصح فإذا قال : لزيد عليَّ مئة ريال إلا مئة " فهذا استثناء كل ولا يصح ، فيكون قد أقر بمئة ولا يصح استثناؤه .
ولو قال : " لزيدٍ عليّ مئة إلا تسعين " فلا يصح الاستثناء ويكون قد أقر بالمئة أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " له علي مئة إلا خمسين" أو: " له علي مئة إلا أربعين" فإن الاستثناء يصح .
فعلى ذلك إذا طلق امرأته ثلاثاً واستثنى الكل فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً " أو الأكثر فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين " فإن الاستثناء لا يصح وتكون طالقاً ثلاثاً، أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " أنت طالق اثنتين إلا واحدة " أو " أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة " فإن الاستثناء يصح ولذا قال المؤلف :
[ فإذا قال : أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة ، وقعت واحدة ، وإن قال : ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان ]
كذلك في المطلقات، فلو قال: " نسائي الأربع طوالق إلا واحدة، فيصح الاستثناء ولو قال: "نسائي الأربع طوالق إلا اثنتين"، فيصح الاستثناء.
قال : [ وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات ](21/45)
فإذا استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح ذلك ، كأن يقول: " نسائي طوالق " وله ثلاث ، واستثنى بقلبه فلانة فإن هذا الاستثناء يصح في الحكم ، وأما في الباطن أي في النية فلا إشكال فيه أنه يصح أي في التديين بأن يديّن في ذلك فيما بينه وبين ربه فلا إشكال أنه يصح ، وأما في الحكم فكذا وهو المذهب ، وذلك لأن اللفظ العام قد يراد به الخصوص وحينئذٍ فهذه النية تصرف اللفظ إلى بعض أفراده.
والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية : أن الطلاق يقع كما تلفظ به ولا عبرة بنيته ، وهذا هو القول الراجح ، وذلك لأن الحكم إنما يعتبر بالظاهر ، والظاهر من لفظه أن نساءه كلهن طوالق ، فيحكم عليه بما اقتضاه ظاهر لفظه، وأما نيته فهي بينه وبين ربه، فإن لم يكن هناك ترافع أمام القاضي فإنه إن علم من نفسه الصدق فإنه يبقي امرأته وأما إن علم من نفسه الكذب فإنها لا تحل له إن كان الطلاق بائناً وإلا فإنه يحسبها طلقة ، وأما في الطلقات فلا لا ديناً ولا حكماً ، فلا يديَّن بذلك ولا يحكم به ؛ أي بالاستثناء ، فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق ثلاثاً " ونوى في قلبه إلا واحدة فلا يعتبر بهذا الاستثناء المنوي غير المتلفظ به في الحكم وذلك للتعليل المتقدم في المسألة السابقة، وكذلك لا يديَّن بنيته فلا يقال: " إن كنت صادقاً فيما نويته فهي امرأتك " لا يقال ذلك ، وذلك لأن العدد نص فيما يتناوله ؛ أي ليس هناك ثم احتمال، فإن قال: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال آخر ممكن بخلاف ما إذا قال " نسائي طوالق " فإنه يحتمل أن يريد البعض لكن أما قوله: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال آخر فلا يحتمل إلا أنها طالق ثلاثاً فهو نص فيما يتناوله فلم ترفعه النية فالنية إنما تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته وأما ما لا يحتمله اللفظ فلا ، وإلا لجاز العمل بالنية المجردة في النكاح والطلاق ونحو ذلك .(21/46)
وهذه المسألة متفرعة على قول جمهور أهل العلم من إيقاع طلاق الثلاث ثلاثاً وإلا فالراجح أن طلاق الثلاث واحدة .
ومثل ذلك إذا قال: " نسائي الأربع طوالق " أو قال: " ثلاثتكن طوالق " ونوى إلا واحدة فلا عبرة بنيته لأن قوله: " نسائي الأربع " وقوله: " ثلاثتكن " هذا عدد والعدد نص فيما يتناوله وعليه فالنية لا تصرفه لعدم وجود الاحتمال الذي يوافق هذه النية كما تقدم تقريره.
قال : [ وإذا قال : أربعكن إلا فلانة طوالقٌ صح الاستثناء ]
وذلك لأن هذه المرأة قد خرجت باستثناء صحيح.
قال : [ ولا يصح استثناء لم يتصل عادة ]
يشترط في الاستثناء أن يتصل في العادة ، يتصل لفظاً أو حكماً، اتصاله لفظاً: بأن يتبع المستثنى ، المستثنى منه ، فإن قال: " نسائي طوالق إلا فاطمة " فقوله: " إلا فاطمة " فاطمة هي المستثنى وقوله " نسائي طوالق " المستثنى منه ، فهنا قد تبع المستثنى المستثنى منه تبعه لفظاً فالاستثناء صحيح.
وأما اتصاله حكماً: فهو لم يتبعه لفظاً لكنه تبعه حكماً، وذلك فيما إذا كان هناك فاصل بين المستثنى والمستثنى منه ، وكان الفاصل لا يقطع في العادة ، كأن يقول: " نسائي طوالق " ثم يعطس أو يسعل ثم يقول: " إلا فلانة " فلا تطلق عليه وذلك لأن الاستثناء متصل في العادة لكنه ليس متصل لفظاً بل هو متصل حكماً، مثل ذلك لو سكت سكوتاً (1)
قال : [ فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل ]
فإذا قال: " نسائي طوالق " ثم تكلم بكلام أجنبي أو سكت سكوتاً طويلاً يقطع في العرف ثم قال: " إلا فلانة " فإن الطلاق يقع على كل نسائه ولا يصح استثناؤه ، وذلك لوجود الانقطاع ، فهذا الطلاق الذي تلفظ به لا يمكن رفعه بمثل هذا أي بالاستثناء المنقطع .
__________
(1) بياض في الأصل .(21/47)
أما الاستثناء المتصل فإنه يجعل اللفظ جملة واحدة ، أي يجعل المستثنى منه و المستثنى جملة واحدة لا يقع الكلام إلا بتمامها وإلا للزم لوازم باطلة ، ففي قولنا: " لا إله إلا الله " فلو قال المكلف: " لا إله " وسكت لكان نافياً للألوهية على الإطلاق، فالنافي للألوهية ملحد كافر ، ولكنه قال: " إلا الله " هذه الجملة المستثناة متصلة، فالجملتان من المستثنى والمستثنى منه أصبحتا جملة واحدة لا يفهم الكلام ولا يترتب عليه أحكامه إلا بمجموعهما .
إذن : الاستثناء المتصل صحيح ، أما الاستثناء المنفصل قد ثبت فيه قاطع في العرف سواءً كان بسكوتٍ طويل أو بكلام أجنبي قاطع فإن الطلاق يقع على ما تلفظ به أولاً ولا يصح هذا الاستثناء.
قال : [ وشرطه النية قبل كمالِ ما استثنى منه ]
هذا الحكم في الاستثناء وفي الشرط ، فلو قال رجل : " نسائي طوالق " ثم استدرك وقال: " إلا فلانة " فهو عندما قال: " نسائي طوالق " لا ينوي استثناء هذه المرأة المستثناة بل نواه بعد إتمامه اللفظ ، فالاستثناء لا يصح ويقع الطلاق على كل المستثنى منه فيشترط أن ينوي الاستثناء أثناء تلفظه بلفظ الطلاق، وكذلك الشرط، فلو أن رجلاً قال لامرأته: " أنت طالق" فاستدرك فقال: " إن دخلت الدار " فالشرط هنا لا يصح لأنه لم ينوه أثناء اللفظ قالوا : لأن الشرط والاستثناء يصرفان اللفظ عن مقتضاه فوجب أن يقترنا به لفظاً ونية هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي.
وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وذكر شيخ الإسلام : " أنه هو ما يدل عليه كلام الإمام أحمد ، وأن عليه كلام متقدِمي أصحاب الإمام أحمد "، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الاستثناء يصح وإن لم يستثن مع المستثنى منه .(21/48)
ويلحق به – فيما يظهر لي – الشرط ، [ ولكن هذا فيما يقصد به اليمين لا الإيقاع بناءً على ما سبق من قول شيخ الإسلام في التفريق بينهما. ] (1)
واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة ، فمن ذلك قوله تعالى { ولاتقولن لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } (2)، فجمهور المفسرين أن هذا فيمن نسي الاستثناء.
والقول الثاني عند المفسرين أنه يعم من نسي الاستثناء ومن لم ينسه ، قال ابن القيم: " وهو الصواب " .
وعلى كلا التفسيرين فإن المسألة المتنازع فيها داخلة في هذه الآية " ، فالرجل إذا قال: " سأفعل غداً " وقد نسي أن يستثني ثم قال " إن شاء الله " فهذا الاستثناء نافع مع أنه لم ينوه مع لفظه ، فكذلك في هذه المسألة المتنازع فيها ، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين ، أن سليمان عليه السلام قال: " لأطوفن الليلة على سبعين تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله " فقال له الملك: " إن شاء الله " فلم يقل ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فلم تحمل شيئاً - أي من نسائه – إلا واحداً قد بقي أحد شقيه ، ولو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله ) (3) ، فهذا الحديث دل على أن قوله: " إن شاء الله " بعد الكلام نافع ومؤثر، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه لما نهى عن قطع شوك مكة و حشيشها قال له العباس " إلا الإذخر " فقال : ( إلا الإذخر ) (4) ، ولم يكن قد نوى الاستثناء وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته.
الدرس التاسع والأربعون بعد الثلاثمائة
باب الطلاق في الماضي والمستقبل
قال : [ إذا قال : أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك ، ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع ]
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل .
(2) سورة الكهف .(21/49)
إذا قال الزوج لامرأته: " أنت طالق أمس " أو: " قبل الأمس " أو نحو ذلك فإن الطلاق لا يقع ، وكذلك إذا قال: " أنت طالق قبل أن أنكحك " فالطلاق لا يقع ، وذلك لأن فيه رفعاً لاستباحة النكاح في المضي ، وذلك ليس للمكلف ، فالمكلف إنما له رفع الاستباحة في الحال أو في المستقبل، وأما رفع إباحة الفرج وغيره مما يباح في النكاح في المضي فليس له ذلك .
قوله: " ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع " هذا قيد في عدم الوقوع ، لكن لو نوى الوقوع في الحال فإن الطلاق يقع ، فإذا قال : أنت طالق أمس " وهو ينوي الوقوع في الحال أي أن الطلاق واقع عليها في الحال استناداً إلى وقوعه في المضي فإنه يقع ، والقول الثاني في المسألة :أنه لا يقع ، وهو أظهر ؛ وذلك لأن النية لا يحتملها لفظه ، فهو ينوي وقوع الطلاق في الحال ، ولفظه في المضي ، فكما لو كانت النية مجردة ، والنية المجردة لا يقع معها الطلاق.
قال : [ وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبل ]
الذي لا يقع - فيما تقدم – هو إنشاء الطلاق ، لكن لو كان مخبراً ، فقال لها: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء ، فإذا قال: " أنت طالق أمس " وقال أريد بذلك طلاقاً سابقاً مني أو طلاقاً سابقاً من غيري ، وأمكن هذا ، وذلك بأن يكون صادقاً في قوله فقد طلقها هو قبل ، أو طلقها زوج آخر قبله ، فإنه يقبل لأن لفظه يحتمله ، وأما إذا لم يكن ذلك ، وذلك بأن لا يكون طلقها قبل ذلك ولا يكون لها زوج قبله فإن الطلاق يقع ، وذلك لأنه حينئذٍ يكون قد أخبر عن قول له فيكون في ذلك إقرار يتعلق به حق غيره وهو المرأة وحينئذٍ لا يقبل إنكاره كما تقدم في المسألة السابقة ، لكنه يديّن بنيته التي يدعيها فيما بينه وبين ربه.
قال : [ فإن مات أو جُنّ أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق ](21/50)
إذا قال لها: " أنت طالق أمس " ثم جن أو مات أو خرس قبل بيان مراده فإنها لا تطلق إعمالاً للمتبادر من لفظه ، فإن المتبادر من لفظه أنه إنشاء ، والإنشاء للطلاق في المضي لا يقع معه الطلاق ، وأيضاً عصمة النكاح ثابتة فلا تزال بالشك .
فإذا قال: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وادعى أنه ينوي بذلك طلاقاً سابقاً وقد كان طلقها طلاقاً سابقاً ، لكنه قال لها ذلك في حالة غضب أو عند سؤالها الطلاق فإنه لا يقبل قوله وذلك لوجود قرينة الحال التي تكذب قوله.
قال : [ وإن قال : طالق ثلاثا قبل قدوم زيدٍ بشهر ]
إذا قال لها: " أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيدٍ بشهر " ولا يدري متى يقدم زيد ، فيحتمل أن يقدم بعد شهر من اليوم ويحتمل أن يكون بعد شهر من الغد ، ويحتمل أن يكون بعد شهر من بعد الغد ، ويحتمل أن يكون بعد شهر من بعد أسبوع ، ويحتمل أن يكون بعد شهرين ، وحينئذٍ تبقى المرأة معلقة ولا يحل له أن يطأها ؛ وذلك لأنه في كل يوم يحتمل أن يكون هو اليوم الذي يكون قدوم زيدٍ بعده بشهر ، وعليه فلا يحل له أن يطأها وتجب لها النفقة لأنها محبوسة لأجله.
قال : [ فقدم قبل مضيه لم تطلق ]
فإذا قال:" أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " فقدم زيد بعد أسبوع ، فإن المرأة لا تطلق ، وذلك كما لو قال:" أنت طالق أمس " لأن طلاقه يكون في المضي ، لأن زيداً قدم بعد أسبوع فحينئذٍ يكون الطلاق قد وقع في المضي ، لأن قبل قدوم زيد بشهر مضياً.
قال : [ وبعد شهرٍ وجزءٍ تطلق فيه يقع ]
أي إذا جاء بعد شهر وجزء أي لحظة يقع فيها قول " أنت طالق " فإذا جاء بعد شهر وجزء فإنه يقع الطلاق عليها وذلك لوجود الصفة المذكورة.
قال : [ فإن خالعها بعد اليمين بيومٍ ، وقدم بعد شهرٍ ويومين صح الخلع ، وبطل الطلاق ](21/51)
إذا قال: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " وبعد يوم خالعها ، ثم قدم زيد بعد شهر ويومين ، فتبين لنا أن المرأة كانت في عصمته حين المخالعة ، فعلى ذلك الخلع صحيح لثبوت الزوجية ويبطل الطلاق لأنه صادف امرأة بائناً في الخلع.
قال : [ وعكسها بعد شهر وساعة ]
أي لحظة يقع بمثلها الطلاق ، فإذا قال لها: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " ثم خالعها وبعد شهر وساعة قدم زيد ، فالمخالعة هنا صادفت بينونة ، وعليه فالطلاق صحيح والخلع باطل ، والخلع إنما يصح حيث لم يكن حيلة ، أما إذا كان حيلة فإنه لا يصح كما تقدم.
قال : [ وإن قال : طالقٌ قبل موتي طلقت في الحال ]
إذا قال لزوجته: " أنت طالق قبل موتي " فإنها تطلق في الحال، وذلك لأنه ما من وقت إلا وهو قبل موته ، أما لو قال: " قبيل موتي " فإن هذا الجزء يفيد التصغير فيكون في الجزء الذي يليه الموت أي في آخر لحظات عمره.
قال : [ وعكسه معه أو بعده ]
فلوا قال لامرأته: " أنت طالق مع موتي أو بعد موتي " فإن الطلاق لا يقع وذلك لأن البينونة تحصل بالموت فإذا مات الزوج بانت منه امرأته، لذا تعتد وتنكح زوجاً آخر بعده ، وعلى ذلك فإن هذا الشرط يصادفها بائناً والبائن لا يقع عليها الطلاق.
فصل
قال : [ وأنت طالقٌ إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل لم تطلق ]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن طرت إلى السماء أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهباً " ونحوه من المستحيل فإنها لا تطلق وذلك لأن هذه الصفة لا توجد ، فهذه الصفة التي علق الطلاق عليها لا توجد ، والطلاق إنما يقع حيث وجدت هذه الصفة والصفة هذه لا توجد لأنها من المستحيلات.
قال : [ وتطلق في عكسه فوراً ](21/52)
إذا قال " أنت طالق لأصعدن(1) السماء " فقد علق الطلاق على عدم فعل المستحيل ، وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال ، وحينئذٍ يعلم تحقق الأمر الذي علق الطلاق عليه ، فيعلم تحققه في الحال فيقع الطلاق فوراً.
قال : [ وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميت أو لأصعدن السماء ونحوهما]
فهذه أمور مستحيلة ، فالميت لا يمكن قتله ، وكذلك لأصعدن السماء ونحوهما ، ففي مثل هذه المسائل يقع الطلاق في الحال لأنه علق طلاقه على عدم فعله للمستحيل وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال.
قال : [ وأنت طالق اليوم إن جاء غدٌ لغو ]
إذا قال رجل لامرأته " أنت طالق اليوم إن جاء غدٌ " فإن ذلك يكون لغواً، قالوا : لأن مقتضى لفظه إيقاع الطلاق في هذا اليوم حيث جاء الغد فيه ، ومعلوم أن مجيء الغد في اليوم أمر لا يمكن ، وعليه فإن هذا يكون من باب اللغو.
والقول الثاني في المسألة وهو قول القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الطلاق يقع ، وأنه كما لو قال : أنت طالق قبل موتي بشهر .
وعليه فإن الطلاق يقع في الحال لأن مجيء الضد معلوم قطعاً فالراجح أنه يكون طلاقاً اليوم ؛ وذلك لأن مجيء الغد أمر معلوم.
قال : [ وإذا قال : أنت طالق في هذا الشهر أو اليوم طلقت في الحال ]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت طالق في هذا الشهر " أو " هذا اليوم " أو " في هذه السنة " فإن الطلاق يقع في الحال ، وذلك لأنه جعل اليوم وجعل الشهر وجعل السنة ظرفاً لطلاقه وهذا يحصل في كل جزء من أجزاء اليوم وفي كل جزء من أجزاء الشهر وفي كل جزء من أجزاء السنة.
قال : [ وإن قال : في غدٍ أو السبت أو رمضان طلقت في أوله ]
إذا قال " أنت طالق في السبت أو في غدٍ أو في رمضان " فإنها تطلق في أوله ، وذلك لأنه جعل رمضان ظرفاً لطلاقه فكل جزء من رمضان يصح أن يكون ظرفاً لهذا الطلاق وهذا هو ظاهر لفظه.
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل المراد : إن لم أصعد السماء .(21/53)
قال : [ وإن قال : أردتُ آخر الكل دُين وقبل ]
فإذا قال " أنا لم أرد أوله وإنما أردت آخره " قُبل منه في الحكم ودُيِّن بنيته فيما بينه وبين ربه ، وذلك لأن نيته يحتملها لفظه ، وذلك لأن وسط الشهر وآخره منه .
وعليه فلا تطليق عليه إلا في آخر الشهر ، لكن إذا قال " أنت طالق غداً " أو " يوم السبت " ولم يقل " في " فهنا قد جعل الطلاق في غدٍ كله فلا بد وأن يشمل اليوم كله الطلاق ، وعليه فلا يحكم عليه بالظاهر في نيته ، لأن نيته تخالف ظاهر لفظه ولا يحتملها اللفظ ، فإذا قال " أنت طالق غداً أو يوم السبت " وقال أردت آخر النهار ، فإن ذلك لا يقبل منه وذلك لأن مقتضى لفظه وقوع الطلاق عليها في اليوم كله وأنها في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم طالق وعليه فنيته تخالف ظاهر لفظه ، وعلى ذلك فلا يقبل قوله في الحكم .
والمشهور في المذهب : أنه لا يُديّن به فيما بينه وبين ربه .
والذي يترجح وهو قول في المذهب : أنه يدين فيما بينه وبين ربه بنيته ؛ وذلك لأن اللفظ يحتمل ذلك من باب المجاز ، أي أنت طالق بعض غدٍ أو بعض يوم السبت.
قال : [ وأنت طالق إلى شهرٍ طلقت عند انقضائه ]
إذا قال لها " أنت طالق إلى شهر " أو " إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه عند انقضاء الشهر وعند انقضاء السنة ، وذلك لأنه جعل للطلاق غاية وهي قوله " إلى شهر" والطلاق لا غاية لآخره كما هو معلوم فتعين أن تكون الغاية لأوله ، فعلى ذلك قوله " إلى شهر " أي ابتداءً للطلاق بعد مضي الشهر ، وكذلك إذا قال " أنت طالق سنة ".
قال : [ إلا أن ينوي في الحال فيقع ]
فإذا نوى ذلك في الحال فإن الطلاق يقع.
قال : [ وطالقٌ إلى سنةٍ تطلق باثني عشر شهراً ]
إذا قال " أنت طالق إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه بمضي اثني عشر شهراً.
قال : [ فإن عرفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة ](21/54)
فإذا قال " أنت الطلاق إذا قضت السنة " أو قال " إذا مضى الشهر " ، فإذا مضى الشهر الذي هو فيه أو مضت السنة التي هو فيها وإن كان في آخرها فإنها تطلق عليه ، فلو أن رجلاً قال لامرأته وهو في العاشر من ذي الحجة " أنت طالق إذا مضى الشهر " فهنا " ألا " هي " أل " العهدية الحضورية .
وعليه فتطلق المرأة ، إذا مضى هذا الشهر الذي هم فيه .
كذلك إذا قال في شهر ذي القعدة : " أنت طالق إذا مضت السنة " فتطلق عليه إذا مضت السنة التي هو فيها وذلك بانسلاخ شهر ذي الحجة، [ وإن قال أردت اثني عشر شهراً قُبِلَ حكماً.
فائدة:
إذا قيل له قد زنت امرأتك فقال: " هي طالق " ، ثم تبين أنها لم تكن زنت، فقال أبي عقيل: لا تطلق وجعل السبب كالشرط اللفظي وهو قول عطاء. ] (1)
الدرس الخمسون بعد الثلاثمئة
باب تعليق الطلاق بالشروط
أي بالشروط اللغوية كقوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " والشرط هنا ينقسم إلى قسمين :
شرط محض : وهو الذي يقصد المشترط فيه إيقاع الطلاق مع حصوله - أي مع حصول هذا الشرط - ، فإذا قال لزوجته " إن جاء رمضان فأنت طالق " أو قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " فهده شروط محضة يقصد فيها إيقاع الطلاق متى حصل الشرط ، وفي البخاري معلقاً : أن ابن عمر سأله نافع عن رجل قال لامرأته " أنت طالق البتة إن دخلت الدار " فقال : إن دخلت الدار فهي بائن "(2) .
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل .
(2) ذكره البخاري في باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ : وقال نافع : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت ، فقال ابن عمر : إن خرجت فقد بُتَّتْ منه ، وإن لم تخرج فليس بشيء " .(21/55)
الشرط الذي لا يقصد معه إيقاع الطلاق وإنما يقصد معه الحض أو المنع لنفسه أو لامرأته أو لغيرهما ، كأن يقول لامرأته " إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق " وهو لا يقصد إيقاع الطلاق بل يقصد منعها من الخروج ، أو يقول الآخر " إن لم تدخل في داري فامرأتي طالق " أو يقول " إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق " ونحو ذلك مما يقصد معه الحض أو المنع وهو ما يسمى بالحلف بالطلاق ، فليس المقصود بالحلف بالطلاق أن يقول " والطلاق " بل المقصود أن تكون الجملة التي فيها تعليق الطلاق - أن تكون فيها - معنى اليمين ، فإذا قال للرجل " إن لم تدخل الدار فامرأتي طالق " كأنه قال " والله لأطلقن امرأتي إن لم تدخل الدار " .
فجمهور أهل العلم : أنه يقع الطلاق فيها إذا وقع الشرط وذلك لحصول الشرط الذي علق الطلاق به.
وذهب أهل الظاهر وهو قول طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الجوزية(1) واختاره الشيخ محمد بن عبدالوهاب : أن الطلاق لا يقع وأنها يمين ويكفرها ، واستدلوا بما يأتي :
أن هذه الألفاظ أيمان باتفاق أهل اللغة ، وعليه عرف الفقهاء كما ذكر شيخ الإسلام ، وعليه فيدخل في عموم قوله تعالى : { قد فرض الله عليكم تحلة أيمانكم } (2) وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) (3).
أن العبرة بالنيات والمقاصد لا بالألفاظ ، فالأحكام لا تترتب على الألفاظ إلا إذا كان المتكلم قاصداً المعنى وقاصداً موجب كلامه وهنا ليس الأمر كذلك فهو لا يقصد الطلاق وإنما يقصد الحث والمنع.
__________
(1) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : ابن قيم الجوزية .(21/56)
ويستدل على هذا بالقصة التي رواها البيهقي وغيره عن أبي رافع ؛ أن مولاته قالت له " أنا يوماً يهودية ويوماً نصرانية وعبيدي كلهم أحرار ومالي كله في سبيل الله وأمشي على قدمي إلى بيت الله إن لم تطلق امرأتك " فسأل ابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وأم سلمة فكلهم قال " تكفر عن يمينها " ، فإذا كان هذا في العتق وفي النفقة وفي الصدقة المستحبة التي يتشوق الشارع إليها إذا كان هذا في ذلك فأولى أن يكون في الطلاق الذي يبغضه الشارع ، وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته.
قال : [ لا يصح إلا من زوج ]
لا يصح الطلاق المعلَّق إلا من زوج ، فلو قال " إن تزوجت فلانة فهي طالق " ونحو ذلك فلا تطلق عليه عند جماهير أهل العلم ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن : ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك ) (1) وهي أجنبية عنه ، وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } (2)، فرتب الطلاق على النكاح فلا طلاق قبل نكاح.
قال : [ فإذا علقه بشرطٍ لم تطلق قبله ]
هو ظاهر ، فإذا قال " إن خرجت الدار فأنت طالق " ، لم تطلق قبله لعدم حصول الشرط الذي قد علق الطلاق به.
قال : [ ولو قال : عجلته ]
إذا قال لامرأته " أنت طالق إن جاء شهر رمضان " ثم قال " عجلته " أي عجلت الطلاق المعلق ، فهنا لا ينفعه هذا فلا يمكنه أن يعجله بل يقع في الوقت الذي قد شرطه فيه ، قالوا : لأنه ليس له من سبيل إلى ذلك فهو معلق بزمن مستقبل فلم يكن إليه من سبيل لا بتقديم ولا بتأخير .
وعليه فإذا أراد أن يطلقها طلاقاً آخر فإنه يطلقها حينئذٍ فإن كانت في عصمته في رمضان طلقت طلاقاً آخر هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وهذا هو مذهب جمهور أصحاب الإمام أحمد .(21/57)
قال شيخ الإسلام : وفي ذكر جمهور الأصحاب نظر وذلك أنه يملك تعجيل الدين ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد في الجملة سواء في شرع أو شرط " ، وفيما قاله رحمه الله قوة والله أعلم.
قال : [ وإن قال سبق لساني بالشرط ( ولم أرده وقع في الحال ) (1) ]
إذا قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم قال " سبق لساني بالشرط ، إذن هو يريد أن يوقعه منجزاً ، فإنه يقع في الحال ؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ بلا تهمة .
قال : [ وإن قال : أنت طالق وقال : أردت إن قمتِ لم يقبل حكماً ]
إذا قال " أنت طالق " ثم قال " أردت إن قمت " فإن هذا لا يقبل في الحكم لأن هذا خلاف الظاهر ، فقوله " أنت طالق " هذا يدل على أنه أراد الطلاق المنجَّز .
وكونه يقول " أردت إن قمت " هذا يجعله طلاقاً معلقاً وهذا خلاف الظاهر المتقدم والحكم إنما يتعلق بظاهر الألفاظ ، وأما في الباطن فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه.
قال : [ وأدوات الشرط إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما ، وهي وحدها للتكرار ]
فالأدوات المتقدمة لا تفيد التكرار سوى " كلما ".
قال : [ وكلها ومهما بلا لم أو نية فورٍ أو قرينة للتراخي ]
الأدوات المتقدمة وكذلك مهما إذا لم تقترن بها " لم " ولم تقترن بها نية الفورية أو قرينة الفورية فإنها تفيد التراخي.
قال : [ ومع لم للفورية ]
فإذا اقترنت بهذه الأدوات " لم " فإنها تفيد الفورية إلا بقرينة تدل على التراخي ، كأن يقول " إذا لم تفعلي كذا فأنت طالق " أو " متى لم تفعلي كذا " أو " أي وقت لم تفعلي كذا " أو : " كلما لم تفعلي كذا فأنت طالق " فهي تفيد الفورية.
قال : [ إلا إن مع عدم نية فورٍ أو قرينةٍ ]
وإن اقترنت بها " لم " فإنها لا تفيد الفورية ، لكن هذا مع عدم نية الفور أو القرينة.
قال : [ فإذا قال : إن قمت أو إذا أو متى أو أي وقتٍ أو من قامت ، أو كلما قمت فأنت طالقٌ فمتى وجد طلقت ]
__________
(1) ما بين القوسين ليس في الأصل .(21/58)
فمتى وجد القيام فإنها تطلق في أي يوم وفي أي ساعة.
قال : [ وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما ]
إذا قال " إن قمتِ فأنت طالق " فقامت فإنها تطلق ، فإن قامت مرة أخرى فإنها لا تطلق فإن هذه الأدوات لا تفيد التكرار بخلاف " كلما " ، فإذا قال " كلما قمت فأنت طالق " فإذا قامت فإنها تطلق فإذا راجعها ثم قامت مرة أخرى فإنها تطلق لأن كلما تفيد التكرار.
قال : [ وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ولم تقم قرينة بفور ( ولم يطلقها )(1) طلقت في آخر حياة أولهما موتاً ]
إذا قال لامرأته " إن لم أطلقك فأنت طالق " ولم ينو الفور ولم تقم قرينة على الفورية ولم يطلقها ، فإنها تطلق في آخر حياة أولهما موتاً ، لأن هذه الأداة للتراخي ، فكل وقت يمكنه ألا يطلقها فيه ، لكن تضايق الأمر بموت أحدهما ، فإذا مات أحدهما علمنا الحنث.
قال : [ ومتى لم أو إذا لم أو أي وقتٍ لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل ( طلقت )(2) ]
إذا قال لامرأته " متى لم أطلقك فأنت طالق " أو إذا لم أطلقك فأنت طالق " أو " أي وقت لم أطلقك فأنت طالق " فهذه الأدوات تفيد الفورية لاقتران " لم " بها فإذا قال ما تقدم ومضى وقت يمكن إيقاع الطلاق فيه ولم يفعل طلقت.
قال : [ وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى ]
فإذا قال " كلما لم أطلقك فأنت طالق " ومضى زمن يمكن إيقاع ثلاث طلقات مرتبة فيه فإنها تبين به المدخول بها لأنه يكون بذلك قد وقع عليها الطلاق ثلاثاً ، وأما غير المدخول بها فإنها تبين بطلقة ويكون طلاقاً بائناً بطلقة.
__________
(1) هذا الزيادة ليست في الأصل ، وإنما في النسخة التي بين يدي .
(2) ليست في الأصل .(21/59)
قال : [ وإن قمت فقعدتِ ، أو ثم قعدت أو ( إن )(1) قعدت إذا قمت أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد ]
إذا علق طلاقه على شرطين مرتبين فلا يقع الطلاق إلا بهذين الشرطين مرتبين، فإذا قال لها " إن قمت فقعدت فأنت طالق " فإذا قامت فقعدت فإنها تطلق ، وإذا قال لها " إن قمت ثم قعدتِ فأنت طالق " فإنها تطلق إذا قامت ثم قعدت " لأنه قد شرط شرطين مرتبين فلا تطلق إلا بقعود مسبق بقيام .
وإذا قال لها " إن قعدت إذا قمت " فإنها تطلق إذا قعدت بعد قيام .
وإذا قال لها : " إن قعدت وإن قمت " بمعنى إن قمت فقعدتِ كأنه قال " إن حصل منك قعود بعد قيام فأنت طالق " فهذا الأسلوب يجعل المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً.
قال : [ وبالواو تطلق بوجودهما ، ولو غير مرتبين ]
إذا قال " إن قعدت وقمت فأنت طالق " فلا يشترط الترتيب بل يكتفي بالجمع ، لأن الواو لا تفيد الترتيب ، فإذا قال لها " إن خرجت من الدار وذهبت إلى السوق فأنت طالق " فخرجت من الدار لكنها لم تذهب إلى السوق ، فلا يقع الطلاق حتى يجتمع المتعاطفان بالواو.
قال : [ وبأو بوجود أحدهما ]
إذا قال " إن خرجت من الدار إلى السوق أو إلى أهلك فأنت طالق " فخرجت من الدار إلى أهلها أو خرجت من الدار إلى السوق فإنها تطلق بأحدهما لأن " أو " تفيد ذلك ، وما تقدم ذكره حيث كان المتلفظ به من أهل اللغة العربية وأما العامة فإنه يحكم عليهم بما تقتضيه ألفاظهم عرفاً.
الدرس الحادي والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في الطلاق المعلق بشرط ، فهي تبع للمسألة السابقة ، وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من أن الشرط الذي بمعنى اليمين أن فيه الكفارة وأنه لا يقع الطلاق به.
قال : [ إن(2) قال : إن حضت فأنت طالقٌ طلقت بأول حيضٍ متيقن ]
__________
(1) هذه الزيادة في الأصل دون النسخة التي بين يدي .
(2) كذا في الأصل ، وفي نسخة بين يدي " إذا " .(21/60)
وذلك لوجود الصفة المشروطة ، أما إذا كان حيضاً مشكوكاً فلا ، لأن الأصل بقاء عصمة النكاح فهو المتيقن ، فالنكاح هو المتيقن فلا يزول بالشك.
قال : [ وإن(1) حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضةٍ كاملة ]
إذا قال لها " إن حضت حيضة فأنت طالق " فهنا علق الطلاق بحيضة كاملة فإذا حاضت مرة واحدة فإنها تطلق وهذا إنما يكون بأول الطهر ، فأول طهرها يتم لها حيضة كاملة ، فإن قال لها وهي حائض " إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق " فإنها لا تطلق حتى تطهر من حيضها الذي هي فيه ، فإذا طهرت منه فحاضت حيضة كاملة فإنها تطلق بأول الطهر.
قال : [ وفي(2) إذا حِضتِ نصف حيضةٍ تطلق في نصف عادتها ]
إذا قال لها " إن حضت نصف حيضة فأنت طالق " فإنها تطلق في نصف عادتها ، فإذا كانت عادتها ستة أيام فإذا تم اليوم الثالث فإنها تطلق ، وعليه فلا يُعلم نصف العادة حتى يمضي الحيض كله وذلك لأن العادة قد تطول وقد تقصر .
والمشهور في مذهب الإمام أحمد : أن المرأة يقبل قولها في الحيض فإذا قالت " إني قد حضت حيضة " فإن قولها يقبل .
وقال بعض الحنابلة : لا يقبل إلا بيمين لاحتمال كذبها .
__________
(1) كذا في الأصل ، وفي نسخة بين يدي " إذا " .
(2) كذا في النسخة التي بين يدي ، وأما في الأصل - المذكرة – : " وفيما " .(21/61)
وعن الإمام أحمد وهو قول أبي بكر من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو أرجح الأقوال الثلاثة : أنها تعطى خرقة فتضعها في فرجها - فتعطيها بعض النساء الثقات قطعة أو نحوها فتضعها في فرجها – ؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يعلم الحيض من غير جهتها فلم يقبل فيه القول المجرد ، فالقول المجرد إنما يقبل حيث لا يمكن أن يعلم إلا من جهة الشخص وأما إذا كان يمكن العلم به من غير جهته فإنه لا يقبل قولها وهنا يمكن أن يعلم الحيض الذي ادعته وأنكره الرجل ، يمكن أن يعلم من غير جهتها ، بخلاف ما لو قال لها : " إن كنت تبغضيني فأنت طالق " ، فقالت المرأة : " إني أبغضك " فإنه يقع الطلاق ، فهو أمر قلبي ولا يطلع عليه غيرها فإن قولها يصدق لأنه لا يعلم إلا من جهتها.
فصل
قال : [ إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف ]
إذا قال : " إن كنت حاملاً فأنت طالق " فولدت لأقل من ستة أشهر سواء كان الزوج يطأ أو لا يطأ فحينئذٍ يعلم أنها حاملاً لأنها لما ولدت لأقل من ستة أشهر قطعناً أنها حامل حين حلفه ، سواء كان يطأها أو لا يطأها وعليه فإنها تطلق .
وإذا ولدت لأقل من أربع سنين وهو لا يطأها فنقطع أنها حامل وهذا هو أكثر مدة الحمل في المذهب وعليه فتطلق ، وقد تقدم أن المدة القصوى للحمل غير محددة كما في كتاب الفرائض فحيث أتت به وهي فراشاً لزوجها وهو لا(1) يطؤها ولو كان بعد أكثر من أربع سنين فهو ابنٌ له ، وعليه فتكون حاملاً عند قولها ذلك وإن أتت به لأكثر من أربعة سنين.
قال : [ وإن قال : إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق ]
إذا قال " إن لم تكوني حاملاً الآن فأنت طالق " وهي عكس المسألة السابقة.
قال : [ حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن ]
__________
(1) كذا في الأصل .(21/62)
فهذا الحكم للمسألتين كلتيهما فإنه يحرم عليه الوطء حتى يستبرئها بحيضة ، أي حتى تثبت براءة الرحم من الحمل بحيضة واحدة ، فإذا حاضت فإنه يعلم أنها ليست بحامل في المسألة الأولى فلا تكون طالقاً ، وفي المسألة الثانية يعلم أنها ليست بحامل فتكون طالقاً لكن هذا في البائن فهي التي يحرم وطئها ، لكن لو كان طلاقاً رجعياً فله أن يطأ لأن الرجل لا يمنع من وطء امرأته في الطلاق الرجعي.
قال : [ وهي عكس الأولى في الأحكام ]
وهذا ظاهر ، فالحالة الأولى إثبات ، والمسألة الثانية نفي .
فعكس الأحكام المتقدمة في المسألة الأولى يثبت عكسها في المسألة الثانية فحيث قلنا المسألة الأولى يقع الطلاق فنقول في المسألة الثانية لا يقع الطلاق.
قال : [ وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً ]
إذا قال لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً ، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فولدتهما طلقت ثلاثاً لوجود الصيغتين اللتين وقع عليهما الطلقات(1) .
ويأتي ما في هذه المسألة من النظر في آخر هذا الدرس.
قال : [ وإن كان مكانه : إن كان حملُك أو ما في بطنك لم تطلق بهما ]
إذا قال لها مكان قوله إن كنت حاملاً قال " إن كان حملك " أو قال " إن كان ما في بطنك " فإنها لا تطلق إن ولدتهما ؛ وذلك لأن قوله هنا " حملك " وقوله " ما في بطنك" ظاهره الحصر بأن يكون ذكراً أو أنثى وهو هنا لم يسم ذكراً ولا أنثى ، وعليه فلا يقع الطلاق.
فصل
قال : [ إذا علق طلقةً على الولادة بذكر وطلقتين على الولادة بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً ، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به ]
__________
(1) في الأصل : الطلاقات .(21/63)
في المسألة المتقدمة فيها تعليق الطلاق على الحمل ، وأما هنا فهو تعليق له على الولادة ، فإذا قال لامرأته " إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين " فولدت ذكراً ثم ولدت أنثى حياً كان المولود أو ميتاً ما دام أنه قد تبين في خلق الإنسان ، طلقت الأول منهما سواء كان ذكراً أو أنثى ، فإن كان ذكراً فإنها تطلق طلقة ، وإن كان أنثى فإنها تطلق طلقتين ، فإذا ولدت ذكراً فإنها تكون قد طلقت طلقةً ، فلما أتت بالثاني فإنها لا تطلق بالثاني لكنها تبين به ، لأنها بالثاني تكون قد وضعت حملها والمرأة إذا وضعت حملها فقد خرجت من عدتها وإذا خرجت من عدتها فهي بائن منه.
قال : [ وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة ]
فإذا أشكل كيفية وضعهما فلا يدري آلذكر سابقٌ أم الأنثى فواحدة ، وذلك لأن الأصل بقاء النكاح والطلقة الثانية مشكوك فيها.
فصل
قال : [ إذا علقه على الطلاق ، ثم علقه على القيام ، أو علقه على القيام ، ثم على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين ( فيهما )(1) ]
إذا قال لامرأته " إن طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن قمت فأنت طالق " فقامت طلقت طلقتين ، الطلقة الأولى بقيامها والطلقة الثانية بطلاقها ، فهو قال " إذا طلقتك فأنت طالق " .
وقوله " أو علقه على القيام ، ثم على وقوع الطلاق "
إذا قال لها إن قمت فأنت طالق " ثم قال " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " فقامت فإنه يقع لها الطلاق المعلق الأول ، وبوقوعه عليها يقع الطلاق الثاني.
قال : [ وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة ]
هذه بعكس المسألة الأولى ، فإذا علقها على قيامها ثم على طلاقها .
والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الأولى : أن المسألة الثالثة هي عكس الأولى .
__________
(1) كذا في نسخة التي بين يدي دون الأصل .(21/64)
والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الثانية : أن المسألة الثانية فيها وقوع الطلاق فإنه قال في المسألة الثانية " ثم علقه على وقوع الطلاق " ، أما في المسألة الثالثة فإنه قال " ثم علقه على طلاقها " .
وفرق بين قوله " إن طلقت فأنت طالق " وبين قوله " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " .
والمسألة الثالثة هي إذا قال لامرأته " إن قمتِ فأنت طالق " ثم قال بعد ذلك " إن طلقتك فأنت طالق " فإذا قامت فلا يقع عليها إلا طلاقاً واحداً ، لأن قوله " إن طلقتك فأنت طالق " يقع الطلاق ليس منه إنما بالشرط الذي قد وقع فهو طلاق معلق ، بخلاف ما إذا علقه على وقوع الطلاق فإنه متى ما قلنا بوقوع الطلاق فحينئذٍ يحصل الشرط.
قال : [ وإن قال : كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالقٌ فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً ]
إذا قال " كلما طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " أنت طالق " فحينئذٍ يقع الطلقة الأولى وهي قوله " أنت طالق " ويقع الطلاق المعلق ، ففي هذه المسألة يكون عليها طلقتان .
لكن لو قال " كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق " ثم قال " أنت طالق " فقوله " أنت طالق " هي الطلقة الأولى وهي طلقة منجزة ، ثم على قوله " أنت طالق " ، وقد قال " كلما وقع عليك الطلاق فأنت طالق " يكون قد وقع طلاقٌ آخر بقوله " كلما " وطلاق ثالث لأن " كلما " تفيد التكرار وقد قال " كلما وقع عليك طلاقي " ولم يقل " كلما طلقتك " وبينهما فرق.
مسألة :
وهي تسمى بالسُريجية ؛ نسبة إلى ابن سريج الشافعي ، وهي فيما إذا قال الرجل لامرأته " إن وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " .(21/65)
قال ابن سريج الشافعي - وهو قول محدث في الإسلام ، كما قال شيخ الإسلام - قال : " لا يقع شيء " ، لأن قوله " أنت طالق " مسبوق بثلاث وعليه فهو طلاق منفي وليس بشيء لأنه طلقة رابعة والطلقة الرابعة ليست بشيء ، وما دام أنها ليست بشيء فكذلك ما قبلها ، وهو قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " أي كذلك المعلق عليه ليس بشيء ، فما دام منفي فلا يمكن أن نثبت ما يترتب عليه ، هذا هو قول ابن سريج وهو كما تقدم قول محدث في الإسلام.
وقال الحنابلة : يقع الطلاق ثلاثاً .
فقوله " أنت طالق " يقع طلقة ، وقد قال " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " فنختار من هذه الثلاث اثنتين فتكون طالقاً ثلاث .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ابن عقيل من الحنابلة : أنها لا تطلق إلا واحدة في قوله أنت طالق " ، وأما قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " فعلى القول بصحة طلاق الثلاث ، وقد تقدم أن شيخ الإسلام لا يختار هذا القول ، وعليه فما نذكره هو دليل ابن عقيل فعلى القول بصحة طلاق الثلاث يكون من الطلاق الماضي والطلاق في المضي لا يقع ، فالراجح أنه تقع عليها طلقة واحدة .
وعند قول المؤلف " إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى " : إن ولدتهما فإنها تطلق ثلاثاً كما تقدم تقريره وكذلك في الحمل .
وهذا فيه نظر ، فإن مراده في الغالب الحمل الواحد والولادة الواحدة ، إذ الأصل أن يكون حملاً واحداً وأن تكون الولادة ولادة واحدة ، وعليه فيقع على ما نواه ، وهو رواية عن الإمام واختار هذا شيخ الإسلام .(21/66)
فإذا قال الرجل لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً ، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فتبين أنها حامل بذكر وأنثى جميعاً فإن هذا ليس مراده بل مراده حيث كان الحمل منفردأ أي منفرداً بالذكورية أو منفرداً بالأنثوية(1) والأمر لم يكن كذلك وهو حمل كلامه على الأصل ونوّعه هنا بالذكورية والأنوثية وعلَّق على هذا التنويع لأن الأصل هو هذا التنويع ، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.
الدرس الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قال : [ إذا قال : إذا حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ ، ثم قال : أنت طالق إن قمت طلقت في الحال ]
تقدم معنى الحلف بالطلاق ، وإن معناه أن يعلَّق الطلاق على شيء يريد بذلك الحض أو المنع أو تصديق خبر أو نفيه فهو لا يقصد الطلاق نفسه بل يقصد الحض أو المنع فإذا قال " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " أنت طالق إن قمت " ، فقوله هنا " أنت طالق إن قمت " هذا حلفٌ بالطلاق فتطلق في الحال وذلك لوجود الصفة.
قال : [ لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرطٌ لا حلف ]
إذا قال لها " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " ، ثم قال بعد ذلك " إن طلعت الشمس فأنت طالق " فلا تطلق عليه في الحال وذلك لأن قوله " إن طلعت الشمس فأنت طالق " ليس حلفاً بل هو شرط محض إذ المكلف لا يقصد بمثله الحض أو المنع وهذا ظاهر ، وقد تقدم الفرق بين الحلف والشرط وأن عرف الفقهاء على ذلك كما تقدم نقله عن شيخ الإسلام.
قال : [ وإن حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ ، أو إن كلمتك فأنت طالقٌ وأعاده مرةً أخرى طلقت مرة ]
__________
(1) كذا في الأصل .(21/67)
إذا قال لامرأته " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقةً واحدة وذلك لوجود الصفة وهي الحلف بالطلاق ، وإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقة واحدة ، وذلك لأن قوله " إن كلمتك فأنت طالق " كلام وقد علق طلاقها بكلام ، وهذا كلام فيقع الطلاق به.
قال : [ ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاثٌ ]
إذا قال لها " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " ثم قال " وإن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت واحدة ، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثانية ، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثالثة ، لوجود الصفة المعلق عليها الطلاق في كل مرة .
هذا ما لم يقصد إفهامها أو التأكيد ، أما إذا قصد إفهامها والتأكيد فإنه لا يقع إلا في الأولى ، فإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " طلقت واحدة ، فإن قال لها ذلك مرة أخرى وقصد إفهامها أو التأكيد فإنها لا يقع عليه طلقة أخرى لأنه لا يقصد الطلاق وإنما يقصد إفهامها قوله أو يقصد التأكيد.
فصل
قال : [ إذا قال : إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو قال : تنحي أو اسكتي طلقت ]
فتتحققي : أي تبيني قولي وانتبهي له.
إذا قال لزوجته " إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو اسكتي أو تنحي " فإنها تطلق عليه لأنه قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " فتحققي " أو " اسكتي " وهذا كلام فالصفة قد وجدت وعليه فالطلاق واقع .(21/68)
وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً سواء أراد إفهامها أو أراد الابتداء بالكلام وهذا فيه نظر ظاهر ، ولذا اختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة ، فإذا قال " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال " اسكتي " وأراد بذلك منعها من الكلام ولم يرد بذلك ابتداء كلام يقع به الطلاق ، فإن الطلاق لا يقع ، وأما إن كان يريد ابتداء كلام يقع به الطلاق فإن الطلاق يقع ، والراجح هو ما ذكره ابن القيم ؛ لأن هذا هو مقصود الحالف ، فمقصود الحالف أن يتكلم بكلام في مجلس آخر وأما أن يقصد أن ذلك يدخل بمجرد الكلام ولو كان يريد به التأكيد أو الإفهام أو نحو ذلك فلا.
قال : [ وإن بدأتك بالكلام فأنت طالق ، فقالت : إن بدأتك به فعبدي حر ، انحلت يمينه ]
إذا قال لزوجته " إن بدأتك بكلام فأنت طالق " فقالت له امرأته : " إن بدأتك بالكلام فعبدي حر " فإن يمينه تنحل فلا حنث عليه ؛ وذلك لأنها بدأته بالكلام ، فإذا تكلم معها بعد ذلك فإنه لا يكون مبتدءاً الكلام.
قال : [ ما لم ينو عدم البداءةِ في مجلس آخر ]
فإذا كان لا يريد ما يقع بينه وبينها من نقاش وجدال أو نحو ذلك في ذلك المجلس بل يريد ما يكون بعد ذلك ، فإن كان هذا مراده ومقصوده فإنه يحنث إن بدأها بالكلام وإن قالت هي له ما قالت ، لأنه ينوي مجلساً آخر ووقتاً آخر.(21/69)
والقول الثاني في المسألة وهو احتمالٌ للموفق ابن قدامة ، وقال صاحب الإنصاف في هذا القول " وهو قوي جداً " وهو كما قال ، هذا القول مبني على أنه يريد بذلك وقتاً آخر ،وعليه فلا يحنث إلا أن يبدأها بالكلام في وقت آخر لأن هذا هو مراده ، فالرجل إذا قال لامرأته : " إن بدأتك بالكلام فأنت طالق " فإنه لا يريد ما يقع من الكلام في المجلس الذي وقع فيه الحلف بل يريد وقتاً آخر ، وعليه فإذا بدأها في وقت آخر بالكلام فإن الطلاق يقع ، ولا عبرة بإجابتها إياه في المجلس الذي وقع فيه الحلف ؛ لأن الحالف بمثل هذا إنما يريد وقتاً آخر ، هذا هو الجاري في العرف وهذا هو الغالب في إرادة المتكلمين.
فصل
قال : [ إذا قال : إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك ، أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق ]
هنا قد علق الطلاق بالخروج من البيت بلا إذن ، فالوصف الذي علق عليه الطلاق هو الخروج بلا إذن إلا ما استثنى ، كأن يقول لها " إن خرجت من الدار إلا لأهلك فأنت طالق " أو قال لها " إن خرجت من الدار فأنت طالق " وأطلق ولم يستثن .
قال : [ فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه ]
أي قالت له مرة " استأذنك بالخروج إلى السوق مثلاً " فقال لها " قد أذنت لك" فخرجت إلى السوق ثم خرجت بغير إذنه خروجاً آخر فإن الطلاق يقع لوجود الصفة.
قال : [ أو أذن لها ولم تعلم ]
أي أخبر أباها أو أمها أو أحد أبنائها أنه أذن لها لكن هذا الإذن لم ينقل إليها فخرجت عاصيةً له فإن الطلاق يقع ؛ وذلك لوجود الصفة وهي الخروج بلا إذن ، والأذن إنما يكون إذناً حيث أعلم به المأذون له فلا إذن إلا بإعلام ، فالإذن في اللغة هو الإعلام ومنه سمي الأذان أذاناً لما فيه من الإعلام ، فكونها تخرج بإذن لم تخبر به لأنه لا يكون إذناً حتى تعلم به(1) ، والوجه الثاني في المذهب لا تطلق والأول هو الراجح.
قال : [ أو خرجت تريد الحمام وغيره ]
__________
(1) كذا العبارة في الأصل .(21/70)
فإذا قال لها " إن خرجت بلا إذن فأنت طالق إلا إلى أهلك " ، فخرجت إلى أهلها وإلى غيرهم ، فإنها تطلق وذلك لوجود الصفة.
قال : [ أو عدلت منه إلى غيره ]
ففي المثال السابق : إن خرجت إلى أهلها لكنها عدلت عن أهلها إلى غيرهم فإن الطلاق يقع ؛ لأنه خروج غير مأذون به فوجدت الصفة التي علق الطلاق عليها.
إذن : إذا جمعت بين مأذون به وغير مأذون به فإنها تطلق ؛ لوجود خروج غير مأذون به.
قال : [ طلقت في الكل ]
وذلك لوجود الصفة التي علق الطلاق عليها.
قال : [ لا إن أذن لها(1) فيه كلما شاءت ]
إذا قال الرجل لامرأته: " إن خرجت يوماً من الدهر بلا إذني فأنت طالق " فما هو المخرج من ذلك ؟
المخرج أن يقول لها: " أذنت لك في الخروج كلما شئت ".
قال : [ أو قال : إلا بإذن زيدٍ فمات زيدٌ ثم خرجت ]
إذا قال لها: " لا تخرجي إلا بإذن والدك وإن خرجت بغير إذنه فأنت طالق " فمات والدها فخرجت فلا طلاق ، وذلك لأن الميت لا إذن له ، ولأن هذا معلوم من حلفه ، فإنه إنما أراد حيث كان له إذنٌ وأما الميت فلا إذن له ، فكونه يستثنى خروجها بعد موت من شرط إذنه هذا معلوم من حلفه.
الدرس الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قال : [ إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى ]
إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت " فإنها لا تطلق حتى تشاء أي حتى تشاء بلسانها فتقول : " شئت ذلك : ، أما مشيئة القلب فلا عبرة بها ؛ وذلك لأن ما في القلب لا يعلق به حكم حتى يُعبَّر عنه باللسان .
__________
(1) كذا في الأصل ، وفي نسخة عندي : " لا إن أذن فيه " دون : لها .(21/71)
" ولو تراخى " فلو قالت بعد يوم أو شهر أو سنة قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه ، فمتى قالت : " شئت " فإنها تطلق عليه ولو كان ذلك مع التراخي كسائر التعاليق ، فكما أنه إذا قال لها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق " ، فدخلت الدار بعد شهر أو شهرين ، فكذلك إذا قال لها : " أنت طالق إن شئت " فإنها تطلق متى قالت : " شئت " ، ولو كان ذلك بعد سنة أو سنتين .
وليس له الرجوع كسائر التعاليق ، فكما أنه إذا قال لها : " إن دخلت الدار فأنت طالق " فليس له الرجوع ، فكذلك : " أنت طالق إن شئت ".
وقال الشافعية: بل هو على الفور، وذلك لأنه تمليك للطلاق فأشبه ما لو قال لها: "اختاري " وقد تقدم أنه إذا قال لها: " اختاري " فإن الخيار يثبت لها في المجلس ، والراجح هو القول الأول.
والجواب عن القول الثاني ، أن الفرق بين هذه المسألة وبين قوله: " اختاري " ظاهر ، فإن قوله: " أنت طالق إن شئت " من باب الشروط ، وقوله: " اختاري " من باب الخيار ، والخيار على الفور ، [ ولا يصح رجوعه كبقية التعاليق ، وعنه يصح كاختاري. ](1)
قال : [ فإن قالت : قد شئتُ إن شئتَ فشاء لم تطلق ]
إذا قالت له: " شئتُ إن شئتَ " فهنا شرطت مشيئته وشرط المشيئة ليس بمشيئة فلا تكون طالقاً ، فهي لم تقل: " شئت " لكنها علقت مشيئتها بمشيئته فهذا شرط وليس بمشيئة وعليه فلا طلاق.
قال : [ وإن قال : إن شئتِ وشاء أبوكِ أو(2) زيد لم يقع حتى يشاءآ معاً ، ( وإن شاء أحدهما فلا )(3) ]
إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت وشاء زيد " فشاءت ولم يشأ زيد فلا طلاق لعدم وجود الصفة وهي مشيئتهما جميعاً ، أو قال لها : " إن شئتِ وشاء أبوكِ " لم تطلق حتى يشاءا معاً ولو تراخى أحدهما فالمشيئة ثابتة.
قال : [ وأنت طالق أو عبدي حرٌ إن شاء الله وقعا ]
__________
(1) ما بين القوسين ليس في الأصل - المذكرة - .
(2) في الأصل : أو شئتِ وشاء زيد .
(3) الزيادة هذه ليست في الأصل .(21/72)
إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن شاء الله " أو قال: " عبدي حر إن شاء الله " فإن زوجته تطلق وعبده يعتق ؛ قالوا : لأنه قد علقه على ما لا سبيل إلى علمه وهي مشيئة الله فأشبه تعليقه على المستحيل.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي : أن الطلاق لا يقع ، قالوا : لأنه علقه على صفةٍ لا يعلم وجودها ، فهو لا يعلم هل شاء الله عز وجل الطلاق أم لم يشأه.
وفصَّل شيخ الإسلام تفصيلاً حسناً في هذه المسألة فقال: إن كان تعليقاً فلا يقع ، وإن كان تحقيقاً أو تأكيداً فإنه يقع ، فإذا قال ذلك تعليقاً أي علقه على مشيئة الله المستقلة فلا تطلق عليه ؛ لأن الله لا يشاؤه في الواقع وقوعاً حتى يتكلم به هذا المكلف ، فلا يقال إن الله شاء الطلاق لفلانة من فلان إلا أن يكون قد وقع وحدث ، وعليه فإذا قال لها "أنت طالق إن شاء الله " فلا تطلق حتى يقول لها بعد ذلك: " أنت طالق " ، وأما إن كان تحقيقاً أو تأكيداً بمعنى قال: " إن شاء الله" يحقق قوله أي قد وقع قوله وشاءه الله عز وجل فهذا هو التحقيق ، أو تأكيداً كأن يقول: " إن شاء الله " مؤكداً للطلاق مثبتاً له .
وهذا تفصيل جيد في المسألة.
أما لو قال: " أنت طالق إلاّ أن يشاء الله " فإنها تطلق ؛ وذلك لأن قوله: " أنت طالق إن شاء الله " جملة فيها إثبات الطلاق ووقوعه ، وفيها تعليق رفعه على مشيئة الله ، فقوله: " إلا أن يشاء الله " تعليق لرفع الطلاق على مشيئة الله ، ومشيئة الله ليست بمعلومة.
قال : [ وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت ](21/73)
إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " فإنها تطلق بذلك ، وهذا تفريعٌ على المسألة السابقة ، ما لم ينو الاستثناء للفعل وهو دخولها فإنها لا تطلق ؛ وذلك لأنها إن دخلت فيُعلم أن الله عز وجل قد شاءه ، ويكون هذا التعليق كالتعليق على اليمين ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث )(1) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما وهو حديث صحيح .
فإذن إن قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " إن كانت المشيئة للفعل المحلوف عليه فلا تطلق إن دخلت ، لأن دخولها بمشيئة الله المعلق عليها ، وكل يمين علقت بمشيئة فلا حنث فيها للحديث المتقدم بخلاف ما إذا كان التعليق للطلاق.
قال : [ وأنت طالق لرضا زيدٍ أو لمشيئته طلقت في الحال ]
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور باب ما جاء في الاستثناء في اليمين ( 1531 ) عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ، وبلفظ ( 1532 ) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ) ، وأخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور ، باب الاستثناء ( 3828 ) عن ابن عمر بلفظ : ( من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ) ، وبلفظ ( 3830 ) : " من حلف على يمين فقال إن شاء الله فهو بالخيار إن شاء أمضى وإن شاء ترك " ، وبرقم ( 3855 ) عن أبي هريرة ، وبلفظ ( 3856 ) : " لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته " أي سليمان عليه السلام . وهو في البخاري في كتاب النكاح ، باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي ( 5242 ) بلفظ : عن أبي هريرة قال : قال سليمان .. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لو قال : إن شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته " ، وهو في مسلم برقم ( 1654 ) في باب الاستثناء من كتاب الأيمان .(21/74)
لأن معنى كلامه " أنت طالق لكون زيد رضي ذلك " و " أنت طالق لكون زيد يشاء ذلك " فإنها تطلق في الحال كما تقدم ، لأن معنى كلامه " وقد أوقعت عليك الطلاق لأن أمك تشاء ذلك أو لأن أباك يشاء ذلك.
قال : [ فإن قال : أردت الشرط ، قُبل حكماً ]
أي أردت " أنت طالق إن رضي زيد " أو " أنت طالق إن شاء زيدٌ " فإنه يقبل في الحكم الظاهر ، لأن لفظه يحتمل.
وعن الإمام أحمد وهو أحد الوجهين عند الشافعية: أنه لا يقبل في الحكم ، وهو الأرجح ؛ لأنه يخالف ظاهر قوله ، فإذا قال: " أنت طالق لرضا أبيك " فإنها تطلق لأن ظاهر لفظه " أنت طالق لكون أبيك يرضى ذلك " فإذا ادعى أنه أراد الشرط فإن هذا الادعاء يخالفه الظاهر ، والادعاء الذي يخالفه الظاهر لا يقبل في الحكم ، وأما كونه يُديَّن فيما بينه وبين ربه فهذا ظاهر.
قال : [ وأنت طالقٌ إن رأيت الهلال ، فإن نوى(1) رؤيتها لم تطلق حتى تراه ، وإلا(2) طلقت بعد الغروب برؤية غيرها ]
إذا قال لها: " إن رأيت الهلال فأنت طالق " فنقول ما الذي تنويه ؟
فإن قال: " نويت أنها طالق إن رأته بعينها " فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا عاينته ببصرها ، وهنا لفظه يحتمل ذلك ، وإن قال: " لم أرد معاينتها بل أريد رؤية الهلال فتطلق بغروب الشمس حيث رأى الهلالَ غيرُها ، كما أنها تطلق بتمام الشهر ثلاثين ؛ وذلك لأن تمام الشهر ثلاثين في حكم رؤية الهلال شرعاً.
فصل
قال : [ وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب أو لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أولا يشرب ماء هذا الإناء ( فشرب بعضه )(3) لم يحنث ]
طاق الباب : هو العَطْف الذي يكون للباب.
__________
(1) كذا في نسخةٍ بين يدي ، وفي الأصل : فإن رؤي رؤيتها .
(2) كذا في نسخة بين يدي ، وفي الأصل : أو طلقت .
(3) الزيادة هذه ليست في الأصل .(21/75)
فلا يحنث في هذه المسائل كلها ؛ وذلك لأن فعل البعض ليس كفعل الكل ، والحلف إنما هو عن الامتناع عن فعل الكل وليس فعل البعض كفعل الكل ، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج رأسه وهو معتكف لعائشة فترجله ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من معتكفه وليس هذا في حكم الخروج من المعتكف .
لكن لو قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا النهر " فقطعاً لا يريد كله ولا يمكن أن تصرف اليمين إلى ذلك ، فإذا شرب بعضه فإنه يحنث ؛ لأنه يمتنع إرادة الكل فتصرف يمينه على إرادة البعض .
ومبنى الأيمان على نية الحالف ، فلو أنه قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا الإناء " وهو ينوي بعضه ، فشرب البعض فإنه يحنث فإن الأيمان مبناها على النية ، فالأحكام المتقدمة إنما ينظر فيها باعتبار الألفاظ أما لو نوى خلاف ظاهر لفظه فإن الأيمان مبناها على النية.
قال : [ وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاقٍ فقط سوى سائر الأيمان ]
إذا قال: " إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق " أو قال: " إن فعلتِ كذا فأنت طالق " ففعل هو أو فعلت هي نسياناً ، أو كان ذلك عن جهل كأن تكون هي لم تعلم باليمين ففعلت ما فعلت ، وإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فنسيت فخرجت ، أو قال لأحدٍ من الناس: " إن خرجت امرأتي من الدار فهي طالق " فخرجت من غير أن تعلم بيمينه ، أو كان ذلك تقليداً لمفتٍ سواء كان حياً أو ميتاً ، فهل يثبت الحنث ؟
قال الحنابلة: يثبت الحنث ؛ وذلك لأن (1) يمين الطلاق ويمين العتاق فيها حق آدمي ولا فرق فيها بين تعمد ولا خطأ ولا نسيان ، [ ويعذر عندهم المكره والنائم والمغمى عليه ] (2).
__________
(1) في الأصل : لأن في يمين .
(2) هذه الزيادة ليست في الأصل .(21/76)
وقال الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : أن الأيمان كلها باقية ولا حنث فيها مع الجهل والنسيان ، [ وكذا لو عقدها يظن صدقَ نفسه فبان خلاف ذلك أو لقصد الإكرام ، قال شيخ الإسلام: "من حلف بالطلاق كاذباً يعلم كذب نفسه لم تطلق " أي لا يلزمه كفارة.] (1)
واستدلوا بقوله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } (2) ، وبقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } (3)، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (4).
قالوا : وهذه أدلة عامة ليس فيها استثناء.
قالوا : ويمين الطلاق ويمين العتاق المُغلَّب فيها حق الآدمي بل المرأة قد يكون أشد شيءٍ عليها ذلك ، وهو فراق زوجها.
قالوا : ولأن حقيقة الحنث هو مخالفة اليمين ، والمخالفة إنما تكون مع التعمد ، وأما مع عدم التعمد ، وعدم القصد فإنه ليس ثمت مخالفة ، ولأن مقصود الحالف عدم مخالفته ، وإذا خولف أو خالف هو نسياناً أو خطأً فإن مقصوده لا ينتقض ، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فذهبتِ إلى السوق فأنت طالق " وهو يريد ألا تخالفه وألا تعصيه فإنها إذا فعلت ذلك نسياناً أو خطأً فإنها لا تعد عاصية ولا مخالفة ؛ لأن العصيان إنما يكون مع التعمد .
وهذا هو الراجح في هذه المسألة .
أما إذا فعل ما حلف عليه مكرهاً :
- فقال الحنابلة : لا يحنث ؛ وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل ، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فأخرجت كرهاً فإنها لا تطلق ؛ وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل .
__________
(1) الزيادة ليست في الأصل .
(2) سورة الأحزاب .
(3) سورة البقرة .
(4) تقدم .(21/77)
وكذلك النائم والمغمى عليه ؛ لأن عقليهما قد غطيا بعذر ، فإذا فعلت ذلك نائمةً أو مغمى عليها فإن الحنث لا يقع كما هو المشهور في المذهب ، [ وكذا لو عقدها يظن صدق نفسه أو للإكرام أو كاذباً فلا طلاق ولا كفارة. ] (1)
قال : [ وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه ]
إذا قال: " إن دخلتُ الدارَ فزوجتي طالق " فدخل بعض بدنه إلى الدار ، أو قال: " إن شربت ماء هذا الإناء فامرأتي طالق " فشرب بعضه فإنها لا تطلق ؛ لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل إلا أن ينويه ، فإذا نوى منع نفسه من هذا الشيء كلية حتى القليل منه ، فإن الأيمان مبناها على النية وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فإن قال: " إن شربت هذا الماء الذي في الإناء فامرأتي طالق " وهو ينوي وقوع الطلاق ولو شرب بعضه ، فإن شرب بعضه فإن زوجته تطلق عليه.
قال : [ وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله ]
وذلك لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل وقد حلف أن يفعله كله ، فلا يبرأ حتى يفعله كله.
الدرس الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة
باب التأويل في الحلف
ومن التأويل في الحلف التأويل في حلف الطلاق.
قال : [ ومعناه أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره ]
هذا هو معنى التأويل في الحلف ، هو أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره ، فظاهر لفظه له معنى وهو يريد معناً آخر يحتمله اللفظ ، كما لو قال: " نسائي طوالق " وهو لا يريد زوجاته بل يريد نساءه من عماته أو خالاته أو غيرهن .
والتأويل في الحلف جائزٌ إن كان دفعاً لظلمٍ ، ففي سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح عن سويد بن حنظلة قال : " خرجنا نريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدوٌ له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فأخبرت بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( صدقت ، المسلم أخو المسلم ) (2) ، فظاهر قوله: " أخي" أنها أخوة النسب وهو يريد أخوّة الدين وقد فعله لدفع الظلم.
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل .(21/78)
قال : [ فإذا حلف وتأوَّل يمينه نفعه ]
فلو أن رجلاً أكره على طلاق نسائه فقال: " نسائي طوالق " وهو لا يريد بنسائه زوجاته وإنما يريد بناته فهنا لا يقع الطلاق ، فينفعه ذلك.
قال : [ إلا أن يكون ظالماً ]
فيُستثنى من ذلك أن يكون الحالف ظالماً فلو أن رجلاً قال له القاضي: " احلف " فقال: " نسائي طوالق إن كان هذا الشيء ليس لي " ، وهو كاذب ، فهنا هو ظالمٌ وتأول في الحلف ، فهنا يكون عليه الحنث ولا ينفعه هذا التأويل ؛ لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اليمين على نية المستحلف ) (1) ، ولأننا إذا أجزنا ذلك فإنه يكون ذريعة إلى جحد الحق وإبطاله ودمغه ، ولا شك أن ما كان ذريعة إلى ذلك ، فهو محرم ؛ لأن الذرائع لها حكم الأحكام التي تكون ذريعةً إليها .
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا لم يكن ظالماً ولا مظلوماً فإن ذلك جائزٌ ، فإنه لم يستثن إلا أن يكون ظالماً ، وعليه فالأحوال ثلاثة :
أن يتأول يمينه وهو ظالم فلا ينفعه هذا كما تقدم.
أن يتأول يمينه وهو مظلوم فينفعه ذلك.
ألا يكون ظالماً ولا مظلوماً فينفعه ذلك أيضاً في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام : المنع من ذلك ، وأن ذلك لا ينفعه ، وهو الراجح ؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( اليمين على نية المستحلف ) وهذا عام لا يستثنى منه إلا أن يكون الحالف مظلوماً.
قال : [ فإن حلَّفه ظالمٌ ما لزيدٍ عندك شيء وله عنده وديعةٌ بمكانٍ ، فنوى غيره ]
فلو أن ظالماً أراد أخذ مال زيدٍ فقال: " ما لزيدٍ عندك(2) شيء " ، وله وديعة عنده فحقيقة الأمر أن له وديعة عنده فقال " ما لزيدٍ عندي شيء " ونوى غير المكان الذي هما فيه ، أي ما لزيدٍ عندي في البيت وله عنده في الدكان .
قال : [ أو بما الذي ]
__________
(2) كذا في الأصل .(21/79)
أي نوى أن " ما " بمعنى " الذي " ، " ما لزيدٍ عندي شيءٌ " أي الذي لزيدٍ عندي شيءٌ ، وهذا يصح.
قال : [ أو حلف ما زيدٌ هاهنا ونوى غير مكانه ]
قيل له: " هل زيد في البيت " فقال: " ما زيدٌ هاهنا " ونوى مكاناً آخر بأن يشير بيده إلى موضع آخر فيقول: " ما زيد هاهنا " ، وهذا تأويل سائغ.
قال : [ أو حلف على امرأته لا سرقت مني شيئاً فخانته في وديعةٍ ولم ينوها لم يحنث في الكل ]
فإذا قال لامرأته: " إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق " فخانته المرأة في وديعة عنده ولم ينوِ دخول الخيانة في قوله ، لم يحنث ؛ وذلك لأن الخيانة ليست بسرقة ؛ لأن السرقة إنما تكون من حِرْزٍ وهذه ليست كذلك ، أي في حق المودع عنده .
لكن لو نوى بقوله " إن سرقت مني شيئاً فأنت طالقٌ " نوى دخول الخيانة أو كان سبب تهييجها للحلف هو ذلك ، أي خشي أن تخونه فحلف على ذلك ، فإنه حينئذٍ يحنث في يمينه ، لأن هذا السبب الواقع منه قرينة لإرادته دخول الخيانة.
باب الشك في الطلاق
قال : [ من شك في طلاقٍ أو شرطه لم يلزمه ]
شك لا يدري هل طلق امرأته أم لا ، أو شك في شرطه أي هل وقع الشرط أم لم يقع ، إذا قال لامرأته: " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم شك لا يدري أدخلت المرأة الدار أم لم تدخلها ، لم يلزمه ؛ لأن هذا شك ، والشك لا يزول به اليقين ، فاليقين بقاء عصمة النكاح فلم يزل بهذا الشك الطارئ عليه .
وقال الموفق رحمه الله: " الأولى له إيقاع الطلاق تورعاً " ا.هـ ، وفيما ذكره نظر ، قال ابن القيم: " الأولى إبقاء عصمة النكاح ، ويكره أو يحرم العمل بالشك فإن الطلاق بغيض إلى الرحمن حبيب إلى الشيطان " ا.هـ فمثل هذا لا يقال أن التورع إيقاعه ، فالصحيح ما ذكره ابن القيم، [ فإن قال كلمة فشك هل هي طلاق أم ظهار لم يلزمه شيء قالوا والأحوط كفارة الظهار ليبرأ بيقين.] (1)
قال : [ وإن شك في عدده فطلقةٌ ]
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل .(21/80)
إذا شك لا يدري أطلَّق امرأته طلقتين أم طلقة ، فاليقين أنها طلقة ، والطلقة الثانية مشكوك فيها ، واليقين لا يزول بالشك.
قال : [ وتباح له ]
أي تباح له هذه المرأة لما تقدم من أن الأصل بقاء عصمة النكاح ، وهذا الطلاق مشكوك فيه.
قال : [ فإذا قال لامرأتيه : إحداكما طالقٌ طلقت المنوية ]
إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق ونوى فلانة منهما [ مبهماً ] (1) ، فإن المنوية تطلق عليه ؛ لأنه قد عيَّنها بنيته ، فلفظه مبهمٌ لكن نيته معينة.
قال : [ وإلا من قرعت ]
وإلا : أي إن لم ينوِ إحداهما فإنه يوضع بينهما القرعة ، والقرعة طريقٌ شرعي لإخراج المجهول ، فالحق لواحدة منهما غير معينة فوجبت بالقرعة ، أي وجب حقها بالقرعة ، فيضع بينهما القرعة فمن خرجت عليها القرعة فهي الطالقة بتلك اللفظة التي تلفظ بها.
وقال الشافعية والأحناف: بل يتخير أيتهما شاء ، قالوا : لأنه له ابتداءً إيقاع الطلاق وتعيينه ، وهنا قد أوقعه ولم يعينه فبقي له حق التعيين استيفاءً لملكه.
والأرجح هو القول الأول ؛ وذلك لأنه حق لإحداهما من غير تعيين فوجب بالقرعة كالسفر ببعض النساء ، وتقدم لأنه ليس له أن يسافر بإحدى نسائه إلا بقرعة .
فأما ما ذكروه فهو ضعيف ؛ وذلك لأنه يملك الطلاق قبل إيقاعه وأما بعد أن أوقعه فإنه ليس له فيه أي ملك ، وكان له حق التعيين مع الإيقاع وأما وقد أوقعه ولم يعيِّن فقد خرج عنه حق التعيين.
قال : [ كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها ]
رجل طلق إحدى امرأتيه طلاقاً ثلاثاً بائناً لكنه نسيها ولا بينة ، فالحكم أنه توضع بينهما القرعة في الحل وفي الإرث ، أي في حلِّها له وفي كونها ترث منه ، أما الإرث فهذا ظاهر للتعليل المتقدم فهو حق لواحد غير معين ولا سبيل لنا إلى تعيبن صاحب الحق فحينئذٍ سلكنا هذا الطريق الشرعي وهو القرعة.
__________
(1) ليست في الأصل .(21/81)
وأما في الحِل فاختار الموفق وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أهل العلم كما حكى ذلك الموفق: " أن القرعة هنا لا طريق لها ؛ ذلك لأن الزوجة هنا قد اشتبهت عليه ، فكما لو اشتبهت زوجته بأجنبية فإنه لا يحل له أن يطأ ، وهنا كذلك فقد اشتبهت عليه إحدى المرأتين هذه محرمة عليه بالبينونة وهذه حلال له ، ولأن القرعة لا تحل المرأة المطلقة ، ومعلوم أن القرعة قد تقع على المرأة المطلقة المنسية ، وهذه القرعة لا تحل المرأة التي قد وقع عليها الطلاق ولا ترفع الطلاق عنها .
فإن قيل فما الفرق بينها وبين المسألة المتقدمة ؟
فالجواب : أن المسألة المتقدمة الطلاق لم يقع على واحدة بعينها بل الطلاق مبهم فاحتجنا إلى تعينه بالقرعة ، وأما في هذه المسألة فإن الطلاق واقع على واحدة بعينها، فإن إحداهما طالق بعينها ولكنها مجهولة ، وهذا فرق ظاهر بين المسألتين ، فالراجح ما ذكره الموفق وهو مذهب أكثر أهل العلم.
قال : [ وإن تبيَّن أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم ]
هذا تفريع على القول المرجوح ، فإذا وقعت القرعة فخرجت على فلانة وتبين للزوج ، أي تذكر أن المطلقة غير التي قرعت ، وهذا أي التذكر أمر لا يعلم إلا من جهته فيقبل فيه قوله ، فإذا تذكر أنها غير التي قرعت فإنها ترد إليه .
ما لم تتزوج : فإذا تزوجت فلا ترد إليه ؛ وذلك لأن قوله المجرد عن البينة لا يسقط حق غيره فالمرأة هنا قد تزوجت فأصبحت في عصمة غيره فقوله المجرد لا يسقط حق الغير .
أو تكن القرعة بحاكم ، فإذا كانت القرعة من طريق الحاكم فيكون هذا قضاءً وحكماً والحكم لا يرفع بقوله المجرد.
إذن : إذا تزوجت المرأة أو كانت القرعة بحاكم فإنها لا ترد إليه ، وأما إذا لم تتزوج ولم يثبت حكم القرعة بحاكم فإنها ترد إليه ؛ لأنه شيءٌ لا يعلم إلا من جهته فقبل فيه قوله.(21/82)
قال : [ وإن قال : إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق ، وإن كان حماماً ففلانة طالق وجُهل لم تطلقا ]
لاحتمال أن يكون هذا الطائر ليس بغراب ولا حمام والطلاق لا يقع بالشك.
قال : [ وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هندٌ إحداكما ( أو هندٌ طالقٌ ) (1) طلقت امرأته ]
إذا قال لزوجته وامرأة أجنبية عنه اسمها هند إحداكما طالق طلقت امرأته ؛ وذلك لأنه لا يملك طلاق الأخرى.
قال : " أو هند طالق طلقت امرأته " :
فإذا قال لامرأته واسمها هند ، وامرأة أجنبية [ عنه ] (2) اسمها هند فقال: " هندٌ طالق " فيقع الطلاق على امرأته ؛ وذلك لأن الأخرى ليست بزوجةٍ له ، والطلاق لا يقع عليها فهو لا يملك طلاقها.
قال : [ وإن قال : أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلا بقرينة ]
إذا قال: " أردت الأجنبية " لم يقبل حكماً ؛ لأنه يخالف الظاهر ، ولكنه يديَّن بنيته فيما بينه و بين ربه ، ولا يقبل في الحكم إلا بقرينة ، كأن يقول ذلك دفعاً للظلم كأن تكون له زوجة اسمها هند ، وأخت اسمها هند فقيل له طلق زوجتك فقال: " هند طالق " وهو لا يقصد طلاق زوجته بل يقصد بذلك أخته ، فلما كانت هذه القرينة موجودة فلا يقع الطلاق حكماً.
قال : [ وإن قال لمن ظنها زوجته : أنت طالق طلقت الزوجة ( وكذا عكسها ) (3) ]
إذا قال لامرأة يظنها زوجته وهي ليست بزوجةٍ له قال: " أنت طالق " فإنها تطلق الزوجة ، اعتباراً بالقصد ، فقصده زوجته [ وهو كما لو قال: " امرأتي طالق " ففي المذهب قوة.] (4)
والقول الثاني في المذهب وهو الصحيح من المذهب وهو مذهب الشافعية: أن الطلاق لا يقع اعتباراً بالخطاب ؛ لأن الطلاق إنما يقع حيث خوطبت به المرأة أو كان بلفظ ظاهر إرادتها . (5)
__________
(1) ليست في الأصل .
(2) ليست في الأصل .
(3) ليست في الأصل .
(4) هذه الزيادة ليست في الأصل .
(5) هنا في الأصل عبارة : " وهذا القول فيما يظهر لي أظهر "(21/83)
فالاعتبار هنا بالخطاب لا بالقصد ، والنية المجردة عن اللفظ لا يقع معها الطلاق ، [ والأول أظهر .] (1)
قال : [ وكذا عكسها ]
فعكس هذه المسألة يقع الطلاق فيها على امرأته، فإذا قال لمن ظنها أجنبية وهي زوجته قال لها: " أنت طالق " يظنها أجنبية عنه فكانت امرأته ، فكذلك يقع عليها الطلاق ؛ وذلك لأنه واجه امرأته بصريح الطلاق.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا يقع ، وهذا القول الأرجح ، وذلك لأن الأعمال بالنيات ، فاللفظ قطعاً لا يريد به طلاق امرأته ، بل يريد به محادثة ومخاطبة الأجنبية ، وعليه فلا يقع الطلاق ، لكننا نحكم بالظاهر إلا مع قرينة، ويُدين بنيته فيما بينه وبين ربه.
الدرس الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة
باب الرجعة
الرجعة : هي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد.
وقد أجمع أهل العلم على أن الرجل الحر إذا طلق امرأته دون الثلاث ، والعبد دون اثنتين فلهما الرجعة في العدة ، ولا يشترط – إجماعاً – في الرجعة قبول المرأة ولا الولي ولا صداق في ذلك ، فهو استدامة للنكاح.
قال : [ من طلق بلا عوضٍ زوجةً مدخولاً أو مخلواً بها دون ماله من العدد فله رجعتها في عدتها ]
من طلق بلا عوض : تقدم حكم الطلاق بعوض وهو الخلع - ، فمن طلق امرأة مدخولاً بها أو في حكم المدخول بها وهي المخلو بها دون ماله من العدد فله رجعتها ما دامت في العدة أما غير المدخول بها فإنها تبين منه بطلقة ولا عدة لها كما تقدم تقريره.
قال : [ ولو كرهت ]
فله رجعتها ولو كرهت لقوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } (2) ، وقد سماه الله تعالى بعلاً أي زوجاً وهو زوج لها وهو أحق برجعتها .
وظاهر الآية أن ذلك ليس إلى الولي ولا إلى المرأة وتقدم الإجماع عليه .
__________
(1) هذه العبارة ليست في الأصل .
(2) سورة البقرة .(21/84)
وظاهر كلام المؤلف الإطلاق فيمن يريد الإصلاح و فيمن لا يريده ، فكل من أراد الرجعة فله المراجعة كما هو إطلاق المؤلف وهو إطلاق غيره من الفقهاء .
واختار شيخ الإسلام : أنه لا يُمكن من ذلك إلا أن يريد بذلك الإصلاح والإمساك بالمعروف ، وعليه فإذا راجعها بغير هذه الإرادة فطلقها فلا يقع الطلاق حينئذٍ ؛ وذلك لأنه طلاق بعد رجعة غير صحيحة .
وقوله هو الذي يدل عليه ظاهر القرآن ، قال تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً } ، فشرط الله تعالى بهذا الحكم إرادة الإصلاح.
قال : [ بلفظ راجعت امرأتي ونحوه ]
فألفاظ المراجعة : راجعت امرأتي ونحوه من الألفاظ كأن يقول: " رددتها " أو "أمسكتها " وغير ذلك من الألفاظ التي هي صريحة في الرجعة.
قال : [ لا نكحتها ونحوه ]
فإذا قال في الرجعة: " نكحتها أو تزوجتها ونحوه " فلا يحصل به الرجعة ، وذلك لأن هذا اللفظ يكون كناية ، قالوا : والرجعة استباحة بُضع مقصود ، فلم تصح فيه الكناية كالنكاح.
والقول الثاني في المسألة ، وهو وجه عند الحنابلة وممن قال به ابن حامد : أن الرجعة تحصل به مع النية .
وهذا أظهر ؛ وذلك لأنه يدل عليها ، فهذا اللفظ يدل على الرجعة وقد نوى قائله الرجعة ، والعبرة بالمعاني لا بالمباني وبالقصود لا بالألفاظ.
وفرق بين النكاح والرجعة ؛ فإن النكاح ابتداء وأما الرجعة فهي إعادة لهذه المرأة في الزوجية ، فالمعقود عليها في النكاح أجنبية ، وأما المتلفظ لها في الرجعة فهي زوجه كما تقدم في قوله تعالى { وبعولتهن } .
قال : [ ويسن الإشهاد ]
ويسن له أن يشهد على الرجعة.
قالوا : لأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول من المرأة ولا من الولي وما كان كذلك لم تفتقر إلى الإشهاد ، وهو قول جمهور العلماء.
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الإشهاد شرط في صحة الرجعة فلا تصح الرجعة إلا بالإشهاد ، وهو القول القديم للشافعي.(21/85)
والذي يترجح أن الإشهاد واجب وليس بشرط ويدل على هذا قوله تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ، وظاهر الأمر الوجوب ، ويدل على وجوبها وأنها تصح مع عدم الإشهاد ، ماثبت في سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح أن عمران بن الحصين سئل عن الرجل يُطلِّق ولا يشهد ويراجع ولا يشهد فقال: " طلقت لغير سنة وأرجعت لغير سنة ، أشهد على طلاقها وأشهد على رجعتها ولا تعد "(1) ، فالذي يترجح هو وجوب الإشهاد لكن ليس بشرط في صحتها بل تصح الرجعة ولو لم يشهد ، وإنما قلنا بوجوبه لقوله تعالى: { وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم } (2) ، ولقول عمران بن الحصين: " وأرجعت لغير سنة " ، ولأن عدم الإشهاد ذريعة إلى كتمان الطلاق فقد يطلق الرجل امرأته المرة الأولى ثم يطلقها المرة الثانية ولا يشهد ، ثم يطلقها الثالثة ، فيكتم الطلقتين الأوليين فيسول له الشيطان إبقاءها عنده بخلاف ما إذا أشهد على الطلقة الأولى والطلقة الثانية فإن الأمر يكون بيِّناً.
قال : [ وهي زوجة ، لها وعليها حكم الزوجات ولكن لا قسم لها ]
هذا هو حكم الزوجة المطلقة الطلاق غير البائن في عدتها، فحكمها حكم الزوجات فلها ما لهن من النفقة والسكن وعليها ما على الزوجات بالمعروف ، ومن ذلك أنها لا تخرج من بيتها ولكن لا قسم لها قال تعالى : { واتقوا الله [ ربكم ] لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } (3) .
والمشهور في المذهب : أنه يحل له أن يطأها وأنها تتزين له وتتشرف له وله أن يطأها ويخلو بها وغير ذلك من الأحكام.
وقال الشافعية : بل هي محرمة عليه ؛ وذلك لأن هذه الطلقة ثبت معها التحريم فهي طلقة وقعت فثبت معها التحريم .
__________
(2) سورة الطلاق 2
(3) سورة الطلاق 1(21/86)
والذي يقوى عندي – والله أعلم – أن الوطء ينهى عنه ، وأما تشرفها له وتزينها له والخلوة بها والسفر بها فهو جائز ، وأما الوطء فإنه يمنع منه ؛ وذلك لأن في المنع منه سبباً لإرجاعها ؛ وذلك لأنه إذا علم أنه لا يمكن من وطئها إلا بأن يراجعها فإن المنع من الوطء يكون ذريعةً إلى إرجاعها والإرجاع محبوب إلى الله تعالى، ولأن هذه الطلقة كما ذكروا ثبت بها التحريم وإنما كان له حق الرجوع ، وأما الخلوة بها ونحو ذلك فإنها تستثنى بدليل أن الله تعالى نهاهن من الخروج من بيوتهن ومعلوم أن بقاءها في بيتها يكون فيه خلوة، وغير الخلوة مما تقدم ذكره في السفر بها ونحوه له حكم الخلوة.
قال : [ وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها ]
وتقدم أن الحنابلة يجيزون الوطء فإذا وطئها فإن الرجعة تحصل بها سواء نوى به الرجعة أم لم ينوِ به الرجعة ، إذن : بالوطء المجرد تثبت الرجعة.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الرجعة لا تحصل بالوطء إلا بالنية ؛ وذلك لأن الوطء ليس صريحاً في إرادة إرجاعها فاشترط فيه النية ، وهذا القول هو الأظهر ، وعليه فإذا وطء الرجل امرأته ولم ينو بذلك الرجعة فلا يكون هذا الوطء رجعة بل لا يكون رجعة حتى ينويه .
وأما ما دون الوطء فظاهر كلام المؤلف وهو المذهب : أن الرجعة لا تحصل به فإذا استمتع بها بما دون الوطء كأن يقبلها أو يباشرها فإن الرجعة لا تحصل به في المذهب.
وقال الأحناف : بل تحصل به ؛ وذلك لأن الاستمتاع بالمرأة لا يحل إلا بالزوجية ، وقولهم أظهر لكن بشرط النية كما تقدم ، فإذا باشرها أو قبلها أو نحو ذلك وهو ينوي الرجعة فإن الرجعة تحصل بذلك.
قال: [ ولا تصح معلقةً بشرط ](21/87)
اتفاقاً ، فلا يصح أن يراجع امرأته ويعلق هذا بشرط ، كالنكاح ، فليس له أن يقول : راجعتك إن كان كذا ، بل لابد وأن يكون منجزاً كالنكاح ، بخلاف الطلاق الذي هو فراق للمرأة ، وأما الرجعة ففيها استدامة لنكاحها فأشبه ابتداء النكاح في هذا الحكم.
قال : [ فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها ]
عدة المطلقة ثلاثة قروء أي حيضات، فإذا حاضت الحيضة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم انقطع عنها الدم فبانقطاع الدم يتم لها ثلاثة قروء ، فله أن يراجعها قبل أن تغتسل ، فإذا انقطع الدم فجلست ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين أو شهراً أو سنة ولم تغتسل فله أن يراجعها وهو ظاهر المذهب وأن له أن يراجعها وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة ، قالوا : لأنه قول عمر وعلي وابن مسعود كما في مصنف عبد الرزاق ، قالوا : ولا يعلم لهم مخالف.
ورجَّح الموفق أن ذلك بحيث يلزمها الغسل ، فلو طهرت بعد طلوع الفجر فإنها لا تلزم بالغسل حينئذٍ وإنما تلزم به إذا خشي فوات وقت الظهر ، فإذا راجعها في هذه الساعات فالرجعة صحيحة ، لكن لو أخرت الاغتسال حتى خشي خروج الوقت فإن الرجعة لا تصح وتكون قد خرجت من عدتها ، وهذا القول أظهر - على ترجيح هذا القول -.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي : أنها بانقطاع الدم في القرء الثالث تكون قد خرجت من عدتها ، قالوا : وهذا ظاهر قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } (1) ، فإن قوله ( في ذلك ) الإشارة هنا تعود إلى العدة المذكورة ، وهي ثلاثة قروء ، فجعل العدة ظرفاً لأحقية الزوج بالرجعة ، ومفهوم هذه الآية أن هذه القروء إذا مضت ولم يراجعها فإنه ليس له أن يراجعها.(21/88)
وقالوا : ولأن سائر الأحكام كذلك ، فما هو الدليل على استثناء هذه المسألة ، وإلحاق الشيء بنظيره أولى ، ولذا فالحنابلة يقولون بالتوارث(1) فيما إذا طلق امرأته فاستمرت في عدتها ثلاثة قروء فانقطع الدم في القرء الثالث ومات بعد انقطاعه وهي لم تغتسل ، فإنه لا توارث بينهما في المذهب ، ولا شك أن إلحاق النظير بنظيره أولى ، وكذلك اللعان إذا انقطع الدم عنها في القرء الثالث فقذفها بعد انقطاعه وقبل غسلها ، فلا نقول بإيقاعه بل يكون قذفاً لأنها تكون أجنبية عنه حينئذٍ .
وهذا القول هو الأرجح من جهة الدليل .
لكن يشكل عليه ما ذكره الحنابلة من أن هؤلاء الصحابة لا يعلم لهم مخالف .
فإن صحَّ ذكر الخلاف في أن بعض الصحابة ، كعائشة وابن عمر وزيد بن ثابت كما في الموطأ : أنهم كانوا يرون أن الأقراء هي الأطهار ، إن صح أن يكون هذا مخالفة منهم لمن تقدم ذكرهم ، فيدفع هذا القول بقولهم .
وإلا فقد يقال إن الصحابة القائلين بأن الأقراء هي الحيضات كلهم قد قالوا : إن انقطع عنها الدم ولم تغتسل فله الرجعة والله أعلم.
لكن من حيث الدليل ما ذهب إليه الجمهور أقوى ، وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي . والله أعلم .
قال : [ وإن فرغت عدتها قبل رجعتها بانت وحرمت قبل عقد جديد ]
فإذا فرغت العدة قبل رجعتها فإنها تبين منه وتحرم عليه إلا بعقد جديد يشترط فيه الولي والصداق وغير ذلك ، وهذا هو مفهوم قوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } (2) ، فظاهره أنهم ليسوا بأحق بردهن بعد ذلك أي بعد العدة ، وهذا باتفاق العلماء.
قال : [ ومن طلَّق دون ما يملك ثم راجع أو تزوج لم يملك أكثر مما بقي وطئها زوجٌ غيره أو لا ]
__________
(1) في الأصل : بالتواتر .(21/89)
فإذا طلق رجل امرأته دون ما يملك من عدد الطلاق كأن يطلقها الحر طلقة أو طلقتين فمضت العدة ولم يراجعها ثم تزوجت بزوج آخر أو لم تتزوج زوجاً آخر ثم عقد عليها زوجها الأول عقداً جديداً فلا يبطل الطلاق بل يبقى عليه طلقة حيث طلقها طلقتين ، ويبقى طلقتان حيث طلقها طلقة.
أما حيث لم تتزوج زوجاً آخر فهذا باتفاق أهل العلم لا نزاع بينهم في ذلك ، فإذا طلق الرجل امرأته فانتهت عدتها ثم عقد عليها عقداً جديداً فتحسب عليه تلك الطلقة بلا نزاعٍ بين العلماء ، والطلاق ثابت وواقع ولا دليل على رفعه.
وأما إذا عقبه عليها زوجٌ آخر فهل يحسب عليه طلاقه الأول أم لا ؟
قولان لأهل العلم :
القول الأول ، وهو مذهب جمهور العلماء : أنه(1) يحسب عليه الطلاق الأول ، وهو قول أكابر الصحابة كما قال ذلك الإمام أحمد ، وممن قال به ؛ عمر بن الخطاب كما في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح(2) ، قالوا : والزوج الآخر ليس شرطاً في إحلالها للزوج الأول فلم يكن مؤثراً في إذهاب الطلاق السابق ، فكان هذا النكاح الثاني وجوده كعدمه لا يغير من حكم الطلاق شيئاً.
القول الثاني ، وهو مذهب الأحناف : (3) أنه لا يحسب عليه الطلاق السابق وهو قول طائفةٍ من الصحابة وممن روي عنه هذا القول : ابن مسعود و ابن عمر وابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق ، قالوا : لأن هذا الحكم أولى من البينونة الكبرى ، فإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ثم نكحها زوجٌ آخر فإنه ينكحها بعده الأول بلا طلاق سابق إجماعاً ، أي لا يحسب عليه الطلاق السابق ، فإذا ثبت هذا في البينونة الكبرى فالبينونة الصغرى أولى – والبينونة الصغرى لا يشترط فيها نكاح زوجٍ آخر –.
__________
(1) في الأصل : أن الحكم أنها يحسب عليه الطلاق الأول .
(3) في الأصل : " وقال الأحناف ، وهو قول طائفة من الصحابة وممن روي عنه هذا القول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق ، قالوا : إنه لا يحسب .. "(21/90)
وفي القولين قوة ، لكن القول الأول فيما يظهر لي أرجح ، لأنه قول أكابر الصحابة ، ولأن ثمت فرقاً بين الطلاق الثلاث الذي تحصل به البينونة الكبرى وبين الطلاق الذي دونه الذي تحصل(1) به البينونة الصغرى حيث نكحت زوجاً آخر ؛ وذلك أنها إذا نكحت زوجاً آخر فلا يمكن أن نمكنها من نكاح هذا الزوج ونحسب عليها طلاقاً ؛ لأنا إذا حسبنا الطلاق ، فالطلاق ثلاث ، وعليه فلا يمكن نكاحها ، فأبطلنا الطلاق السابق كله واستأنفوا نكاحاً جديداً .
وأما في المسألة الأخرى فإن النكاح إنما تحسب فيه طلقة، وعليه فإنه يمكن إكمال الزواج وإتمامه بينهما ؛ لأنا لا نحسب عليهما إلا طلقة أو طلقتين، والمسألة فيها تجاذب كما ذكر ابن القيم ، إلا أن الأولى فيما يظهر لي ما ذهب إليه الجمهور ، والله أعلم.
الدرس السادس والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قال : [ وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها ]
فإذا ادعت المطلقة طلاقاً غير بائن ؛ أن عدتها قد انقضت في زمن يمكن انقضاء العدة فيه ، أو ادعت أنها وضعت حملاً ممكناً وأنكر ذلك الزوج – فالقول قولها؛ لأن هذا الأمر لا يعلم إلا من جهتها فكان القول قولها ولذا قال تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } (2) ، وذلك لأنهن مؤتمنات على ذلك.
قال : [ وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها ]
اللحظة هنا لتحقيق انقضاء الدم ، فالحرة عدتها ثلاث حيض ، وأما الأمة فعدتها حيضتان ، فإذا ادعت انقضاء العدة في تسعة وعشرين يوماً فهذا ممكن ، وأما أقل من تسعة وعشرين يوماً فهذا لا يقبل ، وذلك لما تقدم من أن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً وأن أقل الحيض يومٌ(3) .
__________
(1) في الأصل : " الذي بينه البينونة الصغرى .. "
(3) في الأصل : يوماً .(21/91)
فإذا حاضت يوماً ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً - فهذه أربعة عشر يوماً – ثم حاضت يوماً – فهذه خمسة عشر يوماً – ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً – فهذه ثمانية وعشرون يوماً – ثم حاضت يوماً – فهذه تسعة وعشرون يوماً – ثم في لحظه تحقق انقطاع الدم فحينئذٍ تكون بذلك قد انقضت عدتها .
فإن ادعته في أقل من تسعة وعشرين يوماً فإن هذا غير ممكن ، وهذا ينبني على ما تقدم من أقل الحيض وأقل الطهر وتقدم ترجيح شيخ الإسلام ؛ وأنه ليس لأقل الحيض شيءٌ محدد ، خلافاً لما ذهب إليه الحنابلة.
فإن ادعته في هذه المدة فهل يقبل قولها بلا بينة أم لا ؟
[ القول الأول وهو ] (1) المشهور في المذهب أنه: لا يقبل قولها إلا ببينة ؛ وذلك لندور ذلك فإنه يندر أن تحيض امرأة في تسعة وعشرين يوماً ثلاث حيض وعليه فلا بد أن تشهد لها نساؤها العدول.
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يقبل قولها ؛ لأنه ممكن وهي مؤتمنة على نفسها.
وهذا فيما يظهر لي أظهر ؛ فهي مؤتمنة على نفسها فالقول قولها لا فرق بين أن يكون هذا الشيء نادراً أو غير نادر.
قال : [ وإن بدأته فقالت : انقضت عدتي فقال : كنتُ راجعتك ]
فإذا قالت المرأة لزوجها: " انقضت عدتي " فقال: " كنت راجعتك " فالقول قولها إلا أن يكون له بينة ، فإن(2) أتى ببينةٍ تشهد على أنه راجعها قبل انقضاء عدتها فلا شك أن البينة يحكم بها .
لكن إن لم يكن له بينة ، فالقول قولها ؛ وذلك لأن الظاهر حصول البينونة ، والأصل عدم الرجعة ، فالأصل عدم ما يدعيه هو ، أي الأصل هو البينونة ، فهو يدعي خلاف الأصل فيطالب بالبينة ، فإن أتى بها وإلا فالقول قولها.
قال : [ أو بدأها به ، فأنكرته فقولها ]
__________
(1) ليست في الأصل .
(2) في الأصل : فإذا .(21/92)
إذا بدأها هو بذلك فقال: " كنت راجعتك " فقالت: " قد انقضت عدتي قبل أن تراجعني " فالقول قولها ؛ لأن الأصل هنا حصول البينونة ، وما يذكره من الرجعة خلاف الأصل ولا فرق بين أن يكون قد ابتدأها هو أو ابتدأته هي وما ذكره المؤلف هو قول في المذهب.
وأما المشهور في المذهب فهو خلاف ما ذكره المؤلف : فقد فرقوا بين ما إذا بدأها ، وبين ما إذا بدأته ، فقالوا : إذا ابتدأته فالقول قولها ، وأما إذا بدأها هو فالقول قوله .
وسرّ الفرق عندهم : أنه إذا بدأها هو فإن ذلك يكون قبل الحكم بانقضاء عدتها ، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها بقولها : انقضت عدتي ، وأما [ إن ] ابتدأته هي فبقولها هذا يكون الحكم بانقضاء العدة ، فيكون قوله وهو ادعاء الرجعة بعد الحكم بانقضاء العدة.
لكن الراجح ما تقدم ، وهذا التفريق ليس بمؤثر لأن الأصل معها ، فالأصل هو حصول البينونة وعدم الرجعة في المسألتين كلتيهما.
مسألة :
المشهور في المذهب وهو ظاهر إطلاق المؤلف هنا : أن المرأة إذا ادعت ما ادعته من انقضاء العدة فإنها لا تطالب باليمين ، فالقول قولها بلا يمين ، وذلك لأن الرجعة لا يصح بذلها ، فالمال يصح بذله فلو أن رجلاً قيل له : "احلف " فقال " لا أحلف " يترتب على ذلك أن هذا المال المدعى عليه يُبذل ، فيكون قد بذل هذا المال ، والبذل للمال يصح ، لكن البذل للفرج لا يصح ، فإن امتناعها من الحلف يترتب عليه(1) بذل لفرجها وهذا ممنوع كالحدود ، فكما أن الحدود لا يستحلف فيها فكذلك في مثل هذه المسائل ، وذلك لأن الرجعة لا يصح بذلها ، وذلك لأنه بذل لفرج فلابد وأن يكون بحق.
__________
(1) في الأصل : فإن في امتناعها من الحلف يترتب على ذلك بذل فرجها .. "(21/93)
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية وهو قول في المذهب : أنها تطالب باليمين ، فلا يقبل قولها إلا باليمين ، وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) (1)
__________
(1) قال في الأربعين النووية عن حديث " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر " : "حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين " .
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 10 / 252 ) في أول كتاب الدعوى والبينات قال : " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا يحيى بن أبي طالب أنبأ عبد الوهاب بن عطاء أنبأ ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) .
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو عمرو بن أبي جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ثنا أبو طاهر ثنا ابن وهب أخبرني ابن جريج ، فذكره بإسناده نحوه ، رواه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب .
أخبرنا أبو عمر ومحمد بن عبد الله الأديب أنبأ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني عمران بن موسى ثنا نصر بن علي الجهضمي ثنا عبد الله بن داود أنبأ بن جريج عن ابن أبي مليكة : أن امرأتين كانت تخرزان في بيت ، فخرجت إحداهما وقد انفذ بأشفافي كفها ، فرفعت إلى ابن عباس ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم ) ذكروها بالله واقرؤوا عليها { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } فذكروها فاعترفت ، وقال ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اليمين على المدعى عليه ) رواه البخاري في الصحيح عن نصر بن علي ، على هذا رواية الجماعة عن ابن جريج .
وأخبرنا أبو عمرو الأديب أنبأ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني الحسن بن سفيان ثنا صفوان بن صالح ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة قا ل: رفع إلي امرأة تزعم أن صاحبتها وجأتها بأشفا حتى ظهر من كفها ، فسألتُ ابن عباس فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ، ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب ) .
أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد الصفار ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا الحسن بن سهل ثنا عبد الله بن إدريس ثنا ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال : كنت قاضياً لابن الزبير على الطائف ، فذكر قصة المرأتين قال : فكتبتُ إلى ابن عباس ، فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ، ولكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) وذكر الحديث " .(21/94)
، وهذا القول أرجح لعموم الحديث.
وأما كونها يترتب على تركها للحلف بذلها لفرجها وهذا لا يصح.
فالجواب : أنه لا يحل لها أن تمتنع من الحلف فإن في امتناعها من الحلف بذلاً لفرجها منها ، وبذلها للفرج محرم ، والحلف وسيلة إليه فيكون ترك الحلف محرماً عليها ، بخلاف ترك الحلف في الأموال فقد يترك الرجل اليمين ويفدي نفسه بماله منها.
وهل يثبت حق الزوج بالنكول أم لا ؟
إذا ادعت انقضاء عدتها فقيل لها: احلفي فامتنعت ، هذا هو النكول ، فهل يقضى للزوج بالرجعة إذا نكلت أم لا ؟
قولان لأهل العلم :
القول الأول : أنه لا يحكم بالنكول هنا ، وذلك للعلة المتقدمة وهي أن الرجعة فيها بذل للفرج ولا يصح بذله فلم يبذل بالنكول وهو المشهور في المذهب.
القول الثاني ، وهو مذهب الشافعية وذكره الموفق احتمالاً وهو الراجح : أنه يقضى بالنكول لكن يستحلف الزوج ، فإذا نكلت عن الحلف فحينئذٍ يظهر صدق الزوج ويكون جانبه أقوى من جانبها وعليه فيستحلف لأن من قوي جانبه فالقول قوله بيمينه ، فهي في الأصل صاحبة الجنب القوي لما نكلت ضعف جانبها وقوى جانب الزوج وحينئذٍ يستحلف فإن حلف قضي له بالرجعة.
فصل
قال : [ إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت عليه حتى يطأها زوجٌ ]
إذا استوفى الزوج ما يملك من عدد الطلاق وهو ثلاث تطليقات للحر ، وتطليقتان للعبد ، فإنها تحرم عليه زوجته حتى يطأها زوج آخر ، لقوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } (1).
قال : [ في قبل ولو مراهقاً ]
__________
(1) سورة البقرة .(21/95)
أي أن يكون ذلك وطأً في قُبُل ولو كان الواطئ مراهقاً لحصول الوطء منه ، ودليل اشتراط الوطء : ما ثبت في الصحيحين أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هُدبة الثوب "، فقال : ( تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك )(1) ، أي حتى يذوق منك حلاوة الجماع وتذوقي منه حلاوته ، وذلك بالوطء.
قال : [ ويكفي تغييبُ الحشَفَة ]
وذلك لأن أحكام الوطء تترتب على تغييب الحشفة ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ) (2).
قال : [ أو قدرِها مع جبٍ ]
أي المجبوب يكون بقدرها لأنها بمنزلة الحشفة من غيره.
قال : [ في فرجها مع انتشارٍ ]
أي في فرج المرأة مع انتشار للذكر ؛ لأنه مع عدم الانتشار لا يكون قد ذاق عسيلتها.
قال : [ وإن لم ينزل ]
وذلك لأن ذوق العسيلة يحصل بدونه.
قال : [ ولا تحل بوطء دبرٍ ]
وذلك لأن الدبر ليس محلاً للوطء الشرعي فلا تترتب عليه الأحكام الشرعية.
قال : [ وشبهةٍ ]
رجل طلق امرأته ثلاثاً فوطئها رجل يظنها زوجته ، فلا تحل للأول ؛ وذلك لأن هذا ليس بنكاح.
قال : [ وملك يمين ]
إذا طلق امرأته ثلاثاً وهي أمة فوطئها سيدها فلا تحل للأول ؛ وذلك لأن وطء السيد ليس بنكاح ، وقد قال تعالى : { حتى تنكح زوجاً غيره } .
قال : [ ونكاحٍ فاسد ]
كالنكاح بلا ولي – عند من لا يقول به – ؛ وذلك لأن إطلاق النكاح يقتضي النكاح الصحيح { حتى تنكح } ، أي حتى تنكح نكاحاً صحيحاً.
قال : [ ولا في حيضٍ ونفاس وإحرام وصيام فرض ]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب من أجاز طلاق الثلاث ( 5260 ) ، ومسلم ( 1433 ) .(21/96)
فإذا عقد عليها الزوج الثاني ووطئها وهي حائض أو نفساء أو في إحرامٍ منه أو منها أو صيام فرض سواءً كان الصائم هو أو هي أو هما جميعاً ، فإن هذا الوطء لا تتحلل به للزوج الأول ، وذلك لأنه محرم لحق الله تعالى فلم يحصل به الوطء الذي يترتب عليه التحليل هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الأحناف والشافعية وهو اختيار الموفق : إلى أن هذا الوطء يحصل به التحليل للزوج الأول ، وهذا هو الأرجح ؛ وذلك لأنه ظاهر القرآن وظاهر السنة فإنه إذا وطئها فقد نكحها ، فظاهر قوله تعالى : { حتى تنكح زوجاً غيره } حاصل بذلك ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) حاصل بذلك.
قال : [ ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها وانقضاء عدتها منه فله نكاحها إن صدَّقها وأمكن ]
إذا طلق رجل امرأته طلاقاً بائناً ثم غابت عنه أو غاب عنها فادعت أنها قد تزوجت بعده زوجاً آخر وادعت أن عدتها قد انقضت فله نكاحها إن صدقها ، وأمكن ذلك ، بمعنى أن يكون الوقت متسعاً لأنها مؤتمنة على نفسها.
الدرس السابع والخمسون بعد الثلاثمائة
كتاب الإيلاء
الإيلاء : هو الحلف ، من آلى يولي إذا حلف ، والأليَّة هي اليمين.
وعرّف المؤلف الإيلاء بقوله :
[ وهو حلف زوجٍ بالله تعالى أو صفته على ترك وطء زوجته في قبلها أكثر من أربعة أشهر ]
والأصل في الإيلاء قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } (1).
__________
(1) سورة البقرة .(21/97)
قوله " هو حلف زوجٍ بالله تعالى أو صفته " ظاهر قول المؤلف أنه لو حلف بنذرٍ أو حلف بطلاقٍ أو حلف بعتقٍ فليس بإيلاء وهذا هو المشهور في المذهب ، قالوا : لأن حقيقة اليمين أن تكون بالله ، فلو قال: " علي صوم الدهر إن وطئتك " فهذا حلف بنذر ، أو قال: " علي الطلاق إن وطئتك " فهذا حلف بالطلاق أو قال: " إن وطئتك فعبيدي أحرار " فهذا حلف بالعتق.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور ورواية عن الإمام أحمد: أنه إيلاء ؛ وذلك لأنها يمين في الامتناع عن وطء المرأة فكان إيلاءً.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، وذلك لأن الحلف بالنذر أو بالطلاق أو بالعتق يمين ، سواء قلنا هي يمين حقيقية أو يمين مجازية ، فإنها تدخل في قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } .
[ قوله: ] " على ترك وطء زوجته " ؛ سواء كانت الزوجة مسلمة أو ذمية لعموم قوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم } ، وأما لو كانت سُرّيته – أي أمته – فليس بإيلاءٍ لأنها لا تدخل في نسائه فلا تدخل في الآية.
" أكثر من أربعة أشهر " : أما إذا كانت المدة أربعة أشهر فأقل فليس بإيلاء ، فلو قال لامرأته: " والله لا وطئتك أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر " فليس بمولٍ لظاهر الآية، فإن الله تعالى قال : { تربص أربعة أشهر } ، وفي الصحيحين – وهذا لفظ البخاري- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهراً(1) .
الإيلاء الممنوع – وهو محرم لما فيه من ترك الوطء الواجب – إنما يكون في مدة أكثر من أربعة أشهر ، وإذا كان يضر بها الشهر والشهران فإنه لا يحل له ، ولكن ليس له حكم الإيلاء ؛ لظاهر الآية.
قال : [ ويصح من كافر ]
يصح الإيلاء من كافر لعموم الآية { للذين يؤلون من نسائهم } ، وهذا يعم الكافر والمسلم ، أي إذا ترافع إلينا وتقاضى إلينا فإنه يحكم عليه كما يحكم على المسلم في الإيلاء.
قال : [ وقنٍّ ](21/98)
أي عبد ، لعموم قوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ، فالآية عامة في العبد والحر ، فلو آلى الرقيق أن لا يطأ زوجته فهذا إيلاء لعموم الآية.
قال : [ ومميزٍ ]
فإذا كان الزوج صبياً مميزاً لم يبلغ بعد فآلى من زوجته فكذلك هو إيلاء لعموم الآية ، ولأن طلاقه يصح فصح إيلاؤه.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار الموفق : أن حلف الصبي ليس بإيلاء لأنه غير مكلف .
والراجح هو القول الأول ، وذلك لتعلق ذلك بحق الآدمي – وهي الزوجة- ، لكن لا كفارة عليه لأن الكفارة حقٌ لله تعالى وهو ليس بمكلف ، لكنه يُتربص به أربعة أشهر فإن فاء وإلا أُمر بالطلاق لعموم الآية، [ فهو في حكم الإيلاء كما سيأتي.] (1)
قال : [ وغضبان وسكران ]
هنا كالطلاق ، وقد تقدم التفصيل في مسألة الغضبان ، وتقدم أن طلاق السكران لا يقع ، فكذلك إيلاؤه ، فهاتان المسألتان مبنيتان على طلاق الغضبان وطلاق السكران.
قال : [ ومريضٍ مرجو برؤه ]
فإذا آلى المريض الذي يرجى برؤه فهو إيلاء لعموم الآية، أما إذا كان غير مرجو الشفاء من هذا المرض ، كأن يكون به شلل أو أن يكون مجبوباً أو غير ذلك فلا إيلاء له ؛ وذلك لأن الامتناع عن الوطء ليس سببه في الحقيقة اليمين إنما سببه العجز عن الوطء فكانت اليمين لغواً ؛ لأنه حلف على شيء مستحيل فقد حلف على ترك ما يستحيل عليه فعله.
قال : [ وممن لم يدخل بها ]
لعموم الآية ، فالآية في المدخول بها من النساء وغير المدخول بها.
قال : [ لا من مجنون ومغمى عليه ]
لأنهما لا قول لهما ، وكذلك النائم ، وهي يمين فلم تصح ممن لا قول له ، ولذا فالصبي غير المميز لا إيلاء له لأن قوله لا ينعقد.
قال : [ وعاجزٍ عن وطء لجبٍ أو شلل ]
لأن الامتناع عن الوطء سببه العجز لا اليمين.
قال : [ فإذا قال : والله لا وطئتك أبداً ] إلى أن قال : [ فمول ]
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل .(21/99)
إذا قال الرجل لامرأته: " والله لا وطئتك أبداً " فهو مولٍ ؛ لأنه قطعاً أكثر من أربعة أشهر ، كذلك إن قال: " والله لا وطئتك " لأن الأصل في اليمين التأبيد ، أو قال لها: " والله لا وطئتك مدة " ولم يعين هذه المدة بلفظه لكنه عينها في قلبه بأكثر من أربعة أشهر كأن ينوي سنة وتقدم أن الأيمان مبناها على النيات ، فهنا لفظه يحتمل أقل من أربعة أشهر ويحتمل أربعة أشهر ويحتمل أكثر من أربعة أشهر فانصرفت اليمين إلى أكثر من أربعة أشهر لنيته.
قال : [ أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر ]
فإذا قال: " والله لا وطئتك سنة " فهو مولٍ.
قال : [ أو حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال ]
فكذلك لأن ذلك ونحوه يغلب على الظن أنه لا يكون إلا بعد أربعة أشهر.
قال : [ أو حتى تشربي الخمر أو تسقطي دينك أو تهبي مالك ونحوه فمولٍ ]
في كل هذه الألفاظ يكون مولياً.
قال : [ فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً ]
لا نقول إن القن يتربص به شهران لعموم الآية ، فالآية عامة في العبد والحر وأنه يتربص بهم أربعة أشهر.
قال : [ فإن وطئ ولو بتغييب حشفةٍ(1) ]
تقدم أن الأحكام تترتب بتغيب الحشفة.
قال : [ فقد فاء وإلا أمر بالطلاق ]
فإذا مضت أربعة أشهر من يمينه فإن وطء المرأة بتغييب الحشفة في قبلها فإنه يكون قد فاء ، وعليه كفارة اليمين ، وهذه المدة يتربصها حيث لا عذر من جهة المرأة أي بأن يكون متمكناً من وطئها هذه المدة ، أما إذا كان في المرأة عذر سوى الحيض فإنه تستأنف هذه المدة بعد زوال هذا العذر .
وإذا كانت المرأة ناشزاً أو كانت المرأة نفساء ، في أصح الوجهين ، أو كانت المرأة محرمة أو غير ذلك من الأعذار التي تكون من جهتها ، هذه تقتضي استئناف المدة.
إذا نشزت المرأة أثناء مدة التربص فإنه يتربص به أربعة أشهر أخرى ؛ وذلك لأن هذا التربص لهذه المدة حيث أمكنه الوطء وهنا لم يمكنه الوطء لأمر من جهتها.
__________
(1) في الأصل : الحشفة .(21/100)
وأما إذا كان لأمر من جهته هو ، كأن يحبس أو غير ذلك ، فإنه يتربص به أربعة أشهر بما فيها هذه المدة التي له فيها عذر ، وذلك لأن المانع من جهته هو وليس من جهة المرأة ، وهذا حق آدمي فلم يقبل فيه هذا العذر.
وأما الحيض فلا ، وذلك لأن الحيض لا يخلو منه شهر ، فلو جعلناه عذراً تستأنف بعد زواله مدة التربص لأدى ذلك إلى عدم وطئها أبداً.
قال: " فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه " ولا يفتقر هذا إلى حكم حاكم ، وذلك لأن الله نص عليه فإذا حلف ألا يطأها قبل شهر وترافعا اليوم إلى القاضي فلا يتربص أربعة أشهر ابتداءً من اليوم بل ابتداءً من اليمين ، فلا يُتوقف في مدة التربص على حكم الحاكم وإنما يبتدأ بها – أي عدة التربص – من يمينه ، وذلك لأن هذه المدة منصوص عليها فلم يفتقر ذلك إلى حكم حاكم.
قال : " فإن وطئ ولو بتغييب حشفة " : ولو كانت المرأة حائضاً أو نفساء أو كانت محرمة أو كانت صائمة فرضاً ، فإن هذا وطء صحيح .
إذا وطئها وهي محرمة ، فإنه بذلك لا يكون مولياً ، بل يكون قد أفاء ، وذلك لأنه وطء ، فتنحل به يمينه ، أي يكون حانثاً .
إذا حلف ألا يطأها أربعة أشهر وبعد شهرين وطئها وهي حائض أو وطئها وهي محرمة أو وهي صائمة ، فبذلك يزول عنه حكم الإيلاء ، ويكون حانثاً في يمينه وعليه كفارة يمين .
وكذلك إن وطئها ناسياً أو جاهلاً ، فإنه يزول بذلك الإيلاء ويسقط حكمه ؛ لثبوت الوطء .
حلف ألا يطأها سنة ، فوطئها ناسياً بعد شهر ، يزول بذلك ويسقط حكم الإيلاء ؛ وذلك لزوال الضرر عنها ، فإن الضرر بالامتناع عن الوطء زال بذلك .
لكن هل يحنث أو لا يحنث ؟
أصح الروايتين عن الإمام أحمد : أنه لا يحنث ، وذلك لما تقدم ، وأن من فعل ما حلف ألا يفعله ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً ، فإنه لا يحنث .
قال : [ وإلا أُمر الطلاق ](21/101)
مضت الأربعة أشهر ، فأبى أن يفيء ، يعني أبى أن يطأ المرأة ، فإنه يؤمر بالطلاق ، يقول له الحاكم : " طلِّق " ، لقوله تعالى :{ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق ، فإن الله سميع عليم } .
ولا تطلق عليه بمضي الأربعة أشهر ، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق .
ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إذا مضت أربعة أشهر يوقف المُولي ، ولا يقع الطلاق حتى يطلِّق "(1) .
يوقف المولي : يقال له : إما أن تفيء ، وإما أن تطلق ، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق ، رواه البخاري في صحيحه وقال : ويذكر عن عثمان وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " ا.هـ .
وروى كثيراً من هذه الآثار البيهقي في سننه ، ولا يُعلم لهؤلاء مخالف ، فكان ذلك إجماعاً ، خلافاً لأبي حنيفة ، فإنه يرى وقوع الطلاق بمجرد مضي المدة المذكورة . لكن الصحيح ما تقدم ، فإن الله قال : { فإن عزموا الطلاق } ، ولما تقدم من أثر ابن عمر وأثر من تقدم ذكره ، ولا يعلم لهم مخالف .
قال : [ فإن أبى طلق حاكمٌ عليه ]
إن أبى الطلاق فإنه يطلق القاضي عليه ، وذلك لأن الطلاق هنا بحق والطلاق مما تكون فيه النيابة ، كما تقدم في الوكالة بالطلاق.
قال : [ واحدةٌ أو ثلاثاً أو فسخ ]
يعني للقاضي أن يطلق واحدة وله أن يطلق ثلاثاً وله أن يفسخ.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي : أنه ليس له إلا أن يطلِّق واحدة ، كما أنه ليس له أن يأخذ من المدين سوى ما عليه من الحق ، فكذلك لا يطلق إلا واحدة ، والطلاق الثلاث تقدم أنه محرم.
وذكر القاضي من الحنابلة : أن المنصوص عن الإمام أحمد أن الطلاق يكون بائناً ، وفيه – فيما يظهر لي – قوة ، وذلك لأنه طلاق من قبل الحاكم فأشبه هذا الفراق الذي يكون في اللعان فإنه طلاق بائن.(21/102)
لكن لا يكون أبدياً للفرق بينهما ، فهذا يتهم امرأته بالزنا – أي الملاعن – وهذا ليس الأمر كذلك فلا يكون أبدياً ولكن يكون بائناً ، ولأن المقصود منه إزالة الضرر عن المرأة ، وإذا أجزنا له الرجعة فإننا نعيد الضرر إليها.
فالذي يترجح أن الطلاق يكون بائناً ، فتكون طلقة واحدة لكن الطلاق يكون بائناً وليس له الرجعة ، فإذا انقضت عدة المرأة أو قبل أن تنقضي عدتها فهو خاطب من الخطاب ، فإن رضيت ورضي وليها وإلا فلا حق له في نكاحها.
قال : [ وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء ]
إن وطء في الدبر أو دون الفرج أي باشرها دون الفرج فما فاء ، وذلك لأن الإيلاء امتناع عن الوطء في الفرج كما تقدم ، وعليه فلا تكون الفيئة أي الرجوع في وطء سواه أو المباشرة دونه ، لأن هذا لا يكون رجوعاً ولا فيئة بل الفيئة والرجوع أن يطأها في فرجها ، فإذا أتاها من دبرها أو باشرها دون الفرج فإنه مولٍ ولا يخرج عن حكم الإيلاء بهذا الوطء لأنه ليس بفيئة.
قال : [ وإن ادَّعى بقاء المدة ]
إن ادعى أن المدة لا زالت باقية ولا بينة للمرأة فالقول قوله ، لأنه هو المتلفظ وهو أعلم بقوله من غيره ، ولأن الأصل معه وهو بقاء المدة.
إذن : إذا اختلفا هو يقول: " لم تنقض المدة " وهي تقول: " بل انقضت " ولا بينة مع المرأة فالقول قوله لأن الأصل معه.
قال : [ أو أنه وطئها وهي ثيب صدِّق مع يمينه ]
يعني ادعى أنه وطئها قال: " بل وطئتها " ، وهي تقول: " لم يطأني " وهي ثيب صُدق ، لأن هذا الأمر لا يعلم إلا من جهته ، والحكم والأمر بالطلاق يتعلق به هو فكان القول قوله ، لكن مع يمينه ، لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، فهو منكر لعدم الوطء ، وهي تدعي عدم الوطء ، فكان القول قوله وعليه اليمين.
قال : [ وإن كانت بكراً أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدل صُدِّقت ](21/103)
إن كانت بكراً وهو يقول أنه قد وطئها ، أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل صُدقت ، لقيام ما يدل على كذبه ، فإذا ثبت أنها بكر بالبينة فحينئذٍ يحكم بقولها ، لأن ثبوت كونها بكراً يدل على كذبه في دعوى الوطء.
قال : [ وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فكمُولٍ ]
إذا امتنع من الوطء أكثر من أربعة أشهر إضراراً بها بلا يمين فهو مولٍ ، وذلك لأن هذا الامتناع بمعنى اليمين ، فالذي يحصل من اليمين قد حصل بهذا الامتناع ، ولأن حكم الإيلاء إنما شرع لدفع الضرر عنها الحاصل بامتناعه عن الوطء أكثر من أربعة أشهر ، فإذا امتنع بلا يمين فكذلك ، فعليه : إذا امتنع الرجل من وطء امرأته أكثر من أربعة أشهر فلها أن تطالب بالفيئة أو أن يطلق، وذلك لحصول الضرر هنا الحاصل باليمين .
وكذلك إذا لم يكفِّر كفارة الظهار فمضت أربعة أشهر ولم يكفر كفارة الظهار ، ولا يحل له أن يطأها حتى يكفر – لا يحل للمظاهر أن يطأ امرأته حتى يكفر بنص القرآن – فإذا تأخر عن الكفارة هذه المدة فكذلك ، لما في ذلك من الضرر عليها ، وهذا أيضاً امتناع عن الوطء فهذا فيه إضرارٌ بها فيؤمر بالكفارة ، يعني يقال له: " كفر وإلا طلق ".
الدرس الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة
كتاب الظهار
الظهار : مشتق من الظهر وهو ما يركب ، فالمرأة هي مركوب زوجها فسميت ظهراً.
ويتضح معنى الظهار في الفقه بما يأتي من كلام المؤلف ، وأصله قول الرجل لامرأته: " أنتِ علي كظهر أمي " ، قال تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً } (1).
قال : [ وهو محرم ]
__________
(1) سورة المجادلة .(21/104)
فالظهار محرمٌ إجماعاً للآية المتقدمة { وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً } ، فهو باعتبار الإنشاء منكر ؛ لأنه انشأ بتحريم المرأة بهذا اللفظ ولا شك أن هذا التحريم منه منكر ، فقد حرم ما هو مباح ، وهو خبرٌ كاذب ، لأنه أخبر أن امرأته كأمه في الوطء ولا شك أن هذا خبر كاذب.
قال : [ فمن شبَّه زوجته أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً ]
فمن شبَّه زوجته بجملتها أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه ، فإذا قال: " أنت علي حرام كأمي " فقد شبه جملة امرأته بجملة أمه ، أو ببعض أمه في قوله: " أنت علي كظهر أمي " ، وإذا قال: " أنت علي كأمي " فقد شبه جملة امرأته بجملة أمه ، وإذا قال: " فرجك علي حرام كأمي " فقد شبّه بعض امرأته بجملة أمه ، وإذا قال: " فرجك علي حرام كفرج أمي " فقد شبه بعض امرأته ببعض أمه.
قال : [ بنسبٍ أو رضاع ]
أو مصاهرة .
فإذا شبه امرأته بمن تحرم عليه على الأبد بنسب أو سببٍ مباح .
بنسب: كأمه، أو بسبب مباح كالرضاع ، كأن يقول: " أنت علي حرام كأختي من الرضاع " أو بسبب مباح آخر كالمصاهرة فقال " أنت علي حرام كأمك ".
وظاهر كلام المؤلف : أنه إن شبهها بمن تحرم عليه لا على التأبيد كأخت زوجته أو عمتها أو خالتها ، فإن ذلك ليس بظهار ، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي ؛ وذلك لأنه ليس بمنصوص عليه وليس بمعنى المنصوص عليه ، فليس تشبيهاً بالأم ، وليس تشبيهاً بمن تكون كالأم ، وذلك لأن الأم تحرم على التأبيد ، وهنا هذه المرأة وهي أخت زوجته ونحوها لا تحرم على التأبيد ، فإذا طلق امرأته أو بانت فيحل له أن ينكحها ، وقالوا : هو كما لو قال لامرأته: " أنت علي كزوجتي الحائض أو كزوجتي المُحرِمة ".(21/105)
والقول الثاني في المسألة وهو المشهور في المذهب ، وهو مذهب الإمام مالك: أن هذا ظهار ، وهذا هو الراجح ، وذلك لأنه تحريم ، وكونه على التأبيد أو على غيره بأن يكون إلى أمد هذا غير مؤثر، فقد شبه امرأته بمن تحرم عليه ، فأخت زوجته تحرم عليه ، فكما لو قال: " أنت علي حرام " وتقدم أن الراجح أنه إذا قال لامرأته: " أنت علي حرام " أنه ظهار فكذلك هنا ، وقياس ذلك على امرأته الحائض أو المُحرِمة قياس مع الفارق ، والفارق من وجهين :
أن امرأته الحائض يحل له أن يستمتع بها دون الفرج وامرأته المُحرِمة يحل له أن ينظر إليها.
أنه إذا وطئ امرأته الحائض أو المحرمة فعليه الإثم ولا حد ، وأما وطء أخت الزوجة فإن فيه حداً فهو زنا.
قال : [ من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل ]
هنا في بيان البعض ، من ظهر أو بطن أو عضو آخر كاليد أو الفخذ ، لا ينفصل أي لابد أن يكون العضو لا ينفصل ، أما إذا كان ينفصل كالشعر ونحوه فلا ، لما تقدم في كتاب الطلاق.
قال : [ بقوله لها: أنت علي أو معي أو مني كظهر أمي أو كيد أختي أو وجه حماتي ونحوه ]
فإذا قال لها: " أنت علي كظهر أمي " أو: " أنت معي كظهر أمي " أو: " أنت مني كظهر أمي " ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على الظهار .
فإن قال لها : أنت كأمي ، أو : أنت مثل أمي ، أو : أنت مثل أختي .
فإن كان ثمت قرينة تدل على إرادة الظهار كأن تكون هناك خصومة أو أن يكون قال ذلك في غضب فهو ظهار ، وأما إن لم تكن هناك قرينة فيُدين بنيته ويقبل ذلك حكماً ؛ لأن ذلك يحتمل أن يكون في الكرامة أي أني أكرمك كما أكرم أمي ، فإن هذا اللفظ يقع.
[ قوله: ] " أو وجه حماتي " الحماة مراده أم الزوجة(1).
__________
(1) في الأصل : أخت الزوجة .(21/106)
وعن الإمام أحمد أن التشبيه الذي يترتب عليه الظهار هو تشبيه جملة امرأته ، بأن يقول: " أنت عليَّ " أما إذا شبه بعضها فإن ذلك ليس بظهار ، فلو قال: " يدك علي أو فخذك علي كظهر أمي " فإن ذلك ليس بظهار وذلك لأنه ليس بمنصوص عليه.
وذهب جمهور العلماء إلى ما تقدم ذكره وهو الراجح ، فسواء شبه جملة امرأته أو بعضها بمن تحرم عليه فهو ظهار ؛ وذلك لأن المرأة لا تتبعض عليه حلاً وحرمة.
قال : [ أو أنت علي حرامٌ كالميتة والدم فهو مظاهر ]
تقدم هذا في درس سابق وأنه ظهار.
قال : [ وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته ]
إذا قالت الزوجة لزوجها: " أنت علي كظهر أبي " فليس بظهار ؛ لأن الله قد خصه بالذكور فقال: { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } وهذا هو مذهب جماهير العلماء ، فإذا قالته المرأة فليس بظهار لكن هل عليها الكفارة أم لا ؟
المشهور في المذهب : أن عليها كفارة ظهار كما قال المؤلف قياساً على الزوج.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور : أنه ليس عليها كفارة الظهار وليس عليها كفارة يمين ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، قالوا : لأنه ليس بظهار فيترتب على ذلك ألا كفارة فيه ، فالله عز وجل أوجب الكفارة فيما سماه ظهاراً ونحن لا نسمي هذا ظهاراً فلا تجب فيه كفارة الظهار ، وهو كما لو قال لأمته: " أنت علي كظهر أمي " فإن ذلك ليس بظهار عند أهل القولين ، فكذلك من باب أولى هذه المسألة فإذا كان قول الرجل لأمته: " أنت علي كظهر أمي " ليس بظهار فأولى من ذلك ألا يكون قول المرأة لزوجها ظهاراً.(21/107)
والقول الثالث في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول عطاء بن أبي رباح: " أن فيه كفارة اليمين " ، وذلك لأنه تحريم لشيء على سبيل الظهار فأشبه تحريم الطعام ونحوه ، وقد قال تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } بعد قوله { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } (1) ، وهذا القول الراجح في هذه المسألة ، وهو الأقيس على مذهب الإمام أحمد والأشبه بأصوله كما قال ذلك الموفق رحمه الله.
قال : [ ويصح من كل زوجة ]
يصح الظهار من كل زوجة ، أي يصح على كل زوجة ، سواء كانت الزوجة حرةً أم أمة ، مسلمة أو ذمية لأنها زوجة له ، فإذا تزوج أمةً فظاهر منها أو تزوج حرةً فظاهر منها فإن الظهار يقع لعموم قوله تعالى: { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } .
مسألة :
القاعدة هي : أن كل من يصح طلاقه يصح ظهاره.
فلا يصح ظهار الطفل غير المميز ولا ظهار المكره ولا المجنون ولا المغمى عليه ولا النائم ، وذلك لأنه لا حكم لقولهم في المسألتين ، أي في مسألة الطلاق ومسألة الظهار.
هل يصح ظهار السكران ؟
ينبني على الخلاف المتقدم في الطلاق ، وتقدم أن طلاقه – على الراجح – أنه لا يقع، فكذلك ظهاره .
هل يصح ظهار(2) الصبي ؟
تقدم أن في المسألة قولين ، وهذه المسألة تنبني على الخلاف المتقدم ، وقد تقدم أن طلاق الصبي يصح.
لكن الذي يترجح لي – في هذا الباب – وهو اختيار الموفق أن ظهار الصبي المميز لا يصح وإن كان طلاقه يقع كما تقدم ؛ وذلك لأن الظهار يمين مكفَّرة ، ويمين الصبي لا تنعقد ، ولأن الظهار منكر من القول وزور ، وقد أوجب الله هذه الكفارة لأن الظهار منكر من القول وزور ، والصبي مرفوع عنه القلم فهو غير مكلف فليس هذا منه منكراً من القول وزوراً .
__________
(1) سورة التحريم .
(2) في الأصل : طلاق .(21/108)
وعليه فالذي يترجح أن ظهار الصبي لا يصح ، وكذلك إيلاؤه كما تقدم ، فالكفارة لا تجب عليه ، وقد رجحتُ لكم في الدرس السابق أن إيلاء الصبي يصح ، هذا من باب إيقافه بعد أربعة أشهر دفعاً للضرر عن المرأة ، وأما من حيث الكفارة فلا ، فإنه لا كفارة عليه ، وعليه ؛ فالذي يتبين أنه لا يسمى إيلاء لكنه يكون في حكم الإيلاء وذلك دفعاً للضرر عن المرأة.
الدرس التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قوله : [ ويصح الظهار معجلاً ]
وتقدمت أمثلته كأن يقول: " أنت علي كظهر أمي ".
قوله : [ ومعلقاً بشرط ]
كأن يقول: " إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي " أو: " إن قمت فأنت علي كظهر أمي " فهذا معلق بشرط وهو ظهار صحيح ، فيصح تعليق الظهار بالشروط قياساً على الطلاق بجامع أن كليهما تحريم للزوجة.
قوله : [ فإذا وجد صار مظاهراً ]
فإذا وجِد الشرط صار مظاهراً.
قال : [ ومطلقاً ]
أي يصح الظهار مطلقاً أي غير مؤقت ، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فهنا ظهار منجز مطلق.
قال : [ ومؤقتاً ]
فيصح الظهار مؤقتاً كأن يقول لها: " أنت علي كظهر أمي في هذه السنة " أو " أنت علي كظهر أمي في هذا الشهر ، أو : أنت علي كظهر أمي في هذا اليوم " وهكذا ، ويدل على صحة تأقيته دليلان ؛ دليل من الأثر ودليل من النظر.
أما الدليل الأثري ؛ فهو ما رواه الترمذي وغيره في قصة سلمة بن صخر وفيه أنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان فأصاب فيه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأمره بالكفارة " (1).
وأما الدليل النظري ؛ فهو أن الظهار يمين يمتنع بها المتلفظ من وطء امرأته فأشبه الإيلاء ، والإيلاء يصح تأقيته كأن يقول: " والله لا وطئتك هذا الشهر ".
إذن : قياساً على الإيلاء بجامع أن كليهما يمين تمنع من الوطء.
قال : [ فإن وطئ فيه كفَّر ]
لأنه يكون قد حنث في يمينه.
قال : [ وإن فرغ الوقت زال الظهار ](21/109)
فإذا فرغ الوقت الذي حدده فإن الظهار يزول ، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي في شهر رمضان " فمضى شهر رمضان ولم يطأها ، فيزول الظهار وليس عليه كفارة .
لأنه حينئذ لا يكون قد حنث ، فالتحريم مؤقت في شهر رمضان ، وقد مضى هذا الشهر فزال بمضيه الظهار.
قال : [ ويحرم قبل أن يكفِّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها ]
يحرم على المظاهر أن يطأ المرأة التي قد ظاهر منها ، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر وهذا بالإجماع.
ودليله قوله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } .
وكذلك دواعي الوطء من قبلة أو مسٍ أو نحو ذلك فلا تحل له حتى يكفر ، في أصح قولي العلماء وهو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي.
والقول الثاني في المسألة وهو القول الثاني في مذهب الشافعي وأحمد : أن ذلك يحل له لقوله تعالى { من قبل أن يتماسا } وهو كناية عن الوطء.
والراجح هو القول الأول ، ويدل عليه الأثر والنظر.
أما الأثر ؛ فهو ما روى الترمذي وأبو داود ورواه الإمام احمد والحديث حسن من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمظاهر: ( فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به )(1) ، ويدخل في ذلك النهي عن فعل ذرائع الوطء من قبلة أو مباشرة أو مس أو نحو ذلك.
أما دليل النظر : فهو أن لفظ المظاهر يقتضي ذلك فإنه قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " وهذا يقتضي المنع من الدواعي لأن الدواعي محرمة عليه تجاه أمه ، وقد شبه امرأته بأمه ، ولأن القبلة والمس ونحوهما من ذرائع الوطء ، والشرع إذا حرم الشيء حرم ذرائعه الموصلة إليه.
قال : [ ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطئ ]
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان ، باب ماجاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ( 1120 ) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي . ولم أجده بهذا اللفظ في أبي داود وأحمد .(21/110)
لا تثبت الكفارة في ذمة المظاهر إلا بالوطء ، فلو عزم على الوطء فنقول له: يجب عليك أن تكفر ولا يحل لك أن تطأ حتى تكفِّر إذ شرط الحل الكفارة .
لكن لا تتعلق في ذمته حتى يطأ ، فلو قُدِّر أنه مات وقد عزم على أن يعود ولم يطأ بعد فإنها لا تجب في ماله ، أو ماتت المرأة قبل أن يطأها فإنها لا تجب عليه.
قال : [ وهو العود ]
فالعود هو الوطء في أصح أقوال العلماء ، ففي العود المذكور في قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } ، فيه لأهل العلم ثلاثة أقوال :
القول الأول وهو قول أهل الظاهر: أن المراد بذلك أن يعود للمظاهرة لفظاً ، فيظاهر منها مرةً أخرى ، أي بأن يقول لها مرة أخرى: " أنت علي كظهر أمي "، فإذا قال الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فلا كفارة ، فإذا كرر فقال: " أنت علي كظهر أمي " فحينئذٍ تجب عليه الكفارة
وهذا القول ضعيف تبطله السنة ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين أوجب على أوس بن الصامت الكفارة(1) ولم يعد في لفظه ، ولحديث سلمة بن صخر المتقدم فإنه أصاب من امرأته فأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفارة ولم يشترط أن يعود في لفظه ، وهذا القول لم يسبق إليه الظاهرية أحد من السلف الصالح من الصحابة والتابعين.
القول الثاني وهو مذهب الشافعية: أن العود هو أن يمسكها بعد أن ظاهر منها زمناً يمكنه أن يطلقها فيها بمعنى لحظة يمكن أن يطلق فيها ، فلو قال: "أنت علي كظهر أمي " ثم سكت فعليه الكفارة لكن لو قال: " أنت كظهر أمي " ثم قال مباشرة: " أنت طالق " فحينئذٍ لا كفارة عليه ، أما إذا أمسكها بعد تلفظه بالظهار زمناً يمكنه أن يطلقها فيه فإن عليه الكفارة ، قالوا: لأن مقتضى الظهار البينونة ،فإمساكها هو العود ، وهذا القول ضعيف من وجهين :
الوجه الأول : أنا لا نسلِّم أن الظهار يقتضي البينونة لكنا نقول إنه يقتضي التحريم.(21/111)
الوجه الثاني : أن الله عز وجل قال: { ثم يعودون لما قالوا } ولفظة ( ثم ) تفيد التراخي ، وهذا الإمساك الذي تقدم ذكره عن الشافعية ليس بمتراخٍ.
والقول الثالث في المسألة وهو قول جمهور العلماء: أن العود هو الوطء كما ذكر المؤلف هنا ، وهو أصح الأقوال ، أي ثم يعودون لما قالوا من تحريم المرأة فيستبيحونه أي فيستبيحون ما حرموه بوطء المرأة.
وعليه فقوله تعالى: { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } معناه ؛ ثم يعزمون على العود ، فإذا عزموا على العود فتجب عليهم الكفارة من قبل العود ، وقد نصر هذا القول ، وذكر الأدلة وذكر الأقوال وبسط الكلام فيه الحافظ ابن القيم في زاد المعاد.
قال : [ ويلزم إخراجها قبله عند العزم عليه ]
لقوله تعالى : { من قبل أن يتماسا } ، فهو شرطٌ في حلها.
قال : [ وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير من واحدةٍ ]
أي من واحدةٍ من نسائه ، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " قال ذلك في يوم السبت مثلاً ولم يكفر ، ثم قال في يوم الاثنين: " أنت علي كظهر أمي " ولم يكفر ، ثم قال في يوم الثلاثاء " أنت علي كظهر أمي " ولم يكفر فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة ، كاليمين ، فإن الظهار نوع من الأيمان .
والرجل إذا قال: " والله لا دخلت دار فلان" ثم كرر ذلك قبل أن يكفر فإنها يمين واحدة ، وهنا كذلك.
أما إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " ثم كفر ، ثم قال لها: " أنت علي كظهر أمي " فإنه يجب أن يكفر عن ظهاره الثاني وذلك كاليمين.
قوله: " من واحدةٍ " أما لو كان من عدة نساء ، فإنه يقول لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " ثم يقول للثانية كذلك ، فإن الأعيان قد تعددت فعليه لكل واحدة كفارة.
قال : [ ولظهاره من نسائه بكلمة واحدة ](21/112)
إذا قال لنسائه: " أنتن علي كظهر أمي " فلا يجب عليه إلا كفارة واحدة كاليمين ، فهو كما لو قال: " والله لا أكلت هذا اليوم ولا شربت ولا وطئت ولا خرجت " ففعل هذه الأشياء كلها ، فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة ؛ لأنها يمين واحدة ، وكذلك إذا قال لنسائه: " أنتن علي كظهر أمي " فهو ظهار واحد ، أما لو قال لكل واحدة منهن: " أنت علي كظهر أمي " فالحكم يختلف ولذا قال المؤلف :
[ وإن ظاهر منهن ( بكلمات ) (1) فكفارات ]
فإذا قال للأولى: " أنت علي كظهر أمي " وقال للثانية كذلك وقال للثالثة كذلك ، فيجب أن يكفر كل ظهار كالأيمان ، لأن الظهار حينئذٍ أيمان متعددة في أعيان متعددة فوجب لكل يمين كفارتها.
الدرس الستون بعد الثلاثمائة
فصل
قال : [ كفارته عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً ]
للآية الكريمة ، وذلك واجب على الترتيب اتفاقاً ، فيجب عليه أن يعتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً ، كما رتبت الآية الكريمة وكما ثبت في حديث أوس بن الصامت وفي حديث سلمة بن صخر.
ثم فصَّل في الرقبة وهي الأصل في الكفارة.
فقال : [ ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها ]
فلا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها ، أو أمكنه أن يملكها بثمن مثلها أو بثمن زائد لكن لا يُجحف بماله ، فإذا كان ثمن مثلها عشرة آلاف ، فأمكنه أن يشتريها بعشرة آلاف أو بأكثر من عشرة آلاف لكن ذلك لا يجحف بماله فيجب عليه أن يشتريها فيعتقها.
قال : [ فاضلاً عن كفايته دائماً ]
أي فاضلاً عن كفايته سنته تلك ، كما فسَّر ذلك بعض الشراح.
قال : [ وكفاية من يمونه ، وعما يحتاجه من مسكن وخادمٍ ومركب وعرض بذلة ]
البذلة : الثوب الخَلِق.
قال : [ وثياب تجملٍ ، ومالٍ يقوم كسبه بمؤنته ]
كأن يكون له دكان أو له آلة يعمل عليها ويحصل منها نفقته ونفقة من يمون.
__________
(1) ليست في الأصل .(21/113)
قال : [ وكتب علم ووفاء دين ]
فلا تجب إلا أن تكون فاضلة عن حاجته ، وذلك لأن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم ، فهذه الأشياء المذكورة هو محتاج إليها ، وما استغرقته حاجة الإنسان هو كالمعدوم ، أي كما لو لم يجده ، فكما لو لم يكن عنده كتب وكما لو لم يكن عنده خادم وكما لو لم يكن عنده آلة ونحو ذلك.
فما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم ؛ وذلك لأن ما تستغرقه حاجة الإنسان من الحرج أن يُكلف ببيعه والاستغناء عنه ومعلوم أن الحرج مرفوع في الشريعة الإسلامية ، { ما جعل عليكم في الدين من حرج } (1).
مسألة :
اعلم أن القاعدة في المذهب ؛ أن المعتبر في الكفارات كلها وقت الوجوب.
ووقت الوجوب في كفارة الظهار هو العَوْد أي الوطء ، فإذا وطئ فهذا هو وقت وجوب كفارة الظهار عليه ، فلو كان موسراً قادراً على أن يعتق رقبة عند وطئه ثم أعسر فتتعلق الرقبة في ذمته فليس له أن ينتقل إلى الصيام ولا إلى الإطعام بعد الصيام .
والعكس بالعكس ، فلو أنه كان عند الوطء معسراً ، والواجب على المعسر هو الصيام ؛ لأنه غير قادر على الإعتاق ، فإذا أيسر فلا يجب عليه أن يعتق رقبة ؛ لأنا ننظر إلى حاله أثناء الإيجاب ، فالواجب عليه هو الصيام ، لكن إن شاء أن يعتق رقبة فله ذلك لأنها هي الأصل ، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد في الكفارات كلها ، وهكذا في كفارة اليمين وغيرها.
واليمين وقت وجوبها الحنث ، فلو أن رجلاً حلف ألا يفعل كذا ففعله وكان موسراً فعليه الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة ، لكنه أعسر بعد ذلك فنقول له : لا يجزئك أن تصوم بل عليك أن تعتق أو تطعم متى تيسر لك الأمر.
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها عنه ابن عقيل: أن المعتبر في الكفارات هو الأداء ، وعليه فمتى أراد أن يؤدي نقول: انظر إلى حالك هل أنت موسر أو معسر.
__________
(1) سورة الحج ، الآية الأخيرة .(21/114)
وهذا فيما يظهر لي أقوى ، وهو ظاهر الآية الكريمة: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } ، فإن لم يجد في حال كان في عسر أو يسر فإنه يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع في أي حال كان ، فإنه يطعم ستين مسكيناً.
قال : [ ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة ]
فلا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة ، وهذا هو مذهب الجمهور ، خلافاً لأبي حنيفة.
فلا يجزئ في الكفارات إلا أن تكون الرقبة مؤمنة، وذلك لقوله تعالى في كفارة القتل: { فتحرير رقبة مؤمنة } (1)، والقاعدة هي تقييد المطلق بالمقيد إذا اتحد الحكم، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح مسلم : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) (2).
وأما أبو حنيفة فاستدل بالإطلاق في الآية الكريمة في الظهار: { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } ولم يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة ، لكن كما تقدم يُقيد المطلق على المقيد ؛ لأن الحكم متحد وإن كان السبب مختلفاً.
قال : [ سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً ]
فيشترط أن تكون الرقبة سليمة من العيوب التي تمنع العمل أو تضر به ضرراً بيناً وهذا باتفاق العلماء ، وذلك لأن المقصود من العتق تمليك العبد منافعه وتمليكه من التصرف بنفسه ، فاشترط فيمن يعتق أن يكون ممن يتمكن من العمل ، أما إذا كان لا يتمكن من العمل أو يتمكن منه بضعفٍ شديد فإنه لا يصح عتقه.
قال : [ كالعمى والشلل ليدٍ أو رجلٍ أو قطعهما أو أقطع الإصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام أو الأنملة من الإبهام أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة ]
__________
(1) سورة النساء .
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته ( 537 ) ، وبعد حديث ( 2227 ) .(21/115)
كل هذه المسائل في قول المؤلف تضر بالعمل ضرراً بيّناً ، وحيث أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فإن بعض ما ذكره المؤلف قد لا يضر بالعمل ضرراً بيناً لا سيما مع اختلاف الزمان ، فقد يكون الأعمى في زمن ما ، عماه يضر به ضرراً بيناً ، بينما يكون في زمان آخر يمكنه أن يعمل كما يكون هذا في زمننا ، فالمقصود أنه حيث تثبت العلة في هذا المعيب وهو أن يكون عيبه قد أضر به ضرراً بيناً بعمله فإنه لا يصح إعتاقه ولا يجزئ .
وأما إن كان هذا العيب لا يضر به ضرراً بيناً ويمكنه الاستفادة من منافع نفسه فإن عتقه صحيح.
إذن : ما ذكره المؤلف من الأمثلة ليس بمسلم في كل زمن ، ولذا ورد عن الإمام أحمد في مقطوع الإصبع ؛ أنه يجزئ إعتاقه لقدرته على العمل.
قال : [ ولا يجزئ مريض ميؤوس منه ونحوه ]
للعلة المتقدمة.
قال : [ ولا أم ولد ]
فلا يجزئه تحرير أم الولد ؛ وذلك لوجود سبب آخر يقتضي تحريرها وهو كونها قد ولدت من سيدها فإنها تعتق بموته ، وعليه فإعتاقه هو(1) ليس هو السبب المستقل في إعتاقها.
قال : [ ويجزئ المدَّبر]
فالمدبَّر يجزئ إعتاقه وذلك ؛ لأن المدبر يصح بيعه كما تقدم وعليه فيصح عتقه فكذلك هنا في باب الكفارات.
قال : [ وولد زنا والأحمق والمرهون والجاني والأمة الحامل ولو استثنى حملها ]
فلو حرر أمةً وهي حامل فإن ذلك يجزئ ، وأيضاً لو حرر ولد الزنا أو الأحمق أو المرهون أو الجاني فإن ذلك يجزئ ؛ وذلك لأن هؤلاء داخلون في عموم الآية ، وما فيهم من العيب لا يضر بعملهم فلا مانع من إجزاء إعتاقهم.
فصل
قال : [ يجب التتابع في الصوم ]
__________
(1) كذا في الأصل ، والأولى حذفه .(21/116)
وهو أن يصوم شهرين متتابعين ، لقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } (1) ، فإن نوى في أثناء الشهرين صياماً آخر كنذر أو تطوع أو قضاء صوم رمضان فإنه يكون بذلك قد أبطل تتابع صومه وعليه فلا يجزئه هذا الصوم بل لابد أن يستأنف الصيام من جديد لأن الله أوجب التتابع.
قال : [ فإن تخلله رمضان ]
كأن يصوم شهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد ثم صام ثلاثين يوماً ، فصيامه مجزئ ؛ وذلك لأن المتخلل له هو رمضان وهذا باتفاق العلماء ، وصوم رمضان ليس بقاطع ؛ وذلك لأن صيام تلك الأيام متعين – أي صيام أيام رمضان – وعليه فيكون معذوراً بصومها الذي قطع في الظاهر عليه صيام الشهرين المتتابعين، وعليه فلا ينقطع التتابع بل يصح للعذر ، بخلاف النذر وقضاء الصوم فإنه لا يتعين عليها(2) صومها في ذلك اليوم الذي صامه فيه أثناء الشهرين.
قال : [ أو فطرٌ يجب كعيدٍ وأيام تشريق وحيضٌ وجنون ومرضٌ مخوفٌ ونحوه ]
فإذا تخلل صيامه أيام عيد أو أيام تشريق أو حيض للمرأة أو نفاس للمرأة أيضاً أو جنون أو مرض مخوف ونحو ذلك فإن التتابع لا ينقطع لهذا الفطر، وذلك لأن هذا عذر لا صنع للمكلف فيه ، وهذا باتفاق أهل العلم.
قال : [ أو أفطر ناسياً أو مكرهاً أو لعذرٍ يبيح الفطر لم ينقطع ]
فإذا أفطر ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً أولعذرٍ يبيح الفطر من سفرٍ أو مرضٍ لا يكون مخوفاً ويجوز معه الفطر في نهار رمضان فإن التتابع لا ينقطع ، في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والأحناف: أن التتابع ينقطع فيجب عليه الاستئناف فيبدأ من جديد واستدلوا ؛ بأن هذا العذر الواقع إنما هو باختياره، والنسيان والإكراه والجهل وإن كان عذراً في المكلف لكنه قاطعٌ للتتابع.
__________
(2) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : عليه .(21/117)
والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة قياساً على صيام رمضان ، فإذا كان صوم رمضان وهو فرض من فرائض الإسلام ومبنى من مبانيه العظام ، إذا كان يجوز فيه مع هذه الأعذار المتقدمة الفطر فصيام الكفارات أولى في ذلك.
قال : [ ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرةٍ فقط ]
الفطرة : هي صدقة الفطرِ.
فيجزئ التكفير بما يجزئ في صدقة الفطر من تمرٍ أو أقطٍ أو قمح أي بر أو شعير ، مما تقدم في صدقة الفطر مما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر(1) ، فلا يجزئ إذن : أن يكفر بالأرز ولا بغيره من قوت البلد ، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد ولا دليل عليه.
والراجح – في هذه المسألة – ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو: أن أي طعام يعد في العرف طعاماً فإنه يجزئ التكفير به ، وذلك لإطلاق الآية الكريمة { فإطعام ستين مسكيناً } ، فالله لم يحدد ولم يقدر لنا الإطعام فرجع ذلك إلى العرف ، فالأرز عندنا طعام من أوسط ما نطعم أهلنا ، وكذلك بعض الأُدم فإنها من الطعام في العرف.
قال : [ ولا يجزئ من البر أقل من مدٍ ولا من غيره أقل من مدين ]
لا يجزئ من البر - وهو القمح - إلا ربع الصاع ، ولا يجزئ من التمر ونحوه كالشعير إلا نصف الصاع.
قال : [ لكل واحدٍ ممن يجوز دفع الزكاة إليهم ]
إذن : يصح أن تدفع الطعام إلى المؤلفة قلوبهم ، ويصح أن تدفع إلى الغارمين وغير ذلك من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة ، وهذا قول ضعيف.
والراجح وهو اختيار ابن القيم: أن دفعها لا يجزئ إلا للمساكين وهو ظاهر القرآن ، فإن الله قال : { فإطعام ستين مسكيناً } ، والآية المتقدمة: { إنما الصدقات للفقراء ….. } (2) إنما هي في زكاة المال.
قال : [ وإن غدَّى المساكين أو عشاهم لم يجزئه ]
فلو وضع للمساكين قمحاً وهذا القمح خمسة عشر صاعاً لكنه مطبوخ فذلك لا يجزئه في المشهور من المذهب، وذلك لاشتراط التمليك فيشترط أن يُملكهم هذا الطعام.
__________
(2) سورة التوبة .(21/118)
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك يجزئ ؛ وذلك لإطلاق الآية الكريمة: { فإطعام ستين مسكيناً } وقد تقدم في سنن الدارقطني ، أن أنس بن مالك: " كان يصنع الثريد فيطعمه المساكين كفارةً لفطره في نهار رمضان "(1) ، وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن.
قال : [ وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره ]
وهذا ظاهر لأن الأعمال بالنيات ، فلو أعتق رقبة ولم ينو أنها كفارة لظهار، أو صام ولم ينو أنه كفارة لظهار فإن ذلك لا يجزئ لأن الأعمال بالنيات.
مسألة :
ولا يجزئه إلا أن يطعم ستين مسكيناً لظاهر الآية الكريمة وهو مذهب الجمهور ، خلافاً لأبي حنيفة فلو أعطى واحداً طعام ستين مسكيناً فإن ذلك يجزئ في مذهب أبي حنيفة ، والجمهور على خلافه .
والراجح مذهب الجمهور ؛ لظاهر الآية الكريمة ، فقد قال تعالى : { فإطعام ستين مسكيناً } فقد نص الله على العدد فلا يجزئه أن يدفع خمسة عشر صاعاً من البر لمسكين واحد.
قال : [ وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع ]
إذا جامع المظاهر امرأته التي ظاهرها ولو ليلاً فإن التتابع ينقطع ، فعليه أن يستأنف صيام الشهرين من جديد.
هذا هو القول الأول في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء ؛ وذلك لأن الله عز وجل أوجب صيام شهرين متتابعين قبل التماس فإذا مسها في ليلة فإنه لم يصم الشهرين المتتابعين كما أمره الله تعالى.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أنه إن جامعها ليلاً فإن ذلك لا يضر بتتابعه لكنه يأثم ، وذلك لأنه صام الشهرين المتتابعين ، وما فعله لا يضر بتتابعه فقد فعل ما أمره الله من الصيام فقد صام شهرين متتابعين.
والقولان فيهما قوة ، والذي يقوى لي - والله أعلم - هو القول الثاني ، وذلك لأن القول الأول منتقَض بمسألتين :(21/119)
المسألة الأولى: أن من جامع امرأته فإنه يجب عليه أن يكفر بعد ذلك كما تقدم في قصة أوس بن الصامت وفي قصة سلمة بن صخر ، فإنهما قد وطئا قبل أن يكفرا ، ومع ذلك فقد أمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة.
والمسألة الثانية: أنهم قالوا : إذا جامع امرأته أثناء إطعامه فإنه يأثم لكن الإطعام يصح ، فلو أنه أطعم في يوم عشرة مساكين ثم جامع امرأته قبل أن يتم إطعام ستين مسكيناً ، فإن الإطعام عندهم مجزئ ، فيكون آثماً لكونه مس امرأته قبل أن يطعم ستين مسكيناً ، وهذا ينقض قولهم المتقدم ، فالأرجح فيما يظهر لي مذهب الشافعية والله أعلم.
وأعلم أن الإطعام كالصيام ، فليس له أن يمس امرأته قبل أن يطعم ، والله عز وجل لم يذكر ذلك في الإطعام في كفارة الظهار ؛ لما في ذكره من الإطالة ويكتفي بإلحاق النظير بنظيره ، ولأنهما متماثلان فكلاهما كفارة ، بل اشتراط ذلك في الإطعام أولى ؛ وذلك لأن الإطعام في الغالب زمنه يسير فقد يكفّر بالإطعام في ساعة واحدة بخلاف الصيام فإنه يكون في شهريين متتابعين.
قال : [ وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع ]
فإذا أصاب غيرها من نسائه ليلاً فإن التتابع لا ينقطع ، وهذا ظاهر لأن غيرها لم تحرم عليه بالظهار ، فليس له أن يطأ هذه المرأة التي ظاهرها ، أما لو وطئ غيرها من نسائه فلا حرج عليه في ذلك.
الدرس الحادي والستون بعد الثلاثمائة
كتاب اللعان
اللعان : مشتق من اللعن لقوله تعالى : { والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } (1).
__________
(1) سورة النور .(21/120)
وأما تعريفه : فهو أن يقذف الرجل امرأته بالفاحشة فيشهد على نفسه بذلك أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، والغضب أقبح من اللعنة ، وكان الغضب هنا، لأن الغضب لمن يعلم الحق ويترك القول به ، والذي يغلب على الظاهر أن الرجل صادقٌ في قوله، إذ يبعد في الغالب أن الرجل يرمي امرأته على رؤوس الأشهاد بالفاحشة ويلعن نفسه بالخامسة إلا وهو صادقٌ في دعواه ، وأن المرأة قد اضطرته إلى ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى : [ يشترط في صحته أن يكون بين زوجين ]
لقوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } (1)، فلو قذف أجنبية عنه فإما أن يأتي بأربعة شهود فتُحدَّ المرأة وإما أن يجلد ثمانين جلدة ، وهو حد القذف .
فحكم اللعان مختص بالزوج فقد يرى الرجل من امرأته ما يكره ، وليس ثمت من يشهد له ، وقد رأى ذلك بعينه أو تيقن حصول ذلك فيحتاج إلى نفي الولد منه وحينئذٍ فيُلاعن امرأته فيشهد على نفسه أربع شهادات إنه لمن الصادقين .
واختُلف هل هي أيمان أم شهادات:
القول الأول وهو مذهب الجمهور : أنها أيمان مؤكدة بالشهادة.
القول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة : أنها شهادات.
وينبني على هذا الخلاف من يصح لعانه ، فإن قلنا: إن اللعان شهادات فلا يصح إلا ممن تصح شهادته ، فالفاسق لا تصح شهادته وعليه فلا يصح لعانه وكذلك الكافر والعبد ، وإن قلنا: إن اللعان أيمان فإنه يصح ممن تصح يمينه فيصح من العبد ويصح من الكافر ويصح من الفاسق ؛ لأن أيمانهم منعقدة صحيحة.
استدل أهل القول الثاني القائلين بأنها شهادات، بلفظ الشهادة في قوله تعالى : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ، فدل على أنهم شهداء فما يحصل منهم فهو شهادة.(21/121)
واستدل أهل القول الأول ، بقوله تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } فقوله ( بالله ) من ألفاظ القسم ، قالوا : والشهادة تأتي في القرآن وفي لغة العرب بمعنى اليمين ، ومنه قوله تعالى : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا } (1) ، أي ليميننا ، ولقوله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله } (2)، ثم قال بعد ذلك { اتخذوا أيمانهم جنة } ، فقولهم ( نشهد ) يمين.
ومن شعر العرب قول بعضهم : (( فأشهد بالله أني أحبها )).
فقوله ( أشهد ) ؛ أي يمين ، وهو من الشعر المحتج به ، وقد أورده ابن القيم في زاد المعاد ، وهذا القول هو القول الراجح.
وأما قوله تعالى { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } فهذا من باب الاستثناء المنقطع ، أي لم يكن لهم شهداء لكن أنفسهم.
ويدل على القول الراجح حديث لكنه ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ) (3) رواه أبو داود
وعلى القول الراجح فمن صحت يمينه صح لعانه ، وعليه فالفاسق يصح لعانه وكذلك الكافر والعبد .
وأما غير البالغ فلا يصح لعانه ؛ لأن يمينه لا تصح ، فلو قذف الصبي امرأته بالزنا فلا لعان ؛ وذلك لأن يمينه لا تصح .
ويدل على صحة قول الجمهور عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ، فهو عامٌ في الحر والعبد وفي المسلم والكافر وفي العدل والفاسق ، ولأن ذلك موضع ضرورة فيحتاج إليه الكافر ويحتاج إليه العبد ويحتاج إليه الفاسق ، فهو موضع حاجة ، لأنه يحتاج إلى اللعان لينفي الولد عنه.
قال : [ ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها وإن جهلها فبلغته ]
من عرف العربية فيشترط في صحة لعانه ، أن يكون بها، لكن إن جهلها فبلغته كما تقدم في النكاح.
__________
(1) سورة المائدة 107 .
(2) سورة المنافقون 1 .
(3) أخرجه أبوداود في كتاب الطلاق ، باب في اللعان ( 2256 ) .(21/122)
والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي: أن اللعان يصح بغير اللغة العربية مع القدرة عليها ، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة ، وذلك لأن اللعان يمين ، واليمين تصح بغير اللغة العربية مع القدرة عليها ، واللعان نوع من الأيمان ، فلو حلف بالله عز وجل في لغته فإنها يمين فكذلك اللعان.
قال : [ فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان ]
إذا قذف امرأته بالفاحشة في قبل أو دبر ، فله إسقاط الحد باللعان ، إذن : إن قذف امرأته بالزنا فعليه حد القذف ، لكن يدرأ عنه الحد أن يلاعن ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري : ( البينة وإلا حدٌ في ظهرك ) (1).
قال : [ فيقول قبلها أربع مرات أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه ويشير إليها ، ومع غيبتها يسميها وينسبها ]
أي ينسبها بما تتميز به فيذكر اسمها ويذكر ما يحتاج إليه من نسبها لتتميز عن بقية نسائه.
قال : [ وفي الخامسة : وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ]
فيقول هذه الخامسة : وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، فيقول : أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه ، أو نحوها من الألفاظ التي يرميها بها في الزنا ، فلو قال : " أشهد بالله أن ما في بطنها ليس مني " ، فهذا كافٍ في رميها بالزنا.
قال : [ ثم تقول هي أربع مرات : أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا ]
ونحو ذلك من الألفاظ التي تبرئ بها نفسها.
قال : [ ثم تقول في الخامسة : وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ]
ويستحب أن يحضر ذلك جماعة من الناس ، ففي البخاري عن سهل بن سعدٍ قال: ( فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ) (2) .
__________
(1) سيأتي .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان ( 5308 ) .(21/123)
ويستحب أن يكون ذلك في المسجد كما في البخاري من حديث سهل بن سعد : " أن ذلك كان في المسجد "(1) .
ويستحب أن يتلاعنا قياماً ؛ وذلك لأنه أردع في حقهما .
ويستحب للحاكم أن يعظهما وأن يذكرهما، وأن يأمر رجلاً يضع يده على فيِّ الرجل في الخامسة ، ويقول له: " إنها موجبة " ، ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ذكر الملاعن ووعظه وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وحد القذف أهون من عذاب الله في الآخرة ، ثم دعا المرأة فوعظها كذلك ) (2) ، وفي سنن أبي داود والنسائي بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أمر رجلاً أن يضع يده عند الخامسة على فيه ، ويقول: " إنها موجبة " ) (3) ، أي موجبة للعنة الله تعالى.
قال : [ فإن بدأت باللعان قبله ……إلى أن قال : لم يصح ]
إذا بدأت المرأة باللعان قبل الرجل فلا يصح اللعان في مذهب جمهور العلماء ، خلافاً لأبي حنيفة ، وذلك لأن الله عز وجل قد شرع بذكر لعانه قبل ذكر لعانها ، والحكمة من أن لعان الرجل قبل لعان المرأة من وجهين :
الوجه الأول : أن الرجل قاذفٌ مدعي فبُدئ به أولاً ، لأنه هو القاذف لها وهو الذي رماها بهذه الفاحشة العظيمة.
والوجه الثاني : أن الرجل جانبه أقوى ، فالغالب أنه صادقٌ في دعواه ، إذ يبعد أن يرمي امرأته بالزنا في هذا المشهد بين الناس إلا وهو صادق في دعواه.
قال : [ أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة … إلى أن قال : لم يصح ]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب التلاعن في المسجد ( 5309 ) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب اللعان ، ( 1493 ) .
(3) أخرجه أبو داود في باب في اللعان من كتاب الطلاق ( 2255 ) ، وأخرجه النسائي في الطلاق ، باب الأمر بوضع اليد في المتلاعنين عند الخامسة ( 6 / 175 ) ، سنن أبي داود [ 2 / 688 ] .(21/124)
لأنه خلاف ما أمر الله عز وجل به ، فلا يصح إلا أن يأتي كل واحدٍ منهما بالألفاظ الخمسة ، فلو قال : " أشهد بالله إنها زانية ، وأشهد بالله إنها زانية ، أشهد بالله إنها زانية – ثم قال : " وأن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين " ، لم يصح لعانه ، أو قال : " أشهد بالله إنها زانية ، أربعاً " ، ثم سكت ولم يقل: " وأن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين ، فإن لعانه لا يصح حتى يأتي باللعان كما أمره الله عز وجل ، وكذلك المرأة.
قال : [ أولم يحضرهما حاكمٌ أو نائبه … إلى أن قال : لم يصح ]
لأنها دعوى فيها يمين ، فاشترط فيها حضور الحاكم أو نائبه كسائر الدعاوى ، فلو كانت بين يدي من ليس بحاكم أو كان ذلك في بيتها فلا تثبت الأحكام التي تقدم ذكرها ، فهو لعان غير صحيح.
قال : [ أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف ]
فلو قال : " أقسم بالله " أو قال : " أحلف بالله إنها زانية " لم يصح حتى يقول : " أشهد بالله " ، وذلك لأن قوله : " أقسم بالله " يمين غير مؤكدة بالشهادة ، بينما قوله " أشهد بالله " يمين مؤكدة بالشهادة ، فإذا قال : " أقسم بالله " أو " أحلف بالله " فهو خلاف ما أمره الله تعالى به فلا يصح حتى يقول : " أشهد بالله " أو " أشهد والله " المقصود أنه يجمع بين اليمين والشهادة.
قال : [ أو لفظة اللعنة بالإبعاد ، أو الغضب بالسخط لم يصح ]
إذا أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد فقال في الخامسة : " وأن إبعاد الله تعالى لي من رحمته إن كنت من الكاذبين " ، أو أبدلت المرأة لفظ الغضب بالسخط فقالت في الخامسة : " وأن سخط الله علي إن كان من الصادقين " ، فلا يصح.(21/125)
والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد: أن ذلك يصح ؛ لأنه وإن لم يكن منصوصاً عليه لكنه بمعنى المنصوص والعبرة بالمعاني لا بالمباني ، فقوله : " أبعدني الله من رحمته " بمعنى قوله : " لعنني الله تعالى " ، وكذلك المرأة قولها : " وأن سخط الله علي " هو كقولها : " وأن غضب الله علي " ، هذا هو القول الراجح. و الله أعلم
الدرس الثاني والستون بعد الثلاثمائة
فصل
قال رحمه الله : [ وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عُزر ولا لعان ]
إذا قذف امرأته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فإنه يعزر ولا لعان ، وذلك لأن اللعان يمين فلا يصح إلا من مكلف ، وهذه الصغيرة ليست بمكلفة فلم يصح لعانها ، فلا يلاعن الزوج وإنما يُعزر ، وكذلك المجنونة لأنها غير مكلفة.
أما إن قذف امرأته الصغيرة التي يوطأ مثلها – وهي في المشهور من المذهب بنت تسع سنين – فإن اللعان يثبت لكن لا يصح حتى تبلغ ، وعليه فيتربص لها حتى تبلغ، فإن طالبت بحق القذف على زوجها الذي قذفها فحينئذٍ للزوج أن يلاعن ليدرأ الحد عن نفسه ، وتلاعن هي أيضاً لأنها أصبحت مكلفةً.
قال : [ ومن شرطه قذفها بالزنا لفظاً ، كزنيتِ أو يا زانية أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر ]
فشرطه أن يرميها بالزنا ، قال تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } أي بالزنا ، وقال المؤلف : " في قبل أو دبر " ، أما إن كان في قبل فظاهر .
وأما إذا كان في دبر فهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة وغيرهم ، وهذا القول متفرع عن ثبوت حد القذف في رمي المرأة بالزنا في دبر.(21/126)
وقال الأحناف : بل إن كان في دبر فلا لعان ، وهذا متفرع عن قولهم من أن المرأة إذا قذفها زوجها بالزنا من دبر فإن الحد أي حد القذف لا يقام ، وإنما فيه التعزير، فاللعان لا يثبت عندهم، وذلك لأن اللعان إنما يشرع لدفع الحد وهنا لا حد ، فإذا قذف امرأته في دبرها فلا حد ، وعليه فلا لعان ، وفيما ذهب إليه الأحناف قوة ، ويأتي تحقيقه إن شاء الله في الكلام على القذف.
وأما إن قذفها بمباشرة دون الفرج كأن يقول : " قد بوشرت " ، أو قد باشرك فلان ، أو قد خلا بك فلان أو قد قبلك أو نحو ذلك فلا لعان وذلك لأنه لا حد – أي لا حد قذف - ، واللعان متفرع عن الحد ، فاللعان إنما يشرع لدرء حد القذف عن الزوج وهنا لا حد في ذلك وعليه فلا لعان.
قال : [ فإن قال : وطئت بشبهةٍ أو مكرهةً أو نائمة أو قال : لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان ]
فإذا قال لامرأته : وطئت بشبهة أو مكرهةً أو نائمة أو لم تزنِ ولكن هذا الولد ليس مني ، ثم شهدت امرأة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان .
أما كونه لا لعان ، فلأن الحد لا يثبت بمثل ذلك ، فإذا قال الرجل لامرأته : " وطئتِ بشبهة أو إكراه أو نحو ذلك " فإنه لا حد في ذلك ، ويأتي تقريره إن شاء الله في الكلام على حد القذف.
لكن هل ينفى الولد أم لا ؟
هنا قال : إن شهدت امرأة ثقة بأنه ولد على فراشه لحقه نسبه ، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الولد للفراش وللعاهر الحجر )(1) متفق عليه
فإذا أثبتت البينة – وتكفي شهادة امرأة واحدة – أنه قد ولد في فراشه فإنه يثبت بذلك لحوق النسب.
قال : [و من شرطه أن تكذبه الزوجة ]
فمن شرط اللعان أن تكذبه الزوجة ، وأما إن صدقته في دعواه فأقرت أنها قد زنت فلا لعان أو ثبتت بالبينة وهي أربعة شهود أنها قد زنت فلا لعان ، فاللعان إنما يشرع حيث تنكر المرأة ، ولذا فإنها تلاعن بعده.
__________
(1) سيأتي صْ 136 .(21/127)
قال : [ وإذا تم اللعان سقط عنه الحد والتعزير ]
فإذا تم اللعان سقط عنه الحد فيما يثبت فيه الحد ، والتعزير فيما يثبت فيه التعزير، ويثبت التعزير إن كانت ذميةً أو أمةً أو نحو ذلك .
ودليل هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( البينة وإلا حدٌ في ظهرك )(1).
قال : [ وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد ]
فإذا تم اللعان فإن الفرقة تثبت بينهما بتحريم مؤبد فلا تحل له أبداً ، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا سبيل لك عليها ) (2) ، وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( بدأ بالرجل فشهد أربع شهادات ثم ثنى بالمرأة ثم فرق بينهما ) (3) ، وفي سنن أبي داود من قول سهل بن سعد : ( مضت السنة أن المتلاعنين يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً ) (4).
ولا يتوقف ذلك – أي التفريق – على حكم حاكم بل يثبت من غير حكم حاكم ؛ وذلك لثبوته بنص الشارع.
ويثبت هذا الحكم وإن كذب نفسه بعد ذلك ، فإذا لاعنها بحضرة الحاكم وكان اللعان صحيحاً قد توفرت فيه الشروط ثم كذَّب نفسه بعد ذلك فإنها لا تحل له ، لكن يحد أو يعزر ويلحقه الولد في نسبه ، لأنه أقر بما يدل على كذبه في يمينه ، وإنما درء عنه الحد ليمينه وقد كذبها بقوله ، وحينئذٍ فيبقى عليه الحد – أي حد القذف – ويلحقه النسب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات ، باب إذا ادعى أو قذف ( 2671 ) بلفظ : ( البينة أو حد في ظهرك ) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب قول الإمام للمتلاعنين : إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ( 5312 ) ، ( 5311 ) ، وأخرجه مسلم ( 1493 ) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب اللعان ( 1493 ) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في اللعان ( 2250 ) .(21/128)
واعلم أن اللعان إن كان مجرداً عن نفي الولد فلا ينفى الولد بل يلحق الزوجَ ولده ، وذلك لأن اللعان إنما فيه رميها بالزنا ، ورميها بالزنا لا يوجب نفي الولد ، لكن إن نفاه صراحةً أو تضمنا فإنه ينتفي عنه ، فإن قال : " أشهد بالله أنها زانية وأن ما في رحمها ليس مني " ، فإنه ينفى عنه ؛ لأنه قد نفاه في لعانه وهنا صراحة .
وأما تضمناً فبأن يقول مثلاً : " أشهد بالله إنها قد زنت في طهر لم أجامعها فيه " ، فيُعلم أنها قد حملت من غير زوجها بقذفه .
وأما إذا لم ينفه في اللعان فإنه لا ينتفي .
فإن قيل: فما هو الجواب عما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( قضى في اللعان ألا يُدعى الولد لأبيه ) (1) ، فالجواب : أن هذا من حديث سهل بن سعد ، وفي البخاري أن الرجل قد أنكر حملها.
مسألة :
هل يشترط لنفي الولد أن ينفيه بلعان عند الوضع أم يكفي نفيه عند الحمل ؟
قال الحنابلة في المشهور عندهم : يشترط أن ينفيه عند الوضع ، قالوا : لأنه – وهو حمل – غير مستيقنٍ منه ، فقد يكون – ريحاً - أو شيئاً آخر واللعان لا يتعلق بشرط ، وهنا لا بد أن يعلق النفي على كونه موجوداً فيقول : " إن كان الولد موجوداً فليس مني " ، واللعان لا يتعلق بشرط.
والقول الثاني ، وهو قول المالكية والشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد : أن نفي الولد يثبت وإن نفاه وهي حامل لم تضع بعد.
وهذا هو القول الراجح وهو الذي يدل عليه حديث سهل بن سعد المتقدم ففيه أنها كانت حاملاً فأنكر حملها ، ولم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره باللعان لنفي الولد عند الوضع ، ولا أنه فعل ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أما قولهم أنه ليس بمستيقن :(21/129)
فالجواب عنه : أنه مظنون وهنا أمارات تدل عليه ، والشارع يعلق الأحكام بمثل ذلك ، بدليل اختلاف نفقة الحامل عن الحائل ، والتوقف عن القصاص في الحامل ، والفطر في رمضان للحامل وغير ذلك ، مع أنه مظنون وليس بمستيقن.
مسألة :
وجماهير أهل العلم على أنه إن أقرَّ به أو ظهر منه ما يدل على الرضا فليس له أن ينفيه بعد ذلك.
ومثال ظهور ما يدل على الرضا ؛ كأن يُدعى له فيؤمن ، أو يُهنأ به فيسكت ويرضى بذلك ونحو ذلك ، فليس له أن ينفيه بعد ذلك .
كما أنه إذا أمكنه أن ينفيه ولم ينفه ، فليس له أن ينفيه بعد ذلك ؛ وذلك لأنه خيار لدفع الضرر فكان على الفور ، فإذا تراخى ولم ينف مع إمكان النفي فليس له أن ينفي بعد ذلك .
لكن لو ادعى عدم علمه بذلك وأمكن جهله بذلك ، فإن قوله يقبل وله أن ينفيه.
استدراك :
وعند قول المؤلف : [ ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان ]
فإذا شهدت البينة - ويكفي في ذلك امرأة ثقة – أنه ولد على فراشه فهو ولده ولا لعان .
فإن لم تشهد البينة فهل يشرع اللعان لنفي الولد أم لا ؟
في هذه المسألة لا لعان بقذف المرأة بالزنا ، فهو لم يقذفها بما يوجب عليه حد القذف ، لكن هل له أن يقول : " أشهد بالله أن هذا الولد ليس مني " يقول ذلك أربعاً أم لا ؟
قال أكثر الحنابلة : له أن يلاعن لنفي الولد ، وعليه فيلاعن هو وحده لنفي الولد.
والمشهور في المذهب : أنه ليس له أن يلاعن ؛ وذلك لأن اللعان إنما شرع بعد القذف ، قال تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ، وهنا لا قذف ، فاللعان إنما شرع لدرء حد القذف عن الزوج وهذا حيث كانت المرأة مرمية بالزنا ، وهنا ليست مرمية بالزنا وعليه فلا لعان ، وهذا أظهر .
فالشرع إنما شرع اللعان حيث كان مسبوقاً بقذف وهنا لا قذف وعليه فيلحقه الولد وليس له أن ينفيه ، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الولد للفراش ) (1).
مسألة :
__________
(1) سيأتي صْ 136 .(21/130)
إذا نكلت المرأة عن اللعان فهل يقضى بنكولها ؟
بمعنى : لاعن الرجل امرأته لكن المرأة نكلت عن اللعان فهل يقضى بنكولها فيفرق بينهما وينفى الولد إن نفاه وتحد المرأة أم يخلى سبيلها أم تسجن حتى تقر بالزنا أو تلاعن ؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم :
القول الأول ، وهو المشهور في المذهب : أن سبيلها يخلى ، وهو قول ضعيفٌ جداً.
القول الثاني : أنها تسجن حتى تقر بالزنا أو تلاعن.
القول الثالث وهو مذهب المالكية والشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح في المسألة : أنها إن نكلت فإنها تُحد ، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } (1)، فحد القذف ثابت في حق الرجل حتى يلاعن ، فإذا لاعن الرجل فنكلت المرأة فعليها الحد ، ويدرأ عنها العذاب أن تلاعن.
وقال الحنابلة : الحد لا يثبت بلعان الزوج فقط بدليل مطالبة المرأة بالملاعنة بعده ، ولا يثبت بالنكول فقط لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، والنكول فيه شبهة.
الجواب عن هذا : أن يقال إنها لا تحد بهذا بمفرده ولا بهذا بمفرده ؛ بل تحد بمجموعهما ، فإنها تحد بيمين الزوج أولاً وبنكولها ثانياً ، فإذا اجتمعا فإن الحد يثبت عليها باجتماعهما جميعاً ، والشيئان قد يحكم باجتماعهما ما لا يحكم به بانفرادهما ، وأما بالنكول فقط أو اليمين فقط فلا يقضى عليها بالحد.
الدرس الثالث والستون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل فيمن يَلْحق نسبه.
قال رحمه الله : [ من ولدت زوجته من أمكن كونه(2) منه لحقه ]
فمن ولدت زوجته ولداً أمكن أن يكون هذا الولد - ذكراً كان أو أنثى - منه لحقه ذلك ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الولد للفراش ) (3) ، ثم بين المؤلف هذا الإمكان المذكور بقوله :
[ بأن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه أو دون أربع سنين منذ أبانها ]
__________
(1) سورة النور .
(2) في الأصل : من أمكن أنه منه .. "
(3) سيأتي .(21/131)
أي أن تلده بعد ستة أشهر لأن أقل الحمل ستة أشهر لقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } (1)، وقد ذكر تعالى في آية آخرى أن فصاله أربعٌ وعشرون شهراً ؛ أي سنتان وهو قوله: { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } (2) ، فبقي للحمل ستة أشهر ، وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف .
أو دون أربع سنين : لأن أكثر الحمل أربع سنين في المذهب(3) ، قالوا : لوقوع ذلك فقد وقع من بعض النساء – وهي ثقة وامرأة صدقٍ – أنها قد ولدت لأربع سنين.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار ابن سعدي : أنه لا يتقيد بأربع سنين ، بل قد يكون أكثر من ذلك ، وقال : " لأنه الموافق للواقع " وهو كما قال .
فالمسألة مسألة وقوع ، فإذا وقع الحمل لأربع سنين فلا مانع أن يقع أكثر من ذلك ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (الولد للفراش .. )
قوله : " منذ أمكن وطؤه " أي أن تلد بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه .
فإذا عقد على المرأة وأمكن وطؤه(4) ثم ولدت بعد نصف سنة فإن الولد يلحق به .
فإذا عقد على امرأة وهو وهي في بلد واحد ولم يدخل بها ، فهنا يمكن الوطء لكننا لم نتحقق من الوطء لعدم الدخول ، فهنا يلحق به .
لكن لو تحققنا وعلمنا عدم إمكان الوطء ، كأن يكون هو في بلد وهي في بلد آخر بعيد ويُعلم أنه لا يخفى مسيره من تلك البلدة إلى هذه البلدة ، فحينئذٍ قد تحققنا أنه لم يطأها فلا يلحق به ، هذا هو تحرير مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
إذن : يعلقون الإلحاق بإمكان الوطء ، لكن لو تحققنا أنه لم يطأها فإنه لا يلحق به ، ولذا فلو كان مجبوب الذكر والأنثيين فإنه لا يلحق به ، وذلك لأننا نقطع أن مثله لا يولد له.
__________
(1) سورة الأحقاف 15 .
(2) سورة البقرة .
(3) في الأصل : لأن أكثر الحمل في المذهب أربع سنين .
(4) في الأصل : الوطء .(21/132)
واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره طائفة من متأخري أصحابه ومنهم والد شيخ الإسلام ، واختاره ابن القيم : أن إمكان الوطء غير كافٍ في الإلحاق ، بل حتى يعلم الوطء وذلك بالدخول ، فإذا بنى بالمرأة ودخل بها فولدت منه لستة أشهرٍ أو دون أربع سنين – على المذهب – منذ أبانها فحينئذٍ يلحق به.
إذن : لا تكون المرأة فراشاً حتى يتحقق الوطء ، وذلك بالبناء بها ، وهذا هو القول الراجح ، فإن مجرد العقد مع إمكان الوطء لا تعدُّ فيه المرأة فراشاً لا في اللغة ولا في العرف ، فلا يقال: " إن المرأة فراشٌ للرجل " وهو لم يبنِ بها ، لا في لغة العرب ولا في عرف الناس ، وهذا ظاهر.
قال : [ وهو ممن يولد لمثله كابن عشر ]
هذا قيد آخر ، وهو أن يكون ابن عشر سنين ، أي من تم له عشر سنين وشرع في السنة الحادية عشرة قالوا : لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) (1) ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينهم في المضاجع ، فدل على أن مثلهم يطأ ، فعليه يلحق بهم النسب.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ( 495 ) قال : " حدثنا مؤمل بن هشام يعني اليشكري حدثنا إسماعيل عن سوار أبي حمزة قال أبو داود : وهو سوار بن داود أبو حمزة المزني الصيرفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) .(21/133)
والقول الثاني في المسألة ، وهو قول في مذهب الإمام أحمد وهو قول طائفةٍ من كبار الصحابة كأبي بكر ، و [ هو قول ] (1) أبي الخطاب وابن عقيل : أنه لا يلحق به حتى يبلغ، أي ينزل فإذا ثبت إنزاله ، أي ثبت احتلامه فإنه يلحق به ، وهذا ظاهر جداً ، وذلك لأن الولد يكون من الماء ، ومن لم يبلغ فلا ماء له فكيف يكون منه الولد ، وكيف يلحق به .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وفرقوا بينهم في المضاجع ) ، فهذا لأن ابن عشر مظنة البلوغ ومظنة المراهقة ، فلذا يمنع من المبيت عند البنت لأنه مظنة الوطء.
والقول الثاني هو الراجح ، فلا يلحق به الولد حتى يبلغ.
قوله : [ ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه ]
فعلى المذهب - عندما يلحق به الولد – فهل تثبت الأحكام الأخرى فيه فيكون في حكم المكلفين ؟
الجواب : لا تثبت الأحكام الأخرى [ – كالزنا والقتل – ] (2) مع الشك فلا تلحق به الأحكام الأخرى حتى يثبت بلوغه ، واليقين لا يزول بالشك.
قال : [ ومن اعترف بوطء امرأته(3) في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة فأزيد لَحِقَهُ ولدها إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه ]
اعلم أن المشهور في المذهب وهو قول الجمهور وهو الراجح : أن الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء ، ودليله : دليل المسألة التي تقدم ذكرها .
إذاً : الحنابلة فرقوا بين الحرة والأمة ، فقالوا : إن الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء ، أما بمجرد إمكان الوطء فلا ، وأما الزوجة فإنها تكون فراشاً بمجرد إمكان الوطء ، ففرقوا بين الزوجة والسُرِّيَّة .
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل .
(2) ليست في الأصل .
(3) كذا هنا في المطبوع ، والصواب : أمته ، كما في الأصل وفي النسخة التي بين يدي .(21/134)
وهنا : اعترف رجل أنه قد وطئ أمته في الفرج فولدت لنصف سنة فأزيد فإنه يلحقه ولدها ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الولد للفراش ) ، إلا أن يدعي الاستبراء ، أي يدعي أنه قد استبرأها بحيضة فيقول مثلاً : " أنا قد وطئت هذه الأمة لكني استبرأتها بحيضة فقد حاضت بعد وطئي بها ، ثم بعد ذلك حملت ، وعليه : فلا يكون الحمل منه ، لأنه قد استبرأها بحيضة .
فيقبل قوله ؛ وذلك لأن هذا أمرٌ خفي ، لا يعلم إلا منه فيقبل قوله فيه ، لكن يحلف على ذلك لحق الولد ، فإن هذه اليمين تمنع الولد من نسبه إلى هذا الرجل ، فهذه اليمين قد تعلق بها حق الآدمي.
وكذلك لو اعترف أنه وطئ أمته دون الفرج ثم ولدت لنصف سنة فأزيد فكذلك أي يلحق الولد به ، وذلك لأنه لا مانع من أن يلج ماؤه فرجها ، وهو واقع ، ثم هي(1) فراشٌ له وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الولد للفراش ).
قال : [ وإن قال وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت لحقه ]
إذا قال : " أنا قد وطئتها في الفرج ولم أنزل " ، أو قال : " عزلت " ، فإنه يلحقه أيضاً .
أو قال: " وطئتها دون الفرج ولم أنزل ، أو قال : عزلت " فإنه يلحقه أيضاً، وعن الإمام أحمد : أن قوله يقبل ولا يلحقه النسب.
والقول الذي يترجح لي في هذه المسألة : هو التفصيل ، فيقال : إن اعترف أنه وطئها في فرجها ثم ادعى أنه لم ينزل أو أنه قد عزل فإن الولد يلحقه .
__________
(1) في الأصل : وهي فراش .(21/135)
ويدل عليه ما ثبت في مسلم : أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله إن عندي جارية وأنا أعزل عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إن ذلك لا يمنع مما أراد الله شيئاً ) (1) ، ويدل عليه ما ثبت عند الشافعي بإسنادٍ صحيح أن عمر قال : " ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلون ، لا تأتيني أمة اعترف سيدها أنه يطؤها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا " .
وأما إن كان قد اعترف [ أنه ] (2) قد وطئها دون فرجها وقال : إنه لم ينزل ، أو قد عزل ، فالذي يترجح أنه لا يلحق به ، وأن قوله يقبل بيمينه ؛ وذلك للفرق بين المسألتين ؛ فهنا لم يطأها ، والولادة إنما تكون بالوطء .
وكونه قد عزل عنها أو لم ينزل عندما باشرها فيما(3) دون الفرج ؛ هذا يمنع من أن يتسرب شيءٌ منه إلى فرجها بخلاف ما لو أنزل فإنه لا يمنع من تسرب شيءٍ إلى فرجها .
فلا ينسب الولد إليه ، لأنه لا ولد إلا بجماع ، وهنا لا جماع وكذلك لا مظنة ، لأنه لو كان قد باشرها دون الفرج فأنزل فـ[ـإنه ] لا مانع من أن يكون تسرب شيءٌ إلى فرجها فيكون ذلك مظنة ، وأما هنا فليس الأمر كذلك ، والله أعلم.
قال : [ وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل ]
إذا أعتق أمةً أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولدٍ لدون نصف سنة فحينئذٍ نعلم أنه منه ، لأنه لو كان نصف سنة فأكثر لاحتُمل أن يكون من هذا المشتري الجديد ، لكن هنا لدون نصف سنة فحينئذٍ نعلم أنه منه فنلحق الولد به(4) ، والبيع يكون باطلاً ، لأنها تكون أم ولدٍ له ، وقد تقدم أن المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور : أن أم الولد لا يحل بيعها.
وهنا مسائل :
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب النكاح ، باب حكم العزل ( 1437 ) أو ( 1439 ) .
(2) ليست في الأصل .
(3) في الأصل : بما .
(4) في الأصل : فنلحقه الولد .(21/136)
المسألة الأولى : أن الشبه غير معتبر مع الفراش ، فإذا ثبت الفراش فإن الولد يلحق بصاحب الفراش وإن ثبت الشبه لمدّعٍ غيره ، ففي الصحيحين عن عائشة قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلامٍ ، فقال سعد بن أبي وقاص : هو ابن أخي عتبة عهد إليّ أنه ابنه وانظر إلى شبهه ، وقال عبد بن زمعة : هو أخي ولد على فراش أبي من وليدته ، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد به شبهاً بيِّناً بعتبة – إذاً هنا تعارض الشبه والفراش ، فالشبه لعتبة والفراش لزمعة – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ) ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( احتجبي منه يا سودة بنت زمعة ) (1) ، وسودة هي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تحتجب منه احتياطاً لوجود الشبه.
المسألة الثانية : أنه إذا لم يثبت فراش فادعى رجل أن هذا ابنٌ له – أي من الزنا – فهل يلحق به أم لا ؟
قولان لأهل العلم :
القول الأول وهو مذهب الجمهور : أنه لا ينسب إليه.
القول الثاني ، وهو قول إسحاق وطائفة من التابعين وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه ينسب إليه حيث لم يعارض الفراش أي ليس ثمة فراش معارض ، قالوا : لأن هذا - أي المُلحق به – أحد الزانيين ونحن نلحقه بأمه ، فإذا ثبت أن هذه المرأة قد زنت وأن هذا ولد لها من الزنا فإنه يلحق بها ويرثها وترثه ويتصل بقرابتها كاتصال ولدها وهي أحد الأبوين الزانيين، فكذلك الآخر إذا ادعاه وليس ثمة معارض وهو الفراش .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع ، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه ( 2218 ) ، وفي كتاب المغازي ، باب من شهد الفتح ( 4303 ) ، وفي كتاب الفرائض ، باب من ادعى أخاً وابن أخ ( 6765 ) ، وأخرجه مسلم ( 1457 ) .(21/137)
فهذا الذي ادعاه أبوه من الزنا ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حكايته لقصة جريج أنه قال للولد : من أبوك ، فقال : الراعي "(1) ، والراعي أبوه من الزنا.
وقال الجمهور: بل لا يلحق به ، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قضى أن كل مُسْتَلْحق يُسْتلْحَق بعد أبيه الذي يُدعى له، إن كان من أمة يملكها يوم أصابها فادعاه ورثته فإنه يلحق به ، ثم إن ألحق به وكان هناك ميراثٌ قد قسم فليس له منه شيء، وما أدرك مما لم يقسم فله منه نصيبه " .
__________
(1) صحيح البخاري ، كتاب المظالم والغصب ، باب إذا هدم حائطاً .. ( 2302 ) . انترنت .(21/138)
فإذا استلحق مستلحق ولداً بعد أبيه فإن هذا الولد إن كان من أمة يملكها هذا الأب يوم أصابها ثم ادعى الورثة أن ولد هذه الأمة التي كانت ملكاً لأبيهم أنه أخٌ لهم فحينئذٍ يلحق به ، وحينئذٍ فما قسم من الميراث فليس له منه شيء ، وما لم يقسم بعد فله منه نصيبه – إلا أن ينكره أبوه ، ولا يلحق به إن أنكره الذي يدعى له – فإن كان أبوه الذي ينسب له الابن وهو مالك الأمة إن كان قد أنكره وهو حيٌ فإنه لا ينسب إليه بعد ذلك ؛ لأن الورثة يقومون مقامه ، فنحن إنما قبلنا استلحاقهم لأنهم يقومون مقامه ، وهنا قد أنكر هو فلا يمكن بعد ذلك أن يثبتوا هم ما أنكره هو – وإن كان من أمة لا يملكها أو حرة قد عاهر بها فإنه لا يلحق به ولا يرثه – وهذا هو الشاهد – وإن كان قد ادعاه الذي يُدعى له – أي وإن كان هذا الأب يدعي في حياته أن هذا ولد له – وإنما هو ولد زنيةٍ من أمة كان أو حرة "(1) والحديث إسناده جيد .
وفيه أنه لو كان هذا المُدعى من أمةٍ لا يملكها من يُدعى أنه أبٌ ، أو من حرة قد زنا بها فإنه لا يلحق به ولا يرث منه ولا يرثه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق ، باب في ادعاء ولد الزنا ( 2265 ) قال : " حدثنا شيبان بن فرّوخ ، حدثنا محمد بن راشد ح ، وحدثنا الحسن بن علي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن راشد - وهو أشبع - عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مُسْتَلحَقٍ استُلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه ، وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء ، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه ، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره ، وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها ، فإنه لا يلحق به ولا يرث ، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنْيَة من حرة كان أو أمة " .(21/139)
وهذا هو القول الراجح ؛ لثبوت هذا الحديث ، وقال ابن القيم : " إن ثبت هذا الحديث وجب القول بموجبه والمصير إليه ، وإلا فالقول كما قال إسحاق ومن وافقه " ، والحديث إسناده جيد.
والذي يَسْتلحقُ هو الأب أو من يقوم مقامه وهم ورثته ، ويشترط أن يتفقوا على ذلك ، فإن خالف بعضهم فإنه لا يلحق لأنهم يقومون كلهم مقامه.
المسألة الثالثة : أن من وطئ امرأةً في شبهة - أي وطئ امرأة يظنها زوجته- فحملت من هذا الوطء فإنه يلحق به ، وذلك لأنه وطءٌ يعتقد الواطئ حله ؛ فأشبه الوطء بعقدٍ فاسد كالنكاح بلا ولي ، فإن الرجل إذا نكح امرأةً بلا ولي وهو يعتقد حل ذلك فإن الولد ينسب إليه بلا خلاف ، فكذلك إذا وطئها بنكاح شبهة لأنه يعتقد حل هذا الوطء.
المسألة الرابعة : القاعدة عند أهل العلم: " أن الولد يلحق بأبيه " لقوله تعالى : { ادعوهم لآبائهم } (1)، إلا المنفي باللعان فإنه ينسب لأمه كما تقدم.
وينسب لأمه في الحرية والرق فإذا كانت أمه حرة فهو حر وإن كان أبوه رقيقاً، وإن كانت أمه رقيقةً فهو رقيق وإن كان أبوه حراً.
وأما في الدين فإنه يلحق بأخيرِهِما ، فإن كان أحد الأبوين مسلماً والآخر كتابياً فإنه يلحق بالمسلم منهما سواءً كان أباً أو أماً ، وإن كان أحدهما نصرانياً ولآخر وثنياً فإنه يلحق بالنصراني سواءً كان أباً أو أماً.
تم بحمد الله تعالى شرح كتاب الطلاق والإيلاء والظهار واللعان من زاد المستقنع ، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد ، حفظه الله تعالى ونفع به .
__________
(1) سورة الأحزاب .(21/140)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
باب ما يختلف به عدد الطلاق
من حرية أو عبودية أو غير ذلك من الأسباب التي يختلف بها عدد الطلاق.
قوله : [ يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً ]
فإذا كان الزوج كله حراً أو كان مبعضاً أي بعضه حر وبعضه عبد فإنه يملك ثلاث تطليقات بإتفاق أهل العلم سواءً كانت الزوجة حرةً أو أمة ، أما دليل من كان كله حراً فهو ظاهر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع أهل العلم عليه، وأما المبعض: فلأننا لو قلنا بأنه يكون بالنظر إلى حريته وعبوديته لبعضنا الطلاق بأن يكون له ثلاثة أرباع نصاب الطلاق والطلاق لا يتبعض لذلك ثبت له ثلاث تطليقات.
قوله : [ والعبد اثنتين ]
اتفاقاً ، فقد اتفق أهل العلم على أن للعبد تطليقتين ، وفي أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (طلاق العبد – أي البائن – تطليقتان ) والحديث إسناده ضعيف ، لكن العمل عليه عند أهل العلم ، وقد روي ذلك عن طائفةٍ من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
قوله : [ حرةً كانت زوجتاهما أو أمة ]
فإذا كانت تحت العبد حرة فإن تطليقه البائن تطليقتان، وكذلك إذا كانت الأمة تحت الحر فإن تطليقه ثلاث تطليقات ، فالمعتبر في الطلاق هو النظر إلى الزوج لا إلى الزوجة هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة ، ودليل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجة وغيره : ( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ) ، فالطلاق حق للزوج فكان النظر إليه فيه.
قوله : [ فإذا قال أنت الطلاق ]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت الطلاق ".
قوله : [ أو طالقٌ ]
إذا قال لامرأته " أنت طالق ".
قوله : [ أو علي ]
أي قال " علي الطلاق " وحنث.
قوله : [ أو يلزمني ]
إذا قال يلزمني الطلاق إن فعلت كذا ثم فعل.
قوله : [ وقع ثلاثاً بنيتها ](22/1)
أي بنيته الثلاث ، فالضمير في قوله بنيتها أي بنية الثلاث فإذا قال لامرأته ما تقدم وكان قد نوى الطلاق ثلاثاً فإنه يقع ثلاثاً ، وذلك لأن هذه الألفاظ المتقدم ذكرها تحتمل الثلاث والواحدة وهي في الطلقة الواحدة أظهر أي من جهة العرف لا من جهة اللغة لأن الللام تفيد الاستغراق لغةً فيكون ثلاثاً في اللغة ؛ لكن في عرف العامة هي واحدة ، لكنه لما نوى أن تكون ثلاثاً فعين ذلك ، لأنه نوى ما يحتمله لفظه.
قوله : [ وإلا فواحدة ]
فإذا لم ينوِ أن تكون ثلاثاً فإنها تكون واحدة ، فإذا قال لامرأته: " أنت طالق " ولم ينو شيئاً فإنها تطلق واحدة وذلك لأن الواحدة أقل ما يصدق عليه هذه الألفاظ ، فأقل ما يصدق عليه الاسم المتقدم هو الواحدة ، وهذه المسألة وما بعدها من المسائل تتفرع على القول بطلاق الثلاث البائن بلفظة واحدة ، أو في مجلس واحد أو في مجالس متعددة بلا رجعه ، وقد تقدم أنه قول مرجوح والراجح أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة طلقة واحدة .
قوله : [ ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك ثلاثٌ ولو نوى واحدة ](22/2)
إذا قال لامرأته: " أنت طالق كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو منتهاه أو غايته أو عدد الحصى أو الريح أو أنت طالق مائة طلقة أو ألف طلقة " أو نحو ذلك فإنه يقع الطلاق ثلاثاً ولو نوى واحدة ، فلا عبرة بنيته وذلك لأن صريح لفظه يخالف نيته ، فصريح لفظه الطلاق المتعدد الذي يحصل معه البينونة، فهنا ما نواه لا يحتمله اللفظ فإذا قال لها: " أنت طالق أكثر الطلاق " ونوى أن تكون واحدة فإن نيته لا يحتملها لفظه كما أنه لو قال: " أنت طالق واحدة " ونوى أن يكون ثلاثاً فإن هذا الطلاق لا يكون إلا واحدة، وذلك لأن هذه النية لا يحتملها اللفظ ، فإن قال لزوجته " أنت طالق عُظم الطلاق " أو " أنت طالق أقبح الطلاق " أو " أنت طالق كالجبل " أو " عُظم الطلاق " فإن لم ينوِ ثلاثاً فإنها تكون واحدة، وذلك لأن هذه الألفاظ لا ترجع إلى العدد وإنما ترجع إلى كيفية الطلاق، فترجع إلى الطلاق نفسه كيفاً لا عدداً فإن نوى ثلاثاً فإنها تقع ثلاثاً لأن اللفظ يحتمل ذلك لكن إن لم ينوِ شيئاً أو نوى أن تكون واحدة فإنها تقع واحدة لأن لفظه ليس فيه تصريح بالعدد بخلاف قوله: " أنت طالق أكثر الطلاق " أو " منتهاه " فهو يعود إلى العدد.
قوله : [ وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً ]
إذا طلق عضواً كأن يطلق يداً أو رجلاً أو كبداً أو جزئاً مشاعاً كالنصف والربع فيقول: " نصفك طالق" ، أو معيناً أي جزئاً معيناً كأن يقول: " النصف الفوقاني منك طالق" أو مبهماً كأن يقول: " جزئك طالق "، فالحكم أنها تطلق طلقة وذلك لأن المرأة لا تتبعض بالحل والحرمة، وفيها ما يقتضي التحريم وما يقتضي الإباحة فغلب جانب الحرمة.
قوله : [ أو قال نصف طلقة أو جزء من طلقة طلقت](22/3)
إذا قال لها: " أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة " أي سواء أبهم كقوله: " جزء طلقة " أو حدد كقوله: " جزءاً من طلقة " فإنها تطلق، وذلك لأن الطلاق لا يتبعض فإذا طلق النصف أو الربع فإنها تقع عليه طلقة واحدة.
قوله : [ وعكسه الروح ]
فإذا قال لها: " روحك طالق " فإنها لا تطلق ، هذا هو أحد القولين في المذهب قالوا : لأن الروح ليست بعضو وليست شيئاً يتمتع به وهو المذهب عند المتأخرين.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في مذهب الإمام أحمد ، وقال صاحب الإنصاف هو المذهب واختاره الشيخ عبدالرحمن بن سعدي ؛ أنه إذا طلق الروح فإنها تطلق عليه وذلك لأنه لا حياة للمرء بلا روح ، فإن قوام البدن الروح ، فعليه يقع الطلاق ، ولا شك أن هذا أولى من تطليق يدها أو رجلها ونحو ذلك ، فالراجح أن طلاق الروح يقع فتطلق به المرأة ، لأنه لا حياة لليد بدون روح.
قوله : [ والسن والشعر والظفر ونحوه ]
إذا قال: " شعرك طالق " أو " أو سنك طالق " أو " ظفرك طالق " ونحوه كالسمع والبصر ، فإنها لا تطلق عليه ، قالوا : لأن هذه الأشياء تنفصل عن الإنسان مع سلامته من غير عطب ، فإن الشخص قد يحلق شعره ويقلم أظفاره ويقلع سنه ولا يتضرر شيء منه.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الشافعية والمالكية ؛ أن الطلاق يقع، لأن المذكور وهو الظفر والشعر والسن ونحوها مما استباحه الناس بالنكاح فيقع الطلاق بتطليقه، والأول أولى وذلك لأن الأصل بقاء عصمة النكاح وما ذكره أهل القول الأول من الاستدلال فيه قوة فإن هذه الأشياء المذكورة تنفصل مع السلامة ، بخلاف الإصبع مثلاً فإنها لا تنفصل إلا مع عطب فإنها تجرح البدن ويتأذى البدن بذلك وكذلك اليد والرجل أو نحو ذلك.
قوله : [ وإذا قال لمدخول بها : أنت طالق وكرره وقع العدد ، إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً ](22/4)
إذا قال لامرأته التي قد دخل بها: " أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق " وقع العدد ، فإذا قال لها: " أنت طالق ، أنت طالق " فإنه يقع الطلاق اثنتين وإذا قال: " أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق " فإنها تقع ثلاثاً ، إلا أن ينوي تأكيداً ، فإذا كانت بنيته تأكيد الطلاق أو إفهامها أو إفهام السامع فإنه تقبل نيته حكماً، وتقبل أيضاً في الباطن ويدين بذلك فيما بينه وبين ربه بما ادعاه بنيته ، وذلك لأنه أعلم بلفظه وهذا اللفظ يحتمل التأكيد والإفهام ويحتمل التعدد فلما ثبت هذان الاحتمالان قبلت نيته ، لكن لابد أن يكون ينوي تأكيداً يصح ، وأن يكون اللفظ يحتمل ذلك ، فإذا قال لها: " أنت طالق ، أنت طالق، أنت طالق " وقال نويت التأكيد فإنه يقبل معه لأن هذه الجمل قد اتصلت ، لكن إذا قال لها اليوم: " أنت طالق " وقال لها غداً: " أنت طالق " وقال أريد التأكيد، فإن هذا لا يقبل منه لأن هذا لا يكون منه تأكيداً ، فالتأكيد متصل بالكلام كسائر التوابع والإفهام نوع منه.
إذن : إنما يقبل منه حيث أمكن التأكيد أو أمكن الإفهام أما إذا كان لا يمكن مع لفظه التأكيد والإفهام فإنه لا يقبل منه.
قوله : [ وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء أو قال بعدها ، أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان ](22/5)
إذا قال لها: " أنت طالق بل طالق " أو: " أنت طالق ثم طالق " أو: " أنت طالق فطالق " أو: " أنت طالق وطالق " أو قال: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق معها طلقة " وقعت طلقتان ، وذلك لأن مثل هذه الألفاظ ظاهرة في التغاير ، فالثلاث الأول حروف عطف ، وحروف العطف الأصل فيها المغايرة ، فعليه ظاهر لفظه أنت طالق طلاقاً آخر ، كذلك إذا قال لها: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق طلقة معها طلقة " ونحو ذلك، فإنه لا يقبل ادعاؤه التأكيد ولا ادعاؤه الإفهام ، لأن التأكيد والإفهام هنا احتمال بعيد، لكن لو كان في الباطن أراد التأكيد فإنه يدين بذلك فيما بينه وبين ربه ، وأما في الحكم الظاهر فإن القاضي يحكم عليه بما يقتضيه لفظه.
قوله : [ وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها ]
إذا كانت المرأة غير مدخول بها وقال لها: " أنت طالق ثم طالق " أو نحو ذلك، فإنها تبين بالأولى وحينئذٍ تكون عليها طلقة واحدة لأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة فقوله لها: " أنت طالق " فبهذه اللفظة الأولى تبين منه، فإذا كرر بعدها طلقتين مثلاً فإن هاتين الطلقتين الأخريين قد وقعتا في حالة البينونة ، وطلاق البائن لا يمضي، فعلى ذلك له أن يتزوجها من غير اشتراط أن تنكح زوجاً غيره ، فيعقد عليها عقداً جديداً .
قوله : [ والمعلق كالمنجَزِ في هذا ]
المعلق كقوله: " إذا دخلت الدار فأنت طالق طالق " ، فالمنجز أي كقوله: " أنت طالق أنت طالق أنت طالق " ، فلو أن رجلاً قال لامرأة غير مدخول بها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين منه بالأولى إذا دخلت الدار ، ولا يقع عليها الثاني ولا الثالث لأنها أصبحت بائناً بالأولى.
فصل
هذا الفصل في الاستثناء في الطلاق وأحكامه
قوله : [ ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات ](22/6)
يصح من الزوج أن يستثني النصف فأقل من عدد الطلاق ومن عدد المطلقات ، هذه المسألة ترجع إلى ما هو مرجح في علم الأصول وهو مذهب الحنابلة من صحة استثناء النصف فأقل ، أما استثناء الكل أو الأكثر فإنه لا يصح فإذا قال لزيد " علي مائة ريال إلا مائة " فهذا استثناء كل ولا يصح ، فيكون قد أقر بمائة ولا يصح استثناؤه، ولو قال لزيدٍ: "على مائة إلا تسعين" فلا يصح الاستثناء ويكون قد أقر بالمائة أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " له علي مائة إلا خمسين" أو: " له علي مائة إلا أربعين" فإن الاستثناء يصح، فعلى ذلك إذا طلق امرأته ثلاثاً واستثنى الكل فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً " أو الأكثر فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين " فإن الاستثناء لا يصح وتكون طالقاً ثلاثاً، أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " أنت طالق اثنتين إلا واحدة " أو " أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة " فإن الاستثناء يصح ولذا قال المؤلف :
[ فإذا قال : أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة ، وقعت واحدة ، وإن قال : ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان ]
كذلك في المطلقات، فلو قال: " نسائي الأربع طوالق إلا واحدة، فيصح الاستثناء ولو قال: "نسائي الأربع طوالق إلا اثنتين"، فيصح الاستثناء.
قوله : [ وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات ]
فإذا استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح ذلك ، كأن يقول: " نسائي طوالق وله ثلاث " واستثنى بقلبه فلانه فإن هذا الاستثناء يصح في الحكم ، وأما في الباطن أي في النية فلا إشكال فيه أنه يصح أي بأن يدين في ذلك فيما بينه وبين ربه ، وأما في الحكم فكذا لك في المذهب ، وذلك لأن اللفظ العام قد يراد به الخصوص وحينئذٍ فهذه النية تصرف اللفظ إلى بعض أفراده.(22/7)
والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية أن الطلاق يقع كما تلفظ به ولا عبرة بنيته ، وهذا هو القول الراجح ، وذلك لأن الحكم إنما يعتبر بالظاهر ، والظاهر من لفظه أن نساءه كلهن طوالق ، فيحكم عليه بما اقتضاه ظاهر لفظه، وأما نيته فهي بينه وبين ربه، فإن لم يكن هناك ترافع أمام القاضي فإنه إن علم من نفسه الصدق فإنه يبقي امرأته وأما إن علم من نفسه الكذب فإنها لا تحل له إن كان الطلاق بائناً وإلا فإنه يحسبها طلقة ، وأما في الطلقات فلا لا ديناً ولا حكماً ، فلا يدين بذلك ولا يحكم به ؛ أي بالاستثناء، فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق ثلاثاً " ونوى في قلبه إلا واحدة فلا يعتبر بهذا الاستثناء المنوي غير المتلفظ به في الحكم وذلك للتعليل المتقدم في المسألة السابقة، وكذلك لا يدين بنيته فلا يقال: " إن كنت صادقاً فيما نويته فهي امرأتك " لا يقال ذلك ، وذلك لأن العدد نص فيما يتناوله ؛ أي ليس هناك احتمال، فإن قال: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال أخر ممكن بخلاف ما إذا قال " نسائي طوالق " فإنه يحتمل أن يريد البعض فالنية إنما تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته وأما ما لا يحتمله اللفظ فلا ، وإلا لجاز العمل بالنية المجردة في النكاح والطلاق ونحو ذلك ، وهذه المسألة متفرعة على قول جمهور أهل العلم من إيقاع طلاق الثلاث ثلاثاً وإلا فالراجح أن طلاق الثلاث واحدة، ومثل ذلك إذا قال: " نسائي الأربع طوالق " أو قال: " ثلاثتكن طوالق " ونوى إلا واحدة فلا عبرة بنيته لأن قوله: " نسائي الأربع " وقوله: " ثلاثتكن " هذا عدد والعدد نص فيما يتناوله وعليه فالنية لا تصرفه كما تقدم تقريره.
قوله : [ وإذا قال : أربعكن إلا فلانة طوالقٌ صح الاستثناء ]
وذلك لأن هذه المرأة قد خرجت باستثناء صحيح.
قوله : [ ولا يصح استثناء لم يتصل عادة ](22/8)
يشترط في الاستثناء أن يتصل في العادة ، يتصل لفظاً أو حكماً، اتصاله لفظاً: بأن يتبع المستثنى المستثنى منه ، فإن قال: " نسائي طوالق إلا فاطمة " فقوله: " إلا فاطمة " فاطمة هي المستثنى وقوله " نسائي طوالق " المستثنى منه ، فهنا قد تبع المستثنى المستثنى منه تبعه لفظاً فالاستثناء صحيح.
وأما اتصاله حكماً: فهو لم يتبعه لفظاً لكنه تبعه حكماً، وذلك فيما إذا كان هناك فاصل بين المستثنى والمستثنى منه ، وكان الفاصل لا يقطع في العادة ، كأن يقول: " نسائي طوالق " ثم يعطس أو يسعل ثم يقول: " إلا فلانة " فلا تطلق عليه وذلك لأن الاستثناء متصل في العادة لكنه ليس متصل لفظاً بل هو متصل حكماً.
قوله : [ فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل ]
فإذا قال: " نسائي طوالق " ثم تكلم بكلام أجنبي أو سكت سكوتاً طويلاً يقطع في العرف ثم قال: " إلا فلانة " فإن الطلاق يقع على كل نسائه ولا يصح استثناؤه ، وذلك لوجود الانقطاع ، فهذا الطلاق الذي تلفظ به لا يمكن رفعه بمثل هذا الاستثناء المنقطع أما الاستثناء المتصل فإنه يجعل اللفظ جملة واحدة ، أي يجعل المستثنى منه و المستثنى جملة واحدة لا يقع الكلام إلا بتمامها .
قوله : [ وشرطه النية قبل كمالِ ما استثنى منه ]
هذا الحكم في الاستثناء وفي الشرط ، فلو قال رجل : " نسائي طوالق " ثم استدرك وقال: " إلا فلانة " فهو عندما قال: " نسائي طوالق " لا ينوي استثناء هذه المرأة المستثناة بل نواه بعد إتمامه اللفظ ، فالاستثناء لا يصح ويقع الطلاق على كل المستثنى ، وكذلك الشرط، فلو أن رجلاً قال لامرأته: " أنت طالق" ثم استدرك فقال: " إن دخلت الدار " فالشرط هنا لا يصح لأنه لم ينوه أثناء اللفظ قالوا : لأن الشرط والاستثناء يصرفان اللفظ عن مقتضاه فوجب أن يقترنا به لفظاً ونية في المنجز والمعلق فتدخل فيه يمين .(22/9)
وختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وذكر شيخ الإسلام : " أنه هو ما يدل عليه كلام الإمام أحمد ، وأن عليه كلام متقدِمي أصحاب الإمام أحمد "، واختاره من المتأخرين الشيخ عبدالرحمن بن سعدي: أن الاستثناء يصح وإن لم ينوِ المستثنى منه فيما يقصد به اليمين لا الإيقاع .
واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة ، فمن ذلك قوله تعالى { ولاتقولن لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } ، فجمهور المفسرين أن هذا فيمن نسي الاستثناء.
والقول الثاني عند المفسرين أنه يعم من نسي الاستثناء ومن لم ينسه قال ابن القيم: وهو الصواب : " وعلى كلا التفسيرين فإن المسألة المتنازع فيها داخلة في هذه الآية " ، فالرجل إذا قال: " سأفعل غداً " وقد نسي أن يستثني ثم قال " إن شاء الله " فهذا الإستثناء نافع مع أنه لم ينوه مع لفظه ، فكذلك في هذه المسألة المتنازع فيها ، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين ، أن سليمان عليه السلام قال: " لأطوف الليلة على سبعين تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله " فقال له الملك: " إن شاء الله " فلم يقل ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فلم تحمل شيئاً - أي من نسائه – إلا واحداً قد بقي أحد شقيه ، ولوا قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله ) ، فهذا الحديث دل على أن قوله: " إن شاء الله " بعد الكلام نافع ومؤثر، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه لما نهى عن قطع شوك مكة و حشيشها قال له العباس " إلا الإذخر " فقال : ( إلا الإذخر ) ، ولم يكن قد نوى الاستثناء وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(22/10)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
باب الطلاق في الماضي والمستقبل
قوله : [ إذا قال : أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك ، ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع ]
إذا قال الزوج لامرأته: " أنت طالق أمس " أو نحو ذلك فإن الطلاق لا يقع ، وكذلك إذا قال: " أنت طالق قبل أن أنكحك " فالطلاق لا يقع ، وذلك لأن فيه رفعاً لاستباحة النكاح في المضي ، وذلك ليس للمكلف ، فالمكلف إنما له رفع الاستباحة في الحال أو في المستقبل، وأما رفع إباحة الفرج وغيره مما يباح في النكاح في المضي فليس له ذلك. ، قوله:" ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع " هذا قيد في عدم الوقوع لكن لو نوى الوقوع في الحال فإن الطلاق يقع ، فإذا قال : أنت طالق أمس " وهو ينوي الوقوع في الحال أي أن الطلاق واقع عليها في الحال استناداً إلى وقوعه في المضي فإنه يقع ، والقول الثاني في المسألة :أنه لا يقع وهو أظهر وذلك لأن النية لا يحتملها لفظه ، فهو ينوي وقوع الطلاق في الحال ، ولفظه في المضي ، فكما لو كانت النية مجردة ، والنية المجردة لا يقع معها الطلاق.
قوله : [ وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبل ]
الذي لا يقع - فيما تقدم – هو إنشاء الطلاق ، لكن لو كان مخبراً ، فقال لها: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء ، فإذا قال: " أنت طالق أمس " وقال أريد بذلك طلاقاً سابقاً مني أو طلاقاً سابقاً من غيري ، وأمكن هذا ، وذلك بأن يكون صادقاً في قوله فقد طلقها هو قبل ، أو طلقها زوج آخر قبله ، فإنه يقبل لأن لفظه يحتمله ، وأما إذا لم يكن ذلك ، وذلك بأن لا يكون طلقها قبل ذلك ولا يكون لها زوج قبله فإن الطلاق يقع ، وذلك لأنه حينئذٍ يكون قد أخبر عن قول له فيكون في ذلك إقرار يتعلق به حق غيره وهو المرأة وحينئذٍ لا يقبل في الحكم ، لكنه يديّن بنيته التي يدعيها فيما بينه وبين ربه.(23/1)
قوله : [ فإن مات أو جُنّ أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق ]
إذا قال لها: " أنت طالق أمس " ثم جن أو مات أو خرس قبل بيان مراده فإنها لا تطلق إعمالاً للمتبادر من لفظه أنه إنشاء ، والإنشاء للطلاق في المضي لا يقع منه الطلاق ، وأيضاً عصمة النكاح ثابتة فلا تزال بالشك ، فإذا قال: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وادعى أنه ينوي بذلك طلاقاً سابقاً وقد كان طلقها طلاقاً سابقاً ، لكنه قال لها ذلك في حالة غضب أو عند سؤالها الطلاق فإنه لا يقبل قوله وذلك لوجود قرينة الحال التي تكذب قوله.
قوله : [ وإن قال : طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر ]
إذا قال لها: " أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيدٍ بشهر " ولا يدري متى يقدم زيد ، فيحتمل أن يقدم بعد شهر من اليوم ويحتمل أن يكون بعد شهر من الغد ، ويحتمل أن يكون بعد شهرين ، وعليه تبقى المرأة معلقة ولا يحل له أن يطأها وذلك لأنه في كل يوم يحتمل أن يكون هو اليوم الذي يكون قدوم زيدٍ بعده بشهر ، وعليه فلا يحل له أن يطأها إن كان الطلاق يبينها وتجب لها النفقة لأنها محبوسة لأجله.
قوله : [ فقدم قبل مضيه لم تطلق ]
فإذا قال:" أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " فقدم زيد بعد أسبوع ، فإن المرأة لا تطلق ، وذلك كما لو قال:" أنت طالق أمس " لأن طلاقه يكون في المضي ، لأن زيداً قدم بعد أسبوع فحينئذٍ يكون الطلاق قد وقع في المضي ، لأن قبل قدوم زيد بشهر مضياً.
قوله : [ وبعد شهرٍ وجزءٍ تطلق فيه يقع ]
أي إذا جاء بعد شهر وجزء أي لحظة يقع فيها قول " أنت طالق " فإذا جاء بعد شهر وجزء فإنه يقع الطلاق عليها وذلك لوجود الصفة المذكورة.
قوله : [ فإن خالعها بعد اليمين بيومٍ ، وقدم بعد شهرٍ ويومين صح الخلع ، وبطل الطلاق ](23/2)
إذا قال: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " وبعد يوم خالعها ، ثم قدم زيد بعد شهر ويومين ، فتبين لنا أن المرأة كانت في عصمته حين المخالعة ، فعلى ذلك الخلع صحيح لثبوت الزوجية ويبطل الطلاق لأنه صادف امرأة بائناً في الخلع.
قوله : [ وعكسها بعد شهر وساعة ]
أي لحظة يقع بمثلها الطلاق ، فإذا قال لها: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " ثم خالعها وبعد شهر وساعة قدم زيد ، فالمخالعة هنا صادفت بينونة ، وعليه فالطلاق صحيح والخلع باطل ، والخلع إنما يصح حيث لم يكن حيلة ، أما إذا كان حيلة فإنه لا يصح كما تقدم.
قوله : [ وإن قال : طالقٌ قبل موتي طلقت في الحال ]
إذا قال لزوجته: " أنت طالق قبل موتي " فإنها تطلق في الحال، وذلك لأنه ما من وقت إلا وهو قبل موته ، أما لو قال: " قبيل موتي " فإن هذا الجزء يفيد التصغير فيكون في الجزء الذي يليه الموت أي في آخر لحظات عمره.
قوله : [ وعكسه معه أو بعده ]
فلوا قال لامرأته: " أنت طالق مع موتي أو بعد موتي " فإن الطلاق لا يقع وذلك لأن البينونة تحصل بالموت فإذا مات الزوج بانت منه امرأته، لذا تعتد وتنكح زوجاً آخر بعده ، وعلى ذلك فإن هذا الشرط يصادفها بائناً والبائن لا يقع عليها الطلاق.
فصل
قوله : [ وأنت طالقٌ إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل لم تطلق ]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن طرت إلى السماء أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهباً " ونحوه من المستحيل فإنها لا تطلق وذلك لأن هذه الصفة لا توجد ، فهذه الصفة التي علق الطلاق عليها لا توجد ، والطلاق إنما يقع حيث وجدت هذه الصفة والصفة هذه لا توجد لأنها من المستحيلات.
قوله : [ وتطلق في عكسه فوراً ]
إذا قال " أنت طالق إن لم تستطيعي أن تصعدي السماء " فقد علق الطلاق على عدم فعل المستحيل ، وعدم فعله معلوم في الحال ، فيعلم تحققه في الحال فيقع الطلاق فوراً.(23/3)
قوله : [ وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميت أو لأصعدن السماء ونحوهما]
فهذه أمور مستحيلة ، فالميت لا يمكن قتله ، وكذلك لأصعدن السماء ونحوهما ، ففي مثل هذه المسائل يقع الطلاق في الحال لأنه علق طلاقه على عدم فعله للمستحيل وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال كما لو قال أنت طالق لأقتلن الميت أو إن لم أقتل الميت .
قوله : [ وأنت طالق اليوم إن جاء غدٌ لغو ]
إذا قال رجل لامرأته " أنت طالق اليوم إن جاء غدٌ " فإن ذلك يكون لغواً، قالوا : لأن مقتضى لفظه إيقاع الطلاق في هذا اليوم حيث جاء الغد فيه ، ومعلوم أن مجيء الغد في اليوم أمر لا يمكن ، وعليه فإن هذا يكون من باب اللغو.
والقول الثاني في المسألة وهو قول القاضي من الحنابلة أن الطلاق يقع في الحال لأن مجيء الغد معلوم قطعاً فالراجح أنه يكون طلاقاً اليوم وذلك لأن مجيء الغد أمر معلوم.
قوله : [ وإذا قال : أنت طالق في هذا الشهر أو اليوم طلقت في الحال ]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت طالق في هذا الشهر " أو " هذا اليوم " أو " في هذه السنة " فإن الطلاق يقع في الحال ، وذلك لأنه جعل اليوم وجعل الشهر وجعل السنة ظرفاً لطلاقه وهذا يحصل في كل جزء من أجزاء اليوم وفي كل جزء من أجزاء الشهر وفي كل جزء من أجزاء السنة.
قوله : [ وإن قال : في غدٍ أو السبت أو رمضان طلقت في أوله ]
إذا قال " أنت طالق في السبت أو في غدٍ أو في رمضان " فإنها تطلق في أوله ، وذلك لأن جعل رمضان ظرفاً لطلاقه فكل جزء من رمضان يصح أن يكون ظرفاً لهذا الطلاق وهذا هو ظاهر لفظه.
قوله : [ وإن قال : أردتُ آخر الكل دُين وقبل ](23/4)
فإذا قال " أنا لم أرد أوله وإنما أردت آخره " قُبل منه في الحكم ودين بنيته فيما بينه وبين ربه ، وذلك لأن نيته يحتملها لفظه ، وذلك لأن وسط الشهر وآخره منه وعليه فلا تطليق عليه إلا في آخر الشهر ، لكن إذا قال " أنت طالق غداً " أو " يوم السبت " ولم يقل " في " فهنا قد جعل الطلاق في غدٍ كله فلا بد وأن يشمل اليوم كله الطلاق ، وعليه فلا يحكم عليه بالظاهر في نيته ، لأن نيته تخالف ظاهر لفظه ولا يحتملها اللفظ ، فإذا قال " أنت طالق غداً أو يوم السبت " وقال أردت آخر النهار ، فإن ذلك لا يقبل منه وذلك لأن مقتضى لفظه وقوع الطلاق عليها في اليوم كله وأنها في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم طالق وعليه فنيته تخالف ظاهر لفظه ، وعلى ذلك فلا يقبل قوله في الحكم ، والمشهور في المذهب ؛ أنه لا يُدّن به فيما بينه وبين ربه ، والذي يترجح وهو قول في المذهب أنه يدين فيما بينه وبين ربه بنيته وذلك لأن اللفظ يحتمل ذلك من باب المجاز ، أي أنت طالق بعض غدٍ أو بعض يوم السبت.
قوله : [ وأنت طالق إلى شهرٍ طلقت عند انقضائه ]
إذا قال لها " أنت طالق إلى شهر " أو " إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه عند انقضاء الشهر وعند انقضاء السنة ، وذلك لأنه جعل للطلاق غاية وهي قوله " إلى شهر" والطلاق لا غاية لآخره كما هو معلوم فتعين أن تكون الغاية لأوله ، فعلى ذلك قوله " إلى شهر " أي ابتداءً للطلاق بعد مضي الشهر ، وكذلك إذا قال " أنت طالق سنة ".
قوله : [ إلا أن ينوي في الحال فيقع ]
فإذا نوى ذلك في الحال فإن الطلاق يقع.
قوله : [ وطالقٌ إلى سنةٍ تطلق باثني عشر شهراً ]
إذا قال " أنت طالق إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه بمضي اثني عشر شهراً.
قوله : [ فإن عرفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة ](23/5)
فإذا قال " أنت الطلاق إذا قضت السنة " أو قال " إذا مضى الشهر " ، فإذا مضى الشهر الذي هو فيه أو مضت السنة التي هو فيها وإن كان في آخرها فإنها تطلق عليه ، فلو أن رجلاً قال لامرأته وهو في العاشر من ذي الحجة " أنت طالقة إذا مضى الشهر " فهنا " أل " هي " أل " العهدية الحضورية و عليه فتطلق المرأة ، إذا مضى هذا الشهر الذي هم فيه ، كذلك إذا قال في شهر ذي القعدة " أنت طالق إذا مضت السنة " فتطلق عليه إذا مضت السنة التي هو فيها وذلك بانسلاخ شهر ذي الحجة، وإن قال أردت اثني عشر شهراً قُبِلَ حكماً.
فائدة:
إذا قيل له قد زنت امرأتك فقال: " هي طالق " ، ثم تبين أنها لم تكن زنت، فقال أبي عقيل: لا تطلق وجعل السبب كالشرط اللفظي وهو قول عطاء وهو الظاهر كأنه قال إن زنت فهي طالق.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(23/6)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
باب تعليق الطلاق بالشروط
أي بالشروط اللغوية كقوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " والشرط هنا ينقسم إلى قسمين :
شرط محض : وهو الذي يقصد المشترط فيه إيقاع الطلاق مع حصوله - أي مع حصول هذا الشرط - ، فإذا قال لزوجته " إن جاء رمضان فأنت طالق " أو قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " فهده شروط محضة يقصد بها إيقاع الطلاق متى حصل الشرط ، وفي البخاري معلقاً : أن ابن عمر سأله نافع عن رجل قال لامرأته " أنت طالق البته إن دخلت الدار " فقال : إن دخلت الدار فهي بائن.
الشرط الذي لا يقصد معه إيقاع الطلاق وإنما يقصد معه الحض أو المنع لنفسه أو لامرأته أو لغيرهما ، كأن يقول لامرأته " إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق " وهو لا يقصد إيقاع الطلاق بل يقصد منعها من الخروج ، أو يقول الآخر " إن لم تدخل في داري فامرأتي طالق " أو يقول " إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق " ونحو ذلك مما يقصد معه الحض أو المنع وهو ما يسمى بالحلف بالطلاق ، فليس المقصود بالحلف بالطلاق أن يقول " والطلاق " بل المقصود أن تكون الجملة التي فيها تعليق الطلاق بمعنى اليمين ، فإذا قال للرجل " إن لم تدخل الدار فامرأتي طالق " كأنه قال " والله لأطلقن امرأتي إن لم تدخل الدار " .
فجمهور أهل العلم أنه يقع الطلاق فيها إذا وقع الشرط وذلك لحصول الشرط الذي علق الطلاق به.
وذهب أهل الظاهر وهو قول طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الجوزية واختاره الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن الطلاق لا يقع وأنها يمين ويكفرها ، واستدلوا بما يأتي :(24/1)
أن هذه الألفاظ أيمان باتفاق أهل اللغة ، وعليه عرف الفقهاء كما ذكر شيخ الإسلام ، وعليه فيدخل في عموم قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ).
أن العبرة بالنيات والمقاصد لا بالألفاظ ، فالأحكام لا تترتب على الألفاظ إلا إذا كان المتكلم قاصداً المعنى وهنا ليس الأمر كذلك فهو لا يقصد الطلاق وإنما يقصد الحث والمنع.
ويستدل على هذا بالقصة التي رواها البيهقي وغيره عن أبي رافع ؛ أن مولاته قالت له " أنا يوماً يهودية ويوماً نصرانية وعبيدي كلهم أحرار ومالي كله في سبيل الله وأمشي على قدمي إلى بيت الله إن لم تطلق امرأتك " فسأل ابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وأم سلمة فكلهم قال " تكفر عن يمينها " ، فإذا كان هذا في في العتق وفي النفقة وفي الصدقة المستحبة التي يتشوف الشارع إليها إذا كان هذا في ذكره فأولى أن يكون في الطلاق الذي يبغضه الشارع ، وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته.
……قوله : [ لا يصح إلا من زوج ]
……لا يصح الطلاق المعلق إلا من زوج ، فلو قال " إن تزوجت فلانة فهي طالق " فلا تطلق عليه عند جماهير أهل العلم ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن : ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك ) وهي أجنبية عنه ، وقال تعالى { يا أيها الذين أمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن } ، فرتب الطلاق على النكاح فلا طلاق قبل نكاح.
قوله : [ فإذا علقه بشرطٍ لم تطلق قبله ]
هذا ظاهر ، فإذا قال " إن خرجت الدار فأنت طالق " ، لم تطلق قبله لعدم حصول الشرط الذي قد علق الطلاق به.
قوله : [ ولو قال : عجلته ](24/2)
إذا قال لامرأته " أنت طالق إن جاء شهر رمضان " ثم قال " عجلته " أي عجلت الطلاق المعلق ، فهنا لا ينفعه هذا فلا يمكنه أن يعجله بل يقع في الوقت الذي قد شرطه فيه ، قالوا ؛ لأنه ليس له من سبيل إلى ذلك فهو معلق بزمن مستقبل فلم يكن إليه من سبيل لا بتصريح ولا بتأخير ، وعليه فإذا أراد أن يطلقها طلاقاً آخر فإنه يطلقها حينئذٍ فإن كانت في عصمته في رمضان طلقت طلاقاً آخر هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وهذا هو مذهب جمهور أصحاب الإمام أحمد ، قال شيخ الإسلام " وفي ذكر جمهور الأصحاب نظر وذلك أنه يملك تعجيل الدين ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد في الجملة سواء في شرع أو شرط " ، وفيما قاله رحمه الله قوة والله أعلم.
قوله : [ وإن قال سبق لساني بالشرط ولم أرده وقع في الحال ]
إذا قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم قال " سبق لساني بالشرط ، إذن هو يريد أن يوقعه فإنه يقع في الحال لأنه أقره على نفسه بما هوأغلظ .
قوله : [ وإن قال : أنت طالق وقال : أردت إن قمتِ لم يقبل حكماً ]
إذا قال " أنت طالق " ثم قال " أردت إن قمت " فإن هذا لا يقبل في الحكم لأن هذا خلاف الظاهر ، فقوله " أنت طالق " هذا يدل على أنه أراد الطلاق المنجز وكونه يقول " أردت إن قمت " هذا يجعله طلاقاً معلقاً وهذا خلاف الظاهر المتقدم والحكم إنما يتعلق بظاهر الألفاظ ، وأما في الباطن فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه.
قوله : [ وأدوات الشرط إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما ، وهي وحدها للتكرار ]
فالأدوات المتقدمة لا تفيد التكرار سوى " كلما ".
قوله : [ وكلها ومهما بلا لم أو نية فورٍ أو قرينته للتراخي ]
الأدوات المتقدمة وكذلك مهما إذا لم تقترن بها " لم " ولم تقترن بها نية الفورية أو قرينة الفورية فإنها تفيد التراخي.
قوله : [ ومع لم للفور ](24/3)
فإذا اقترنت بهذه الأدوات " لم " فإنها تفيد الفورية إلا بقرينة تدل على التراخي ، كأن يقول " إذا لم تفعلي كذا فأنت طالق " أو " متى لم تفعلي كذا " أو " أي وقت لم تفعلي كذا " أو " كلما لم تفعلي كذا فأنت طالق " فهي تفيد الفورية.
قوله : [ إلا إن مع عدم نية فورٍ أو قرينةٍ ]
"إن" إذا اقترنت بها " لم " فإنها لا تفيد الفورية ، مع عدم نية الفور أو القرينة.
قوله : [ فإذا قال : إن قمت أو إذا أو متى أو أي وقتٍ أو من قامت ، أو كلما قمت فأنت طالقٌ فمتى وجد طلقت ]
فمتى وجد القيام فإنها تطلق في أي يوم وفي أي ساعة.
قوله : [ وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما ]
إذا قال " إن قمتِ فأنت طالق " فقامت فإنها تطلق ، فإن قامت مرة أخرى فإنها لا تطلق فإن هذه الأدوات لا تفيد التكرار بخلاف " كلما " ، فإذا قال " كلما قمت فأنت طالق " فإذا قامت فإنها تطلق فإذا راجعها ثم قامت مرة أخرى فإنها تطلق لأن كلما تفيد التكرار ، وقال شيخ الإسلام لاتطلق إلا واحدة وهو الراجح كما تقدم .
قوله : [ وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ولم تقم قرينة بفور ولم يطلقها طلقت في آخر حياة أولهما موتاً ]
إذا قال لامرأته " إن لم أطلقك فأنت طالق " ولم ينو الفور ولم تقم قرينة على الفورية ولم يطلقها ، فإنها تطلق في آخر حياة أولهما موتاً ، لأن هذه الأداة للتراخي ، فإذا مات أحدهما علمنا الحنث.
قوله : [ ومتى لم أو إذا لم أو أي وقتٍ لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل طلقت ]
إذا قال لامرأته " متى لم أطلقك فأنت طالق " أو إذا لم أطلقك فأنت طالق " أو " أي وقت لم أطلقك فأنت طالق " فهذه الأدوات تفيد الفورية لاقتران " لم " بها فإذا قال ما تقدم ومضى وقت يمكن إيقاع الطلاق فيه ولم يفعل طلقت.
قوله : [ وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى ](24/4)
فإذا قال " كلما لم أطلقك فأنت طالق " ومضى زمن يمكن إيقاع ثلاث طلقات مرتبة فيه فإنها تبين به المدخول بها لأنه يكون بذلك قد وقع عليها الطلاق ثلاثاً ، وأما غير المدخول بها فإنها تبين بطلقة ويكون طلاقاً بائناً بطلقة.
قوله : [ وإن قمت فقعدتِ ، أو ثم قعدت أو إن قعدت إذا قمت أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد ]
إذا علق طلاقه على شرطين مرتبين فلا يقع الطلاق إلا بهذين الشرطين مرتبين، فإذا قال لها " إن قمت فقعدت فأنت طالق " فإذا قامت فقعدت فإنها تطلق ، وإذا قال لها " إن قمت ثم قعدتِ فأنت طالق " فإنها تطلق إذا قامت ثم قعدت " لأنه قد شرط شرطين مرتبين فلا تطلق إلا بقعود مسبوق بقيام .
قوله : [ وبالواو تطلق بوجودها ، ولو غير مرتبين ]
إذا قال " إن قعدت وقمت فأنت طالق " فلا يشترط الترتيب بل يكتفي بالجمع ، لأن الواو لا تفيد الترتيب ، فإذا قال لها " إن خرجت من الدار وذهبت إلى السوق فأنت طالق " فخرجت من الدار لكنها لم تذهب إلى السوق ، فلا يقع الطلاق حتى يجتمع المتعاطفان بالواو.
قوله : [ وبأو بوجود أحدهما ]
إذا قال إن خرجت من الدار إلى السوق أو إلى أهلك فأنت طالق " فخرجت من الدار إلى أهلها أو خرجت من الدار إلى السوق فإنها تطلق بأحدهما لأن " أو " تفيد ذلك ، وما تقدم ذكره حيث كان بدلالة اللغة وأما العامة فإنه يحكم عليهم بما تقتضيه ألفاظهم عرفاً.
فصل
قوله : [ إذا قال : إن حضت فأنت طالقٌ طلقت بأول حيضٍ متيقن ]
وذلك لوجود الصفة المشروطة ، أما إذا كان حيضاً مشكوكاً فيه فلا ، لأن الأصل بقاء عصمة النكاح ، فالنكاح هو المتيقن فلا يزول بالشك.
قوله : [ وإذا حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضةٍ كاملة ](24/5)
إذا قال لها " إن حضت حيضة فأنت طالق " فهنا علق الطلاق بحيضة كاملة فإذا حاضت مرة واحدة فإنها تطلق وهذا إنما يكون بأول الطهر ، فأول طهرها يتم لها حيضة كاملة ، فإن قال لها وهي حائض " إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق " فإنها لا تطلق حتى تطهر من حيضها التي هي فيه ، فإذا طهرت منه فحاضت حيضة كاملة فإنها تطلق بأول الطهر.
قوله : [ وفي إذا حِضتِ نصف حيضةٍ تطلق في نصف عادتها ]
إذا قال لها " إن حضت نصف حيضة فأنت طالق " فإنها تطلق في نصف عادتها ، فإذا كانت عادتها ستة أيام فإذا تم اليوم الثالث فإنها تطلق ، وعليه فلا يُعلم نصف العادة حتى يمضي الحيض كله وذلك لأن العادة قد تطول وقد تقصر.
والمشهور في مذهب الإمام أحمد أن المرأة يقبل قولها في الحيض فإذا قالت " إني قد حضت حيضة" فإن قولها يقبل ، وقال بعض الحنابلة لا يقبل إلا بيمين لإحتمال كذبها ، وعن الإمام أحمد وهو قول أبي بكر من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو أرجح الأقوال الثلاثة " أنها تعطى خرقة فتضعها في فرجها ، فتعطيها بعض النساء الثقات قطنة أو نحوها فتضعها في فرجها " وذلك لأنه يمكن أن يعلم الحيض من غير جهتها فلم يقبل فيه القول المجرد ، فالقول المجرد إنما يقبل حيث لا يمكن أن يعلم إلا من جهة الشخص وأما إذا كان يمكن العلم به من غير جهته فإنه لا يقبل قوله وهنا يمكن أن يعلم الحيض الذي ادعته وأنكره الرجل ، يمكن أن يعلم من غير جهتها ، بخلاف ما لو قال لها " إن كنت تبغضيني فأنت طالق " فقالت المرأة " إني أبغضك " فإنه يقع الطلاق لأنه أمر قلبي ولا يطلع عليه غيرها فإن قولها يصدق لأنه لا يعلم إلا من جهتها.
فصل
قوله : [ إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف ](24/6)
إذا قال " إن كنت حاملاً فأنت طالق " فولدت لأقل من ستة أشهر سواء كان الزوج يطأ أو لا يطأ فحينئذٍ يعلم أنها حامل لأنها لما ولدت لأقل من ستة أشهر علمنا قطعاً أنها حامل حين حلفه ، سواء كان يطأها أو لا يطأها وعليه فإنها تطلق ، وإذا ولدت لأقل من أربع سنين وهو لا يطأها فنقطع أنها حامل وهذا هو أكثر مدة الحمل في المذهب وعليه فتطلق ، وقد تقدم أن المدة القصوى للحمل غير محددة كما في كتاب الفرائض فإذا أتت به وهي فراشٌ لزوجها و لا يطأها ولو كان بعد أكثر من أربع سنين فهو ابنٌ له ، وعليه فتكون حاملاً عند قوله المتقدم وإن أتت به لأكثر من أربعة سنين.
فإن وطيء بعد الحلف و ولدت لستة أشهر فأكثر من أول وطئه لم تطلق لإمكان أن يكون الحمل من الوطء بعد الحلف و الأصل بقاء عصمة النكاح.
قوله : [ وإن قال : إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق ]
إذا قال " إن لم تكوني حاملاً الآن فأنت طالق " وهي عكس المسألة السابقة.
قوله : [ حرم وطئها قبل استبرائها بحيضة في البائن ]
فهذا الحكم للمسألتين كلتيهما فإنه يحرم عليه الوطء حتى يستبريئها بحيضة ، أي حتى تثبت براءة الرحم من الحمل بحيضة واحدة فإذا حاضت فإنه يعلم أنها ليست بحامل في المسألة الأولى فلا تكون طالقاً ، و عنه و هو ظاهر كلام المؤلف أنه لا يحرم في المسألة الأولى وطؤها عقيب اليمين ما لم يظهر بها حمل وفي المسألة الثانية يعلم أنها ليست بحامل فتكون طالقاً لكن هذا في البائن فهي التي يحرم وطئها ،ن لكن لو كان طلاقاً رجعياً فله أن يطأ لأن الرجل لا يمنع من وطء امرأته في الطلاق الرجعي.
قوله : [ وهي عكس الأولى في الأحكام ]
وهذا ظاهر فالحالة الأولى إثبات والمسألة الثانية نفي فعكس الأحكام المتقدمة في المسألة الأولى يثبت عكسها في المسألة الثانية فماذا قلنا في المسألة الأولى يقع الطلاق فنقول في المسألة الثانية لا يقع الطلاق.(24/7)
قوله : [ وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً ]
إذا قال لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً ، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فولدتهما طلقت ثلاثاً لوجود الصيغتين اللتين وقع عليهما الطلقات ويأتي ما في هذه المسألة من النظر في آخر هذا الدرس.
قوله : [ وإن كان مكانه إن كان حملُك أو ما في بطنك لم تطلق بهما ]
إذا قال لها مكان قوله إن كنت حاملاً قال " إن كان حملك " أو قال " إن كان ما في بطنك " فإنها لا تطلق إن ولدتهما وذلك لأن قوله هنا " حملك " وقوله " ما في بطنك" ظاهره الحصر بأن يكون ذكراً أو أنثى وهو هنا بعضه ذكرٌ و بعضه أنثى ، وعليه فلا يقع الطلاق.
فصل
قوله : [ إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين على الولادة بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً ، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به ]
في المسألة المتقدمة منها تعليق الطلاق على الحمل وأما هنا فهو تعليق له على الولادة ، فإذا قال لامرأته " إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين " فولدت ذكراً ثم ولدت أنثى حياً كان المولود أو ميتاً طلقت بالأول منها سواءً كان ذكراً أو أنثى ، فإن كان ذكراً فإنها تطلق طلقة وإن كان أنثى فإنها تطلق طلقتين فإذا ولدت ذكراً فإنها تكون قد طلقت طلقةً ، فلما أتت بالثاني فإنها لا تطلق بالثاني لكنها تبين به، لأنها بالثاني تكون قد وضعت حملها والمرأة إذا وضعت حملها فقد خرجت من عدتها وإذا خرجت من عدتها فهي بائن منه.
قوله : [ وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة ]
فإذا أشكل كيفية وضعهما فلا يدري آلذكر سابقٌ أم الأنثى فواحدة ، وذلك لأن الأصل بقاء النكاح والطلقة الثانية مشكوك فيها وعليه فتبين بواحدة.
فصل
قوله : [ إذا علقه على الطلاق ، ثم علقه على القيام ، أو علقه على القيام ، ثم على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين فيهما ](24/8)
إذا قال لامرأته " إن طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن قمت فأنت طالق " فقامت طلقت طلقتين ، الطلقة الأولى بقيامها والطلقة الثانية بطلاقها.
وقوله " أو علقه على القيام ، ثم على وقوع الطلاق " ؛ إذا قال لها إن قمت فأنت طالق " ثم قال " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " فقامت فإنه يقع لها الطلاق المعلق الأول ، وبوقوعه عليها يقع الطلاق الثاني.
قوله : [ وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة ]
هذه بعكس المسألة الأولى ، فإذا علقه على قيامها ثم على طلاقها ، فالفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الأولى ؛ أن المسألة الثالثة هي عكس الأولى ، والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الثانية أن المسألة الثانية فيها وقوع الطلاق فإنه قال في المسألة الثانية " ثم علقه على وقوع الطلاق " ، أما في المسألة الثالثة فإنه قال " ثم علقه على طلاقها " ، وفرق بين قوله " إن طلقت فأنت طالق " وبين قوله " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " والمسألة الثالثة هي إذا قال لامرأته " إن قمتِ فأنت طالق " ثم قال بعد ذلك " إن طلقتك فأنت طالق " فإذا قامت فلا يقع عليها إلا طلاق واحداً ، لأن قوله " إن طلقتك فأنت طالق " يقع الطلاق ليس منه إنما بالشرط الذي قد وقع فهو طلاق معلق بخلاف ما إذا علقه على وقوع الطلاق فإنه متى ما قلنا بوقوع الطلاق فحينئذٍ يحصل الشرط.
قوله : [ وإن قال : كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً ]
إذا قال " كلما طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " أنت طالق " فحينئذٍ يقع الطلقة الأولى وهي قوله " أنت طالق " ويقع الطلاق المعلق فيكون عليها طلقتان لكن لو قال " كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق" فالثانية طلقة واقعة عليها فتقع بها ثالثة.
مسألة :(24/9)
وهي تسمى بالسرجية ؛ نسبة إلى ابن سُريج الشافعي ، وهي فيما إذا قال الرجل لامرأته " إن وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " قال ابن سريج الشافعي " وهو قول محدث في الإسلام " كما قال شيخ الإسلام " قال لا يقع شيء " ، لأن قوله " أنت طالق " مسبوق بثلاث وعليه فهو طلاق منفي وليس بشيء لأنه طلقة رابعة والطلقة الرابعة ليست بشيء ، وما دام أنها ليست بشيء فكذلك ما قبلها ، وهو قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " أي كذلك الذي علقت عليه ليس بشيء فما دام منفياً فلا يمكن أن يثبت ما يترتب عليه ، هذا هو قول ابن سريج وهو كما تقدم قول محدث في الإسلام.(24/10)
وقال الحنابلة ؛ يقع الطلاق ثلاثاً ، فقوله " أنت طالق " يقع طلقة ، وقد قال " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " فنختار من هذه الثلاث اثنتين فتكون طالقاً ثلاث ، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ابن عقيل من الحنابلة " أنها لا تطلق إلا واحدة في قوله أنت طالق " ، وأما قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " فعلى القول بصحة طلاق الثلاث بكلمة واحدة ، وقد تقدم أن شيخ الإسلام لا يختار هذا القول وعليه فما نذكره هو دليل ابن عقيل فعلى القول بصحة طلاق الثلاث يكون من الطلاق الماضي والطلاق في المضي لا يقع ، فالراجح أنه تقع عليها طلقة واحدة ، و في قول المؤلف " إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى " ، إن ولدتهما فإنها تطلق ثلاثاً كما تقدم تقريره وكذلك في الحمل ، وهذا فيه نظر ، فإن مراده في الغالب الحمل الواحد والولادة الواحدة ، إذ الأصل أن يكون حملاً واحداً وأن تكون الولادة ولادة واحدة ، وعليه فيقع على ما نواه ، وهو رواية عن الإمام واختاره شيخ الإسلام ، فإذا قال الرجل لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً ، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فتبين أنها حامل بذكر وأنثى جميعاً فإن هذا ليس مراده بل مراده حيث كان الحمل منفردأ أي منفرداً بالذكورية أو منفرداً بالأنثوية والأمر لم يكن كذلك وهو حمل كلامه على الأصل ونّوعه هنا بالذكورية والأنثوية وعلق على هذا التنويع لأن الأصل هو هذا التنويع ، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.
فصل
قوله : [ إذا قال : إذا حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ ، ثم قال : أنت طالق إن قمت طلقت في الحال ]
تقدم معنى الحلف بالطلاق عند الفقهاء و أن معناه تعليق الطلاق بشيء للحض و المنع فإذا قال " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " قم قال " أنت طالق إن قمت " ، فقوله هنا " أنت طالق إن قمت " هذا حلفٌ بالطلاق فتطلق في الحال وذلك لوجود الصفة.(24/11)
قوله : [ لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرطٌ لا حلف ]
إذا قال لها " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " ، ثم قال بعد ذلك " إن طلعت الشمس فأنت طالق " فلا تطلق عليه في الحال وذلك لأن قوله " إن طلعت الشمس فأنت طالق " ليس حلفاً بل هو شرط محض لأن المكلف لا يقصد بمثله الحض أو المنع وهذا ظاهر ، وقد تقدم الفرق بين الحلف والشرط وأن عرف الفقهاء على ذلك كما تقدم نقله عن شيخ الإسلام.
قوله : [ وإن حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ ، أو إن كلمتك فأنت طالقٌ وأعاده مرةً أخرى طلقت مرة ]
إذا قال لامرأته " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقةً واحدة وذلك لوجود الصفة وهي الحلف بالطلاق ، وإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقة واحدة ، وذلك لأن قوله " إن كلمتك فأنت طالق " كلام وقد علق طلاقها بكلام وهذا كلام فيقع الطلاق به.
قوله : [ ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاثٌ ]
إذا قال لها " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " ثم قال " وإن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت واحدة ، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثانية ، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثالثة ، لوجود الصفة المعلق عليها الطلاق في كل مرة ، هذا ما لم يقصد إفهامها أو التأكيد ، أما إذا قصد إفهامها أو التأكيد فإنه لا يقع إلا في الأولى ، فإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " طلقت واحدة ، فإن قال لها ذلك مرة أخرى وقصد إفهامها أو التأكيد فإنها لا يقع عليه طلقة أخرى لأنه لا يقصد الطلاق وإنما يقصد إفهامها قوله أو يقصد التأكيد.
فصل
قوله : [ إذا قال : إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو قال : تنحي أو اسكتي طلقت ]
فتتحققي ؛ أي تحققي قولي وأنتهي له.(24/12)
إذا قال لزوجته " إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو اسكتي أو تنحي " فإنها تطلق لأنه قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " فتحققي " أو " اسكتي " وهذا كلام فالصفة قد وجدت وعليه فالطلاق واقع ، وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً سواء أراد إفهامها أو أراد الابتداء بالكلام وهذا فيه نظر ظاهر ، ولذا اختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة ، فإذا قال " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال " اسكتي " وأراد بذلك منعها من الكلام ولم يرد بذلك ابتداء كلام يقع به الطلاق ، فإن الطلاق لا يقع ، وأما إن كان يريد ابتداء كلام يقع به الطلاق فإن الطلاق يقع والراجح هو ما ذكره ابن القيم لأن هذا هو مقصود الحالف فمقصود الحالف أن يتكلم بكلام في مجلس آخر وأما أن يقصد أن ذلك يدخل بمجرد الكلام ولو كان يريد به التأكيد أو الإفهام أو نحو ذلك و هو احتمال في المغني و صوبه صاحب الأنصاف.
قوله : [ وإن بدأتك بالكلام فأنت طالق ، فقالت : إن بدأتك به فعبدي حر ، انحلت يمينه ]
إذا قال لزوجته " إن بدأتك بكلام فأنت طالق " فقالت له امرأته " إن بدأتك بالكلام فعبدي حر " فإن يمينه تنحل فلا حنث عليه وذلك لأنها بدأته بالكلام ، فإذا تكلم معها فلا يكون مبتدءاً الكلام.
قوله : [ ما لم ينو عدم البداءةِ في مجلس آخر ]
فإذا كان لا يريد ما يقع بينه وبينها من نقاش وجدال أو نحو ذلك في ذلك المجلس بل يريد ما يكون بعد ذلك ، فإن كان هذا مرداه و مقصوده فإنه يحنث إن بدأها بالكلام وإن قالت له ما تقدم ، لأنه ينوي مجلساً آخر ووقتاً آخر.(24/13)
والقول الثاني في المسألة وهو احتمالٌ للموفق ابن قدامة ، وقال صاحب الإنصاف في هذا القول " وهو قوي جداً " وهو كما قال ، هذا القول مبني على أنه يريد بذلك وقتاً آخر وعليه فلا يحنث إلا أن يبدأها بالكلام في وقت آخر لأن هذا هو مراده ، فالرجل إذا قال لامرأته " إن بدأتك بالكلام فأنت طالق " فإنه لا يريد ما يقع من الكلام في المجلس الذي وقع فيه الحلف بل يريد وقتاً آخر ، وعليه فإذا بدأها في وقت آخر بالكلام فإن الطلاق يقع ، ولا عبرة بإجابتها إياه في المجلس الذي وقع فيه الحلف لأن الحالف بمثل هذا إنما يريد وقتاً آخر ، هذا هو الجاري في العرف وهذا هو الغالب في إرادة المتكلمين.
فصل
قوله : [ إذا قال : إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك ، أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير أذني فأنت طالق ]
هنا قد علق الطلاق بالخروج من البيت بلا إذن ، فالوصف الذي علق عليه الطلاق هو الخروج بلا إذن إلا ما استثنى ، كأن يقول لها " إن خرجت من الدار إلا لأهلك فأنت طالق.
قوله : [ فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه ]
أي قالت له مرة " استأذنك بالخروج إلى السوق مثلاً " فقال لها " قد أذنت لك" فخرجت إلى السوق ثم خرجت بغير إذنه خروجاً آخر فإن الطلاق يقع لوجود الصفة.
قوله : [ أو أذن لها ولم تعلم ]
أي أخبر أباها أو أمها أو أحد أبنائها أنه أذن لها لكن هذا الإذن لم ينقل إليها فخرجت عاصيةً له فإن الطلاق يقع وذلك لوجود الصفة وهي الخروج بلا إذن ، والأذن إنما يكون إذناً حيث أعلم به المأذون له فلا إذن إلا بإعلام ، فالإذن في اللغة هو الإعلام ومنه سمي الأذن إذناً لما فيه من الإعلام ، والوجه الثاني في المذهب لا تطلق والأول هو الراجح.
قوله : [ أو خرجت تريد الحمام وغيره ]
فإذا قال لها " إن خرجت بلا إذن فأنت طالق إلا إلى أهلك " ، فخرجت إلى أهلها وإلى غيرهم ، فإنها تطلق وذلك لوجود الصفة.
قوله : [ وعدلت منه إلى غيره ](24/14)
ففي المثال السابق ، أنها خرجت إلى أهلها لكنها عدلت عن أهلها إلى غيرهم فإن الطلاق يقع لأنه خروج غير مأذون به فوجدت الصفة التي علق الطلاق عليها.
إذن ؛ إذا جمعت بين مأذون به وغير مأذون به فإنها تطلق.
قوله : [ طلقت في الكل ]
وذلك لوجود الصفة التي علق الطلاق عليها.
قوله : [ لا إن أذن فيه كلما شاءت ]
إذا قال الرجل لامرأته: " إن خرجت يوماً من الدهر بلا إذني فأنت طالق " فما هو المخرج من ذلك ؟
المخرج أن يقول لها: " أذنت لك في الخروج كلما شئت ".
قوله : [ أو قال : إلا بإذن زيدٍ فمات زيدٌ ثم خرجت ]
إذا قال لها: " لا تخرجي إلا بإذن والدك وإن خرجت بغير إذنه فأنت طالق " فمات والدها فخرجت فلا طلاق ، وذلك لأن الميت لا إذن له ، ولأن هذا معلوم من حلفه فإنه إنما أراد حيث كان له إذنٌ وأما الميت فلا إذن له.
فصل
قوله : [ إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى ]
إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت " فإنها لا تطلق حتى تشاء أي حتى تشاء بلسانها فتقول شئت ذلك ، أما مشيئة القلب فلا عبرة بها وذلك لأن ما في القلب لا يعلق به حكم حتى يعبر عنه باللسان .
" ولو تراخى " فلو قالت بعد يوم أو شهر أو سنة قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه ، فمتى قالت شئت فإنها تطلق عليه ولو كان ذلك مع التراخي كسائر التعاليق ، فكما أنه إذا قال لها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق " فليس له الرجوع فكذلك : " أنت طالق إن شئت ".
وقال الشافعية: بل هو على الفور، وذلك لأنه تمليك للطلاق فأشبه ما لو قال لها: "اختاري " وقد تقدم أنه إذا قال لها: " اختاري " فإن الخيار يثبت لها في المجلس ، والراجح هو القول الأول.(24/15)
والجواب عن الثاني ، أن الفرق بين هذه المسألة وبين قوله: " اختاري " ظاهر ، فإن قوله: " أنت طالق إن شئت " من باب الشروط ، وقوله: " اختاري " من باب الخيار ، والخيار على الفور ، ولا يصح رجوعه كبقية التعاليق وعنه يصح كاختاري.
قوله : [ فإن قالت : قد شئتُ إن شئتَ فشاء لم تطلق ]
إذا قالت له: " شئت إن شئتَ " فهنا شرطت مشيئته وشرط المشيئة ليس بمشيئة فلا تكون طالقاً ، فهي لم تقل: " شئت " لكنها علقت مشيئتها بمشيئته فهذا شرط وليس بمشيئة وعليه فلا طلاق.
قوله : [ وإن قال : إن شئتِ وشاء أبوكِ أو زيدٍ لم يقع حتى يشاءآ معاً ، وإن شاء أحدهما فلا ]
إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو شاء زيد " فشاءت ولم يشأ زيد فلا طلاق لعدم وجود الصفة وهي مشيئتهما جميعاً ، أو قال لها : " إن شئتِ وشاء أبوكِ " لم تطلق حتى يشاءا معاً ولو تراخى أحدهما فالمشيئة ثابتة.
قوله : [ وأنت طالق أو عبدي حرٌ إن شاء الله وقعا ]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن شاء الله " أو قال: " عبدي حر إن شاء الله " فإن زوجته تطلق وعبده يعتق ، قالوا: ؛ لأنه قد علقه إلى ما لا سبيل إلى علمه وهي مشيئة الله فأشبه تعليقه على المستحيل.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن الطلاق لا يقع ، قالوا : لأنه علقه على صفةٍ لا يعلم وجودها ، فهو لا يعلم هل شاء الله عز وجل الطلاق أم لم يشأه.(24/16)
وفصل شيخ الإسلام تفصيلاً حسناً في هذه المسألة فقال: إن كان تعليقاً فلا يقع ، وإن كان تحقيقاً أو تأكيداً فإنه يقع ، فإذا قال ذلك تعليقاً أي علقه على مشيئة الله المستقبلة فلا تطلق عليه لأن الله لا يشاؤه في الواقع وقوعاً حتى يتكلم به هذا المكلف ، فلا يقال إن الله شاء الطلاق لفلانة من فلان إلا أن يكون قد وقع وحدث ، وعليه فإذا قال لها "أنت طالق إن شاء الله " فلا تطلق حتى يقول لها بعد ذلك: " أنت طالق " ، وأما إن كان تحقيقاً أو تأكيداً بمعنى قال: " إن شاء الله" يحقق قوله أي قد وقع قوله وشاءه الله عز وجل فهذا هو التحقيق ، أو تأكيداً كأن يقول: " إن شاء الله " مؤكداً للطلاق مثبتاً له وهذا تفصيل جيد في المسألة.
أما لو قال: " أنت طالق إلاّ أن يشاء الله " فإنها تطلق وذلك لأن قوله: " أنت طالق إن شاء الله " جملة فيها إثبات الطلاق ووقوعه ، وفيها تعليق رفعه على مشيئة الله فقوله: " إلا أن يشاء الله " تعليق لرفع الطلاق على مشيئة الله ومشيئة الله ليست بمعلومة.
قوله : [ وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت ]
إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " فإنها تطلق بذلك ، وهذا تفريعٌ عن المسألة السابقة ، ما لم ينو الاستثناء للفعل وهو دخولها فإنها لا تطلق وذلك لأنها إن دخلت فيعلم أن الله عز وجل قد شاءه ويكون هذا التعليق كالتعليق على اليمين ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث ) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما وهو حديث صحيح ، فإذن إن قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " إن كانت المشيئة للفعل المحلوف عليه فلا تطلق إن دخلت ، لأن دخولها بمشيئة الله المعلق عليها ، وكل يمين علقت بمشيئة فلا حنث فيها للحديث المتقدم بخلاف ما إذا كان التعليق للطلاق.
قوله : [ وأنت طالق لرضا زيدٍ أو لمشيئته طلقت في الحال ](24/17)
لأن معنى كلامه " أنت طالق لكون زيد رضى ذلك " و " أنت طالق لكون زيد يشاء ذلك " فإنها تطلق في الحال كما تقدم ، ومعنى كلامه " وقد اوقعت عليك الطلاق لأن أمك تشاء ذلك أو لأن أباك يشاء ذلك.
قوله : [ فإن قال : أردت الشرط ، قُبل حكماً ]
أي أردت " أنت طالق إن رضي زيد " أو " أنت طالق إن شاء زيدٌ " فإنه يقبل في الحكم الظاهر ، لأن لفظه يحتمل.
وعن الإمام أحمد وهو أحد الوجهين عند الشافعية: أنه لا يقبل في الحكم ، وهو الأرجح لأنه يخالف ظاهر قوله فإذا قال: " أنت طالق لرضا أبيك " فإنها تطلق لأن ظاهر لفظه " أنت طالق لكون أبيك يرضى ذلك " فإذا ادعى أنه أراد الشرط فإن هذا الإدعاء يخالفه الظاهر ، والإدعاء الذي يخالفه الظاهر لا يقبل في الحكم وأما كونه يدين فيما بينه وبين ربه فهذا ظاهر.
قوله : [ وأنت طالقٌ إن رأيت الهلال ، فإن نوى رؤيتها لم تطلق حتى تراه ، وإلا طلقت بعد الغروب برؤية غيرها ]
إذا قال لها: " إن رأيت الهلال فأنت طالق " فتقول ما الذي تنويه ؟
فإن قال: " نويت أنها طالق إن رأته بعينها " فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا عاينته ببصرها ، وهنا لفظه يحتمل ذلك ، وإن قال: " لم أرد معاينتها بل أريد رؤية الهلال فتطلق بغروب الشمس حيث رأى الهلال غيرها ، كما أنها تطلق بتمام الشهر ثلاثين وذلك لأن تمام الشهر ثلاثين في حكم رؤية الهلال شرعاً.
فصل
قوله : [ وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب أو لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أولا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث ]
طاق الباب ؛ هو أي ما عطف من الابنية أي جانباه للباب.(24/18)
فلا يحنث في هذه المسائل كلها وذلك لأن فعل البعض ليس كفعل الكل ، والحلف إنما هو عن الامتناع عن فعل الكل وليس فعل البعض كفعل الكل ، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج رأسه وهو معتكف لعائشة فترجله ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من معتكفه وليس هذا في حكم الخروج من المعتكف ، لكن لو قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا النهر " فقطعاً لا يريد كله ولا يمكن أن تصرف اليمين إلى ذلك ، فإذا شرب بعضه فإنه يحنث لأنه يمتنع إرادة الكل فتصرف يمينه على إرادة البعض ، ومبنى الأيمان على نية الحالف ، فلو أنه قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا الإناء " وهو ينوي بعضه ، فشرب البعض فإنه يحنث فإن الأيمان مبناها على النية ، فالأحكام المتقدمة إنما ينظر فيها باعتبار الألفاظ أما لو نوى خلاف ظاهر لفظه فإن الأيمان مبناها على النية.
قوله : [ وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حِنث في طلاق وعتاقٍ فقط ]
إذا قال: " إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق " أو قال: " إن فعلتِ كذا فأنت طالق " ففعل هو أو فعلت هي نسياناً ، أو كان ذلك عن جهل كأن تكون هي لم تعلم باليمين ففعلت ما فعلت ، وإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فنسيت فخرجت ، أو قال لأحدٍ من الناس: " إن خرجت امرأتي من الدار فهي طالق " فخرجت من غير أن تعلم بيمينه .
قال الحنابلة: يثبت الحنث وذلك لأن يمين الطلاق ويمين العتاق فيها حق آدمي ولا فرق فيها بين تعمد ولا خطأ ولا نسيان ، ويعذر عندهم المكره والنائم والمغمى عليه.(24/19)
وقال الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبدالرحمن بن سعدي : أن الأيمان كلها لا حنث فيها مع الجهل والنسيان ، وكذا لو عقدها يظن صدقَ نفسه فبان خلاف ذلك أو لقصد الإكرام ، قال شيخ الإسلام: "من حلف بالطلاق كاذباً يعلم كذب نفسه لم تطلق " ، وكذا من فعله متأولاً تقليداً لمن أفتاه أو فعل محلوفاً معتقداً زوال النكاح ونحو ذلك .
واستدلوا بقوله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } ، وبقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).
قالوا : وهذه أدلة عامة ليس فيها استثناء.
و قالوا : ولأن حقيقة الحنث هو مخالفة اليمين ، والمخالفة إنما تكون مع التعمد ، وأما مع عدم التعمد ، وعدم القصد فإنه ليس ثمت مخالفة ، ولأن مقصود الحالف عدم المخالفة وإذا خولف أو خالف هو نسياناً أو خطأً فإن مقصوده لا ينتقض، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فذهبتِ إلى السوق فأنت طالق " وهو يريد ألا تخالفه وألا تعصيه فإنها إذا فعلت ذلك نسياناً أو خطأً فإنها لا تعد عاصية ولا مخالفة لأن العصيان إنما يكون مع التعمد وهذا هو الراجح في هذه المسألة ، أما إذا فعل ما حلف عليه مكرهاً فقال الحنابلة : لا يحنث وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل ، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فأخرجت كرهاً فإنها لا تطلق وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل وكذلك النائم والمغمى عليه لزوال العقل بعذر ، فإذا فعلت ذلك نائمةً أو مغمى عليها فإن الحنث لا يقع كما هو المشهور في المذهب، وكذا لو عقدها يظن صدق نفسه أو للإكرام أو كاذباً فلا طلاق ولا كفارة.
قوله : [ وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه ](24/20)
إذا قال: " إن دخلتُ الدارَ فزوجتي طالق " فدخل بعض بدنه إلى الدار ، أو قال: " إن شربت ماء هذا الإناء فامرأتي طالق " فشرب بعضه فإنها لا تطلق لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل إلا أن ينويه ، فإذا نوى منع نفسه من هذا الشيء كلية حتى القليل منه ، فإن الأيمان مبناها على النية وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فإن قال: " إن شربت هذا الماء الذي في الإناء فامرأتي طالق " وهو ينوي وقوع الطلاق ولو شرب بعضه ، فإن شرب بعضه فإن زوجته تطلق عليه.
قوله : [ وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله ]
وذلك لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل وقد حلف أن يفعله كله ، فلا يبرأ حتى يفعله كله.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(24/21)
الدرس الرابع والستون بعد الثلاثمائة
كتاب العِدد
العِدد : جمع عِدَّة وهي ما تتربصه المرأة عند النكاح بسبب طلاق أو فسخ أو وفاة.
وسمي عِدة لأنه مقدر ، بالأقراء أو يقدر بالأشهر أو يقدر بوضع الحمل.
قال : [ تلزم العدة كل امرأة فارقت زوجاً ]
فالعدة تلزم كل امرأة ’ سواء كانت المرأة مسلمة أو ذمية ، حرة أو أمة ، صغيرة يوطأُ قبلها أو كبيرة.
قال : [ خلا لها مطاوعة ]
فالعدة تثبت بالخلوة ، وهو قضاء الخلفاء الراشدين ، وتقدم أن في سنده عن الخلفاء انقطاعاً ، لكنه ثابت عن عمر وعلي بن أبي طالب ، تقدم تقريره في كتاب الصداق ، فإذا خلا بها فإن العدة تثبت وإن لم يطأ ، فالخلوة مظنة الوطء والمظنات تعتبر في الشرع وإن لم تثبت الحقائق ، فالعدة تثبت بالخلوة وإن لم يحصل وطء خلافاً للشافعي وقد تقدم البحث في هذه المسألة في درس سابق.
قوله : " مطاوعة " ؛ فيشترط ألا تكون مكرهةً على هذه الخلوة فإن كانت مكرهةً على هذه الخلوة فلا عدة.
واختار شيخ ابن سعدي أن العدة تثبت وإن كانت مكرهةً وذلك لثبوت الخلوة ، وهو ظاهر قضاء الخلفاء ، ولأن اشتمال الخلوة للوطء مع الإكراه احتمال قوي ، قد يكون أقوى إذا كانت مطاوعةً ، ولأن الفقهاء قد قرروا ثبوت الخلوة ولو كان تمت مانع حسي كأن يكون الرجل مجبوباً أو تكون المرأة رتقاء ، فإذا ثبت هذا فأولى من ذلك إذا كانت المرأة مكرهةً.
فالراجح أن المرأة إذا كانت مكرهةً على الخلوة فإن العدة تثبت.
قال : [ مع علمه بها ]
أما لو لم يعلم بها كأن تكون في زاوية من الدار لم يطلع عليها ، أو أن يكون غير بصير فلم يرها ، فلا خلوة وذلك لعدم تحقق المظنة وهي الخلوة.
قال : [ وقدرته على وطئها ولو مع ما يمنعه منهما أو من أحدهما حساً ](25/1)
فلو كان معه ما يمنعه منها كأن يكون مجبوباً أو تكون المرأة رتقاء ، بأن يكون فيهما جميعاً ما يمنع من الوطء ، فإن الخلوة تثبت ، وعلى ذلك فتثبت العدة ، وعليه فقوله : " وقدرته على وطئها " ؛ فيه إشكال ، ولم أره في بعض كتب الحنابلة.
قال : [ أو شرعاً ]
كأن تكون المرأة وهي صائمة فرض أو محرمة أو حائض فإن هذا المانع الشرعي لا يمنع من ثبوت العدة ، وذلك لثبوت الخلوة ، فقد خلا بها وإن كان لا يمكنه الوطء أو منها ما يمنعه من الوطء سواء كان ذلك حسياً أو شرعياً فالخلوة ثابتة ، والحكم هنا متعلق بالمظنة لا تحقيقه الوطء ، ولأنه قد استحل منها ما لا يستحله ممن تحرم عليه ، فقد خلا بها ولا شك أن هذه الخلوة استلال لهذه المرأة.
قال : [ أو وطئها ]
فإذا خلا بها ولم يطأها فإن العدة تثبت ، وإذا وطئها فإن العدة تثبت من باب أولى.
قال : [ أو مات عنها ]
فإذا مات عنها ولم يدخل بها فإنها تعتد ، وقد تقدم ذكر ذليل هذا وهو ما ثبت عن ابن مسعود في قضائه في امرأة مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقاً فقضى أن عليها العدة ولها الميراث لا وكس ولا شطط ، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في --- بنت واشق – امرأةٍ منا – قِبْلَ ما قضيت " وإسناده صحيح ، فقضية المتوفى عنها لها حكم آخر فلا يشترط الدخول فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فمات فإنها تعتد.
قال : [ حتى في نكاحٍ فاسدٍ فيه خلاف ]
فلو أن رجلاً نكح امرأة بلا ولي وهو يعتقد صحته ، كالحنفي ؛ فإن هذا النكاح الفاسد المختلف فيه تترتب عليه العدة وذلك لأن فاعله يعتقد حله ، فهو باعتقاده نكاح صحيح فيلحق بالصحيح في أحكامه.
قال : [ وإن كان باطلاً وفاقاً لم تعتد للوفاة ](25/2)
فإذا كان النكاح باطلاً اتفاقاً كنكاح الخامسة مثلاً أو نكاح المرأة في عدتها فهذا نكاح باطل باتفاق أهل العلم فهذا النكاح وجوده كعدمه لأنه باطل ولا يمكن مع بطلانه أن تترتب عليه الأحكام الشرعية ، وعليه فإن العدة لا تثبت معه ، فإذا نكح امرأ’ خامسة فإنه يؤمر بطلاقها ولا تعتد منه لكن لابد وأن تُستبرأ بحيضة ليُعلم برأة رحمها.
قال : [ ومن فارقها حياً قبل وطء وخلوة أو بعدهما أو بعد أحدهما وهو ممن لا يولد لمثله ، …….. فلا عدة ]
إذا فارقها في حال الحياة قبل الوطء والخلوة ، أو بعدها أو بعد أحدهما أي بعد الخلوة وقبل الوطء ، أو بعد الوطء قبل الخلوة وهو ممن لا يولد لمثله أو كانت المرأة لا يوطأ مثلها فلا عدة ، والذي لا يولد لمثله هو الصغير وهو في المذهب من كان دون عشر سنين ، والمرأة التي لا يوطأ مثلها وهي في المذهب من كانت دون تسع سنين ، وتقدم أن هذا لا حد له بل متى كانت لا يوطأ مثلها وإن كانت بنت اثني عشرة سنة فلها هذا الحكم ، وكذلك الرجل وإن كان ابن اثني عشرة سنة ، إذن : إذا كان لا يولد لمثله أو كانت المرأة لا يوطأ مثلها فلا عدة ، قالوا : للعلم ببرأة الرحم ، هذا إذا كان الزوج حياً ، أما إذا توفى الرجل عن امرأته التي لا يوطأ مثلها ، وهو لا يولد لمثله فإنها تعتبر عدة الوفاة ، قالوا : لعموم الآية : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } ، أما إذا فارقها في الحياة فلا عدة ، هذا هو المشهور في المذهب ، وعندي في هذا القول نظر.(25/3)
والذي يترجح – والله أعلم – هو ثبوت العدة وذلك لأمر الحكمة من العدة ليس ببراءة الرحم فحسب ، بل لها حكم آخر ، فمن ذلك حق الزوج الأول ، ومن ذلك حق الله تعالى في العدة ، فليس الحكمة من العدة هو العلم ببراءة الرحم فحسب ، بدليل أنهم يقولون – وهو مذهب جماهير العلماء – أن المرأة إذا طلقها زوجها ثلاثاً فإنها تعتد بثلاث حيض مع أنها بحيضة واحدة يعلم براءة رحمها ، ومن ذلك أيضاً ؛ تشريف هذا العقد وهو عقد النكاح ، فإن من تشريفه – إلا ما ورد استثناءه – أن تبقى المرأة إذا طلقها الرجل بعد ثبوت العقد وتقويته بالخلوة أن تبقى متربصة معتدة ، ومن حكمه ؛ تطويل المدة لعل الزوج يرجع إلى امرأته وهذا في الرجعية ، ولا شك أن أكثر هذه العلل ثابتة في المرأة التي لا يوطأ مثلها أو في طلاق الرجل الذي لا يولد بمثله لصغره.
قال : [ أو تحملت بماء الزوج ]
إذا عقد على امرأة ، فأخذت من مائه في خرقة واستدخلته في فرجها قد تحملت بماء الزوج وهو لم يدخل بها فقال : فلا عدة ، لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } ، وهنا لم يمسها ولم يخلو بها ، فهذا الإستدخال ليس بوطء وليس بخلوة.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية : أن العلدة تثبت هنا وذلك لانشغال رحمها بمائه.
والذي يترجح أن العدة لا تثبت وذلك لظاهر الآية المتقدمة لكن لابد أن تستبرئ بحيضة وذلك لانشغال رحمها بماء زوجها.
قال : [ أو قبلها أو لمسها بلا خلوة فلا عدة ]
فإذا قبلها أو لمسها فلا خلوة فلا عدة ، وذلك لظاهر الآية المتقدمة : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن قبل أن تمسوهن فمالكم من عدة تعتدونها } .
فصل
قال : [ والمعتدات ست : الحامل ]
هذا الفصل في بيان أنواع المعتدات ، وقد بدأ بالحامل.
قال : [ وعدتها من موت وغيره إلى وضع كل الحمل بما تصير به أمةٌ أم ولدٍ ](25/4)
فذات الحمل عدتها من موت وغيره أن تضع حملها ، قال تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ، قوله ؛ " قوله وضع كل الحمل " فلو كانت حاملاً بولدين ، فوضعت الأول ثم وضعت الثاني بعد أسبوع ، فإن الحمل كله قد وضع بوضع الثاني ، وعليه فإنها تبقى معتدة حتى تضع الثاني وهذا هو ظاهر قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ، قوله ؛ " بما يصير به أمةٌ أم ولدٍ " إن قيل : ما هو الولد الذي إن وضعته تنتهي بذلك عدتها ، لو وضعت نطفة لم يمض لها إلا ثلاثون يوماً أو وضعت علقة لم يمض لها إلا ستون يوماً ، أو وضعت مضغة ليس منها شيء من صورة الآدمي ، أو وضعت مضغة على صورة الآدمي أو حتى ينفخ فيه من الروح ، قال ؛ " بما تصير به أم ولدٍ " يعني الذي تصير به الأمة أم ولد لسيدها فتعتق عليه بعد وفاته هو نفسه الذي تنتهي به المرأة من عدتها ، هو ما تبين به الآدمي بأن يظهر فيه شيء من خلق الآدمي كرأسه أو رجله أو غير ذلك من صورة الآدمي ، وهذا إنما يكون في المرحلة الثالثة والطور الثالث ، وهو حالة كونه مضغة ، فإذا كان مضغة ، وهي المرحلة الأولى أو كان علقة وهي المرحلة الثانية ، فإنه لا يمكن أن يتبين فيه خلق الإنسان ، فإذا دخل في الطور الثالث وهو المضغة ، وذلك يكون بعد ثمانين يوماً ، فإنه يمكن أن يتبين خلق الإنسان في أوله أو في وسطه أو في آخره ، فإذن ؛ إذا وضعت ما يتبين به شيء من صورة الإنسان فإن هذا الساقط منها ينتهي به عدتها ، وهذا بإجماع العلماء ، أما إن كان نطفة أو علقة ، فجاهير العلماء على أنه لا تنتهي به العدة.(25/5)
وقال الحسن البصري : " بل تنتهي به العدة " ، فإذا وضعت ما يسمى حملاً فإن العدة تنتهي به ، وفيه قوة – فيما يظهر – وهو ظاهر القرآن { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ، فإذا وضعت ما يسمى حملاً سواء تبين به خلق الآدمي أم لم يتبين ، فإنه حمل ، تترتب عليه الأحكام الشرعية ، وإن كان بعد أربعين يوماً مع أن الأحوط ما ذهب إليه الجمهور ، وهي مسألة تترتب عليها حل البضع ، فلاشك أن الاحتياط للأبضاع هو الأولى.
قال : [ فإن لم يلحقه لصغره أو لكونه ممسوحاً أو ولدت لدون ستة أشهر منذ نكاحها ونحوه ، وعاش لم تنقض به ]
إذا مات عنها وهي حامل لكن هذا الحمل لا يلحقه ولا ينسب إليه ، ولم يلحقه الحمل لصغره ، أي لكونه لا يولد لمثله ، أو لكونه ممسوحاً أي مجبوب الذكر والأنثيين، أو ولدت بدون ستة أشهر منذ نكاحها ، وعاش أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها ، إذاً هذا الحمل تبين أنه ليس منه ، فهل تنتهي عدتها بوضعه أم لا ؟
قال جمهور العلماء : لا تنتهي به العدة ، وذلك لأنه حمل منفي عنه بيقين ، فأشبه ما لو حملت بعد وفاته ، فإذا حملت بعد وفاته فلا شك أن هذا الحمل غير معتبر في العدة ، فكذلك هنا.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد : بل عدتها حين تضع هذا الحمل، وذلك لعموم الآية { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } .
والأولى ما ذهب إليه الجمهور في هذه المسألة ، وذلك لأن هذا الحمل منفي عنه بيقين ، كما لو حملته بعد فراقه لو مات أو فسخ ، ثم أن الآية إنما تحمل على الأصل والغالب ، فإن الأصل أن يكون الحمل منه هو ، وأما هذا فهو شيء نادر أو خلاف الظاهر ، فالذي يترجح ما ذهب إليه الجمهور وعليه فلو أن امرأة مات عنها زوجها وقد نكحها قبل شهرين فوضعت حملاً بعد ثلاثة أشهر وقد عاش متيقن من ذلك أن هذا الحمل إنما يكون بستة أشهر فأكثر ، فثبت لنا أنه ليس منه ، فحينئذٍ لا تنتهي بذلك عدتها لأن هذا الحمل ليس منه.(25/6)
والمذهب أنها تستأنف عدة جديدة بعد وضع الحمل ، فإذا وضعت الحمل نقول لها الآن إبدائي فاحسبي أربعة أشهر وعشراً ، قالوا : لأنهما عدتان ، عدة من الزوج وعدة من صاحب هذا الحمل غير الشرعي فهما عدتان ، فلم تعتد أصلاً.
والأرجح وهو قول في المسألة ؛ أنها تحسب من موت زوجها أربعة أشهر وعشراً ، ويعلم براءة رحمها منه بوضع الحمل ، فالمقصود من عدة الثاني العلم ببراءة الرحم وبوضع الحمل يتبين لنا براءة رحمها ، إذاً الصحيح أنها تحسب من وفاة زوجها فإذا تم لها أربعة أشهر وعشراً فقد انتهت عدتها من زوجها ، فإذا كان منها حمل فلا يحل لها أن تنكح حتى تضع هذا الحمل ، وذلك لأنها بوضع الحمل تستبرئ رحمها من هذا الواطئُ الوطءَ غيرَ الشرعي.
قال : [ وأكثر مدة الحمل أربع سنين وأقلها ستة أشهر وغالبها تسعة أشهر ]
تقدم الكلام على هذا ولا شك أن غالب الحمل تسعة أشهر وهذا معلوم من الواقع.
قال : [ ويباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح ]
هذا في حكم إلقاء النطفة وهو ما يسمى بالإجهاظ أو الإنزال ، فيباح إلقاء النطفة قبل أربعين يوماً بدواء مباح ، هذا المشهور في المذهب – وهذا الشرط إذن الزوج لما له من الحق في ذلك ، إذاً الأحوال في المذهب ثلاثة :
الحالة الأولى : حالة النطفة فيباح إلقاء هذه النطفة بدواءٍ مباح.
الحالة الثانية : ما بعد النطفة وقبل نفخ الروح ، أي في حال العلقة والمضغة، فيحرم على المذهب الإجهاظ الإختياري حينئذٍ.
الحالة الثالثة : إذا نفخ فيها الروح وذلك يكون بعد أربعة أشهر فيحرم الإجهاظ حينئذٍ ، وهذا بإجماع أهل العلم.
أما الحالتان الأوليتان ففيهما خلاف.
والقول الثاني في المسألة أي الحالة الأولى والثانية ؛ أن إلقاء النطفة والعلقة والمضغة ؛ كل ذلك جائز ، فإلقاء الجنين قبل قذف الروح فيه جائز ، وهذا هو مذهب الأحناف ابن عقيل من الحنابلة.(25/7)
والقول الثالث في المسألة وهو قول الظاهرية ، وأكثر المالكية وهو قول بعض الحنابلة وبعض الشافعية وبعض الأحناف : أي إلقائه فمحرم مطلقاً وإن كان نطفة ؛ وهذا القول هو أرجح هذه الأقوال وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : ( يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ….) ، والذي يتبين أنه في حال النطفة ، أي في حال جمع الخلق ، فيتبين أنه في حال تهئ للخلق الجديد ، وعليه فهو محرم فإلقاءه محرم والتعدي عليه جناية.
واستدل الحنابلة على أنه اسكان نطفة ، فيجوز إلقاءه ، لما روى أحمد في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن مسعود : ( أن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً لا تتغير ) ، قالوا : فإذا كانت لا تتغير فإنها ليست بعد في طور التخلق وعليه فلا حرمة لها ، فيجوز إلقاءها ، لكن الحديث إسناده ضعيف وهو يعارض حديث ابن مسعود المتفق عليه المتقدم وفيه أنها تتخلق.
فالصحيح أنه يحرم الإجهاض مطلقاً ، هذا حيث كان الإجهاض اختيارياً ، وأما إذا كان إطرارياً فهذا :
إن كان قبل نفخ الروح فاضطرت إلى اسقاطه لأنه يلحقها الضرر بإبقائه فإنه يجوز الإسقاط حينئذٍ ، وذلك من باب تقديم الوقوع في المفسدة الصغرى درءاً للمفسدة الكبرى ، فلا شك أن رفع الضرر عن هذه المرأة أولى من تخلق هذا الجنين الذي بعدُ لم ينفخ فيه الروح.
وأما إذا كان بعد نفخ الروح فإن الأمر يكون أعظم والتشدد فيه أكثر ، وعليه فإذا كان في إبقائه إتلاف للأم وتعريض لحياتها للخطر فيجوز الإسقاط في الأظهر وذلك لوجهين :
أن الأم هي الأصل والأبن فرع عنها ، ولا شك أن إبقاء الأصل أولى من إبقاء الفرع.
أن الأم حياتها حياة متحققة وأما هذا الجنين فحياته حياة مظنونة غير متحققة ، ومن ثمَّ فرق الشارع بين دية الجنين ودية المولود ، فالجنين ديته غرة ، وأما المولود فديته دية غيره كما سيأتي.(25/8)
وهنا إيراد على المسألة التي تقدم ترجيحها وهي أنه لا يجوز الإسقاط قبل نفخ الروح مطلقاً.
إن قيل لما أجزنا العزل ؟
فالجواب : أن بين العزل والإسقاط فرقاً ، فإن الإسقاط يكون فيه إزالة ما هو موجود حاصل ، فإن هذه النطفة قد حصلت في الرحم ، واجتمع ماء الرجل بماء المرأة في رحمها ، بخلاف العزل فإنه بموجود ولا حاصل ، وفرق ظاهر بين ما هو موجود وحاصل وما ليس كذلك.
الدرس الخامس والستون بعد الثلاثمائة
فصل
قال رحمه الله : [ الثانية : المتوفي عنها زوجها بلا حملٍ قبل الدخول وبعده ]
هذا هو القسم الثاني من المعتدات ، المتوفي عنها زوجها قبل الدخول أو بعده لحديث معقل بن سنان الأشجعي الذي تقدم ذكره في الدرس السابق ودرسٍ قبله.
قوله : " بلا حمل منه " ؛ فإن الحامل إذا وضعت حملها وقد توفى عنها زوجها، فإنها تنقضي عدتها بوضعها للحمل ، ولو كان ذلك بعد ليالٍ يسيرة ، ففي البخاري عن المسور بن مخرمة : " أن سبيعة الأسلمية نُفست بعد وفاة زوجها بليالٍ ،فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فاستأذنته أن تُنكح فأذن لها " رواه البخاري ، وأصله في الصحيحين.
أما إذا كانت حائلاً غير حاملٍ وتوفى عنها زوجها فإن عدتها ، أن تتربص أربعة أشهرٍ وعشراً ، لقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويدرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً } ، ولا فرق كما تقدم أن تكون مدخولاً بها أو غير مدخول بها ، بخلاف المطلقة فإن المطلقة غير المدخول بها لا عدة لها.
قال : [ للحرة أربعة أشهرٍ وعشراً ]
فالحرة تتربص أربعة أشهر وعشراً ، أي وعشرة أيام ، فهنا أتت العدد لتبين مسألة اتفقت عليها المذاهب الأربعة ، وهي أن العدة ؛ لا تنتهي بعد مضي أربعة أشهرٍ إلا مع مضي عشرة أيام بلياليهن ، فإذا غابت الشمس من اليوم العاشر فإن العدة تنقضي عند جمهور العلماء.(25/9)
وقال الأوزاعي : " بل تنقضي بمضي أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ " ، وهذا متضمن لمرور تسعة أيام ، وعليه ؛ فإذا كان الفجر الصادق من اليوم العاشر ، فإن العدة تنقضي.
واستدل الأوزاعي : بتذكير العدد في قوله تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً } ، فهنا ذكّر العدد ، وتذكير العدد يدل على أن المعدود مؤنث ، وعليه فإذا مضت أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ فإن العدة تنقضي.
وأجاب الجمهور : بأن مثل هذا ورد في لغة العرب ، فيؤنثون العدد ويريدون بذلك دخول أيامها معها ، ومن ذلك قوله تعالى عن نبيه زكريا عليه السلام { ثلاث ليالٍ سويا } ، وقد قال في آية أخرى { ثلاثة أيام إلا رمزاً } ، فذكره لليال في الآية الأولى ، دخلت فيها الأيام بدليل الآية الأخرى ، لكن ما ذهب إليه الأوزاعي فيه قوة لأن هذا – أي ما أجاب به الجمهور - من باب المجاز ، وإلا فالأصل أن المراد بذلك ، الليالي دون أيامها ، ففي ما ذهب إليه قوة ، لكن الأحوط ما ذهب إليه الجمهور ، لا سيما في هذه المسألة التي يترتب عليها تحليل الابضاع.
قال : [ وللأمة نصفها ]
فالأمة عدتها نصف عدة الحرة ، أي شهران وخمس ليالٍ بأيامهن قياساً على عدة الأمة المطلقة ، فقد اتفق الصحابة ؛ على أن عدة الأمة المطلقة حيضتان ، على نصف عدة الحرة ، وإنما لم تكن عدة الأمة حيضة ونصف ، لأن الحيض لا يتبعض ، قالوا : فكذلك في عدة الوفاة ، تكون على نصف عدة الحرة ، وهذا باتفاق أهل العلم.
قال : [ فإن مات زوج رجعية في عدة طلاقٍ سقطت وابتدأت عدة وفاة منذ مات ]
رجلٌ طلق امرأته طلاقاً رجعياً - والمطلقة الرجعية زوجه – فحاضت حيضتين، ثم مات زوجها ، فهل يبقى لها شهران وعشرة أيامٍ ، أم أنها تستأنف عدة الوفاة من جديد ؟(25/10)
قال المؤلف هنا : " ابتدأت عدة وفاة " ؛ فتستأنف عدة الوفاة من جديد ، منذ مات ولا تحسب الشهرين ، ذلك لأنها زوجه ، وقد قال تعالى : { الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً } ، وقوله ؛ سقطت ، أي سقطت الأيام التي مضت من عدة طلاقها.
قال : [ وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل ]
فلوا أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً ، فهي بائنٌ منه ، ثم مات وقد مضى من العدة شهران ، فإنها تستأنف من جديد ، بل تكمل عدة الطلاق ، ولا تعتد عدة الوفاة ، لذا قال المؤلف : " لم تنتقل " ؛ أي لم تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة بل تبقى على عدة الطلاق ، ذلك لأنها ليست زوجة ، والآية المتقدمة في الزوجة ،وفي قوله : " في الصحة " ؛ إحتراز من هذه المسألة التي ذكرها بعد ذلك ، وهي قوله :
[ وتعتد من أبانها في مرض موته الأطول من عدة وفاة وطلاقٍ ]
إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً في مرضه في مرضه المخوف فإنها ، ترث منه فإذا مضى على عدتها شهران ثم مات الزوج فإنها تعتد الأطول من عدة وفاة وطلاق، فتنظر أطول الأجلين فتعتد به ، أما ثبوت عدة الطلاق لها ؛ فلأنها بائنٌ فهي ليست بزوجة ، وأما ثبوت عدة الوفاة فلأنها وارثة ، وحينئذٍ نكون قد أوجبنا عليها الأطول من العدتين ، وذلك لأن الأقل يندرج في الأكثر هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وذهب المالكية والشافعية إلى أنها تعتد بعدة الطلاق فحسب ، لأنها ليست بزوجة فهي بائن منه فلا تدخل في قوله تعالى { والذين يتوفون ويدرون أزواجاً } ، وعليه فلا تعتد عدة الوفاة ، وإنما ورثناها لأنه أراد حرمانها ومنعها حقها ، فأعطيناها حقها الثابت لها، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
إذاً إذا أبان امرأته في مرضه المخوف حكمنا لها بالإرث ، فالمذهب أنها تعتد بأطول الأجلين من عدة الطلاق وعدة الوفاة.(25/11)
والقول الثاني في المسألة : أنها تعتد عدة الطلاق ، وذلك لأنها ليست بزوجة فلا تدخل في الآية المتقدمة.
قال : [ ما لم تكن أمة ]
هذا استثناء على المذهب ، فإذا كانت الزوجة أمة وأبانها في مرضه المخوف ، فإنها تعتد عدة الطلاق فحسب ، لأن الأمة لا ترث.
قال : [ أو ذمية ]
لأن الذمية لا ترث منه لاختلاف الدين.
قال : [ أو جاءت البينونة منها ]
كأن تسأله الطلاق ، فإذا سألته الطلاق فطلقها طلاقاً بائناً ، فإنه لا إرث لها لأن منعها من الإرث جاء من جهتها.
قال : [ فطلاق لا غير ]
أي فعدة طلاق لا غير ، فإذا كانت لا ترث فإنهم لا يقولون بأنها تعتد أطول الأجلين ، لأنهم إنما أمروها ؛ أن تعتد عدة الوفاة لأنها ورثت ، وأما في هذه المسائل فإنها لا ترث وعليه فإنها لا تعتد عدة الوفاة.
قال : [ وإن طلق بعض نسائه مبهمةً أو معينتاً ثم أنسيها ثم مات قبل قرعة ، أعتد كل منهن سوى الحامل الأطول منهما ]
إذا طلق بعض نسائه مبهمةً ، أو عين لكنه نسي المعينة ، ثم مات قبل أن يقرع بين النساء لإخراج المطلقة ، فكل واحدة من نسائه تعتد الأطول من الأجلين فتعتد عدة المطلقة لأنها قد تكون هي المخرجة بالقرعة ، فتكون هي المطلقة وتعتد عدة الوفاة لأنها ربما لا تكون هي المخرجة بالقرعة ، وعليه فيكون نكاحها نافد ، وعليه فيكون قد توفى عنها وهي زوجٌ فيجب عليها أن تعتد عدة الوفاة ، قال " سوى حامل " ؛ فالحامل واضح استثنائها ، لأن الحامل عدتها واحدة ، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها ، فإن عدتها أن تضع حملها فلا فرق بين أن تخرج القرعة عليها أو لا تخرج.
قال : [ الثالثة ؛ الحائل ذات الأقراء ]
الحائل هي ضد الحامل.
قال : [ وهي الحيض ]
فالأقراء هي الحيض في أصح قولي العلماء ، فقد اختلف أهل العلم في المراد بالقرء في قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ، والقروء جمع قرء ، هل القرء هو الحيض أم أنه هو الطهر ؟(25/12)
اختلف أهل العلم على قولين ، ولفظة القرء من الألفاظ المشتركة ، فتر في اللغة ويراد بها الطهر ، وتر في اللغة ويراد بها الحيض ، ومن ثم اختلف أهل العلم فيالمراد بالقرء في هذه الآية :
القول الأول : وهو مذهب الأحناف والحنابلة ؛ إلى أن القرء هو الحيض.
القول الثاني : وهو مذهب المالكية والشافعية ؛ إلى أن القرء هو الطهر.
فإذا قلنا هو الحيض فطلقها في طهرٍ فإنها تنتظر حتى تحيض ثلاثة حيض ، فإذا حاضت الحيضة الأولى ثم طهرت ثم حاضت الحيضة الثانية ثم طهرت ثم حاضت الحيضة الثالثة ثم طهرت ، ثم يأتي الخلاف المتقدم في قضية خروجها من العدة ، هل ينتظر حتى تغتسل من الحيض أم بمجرد انقطاع الدم.
وإن قلنا هو الطهر ؛ فإذا طلقها وهي طاهر فحينئذٍ يحسب طهراً ، فحاضت ثم طهرت ، هذا هو الطهر الثاني ، فحاضت ثم طهرت فهذا هو الطهر الثالث ، فإذا دخلت الحيضة الثالثة بعد طلاقها فإنها تنقضي لذلك عدتها.
أستدل أهل القول الثاني :
بقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ، قالوا : ومعنى هذه الآية فطلقوهن وقت عدتهن ، ووقت الطلاق هو الطهر ، وعليه ؛ فالعدة هي في الطهر.
واستدلوا بقوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ، قالوا: قال ثلاثة ، فالعدد هنا مؤنث ، والعدد إذا أنث فهذا يدل على أن العدد مذكر، والمذكر من المعنيين هو الطهر ، فالحيض مؤنثة والطهر مذكر.
أما أدلة أهل القول الأول فهي :
ما روى ابن ماجة بإسناد صحيح أن بريرة أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد ثلاثة حيض ، وهو من حديث عائشة وإسناده صحيح.
واستدلوا : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثابت في سنن أبي داود وغيره : ( اترك الصلاة أيام أقرائك ) ، قالوا : فالشارع قد أطلق الإقراء على الحيض ، فإذاً المعروف عن الشارع أن القرء هو الحيض.
قالوا : ولأن من حكم العدة الإستبراء ، والإستبراء إنما يحصل بالحيض.(25/13)
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : { والآئي يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهرٍ والآئي لم يحضن } ، فهنا قد جعل الأشهر مقابل المحيض ، فالحيض ثلاثة والأشهر ثلاثة.
وأجابوا عن أدلة أهل القول الثاني : أن استدلالهم بقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } ، وان المعنى ؛ طلقوهن وقت عدتهن " وهو الطهر ".
وأجابوا عن هذا الإستدلال : أن الطلاق هو سبب العدة فإذا كان ذلك كذلك ، فإنه لا يمكن أن يكون الطلاق في أثناء العدة ، بل لا بد أن يكون سابقاً لها.
وعليه ؛ فالمراد " اجعلوا الطلاق سابقاً للعدة " ، فتستقبل المرأة العدة وهي مطلقة ، وحينئذٍ يكون الطلاق في الطهر ، فتستقبل الحيض بعد ذلك.
وأما استدلالهم بقوله تعالى : { ثلاثة قروء } ؛ وأنه لما أنث دل على أن المعدود مذكر.
أجابوا عن هذا الإستدلال : بأنه أنت باعتبار اللفظ المذكور وهو قوله " قروء " ، والقرء لفظ مذكر ، فأنث الله عز وجل باعتبار اللفظ لا باعتبار المعنى ، وهو ظاهر معروف في لغة العرب.
قالوا : ويستدل بهذه الآية عليكم فإن الله قال : { ثلاثة قروء } ، وقد فسرتموه أنتم بالأطهار ، وأنتم إذا طلقها في طهرٍ فإنكم تحسبون هذا الطهر الذي طلقها في أثنائه ثم تضيفون إليه طهرين بعده – وهو أي الطهر الأول – ، إنما هو بعض طهرٍ وليس طهراً كاملاً ، فلو طلقها قبل حيضها بيومٍ واحد ، وبعد مضي أيامٍ كثُّر من طهرها ، فإنكم تحسبونه طهراً ، وهو بعض طهر والله قال { ثلاثة قروء } وهذا نص في أن القروء ثلاثة ، والنص لا يقبل المجاز ، وعليه فلا بد أن تكون القروء ثلاثة فإذا كانت قرآن و بعض قرء فلا يدخل هذا في الآية ، وأما قوله تعالى { الحج أشهر معلومات } فلفظة أشهر أسم جمع فيه المجاز ، قلنا أن تقول شهران وعشرة أيام ، وهو مذهب الجمهور مع أن الراجح ما ذهب إليه المالكية ، وأن الأشهر لابد وأن تكون ثلاثة.(25/14)
وما ذهب إليه الحنابلة والأحناف ، وهو قول أكثر الصحابة ، بل هو قول أكابر الصحابة ، كما قال ذلك الإمام أحمد وهو قول أكثر أئمة الحديث.
وأما القول الثاني ؛ فهو قول عائشة وزيد بن ثابت والعبرة في رواية عائشة لا برأيها فقد تقدم أنها روت أن بريرة اعتدت ثلاثة حيض ، ولعل هذا الرأي منها هو الذي جعل بعض أهل العلم يعلوا هذا الحديث فقد ذكر الحافظ في البلوغ ، أن الحديث معلولٌ، ولم أقف على علله ، أو على من علله ، فلعل التعليل لمخالفة عائشة ، لكن العبرة بالرواية لا بالرأي ، فعلى كلٍ فلو لم يثبت هذا الحديث بل كان معلولاً حقاً ففي الأدلة التي ذكروها ، ما يدل على قوة قولهم ، فالصحيح أن الأقراء هي الحيض.
قال : [ المفارقة في الحياة ]
طلاقٌ أوفسخ أو خلع ، فالمختلعة تعتد ثلاث حيض والمطلقة تعتد ثلاث حيض ، وهكذا من فسخت ، واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام احمد ، وهو قول اسحاق واختاره تلميذه ابن القيم : أن المختلعة تعتد بحيضة ، وهو القول الراجح في هذه المسألة ، ويدل عليه ما ثبت في سنن النسائي بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل عدة المختلعة حيضة.
قال : [ فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة ]
فعدتها إذا كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء لقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسن ثلاثة قروء } ، والمبعضة ؛ هي التي بعضها حرٌ وبعضها رقٌ ، وإنما تعتد ثلاثة حيض لأن الحيضة الثالثة لا تتبعض عليها ، فاعتدت حيضة كاملة فكانت كالحرة.
قال : [ وإلا قرآن ]
فإذا كانت أمة فإنها تعتد قرئين وبذلك أفتى الصحابة كعمر وابن مسعود كما في مصنف عبد الرزاق وكابن عمر كما في سنن الدار قطني ،والأسانيد إليهم صحيحة ولا يعلم لهم مخالف وقد اتفق أهل العلم على القول بهذا .
قال : [ الرابعة : من فارقها حياً ولم تحض لصغرٍ أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهرٍ وأمة شهرين ](25/15)
فالرابعة هي من فارقها حياً ولم تحض ، لأنه إذا فارقها ميتاً فإنها تعتد عدة المتوفى عنها زوجها، لكن هنا قد فارقها وهو حي ولم تحض لصغر وإياس لقوله تعالى { والآئى يئسن من المحيض من نسائكم إن إرتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والآئى لم يحضن } ، فاليائسة من المحيض ، والتي لم تحض لصغرها تعتد ثلاثة أشهر للآية المتقدمة وهذا بإجماع أهل العلم.
واختلف أهل العلم في سن اليأس :
فالمشهور في المذهب ؛ أن سن اليأس خمسون سنة فإذا بلغت المرأة خمسين سنة فإنها تعتد بالأشهر.
وعن الإمام أحمد ؛ أن سن اليأس ستون.
وقال بعض أهل العلم ؛ أنه اثنان وستون ، وقيل غير ذلك.
واختار شيخ الإسلام أنه لا حد لأكثر سن الحيض ، فقد تحيض المرأة وهي بنت سنتين ، وقد ينقطع عنها الدم وهي بنت أربعين.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة إذ لا دليل يصار إليه في أكثر سن الحيض ، وعليه فمرجع ذلك إلى حيضها ، فإذا انقطع عنها الحيض وانقطع رجاؤها فيه فإنها حينئذٍ تكون آيسة منه وعليه فتعتد بثلاثة أشهر.
فالحرة تعتد ثلاثة أشهر ، وتعتد الأمة شهران، لأن عدتها حيضتان ، والحيضة تقابل الشهر ، وعليه فتعتد شهرين ، وهو رواية عن الإمام وقول في مذهب الشافعي.
والمسألة فيها ثلاثة أقوال هي روايات عن الإمام أحمد وأقوال في مذهب الإمام الشافعي :
القول الأول : هو ما ذكره المؤلف.
القول الثاني : أنها تعتد شهراً ونصف ، وذلك لأن الأصل أن الأمة عدتها حيضة ونصف ، لكن لم تُنَصِّف الحيضة لأن الحيضة لا تتبعض ، أما الشهر فإنه يتبعض.
القول الثالث : وهو مذهب مالك وهو - كما تقدم – رواية عن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعي ؛ أن الأمة تعتد ثلاثة أشهر كالحرة.
وذلك لأن هذه المدة تتربصها المرأة ليعلم براءة رحمها ، وهو في الغالب لا يعلم إلا بعد مرور ثلاثة أشهر ولا فرق في هذا بين الأمة والحرة.(25/16)
فالأمة التي تحيض بمجرد ما تحيض حيضة فإنه يعلم براءة رحمها وإنما زويا --- عليها حيضة نظراً لحيض الحرة ، وأما هنا فإن براءة الرحم لا تعلم بشهر ونصف فاحتجنا إلى ثلاثة أشهر ، وهذا هو أقوى المذاهب وأحوطها والله أعلم.
قال : [ ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر ]
فالمبعضة إذا كان بعضها حر وثلاثة أرباعها رق ، فإنها تعتد شهرين وثمانية أيام ، ويجبر الكسر ، فربع الشهر سبعة أيام وكسر ، فيجبر الكسر فتكون ثمانية أيام ، وإن لم يكن هناك كسر كأن يكون نصفها حر ، فإنها تتربص شهرين ونصف.
وأما على القول الراجح الذي تقدم فلا تحتاج إلى ذلك.
الدرس السادس والستون بعد الثلاثمائة
قال المؤلف رحمه الله : [ من ارتفع حيضها ولم تدر سببه ]
الخامسة – أي من المعتدات – من ارتفع حيضها ولم تدر سببه ، فهي غير آيسة لكن قد ارتفع الحيض وهي لا تدري ما السبب وهذا قد يقع لبنت عشرين سنة مثلاً.
قال : [ فعدتها سنة ، تسعة أشهر للحمل وثلاثة للعدة ]
فعدتها تسعة أشهر للحمل لأن غالب مدة الحمل تسعة أشهر وثلاثة للعدة وهذا هو قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما روى ذلك البيهقي وغيره ، قال ابن المنذر : " وهو قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر " ، وهو مذهب المالكية ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال الأحناف والشافعية : بل تتربص حتى يرجع إليها الحيض ، أو تيئس منه على الخلاف المتقدم في سن اليأس.
وهذا القول هو قول ابن مسعود – وإن كان ليس على هذا الإطلاق – ، ولا شك أن هذا القول لا يوافق يسر الشريعة ، ولا يشبه أصولها وذلك لأن فيه ضرراً عظيماً بالمرأة فقد تكون بنت خمس عشر سنة ويقال لها ؛ انتظري حتى تبلغي سن اليأس أو حتى يأتيك الحيض.
قال : [ وتنقص الأمة شهراً ](25/17)
وهذا بناءً على القول بأن عدة من لم تحض لصغر أو يأس من الإماء بأن عدتها شهران فحينئذ ينقص من السنة شهر ، وعلى القول الذي تقدم وأن عدة الأمة ثلاثة أشهر فحينئذ تكون عدتها هنا سنة إذ لا فرق بين الأمة والحرة في الاعتداد بالأشهر ، وإنما الفرق بالاعتداد بالحيض .
قال :[ وعدة من بلغت ولم تحض – إلى أن قال – ثلاثة أشهر ]
لقوله تعالى : { والائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والائي لم يحضن } ، أي فكذلك .
قال : [ والمستحاضة الناسية ، والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر ]
إذا كانت مستحاضة ناسية أيقد نسيت هل تحيض في كل شهر أو في كل شهرين ، فعدتها ثلاثة أشهر أو كانت مستحاضة مبتدأة – أي لم يسبق لها حيض – فأول ما نزل معها الحيض تتابع عليها فكانت مستحاضة فعدتها ثلاثة أشهر وذلك لأن غالب النساء يحضن في كل شهر فتلحق بغالب النساء ،أما إذا كانت المسحاضة لها عادة سابقة أولها تمييز مالها لعمل بعادتها السابقة أو بتمييزها.
قال : [ والأمة شهران ]
تقدم النظر في هذا، وأن الراجح أن الأمة عدتها ثلاثة أشهر .
قال : [ وإن عملت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدةٍ حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته ]
إذا ارتفع عليها الحيض وهي تعلم سبب ارتفاعه عنها كأن يكون بها مرض أو تكون رضاع فإنها لا تزال في عدة حتى تحيض أو تبلغ الإياس .(25/18)
والقول الثاني في المسألة – وممن إختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن السعدي – أنها إذا كان يغلب على ظنها أن العادة ترجع إليها كأن يكون سببه ارتفاع العادة هو الرضاع وتعلم أنها إذا توقفت عن الرضاع أو قضت الرضاع فإن العادة ترجع إليها فإنها حينئذٍ تنتظر حتى تحيض ثلاث حيض ، وأما إن غلب على ظنها أن العادة لا ترجع إليها كأن يصاب بمرض لا يرجى برؤه ويغلب على ظنها أن العادة لا يرجع إليها فإنها تعتد سنة تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر للعدة وهذا القول هو الراجح وهو الموافق لأصول الشرع .
قال : [ السادسة : امرأة المفقود تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة ]
إن كان الغالب على سفره السلامة فإنها تتربص تسعون سنة من ولادته ثم تعتد للوفاة ، وإن كان الغالب على سفره الهلال فإنها تتربص أربع سنين منذ فقد ثم تعتد عدة الوفاة وهو قضاء عمر كما في البيهقي وتقدم النظر في هذا وأن المدة ترجع إلى الحاكم وأنها تختلف باختلاف الأزمان ، فإذا قرر القاضي أنها تتربص مثلاً سنة ، فإنها بعد انقضاء السنة تعتد للوفاة .
قال : [ وأمة كحرة فالتربص ]
فلا فرق بين الأمة والحرة في التربص وهذا ظاهر إذ ليس هناك ما يدعي إلى التفريق بين الأمة وبين الحرة في مسألة التربص لأنها متعلقة بالزوج ونوع غيبته .
قال : [ وفي العدة نصف عدة الحرة ]
كما تقدم في الدرس السابق ، فعدة الأمة شهران وخمسة أيام .
قال : [ ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة ]
فإذا مضى أربع سنين فيما ظاهره عدم السلامة ثم مضى أربعة أشهر وعشر فلها أن تتزوج بعد ذلك ولا تحتاج بعد ذلك ولا تحتاج إلى حكم حاكم .
قال : [ وإن تزوجت فقدم قبل وطءِ الثاني فهي للأول ]
إذا تزوجت هذه المرأة ثم قدم الأول قبل أن يطأها الثاني فإنها تكون للأول لأن نكاحه على ما هو عليه وبقدومه يبطل نكاح الثاني ، ولا مانع من الرد ، وعليه فإذا قدم وقد عقد عليها ولم توطأ فإنها حينئذٍ تكون للأول .(25/19)
قال : [ وبعده له أخذها زوجةً بالعقد الأول . ولو لم يطلق الثاني ، ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني ]
أما إذا أتى زوجها الأول ، وقد عقد عليها ودخل بها فله خياران :
الخيار الأول : أن يأخذها زوجة له بالعقد الأول فلا يحتاج إلى عقد جديد لأن نكاحه على ما هو عليه ولم يطلق الثاني ، لأن نكاحه على ما هو عليه ، لكنه لا يطأ حتى تفرغ من عدتها من الثاني لأن نكاح الثاني نكاح صحيح ، فليس له يطأها حتى تفرغ من عدة الثاني .
قال : [ وله تركها معه من غير تجديد عقد ]
هذا هو الخير الثاني : وهو أن يتركها مع الثاني من غير تجديد عقد وذلك لأن نكاحه صحيح لكنا رجحنا الأول لأن نكاحه هو الأسبق .
قال : [ ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه ]
فإذا اختار أن يتركها مع زوجها الثاني ، فله أن يأخذ الصداق الذي أصدقها إما قبل ذلك يأخذه من الثاني ويرجع الثاني على المرأة بما أخذه الأول منه ، ففي سنن البيهقي بإسناد صحيح أن عمر قال في امرأة المفقود ( إن جاء زوجها وقد تزوجت فإنه يخير بين إمرته وصداقها ، فإن اختار صداقها كان على زوجها الآخر ،وإن اختار امرأته اعتدت – أي من الثاني –حتى تحل ثم ترجع إلى زوجها الأول ولها مهرها من الزوج الآخر بما استحل من فرجها ) ، وفي البيهقي عن عمر وعلي : أنهما قد جعلا له صداق الأول ، وما ذكره المؤلف ينبني على هذا الأثر ، لكن قول المؤلف :" ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه " فيه نظر وعلل الحنابلة في المشهور عندهم هذا القول بأن هذا الصداق قد لزمه بسبب وطئه إياها ، فكان كما لو حصل فيها تغرير له .(25/20)
والقول الثاني في المسألة وأستظهره صاحب المغني أنه لا يرجع إليها بما أخذه منه الأول ، وهو ظاهر أثر عمر بن الخطاب فإنه قال : "فإن اختار صداقها كان على زوجها الآخر " وليس فيه أنه يرجع إلى امرأته بالصداق ، والمرأة لم تغره ، وكونه بسبب وطئها فلاشك أن ذلك تعليل ضعيف جداً بل هو الذي قد وطئ وهو الذي قد أتلف المعوض على الناكح الأول ، فقد أتلف على الناكح الأول معوضه فكان عليه هو المعوض .
إذاً : الصحيح القول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وأنه لا يرجع إلى المرأة، وأيضاً أثر عمر المتقدم ليس فيه تجديد عقد وليس فيه اشتراط طلاق الأول وهذا هو الموافق لما ذكره المؤلف هنا .
والقول الثاني في المسألة: اشتراط أن يطِّلق الأول وأن يجَّدد للثاني العقد ، وهذا ضعيف والأثر يدل على خلافه، ونكاحهما جميعاً صحيح لكن رجحنا الأول لأنه هو الأسبق.
وهكذا كل فراق بين الزوجين لموجب تبين انتقاؤه، كأن يفرق بينه وبين امرأته لدعوى رضاع بينهما فتنكح زوجاً آخر، ثم يتبين ألا رضاع، فالمسألة كذلك.
فصل
قال : [ ومن مات زوجها الغائب، أو طلقها اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد ]
فمن مات زوجها وهو غائب، أو طلقها وهو غائب اعتدت منذ الفرقة، فلوا أن امرأة توفي زوجها ولم تعلم بذلك إلا بعد سنة أو طلقها زوجها ولم تخبر إلا بعد مضي عليها ثلاث حيض فحينئذ تكون قد خرجت من العدة وإن لم تخبر وهذا مذهب جمهور العلماء ، وذلك لأن النية غير مشترطة وغير معتبر في العدة بدليل ثبوت العدة على الصغيرة والمجنونة .
قال : [ وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة ]
فلو أن رجلاً وطئ امرأة بشبهة سواء كانت نكاح أو اشتبهت عليه امرأته بالأجنبية فوطئ الأجنبية يظنها امرأته، أو زنا بامرأة، أو وطئ امرأة بعقد فاسد كأن ينكح امرأة ولي وهو يعتقد أنه لا يصح النكاح إلا بولي، فعدتهن كمطلقة فإنهن يتربصن ثلاث حيض وهذا هو مذهب جمهور العلماء.(25/21)
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله: أنها حيضة، فالمرأة المزني بها والمرأة الموطوءة بشبهة والمرأة المنكوحة بعقد فاسد تعتد بحيضة، وهذا هو القول الراجح وذلك لأن المقصود من عدتها استبراء رحمها، فليس ثمة حكمة من عدتها إلا استبراء رحمها، واستبراء الرحم يحصل بحيضة بدليل استبراء الأمة بحيضة، وكذلك استبراء المختلعة بحيضة، وهن – أي المزني بها – الموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد لا يدخلن في عمومات النصوص، فإن عمومات النصوص إنما وردت في الزوجة وهي ليست بزوجة، فإن قوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ، فهو خاص بالزوجة، والمذكورات لسن بمطلقات لأن الطلاق فرع النكاح وهذه ليست بمنكوحة.
قال: [ وإن وطئت معتدةٌ بشبهةٍ أو نكاحٍ فاسد فرق بينهما، وأتمت عدة الأول ]
اذا وطئت معتدة بشبهة – أي بشبهة نكاح – أو وطئت بنكاح فاسد كأن تنكح بعد انقطاع الدم من الحيضة الثالثة و قبل أن تغتسل فهذا نكاح فاسد – فالحكم انه يفرق بينهما لأنه عقد فاسد وجودة كعدمة، فوجب أن يفرق بينهما .
( أو أتمت عدة الأول ) فيجب عليها أن تتم عدة الأول.
قال [ و لا يحتسب منها مقامها عند الثاني ]
فلا يحتسب من العدة مقامها عند الثاني، فمثلاً : مضت حيضة من عدتها ثم تزوجت بشبهة نكاح ثم حاضت حيضة ثانية بعد أن و طئها هذا الناكح ثم فرقنا بينهما، فلا تحتسب لها هذه الحيضة التي حضتها عند هذا الناكح الثاني،بل نقول حضت حيضة واحدة ، فوجب عليك أن تتربصي حتى تحيضي حيضتين فيتم لك ثلاث حيض وهو قول عمر رضي الله عنه كما في البيهقي.
اولاً: الوطء يقطع العدة و هذا ظاهر لأن رحمها قد أنشغل بماء غير من هي معندة له. ومن حكم العدة استبراء الرحم و هنا حيث كان موطوءة من غيره بقي رحمها مشغولاً بغير مائه فلم يعتد بهذه المدة.
قال :[ ثم إعتدت للثاني ]
فإذا انتهت من عدة الأول فإنها تعتد للثاني، و على القول الراجح المتقدم عدتها فتعتد منه بحيضة.(25/22)
قال: [ و تحل له بعقد بعد انقضاء العدتين ]
أي تحل للثاني بعقد جديد بعد انقضاء العدتين، لأن العقد الأول عقد باطل، و ظاهر كلام المؤلف أنه ليس له أن ينكحها في عدتها ( ) في عدة الثاني. فإذا اعتدت للثاني، فليس للثاني أن ينكحها في اثنا عدتها منه، فظاهر كلام المؤلف أن العقد لا يصح، و الراجح صحته وهو مذهب الشافعية وهو اختيار الموفق من الحنابلة، و ذلك لأن العدة له هو. و لا يصان ماؤه الأول من مائه الثاني
قال:[ و إن تزوجت في لم تنقطع حتى يدخل بها ]
اذا عقد هذا الناكح الثاني على هذه المعتده و لم يطأها فإن عدتها لزوجها الأول لا تنقطع بذلك لعدم الوطء فإن العلة كما تقدم انشغال رحمها بماء جديد و هنا الأمر ليس كذلك لعدم الوطء.
قال:[ فإذا فارقها بنت على عدتها من الأول ثم استأنفت العدة من الثاني ]
فإذا فارقها الثاني فإنها تبني على عدتها من الأول ثم تستأنف العدة من الثاني – هذا حيث وطئها الثاني، أما إن لم يطأها الثاني فإنها لا تعتد إلا بعد المس.
فهذه الجملة راجعة إلى المسألة ما قبل الأخيرة.
قال: [ و إن أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها به ]
إذا أتت بولد من أحد الناكحين فإن عدتها تنقضي به – أي انقضت عدتها من هذا الناكح الذي قد نشأ من مائه هذا الحمل ، و هذا هو الظاهر.
قال : [ ثم اعتدت للآخر ]
فإذا وضعت الحل، فإنها تكون قد انقضت عدتها من الناكح الذي نشأ هذا الحمل من مائه، و ثم تعتد للآخر و لا يقال إن العدتين تتداخلان لأنهما حقان لزوجين.(25/23)
لكن على القول الراجح الذي تقدم ذكره. و أن المقصود هو الاستبراء من الثاني، فإنها إذا وضعت الحمل فإنه يعلم استبراء رخمها من الثاني، لكن تبقى عدة الأول، و عليه فإذا كان الحمل من الحمل، فبوضعه تنتهي من العدتين جميعاً، فلو أن امرأة و هي حامل وطئها آخر بنكاح باطل فإنها إذا وضعت حملها تنتهي من العدتين جميعاً، لأن عدو الأول تنتهي بوضع الحمل منه، و عدة الثاني تنتهي بوضع الحمل،لأن الحمل إذا وضع يعلم براءة الرحم.
قال: [ و من وطئ بعدته البائن بشبهه استأنفت العدة بوطئه، و دخلت فيها بقية الأول ]
رجل طلق امرأته ثلاثاً فكانت في الطلاق بائياً منه، ثم وطئها – و هذا وطء محرم فهو وطء من أجنبي، فإنها تستأنف العدة من جديد بوطئه كأنه زوج آخر، و دخلت بقية الأول فهنا العدتان تتداخلان لأنهما لرجل واحد.
فمثلاً طلقها طلاقاً بائناً فحاضت حيضة واحدة ثم وطئها ، فنقول لها احسبي ثلاث حيض مرة أخرى و ما بقي من الحيض من العدة الأولى فإنها تدخل في العدة الثانية لأنهما من زوج واحد.
و على القول الراجح وهو أن الوطء الذي يكون بشبهة أو بزنا أو بعقد فاسد يكفي الاستبراء، فإنها إذا أتت عليها حيضة فإن رحمها تعلم براءته.
فلو أن رجلاً وطئ مطلقته البائن بعد انقطاع دمها من الحيضة الثالثة و قبل أن تغتسل، فإنها تعتد بحيضة على القول الراجح.
قال : [ و إن نكح من ]
إذا نكح مطلقته البائن في عدتها ثم طلقها قبل الدخول بها فإنها تبني على العدة الأولى، لأن النكاح الثاني لم يحصل فيه مسيس. فهذا النكاح باطل و لكن لا عدة فيه، و ذلك لانه فراق قبل المسيس.
و ذلك أن تقول هو عقد فاسد فكان وجوده كعدمه.
و المذهب أن الرجل إذا طلق امرأته الرجعية فإنها تبني على عدتها، و أما إن راجعها مطلقها فإنها تستأنف العدة من جديد.(25/24)
و رجل طلق امرأته طلقه واحدة فحاضت حيضتين ثم طلقها ثانية، وقد تقدم الخلاف في صحة هذا الخلاف و المذهب أنه صحيح. فهنا يقولون بنى على عدتها فيبقى لها حيضة، و لكن لو راجعها بعد هاتين الحيضتين ثم طلقها فإنها تستأنف عدة جديدة و هذا ظاهر و ذلك لأن الرجعة تذهب اثر الطلاق و تعود المرأة إلى نكاحها الأول.
فصل
قال : [ يلزم الإحداء مدة العدة كل متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح و لو ذمية أو أمة أو غير مكلفة ].
فالإحداء يلزم مدة العدة كل متوفى عنها زوجها في نكاح صحيح و لو كانت الزوجة ذمية أو أمةً أو صغيرة و ذلك لعموم الأدلة – فالأدلة عامة في كل زوجة – و إنها يلزمها الإحداء سواء كانت مسلمة أو ذمية، صغيرة أو كبيرة حرةً كانت أو أمةً.
ففي الصحيحين إن النبي صلى الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا تُحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر و عشرا، و لا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عَصب، و لا تكتحل و لا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار).
و العَصْب: هو نوع من الأصباغ مهيجاً للنظر إلى المرأة.
و النبذة: هي القطعة من الشيء.
و القُسط و الأظفار: نوعان من الطيب.
و قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفُريعه بنت مالك: (امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) رواه الخمسة بإسناد صحيح فالإحداد على الزوج واجب مدة العدة.
و الإحداد : هو اجتناب المرأة ما يدعو إلى جماعها و يرغب في النظر إليها.
قال: [ و يباح الباين من حي ]
و لا يجب و لا يسن، فيباح للبائن من حي أن تُحدًّ عليه لكن ذلك ليس بسنة.
قال: [ و لا يجب على رجعية و موطوءة بشبهة أو زنا أو نكاح فاسد أو باطل ].
فالنكاح الفاسد: النكاح بلاولي عند من يرى أن ذلك منهي عنه.
قال: [ أو ملك يمين ]
فالآمة المملوكة لا يجب عليها الاحداد.(25/25)
فالرجعية و الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو باطل أو ملك يمينن لا تجب عليها الاحداد، لأن الله عز وجل إنما أوجب الاحداد على المرأة المتوفى عنها. و الرجعية زوجة لم يتوفى عنها، و ممن ذكر سواها فإنهن لسن بزوجات له فلم يجب عليهن الاحداد و لم يشرع.
قال: [ و الإحداد اجتناب ما يدعو إلى جماعها و يرغب في النظر إليها من الزينة ]
أي من الزينة في البدن و الثياب.
الزينة في البدن كالكحل مثلاً أو الحمرة أو الخضاب في الشعر و نحو ذلك.
و أما الزينة في الثياب فكأن تلبس ثوباً مصبوغاً كأن يكون أحمر أو أصفر فيه فيرغب النظر إليها.
قال :[ و الطيب و التحسين ]
فالتحسين : هو تجميل الوجه و نحوه.
فالطيب و التحسين تمنع منهما المرأة المُحادة و قد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( و لا تمس طيباً )، و لكن يستثنى ما ورد في الحديث فإنها إذا طهرت تأخذ نبدة من قسط أو أظفار لتصفية فرجها لتزيل الرائحة الكريهة الناتجة عن الحيض.
قال :[ و ما صُبغ للزينة ]
كأن يكون الثوب أحمر أو أصفر أو أخضر أو نحو ذلك. أما إذا كان مصبوغاً لغير الزينة وهو ما يصبغ ليتحمل الوسخ و الدنس فلا بأس أن تلبيسه كالأسود و نحوه إن كان ليس للزينة بل هو من ثياب المهنه.
قال : [ و حلي ]
فليس لها أن تلبس الحلي، و في سنن ابي داود بإسناد صحيح عن أم سلمة قالت : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - ( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب و لا المُمَشقه " هي الثيلب التي قد صبغت بالطين الأحمر" و لا تلبس الحلي و لا تكتحل و لا تمتشط )
فليس لها أن تلبس من الحلي شيئاً، لا سواراً و لا خاتماً و لا غير ذلك.
قال : [ و كحلٍ أسود ](25/26)
فليس لها أن تكتحل لحديث أم سلمة المتقدم و فيه ( و لا تكتحل ) و لحديث أم عطية ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر و عشرا) الحديث و فيه و لا تكتحل و في ابي داود و النسائي ايضاً ( و لا تختضب ) و في النسائي و لا تمتشط. و في الصحيحين ( و لا تكتحل ). فالمحادة تنهى عن الكحل. فإن احتاجت إلى الكحل للتداوي فلها أن تضعه في الليل و تنزعه في النهار، ففي سنن أبي داود بإسناد لا بأس به أن أم سلمة قالت ( وضعت في عيني صبراً لما توفى أبو سلمة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه يَشبُّ الوجه " أي يزيد في لون الوجه " فلا تجعليه إلا بالليل و انزعيه في النهار و لا تمتشطي بالطيب و الحناء فإنه خضاب قال : قلت بأي شئ أمتشط فقال بالسدر )، فلها أن تمتشط بالسدر ونحوه مما لا يكون له رائحة طيبة، وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [ لا توتيا ونحوها ]
( لا توتيا )؛ لا أعرف هذا، ولعله من الكحل المعروف عندهم قديماً، وكذلك ذكروا في الشرح كحل العنزروت، وهذه الأنواع ليست مما يكون فيه الجمال أي لا يعطي العين جمالاً ونضيره وحسياً ، وهكذا إذا كان من الكحل شئ يتصف بهذا الوصف وهذا لا شك غير الأسود أي ليس فيه نضرة ولا جمال ولا حسن فلا بأس للمرأة أن تضعه، وأما الكحل الأسود فلا.
قال: [ ولا نقاب ]
أي لا تمنع من لبس النقاب وكذلك البُرقع، وهذا ينبني على أن النقاب والبرقع، وعندهم وليس من لباس الجمال والزينة، والذي يظهر أنه عندنا من لباس الجمال والزينة، وأن المرأة تلبسه تجملاً وتزيناً، وعليه فيمتنع من ذلك.
والخزفي من الحنابلة منع المرأة في إحدادها أن تنتفي وهذا هو القول الراجح.
فالمرأة - لاسيما النساء عندنا اللاتي تلبسه تجملاً وتزيناً وهو الجمال في حقهن وزينة – فإنها تمنع منه، بخلاف المرأة التي هو من عادتها كنساء البادية ونحوهن فليس من لباس الجمال من حقهن فلا يمنعن منه.(25/27)
قال: [ وأبيض ولو كان حسناً ]
فإذا لبست ثوباً أبيض ولو كان حسناً فلا يأس بذلك، قالوا: لأن طبيعته الحسن فليس الحسن طارئاً عليه وهذا فيه نظر ظاهر.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في المذهب وهو اختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي أن المرأة تمنع منه.
وهو القول الصحيح في المسألة وذلك لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فلا فرق بين أن يكون مصبوغاً بالبياض الذي يعطي هذا الثوب حسناً ونضرة أو أن يكون البياض أصلياً فيه.
فصل
قال: [ وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت ]
فتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت العدة، فإذا كانت في منزل من منازل زوجها وهي في ذلك المنزل فيجب عليها أن تعتد في ذلك المنزل، ففي السنن ومسند أحمد بإسنادٍ صحيح عن فريعة بنت مالك؛ (أن زوجها خرج في طلب –أعبد له فقتلوه، قالت: قسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يترك لي مسكناً يملكه ولا نفقة فقال لها - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، فلما كانت في الحجرة ناداها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً، ثم قضى بذلك عثمان رضي الله عنه).
وهذا الحديث فيه أنه يجب على المرأة أن تعتد في بيت زوجها الذي توفي وهي فيه سواء كان هذا البيت ملكاً له أو مستأجراً أو إعارة، فيجب عليها أن تمكث فيه.
مسألة:
إذا كان البيت مستأجراً أو كان مملوكاً فهل يخرج ذلك من تركة الرجل فإن كان مملوكاً فإن الورثة يلزمون بإبقاء المرأة فيه ولا يحل لهم أن يخرجوها منه، وإذا كان مستأجراً فيؤخذ من تركته ما يدفع لصاحب الدار لتبقى فيه، أم ليس كذلك ؟
قولان لأهل العلم :
القول الأول: هو مذهب الجمهور، قالوا: لا يجب على الورثة أن يدعوها لتمكث فيه، ويشرع لهم ذلك لأنه من باب الإحسان.
وإذا كان البيت مستأجراً فلا يخرج من تركته شيئاً لتسكن فيه.(25/28)
القول الثاني: وهو مذهب المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد وقول في نذهب الشافعي: ان لها حقاً في ذلك، فإذا له مال فإنه يؤخذ من تركته ما يستأجر له به هذا البيت الذي توفي زوجها وهي فيه، وإن كان له ورثة فإن الورثة يلزمون بترك زوجة أبيهم حتى تحد في البيت، وهذا هو القول الراجح في المسألة.
وذلك لقول الله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويدرون أزوجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } .
فنهى الله الأولياء أن يخرجوهن، والآية إنما نسخت المدة فيها، وأما النهي عن الإخراج فلم ينسخ، وهذا دليل من الأثر.
وأما من النظر، فلأن هذه المرأة معتدة لحق زوجها فوجب لها في تركته ذلك.
وعلى القول الأول - وهو قول الجمهور – هل يلزمها أن تستأجر هي من مالها أم لا يلزمها ذلك ؟
فلو توفي عنها زوجها وهي في دار فهل يلزمها أن تستأجر هذه الدار أربعة أشهر وعشراً سواء كان المستأجر منه الورثة أو غيرهم أم لا يلزمها ذلك.
المشهور في المذهب : أن ذلك لا يلزمها وأن الواجب عليها هو السكن لا تحصيل المسكن.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب أبي حنيفة وهو قول في المذهب: أن ذلك يلزمها.
…وذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
…فالأرجح وهو المشهور في المذهب أن ذلك لا يلزمها، وذلك لأن الله إنما أوجب عليها السكن، وأمر الأولياء أن يحصلوا لها المسكن فقال سبحانه: { غير إخراج } .
…هذا القول هو الأصح من هذين القولين، وإلا فالراجح من أصلي القولين ما تقدم وهو مذهب المالكية وأنه لا يجوز للأولياء أن يخرجوهن، وليس لهن أن يخرجن إذا كان البيت مستأجراً، فإنه يؤخذ من التركة ما يدفع به الإيجاز ثم تسكن فيه هذه المرأة مدة العدة.
قال: [ فإن تحولت خوفاً ].
أي تحولت من هذا البيت خوفاً من هدم أو لص أو غير ذلك.
قال: [ أو قهراً].
أي تخرج بظلم كأن يخرجها الأولياء حيث قلنا إنه ليس للأولياء أن يخرجوها.
قال: [ أو بحق].
كأن تؤذي فتخرج بحق.(25/29)
قال: [ انتقلت حيث شاءت].
فمتى ما كان لها عذر في ترك هذه الدار فإنها تنتقل حيث شاءت قرب الموضع من الدار أم لم يقرب.
وذلك لأن الواجب عليها قد سقط بالعذر وليس هناك مكان معين آخر، فكان لها أن تعتد في أي موضع شاءت.
قال: [ ولها الخروج لحاجتها نهاراً لا ليلاً].
اتفق العلماء على أن المرأة المحادة ليس لها أن تخرج ليلاً إلا لضرورة وذلك لأن الخروج في الليل مظنة الفساد.
وأما النهار فلها أن تخرج قال المؤلف هنا: " لحاجتها " قالوا: كأن تشتري أو تبيع، ولو كان هناك من يقوم بمصالحها لأن هذه حاجة وليست ضرورة.
ودليل ذلك ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه: "أن ابن عمر رخّص للمتوفي عنها أن تخرج إلى أهلها في بياض النهار" في مصنف ابن أبي شيبة أيضاً: أن النساء شكين إلى بن مسعود الوحشة فأجاز لهن أن يجتمعن في بيت إحداهن إلى الليل، فإذا كان الليل ذهبن كل واحدة منهن إلى بيتها".
وهذا باتفاق العلماء.
لكن في ذكر الحاجة نظر ظاهر، كما قرر هذا الزركشي من الحنابلة فإنه من المعلوم والمتقرر أن المرأة تمنع من الخروج من بيتها إلا لحاجة لقوله تعالى: (( وقرن في بيوتكن))، عادة فلا حاجة إلى هذا الاشتراط، وليس هذا الاشتراط مذكوراً من كلام الإمام أحمد، بل أجاز ذلك في النهار مطلقاً وهذا يترجح لي ولم أر دليلاً يدل على منع المرأة من أن تخرج من بيتها وهي محادة نهاراً.
والحنابلة كما تقدم يجيزون خروجها للحاجة كأن تشتري أو تبيع أو أن تجد وحشة فتحتاج إلى الخروج.
والذي يترجح أن لها الخروج مطلقاً لكن إن كان لغير حاجة فإن ذلك يكره وهو قول في مذهب الإمام أحمد وهو رواية عن الإمام أحمد بل ذكر الزركشي أن هذا الشرط لا حاجة إليه لأن المرأة يكره لها أن تخرج بلا حاجة سواء كانت في حداد أو غيره.
قال: [ وإن تركت الإحداد أثمت، وتمت عدتها بمضي زمانها].
إذا تركت المرأة الإحداد في عدتها فلم تحد، فإنها تأثم لتركها الواجب.(25/30)
لكن عدتها تتم، بمضي زمانها إذ ليس من شروط العدة الإحداد، فالعدة تصح بلا احداد، وذلك لأنه كما تقدم لا يشترط للعدة النية فأولى من ذلك ألا يشتراط فيها الإحداد.
" باب الإستبراء"
الاستبراء: مشتق من البراءة، وهو عند الحنابلة تربص يقصد منه العلم ببراءة رحم ملك اليمين.
فخصوه بملك اليمين.
والراجح ما تقدم وأن الاستبراء يكون لنكاح الشبهة ويكون للزنا وللمختلعة وغيره مما تقدم ذكره.
وأما الحنابلة فخصوه بملك اليمين فإذا اشترى أمةً وهي توطأ فلا يحل له أن يسقي ماءه زرع غيره، فلا بد وأن يستبرئ المرأة بحيضة أو أن تضع حملها.
قال: [ من ملك أمة يوطأ مثلها من صغيرٍ وذكر وضدهما حرم عليه وطؤها ومقدماته قبل استبرائها].
من ملك أمةً يوطأ مثلها من صغير، ليس هنا المالك الجديد هو الصغير بل المالك القديم هو الصغير.
فإذا اشترى رجل أمةً مملوكة لصغيرة أو ذكر أو صدهما بأن تكون لكبير أو امرأة فإذا اشترى أمة من امرأة عجوزٍ حرم عليه وطؤها حتى يستبرئها وهذا قول ضعيف.
ولذا عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، أنها إذا كانت مملوكة لمن لا يطأ كالطفل، والمرأة فإنه لا يجب عليه الاستبراء وذلك للعلم ببراءة الرحم.
قال: [ ومقدماته] فليس له الوطء ولا مقدماته، كأن يباشرها أو يقبلها أو نحو ذلك وهذا خلاف الراجح.
فعن الإمام أحمد وهو اختيار ابن القيم أن له أن يباشرها وله أن يستمتع بها دون الوطء وذلك لأن النهي عن الوطء فقط، فلا دليل على المنع من مباشرتها والاستمتاع بها دون وطئها.
وكذلك العلة لا تثبت فالعلة هي ألا يسقي ماءه غيره وحيث استمتع بها دون الفرج فالعلة ليست ثابتة والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
قال: [ واستبراء الحامل بوضعها، ومن تحيض بحيضة].
لما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا توطأ حامل حتى تضع،، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة).(25/31)
فإذا كانت حاملاً فلا يحل وطئوها حتى تضع سواء كانت عند من يطأ أو عند من لا يطأ كصغير وأنثى، لأن الحمل قد ثبت فيها وقد يكون من زنا أو شبهة أو غير ذلك.
وإذا كانت غير ذات حمل فحتى تحيض حيضة إن كانت عند من يطأ.
قال: [ والآيسة والصغيرة بمضي شهر].
وذلك لأن الاستبراء بحيضة، والشهر يقابل الحيضة وعن الإمام أحمد وهو القول الثاني في المسألة، وذكر الموفق أنه المشهور في المذهب، أنها تستبرأ بثلاثة أشهر وهذا هو الظاهر وكما تقدم بقليل مسألة سابقة وأن العلم ببراءة الرحم لا يكفي فيه الشهر ولا الشهران بل يحتاج إلى ثلاثة أشهر، فهنا لا يكفي في الاستبراء بشهر بل لابد من ثلاثة أشهر لأن التربص ثلاثة أشهر يعلم به براءة الرحم.
وهنا مسألتان:
1) المسألة الأولى: أن الرجعية في حكم المحادة في مسألة المكث في البيت.
قال تعالى: (( واتقوا الله لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)).
فالرجعية كالمتوفي عنها في وجوب المكث في البيت.
2) المسألة الثانية: وأما البائن فليست كذلك، لأن البائن ليست بزوجة لكن إن أحب زوجها تحصناً لفراشه أن تمكث في بيته حيث لا محذور في ذلك، أي حيث كان مأموناً وكان الموضع مأموناً منه ومن غيره، فإنها تلزم بذلك وذلك لرفع الضرر (ويراجع قول آخر).
والمذهب أنه لا يلزم بالنفقة.
واختار شيخ الإسلام أن له ذلك بشرط أن يلتزم بالنفقة وهذا الأظهر وذلك لأنها محبوسة لأجله ولحقه.
إذن للزوج الذي قد طلق امرأته طلاقاً بائناً أن يمنعها من أن تخرج إلى أهلها أو إلى بيت آخر وأن يأمرها أن تمكث في البيت لكن ذلك بشرطين: 1) ألا يكون هناك محذور في ذلك.
2) أن ينفق عليها في الأصح.
" كتاب الرضاع "
الرضاع: بفتح الراء وكسرها.
وهو في اللغة: مصّ الثدي.
وفي اصطلاح فقهاء الحنابلة: هو مصُّ من دون الحولين لبناً ثاب عن حمل أو شربه أو نحوه، هذا تعريفه في اصطلاح فقهاء الحنابلة ويأتي ما فيه من النظر.(25/32)
وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على ثبوت الرضاع.
قال تعالى: (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة )) وقال - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) متفق عليه.
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وقد أجمع أهل العلم على ثبوت الرضاع في الجملة.
قال: [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب].
لما تقدم من حديث ابن عباس وحديث عائشة وما تقدم من الكتاب والإجماع.
قال: [ والمحرم خمس رضعات].
فالمحرم خمس رضعاتٍ في المشهور في مذهب أحمد ومذهب الشافعي.
ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يتلى من القرآن".
أي أن بعض الناس لم يطلّع على النسخ فبقي يتلو هذه الآيات ولا يعلم أنها منسوخة.
وعليه فالآية الناسخة والمنسوخة كلاهما، يتفقان في النسخ اللفظي، والآية الثانية التي فيها التحريم بخمس رضعات لم ينسخ حكمها وأما الآية الأولى التي فيها أن التحريم بعشر رضعات فقد نسخ لفظها وحكمها.
وذهب المالكية والأحناف إلى أن مجرد الرضاع يحرم، فلو امتص شيئاً قليلاً من اللبن فإن الرضاع يثبت من غير أن ينظر إلى عدد واستدلوا: بالإطلاق في قوله تعالى: (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)) فالآية مطلقة فبمجرد الرضاع يثبت الحكم.
واستدلوا: بحديث عقبة بن الحارث وأنه تزوج أم يحي بنت إهاب، فأتته امرأة فقالت: إني أرضعت عقبة والتي تزوج، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( كيف وقد قيل) ففارقها عقبة فنكحت رجلاً غيره) رواه البخاري.
فقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم بمجرد ثبوت الرضاع وأجاب أهل القول الأول عن هذه الأدلة: بأنها مطلقة وأن السنة قد قيدتها وبينت أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات.(25/33)
وذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الرضاع المحرم هو ثلاث رضعات.
أدلتهم هي:
ما ثبت في مسلم من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تحرم المصة والمصتان) ومن حديث أم الفضل: " لا يحرم الإملاجة أو الإملاجتان" وهذه من الأدلة التي يرد بها على أهل القول الثاني.
وأما الجواب عن استدلالهم أي أهل الظاهر، فأن يقال: ما ذكرتموه مفهوم، فإن قوله: " لا تحرم المصة والمصتان" فمفهومه أن الثلاث تحرم، وكذلك "لا تحرم الإملاجة والإملاجتان" فإن مفهومه أن الثلاث تحرم.
لكن عندنا منطوق وهو حديث عائشة وأن الرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات.
والمنطوق مقدم على المفهوم، كما هو مقرر في أصول الفقه إذن الصحيح ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية من أن الرضاع المحرم هو خمس رضعات معلومات.
واختلف أهل العلم فيما يسمى رضعة:
فالمشهور في المذهب أنه إذا مص الثدي فتركه باختياره أو بغير اختياره فإنها تحسب رضعة.
فلو أنه امتص الثدي ثم انتقل إلى الثدي الآخر، أو قطعه لتنفس أو لعطاس، ونحو ذلك فإنها تحسب رضعة أخرى.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية وهو وجه في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي أن الرضعة المحرمة هي الرضعة الكاملة التي يترك معها مص الثدي باختياره.
وأما إذا تركه بغير اختياره كأن ينتقل من ثدي إلى ثدي آخر أو أن يتركه لتنفس أو نحو ذلك فإن مجموع ذلك يسمى رضعة واحدة فرجوعه إلى الثدي بين التنفس أو العطاس لا يعتبر رضعة ثانية بل كلاهما رضعة واحدة.
وهذا هو القول الراجح وهو الذي يدل عليه العرف فإن الرجل لا يعد قد أكل أكلتين أو ثلاثاً إذا كان قطع أكله لتنفس أو لانتقال إلى طعام آخر أو لشرب ماء أو عطاس أو نحو ذلك بل لائق في العرف إلا أكلاً أكلةً واحدة.
قال: [ في الحولين].
فالرضاع المحرم إنما يكون في الحولين.(25/34)
قالوا: لقوله تعالى: (( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)).
ولما روى الدار قطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا رضاع إلا في الحولين) وهذا هو مذهب الجمهور.
واختار شيخ الإسلام وهو قول بعض السلف أن الرضاع المحرم ما يكون قبل الفطام سواء كان ذلك في الحولين أو بعدهما فلو أنه فطم بعد سنة من ولادته ثم رضع فإن هذا الرضاع ليس بمعتبر عند شيخ الإسلام.
ولو أنه تأخر فطامه إلى ما بعد الحولين فرضع بعد الحولين فإن الرضاع معتبر إذن العبرة بالفطام سواء كان هذا في الحولين أو بعدهما وهذا هو القول الراجح، ويدل عليه أدلة منها:-
ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( انظرن إخوتكن فإنما الرضاعة من المجاعة) أي حيث كان اللبن يسد جوعته وينشر عظمه وينبت لحمه.
ويدل عليه أيضاً وهو أصرح دلالة، ما ثبت في سنن الترمذي بإسناد صحيح وصححه الترمذي وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام).
والشاهد قوله: ( وكان قبل الفطام).
وقوله: ( في الثدي) أي في زمن الرضاع، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن إبراهيم رضي الله عنه مات في الثدي فجعل الله له مرضعاً في الجنة).
والجواب عما استدل به أهل القول الأول:-
أن قوله: ( يرضعن أولادهن حولين كاملين) هذا بناءً على الغالب، فالغالب في الرضاع أن يكون في الحولين.
وأما حديث: ( لا رضاع إلا في الحولين) فالصواب وقفه على ابن عباس رضي الله عنه كما رجح ذلك الدار قطني وابن عدي.
فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام.
وذهب أهل الظاهر إلى أن رضاع الكبير مؤثر، فلو رضع ابن عشر أو ابن ثلاثين فإن الرضاع مؤثر.
وهو قول أم المؤمنين عائشة.(25/35)
ودليله: ما رواه مسلم في صحيحه، أن إبنة سهل زوج أبي حذيفة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أن سالماً مولى أبي حذيفة قد بلغ مبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وأنها ترى أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً) وفي رواية: أنه ذو لحية " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ارضعيه تحرمي عليه".
قالوا: فهذا يدل على أن رضاع الكبير مطلقاً مؤثر.
وهو قول أم المؤمنين عائشة وأبى ذلك سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم، وقلن: ما نرى إلا أنها رخصة أرخصها النبي - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصة).
وما أجابته نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - هو جواب الجمهور، فقالوا: هذا الحديث خاص بسالم.
إذن هي عندهم: خصوصية عين.
واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الخصوصية خصوصية وصف لا عين.
وهو القول الراجح في المسألة إذ الأصل عدم الخصوصية ولو أن امرأة أخذت لقيطاً فربته عندها فبلغ مبلغ الرجال واعتاد على الدخول عليها وشق عليه أن يستغني عنهم فلها أن ترضعه وإن كان ابن عشرين سنة كما هو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح.
قال: [ والسعوط والوجور].
السُعوط: أن ينقط الحليب في الأنف.
والوجور: هو أن يصب الحليب في فيه أي في الطفل فيثبت الحكم.
وكذلك لو جُِبن عند الجمهور.
وفي أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعية ووجه عند الحنابلة قالوا: ولو حقن في دبره، فكل ذلك يثبت به التحريم وذلك لأن هذا الفعل من سعوط أو وجور أو حقنة أو تجبين يحصل به ما يحصل بالرضاع من الفائدة، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
قال: [ ولبن الميتة].
كذلك لبن الميتة يثبت به التحريم كما هو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي وذلك لأنه رضاع.
فلو أنه رضع أربع رضعات وهي حيه، ثم رضع منها الخامسة وهي ميتة فغن هذا الرضاع مؤثر لأنه يسمى رضاع ولأنه يحصل بهذا اللبن من الميتة ما يحصل من لبن الحية.
وهذا القول هو الراجح وهو مذهب جمهور العلماء.(25/36)
قال: [ والموطوءة بشبهة أو بعقد فاسد].
فإذا وطئت المرأة بشبهة كأن يطأ الرجل امرأة يظنها زوجته فينتج عن هذا الوطء حمل وثاب من هذا الحمل لبن، فإذا رضع طفل من هذا اللبن، فإن هذه الموطوءة بشبهة تكون أماً له، والواطء يكون أباً له.
كذلك الموطوءة بعقد فاسد، وذلك لأنه لبن ويحصل منه ما يحصل من لبن الموطوءة بنكاح صحيح.
ولأن النسب يثبت فيثبت الرضاع فإن الرضاع يتفرع عن النسب.
قال: [ أو باطل].
فالموطوءة بعقد باطل كمن نكح امرأة في عدتها فحملت فثاب عن هذا الحمل لبن، فرضع منه الطفل فالحكم يثبت لأنه قد رضع من هذه المرأة وهي ذات لبن ويحصل من لبنها ما يحصل من لبن غيرها.
قال: [ أو زنا محرم].
فلو زنى بامرأة فحملت فثاب عن هذا الحمل لبن فكذلك.
يثبت حكم الرضاع.
لكن في المسألتين الأخيرتين لا يكون الزاني ولا الناكح نكاحاً باطلاً لا يكون أباً له من الرضاع عن الثيب فكما أن النسب لا يثبت فكذلك الرضاع.
قال: [ وعكسه البهيمة].
اتفاقاً: فلبن البهيمة لا يثبت به التحريم باتفاق أهل العلم.
قال: [ وغير حبلى ولا موطوءة].
إذا رضع من امرأة بكر لم توطأ، أو رضع من امرأة موطوءة وهي غير حبلى إذن فيها لبن لكنه لم يثب من حمل، فإنه لا يثبت به التحريم هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الجمهور وهو راوية عن الإمام أحمد أنه مؤثر للتحريم قالوا: لأنه رضاع فيدخل في قوله تعالى: (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)).
وأما الحنابلة: فقالوا: ليس بلبن بل هو رطوبة متولدة فلا يكون قد امتص لبناً بل امتص رطوبة متولدة، فلا ينبت لحماً ولا ينشز عظماً
ومرجع هذه المسألة إلى أهل الخبرة.
وإن كان من حيث النظر، ما ذهب إليه الحنابلة هو الراجح في هذه المسألة فلا يثبت أن اللبن الذي يكون في المرأة غير الحامل لا يثبت أن فيه فائدة فينشز عظماً أو ينبت لحماً.(25/37)
لكن إن قرر أصحاب الخبرة من الأطباء أن اللبن الذي يكون في غير الحامل أن فيه النفع الذي يكون في لبن الحامل فيكون له نفس الحكم أي يكون مؤثراً للتحريم لأن الحكم يدور مع علة وجوداً وعدماً فالذي يترجح الآن هو ما ذهب إليه الحنابلة.
قال المؤلف رحمه الله: [ فمتى أرضعت امرأة طفلاً صار ولدها في النكاح والنظر والخلوة والمحرمية].
فمتى أرضعت امرأة طفلاً بالشروط المتقدمة صار ولدها في النكاح أي في تحريم النكاح قال تعالى: (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاع)).
ويصير ولدها أيضاً في إباحة النظر والخلوة والمحرمية لأنها فرع عن تحريم النكاح بسبب مباح.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها بعد الحجاب قالت: فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بالذي صنعته فأمرني أن آذن له علي وقال: " إنه عمك".
فهذا يدل على إباحة الخلوة ونحوها من النظر.
إذن: يحرم النكاح ويباح له الخلوة، والنظر والمحرمية.
ولا يترتب على الرضاع شيء من الأحكام التي تترتب على النسب من إرث أو نفقة أو ولاية أو غير ذلك بل لا يترتب عليه لا النكاح وما يتفرع عنه من جواز النظر والخلوة وثبوت المحرمية.
قال: [ وولت من نسب لبنها إليه بحمل أو طء].
أي وصار المرتضع ولد من نسب لبنها إليه.
وفي مسلم من حديث عائشة المتقدم، أنها قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - تربت يمينك: " فقد أنكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فاللبن للرجل، وعليه فثبت له الأبوة من الرضاع، ولذا قال المؤلف هنا: " وولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء" أي صار المرتضع ولد من نسب لبنها إليه بحمل أو وطء.
مسألة:(25/38)
إذا كان له امرأتان فأرضعت إحداهما الطفل رضعتين، وأرضعت الأخرى الطفل ثلاثا، فمجموع إرضاعهما خمس رضعات، هنا: لا إشكال في أن الأمومة لا تثبت لأن كل واحدة منهما لم يرضع هذا الطفل خمس رضعات معلومات، لكن هل يثبت الأبوة من الرضاع أم لا؟.
القول الأول: أن الأبوة لا تثبت.
قالوا: لأنه رضاع لم يثبت الأمومة فلم يثبت الأبوة.
القول الثاني: أن الأبوة تثبت وهو القول الراجح.
وذلك لأن الأبوة إنما تثبت له لأن الطفل قد رضع من لبنه، فاللبن الذي في امرأته ليس له، وقد ثبت أن هذا الطفل راضع من لبنه خمس رضعات معلومات وليست الأبوة فرعاً عن الأمومة كما هو ظاهر القول الأول، بل الأبوة أصل منفرد، فليس ثبوت أبوته لثبوت أمومة المرأة وإنما لكون هذا الطفل قد رضع من لبنه.
أما لو كان الرضاع من بناته، كأن يكون له خمس بنات مثلاً فترضع كل واحدة منهن الطفل رضعة واحدة، فإن الأمومة لا تثبت كما تقدم.
وهل تثبت للأب الجدودة من الرضاع أم لا؟
هنا لا تثبت وذلك لأن اللبن ليس له، وثبوت الجدودة له من الرضاع متفرعة عن ثبوت الأمومة لبناته فالفرعية هنا متحققة بخلاف الفرعية في المسألة الأولى.
مسألة:
وهي المسألة المتقدمة.
لو أن امرأة أرضعت طفلاً رضعتين من لبن زوجها ثم طلقها ثم تزوجت آخر فأرضعت هذا الطفل ثلاث رضعات من لبن الزوج الآخر هنا الأبوة لا تثبت وذلك لأن الزوجين كليهما لم يرتضع هذا الطفل من لبن أحدهما خمس رضعات معلومات.
وأما المرأة فقد رضع منها خمس رضعات، فتكون المرضعة أماً له، وأما الزوجان فليس أحد منهما أباً له.
مسألة:
إذا طلق الرجل امرأته وفيها لبن فتزوجهاآخر، فرضع الطفل من لبنها بعد الزواج الجديد فهل يكون ابناً من الرضاع للأول أو الثاني؟
في هذه المسألة تفصيل فللمسألة أربعة أحوال.
الحال الأولى: ألا يزيد اللبن ولا تلد المرأة حملت أو لم تحمل أو يزيد ولا تحمل.(25/39)
فلو أن رجلاً طلق امرأته وفيها لبن فتزوجت آخر ولم يزد اللبن على ما هو عليه بسبب النكاح الجديد سواء حملت أم لم تحمل ما لم تلد منه.
أو زاد اللبن بعد الزواج الثاني لكنها لم تحمل.
فهنا يكون ابناً من الرضاع للأول لأن اللبن على ما هو عليه.
الحال الثانية: أن يزيد اللبن بسبب الحمل من الثاني.
فهنا يكون ابناً لهما جميعاً لأن اللبن مشترك بينهما.
الحالة الثالثة: أن تلد من الثاني، ويأتي اللبن بعد الولاد فهنا وقد اتفق العلماء على أن اللبن يكون للثاني، وأن الولادة فاصلة.
الحال الرابعة: ألا تلد من الثاني لكنها قد حملت منه، واللبن قد انقطع قبل الحمل ثم نشأ بعد الحمل.
بمعنى تزوجت الثاني فانقطع اللبن من الأول، ثم حملت من الثاني فنشأ لبن جيد.
فهنا في المسألة قولان لأهل العلم هما وجهان في المذهب.
القول الأول: أنه يكون لهما معاً، وأن الحمل يكون قد أعاد اللبن.
القول الثاني: أنه يكون للثاني منهما دون الأول.
وهذا هو الراجح وصوبه صاحب الإنصاف.
وذلك لأن انقطاعه ظاهر في زوال حكمه، كما أن نشوءه بسبب الحمل ظاهر في أنه للثاني.
قال: [ ومحارمه محارمه].
أي وصار محارم الأب من الرضاع محارم المرتضع فالأب من الرضاع له محارم وهم آباؤه وأمهاته وأجداده وجداته وأعمامه وعماته وأخواله وخالته وأبناؤه وبناته وإخوانه وأخواته، فهؤلاء كلهم يكونون محارم للمرتضع.
فإذا كان الأب من الرضاع له بنت، فإنها تكون أختاً لهذا المرتضع.
وإذا كان لهذا الأب من الرضاع أخ فإنه يكون عماً للمرتضع وهكذا.
قال: [ ومحارمها محارمه].
محارم المرضعة محارم للمرتضع فأم المرضعة تكون جدته وأختها تكون خالته، وأخوها يكون خال وابنها يكون أخاه وهكذا.
قال: [ دون أبويه وأصولهما وفروعهما].(25/40)
فلا يتأثر بالتحريم إلا المرتضع وفروعه، أما أبواه وأصولهما وفروعهما وهم الحواشي فلا يتأثرون بالتحريم فلا يتأثر بالتحريم إلا المرتضع وفروعه أبناؤه وبناته فابن المرتضع تكون المرضعة جدة له من الرضاع، ويكون صاحب اللبن جداً له من الرضاع.
وأما إخوان المرتضع وأخواته، وأعمامه وعماته وآباؤه وأمهاته فلا دخل لهم بهذا الرضاع.
وهذا باجماع العلماء.
قال: [ فتباح المرضعة لأبي المرتضع].
فأبو المرتضع هو من الأصول، فيجوز له أن يتزوج المرضعة التي أرضعت ابنه.
قال: [ وأخيه من النسب].
فيجوز لأخي المرتضع من النسب أن يتزوج أم المرتضع وابنتها أو خالتها أو عمتها.
وذلك لأن التحريم لم يتعلق به ولم يتصل به.
قال: [ وأمه وأخته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع].
فيجوز أن يتزوج أبوه من الرضاع أمه من النسب ونحوه أن يتزوج أخوه من الرضاع أخته من النسب وهكذا.
فما ذكره المؤلف هنا من باب التمثيل.
مسألة:
هل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة أم لا؟
بمعنى: هل تحرم عليكم أم زوجتك من الرضاع أي لك زوجة ولها أم من الرضاع فهل تحرم عليك؟ وهل تحرم عليك زوجة أبيك من الرضاع وهل تحرم عليك زوجة ابنك من الرضاع وهل تحرم عليك ابنة زوجك من الرضاع؟
جماهير أهل العلم على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة وحكى ذلك إجماعاً.
وتوقف في ذلك شيخ الإسلام فيه وقال: " إن كان أحد قد قال بعدم التحريم فهو أقوى".
ونصر ذلك تلميذه ابن القيم أي القول بأنه لا يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة.
وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة، وأن التحريم من الرضاع لا يتعدى إلى المصاهرة، وذلك لقوله تعالى: (( وأحل لكم ما وراء ذلكم)) ولم يرد دليل أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وفرق بين النسب وبين المصاهرة، وقد قال تعالى: (( وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)).(25/41)
ومما يدل على هذا أن الله قال في كتابه الكريم: (( وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي من نسائكم )) وقوله: ((وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)) وهذا الإطلاق لا يدخل فيه زوجة الابن من الرضاع ولا أم الزوجة من الرضاع ولا بنت الزوجة من الرضاع يدل على ذلك أن النية قال قبل ذلك: (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة)) فلم يكتف بقوله، ( حرمت عليكم أمهاتكم) عن قوله: (( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)).
ولم يكتف بقوله: (( وأخواتكم)) عن قوله: (( وأخواتكم اللاتي أرضعنكم)).
فدل على أن الأخت إذا أطلقت فلا تدخل فيها الأخت للرضاع وكذلك أمهات النساء إذا أطلقن فلا يدخل فيهن أمهات النساء من الرضاع،
هذا هو القول الراجح في هذه المسألة وقد نصر هذا القول ابن القيم، ونفى أن يكون فيه إجماع، وهو من الإجماع الظني، وغاية ما فيه عدم معرفة الخلاف.
مسألة:
اللبن المشوب بالماء هل يثبت به التحريم أم لا؟
الجواب: إن كان اللبن ظاهراً ويحصل به ما يحصل باللبن غير المشوب من كونه ينشز العظم وينبت اللحم فإنه يثبت به، فإذا شربه كانت رضعة.
مسالة:
كره الإمام أحمد رحمه الله أن تسترضع الفاجرة والكافرة والحمقاء.
وقد ورد عن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما قالا: " اللبن يشبه" كما في سنن البيهقي.
قال المؤلف رحمه الله: " كان يقال الرضاع يُغير الطباع".
فلما يخشى من تأثر الرضيع بالمرضعة فإنها يكره أن تسترضع الحمقاء أو المشركة أو الفاجرة.
وفي أبي داود والحديث مرسل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نسترضع الحمقاء.
مسألة:
المشهور في مذهب الإمام أحمد: أن الرضاع يثبت بشهادة امرأة ثقة.
فإذا شهدت امرأة ثقة بالرضاع فإنه يثبت هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب أهل الظاهر.
وقال الأحناف: لا يثبت إلا بشهادة رجل وامرأتين وقال الشافعية: لا يثبت إلا بشهادة أربع نسوة.
وقال المالكية: لا يثبت إلا بشهادة امرأتين.(25/42)
وأصح هذه الأقوال القول الأول وهو مذهب أهل الظاهر ودليله ما تقدم في قصة عقبة بن الحارث وهي ثابتة في البخاري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما).
قال الشعبي: " كان القضاة أي من السلف يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة المرأة الواحدة في الرضاع" ا . هـ.
فهو مذهب جمهور السلف.
والحاجة داعية لذلك فإن الرضاع الغالب فيه ألا تشهد فيه إلا المرأة الواحدة أو المرأتان.
قال: [ ومن حرمت عليه ابنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجته].
انظر شرح هذه العبارة في آخر هذا الدرس.
قال: [ وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول لا مهر لها].
هذه المسألة في إفساد المرأة نكاح نفسها، وهذه المسألة وإن كانت نادرة لكن وقوعها ممكن.
وصورة هذه المسألة: أن يكون للرجل امرأتان، امرأة كبرى وامرأة صغرى، والمرأة الصغرى لا تزال في الحولين فترضع زوجته الكبرى زوجته الصغرى، فحينئذ تكون الصغرى ابنةً له من الرضاع، والكبرى تكون أم زوجته من الرضاع فتحرم عليه المرآتان جميعاً، "تراجع لأن الأولى عقد بها" .
وأما الثانية فلأنها أم زوجته من الرضاع، فهذا على قول الجمهور.
فإذا أفسدت المرأة نكاح نفسها وكان ذلك قبل الدخول فلا مهر لها وذلك لأن الفرقة قد أتت من جهتها.
قال: [ وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة].
كذلك إن كانت له زوجة وهي طفلة فدبت هذه الطفلة فرضعت من نائمة كأمه أو أخته فإنها تحرم عليه لأنها تكون أخته أو ابنة أخته من الرضاع، فتحرم عليه.
فهذه لا مهر لها لأن الفرقة من قبلها.
قال: [ وبعد الدخول مهرها بحاله].
أما إذا كان هذا الإفساد بعد الدخول فإن المهر لها بحاله وذلك لأن المهر يستقر بالدخول.
إذن: إذا أفسدت نكاحها بنفسها وكان ذلك قبل الدخول فلا مهر لها، وأما بعد الدخول فلها المهر هذا هو مذهب الجمهور أهل العلم.(25/43)
والقول الثاني في المسألة: وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله أن خروج البضع عليه متقوم فهي قد أخرجت بفعلها من ملكية هذا الرجل والبضع متقوم، وعليه فتقوم المرأة بكراً وتقوم ثيباً والفارق بينهما يكون للزوج ولا شك أن هذا هو العدل وهذا هو الأصح.
فعلى ذلك تقوم بكراً وثيباً فيقال: مهرها وهي بكر مائة ألف، ومهرها وهي ثيب خمسون ألفاً فالفارق بينهما خمسون ألفاً، فهذه الخمسون ألفاً تلزم المرأة تدفعها للرجل لأنها أخرجت بضعها من زوجها بغير حق.
تراجع ولعله للزوجة.
قال: [ وإن أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبله وجميعه بعده].
فالمسألة المتقدمة حيث كان المفسد هو المرأة نفسها.
وأما هنا فالمفسد هو غيرها.
فإذا أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبل الدخول وجميعه بعده لأن الفرقة لم تأت من قبلها ولا فعل لها في فسخ النكاح فيثبت لها الحق من المهر فإن كانت لم يدخل بها فلها نصف المهر المسمى وإن كانت قد دخل بها فلها المهر كاملاً.
قال: [ ويرجع به الزوج على المفسد].
فالزوج يعطي المهر، إما نصفه حيث كان لم يدخل بها وإما جميعه حيث دخل بها، ويرجع على المفسد فالمفسد الذي حصلت هذه الفرقة بسببه وهي المرضعة يرجع الزوج عليها بذلك وذلك لأن الإفساد جاء من قبلها أي من قبل هذه المرضعة.
قال: [ ومن قال لزوجته أنت أختي لرضاع بطل النكاح فإذا كان هذا قبل الدخول وصدقته فلا مهر لها].
فمثلاً عقد على المرأة ولم يدخل بها ثم قال: " أنت أختي من الرضاع" وصدقته المرأة فلا مهر لها، وذلك لأنهما قد اتفقا على بطلان هذا النكاح، والنكاح الباطل لا مهر فيه.
قال: [ وإن أكذبته فلها نصفه].
إذا قالت له: " أنت كاذب" فلها نصف المهر، أي قبل الدخول، وذلك لأن هذا القول منه فيه إسقاط حقها فلم يلزمها قبوله بلا بينة.
أما إذا كانت هناك بينة فيلزمها قبوله وهذا ظاهر لكن الكلام هنا حيث لا بينة.
قال: [ ويجب كله بعده].(25/44)
سواء صدقته أو أكذبته، فإذا كان ذلك أي قوله لها: " أنت أختي من الرضاع" بعد الدخول فلها المهر كاملاً سواء صدقته أو أكذبته.
وذلك لاستقرار المهر بالدخول.
لكن إن مكنته من نفسها فاستحل فرجها وهي تعلم أنها أخته من الرضاع وطاوعته ومكنت نفسها له فهي زانية والزانية لا مهر لها.
إذن: هنا حيث كانت جاهلة أو مكرهة فلها المهر بما استحل من فرجها.
قال: [ وإن قالت هي ذلك وأكذبها فهي زوجته حكماً].
إذا قالت المرأة لزوجها: "أنت أخي من الرضاع" فأكذبها فهي زوجته حكماً أي في الظاهر.
وذلك لأن قولها بإسقاط حقه لا يلزمه قبوله فهو قول منها في فسخ النكاح والنكاح حق له، وهذا القول يترتب عليه إسقاط حقه فيسح النكاح، فلم يلزمه القبول فحينئذ تكون زوجته في الحكم الظاهر.
وأما في الباطن فإما أن تكون صادقة في نفس الأمر وإما أن تكون كاذبة.
فإن كانت صادقة فالنكاح باطل ويجب عليها أن تفتدي نفسها منه وألا تمكنه من نفسها.
وأما إن كانت كاذبة في قولها فالنكاح صحيح في الظاهر وفي الباطن.
قال: [ وإذا شك في الرضاع أو كماله أو شكت المرضعة ولا بينة فلا تحريم].
إذا شك في الرضاع ولا بينة فلا يدري هل ثبت هذا الرضاع أم لم يثبت؟
أو شك في كماله ولا بينة لا يدري هل أرضعته خمساً أم أربعاً أو لا يدري هل أرضعته قبل الفطام أو بعده، وعلى القول المرجوح لا يدري هل أرضعته في الحولين أو بعدهما.
أو شكت المرضعة في ثبوته أو كماله ولا بينة فإنه لا تحريم في الكل.
وذلك لأن الأصل عدم الرضاع، والأصل هو الحل قال تعالى: (( وأحل لكم ما وراء ذلكم)) واليقين لا يزول بالشك.
أما شرح قول المؤلف: [ ومن حرمت عليه ابنتها فأرضعت طفلة حرمتها عليه، وفسخت نكاحها منه إن كانت زوجته].
من حرمت عليه ابنتها كالأم والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ ونحوهما فأرضعت طفلة فإنها تحرمها عليه وتفسخ نكاحها منه إن كان قد تزوجها.(25/45)
فمثلاً: الأخت ابنتها من النسب محرمة على أختها فإذا أرضعت طفلة فإنها تحرمها على أخيها.
" كتاب النفقات"
النفقات: جمع نفقة وهي في اللغة: الدراهم ونحوها.
وأما في اصطلاح الفقهاء فهي: إعطاء من يمونه ما يكفيه قوتاً ومسكناً وكسوة وما يتبع ذلك.
قال: [ يلزم الزوج نفقة زوجته].
إجماعاً قال تعالى: (( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)).
وقال تعالى: (( اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث هند بنت عتبة: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) رواه مسلم.
وفي أبي داود والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن حق الزوجة على زوجها، قال: ( أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا أكتسيت) الحديث.
فقد دل كتاب الله وسنة نبيه وإجماع العلماء على وجوب النفقة على الزوجة سواء كانت الزوجة موسرة أم معسرة.
قال: [ قوتاً وكسوة وسكناها بما يصلح لمثلها].
قوتاً: من أدم أو لحم أو غير ذلك.
وكسوة وسكنى بما يصلح لمثلها في العرف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) وفي الحديث الآخر: ( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
قال: [ ويعتبر الحاكم ذلك بحالهما عند التنازع].
فإذا تنازع الزوجان في النفقة فإن الحاكم أي القاضي يعتبر ذلك بحالهما جميعاً أي بحال الزوج وحال الزوجة فالاعتبار بحاليهما جميعاً، وبيان ذلك:-
قال: [ فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها].
وكذلك في الصورة الثانية والثالثة يفرض قدر كفايتها، فالكفاية واجبة في المسائل كلها لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند: " خذي ما يكفيك" .
وقال الشافعي: تأخذ مدين من قمح إن كانت تحت موسر ومداً إن كانت تحت معسر ومداً ونصف إن كانت تحت متوسط.
وهذا القول ضعيف ولا دليل عليه.(25/46)
والجمهور على أنها تأخذ الكفاية سواء كانت تحت موسر أو معسر أو متوسط.
لكن الطعام يختلف باختلاف الإعسار واليسار وأما الكفاية فإنها تأخذها.
قال: [ من أرفع خبز البلد أدمه، ولحماً عادة الموسرين بمحلهما].
فمرجع ذلك إلى العادة، وهذا الكلام من المؤلف إيضاح لما جرت العادة به عندهم.
قال: [ وما يلبس مثلها من حرير وغيره، وللنوم فراش ولحاف وإزار ومخدة، وللجلوس حصير جيد وزلي].
الزلي: نوع من الحصر.
وهذا كله لما جرت العادة عندهم به.
وأما نحن فيختلف الأمر عندنا فالأرز واللحم أرفع القوت وما يتبع ذلك من فواكه وخضروات ونحوها وغرف النوم وما يتبعها والمساكن أيضاً.
فالمقصود: أن لها أرفع المساكن وأرفع المطاعم وأرفع الفرش وأرفع الألبسة.
قال: [ وللفقيرة تحت الفقير من أدنى خبز البلد وأدم يلائمه وما يلبس مثلها وما يجلس عليه].
وما قوله [ يلائمه] أي يلائم الحال.
قال [ وللمتوسطة مع المتوسط، والغنية مع الفقير وعكسهما ما بين ذلك عرفاً].
فإذا كانت متوسطة مع متوسط، أو هي غنية وزوجها فقير، أو هي فقيرة وزوجها غني فحينئذ يكون الوسط لأن الاعتبار بحال الزوجين معاً.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وقال المالكية والأحناف، بل الاعتبار بحال الزوجة فإذا كانت الزوجةغنية فيجب على زوجها أن يكسوها وأن يطعمها وأن يسكنها ما يكون للأغنياء وإن كان هو فقيراً او متوسطاً.
وإن كانت فقيرة فينفق عليها نفقة الفقراء ولو كان غنياً.
قالوا: لحديث: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
وقال الشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد: إن الواجب أن ينظر إلى حال الزوج فإن كان الزوج موسراً فنفقة موسر، وإن كان معسراً فنفقة معسر، وإن كان متوسطاً فنفقة متوسط.
واستدلوا: بقوله تعالى: (( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)).(25/47)
وهذا القول هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن وأما حديث هند بنت عتبة، فهي قضية عين، وأبو سفيان رضي الله عنه كان من الأغنياء.
قال: [ وعليه مؤنة نظافة زوجته].
فما يكون من ماء يحتاج إليه للنظافة أو سدر وغيره من أدوات التنظيف وأجره الماشطة والمشط ونحو ذلك مما تحتاج إليه في التنظيف فإنه يجب على الزوج وذلك لجريان العادة به.
وعللوا هذا أيضاً بتعليل فيما يظهر لي أنه ضعيف فقالوا: إنها كالدار المستأجرة، فكما أن المستأجر يجب عليه أن ينظف داره فكذلك يجب عليه أن يقوم بمؤنة تنظيف زوجته وهذا فيما يظهر لي تعليل ضعيف.
قال: [ دون خادمها].
فالخادم الذي يكون للزوجة لا يجب على الزوج أن ينفق عليه للتنظيف وذلك لأن التنظيف غير مراد فيه.
وقيل: بل يلزم، والأظهر: أن هذه المسألة راجعة إلى العرف فإن حكم العرف بذلك وجب وإلا فلا.
ويجب على الزوج إن كانت المرأة من جرت العادة والعرف بأن يخدم مثلها فيجب عليه الخادم، كأن تكون من ذوي الأقدار العالية أو أن تكون مريضة، تحتاج إلى من يخدمها وهذا لقوله تعالى: (( وعاشروهن بالمعروف)) ولا شك أن هذا من المعروف.
فإذا كانت من يخدم مثلها بأن تكون من ذوي الأقدار أو أن تكون مريضة فيجب عليه أن يخدمها.
فإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي وأعطني الأجرة، فهل يجب عليه ذلك؟
الجواب: لا يجب عليه ذلك، وذلك لأن الأجرة عليه فكان الخادم له دية، ولأن إخدامها يوفر هذه المرأة لحقوق زوجها وأيضاً فيه إعلاء لقدرها وفيه توفير لها لزوجها لتقوم بحقوقه.
ولا يجب عليه أن يملكها الخادم بل يجب عليه أن يأتي بمن يخدمها وإن لم يكن ذلك على سبيل التمليك.
وفي قوله: [ وعليه مؤنة نظافة زوجته].(25/48)
ظاهره أنه ليس عليه مؤنة تزيينها فليس عليه أن يعطيها مالاً للكحل أو لتزيين الوجه أو للبس الحلي أو للطيب ونحو ذلك مما تتزين به المرأة وهذا هو المذهب وذلك لأن حق الاستمتاع بالمرأة له فلا يجب عليه ما يدعو إلى الاستمتاع بها والتزيين يدعوه إلى الاستمتاع بها.
وهناك وجه في المذهب، إن ذلك واجب عليه.
والذي يترجح أن هذه المسألة راجعة إلى العرف وكون ذلك يراد للاستمتاع ليس ذلك مختصاً بالاستمتاع بل المرأة أيضاً نحتاج إلى التزين وإن كان هذا ليس للزوج فإنها تحتاج للتزيين والتجمل عند بنات جنسها.
قال: [ لا دواء وأجرة طبيب].
لا يجب عليه أن يعطيها مالاً لطبيب استأجرته، ولا أن يدفع لها مالاً لتشتري به الدواء.
قالوا: لأن ذلك من الحاجيات غير المعتادة، وإنما يكون لعارض وعلله بعضهم بتعليل ضعيف وهو أن يقال: إن المرأة كالدار المستأجرة فإذا فسد شيء من الدار المستأجرة كأن يسقط شيء من أطرافها فلا يجب عليه أن يصلح ذلك.
ولا شك أن هذا تعليل ضعيف، فكيف تقاس المرأة بالدار المستأجرة وقد أمر الله بمعاشرتها بالمعروف.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في المذهب: وجوب ذلك على الزوج، وهو ظاهر.
لأن ذلك من المعاشرة بالمعروف وقد قال تعالى: (( وعاشروهن بالمعروف)) فليس من المعاشرة بالمعروف أن تمرض المرأة فلا يأتي لها بطبيب ولا يدفع له أجره.
وقد قال تعالى: (( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)).
فالصحيح وجوب ذلك عليه.
قال رحمه الله: " فصل " [ ونفقة المطلقة الرجعية وكسوتها وسكناها كالزوجة].
فالمطلقة الرجعية لها النفقة ولها السكنى كالزوجة قال تعالى: (( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة)).
ولأن الرجعية زوجة، وفي النسائي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث فاطمة بنت قيس: ( إنما السكنى والنفقة لمن تملك الرجعة).
قال: [ ولا قسم لها].
كما تقدم في الكلام على القسم بين النساء في كتاب عشرتهن.(25/49)
قال: [ والبائن بفسخ أو طلاق لها ذلك إن كانت حاملاً].
البائن بفسخ كالمختلعة أو البائن بطلاق وهي من بُت طلاقها لها النفقة إن كانت حاملاً.
لقوله تعالى: (( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)).
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود في حديث فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لك النفقة إن كنت حاملاً) – وظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب- أنه لا نفقة لها ولا سكنى إن لم تكن حاملاً، وهو الذي دل عليه حديث فاطمة بنت قيس ففي صحيح مسلم قالت طلقني زوجي ثلاًثاً فلم يجعل لي النبي - صلى الله عليه وسلم - سكنى ولا نفقة)
وقد قال تعالى: (( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن)) وقال: (( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) وهذا يدل على أن قوله: (( لا تخرجوهن من بيوتهن)) في الآية إنما هي في المطلقة الرجعية بدليل قوله: (( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)) أي رجعة، والمطلقة البائن لا يمكن أن يحدث أمر فقد بت طلاقها.
قال: [ والنفقة للحمل لا لها من أجله].
هذه النفقة التي تجب للمطلقة البائن الحامل، هي للحمل فقط لا لها من أجله، هذا هو المشهور في المذهب.
قالوا: لأن النفقة تجب لوجوده أي الحمل، ولا تجب بعدمه، فدل ذلك على أن النفقة للحمل.
وعليه: لو أنه لم ينفق عليها للحمل ومضى الزمن ولم تنفق هي بنية الرجعة ولم تستدن هي لتنفق على نفسها بنية الرجعة فإن النفقة تسقط لأن النفقة للحمل، والحمل ولد فحينئذ تكون من باب النفقة على الأقارب وليست من باب النفقة على الزوجات، والنفقة على الأقارب تسقط بمضى الزمان، فلو أن رجلاً لم ينفق على ابنه فإنا لا نأمره بأن ننفق عليه فيما مضى من الزمان إلا أن يكون قد أتفق عليه بنية الرجوع وعن الإمام أحمد رحمه الله: أن النفقة لها من أجله أي للحامل من أجل الحمل.(25/50)
قالوا: بدليل أنها تجب عند اليسار والإعسار والنفقة على الأقارب لا تجب عند العسر بخلاف الزوجة فإنها تجب الإنفاق عليها في حال الإعسار واليسار.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله الجمع بين القولين، فقال: النفقة للحمل ولها،وهو الصحيح لأن العلتين المتقدمتين قويتان.
وعليه فالراجح أنها للحمل ولها.
والمعنى يدل على ذلك أما كونها للحمل فهو ظاهر لأن الحمل ولدله فالإنفاق على الحامل ينتفع به ولده.
بل بقاء ولده موقوف على النفقة على الحامل.
وأما كونه لها فلأنها تتكلف حمله وتلحقها المشقة في ذلك فكان لها أيضاً.
إذن الصحيح، أنها له بدليل أن النفقة تسقط بعدمه وتجب بوجوده.
وهو لها بدليل وجوب النفقة في الإعسار واليسار وعليه فتجب للناشز وعليه أيضاً لا تسقط بمضي الزمان لأنها لها ونفقة المرأة لا تسقط بمضي الزمان.
قال: [ ومن حبست ولو ظلماً أو نشزت أو تطوعت بلا إذنه بصوم أو حج أو أحرمت بنذر حج أو صوم أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة الوقت، أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه سقطت النفقة].
فالنفقة تسقط في هذه المسائل.
أما المسائل الأولى، فلأن النفقة في مقابل تمكينها نفسها لزوجها وهنا لم تمكن نفسها له.
وأما المسألة الأخيرة، وهي قوله ( أو سافرت لحاجتها ولو بإذنه) فلأنها منعت نفسها منه بسبب من غير جهته.
هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسائل كلها.
والقول الثاني في المسألة: وهو اختيار الشيخ السعدي وهو الصحيح في هذه المسألة، أن نفقة الزوجة لا تسقط إلا حيث نشزت أو عصت.
وأما ما سوى ذلك فإنها لا تسقط وذلك لأن الأصل هو وجوب النفقة على الزوجة ولا دليل على إسقاطها ولا نسلم أن النفقة تجب في مقابل تمكينها نفسها له بدليل أن النفقة تجب للمريضة التي لا يستطيع زوجها أن يطئها وتجب للنساء، فليس هذا في مقابل تمكينها نفسها له بل تجب النفقة بالزوجية.
وقول المؤلف: [ أو صامت عن كفارة أو قضاء رمضان مع سعة الوقت].(25/51)
بخلاف ما لو كان الوقت غير متسع كأن تصوم القضاء من رمضان في آخر شعبان، فهنا لا تسقط نفقتها على المذهب وذلك عليها شرعاً.
وقد تقدم أن الراجح عدم سقوطها مطلقاً إلا إذا نشزت أو عصت.
قال: [ ولا نفقة ولا سكنى لمتوفي عنها ].
تقدم البحث في هذه المسألة وأن الراجح وجوب السكنى دون النفقة.
قال: [ ولها أخذ نفقة كل يوم من أوله].
للمرأة أن تأخذ نفقة كل يوم من أوله، فمثلاً: ما يكفيها من الأرز ومن الخبز ومن الأدم ونحو ذلك فإنها تأخذه من أول النهار وذلك لأنه أول وقت الحاجة.
وهذا القول فيه نظر ظاهر وذلك لأن العادة لم تجر بمثل هذا بل يرجع في هذا إلى العرف والعادة.
قال: [ لا قيمتها].
فلا يجب عليه أن يعطيها القيمة، فلو قالت له: (( آخذها دراهم)) فإن ذلك لا يجب عليه.
ولا أصل لتقويم الطعام بالدراهم لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في أقوال الصحابة ولا التابعين ولا أتباعهم ولا نص عليه أحد من أئمة الإسلام)) كما قرر هذا ابن القيم.
قال: [ ولا عليها أخذها].
فلو قال الرجل: أنا أعطيك الدراهم، فقدر لها مائة ريال في كل يوم، فلا يلزمها قبول ذلك.
وهذا ظاهر وذلك لأن الواجب لها ما جرت العادة به، والعادة جارية بالطعام لا بقيمته.
ولأنها تحتاج من يشتري لها بهذه الدراهم الطعام.
قال: [ فإن اتفقا عليه أو على تأخيرها أو تعجيلها مدة طويلة أو قليلة جاز].
إذا اتفقا على القيمة، أو اتفقا على تأخيرها بأن تأخذها في آخر السنة، أو اتفقا على تعجيلها بأن تأخذها في أول السنة، سواء كان هذا التعجيل أو التأخير مدة طويلة أو قليلة جاز ذلك.
وذلك لأن الحق لهما فلا يعدوهما.
قال: [ ولها الكسوة كل عام مرة في أوله].
فالكسوة تجب في أول كل عام.
وقيل في أول الصيف كسوة الصيف، وفي أول الشتاء كسوة الشتاء.
والصحيح وهو قول في المذهب: أن ذلك يجب بقدر الحاجة وتبعاً للعرف.(25/52)
"يقدر الحاجة"، بمعنى أنها لو لم تبل كسوتها فلا يجب عليه أن يعطيها في العام الجديد كسوة أخرى، ولو بليت كسوتها فيجب عليه أن يعطيها كسوة جديدة ولو كان ذلك قبل نهاية العام.
فالصحيح أنها تجب بقدر الحاجة وهي تتبع العرف، وهو اختيار الشيخ السعدي، وذلك لقوله تعالى: (( وعاشروهن بالمعروف)) فمرجع هذه المسائل على العرف.
قال: [ وإذا غاب ولم ينفق لزمته نفقة ما مضى].
رجل غاب سنة عن امرأته فلم ينفق عليها فيجب أن يعطيها نفقة ما مضى وهي نفقة سنة أو نفقة سنتين أو نفقة ثلاث سنين.
وهذا ظاهر وذلك لأن النفقة تجب لها مع الإعسار واليسار فلم تسقط بمضى الزمان، فهي حق لها كالأجرة، تجب مع الإعسار واليسار فلم يسقط ذلك بمضى الزمان.
قال: [ وإن انفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً غرّمها الوارث ما أنفقته بعد موته].
امرأة غاب زوجها فأنفقت في غيبته من ماله فبان ميتاً فإن الوارث يغرمها ما انفقته بعد موته وذلك لتبين عدم استحقاقها لأنها بموت زوجها لا نفقة لها.
وعليه فللوارث أن يغرفها ما مضى.
وتقدم أن الصحيح أن المتوفي عنها زوجها لها السكنى والنفقة وعليه فالنفقة مدة اعتدادها في بيت زوجها واجبة في تركته. [ يراجع هذا الترجيح بناء على ماسبق].
مسألة:
لو أن رجلاً انفق على مطلقته البائن يظنها حاملاً فبانت حائلاً أي ليست بحامل، فله أن يرجع في النفقة وذلك لتبين عدم استحقاقها.
والعكس فلو أنه لم ينفق عليها يظنها حائلاً فبانت حاملاً فإنها ترجع إليه بالنفقة وذلك لتبين استحقاقها.
قال رحمه الله: [ فصل: ومن تسلم زوجته أو بذلت نفسها ومثلها يوطأ وجبت نفقتها].
ذكر المؤلف شرطين لوجوب النفقة على الزوجة:-
الشرط الأول: التسليم، والمراد به التسيلم التام وذلك بأن تبذل المرأة نفسها لزوجها.
فإن امتنعت من ذلك أو امتنع وليها أو تساكتاً بعد العقد أي الزوجان فلم تبذل ولم يطلب فلا نفقة وهذا الشرط لا خلاف فيه بين أهل العلم.(25/53)
الشرط الثاني: أن تكون هذه المرأة ممن يوطأ مثلها أي من حيث السن، وهذا شرط عند جمهور أهل العلم وهي في المشهور في المذهب، بنت تسع سنين.
والصحيح ما تقدم: وأن السن غير مؤثر هنا بل متى كانت المرأة يمكن وطؤها سواء كانت بنت ثمان سنين أو بنت تسع أو بنت عشر أو بنت أثنى عشرة سنة وهذا يختلف باختلاف النساء واختلاف الطبائع.
فالصحيح أن هذا لا ارتباط له بالسن وهو قول في المذهب فلو بذلت نفسها أو بذلها أولياؤها وهي صغيرة لا يوطء مثلها فلا نفقة، هذا هو مذهب الجمهور وذلك لأن لها حالاً أخرى يمكنه أن يستمتع بها استمتاعاً كاملاً والحال الأخرى حيث كانت كبيرة.
بخلاف ما لو كانت رتقاء أو عريضة أو نفساء أو حائض فإنه يجب عليه أن ينفق عليها عند جمهور العلماء.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الثوري وقول في مذهب أحمد أن المرأة إذا ثبت التسليم التام ببذلها نفسها أو ببذل الأولياء لها فإن النفقة تجب وإن كانت لا يوطء مثلها.
وهذا هو القول الراجح في المسألة.
وذلك لأن الأصل وجوب النفقة على الزوجة ولا تسقط لها. وتعذر الوطء لعجزها لا لمعصيتها ونشوزها.
والمراد بالتام في قولنا التسليم التام، أن يكون التسيلم غير مقيد بقيد لم يشترط في العقد.
فلو قالت المرأة لا أسلم نفسي لزوجي إلا في بيتي أو في بيت أبي أو في بلدي ونحو ذلك ولم يشترطا في العقد على ذلك فإن النفقة تسقط لأن التسليم ليس تسليماً تاماً.
أما إذا كان التسليم تاماً أو كأن مقيداً لكنها قد اشترطت ذلك في العقد فحينئذ تجب النفقة ومثال ذلك مالو قيدته بشيء يشهد العرق به فإن النفقة تجب لها.
قال: [ ولو مع صغر زوج وجبه ومرضه وعنته].
وهذا ظاهر، لأن عدم الوطء من جهته وليس من جهتها وأما هي فقد سلمت المعوض له.
قال: [ ولها منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال].
فللمرأة أن تمنع نفسها من زوجها بألا تمكنه من وطئها حتى تقبض صداقها الحال.(25/54)
فالتسليم المتقدم: أن تسلم نفسها له في داره وأما المقصود هنا بمنع نفسها، أن تمنع نفسها من أن يطئها.
وكذلك لها أن تمتنع من التسليم التام الذي يترتب عليه الوطء، لها ذلك حتى تقبض صداقها الحال.
فلها أن تمنع نفسها حتى تقبض صداقها الحال وذلك لئلا تفوت عليها منفعة بضعها، فإنه إذا جامعها فقد فاتت عليها منفعة البضع بحيث لا يمكنها استدراك ذلك.
وأما الصداق المؤخر المؤجل، فليس لها أن تمنع نفسها من زوجها حتى تأخذه وذلك لأن رضاها بتأجيله متضمن لرضاها بالوطء قبل تسلمه.
قال: [ فإن سلمت نفسها طوعاً ثم أرادت المنع لم تملكه].
فإذا سلمت امرأة نفسها طوعاً لا كرهاً فليس لها بعد ذلك أن تمتنع عن زوجها، قالوا: لأن هذا التسليم منها قد استقر به العوض وهو المهر برضا المسلم فلم تمكن من استعادة المعوض بعد ذلك كالمبيع.
فإذا سلم صاحب السلعة، سلمها المشتري ولم يقبض الثمن بعد فإنه لا يمكن بعد التسليم من أخذ السلعة مرة أخرى فكذلك هنا فهذه المرأة قد سلمت نفسها لزوجها فأستقر بذلك المهر وكان ذلك برضا منها فلم تمكن بعد ذلك من الامتناع كالمبيع هذا مذهب الجمهور وهو أحد الوجهين في المذهب، وهو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول أبي حنيفة والوجه الثاني في المذهب أن المرأة لها أن تمنع زوجها من وطئها بعد لك.
قالوا: لأن التسليم يوجبه عقد النكاح فلا فرق بين التسليم الأول والتسليم الثاني، فكما جاز لها أن تمتنع من التسليم الأول فلها أن تمتنع من التسليم الثاني.
ويفارق هذا المبيع: بأن التسليم مستمر أي باستمرار وطئها.
بخلاف المبيع أي السلعة فإنها حيث استلمت أصبحت ملكاً للمشتري في المرة الأولى.
وأما هنا: فالانتفاع ببعضها مستمر فكان امتناعها بعد ذلك لحفظ حقها جائزاً لها.
ولأنها إنما مكنت نفسها بناءً على أنه سيعطيها صداقها وقد منعها صداقها فكان لها أن تعود إلى الامتناع وهذا القول أظهر لقوة تعليله.(25/55)
ولها حيث منعت نفسها بحق، لها النفقة فلو أن امرأة قالت: ( لا أسلم نفسي لك حتى تعطيني صداقي الحال فلم يعطها فيجب عليه أن ينفق عليها في زمن الامتناع لأنه بحق والأصل وجوب النفقة على الزوجة وهنا المرأة لم تعص ولم تنشز وإنما امتنعت من الوطء لحفظ حقها وأخذ صداقها فكان هذا الامتناع بحق.
قال: [ وإذا أعسر الزوج بنفقة القوت أو الكسوة أو ببعضها أوالمسكن فلها فسخ النكاح].
إذا أعسر زوج المرأة بنفقة القوت أو بنفقة الكسوة أو ببعض ذلك أو كان ينفق عليها يوماً ويعجز في اليوم الآخر، أو عجز عن للمسكن فلها فسخ النكاح وإن كانت عالمة بإعساره قبل العقد.
إذن للمرأة أن تفسخ النكاح بسبب عسر الزوج سواء كان هذا العسر طارئاً على الزوج أو كان معسراً أي بأن تكون عالمة بإعساره قبل الزواج، هذا هو مذهب الجمهور.
واستدلوا بقوله تعالى: (( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)) وبقوله: (( ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)).
واستدلوا: بما روى الدار قطني عن سعيد بن المسيب أنه قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: ( يفارقها) فقيل له ( سنة) فقال (سنة) وهذا مرسل صحيح.
وقال الأحناف وهو اختيار ابن القيم واختاره من متأخري الحنابلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن المرأة ليس لها أن تفسخ النكاح حيث اعسر الزوج.
ومن باب أولى إذا كان معسراً في الأصل ثم نكحته وهي تعلم بإعساره ورضيت بذلك.
واستدلوا: بأن الفقر كان كثيراً في عصر الصحابة رضي الله عنهم بل كان العسر أضعاف اليسر بل أضعاف مضاعفة ولم يمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة قط من الفسخ بسبب عسر زوجها.
قالوا: والعسر واليسر مطيتان يمتطيهما أكثر الناس فالناس يتقلبون بين عسر ويسر، فلو مكنت المرأة من الفسخ لحصل فساد كبير.
قالوا: وقد قال تعالى: (( ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها)).
وهذا القول الراجح في المسألة.(25/56)
إلا أن يكون ثمت ضرر على المرأة بأن تكون المرأة فقيرة غير قادرة على التكسب.
أما إذا كانت المرأة غنية أو قادرة على التكسب من غير أن يترتب على ذلك أذىً لها فإنه ليس لها أن تفسخ وأما إذا كان هناك ضرر عليها بأن كانت فقيرة غير قادرة على التكسب فإنها لها الفسخ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ( لا ضرر ولا ضرار) وقد قال تعالى: (( ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا)).
وأما أثر سعيد بن المسيب فليس فيه الفسخ مطلقاً فيحمل هذا على ثبوت الضرر.
على أن الصحيح كما قرر ابن القيم، أنه موقوف على أبي هريرة حيث قال كما في البخاري: (والمرأة تقول اطعمني أو طلقني) ومثل هذا عن أبي هريرة ليس فيه أن لها حق الفسخ لكن فيه الخبر من أن المرأة تطالب بالطلاف أو الإنفاق.
فالصحيح مذهب الأحناف وهو اختيار ابن القيم من أن المرأة لا تمكن من الفسخ حيث أعسر زوجها إلا أن يترتب على ذلك ضرر عليها فيدفع الضرر عنها بحق الفسخ لها.
وأما إذا كانت غنية أو قادرة على التكسب فليس لها الفسخ وعليه فليس للزوج أن يمنعها من التكسب بل تمكن من ذلك.
وظاهر كلام الفقهاء، أنها إن اختارت البقاء وصبرت على عسر زوجها فليس له أن يمنعها من التكسب مطلقاً ولو كانت غنية وذلك لأنها محبوسة عليه بشرط أن ينفق عليها لكن هذا القول فيه نظر، فلا يتبين أن المرأة تمكن من التكسب بلا إذن وليها ولو كانت غنية بل إذا كانت فقيرة فنعم، وأما إن كانت غنية فلا تمكن من ذلك إلا بإذن الزوج وذلك لوجوب طاعة الزوج وهذا الوجوب لا مسقط له، فحق الزوج على زوجته أن تطيعه وحيث كانت غنية فلا مسقط لهذا الحق.
والمشهور في مذهب أحمد: أنها تمكن من الفسخ على الفور وعند الشافعية أنها تمكن من الفسخ على التراخي وضربوا لذلك ثلاثة أيام.
وعند المالكية ضربوا لذلك شهراً.
والصحيح أنها لا تمكن من الفسخ مطلقاً بل تلزم بالبقاء إلا أن يكون ثمت ضرر، فإن كان ثمت ضرر فإن ذلك على الفور ليدفع عنها الضرر.(25/57)
قال: [ فإن غاب ولم يدع لها نفقة وتعذر أخذها من ماله واستدانتها عليه فلها الفسخ بإذن الحاكم].
فإذا غاب الزوج ولم يدع لزوجته نفقة، وتعذر عليها أخذها من ماله، بأن يكون له محل أودار لها إبجاب أو نحو ذلك. وتعذر أن ستدين على زوجها فلها الفسخ بإذن الحاكم.
وهذا بناءاً على المسألة المتقدمة فلها الفسخ أيضاً للإعسار لأن النفقة قد تعذرت.
وقوله: " بإذن الحاكم" وذلك لأن هذه المسألة من المسائل المتنازع فيها فاشترط فيها إذن القاضي ليثبت الإعسار ثم يفسخ.
والجمهور على أنه فسخ وليس بطلاق في المسألتين كلتيهما.
فإذا فرق بين المرأة وزوجها لإعساره أو كونه غائباً ولم يترك لها نفقة فإن هذه الفرقة فسخ وليست بطلاق فلا تحسب تطليقة.
وعليه فلا يرجع إليها إلا بعقد جديد، فمثلاً فسخت اليوم ثم تيسرت حاله فإنه لا يرجع إليها إلا بعقد جديد ولا تحسب عليه تطليقة.
وهنا مسائل:-
المسألة الأولى:
أن المرأة إذا كان زوجها موسراً فلها إن ماطل، أن تأخذ نفقتها ونفقة خادمها ونفقة أولادها بالمعروف من غير إذنه ولا علمه.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -??لهند: ( خذي?ما يكفيك وولدك بالمعروف) متفق عليه.
وهكذا كل سبب ظاهر لا يحتاج إلى إثبات فكذلك كحق الضيف وغير ذلك من الحقوق الظاهرة، وحق القريب كأن يأخذ الابن من مال والده حيث كان الأب لا ينفق عليه وهكذا.
وأما إذا كان السبب غير ظاهر بل يحتاج إلى إثبات كالدين فليس له أن يأخذ ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -???أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك).
إذن الأخذ من مال الغير حيث كان له فيه حق:-(25/58)
لا يخلو هذا الحق إما أن يكون ظاهراً أو خفياً فإذا كان حقك ظاهراً فلك أن تأخذ وإن لم يعلمه وإن كان خفياً فليس لك أن تأخذ إلا بإذنه وعلمه، فلو أن رجلاً أخذ منك ديناً ثم وضع عندك أمانة وكان قد كتم دينك أو ماطل فيه، فليس لك أن تأخذ من ماله الذي أئتمنك عليه، ليس لك أن تأخذ حقك منه وذلك لأن السبب خفي وليس بظاهر.
وهكذا ما يعتقده بعض الناس من حقه في بيت المال، فيأخذ على سبيل الخفية وهذا لا يجوز.
فعلى التسليم بثبوت حقه في ذلك - ولا يسلم - لو سلم لذلك فإن هذا وجه خفي فحينئذ يكون محرماً فقد قال - صلى الله عليه وسلم -???أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك).
فلا بد أن يكون السبب ظاهراً لا خفياً كما قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وهذه المسألة تسمى بمسألة الظفر أي الظفر بالحق.
?المسألة الثانية:
??????إذا مضى زمن لم ينفق فيه الرجل على امرأته فهل تسقط النفقة أم لا تسقط؟
الجواب: جمهور العلماء على أنها لا تسقط وهو الصحيح الذي يدل عليه أثر عمر بن الخطاب ففي البيهقي أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا) إذن نفقة الزوجة لا تسقط بمضى الزمان.
??المسألة الثالثة:
??إذا اختلف الزوج وزوجته في النفقة فأنكرت المرأة النفقة ولا بينة لأحد منهما.
فالمشهور في المذهب أن القول قول الزوجة لأن الأصل معها إذ الأصل عدم النفقة.
والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن القول قول الزوج إذا شهد له العرف وهو القول الراجح وذلك لأن الأصل الذي ذكره الحنابلة معارض بالظاهر، فالظاهر حين شكت الزوجة أن زوجها لا ينفق عليها فما تطعمه وأجرة، مسكنها وغير ذلك من الزوج، فحينئذ تعارض عندنا ظاهر الحال والأصل، وظاهر الحال أقوى من الأصل، هذا إذا شهد بذلك العرف.(25/59)
وأما إذا لم يشهد بذلك العرف كأن لا يكون العرف على ذلك فنقول بالأصل وهو ما تقدم.
" باب نفقة الأقارب"
?????قال: [ تجب أو تتمتها لأبويه وإن علوا، ولولده وإن سفل حتى ذوي الأرحام منهم].
?أجمع أهل العلم على وجوب النفقة على الوالدين ووجوب النفقة على الولد.
قال تعالى: (( وبالوالدين إحساناً)).
قال - صلى الله عليه وسلم -????أفضل ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه).
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال لهند بنت عتبة: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
إلا أن مالكاً لم يوجبها إلا أن يكون الوالد والداً على المباشرة وكذلك الولد، وأما مع الواسطة كالجد أو الجدة أو ابن الابن أو بنت الابن ونحوهم فإن الإمام مالك لم يوجب ذلك.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لظاهر الأدلة: ( وبالوالدين إحساناً) فالجد والد والجدة والدة، ??خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فإبن الابن ولد، وبنت الابن بنت وهكذا.
?وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????إن ابني هذا سيدُ) قال أبو بكر وكما في صحيح البخاري: "الجد والد"
إذن النفقة واجبة على الوالدين وإن علو وعلى الأولاد وإن نزلوا حتى ذوي الأرحام منهم.
فمثلاً: أم أب الأم هذه من ذوي الأرحام، وهي تجب لها النفقة وبنت البنت من ذوي الأرحام كما تقدم في كتاب الفرائض فتجب لهم النفقة وإن كانوا من ذوي الأرحام أي ليسوا من ذوي الفرض ولا التعصيب.
فلا يشترط في النفقة على الأصول، ( وهم الوالدان وإن علوا) ولا الفروع ( وهم الأولاد وإن نزلوا) لا?يشترط الإرث فسواء كانوا وارثين أم لم يكونوا كذلك فإن النفقة واجبة عليهم لعمومات الأدلة الشرعية وقد تقدم بعضها.
قال: [ حجبه معسر أو لا].
????سواء حجبه معسر أو لا، وذلك لأن الإرث ليس بشرط.(25/60)
فمثلاً: إذا كان له جد أو أب وأبوه معسر فتجب عليه النفقة وإن كان ليس بوارث، فالوارث هنا هو الأب، فإن ابن الابن لا إرث له مع الابن، فهنا يجب عليه أن ينفق على جده وإن كان الأب موجوداً وهو الوارث وذلك لأن الإرث ليس بشرط.
أو لم يحجبه: كأن يكون له جدً أب أب ويكون أبوه ميتاً وذلك لما تقدم لأن الإرث ليس بشرط.
فالمقصود: أنه سواء كان محجوباً بمعسر أم لم يكن كذلك فالنفقة واجبة.
فالقاعدة: أن النفقة على الأصول والفروع واجبة سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا كذلك.
قال: [ ولكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم سوى عمودي نسبه].
??عمود: النسب هما الأصول والفروع.
فالنفقة واجبة لكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم سوى عمودي النسب.
فقد تقدم الكلام على عمودي النسب.
وهنا الكلام فيما سوى عمودي النسب من الحواشي والولاء هنا يقول: تجب لكل من يرثه بفرض أو تعصيب لا برحم فالقاعدة في الحواشي: أن النفقة واجبة بشرط الإرث، فإن كنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تنفق عليه، وإلا فلا.
???فمثلاً: له أخ وهذا الأخ له أبناء، فهنا لا يرث أخاه لوجود أبنائه فلا يجب عليه أن ينفق وأما إذا كان له أخ هو يرثه فإن النفقة واجبة له، إذن القاعدة في الحواشي أن النفقة واجبة بشرط الإرث أي بأن يكون المنفق يرث المنفق عليه.
قال: [ سواء ورثه الآخر كأخ أولاً كعمة وعتيق].
????أي سواء كان الآخر وهو المنفق عليه يرث كأن يكون المنفق عليه أخاً.
أو كان لا يرث كأن يكون عمه أو عتيقاً.
فالشرط في وجوب النفقة هو أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه، ولا ننظر هل يرث المنفق عليه، المنفق أم لا، بل سواء ورثه أم لم يرثه.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وقال الأحناف: وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، تجب النفقة للحواشي مطلقاً سواء كان المنفق وارثاً أم لم يكن وارثاً.(25/61)
إذن الحنابلة لا يوجبون النفقة على الحواشي إلا إذا كان المنفق وارثاً فلا يوجبوها للخال ولا للأخ إذا كان له أبناء وهكذا.
ويستدلوا بقوله تعالى: (( وعلى الوارث مثل ذلك)).
وأما الأحناف واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم فقالوا بوجوبها للخال وغيره من ذوي الأرحام.
واستدلوا بعمومات الأدلة الدالة على وجوب النفقة على الأقارب قال تعالى: (( وبالوالدين إحساناً وبذي القربى)) وقال تعالى: (( وآت ذا القربى حقه)).
?وقال - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين لما قيل له: ( من أحق الناس بصحابتي؟ قال: "أمك" قيل ثم من؟ قال: " أمك" قيل ثم من؟ قال: " أمك" قيل ثم من؟ قال: " أبوك ثم أدناك فأدناك".
وفي الترمذي وأبي داود نحوه وفيه (ثم الأقرب فالأقرب) فهذه أدلة عامة بوجوب النفقة على الأقارب سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا وارثين وهذا هو القول الراجح في المسألة.
وأما قوله تعالى: (( وعلى الوارث مثل ذلك)) فهذا فيه أن الإرث سبب يقتضي النفقة وليس فيه أن الرحم لا يقتضي ذلك.
وعليه فهناك سببان للنفقة:
الإرث وقد دل عليه قوله تعالى: (( وعلى الوارث مثل ذلك)).
وهناك سبب آخر وهو الرحم دلت عليه الأدلة الشرعية.
قال: [ بمعروف].???لقوله تعالى: (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) فتجب النفقة بالمعروف.
قال: [ مع فقر من تجب له وعجزه عن تكسب].
????هذا شرط لابد منه.
فلا بد أن يكون المنفق عليه، فقيراً عاجزاً عن التكسب أما لو كان غنياً أو قادراً على التكسب أي يمكنه أن يصنع صنعة ونحو ذلك فلا تجب النفقة له لكن لو كان العمل الذي يعمله الأب لا يليق بالمسلم أن يترك أباه يعمله بأن يكون عملاً ممتهناً فيكد والده وهو غني قادر على التكسب فلا شك أن هذا من القطيعة وأنه من العقوق وأن ذلك لا يجوز.
إذن: لابد أن يكون فقيراً ليس بيده مال حاصل ولا متحصل بصناعة أو غيره.(25/62)
لكن مثل الوالد والوالدة لو قدرا على التكسب بمهنة ممتهنة عند الناس وهو قادر على أن ينفق عليهما وهما من ذوي الشرف أو دون ذلك فليس مناسباً لهما العمل به، فليس له أن يتركهما يعملان هذا العمل وذلك لأن هذا من عقوق الوالدين.
قال: [ إذا فضل عن قوت نفسه وزوجته ورقيقه يومه وليلته وكسوة وسكنى من حاصل أو متحصل].
هذا هو الشرط الثاني: وهو غنى المنفق، لا بد أن يكون المنفق غنياً وذلك بأن يكون له مال يفضل عن قوت نفسه وقون زوجته ورقيقه يومه وليلته إذن قال - صلى الله عليه وسلم -????كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
من حاصل: أي من مالٍ بيده.
أو متحصل: كصنعة ونحوها.
قال: [ لا من رأس مال وثمن ملك وآلة صنعة].
فلا نأمره أن ينفق على قريبه من رأس ماله، كأن يكون له تجارة ومعاشه قائم على هذه التجارة فلا يأمره أن يأخذ من رأس المال لينفق على أقاربه.
كذلك لا نأمره أن يبيع شيئاً من ملكه حيث يتضرر بذلك ولا أن يبيع آلة الصنعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار).
إذن: يشترط أن يكون المنفق غنياً وذلك بأن يكون حق المال الذي أوجبنا أن ينفقه على قريبه أن يكون فاضلاً عن قوته وقوت ولده وقوت زوجته وقوت رقيقه وأن يكون من مال حاصل أو متحصل فلا يكون من رأس ماله ولا من ثمن ملكه ولا من ثمن صنعته لحصول الضرر عليه بذلك.
ومقتضى تعليلهم أنه لو لم يكن يتضرر بذلك كأن يكون له رأس مال، ورأس?المال فائض عن القدر المناسب كأن تكون هذه التجارة يكفيها عشرة آلاف وقد وضع فيها عشرين ألفا حينئذ يأخذ من رأس المال لأنه لا يتضرر.
قال: [ ومن له وارث غير أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم].
الحنابلة: يشترطون في الحواشي أن يكون المنفق وارثاً للمنفق عليه.
فالأب له حكم آخر، وأما من له وارث غير أب فإنه ينفق عليه على قدر إرثه.
فالأب: ينفق وحده على أولاده لقوله - صلى الله عليه وسلم -?لهند: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).(25/63)
فالأب يستقل بالنفقة فإنها واجبة عليه.
وأما سوى الأب فإنه ينفق بقدر إرثه، وقد ضرب المؤلف لذلك مثالاً.
?فقال: [ فعلى الأم الثلث، والثلثان على الجد].
فلو كان هناك فقير وله أم وجد، فإن ثلث نفقته تجب على الأم، والثلثان الآخران يجبان على الجد لأن إرثهم منه كذلك.
قال: [ وعلى الجدة السدس والباقي على الأخ].
????فلو كان هناك فقير وله جدة وأخ، فإن سدس النفقة تجب على الجدة والباقي تجب على الأخ وذلك لأن إرثهم منه كذلك.
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى: أن ما ذكره المؤلف هو المشهور في المذهب وأن الواجب أن تكون النفقة بقدر الإرث.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن القيم: أن النفقة مختصة بالعصبة.
فالأم لا تنفق والجدة لا تنفق وهكذا، فالنفقة مختصة بالعصبة أي حيث كان هناك عصبة.
في المسألة الأولى إذا كان هناك فقير وله أم وجد فإن النفقة لا تجب إلا على الجد، وهذا هو مذهب الشافعي ورواه أحمد وهو القول الراجح في هذه المسألة وذلك لأن الشارع لم يوجب النفقة على الأم بل أوجبها على الأب في قوله: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، وهذا يدل على أن النفقة تختص بالعصبة وأما من ليسوا بعصبة فإن النفقة لا تجب عليهم.
المسألة الثانية: أن المذهب أنه إن كان الباقون غير قادرين على النفقة فلا يجب عليه أن ينفق إلا بقدر إرثه.
مثال هذا:
لو كان هناك فقير وله أم وجد، فذكر المؤلف أنه يجب على الأم ثلث النفقة وعلى الجد الباقي.
فإذا كان الجد معسراً لا مال له، والأم غنية، فلا يجب على الأم إلا الثلث، هذا هو المشهور في المذهب.
وعن الإمام أحمد: أنه يجب على الكل، بمعنى إذا قسمنا النفقة على من يرثه من ذوي رحمه، فوجدنا أن بعضهم قادر وبعضهم غير قادر فإنا نوجب النفقة كلها على القادرين وهذا هو الصحيح وذلك لأن الأدلة العامة تدل على وجوب المواساة إنما تكون بالتمام، وأما أن يكون بالبعض فلا بل لابد أن يعطيه ما يكفيه.(25/64)
قال: [ والأب ينفرد بنفقة ولده].
دون أمه وهو قول الجمهور واختيار ابن القيم لقوله تعالى: (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف))، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
قال: [ ومن له ابن فقير وأخ موسر فلا نفقة له عليهما].
????لو أن رجلاً له ابن فقير وأخ موسر، فلا نفقة له عليهما وذلك لأن الابن فقير فاختل فيه شرط وهو غنى المنفق وأما الأخ الموسر فلا تجب عليه النفقة في المشهور من المذهب، لأنه لا يرث فهو محجوب بالابن الفقير وقد تقدم أن الصحيح وجوب النفقة عليه من قبل الأخ.
قال: [ ومن أمه فقيرة وجدته موسرة فنفقته على الجدة].
?فمن كانت أمه فقيرة وجدته موسرة، فإن نفقته تجب على الجدة مع أنها لا ترث مع الأم، وذلك لأن عمودي النسب لا يشترط فيهم الإرث، والجدة من عمودي النسب.
قال: [ ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته].
??فإذا أوجبنا النفقة على الأب على ولده فكذلك ينفق على زوجته وذلك لأن هذا من تمام حاجته.
وكذلك يجب عليه أن ينكحه إن كان قادراً على ذلك لأنه من تمام حاجته، وهذا هو المشهور في المذهب.
قال: [ كطئر لحولين].
????الطئر: هي المرضعة.
أي يجب الإنفاق على المرضعة لحولين: لقوله تعالى: (( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف???إلى أن قال سبحانه: (( وعلى الوارث مثل ذلك)).
فإذا أرضعت امرأة ولده فإنه ينفق عليها.
قال: [ ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء].
?????هذا شرط ثالث في وجوب النفقة وهو اتفاق الدين فلا يجب عليه أن ينفق على أبيه الكافر ولا على ولده الكافر ولا أخيه الكافر.
فيشترط اتفاق الدين في وجوب النفقة، إلا في الولاء وذلك لثبوت الإرث مع الولاء، فإذا كان عتيقه كافراً فإنه يجب عليه أن ينفق عليه، هذا هو المشهور في المذهب.(25/65)
?وقال الأحناف: وهو رواية عن الإمام أحمد بل تجب النفقة مع شرط اتفاق الدين إلا في عمودي النسب.
فالأب ينفق?عليه وإن كان كافراً، والولد ينفق عليه وإن كان كافرا، وأما الأخ فلا ينفق عليه إلا أن يكون مسلماً.
وقيل وهو قول في المذهب: بل لا يشترط مطلقاً اتفاق الدين وهذا هو القول الراجح وهو الذي تدل عليه عمومات الأدلة.
وقد قال تعالى في عمودي النسب: (( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما وصاحبتهما في الدنيا معروفاً))، وهكذا قوله: (( وبالوالدين إحساناً )) وقوله (( وآت ذا القربى حقه)) فالأدلة عامة في الكافر والمسلم فيجب عليه أن ينفق على عمودي نسبه وعلى الحواشي وإن كانوا كفاراً.
نعم: إذا كان من المحاربين للإسلام فإنه لا ينفق عليه وذلك لأن الحربي المقصود إتلاف نفسه لا إبقاؤه، والنفقة تحفظ نفسه فحينئذ الاتفاق عليه يخالف مقصود الشارع.
قال: [ وعلى الأب أن يسترضع لولده].
أي يجب على الأب أن يسترضع لولده لقوله تعالى: (( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)) أي إن حصل التعاسر بين الأب وأم الطفل الرضيع، فسترضع له أخرى أي استرضعوا له أخرى.
قال: [ ويؤدي الأجرة].
لقوله تعالى: (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) إلى أن قال: ( وعلى الوارث مثل ذلك)). فيجب على الأب أن يطلب مرضعة لولده ويدفع الأجرة لها.
قال: [ ولا يمنع أمه ارضاعه].
سواء كانت تحته أو بائناً منه فلا يحل له أن يمنعها من إرضاعه لقوله تعالى: ( والوالدات يرضعن أولادهن)) ولأنها أشفق عليه فهي أحق به من غيرها.
قال: [ ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه].
فلا يلزم الأم أن ترضع ولدها فليس ذلك واجباً عليها إلا أن يخاف تلفه، بمعنى أن يأبى قبول ثدي غير أمه فحينئذ يتحتم أن يرضع من أمه فيجب عليها أن ترضعه سواء كانت بائناً أو تحته، هذا هو مذهب جمهور العلماء.(25/66)
والمسألة على الصحيح فيها تفصيل وهو أن يقال وأما إن كانت بائناً أي قد فسخت أو خلعت ثلاثاً فلا يجب باتفاق العلماء ويدل عليه قوله تعالى: (( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)) أي أن حصل التعاسر بين أب الطفل وأمه فحينئذ سترضع له مرضعة أخرى.
وأما إن كانت زوجة فكذلك عند الجمهور أي أنها لا تلزم بذلك فليس واجباً عليها.
واختار شيخ الإسلام وهو قول ابن أبي ليلى من الفقهاء أن ذلك واجب عليها.
واستدل بقوله تعالى: (( والوالدات يرضعن أولادهن)) وهذا خبر بمعنى الأمر.
ولأن هذا هو العرف والصحيح ما ذكره شيخ الإسلام وأن الأم يجب عليها أن ترضع ولدها والجمهور على أن أم الطفل، وهي زوجة وأنها إن أرضعت فلها أن تطالب بالأجرة، وهذا هو قول ضعيف.
وقد اختار شيخ الإسلام مع وجوبه على الأم عدم ثبوت الأجرة لقوله تعالى: (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وهي لها الرزق والكسوة بمقتضى الزوجية.
قال: [ ولها طلب أجرة المثل، ولو أرضعه غيرها مجاناً].
قال تعالى: (( فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن)) وقال تعالى: (( فإن تعاسرتم فسترضع له أخرى)).
فإذا كانت أم الطفل بائناً منها فلا يجب عليها أن ترضعه إلا أن تخاف تلفه.
وإن أرضعته فلها أن تطالب بأجرة المثل، ليست أجرة زائدة عن المثل، ولو كان هناك متبرع كأن تكون أم الزوج أو أخته تقول: أنا أرضع الطفل فلحق الأم في الرضاع تقدمها على هذه المتبرعة ولها الأجرة لما تقدم من قوله تعالى: ((فإذا أرضعن لكم فآتوهن أجورهن)).
قال: [ بائناً كانت أو تحته].
تقدم الكلام عليه.
قال: [ وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول].
فللزوج الثاني أن يمنع المرأة أن ترضع ولدها من الزوج الأول.
وذلك لأن هذا أي الإرضاع يفوت استمتاعه بها.
قال: [ ما لم يضطر إليها ].
فإذا اضطر الولد إليها كأن يأبى إلا ثديها فحينئذ يجب عليها أن ترضعه وليس لزوجها الثاني منعها من ذلك.(25/67)
أو أن تكون شرطت ذلك في العقد كأن تقول وهي يعقد عليها على الزوج الثاني اشترط الإرضاع لولدي فالمسلمون على شروطهم.
إذن: إذا أضطر الطفل إلى ذلك أو شرطت ذلك في العقد وإلا فإنه له أن يمنعها من إرضاع ولدها من الزوج الأول وذلك لتفويت تمام استمتاعه بها.
هذا الفصل في النفقة على المملوك:
قال: [ وعليه نفقة رقيقه طعاماً وكسوة وسكنى].
على السيد نفقة رفيقه طعاماً وكسوة وسكنى بالمعروف ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (للملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق).
والواجب أن تكون النفقة بالمعروف أي ما يليق بالمملوك وما تعارف الناس أنه نفقة للملوك.
والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه وأن يكسوه من جنس كسوته وأن يسكنه من جنس سكناه.
ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( إخوانكم خولكم) - أي خدمكم - جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم).
قال: [ وألا يكلفه مشقاً كبيراً].
????لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق ) لقوله: ( ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم).
???فلا يحل له أن يكلفه مشقاً كبيراً أي ما يكون فيه مشقة ظاهرة عليه.
وله أن يؤدبه بالضرب غير المبرح إذا أذنب، وكذلك يجتنب الوجه قياساً على ضرب الزوجة والولد.
وفي صحيح مسلم أن أبا مسعود ضرب غلاماً له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام).
فلا يحل ضربه إلا أن يذنب فيضرب ضرباً غير مبرح، أو يوبخه ويجتنب الوجه لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في صحيح مسلم وغيره عن ضرب الوجه.
?قال: [ وإن اتفق السيد ورقيقه على المخارجة جاز].
والمخارجة: هي ما يجعله السيد على رقيقه كل يوم أو كل شهر أو كل سنة.(25/68)
كأن يقول له: " اعمل واحضر لي في كل يوم عشرة دراهم، أو اعمل واحضر لي في كل شهر مائة درهم، أو اعمل واحضر لي في كل سنة ألف درهم وهكذا".
وهي جائزة لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?حجمه أبو طيبة فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم -?بصاعين من طعام وكلم له أهله فوضعوا فيه من خراجه).
فهذا إقرار من النبي - صلى الله عليه وسلم -?على المخارجة فهذا يدل على جوازها.
لكن لا تحل المخارجة حيث خشي عليه كأن يخارج المرأة التي لا صنعة لها فيؤدي إلى زناها أو يخارج الصبي فيؤدي ذلك إلى سرقته.
ففي?موطأ مالك أن عثمان رضي الله عنه قال: ( لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها كسبت بفرجها، ولا تكلفوا الصبي الكسب فإنه إن لم يجد سرق).
وظاهر كلام المؤلف - ولا نزاع في هذا كما ذكر صاحب الإنصاف ولم أر فيه خلافاً بين أهل العلم من غير الحنابلة- أن المخارجة لا تصح إلا حيث اتفقا على ذلك أي لابد من رضا الطرفين وهما السيد والعبد المملوك، وذلك لأن المخارجة عقد معاوضه فاشترط فيه الرضا كالكتابة، فكما أن العبد لا يلزم بالمكاتبة فكذلك لا يلزم الرقيق بالمخارجة لأنه عقد معاوضة.
وله ما فضل، وإلا لما كان هناك فائدة من التقدير فإذا قال له: " اعمل واحضر لي في كل يوم عشرة دارهم" فمعنى ذلك أن ما فضل فهو للعبد وإلا فلا فائدة من التقدير.
ويشترط في المخارجة أن يفضل للعبد ما ينفقه به على نفسه.
كأن يقول له: " اخارجك على عشرة دراهم" وهذا العبد لا يكسب في اليوم إلا عشرة دراهم.
قال: [ ويريحه وقت القائلة والنوم والصلاة وجوباً].
فيريحه في وقت القائلة، والنوم في الليل، والصلاة المفروضة وذلك لدفع الضرر عنه، وقد قال- صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار).
قال: [ ويركبه في السفر عٌقبةً].
???????عقبة) أي نوبةً.
ففي السفر يركبه عقبه أي تارة يمشي وتارة يركب وذلك لئلا يشق عليه ولئلا يكلفه ما لا يطيقه.(25/69)
أي يركبهم تارة ويمشيهم تارة.
قال: [ وإن طلب نكاحاً زوجة أو باعه].
????لقوله تعالى: (( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)).
قال: [ وإن طلبته أمة وطئها أو زوّجها أو باعها].
????فإذا طلبت أمته النكاح فإنه يطؤها " أي السيد" ليدفع عنها ضرر شهوتها أو يزوجها أو يبيعها.
??فصل النفقة على البهيمة"
قال: [ وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها].
فيجب عليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها.
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت فلا هي أطعمتها ولا هي أسكنتها تأكل من خشاش الأرض).
قوله " ما يصلحها" أي من دواء، ونحو ذلك.
قال: [ وألا يحملها ما تعجز عنه].
????لما في ذلك من الضرر عليها.
قال: [ ولا يجلب من لبنها ما لغير ولدها].
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار).
ولا يلعنها لما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كان في سفر فلعنت امرأة ناقة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????خذوا ما عليها وربوها فإنها ملعونة).
ويظهر لي أن هذا من باب التعزيز المالي.
كذلك لا يحل له أن يسم بهيمة مع الوجه، أما في غير الوجه فلا بأس بذلك عند الحاجة إلى ذلك كأن يسمها ليميزها عن غيرها من البهائم أو أن يكون الفخذ من القبيلة أو العشيرة أن يكون لهم وسماً خاصاً لهم لكن لا يكون ذلك في الوجه بأن يكون على العتيق أو على صفحة الظهر ونحو ذلك.
ويدل على ذلك ما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????لعن من وسم الوجه وضربه ونهى عن ذلك).
قال: [ فإن عجز عن نفقتها?أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن أكلت].
???فإذا عجز عن نفقة دوابه وكانت مما يؤكل فإنه يخير بين ثلاث.
إما أن يبيعها، وإما أن يؤجرها وإما أن يذبحها، وأما إن كانت مما لا يؤكل فإنه يخير بين: أن يبيعها أو يؤجرها.(25/70)
فإن أبى ذلك فعل الحاكم الأصلح أي فعل القاضي ما هو الأصلح من بيع أو إجارة أو ذبح، وذلك لأن إبقاءها مع ترك الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته.
مسألة:
???الصحيح أن الخصي أي خصي البهيمة لا بأس به وذلك لما فيه من تطييب اللحم ففيه مصلحة ومنفعة للآدمي.
??باب الحضانة"
???الحضانة: الحضن وهو: الصدر والعضدان وما بينهما.
وأما اصطلاحاً: فهي حفظ صغير ونحوه عما يضره وتربيته بما يصلحه.
قال رحمه الله: [ تجب لحفظ صغير ومعتوه ومجنون].
???فهي واجبة باتفاق أهل العلم، وذلك لأن في الحضانة إنجاءه من الهلكة فإن في عدم ذلك ضياعة وهلاكه، وهي واجبة لحفظ صغير ونحوه من معتوه ومجنون.
قال: [ والأحق بها أم].
????فالأحق بالحضانة الأم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -?فيما رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن أنه قال لأم: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، فالأم أحق بحضانته ما لم تنكح وسيأتي الكلام على ما إذا نكحت الأم.
قال: [ ثم أمهاتها القربى فالقربى].
الأم أحق من أم أم الأم.
قال: [ ثم أب ثم أمهاته كذلك ثم جد ثم أمهاته كذلك ثم أخت لأبوين ثم لأم ثم لأب].
فالأخت مقدمة في المذهب على الأخت لأب.
قال: [ ثم خالة لأبوين ثم لأم ثم لأب، ثم عمات كذلك].
أي عمه لأبوين ثم عمة لأم ثم عمة لأب.
قال: [ ثم حالات أمه ثم خالات أبيه ثم عمات أبيه ثم بنات إخوانه وأخواته ثم بنات أعمامه وعماته ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه ثم لباقي العصبة الأقرب فالأقرب].
??فبعد ذلك يكون لباقي العصبة الأقرب فالأقرب، فالأخوة مقدمة على العمومة.
قال: [ فإن كانت أنثى فمن محارمها].
????فإذا كانت المحضونة أنثى فيشترط أن يكون الحاضن من محارمها.
فإذا كانت أنثى قد تم بها سبع سنين فيشترط أن يكون الحاضن من محارمها سوى ابن عمها، فإن لم يكن من محارمها فإنه يدفعها إلى امرأة ثقة تقوم بشأنها أو يدفعها إلى نسائه، لكن لا يكون هو الحاضن المباشر لها ما لم يكن محرماً لها.(25/71)
قال: [ ثم لذوي أرحامه].
????ثم بعد ذلك لذوي أرحام الأب وذوي أرحام للأم، للرحم التي ثبت معها الإرث.
قال: [ ثم لحاكم].
?????لعموم ولايته، هذا كله هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وفيه أنهم يقدمون جهة الأمومة على جهة الأبوة، ولذا فإنهم يقدمون الخالة لأم على الخالة لأب، ويقدمون العمة لأم على العمة لأب، ويقدمون أم الأم على أم الأب، وهكذا.
?واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( أنت أحق به ما لم تنكحي) فمقدم الأم على الأب، فدل على أن جهة الأمومة مقدمة على جهة الأبوة.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، أن جهة الأبوة مقدمة على جهة الأمومة.
وعليه فالأخت لأب تقدم على الأخت لأم، والعمة تقدم على الخالة، وأم الأب تقدم على أم الأم وهكذا.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأن قاعدة الشرع تقديم جهة الأبوة على جهة الأمومة في مسائل الإرث ومسائل النكاح?وغيرها ولا يعهد عن الشرع تقديم جهة الأمومة على جهة الأبوة ألبتة، كما قرر هذا ابن القيم.
ولأن جهة الأبوة في الغالب أحرص على حفظ الطفل، لأن العار الذي يلحقه يلحق جهة أبوته لا جهة أمومتة، فالبنت مثلاً لو لحقها شيء في عرضها فإن الذي يتأثر بذلك إنما هم أقاربها?من جهة أبيها لا أقاربها من جهة أمها، ولا شك أن هذا يؤوي إلى حرص عظيم على الشرف وعلى غير ذلك.
وأما الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) فقد قدم الأم على الأب.
فيجاب عنه أن يقال: نعم الأم تقدم على الأب، والعمة تقدم على العم، كذلك الخالة تقدم على الخال وبنت العم تقدم على ابن العم وهكذا، لا لأن جهة الأمومة مقدمة على جهة الأبوة ولكن لأن الأنثى مقدمة على الذكر، فإذا كانت جهة القرب واحدة والدرجة واحدة فإن الأنثى مقدمة على الذكر.(25/72)
?ففي الحديث الجهة واحدة وهي جهة الأبوة، وقد قدمت الأم على الأرب لمعنى الأنوثة فإن المرأة أقوم بمقاصد الحضانة وأشفق على الطفل وأصبر عليه، فلذا قدمت الأنثى.
ويحصل على القول الأول اضطراب كثير وتناقض ظاهر كما قرر هذا ابن القيم رحمه الله تقريراً طويلاً في زاد المعاد فقد أفاض بذكر الاضطراب في مذاهب أهل العلم الذين يقدمون جهة الأمومة على جهة الأبوة.
ونحتاج إلى الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة بمنزلة الأم) والحديث ثابت في الصحيحين حيث تنازع في ابنة حمزة ثلاثة، على بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب علي بن أبي طالب: ابن عمها، وجعفر بن أبي طالب ابن عمها، وزيد بن حارثة أخو حمزة من الرضاعة.
وكان تحت علي فاطمة بنت ابن عم بنت حمزة، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب أسماء بنت عميس وكانت خالة بنت حمزة، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -?لجعفر بن أبي طالب وقال: " الخالة بمنزلة الأم".
والجواب عن هذا: " أن هذه القضية ليس فيها منازعة عمه، فالمسألة قضية عين.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة?بمنزلة الأم) ليس على ظاهره، بدليل أن الأب مقدم على الخالة، وبدليل أن أم الأم مقدمة على الخالة بالاتفاق ولو كانت الخالة بمنزلة الأم مطلقاً لما قدمت أم الأم عليها ولما قدم الأب عليها، فدل على أن الخالة بمنزلة الأم في هذه القضية أي القضية المتقدم ذكرها.
فالصحيح ما تقدم وهو اختيار شيخ الإسلام من أن جهة الأبوة مقدمة على جهة الأمومة.
قال: [ وإن امتنع من الحضانة أو كان غير أهل انتقلت إلى من بعده].
إذا امتنع من له الحضانة، وله أن يمتنع لأن الحضانة حق له وليست حقاً عليه في أصح قولي العلماء، فحينئذ تنتقل الحضانة إلى من بعده.(25/73)
وقد اختلف أهل العلم في الحضانة هل هي حق له أي للحاضن وعليه فله أن يتنازل عنها، وله أخذ الأجرة على خدمة الطفل إن كان له أب، كالأم تأخذ أجرة على حضانة ابنتها إن كانت مطلقة، أم هي حق عليه.
والصحيح أنها حق له وليست حقاً عليه، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي).
???والقولان هما قول في مذهب أحمد ومالك والراجح وهو اختيار ابن القيم وهو المشهور في المذهب أنها حق للحاضن وليست حقاً عليه، ولذا فله أن يتنازل لكن ليس معنى ذلك أن يستمر التنازل من شخص إلى آخر حتى يضيع الطفل، بل المراد، أن له أن يتنازل إلى من بعده حيث كان هناك من يقوم بالطفل، ولم يترتب على هذا التنازل تضييع واهلاك له.
??فإذا امتنع عن الحضانة أو كان غير أهل للحضانة كأن يكون فاسقاً أو كافراً أو رقيقاً فإنها تنتقل إلى من بعده، لأن من بعده أحق بها ممن يليه وهكذا.
قال: [ ولا حضانة لمن فيه رق].
????فالحضانة لا تكون لمن فيه رق، فليس له حق في الحضانة في مذهب جمهور العلماء.
وقال المالكية وهو اختيار ابن القيم وابن سعدي: إن له حقاً في الحضانة.
قالوا: إذ لا دليل يدل على إسقاط حقه عنها.
ولأنه أشفق من غيره فالأم إذا كانت رقيقة هي أشفق من الأب وإن كانت رقيقة.
والأرجح في هذه المسألة هو قول الجمهور من أنه لا حضانه لمن فيه رق.
وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال للمرأة: ( أنت أحق به ما لم تنكحي) فأسقط حقها بالنكاح وذلك لحق الزوج فإن المرأة تشتغل بحق زوجها فكانت أحق به ما لم تنكح، وكذلك الرقيق مشغول بحق سيده ولا شك أن شغله بحق سيده أعظم من شغل المرأة بحق زوجها.
قال: [ ولا لفاسق].
فالفاسق وإن كان أباً فلا حق له في الحضانة.
وذلك: لأنه لا يوثق بحضانته ولأن في حضانته ذريعة فساد الطفل وتربيته على مساوئ الأخلاق، فلم يكن للفاسق حق في الحضانة، هذا هو مذهب جماهير أهل العلم.(25/74)
واختار ابن القيم وهو اختيار ابن سعدي من متأخري الحنابلة، أن الفاسق له حق في الحضانة وقد قيدوا هذا في كلامهم بالوالد وهذا هو الذي يقتضيه تعليلهم.
قالوا: وهو عليه العمل المستمر في الأعصار والأمصار وأن الحضانة تكون للوالد أباً كان أو أماً وإن كان فاسقاً.
ولأن الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يكونوا يخلون من الفسق ومع ذلك فلم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?نزع الحضانة عن أحمد ممن ثبت فيه فسق، ولو كان هذا ثابتاً لنقل نقلاً بيناً ولأن الوالد وإن كان فساقاً أعظم شفقة على ولده من غيره.
والذي يترجح لي من هذه المسألة والله أعلم، أن مرجع ذلك إلى نظر القاضي، إذا رأى القاضي أن هذا الفاسق وإن كان أباً رأى أن حضانته مؤثرة على الابن، وأن هناك من يقوم بالحضانة سواء كأن تكون له عمة أو يكون جد، أو أم أم أو أم أب، فحينئذ يأخذ الحق من الأب إلى غيره حيث رأى ذلك.
وأما إن رأى أن المصلحة في إبقائه، وأن الأب مع فسقه فإنه يصونه عن مساوئ الأخلاق ويقوم بتربيته مع فسقه أو أن يكون في نقل الحضانة عن الأب إفساد له وتضييع له فحينئذ تكون المصلحة في إبقائه مع والده والله أعلم.
قال: [ ولا لكافر على مسلم].
فالكافر لا حضانة له على مسلم، لقوله تعالى: (( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)).
ولإن الكافر أبعد من استحقاق الفاسق، فالجمهور منعوا استحقاق الفاسق للحضانة فهذا أولى ولأن الفتنة بالأب الكافر أو الأم الكافرة عظيمة جداً فإن في ذلك فتنته عن دينه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
ولا شك أن هذا القول ظاهر.
فعلى ذلك الكافر لا حضانة له، لا سيما بعد تمييزه أي حيث صار الطفل مميزاً وأصبح متعلم يتلقى ويتعلم ويربى وإلا فإن المنع ظاهر مطلقاً.
قال رحمه الله: [ ولا لمزوجة بأجنبي من محضون من حين عقد].(25/75)
????لا حضانة للأم أو غيرها إن كانت متزوجة بأجنبي من المحضون.
ومفهومه أن الأم وغيرها لا يسقط حقها في الحضانة إن تزوجت بقريب من الطفل المحضون، ويدل عليه ما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -????الخالة بمنزلة الأم ).
ولأن القريب له حق في الحضانة وله شفقة للقرابة تحمله على رعاية الطفل.
قال صاحب الفروع: ويتوجه إن كان الزوج ذا رحم وما هو ببعيد. ا . هـ.
أي ليس هذا القول ببعيد وهو كما قال.
فإذا تزوجت المرأة بذي رحم من المحضون كأن يتزوج المرأة، من ابن خالة زوجها أو ابن خالته ونحو هؤلاء من ذوي الأرحام فكذلك لا يسقط حقها من الحضانة وذلك لما تقدم لأن الرحم تحمله على رعاية هذا الطفل.
وله حق في الحضانة كما تقدم، كما أن لهم شفقة تحملهم على رعاية الطفل.
أما إذا تزوجت بأجنبي ليس بذي قرابة كما هو المشهور في المذهب وليس بذي رحم كما وجه صاحب الفروع فإن حقها في الحضانة يسقط.
ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي).
وظاهر اطلاق المؤلف في قوله???ولا لزوجة بأجنبي) أنها إذا تزوجت بأجنبي فلا حق لها في الحضانة مطلقاً ولو رضي الزوج بأن تكون حاضنة لابنها.
واختار ابن القيم واختاره أيضاً ابن سعدي: أن الأم أحق إذا رضي الزوج وهكذا كل من لها حق في الحضانة فهي أحق حيث كان الأمر كذلك أي إذا رضي الزوج.
وذلك لأن حقها إنما سقط لحق الزوج فإذا رضي الزوج بإسقاط حقه في حضانة هذه المرأة فلا وجه لاسقاط حقها، وهذا هو القول الراجح.
?قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: " وهو قياس المذهب في جميع الحقوق".
قوله: [ من حين العقد].
?????فإذا تزوجت المرأة فإن حقها بالحضانة يسقط من حين العقد، فبمجرد ما يعقد عليها، فلا حق لها في الحضانة وهو ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنت أحق به ما لم تنكحي) وهذا هو مذهب الجمهور واختيار ابن القيم.
وقال المالكية: بل يكون ذلك بالدخول فلا يسقط حقها إلا بالدخول.(25/76)
وذلك لأن شغلها بزوجها إنما يكون حينئذ أي إذا دخل بها.
?والراجح هو الأول وهو مذهب الجمهور لظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي).
ولأن العقد مظنة الإنشغال بأن تنشغل بالاستعداد لزوجها.
?قال: [ فإن زال المانع رجع إلى حقه].
فإذا زال المانع رجع كل إلى حقه.
فالفاسق إذا تاب رجع إلى حقه في الحضانة، والكافر إذا أسلم رجع إلى حقه في الحضانة’
والمرأة المزوجة بأجنبي إذا طلقت ولو كان الطلاق رجعياً رجع حقها في الحضانة، والعبد إذا اعتق رجع حقه في الحضانة.
وذلك لوجود السبب وزوال المانع.
قال: [ وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً إلى بلد بعيد ليسكنه وهو وطريقه آمنان فحضانته لأبيه].
???إذا أراد أحد أبويه لغير اضطرار سفراً طويلاً وهو السفر الذي تقصر فيه الصلاة، إلى بلد بعيد ليسكنه فليس السفر لحاجة بل ليسكنه وهذا البلد وطريقه آمنان فإنه حضانته تكون لأبيه، فإذا أراد الأب أن يسافر، ولم يقصد الضرار لكن لو قصد الضرار بالمرأة كأن يكون الحق لها فيريد أن يسافر ليأخذ حقها فحينئذ يعاقب بنقيض قصده ولا يمكن من أخذ الأحق من صاحبه بهذه الحيلة فإذا كان الحق للأم وأراد الأب أن يسافر سفراً طويلاً وهذا السفر يقصد منه سكنى البلد التي يسافر إليها، وتلك البلدة آمنة وطريقها آمن فحضانته لأبيه.
كذلك?لو أرادت الأم أن تسافر إلى بلد لتسكنه وهذه البلدة آمنة وطريقها في السفر آمن فحضانته لأبيه.
وذلك لأن الأب في بلد آخر وحينئذ فتكون الحضانة له.
قالوا: لأن الأب هو الذي يؤدب ولده وهو الذي يحفظ نسبه فكان أولى بالحضانة، هذا هو القول الأول وهو المشهور في المذهب?
والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الحق للأم، وهو القول الراجح في المسألة.(25/77)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) والحديث فيه إطلاق فهي أحق به مطلقاً ما لم تنكح سواء سافرت إلى بلد آخر أم لم تسافر، سافر الأب أم لم يسافر فالحديث مطلق إلا أن تقتضي مصلحة الطفل ذلك مثلاً: أراد أن يطلق امرأته، وهي من بلد فيها فسق وفجور، فأرادت أن تسافر إلى بلدها وهذا يضر بالطفل، وقد يضيع نسبه فحينئذ لا تمكن من السفر.
وتكون الحضانة للأب وذلك لمصلحة الطفل.
إذن : الحق للأم ما لم تقتض المصلحة أن يكون الحق للأب.
قال: [ وإن بعد السفر لحاجة أو قرب لها أو للسكنى فلأمه].
إذا بعد السفر وكان للحاجة لا للسكنى أو كان السفر قريباً، أي سفر لا تقصر فيه الصلاة، وكان ذلك لحاجة كأن يسافر لتجارة أو أن تسافر الأم لعلاج ونحو ذلك فحينئذ تكون الحضانة للأم كما قال المؤلف هنا وهو قول في المذهب.
والمشهور في المذهب: أنها تكون للمقيم منهما وذلك لما في السفر من الأضرار بالطفل.
والراجح: أنها للأم وذلك لإطلاق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي).
فإذا سافر سفراً قريباً أي لا تقصر فيه الصلاة للسكنى، فإن الحق يكون للأم لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي).
فإذا سافر سفراً قريباً أي لا تقصر فيه الصلاة للسكنى، فإن الحق يكون للأم لقوله - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي) وهو المشهور في المذهب.
قال: [ وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خير من أبويه، فكان مع من أختار منهما].
إذا بلغ الغلام سبع سنين أي تم له سبع سنين فشرع في الثامنة فإنه يخير بين أمه وأبيه فكان مع من اختار منهما لما ثبت عند الخمسة وصححه الترمذي وهو كما قال أن امرأة قالت يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبه، فجاء زوجها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -???يا غلام هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به).(25/78)
هذا الحديث فيه أن الغلام إذا تم له سبع فإنه يخير بين والديه، والطفل لا يسمى غلاماً إلا بعيد التمييز إذا تم له سبع سنين والغلام يقال للذكر فإن اختار أباه كان عند أبيه ليلاً ونهاراً، لكن لا يمنعه من زيارة أمه لما في ذلك من العقوق.
وإن اختار أمه فإنه يكون عندها ليلاً ويكون عند أبيه نهاراً ليعلمه ويؤدبه.
وله أن يغير اختياره، فيختار أباه، بعد أن اختار أمه ويختار أمه بعد ذلك وهكذا وذلك لأن الاختيار هنا للتشهي لأنه قال: " فخذ بيد أبيهما شئت ".
قال: [ ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه].
فلا يقر المحصنون بيد من لا يصونه ولا يصلحه ولو كان أباه وذلك لفوات مقصود الحضانة، فإن مقصود الحضانة رعاية الطفل وتأديبه والقيام بمصالحه ودفع المضار عنه، وإذا كان هذا لا يصونه ولا يصلحه فقد فات مقصود الحضانة.
ولذا فإن ما تقدم من الترجيح لأحد الأبوين حيث كانت مصلحة الطفل ثابتة في حضانته عنده، أما إذا كان معطلاً للحضانة ولا يقوم بها وقد يكون يؤذي الطفل أو يفوت عليه بعض المصالح أو تكون عنده امرأة زوجة فتضر بنات ضرتها وتؤديهن ولا تقوم بما يصحلهن فإنها تنقل الحضانة إلى الأم فيكون المرجوح راجحاً.
قال: [ وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع].
?????فالتخيير المتقدم إنما هو في الغلام.
وأما الأنثى فالأب أحق بها بعد السبع، فإذا تم للأنثى سبع سنين وشرعت في الثامنة فلا تخير وإنما تكون عند أبيها وذلك لأن الأب أحفظ لها وأغير عليها هذا هو المشهور في المذهب.
?والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور وهو اختيار ابن القيم: أنها تكون عند الأم، وهذا هو الراجح.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -????أنتِ أحق به ما لم تنكحي).
والحديث فيه إطلاق وفيه عموم ولا يستثنى فيه إلا ما تقدم في الغلام، وأما الأنثى فهي?داخلة في قوله: (أنتِ أحق به ما لم تنكحي).
ولأن الأم أعلم بما يصلح ابنتها وأقوم بتربيتها وتعليمها ما تحتاج إليه من شؤون النساء.(25/79)
فالأرجح أنها تكون عند الأم وهذا كما تقدم ما لم تكن الأم معطلة للقيام بالحضانة.
أو تفوت عليها مصالح ونحو ذلك فحينئذ يرجح الأب.
والأنثى لا تخير لوجهين:-
الوجه الأول: ضعف الرغبة في البنت، بخلاف الغلام فإن الرغبة فيه قوية.
فالبنت إذا اختارت أمها فإن هذا يقلل رغبة أبيها بها ويزهده بها، وكذلك إذا اختارت أباها فإن هذا يزهد أمها بها، بخلاف الغلام.
الوجه الثاني: أن في تخييرها منافاة لكونها?تقر في بيتها، فإنها تختار من شائت وهذا يجعلها تنتقل من بيت أبيها إلى بيت أمها وهكذا.
قال: [ ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء].
فالذكر بعد أن يبلغ ويرشد يكون حيث شاء، فإن شاء عند أمه وإن شاء عند أبيه، وذلك لأنه لا حضانة عليه.
فهو الذي يقوم بشأن نفسه.
قال: [ والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها].
????فالأنثى تبقى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها، وهذا على القول المتقدم، من أن الأنثى أبوها أحق بها.
والصحيح أن الأنثى أمها أحق بها بعد السبع وعليه فتكون عند أمها حتى تتزوج.(25/80)
(كتاب الجنايات)
الجنايات: جمع جناية، والجناية في اللغة: هي التعدي على مالٍ أو عرضٍ أو بدن.
فالسرقة جناية لأنها تعدٍ على المال، والزنا جناية لأنه تعدٍ على العرض، والقتل جناية لأنه تعدٍ على البدن.
وأما في الاصطلاح: فهي التعدي على البدن خاصة بما يوجب القود "أي القصاص" أوالدية.
- وقتل النفس من أكبر الكبائر، قال تعالى: (( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلى خطئاً ،، إلى أن قال سبحانه- ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها )) الآية.
وذلك من كبائر الذنوب وليس كفراً أكبر بإجماع أهل العلم، قال تعالى: (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)).
ويدل عليه من السنة إقامة الحد على القاتل كما أنه دليل من الكتاب والإجماع، ولا تقام الحدود إلا على المسلمين.
وأيضاً يدل عليه حديث من قتل مائة نفسٍ، وهو حديث متفق عليه وهو حديث مشهور.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروفٍ فمن وفّى فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً وستر الله عليه فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ).
إذن: لا يكفر وتوبته تقبل بإجماع أهل العلم، خلافاً للخوارج في التكفير، وخلافاً للمعتزلة في أن توبته لا تقبل، ولا يصح هذا القول لا عن ابن عباس ولا عن غيره من الصحابة.
* والقتل تتعلق به ثلاثة حقوق:
1) الحق الأول: حق الله تعالى في الاعتداء على حدوده فإن القتل من أعظم الاعتداء على حدوده سبحانه.
2) وحق للمقتول حيث أزهقت نفسه.(26/1)
3) وحق لأوليائه، حيث أُفقدوا وليّهم، فإذا تاب إلى الله عز وجل سقط حق الله تعالى، وسقط حق الآدمي المقتول وعوّضه الله أجراً وثواباً في الآخرة، وأما حق الأولياء، فإنه ثابت في الدنيا فيخيرون بين الدية أو القصاص أو العفو.
قال رحمه الله: [ وهي عمد يختص القود به بشرط القصد، وشبه عمد وخطأ].
والقتل ثلاثة أنواع:
1)النوع الأول: عمدُّ.
2) النوع الثاني: شبه عمدٍ.
3) النوع الثالث: خطأ.
وأضاف بعض أهل العلم، كالموفق في المقنع وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة – قسماً رابعاً: وهو ما جرى مجرى الخطأ، كالنائم ينقلب على إنسان فيقتله أو من يقتل بالسبب كأن يحفر بئراً فيسقط بها إنسان فيموت، وهذا هو القسم الرابع ولا مشاحة في الاصطلاح إذ الحكم لا ينقسم إلى أربعة أقسام، بل ينقسم إلى ثلاثة أقسام اتفاقاً، فلا نزاع بين العلماء في أن النوع الثالث وهو الخطأ والنوع الرابع على القول بصحة التقسيم أن الحكم فيهما واحد، فالخطأ وما يجري مجرى الخطأ حكمهما واحد.
أما العمد والخطأ فقد اتفق أهل العلم على القول بهما ونازع الإمام مالك في شبه العمد، والسنة حجة عليه، فقد ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها، وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على عاقلتها، وهذا هو الشاهد، فإن هذا القتل ليس بخطأ، ومع ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضى بأن دية المرأة على العاقلة، وقتل العمد الديةُ على القاتل نفسه اتفاقاً لا على العاقلة، فكان قسماً ثالثاً لأنه ليس بخطأ ولا عمد.
ويدل عليه أيضاً، ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالعصا والسوط مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها).(26/2)
والشاهد قوله "ألاّ إن دية الخطأ شبه العمد" قوله بعد ذلك "منها أربعون في بطونها أولادها" وهي الدية المغلظة، والدية المغلّظة تكون لشبه العمد، وأما الخطأ فديته، مخففة كما سيأتي.
إذن: الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وأن القسم الثالث لأقسام القتل هو شبه العمد بدلالة السنة النبوية.
قال: [ فالعمد: أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً فيقتله بما يغلب على الظن موته به].
فهو أن يقصد من يعلمه آدمياً، فليس بصيد ولا شاخصٍ، ولا غير ذلك "معصوم الدم" فليس من المحاربين للإسلام بل هو معصوم الدم.
" فيقتله بما يغلب على الظن موته" إذن قصد هذا الآدمي معصوم الدم، وقتله بما يغلب على الظن موته به.
كأن يرميه بسهم أو يضربه بسيفٍ ونحو ذلك مما يغلب على الظن أنه يقتله به.
وضرب على ذلك أمثلةً
فقال: [ مثل: إن يجرحه بماله مرو].
مَوْر: أي له نفوذُ في البدن.
[ أو يضربه بحجرٍ كبير ونحوه].
لا بحجر صفير، لأن الحجر الصفر، لا يقتل غالباً، لكن لو كرر الضرب، أو كان المضروب مريضاً أو كبيراً أو صغيراً بحيث أن الحجر الصغير يقتله فكذلك.
قال: [ أو يلقي عليه حائطاً أو يلقيه من شاهق، أو في نارٍ أو في ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منهما].
أي لا يمكنه التخلص من النار والماء، لكن لو أمكنه التخلص ولم يفعل، كأن يكون ثمن يحسن السباحة ويقول: "ها أنت قد ألقيتني ولن أنجي نفسي وتكون بذلك قد قتلتني فيغرق" فإن يكون ذلك فدمه هدراً.
قال: [ أو يخنقه].
أي بحبلٍ ونحوه.
قال: [ أو يحبسه ويمنعه الطعام والشراب فيموت من ذلك في مدة يموت فيها غالباً].
أي يموت في ذلك الحبس أو المنع من الطعام في مدة يموت فيها غالباً.
لكن لو مات بعد ساعة أو نصف ساعة أو نحو ذلك فإنه يعلم أنه لم يمت بسبب هذا الحبس.
قال: [ أو يقتله بسحرٍ أو بسَمٍّ ].
وقوله "أو بسُمًّ" تصح بتثليث السين، أي بأن يطعمه السم.
كذلك لو ألقاهُ في موضع فيه أسد أو حيَّة، فيقتله الأسد أو تنهشه الحية.(26/3)
قال: [ أو شهدت عليه بينة بما يوجب قتله ثم رجعوا وقالوا عمدنا قتله، ونحو ذلك ].
فإذ شهدت عليه بيّنة بما يوجب قتله، كأن يشهد عليه اثنان أنه قد قتل، أو يشهد عليه أربعة أنه قد زنا وكان محصناً، أو يشهد عليه اثنان أنه سخر من الدين واستهزأ به، ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله ونحو ذلك فحينئذ يكونون هم الذين قتلوه فيقام عليهم الحد، وذلك لأنهم قد قصدوا قتله بما يقتله غالباً وهي البينة.
فإذا كان الولي، أي ولي المقتول عالماً بذلك، كأن يشهدوا على رجل أنه قد قتل زيداً من الناس، وهم كاذبون في ذلك، وولي زيدٍ يعلم كذب هؤلاء الشهود ومع ذلك فقد اختار القصاص على الدية، فإنه هو الذي يقام عليه الحد وذلك لأنه هو الذي باشر قتله.
وإن كان الحاكم، أي القاضي يعلم كذب الشهود، فحكمه حكم البينة " أي حكم الشهود" إن كان الولي عالماً بذلك قتل الولي، فإن لم يكن عالماً فإن الحكم يثبت على القاضي وعلى البينة لأنهم هم الذي قتلوه.
والدية عليهم على عددهم، فإن كانت البينة اثنين، فالدية أثلاثاً على القاضي الثلث، وعلى الشاهدين الثلثان وهكذا.
قال: [ وشبه العمد: أن يقصد جناية لا تقتل غالباً ].
فيشترك هو والعمد: بأنه قد قصد الجناية، لكن في العمد بشيء يقتل غالباً، وأما في شبه العمد فإنه بشيء لا يقتل غالباً.
قال: [ ولم يجرحه بها ].
هذا قول في المذهب، وفيه نظر كما سيأتي، ثم ضرب أمثلة، لقتل شبه العمد.
فقال: [ كمن ضربه في غير مقتل بسوط أو عصا صغيرة، أو لكزه ونحوه ].
كأن يغرز فيه إبرة ونحو ذلك، فهذا قتل شبه عمد، فالجناية مقصودة لكن الذي تمّ به القتل لا يقتل غالباً، كالعصا، والحجرة الصغيرة والإبرة ونحو ذلك.
وقيّده المؤلف هنا بقول "ولم يجرحه بها" وعليه فلو جرحه بها ولو كانت إبرة فخرج الدم ولو كان يسيراً، فإنه يكون قتل عمدٍ.(26/4)
وهذا فيه نظر ظاهر، والراجح أنه وإن جرحه فهو قتل شبه عمد ما دام أن ذلك لا يقتل غالباً، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، ولا دليل على إخراج هذه الصورة ما دام الضابط فيها وهو أن الجناية لا تقتل غالباً.
لكن لو كررّ الضرب بالعصا، فمجموع هذا التكرار يجعل هذا الضرب مما يقتل غالباً، ولو غرز إبرة في قلبه، فإنه يقتل غالباً، أو كان طفلاً صغيراً، فضرب بحجر ونحوه فكذلك، وقتل شبه العمد لا قود فيه، فالقود باتفاق أهل العلم مختص بالعمد، أما قتل الخطأ وشبه العمد فلا قصاص فيه باتفاق أهل العلم.
والدية في قتل العمد على القاتل نفسه، وأما في شبه العمد والخطأ فهي على العاقلة.
والدية في شبه العمد مغلّظة، وفي الخطأ مخففة.
قال: [ والخطأ أن يفعل ماله فعله مثل أن يرمي صيداً أو غرضاً أو شخصاً غير معصوم الدم فيصيب آدمياً لم يقصده].
أن يفعل ماله فعله كأن يرمي صيداً، يصيب آدمياً أو يريد أن يتعلم الرمي أو يتمرس عليه فيرمي عرضاً شاخصاً فيصيب آدمياً فيقتله أو يرمي بسهمه على كافر محارب فيصيب السهم على بعض المسلمين.
والخطأ إما أن يكون في القصد وإما أن يكون في الفعل، فالخطأ في القصد، أن يقصد القتل لكنه يخطئ في ذلك، فهو يقصد آدمياً غير معصوم فيصيب آدمياً معصوماً.
وأما الخطأ في الفعل: فهو أن يقصد رمي شاخص أو رمي صيد فيتخطى، فيصيب آدمياً.
فإذا رمى فأخطأ في فعله أو أخطأ في قصده فأصاب آدمياً فقتله فهذا هو قتل الخطأ، لا قصاص فيه، وفيه الدية المخففة.
قال: [ وعمد الصبي والمجنون ].
فعمد الصبي والمجنون خطأ، باتفاق أهل العلم فإذا قتل الصبي متعمداً، وكذلك المجنون فهو في حكم الخطأ، وذلك لأنهما لا قصد لهما، فأشبه هذا المكلف المخطئ، فكما أن المكلف المخطئ قتله قتل خطأ لأنه لا قصد له فكذلك المجنون والصبي إذا قتلا فقتلهما قتل خطأ ففيه الدية والكفارة، فالدية تكون في مال العاقلة وأما الكفارة فهي في مالهما ولا قود ولا قصاص.(26/5)
والفرق بين قتل الخطأ وبين العمد وشبه العمد هو أن قتل الخطأ لا تقصد فيه الجناية.
وأما العمد وشبه العمد فالجناية مقصودة.
والفرق بينهما أي بين العمد وشبه العمد أن العمد تقصد الجناية بما يقتل غالباً، وأما شبه العمد فيما لا يقتل غالباً.
قال: [ تقتل الجماعة بالواحد ].
لما ثبت في البخاري: أن عمر بن الخطاب، قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً واحداً، وقال لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولا يعلم لعمر مخالف، وهو قول مشتهر فكان إجماعاً، وفي ذلك سد لذريعة سفك الدم الحرام، فإنه لا يعجز الجماعة عن قتل الشخص الواحد فيدفعون عن أنفسهم الحد بذلك حيث لم نقل بقتل الجماعة بالواحد.
وهذا الحكم حيث كان فعلُ كل واحدٍ منهم يوجب القصاص لو أنفرد.
كأن يجتمعوا على ضربه بسيوف، كل واحدٍ منهم لو انفردت ضربته لقتلت.
أو أن يجتمعوا على ضربه بالحجر الكبير بحيث أن ضربة كل واحدٍ منهم لو انفردت لأوجبت القصاص.
وأما إذا اجتمعوا على ضربه بما لا يقتل غالباً كأن يجتمعوا على ضربه بحجارة صغيرة فمات من ذلك فإن ذلك لا يوجب القصاص ما لم يتمالؤا على ذلك، كأن يضربه هذا بعصا وهذا بحجرة صغيرة وهكذا وهم قد تمالؤا على مثله فإن هذا يوجب القود، وذلك سداً لذريعة درء القصاص، أي لئلا يتطرق من هذا إلى الهروب من القصاص بإجماع طائفة من الناس على قتل رجلٍ بما لا يقتل غالباً.
قال: [ وإن سقط القود أدوا دية واحدة ].
إذا اجتمع سبعة على قتل رجلٍ واحدٍ وكان فعل كل واحدٍ منهم يوجب القصاص بمفرده، فإن هؤلاء السبعة يقتلون، فإن اختار الولي الدية، فإنها تجب دية واحدة عل الجميع، وذلك لأن النفس واحدة والقتل واحد فلم يجب إلا ديةً واحدة.
قال: [ من أكره مكلفاً على قتل مكافئة فقتله فالقتل أو الدية عليهما ].(26/6)
إذا أكره مكلفُ على قتل مكافئه، " أي مكافَئه في الدين والحرية، والرق، وسيأتي الكلام على المكافئة" فقال: إن لم تقتل بكراً فإني قاتلك أو ساجنك أو متلف مالك، فالقتل أو الدية عليهما جميعاً أي على المكرِه والمكَره.
أما المكرِه: فلأنه تسبب بما يقتل غالباً، حيث أكره هذا المكلف القادر على القتل، أكرهه على القتل.
وأما المكرَه: فلأنه مباشر للقتل على غيره في إبقاء نفسه، هذا هو المشهور في مذهب أحمد وغيره وفبه قوه لئلا يتذرع من يريد القتل بقتله عن طريق بعض الناس الذين لا قيمه للحياة الدنيا عندهم.
وعن الإمام أحمدُ: أن الذي يقتل هو المكرَه دون المكرِه وهذا أظهر.
وذلك لأنه اجتمع مباشر ومتسبب والمرجّح هو المباشر فالمكرَه مباشر للقتل، والمكرِه متسبب فيه فمرجح جانب المباشر كما تقدم في بعض المسائل كما لو شهدت البينة بما يقتضي القتل وكان الولي عالماً بكذب البينة فإن الولي هو الذي يقتل لأنه هو الذي باشر الاختيار وهؤلاء قد تسببوا بالشهادة الكاذبة.
فكذلك هنا فقد اجتمع عندنا مباشر ومتسبب فيكون القتل على المباشر.
وأما المكرِه فإنه يعزر تعزيراً بليغاً بما يراه السلطان، فإنه يُعزر بالسجن الطويل أو الجلد ونحو ذلك مما يراه السلطان.
قال: [ وإن أمر بالقتل غير مكلف أو مكلفاً يجهل تحريمه أو أمر به السلطان ظلماً من لا يعرف ظلمه فيه فقتل فالقود أو الدية على الآمر ].
إذا أمر بالقتل فكلف غير مكلف، كأن يأمر زيداً لمكلفٍ صبياً، أو مجنوناً بالقتل فإنه يقتل الآمر.
وذلك لأن هذا الصبي والمجنون غير المكلفين هما كالآلة هنا، ولا يجب عليهما القصاص لكونهما معذوران إذ هما غير مكلفين لا قصد لهما فهما كالآلة أي كالسكين وكالسيف بيده.(26/7)
فإذن: يقتل الآمر وذلك لأن المباشر هنا لا يقتل لأنه لا يمكن أن يوجب عليه القصاص مع كونه معذوراً، وذلك لما تقدم من أن عمد الصبي والمجنون خطأ والصبي والمجنون لا قصد لهما، وعليه فلا يمكن إيجاب القصاص عليهما فموجب على المتسبب.
ومثل ذلك لو أمر مكلفاً، يجهل تحريم القتل كأن يكون حديث عهد بإسلام، فالقود أو الدية على الآمر وذلك لأن هذا جاهل بالشرع وعليه فهو مخطئ لأن الجهل خطأ وحينئذ فهو معذور فلا يمكن إيجاب القصاص عليه فموجب على الآمر.
ومثل ذلك: لو أمر السلطان رجلاً أن يقتل رجلاً من الناس وهذا القاتل المباشر لا يدري أن السلطان ظالم لهذا المقتول فحينئذ يكون الحد على السلطان لأن المباشر للقتل معذور لا يمكن إيجاب القصاص عليه فموجب على المتسبب.
والسلطان تجب طاعته فيما لا يعلم أنه معصية، وهذا قد أطاع السلطان في أمرٍ لا يعلم أنه معصيةً ما لم يأمر بالظلم.
أما لو كان غير معذور، كأن يأمره السلطان بقتل زيدٍ من الناس وهو يعلم أن السلطان ظالمُ له، مع قتله فإن القصاص على القاتل لأنه هو المباشر.
قال: [ وإن قتل المأمور المكلف عالماً بتحريم القتل فالضمان عليه دون الآمر ].
إذا أمر زيد عمراً بالقتل، وعمرو مكلف عالم بتحريم القتل ومع ذلك قتل، فإن الضمان يكون على عمرو، وذلك لاجتماع مباشر ومتسبب، فالمأمور هو المباشر الآمر هو المتسبب وهنا المأمور ليس بمعذور وذلك لأنه مكلف عالم بالتحريم فكان القصاص عليه هو.
قال: [ وإن اشترك فيه اثنان لا يجب القود على أحدهما منفرداً لابوة أو غيرها فالقود على الشريك].
اشترك في قتل رجلٍ اثنان أحدهما أب للمقتول والآخر ليس بأبٍ له.
أو اشترك في قتل كافر اثنان، أحدهما كافر مثله والآخر مسلم.
أو اشترك في قتل رقيقٍ أحدهما حر والآخر رقيق مثله.(26/8)
ففي هذه المسائل لا يجب القصاص على الأب في المسألة الأولى، ولا على المسلم في المسألة الثانية ولا على الحر في المسألة الثالثة، لأن الأب لا يقتل بولده، والمسلم لا يقتل بالكافر، والحر لا يقتل بالعبد، فحينئذ يكون القود على الشريك للأب في المسألة الأولى.
وعلى الشريك للمسلم في المسألة الثانية، وعلى الشريك للحر في المسألة الثالثة، وذلك لأن فعله يوجب القصاص فهو قتل عمدٍ وإنه يوجب القصاص عليه لا مسقط له وإنما أسقط عن الأب في المسألة الأولى وعن المسلم في المسألة الثانية وعن الحرفي المسألة الثالثة لمعنى يوجب الإسقاط، وفي هذه المسائل الثلاث يتمحض القتل عدواناً وأما إذا كان الطرف الآخر ليس بمعتدي أي ليس قتله بقتل عمدٍ عدوان.
كأن يشترك مخطئ ومتعمد أو يشترك في قتل رجل من الناس سبُع، وقاتل كأن يضربه بالسيف ويكون معه سبع يشترك معه في القتل أو أن يكون قاتلاً لنفسه مع هذا المعتدي، كأن يجرحه جرحاً قاتلاً ثم يشرب السم فيقتل نفسه أي يستعجل موت نفسه.
كذلك لو اشترك في قتله ولي قصاصٍ وعامد، فولي القصاص له حق في القتل.
كذلك لو اشترك في قتله مكلف وغير مكلف ففي هذه المسائل كلها في المشهور في المذهب، أنه لا قصاص، وذلك لأن العدوان غير متمحّص لأن أحدهما قتله ليس بقتل عدوان.
بخلاف المسائل المتقدمة فإن كلا الطرفين قتله قتل عدوان.
القول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح في المسألة، أن القتل هنا ثابت على الطرف الذي اعتدى، وذلك لأن المؤاخذة على فعله هو، وفعله هو قتل عدوان يوجب القصاص ولا مسقط له.
فبالنظر إلى فعله هو بغضّ النظر عن فعل الآخر هل يؤاخذ فيه الآخر أم لا وتجب نصف الدية مع شريك السبع.
قال: [ فإن عدل إلى طلب المال لزمه نصف الدية ].(26/9)
إذا عدل الولي إلى طلب المال فإنه يلزمه نصف الدية أي لزم من لزمه القود في المسألة الأولى لزمه الآن نصف الدية.
فإذا اشترك الأب وغيره في القتل، فيجب على الآخر القصاص فإن عفا الولي عن القصاص فلا تجب عليه إلا نصف الدية وذلك لأنه شارك في الإتلاف، وهذا الإتلاف يوجب مالاً فكان عليه بقدر ذلك وهو قد شارك بقدر النصف فكان الواجب عليه نصف الدية.
" باب: شروط القصاص"
وهذه الشروط إذا فقد منها شرط سقط حد القصاص.
قال: [ وهي أربعهَ ].
استقراءً.
قال: [ أحدها عصمة المقتول].
أي أن يكون المقتول المجني عليه معصوم الدم غير مهدره والعلة ظاهرة، فإن القصاص إنما شرع لحفظ الدم المعصوم وأما الدم المهدر فلا.
قال: [ فلو قتل مسلم أو ذميُّ حربياً، أو مرتداً لم يضمنه بقصاص ولا دية ].
فإذا قتل مسلم أو ذميُّ حربياً أو مرتداً عن الإسلام فإنه لا قصاص ولا دية، وكذلك لو قتل مسلم زانياً محصناً فإنه لا يقتل به لأن دمه هدر.
كذلك تارك الصلاة وغيره ممن دمه مهدر ليس بدمٍ معصوم ولو كان ذلك قبل ثبوته عند الحاكم، ما دام أن البينة موجودة على زناه، وهو محصن فقتله مسلم أو ذمي فإنه لا يقتل به.
ورجل مثلاً تارك للصلاة والبينة تدل على أنه تارك للصلاة، فكذلك، أو رجل ارتدَّ عن الإسلام فسب الله ورسوله فكذلك فإن من قتلهم لا يقتل هذا إذا كان قبل التوبة.
وأما بعد التوبة فلا، فمن زنا وهو محصن فتاب فقتله قاتل بعد ذلك فإنه يقتل به لأن دمه يعصم بالتوبة كما قال تعالى: (( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم)).
أما قبل التوبة فإنه لا يُقتل به، لكن هذا القاتل آثم لأنه قد افتات على السلطان في حقه ولذا فإن الإمام يعزره، وله أن يعزر تعزيراً بليغاً حفظاً لحقه في ذلك، فإن الحدود إنما يقيمها السلطان.(26/10)
وعليه: فإن هذا الحكم حيث كان للإمام حق في القتل، فالإمام ليس له حق أن يقتل من زنا وهو محصن حتى تثبت البينة ذلك، وليس للإمام حق أن يقتل من ترك الصلاة، حتى تثبت بالبينة فكذلك هذا القاتل إذا قتل بعد ثبوت البينة لكنها لم تثبت بعدُ عند القاضي فإنه لا يقتل به ولا دية في ذلك لأن له حقاً، لكن ذلك اعتداء على الإمام في حقه وافتيات عليه فللإمام أن يعزر في ذلك.
قال: [ الثاني التكليف ].
هذا هو الشرط الثاني: التكليف أي أن يكون القاتل بالغاً عاقلاً.
قال: [ فلا قصاص على صغير ].
لأنه غير بالغ.
قال: [ ولا مجنونُ ].
ولا معتوه لأنهما غير عاقلين، وذلك لأنه لا قصد لهما أو قصدهما ليس بقصد صحيح معتبر ولذا تقدم أن عمد الصبي والمجنون خطأً باتفاق العلماء.
وعليه فإذا قتل الصبي أو المجنون فأنه لا يقتل بذلك لكن الدية تكون على عاقلته.
قال: [ الثالث: المكافأة بأن يساويه في الدين والحرية والرق].
هذا هو الشرط الثالث وهو المكافأة.
قال: [ فلا يقتل مسلم بكافر ولا حر بعبد ].
فلا يقتل المسلم بالكافر ولو كان الكافر ذمياً ذا ذمة أو معاهداً ذا عهد أو مستأمناً ذا أمن.
وذلك لما ثبت في البخاري مرفوعاً في صحيفة علي رضي الله عنه "لا يقتل مسلم بكافر".
وذهب الأحناف: إلى أن المسلم يقتل بالذمي، واستدلوا: بما روى الدار قطني أن النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أقاد مسلم بذمي أو قال: أنا أحق من وفّى بذمته).
لكن الحديث مرسل ضعيف.
وعليه فالراجح ما ذهب إليه الجمهور من أن المسلم لا يقتل بالكافر.
وقال شيخ الإسلام بذلك لكنه قال: إلا أن يقتله غيلة أي خديعة، بأن يكون القتل على سبيل الخديعة وهو مذهب مالك.
فقد ذهب مالك إلى أن قتل الغيلة فيه القصاص مطلقاً فلا خيار للولي بين الدية والقصاص، كما أنه لا فرق بين مسلم وذمي في ذلك وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.(26/11)
واستدلوا: بأثر عمر المتقدم لما قال: "لو تمالئ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به" فقال "لقتلتهم به" فأضاف القتل إليه، وكان قتل غرة، (تراجع القصة ويزاد الدليل).
وأما الجمهور فقالوا: بأنه يخير الولي بين الدية والقصاص.
واستدلوا بعمومات الأدلة، في قوله تعالى: (( فقد جعلنا لوليه سلطاناً)).
في الحديث المتفق عليه: ( فوليه بين خيرتين) وهما القصاص والدية.
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول، لأن دليلهم خاص وأما دليل أهل القول الثاني فإنه عام.
فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: من أن قتل الغيلة يقتل الإمام من غير أن يرجع إلى الولي الخيرة، وأنه لا فرق بين مسلم وذمي لأنه من باب الحرابة، وقد قال تعالى: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا)).
فإذا قتلوا سواء كان قتلهم لمسلمين أو ذميين، فإن جزاءهم القتل، وسيأتي الكلام عليه في حد الحرابة إن شاء الله.
قال: [ولا حر بعبد] فلا يقتل الحر بالعبد.
قالوا: لما روى أحمد في مسنده: "أن السنة ألاّ يقتل الحر بالعبد".
ولقوله تعالى: ((الحر بالحر والعبد بالعبد))، وهذا هو مذهب الجمهور.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الأحناف واختيار شيخ الإسلام أن الحر يقتل بالعبد.
استدلوا: بقوله تعالى: (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ))، وهذه آية عامة يدخل فيها قتل الحر بالعبد واستدلوا: أيضاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( المؤمنون يتكافئوا دماؤهم). رواه أحمد وأبو داود والنسائي
فهذا عبدُ مؤمن وهذا حرُ مؤمن والمؤمنون تتكافئوا دماؤهم.
والراجح هو القول الثاني: لقوة أدلته، وأما الجواب عن أدلة أهل القول الأول.
أما قوله تعالى: ((الحر بالحر والعبد بالعبد)).(26/12)
فهذه الآية نزلت كما قال غير واحد من السلف، في طائفة من الناس قالوا ويقتل الحر من غيرنا بالعبد منا، ويُقتل الذكر من غيرنا بالأنثى منا، قالوا ذلك من باب الكبرُ لقوتهم عدداً وعدة، فأنزل الله قوله : ((الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى))، وقد أجمع أهل العلم على أن الذكر يقتل بالأنثى في النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يُقتل الذكر بالأنثى ).
وأما ما رواه أحمد من أن السنة ألا يقتل الحر بالعبد فالحديث إسناده ضعيف جداً فيه جابر الجُعفي وهو ضعيف الحديث.
ومما يدل على ما ذهب إليه الأحناف وهو القول الراجح: ما روى أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قتل عبده قتلناه، ومن جدعه جدعناه ).
وبهذا الحديث قال داود الظاهري، فإنه قال ويقتل السيد بعبده خلافاً للأحناف فإنهم يقولون يقتل الحر بالعبد لكن لا يقولون أن السيد يقتل بعبده.
ولذا قال المؤلف هنا "والرق" فالمالك لا يُقتل بمملوكه.
فإذا قتل المكاتب رقيقه فإنه لا يقتل به مع أن المكاتب عبد لكن لا يقتل بعبده لأنه مالك له.
والصحيح ما ذهب إليه داود في هذه المسألة وأن السيد يقتل بمملوكه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه) والحديث من حديث الحسن البصري عن سمرة والصواب أن الحسن ليس بمدلس، وأن سماعه من سمرة ثابت كما وضح ذلك غير واحدٍ من الحفاظ كعلي بن المديني، والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال "تراجع".
قال: [ وعكسه يقتل ].
وهذا ظاهر، فالكافر يقتل بالمسلم، فإذا قتل الذمي مسلماً فإنه يُقتل وهذا بالاتفاق.
والعبد يُقتل بالحر وهذا بالاتفاق، ولذلك العبد يقتل بسيده وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [ ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر].
اتفاقاً، لقوله تعالى: (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)).(26/13)
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( المؤمنون تتكافؤا دماؤهم )، والأُنثى مؤمنة، وللحديث المتقدم الذي رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يُقتل الذكر بالأنثى ).
قال: [ والرابع: عدم الولادة، فلا يقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل].
وعنه يقتل أبو الأم بولد بنته وحكاه الزركشي، هذا هو الشرط الرابع وهو عدم الولادة.
فالأم والأب لا يقتلان بالولد وإن سفل الولد المقتول كأن يقتل الجد ابن ابنه، أو ابن بنته، أو بنت بنته وهكذا.
ودليل ذلك: ما رواه ابن الجارود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقاد الوالد بالولد)، والحديث اسناده جيّد وصححه البيهقي.
ورواه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب لكنه مضطرب، وهو قول جمهور العلماء.
والعلة في ذلك ظاهرة: فإن الوالد هو سبب وجود الولد فإنه قد خرج من صلبه أو خرج من رحمها وإن علا هذا الرحم وإن علا هذا الصلب، فلما كان الأمر كذلك فلا يمكن ولا يصح ولا يستقيم أن يكون سبباً لإعدامه وهو سبب لوجوده.
أما العكس فإنه يقتل به اتفاقاً،
ولذا قال المؤلف: [ ويقتل الولد بكلٍ منهما ].
فإذا قتل الولد أباه أو أمه وإن عليا فإنه يقتل بهما وهو ظاهر لا إشكال فيه.
" باب استيفاء القصاص "
استيفاء القصاص: هو فعل مجني عليه أو وليه بجانٍ مثل فعله أو شبهه.
فإذا قطع الجاني الطرف كأن يقطع اليد، فقطعٍ المجني عليه يده أو قطع وليه يده أو قتله فقتله أو أحرق رجلاً فقتل بالسيف.
فقوله "أو شبهه": إن كان المثل لا يجوز كأن يحرقه بالنار مثلاً، فالإحراق بالنار محرم وعليه فإنه يقتل بالسيف.
قال رحمه الله: [ يشترط له ثلاثة شروط أحدها كون مستحقه مكلفاً فإن كان صبياً أو مجنوناً لم يستوفٍ وحُبس الجاني إلى البلوغ أو الإفاقة ].
فالشرط الأول من شروط استيفاء القصاص: أن يكون مستحقه مكلفاً أي بالغاً عاقلاً.(26/14)
فإن كان غير مكلف بأن يكون صبياً أو مجنوناً فإنه لا يستوفي وذلك لأن استيفاء القصاص ولاية، قال تعالى: ((وقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل ))، والصبي والمجنون لا ولاية لهما.
والمذهب أن الأب وكذا الوصي والحاكم لا يقومون مقام الصبي والمجنون بالاستيفاء، ولذا قال (وحبس الجاني إلى البلوغ أو الإفاقه) أي المجنون.
قالوا: لأن المقصود هو التشفي "أي إزالة الغيظ الذي يكون في القلب" وهذا لا يكون بفعل الغير.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن لوليهما العفو إلى الدية وكذا الوصي والحاكم.
وذلك: لأنه يقوم مقامه في تصرفاته كلها فكذلك هنا ولأن ترك ذلك يترتب عليه فوات الحق أو تفويته فقد يموت الجاني قبل أن يقتل وقد يهرب أو يحصل ما يمنع من إقامة الحد عليه بفعل ظالم ونحو ذلك، فلئلا يفوت الحق فإنا نقيم الولي مقامه، وهذا هو القول الراجح.
والمصلحة هنا وهي مصلحة عدم تفويت الحق وفواته أرجح من مصلحة التشفي، ولا شك أنه يحصل له تشفي عندما يختار وليه القتل، ويحصل له انتفاع بالدية إذا اختار الدية والولي يختار ما فيه مصلحة.
وقوله: " يحبس الجاني " فلا يقبل في مثل هذه المسألة كفالة إذ الفائدة من الكفالة هي أن يستوفي الحق من الكفيل إذا لم يحضر المكفول، وهنا لا يمكن أن يستوفي الحق من الكفيل لأن ذلك ظلم، بل ويحبس حتى يبلغ الصبي وحتى يفيق المجنون وهذا على المذهب.
والصحيح ما تقدم من أن الولي يقوم مقام الصبي أو المجنون.
قال: [ الثاني: اتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به ].
لأنه حق مشترك لجماعة فلم يكن لأحدهم أن يستقل به.
والشرط الثاني: اتفاق الأولياء على القصاص.
قال: [ وإن كان من بقي غائباً .. انتظر القدوم ].(26/15)
وهذا ظاهر، فإذا كان بعضهم غائباً فإنه ينتظر قدومه لأنه حق له فلم يتعجل حقه عنه، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، (وحكيت رواية عن أحمد أن لهم القصاص فيه قوة).
قال: [ أو صغيراً أو مجنوناً انتظر القدوم والبلوغ والعقل].
فإذا كان بعض الأولياء صغيراً أو مجنوناً فإنه ينتظر ويحبس الجاني حتى يفيق المجنون، وحتى يبلغ الصبي فليس لبعض الأولياء أن يستقل بالقصاص وذلك لأنهم جماعة فلم يكن لأحدهم أن يستقل بالحق.
فينتظر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ثم ينظر ماذا يختارون جميعاً القصاص أم الدية، فإن اختاروا القصاص واتفقوا على ذلك وإلا فتجب الدية.
وقال المالكية والأحناف، بل هو للمكلفين دون غيرهم وذلك لأن استيفاء القصاص ولاية والولاية ليست للصبي والمجنون، والأولياء البالغون العقلاء هم المخاطبون عند القتل بالاختيار فلم يكن لغير المكلف حق في ذلك.
وهذا هو القول الراجح، ويترتب على خلافه فوات أو تفويت للحق.
مسألة:
اعلم أن الذين لهم حق في استيفاء القصاص هم الورثة يدل على ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قُتل له قتيل فأهله بين خيرتين) رواه أبو داود والنسائي وأصله في الصحيحين فقوله "أهله" أي ورثته.
ويدل عليه أيضاً، ما ثبت في مصنف عبد الرزاق، أن عمر أتى برجل قد قتل قتيلاً، وورثته يريدون قتله فقالت زوجته " أي زوجة القتيل" وكانت أختاً للقاتل: قد عفوت عن حقي، فقال عمر: "الله أكبر قد عتق القتيل" والأثر إسناده صحيح، ولا يعلم له مخالف.
واختار شيخ الإسلام أن الحق للعصبة الذكور لأن العار يلحقهم هم.
والصحيح هو الأول وذلك للأثر الثابت عن عمر ولا يعلم له مخالف، ولأنه حق للمرأة كسائر حقوقه فكان لورثته وهذا هو مذهب الجمهور.
مسألة:
إذا قتل بعض الورثة الجاني قبل أن يتفق الورثة على القصاص، فإنه يعزر على ذلك لا فتياته على حق غيره.
وهل يقتل أم لا؟
قولان لأهل العلم:(26/16)
القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد: أنه لا يقتل وذلك لأن هذه النفس التي قتلها يستحق بعضها.
والقول الثاني: وهو مذهب بعض الشافعية: أنه يقتل وذلك لأنه قد قتل نفساً معصومة، فإن هذا القاتل معصوم الدم حتى يختار الورثة القصاص.
والراجح هو القول الأول، وذلك لأن دمه لم تثبت عصمته، بل بالقتل دمه هدر ما لم يختر الورثة الدية ويعفو عن القصاص، لأن الأصل هو القصاص، والأصل هو قتل النفس بالنفس.
ويدل على هذا القول أن الحدود تدرأ بالشبهات أما إذا قتله بعد اختيار الورثة وبعضهم الدية فإنه يقتل به لأن نفسه أصبحت معصومة باختيارهم الدية أو باختيار بعضهم الدية.
فإن قتل هذا الولي بعد اختيار الورثة الدية أو بعد اختيارهم القصاص لكنه سبقهم فقلته، أي قتل الجاني فحق بقية الورثة هل يثبت في تركه الجاني المقتول الذي قد قُتل بيد هذا الولي المفتات، أم أنه يكون في مال الولي الذي قد تعدى فقتل؟
قولان لأهل العلم.
أظهرهما أنه يكون في مال الولي وذلك لأن الجاني قد أقتص منه وكان الواجب عليه إما القصاص وإما الدية، وقد اقتص منه فلا حق عليه، وعليه فتجب في مال القاتل الذي هو الولي.
قال: [ الثالث: أن يؤمن في الاستيفاء، أن يتعدى الجاني ].
هذا هو الشرط الثالث من شروط الاستيفاء، وهو أن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى الجاني إلى غيره، لقوله تعالى: ((فلا يسرف في القتل )).
قال: [ فإذا وجب على حامل أو حائل فحملت لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ ].
فإذا وجب القصاص على حامل أو على حائل ثم حملت قبل الاستيفاء فإنه لا يستوفى منها حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ وهو أول اللبن، قالوا: والغالب أنه لا يعيش إلا به، فهذا لدفع الضرر عن الطفل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????لا ضرر ولا ضرار ).
قال: [ ثم إن وجد من يرضعه ].
??فرضي بأن?يلتقم ثدي غير أمه.
قال: [ وإلا تركت حتى تفطمه ].
??دفعاً للضرر عن الغير.(26/17)
قال: [ ولا يقتص منها الطرف حتى تضع والحد في ذلك كالقصاص ].
لما تقدم من دفع الضرر عن الغير.
فصل:
قال: [ ولا يستوفى قصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه ].
??فلا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه وذلك لكي يؤمن الحيف، ولأن ذلك يحتاج إلى اجتهاد فلم يكن ذلك إلا بحضرة سلطان أو نائبه.
فإنه يخاف الحيف والظلم كأن يقتص بآلة غير ماضية أو أن يتعدى إلى طرف آخر أو غير ذلك.
وظاهره مطلقاً في النفس وغيرها، وهو المذهب، واختاره شيخ الإسلام وهو احتمال وذكره الموفق أن النفس يجوز الاستيفاء فيها بلا حضرة السلطان واستدل بما ثبت في مسلم: أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم -?برجلٍ يقوده بنسعة ثم قال: إن هذا قد قتل أخي، ثم قال النبي- صلى الله عليه وسلم -???اذهب فاقتله ).
والذي يرجح هو القول الأول: وأما الحديث فيقال فيه حيث أمن الحيف وذلك لأن قتل النفس قد يكون فيه حيفٌ ولذلك لا بد من حضرة سلطان أو نائبه.
???لكن إن علم السلطان أن مثل هذا عنده وازعُ يمنعه من الحيف فأذن له أن يقبض بلا حضرة السلطان ولا نائبه فلا بأس بذلك.
قال: [ وآلة ماضية ].
???لا كالة: " فلا بد أن تكون الآلة ماضية أي تقتل من غير أن يكون في ذلك أذى للمقتول "
لقوله - صلى الله عليه وسلم -?في صحيح مسلم ?إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
وإن كان الولي قادراً على استيفاء القصاص بنفسه أي أن يقتل بالسيف هو بنفسه فإن السلطان أو نائبه يمكنه من ذلك.
وإلا فإنه يأمره أن?يوكل غيره من القادرين على استيفاء القصاص، والمشروع أن ينصب الإمام من يقوم بذلك، ويكون له رزق من بيت مال المسلمين لأن هذا من المصالح العامة.
أما إذا لم يكن هناك أحد فإن الولي يوكل من يقوم عنه بالاستيفاء وإن شاء أن يقوم به هو فإن الإمام أو نائبه يمكنه من ذلك.(26/18)
قال: [ ولا يستوفي القصاص في النفس إلا بضرب العنق بسيف ولو كان الجاني قتله بغيره ].
???هذا هو المشهور في المذهب وأنه لا يستوفي القصاص في النفس إلا بضرب العنق بالسيف ولو كان الجاني قتله بغيره كأن يرض رأسه أو أن يقطع أعضاءه قطعة قطعة حتى يموت أو أن يفعل به?غير ذلك.
واستدلوا: بحديث (لا قود إلا بالسيف) لكن الحديث منكر.
وعن الإمام أحمد: وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يمكن من القتل بمثل ما قتل به وليه، فالجاني يُقتل بمثل ما قتل إلا ما استثنى من الإحراق بالنار ونحوه فإن الشريعة نهت عن ذلك.
فلو قتله?بإلقائه من شاهق فإنه يقتل بأن يُلقى من شاق ولو قتله بقطع أعضائه قطعة قطعة فكذلك ونحوه لك.
وهذا القول الراجح، قال شيخ الإسلام: "وهو أشبه بالكتاب والسنة والعدل" أما العدل فظاهر.
وأما الكتاب فقوله تعالى: ??وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين)).
وأما السنة فبما ثبت في الصحيحين: أن جارية وجد رأسها قد رُض بين حجرين فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقرّ، فأمرّ النبي- صلى الله عليه وسلم -?أن يرضّ رأسه بين حجرين ).
فالراجح: أنه يقتل بمثل ما قتل إلا ما استثنى في الأدلة وهو التعذيب بالنار فإن ذلك لا يحل، ومثل?ذلك لو قتله بفعل أمر محرم فيه، كزنا بامرأة أو لواط أو غير ذلك مما هو محرم فإنه لا يفعل به ذلك لأنه محرم في الشريعة الإسلامية.
??باب العفو عن القصاص"
قال: [ يجب بالعمد القود أو الدية فيخير الولي بينمها ].
???? فيتخير الولي في قتل العمد بين القصاص أو الدية، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يُعطى وإما أن يقاد) أي إما أن يعطى الدية أو يقاد له القتيل.
قال: [ وعفوه مجاناً أفضل ].
لقوله تعالى: (( وأن تعفوا أقرب للتقوى )).(26/19)
وثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ما أتى بشيء من القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) والحديث اسناده صحيح من حديث أنس بن مالك.
قال: [ فإن اختار القود أو عفا عن الدية فقط فله أخذها ].
إذا اختار الولي القصاص فله أخذ الدية، فمثلاً قال أنا أختار القصاص ثم قال: أريد أن أتنازل عن القصاص إلى الدية، فله ذلك- وهذا ظاهر.
وكذلك إذا عفا عن الدية فقط، فقال: عفوت عن الدية فقط، فلفظه هذا ليس فيه أنه قد عفا عن القصاص وحينئذ إذا رضي بالدية وقد عفا عنها فله أخذها.
وذلك لأنه انتقال من الأعلى إلى الأدنى وهو الانتقال من القصاص إلى الدية.
قال: [ والصلح على أكثر منها ].
فإذا كانت الدية مثلاً مائة ألف فقال الولي: أنا لا أقبل إلا مائتي ألف أو ثلاثمائة ألف أو مليون وإلا فإني أختار القصاص فرضي بذلك القاتل، فللولي ذلك، وذلك لأن الحق لا يعدوهما، فإذا تراضيا على شيء من ذلك كان لهما.
قال: [ وإن اختارها أو عفا مطلقاً أو هلك الجاني فليس له غيرها ].
إذا اختار الدية فليس له بعد ذلك أن يقتصّ وذلك لأنه اختار الدية.
وكذلك إذا عفا مطلقاً فقال: (عفوت)، وإذا أطلق العفو فإنه ينصرف إلى المطلوب الأعظم، وهو العفو عن القصاص لأنه هو المطلوب الأعظم.
كذلك إذا هلك الجاني قبل أن يقتص فيه فليس للولي إلا الدية، لأن القود لا يمكن استيفاؤه وقد هلك الجاني فحينئذ ليس له إلا الدية فلا ينتقل هذا إلى أخ وابن أو غيره فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى بل يقال هلك الجاني فإن الدية تنتقل في تركته.
فإن لم يكن له تركة فلا شيء للولي كسائر الديون التي يفوت محلها فإنها تفوت بفوات محلها.
قال: [ وإذا قطع إصبعاً عمداً فعفا عنها ثم سرت إلى الكف أو النفس وكان العفو على غير شيء فهدر، وإن كان العفو على مالٍ فله تمام الدية ].(26/20)
رجل قطعت إصبعه عمداً ففي ذلك عُشر الدية، فعفا عن ذلك ثم سرت الجناية حتى أتلفت الأصابع كلها أو قتلت هذا الشخص كأن ينزف الدم حتى هلك، فهذه السراية هدر لا شيء فيها.
وذلك لأنه قد عفا عن الجناية وسرابتها كذلك لأن سرايتها فرع عنها هذا قول في المذهب.
والمشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن له أن يأخذ تمام الدية أي ما بقي منها وهو تسعة أعشارها في المثال المتقدم، وذلك: لأنه إنما عفا عن الجناية ولا سراية فيها، وأما مع السراية فإنه لم يثبت عفوه عنها، فلا يسقط من ذلك إلا ما عفا عنه، وهو إنما عفا عن دية إصبع، وهذا هو القول الراجح.
أما إذا كان العفو على مالٍ فله تمام الدية، وهذا ظاهر فإذا قال: أريد الدية ولا أريد القود، فإنه يأخذ عشر الدية ثم سرت الجناية فإنه يُعطى الباقي وذلك لأن السراية نتجت عن فعل الجاني فكان عليه ديتها أي دية السراية.
قال: [ وإن وكّل من يقتص ثم عفا فاقتص وكيله ولم يعلم فلا شيء عليهما].
رجل قال: اخترت القصاص، ثم وكّل زيداً من الناس أن يقتص عنه ثم بعد ذلك قال: قد عفوت، فقتل الوكيل ولم يعلم بعفو موكله فلا شيء عليهما.
أما الولي فلأنه محسن بالعفو وما على المحسنين من سبيل وأما الوكيل فلأنه لم يفّرط.
قال: [ وإن وجب لرقيق قود أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه ].
فإذا وجب لرقيق قصاص أو تعزير قذف فطلب هذا أو إسقاطه إليه وليس لسيده لأن المقصود من ذلك هو التشفي وهو مختص به.
قال: [ فإن مات فلسيده ].
فإذا مات العبد فلسيده ذلك، وذلك لأن السيد أحق بعبده من غيره لأنه ملكه.
"باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس"
قال: [ من أقيد بأحد في النفس أقيد به في الطرف والجراح ].
فمن أقيد بأحدٍ في النفس لتوفر الشروط، فكذلك في الطرف والجراح.
قال: [ ومن لا فلا ].(26/21)
فمن لم يُقد بأحد في النفس فإنه لا يقاد به في الطرف والجراح فالمسلم لا يقاد بالكافر، والحر على مذهب الجمهور لا يقاد بالعبد فكذلك إذا قطع المسلم يد كافر فإنه لا تقطع يده، وكذلك إذا جرح مسلم كافراً فإنه لا قود.
قال: [ ولا يجب إلا بما يوجب القود في النفس ].
فلا يجب إلا بما يوجب القود في النفس وهو العمد فلو قطع يد إنسان خطأً أو جرحه خطأً فلا قود.
إذن مسائل الجراح ومسائل الأطراف مبنية على مسائل النفس.
قال تعالى: (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص)).
قال: [ وهو نوعان ].
أحدهما في الطرف، والثاني: في الجراح.
قال: [ أحدهما: في الطرف فتؤخذ العين والأنف والأذن والسن والجفن].
الجَفن: هو غطاء العين الأعلى أو الأسفل.
قال: [ والشفة واليد والرجل والإصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشغر كل واحدٍ من ذلك بمثله].
فاليد باليد، والعين بالعين، والأنف بالأنف وهكذا.
قال: [ وللقصاص في الطرف شروط، الأول: الأمن من الحيف بأن يكون القطع من مفصل أو له حد ينتهي إليه كما رن الأنف وهو مالان منه ].
هذا هو الشرط الأول: وهو الأمن من الحيف وذلك بأن يكون القطع من مفصل كأن يقطع يده من الرسغ ورجله من الكعب أو الركبة.
فإنه يثبت به القود وذلك لأمن من الحيف ومثل ذلك: إذا كان له حد ينتهي إليه، كما رن الأنف فإن له حداً ينتهي إليه وهو القصبة.
أما مثلاً: الجائفة وهو الجرح يكون في البطن ونحوه فلا حد ينتهي إليه فلا قود فيه.
فإذا كان القطع ليس من مفصل كأن يقطع يد إنسان من منتصف الذراع أو منتصف الساق، فظاهر كلام المؤلف ألا قود مطلقاً وهو مذهب الجمهور وذلك لأن القطع ليس من مفصل.
القول الثاني في المسألة: وهو قول في مذهب الإمام أحمد ثبوت القصاص من المفصل الذي دونه.
فإذا قطع من منتصف الذراع فله أن يقتص من مفصل الكف.(26/22)
وذلك لأنه اقتصر بما دونه فلم يكن منه حيف ولا ظلم فهو اقتصر على بعض حقه فلم يكن ظالماً، وهذا هو الراجح في المسألة وهو مذهب الشافعية.
وهل له أرش على الزائد أم لا؟
قولان في مذهب الإمام أحمد: أصحهما ثبوت الأرش له وذلك لتعذر الاستيفاء فإذا تعذر الاستيفاء وجب الأرش، إذن الصحيح أنه إذا كان القطع من غير مفصل فله القود من المفصل الذي دونه، وله في أصح القولين الأرش أي الارش الذي يكون مقابلاً لهذا القطع من طرفه.
قال: [ الثاني: المماثلة في الاسم والموضع: فلا تؤخذ يمين بيسار ولا خنصر ببنصر ولا أصلي بزائدٍ ولا عكسه].
الشرط الثاني: المماثلة في الاسم والموضع.
فلا تؤخذ يدُ برجل، ولا رجل بيد، ولا أنف بعين وهكذا، كذلك لا تؤخذ يمين بيسار، ولا خنصر ببنصر، ولا أصلي بزائد، فلو قطع إصبعاً زائدة، فإنه لا تقطع من الجاني اصبع أصلية وذلك لعدم المماثلة.
قال: [ ولو تراضيا لم يجز].
فإذا قال الجاني: أنا أرضى أن تؤخذ يدي اليمنى بيده اليسرى لم يجز ذلك.
وذلك لأن الدماء لا تستباح بالإباحة والبذل، ولأنه لا يجوز له أن يتصرف في بدنه بما لم يأذن له به الله عز وجل.
قال: [ الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاء].
الشرط الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلو أن رجلاً قطع يد رجلٍ شلاء فإنه لا تقطع يده السليمة بالشلاء وذلك لعدم الاستواء.
قال: [ ولا كاملة الأصابع بناقصة ].
إذا قطع يد رجلٍ أصابعها ناقصة، وأصابع يده، أي الجاني كاملة فلا تقطع يده الكاملة الأصابع بيد الآخر ناقصة الأصابع وذلك لعدم استوائهما في الكمال.
قال: [ ولا عين صحيحة بقائمة ].
العين القائمة: هي العين التي يكون بياضها وسوادها صافيين لكنها لا تبصر، أي من رآها يظن أن صاحبها يبصر وهو لا يبصر.
فلو ضرب عين القائمة فأتلفها، فلا تؤخذ عينه الصحيحة.
قال: [ ويؤخذ عكسه ولا أرش].(26/23)
فيؤخذ اليد الشلاء باليد الصحيحة فلو أن رجلاً قطع يد آخر اليمنى وكانت صحيحة، ويده اليمنى شلاء فتقطع ولا أرش، لإستوائهما في الخلقة إنما النقص في الصفة هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المذهب: ثبوت الأرش وهو الصحيح وذلك لعدم استوائهما، فإن الصفة إذا نقصت فهذا عيب ونقص، فكونها شلاء هذا عيب فلا يساوي اليد الصحيحة.
"فصل"
[ النوع الثاني: الجراح فيقتص في كل جرحٍ ينتهي إلى عظم كالموضحة].
قال تعالى: (( والجروح قصاص)).
فيقتص في كل جرح ينتهي إلى عظم كالموضحة، والموضحة: هي الشجة تكون في الرأس أو الوجه أو اليد تنتهي إلى العظم فتوضحه لكنها لا تهشمه فإذا هشمته فإنها تسمى الهاشمة.
قال: [ وجرح العضد والساق والفخذ والقدم].
فالجرح في العضد والساق والفخذ والقدم يثبت فيها القود لأنها تنتهي إلى عظم، فيؤمن حينئذ الحيف.
قال: [ ولا يقتص في غير ذلك من الشجاج والجراح غير كسر سن].
غير الموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم فإنه لا يقتص فيه وذلك لعدم أمن الحيف، إلا السن فإنها تثبت القصاص فيها لأنها يمكن أن تبرد.
قال: [ إلا أن يكون أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص موضحة وله أرش الزائد].
إذا كان الجرح أعظم من الموضحة كالهاشمة والمنقلة والمأمومة.
الهاشمة: وهي التي تهشم العظم.
والمنقلة: وهي التي تضرب العظم حتى تنقله من مكانه.
والمأمومة: وهي التي تصل إلى جلد الدماغ.
فإذا كانت أعظم من الموضحة فله أن يقتص موضحه وله أرش الزائد.
فلو أن رجلاً خرج في رأسه هاشمة، والهاشمة ديتها عشر من الإبل، والموضحة ديتها خمس من الإبل فالهاشمة لا يمكن ثبوت القصاص فيها لعدم أمن الحيف، فإن العظم إذا هشم قد يهشم أكثر من هشم الأول.
لكن له أن يقتص موضحة فيشج رأسه حتى يصل العظم، وله إرش الزائد وهو الفرق بين دية الموضحة ودية الهاشمة.
قال: [ وإذا قطع جماعة طرفاً، أو جرحوا جرحاً يوجب القود فعليهم القود].(26/24)
كمسألة: قتل الجماعة بالواحد.
فإذا قطع جماعة طرفاً أو جرحاً يوجب القود فعليهم جميعاً القود بالشرط المتقدم في قتل الجماعة.
وقد ثبت في صحيح البخاري: أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب، أن رجلاً قد سرق فقطع يده، ثم جاءاه وقالا: هو السارق وأخطأنا بالأول: فردّ رضي الله عنه شهادتهما على الثاني وغرّمهما دية الأول وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما).
فإذا اجتمع جماعة على قطع أو جرح فالقود عليهم جميعاً كأن يضعوا حدية على مفصل ثم يجتمعون عليها حتى يقطعوا اليد أو الرجل، أو يتواطؤا على ذلك كما تقدم تقريره على قتل الجماعة بالواحد.
قال: [ وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها].
إذا سرت الجناية فإنها مضمونة.
فلو قطع رجل إصبع آخر ثم سرت الجناية إلى الإصبع الأخرى فالقود للأصبعين.
أو قطع إصبعه فسرت الجناية لليد كلها كأن تنزف اليد حتى شُلت فيكون القود في اليد كلها.
وذلك لأن السراية من أثر الجناية فكانت مضمونة كالجناية.
قال: [ وسراية القود مهدورة ].
رجل قطع يد آخر فقطعت يده فلما قطعت يده سرت الجناية إلى نفسه حتى مات بسبب قطع يده فلا ضمان وذلك لأنه لا تعدى.
هذا حيث لم يكن هناك إسراف.
لكن لو كان ذلك من برد شديد أو حر شديد أو كان مريضاً لا يتحمل قطع اليد فقطعت يده، فحينئذ السراية مضمونة.
وكذلك لو قطعه بآلة كالة أو مسمومة فحينئذ يكون الضمان لوجود التعدي.
أما إذا لم يكن هناك تعدٍ فلا ضمان لأن ما ترتب على الفعل المأذون فيه فليس بمضمون.
قال: [ ولا يقتص من عضو وجرح قبل برئه كما لا تطلب له دية ].
فلو أن رجلاً قطعت كفه، ومازال الجرح فإنه لا قصاص ولا دية حتى يبرأ الجرح وذلك لاحتمال السراية فإنه يحتمل أن تسري الجناية إلى عضو آخر.
فإن تعجل واقتص من الجاني فسرت الجناية بعد ذلك فلا شيء في ذلك وهي هدر، وذلك لأنه قد استعجل حقه ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.(26/25)
وإذا قلعت له سن أو أزيلت له منفعة ونحو ذلك فإنه لا يستعجل لا بالقصاص ولا بالدية حتى ينظر وقتاً يمكن أن تعود فيه فالسن إذا كانت مما يرجى عودها أو المنفعة إذا كانت مما يرجى عودها فلا قصاص ولا دية ويضرب الخبير يمكن أن تعود فيها هذه المنفعة أو تعود فيها هذه السن وحينئذ لا دية ولا قصاص وإنما فيه تعزير.
مسألة:
اختار شيخ الإسلام وابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن المنذر وهو قول جماعة من أهل الحديث خلافاً لجمهور العلماء ثبوت القصاص في اللطمة والعصا والمال ونحو ذلك فإذا أتلف ماله فله أن يقتص بإتلاف المال وإذا هرب بالعصا فله أن يحرق سيارته المماثلة لها وذلك لحصول التشفي وهو مقصود.
وقال الجمهور: ليس له ذلك، لعدم المماثلة في الغالب فقد تكون العصا أشد من العصا، وقد تكون اللطمة أشد من اللطمة ونحو ذلك.
والصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن وافقه في هذه المسألة وذلك لقوله تعالى: (( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين )).
وقوله: (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )).
وروى البخاري في صحيحه: "أن عمر رضي الله عنه أقاد من الدّر وأن علياً أقاد من ثلاثة أسواط".
وهذا هو القول الراجح، لقوة أدلته، وأما الجواب عما استدل به الجمهور: من أن المماثلة لا تثبت غالباً.
فالجواب: أن العدل مطلوب بحسب الإمكان ثم إن الجمهور يوجبون التعزير وهو أبعد مماثلة، فكوننا عندما يضرب رجل رجلاً سوطاً نسجنه يوماً فإن سجن يوم أبعد مماثلة من ضربه بعصا.
أما إذا ضرب بعصا وإن كنا نحتمل احتمالاً كبير أن يختلف قدر الضربة لكنهما متقاربان.
فإن قيل: إن في إتلاف المال إفساداً.
فالجواب: أن إفساد المال ليس بأعظم من إفساد الأطراف ومن الجراح ومن قتل النفس، فإن الرجل تقطع يده إذا قطع يد الآخر ويده أعظم من ماله.
وهذا كله لمصلحة التشفي وإزالة الغيظ من المجني عليه.(26/26)
فإذا اتلف ماله فله أن يتلف ماله المماثل به، وله أن يأخذ قيمة ماله، فهو مخير بين الأمرين.
" كتاب الديات"
الديات: جمع دية وهي المال المؤدي إلى المجني عليه أو أوليائه بسبب الجناية.
"المؤدي إلى المجني عليه" هذا إذا كانت الجناية فيما دون النفس كأن يقطع له طرف، فدية هذا الطرف تدفع إلى هذا المجني عليه.
" أو أوليائه" إذا كانت الجناية في النفس، فإذا قُتل فديته إلى أوليائه.
قال رحمه الله: [ كل من أتلف إنساناً].
أي معصوماً.
قال: [ بمباشرة أو سبب لزمته الدية ].
بمباشرة كأن يضربه بالسيف فيقتله.
أو سبب: كأن يلقيه إلى سبع فيأكله، فكل من أتلف إنساناً معصوماً بمباشرة أو سبب لزمته دية.
لقوله تعالى: (( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله )).
قال: [ فإن كانت عمداً محضاً ففي مال الجاني حالة ].
فإذا كانت الجناية عمداً سواء كانت في النفس أو فيما دون النفس فالدية في مال الجاني بالإجماع، لقوله تعالى: (( ولا تزر وازرة وزر أخرى )).
ولما ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يجني جان إلا على نفسه لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده).
والأصل في ضمان المتلفات أنها تجب على المتلف نفسه.
قال: [ وشبه العمد والخطأ على عاقتله ].
فجناية شبه العمد الدية فيها تكون على العاقلة عند جمهور العلماء، ودليل ما تقدم ما ثبت في الصحيحن أن امرأتين من هذيل ضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بدية المرأة على العاقلة).
وهو قتل شبه عمدٍ، وقد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدية على العاقلة، ودية جناية الخطأ على العاقلة وهو من باب أولى، فالشرع قد دل على أن دية شبه العمد تجب على العاقلة من باب التخفيف على القاتل مع كونه قد جنى لكن جنايته لم يكن مقصوداً منها القتل.(26/27)
فإذا ثبت هذا في شبه العمد فأولى من ذلك أن يثبت في الخطأ وهذا بإجماع العلماء كما حكى ذلك ابن المنذر.
وقد قال المؤلف قبل ذلك في جناية العمد: [حالةً] ففي جناية العمد تجب الدية في مال الجاني حالة غير مؤجلة، فليس للقاضي أن يؤجلها، وذلك لأن هذا هو الأصل في المتلفات، وإن ضمانها يجب حالاً، ولا دليل يدل على جواز تأجيله.
وأما دية جناية شبه العمد والخطأ، فإنها تؤجل على ثلاث سنين، وقد استدل أهل العلم على هذا بأثرين، الأثر الأول: عن عمر والأثر الثاني عن علي رضي الله عنهما، رواهما البيهقي في سننه.
قالوا: ولا يعلم لهما مخالف.
وهذا لو صح الأثران، لكن الأثرين في إسنادهما ضعف فحديث عمر إسناده ضعيف، وحديث على إسناده منقطع.
لكن الاختلاف بين أهل العلم، ذلك فقد اتفق العلماء على التأجيل في جناية شبه العمد والخطأ، والنظر يدل على ذلك، وذلك لأن دية شبه العمد ودية الخطأ مخففة لكونها تجب على العاقلة ولا يجب على الجاني فناسب التخفيف.
وهذا التأجيل حيث لم ير الإمام أو القاضي المصلحة في الحلول، أما لو رأى الإمام أن المصلحة في كونها حالةً فله ذلك كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، كأن يكون المجني عليه أو أولياؤه فقراء وأولياء الجاني أغنياء يحتاجون إلى التأجيل، فإنه يجعلها حالةً بناءً على الأصل.
وهذا الحكم ثابت في دية الكتابي كما هو ثابت في دية المسلم لأن دية الكتابي تجب في قتل النفس فاشبهت دية المسلم التي تجب في قتل النفس فهما نظيران، وهذا أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد "أي ثبوت ذلك في دية الكتابي".
إذن: دية الخطأ وشبه العمد تجب مؤجلة على ثلاث سنين ويكون ذلك في آخر الحول.(26/28)
وتكون بداية الحول من حين الوجوب، فإذا كان قتل نفس فوقت الوجوب الموت فإذا مات في أول شهر محرم فإنها تجب في نهاية هذا الحول وهو نهاية شهر ذي الحجة لأنه بذلك يتم الحول فيجب الثلث، فإذا أتى نفس الوقت من السنة الثانية وجب الثلث الثاني ثم كذلك في الثلث الأخير.
وأما إذا كان فيما دون النفس، فإذا كان الجرح قد أندمل بلا سراية فوقت الوجوب من حين القطع وإذا أندمل بعد السراية فوقت الوجوب من حين الاندمال، فإذا قطع إصبعه فسرت الجناية إلى بقية الأصابع ثم اندمل الجرح فوقت وجوب الدية من حين الاندمال.
قال: [ وإن غصب حراً صغيراً فنهشته حية أو أصابته صاعقة إلى أن قال: .. وجبت الدية فيهما].
إذا غصب حراً ولم يقل عبداً، وذلك لأن العبد مال والمال لا تجب له الدية وإنما تجب القيمة.
فإذا غصب حراً صغيراً فحبسه فنهشته حية فمات أو أصابته صاعقة في الموضع الذي حبس فيه فمات فتجب الدية على الغاصب.
وهكذا في كل ما يتعلق بالمحل الذي حُبس فيه، كأن يقع السقف أو يصاب بوباء، أو نحو ذلك فتجب عليه الدية، وذلك لأنه هو المتسبب في قتله.
[ أو مات بمرض ].
إذا حبس حراً صغيراً في غرفة أو دار أو في موضع ما فأصيب بمرض لا دخل للغاصب به من حيث الحبس فمات فيه، فإن الغاصب تجب عليه الدية.
قالوا: لأن يده يد غاصبة فقد تلف هذا الحر الصغير في يده، ويده يدُ غاصبة، وهذا قول في المذهب
والمشهور في المذهب خلاف هذا وأنه ليس فيه الدية وهو الراجح.
وذلك لأن هذا الحر الصغير ليس بمال وعليه فلا يدخل تحت اليد، فكونه يتلف تحت هذه اليد الغاصبة لا يعني شيئاً ما دام أن هذه اليد لم تعتد عليه وذلك لأنه ليس بمال.
قال: [ أو غل حراً مكلفاً وقيّده فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية فيهما ].(26/29)
إذا غلَّ حراً مكلفاً في عنقه وفي يده، وقيّده برجليه فمات بالصاعقة أو الحية وجبت الدية، وكذلك لو قيّده في رجليه من غير أن يغُله لأنه إذا قيده في رجليه فإنه لا يستطيع الهرب من الصاعقة أو الحية بخلاف ما إذا غّله في عنقه أو يده فإنه يتمكن من الهروب من الموضع الذي أصابته الصاعقة فيه أو نهشته الحية فيه وكان ذلك بسبب هذا الحابس.
فإذا غله في يده في دار تحتاج إلى أن يفتح الباب فإن الحكم كذلك، بخلاف ما لو كان في فضاء وغلت يده فإنه يمكنه الهروب.
فتجب عليه الدية لأنه هو المتسبب في قتله والمتسبب تجب عليه الدية كما تقدم.
" فصل"
قال رحمه الله: [ وإذا أدب الرجل ولده، أو سلطان رعيته أو معلم صبية ولم يسرف لم يضمن ما تلف به ].
إذا أدب رجل ولده، أو سلطان رعيته، أو معلم كمعلم القرآن صبيه ولم يسرف، لا في العدد ولا في الشدة ولم يكن هذا المؤدّب ليس محلاً للتأديب كمن لا يعقل كالصبي غير المميز أو غير العاقل، فإنه لا يضمن ما تلف به حتى لو مات المؤدّب.
وذلك لأن هذا الفعل مأذون فيه شرعاً، وما ترتب على المأذون فيه فليس بمضمون كالحد، فكما أن الحاكم لو ضرب الزاني مائة سوط فمات بذلك فلا ضمان لأنه فعل مأذون فيه شرعاً فكذلك هنا.
قال: [ ولو كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً ضمنه المؤدب ].
فإذا كان التأديب لحامل فأسقطت جنيناً فإنه يضمنه المؤدّب لأنه هلك بسببه، فالإذن وارد في المرأة وأما الصبي فإن هذا التلف قد حصل بسبب المؤدب ولم يؤذن له في ذلك، وإن لم يكن هذا من فعله بل كان خطئاً لأن الخطأ من أنواع الجناية كما تقدم فلا إثم عليه لكن فيه الضمان.
قال: [ وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى أو استدعى عليها رجل بالشرط في دعوى له فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي ].(26/30)
إذا طلب السلطان امرأة لكشف حق الله تعالى كحدّ أي تكون متهمة بالزنا ونحوه أو تعزير أو غيره كحقِ آدمي فأسقطت ضمنه السلطان أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له ولو كان ذلك عن طريق القاضي فأسقطت ضمنه المستعدي.
وذلك لأن الهلاك بسبب فعلهما، وفي مصنف عبد الرزاق: أن امرأة كان يدخل عليها رجل فأرسل إليها عمر ففزعت فأسقطت فاستشار الصحابة فمنهم من قال لا شي عليك، وقال علي أما الإثم فنعم وأما الضمان فعليك فقضى بذلك عمر، وإسناده ضعيف ولم أر خلافاً بين أهل العلم في هذه المسألة.
قال: [ ولو ماتت فزعاً لم يضمنا ].
فإذا طلب السلطان امرأة أو استعدى عليها رجل بالشرط في دعوى له فماتت فزعاً لم يضمنا، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد وقول في المذهب وهو مذهب الشافعية وممن اختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعيد.
القول الثاني وهو المشهور في المذهب أن عليهما الضمان.
قالوا: لأن الهلاك بسببهما، أي بسبب السلطان في المسألة الأولى وبسبب المستعدي في المسألة الثانية.
وحجة أهل القول الأول في أنه لا ضمان عليهما، أنه فعل مأذون فيه شرعاً، فالقاضي قد فعل ما هو مأذون فيه شرعاً من طلب المرأة لكشف حق الله تعالى.
والمستعدي مأذون له في ذلك شرعاً، إن قد فعل ما هو مأذون له فيه وما ترتب على المأذون فهو ليس بمضمون وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
وعليه: لو لم يكن مأذوناً له في ذلك بل كان متعدياً فحينئذ عليه الضمان.
فلو طلبها السلطان على وجه التعدي فلم يتحر ولم يتثبت بل تعجّل في طلبها وفرّط في التثبت في ذلك فعليه الضمان والمستعدي إذا كان ظالماً لها فليس عليها حق له، فإن الضمان يثبت وذلك لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه.
قال: [ ومن أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً، أو يصعد شجرة فهلك به لم يضمنه ولو أن الآمر سلطان].
إذا أمر شخصاً مكلفاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك هذا المكلف فإنه لا يضمنه.(26/31)
وذلك: لأنه لم يكرهه فلم يكن سبباً في إهلاكه، ولو كان الآمر سلطاناً لأنه لم يكرهه ولم يحصل منه تعدٍ.
قال: [ كما لو استأجره سلطان أو غيره ].
فإذا استأجر سلطان أو غيره لحفر بئرٍ، أو صعد شجرة فهلك فإنه لا يضمن، فكذلك إذا أمره بالاستئجار على غير وجه الإكراه، ففي كلا المسألتين لا يضمن لأنه لم يتعّد.
وفي قوله: " ومن أمر شخصاً مكلفا" يدل على أنه لو كان المأمور غير مكلفٍ فإن عليه الضمان.
والذي يتبيّن أن هذا ليس على الإطلاق بل متى ما كان على وجه التعدي.
فلو أمره أن ينزل بئراً، ولم يكن هذا الصبي ممن يحسن ذلك فإنه حينئذ يكون عليه الضمان لتعديه.
وأما لو أمره بما يحسنه بأن يرسله في حاجة أو نحو ذلك فيحصل له هلاك ولا يكون في ذلك شيء من التعدي فالذي يرجح ألاّ ضمان عليه.
" باب مقادير ديات النفس ".
قال رحمه الله: [ دية الحر المسلم مائة بعير أو ألف مثقال ذهباً أو اثنا عشر ألف درهم فضه أو مائتا بقرة أو ألفا شاه].
وفي الحُلّة روايتان:
الرواية الأولى: وهي المشهور: أنها ليست من أصول الدية.
الرواية الثانية: أنها من أصول الدية، وفي ذلك مائتا حُلةً.
هذه هي أصول الدية في المشهور من المذهب وهي خمس، الأصل الأول، الإبل، والثاني: الذهب، والثالث: الفضة، والرابع: البقر، والخامس: الغنم.
قال: [ فهذه أصول الدية فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله ].
فإذا أعطاه مائتي بقرة فإنه يجب عليه أن يقبل، أو أعطاه ألفي شاه، فيجب عليه أن يقبل وهكذا.
واستدلوا: بما روى أهل السنن عن ابن عباس: "أن رجلاً قتل فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن ديته اثنا عشر ألفاً"?هذا في الفضة.
وفي الذهب: بما روى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( وعلى أهل الذهب ألف دينار) من حديث عمرو بن حزم.(26/32)
واستدلوا: على أن البقر والشياه أصل بما روى أبو داود من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى في الإبل مائة من الإبل وفي البقر مائتين من البقر، وفي الشياة ألفي شاه وفي الحلل مائتي حٌلة. هذه أدلة هذه الأصول.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية والمالكية وراية عن أحمد، وعليه أئمة الدعوة، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أن الإبل هي الأصل وأن غيرها بدل عنها، فعلى ذلك، تقوم الإبل في كل عصر، فننظر كم تساوي من البقر وكم تساوي من الشياه وكم تساوي من الذهب وكم تساوي من الفضة فتعطى كذلك.
ودليل هذا القول: ما ثبت في سنن أبي?داود بإسناد جيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "كانت قيمة الدية على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، وكانت دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين، حتى كان استخلاف عمر بن الخطاب فقام فقال: ألا إن الإبل قد غلت ففرضها في الذهب ألف دينار وفي?الورق اثنا عشر ألفاً وفي البقر مائتي بقرة وفي الشياه ألفي شاة وفي الحلل مائتي حلة ولم يزد في دية أهل الكتاب" وهذا ما يدل على أن الإبل هي الأصل، ووجه الدلالة، أن عمر فعله بمحضر من الصحابة، ويدل على هذا أيضاً: أن الدية في الإبل تتغلظ ولا يكون هذا في غير الإبل فدلّ على أنها هي الأصل، كما أنها أي الإبل: هي دية الأطراف ونحوها كما سيأتي تقريره، وهذا القول هو الراجح.
وأما الأدلة التي استدل بها أهل القول الأول فهي أدلة ضعيفة.
فحديث ابن عباس، الصواب أنه مرسل.
وحديث عمرو بن حزم: كذلك.
وحديث جابر: فيه عنعنة محمد بن إسحاق.
والصحيح أن الإبل هي الأصل، وعليه العمل في المحاكم عندنا وهو الذي عمل به أئمة الدعوة النجدية
وعليه: فقوله: " فأيها أحضر من تلزمه لزم الولي قبوله" هذا ينبني على هذا القول أي قول الحنابلة وتقدم أنه قول مرجوح.
وعلى الراجح: لا يلزمه القبول.(26/33)
وهل يشترط أن تكون الإبل من جنس إبله، أي إبل الغارم الذي وجبت عليه الدية، أم لا يشترط ذلك؟
قولان لأهل العلم هما وجهان في مذهب الإمام أحمد.
والراجح أن ذلك لا يجب لإطلاقات النصوص، كقوله- صلى الله عليه وسلم -?وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل" رواه النسائي وهو حديث حسن، وغير ذلك من الأحاديث التي سيأتي ذكرها.
فإن قيل: إنها تقاس على الزكاة، فكما أن الزكاة يجب عليه أن يخرجها من ماله فكذلك في الدية؟
والجواب: أن بينهما فارقاً، فإن الزكاة تجب من باب المواساة وأما الدية فإنها تجب من باب الجبر فهي تجبر هذا المتلف من نفسٍ أو طرف أو جرح.
قال: [ ففي قتل العمد وشبه، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون جذعة]
?هذه هي دية العمد وشبه العمد وهي دية مغلظة، تجب أرباعات هذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا: بحديث ذكروه عن السائب بن يزيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( الدية أرباعاً ثم ذكره ).
?والحديث ليس مشهوراً في شيء من كتب السنة، فيما رأيت، وذكره السيوطي في جمع الجوامع وضعّفه.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية، أنها تجب ثلاثون حقه، وثلاثون جذعة وأربعون خلقه في بطونها أولادها.
وهذا هو القول الراجح، لما روى أبو داود، والترمذي والحديث حسن أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: ( الدية ثلاثون حقه وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها" ويدل عليه ما تقدم في حديث سابق: "ألا إن دية مثل الخطأ شبه العمد مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها".
وتغلظّ الدية، في أربعة مواضع: 1) في الحرم. 2) أو في الأشهر الحرم. 3) أو كانت من محرم في المشهور من المذهب. 4) وقال بعض الحنابلة: إذا قتل ذا محرم فإنها تُغلّظ ودليل ذلك: ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبه بإسناد صحيح أن عثمان قضى في امرأة قتلت في الحرم بديةٍ وثلث الدية" ولا يعلم لعثمان مخالف في هذه المسألة.(26/34)
قال: [ وفي الخطأ تجب أخماساً: ثمانون من الأربعة المذكورة، وعشرون من بني مخاض].
???فدية الخطأ تجب أخماساً ثمانون من الأربعة، أي عشرون من بني مخاض، وعشرون بنت لبون وعشرون حقه وعشرون جذعة وعشرون من بنت مخاض، وهي دية مخففة.
هذا هو المشهور في المذهب.
واستدلوا بما ورد عن ابن مسعود مرفوعاً أن في دية الخطأ ما ورد هنا وأنها تجب أخماساً، رواه الدار قطني.
وقال الشافعية: تجب أخماساً ثمانون من الأربعة المتقدمة وعشرون من بنت لبون.
واستدلوا: ببعض روايات ابن مسعود، وهي عند أهل السنن.
لكن الحديث ضعيف بروايتيه.
والصواب أنه من قول ابن مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبه بإسناد صحيح.
وورد في سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قضى أن من قتل خطأً فديته ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقه وعشرة من بني لبون، والحديث إسناده جيد، وبه قال طاووس من التابعين.
وقول ابن مسعود المتقدم، مخالف بقول عثمان وزيد بن ثابت كما في سنن أبي داود، أنهما قالا: إن دية الخطأ عشرون بنت مخاض، وعشرون بني لبون وثلاثون من بنات لبون وثلاثون حقه.
والأقوى ما ذهب إليه طاووس لقوة الحديث، إلا أن يقال: ما قاله ابن القيم في تهذيب السنن من أن هذه الآثار تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يقدر قدراً محدوداً وفي هذا قوة مع ما فيه من معارضة الأثر عن الصحابة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -?
لكن يمكن أن يحمل قول النبي- صلى الله عليه وسلم -?على عدم الإلزام بالتحديد وأنه من التحديد.
ويعمل حينئذ بإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -?في النفس المؤمنة مائة من الإبل.
إذن: أقوى هذه الأقوال ما ذهب إليه طاووس وفيما ذكره ابن القيم قوة وهو أن يقال يجب عليه مائة من الإبل والأمر في ذلك واسع، وهذا يناسب ما في دية قتل الخطأ من التخفيف.
قال: [ ولا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة ].(26/35)
فلا تعتبر القيمة فيما تقدم ذكره بل السلامة.
فقد تقدم أن قيمة الإبل في المذهب اثنا عشر ألف درهم قيمة البعير الواحد مائة وعشرون درهماً.
فهل نقول: الواجب أن نشتري البعير بمائة وعشرين درهماً وإن كان البعير يفقد شيئاً من شروط السلامة أم لا بدّ وأن تتوفر فيه شروط السلامة سواء كان مساوياً هذا القدر أم كان أكثر منه؟
الجواب: هو الثاني وأنه لا تعتبر القيمة في ذلك بل السلامة خلافاً لأبي الخطاب من الحنابلة.
فقوله: أي أبي الخطاب، ضعيف لأنه يخالف إطلاقات النصوص فظاهر إطلاقات النصوص أن الواجب أن الإبل السلامة وعليه فإنه لابد وأن تكون الدية مائة من الإبل تتوفر فيه شروط السلامة وإن كانت قيمة البعير أكثر من مائة وعشرين درهماً.
قال رحمه الله تعالى: [ ودية الكتابي نصف دية المسلم ].
الكتابي: هو اليهودي والنصراني والمقصود بديته هنا أي إن كان معاهد أو مستأمناً أو ذمياً.
فدية الكتابي نصف دية المسلم.
دليل ذلك: ما ثبت في سنن أبي داود أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين?، والعقل: الدية والحديث حسن.
??وذهب الأحناف إلى أن دية الكتابي كدية المسلم.
واستدلوا: بقوله تعالى: (( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله)).
???وبما صح عن عمر كما في مصنف عبد الرزاق: "أنه قضى على رجل مسلم قتل يهودياً من أهل الشام بألف دينار".
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول للحديث المتقدم وأما قول عمر فهو قول صاحب لا يخالف به ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم -?هذا لو كان صريحاً في المخالفة، مع أن الذي يظهر أن عمر إنما قضى بذلك من باب تغليظ الدية كما هو المشهور في مذهب أحمد خلافاً للجمهور وأن دية الكتابي تغلظ فتكون كدية المسلم إذا كان القتل عمداً، وفي ذلك أثر عن عثمان: أنه قضى على رجل مسلم قتل ذمياً عمداً بمثل دية المسلم وهو أثر صحيح.(26/36)
فدل هذا على أن الدية تغلظ عن النصف إلى الكل وذلك حيث كان القتل عمداً.
وعلى ذلك فإذا قتل المسلم ذمياً خطأً فعليه نصف الدية وقد تقدم أن دية المسلم اثنا عشر ألف وعليه فدية الكتابي ستة آلاف درهم.
قال: [ ودية المجوسي والوثني ثمانمائة درهم ].
???المجوسي هو الذي لا كتاب له.
والوثني عابد الأوثان.
ديتهما ثمانمائة درهم.
وقد تقدم أن مائتي درهم تساوي ستاً وخمسين ريالاً سعودياً فنتيجة ذلك أن يكون دية المجوسي والوثني مائتان وأربع وعشرون ريالاً سعودياً.
والريال السعودي يساوي نحو ثمانية أريل، فعلى ذلك تكون ديته نحو ألفين أو ثلاثة آلاف ريال.
وهذا حقه، لأنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وليس من أهل الكتاب.
هذا هو قضاء عمر وعلي وابن مسعود ولا يعلم لعمر من الصحابة مخالف.
قال: [ ونساؤهم على النصف ].
????نساء أهل الذمة على النصف منهم، فديتهم ثلاثة آلاف درهم.
ونساء المجوس ونحوهم فديتهن أربعمائة درهم.
ولا يظهر أنها تقوم بالإبل، لأنا لو قومناها بالإبل فإنها تساوي نحو سبع من الإبل، والسبع من الإبل تختلف قيمتها بالدراهم من زمن إلى زمن.
لكن الأثر فيه تقويم بالدراهم ولا يظهر تقويمها بالإبل أو غيرها.
قال: [ كالمسلمين ].
???فقاس رحمه الله نساء أهل الذمة ونساء المجوس في كونهن على النصف من ذكورهم، قاس ذلك على نساء المسلمين فنساء المسلمين على النصف من ذكورهم.
ودليل ذلك: ما روى النسائي عن عمرو بن حزم أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها".
وله شاهد مرسل عن سعيد بن المسيب كما في موطأ مالك وله شاهد موقوف صحيح عن عمر بن الخطاب كما في مصنف ابن أبي شيبه.
وشاهد عن علي وابن مسعود، كما في سنن البيهقي فدية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل.
أما دية الأطراف والجراح بالنسبة للمرأة فكما تقدم في الأثر السابق، ديتها كدية المسلم حتى تبلغ الثلث من ديتها.(26/37)
فالإصبع في الرجل ديتها عشرة من الإبل، فهي أقل من ثلث الدية فالمرأة ديتها?كذلك.
واليد فيها خمسون من الإبل أي نصف دية، فالمرأة على النصف من ذلك فعينها خمس وعشرون من الإبل.
قال: [ ودية قن قيمته ].
????القن هو الرقيق سواء كان ذكراً أو أنثى.
فديته قيمته مهما بلغت، فلو كان يساوي مائتين من الإبل فديته كذلك ولو كان يساوي عشرة من الإبل فديته كذلك.
وذلك لأن الرقيق مال متقوم.
قال: [ وفي جراحه ما نقصه بعد البرء ].
???فإذا جرحه إنسان فإنه يقوم بعد البرء، فمثلاً كان يساوي قبل الجرح مائة ألف، ثم بعد الجرح أصبح لا يساوي إلا ثمانين ألفاً، فقد نقص منه عشرون ألفاً، فأرش الجناية عليه عشرون ألفاً?هذا القول هو القول الراجح في المسألة وهو قول في المذهب واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وممن اختاره الموفق ابن قدامة.
??والمشهور في المذهب أن الواجب بقسطه من القيمة فإذا قطعت يد الرقيق، فإن دية اليد من الحر نصف الدية فكذلك في العبد، فقيمته تساوي عشرة آلاف ريال فقطعت يده، فنصف العشرة آلاف هو خمسة آلاف هي دية اليد.
وهذا قول مرجوح، وذلك لأن القول الأول قد ألحق ما دون النفس بالنفس، فكما أن النفس ديتها القيمة فكذلك ما دونها لأن السبيل واحدة فهو مال.
وأما القول الثاني: فلم أرَ له دليلاً يمكن أن يستدل به.
قال: [ ويجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرةٍ ].
??يجب في الجنين ذكراً كان أو أنثى عشر دية أمه غرة.
والغُرة: العبد أو الأمة سمي بذلك لأنه من أنفس المال.
وفي الصحيحين في قصة المرأتين اللتين اقتتلتا ومنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??قضى أن دية جنينها غرة عبدُ أو أمة" فدية?الجنين عبد أو أمة.
وهنا المؤلف قال: "عشر دية أمه" وقد تقدم أن دية المسلمة خمسون من الإبل، فعشرها خمس من الإبل إذن قيمة هذا العبد أو الأمة خمس من الإبل.(26/38)
فعليه أن يشتري عبداً أو أمة تساوي خمساً من الإبل وهذا القول لا خلاف بين العلماء فيه فهو اتفاق بين العلماء وذكره الموفق عن علي وزيد بن ثابت ولا يعلم لهما مخالف ولم أره بإسناد صحيح فإنه لم يعزه.
وكذلك الشيخ الألباني في إرواء الغليل: لم يقف على هذين الأثرين.
ولا خلاف بين العلماء في هذه المسألة لكن لم أرَ نصاً عن النبي- صلى الله عليه وسلم -?يدل على ذلك.
وإذا كانت الأم كتابية فديتها خمس وعشرون من الإبل فجب في جنينها عبد أو أمة يساويين بعيرين ونصف وهكذا.
قال: [ وعشر قيمتها إن كان مملوكاً وتقدر الحرة أمة ].
????إذا كان الجنين مملوكا فإن ديته عشر قيمتها إن كانت مملوكة.
فإذا كان الجنين مملوكاً فديته عشر قيمة أمه إن كانت أمةً، أما إذا كانت أمه حرةً فإنها تقوم كما لو كانت أمةً.
فإذا كانت تساوي مثلاً مائة ألف، فدية الجنين عشرة آلاف قياساً على المسألة السابقة.
وخرّج المجد من الحنابلة قولاً آخر في هذه المسألة فقال: بل ما نقص من قيمة الأم بعد إسقاطه هو الدية.
فمثلاً: الأم وهي حامل تساوي مائة ألف، فلما أسقطته أصبحت لا تساوي إلا ثمانين ألفاً، فالدية عشرون ألفاً وهذا أقيس.
وذلك إلحاقاً بالبهيمة بجامع أن كليهما مال يباع ويشترى والرجل إذا ضرب بهيمة فأسقطت ما في بطنها فإن هذه الجناية يلزمه بها الفارق ما بين قيمة هذه البهيمة وهي حامل وقيمتها وقد أسقطت.
وأما قياسهم على المسألة السابقة: فهو قياس مع الفارق لأن هناك الجنين حر وهنا مملوك، وفارق بين الحر والمملوك، فالحر لا يقوم فليس بمال وأما المملوك فهو مال يباع ويشترى.
إذن: الراجح ما خرّجه المجد ابن تيمية في هذه المسألة وهو أن يقال: إذا سقط الجنين المملوك فإننا ننظر إلى قيمة أمّه إن كان أمةّ، أو بقدرها إن كانت حرةً ثم الفارق هو أرش الجناية، أي دية الجنين المملوك.(26/39)
قال: [ وإن جنى الرقيق خطأً أو عمداً، لا قود فيه، أو فيه القود واختير فيه المال أو أتلف مالاً بغير إذن سيده يعلق ذلك برقبته فيخير سيده بين الدية بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه، أو يبيعه ويدفع ثمنه].
إذا جنى رقيق خطأً أو عمداً لا قود فيه كالجائفة أو عمداً فيه قود واختار المجني عليه وأولياؤه المال.
أو أتلف العبد مالاً بغير إذن سيده، فالحكم من ذلك يتعلق برقبته، ولم نقل تعلق بذمته لأنه لا ذمة له فهو مال لا يملك.
فيخير سيده بين:
أن يفديه بأرش جنايته، فالجناية مثلاً كلفت عشرة آلاف فإن شاء دفعها أي السيد.
أو يسلمه إلى ولي الجناية، فيعطيه ولي الجناية إن شاء أن يمتلكه وإن شاء أن يبيعه.
أو يبيعه السيد ويدفع ثمنه، فإن كانت الجناية تساوي عشرة آلاف والعبد يساوي عشرة آلاف فإنه يدفع المال كله لولي الجناية.
وإن كانت الجناية تساوي خمسة آلاف، والرقيق يساوي ألفاً فإنه يدفع له القيمة وهي ألف.
وذلك لأنه متعلق بالرقبة فلا دخل للسيد بما زاد عن ذلك.
وفي قوله: [ أو تلف مالاً بغير إذن سيده ].
أما إذا أتلف مالاً بإذن سيده أو أمر فإن الضمان لا يكون عليه بل على سيده، وذلك: لأنه كسوطه وعصاه، ولأنه كما لو استدان عليه.
" باب ديات الأعضاء ومنافعها "
الأعضاء: مثل العين، ومنافعها كالبصر وكذلك اللسان والذوق.
أما الأذن فليس السمع فيها بل في الدماغ، وكذلك الشم فهو ليس في الأنف بل في الدماغ هذا ما عرفه الفقهاء.
ولذا فإن في الأذن الدية وفي السمع الدية، فلو أنه جنى على أذنه وسمعه ففيه ديتان.
قال: [ من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف واللسان والذكر ففيه دية النفس ].
فمن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد كالأنف ونحوه ففيه دية النفس.(26/40)
قال: [ وما فيه منه شيئان كالعينين، والأذنين والشفتين واللحيين وثديي المرأة، وثندؤتي الرجل واليدين والرجلين والإليتين والأنثيين واسكتي المرأة ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها ].
فمن أتلف ما في الإنسان منه شيئان ففيهما الدية كاملة، وفي أحدهما نصفها.
ففي اليد نصف الدية، وفي كلتيهما كلها، وهكذا.
قال: [ وفي المنخرين ثلثا الدية، وفي الحاجز بينهما ثلثها].
فما كان في الجسم منه ثلاث، ففي أحدها الثلث فالأنف يتكون من منخر "على وزن مسجد" ومنخرُ آخر، والحاجز الذي بينهما، ففي كل جزء الثلث.
قال: [ وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي كل جفن ربعها].
فما في البدن منه أربعة، ففي كل شيء من هذه الأشياء الأربعة ربع الدية، وفي الكل الدية كاملة.
كالأجفان، والجفن هو غطاء العين.
هذا هو مذهب جماهير العلماء، والآثار تدل على ذلك ففي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (في الأنف إذا أوعي جدعه الدية وفي العينين الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي الصلب الدية)?والحديث من حديث عمرو بن حزم وهو مرسل، لكن عليه العمل وله شواهد.
وفي البيهقي عن سعيد بن المسيب مرسلاً بإسناد صحيح إلى سعيد قال: (قضت السنة في العقل أن في الصلب الدية) وهو النكاح.
??قال: [وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين وفي كل إصبع عشر الدية ].
???فما كان في البدن منه عشر، ففي كل واحد منه عشر الدية، فأصابع اليدين عشر، ففيها الدية كاملة، وفي كل إصبع عشر الدية، لا فرق بين الخنصر والإبهام.
ففي مسند أبي داود ومسند أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (الأصابع سواء والأسنان سواء الضرس والثنية سواء ).
?قال: [ في كل أنملة ثلث عشر الدية والإبهام مفصلان ففي كل مفصل نصف عشر الدية ].(26/41)
فالإصبع فيها ثلاث أنامل، ففي كل أنملة ثلث عشر الدية، والإبهام فيه مفصلان، فإذا قطعه من مفصل ففيه نصف عشر الدية، فإذا كان مسلماً ففيه خمس من الإبل.
?فإذا زاد على الإصبع ففيه حكومة أي هذا الزائد حكومة والمراد بالحكومة، أن يقوم عبداً صحيحاً وعبداً فيه نقص والفارق بينهما هو الحكومة.
قال: [ كدية السن ].
???فدية السن خمس من الإبل لا فرق بين ضرس ولا ثنية، وفي حديث عمرو بن حزم أن السن خمس من الإبل.
??وكذلك الظفر، كما صح عن ابن عباس في مصنف ابن أبي شيبه فالظفر فيه خمس من الإبل.
هذا إذا لم يرجع الظفر، أما إذا رجع فليس فيه شيء إلا أن يكون فيه شيء من التشويه فيكون فيه حكومة كما تقدم.
إذن: ما يزيد على هذه الأعضاء ففيه حكومة، فاليد إذا قطعت من الرسغ ففيها نصف الدية فإن زاد قطعت مثلاً من نصف الساعد أو من العضد ففي هذا الزائد حكومة.
الرجل إلى الكعب، فإذا زاد على الكعب ففيه حكومة كما تقدم.
"فصل"
قال: [ في كل حاسة دية كاملة وهي السمع والبصر والشم والذوق].
فإذا ضربه مع رأسه فأذهب سمعه أو بصره فإنه تجب دية كاملة.
وكذا إذا اذهب شمّه أو ذوقه.
قال: [ وكذا في الكلام و العقل ومنفعة المشي والأكل والنكاح وعدم استمساك البول والغائط].
فكلها فيها دية كاملة.
فإن جمعها ففي كل واحدة دية، ففي مصنف ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، أن رجلاً ضرب رجلاً فمذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه فقضى عمر عليه بأربع ديات، وهو حي فهذه أربع ديات، للسمع دية وللبصر دية وللعقل دية وللنكاح دية.
قال: [ وفي كل واحد من الشعور الأربعة الدية، وهي شعر الرأس واللحية، والحاجبين وأهداب العينين].
ففي كل واحد من الشعور الدية.
فإذا اعتدى عليه فاذهب شعر رأسه والمراد حيث لم يرجع شعره، وكذلك إذا حلق لحية غيره ولم ترجع كأن يعطيه دواءً فيذهب اللحية فلا ترجع فحينئذ ففيه دية كاملة.(26/42)
وكذلك في الحاجبين: في كل حاجب نصف الدية وكذلك أهداب العينين، في كل هدب ربعها، وفي العينين أربعة أهداب.
إذن هذه الشعور فيها الدية كما ذكره المؤلف هنا وهو المشهور في المذهب.
وعند ابن المنذر وضعفه أن زيد بن ثابت قال: " في الشعر الدية".
والقول الثاني في المسألة: هو مذهب الشافعية والمالكية، أنه ليس فيه دية وهو القول الراجح أما الأثر فضعيف.
وأما الدليل على هذا القول: فهو أن الأصل في مال المسلم العصمة ولا نص ولا إجماع ولا قياس يدل على ما ذكره الحنابلة.
وعليه: فلو اعتدى على لحيته أو شعر رأسه ففيه حكومة وليس فيه دية.
ولا شك أنها لا تصل إلى المنافع التي تقدم ذكرها.
فإنها أي هذه الشعور - جمال – وليست بمنفعة تشبه منفعة السمع والبصر، فلا يقال إنها تقاس على السمع والبصر
قال: [ فإن عاد فنبت سقط موجبه ].
فإذا عاد الشعر فنبت سقط موجبه وهي الدية المذكورة فإن كان أخذ شيئاً من الدية فإنه يعيده.
وعليه: فإنه إذا كان يرجى عود هذا الشعر أو هذا السن، فإنه لا يعطى الدية.
قال: [ وفي عين الأعور الدية كاملة ].
لأنه قد أذهب عليه حاسة البصر.
قال: [ وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمداً فعليه دية كاملة ولا قصاص].
إذا قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه عمداً.
وقال (المماثلة) لأنه لا قصاص إلا مع المماثلة فعليه دية كاملة ولا قصاص.
أما كونه لا قصاص فظاهر وذلك لأنا إذا اقتصصنا منه أذهبنا بصره كله وحينئذ فيكون في استيعاب القصاص أكبر اعتداء، فالقصاص يفضي إلى استيفاء حاسة البصر وعليه دية كاملة، تغليظاً للدية لأنه متعمد، ومع التعمد تغلّظ الدية وهو قول عمر وعثمان كما في مصنف عبد الرزاق بإسناد صحيح عنهما.
فإذا أذهب الأعور عيني الصحيح كلتيهما فما الحكم؟
الجواب: أنه يقتص منه لأنه لا جور حينئذ لأنه أذهب حاسة البصر عند الآخر.
وهل عليه دية مع القصاص؟(26/43)
الجواب: ذمته نصف الدية مقابل العين الأخرى لأنه فقع عليه عينين اثنتين، وعليه فعليه مع القصاص نصف دية وأما إذا لم يقتص فعليه دية كاملة.
مسألة:
إذا أذهب بعض حاسة البصر أو بعض حاسة السمع أو نحو ذلك فما الحكم؟
له حالتان:
الحالة الأولى: أن يمكن تقدير ما ذهب كأن يعلم أنه بقي له من حاسة البصر النصف.
ففي ذلك نصف الدية كالأصابع فيما تقدم حيث قلنا إنه إذا قطع أنملة ففيه ثلث عشر الدية.
الحالة الثانية: ألا يمكن التقدير.
ففيه حكومة: أي يقوم قبل هذه الجناية ويقوم بعدها والفارق هو الإرش.
قال: [ وفي قطع يد الأقطع نصف الدية كغيره ].
رجل قطع يد الأقطع هل فيه دية كاملة أم لا؟
قال هنا: فيه نصف الدية وتقدم أن الأعور فيه الدية كاملة.
فمثلاً: رجل ليس له إلا يد واحدة وهي اليمنى أو اليسرى أو ليس له إلا رجل واحدة وهي اليمنى أو رجل واحدة وهي اليسرى فقطعها متعمد أو مخطئ ففي ذلك نصف الدية.
قالوا: لأن هذا العضو لا يقوم مقام اليد اليمنى، واليد اليمنى لا تقوم مقام اليد اليسرى.
بخلاف العين فإنها تقوم مقام العين الأخرى فهو يبصر فيها كما لو كانت له عينان، هذا هو الفارق بينهما وهذا القول قد يكون فيه شيء من النظر على إطلاقه.
ولذا فعن الإمام أحمد: أن فيه الدية لا سيما أقطع اليد وكذلك أقطع الرجل مع النظر الطبي فإنه يمكنه المشي حيث يوضع له شيء يتكئ عليه فيمشي، فحينئذ تقوم هذه مقام الرجل.
وهذا القول أظهر، فإن هذه اليد وإن كانت لا تغني غناء كاملاً عن الأخرى لذلك الرجل لكنها تقوم له بالمشي بمساعدة الأخرى له.
واليد ظاهر قيامها مقام الأخرى بالأكل والشرب والأخذ والإعطاء ونحو ذلك.
ولذا فالذي يرجح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه أن اليد إذا قطعت من الأقطع، والرجل إذا قطعت من الأقطع فإن الدية كاملة تجب.(26/44)
[ كغيره ]: أي كغيره من الأعضاء أو كغير الأقطع ممن له تلف في العضو الذي في الجسم منه عضوان فهو كغيره كما لو قطعت أحد أذنيه فكذلك.
مسألة:
أنه ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وهذا لفظ أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وإذا جدعت أرنبته وهي طرف الأنف فنصف العقل خمسون من الإبل ).
والحديث من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولم أقف على قائل بهذا إلا ما نقله الخطابي عن ابن المنذر وأنه حكى هذا القول في الاختلاف ولم يعزه إلى قائل.
وذكر الحديث ابن القيم في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم بشيء فظاهر الحديث أن في أرنبة الأنف نصف الدية وفي ذلك قوة من حيث النظر وذلك لأن الدية في الأنف لأنه جمال الأنف وفي الأرنبة أعظم جمال الوجه فلا يبعد أن يقال هذا مع صحة الحديث الوارد.
المسألة الثانية:
اليد الشلاء إذا قطعت فإن فيها حكومة، كما هو مذهب جمهور العلماء وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد.
والرواية الثانية: أن في اليد الشلاء أو في السن السوداء وفي العين القائمة السادة محلها، أن في ذلك كله ثلث ديتها فاليد الشلاء فيها ثلث دية اليد الصحيحة، وهذا هو القول الراجح، ودليله: ما ثبت في سنن أبي داود وبإسناد حسن من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في العين القائمة السادة مكانها بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السنن السوداء إذا قلعت بثلث ديتها ).
"باب الشجاج وكسر العظام"
الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
فعلى ذلك الجرح في بقية اليدين لا يسمى شجةً.
[ وهي عشرة ].
فالجروح التي تكون في الرأس والوجه عشر.
[ الحارصة: التي تخر من الجلد أي تشقه قليلاً ولا تدميه].
فهي تشق الجلد قليلاً لكن لا يخرج مع ذلك دم، وهذه فيها حكومة وليس فيها دية مقدرة عن الشرع.
[ ثم البازلة وهي الدامية].(26/45)
البازلة فهي دامية أي تخرج الدم وهو دم يسير لذا قال الدامية، فهي تخرج دماً يسيراً ويقال دامعة تمثيلاً بالدمع لأن الدمع يسير فكذلك هذا الدم دم يسير وليس المراد من ذلك أنها تدمع صاحبها، أي تبكيه.
[ ثم الباضعة: وهي التي تبضع اللحم].
أي تشق اللحم.
[ ثم المتلاحمة: وهي الغائصة في اللحم ].
أي تدخل وتخترق اللحم.
[ ثم السمحاق وهي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة]
فهي لم تصل إلى العظم بعد، لكنه كادت فليس بين هذا الجرح وبين هذا العظم إلا شيء يسير.
[ فهذه الخمس لا مقدر فيها بل حكومة ].
فهذه الخمس لا مقدر فيها شرعا فإنه لم يثبت ذلك عن الشارع بل فيها حكومة، وسيأتي الكلام عن الحكومة.
[ وفي الموضحة: وهي ما توضح العظم وتبرزه ].
الموضحة: هي ما توضح، كذا قال: والصواب ما توضح العظمة كما قال الشارح.
إذن هي جرحت وبرز العظم ولو كان البارز شيئاً بعيداً كالإبرة.
[ خمسة أبعره].
فالموضحة فيها خمسة أبعره.
ودليل ذلك ما ثبت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( دية الموضحة خمس من الإبل).
وتقدم الكلام على حديث عمرو بن حزم.
[ ثم الهاشمة: وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة].
قضى بذلك زيد بن ثابت كما في مصنف عبد الرزاق فالهاشمة تبرز العظم وتهشمه.
فإذا هشمته ولم توضحه فهذه فيها حكومة.
[ ثم المنقّلة "بتشديد القاف مع الكسر" وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها، وفيها خمسة عشر من الإبل].
ودليل ذلك ما ثبت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( وفي المنقّلة خمسة عشر من الإبل).
[ وفي كل واحدة من المأمومة].
المأمومة: هي التي تصل إلى أم الدماغ وليس بينها وبين أم الدماغ إلا جلده رقيقة وهي التي تحيط بالدماغ.
[ والدامغة].
فالدامغة تخترق هذه الجلدة الرقيقة التي تحيط بالدماغ.
[ ثلث الدية].
ففي المأمومة والدامغة ثلث الدية.(26/46)
ودليل ذلك حديث عمرو بن حزم وفيه، (وفي المأمومة ثلث الدية).
والدامغة لم يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن ذلك من باب قياس الأولى فإذا ثبت هذا في المأمومة ففي الدامغة من باب أولى لأنها أشد.
وقيل بل فيها أي الدامغة: ثلث الدية مع حكومة، وهذا أظهر لأنها زائدة بسبب خرق هذا الجلد الرقيق.
[ وفي الجائفة ثلث الدية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف].
فالجائفة هي التي تصل إلى الجوف، من البطن أو الظهر أو الحلق أو من غير ذلك، فهذه فيها ثلث الدية:
ودليل ذلك حديث عمرو بن حزم وفيه (وفي الجائفة ثلث الدية).
فإن دخلت من موضع وخرجت من موضع آخر كالسهم يدخل من جهة ويخرج من جهة أخرى فجائفتان.
كما أنه إذا جرحه من الرأس ثم امتد هذا الجرح حتى وصل إلى الوجه ففيه موضحتان لأنهما عضوان فالرأس عضو والوجه عضو.
قال: [ وفي الضِلَع وكل واحدة من الترقوتين بعير].
الضلع: وهو ما نسميه بالضلْع وقد حكى بتسكين اللام والمشهور هو الفتح (الضلَع).
والترقوة: هو العظم المستدير الذي يكون عند الحلق ففي كل واحد من الترقوتين وكل ضلع بعير كما صح ذلك عن عمر كما في موطأ مالك أنه قال في كل بعير وترقوة بعير.
قال: [ وفي كسر الذراع وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد، والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيماً بعيران].
فإذا كسر الذراع فجبر مستقيماً ففيه بعيران.
وإذا كسر الفخذ فجبر مستقيماً ففيه بعيران.
وإذا كسر الزند فجبر مستقيماً ففيه بعيران وكذلك في الساق.
وقد ورد عن عمر عن ابن أبي شيبه: أن في الزند بعيرين.
أما إذا جبر غير مستقيم ففيه مع البعيرين حكومة لأنه حصل عدم استقامة ففي ذلك تشويه وفي ذلك ضرر ولذا فإنا نوجب حكومة مع البعيرين.(26/47)
وهنا فرق بين السن والشعر، وبين ما ذكره المؤلف هنا من كسر الذراع، والضلع ومن الجائفة ونحو ذلك، فإن من كسر عضده ثم عاد سليماً، أو أجيف ثم شفي ونحو ذلك فإن الدية ثابتة بخلاف الشعر والسن لأن السن والشعر تتجدد وهي منفصلة لذا فإنا لا نوجب دية بخلاف ما يكون من الجراح كالجائفة وبخلاف ما يكون من كسر العظام أو نحو ذلك.
أما الشعر والسن إذا عاد فإنه يسقط موجبه أما الذراع والجائفة ونحوهما فإنه إذا أعاد لا يسقط موجبه.
قال: [ وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة].
ما سوى ما ذكره المؤلف هنا في الجروح وكسر العظام ففيه حكومة لعدم التقدير الشرعي.
قال: [ والحكومة: أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص عن القيمة فله مثل نسبته من الدية].
فمثلاً قومناه عبداً لا جناية به فأصبح يساوي مائة ألف ثم قومناه عبداً فيه جناية قد برأت فأصبح يساوي بما بين ألفاً.
فالفارق عشرون ألفاً، ونسبه العشرين ألفاً إلى المائة الخمس.
وعليه فالواجب خمس الدية، فإذا كان مسلماً فعشرون من الإبل وإن كان كتابياً فعشر من الإبل.
والفائدة من النظر في النسبة هو التفريق بين الناس في الدية لأنه إذا لم تنظر إلى النسبة فالفارق عشرون ألفاً فتجب للمسلم وللمرأة وللكتابي، فلا يفرق بين هؤلاء ومن هنا فلا بد من النظر إلى النسبة.
مسألة:
إذا لم ينقص منه شيء بعد الجناية، كأن تقطع اصبعه الزائدة فما الحكم؟
أو كانت هذه الجناية زادته حسناً فما الحكم أيضاً؟
الجواب: لا شيء في ذلك لكن فيه تعزير.
فإن كان أثناء جريان الدم قد نقص لكن بعد انقطاعه لم ينقص من قيمته شيء فهل نعلق الحكم بجريان الدم؟
المشهور في المذهب نعم.
واختار الموفق أنه لا يعلق به ذلك لأن ذلك لا يثبت فهو نقص ليس بثابت.
وهذا هو الراجح في هذه المسألة.
وعليه فلا شيء في ذلك بل فيه التعزير.(26/48)
قال: [ كأن كان قيمته عبداً سليماً ستين، وقيمته بالجناية خمسين ففيه سدس الدية].
لأن العشرة نسبتها إلى الستين السدس.
قال: [ إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدر فلا يبلغ بها المقدر]
فمثلاً في الخارصة هذه ليست فيها تقدير شرعي فلو قومناه وبه خارصة قد برأت فأصبح يساوي ثمانين وبلا خارصة يساوي مائة، فالفارق بينهما بنسبة الخمس وخمس الدية عشرون من الإبل، إذن زادت كثيراً على الموضحة لأن الموضحة خمس من الإبل.
فلا يمكن أن يبلغ بها المقدر، لأن الشارع أثبت هذا في المقدر وهو أعلى فلا يمكن أن يثبت هذا في الأدنى فإنه أدنى منه.
كما سيأتي في باب التعزيز، فلا يمكن أن نعزر من لم يزن بأكثر من مائة جلدة، فكذلك هنا.
تقدم الكلام على ديات الشجاج وتقدم ما ذكره الحنابلة من أن في الشجاج الخمس التي دون الموضحة أن فيها حكومة.
وهذا هو مذهب أكثر الفقهاء
وقال الشافعية، وممن قرره من الفقهاء المتأخرين من الحنابلة الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، وهو نحو قول القاضي من الحنابلة.
قالوا: ينظر إلى نسبة هذه الشجة إلى الموضحة إن أمكن ذلك.
فإنه في كثير من الأحوال لا يمكن ذلك لأنا نحتاج إلى أن يكون في الرجل نفسه موضحه في الغالب حتى نقدر نسبة هذه الشجة إلى موضحته.
فإن كانت نسبة هذه الشجة إلى الموضحة الثلث ففي ذلك ثلث دية الموضحة.
أما القاضي فقال: يحكم بالأكثر منهما، فينظر هل الأكثر الحكومة أو ما ذكره الشافعية هنا ثم نحكم بالأكثر منهما.
وعن الإمام أحمد رواية وهي: أن الواجب في البازلة بعيراً والواجب في الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة، فقد قدرت هذه الأربعة ولم تقدر الشجة الأولى وهي الخارصة.
وهذا أصح الأقوال لأن فيه أثراً ثابتاً عن زيد بن ثابت رواه البيهقي وهو أثر صحيح عنه.
وقد أشار إلى ضعفه البيهقي ب"محمد بن راشد المكحولي" وهو ثقة، فتضعيف البيهقي لا وجه له.(26/49)
هذا هو أصح الأقوال وأنا نقدرها بالتقدير الثابت عن زيد بن ثابت.
وأما الخارصة: فإننا نحكم بالعدل، فإن أمكنت النسبة وكانت أعدل من الحكومة فإنا نحكم بها وإلا فإنا نحكم بالحكومة.
والمقصود هو العدل في هذه الأبواب إلا أن يرد أثر فيحكم بالأثر.
(باب العاقلة وما تحمله)
العاقل: من العقل وهي الدية، وسميت الدية عقلاً لأن الإبل تعقل أي يوضع الحبل في رجلها فتربط فلما كانت الدية في الأصل هي الإبل سميت الدية عقلاً.
قال: [ عاقلة الإنسان: عصبته كلهم].
فهم عصابته الذكور كلهم وهذا بالإجماع، أما ذوو الأرحام فليسوا من العاقلة وهذا باتفاق أهل العلم.
ووجه شيخ الإسلام أن ذوي الأرحام يكونون من العاقلة إن عدمت العصبة وفيه قوة.
وهذا كما ذكر رحمه الله بناءً على القول بوجوب النفقة عليهم وتقدم تقرير وجوب النفقة عليهم.
قال: [ من النسب والولاء قريبهم وبعيدهم].
قريبهم: كالأخ.
وبعيدهم: كابن ابن ابن العم.
وكذلك الحاضر منهم والغائب، وخالف مالك في الغائب لأن التحمل بالنصرة ولأن فيه مشقة.
قال: [ حتى عمودي نسبه].
أي الآباء والأبناء، فهم من العاقلة.
وهذا هو مذهب المالكية والأحناف والمشهور في مذهب الحنابلة واستدلوا بعمومات الأدلة.
فمن ذلك ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة من كانوا، ولا يرثون منها شيئاً إلا ما فضل عن ورثتها).
والشاهد قوله "على عصبة القاتلة" وهذا عام وغير ذلك من الأحاديث التي فيها ذكر العصبة، والآباء والأبناء من العصبة.
وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد، أن الآباء والأبناء ليسوا من العاقلة.
واستدلوا: بما روي في أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????بّرأ زوجها وولدها??أي من العقل.
وللحديث المتقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -??قال????ولا يرثون منه شيئاً إلا ما فضل?عن ورثتها?(26/50)
والحديث الذي رواه أبو داود ?أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?برّأ زوجها وولدها??فيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
وحديث عمرو بن شعيب ليس صريحاً في ذلك، فقد أوجبها على العصبة، ثم العصبة في الغالب ليسوا ممن يرث فبين النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن هذا العقل منهم لا يقتضي إرثهم إلا ما دل الدليل الشرعي على توريثه.
???والمعنى يدل على هذا: إذ لا يناسب أن توجب على الأباعد ولا تجب على الأب والإبن.
ويحتمل أن يجاب عن هذا فيقال: إنا إذا أوجبناها على الأب والابن فقد يتحملها القاتل نفسه، والمقصود منه المواساة فإذا أوجبنا على الأب فإن ذلك يشق على الابن القاتل فلم يكتمل في ذلك معنى المواساة.
وإذا أوجبناها على الابن فإن مال الابن مالُ لأبيه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -??أنت ومالك لأبيك??
والقولان متجاذبان
وقال بعض أهل العلم، وهو قول في المذهب، تجب على الجاني نفسه، فالجاني نفسه يكون له من ذلك نصيب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن?سعدي، وظاهر الحديث عدم وجوب ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوجب ذلك على العصبة، وظاهره أنه لا يجب على القاتل شيء وقال الشيخ السعدي: أنه لا يناسب أن يوجب ذلك على العصبة ولا يجب ذلك على الجاني.
وهذا وإن كان فيه قسوة من حيث النظر لكن ظاهر الحديث يخالفه.
فالأظهر أنها تجب على العصبة، وأما وجوبها على الآباء والأبناء، فذلك موضع تردد والأصل في المال العصمة.
ولذا: فيقوى ما ذهب إليه الشافعية، فإن الأصل في المال العاصمة فقد أوجبه النبي - صلى الله عليه وسلم -?على العصبة وورد ما يقوي عدم وجوبه على الآباء والأبناء.
وحيث كان الأصل مع هذا القول ففيه قوة لأن الأصل عصمة مال الابن وعصمة مال الأب إلا أن يأتي دليل يدل على وجوب إخراج شيء من ماله، وليس عندنا دليل ظاهر في ذلك فعلى هذا يقوى ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: [ ولا عقل على رقيق].(26/51)
????فالرقيق لا عقل عليه، وذلك لأن الرقيق لا يملك فلم يكن من أهل المواساة.
قال: [ وغير مكلف].
????سواء كان مجنوناً أو صبياً، فلا يجب العقل في مالهما وذلك لأنهما ليسا من أهل النصرة وهذا هو مذهب جماهير العلماء.
قال: [ ولا فقير].
???لأن الفقير ليس من أهل المواساة فلم تجب عليه.
قال: [ ولا أنثى].
????لأنها ليست بعصبة، وقد أوجبها النبي - صلى الله عليه وسلم -?على العصبة ولأنها ليست من أهل النصرة.
قال: [ ولا مخالف لدين الجاني].
???فإذا كان الجاني مسلماً وكان من عصبته من هو يهودي أو نصراني أو العكس فلا عقل عليه وذلك لأنه ليس من أهل النصرة.
فإذا كانت العاقلة معدومة أو كانوا فقراء فيجب العقل في بيت المال لما ثبت في الصحيحين في قصة قتيل خيبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?فداه بمائةٍ من إبل الصدقة).
فإن لم يقم بيت المال بذلك فلم يتحمله.
سقطت في المشهور في المذهب فلا يجب لأولياء المقتول شيء وكذلك المجني عليه لا يجب عليه شيء فتسقط.
قالوا: لأنها واجبة على العاقلة، فالشارع أوجبها على العاقلة وقد عجزوا فسقطت فلا تجب على القاتل.
والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو وجه ذكره بعض الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام: أنها تجب.
قالوا: لأن الأصل أن الضمان يجب عليه لأنه هو الجاني ولأن الدية قيمة متلفه وأوجبت على العاقلة تخفيضاً ومواساة، وحيث لم تكن هناك عاقلة أو عجزت العاقلة فإنا نرجع إلى الأصل فنوجبهاً على الجاني.
وقد قال تعالى: ???فدية مسلمة إلى أهله))?فأوجب الله الدية لهم فلا بد أن تصل إليهم سواء من طريق العاقلة أو من بيت المال أو من القاتل نفسه.
وهذا هو القول الراجح، لأن هذا قيمة متلفه والأصل في الضمان أن يكون في مال الجاني، فأوجب تخفيفاً على العاقلة فحيث لا عاقلة نعود إلى الأصل فنوجبه على الجاني.(26/52)
فإذا كان الجاني كافراً فإنها تجب عليه نفسه، إن لم تكن له عاقلة في المشهور من المذهب وهو ظاهر على القول الذي تقدم ترجيحه ولا تجب في بيت المال لأن بيت المال لا يعقل عن الكفار فهو بيت مختص بالمسلمين.
والعاقلة يوجبها الحاكم ولا يشق على العصبة، فينظر إلى ما يستطيعون فيوجبها على العصبة من غير أن يشق عليهم، لأنها إنما وجبت على جهة المواساة فلم يناسب أن يجحف.
والمشهور في المذهب: أنها تجب على الأقرب فالأقرب، فإذا كان له اخوة وأعمام، فإنا نوجب الدية على أخوته ونقسمها على ثلاث سنين كما تقدم، على حسب ما يناسبهم بحيث لا نشق عليهم، ولا نوجبها على عمومته.
??قالوا: قياساً على الإرث وولاية النكاح.
وقال الأحناف: بل تجب على جميع العصبة الأقارب والأباعد ولو أمكن أن يتحملها أقاربه.
قالوا: لظاهر الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوجبها على عصبة القاتل فظاهر هذا أنها تجب على جميعهم.
وهذا هو القول الراجح لظاهر الحديث.
وأما الجواب عما ذكره الحنابلة، فإننا نقول ثمت فارق بين أولياء النكاح والإرث وبين العاقلة.
والفرق أن العاقلة من المناسب أن يتحمل ذلك الجميع لأن في ذلك مصلحة لأن في ذلك تخفيفاً.
وأما ولاية النكاح فإنه لا يناسب فيها أن يكون العصبة كلهم أولياء لأن في ذلك ضرراً في المرأة.
وفي الإرث كذلك: لأن حينئذ يكون النفع من المال قليلاً فإذا أكثرنا الورثة كان النفع قليلاً حتى أنه لا يكاد يستفيد منه الورثة.
قال: [ ولا تحمل العاقلة عمداً محضاً].
????إذا قتل عمداً، أو قطع طرفاً عمداً، أو جرح عمداً، فلا تجب على العاقلة من ذلك شيء.
يدل على هذا ما روى البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: ( لا تحمل العاقلة عمداً ولا صلحاً ولا اعترافاً?ولا ما جنى المملوك).
وقوله: "ولا ما جنى المملوك" أي ما جني على المملوك كما فسره الأصمعي وابن أبي ليلى وأبو عبيد ولم أر مخالفاً لهذا التفسير.(26/53)
والنظر يدل على هذا لأنا إنما أوجبناه على العاقلة في الخطأ وشبه العمد، تخفيفاً والمتعمد لا يناسب التخفيف عليه.
قال:???ولا عبداً ].
????إذا قتل عبداً أو جنى على عبد فإنا لا نوجب على العاقلة شيء وذلك للأثر المتقدم.
ووجهه من حيث النظر أن العبد مالُ فيجري مجرى المال، فلو تعمد الرجل فقتل بهائم أو غير متعمد فكما لو جنى على شيء من الأموال الأخرى،
وعلى ذلك فالعاقلة لا يتحمل?شيئاً بذلك فكذلك إذا جنى على العبد مخطئاً أو شبه عمد.
قال: [ ولا صلحاً]
إذا ادعى على رجل أنه قتل رجلاً، وهو ينكر ذلك فقيل له، احلف، فقال: أنا لا أحلف ولكن اطلبوا ما شئتم من المال فقالوا: تريد كذا من المال، واطلبوا منه قدر الدية.
فهذا لا تتحمله العاقلة: وذلك لأنه وجب من قبل نفسه وكان يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه باليمين.
قال: [ ولا اعترافاً لم تصدقه به].
???فإذا ذهب رجل إلى القاضي واعترف أنه قتل رجلاً خطأً فتجب عليه الدية لكن العاقلة لا تتحمل ذلك إذا كانت لم تصدقه به.
لما تقدم من أثر ابن عباس.
ولأنه يمكن أن?يتواطأ على ذلك هو وأولياء المقتول يوجبون ذلك على العاقلة.
لكن: إن صدقته العاقلة بهذا الإقرار فيجب عليهم ذلك.
قال: [ ولا ما دون ثلث الدية التامة].
??الدية التامة هي دية الذكر المسلم وهي مائة من الإبل فإذا وجب عليه الدية أقل من ثلث الدية التامة فإن العاقلة لا تتحمل ذلك.
فإذا وجبت دية الموضحة أو دية المنقلة فإنها لا يتحملها العاقلة.
أما إذا وجبت عليه دية لممون فإن العاقلة يتحملها إن كانت دية مسلم ذكر.
لكن لو كانت المأمومة من كتابي أو امرأة ولو كانت مسلمة فإنها لا تتحملها العاقلة وذلك لأنها أقل من ثلث الدية?التامة.
واستدلوا: بأثر ونظر.
أما الأثر: مما ذكروه عن عمر أنه قضى بذلك.(26/54)
قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل: لم أقف عليه وكذلك قال المعلقان على كتاب المغني ينظر في كتاب التكميل للشيخ صالح ولم يعزُ هذا الأثر من ذكره من الحنابلة.
وأما النظر: فقالوا: الأصل أن?المال يجب على الجاني وهذا هو قيمة متلفه، فإذا كان ثلث الدية التامة فاكثر فإنه يجب على العاقلة لأن الثلث كثير يُجحف به فقد قال- صلى الله عليه وسلم -??الثلث والثلث كثير).
وأما إذا كان دون الثلث، فإنا نوجبه عليه هو واستثنوا من ذلك مسألة يورد دليلها عليهم وهذه المسألة: هي دية الجنين إذا مات مع أمه أو بعدها والجناية واحدة.
??واستدلوا: بالحديث المتفق عليه فإن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قد أوجب دية الجنين وهي عزة عبد أو أمة أوجبها على العاقلة وهي أقل من الثلث.
فقالوا: كان تبعاً لأمه لأن الجناية واحدة، هذا إذا كان معها أو بعدها.
وأما إذا كان قبلها فإنها تجب على الجاني نفسه.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعية أن العاقلة تتحمل دية الخطأ وشبه العمد سواء كانت الثلث فأكثر أو كانت أقل من الثلث.
قالوا: لأن ما تحمل الكثير فإنه يتحمل القليل.
وهو فيما يظهر لي أقوى.
وذلك للحديث المتفق عليه أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?أوجب دية الجنين على العاقلة، وهي أقل من الثلث.
وما ذكر الحنابلة ليس بمؤثر فإنه يمكن أن تفصل، فتجعل دية الجنين عليها ودية المقتولة الأم على العاقلة.
فالأظهر أن الدية يتحملها العاقلة مطلقاً سواء كان ثلث فأكثر وكانت أقل من الثلث هذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعية.
"فصل"
????هذا الفصل في كفارة قتل الخطأ وشبه العمد
قال تعالى: (( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلى أن قال??فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)).
قال رحمه الله: [ ومن قتل نفساً محرمةً خطأً مباشرة?أو تسبباً بغير حق فعليه الكفارة].(26/55)
???من قتل نفساً معصومة ذكراً كانت أو أنثى، حراً أو عبداً صغيراً أو كبيراً ولو جنينا مسلماً أو ذمياً أو مستأمناً فيجب في ذلك الكفارة.
?قال تعالى: (( وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة))?
سواء كان متسبباً أو مباشراً، وسواء كان منفرداً بالجناية أو مشاركاً فتجب عليه الكفارة.
وظاهره: ولو نفسه، وهو المشهور في المذهب لعموم قوله تعالى: ???ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة????فيدخل في هذا العموم قاتل نفسه.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد وقول الموفق واختاره الشيخ السعدي: أن قاتل نفسه ليس عليه كفارة أي لا يخرج من ماله وهذا هو القول الراجح.
ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين، أن عامر بن الأكوع رجع عليه سبعة فقتل نفسه، فلم يوجب النبي- صلى الله عليه وسلم -?الكفارة في ماله).
وأما الآية: فسياقها فيمن قتل غيره بدليل قوله تعالى (فدية مسلمة إلى أهله).
والكفارة: تحرير رقبة فإن لم يجد رقبة فصيام شهرين متتابعين للآية المتقدمة.
وتقدم الكلام في باب الظهار، تقدم الكلام على تحرير الرقبة وصيام الشهرين المتتابعين.
فإن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين.
فالمشهور في المذهب أنها تسقط.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد أنها لا تسقط.
وينبني هذا الفرع على مسألة أصولية وهي هل يصح القياس في باب الكفارات أم لا؟
وأصح قولي العلماء صحة القياس فيها لأنها معقولة المعنى.
وعليه: فتقاس كفارة القتل على كفارة الظهار وكفارة المجامع في نهار رمضان.
والصحيح أنها لا تسقط بل إن لم يستطع أن يصوم شهرين متتابعين فإنه يطعم ستين مسكيناً.
" باب القسامة "
???القسامة: من أقسم يقسم قسماً وقسامةً، فالقسامة اسم للقسم هذا لغةً: والقسم معروف وهو الحلف.
وأما في الاصطلاح فعرفها المؤلف بقوله: ??وهي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم].
??سواء كان المعصوم مسلماً أو كافراً.(26/56)
والأصل في القسامة ما ثبت في الصحيحين عن سهل بن أبي حثمة عن رجال من كبراء قومه، أن عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في?عين فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيصة ليتكلم فقال رسو الله- صلى الله عليه وسلم -???إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب)?فكتب إليهم في ذلك فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم" قالوا: لا قال فيحلف لكم يهود" قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -??من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة).
وفي صحيح مسلم: أن النبي- صلى الله عليه وسلم -??أقرّ القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية).
وقوله في دعوى قتل معصوم: سواء كان القتل له أثر كأن يكون ملطخاً بالدم أم لم يكن له أثر وذلك لأنه يحتمل أن يقتل خنقاً أو نحو ذلك.
ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يستفصل الأنصار لما أدعوا على اليهود لم يستفصل أوجدوه ملطخاً بالدماء أم لا، فدل على أنه لا يشترط أن يكون هناك أثر للقتل وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: [ ومن شرطها اللوث وهي العداوة، الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر].
?????فمن شرطها العداوة الظاهرة وليست الباطنة كالأحقاد ونحوها التي تكون بين الأسر أو بين الطوائف أو الأشخاص.
بل من شرطها العداوة الظاهرة كالقبائل التي يطلب بعضها بعضاً بالثأر.
هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.
??وقال الشافعية: بل متى ما ترجحت صحة الدعوى أي هناك قرائن تدل على صحة الدعوى فهي لوث فثبت به القسامة واختار هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو رواية عن الإمام أحمد.
بمعنى يكفي في إثبات القسامة ترجح صحة الدعوى وإن لم تكن العداوة ظاهرة.(26/57)
كأن يتفرق جماعة عن قتيل أي ازدحموا فأنفض هذا الازدحام وهناك قتيل.
فإن أدعى أولياء المقتول على أحدٍ ممن حضر فإن هذه قرينة تقوي صحة دعواه.
أو كان عند المقتول رجل معه سيف أو سلاح ونحو ذلك فهذه قرينة تقوي.
أو شهد نساء أو صبيان، وشهادة النساء والصبيان لا تقبل هنا لكنها تكون قرينة قوية، لا سيما إذا تبين أنهم لن يتواطؤا على ذلك، فحينئذ يكون لوثاً تثبت به القسامة ولا نقول يثبت معه القتل لأنها ليست بينة.
وهذا القول هو الراجح وإن هذا الحكم ليس خاصاً بما ذكره الحنابلة بل يثبت بكل ما ترجحت معه صحة الدعوى.
وعلى هذين القولين ينبني فرع: وهو أن يقال، هل تثبت القسامة في الخطأ وشبه العمد كما تثبت في العمد أم لا؟
فعلى قول الحنابلة: لا تثبت إلا في العمد لأنهم اشترطوا العداوة الظاهرة، والعداوة الظاهرة ينتج منها قتل عمدٍ لا قتل شبه عمد أو خطأ.
ولذا فإن المشهور في مذهب أحمد أن القسامة لا تثبت في شبه العمد والخطأ.
وعلى قول الشافعية تثبت في الخطأ وشبه العمد لأنه متى ترجحت القرينة التي تقوي أنه قد قتل فإن القسامة تثبت سواء كان قتل عمد أو خطأ أو شبه عمد.
وتقدم ترجيح قول الشافعية وهذا الفرع ينبني عليه فهو الراجح.
والقسامة باتفاق العلماء مختصة بالنفس، أما ما دون النفس من الأطراف والجراح فلا قسامة فيها.
قال: [ فمن أدعى عليه القتل من غير لوث حلف يميناً واحدة وبرئ].
رجل أدعى عليه أنه قد قتل فلاناً، فقال للمدعين وهل عندكم لوث قالوا: لا أو أدعوا ما ليس بلوث.
فحينئذ: يحلف يميناً واحدة ولا?شيء عليه.
هذا إذا كانت الدعوى توجب مالاً وذلك لأنه إذا نكل فقال لا أحلف فنوجب عليه الدية.
مثاله: لو أدعى على رجل قتل ذمي فإذا نكل فلا يثبت عليه قود لأن قتل الذمي لا قود فيه فنقول له احلف فإن حلف برئ، وإن لم يحلف فإنه تجب عليه الدية.
أما إذا كان يترتب عليه?قود:(26/58)
???فالمشهور في المذهب أنه لا يحلف، كأن يدعي عليه أنه قتل إنساناً مسلماً فلا نحلفه، وذلك لأنه إذا نكل عن اليمين فإنا لا نثبت القود بذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات إذن لا فائدة من تحليفه.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب، واختاره عبد الرحمن بن سعدي، أنه يحلف لعموم قوله- صلى الله عليه وسلم -???واليمين على المدعى عليه) يعني من أنكر وهذا منكر فتجب عليه اليمين?
والفائدة من هذه اليمين، أنه إذا نكل فهي تعتبر لوثا، فلا يقام عليه الحد بنكوله لكنه لوث فتثبت بها القسامة.
فحينئذ: اجتمعت دعوى المدعي، ونكول المدعى?عليه فكانت?هذه قرينة قوية على صحة الدعوى.
وهذا هو القول الراجح في المسألة.
مسألة:
???ويشترط في القسامة اتفاق أولياء المقتول فإن أثبت بعضهم الدعوى وأنكرها البعض الآخر فلا قسامة لأنا لو أثبتنا القسامة فيترتب عليها القود ولا يمكن القود مع اختلافهم لأن القصاص لا يتجزأ.
أما لو أثبته بعضهم ولم يثبته البعض الآخر لكنهم لم ينكروا بل قالوا لا ندري فهل تثبت القسامة أم لا؟
قولان لأهل العلم.
القول الأول: أنها لا تثبت لعدم اتفاقهم وهذا هو مذهب مالك ووجه في المذهب الحنبلي.
القول الثاني: أنها تثبت وهو مذهب الشافعية ووجه في مذهب الحنابلة.
والقول الراجح هو القول الثاني: وذلك لأن النبي- صلى الله عليه وسلم -?لم يشترط ذلك في حديث عبد الله بن سهل المتقدم، واكتفى بقوله عليه الصلاة والسلام ??يقسم خمسون منكم على رجل واحد منهم فتأخذونه برمته).
فلم يشترط النبي- صلى الله عليه وسلم -?أن تجمع على ذلك الأولياء.
مسألة:
????القسامة لا تصح?إلا على معين سواء كان فرداً أو جماعة لقول النبي- صلى الله عليه وسلم -?على رجل منهم.
فإن كانت على غير معين كأن تكون على رجل مبهم أو على رجلين من غير تعيين أو كانت على أهل بلدٍ لا يمكن حصرهم فإن القسامة لا تثبت.(26/59)
والمشهور في المذهب أنه يشترط أن يكون واحداً وأن القسامة لا تكون على أكثر من واحد.
وعن الإمام أحمد: أنها تثبت على الجماعة كما تثبت على الواحد هو الراجح في هذه المسألة.
لأن القسامة بينة تثبت بها الحد على النفس، فتثبت بها الحد على أكثر من نفس.
فإن كانت على جماعة وقلنا بثبوت القسامة فهل يثبت القود على الجماعة فيقتلون أم لا يثبت إلا الدية؟
قولان لأهل العلم:
الجمهور قالوا: بالدية، قالوا: لأن القسامة بينة ضعيفة فلم يثبت بها القود على أكثر من نفس.
مذهب الشافعية: أن القود يثبت بها على أكثر من نفس وهو القول الراجح في هذه المسألة.
???لأنها بينة قوية بدليل قتل النفس بها، وحيث يثبت بها قتل نفس فلا مانع أن يثبت بها قتل أكثر من نفس.
قال: [ ويبدأ بإيمان الرجال من ورثة الدم].
فيبدأ بالمدعي، وهم ورثة الدم فيحلفون أي الرجال، خمسين يميناً.
وأما النساء فلا دخل لهن في القسامة وكذلك الصبيان وهذا باتفاق العلماء.
أما الصبيان فقولهم ليس بحجة.
وأما?النساء فلقوله- صلى الله عليه وسلم -????يحلف خمسون منكم)?أي خمسون رجلاً.
وورثة الدم كالأخ والعم وان العم والابن والزوج.
قال: [ فيحلفون خمسين يميناً].
????تقسم بينهم على إرثهم من الميت، فتوضع مسألة للميت ثم تقسم هذه الأيمان بحسب إرثهم، فإذا كان له خمسة من الأبناء فعلى كل ابن عشرة أيمان.
والزوج إن لم يكن لها أولاد عليه قدر النصف من هذه الأيمان.
قالوا: ويجبر الكسر.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
واستدلوا: بقوله - صلى الله عليه وسلم -????أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم??
قالوا: والمستحق هم الورثة.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب مالك وفيه تفصيل ورواية عن أحمد أن الذي يحلف هم العصبة، الأقرب فالأقرب، ولابد أن يحلف خمسون رجلاً كل رجل يميناً واحداً.
فيبدأ بتوزيعه على أبنائه، ثم على إخوانه وبني إخوانه ثم أعمامه وهكذا، كما تقدم في ترتيب العصبة في الإرث.(26/60)
ويستدل على هذا القول: بما ثبت في الصحيحين في هذا الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم -?قال: ?يقسم خمسون منكم على رجل منهم فتأخذونه برمته).
وقال - صلى الله عليه وسلم -????فتبرؤكم يهود بأيمان خمسين منهم??
وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر الحديث، وبه يتم الاحتياط التام للدم.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -????اتحلفون وتستحقون دم صاحبكم)?فإن استحقاق الدم ليس مختصاً بالورثة.
نعم الورثة يستحقون إرثه لكن عصبته يستحقون ذلك لما في قلوبهم من الغيظ ولما يحتاجونه من التشفي من قتل موليهم.
ثم الحديث المتقدم نص ذلك.
وأما ما ورد في بعض الروايات من أنهم يقسمون خمسين يميناً فإن الخمسين يميناً تدخل في أقسام خمسين رجلاً ولا يدخل قسم خمسين رجلاً في خمسين يميناً.
ولا يقسم إلا من علم نسبه منه، أي علم أنه يتصل نسبه فعلاً عند فلان من أجداده.
وأما إذا كان لا يعلم اتصال نسبه كما يقع هذا في القبائل والتي لها عشائر كبيرة، فإنهم لا يعلمون متى يجتمعون في النسب كما لو كان قرشياً من قريش في هذا الوقت فإنهم لا يعلمون متى يكون اجتماع النسب القريب، فإنه لا يحلف ويدل على هذا أن الناس كلهم من أب واحد فيهم اتصال في النسب ومع ذلك لا أحد يقول إن أي رجل يقسم فلا بد أن يكون النسب معلوماً اتصاله كما قرر هذا الموفق ابن قدامة.
قال: [ فإن نكل الورثة أو كانوا نساءً حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ].
???فإذا نكل الورثة عن الحلف أو كانوا نساءً فإن المدعى عليه يحلف خمسين يميناً ويبرأ.
لقوله- صلى الله عليه وسلم -?لما قال لهم: ??أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم??قالوا: لا فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -???فيبرؤكم يهود بأيمان خمسين منهم).
فإن لم يرض الورثة بحلفه إما لفسقه أو لكفره أو نحو ذلك فتثبت ديته في بيت المال.
فإن نكلوا أي المدعى عليهم، عن الحلف فإنه تثبت الدية ولا يثبت القود لأن القود لا يثبت في النكول وإنما يثبت الدية.(26/61)
كتاب الديات
الديات : جمع دية .
والدية : هي المال المُؤدَّى إلى المجني عليه أو أوليائه بسبب الجناية .
متى يؤدي إلى المجني عليه ؟
إذا كان فيما دون النفس ، في قطع طرف ، كأن تقطع يده ، أو يُجرح وكان في ذلك الدية ، فإنها تؤدى إلى المجني عليه .
وأما إذا كان في النفس ، فإنها تؤدى إلى أوليائه .
قوله : [ كل من أتلف إنسان بمباشرة أو بسبب ، لزمته ديته ]
" بمباشرة " ، هذا واضح ، كأن يأخذ السيف ويضرب عنقه .
" أو سبب " كأن يطلق عليه سبُعاً مثلا ، فيقتله ، فيكون هو الذي تسبّب . فإما أن يكون بمباشرة أو بتسبُّب ، فليس هو الذي باشر ، بل باشر غيره ، كحيوان مفترس .
قال " إنسانا " فيدخل في ذلك الذمي والمستأمن ، يعني إنسانا معصوما ، ولذا قال تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلَّمة إلى أهل } ، إذاً الدية حتى في النفوس المعصومة التي ليست بمسلمة ، كالذمي والمستأمن ، فإن فيه الدية ، كما سيأتي إن شاء الله .
قوله : [ فإن كانت عمداً محضا ففي مال الجاني ]
إن كان الجناية عمدا محضا ، سواء كانت في النفس أو في الجراح أو في الأطراف ، فليست خطأ وليست شبه عمد ، بل هي عمد محض .
قال " ففي مال الجاني " فالدية تكون في مال الجاني ، فإذا لم يختر القود – القصاص - فتكون الدية في مال الجاني إجماعا ، لقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، فلا نوجبها على العاقلة ، وهم العصبة ، وإنما نوجبها على الجاني نفسه ، وفي أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا يجني جانٍ إلا على نفسه ، لا يجني والد على ولده ، ولا مولود على والده ) ، إذاً الجناية تكون على الجاني ، وهذا هو الأصل في ضمان المتلفات ، فالأصل في ضمان المتلفات أنه يكون على الجاني المُتلِف نفسه ، ولا يتحمّله غيره .
قوله : [ حالَّة ](27/1)
نقول له : الآن تدفع الدية ، فتكون حالة ، ليس فيها تأجيل ، وهذا هو الأصل في ضمان المتلفَات ، فالأصل في ضمان المتلفات الحلول لا التأجيل .
إذاً جناية العمد المحض ، تكون في مال الجاني ، سوى ما تقدم من الصبي والمجنون ، فإن عمد الصبي والمجنون خطأ ، فهنا إن كانت الجناية عمدا محضا ، فإنها في مال الجاني وتكون حالة .
قوله : [ وشبه العمد والخطأ على عاقلته ]
ويأتي إن شاء الله باب في العاقِلَة . فهنا لا تجب الدية على القاتل خطأ ولا شبه عمد ، ولا على من قطع طرفا خطأ أو شبه عمد ، ولا على من جرح خطأ أو شبه عمد ، إنما تجب على العاقلة ، وتقدم ما يدل على هذا وهو حديث الهُذَيْلية التي ضربت امرأة في بطنها فقتلتها وما في بطنها ، فقضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العاقلة " وهو حديث متفق عليه ، فهذا في شبه العمد ، والخطأ أولى .
إذاً جناية شبه العمد أو الخطأ تكون على العاقلة ، لكنها تكون مؤجّلة على ثلاث سنين باتفاق العلماء ، وفي ذلك أثران عن عمر وعلي رضي الله عنهما في البيهقي ، وإسناداهما في البيهقي ضعيفان ، لكن لا خلاف بين أهل العلم في ذلك ، والنظر يدل عليه ، لأنها وجبت على العاقلة لا على الجاني من باب التخفيف والمواساة ، فكان المناسب فيها هو التأجيل ، فتؤجّل على ذلك على ثلاث سنين .
ومتى يكون أول قِسْط ؟
يكون أول قسط في النفس حين الموت ، فاليوم الذي مات فيه يدفعون ثلث الدية ، فلو أصيب فعاش يوما أو يومين ثم مات ، فلا يكون الحساب من زمن الجناية ، وإنما من حين الموت ؛ لأن الدية استقرت بموته ، ثم إذا جاء نفس الوقت من السنة القادمة ، فيدفع القسط الثاني ، ثم القسط الثالث في مثله من السنة الثالثة .(27/2)
وأما في الأطراف والجراح ، فإن كان الجرح أو الطرف قد سرى ثم اندمل ، فمن حين اندماله ، فنبدأ من حين توقفت فيه سراية هذا الجرح أو سراية هذا الطرف . وأما إذا لم تسر الجناية ، فتكون من حين القطع . إذاً دية الخطأ وشبه العمد على العاقلة .
* فإن تعذّر أن يكون ذلك على العاقلة ، كأن لا يطبَّق هذا في بعض البلدان ، أو لا تكون له عاقلة ، فعلى من يكون ؟
مذهب الجمهور : أنه يكون على بيت المال .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أنه يكون على الجاني نفسه ، فنرجع الدية على الجاني نفسه ، لأنها إنما وجبت على عاقلته من باب التخفيف والمواساة له ، وإلا فإن الأصل أن ضمان المتلفات على المتلِف نفسه . وهذا القول هو الأرجح ، كما أنه أقوى في حفظ الحق وعدم ضياعه ، فنقول : إن كانت له عاقلة فعلى عاقلته ، فإن لم تكن له عاقلة ، فعليه هو ، لأن الأصل في ضمان المتلفات أن تكون على الجاني أو المتلِف نفسه .
قلنا إنها تؤجل ثلاث سنين ، لكن إن كانت المصلحة في دفعها حالّة ، فإنها تدفع حالة ولا تؤجل ، فإذا رأى القاضي أو السلطان أنها تدفع حالة ، فلتدفع حالة ، كما لو كان يخشى من فوات الحق وهروب من عليه الدية ، أو كان من عليهم الدية ، وهم العاقلة أغنياء ، وأولياء هذا المقتول فقراء . واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وقد نص على ذلك الإمام أحمد .
قوله : [ وإن غصب حُراًّ صغيرا ، فنهشته حية أو أصابته صاعقة … وجبت الدية ]
رجل غصب حرا صغيرا ابن عشر سنين ، ثم وضعه في حجرة ، وإن كان الحجرة مفتوحة الأبواب ، لكن المقصود أن يد هذا الغاصب عليه ، فنهشته حية أو أصابته صاعقة أو حصل له وباء في ذلك الموضع ، فتلف ، فعليه الدية ؛ لأنه متسبِّب ، فكل ما له ارتباط بالمحل الذي وضعه فيه ، حتى لو أخذه إلى داره وأصيبت هذه الدار بصاعقة أو أتاها سبع أو نحو ذلك ، فتلف هذا المُغتصَب ، فإن عليه الضمان ، لأنه هو المتسبب .(27/3)
قوله : [ أو مات بمرض ]
إذا مات بمرض ، هكذا قُدِّر عليه ، لا ارتباط له بالمَحلِّ .
اغتصبه – يعني سرقه - ، ثم إن هذا الصبي أو الصبية أتاه مرض ، هذا المرض لا ارتباط له بالمحل الذي وضع فيه ، فهنا قالوا أيضا : عليه الضمان .
وهذا أحد القولين في المذهب .
وأما المشهور في المذهب فهو : أنه لا ضمان عليه .
أهل القول الأول قالوا : إن يده يد غصب ، واليد الغاصبة تضمن مطلقا ، فلو اغتصب مالا كدراهم أو دنانير ، ثم إنها تلفت ، ولم يكن هذا التلف بتعد منه ولا تفريط ، فهل يضمن ؟ نعم ، يضمن ، فعلى اليد ما أخذته حتى تؤديه . أو : رجل سرق سيارة ، ثم إن هذه السيارة أُحرقت أو أتتها صاعقة أو أي شيء من ذلك ، فإنه يضمن ، لأن على اليد ما أخذته حتى تؤديه ، وهذا يده يد غصب ، ويد غصب ضامنة مطلقا .
وأما القول الثاني ، فقالوا : إنه لم يباشر قتله ، ولم يتسبب في قتله ، لأن القتل لم له ارتباط بالمحل الذي هو فيه ، وأما كون يده يد غصب ، فإن هذا إنما في الأموال ، وأما هذا فهو حر ، وليس بمال . وهذا هو القول الأرجح . فالأرجح وهو المذهب : أنه لا ضمان ؛ وذلك لأن يد الغاصب إنما تضمن الأموال ، وهذا حر وليس بمال ، ولذا قيَّد في المسألة " وإن غصب حرا " ، وذلك لأنه لو غصب عبداً ، فإنه أولا لا دية ، بل فيه القيمة ، ثم يثبت الضمان مطلقا بكل الأحوال ، لأن العبد مال .
قوله : [ أو غلَّ حُراًّ مكلفا وقيّده ، فمات بالصاعقة أو الحية ، وجبت الدية فيهما ]
هناك لم يشترط في الصبي أن يُقيَّد ، وأما هنا فإنه اشترط ذلك في المكلف ، لأن الصبي اليد عليه وإن لم يكن مقيدًا ، فاليد على الصبي وإن لم يكن مقيّداً ، لأنه لا يكاد يتمكن من الفرار والهرب ، وإن لم يكن مقيّداً ، كما أن حرصه على مصلحة نفسه ، ليست كالمكلف .
" غلّه " : بحبل في عنقه ويديه .
" وقيّده " : في رجليه .(27/4)
وقال في الفروع : " أو قيّده " ، وهذا أصح ، لأنه لو قيده ، فكذلك ، والمقصود أنه يمنعه من الهرب والمدافعة عن النفس ، فلم يتمكن لا من الهرب ، ولا من المدافعة عن نفسه ، فهذا حرٌّ مكلف قد قيد بحيث لا يتمكن من الهرب ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه ، فمات بالصاعقة ، لأنه مقيد لا يتمكن من الخروج من هذا الموضع الذي وضع فيه ، أو دخلت عليه حية وهو لا يتمكن من إنقاذ نفسه ، وجبت الدية ، لكن لو كانت الأبواب مفتوحة ويمكنه الفرار ، فليس كالصبي ، لكن لو كان يعلم أنه لو خرج من هذه الغرفة فهناك أسوار ، فلا فائدة ، فهذا كما لو قُيِّد ، لكن الحية يتمكن من الفرار منها ، أما الصاعقة ، فإنه إذا وضع في غرفة ولو كانت مفتوحة ، فكما لو أُغلقت ، مادام أنه يعلم أن وراء هذه الغرفة أسوار لا يتمكن من الخروج منها . إذاً المقصود أنه متى ما كان متسبِّباً ، قد حبسه في هذا الموضع ، بحيث لا يتمكن من إنقاذ نفسه ، فإن الضمان يكون عليه .
وهنا مسألة : هل في ضربة السوط واللطمة وإحراق المال ، قصاص أم فيه الضمان ؟
- قال جمهور العلماء : لا قصاص فيه ، فلو لطم رجل آخر ، فهل نقول للآخر : الطمه ، أو ضربه بسوط ، فهل نقول : اضربه بسوط ، أو أحرق سيارته ، فهل نقول : لك أن تحرق سيارته ؟ قالوا : لا ؛ لأن الغالب عدم المماثلة ، فقد تكون لطمة أشد من لطمة ، وسوط أشد من سوط ، فلما كان الغالب عدم المماثلة لم يقولوا بالقصاص .
- وقال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم ، وهو رواية عن أحمد ، وهو مذهب طائفة من أهل الحديث ، وهو قول ابن المنذر ، قالوا : بل في ذلك القصاص ، فله أن يقتص .
رجل اعتدى على آخر فلطمه ، فالقاضي يخيِّره بين أن يلطمه ، وبين غير ذلك مما يكون فيه ضمان ، كما يكون هذا في المال . وأما الجمهور فإنهم يقولون هنا بالتعزير .(27/5)
إذاً قال شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم بالقصاص ، واستدلوا بقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وبقوله : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، وبما روى البخاري أن عمر رضي الله عنه أقاد من الدِّرَّة وهي العصا - التي يضرب بها - ، وأقاد عليٌّ رضي الله عنه من ثلاثة أسواط ، وهذا هو القول الراجح .
فإن قيل : إن الغالب عدم المماثلة كما تقدم ؟
فنقول : إن العدل واجب بقدر الإمكان ، ونقول لهم : أيهما أقرب ، آلتعزير أم القصاص ؟
فلو أن رجلا لطم ، فالتعزير إما أن يكون بسوط أو سوطين أو يسجن يوما ، هذا هو التعزير ، فأيهما أقرب ، هل الأقرب التعزير أم الأقرب اللطم إن لطم أو الضرب بعصا إن ضرب ؟
الجواب : الأقرب الثاني ؛ لأن التعزير سيكون بالسجن ، وبين السجن وبين اللطمة من الفرق ما هو أعظم من الفرق ما بين لطمة أشد ولطمة أضعف .
فإن قالوا في مسألة المال : إن في ذلك إتلافا في المال ، فهذا رجلٌ يقول : إن زيدا أحرق سيارتي ، وثبت عليه ذلك ، ويقول : أريد أن أحرق سيارته التي تساوي هذه القيمة ، أو قتل بعيره فقال : أريد أن أقتل بعيره كما قتل بعيري ، قالوا : فهذا فيه إتلاف للمال ؟
فنقول : أيهما أعظم إتلاف المال أم إتلاف الطرف ؟
إتلاف الطرف ، كاليد ، أعظم من إتلاف المال ، ولذا فإن هذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة ، وعلى ذلك نقول بالقصاص كما هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وطائفة من أهل العلم . والله أعلم . انتهى الدرس الأول من كتاب الديات في ليلة الأربعاء الثامن عشر من رجب لعام 1420 للهجرة
فصل
قوله [ وإذا أدَّب الرجل ولده أو سلطانٌ رعيته أو معلم صبيّه ، ولم يسرف لم يضمن ما تلف به ](27/6)
لأن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون ، فإذا لم يكن في التأديب إسراف ، يعني زيادة في الضرب أو نحو ذلك ، بل كان في موضعه ، وكان المحِل قابلا للتأديب ، فإن كان صبيا غير مميز ، فإنه ليس بقابل للتأديب ، يعني ليس محلا للتأديب .
قوله : [ ولو كان التأديب لحامل ، فأسقطت جنينا ، ضمنه المؤدِّب ]
كأن يؤدب زوجه الحامل فتسقط ، ففيه الضمان ، أو تُعزر امرأة حامل ، فتسقط جنينها ، فيكون في ذلك الضمان ؛ لأن هذا ليس بمأذون فيه ، فالإذن متوجه إلى تأديب المرأة ، وأما الذي في بطنها ، فإنه لا يتوجه إليه التأديب ، فلما سقط هذا الجنين ، فإنا نُضمِّن المتسبب ، وهو هذا المؤدب . إذاً إذا أدّب امرأة فأسقطت جنينها ، فنقول : فيه الضمان ؛ لأنه متسبب ، وليس في الجهة – وهي المرأة – التي قد أُذن في تأديبها .
قوله : [ وإن طلب السلطان امرأة لكشف حق الله ]
كحد من حدود الله ، كحد الزنا ، أو حق آدمي .
قوله : [ أو استعدى عليها رجل - أي طلبها لدعوى - بالشُّرَط في دعوى له ، فأسقطت ضمنه السلطان والمستعدي ]
ضمنه السلطان في المسألة الأولى ، والمستعدي في المسألة الثانية .
فإذا استعدى رجل على امرأة بالشرط ، يعني ذهب إلى الشرطة وقدّم دعوى على امرأة ، فدُعيت من قبل الشرط ، فأسقطت جنينها ، أو أن السلطان أرسل إليها لكشف حق الله أو حق آدمي ، فأسقطت ، فإن السلطان يضمن . إذاً الضمان للجنين وذلك للتسبب ، لأن الجهة قد اختلفت ، فإن الذي يطالب بالحق هي المرأة ، وقد تعدى الأمر إلى الجنين ، وعلى ذلك : فنضمِّن هذا المتسبب ، ويكون قتل خطأ . وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
قوله : [ ولو ماتت فزعا لم يضمنا ]
يعني لم يضمن السلطان في المسألة الأولى ، ولم يضمن المستعدي في المسألة الثانية . وهذا قول في المذهب ، واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ؛ لأن هذا الطلب مأذون فيه ، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون .(27/7)
وأما المذهب فإن في ذلك الضمان ، فيضمن السلطان في المسألة الأولى ، ويضمن المستعدي في المسألة الثانية ؛ قالوا : لأنهما متسببان .
والراجح الأول ، وهو قول في المذهب خلافا للمشهور في المذهب ، وهو الذي اختاره المؤلف هنا ، وهو مذهب الشافعية ، واختاره أيضا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ؛ وذلك للقاعدة المتقدمة أن ما ترتب على المأذون فليس بمضمون . لكن على ذلك لو كان هناك تعد من السلطان أو المستعدي ، فإن في ذلك الضمان ، فلو أن السلطان أرسل إليها قبل أن يتحرى ويتثبت ، فأسقطت ، فهنا يضمن السلطان , وكذلك المستعدي إذا أرسل إليها ظلما ، فماتت فزعا ، فإنه يضمن ؛ وذلك لأن ذلك غير مأذون فيه ، فطلبها من غير تحر أو ظلما هذا غير مأذون فيه .
قوله : [ ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا أو يصعد شجرة ، فهلك به - أي بهذا بالصعود أو النزول - لم يضمنه ]
لأنه لم يكرهه ، لكن لو أكرهه ، فقد تقدم الكلام عليه في المسألة السابقة .
قوله : [ ولو أن الآمر سلطان ]
لأنه لم يكرهه ، لكن لو عُلم من السلطان الظلم ، وأنه لو لم يطعه لقتله أو نحو ذلك ، فإن هذا يكون له حكم الإكراه .
قوله : [ وكما لو استأجره سلطانٌ أو غيره ]
فلو استأجر عاملا ليحفر له بئرا أو ينزل إلى البئر ليصلحها أو يصعد إلى الشجرة ليجني ثمرها ، فسقط فمات ، فإنه لا ضمان ؛ لأنه لم يحصل منه تعد ، ولأنه لم يكرهه ، فهو مجرد مستأجر وقد فعل هذا الأمر باختياره .
وقيّده بأن يكون " مكلفا " ؛ لأنه لو لم يكن مكلفا ، فأمره بذلك فتلف ، فإن عليه الضمان ؛ وذلك لأنه لا يؤذن له بمثل ذلك ، فلا يؤذن له أن يأمر من ليس بمكلف بمثل ذلك ، فيكون فيه تعد حيث لم يكن مكلفا .
باب مقادير ديات النفس
قوله : [ دية الحر المسلم مئة بعير ، وألف مثقال ذهبا – ألف دينار – أو اثنا عشر ألف درهم فضة أو مئتا بقرة أو ألفا شاة ](27/8)
هذه هي أصول الدية في المشهور في المذهب : مئة من الإبل أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مئتان من البقر أو ألفان من الشاة .
وفي الحُلَل قولان :
المشهور في المذهب : أنها ليست من أصول الدية .
والقول الثاني خلافا للمشهور فيه : أن الحلل من أصول الدية ، فيجب مئتا حُلَّة ، والحلل من برود اليمن ، يجتمع في الحلة إزار ورداء .
إذاً الأصول في باب الدية في المذهب خمسة :
الأصل الأول : الإبل . والأصل الثاني : الذهب . والأصل الثالث : الورِق ، يعني الدراهم من فضة . والأصل الرابع : البقر . والأصل الخامس : الشياه .
هذا هو المشهور في المذهب ، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في الإبل مئة من الأبل ، وفي البقر مئتين من البقر ، وفي الشاء ألفي شاة ، وفي الحلل مئتي حُلّة " وهذا عمدة من ذهب من أهل العلم بأن الحلل داخلة في أصول الديات .
وأما الورِق فقد روى أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في رجل قُتل باثني عشر ألف درهم " .
وأما الذهب ، ففي النسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( وفي الذهب ألف مثقال ) .
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وهو قول أئمة الدعوة : أن الأصل الإبل ، وأما ما سواه ، فإنها قيمة الإبل . إذاً ننظر إلى قيمة الإبل في كل زمن ، وهذا يختلف باختلاف الأزمان ، فقد تكون قيمة مئة من الإبل ، ثلاثمئة أو أربعمئة بقرة ، أو تكون ثمانية آلاف درهم ، وقد تكون عشرة آلاف درهم ، وهكذا . وهذا هو القول الراجح .
والأدلة التي استدل بها الحنابلة ، فهي أدلة فيها ضعف ، أما حديث عمرو بن حزم فهو مرسل ، وأما حديث ابن عباس فإن في إسناده ضعفا ، وأما حديث جابر رضي الله عنه ، فإن إسناده فيه عنعنة محمد بن إسحاق .(27/9)
وأما أهل القول الثاني ، فاستدلوا بما ثبت في سنن أبي داود بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانت قيمة الإبل على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانمئة دينار أو ثمانية آلاف درهم " فالقيمة تختلف هنا عما تقدم تقريره ، قال : " وكانت دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين ، فلما كان استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " ألا إن الإبل قد غلت " ، فقوَّمها باثني عشر ألف درهم ، أو ألف دينار أو مئتين من البقر أو ألفي شاة أو مائتين من الحلل " إذاً هذا الأثر الصحيح دال على أنها كانت في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خلاف ما تقدم ذكره ، ثم لما كان عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال " ألا إن الإبل قد غلتْ " ففرضها في الذهب ألفا دينار ، وفي الورِق اثني عشر ألف درهم ، وفي البقر مئتين من البقر ، وفي الشاء ألفي شاة ، وفي الحلل مئتي حلة . إذاً هذا الأثر دال على الأصل هو الإبل فقط ، ويدل عليه كما سيأتي إن شاء الله أن التغليظ في الدية – في العمد وشبه العمد - خاص بالإبل ، ولأنها في الأطراف وفي الجراح تُقوَّم أيضا بالإبل ، فدل على أن الأصل هو الإبل فقط ، وأما غيرها فإن هذا يختلف باختلاف الأزمان ، فتقوم بقيمتها ، سواء كانت دراهم أو غيرها ، على اختلاف الأزمان . وهذا هو الراجح ، وعليه عمل وقضاء أئمة الدعوة النجدية رحمهم الله .
قوله : [ هذه أصول الدية ، فأيها أحضر من تلزمه ، لزم الولي قبوله ]
وهذا على القول بأن الأصول خمسة ، وإن قلنا أن الأصل هو الإبل ، فلا يلزم القبول إلا أن تكون هي القيمة ، فإذا قوَّمناها ، فإنه يلزمه أن يأخذ القيمة .
قوله : [ فتغلّظ في قتل العمد وشبهه خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حِقَّة ، وخمس وعشرون جَذَعة ](27/10)
إذاً تجب أرباعا مغلَّظة في دية العمد وشبه العمد . هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد ، واستدلوا بحديث عزوه إلى السائب بن يزيد : أنها تجب أرباعا " وهذا الحديث لم أقف عليه في شيء من كتب السنة ، وقد ذكره السيوطي في جمع الجوامع ، وضعّفه . فهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن ثبت عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ، وهو حديث حسن : ( في النفس المؤمنة مئة من الإبل ) ، لكن هذا التفصيل الذي ذكره الحنابلة رحمهم الله تعالى ينبني على هذا الحديث الذي لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام .
وذهب الشافعية : إلى أن الواجب ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلِفة في بطونها أولادها ، واستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي ، والحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( الدية ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها ) . وهو الراجح في هذه المسألة ، وقد تقدم حديث آخر في أن دية الخطأ شبه العمد مئة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها . إذاً هذه هي دية العمد وشبه العمد ، وهي دية مغلظة ، ولذا كما تقدم أن التغليظ إنما يكون في الإبل .
قوله : [ وفي الخطأ تجب أخماسا ثمانون من الأربعة المذكورة ]
الأربعة المذكورة : بنات مخاض ، وبنات لبون ، والحقاق ، والجذعات ، فيجب عليه عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون جذعة ، وعشرون حقة .
قوله : [ وعشرون من بني مخاض ]
إذاً تجب أخماسا ، واستدلوا بحديث رواه الدارقطني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا ، لكن الصواب وقفه .(27/11)
وذهب بعض أهل العلم ، وهو قول طاووس من التابعين : إلى أن الواجب ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون جذعة ، وعشرة من بني لبون . وقد ورد فيه حديث عند أبي داود بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في دية الخطأن ثلاثين بنت مخاض ، وثلاثين بنت لبون ، وثلاثين حقة ، وعشرة من بني لبون " ، لكن ورد عند أبي داود من قول عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أن الواجب عشرون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشرون من بني لبون .
واختار ابن القيم رحمه الله تعالى لمّا اختلفت الآثار هنا ، أن ذلك كله مجزئ ، وأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حد محدود أي حد واجب ، ولذا فإن الصحابة رضي الله عنهم قضوا بخلاف ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . وعلى ذلك فإن فُرضت عليه أخماسا ، كما في المذهب ، فلا بأس ، وإن فرضت عليه كما في حديث أبي داود ، فلا بأس ، وإن فُرِضت عليه كما ورد عن عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ، فلا بأس بذلك . وقد قال عليه الصلاة والسلام كما تقدم في سنن النسائي ، والحديث حسن : ( في النفس المؤمنة مئة من الإبل ) ، وهذا يدل على أن التحديد المتقدم ليس بواجب .
قوله : [ ولا تُعتبر القيمة في ذلك ]
تقدم أن الدية تجب في الدراهم ، وتكون القيمة اثني عشر ألف درهم ، وعلى ذلك يكون قيمة البعير مئة وعشرون درهما . فلو أنه أخرج أبعرة وكان قيمة كل بعير مئة من الدراهم ، فهل يجزئ ؟
قال " لا تعتبر القيمة في ذلك " ، فلو كان البعير قيمته مئة أو ثمانون ، فمادام أن شروط السلامة متوفرة فيه ، فلا بأس . إذاً إذا أخرجنا الإبل ، فلا يشترط أن نخرج إبلا قيمتها تساوي اثني عشر ألف درهم .(27/12)
فإذا حدَّدنا الدية في هذا الزمن مثلا مئة وخمسون ألف درهم ، فإذا أتى بمئة من الإبل ، قيمتها لا تساوي إلا مئة ألف من الدراهم ، لكنها سليمة ، فهل يجزئه ذلك ؟
يجزئه ذلك . إذاً لا نعتبر القيمة ، وإنما نعتبر السلامة ، ولذا قال " ولا تعتبر القيمة في ذلك " وإنما تعتبر السلامة .
قوله : [ ودية الكتابي نصف دية المسلم ]
لما ثبت في داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( عَقْلُ أهل الكتاب على نصف عقل المسلمين ) والعقل يعني الدية . هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافا للأحناف .
وأما الأحناف فذهبوا إلى أن الواجب دية المسلم ، واستدلوا بقوله تعالى : { فدية مسلمة إلى أهله } .
لكن الحديث حجة عليهم ، وأما الدية في الآية فهي مطلقة ، فتختلف باختلاف الدين . وأما ما رواه عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى على مسلم قتل يهوديا من أهل الشام – وهو ذمي - ، بمئة من الإبل " فإن هذا حيث كان القتل عمدا ، فتغلّظ الدية ، ويدل عليه ما رواه البيهقي والدارقطني بإسناد صحيح أن عثمان رضي الله عنه قضى على مسلم قتل ذميا عمدا ، بمثل دية المسلم " ؛ لأنه لما يكن هناك قود بذلك ، فإن الدية تُغلّظ ، وأما إذا كان قتل خطأ ، فإن الواجب نصف الدية . هذا هو الصواب .
قوله : [ ودية المجوسي والوثني ثمانمئة درهم ]
المجوسي الذي لا كتاب له ، وهو من عبدة النار ، والوثني ، ديتهما ثمانمئة درهم .
كم تساوي ثمانمئة درهم الآن ؟
إذا كان في كل مئة درهم فيها سبعون مثقالا من الفضة ، فعلى ذلك في ثمانمئة درهم خمسمئة وستون , والمثقال أربع جرام وربع ، والجرام من الفضة يساوي في البيع تقريبا درهما ، فيكون قريبا من ألفي درهم . وقد قضى بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما في سنن الدارقطني ، وهو أثر صحيح ، ولا يُعلم له مخالف .(27/13)
إذاً أولئك أهل كتاب ، وأما المجوس والوثنيون ، فإنهم لا كتاب لهم ، فالواجب في ديتهم ثمانمئة درهم إسلامي ، وليس الدرهم الموجود الآن . وعليه فننظر إلى قيمته ، فقد تساوي هذه الثمانمئة درهم ، ألفي درهم أو ثلاثة آلاف درهم .
قوله : [ ونساؤهم على النصف ، كالمسلمين ]
الآن دية المرأة المسلمة على النصف من دية الرجل الذكر المسلم ، وهذا بإجماع أهل العلم ، وقد حكى هذا الإجماع ابن عبد البر وابن المنذر . وقد دلت عليه آثار كثيرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم ، ففي البيهقي عن عمر علي وابن مسعود ما يدل على ذلك .
وكذلك دية المرأة الكتابية على النصف من دية الكتابي ، ودية المجوسية على النصف من دية المجوسي ، فيكون فيها أربعمئة درهم ، وهذا أكثر من قيمتها .
وقد اختلف أهل العلم في دية المسلمة في باب الجراح والأطراف ، ما الذي يجب فيها ؟ على قولين :
القول الأول ، وهو مذهب الحنابلة والمالكية ، قالوا : إن الواجب في دية الأطراف والجراح أن تساوي الرجال حتى تبلغ ثلث الدية ، فإذا تجاوزت ثلث الدية ، فيكون الواجب النصف .
فالأصبع فيها عشر من الإبل ، وهي أقل من الثلث ، فإذا قطعت أصبع المرأة ، فإن الواجب فيها عشر من الإبل ، لأنها لم تتجاوز الثلث .(27/14)
الرجل إذا قُطعت يده ، ففيها خمسون من الإبل ، فهي أكثر من الثلث ، فالمرأة فيها خمس وعشرون من الإبل . واستدلوا بما روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( عقْل المرأة المسلمة مثل عقل الرجل ما لم تبلغ الثلث من ديتها ) . لكن الحديث من حديث إسماعيل من عياش عن الحجازيين ، وروايته عن الحجازيين ضعيفة ، لكن له ما يعضده في موطأ مالك بإسناد صحيح أن سعيد من مسيب رحمه الله قال : " في الأصبع عشر من الإبل ، وفي الأصبعين عشرون من الإبل ، وفي الثلاث ثلاثون من الإبل ، وفي الأربع عشرون " ، فقال له ربيعة بن أبي عبد الرحمن رحمه الله تعالى : لما اشتد جرحها وعظُمت مصيبتها ، قلَّت ديتها " قال : " أعراقيٌّ أنت ؟ فقال رحمه الله تعالى : " بل إمّا عالِمٌ متثبتٌ أو جاهل سائل " فقال : " هي السنة يا ابن أخي " . ويحتمل في هذا الأثر السنة المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحتمل السنة المنسوبة إلى عامة الصحابة ، والاحتمال الثاني أقرب ، وقد صح عن عمر رضي الله عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة أنه قال في السن والموضحة : " أن دية المرأة تساوي دية الرجل ، وما فوق ، فإن دية المرأة على النصف من ذلك " . فالذي يترجح هذا الأثر منسوب إلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي سنة بعض الصحابة ، كعمر رضي الله عنه .
والقول الثاني ، وهو مذهب المالكية والشافعية الأحناف ، وهو رواية عن أحمد ، قالوا : بل يجب النصف مطلقا ، ففي الأصبع خمس من الإبل ، وفي الأصبعين عشر من الإبل ، وفي الثلاث خمسة عشر بعيرا . وهذا القول هو القول الأرجح ، وهو قول علي وابن مسعود كما في البيهقي ، والإسناد إليهما صحيح . والله أعلم . انتهى الدرس الثاني في ليلة الأربعاء الثاني من شهر شعبان لعام 1420 للهجرة .
قوله : [ ودية قن قيمته ](27/15)
لأن الرقيق مال ، وعلى ذلك : فديته قيمته ، فإذا قتل عبداً ، فإن دية العبد قيمته ، فننظر كم يساوي هذا الرقيق ، وتكون هي الدية .
قوله : [ وجراحه ما نقَصَه بعد البرء ]
في الجراح والأطرف ، نقوّمه بعد برئه ، وكذلك إذا اندمل الموضع الذي كان فيه قطع الطرف ، فنقوّم هذا العبد ، كما كان يساوي قبل قطع الطرف وقبل الجرح ، وكم يساوي بعد ؟ فإذا قالوا : إنه كان يساوي مئة ألف ، والآن لا يساوي إلا ثمانين ألفا ، فالذي يجب فيه عشرون ألفا . ما ذكره المؤلف هو قول في المذهب ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وأما المشهور في المذهب ، فإن الواجب هو القسط من القيمة ، فإذا قطع يده – واليد فيها نصف الدية - ، فنقول : كم يساوي هذا الرقيق ، قالوا : يساوي مئة ألف ، فنقول : الواجب خمسون ألفا .
والراجح هو الأول ؛ إلحاقا لما دون النفس بالنفس ، لأن القول الأول قاعدته مطردة ، فالقيمة في النفس وفيما دون النفس ، وأما القول الثاني فإنه فرّق بين ما دون النفس وما بين النفس ، فما دون النفس أوجب فيها نصف الدية ، ثم بعد ذلك رجع إلى القيمة .
قوله : [ ويجب في الجنين – أي الحر – ذكراً كان أو أنثى ]
فلا فرق في الجنين بين الذكر والأنثى ، والجنين هنا حيث تخلّق ، فظهرت فيه خِلْقةُ الإنسان ، وهذا يكون بعد الثمانين ، فينظر ، فقد تكون المضغة مخلقة ، وقد تكون غير مخلقة ، فينظر بعد الثمانين إن حصل تخلُّق يعني يَبِينُ فيه خلْق الإنسان ، فهذا هو الجنين ، وأما إذا لم يَبِن فيه خلق الإنسان ، فهي قطعة لحم لا دية فيها . إذاً الجنين إذا سقط ميتا وقد تخلق أي ظهر فيه خلق الإنسان – ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة - .
لكن لو سقط حيا حياة مستقرة في ستة أشهر – كأن يصرخ - ثم مات ، فإن فيه الدية كاملة ؛ لأنه ثبتت حياته . وأما الكلام هنا حيث سقط ميتا ، وقد تبين فيه خلق الإنسان .
قوله : [ عُشْر دية أمِّه غُرَّة ](27/16)
الغُرَّة : هي عُشْر دية الأم ، باتفاق العلماء ، فإن كانت الأم مسلمة ، فالغرة خمسٌ من الإبل ، لأن ديتها خمسون من الإبل ، وعلى ذلك فدية الجنين - الغرة - خمس من الإبل . وحكاه الموفق عن عليّ وزيد ، قال : " ولا يعلم لهم مخالف " . وتقدم حديث المرأتين الهُذليتين اللتين اقتتلتا ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية الجنين غرة ، عبدٌ أو أمَة ، يعني بقيمة الغرة عبدٌ أو أمة ، يعني إما عبد أو أمة بقيمة الغرة ، والغرة خمس من الإبل ، فتجب عبد أو أمة بقيمة خمس من الإبل ، أو تجب خمس من الإبل . فإن تيسر وكان هناك إماء أو عبيد ، وإلا كما في عصرنا ، فهناك خمس من الإبل ، كما أن ظاهر كلام أهل العلم أن الواجب هو خمس من الإبل مطلقا .
فإن كانت كتابية ، فالواجب عبدٌ أو أمَة بقيمة بعيريْن ونصف ؛ لأن دية الكتابية خمس وعشرون .
قوله : [ غرة ]
أي عبد أو أمة ، قيمة هذا العبد أو الأمة خمس من الإبل ، لكن في عصرنا حيث لا إماء ولا عبيد ، فإن الواجب خمس من الإبل ، وأما في عصرهم ، فإن الواجب عبد أو أمة بقيمة ذلك إن تيسر ، وإلا فالواجب خمس من الإبل .
قوله : [ وعُشْر قيمتها إن كان مملوكا ، وتقدَّر الحرة – يعني الحامل برقيق - أمَة ]
إن كان هذا الجنين عبدا لا حرا ، فالواجب عشر قيمة الأم ، فإذا كانت تساوي الأم مئة ألف ، فالواجب عشرة آلاف ، فإن كانت أمه حرة ، فإنا نقوِّمها كما لو كانت عبدة ، ونوجب عُشْر القيمة .
قوله : [ وإن جنى رقيق خطأ أو عمدا لا قود فيه ]
كالجائفة ، فليس فيها القصاص ، لأنه لا يؤمن الحيف ، وإنما فيها الدية .
قوله : [ أو فيه قود – كما لو قطع يده من المفصل – واختير فيه المال أو أتلف مالا بغير إذن سيده ، تعلَّق ذلك برقبته ](27/17)
وعلى ذلك نقول للسيد : أنت بالخيار ، إما أن تسلِّم هذا العبد للأولياء الجناية ، فإن شاؤوا باعوه ، وإن شاؤوا ملكوه ، وإن شئت فلتفده . فإذا قالوا : إن الجناية تساوي مثلا عشرة آلاف ، لكن هذا الرقيق لا يساوي إلا خمسة آلاف ، فيقول : خذوه ، إن شئتم ملكتموه ، وإن شئتم بعتموه ، فلا يكلَّف السيد ما زاد على ذلك . وإن كان يساوي عشرة آلاف والجناية خمسة آلاف ، فيقول : خذوا هذه الخمسة آلاف ويفدي رقيقه . إذاً يكون السيد بالخيار ، إن شاء ملَّكَهم رقبته ، وإن شاء فداه .
قوله : [ فيخير سيده بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه ]
باب ديات الأعضاء ومنافعها
العضو : كالعين .
والمنفعة : كالبصر والشم والذوق .
وليعلم أنه إن جنى على عضو فأشلَّه ، فكما لو قطعه ، فلو ضرب اليد مثلا فأشلها ، فكما لو قطعها ففي ذلك الدية ، باستثناء عضوين ، وهما : الأنف والأذن ؛ أما الأذن فلأن السمع في الدماغ ، وأما الأنف فلأن الشم أيضا في الدماغ ، ولأن الجمال باقٍ . فإذا ضرب الأنف أو الأذن فأشلهما ، فلا دية ، ولكن في ذلك حكومة ، وسيأتي الكلام على الحكومة إن شاء الله .
إن قطع عضوا مشلولا ، فما الحكم ؟
فيه الحكومة ، وليس فيه الدية ، باستثناء الأذن والأنف ؛ فإن فيهما دية ، بعكس المسألة السابقة ، لأن المقصود بقاؤهما ، فإذا زالا ، فكما لو زالت اليد ، لأن الشم والسمع في الدماغ ، فإذا اعتدى عليهما بالقطع فإن المنفعة تفوت ، سواء كانا مشلولين أو غير مشلولين .
قوله : [ من أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ]
ففيه الدية ، وإذا أتلف ما فيه شيئان ، ففي كل منها نصف الدية ، وفي الجميع الدية كاملة ، وإذا أتلف ما فيه ثلاثة أشياء ، ففي الجميع الدية كاملة ، وفي كل واحد منها ثلث الدية ، فإذا كان في أربعة أشياء ففي كل واحد ربع الدية ، فإذا كان في عشرة أشياء كالأصابع ، ففي كل واحد عُشْر الدية .(27/18)
قوله : [ كالأنف واللسان والذَّكَر ففيه دية النفس ]
وقد روى أحمد في مسنده والنسائي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال – والحديث عليه العمل وإن كان مرسلا وله شواهد - : ( في الأنف إذا أوعب – يعني قطع كله – الدية ، وفي العنين الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الصُّلْب الدية ) ، والصلب : هو العظم الذي يمتد من أعلى الظهر إلى أسفله ، وهذا العظم إذا اعتُدي عليه ، فإنه تفوت منفعة المشي ، وقد تفوت أيضا منفعة الجماع أي النكاح ، وإذا جُبر ، فإنه يحدودب ظهره . فهذا العظم فيه الدية إذا لم ينجبر ، فإذا انجبر لكن احدودب ، ففيه حكومة ، فإن فاتت منفعة المشي أو منفعة الجماع ، ففيه دية واحدة ، فإن فاتت المنفعتان جميعا ، ففيه ديتان .
قوله : [ وما فيه منه شيئان كالعينين ]
فالواجب دية كاملة ، فإن فُقِئت عين واحدة ، فإن فيها نصف الدية .
قوله : [ والأذنين والشفتين واللَّحيين ]
اللحيان : هما العظمان اللذان ينبت عليهما شعر اللحية .
قوله : [ وثديي المرأة ]
فإذا قطع ثدي المرأة ففيهما الدية ، وإذا قطعت الحَلَمة ، فكما لو قطع الثدي ؛ لأن المنفعة فيها . والكلام الذي أقرره هو في المذهب .
قوله : [ وكثنْدُؤَتَيْ الرجل ]
اللذان في مقام ثديي المرأة ، ففهم الدية ، وفي أحدهما نصف الدية .
ويصح أن تضم الثاء مع الهمز ، ويصح بلا همز ( ثندوتي ) .
وقال الجمهور : بل فيها حكومة ، وهذا أصح ؛ لأنه ليس فيهما ما في ثديي المرأة من المنفعة ، بل غاية ما فيهما أنهما يجمِّلان البدن .
قوله : [ واليدين والرجلين والإليتين والأنثيين – يعني البيضتين – وإسكتي المرأة ]
إسْكِتَيْ المرأة : يعني حافة الفرج ، ويصح أيضا أن تكون الهمزة أعلى ( أسْكتي ) ، وهما حافتا الفرج ، وبهما يكون الجماع .(27/19)
قوله : [ وفي إحداهما نصفها . وفي المنخِريْن ثلثا الدية ، وفي الحاجز بينهما ثلثها ]
وهذا واضح ، فالأنف تتكون من منخِرين وحاجز ، فإذا قُطع المنخرين ففي ذلك ثلثا الدية ، وفي الحاجز الثلث ، وإذا قطع منخِرا واحدا ففيه ثلث الدية .
قوله : [ وفي الأجفان الأربعة الدية ، وفي كل جفن رُبْعُها ]
وهو معروف ، فالجفَن هو القطعة من الجلد التي تغطي العين .
قوله : [ وفي أصابع اليدين الدية كأصابع الرجلين ]
ففي سنن الترمذي وصححه ، وهو كما قال ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( دية أصابع اليدين والرجلين عشرة من الإبل لكل أصبع ) ، إذاً كل أصبع فيها عشرة من الإبل ، ولا فرق بين الخنصر والإبهام ، ولذا روى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( الأصابع سواء ، والأسنان سواء ، الثنية والضرس سواء ) ، فالأصابع سواء ، والأسنان سواء .
قوله : [ وفي كل أصبع عُشْر الدية ، وفي كل أنملة ثلث عُشْرِ الدية ]
كل أصبع فيها ثلاثة أنامل ، إلا الإبهام ففيها أُنملتان ، وعلى ذلك : الأنملة في الإبهام فيها نصف العشر ، ولذا قال :
[ والإبهام مفصلان ، وفي كل مفصل نصف عشر الدية ]
إذاً الآن الأصبع فيها عَشر من الإبل ، وفي كل مفصل سوى الإبهام ثلث العُشر ، وأما الإبهام ففيها مفصلان ، ففيها نصف العُشر .
قوله : [ كدية السن ]
السن فيها خمس من الإبل ، كما روى ذلك النسائي من حديث عمرو بن حزم ، وهو مرسل ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس ، والحديث صحيح ، وعلى ذلك : فالسن فيها خمس من الإبل .
فلو كسر أسنانه كلها ، فإننا نضرب خمسا في ست وثلاثين ، فيكون المجموع مئة وثمانون بعيرا . وهذا كما تقدم ما لم تَعُد السن ، لكن إن عادت ، فإنه ليس فيها الدية .(27/20)
وفي الظفر خمس من الإبل ، وقد روى ابن أبي شيبة عن عباس رضي الله عنه بإسناد صحيح أنه قال : " في الظفر خمس من الإبل " ، فإذا قطع الظفر فلم يعد ، أو عاد لكنه أسود ، فالواجب فيه خمس من الإبل .
فصل في دية المنافع
قوله : [ وفي كل حاسة دية كاملة ]
لو أذهب عليه حاستين ، ففيه ديتان ، ولو أذهب عليه أربع حواس ففيه أربع ديات ؛ ولذا روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن رجلا ضرب رجلا ، فأذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه ، فقضى عمر رضي الله عنه بأربع ديات " .
فتجب في كل حاسة دية كاملة ، كالسمع والبصر والذوق ، فالذوق فيه دية كاملة ، ومعلوم أن الذوق يكون لخمسة أشياء ، للملوحة والعذوبة ، والحلاوة والمرارة ، وللحموضة . فلو أنه أذهب عليه حاسته في الحموضة فقط ، ويمكن هذا طبيا ، فالواجب عليه خُمْس الدية .
والنطق منفعة ، ففيه الدية ، كما أن اللسان فيها الدية . فإذا أذهب نطقه ، فإن في ذلك الدية . واللسان فيه ثمانية عشر حرفا ، لأن أربعة حروف شفهية ، وستة حروف حلقية ، والباقي يكون في اللسان ، فلو أذهب عليه نُطْقَ حرفٍ واحدٍ ، فالواجب جزء من ثماني عَشرة جزءاً .
كذلك لو أذهب عليه شيئا من البصر ، وقال الأطباء : إنه قد أذهب عليه نصف البصر ، أو نصف السمع ، فالواجب نصف الدية .
قوله : [ وهي السمع والبصر والشم والذوق ]
ولم يذكر حاسة اللمس .
وقال المالكية : إن حاسة اللمس كذلك . القياس يقتضي ما ذهبوا إليه ، وقد ذكرها أيضا بعض الحنابلة .
وفقْد حاسة اللمس : أن يكون لا يحس بالأشياء من حيث الحرارة والبرودة والخشونة ونحو ذلك ، فإذا أذهب حاسة اللمس عنده ، فإن فيها الدية .
قوله : [ وكذا في الكلام والعقل – يعني جُنَّ – ومنفعة المشي والأكل ]
وتذهب منفعة الأكل بألا يشتهي الطعام ، أو يصبح يأكل لكن معدته لا تهضم الطعام ، أو أصبح لا يأكل أبدا ، أو لا يرغب في الطعام فليس له في الطعام أي شهوة ، فإنه حينئذ تجب فيه الدية .(27/21)
قوله : [ والنكاح ]
إما أن ينقطع الماء ، أو يكون عنِّيناً ، وقد تقدم ، أو أن يكون لا ينجب فيصبح عقيما ، فإن فيه الدية كاملة .
قوله : [ وعدم استمساك البول أو الغائط ]
إذاً هذا الضرر ترتب على المسلك البولي ، ففيه الدية .
قوله : [ وفي كل واحدة من الشعور الأربع الدية ، وهي شعر الرأس واللحية والحاجبين وأهداب العنين ]
فلو أتى إلى رجل وهو نائم ووضع عليه دواء ، فأصبح لا تخرج لحيته ، أو قد يقع هذا من الطبيب خطأ ، فما الحكم ؟
فيها الدية ، وكذلك شعر الرأس فيه الدية ، وشعر الحاجب فيه دية ، وأهداب العينين في كل هدبٍ رُبْع الدية . هذا هو مذهب الحنابلة ، واستدلوا بما روى عبد الرزاق في مصنفه عن علي وزيد أنهما قالا : " في الشعر الدية " ، قالوا : وأما الشارب ففيه حكومة .
وقال الجمهور : بل في الشعر كله حكومة ، وليس فيه دية ؛ قالوا : لأن هذه الشعور منفعتها الجمال فقط ، وعلى ذلك فلا تبلغ مبلغ العين أو الأذن ، ونحو ذلك . وهذا القول أصح ، وأما ما روي عن علي وزيد ، فإن الأثرين ضعيفان .
قوله : [ فإن عاد فنبت سقط موجَبه ]
الموجَب بفتح الجيم : يعني الدية .
إن عاد فنبت ، فيسقط الموجَب يعني الدية ؛ لأن الدية قد وجبت به .
قوله : [ وفي عين الأعور الدية كاملة ]
رجل أعور فُقِئت عينه ، فالواجب الدية كاملة ؛ لذهاب حاسة البصر .
قوله : [ وإن قلع الأعور عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة عمدا ، فعليه دية كاملة ولا قصاص ](27/22)
هذا رجل أعور فقأ عينَ صحيحٍ مماثلة لعينه الصحيحة - لأنها إن لم تكن مماثلة لعينة ، فلا قصاص – فهنا الأصل أن فيه القصاص ، لكن لو اقتصصنا منه لترتب على ذلك حيف ، لأن الآخر بصره باق ، وأما هو فبصره يذهب ، وعلى ذلك : فلا قصاص ، لكن الواجب الدية كاملة تغليظا ؛ لأن من سقطت عنه العقوبة لمانع ، ضوعفت عليه الدية أو الغُر . وبهذا قضى عمر وعثمان رضي الله عنهما كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسنادين صحيحيْن ، وهذا كما تقدم فيما إذا قتل المسلم ذميا ، فالواجب إذا كان عمدا الدية كاملة ؛ لأنا لمّا أسقطنا عنه العقوبة لمانع وهو إسلامه وكفر الآخر ، فإنا حينئذ نوجب عليه الدية مغلظة ، فكذلك هنا .
قوله : [ وقَطْعِ يد الأقطع نصف الدية كغيره ]
رجل أقطع اليد أو الرجل ، فقُطعت ، فالواجب نصف الدية ؛ قالوا : لأن اليد اليمنى لا تقوم مقام اليد اليسرى ، واليد اليسرى لا تقوم مقام اليد اليمنى ، والرِّجل اليمنى لا تقوم مقام الرجل اليسرى ، وكذلك العكس ، بخلاف العين ، فإن العين اليسرى تقوم مقام العين اليمنى . هذا هو المشهور في المذهب .
وعن الإمام أحمد : أن الدية تجب كاملة ؛ لأن اليد – اليمنى أو اليسرى – الباقية ، تقوم مقام الأخرى ، فإذا قطعت يده اليمنى ، فإنه يأكل بيده اليسرى ويعطي ويأخذ بيده اليسرى إلى غير ذلك ، وإذا بقيت إحدى رجليه ، فإنه يتكأ ويمشي عليها ، بينما إذا لم يبق له رجل ، فإنه لا يستطيع المشي . إذاً الأقوى أن نقول : في ذلك الدية كاملة . والله أعلم . انتهى الدرس الثالث في ليلة الأربعاء التاسع من شعبان لعام 1420 للهجرة .
تقدم أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أن اليد الشلاء إذا قطعت ففيها حكومة .(27/23)
والقول الثاني في المسألة ، وهو رواية عن الإمام أحمد : أن فيها ثلث ديتها ، واستدلوا بما ثبت في مسند أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( قضى في العين السوداء السَّادّة مكانها بثلث ديتها ) أي ثلث نصف الدية ( وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها ، وفي السن السوداء إذا قُلعت بثلث ديتها ) . وهذا القول هو الأظهر ؛ لهذا الحديث الحسن .
باب الشجاج وكسر العظام
قوله : [ الشجة : الجرح في الرأس والوجه خاصة ، وهي عشرٌ : الحارِصَة ، وهي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلا ولا تدميه ]
فالحارصة : هي التي تشق الجلد ولا يخرج دم .
قوله : [ ثم البازلة الدامية الدامعة : وهي التي يسيل منها الدم ]
فهذه تسمى البازلة والدامية والدامعة ، وهي تشق الجلد ، ثم يسيل شيء من الدم يسير كالدمع ، ولذا تسمى بالدامعة .
قوله : [ ثم يليها الباضعة : وهي التي تبضع اللحم ]
تبضع اللحم : أي تشقه ، فالباضعة أشد من البازلة ، فإن البازلة تشق الجلد – وإن كانت تدميه - ولا تشق اللحم ، وأما الباضعة فإنها تشق اللحم .
قوله [ ثم يليها المتلاحمة : وهي الغائصة في اللحم ]
تلك تشق اللحم ، وأما هذه فهي تغوص في اللحم .
قوله : [ ثم يليها السِّمْحاق : وهي التي ما بينها وبين العظم قشرة رقيقة ]
يعني ما بقي إلى العظم إلا قشرة رقيقة .
قوله : [ فهذه خمس لا مُقدَّر فيها بل حكومة ]
فهذه فيها حكومة .
والقول الثاني في المسألة ، وهو رواية عن أحمد : أن الأربع دون الحارصة ، فيها مقدَّر ، وأما الحارصة ففيها الحكومة .
أما البازلة ففيها بعير ، والباضعة فيها بعيران ، والمتلاحمة فيها ثلاثة أبعرة ، والسمحاق فيها أربعة أبعرة وصح بذلك الأثر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه كما سنن البيهقي بإسناد صحيح . وهذا هو القول الراجح ؛ لأنه لا يعلم له مخالف .
قوله : [ وفي الموضحة : وهي التي توضح اللحم وتبرزه ، خمسة أبعرة ](27/24)
" توضح اللحم " كذا ذكر المؤلف رحمه الله ، والصواب : ما توضح العظم ، كما ذكر الشارح ، وكما تقدم تقريره في درس سابق .
فهي توضح العظم ، فتجرح اللحم حتى يتضح العظم ، وتزول الجلدة الرقيقة التي تكون على العظم ، ففيها خمسة أبعرة ، كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيره .
قوله [ ثم الهاشمة ، وهي التي تُوضح العظم وتهشمه وفيها عشرة أبعرة ]
قد ورد ذلك في مصنف عبد الرزاق عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، ولا يعلم له مخالف .
قوله : [ ثم يليها المُنَقِّلة ]
هي التي تنقل العظم من موضعه ، فلا تكتفي هذه الجناية بتهشيم العظم ، بل ينتقل العظم من موضعه . وفيها كما ذكر المؤلف خمسة عشر بعيرا .
قوله : [ وهي ما توضح العظم وتهشمه وتنقل عظامها وفيها خمس عشرة من الإبل ]
وقد ورد هذا في النسائي من حديث عمرو بن حزم ، وعلى ذلك يجب في المنقلة خمسة عشر بعيرا .
قوله :[ وفي كل واحدة من المأمومة ]
وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ ، يعني أم الدماغ ، ففيها ثلث الدية ، كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي .
قوله : [ والدامغة ثلث الدية ]
الدامغة : تخرق الدماغ ، فتلك تصل إلى أم الدماغ ، وأما هذه فهي تخرق الدماغ ، فتسمى بالدامغة ، ففيها أيضا ثلث الدية .
وقيل : فيها ثلث الدية وحكومة . وهذا أصح ؛ لأن فيها قدر زائد على المأمومة ، فالمأمومة تصل إلى الدماغ ، وأما هذه فهي تخرق الدماغ ، فكان فيها حكومة زيادة على الدية .
قوله : [ وفي الجائفة ثلث الدية ]
كما ورد هذا في حديث عمرو بن حزم في سنن النسائي وغيره ، والجائفة : هي الجرح الذي يصل إلى الجوف ، سواء كان في الظهر أو البطن أو في موضع آخر .
فإذا دخل من موضع وخرج من موضع آخر فجائفتان ، وعلى ذلك فيجب ثلثا الدية .
قوله : [ وهي التي تصل إلى باطن الجوف . وفي الضِّلَع ](27/25)
الضلع : معروف ، واحد الأضلاع ، ويضبط ( ضِلَع ) هذا هو المشهور ، وضُبط بتسكين اللام ( ضِلْع ) ويصح لكنه على غير شهرة .
قوله : [ وكل واحدة من الترقوتين بعير ]
الترقوة معروفة : وهي العظم المستدير عند الرقبة ، فيجب في الضلع إذا كسر ، والترقوة إذا كسرت ، في كل واحد منهما بعير . لكن هذا بقيد وهو ما إذا جُبر مستقيما ، وأما إذا لم يجبر مستقيما ففيه حكومة . فإذا جُبر مستقيما ففي كل ضِلَع بعير ، وفي كل ترقوة بعير ، وقد صح بذلك الأثر عن عمر بن الخطاب ، كما في موطأ الإمام مالك قال : " في كل ضلع بعير ، وفي كل ترقوة بعير " .
قوله : [ وفي كسر الذراع ، وهو الساعد الجامع لعظمي الزند والعضد . والفخذ والساق إذا جبر ذلك مستقيما بعيران ]
إذا كُسر الذراع ، فجبر مستقيما ففيه بعيران . لكن لو جبر غير مستقيم ففيه حكومة ، وكذلك الفخذ والساق . هذا هو المشهور في المذهب .
وقال الجمهور ، واختاره الموفق : أن الواجب حكومة ، فالعظم إذا كسر ، سواء جُبر مستقيما أم جبر غير مستقيم ففيه حكومة . وهذا أصح ؛ لأنه لم يرد ما يدل على أن هناك ما هو مقدر في ذلك ، وعلى ذلك فنوجب حكومة .
قوله : [ وما عدا ذلك من الجراح وكسر العظام ففيه حكومة ]
كالجراح تكون في اليد أو الرِّجل ، هذه كلها فيها حكومة .
قوله : [ والحكومة أن يُقوَّم المجني عليه كأنه عبدٌ لا جناية به ، ثم يقوّم وهي به قد برئت ، فما نقص من القيمة فله مثل نسبته من الدية ](27/26)
إذا أوجبنا الحكومة ، فالحكومة أن نقومه عبدا ، وكان في السابق رق ، وكانوا يعرفون القيمة ، فيقوّم كأنه رقيق ، فكم يساوي وهو رقيق – عبد – لا جنابة به ، وكم يساوي وبه جناية ؟ فإذا قالوا : يساوي وهو خال من هذه الجناية مئة ألف ، ويساوي وفيه الجناية ثمانين ألفا ، فالفارق بينهما عشرون ألفا ، ونسبتها إلى قيمته الخُمُس ، فعلى ذلك : نوجب خُمس الدية ، فلا نوجب عشرين ألفا ؛ لأنه قد يكون كتابيا أو وثنيا ، وبهذا الطريقة نوجب القسط من ديته .
وإذا كان يساوي مئة ألف لا جناية به ، وبالجناية يساوي ستين ألفا ، والفرق أربعون ألفا ، ونسبتها إلى المئة الخُمُسان ، وعلى ذلك فالواجب خُمُسا ديته ، وهذا يختلف من امرأة إلى رجل ، فالمرأة ديتها خمسون من الإبل ، فيجب عشرون بعيرا ، وأما الرجل فيجب أربعون بعيرا . هذه هي الحكومة , وعلى ذلك في مثل هذا الزمن إنما يعتمد القضاة على ما قد قيّده القضاة قبلهم ممن كان يوجد عندهم الرق ، فيكون هناك تقديرات ، فينظرون إلى تقديراتهم ، ثم يحكمون بالعدل قدر الإمكان .
وقال الشافعية ، واختاره طائفة من متأخري الحنابلة كالشيخ العلامة سعد بن محمد بن عتيق رحمه الله تعالى ، قالوا : إنا ننظر إلى النسبة من أقرب جناية لهذه الجناية فيها قدْر محدد .
فالموضحة فيها خمس من الإبل ، يعني نصف العُشر ، فإذا كانت الجناية نسبتها إلى الموضحة الثلث ، كأن يحصل جرح في بدنه ، فيقول الأطباء وأهل الخبرة : إن هذه الجناية نسبتها إلى الموضحة الثلث ، فعلى ذلك : نوجب ثلث نصف العُشر . وهذا أرجح ؛ لأن العدل واجب بحسب الإمكان .
قوله [ كأنْ – قدّرنا – قيمته عبدا سلميا ستون ، وقيمته بالجناية خمسون ، ففيه سُدس ديته ]
كما تقدم في المثال السابق .
قوله : [ إلا أن تكون الحكومة في محل له مقدَّر ، فلا يبلغ بها المقَدَّر ](27/27)
لو كان الجرح دون الجائفة ، والجائفة فيها ثلث الدية ، فلما قوّمناه عبدا بجناية ، وعبدا بلا جناية ، ونظرنا إلى النسبة ، وجدنا أن الفارق أكثر من ثلث الدية ، فهل نوجب أكثر من ثلث الدية ، مع أن الجائفة التي دونه فيها ثلث دية ؟ الجواب : لا . إذاً لا نبلغ الحد المقدر ، لأن الجرح دونه . وهذا يدل على ما في هذا القول من ضعف ، ولذا تقدم أن الراجح أننا ننظر إلى النسبة ، فإن كان الموضع فيه حد مقدر ، فإنا ننظر نسبة هذا الجرح إلى الحد المقدّر .
إذاً قال الحنابلة رحمهم الله : إذا كان هناك حدّ مقدّر ، فوجدنا أن النسبة تزيد على هذه الحد المقدر ، فإنا لا نوجب هذه النسبة ؛ لئلا نتجاوز هذا الحد المقدّر ، فالجرح أقل من هذا الجرح ، وفيه تقدير شرعي ، فلا نوجب أكثر من هذا الذي حدده الشارع .
باب العاقلة وما تحمل
قوله [ عاقلة الإنسان عصبته كلهم من النسب ]
فالعاقلة إذاً العصبة ، وهي مشتقة من العقل ، والعقْل – كما تقدم - : الدية ، وسمي عقلا ؛ لأن الإبل التي نؤديها إلى صاحبها تُعقل .
قوله : [ والولاء قريبهم وبعيدهم ، حاضرهم وغائبهم ، حتى عمودي نسبه ]
هؤلاء هم العصبة ، فالعصبة : هم من لهم به صلة من جهة النسب أو من جهة الولاء . وأما ذوو الأرحام ، كالخال ، فإنهم ليسوا من العصبة ؛ لأنهم لا يرثون ، كما تقدم في الفرائض .
واختار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أن ذوي الأرحام يدخلون في العاقلة ، يعني يعقلون ، إن عدم أقرباؤه ، فإن لم يكن له أقرباء ذوو نسب ، فإن الدية تجب على ذوي أرحامه ، كالإرث وكالنفقة ، وتقدم أن النفقة على الراجح واجبة على ذوي الأرحام المحتاجين . وعلى ذلك فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله ، فنقول : إن عدمت عاقلته – يعني عصبته من النسب - ، فإنا حينئذ نوجب الدية على ذوي رحمه ، كما نوجب عليه أن ينفق عليهم بشرطه ، كما تقدم في باب النفقات .(27/28)
قال " حتى عمودي نسبه " ، يدخل في العاقلة عمودا النسب ، يعني الأصول والفروع ، وهم الآباء والأبناء ؛ لما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة مَنْ كانوا ، ولا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها " فهذا الحديث يدل على أن عمودي النسب يدخلون في العاقلة ؛ لقوله " على عصبة القاتلة " ، والآباء والأبناء من العصبة .
وأما ما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم برّأ زوجها وولدها ، فالحديث ضعيف .
والمشهور في المذهب : أن الدية تجب على العاقلة الأقرب فالأقرب ، فأولاً نوجبها على الآباء ، ثم على الأبناء ثم على الأخوة ، وهكذا .
والراجح ما ذهب إليه الأحناف : وأنها تجب على الجميع – الأقارب والأباعد – ؛ لعموم الحديث المتقدم " قضى بدية المرأة على عصبة القاتلة " والأباعد عصبة ، فإذا قتل رجل من العشيرة الفلانية ، فإنا نوجب الدية على جميع العشيرة ، فنقول : كم عدد الذكور البالغين الأغنياء في هذه العشيرة ؟ قالوا : عددهم مئة ، والدية قدرها مئة ألف ، إذاً يجب على كل ذكر بالغ غني ألف .
وأما الحنابلة فيوجبونها على الأقرب فالأقرب ، ولا شك أن هذا أشق على العاقلة ، قالوا : قياسا على النكاح ، فولاية النكاح تكون للأقرب فالأقرب .
والجواب : أن هناك فرق بين العاقلة هنا ، وبين الولاية في النكاح ، وذلك لأن الولاية في النكاح إذا كانت في الجميع فإن في ذلك ضرر على المرأة ، وأما هنا فإنه حيث كانت العصبة كلها عاقلة – في ذلك – نفع وتخفيف وتيسير . وهذا هو القول الراجح .
قوله : [ ولا عقْل على رقيق ]
الرقيق على عقل عليه ، فلا تجب إلا على الحر ؛ لأن الرقيق لا مال له ، فإن ماله لسيده .
قوله : [ ولا غير مكلف ](27/29)
غير المكلف حتى لو كان له مال ، كالمجنون أو الصبي ، فإنه لا عقل عليه ؛ لأنه ليس من أهل النصرة ، والعصبة هنا إنما أوجبنا عليها العقل للنصرة التي تكون بين من يجمعهم النسب أو من بينهم ولاء ، وهذا الصبي أو المجنون ليس من أهل النصرة .
قوله [ وفقير ]
كذلك الفقير لا يجب عليه ؛ لأن الفقير يحتاج إلى المواساة ، فكيف يواسي غيره ، مع كونه محتاجا إلى المواساة ؟
قوله : [ ولا أنثى ]
لأن الأنثى ليست عصبة ، فليست من أهل النصرة .
قوله [ ولا مخالف لدين الجاني ]
فلا نوجب على المخالفين لدينه ، فإذا كان مسلما وله أخ ليس بمسلم ، فلا نوجب على هذا الأخ الذي تحت سلطان المسلمين شيئا من العقل – الدية – ؛ لأنه ليس من أهل النصرة ، والولاية منتفية بين المسلمين وغيرهم .
قوله : [ ولا تحمل العاقلة عمدا محضا ]
فلو قتل أو قطع الطرف أو جرح عمدا ، فإن العاقلة لا تتحمل ذلك ، لكن إن كان خطأ أو شبه عمد ، فإن العاقلة تتحمله كما تقدم ، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه – كما في سنن البيهقي بإسناد صحيح - : " لا تحمل العاقلة عمدا ولا اعترافا ولا صلحا ولا ما جَنى المملوك " يعني ما جَنى على المملوك كما قال أبو عبيد والأصمعي وغيرهما . فالعاقلة لا تتحمل عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا جناية على مملوك .
فهنا لا تتحمل العاقلة عمدا محضا ، بل الذي يتحمل ذلك هو الجاني نفسه .
قوله : [ ولا عبدا ]
لو جنى على عبد ، فالعبد هنا كما تقدم في دروس سابقة يقاس على المال ، فكما لو أن رجلا أحرق سيارة أو بيتا ، فإنه هو الذي يتحمل ، فكذلك إذا اعتدى على عبد ، فلا تتحمل عاقلته ، وإنما هو الذي يتحمل ، حتى لو كان خطأ ؛ للأثر المتقدم " ولا ما جنى المملوك " يعني وما جنى على المملوك .
قوله : [ ولا صلحا ]
أي صلحا عن إنكار .(27/30)
رجل قيل له : إنك قد قتلت فلانا ، قال : لم أقتله ، قيل له : إذاً سنذهب إلى المحكمة ونرفع ، قال : أنا لم أقتله ، ولكن اطلبوا من المال ما شئتم لأني لا أريد أن يُذهب بي إلى المحاكم ، قالوا : نريد مئة ألف ديته . فهل تتحمل العاقلة ؟
الجواب : لا تتحمل العاقلة ؛ لأن هذا صلح ، وما دام أنه لم يثبت عليه شيء ، فالواجب عليه أن يتحمل هو ، لأنه هو الذي أراد أن يفدي نفسه عن اليمين أو الذهاب إلى المحاكم أو نحو ذلك ، فعلى ذلك : هو الذي يتحمل ولا تتحمل العاقلة .
قوله : [ ولا اعترافا لم تصدقه به ]
لو أن رجلا قال : أقر أن قتلت فلانا خطأ ، والعاقلة لم تُصدِّقه ، فهل تتحمل العاقلة ؟
الجواب : لا تتحمل ، بل يتحمل هو ؛ إذ لو فُتح الباب لأقر كذبا وتوصل إلى أخذ المال من العاقلة واقتسامه مع أولياء المقتول . وعلى ذلك فإنها لا تتحمل الاعتراف ، لأن الأمر ليس بثابت عليه ببينة .
لكن إن صدّقوا وقالوا : نعم ، فلان نعرفه بالصدق ، وهو صادق فيما اعترف به ، فهل يلزمهم ؟
يلزمهم .
قوله : [ ولا ما دون ثلث الدية التامة ]
ما دون ثلث الدية التامة لا تتحمله العاقلة .
وما هي الدية التامة ؟
هي دية المسلم الذكر ، وهي مئة من الإبل .
فمثلا : الموضحة فيها خمسة أبعرة ، فهل تتحملها العاقلة ؟
لا تتحملها .
وكذلك الهاشمة أو المنقلة ، فهذه كلها دون الثلث .
مثلا : في قطع اليد من المرأة خمس وعشرون من الإبل ، وهذه أقل من الثلث التام ، لأن الثلث التام أكثر من ثلاثين بعيرا ، وكذلك لو أن المرأة فُقئت عينها ، فإن في ذلك خمس وعشرون من الإبل ، وهذه دون الثلث من الدية التامة .
استثنوا من ذلك دية الجنين ، فالجنين إذا ضُربت أمه فأسقطت هذا الجنين ، ففيه خمس من الإبل ، قالوا : وتجب على العاقلة ، وتركوا القاعدة للحديث المتقدم في قصة الهُذليتين لما اقتتلتا ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدية على العاقلة .(27/31)
والقول الثاني في المسألة ، وهو ما ذهب إليه الشافعية ، قالوا : إن العاقلة تتحمل ما كان أكثر من الثلث وما كان أقل من الثلث ، ولو كان بعيرا ، ما دام أن الجناية خطأ أو شبه عمد . وهذا القول أصح ؛ ويدل عليه حديث الهذليتين ، فإن دية الجنين خمس من الإبل ، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجبه على العاقلة .
وإنما استدل أهل القول الأول بأن الأصل في الجناية أن تكون من ضمان الجاني ، لكن الثلث كثير ، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الثلث والثلث كثير ) ، فالثلث يُجحف بماله ، فقالوا : ما كان ثلثا فأكثر فإنا نوجبه على العاقلة ، وما كان دون الثلث فنوجبه على الجاني نفسه .
لكن الأصح هو القول الثاني ؛ لما تقدم في قصة الهذليتين ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوجب الدية على العاقلة وهو خمس من الإبل ، ولذا احتاج أهل القول إلى استثنائه ، وقالوا : لأن الجنين تبع لأمه . لكن هذا لا يقوى على الاستثناء ، فكونه تبع لأمه ، هذا لا يقوى على الاستثناء ، لأن الأم لها ديتها المستقلة ، والجنين له ديته المستقلة . والله أعلم .
انتهى الدرس الرابع في ليلة الأربعاء السادس عشر من شعبان لعام 1420 للهجرة .(27/32)
" كتاب الحدود "
الحد لغة: المنع
وشرعاً: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية، كحد الزنا لغير المحصن، مائة جلدة.
فهذه العقوبة وهي مائة جلدة، عقوبة مقدرة من الشارع فليست راجعة إلى اجتهاد الحاكم.
ويجب على الحاكم إقامة حد الله تعالى، ولا يحل له أن يتركه لشريف ولا لشفاعة إذا بلغ الحاكم.
فإذا بلغ الحاكم الحد فيجب عليه أن يقيمه والشفاعة حينئذ محرمة.
ففي الصحيحين: أن أسامة بن زيد شفع في مخزومية سرقت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فشفع أسامة بن زيد فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - مستنكراً: (أتشفع في حدٍ من حدود الله).
وفي الخمسة بإسناد صحيح في قصة سرقة رداء صفوان، وفيه أن صفوان شفع لسارق ردائه عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني).
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد لله تعالى في أمره).
وفي أبي داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب).
فالشفاعة محرمة إذا بلغت المعصية الحاكم، وأما قبل أن تصل إلى الحاكم فلا بأس بالشفاعة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ( هلا كان ذلك قبل أن تأتيني).
قال: [ لا يجب الحد إلا على بالغ عاقل].
فالحد لا يجب إلا على عاقل بالغ أي مكلف، وهذا بإتفاق العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم والصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق).
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين قال لماعز بن مالك: (أبك جنون).
فالمجنون والصبي لا يقام عليهما الحد.
والمجنون لا يعزر، ولكن الصبي يُعزر بما يراه الحاكم بما يكون فيه ردعاً له عن التعدي.
قال: [ ملتزم ].
فلا بد أن يكون من يقام عليه الحد ملتزماً، أي ملتزم بالشريعة الإسلامية وهو المسلم والذمي.(28/1)
وأما المستأمن والحربي فإن الحد لا يقام عليهم لأنهم لا يلتزمون بأحكام المسلمين.
قال: [ عالم بالتحريم ].
لقوله تعالى: (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )).
وقال في الحديث - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى (قد فعلتُ) رواه مسلم فلابد أن يكون عالماً بالتحريم.
أما إن كان جاهلاً بالتحريم فلا يقام عليه الحد، وذلك حيث أمكن قبول دعواه كما لو كان ناشئاً في جهة من الجهات لا تنشر فيها أحكام الإسلام، كما يقع في بعض الأزمان في البوادي.
وإن كان في زمننا هذا، في هذه البلاد غير مقبول، لكن في بعض البلاد الأخرى يقبل هذا في بعض البوادي أو النواحي البعيدة عن سماع القرآن والأحاديث.
أو كان حديث عهد بإسلام.
أما الذي يعيش في بلاد المسلمين، فإنه لا يقبل منه ادعاء الجهل لأن الجهل بهذا الحكم غير مقبول لأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة.
وكذلك إذا جهل الحال، فهو يعلم أن هذا محرم في الشريعة، لكنه يجهل أن هذه العين محرمة عليه.
كأن يعلم أن الزنا محرم لكنه يجهل أن هذه المرأة محرمة عليه كما تقدم في غير ما مسألة في كتاب النكاح.
أو كذلك في السرقة: أخذ من مال يظن أنه ماله، والمال في جرز وقد توفرت فيه الشروط التي تقطع اليد بتوفرها فإن اليد لا تقطع لأنه يجهل أن هذه العين محرمة.
إذن: لابد من العلم بالتحريم، ولابد من العلم بأن هذه العين محرمة عليه فإن علم التحريم لكنه جهل العقوبة، فإن ذلك ليس بعذر له ولا يقبل منه.
وذلك: لأنه قد انتهك حرمة من حرمات الله، والحكم معلق بذلك.
قال: [ فيقيمه الإمام أو نائبه ].
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( واغدُ يا أنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) متفق عليه.
فلا يقيمها إلا الإمام أو نائبه وذلك، لأن إقامة غير الإمام أو نائبه فيها مفاسد، فإنه يترتب عليها سفكاً للدماء باسم إقامة الحد، وقطعاً للأطراف باسم ذلك ولاشك أن في ذلك مفاسد كبيرة.(28/2)
كما إن إثبات الحد يحتاج إلى اجتهاد، وأيضاً في تطبيقه يخشى الحيف.
والمراد بالإمام هنا، الإمام الأعظم.
" أو من ينيبه عندنا هنا الأمراء في البلاد، وكذلك وزارة الداخلية، فإنها تعتبر هي القائمة بهذا الباب".
وقال شيخ الإسلام بهذا القول لكنه ذكر أنه إذا كانت قرينة كتطلب الإمام لأحدٍ ليقتله فإنه يجوز قتله.
فمثلاً: إذا ثبت عند القاضي أن هذا حده القتل ورفعت القضية للإمام وصدق على ذلك، لكن هذا الرجل فرّ من حكم الله، فهنا القرينة طاهرة، في إرادة الإمام تطبيق حد الله تعالى عليه فحينئذ يجوز لمن رآه أن يقتله، وفي هذا القول قوة والله أعلم.
مسألة:
ويجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إذا زنت أمة أحدكم فثبت زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فثبت زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) متفق عليه.
في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب: أنه قال في خطبته: " يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحدود، فإن أمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسنت". رواه أبو داود في سننه مرفوعاً، والصواب وقفه.
وبه استدل جمهور العلماء على أن السيد يقيم الحد على عبده لكنه عندهم غير القطع، فلو سرق فإنه لا يقطع يده وإنما يكون هذا بما دون القطع، كالجلد ونحوه.
وذهب الشافعية وهو وجه في مذهب أحمد إلى أنه يقيمه عليه وإن كان قطعاً.
وهو ظاهر أثر علي بن أبي طالب المتقدم، وهو صريح فعل ابن عمر كما في مصنف عبد الرزاق أن عبداً سرق فقطع يده.
فالصحيح أن السيد يقيم على عبده سائر الحدود ولو كان في ذلك قطع الطرف.
وهل له أن يقيم الحد بمجرد علمه أم لابد وأن يثبت البينة؟(28/3)
فإذا رأى السيد عبده وهو يزني أو يسرق فهل له أن يقيم عليه الحد أم ليس له ذلك حتى تقوم عنده البينة أو يقر هذا العبد.
قولان لأهل العلم، هما قولان في مذهب أحمد:-
القول الأول: وهو مذهب مالك، أنه لا يقيم عليه الحد بعلمه كالحاكم، بل لابّد من البينة أو الإقرار.
القول الثاني: وأنه يقيمه بمجرد علمه، وهذا هو الأظهر وأما القياس على الحاكم، فهو قياس مع الفارق.
والفارق بين الحاكم والسيد أن الحاكم إنما منع من إقامة الحد بعلمه فراراً من تهمة الحاكم.
وأما السيد فهو حريص على حفظ ماله والعبد مال له، فهو حريص عليه وعلى حفظه وألا يتطرق إليه ما ينقص ماليته، وهذا فرق ظاهر بينهما.
قال: [ في غير مسجد ].
لما روى الترمذي والحاكم والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????نهى أن تقام الحدود في المساجد).
قال: [ويضرب الرجل في الحد قائماً ].
وذلك ليعم الضرب بدنه، ولئلا يخص ذلك موضعاً منه فيضّر به.
وفي ذلك أثر عن علي بن أبي طالب في ضرب الرجل قائماً والمرأة جالسة رواه البيهقي بإسناد ضعيف.
قال: [ بسوط لا جديد ولا خلق ].
فيضرب بسوط لا جديد ولا خلق.
ليس بالجديد فيجرحه، ولا بالخلق فلا يؤثر به ولا يؤلمه فيكون وسطاً.
قال: [ ولا يمد ولا يربط ولا يجرد بل يكون عليه قميص أو قميصان ].
ولا يمد: أي لا يمد على الأرض.
ولا يربط: أي لا يقيد.
ولا يجرد من ثيابه وفي ذلك أثر عن ابن مسعود رواه البيهقي بإسناد ضعيف أنه قال: " ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد" لكن الأثر ضعيف، والمعنى صحيح ويدل عليه ما في الأحاديث من إقامة الحد من النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه لم يجرد ولم يمد ولم يقيد، لكن القيد إن دعت الحاجة إليه فإنه يُفعل ولا بأس بذلك.
ويكون عليه قميص أو قميصان مما جرت العادة بلبسه مما يجعله يشعر بألم الضرب، وأما إذا كانت عليه ثياب كثيرة بحيث لا يبالي بالضرب فلا.
قال: [ ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد ].(28/4)
???حتى قالوا: لا يرفع الضارب يده حتى يظهر بياض إبطه، لأن هذا ضرب شديد يؤلم ألماً شديداً فربما شق الجلد أو آذاه آذىً شديداً.
وليس المقصود هو الإتلاف وإنما المقصود هو التأديب والزجر.
قال: [ ويفرق الضرب على بدنه ].
لئلا يضرّ به.
مسألة:
فإن كان من يُراد إقامة الحد عليه مريضاً، فله حالان:
الحالة الأولى: ألا يرجى زوال مرضه، فإنه يقام عليه الحد إقامة لا تضر به.
كأن يضرب بالنعال أو يضرب بطرف الثوب، أو بشماريخ العثكال أو نحو ذلك.
ويدل على ذلك: ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهما: أن رويجلاً: أي ضعيف الزحولة "خبُثَ بأمة فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بإقامة الحد عليه" فقيل هو ضعيف فقال خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة.
والعثكال: هو مجمع الشماريخ في النخل.
وقد قال تعالى: (( فاتقوا الله ما استطعتم)) ومن ذلك إقامة الحد ومن الحديث: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
الحالة الثانية: أن يرجى زوال مرضه.
فالمشهور في المذهب: أنه كذلك فلا يؤخر عليه الحد بل يضرب وهو مريض على حالة لا يثبت معها الضر.
وقال الجمهور وهو احتمال في المذهب: أنه يتراخى حتى تزول مدة العلة وحتى يزول هذا العارض.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، ويدل عليه ما تقدم في أُر علي بن أبي طالب: فإنه لما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -?أن يقيم الحد على الأمة وجدها حديثة عهد بنفاس فأخر إقامة الحد عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????أحسنت).
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال للزانية: ( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)، وهذا يدل على تأخير إقامة الحد للعارض.
وبه يحصل مقصود الحد من الزجر والردع، أما ما استدل به الحنابلة من الحديث المتقدم فإن الرجل لا يرجى زوال مرضه بخلاف ما هو واقع في هذه المسألة.
مسألة:
إن كان الرجل في أرض العدو في الغزو، فهل يقام عليه الحد في أرض العدو أم لا؟(28/5)
قولان لأهل العلم:-
أصحهما وهو المشهور في المذهب، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد ألا يقام عليه الحد.
وعليه دلت السنة وآثار الصحابة، فالسنة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (( لا تقطع الأيدي في الغزو (وفي لفظ)?في السفر)) المراد في سفر الغزو وذلك لئلا يترتب على إقامة الحد ما هو أعظم ضرراً كأن يلحق بالعدو فراراً يعني تأخذه العزة بالإثم.
وأيضاً ليكون أنكى في قتال العدو فإن إقامة الحد يضعفه.
وأما آثار الصحابة فهو قول عمر وأبي الدرداء وحذيفة ولا يعلم لهم مخالف.
فإذا رجع أقيم عليه الحد، للأدلة في ذلك، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) وهذا سارق وإنما أخر للمعنى المتقدم.
واختار ابن القيم أنه إن ظهرت منه التوبة النصوح أو ظهرت منه حسنات كنكاية عظيمة في العدو فإنه يعفى ويدل على ذلك: ما كان من سعد بن أبي وقاص مع أبي محجن وهي قصة صحيحة رواها عبد الرزاق في مصنفه وابن أبي سعد وسعيد بن منصور، وغيرهم، وقد صحح إسنادها الحافظ ابن حجر والقصة أنه شرب الخمر وكان له بعد ذلك نكاية بالعدو فحلف سعد بن أبي وقاص ألا يجلده البتة لما كان له من النكاية بالعدو.
فهذا أثر صاحب لا يعلم له في هذه المسألة مخالف أي مع هذه القيود المتقدمة.
قال: [ ويتقي الرأس والوجه والفرج والمقاتل].
وهذا ظاهر لأن المقصود هو التأديب وليس هو الإتلاف.
قال: [ والمرأة كالرجل فيه إلا أنها تضرب جالسة ].
فتضرب جالسة لان ذلك أستر لها، وتقدم أثر علي وأن إسناده ضعيف لكن المعنى يدل على ذلك.
قال: [ وتشد عليها ثيابها ].
فهذا أستر لها.
قال: [ وأشد الجلد جلد الزنا ثم القذف ثم الشرب ثم التعزير ].
فأشد الجلد جلد الزنا، فهو أشد من جلد القاذف وجلد القاذف أشد من جلد الشارب وجلد الشارب أشد من الجلد في التعزير.
قالوا لقوله تعالى في الزنا: (( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله )) فلما ذكر ذلك بخصوص الزنا دل على أن الجلد فيه أشد.(28/6)
والقذف ثمانون جلدة وهو أشد من شرب الخمر " وهو مشكل على المذهب لكن على الراجح هو أن الحد أربعون وما زاد فهو تعزير واختاره شيخ الإسلام، لا إشكال في ذلك.
قال: [ ولو مات في حد فالحق قتله ].
فإذا جلد الحاكم زانياً غير محصن فإن جلده فمات بذلك مائة لا شيء عليه.
وذلك لأن فعله مأذون فيه بالشرع وما كان مأذوناً فهو غير مضمون.
لكن لو تعدى ولو زيادة جلدة واحدة أو ضربه ضرباً يحصل فيه أذى شديد فتجب ديته.
قال: [ ولا يحفر للمرجوم في الزنا ].
سواء كان ذكراً أو أنثى.
قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يحفر لماعز ولا لليهوديين اللذين زنيا.
وقال بعض الحنابلة بل يحفر للمرأة سواء كان زناها ثابتاً ببينة أو بإقرار.
واستدلوا بما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????أمر بها فحفر لها إلى?صدرها ).
وذلك أستر لها.
والذي يترجح هو هذا القول، لكنا لا نقول بوجوبه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?حدّ ولم يفعله كما في قصة اليهوديين.
مسألة:
???وهي هل يقام الحد من قتل أو قطع على من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى حرم الله (أي الحرم المكي)؟
أما من فعل المعصية في الحرم كأن?يسرق أو يقتل فإنه يقام عليه الحد بلا خلاف.
لكن الخلاف فيمن سرق أو قتل ثم لجأ إلى الحرم المكي؟
فهل يقام عليه الحد أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب أحمد وهذا اختيار ابن القيم أنه لا يقام عليه الحد في الحرم لكن: يضيق عليه فلا يؤاكل ولا يشارب ولا يؤوى ولا يبايع ولا يشارى بمعنى: إن استأجر لم يؤجر وإن طلب ماءً لا يسقى ولا يجالس ويناشد الله عز وجل أن يخرج من الحرم إلى الحل ليقام عليه حد الله تعالى.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية والشافعية أنه يقام عليه الحد.
واستدلوا: بعمومات النصوص التي تدل على إقامة الحد، كقوله تعالى: (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)).(28/7)
وقوله: (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة)).
وغير ذلك من الآيات العامة فإنها عامة في الحل والحرم.
وأما أهل القول الأول:
فاستدلوا بقوله تعالى: (( ومن دخله كان آمناً)).
وبما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً).
والصحيح ما ذهب إليه أهل القول الأول: ويدل عليه أثران عن الصحابة ولا نعلم لهم مخالف فيكون في ذلك تخصيص للعموم كما يقوي تخصيص العموم ما تقدم من قوله تعالى: ((?ومن دخله كان آمنا)) وقوله - صلى الله عليه وسلم -????فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيه دماً).
والأثران:
الأول: عند ابن جرير وهو أثر حسن عن ابن عمر قال: " لو رأيت قاتل عمر في الحرم ما ندهته" أي ما زجرته.
والثاني: رواه ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: " من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فلا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى ويناشد أن يخرج فإذا خرج أقيم عليه الحد".
وهذان الأثران لا يعلم لهما عن الصحابة مخالف.
بل قال ابن القيم: إن هذا القول هو قول جمهور التابعين وإنه لا يحفظ عن صحابي ولا عن تابعي خلاف هذا القول.
فإن قيل: قد قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؟
الجواب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال ?كما في صحيح مسلم وغيره ?وإنما أُحلت لي ساعة من نهار"، فمكة قد أحلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -?ساعة من نهار ومن ذلك أنه قتل فيها ابن خطل.
فإن قيل: فما الفرق بين من فعل ذلك في الحرم ومن فعله في الحل ثم لجأ إلى الحرم؟
??والجواب: أن الفرق بينهما ظاهر ويمكن أن يكون من وجهين.
الوجه الأول: أن يقال: إن من فعل ذلك في الحل ثم لجأ إلى الحرم هارباً مستعيذاً فهو معظم للحرم.
وأما من فعل ذلك في الحرم فهو مستهين به.(28/8)
الوجه الثاني: أن في عدم إقامة الحد في?أهل الحرم فوضى وفساداً كبيراً ولا شك أن مثل هذا الفساد العظيم يجب درؤه.
" باب حد الزنا"
الزنا: فيه لغتان: المد "الزنا"، والقصر "الزنا"، وهو فعل الفاحشة في قبل أو دبر.
ويدخل في ذلك اللواط وإتيان البهيمة، ويأتي الكلام على هذا وما فيه من النظر من إدخاله?في حكم الزنا.
قال: [ إذا زنى المحصن رجم حتى يموت ].
????فإذا زنى المحصن -ويأتي تعريفه - رجم حتى يموت لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: (واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ).
وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم).
وثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب خطب فقال: (( إن الله قد بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم -?بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وأن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الجبل أو الاعتراف)، والحبل هو الحمل فهذا الأثر المتفق عليه الذي نطق به عمر على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بالمدينة لا يعلم أن أحداً أنكر عليه ذلك.
وفيه أن الرجم دلت عليه آية من كتاب الله لكنها نسخ لفظها وأما حكمها فهو باق.
وحكم الرجم ثابت بإجماع العلماء، ولا يعلم أن أحداً من العلماء خالف في ذلك، إلا أهل البدع كالخوارج.
والمستحب في الرجم أن يصفوا صفاً، كصف الصلاة أي لا يحيطون بالمرجوم بل يكونون كصف الصلاة لئلا يصيب بعضهم بعضاً.
??فإذا كان الزنا ثابتاً بالاعتراف أو الحبل فأول من يرجم الإمام أو نائبه ثم الناس.(28/9)
وأما إذا ثبت بالشهود فأول من يرجم هم الشهود أنفسهم ثم الناس، صح بذلك الأثر عن علي بن أبي طالب كما في مصنف ابن أبي شيبه.
ولم يذكر المؤلف هنا الجلد مع الرجم وهذا هو مذهب الجمهور وأن الزاني المحصن يرجم ولا يجلد.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد.
أنه يجمع له بين الجلد والرجم.
أما أهل القول الأول:
فاستدلوا:?بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -?رجم اليهوديين كما في الصحيحين ورجم ماعزاً، كما الصحيحين أيضاً، ورجم الجهنية كما مسلم، وقال - صلى الله عليه وسلم -????واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فرجمها)، فهذه الأحاديث كلها ليس فيها الجلد.
وقد صح عن عمر بن الخطاب، كما في مصنف ابن أبي شيبه أنه رجم رجلاً ولم يجلده.
?وأما أهل القول الثاني:
فاستدلوا: بحديث عبادة المتقدم وفيه: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وصحّ هذا من فعل علي بن أبي طالب كما في مسند أحمد، أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: "جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -??
والصحيح هو القول الأول: لأن ذلك هو آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?
لأن حديث عبادة "خذوا عني خذوا عني) الحديث، ظاهر في أنه أول حديث للنبي - صلى الله عليه وسلم -?بعد الحكم السابق، فقد قال تعالى: (( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم .. إلى قوله: أو?يجعل الله لهن سبيلاً ))، فهذا هو أول حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?بعد فسخ الحكم الأول، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يجلد.
وهذا يدل عليه النظر أيضاً، فإن القتل يأتي على ما دونه من ذلك ثم إن ترك عقوبة خطأ أولى من فعلها خطأً، فكوننا نترك عقابه على وجه الخطأ فنكون معذورين في ذلك، أولى من أن نقيم عليه هذه العقوبة ونكون مخطئين في ذلك.(28/10)
قال: [ والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة أو الذمية في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران ].
هذا هو المحصن.
"من وطئ" أي في قُبُل، وأما إذا كان في دبر أو مباشرةً فلا يقام عليه الرجم.
لقوله - صلى الله عليه وسلم -????الثيب بالثيب) ولا يثوبه إلا بعد وطئ في فرج وهذا باتفاق العلماء.
?امرأته" لا سريّته، فإذا وطئ أمته فهذا ليس بمصحن وهذا باتفاق العلماء.
والفارق ظاهر بين الزوجة والسريّة من حيث الإحصان.
"المسلمة أو الذمية": سواء كانت امرأته مسلمة أو ذمية وقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم -?حد الرجم على اليهوديين.
??وفي نكاح صحيح": تقدم تعريف النكاح الصحيح.
فإذا كان نكاحاً باطلاً، "كنكاح المعتدة" أو فاسداً كنكاح بلا ولي لمن يعتقد فساده فإنه لا يثبت به الإحصان وهما بالغان عاقلان حران فهذه شروط الإحصان.
الشرط الأول: أن يطأها في قُبُلها.
الشرط الثاني: أن تكون امرأة له.
الشرط الثالث: أن يكون النكاح صحيحاً.
الشرط الرابع: أن يكونا بالغين.
الشرط الخامس: أن يكونا عاقلين.
الشرط السادس: أن يكونا حرين.
الشرط السابع: ذكره بقوله: ??فإن اختلّ شرط منها في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما ].
فهذا هو الشرط السابع وهو أن يكون الزوجان كذلك، فإذا كانت امرأته صبية أو غير عاقلة، أو أمةً فلا يقام عليه الحد وإن كان هو حراً، هذا هو مذهب جمهور العلماء.
وقال الشافعي في أحد قوليه: بل النظر إليه هو، فإن كان هو حراً بالغاً عاقلاً فإن الحد يقام عليه.
والأولى أصح وذلك لأن الإجماع قائم على أن من?كانت تحته سرّية فإن الحد لا يقام عليه وذلك لعدم كمال الوطء فكذلك إذا كانت صبية أو مجنونة، فكذلك لعدم كمال الوطء.
قال: [ وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاماً ولو امرأة ].
فإذا زنى الحر غير المحصن فإنه يجلد مائة جلدة، لقوله تعالى: (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة )).(28/11)
وفي مسلم من حديث عبادة وفيه: (والبكر بالبكر خلد مائة ونفي سنة).
وقال في الصحيحين في قصة العسيف: "على ابنك جلد مائة وتغريب عام" وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: " لأقضين بينكما بكتاب الله" ومع ذلك فإنه لم يقض بالجلد في الثيب?بل قضى بالرجم وهذا راجع إلى المسألة السابقة وهي هل يجمع مع الرجم الجلد"
إذن يجلد مائة ويغرب عاماً.
وفي الترمذي عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -????جلد وغرّب وأن أبا بكر جلد وغرّب وأن عمر جلد وغرّب) والحديث صحيح كما في الترمذي.
فيغرب عاماً أي سنة هجرية، لأن الحساب في الإسلام يكون بالسنة الهلالية لقوله تعالى: ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس)).
ويغرب عاماً عن بلده مسافة قصر، وذلك لأن ما دون مسافة القصر في حكم الحضر.
والغريب إن زنى يغرب إلى بلد أخرى سوى بلده التي أتى منها لمعنى العقوبة.
"ولو امرأة": فالمرأة تغرب لعموم الحديث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) وهذا عام في الذكر والأنثى.
لكن المرأة في المشهور في المذهب، يجب أن يكون معها محرم لها قالوا: وعليها أجرته، فإن تعذرت عليها الأجرة فمن بيت المال.
وذكر الموفق احتمالاً أنه ليس عليها الأجرة كما أنه ليس عليها أجرة الجالد وغير ذلك، لأن هذه إقامة حد والواجب عليها أن تستسلم لحكم الله تعالى في إقامة الحد عليها وليس عليها أجرة ذلك، وهذا أظهر وأنه لا يجب عليها أن تدفع أجرة لمحرمها.
فإن تعذر المحرم، إما لأنه لا محرم لها أو لأن المحرم اعتذر عن ذلك.
فإنها تغرب في المذهب ولو وحدها، وهذا ضعيف.
ولذا: فإن القول الثاني في المسألة: وهو اختيار الموفق وابن القيم أنها لا تغرب إلا بمحرم وذلك لما يترتب على ذلك من الفتنة وتعرضها للفساد فكونها تغرب هذا يسهل عليها العودة إلى الفاحشة.
فإن قيل بالحبس حينئذ مع الأمن ففيه قوة والله أعلم (وينظر).(28/12)
قال: [ والرقيق خمسين جلدة ].
????لقوله تعالى: (( فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)).
وهذا في الإماء ويقاس عليهن العبيد.
ولا رم على الرقيق، وذلك لأن الرجم لا يتنصّف فلا يقام حد الرجم على غير الحر بل يقام عليهم الجلد فيجلد خمسين جلدة سواء كان عبداً أو أمةً.
قال: [ ولا يغربّ ].
???لما في ذلك من الإضرار بالسيد، فلا تغريب في العبد ولا الإماء، لما في ذلك من الضرر بالسيد فإن في ذلك تفويتاً لمصلحة السيد فيه.
قال رحمه الله: [ وحد لوطي كزان ].
??اللوطي: هو من أتى?رجلاً في دبره أو امرأةً أجنبيةً عنه في دبرها.
فحد اللوطي كحد الزاني، فإن كان محصناً رجم حتى يموت، وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة.
هذا هو المشهور في مذهب أحمد.
واستدلوا: بما روى البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان).
لكن الحديث ضعيف فهو من حديث بشر بن المفضّل البجلي وهو مجهول.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والشافعية وروايته عن الإمام أحمد.
أن من فعل مثل فعل قوم لوط فإنه يقتل مطلقاً لا ينظر هل محصن أم ليس بمحصن.
واستدلوا بالسنة والإجماع.
أما السنة: فما روى الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال من حديث ابن عباس: ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة).
والحديث في شقه الأول حديث صحيح، وله شواهد وأما الإجماع: فقالوا: هو إجماع الصحابة رضي الله?عنهم، فقد أجمع الصحابة على ذلك لكنهم اختلفوا في كيفية القتل فمنهم من قال: يحرق، ومنهم من قال: يرجم ومنهم من قال: يقتل بالسيف.
وقد حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ورواه الآجري في تحريم اللواط، وغيره.
وهذا هو القول الراجح في المسألة، واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.(28/13)
?فالصحيح أنه يقتل مطلقاً وهل يحرف أم يرجم أم يقتل بالسيف؟
أقوى هذه الأقوال الثلاثة، فيما يظهر لي أنه يرجم.
وقد صح ذلك عن ابن عباس، أنه قال في البكر يوجد على اللوطية قال: يرجم.
وتشهد له قوله سبحانه: (( وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ))سورة الحجر.
على أنه يقوى أن يقال: إن ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام فيفعل ما يرى أنه أردع سواء قتلاً بالسيف أو رجماً أو إحراقاً وإن كان أقواها، فيما يظهر هو قول ابن عباس ويشهد له القرآن.
مسألة:
???من أتى بهيمة فما حكمه ؟
جمهور العلماء على أنه يعزر ولا يقتل.
وقال القاضي من الحنابلة: أن حده كحد اللوطي والصحيح هو الأول.
وأما الحديث المتقدم في شقه الثاني فهو حديث منكر كما قال ذلك الإمام أحمد وقال ذلك أبو داود والترمذي والطحاوي وغيرهم.
وقد قال البخاري في حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة وهذا منه، قال: "له مناكير عنه" وسبب الإنكار أنه ثبت عند أبي داود بإسناد جيد أنه سئل عن ذلك فقال "لا حد عليه".
قال: [ ولا يجب الحد إلا بثلاثة شروط].
أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها.
فهي ما يبرز بعد الختان من الحشفة.
الأصلية: فليست من خنثى مشكل.
??في قبل أو دبر أصليين من آدمي حي حراماً محضاً].
???لا شبهة فيه.
وكذلك أن يكون ذلك في حية لا في ميته، في المشهور في المذهب.
قالوا: لأن الميتة لا تشتهي وتتغير منها الطباع فلا يحتاج إلى الزجر عنها بحد الزنا.
فمن أتى ميتته في فرجها فإنه لا يجلد ولا يرجم بل فيه التعزير.
والقول الثاني في المسألة: وهو قول في المذهب وهو مذهب الأوزاعي أنه يرجم إن كان محصناً، وإن لم يكن محصناً فإنه يجلد وذلك لأنه فرج آدمية.
?وكونه لا يشتهي أو تنفر الطباع منه هذا ليس مؤثر بدليل أن اللوطي يقتل وإن كان ذلك مما تنفر عنه الطباع السليمة فهو شذوذ ولا شك، ومع ذلك فإنه أقبح?من الزنا وعقوبته أشد.
?فما ذهب إليه الحنابلة في أحد القولين وهو قول الأوزاعي أقوى والله أعلم.(28/14)
قال: [ الثاني: انتفاء الشبهة، فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك].
???فلو أن رجلاً يشترك وآخر في أمةً فليس لأحدهما أن يطأها لكن إن وطئها فلا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
قال: [ أو لولده ].
???فإذا وطئ أمةً لولده فإنه لا يقام عليه الحد لوجود شبهة الملك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -???أنت ومالك لأبيك).
ولم يقل "لوالده" لأنه لا شبهة حينئذ، ولم يقل، لزوجته لأنه لا شبهة حينئذ.
والذي يدل على انتفاء الحد بالشبهة إجماع أهل العلم، فقد أجمع أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات كما حكى ذلك ابن المنذر وأما ما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( إدرؤا الجلد والقتل من المسلمين بالشبهات) فالحديث ضعيف جداً فيه يزيد بن زيادة الدمشقي وهو متروك الحديث.
وعن علي في البيهقي بإسناد ضعيف: " ادرؤا الحدود بالشبهات" لكن صح ذلك عن ابن مسعود أنه قال: " ادرؤا الجلد والقتل من المسلمين ما استطعتم " رواه البيهقي بإسناد صحيح وقد أجمع أهل العلم على هذا.
لكن الاحتمالات البعيدة جداً غير معتبرة، بل المعتبر أن يكون هناك احتمال قوي يقوي أن يكون شبهة فيمنع الحد الثابت.
قال: [ أو وطئ امرأة ظنها زوجته ].
???فقد ينادي الأعمى امرأته فتأتيه أخرى فيطؤها وتكون الأخرى متعمدة، وحينئذ يقام عليها الحد وأما هو فلا يقام عليه الحد لأنه ظنها زوجته فهو لا يظنها أجنبية وحينئذ لا يكون فاعلاً أمراً حراماً
قال: [ أو سريته ].
إذا وطئ امرأة يظنها سريته، وليست كذلك فلا يقام عليه الحد.
قال: [ أو في نكاح باطل اعتقد صحته].
??كأن يطئ معتدةً فهذا نكاح باطل باتفاق العلماء لكنه اعتقد صحته أي جاهلاً، وأمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد لوجود الشبهة.
أما إذا كان لا يعتقد صحته فإنه يقام عليه الحد لعدم الشبهة.
قال: [ أو نكاح ... مختلف فيه].
???النكاح المختلف فيه: كالنكاح بلا ولي.(28/15)
فإذا نكح امرأة بلا ولي فهل يقام عليه الحد؟ فالمشهور في المذهب أنه لا يقام عليه الحد وإن اعتقد بطلانه وذلك لوجود الشبهة، لذلك أطلق هنا وقيد في المسألة السابقة (أو نكاح باطل اعتقد صحته)
وعن الإمام أحمد: أنه يقام عليه الحد وهو الصحيح، وذلك لأنه لا شبهة له في ذلك.
وهذا نكاح باطل في الحقيقة، وكونه يكون مختلفاً منه هذا ليس بمؤثر في حقيقة الأمر، فحقيقته أنه نكاح باطل وإنما سمي فاسداً لاختلاف أهل العلم فيه.
إذن: من نكح نكاحاً فاسداً، وهو يعلم فساده، فالصحيح أنه يحد وهو رواية عن الإمام أحمد.
قال: [ أو ملك مختلف فيه ].
???بيع الفضولي مختلف فيه، فإذا اشترى له أمةً على بيع الفضولي فنكحها فإنه لا يقام عليه الحد ولو كان ذلك قيل الإجازة وذلك لأن بيع الفضولي مختلف فيه، فلا يقام عليه الحد للشبهة.
وهذه كالمسألة السابقة.
فإن كان يعتقد بطلان هذا البيع وإنه لا يصح فالصحيح أنه يقام عليه الحد لأنه لا شبهة له.
قال: [ أو أكرهت المرأة على الزنا ].
???فإذا أكرهت المرأة على الزنا فلا يقام عليها الحد باتفاق العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -????إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ?والنسيان وما استكرهوا عليه).
?وقال هنا: " المرأة" وليخرج من ذلك الرجل، فإن الرجل لو أكره على الزنا فإنه يقام عليه الحد في المذهب.
قالوا: لأنه لا يمكن أن ينتشر ذكره وهو مكره، بل لا يمكن أن ينتشر إلا أنه مختار.
لكن هذا ضعيف، لأنه قد يكون مكرهاً، ومع ذلك ينتشر ذكره إما لقوة شهوة، أو غير ذلك ولا دخل لهذا بهذا.
لذا فالصحيح، وهو مذهب الشافعية، أن الرجل إذا أكره على الزنا فلا يقام علي الحد وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي.
مسألة:
إذا زنى بذات محرم، كأن يزني بأمه أو بأخته أو غيرهما من محارمه فما الحكم؟
الجمهور: على أنه يرجم إن كان محصناً، ويجلد إن لم يكن محصناً أي كغيره.
واستدلوا: بالعمومات.(28/16)
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يقتل مطلقاً.
واستدلوا:
بما ثبت في سنن الترمذي والنسائي عن البراء بن عازب قال: "لقيني عمي ومعه راية فسألته فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -?إلى رجلٍ نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله".
وله شاهد من حديث معاوية بن قرة في سنن ابن ماجه والحديثان صحيحان.
وعلى ذلك فالراجح هو القول الثاني.
ولا شك أن الفارق ظاهر بين الزنا بغير ذات المحرم وبذات المحرم، فإن ذات المحرم تعافها النفوس ولا يشتهيها الطباع فهي أشبه ما تكون بوطء الدبر الذي تقدم أن الراجح قتل فاعله.
ثم إن الواجب عليه صانة ذات محرمه وحفظها وهذا قد قام بخلاف ذلك.
قال رحمه الله: [ الثالث: ثبوت الزنا ].
??هذا هو الشرط الثالث?من شروط إقامة حد الزنا.
قال: [ ولا يثبت إلا بأحد أمرين:- أحدهما: أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس]
أي يقر بالزنا فيقول: "زنيت" فيقول ذلك أربع مرات سواء كان ذلك في مجلس واحد للقاضي، أو بقول هذا في مجالس بمعنى يقولها مرة في اليوم الأول ومرة في اليوم الثاني ثم في اليوم الثالث ثم في اليوم الرابع.
فلابد لإقامة الحد عليه من أن يقر على نفسه أربع مرات.
هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين في قصة ماعز، من حديث أبي هريرة وفيه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -?فقال: "أبك جنون؟" قال: لا، قال: فهل أحصنت؟، قال: نعم، قال: اذهبوا به فارجموه" فقد توقف في الحد حتى تمت هذه الشهادات الأربع.
وقال المالكية والشافعية: بل بمجرد إقراره ولو مرةً واحدة يقام عليه الحد.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????واغدُ يا أنسُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).
قالوا: فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -?
الراجح هو القول الأول.(28/17)
والجواب عما استدل به أهل القول الثاني: أن يقال: هذا الحديث مطلق، والحديث الأول مقيد.
قال: [ ويصرح بذكر حقيقة الوطء].
??فيصرح بذكر حقيقة الجماع، بأن يصرح أنه قد وطئ المرأة وأدخل ذكره في فرجها صراحة.
ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -?لماعز في صحيح البخاري: ( لعلك قبّلت وغمزت، ونظرت) فقال لا حتى ذكر له النبي - صلى الله عليه وسلم -?الجماع لا يكنى )
قال: [ ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد ].
??فإذا قال: رجعت قبل أن يقام عليه الحد فإنه يقبل رجوعه أوقال ذلك أثناء إقامة الحد فإنه يقبل رجوعه ما لم يتم عليه الحد، أي ما لم يرجم فيموت.
دليل ذلك.
ما ثبت في سنن أبي داود وغيره في قصة ماعز وأنه جزع لما وجد مسّ الحجارة فهرب فقتلوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه).
وهذا إنما هو في الإقرار أي عندما يقر على نفسه وأما?إذا ثبت الزنا عليه بالبينة فإنه لا يقبل رجوعه.
قال: [ الثاني: أن يشهد عليه في مجلس واحدٍ بزنا واحد يصفونه أربعة ممن تقبل شهادتهم فيه، سواء أتوا الحاكم جملةً أو متفرقين].
?هذا هو الطريق الثاني لثبوت الزنا.
أن يشهد عليه في مجلس واحد بزنا واحد يصفونه أربعة:?بمعنى أنهم يخبروا أنهم رأوا الذكر في الفرج كالمرود في المكحلة وكالرشا في البئر أي صريح الجماع.
??ممن تقبل شهادتهم فيه): وهم الرجال الأحرار البالغون ما لم يكن بينهم مانع، فمن ذلك العمي والزوجية.
أما العمى فظاهر أنه مانع لأن ذلك يحتاج إلى البصر.
وأما الزوجية فلأن الزوج إذا شهد على امرأته بذلك وكان من جملة الشهود فهذا إقرار منه بعداوته لها قالوا: فلا تقبل شهادته.
?ويدل على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم: أن سعد بن عبادة قال: "يا رسول الله إن وجدت على امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء".
فلم يقل: " أأمهله حتى آتي بثلاثة شهداء" فهو ليس بشاهد ولا يصح أن يكون شاهداً.(28/18)
إذن: الزوج لا تقبل شهادته على امرأته بذلك.
وكذلك: إذا كان في شهادتهم ما يدل على كذبهم فإن شهادتهم لا تقبل.
وكان في شهادتهم ما يدل على أنه ليس بزنا واحد بل زنا متعددة.
كأن يشهد اثنان على أنه زنا بهذه المرأة في مكانه ويشهد الآخران أنه زنا بها بمكان آخر.
أو يشهد اثنان أنه في الصباح قد زنا بها، ويشهد الآخران أنه زنا بها في المساء فهنا الزنا مختلف.
( في مجلس واحد ): فلابد أن يكون المجلس واحداً أي مجلس الحاكم بمعنى: أتى الشهداء فقالوا: إن فلاناً قد وطئ فلانة ويصفوا ذلك في مجلس القاضي وهم أربعة وتوفرت فيهم الشروط حينئذ تقبل شهادتهم.
أما لو كانوا في أكثر من مجلس كأن يأتي اثنان في مجلس في الضحى ويأتي اثنان في مجلسه في المساء.
أو يأتي ثلاثة في مجلسه اليوم ويأتي واحد في مجلسه من الغد فلا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف.
ودليل ذلك: "ما ثبت في البيهقي: أن عمر حدّ أبا بكرة ونافعاً وشبل من معبد لما شهدوا على المغيرة بالزنا".
ولم يتربص بهم حتى يأتوا بشاهد رابع، هذا من الأثر.
وأما من النظر فهو أن أهل العلم قد أجمعوا على أن الثلاثة إذا شهدوا فحدوا حد القذف ثم أتى شاهد رابع بعد ذلك فلا تقبل شهادته.
فكذلك إذا شهد ثلاثة ثم شهد آخر في مجلس آخر وإن لم يُحد هؤلاء فالحكم واحد.
وقال الشافعية: بل لا يشترط أن يكون في مجلس واحد واستدلوا: بقوله تعالى: (( فإذا لم يأتوا بأربعة شهداء)).
قالوا: وهذا مطلق سواء كان في مجلس أو مجلسين أو أكثر والجواب عن الاستدلال بهذه الآية: أن يقال وهذه الآية مطلقة وقيدها فعل عمر رضي الله عنه.
والصحابي قوله يقيّد إطلاق النصوص كما هو مرجّح في علم الأصول.
ثم يقال: ما هو مدى الانتظار؟
هل ننتظر إبداً فحينئذ يفوت علينا إقامة حد القذف وإذا كان له أمد، فما هو الأمد؟، وأصح ما يكون الأمد هو المجلس نفسه.
ولا شك أن الشارع قد اعتبر المجلس كما اعتبره في خيار البيع.(28/19)
فالصحيح أن لابّد أن تكون شهادتهم في مجلس واحد.
والمراد بالمجلس الواحد أي مجلس القاضي، سواء كان إتيانهم جملة أو متفرقين.
فمثلاً: القاضي يجلس من الساعة الثامنة إلى الساعة الثانية عشر فأتى بعضهم في أول النهار وبعضهم في آخر المجلس أي قبل الساعة الثانية عشرة، فالمجلس واحد ولذا قال: ??سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين )?
قال: [ وإذا حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك ].
??إذا حملت امرأة ولا زوج لها ولا سيد يطؤها فإنها لا تحد بمجرد ذلك.
قالوا: لإحتمال للشبهة فيحتمل أنها مكرهه أو أنها وطئت وهي نائمة أو نحو ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات.
والقول الثاني في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن الحد يقام.
واستدلوا: بما تقدم من قول عمر، الذي قاله في محضر من الصحابة ومنه: "أو كان الحبل أو الاعتراف" والَحبَل هو الحمل.
فهذا قول صاحب قاله بمحضر من الصحابة ولا يعلم له مخالف.
ثم إن هذه الإمارة وهي ظهور الحمل فيها أظهر من كونه يأتي بأربعة شهداء فيشهدون عليها بالزنا.
وهذا القول هو الراجح.
فأما قولهم: إن ذلك شبهة.
فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات البعيدة وإلا لم يقم حد والأصل هنا عدم ذلك.
لكن: لو ادعت أنها قد أكرهت وكانت القرينة ظاهرة في ذلك، كأن تكون مصابة بحراجات ونحو ذلك بما يدل على أنها قد اغتصبت ثم يكون فيها حمل وتدعي أنها قد اغتصبت بدليل هذه الجراحات فحينئذ يقبل قولها أو أقامت بينه على ذلك.
مسألة:
???إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وتوفرت الشروط فيهم لكن شهدت القابلات من النساء الثقات أن المرأة بكر، فما الحكم؟
الجواب: أن المرأة لا تحد، لأن بكارتها التي تثبت بهذه البينة تمنع من الزنا.
ولا يقام?حد القذف على الشهود لأن الشروط متوفرة فيهم ولا يجزم بكذبهم.
" باب حد القذف "(28/20)
???القذف: هو الرمي بما يوجب الحد من زنا أو لواط أما لو رماه بما لا يوجب الحد كأن يرميه بقبلة امرأة أو مباشرتها أو نحو ذلك فليس قذفاً ولا يوجب حد القذف بل يوجب التعزير.
قال: [ إذا قذف المكلف].
تقدم اشتراط التكليف في مسائل الحدود فلو قذف الصبي أو المجنون فلا يحد كذلك لابد أن يكون مختاراً، أما لو كان مكرهاً على القذف فلا يحد أيضاً.
قال: [ محصناً].
?فإذا قذف المكلف، ولو كان ذلك بإشارة تدل على القذف كما يقع من أخرس أو نحوه.
( محصناً):- ولو كان هذا المحصن مجبوباً أو كانت المرأة رتقاء فالحكم واحد.
فإن قيل: كيف يقع ذلك وهي رتقاء أو وهو مجبوب؟
فالجواب:
نعم، الزنا غير صحيح، لكن ما يدري الناس أن المرأة رتقاء أو أن الرجل محبوب، وحينئذ يلحقه العار بذلك.
قال: [ جلد ثمانين جلدة، إن كان حراً ].
لقول تعالى: (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)).
قال: [ وإن كان عبداً أربعين].
????ودليلة ما روى ابن أبي شيبه وعبد الرزاق في مصنعيهما عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة قال: " لقد أدركت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومن بعدهم وكانوا لا يجلدون المملوك للقذف إلا أربعين".
قال: [ والمعتق بعضه بحسابه].
???فإذا بعضه حر وبعضه عبد، فإنه يجلد بحسابه، فإذا كان مثلاً نصفة حراً نصفة عبداً، فإنه يجلد ستين جلدة.
قال: [ وقذف غير المحصن يوجب التعزير ].
????فقد كان يقذف ذمياً أو مستأمناً بالزنا، أو أن يقذف مجنوناً أو غير ذلك، فإنه يجب التعزير لأنها منقصة.
قال: [ وهو حق للمقذوف].
????هذا هو مذهب الجمهور قالوا: هو حق للمقذوف، ولذا يسقط بعقوه، ولا يستوف بدون طلبه.
لذا قال بعد ذلك في آخر الباب: " ويسقط حد القذف بالعفو ولا يستوفي بدون الطلب".
فهذا مرتب على أنه حق للآدمي وهو المقذوف.(28/21)
* واستدلوا: بالقياس على الجناية على النفس، قالوا: هو أي القذف - جناية على العرض فأشبه الجناية على النفس.
* والجناية على النفس حق للآدمي يسقط بالعفو ولا يستوفى بدون الطلب وهنا كذلك فالقذف جناية على الآدمي في عرضه.
وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد هو حق لله تعالى وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن والسنة.
* ودليل ذلك: أن الله تعالى قال: (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة)).
ولم يشترط الله تعالى رضا المقذوف ولا?طلبه.
????وأما السنة فما روى أحمد والأربعة والحديث حسن عن عائشة قالت: ((لما نزل عذري صعد النبي - صلى الله عليه وسلم -?على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر رجلين وامرأة فضربوا الحد)).
وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أوقف الحد على طلب عائشة ولا على رضاها.
وأما من النظر، فهو أن يقال ويصح أن يكون رداً على دليل أهل القول الأول، وهو أن يقال: إن الحد ثمانين جلدة وهو غير مماثل للجاني، فإن الجناية اعتداء باللسان على العرض وأما الحد فإنه جلد أي اعتداء على البدن بالضرب فلم يكن هناك مماثلة ففارق هذا عقوبة القاتل، فإن القاتل يقتل حيث قتل، والقاطع يقطع حيث قطع، والجارح يجرح حيث جرح، وأما هنا فإنه قد اعتدى على العرض وضرب ثمانين جلدة، فلم يكن هناك مماثلة بين الحد، وهي الجلد هنا، وبين الجناية بخلاف الجناية على النفس.
وهذا يصح أن يكون رداً على القياس المتقدم، فيقال هذا قياس مع الفارق.
لأن الجناية على النفس عقوبتها أن يقتل النفس، وإن كان قطعاً أن يقطع الطرف، وإن كان جرحاً أن يجرح البدن.
وأما هنا فلا مماثلة، فإنه اعتدى بلسانه على عرض أخيه فضرب ثمانين جلدة.
فالصحيح ما ذهب إليه أهل القول الثاني:(28/22)
وعليه: فلا يحتاج إلى طلب من المقذوف ولا يكون العفو إلا قبل?أن يرفع ذلك إلى الحاكم، فللمقذوف ألا يرفع ذلك إلى الحاكم، وأما إذا وصل الأمر إلى الحاكم فإنه يقام عليه الحد ولا ينظر إلى عفو المقذوف.
قال: [ والمحصن هنا: الحر ].
????وعليه فلو قذف عبداً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر كما تقدم في قول المؤلف: ( وقذف غير المحصن يوجب التعزير).
وقد قال تعالى: (( والذين يرمون المحصنات)) والمحصنات هن الحرائر المسلمات.
ولا شك أن العبد ليس كالحر، وقد فرق الله بينهما بالشرع كما في غير ما آية من كتاب الله الكريم، فليس هذا كهذا.
وإنما يستوون في أحكام الآخرة في الثواب والجزاء، وفي التكاليف الشرعية.
وهذا أي اشتراط الحرية في الإحصان كذلك ما سيذكره المؤلف من شروط المحصن هو مذهب عامة أهل العلم.
[ المسلم].
????فلو قذف ذمياً فلا يقام عليه الحد، لكن يعزر.
قال: [ العاقل].
????فلو قذف مجنوناً فلا يقام عليه الحد لكن يعزر.
قال: [ العفيف].
????أي في الظاهر، الذي ليس مشهوراً بالفجور "أي بالزنا" وإن كان قد يقع منه الزنا في الباطن لكنه لا يعرف بالزنا، أما إذا كان الفجور ظاهراً فيه فلا.
قال [الملتزم ].
هذه العبارة مشكله وليست في الأصل : وهو المقنع
وإنما ذكرها المؤلف تبعاً لبعض الحنابلة.
وهي مشكلة لأن الملتزم يدخل فيها المسلم والذمي أما المسلم فالإشكال، أنه قد ذكر قبل ذلك من قوله (المسلم) وأما الذمي فإن ذكرها ينافي قوله (المسلم) لأن ظاهر قوله مسلم أن غير المسلم ليس كذلك.
ولذا فهذه العبارة ليست بصحيحة.
قال: [ الذي يجامع مثله].
????وفي المذهب أن الذي يجامع مثله ابن عشر أي من الذكور والتي يجامع مثلها بنت تسع أي من الإناث.
?وتقدم أن الراجح أن الذي يجامع مثله ليس له سن محددة وعليه فلو قذف من لا يجامع مثله من حيث السن فإنه لا يُحد.
ولا يلحقه عارٌ بذلك لأن الكذب معلوم فلم يحتج إلى حدٍ يعلم به الكذب.(28/23)
قال: [ ولا يشترط بلوغه].
??لأن الصبي إذا قذف بالزنا، وهو يجامع مثله لكنه صبي، أو قذفت البنت بالزنا وهي ممن يجامع مثلها وهي صبية لم تبلغ فإنهما يحلقهما العار إذا كبرا فيحتاج إلى الحد ليعلم كذب القاذف.
وهذا هو مذهب الحنابلة ومذهب مالك.
وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: يشترط أن يكون بالغاً.
قالوا: لأن البلوغ هو أحد شرطي التكليف، فكما أنا نشترط أن يكون عاقلاً فكذلك نشترط أن يكون بالغاً.
والصحيح هو الأول.
والفرق ظاهر بين غير العاقل وبين العاقل غير البالغ، ويمكن أن يكون ذلك من وجهين.
الوجه الأول: أن غير البالغ يؤول أمره إلى التكليف، وأما غير العاقل فإن أمره لا يؤول إلى التكليف، فلا يلحقه العار في المستقبل.
??بخلاف غير البالغ فإن العار يلحقه في المستقبل.
الوجه الثاني: المجنون عذره عند الناس أكبر لأنه لا عقل له.
وأما غير البالغ كالمراهق مثلاً فإن العذر فيه ضعيف.
قال: [ وصريح القذف: يا زاني يا لوطي ونحوه].
??هذا صريح القذف، فمتى ما قال: يا زاني أو يا لوطي ونحوه فإنه يقام عليه الحد، ولو قال أنا لا أقصد الزنا الصريح بل أردت زنا العينين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -????العين تزني وزناها النظر) فلا يقبل منه ذلك لأن هذا صريح في القذف.
قال: [ وكنانية: .. ونحوه وإن فسره بغير القذف قبل ].
??كناية القذف إن فسرت بغير القذف قبل مع اليمين، فلو أن رجلاً قال لامرأة: " يا خبيثة " فلما قيل له، إنك قذفتها بالزنا، قال: إنما أريد أنها خبيثة الأعمال، فيقال "احلف على ذلك" فإن حلف على أن ذلك مراده فإنه لا يحد.
أو قال لامرأة: "نكّست رأس زوجك" ثم أدعى أنه أراد أنها لا تعتني بثيابه فيخرج وسخ الثياب فيقبل منه ذلك لكن يحلف على ذلك.
وظاهر كلام المؤلف أنه وإن كانت قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الزنا أو اللواط.
لكن هذا الظاهر فيه ضعف.(28/24)
والصحيح هو ما اختاره ابن القيم وابن عقيل من الحنابلة وهو مذهب المالكية.
??إن التعريض ونحوه، إذا كانت قرائن الأحوال تدل عليه فهو كالصريح.
وذلك لأن عدم القول بذلك يفتح باب رمي المسلمين في أعراضهم ولا تقام عليهم الحدود بذلك، فيترك قول يا زاني ويقول مثلاً يا خبيثة، والناس لا يفهمون من قوله يا خبيثة في كلامه إلا الزنا وحينئذ يفر من إقامة الحد عليه.
ولا شك أن الواجب سدُّ هذه الذريعة.
ولذا أروى عبد الرزاق وغيره "أن عمر ضرب في التعريض".
فإذا كانت هناك قرائن الأحوال تدل على أنه يريد بذلك الرمي بالزنا فلا ينظر إلى قوله هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
?وقوله: "أو جعلت له قروناً" أي أنك جعلتيه كالثور أي جعلتيه ديوثاً.
قال: [ وإن قذف أهل بلد أو جماعة لا يتصور منهم الزنا عادة عزّر].
??فلو أن رجلاً أتى إلى جماعة كثيرة لا حصر لهم قرماهم بالزنا ولا يتصور أن يقع منهم ذلك فلا يقام عليه الحد لأن العار لا يلحقهم لأن كذبه معلوم ولكنه يعزر لأنها معصية، أما لو كانت الجماعة يتصور منهم ذلك، كأن يأتي إلى عشرة ويقول: "أنتم زناة" فيقام عليه الحد لأن الزنا يتصور في حقهم ويلحقهم العار في ذلك.
وأصح قولي العلماء، وهو مذهب الجمهور، أنه لا يقام عليه إلا حد واحد أي فعليه حد واحد بظاهر الآية ولأنه إذا أقيم عليه حد واحد فإن المقصود يحصل بذلك لأنه يعلم كذبه ويندفع بذلك عنهم ما تقدم ذكره من العار.
قال: [ ويسقط حد القذف بالعفو، ولا يستوفى بدون الطلب ].
??تقدم الكلام على هذا في أول الدرس عند قوله: ( وهو حق للمقذوف).
مسألة:
????قال تعالى: (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا)) الآية.
فهل الاستثناء في قوله تعالى: (( إلا الذين تابوا)) يرجع إلى الجمل المتقدمة كلها أم إلى الجملة الأخيرة؟(28/25)
???أما الجلد فلا يرجع إليه الاستثناء بإجماع العلماء، فإذا تاب وقد قذف فإن ذلك لا يسقط عنه الحد بإجماع العلماء.
وأما إذا تاب من ذلك فإن الفسق يزول عنه باتفاقهم فلا يكون فاسقاً.
لكن: هل تقبل شهادته أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
فالجمهور أنها تقبل للاستثناء.
والأحناف قالوا: لا تقبل والاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور.
وهذه ترجع إلى مسألة أصولية وهي:
هل الاستثناء يرجع إلى أقرب مذكور أم إلى ما ذُكر قبله؟
والصحيح أنه يرجع إلى ما ذكر قبله كله.
وعليه فإن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله.
وعلى ذلك فيرجع إلى الجلد لكن الإجماع يدل على عدم ذلك ويرجع إلى قبول الشهادة ويرجع إلى الفسق.
أما الجلد فالإجماع على خلاف ذلك.
وأما الشهادة فالصحيح أنها تقبل فيه بعد ذلك ومما يدل على ذلك أن الشهادة تقبل من العدل وهذا قد زال عنه اسم الفسق باتفاق العلماء.
" باب حد المسكر "
????السُكر: لذةً ونشوة يغيب معها العقل فلا يدري ما يقول كما قال تعالى: ???لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون )).
والسكر محرم بالكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
وهو من كبائر الذنوب.
الخمر: كما قال عمر: "ما خامر العقل" أي ما سترة وغطاه.
قال المؤلف رحمه الله: [ كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ].
?فكل شراب من عنب أو تمر أو عسل أو حنطة أو شعير أو غير ذلك مما يصنع خمراً فيسكر كثيره فإن قليله حرام.
فإذا صنع من العنب ما لو شرب الكثير منه فإنه يسكره فالقليل غير المسكر حرام.
وإذا صنع من الشعير شراباً يسكر كثيرة فإن قليلة حرام وإن لم يكن مسكراً، وهكذا في سائر أنواع الأشربة.
لما ثبت عند الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( ما أسكر كثيرة فقليلة حرام). بإسناد صحيح.
وعند أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( ما أسكر منه مقدار الغرف فملئ الكف منه حرام).
وقال - صلى الله عليه وسلم -????كل مسكر خمر وكل مسكر حرام) رواه مسلم.(28/26)
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب قال: ( نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير).
وفي مسلم عن أنس بن مالك قال: "نزل تحريم الخمر وما بالمدينة شراب إلا من تمر".
وقد أجمع أهل العلم على أن القليل من العنب محرم إذا أسكر الكثير منه، فإذا شرب ما خُمّر من العنب وكان ملئ الكف ولم يسكره فإنه يحرم بإجماع أهل العلم.
وإنما اختلفوا في غير العنب:-
فقال أهل الكوفة ليس بحرام، فلو شرب قليلاً من المصنوع من التمر فإنه لا يحرم عليه ذلك هذا ما لم يكن هذا القليل مسكراً، ولو كان لو?زاد لسكر.
قال الإمام أحمد: " ولا يصح في الرخصة في المسكر حديث".
وقال ابن المنذر: " وجاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها وعللها".
فالأحاديث التي استدل بها أهل الكوفة كأبي حنيفة لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?
وقال جماهير أهل العلم بتحريم ذلك: واستدلوا بالأحاديث المتقدمة وهي أحاديث صحاح، وقد قال الإمام أحمد: "ثبتت من عشرين وجهاً" أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?
??فجماهير العلماء على أن كل مسكر حرام قليله وكثيره، فلو شرب قليلاً لا يسكر فذلك محرم.
وتحريمه ظاهر بالأدلة المتقدمة، وذلك لسد الذريعة فإنه شرب القليل غير المسكر ذريعة إلى شرب الكثير المسكر.
ولأن الشرع إذا حرم الشيء حرم أبعاضه.
والصحيح مذهب جماهير العلماء من النصوص الشرعية تدل عليه وهو أن كل مسكر حارم سواء كان من عنبٍ أو غيره، وأنه حيث كان الكثير مسكراً فالقليل محرم.
لكن لوضع من الشعير شراباً لا يسكر كثيرة، ليس بحرام فالمقصود هنا حيث كان الكثير مسكراً.
والمشهور عند أهل العلم القائلين بتحريم القليل مما أسكر كثيرة أن من شرب القليل فإنه يُحد ولو كان ممن يعتقد الحل، ولا يشفع له كونه يعتقد الحل.
قالوا: والفرق بينه وبين النكاح بلا ولي وجهين.
الوجه الأول: لأن شرب القليل منه ذريعة إلى شرب الكثير منه، وهو محرم بالإجماع.(28/27)
بخلاف مسألة النكاح بلا ولي فليست كذلك.
الوجه الثاني: لأن الخلاف فيه ضعيف جداً، فالأدلة متظاهرة على تحريم ذلك، فأشبه هذا من قدامه ابن مظعون فقد صحّ في البيهقي أن عمر أقام عليه الحد وكان متأولاً يعتقد حلها، ويستدل بقوله تعالى: (( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا )).
وقال أبو ثور، وهو من المجتهدين: لا يقام عليه الحد حتى يعتقد التحريم كما لو نكح بلا ولي.
والعمل على الأول وهو أظهر.
فعلى ذلك يقام عليه الحد وإن كان يعتقد الحل.
وهذا يفتح الباب في مسألة شرب الخمر بدعوى اعتقاد أنها حلال ويظهر هذا.
قوله: "اسكر كثيره" ليس المقصود الكثير جداً وإنما المقصود الكثير عادة في الشرب.
قال: [ وهو خمر من أي شيء كان ].
???لقوله - صلى الله عليه وسلم -????كل مسكر خمر ) رواه مسلم هذا عمن نص النبي - صلى الله عليه وسلم -?
قال: [ ولا يباح شربه للذة ].
???لأن هذا هو الإسكار.
قال: [ ولا لتداوٍ ].
لما ثبت عند ابن حبان، والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( إن الله لم يجعل شعاءكم فيما حرم عليكم).
وله شاهد موقوف عن ابن مسعود في مصنف ابن أبي شيبه وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال في الخمر: ( إنها ليست بداوءٍ لكنها داء ).
وهل يقال إن التداوي ضرورة؟
الجواب: لا يقال ذلك وذلك لأن الدواء لا يقطع مع بزوال المرض فقد يشفى المريض وقد لا يشفى.
والضرورة نحو أكل الميتة يقطع بزوال العلة، فالجائع إذا أكل من الميتة زالت علته وهي الجوع قطعاً، وأما المريض إذا شرب الخمر وقيل له إنها علاج?فقد يشفى وقد لا يشفى كيف وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -?أنها ليست بدواء وإنما هي داء، وكما قال عثمان: إنها أم الخبائث فلا يمكن أن تكون دواء.
قال: [ ولا عطش ولا غيره ].
???فلا يجوز شربها للعطش قالوا: لأنها تُلهب الباطن فتزيد في حرارته، وعليه فلا يستفيد منها زوال العطش.(28/28)
وهذا القول ينبني على صحة التعليل فإن صح التعليل فهو كما قالوا، وأما من اعتقد أنها تزيل العطش فأصيب بالعطش فلا بأس له أن يشرب ولأنه موضع ضرورة.
قال: [ إلا لدفع لقمة غصّ بها ولم يحضره غيره ].
??لأنها ضرورة.
أما إذا حضره غير الخمر من ماءٍ ونحوه فلا يجوز له دفع اللقمة بالخمر لأنها تكون حاجة ولا يجوز أن يشربها للحاجة.
قال: [ وإذا شربه المسلم مختاراً عالماً أن كثيره مسكر فعليه الحد ].
?فإذا شربه المسلم وكان عالماً أن كثيره مسكر، وإن كان يعتقد حله كما تقدم فعليه الحد.
لكن لو لم يعلم أن كثيره مسكر فلا يقام عليه الحد لجهله بالحال ولو جهل التحريم، حيث أمكن الجهل، فإنه لا يقام عليه الحد ولابد أن يكون مختاراً لا مكرهاً، فالمكره لا حد عليه.
قال: [ ثمانون جلدة مع الحرية وأربعون مع الرق ].
???فحد شارب الخمر ثمانون جلدة للحر، وأربعون للرقيق.
هذا هو مذهب الجمهور، وأن حد الخمر ثمانون جلدة واستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين ثم فعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الصحابة فقال عبد الرحمن بن عوف: " أخف الحدود ثمانون جلدة فأمر به".
فهم قد أخذوا بفعل عمر وكان ذلك بمحضر من الصحابة.
وعن الإمام أحمد وهو أحد القولين في مذهب الشافعي: أنه يجلد أربعين جلدة.
واستدلوا: بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -?في الحديث المتقدم، وفعل أبي بكر ونحوه في مسلم من حديث علي قال: "جلد النبي - صلى الله عليه وسلم -?أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي " أي فعل عمر.(28/29)
ولا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقول أحدٍ أياً كان هذا الأحد ولو كان عمر، كيف وأبو بكر قد جلد كما جلد النبي - صلى الله عليه وسلم -?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة وأن حد الخمر أربعون وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والجواب عن فعل عمر:
أن عمر فعل هذا من باب التعزير، حيث أنهمك الناس في شرب الخمر فرأى عمر أن يعزرهم بذلك واستشار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -?وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وأن حد الخمر أربعون وأن للحاكم أن يزيد فيعزر بثمانين جلدة كما أن له أن يعزر بغير ذلك إن رأى المصلحة في ذلك كأن يعزر بسجنٍ ونحوه.
وعامة أهل العلم على أن عقوبة حد الخمر حديةّ وليست بتعزيرية، كما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?جلد أربعين إلا خلافاً ضعيفاً في هذه المسألة.
مسألة:
?????هل يقتل شارب الخمر في الرابعة أم لا؟
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في عند الخمسة والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال في شارب الخمر: ( إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه ).
واختلفت مسالك أهل العلم فيه:
المسلك الأول: أنه منسوخ، وهذا هو مذهب عامة أهل العلم.
وفي أبي داود عن قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه "وله رؤية للنبي - صلى الله عليه وسلم -??فحديثه من مرسل صغار الصحابة الذين لم يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -?فيه الحديث المتقدم ثم قال: ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -?برجل قد شرب الخمر فجلد، ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده ثم أتى به فجلده، قال: ورقع القتل وكانت رخصة"
المسلك الثاني: أنه محكم وليس بمنسوخ، هذا هو مذهب أهل الظاهر، وعليه فيقتل شارب الخمر في الرابعة.
المسلك الثالث: أنه محكم لكن ليس بحد، وإنما هو تعزير يرجع إلى الإمام بحسب المصلحة.(28/30)
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول الحسن البصري.
وهذا القول فيما يظهر هو أصحها.
أما كونه ليس بحد فكما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتى برجل قد شرب الخمر?فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به. الحديث.
فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يقتله مع أن الصحابي قال: "ما أكثر ما يؤتى به" وهذه صيغة تدل على كثرة ما يؤتى به لأنه شرب الخمر هذا هو ظاهر هذا الحديث وكذلك حديث قبيصة بن ذؤيب المتقدم.
وأما النسخ المذكور في الحديث المتقدم فالذي يتبين أن الراوي إنما حكم بالنسخ بناءً على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -?فإنه ذكر ذلك عمدة له فإنه قال: ( ثم أتي النبي - صلى الله عليه وسلم -?برجل قد شرب الخمر ثم جلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده قال: فرفع القتل.
فالظاهر أنه قد بنى ذلك على الفعل، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم -?لا يفعل ذلك لا يدل على النسخ، لأنه تعزير وليس بحد فمتى رأى الإمام أن من المصلحة القتل فله ذلك.
ولا شك أن هذه المسألة لا يفتى بها الإمام إلا حيث كان مراعياًِ للمصالح لما في ذلك من سفك الدماء.
والمقصود أن التعزير بالقتل كما في هذا الحديث.
مسألة:
??اعلم أن حد الخمر يثبت بالبينة أو بالاعتراف.
فإذا شهد عليه شاهدان أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد ويثبت أيضاً بالاعتراف فإذا أقر على نفسه أنه شرب الخمر فإنه يقام عليه الحد.
وهذان الطريقان في إثبات حد الخمر لا خلاف بين أهل العلم في ثبوت الحد فيهما.
وإنما اختلفوا فيما إذا ظهرت?منه رائحة الخمر أو رؤي يتقيأ الخمر فهل يقام عليه الحد أم لا؟
قولان لأهل العلم:
الجمهور قالوا: لا يقام عليه الحد، لأن الحدود تدرأ بالشبهات فقد يكون شربها يظنها ليست خمراً أو غير ذلك.(28/31)
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم أنه يقام عليه الحد، وهو قول عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة.
وقول عثمان كما في صحيح مسلم فإنه قال: " ما تقيأها إلا أنه قد شربها" وهو قول ابن مسعود فإنه جلد رجلاً وجدت منه رائحة الخمر.
فهذه آثار صحاح عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولا يعلم لهم مخالف كما قال ذلك ابن القيم.
فالذي تبين أنه يقام عليه الحد بذلك لا سيما مع القرائن.
مثال القرائن: أن يكون الرجل مشهوراً بالفسق متهماً بذلك، أو يكون الرجل مشتبهاً فيه.
أو أن يشهد عليه شاهد أنه شرب الخمر وتوجد معه رائحة فهذه قرائن قوية على أنه قد شربها.
وأما كون الحدود تدرأ بالشبهات فإنه لا ينظر إلى الاحتمالات الضعيفة وإلا فإن البينة قد تكون كاذبة والمقر على نفسه قد يكون كاذباً.
لكن لو أدعى أنه لم يظنها خمراً وأشهد على ذلك، فحينئذ يقال بقبول دعواه لوجود الشبهة.
" باب التعزير "
??التعزير لغة: المنع، وله معانٍ أخر، لكن الذي له ارتباط بهذا?الباب هو هذا المعنى.
وفي الاصطلاح: قال المؤلف: ??هو التأديب ].
?وأصح من ذلك أن يقال: هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
ولذا قال المؤلف بعد ذلك: ??وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ].
فالتعزير: التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
"في كل معصية": سواء كانت بترك واجب كترك صلاة الجماعة مثلاً.
أو بفعل محرم من المحرمات كحلق اللحية أو شرب التدخين.
"لا حد فيها": لابدّ من هذا القيد، لأن ما فيها حد، لا تعزير فيها بل يجب أن يقام حد الله تعالى كالزنا.
??ولا كفارة": وهذا قيد آخر، فإذا كان فيها كفارة فلا تعزير كالظهار أو الجماع في نهار رمضان فهذه معاصي فيها كفارة وعليه فلا تعزير في ذلك، وهذا هو مذهب جماهير العلماء.
وقول المؤلف: [ وهو واجب ].(28/32)
?هذا هو المشهور في المذهب وأن التعزير واجب على الحاكم، فيجب على الحاكم أن يعزر من فعل معصية من المعاصي.
وعن الإمام أحمد: أنه مندوب.
قال: الشافعية وهو قول لبعض الحنابلة: بل إنما يجب إن كان فيه مصلحة أو كان لا ينزجر عن المعصية إلا به، وإلا فإن رأى الإمام العفو جاز ذلك.
وهذا هو أصح الأقوال وأن التعزير يرجع إلى نظر الإمام فإن كان فيه مصلحة فيجب عليه أن يقيمه أو كان لا ينزجر إلا به فيجب عليه أن يقيمه، وإلا فإنه يجوز له العفو.
ويدل على ذلك: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أتاه رجل وأخبره أنه أتى امرأة إلا أنه لم يجامعها فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -?????إن الحسنات يذهبن السيئات" ولم يقم عليه تعزيراً.
وهذا ظاهر في كثير من المعاصي?التي كانت تفعل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ولم يصح عنه تعزير فيها.
فالصحيح أن مرجع ذلك إلى الإمام وهو من سياسة الناس بالشرع وهو من السياسة المحمودة التي هي قائمة على العدل ولا تخالف الشرع.
فإن لم يكن هناك مصلحة فإنه له أن يعفو بل قد يترجح العفو حيث كانت هناك مصلحة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -????أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود ).
فقد يترجح ألا يقام عليه التعزير.
قال: [ كاستمتاع لا حد فيه، وسرقة لا قطع فيها وجناية لا قود فيها ].
??هذه أمثلة على التعزير.
"كاستمتاع لا حد فيه": كأن يباشرها دون الفرج.
" وسرقة لا قطع فيها": كأن يكون السارق صبياً مميزاً فإنه يعزر أو أن تكون من غير حرز أو أن تكون دون النصاب.
??وجناية لا قود فيها": كضربه في الوجه أو وكزٍ أو نحو ذلك وتقدم أن شيخ الإسلام يرى القصاص في هذا.
قال: [ واتيان المرأة المرأة ].
?وهو ما يسمى بالسحاق وتقدم.
قال: [ والقذف بغير الزنا ونحوه ].
???فالقذف بغير الزنا يوجب التعزير ونحوه ذلك ومن ذلك الاستمناء لغير حاجة لذا قال بعد ذلك??
??ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر ].(28/33)
??فالاستمناء محرم عند عامة أهل العلم لقوله تعالى: ???والذين هم لفروجهم حافظون إلا على?أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين))?فلم يستثن الله سبحانه إلا الأزواج أو ما ملكت الأيمان، وما سوى ذلك فهو محرم إلا لضرورة كأن يخشى الزنا على نفسه.
فمن استمنى بغير حاجة عزر.
قال: [ ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات ].
??هذا هو المشهور في مذهب أحمد وأنه لا يزاد في التعزير على عشر جلدات.
واستدلوا:
بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله).
قالوا: فهذا يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط في التعزيرات إلا أن يكون في حدٍ من الحدود.
القول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية والأحناف: أنه له أن يزيد على عشرة أسواط لكن لا يصل إلى الحد.
وعلى القول بهذا فإن أصح ما قيل: إن كان حرا فإنه لا يصل إلى أربعين سوطاً وهو حد شرب الخمر، وإنما يجلد دونها ولو بسوط واحد.
وإن كان عبداً فلا يجلد عشرين بل دونها ولو بسوط واحد واستدلوا: بحديث ضعيف رواه البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال????من حدّ في غير حد فهو من المعتدين??أي من جلد فأوصل حداً في غير حدٍ من الحدود فإنه من المعتدين.
لكن الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -?موصولاً بل هو مرسل ضعيف.
قالوا: ولأن هذه المعاصي أضعف من المعاصي التي فيها الحدود، وقد جعل الله هذه الحدود لتلك المعاصي وهذه معاصي دونها فلم يبلغ بهذه المعاصي التي لم يجعل الله فيها حداً ولم يبلغ بها الحد لأنها لا تماثلها فهي دونها.
القول الثالث: وهو رواية عن الإمام أحمد أنه له أن يعزر ما شاء مما يرى فيه مصلحة.
إلا أن تكون المعصية من جنس ما فيه حد فلا يبلغ بها الحد فإذا كانت المعصية ليست من جنس ما فيه حد كحلق اللحية وغيرها فله أن يعزر بما شاء.(28/34)
وأما إن كانت من جنس ما فيه حد فليس له أن يبلغ الحد، كأن يباشر رجل امرأة من غير جماع فلا يجلد مائة سوط وذلك لأن هذه المعصية دون الزنا والله قد جعل في الزنا مائة سو فلا يمكن أن يجلد من فعل معصية دون ذلك مائه سوط ولا شك أن هذا ينافي العدل المأمور به فقد جعلنا ما ليس بمثل مثلاً، فإن إتيان المرأة من غير جماع ليس مماثلاً قطعاً لإتيانها في فرجها. القول الرابع: وهو مذهب مالك: أن ذلك راجع إلى رأي الإمام مطلقاً أي لا فرق بين ما كانت المعصية من جنس معصية فيها حد أو لم تكن كذلك.
وعليه فله أن يجلد من باشر امرأة ولم يطأها له أن يجلدها أكثر من مائة سوط أو أكثر.
وأحسن هذه الأقوال: كما قال ابن القيم: القول الثالث، وإليه ميل شيخ الإسلام ابن تيمية، كما حكى ذلك صاحب الإنصاف.
فإن قيل: فما?هو الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -????لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)?
فالجواب: أن المراد بالحد هنا حق الله تعالى: بدليل قوله تعالى: ???تلك حدود الله فلا تقربوها))?هذا هو لسان الشرع كما قال ذلك ابن القيم، فالحد يطلق في الشرع على العقوبة المقدرة لحديث: ( لا تقام الحدود في المساجد ).
لكن الغالب ي لسان الشرع أنه يطلق على حق الله تعالى.
فيكون معنى الحديث: لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في معصية من المعاصي.
مسألة:
????تقدم ذكر أكثر التعزير، فما هو أقله؟
الجواب: لا حد لأقله عند عامة أهل العلم فله أن يجلد سوطاً أو أن ينفي أو أن يسجن يوماً أو أن يوبخ.
مسألة:
????هل يصح التعزير بالقتل؟
الجواب: نعم يصح ذلك كما تقدم في شارب الخمر وفيه: (فإذا شرب الرابعة فاضربوا عنقه).
ومذهب مالك وهو وجه في مذهب أحمد واختاره ابن القيم أنه يجوز للإمام أن يقتل الداعية إلى البدعة، وهذا من باب التعزير بالقتل حيث لم تندفع مفسدته إلا بذلك.
مسألة:(28/35)
???أصح قولي العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يجوز التعزير بالمال إتلافاً وأخذاً.
خلافاً للمشهور عند جمهور أهل العلم.
وهو أي القول الراجح، جار على أصول الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
فيجوز التعزير بالمال إتلافاً، بأن يتلف المال ومن ذلك تحريق متاع الغال، كما تقدم في الصحيح.
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?كما في الترمذي أمر أن يهراق الخمر وأن تكسر دنانه.
وحرّق عمر بيت شارب خمرٍ كما في مصنف عبد الرزاق.
ومن ذلك تحريق الثوبين المعصفرين كما في صحيح مسلم ويجوز التعزير بالمال أخذاً:-
ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?أمر بأخذ سلب من قطع شجر حرم المدينة وهو حديث ثابت في صحيح مسلم.
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: "فيمن منع الزكاة: "ومن منعها فإن أخذوها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو حديث حسن كما تقدم وإذا أخذ المال فإنه يصرف في مصالح المسلمين.
وهذا الأمر راجع إلى الإمام فله أن يتلف وله أن يأخذ على حسب ما يرى من المصلحة.
وجواب الجمهور على أن التعزير بالمال ليس بثابت. أنهم قالوا: هذه الأحاديث أي التي استدل بها من يرى ذلك منسوخة.
لكن كما قال ابن القيم، " لا دليل على النسخ لا بنص ولا بإجماع" بل هذه آثار الصحابة، كما في أثر عمر وغيره، وهي تدل على ما تقدم من إثبات التعزير بالمال.
وإذا ثبت التعزير بالقتل فأولى من ذلك التعزير بالمال وهي من السياسة التي يقتضيها العدل ولا تنافي الشرع بل قد دل عليها الشرع كما تقدم.
استدراك.
في مسألة التعزير فوق عشرة أسواط.
فقد دلت آثار الصحابة على جواز التعزير فوق عشرة أسواط من ذلك، ما روى الطحاوي بإسناد صحيح أن علي بن أبي طالب، جلد رجلاً شرب الخمر في رمضان جلده الحد وعزره بعشرين سوطاً. وثبت كما تقدم أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين وإن أربعين منها تعزير.(28/36)
" باب القطع في السرقة "
قال رحمه الله: [ إذا أخذ الملتزم ].
?مسلماً كان أو ذمياً، وعليه فيخرج المستأمن وهو أحد القولين في المذهب، وأحد قولي العلماء في المسألة.
والقول الثاني: أن المستأمن إن سرق قطع والذي يترجح من هذين القولين: أن المستأمن لا يقطع وذلك لأن حد السرقة حد لله تعالى فأشبه حد الزنا، وقد تقدم أن حد الزنا لا يقام على المستأمنين فكذلك هنا.
ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الحكم ثابت في سرقة المسلم من ذمي أو سرقته من المستأمن، فلو سرق مسلم من ذمي أو من مستأمن قطع، وذلك لحرمة المال، فإن مال الذمي محترم ومال المستأمن محترم كمال المسلم.
قال: [ نصاباً من حرز مثله] يأتي الكلام عليها.
قال: [ من مال معصوم].
??مال المسلم معصوم، ومال الذمي معصوم، ومال المستأمن معصوم وأما مال الحربي فليس بمعصوم، وليس دمه بمعصوم أيضاً.
قال: [ لا شبهة له فيه ].
????يأتي الكلام على هذا الشرط أيضاً.
قال: [ على وجه الاختفاء قًطعٍَ ].
???فلا بد أن تكون السرقة على وجه الاختفاء ومن ثم سمي استماع الجن استراقاً للسمع لأنه على وجه الاختفاء، قال تعالى: (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءاً بما كسبا)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -?كما في الصحيحين: ??تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً).
قال: [ فلا قطع على منتهب].
???المنتهب: هو الذي يأخذ المال على وجه الغلبة والقهر، كما يقع في الغارات التي بين البوادي مثلاً.
قال: [ ولا مختلس].
???المختلس: هو الذي يأخذ المال على حين غرة وغفلة من صاحبه.
قال: [ ولا غاصب ].
الغاصب: معروف.
قال: [ ولا خائن في وديعة ].
???فإذا أودع رجلاً ماله فجحده المودع، فإذا أقام البينة على الجحد فإن الجاحد لا يقطع يده.
وهذه المسائل اتفق عليها أهل العلم.
يدل عليها ما رواه الخمسة وصححه الترمذي وهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -????ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ).(28/37)
والعمل عليه عند أهل العلم.
فإن قيل: لم فرّق الشارع وبين السارق بين المختلس والمنتهب والخائن؟
فالجواب: أن الفرق بينهما هو أن السرقة قد وقعت على مال احتاط عليه صاحبه وحفظه في حرزه، فلا يمكن حفظ المال إلا بمثل هذه العقوبة العظيمة.
بخلاف المنتهب والمختلس والغاصب فإنه ليس على جهة الاختفاء فالناس يمكنهم أن يأخذوا على يد هذا المنتهب ويد هذا المختلس ويد هذا الغاصب.
وفي بعضها ما يكون فيه تفريط من صاحب المال كما يقع في الاختلاس وكما يقع في الوديعة.
فإن الجناية في الوديعة تقع حيث فرط في وضعها عند الأهل فإذا وضعها عند من ليس بأهل كان في الغالب، الجحد وحينئذ يكون مفرطاً في ذلك.
قال: [ أو عارية أو غيرها].
???أي لا قطع على خائن عارية، أو غيرها من الأمانات وما ذكره المؤلف هنا من أن خائن العارية لا يقطع تبعاً لصاحب المقنع هو أحد الروايتين عن الإمام أحمد وهو مذهب جمهور العلماء.
??قالوا: لأنها ليست بسرقة والأدلة إنما وردت في السرقة وهي من خيانة الوديعة والنبي - صلى الله عليه وسلم -?لم يقطع خائن الوديعة.
والقول الثاني في المسألة: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول اسحاق وهو مذهب أهل الظاهر، أن القطع يثبت في جحد العارية.
?واستدلوا: بما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة، " أن امرأة كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقطع يدها" والحديث أصله في الصحيحين.
وأعل بتفرد معمر عن الزهري، وهذا لا يصح فإنه قد تابعه على هذا الحديث أيوب بن موسى وتابعه عليه شعيب بن إسحاق فلا تصح تفرد معمر بهذا الحديث.
وهو ثابت من حديث ابن عمر في سنن أبي داود والنسائي، ومن حديث سعيد بن المسيب مرسلاً في سنن النسائي فالحديث صحيح، وكما قال الإمام أحمد: "لا شي يدفعه".
وأجيب عن هذا الحديث، بأن هذا وصفُ للمرأة، وليس أنها قطعت بذلك، فمن وصفها أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، لا أن القطع كان نسيه ذلك.(28/38)
ولاشك أن هذا ضعيف جداً لأنه يخالف ظاهر الحديث فإن ظاهر قول عائشة المتقدم أن هذه المرأة كانت تستعير المتاع فتجحده وبسبب ذلك قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -?يدها.
ولو قبل مثل هذا التعليل لردت أحكام كثيرة يترتب على أوصاف ذكرت في الأحاديث أو في الآيات القرآنية وما سلم من ذلك إلا الشيء القليل من الأحكام أي لذهبت كثير من الأحكام الشرعية التي تنبني على أوصاف ذكرت في الأحاديث.
ولذا فالراجح ما ذهب إليه أهل القول الثاني واختاره ابن القيم وهو قطع يد جاحد العارية.
فإن قيل، فما الفارق بين العارية وبين الخيانة في الوديعة؟
فالجواب أن الفرق بينهما أن الخيانة في الوديعة إنما نتجت في الغالب عن تفريط من المودِع فإن هذا الجحد ناتج عن وضعها عند من ليس بأهل فيكون المودِع عنده نوع تفريط.
وأما العارية?فإنه قد فعل ما أمر به من الإعارة فقد أحسن إلى الناس وفعل ما أمر الله به.
ثم إن عدم القطع في هذا ذريعة إلى امتناع الناس عن العارية وحينئذ تفوت هذه المصلحة مع أن الحاجة داعية إليها.
قال: [ ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه ].
??الطرار هو النشال الذي يبط الجيب أو غيره ويأخذ منه أي على وجه الخُفية وعليه فتقطع يده لأن أخذه على وجه الخفية وكان ذلك من حرزه.
قال: [ ويشترط أن يكون المسروق مالاً محترماً ].
???هذا هو الشرط الأول في القطع، أن يكون المال المسروق محترماً أي له حرمة.
وما ليس له حرمة لا مالية له كالصورة وآلات اللهو فهذه لا حرمة لها وعليه فلا مالية لها، وعليه فلا تساوي لا ربع دينار ولا أقل من ذلك فلا قيمة لها وإن كانت عند أصحابها لها قيمة لكن هذه القيمة غير معتبرة شرعاً.
قال: [ فلا قطع في سرقة آلة لهو ولا محرم كالخمر ].
???ولا تصاوير ولا غير ذلك?لأنها أشياء لا قيمة لها فهي غير محترمة ولا مال فيها.
قال: [ ويشترط أن يكون نصاباً وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار].(28/39)
???هذا هو الشرط الثاني: أن يكو نصاباً.
والنصاب: هو ربع دينار كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعداً).
وفي لفظ أحمد: " اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك".
وأما أنه يقطع بثلاثة دراهم، فلما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -???قطع في مجَنّ قيمته ثلاثة?دراهم)،?أما ما روى أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ??لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم ).
فالحديث فيه الحجاج بن أرطأه وهو ضعيف مدلس وقد استدل به الأحناف.
وهنا: كلام المؤلف يدل على أن ربع الدينار والثلاثة دراهم أن كليهما أصل.
فلو سرق مالاً لا يساوي ربع دينار لكنه يساوي ثلاثة دراهم، فإن يده تقطع.
هذا هو القول الأول وهو رواية عن الإمام أحمد.
والقول الثاني في المسألة: وهو الرواية?الأخرى عن أحمد وهو مذهب الشافعي: أنها لا تقطع إلا فيما يبلغ ربع دينار فالأصل هو ربع الدينار، وأما ثلاثة دراهم فليست بأصل وإنما المجن الذي قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -??فيه كان يساوي ثلاثة دراهم وكان يساوي ربع دينار، فكان ربع الدينار يساوي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -?ثلاثة دراهم.
وهذا هو القول الراجح في المسألة، وهو ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -????لا تقطع اليد إلا في ربع دينار).
وقوله - صلى الله عليه وسلم -????اقطعوا اليد في ربع دينار ولا تقطعوها في أدنى من ذلك).
فهذا الحديث نص في أن اليد لا تقطع فيما هو أدنى من ذلك.
قال: [ أو عرض قيمته كأحدهما].
???إذا كان عرضاً بسيف أو ثوب أو شاة أو غير ذلك وقيمة هذا السبب وقيمة هذه الشاة وقيمته هذا الثوب تساوي ربع دينار، على الراجح.
وعلى المذهب تساوي ربع دينار وثلاثة دراهم، فإذا سرقه أحد فإنه يقطع به.
قال: [ وإذا نقصت قيمة المسروق، ..لم يسقط القطع].(28/40)
??فإذا سرق عرضاً يساوي ربع دينار، ثم نقضت قيمته بعد ذلك عن ربع دينار، فإنه لا يسقط القطع فالعبرة بالقيمة وقت الإخراج لأنه هو وقت السرقة والقطع وجب بسبب السرقة.
قال: [ أو ملكها السارق لم يسقط القطع].
?????إذا قال المسروق منه وقد وهبتها له أو قال السارق اشتري هذا منك وأسلم من القطع، فإنه لا يسقط?القطع.
ويدل عليه: ما ثبت عند الخمسة إلا الترمذي في قصة صفوان بن أميه لما سرق منه وفيه أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -??لما أمر بقطع السارق فقال: يا رسول الله لم أرد هذا، وردائي له صدقة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -????هلا كان هذا قبل أن تأتيني به ).
?فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -?بقطعه وإن كان قد وهبه إياه بعد ثبوت الحد.
أما قبل رفعه إلى الحاكم فإنه يسقط عنه ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -????تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حدٍ فقد وجب).
قال: [ وتعتبر قيمتها وقت اخراجها من الحرز].
???تقدم الدليل على هذا.
قال: [ فلو ذبح فيه كبشاً أو شق فيه ثوباً فنقصت قيمته عن نصاب ثم أخرجه.. لم يقطع ].
فلو كان الكبش في الحرز يساوي ربع دينار فذبحه وقطعه لحماً ثم أخرجه من حرزه فإنه لا يقطع لأنه لم يخرجه نصاباً.
أو أخذ الثوب الذي يساوي ربع دينار فقطعه في حرزه ثم أخرجه فهذه القطع لا يساوي إلا درهماً وكانت قبل ذلك لا تساوي دراهم كثيرة، فإنه لا يقطع لأنه لم يخرج في الحرز نصاباً.
قال: [ أو تلف فيه المال لم يقطع].
??إذا دخل على مالٍ في حرزه فأتلفه، كأن يدخل على الشاة في حرزها فيقبلها فإنه لا يقطع لأنه لم يسرق فإنه لم يخرج المال من حرزه.
أما هذه فظاهره.
وأما الأوليان فلا يخلوان من نظر.
ولا?شك أنها حيلة لا سيما في الشاة فإنه قطعها لحماً إلا أن يقال: النظر إلى ماليتها وهي لا تساوي ربع دينار حينئذ.
ولم أر في هذه المسألة خلافاً فالله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأن يخرجه من الحرز].(28/41)
??هذا هو الشرط الثالث من شروط الحد في السرقة وهو أن يخرجه من الحرز.
??والحرز هو الحفظ أي أن يخرجه مما حفظ منه.
وهذا شرط عند عامة العلماء، ودليل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والنسائي، والحديث إسناده جيد ??أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?سئل عن التمر المغلف الحديث ومنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -?قال: ( فإن خرج بشيء منه بعد أن يؤيه الجرين) وهو الموضع?الذي يحفظ فيه التمر، فبلغ ذلك ثمن المجنّ ففيه القطع.
فدلّ هذا على اشتراط الحرز.
قال: [ فإن سرقه من غير حرز فلا قطع ].
??وذلك لاختلال هذا الشرط، وهو الحرز كأن يجد الباب مفتوحاً فيأخذ من الدار، وتجد الخزينة في الدار مفتوحة والباب مفتوح فيأخذ من الخزينة فلا?قطع وذلك لعدم الحرز.
قال: [ وحرز المال: ما العادة حفظه فيه ].
???فالشرع لم يحدد حداً في الحرز، وعليه فيرجع فيه إلى العادة فما كان في العادة حرزاً فهو حرز يقطع معه.
قال: [ ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته وضعفه].
??يختلف الحرز باختلاف الأموال فليس حرز الذهب كحرز الماشية.
ويختلف باختلاف البلدان فليست البلدان التي يكون فيها الشرع مطبقاً ويكون فيها الأمن ظاهراً بخلاف البلدان التي يضعف فيها تطبيق الشرع، ويضعف فيها قيام الحاكم بما يجب عليه في أمن الناس من إزالة خوفهم.
فالبلد الواحدة تختلف مواضعها فليس الحرز في المدن الكبار كالحرز في المدن الصغار، وليس هو في المدن الصغار كالقرى والهجر وهكذا.
??كذلك يختلف باختلاف عدل السلطان وجوره وقوته وضعفه فإذا كان السلطان عادلاً فإن الناس يخافون من إقامة الحدود الشرعية ويعلمون أن الشفاعة لا تنفع فيرتدعون عن السرقة، وحينئذ يكون الحرز يثبت بأدنى ما يكون بخلاف ما لو كان السلطان جائراً فإنا نحتاج إلى حرز أعظم.
كذلك يختلف باختلاف قوة السلطان وضعفه، فإذا كان السلطان قوياً صارماً حازماً بخلاف ما لو كان متساهلاً.(28/42)
ثم ضرب للحرز أمثلة فقال: ??فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة].
?الأغلاق هي الأقفال.
فهذا هو حرز الجواهر والقماش والأموال ونحوها في العادة فحرزها أن تكون في الدور المبنية ويقفل عليها.
فلو وضع إنسان ذهباً في دار غير مقفلة فإن هذا الذهب ليس بمحرز لأنه لم يوضع فيما يحفظ فيه في العادة.
قال: [ وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوهما وراء الشرائح إذا كان في السوق حارس].
???الشرائح: ما يوضع من القضب بعضه إلى بعض ويربط بالحبال فإذا وضعت أمثال هذه وراء الشرائح فهذا هو حرزها، إن كان في السوق حارس.
ونحو ذلك ما يوضع في الأسواق، فإن بعض المحلات تضع من الغطاء على الأواني ونحوها فهذا هو حرزها حيث وجد بعض الشرط أي الحراس.
قال: [وحرز الخشب والحطب الحظائر].
??الحظائر معروفة وهي التي تضع من خشب، فهذه الحظائر توضع فيها الخشب والحطب وهذا هو حرزها، لجريان العادة بذلك.
قال: [ وحرز المواشي الصير].
??الصير: هي حظائر الغنم ونحوها.
فإذا وضع غنمه في حظيرة فهذا هو حرزها.
فلو وضع عند باب داره حظيرة خشب ووضع فيها أغنامه فسرق منها شيء يبلغ نصاباً فإن فيه القطع لأن هذا هو حرزها في العادة.
?قال: [ وحرزها في المرعى بالراعي ونظره إليها غالباً].
???فإذا كانت في المرعى فهذا هو حرزها بشرط أن يكون الراعي ينظر إليها في الغالب وإن كان يغيب عنها لحظات فهذا لا يؤثر أما إذا كانت غالباً تغيب عن نظره فإنها ليست في حرز.
فالقاعدة إذن أن المال إذا وضع فيما يحفظ فيه في العادة وهذا ليس له ضابط محدد بل يختلف باختلاف الأموال والبلدان وباختلاف عدل السلطان وجوره وقوته أو ضعفه فإذا ثبت أنه حرز في العادة فإنه يقطع به.
وعليه فقد يكون في هذه البلد حرز وهو في بلدٍ أخرى ليس بحرز.
قال: [ وأن تنتفي الشبهة].
??هذا هو الشرط الرابع.(28/43)
وقد تقدم أن هذا شرط في الحدود، وأن أهل العلم قد أجمعوا على ذلك.
وتقدم أنه لا يؤخذ بأدنى شبهة وبأدنى احتمال، بل لابد أن تكون الشبهة ظاهرة لتقوى على درء الحد.
قال: [ فلا قطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا].
??فإذا سرق من مال أبيه أو جده أو جد جده فلا قطع، وإن علا.
قال: [ ولا من مال ولده وإن سفل والأب والأم في هذا سواء].
????فلا يقطع إن أخذ من مال ولده أو لد ولده وإن نزل.
فلا قطع بالأخذ من مال الوالد ولا في مال الولد لولده.
والشبهة هنا وجوب النفقة، فقد تجب النفقة على الوالد.
وقد تجب النفقة على الولد لوالده، كما تقدم.
وقال بعض أهل العلم: وهو رواية عن الإمام أحمد: بل الشبهة في خصوص أخذ الوالد من مال الولد.
وأما أخذ الولد من مال الوالد فلا شبهة فيه والشبهة إنما هي في أخذ الوالد من مال ولده وهي شبهة الملك فالأب كما قال - صلى الله عليه وسلم -????أنت ومالك لأبيك ).
والوالد لا يمكن أن يقطع بسبب مال ولده كما تقدم من أن الوالد لا يقتل بولده فأولى من ذلك ألا يقطع.
أما لو ظهر في الولد فقر وحاجة فحينئذ يقوى القول بالشبهة وذلك لوجوب النفقة مع فقر الولد.
أما وهو غني فيبعد حينئذ أن يقال بالشبهة.
إذن: أخذ الوالد من مال الولد ولا إشكال في أنه لا قطع فيه لحديث: " أنت ومالك لأبيك".
وأما سرقة سوى الأب من الوالدين من الولد، فكذلك لا إشكال في أنه لا قطع لأنه لا يمكن أن يكون الولد سبباً في القطع والوالد سبباً في الوجود، وأما أخذ الولد من مال الوالد فيقوي عدم القطع، حيث كان الولد فقيراً، لهذه الشبهة وهي وجوب النفقة عليه.
??وأما وهو غني فيقوى قول من قال بإقامة الحد والله أعلم.
قال: [ ويقطع الأخ وكل قريب بسرقة من مال قريبه].
???لعدم الشبهة، إلا أن يكون فقيراً والآخر ممن ركب عليه الإنفاق حيث ترجح هذا، فحينئذ يقوى القول بأنها شبهة فلا قطع.(28/44)
قال: [ ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر ولو كان محرزاً عنه ].
لما روى مالك في موطئه: " أن رجلاً أتى بخادم له إلى عمر فقال: إن غلامي هذ قد سرق مرآة لزوجتي قيمتها ستون درهماً فقال عمر: أرسله فلا قطع خادمكم سرق متاعكم".
قالوا: فإذا كان عبد الزوج إذا سرق من الزوجة لا يقطع فأولى من ذلك الزوج نفسه.
والشبهة في ذلك قوية لأن العادة أن كل واحدٍ من الزوجين ينبسط في مال الآخر.
وقال مالك: بل يقطع للآية: (( السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)) والذي يظهر عدم القطع للشبهة وهي انبساط كل واحد في مال الآخر في العادة.
وعليه فكذلك بعض الأخوة أيضاً إذا كانوا في دار واحدة، فالعادة فيما يظهر جارية بانبساط كل واحدٍ منهما في مال الآخر.
قال: [ وإذا سرق عبد من مال سيده ].
فلا قطع، قال ابن مسعود: كما روى البيهقي بإسناد صحيح "مالك سرق بعضه بعضاً فلا يقطع".
قال: [ أو سيد من مال مكاتبه ].
المكاتب: كما تقدم يملك فإذا سرق السيد من مال مكاتبه فإنه لا يقطع وذلك لشبهه الملك لأنه قد يعود قنا.
قال: [ أو حر مسلم من بيت المال].
وفيه أثر عن عمر لكن اسناده ضعيف وهو في البيهقي الشبهة هنا هي ماله في بيت المال من حق.
وقال مالك بل يقطع لظاهر الآية الكريمة.
والذي يتبين أنه يختلف فإذا كان السلطان يعطي الناس حقوقهم فلا ينبغي أن يقال، إنها شبهة.
أما إذا كان يظلم الناس ولا يعطيهم حقوقهم فيقوي حينئذ أن يقال كالشبهة.
إذن: المشهور في المذهب: أن المسلم الحر إذا أخذ من بيت المال فإنه لا يقطع والشبهة هنا: أن لكل مسلم حقاً في بيت المال.
والقول الثاني: أنه يقطع.
والذي يترجح هو القول الأول إلا أن يكون السلطان يعطي الناس حقوقهم فيضعف هذا القول، والله أعلم.
وقد قال المؤلف: " أو حر مسلم" أما إذا كان عبداً فإنه يقطع لأنه لا حق له في بيت المال وعليه فلا شبهة له.
قال: [ أو من غنيمة لم تخمس].(28/45)
الغنيمة إذا لم تخمس فلبيت المال منها خمس الخمس وعليه فإذا سرق أحد فكما لو سرق من بيت المال فلا قطع.
قال: [ أو فقير من غلة وقف على الفقراء].
للشبهة فإن له حقا في ذلك.
قال: [ أو شخص من مال له فيه شركة له].
فإذا أخذ أحد الشريكين من المال المشترك فيه فلا قطع للشبهة وهي هنا شبهة الملك.
قال: [ أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه لم يقطع].
فإذا كان لوالده نصيب من هذه الشركة، لأنه لو أخذ من مال والده فإنه لا يقطع كما تقدم في المذهب.
فكذلك إذا كان لوالده شرك في هذا المال.
إذن: لا يقطع إذا أخذ من مال له فيه شرك أو أخذ من مال شركه لمن لا يقطع بالسرقة منه.
وهنا: مسألتان:-
مسألة ظاهرة الشبهة فيها فلا يقام فيها الحد، ومسألة أخرى الشبهة فيها ضعيفة جداً.
أما المسألة الأولى: فهي السرقة في عام المجاعة، فإذا أصيب الناس بسنة أي بجدب وقحط فسرق بعضهم لما يجد من الحاجة فلا قطع عليه.
وذلك لما روى عبد الرزاق في مصنفه: أن عمر قال: " لا قطع في عام سنة" أي في عام مجاعة.
والشبهة في ذلك أن هذا السارق لا يكاد يخلو من ضرورة يجب معها على المسروق منه أن يبذل له مجاناً ما يضطر إليه وذلك لأن إحياء النفوس واجب مع القدرة.
فهذا الذي قد سرق عام المجاعة والمسروق منه قادر وعليه فيبذله لهذا الذي قد سرق واجب حيث قدر على ذلك فهذه شبهة قوية، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد وهو قول عمر ولا يعلم له مخالف.
وأما المسألة التي في غاية الضعف بل في غاية الغرابة أن يقال باحتمال صدق دعوى السارق، وهو المشهور في المذهب إذا سرق رجل مالاً ثم قال: هو ملكي قد أودعته إياه أي المسروق منه أو رهنته إياه، أو قد أذن لي فأخذه فحينئذ نقول للمسروق منه: احلف على أن هذا الشي لك لأن جانبه أقوى فإن حلف فلا حق حينئذ للسارق لكن يده لا تقطع لاحتمال صدقه.
وحينئذ لا يعجز سارق عن مثل هذه الدعوى فيدعي أن المسروق ملكه.(28/46)
وقد أبطل هذا ابن القيم غاية الإبطال وبيّن أن هذا من الحيل التي تبطل الشرع من أصله، فلا يعجز سارق أن يدعي مثل هذا وحينئذ فلا قطع.
وهذا مما تنزه عنه الشريعة الإسلامية فلا شك أن هذا من الحيل الباطلة وهذه حيلة يستطيع أن يفعلها كل سارق.
قال رحمه الله تعالى: [ ولا يقطع إلا بشهادة عدلين ].
ذكرين حرين اتفاقاً.
فقد اتفق العلماء على أنه لا يقطع إلا بشهادة عدلين ذكرين حرين وهي البينة فثبتت بها السرقة ويترتب عليها الحد باتفاق أهل العلم ولو كان ذمياً.
فلو شهد ذميان على ذمي بالسرقة فإن الحد لا يقام عليه فالبينة هي شهادة شاهدين عدلين مسلمين ذكرين حرين.
قال: [ و إقرار مرتين].
هذا هو الطريق الثاني لثبوت السرقة التي يترتب عليه إقامة الحد وهو أن يقر بالسرقة على نفسه مرتين، فيقول: قد سرقت ثم يقول قد سرقت.
ويدل عليه ما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي قال: أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -????ما إذا لك سرقت) فقال: بلى فأعادها مرتين أو ثلاثاً- واليقين مرتين ??فأمر به فقطع ثم جيء به فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر الله وتب إليه فقال: استغفر الله وأتوب إليه، قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم تب عليه ثلاثا ".
هذا الحديث فيه أبو المنذر مولى أبي ذر وهو مجهول لكن الحديث ليس بمنكر، وجهالة التابعي ليست بالجهالة القوية، مع وجود شاهد له، وهو ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وسنن البيهقي بإسناد صحيح عن علي، أن رجلاً قال له: إني سرقت فردّة، فقال: إني سرقت فقال علي: شهدت على نفسك مرتين، فأمر به فقطع.
ولا يعلم لعلي مخالف، فعلى ذلك الحديث المتقدم حديث حسن وليس بمنكر ويشهد له فعل علي ويشهد له العباس على مسألة الزنا، فالزنا بينته أربع شهادات والإقرار لابد أن يكون أربعاً.(28/47)
فكذلك السرقة لابد أن يقرّ على نفسه مرتين، هذا هو المشهور في مذهب أحمد، خلافاً للجمهور.
فالجمهور قالوا: يكتفي باقرار مرة لأنه اعتراف والاعتراف يثبت بمجرد الإقرار ولو مرة واحدة.
والحجة مع أهل القول الأول لما تقدم.
فالصحيح أنه لا يقام عليه الحد إلا إذا شهد على نفسه مرتين.
إذن: لابد أن يقر على نفسه مرتين ويصف سرقة توجب الحد، فيبين الحرز ويبين قدر ما سرق، فيعلم لو توفر الشروط وكذلك في البينة فلابد وأن يشهد كل شاهد بما يوجب الحد فيصف السرقة وأنه قد سرق من حرز وأن المسروق كذا.
إذن: يثبت حد السرقة بالبينة والاعتراف.
لكن هل يثبت بطريق ثالث أم لا؟
والمذهب أنه لا طريق ثالث، بل لا يقام الحد إلا بأحدهما.
واختار ابن القيم وقال: " وهو أصح القولين" أن هناك طريقاً ثالثاً وهو: أن العين المسروقة عند السارق مع التهمة فإذا كان ممن يتهم بالسرقة ووجدت عنده العين المسروقة فيرى ابن القيم إقامة الحد عليه.
وهذا ظاهر كما تقدم في إقامة الحد على من تقيأ الخمر أو وجدت منه رائحته وإقامة حد الزنا بالحبل.
فالبينة والاعتراف خبران يحتملان الصدق والكذب، وغلبه الظن صدقهما.
وأما إذا وجدت عنده العين المسروقة فهذا نص صريح في السرقة لا يحتمل إلا السرقة كما قال ابن القيم.
لكن: فيما يظهر لو ادعي شبهة كان يدعي أنها عارية عنه فالذي يظهر أن هذا يدرأ عنه الحد، فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
قال: [ ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع].
فلو قال: رجعت قبيل القطع فإنه لا يقطع، وذلك كما تقدم في باب الزنا.
وظاهر كلام المؤلف ولو كان اقراره تدل عليه القرائن كأن يصف السرقة وأن يكون المسروق عنده، وأن يكون المسروق منه قد فقد هذا الشيء – فلو دلت القرائن على السرقة فله الرجوع هذا هو ظاهر كلام الحنابلة.(28/48)
والذي يتبين لي أن هذا الظاهر صحيح وذلك لأنه حيث اعترف فإنه تائب، وتوبته قبل أن يقدر عليه وقد قال تعالى: (( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)). فهذا قد أتى تائباً ولم تقم عليه بينة تدل على سرقاته فحينئذ إن اعترف أقيم عليه الحد، فإن رجع عن اعترافه قبل ذلك منه، والله أعلم.
قال: [ وأن يطالب المسروق منه بماله].
إذا ثبتت السرقة عند الحاكم ولم تثبت مطالبة بهذا المال فلا يقيم عليه الحد.
إذا أتى المسروق منه إلى الحاكم فقال: سرق مالي فعُثر على السارق فهنا يقطع ولا اشكال.
لكن إن لم يطالب المسروق منه أو كان غائباً، فهل يقام عليه الحد في الصورة الأولى، وفي الصورة الثانية هل ننتظر حتى يحضر فننظر هل يطالب أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
القول الأول: ما ذكره المؤلف هنا، وهو مذهب الجمهور قالوا لا يقيم عليه الحد إلا بمطالبة المسروق منه.
واستدلوا بحديث صفوان لما سرق رداؤه وهو متوسد عليه في المسجد فذهب بالسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يقطع فشفع له صفوان فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( هلا كان هذا قبل أن تأتيني).
قالوا: فيدل على أنه لا يقام إلا بالمطالبة.
والقول الثاني: وهو مذهب مالك واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الحد يقام ولو لم يطالب المسروق منه وذلك لأن الحد حق لله تعالى فيقام على السارق وإن لم يطالبه المسروق منه، فما دام وصل إلى الحاكم فإن الحد يقام عليه.
واستدل: بعموم الآية: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما".
ولم يشترط الله سبحانه طلب المسروق منه ولا رضاه في إقامة الحد.
وأما الحديث الذي استدلوا به، فإن الحديث قضية عين، فليس فيه أنه لو بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفع ذلك أنه لا يقيم عليه الحد.
وقد أقام الحد - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي أمية وتقدم أنه حديث حسن وأقامه علي وليس في ذلك طلب من المسروق منه.(28/49)
والقول الثاني هو الصحيح وأن الحد يقام مطلقاً لأنه حق لله تعالى وعليه فلا يشترط أن يطالب بإقامة الحد.
قال: [ وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى ].
إجماعاً قال تعالى: (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)).
وقد أجمع أهل العلم على أن اليد التي تقطع هي اليد اليمنى.
قال: [ من مفصل الكف وحسمت].
فتقطع يده من مفصل الكف، وحسمت والحسم بأن يقطع الدم بالزيت المغلي لئلا يتزق فيموت وهذا أي الحسم واجب حفاظاً على نفسه.
فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وأبقى له عقب يطؤ به اتفاقاً وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة.
فإن سرق ثالثة:
فالحنابلة قالوا: ويحبس حتى الموت، أو يتوب، أي يعزر بالحبس وهو قول علي كما في مصنف ابن أبي شيبة بإسناد حسن.
وقال الجمهور وهو رواية عن أحمد: بل تقطع يده اليسرى فإن سرق الرابعة قطعت رجله اليمنى.
واستدلوا: بأثر عن أبي بكر وعمر في رجل سرق وهو مقطوع اليد والرجل فأمر أبو بكر أن يقطع رجله فنهى عن ذلك عمر وأشار بقطع يده، والأثر حسن.
والأشبه هو قول علي، وقد تعارضت أقوال الصحابة فالأشبه هو قول علي.
وذلك لأن الله تعالى أمر بقطع اليد واتفق أهل العلم على قطع الرجل اليسرى بعد ذلك، وليس عندنا نص يدل على القطع فالله عز وجل إنما أمر بقطع اليد فحسب، وظاهره ألا يقطع سوى اليد وحين كان كذلك فإنا لا نقول بالقطع فيما سوى ذلك إلا فيما اتفق عليه أهل العلم، واتفقوا على قطع الرجل اليسرى، قال علي في أثره، "إن قطعت لا ينبغي أن يقطع رجله ويده فيبقى لا قائمة له".
فإذا قطعت يداه فلا يمكنه أن يستطيب ولا أن يأكل ولا يشرب وإذا قطعت رجلاه جميعاً فلا يمكنه المشي فمعنى ذلك إتلاف جنس العضو.
فالذي يترجح هو ما ذهب إليه علي لا سيما في أنه قال ذلك لعمر والظاهر أن عمر أقره على ذلك والله أعلم.
فإن سرق بعد ذلك وقلنا بالقطع فهل يقتل أولاً؟(28/50)
قال أبو مصعب المالكي وهو قياس قول شيخ الإسلام أنه يقتل وفي ذلك أثر رواه النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى برجل قد سرق فقال: اقتلوه، فقيل: إنه قد سرق فقال: اقطعوه ثم أتى الثانية فقال كذلك ثم أتي به الثالثة فقال كذلك ثم أتي به الرابعة فقال كذلك، ثم أتي به الخامسة فقال: "اقتلوه" لكن الحديث أنكره النسائي وأعله بمصعب بن ثابت في سننه وقال لا أرى أن في هذا الباب حديثًا صحيحاً.
فالذي يتبين أن هذا الحديث منكر إذ كيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول مرة اقتلوه والواجب قطعه.
فالذي يترجح أن هذا الحدبث منكر لكن من باب التعزير فإنه يثبت بالقتل كما قال شيخ الإسلام في شارب الخمر فمرجع ذلك إلى الإمام من حيث التعزير أما في الحكم في الأصل فلا قتل.
قال: [ ومن سرق شيئاً من حرز ثمراً كان أو كثراً أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع].
الكثر: هو الجمّار الذي يكون في النخل.
المشهور في المذهب أن من سرق تمراً أو كثراً أو شاة من غير حرز فلا قطع لعدم الحرز، قالوا: لكن يجب عليه غرامة مثلية فالشاه شاتان، والتمر إذا كان صاعاً فصاعان، وإذا أخذ من الكثر القيمة الفلانية فعليه ضعفها.
واستدلوا: بما ثبت في سنن النسائي باسناد جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التمر المعلق: ( من أصاب بقية من ذي صاحب حاجة غير متخذ خبنةً - وهي طرف الثوب - فليس عليه شيء ومن خرج بشيء منه فعليه الغرامة والعقوبة).
وفي رواية: " فعليه غرامة مثلية".
ونحوه في أبي داود وابن ماجه في الشاة.
قالوا: وأما سوى ذلك فليس فيه غرامة مثلية بل ضمان مثله لأن هذا هو الأصل، فالأصل هو ضمان المثل ولا يستثنى إلا ما دل عليه الحديث وهو التمر ونحوه والشاة.(28/51)
وقال شيخ الإسلام واختاره ابن سعدي وهو القول الثاني في المذهب وهو ظاهر كلام المؤلف في قوله "أو غيرهما" وهو أن هذا الحكم ليس بمختص بالشاة والتمر، بل كل ما أخذ من غير حرز ففيه غرامة مثلية.
للقياس الصحيح، وللقاعدة وهي أن ما اسقطت عقوبته لمانع فإن الضمان يضاعف.
وعلى ذلك فليس مختصاً بالتمر والشاة بل هو عام في كل ما سرق من غير حرز فلما اسقطت العقوبة ضاعفنا الغرم.
" باب حد قطاع الطريق"
قطاع الطريق: وهم الذين يخيفون السبل بالقتل وأخذ المال.
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)).
قال رحمه الله: [ وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح].
كالسيف والنبل ونحو ذلك.
ومثله أيضاً عند جماهير العلماء العصا والحجر، ونحو ذلك مما يتلف الأطراف ويجرح الأبدان وفيه معنى المحاربة والإفساد في الأرض.
قال: [ في الصحراء أو البنيان].
فسواء كان هذا في الصحراء أو كان في البنيان أي في المدن والقوى، وهو مذهب جماهير العلماء واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
لعموم الآية: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)) فالآية عامة في البنيان وفي الصحراء.
وقال بعض أهل العلم كما هو قول بعض الحنابلة وهو مذهب أبي حنيفة: بل في الصحراء فقط، وأما في البنيان فليسوا من المحاربين.
قالوا: لوجود الغوث في البنيان، أي من استغاث فيها أغيث بخلاف الصحراء.
والصحيح هو الأول لظاهر الآية الكريمة فهي عامة في البنيان والصحراء.
ثم إن البنيان أعظم وذلك لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة فلا شك أن من جعل الخوف فيها، أشد وأقبح ممن جعل ذلك في الصحراء لأن البنيان موضع الأمن والطمأنينة.
قال: [ فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة].
فإذا كانت سرقة فكما تقدم.(28/52)
لكن هنا يأخذون المال مجاهرة، يرفعون عليهم العصي والسلاح فيأخذون أموالهم.
قال: [ فمن منهم قتل مكافئاً أو غيره كالولد والعبد والذمي وأخذ المال قتل ثم صلب حتى يشتهر].
فمن فيهم قتل مكافئاً أو غيره، كالوالد يقتل ولده كالحر يقتل العبد، وكالمسلم يقتل الذمي، وأخذ المال فإنهم يقتل ويصلب.
فلو أن الأب قتل ولده في الحرابة فإنه يقتل به أو قتل مسلم ذمياً كأن يخيف بعض المسلمين السُبل فيقتلون ذمياً فإن يقتلون به.
أو حراً أخاف الطريق فقتل عبداً وتقدم أن المشهور في المذهب أن الحر لا يقتل بالعبد، وأما هنا فإنه يقتل.
وذلك لحق الله تعالى، فهناك في باب القصاص هو لحق الآدمي، وأما هنا فهو لحق الله تعالى، فهو حد من الحدود فالفرق بين هذا الباب وباب القصاص:-
أن باب القصاص حق للآدمي وعليه فلا يقتل الوالد بولده ولا يقتل في المشهور السيد بالعبد ولا يقتل المسلم بالذمي.
وأما هنا فهو حق لله تعالى.
ولذا فإن الله لم يرجع قتلهم إلى أولياء المقتول فهو حد فقال: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله .. أن يقتلوا)) ولم يجعل ذلك إلى أوليائهم بخلاف آية القصاص فقد أرجع الله ذلك إلى أولياء المقتول وأن أولياء المقتول بالخيرة بين القتل والدية والعفو.
وقوله: "فمن منهم" قد يفهم من ذلك خلاف المذهب فقد يفهم أنه لو قتل واحد منهم يقتل وأما البقية فإنهم لا يقتلون.
والمشهور في المذهب خلاف ذلك فالمشهور في المذهب أن قطاع الطريق إذا قتل واحد منهم فحكمهم جميعاً القتل وإذا أخذ المال واحد منهم فحكمهم جميعاً القطع وإذا أخذ واحد منهم المال وقتل فحكمهم جميعاً القتل والصلب هذا هو مذهب الحنابلة.
وقال الشافعية: بل إنما يقتل القاتل ويقطع الآخذ.
والصحيح هو القول الأول وذلك لأن المحاربة مبناها على المنعة والمناصرة، فهو لولا هؤلاء لم يخف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ المال.
فمن منهم قتل وأخذ المال أي جمع بين معصيتين، القتل وأخذ المال، فإنه يتقل ويصلب.(28/53)
وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
قال تعالى: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)).
وقد اختلف أهل العلم في لفظة هل هي للتنويع أم هي للتخبير؟
أي هل هذه العقوبات تختلف باختلاف الجنايات فكل عقوبة لجناية، فالقتل والصلب لجناية والقتل لجناية وقطع الأيدي والأرجل لجناية والنفي لجناية.
أم أنها للتخيير، فالإمام مخير بين هذه العقوبات فإن شاء قتل وصلب وإن شاء قتل، وإن شاء قطع الأيدي والأرجل من خلاف وإن شاء نفى من الأرض.
1) فمذهب المالكية إلى أنها للتخيير فقالوا: مرجع ذلك إلى الإمام فإن رأى أن يقتلوا ويصلبوا فعل ذلك، وإن رأى أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف فعل ذلك، وإن رأى أن ينفوا من الأرض فعل ذلك.
2) وقال الجمهور: بل هي عقوبات مختلفة لجنايات مختلفة فإن قتل وأخذ المال فعقوبته الجمع بين القتل والصلب وإن قتل فقط ولم يأخذ المال فعقوبته القتل فقط وإن أخذ المال ولم يقتل فعقوبته أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى.
وإن أخاف السبيل ولم يأخذ مالاً فإنه ينفى من الأرض هذا هو القول الراجح ويدل عليه الأثر والنظر.
أما الأثر: فما ثبت عن ابن عباس من غير ما وجه فهو أثر حسن فقد رواه ابن جرير الطبري والبيهقي وعبد الرزاق وغيرهم أنه قال: " إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن قتلوا، ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا مالاً ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض" فهذا أثر ابن عباس في تفسير هذه الآية.
أما النظر: فإن مقتضى العدل اختلاف العقوبات باختلاف الجنايات.
وإرجاع ذلك إلى الحاكم قد يترتب عليه تضييع وعبث فلا شك من إرجاع ذلك إلى الشرع كونها مسألة منضبطة من الشارع أولى من إرجاعها إلى الحاكم لئلا يدخل فيها شئ من العبث وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.(28/54)
فمن قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب حتى يشتهر إذن ليس هناك مدة محددة لصلبه.
والصلب معروف: وهو أن يوضع الخشب كالصليب ثم يوضع الرجل كالصليب قد ربطت كل يد بخشبه، فيصلب حتى يشتهر أمره بين الناس وينزجرون عن معصيته وليس محدداً بثلاثة أيام كما ذكر الشافعية بل مرجع ذلك إلى اشتهاره، فمتى ما اشتهر وحصلت المصلحة المقصودة من صلبه فإنه يزال عنه الصلب.
وهذا هو القول الراجح لعدم الدليل على التحديد ولأن المصلحة قد تكون في أكثر من ثلاثة أيام.
وكلام المؤلف هنا وهو المذهب فيه أنه يقتل ثم يصلب وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وصلبه قبل قتله) ليس من إحسان القتلة، وعليه فيقتل أولاً ويصلب ثانياً إحساناً لقتلته.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب المالكية أنه يصلب ثم يقتل أي يكون صلبه وهو حي.
وهذا هو القول الراجح لقوله تعالى: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا)) فجعل التصليب جزاءاً لهم فدل على أن ذلك عقوبة لهم فليس المقصود فيه مجرد انزجار الناس وردعهم بل المقصود أيضاً ايلامه وعقوبته على معصيته بذلك.
وقد ذكره في الإنصاف بلفظة "قيل" أي قال بعض الحنابلة يعني قولاً ضعيفاً قاله بعض الحنابلة فليس مخرجاً في المذهب.
قال: [ وإن قتل ولم يأخذ المال قتل حتماً ولم يصلب ].
إذا قتل بعضهم ولم يأخذ المال فعقوبته القتل بلا صلب لما نقلده في أثر ابن عباس.
قال: [ وإن جنوا بما يوجب قوداً في الطرف تحتم استيفاؤه].
إذا جنى هؤلاء القطاع أو بعضهم بما يوجب قوداً أي قصاصاً كأن يقطعوا اليد من المفصل فإنه يتحتم استيفاؤه.
لكن لو جنوا بما لا يوجب القصاص كأن يقطعوا اليد من غير مفصل فهذا لا يوجب القصاص وعليه فلا يقطع طرفه للعلة المتقدمة في باب القصاص.(28/55)
إذن: هنا إذا جنوا بما يوجب قوداً فإنه يتحتم استيفاؤه فليس مرجع ذلك إلى المجني عليه فيقال له: إن شئت أن يقطع طرفه وإن شئت أن تأخذ الدية، بل يتحتم استيفاؤه هذا هو أحد القولين في المسألة وهو ما ذكره المؤلف قياس على القتل.
والقول الثاني: وهو المذهب، " فالمذهب على خلاف ما ذكره المؤلف هنا" أنه لا يتحتم استيفاؤه.
وذلك لأن الله إنما ذكر القتل وهو حيث قتلوا، وقطع الطرف ليس بمنصوص عليه وكذلك الجرح، فالله إنما نص على النفس وأما ما دون النفس من الجراح والأطراف فإن الله لم ينص عليها فكانت كسائر الجنايات والأظهر القول الأول وهو ما ذكره المؤلف، قياساً على القتل، فكما أنه يتحتم قتل النفس فأولى من ذلك أن يتحتم قطع الطرف وأن يتحتم الاستيفاء في الجرح وكونه لم ينص عليه لا يمنع القياس فإنه في معنى المنصوص عليه.
قال: [ وإن أخذ كل واحدٍ من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق ولم يقتلوا قطع من كل واحدٍ يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا ثم خلى].
فإذا أكل واحد منهم من المال قدر ما يقطع بأخذه السارق، وهو ربع دينار فصاعداً ولم يقتلوا قطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى.
وعليه فلو أخذوا من المال أقل من ربع دينار فلا يقام عليهم هذا الحد.
قالوا: قياساً على السرقة.
وقال المالكية: بل لو أخذ أقل من النصاب فإنه يحد وهذا هو القول الراجح للإطلاق في الآية وفي الأُمر المتقدم وما قياس الحنابلة ففيه نظر، وذلك لأنه قياس مع الفارق والفارق بين حد السرقة وحد الحرابة، أن حد الحرابة أعظم فإن فيه قطعاً لليد اليمنى والرجل اليسرى، وأما حد السرقة فهو أخف، فكان قياساً مع الفارق فلا يصح أن يقاس الأعظم بالأخف.
وتقطع يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد لظاهر الآية، فظاهرها أن ذلك يكون في مقام واحد ولأن في عدم جعلهما في مقام واحد، بأن تقطع يده اليمنى اليوم ورجله اليسرى غداً في ذلك تعذيباً له.(28/56)
وتقطع اليد اليمنى من مفصل الكف، وتقطع الرجل اليسرى مع الكعب مع إبقاء العقب اليمنى عليه، أي كالقطع في السرقة.
[ وحسمتا] بالزيت المغلي.
[ ثم خلي] سبيله لأنه قد استوفى منه فلا يسجن إذ لا دليل على ذلك.
قال: [ فإن لم يصيبوا نفسًا ولا مالاً يبلغ نصاب السرقة نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلد].
إذا أخافوا السبيل، ولم يأخذوا مالاً وعلى المذهب لو أخذوا مالاً دون النصاب فكذلك نفوا بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى بلاد، بمعنى ينفون متفرقين في الصحاري ولا يقرون في بلد حتى يتوبوا.
وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في المسألة، وأنهم لا يقرون في بلد حتى يتوبوا، فمثلاً ثبت للحاكم، أنهم ذهبوا إلى الرياض فإنه بأمر بإخراجهم منها، وإذا نزل في القصيم فإنه يأمر بإخراجه منها وهكذا حتى تظهر توبته.
قالوا: لقوله تعالى: (( أو ينفوا من الأرض)) قالوا: فظاهره حتى ينفوا من الأرض كلها فلا يقرون في أرض.
وقال الأحناف بل يحبسون، وهذا في الحقيقة في معنى النفي من الأرض لأن السجين ليس في الدنيا فكما لو نفي من الأرض، لكن ظاهر الآية يخالف ذلك.
وقال مالك: ينفى من البلد الذي قطع فيه الطريق إلى بلد آخر ويسجن، وهذا فيما يظهر أصحها.
وأما كونه ينفى من الأرض فلظاهر الآية وعلى ذلك فقوله (ينفوا من الأرض) أي الأرض المعهودة وهذا حيث لم نقل بالسجن لكن لو قلنا بالسجن وهو الراجح فيكون المعنى ينفوا من الأرض كلها فإذا أخرجوا من بلد إلى آخر فقد حصل النفي، وإذا سجنوا فقد فعلنا ما نستطيع لأن الله أمر بنفيهم من الأرض وعندما نحشرهم في موضع واحد نكون قد فعلنا ما نستطيع فلم يقروا في أرض إلا الأرض التي لا يمكن أن يخرجوا منها إلا بالموت وهذا أظهر الأقوال وهو اختيار ابن جرير.(28/57)
وأما كونه يسجن: فلأنه إذا سجن فقد اخرج من الأرض كلها كما تقدم إلا الأرض التي هو فيها حيث لا سبيل لنا إلى إخراجه منها فقد فعلنا ما نستطيع وهذا تفسير ابن جرير لهذه الآية.
وأما ما ذهب إليه الحنابلة: فقد تترتب عليه بعض المفاسد كخروجهم إلى أرض الكفار فيكونون محاربين للإسلام.
أو أن يكون الأمن أضعف مما ينبغي فيعودون إلى قوتهم مرة أخرى.
مسألة:
ما حكم أخذ الإتاوة وهي الضريبة التي كانت تؤخذ مقابل المرور بمنطقة معينة؟
الأظهر أن يقال: فيه تفصيل:-
فإذا كانت الأرض لهم فتكون حينئذ شبهة فتكون كالجمارك التي تؤخذ الآن، فليسوا من قطاع الطريق وإن كان هذا لا يحل لكنها تكون من باب المكوس ولا تكون من باب أخذ المال على سبيل قطع الطريق لأنهم يقولون نحن لا نخيف بل نحفظ لهم وأما إذا كانت الأرض ليست لهم فإنه لا يتبين أنها شبهة وحينئذ يكونون قطاع طريق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يقولون: هؤلاء مكاساً ولا يعتبرون قطاع طريق قال: لأنهم لا يقصدون قطع الطريق بفعلهم فأطلق رحمه الله ولم يفرق بين ما إذا كانت البلدة لهم أو لم تكن لهم.
لكن فيما يظهر التفصيل المتقدم فيه قوة.
مسألة:
هل يجوز لنا أن نخدر اليد عند القطع أم لا؟
الأظهر: أنه يجوز ذلك في حد السرقة لأن المقصود من قطع اليد لا إيلام السارق قال تعالى: ((فاقطعوا أيديهما)).
وكذلك هنا لان المقصود هو القطع.
لكن إذا قطع طرف رجل آخر فلا يجوز لنا أن نخدر يده عند القطع وذلك للمثلية لأنه إذا بنج فإنه لا يشعر بالألم كما شعر به المجني عليه، فإذن: في باب القصاص لا يجوز ذلك، وفي باب القطع يجوز ذلك.
قال رحمه الله: [ ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتمِ قتلٍ].
ومن تاب منهم يعني قطاع الطريق قبل أن يقدر عليه سقط عنه ما كان لله من نفي وقطع وصلب وتحتم قتل وهذه أحكام قاطع الطريق كما تقدم.
وأما إن تاب من بعد القدرة عليه فإن حد الحرابة يقام عليه.(28/58)
قال: [ وأخذ بما للآدميين].
وذلك لأن حقوق الآدميين محفوظة لأن مبناها على المشاحة.
قال: [ من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها].
فإن قتل أحد منهم نفساً فإنه يقتل إلا أن يفعوا الأولياء أو يقبلوا الدية.
وإن أخذوا مالاً ففيه الضمان.
وإن قطعوا طرفاً فإن الطرف يقطع إلا أن يعفى له عنها.
إذن: من تاب منهم قبل القدرة عليه فإن حق الله يسقط وأما حق الآدميين فمبنية على المشاحة.
وهل هذا الحكم خاص في حد الحرابة أم هو عام في سائر الحدود؟
قولان لأهل العلم:-
القول الأول: وهو مذهب الجمهور قالوا: هو خاص في حد الحرابة، وهو مذهب المالكية والأحناف وأحد القولين في مذهب الشافعي وهو رواية عن أحمد.
فلو أن رجلاً زنا ثم تاب قبل أن يقدر عليه ثم ثبت عليه الحكم فإن الحد يقام عليه.
ولو أن رجلاً سرق ثم تاب قبل أن يبلغ ذلك الحاكم، ثم بلغه ذلك بعد توبته فإنه يقام عليه الحد.
واستدلوا: بعمومات الأدلة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة).
(السارق والسارقة فاقطعوا أيدهما) قالوا: وهذه العمومات تدل على أن هذا الحد لا يسقط بالتوبة.
قالوا: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً والغامدية، وكانا تائبين.
والقول الثاني: وهو مذهب الحنابلة في المشهور عندهم، وهو المعتمد في مذهب الشافعية واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن الحد لا يقام عليه كحد الحرابة.
ومما استدلوا به.
القياس على حد الحرابة.
واستدلوا: بما ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال: أصليت معنا، قال: نعم، فقال: قد غفر الله لك.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه وهو حديث حسن: ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له) فدل على أنه مساوٍ لمن لا ذنب له، ويدخل في ذلك عدم إقامة الحد عليه.
قالوا: وأما ما استدل به أهل القول الأول: فهي عمومات مخصوصة بالأدلة التي ذكرناها.
وأما استدلالهم برجم ماعز والغامدية.(28/59)
فالجواب عنه: أنهما كانا طالبين لذلك مريدين له، ومن ثم أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما، فإن الحد مطهر والتوبة مطهرة وهما اختارا الحد، ويدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ماعز لما فر: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" فدل على أنه لا يتعين إقامة الحد، وإنما أقامه النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختيارهما ذلك.
وعليه فإذا اختار صاحب المعصية إقامة الحد، فإن الحاكم يقيم عليه الحد.
والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وأن الحدود عامة تسقط بالتوبة.
وأصح القولين وهما أحد الوجهين في مذهب أحمد، أنه لابد أن يظهر منه ما يدل على صدق التوبة من صلاح العمل.
ويدل على هذا قوله تعالى: ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) فقال سبحانه: "وأصلح" فدل على أن التوبة لابد أن يظهر ما يدل عليها فليس مجرد اقلاعه كافياً أو ندمه لأن هذا أي الندم لا يعلم فهو أمر قلبي، بل لابد أن يظهر عليه من صلاح العمل وظهور الاستقامة ما يدل على توبته.
قال: [ ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك].
فمن صال على نفسه أو حرمته أي حريمه أو ماله آدمي أو نهبه فله الدفع عن ذلك.
ففي الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من قتل دون ماله فهو شهيد).
وقال: كما في الترمذي وصححه وهو كما قال: ( من قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد).
وثبت في مسلم أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن أراد رجل مالي ليأخذه، قال، فلا تعطه، قال: فإن قاتلني، قال قاتله، قال: فإن قتلني قال: فأنت شهيد قال: فإن قتلته قال، فهو في النار).
فهذا يدل على أن القاتل يدفع.
وهنا ذكر المؤلف أن له الدفع، وقال بعد ذلك: [ ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله].(28/60)
إذن هنا قوله: "له" ليس المراد منه أنه لا يجب، بل المراد أنه مأذون له في ذلك لكن هل يجب أم لا؟
إن كان القاتل قد صال على نفسه أو على أهله فإنه يجب عليه الدفع في أصح الروايتين عن الإمام أحمد.
ويدل على وجود ذلك: وجوب حفظ العرض والنفس وقوله تعالى: (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)) فما دام أنه قادر على الدفاع عن نفسه فيجب عليه ذلك لأنه إن لم يدفع عن نفسه فقد ألقى بنفسه في التهلكة.
ويجب أيضاً حفظ العرض.
وأما المال: فلا يجب وذلك لأنه يجوز له أن يبذل المال فلم يجب عليه أن يدفع عنه الصائل.
ولكن هل يجب عليه حفظ ماله من الضياع والتلف أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
المشهور في المذهب أنه لا يجب.
والقول الثاني في المذهب أنه يجب.
والصحيح هو الوجوب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، دليل ذلك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( نهى عن إضاعة المال) وعليه فلا يجوز له أن يتلف ماله ولا أن يضيعه.
لكن إن صال عليه آخر فيجوز له أن يتركه مرجحاً لمصلحة حفظ النفس ولأنه يجوز له أن يبذله، وهنا قد بذله في وجه يجوز وهو حفظ النفس.
وهل يجب عليه أن يدفع عن مال أخيه وعن حرمة أخيه وعن نفس أخيه أم لا؟
فلو أن رجلاً أتاه لص أو صائل فهل يجب علي الآخر أن يدفع عنه أم لا؟.
قولان:
القول الأول: وهو ظاهر كلام الموفق، أنه لا يجب.
القول الثاني: وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام أنه يجب وهو الراجح.
وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) إلا أنه يشكل على هذا وهو صريح كلام شيخ الإسلام أنه يجب أن يدافع عن مال أخيه مع أنه لا يجب عليه أن يدافع عن مال نفسه.
لكن إذا رجحت السلامة فإنه يقوى الوجوب كما هو نص كلام شيخ الإسلام فقد نص على مسألة المال وغيرها أولى ولذا ذكرت أنه ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
فالصحيح أنه يجب عليه أن يدافع عن مال أخيه إذا ترجحت السلامة وعن نفسه وأهله.(28/61)
قال: [ بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به].
فإذا كان يكفي بالتهديد فإنه يفعل، فإن لم يكف فبالعصا، فإن لم يكف فبالحديد، فإن لم يكف فبما هو أعلى منه إلى أن يصل ذلك إلى القتل.
لكن إن كان ينزجر بالتهديد ولكنه اعتدى عليه بالحديد أو قتله فحينئذ قد فعل مالا يحل له وعليه الضمان.
إذن يجب التدرج بالأسهل.
لكن لو قال: أنا لو هددته وعلم بموضعي خشيت على نفسي وأنا أعلم أنه لا يمكنني أن أنفك منه إلا بضربه فحينئذ يجوز له ذلك.
قال: [ فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه].
لأنه فعل مأذون شرعاً.
لما ثبت في البخاري: أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده فخرجت ثناياه فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل فلا دية).
فهنا لم يوجب له دية ثناياه، وهذا يدل كما قال ابن القيم أن من تخلص من يد ظالم، فأتلف نفس الظالم أو شيئاً من أطرافه أو ماله فذلك هدر.
لكن لو قتله ويمكن أن يندفع بدون ذلك فإن عليه الضمان.
وكذلك: لو أصاب يديه، وحينئذ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فأتى إلي رجليه، فإن عليه دية الأرجل، لأن هذا الفعل ليس بمأذون فيه.
فإذا اعتدى رجل عليه أو على أهله فقتله فهذا حلال حتماً بينه وبين الله، لكن الذي يحكم به القاضي هو الظاهر فيقتل القاتل إلا أن تقر بذلك أولياء المقتول فإنه لا يقتل وهذا هو كلام الحنابلة.
لكن شيخ الإسلام استثنى ما إذا كانت القرينة الظاهرة تدل على صدقه، كأن يكون رجل معروف بالبر، ودخل في بيته رجل معروف بالفجور فقال شيخ الإسلام تقبل يمين القاتل فيحلف أنه دخل بيته وأراد الاعتداء على عرضه فقتله ولم يتمكن من دفعه إلا بالقتل فحينئذ يقبل قال: لا سيما إذا كان معروفاً بالتعرض له قبل ذلك.
وما اختاره شيخ الإسلام هو الظاهر، ولا يمكن قيام مصالح الناس إلا بهذا.(28/62)
ولأنه في الغالب في مثل هذه المسائل لا توجد البينة أي الشهود ومعلوم أن البينة ما أبان الحق، فإذا كان هذا الرجل معروفاً بالصلاح والآخر معروف بالاعتداء والفجور فوجدناه في بيته قتيلاً وادعى أولياء المقتول أنه قتله فاعترف بذلك وأخبر بما تقدم ذكره وحلف على ذلك فإن الحق ظاهر معه.
إذن: الأصل أنه لابد من بينة أو أن يقر أولياء المقتول لكن إن كانت القرينة ظاهرة في صدق القاتل فإنا نكتفي بيمينه.
قال: [ فإن قتل فهو شهيد].
كما تقدم
قال: [ ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله].
تقدم أيضاً.
قال: [ ومن دخل منزل رجل متلصصًا فحكمه كذلك].
فمن دخل منزل رجل متلصصاً أي ليسرق ونحو ذلك فحكمه كذلك وقد يكون البيت ليس فيه شيء فلا يكون سارقاً ولا يريد القتل ولا يريد العرض فحينئذ حكمه كذلك والعلة أنه معتد في دخوله البيت.
فإن نظر من نافذة أو من شق في الباب فحذفه بعصا، ففقع عينه، فلا ضمان.
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( لو أن إمرءاً اطلع عليك بغير إذن ففقأت عينه فلا جناح عليك) متفق عليه وظاهره ولو لم يكن في البيت نساء لكن لو كان متساهلاً قد فتح بابه فنظر إليه رجل من الباب فلا يكون الحكم كذلك فلي له أن يفقأ عينيه لأنه مفرط.
مسألة:
لو تصنت وتسمع من شق ونحوه بغير إذن فهل يشق أذنه أم لا؟
قولان:-
المشهور في المذهب: أنه ينذره قبل ذلك.
وقال بعض الحنابلة: بل يشق أذنه وهذا أظهر للحديث المتقدم في فقيء العين.
المسألة الأولى:
تقدم في الدرس السابق أن من نظر في شق ففقئت عينه أنه لا ضمان ولادية.
وهل هذا من باب عقوبة المعتدي أو من باب دفع الصائل؟
هو من باب عقوبة المعتدي كما قرره شيخ الإسلام وليس من دقع الصائل.
ولذا لا يجب تحذيره وهو ظاهر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.(28/63)
ومن ذلك: ما اختاره شيخ الإسلام أن من وجد مع امرأته رجلاً فقتله فيما بينه وبين الله، فلا شيء عليه لا فرق بين أن يكون المقتول الزاني محصناً أو غير محصن معروفاً بالفجور أم ليس معروفاً به.
قال: أي شيخ الإسلام: " وعليه يدل كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم".
ومن ذلك أثران:
الأول: ما رواه سعيد بن منصور: بينما عمر يتغذى إذ أقبل رجل معه سيف ملطخ بالدم وخلفه قوم يجرون فجلس عند عمر، فأتى أولئك فقالوا: يا أمير لمؤمنين إن هذا قد قتل صاحبنا، فقال: ما تقول فقال: ضربت بين فخذي امرأتي فإن كان بين ذلك أحد فقد قتلته فقال: مما تقولون؟ قالوا: لقد ضرب بالسيف وسط الرجل وفخذي المرأة- "وهذا اقرار منهم بما فعل - فأخذ عمر السيف فهزه ودفعه له وقال: إن عادوا فعُد" وهو أثر صحيح مشهور وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره.
الثاني: ما ثبت عن علي كما في مصنف عبد الرزاق، لما سئل عن رجل قتل رجلاً وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فإنه يؤخذ برمته".
وظاهره أنه إذا أتى بأربعة شهداء فإنه لا يؤخذ برمته وليس فيه تفريق بين المحصن وغيره.
وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في حكم القاضي فإنه يحكم بالظاهر.
ولذا أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل على قوله: يا رسول الله إذا وجد الرجل مع امرأته رجلاً فقتله قتلتموه، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوله، كما في الصحيحين.(28/64)
ومما يدل على جواز ذلك فيما بينه وبين ربه أن سعد بن معاذ سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى أتي بأربعة شهداء؟ فقال: نعم، وهذا جواب في الحكم بالظاهر، فقال سعد والذي بعثك بالحق لأعاجله بالسيف، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وإني لغيور والله أغير منا) فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينهه ولم يأذن له، لأنه لو أذن له بذلك في سؤاله الأول لكان هو حكم الشرع ظاهراً وباطناً لكنه أقره ولم ينهه.
المسألة الثانية:
إذا اجتمعت حدود فلا يخلو هذا من ثلاثة أحوال:-
الحال الأولى:
أن تكون كلها حدود لحق آدمي، ويدخل في هذه المسائل ما لو لم تكن حدوداً كالقتل وقطع الطرفين ونحو ذلك.
فإذا كانت حقوقاً للآدميين فيجب استيفاؤها كلها فلو أن رجلاً قتل شخصاً وقطع طرف آخر، فيجب قطع طرفه ثم يقتل.
وإذا قلنا إن حق القذف حق للآدمي كما هو المذهب فإذا قذف فإنه أيضاً يجلد.
وهذا باتفاق العلماء لأن حقوق الآدميين مبناها على المشاحة.
الحالة الثانية:
أن تكون الحدود كلها لله تعالى، كأن يجتمع عليه حد حرابة وحد سرقة ونحو ذلك، فلا تخلو هذه الحال من حالتين:-
1) ألا يكون فيها قتل فحينئذ يجب استيفاؤها كلها اتفاقاً.
كأن يكون قد سرق وعليه حد حرابة لكنها لا تصل إلى القتل وإنما النفي مثلاً فإنه يستوفي هذا وهذا باتفاق العلماء.
2) أن يكون فيها قتل، فقولان:-
القول الأول: وهو مذهب الجمهور: إن القتل يحيط بكل شيء وفيه أثر عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبه لكن إسناده ضعيف.
وقالوا: لأن المقصود هو الإنزجار.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الشافعي يجب استيفاؤها كلها وذلك لأنها عقوبات فقطع يده لسرقته وقتله في الحرابة لحرابته فيجب أن نستوفي هذا وأن نستوفي هذا.
وهذا أظهر والله أعلم.
الحالة الثالثة:
أن تكون الحدود بعضها لله تعالى وبعضها للآدميين.(28/65)
فحدود الآدميين يجب استيفاؤها، وكما تقدم لفظة حدودهنا فيها تجوز فيدخل فيها القصاص وهو ليس من الحدود.
وأما حدود الله تعالى فيرجع إلى الخلاف المتقدم فالشافعي يقول، يجب استيفاؤها كلها.
والجمهور يقولون: إن كان فيها قتل فإنا نكتفي به والراجح ما تقدم.
" باب قتال أهل البغي"
البغي: من بغا يبغي إذا اعتدى
والأصل في هذا الباب قوله تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)).
وما يتفرع في هذا الباب من مسائل، فأصله قتال علي رضي الله عنه لمن خالفه من الصحابة وغيرهم في صفين والجمل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وغيره: "يقتل عمراً الفئة الباغية".
وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامه قال: " شهدت صفين فكانوا لا يجيزون جريحاً أي لا يجهزون عليه، ولا يطلبون دماً أي إذا فر من القتال فإن دمه لا يطلب ولا يسلبون قتيلاً).
وليس هذا أي قتال أهل البغي - ليس من جنس قتال الخوارج، فإن قتال الخوارج ولا شك، أوجب وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم في قوله: ( فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل).
وهؤلاء أي البغاة مأولون تأويلاً سائغاً وإن كان منهم من يكون غاصباً.
وأما الخوارج فليس لهم تأويل سائغ.
ولذا اختلف أهل العلم، هل قتال الخوارج كقتال البغاة أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
المشهور في مذهب أحمد، أن قتال الخوارج كقتال البغاة فلا يجاز جريحهم ولا يطلب دم فارهم ولا يسلب قثيلهم.
والقول الثاني في المذهب وصححه الموفق والشارح وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لهم هذا الحكم، بل يجهر على جريحهم ويسلب قتيلهم ويتبع فارهم ويطلب دمة.(28/66)
والمسألة مسألة توقف وإن كان القول الثاني فيما يظهر أقرب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: ( فاقتلوهم أينما وجدتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله عز وجل). والله أعلم.
إذن في الخوارج خلاف في مذهب أحمد وغيره، وبعض أهل العلم يرجع هذه المسألة إلى الحكم بتكفيرهم هل يكفرون أم لا لكن الذي عليه نصوص أحمد وهو المشهور عنه أنهم لا يكفرون وهو قول علي وهو أعظم من قاتل الخوارج فإنه لما سئل كما نقل هذا شيخ الإسلام وغيره لما سئل أكفارهم فقال: " من الكفر فمروا" وهناك رواية عن الإمام أحمد في التكفير.
لكن الذي يظهر أن هذه المسألة لا تنبني على مسألة تكفيرهم وإنما ينبني على أن الخوارج يستبيحون دماء المسلمين وأموالهم وتكفيرهم بالمعاصي، وأما البغاة فليسوا كذلك، ولذا فقد فرف بينهم بعض أهل العلم كما تقدم.
قال رحمه الله: [ إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة].
شوكة: من قوة وسلاح.
ومنعة: أي بعضهم يمنع بعضاً، فهم جماعة كثيرة يمنع بعضها بعضاً ولهم سلاح يقاتلون به.
قال: [ على الإمام].
أي الأعظم.
قال: [ بتأويل سائغ].
قال شيخ الإسلام: التأويل السائغ هو التأويل الجائز من جنس تأويل الفقهاء في موارد الاجتهاد، وليس من جنس تأويل الخوارج.
[ فهم بغاة].
فهؤلاء هم البغاة.
فإن اختل شرط من هذه الشروط فهم قطاع طريق، فإن كان ليس لهم شوكة ومنعة أو لم يخرجوا على الإمام وإنما خرجوا على أمير بلد وهم يقولون نرى السمع والطاعة للإمام، أو خرجوا على الشرط ونحو ذلك فهم قطاع طريق وليسوا ببغاة.
قال: [ وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه].
فيسألهم ما الذي ينقمون عليه، وما الذي أجاز لهم الخروج عليه بالسيف.
قال: [ فإن ذكروا مظلمة أزالها].
فإذا ذكروا ظلماً حصل لبعض الناس، أو ظلماً عاماً فإنه يجب عليه أن يزيله.
وإزالة الظلم واجبة في الأصل، لكن هنا يتأكد وجوبها لدرء المفسدة وحقن دماء المسلمين.
قال: [ وإن ادعوا شبهة كشفها].(28/67)
إذا قالوا: خرجنا لأنك قد أوجبت علينا ما ليس بواجب أو حرمت علينا ما ليس بحرام فما هو دليلك على ذلك وما هي حجتك فحينئذ يبين لهم بالحجة والبرهان ما يزيل لهم شبهتهم ويكشفها أي بما يرسل لهم من أهل العلم لقوله تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما)) وهذا من الإصلاح.
قال: [ فإن فاءوا وإلا قاتلهم].
لقوله تعالى: (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي)).
وقوله (فقاتلوا) يدل على أنه يجب على الرعية أن يقاتلوا لقوله تعالى: (( فقاتلوا التي تبغي)) لكن هذا ليس على إطلاقه كما تدل عليه النصوص وآثار الصحابة رضوان الله عليهم في قتال صفين والجمل.
فإن أكثر الأكابر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشتركوا في القتال مع أن علياً هو أمير المؤمنين بالبيعة، وشارك بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعمار بن يسار وغيره.
وإنما لم يشارك منهم من لم يشارك لأنه رأى أن في القتال مفسدة راجحة فحينئذ يكون قتال فتنة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (تكون فتن، فكن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل) رواه أحمد وغيره.
وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في سنن أبي داود: ( فكن كخير ابني آدم) وهم أي الذين لم يشاركوا مع علي، قد تعارض لديهم وجوب طاعة الإمام، ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن قتال الفتنة.
ووجوب طاعة الإمام نص عام، وهذا نص خاص فترجح النص الخاص وهو النهي عن القتال في الفتنة.
ولذا كما ذكر شيخ الإسلام، لم يكن علي يستدل بنص في قتاله لمعاوية رضي الله عنهم ومن معهم، وإنما ذكر أنه رأي قد رآه، وكان أحياناً يثني على من لم يشارك.
وقتال البغاة كما تقدم لا يجهز فيه على جريحهم، ولا يطلب فارهم، ولا يسلب قتيلهم.(28/68)
فدماؤهم معصومة وأموالهم معصومة وإنما هو من جنس دفع الصائل فالجريح قد إندفعت صولته، والفار قد أندفعت صولته، والأثر المتقدم أي أثر أبي أمامة يدل على ذلك.
أيضاً لا يجوز أن يقاتلهم بما فيه إهلاك عام كالإحراق وكالمنجنيق أو نحو ذلك وذلك لأن قتالهم من باب دفع الصائل فيدفع بالأسهل.
لكن لو كان مضطراً محتاجاً إلى الدفع بالأصعب بأن كان لا يمكنه دفع صولتهم إلا بالأهلاك العام فإن ذلك يجوز.
فإذا وضعت الحرب أوزارها فلا ضمان من الطرفين أي لا هؤلاء يضمنون الدماء التي سفكوها، والأموال التي أتلفوها ولا الآخرون كذلك.
أما أهل العدل، الذين هم الإمام ومن معه، فإن هذا ظاهر لأنه قتال مأذون لهم فيه، فليس عليهم ضمان.
وأما الطائفة الأخرى وهي طائفة البغي، فلا يضمنون لأنهم متأولون.
ولذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين لم يضمن أسامة دم الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله لأنه قتله متأولاً.
فلو أن أحدهم فر فتبعه بعض أهل العدل فقتله فإنه يضمن وذلك لأنه بغير حق، وهو فعل ليس بمأذون فيه لكن هل يثبت القصاص أم لا؟
وجهان في مذهب أحمد وغيره، أصحهما أن القصاص لا يثبت للشبهة.
فإن فر إلى فئة أخرى ليتقوى فهل يجوز قتله أم لا؟
قولان لأهل العلم:-
فالمشهور في المذهب: أنه لا يقتل أيضاً أي لا يتبع فيقتل.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب أبي حنيفة، ومذهب كثير من الشافعية أنه يقتل، وهذا أظهر لأنه فر للقتال والحرب فهو ليس فاراً من القتال بل فارُ له.
قال: [ وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان].
عصبية ما تقع بين القبائل فتتعصب هذه ويتعصب تلك من غير أن تكون إحداهما تطلب الرياسة من الأخرى.
"أو رياسة"وكل واحدة منهما تريد الرياسة على الأخرى فالطائفتان جميعاً ظالمتان، فكل واحدة من الطائفتين ليست بطائفة عدلٍ وليس من البغاة المتأولين.
قال: [ وتضمن كل واحدة، ما أتلفت على الأخرى].(28/69)
من الأموال والأنفس.
فإذا انتهت الحرب ننظر ما أتلفت هذه على الأخرى من الأموال والأنفس، ولنفرض أنهم قدروها بمائة ألف وينظر ما أتلفت هي على الأخرى من الأموال، والأنفس فقدرناها بخمسين ألف، فالفارق بينهما وهو خمسين ألف يدفع إلى الطائفة التي الإتلاف منها أكثر في الأموال والأنفس.
"باب حكم المرتد"
المرتد لغة: هو الراجع.
أما في الاصطلاح: فعرفه المؤلف بقوله: [ وهو الذي يكفر بعد إسلامه].
فالمرتد هو الذي يكفر بعد اسلامه.
الردة تكون طوعاً لا كرهاً كما قال تعالى: (( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)).
والإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، كما قرر هذا شيخ الإسلام فليس الإكراه المعتبر على كلمة الكفر كالإكراه المعتبر على الهبة.
فالمرأة قد تخاف أن يطلقها زوجها فتهبه مالها فهذا إكراه معتبر في الهبة، وليس هذا معتبراً في الكفر فلو كفرت خوفاً من طلاق زوجها فإنها تكفر وليست بمكرهة حينئذ أي لا يقبل منها هذا الإكراه.
قال الإمام أحمد: " الإكراه أي هنا بالتعذيب والضرب" فإذا أكره منطق بكلمة الكفر فكفر بعد إسلامه بهذا لا يكون كافراً بذلك بل هو معذور عند الله عز وجل".
وليس من العذر الخوف ولا الرجاء فإن الله لم يستثن إلا الإكراه، وكما ذكر الله عز وجل في موالاة الكفار وكفر بها ثم قال: ( فترى الذي في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة).
فهم كانوا خائفين أن تكون الدائرة للكفار عليهم، فلم يعذرهم الله عز وجل بذلك.
والردة قد تكون بالاعتقاد، وقد يكون بالنطق، وقد يكون بالفعل وقد يكون بالشك.
فمثاله في الاعتقاد اعتقاد قدم العالم فمن اعتقد أن العالم قديم فهو كافر.(28/70)
أو جحد ربوبية الله واعتقد ألا رب فهذا كفر بالاعتقاد ومثاله في النطق كمن استهزأ بدين الله عز وجل ولو كان هازلاً أو سب الله أو سب رسوله أو سب الإسلام ولو كان هازلاً فإنه يكفر بالإجماع وإن لم يعتقد ذلك في قلبه، أي ولو أدعى أنه لم يعتقد ذلك في قلبه.
ودليل هذا أن الله عز وجل قال في كتابه الكريم عن الذين أكفرهم الله بالاستهزاء: (( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)) أي لم نكن معتقدين هذا في قلوبنا وإنما كان هذا بمجرد اللسان من باب الخوض واللعب فقال الله عز وجل: (( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)).
ومن أمثلة النطق أن يتلفظ بما فيه تنقص لله عز وجل كقول اليهود: " يد الله مغلولة".
ومثال الكفر بالفعل، عبادة غير الله عز وجل، من أتخذه وسائط يعبدهم من دون الله عز وجل ويتوكل عليهم، فهو كافر بالإجماع، وكذلك أن يطأ المصحف.
ومثال الكفر بالشك، أن يشك في كفر اليهود والنصارى، فمن شك في كفر اليهود والنصارى فهو كافر، أو شك في البعث، أو غير ذلك من الشك فيما يجب الجزم به فإن ذلك من الكفر بالله عز وجل.
قال: [ فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته].
أي قال: الله ليس برب أو ليس لهذا الكون خالق.
قال: [ أو وحدانيته].
أي أنكر أن يكون الله عز وجل، متفرداً بالعبادة، بل يجوز أن يعبد معه غيره.
قال: [ أو صفة من صفاته، أو اتخذ لله صاحبة أو ولداً أو جحد بعض كتبه أو رسله أو سب الله أو رسوله فقد كفر].
وهنا المؤلف لم يستثن الجاهل بخلاف المسائل الأخرى بعد ذلك، فإنه قال: ( ومن جحد تحريم الزنا إلى أن قال: بجهل عرف ذلك).
فالمسائل الظاهرة المعلومة من الدين، هذه يكفر قائلها أو فاعلها، يكفر بالله عز وجل إن أقيمت عليه حجة الله على العباد.
والمراد بالكفر هنا أحكام الكفر وهي ما يترتب على الكفر من الوعيد، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأن حكم الوعيد على الكفر لا يترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله).(28/71)
فأحكام الوعيد من القتل في الدنيا، واستباحة المال والسبي، ومن أحكام الآخرة وهي التخليد في نار جهنم هذه أحكام الوعيد المترتبة على الكفر فهذه لا تترتب على العبد حتى تقوم عليه حجة الله عز وجل على عباده التي بعث بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)).
فالله لا يعذب في الآخرة ولا يأذن بالعذاب في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، حتى تقوم حجة الله تعالى على العباد.
وهذه اللفظة المتقدمة من كلام شيخ الإسلام تدل على أن عامة كلامه في هذا الباب يريد به أحكام الوعيد وأن أحكام الوعيد على الكفر لا تترتب على الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله على العباد.
وهنا مسألتان:
المسألة الأولى:
أن حجة الله على العباد، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قائمة بالقرآن فمن بلغه فقد بلغته حجة الله عز وجل قال تعالى: (( لينذركم به ومن بلغ)) وقال: ((لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)).
المسألة الثانية:
أنه لا يشترط في إقامة الحجة هنا فهمها، ففهم الحجة نوع وشيء، وإقامتها نوع وشيء آخر كما بين هذا الإمام محمد وغيره يتبين هذا، أن الله سبحانه وتعالى قد كفر من دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، مع أنه أخبر أنه قد جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، فقال تعالى: (( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً)).
فكونهم لا يفهمون حجة الله عز وجل هذا لا يعذرهم عند الله عز وجل بل متى ما قامت عليهم الحجة بحيث يفقهونها ويفهمونها لكنهم لم يفهموها ولم يفقهوها فإن الحجة قائمة عليهم بذلك.
نعم لو أبلغ أعجمي القرآن لم تقم عليه بذلك حجة الله عز وجل أما من كان يعرف لغة العرب ويفهم القرآن لكنه لم يفهم حجة الله عز وجل بسبب ما ران على قلبه ذلك ليس بعذر عند الله عز وجل.(28/72)
ويدل عليه كلام أهل العلم عامة فإنهم إنما يذكرون التعريف ويذكرون بيان الحجة، ولا يذكرون فهمها بل بمجرد ما تبين له الحجة ويعرف فإنه يقتل كما قرر أهل العلم في مسائل كثيرة من هذا الباب وأنهم يعرفون بالحق فإن رجعوا وإلا اقتلوا ولا يشترطون أن يعرف الحق ثم يعاند.
كما وقع لقدامة بن مظعون رضي الله عنه، ومن معه ممن أباح الخمر واستدل بقوله تعالى: ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات))، فكانت هذه الآية شبهة لهم فاتفق الصحابة كعمر وعلي بن أبي طالب أنهم يعرفون بالحق فإن تابوا وإلا قتلوا، فلم يكفروهم ابتداءً لأجل هذه الشبهة.
وأما الحكم على الشخص بالكفر الذي لا تترتب عليه أحكام الوعيد، فهذا شيء آخر.
بمعنى: كون الرجل يحكم عليه بالكفر الذي لا يترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة من قتل وسبي واستباحة مال وتخليد في نار جهنم فهذا شيء آخر وفي بعض أجوبة أئمة الدعوة النجدية كإجابة الشيخ عبد الله وحسين ابني الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيمن عرف بفعل الشرك ومات على ذلك.
فقال: إنه إذا كان الأمر كذلك أي عرف بفعل الشرك بالله تعالى: فإن الظاهر منه أنه قد مات على الكفر، وعليه فلا يستغفر له ولا يضحى عنه.
أما في حقيقة الأمر فإن كانت قد قامت عليه حجة الله على عباده فهو كافر في الظاهر والباطن.
وأما إن لم تقم عليه حجة الله على عباده فأمره إلى الله تعالى، فهنا في هذه الفتوى بينوا أن هناك كفراً في الظاهر وأن هناك كفراً في الظاهر والباطن.
أما الكفر الذي يكون كفراً في الظاهر والباطن فهو الذي تترتب عليه أحكام الوعيد في الدنيا والآخرة فهو من قامت عليه حجة الله على عباده فهذا يستباح ماله ودمه ويخلد في نار جهنم.(28/73)
وأما من لم تقم عليه حجة الله على عباده فهو في الظاهر، أي في أحكام الدنيا يسمى كافراً ومشركاً فلا تحل ذبيحته ولا يحل نكاح نسائه ولا يستغفر له ولا يضحى عنه ولا غير ذلك مما يترتب على المسلمين فليس بمسلم.
قال ابن القيم: والإسلام هو توحيد الله تعالى وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبالرسول واتباعه فيما جاء به، فمن كان على ذلك فهو المسلم، ومن لم يكن على ذلك فليس بسلم إما أن يكون كافراً معانداً وإما أن يكون كافراً جاهلاً) أ . هـ.
فمن ناقض التوحيد وناقض أصل الرسالة فليس بمسلم إما أن يكون كافراً جاهلاً ومن هنا فإن الإسلام ألحق غير المكلفين بآبائهم فإن الأطفال في الدنيا وهكذا المجانين لهم أحكام آبائهم كما صح هذا في البخاري وغيره وقد تقدم فالمقصود من هذا أن هؤلاء الذين لم تقم عليهم حجة الله على عباده وليسوا على دين الإسلام وإن أدعوا أنهم عليه فهم كفار في الظاهر، لا تحل ذبائحهم ولا تحل نساؤهم ولا يستغفر لهم ونحو ذلك من الأحكام في الدنيا.
لكن لا يعذبون لا في الدنيا بالقتل والسبي واستباحة المال، ولا في الآخر في نار جهنم حتى تقام عليهم حجة الله على عباده.(28/74)
وأما المسائل الخفية، وهي التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، التي ليس فيها مناقضة للتوحيد ولا مناقضة للإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشيخ عبد الله أبا بطين في تفسير كلام شيخ الإسلام فهذه المسائل الخفية كإنكار بعض الصفات: الذي يميل إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أن هذه المسائل لا يكفر المخالف فيها، حتى يفهم حجة الله عز وجل فلا يكفي أن تقام عليه الحجة، بل لابد وأن يفهم حجة الله عز وجل على عباده ويعلم أنه ليس بمعاند هذا هو ظاهر كلام شيخ الإسلام كما فسره الشيخ عبد الله أبا بطين، ويدل عليه شيخ الإسلام كان يقول للجهمية: " أنا لو وافقتكم لكنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لستم بكفار لأنكم جهال" أ.هـ.
مع أنه رحمه الله قد أقام عليهم حجة الله عز وجل وجادلهم وناظرهم في شرع الله ودينه، وقع ذلك لم يكفرهم.
فهؤلاء ليسوا بكفار حتى يفهموا حجة الله عز وجل، فإذا علم أن لهم شبهة أو أن الحق لم يثبت عندهم، فإنهم لا يكفرون بذلك.
قال الشيخ عبد الله أبا بطين: والمشهور في المذهب خلاف هذا والمسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد.
فهذه المسألة من المسائل التي فيها خلاف.
ولذا فإن عبارة شيخ الإسلام هي: " ولو كانت من المسائل الخفية فقد يقال إنهم لا يكفرون حتى تقام عليه حجة الله التي يكفر من خالفها، ولكنهم يصدر منهم ذلك في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، واليهود والنصارى والمشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أتى بها وكفرّ من خالفها" أ.هـ.
أي هؤلاء الذين قد صدرت منهم هذه الأخطاء لم تكن في مسائل خفية وإنما كانت في مسائل ظاهرة يعلم العامة والخاصة من المسلمين، بل يعلم اليهود والنصارى والمشركون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بها وكفّر من خالفها.
وضرب أي شيخ الإسلام لذلك أمثلة.(28/75)
منها الشرك بالله عز وجل وعدم إيجاب الصلوات الخمس وعدم تحريم الفواحش من الزنا ونحوه، فهذه من المسائل الظاهرة التي يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث بها.
قال: [ ومن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل عُرف ذلك].
فمن جحد تحريم الزنا أو شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها أو شيئاً من الفرائض الظاهرة المجمع عليها كالصلاة بجهل لكن لا يقبل عند أهل العلم مجرد ادعاء الجهل، بل لابد أن يكون مثله يجهل ذلك، ولذا قال بعد ذلك: [ وإن كان مثله لا يجهله كفر].
فإذا كان أحد في البلاد الإسلامية التي يظهر فيها العلم وأدعى أنه لا يعلم أن الزنا حرام أو أن الصلاة فرض فإن ذلك لا يقبل منه.
وأما إن كان مثله يجهل ذلك كمن نشأ في بادية بعيدة أو كان حديث عهدٍ بالإسلام، فإن ذلك يقبل منه بمعنى، إن كانت حاله تصدق ذلك.
وعليه فالجهل عذره في ثلاث مسائل:-
المسألة الأولى: أن يكون مدعي الجهل ناشئاً في بادية.
المسألة الثانية: أن يكون حديث عهد بإسلام.
المسألة الثالثة: أن تكون من المسائل الخفية.
على أن المسألتين الأوليين ليست هي في كل المسائل.
مسألة:
لا يكفر من حكى كفراً سمعه وهو لا يعتقده، قال صاحب الفروع ولعلة إجماع أي حيث لم يعتقد ذلك.
ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين وهو حديث مشهور في الرجل الذي قال: لما وجد راحلته، " اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح، فقد قال الكفر وهو لا يريده ولا يعتقده فكذلك من يحكي الكفر وهو لا يعتقده.
كذلك إذا كان سبق لسان أو غير ذلك فإنه لا يكفر بذلك كشدة فرح أو غير ذلك.(28/76)
وهل يكون من ذلك ما ورد في الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا هو مات فحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله عز وجل البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له: لم قلت ما قلت؟ فقال: من خشيتك وأنت أعلم فغفر له) والكفر الذي وقع فيه الشك في عموم قدرة الله عز وجل وظاهر الحديث أن الذي حمله على ذلك شدة الخوف.
لكن شيخ الإسلام وكثيراً من أهل العلم يحملون هذا على أنه لم تبلغه الدعوة، فأنكر صفة من الصفات ولم تبلغه الدعوة.
ويكون هذا دليلاً على المسألة المتقدمة.
ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن عائشة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ فقال: نعم ) فهذا شك في عموم علمه سبحانه ولم تكفر بذلك لأن هذه من المسائل التي قد تخفى فلا يكفر إلا من قامت عليه حجة الله عز وجل وفهمها.
ولذا فإن شيخ الإسلام يقول وغيره من أهل العلم: " من أخطأ في مسألة سواء كانت في المسائل النظرية أو المسائل العملية، ( لا نفرق بين الأصول والفروع فالتفريق بينهما قول محدث يقوله المعتزلة) فإنه يعذر بالجهل، لأنه قد لا يبلغه الحق الذي يحبى القول به، أو يبلغه لكنه لا يثبت عنده أو تقوم عنده بعض الشبهات، وهذا فيمن آمن بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله ثم أخطأ في مسألة من المسائل ولو كانت في باب الصفات أو غير ذلك فهذا هو حكمه.
ويدل عليه أن الله عز وجل قد رحم هذه الأمة بالعذر بالجهل فقال سبحانه: (( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)) والخطأ هو الجهل، وفي مسلم قال الله تعالى: (( قد فعلتُ)) وكما تقدم من الأدلة السابقة.
قال أي شيخ الإسلام وعليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجماهير علماء الأمة.(28/77)
وذكر رحمه الله أن الناس قد اضطربوا في مسألة تكفير أهل الأهواء فعن الإمام أحمد روايتان، وكذلك عن الإمام مالك، وعن الإمام الشافعي قولان، ثم ذكر ما تقدم تقريره في أهل الأهواء كمن يقع له بعض الغلط في باب القدر وفي باب الإرجاء وفي إنكار بعض الصفات ونحو ذلك وهو من المؤمنين بالله ورسوله لكن وقع له بعض الخطأ، إما أن الحق لم يبلغه، أو بلغه لكنه لم يثبت عنده أو قامت عنده بعض الشبهات.
مسألة:- من نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها فإنه لا يكفر بذلك.
مسألة:
لو قال: هو يهودي أو نصراني، فإنه يكفر بذلك.
أما إذا قال: " هو يهودي إن لم يفعل كذا" فسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله.
مسألة:
من قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذف أمه أي أم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر.
مسألة:
قال شيخ الإسلام: " من اعتقد أن الكنائس بيوت الله وأن الله يُعبد فيها وأن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعةً له ولرسوله، أو أنه يحب ذلك أو يرضاه فهو كافر، أو إيمانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم واعتقد أن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر لتضمنه اعتقاد صحة دينهم.
لكن لو فتح لهم الباب فقط، فقد لا يكفر لأنه لا يتضمن اعتقاد صحة دينهم.
قال شيخ الإسلام:
ومن اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك محرم عٌرف ذلك فإن أصر صار مرتداً لتضمنه تكذيب قول الله تعالى: (( إن الدين عند الله الإسلام)).
مسألة:
من قذف عائشة فقد كفر لأنه مكذب للقرآن، أما غيره من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن قذفهن ففيه قولان أصحهما، أنه يكفر لأنه قدح بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة:
قال شيخ الإسلام: " من سب الصحابة أو سب أحداً منهم واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي، أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره"ا.هـ.
وذلك لأنه مخالف لنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
مسألة:(28/78)
من أنكر أن يكون أبو بكر الصديق صاحب رسول الله فقد كفر لأنه تكذيب للقرآن في قوله تعالى: (( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) والقاعدة أن من نفى صحبة صحابي فترتب على ذلك تكذيب للقرآن أو لما تواتر عند المسلمين وأجمعوا عليه وهو معلوم عندهم ظاهر كصحبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة ممن صحبته كذلك فإنه يكون كافراً.
مسألة:
من حرم شيئاً مجمعاً على حله كالماء كفر، وكذلك من أباح شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه..
قال: [فصل: " فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف رجل أو امرأة دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قتل بالسيف].
"وهو مكلف": والمكلف هو البالغ العاقل فالصبي غير المميز ومن ذهب عقله بدواء، أو النائم لا خلاف في ذلك، أنه إذا أتى ما يكفر بمثله لا يكفر هو به وذلك لأنه إذا فعل ما يقتضي التكفير فإنه لا يحكم عليه.
ظاهره أن الصبي المميز كذلك، أي لا يحكم عليه بالردة، فمثلاً لو قال أو فعل ما يكفر به فإنه لا يكفر في ظاهر كلام المؤلف وهو رواية عن الإمام أحمد واستظهره صاحب الفروع والموفق وهو مذهب الشافعي.
والقول الثاني: وهو المذهب أنه يكفر بذلك وهو مذهب الجمهور قالوا: الصبي المميز يصح إسلامه فكذلك ردته ويدل عليه صحة العبادات منه فإنه لو صلى وصام أي الصبي المميز فإن ذلك يصح منه ولا تصح إلا من مسلم، فدل على أن الصبي المميز يصح إسلامه فإذا ثبت صحة إسلامه فردته كذلك وأما أهل القول الأول، وهو ظاهر كلام المؤلف كما تقدم فاستدلوا بالأدلة التي تدل على أن الصبي المميز مرفوع عنه القلم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( رفع القلم عن ثلاثة وفيه والصبي حتى يبلغ).(28/79)
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة لقوة دليله، وأما الجواب عما استدل به أهل القول الثاني، فهو أن هذا قياس مع الفارق، فإن إسلامه مصلحة محضة له، وأما ردته وكفره فهو مفسدة محضة، فما كان فيه مصلحة محضة له قُبل وهو الإسلام، وما كان فيه مفسدة محضة رُد وهو الكفر بالله عز وجل،
إذن أصح القولين أن من ارتد وهو صبي مميز فإنه لا يحكم بردته خلافاً للمشهور في المذهب، وعلى المذهب لا يقتل حتى يبلغ فيستتاب فإن تاب وإلا قتل.
[ مختار] فإن كان مكرهاً فلا يحكم عليه بالردة، لقوله تعالى: (( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)).
[ رجل أو امرأة] لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس: ( من بدل دينه فاقتلوه) رواه البخاري.
والحديث عام في الذكر والأنثى.
[ دعي إليه] أي إلى الإسلام [ ثلاثة أيام وضيق عليه فإن لم يسلم قُتل بالسيف].
المذهب أنه يجب أن يستتاب ثلاثة أيام ويحبس فإن تاب وإلا قتل وهو مذهب الجمهور استدلوا: بما رواه مالك في موطئة أن عمر قال في رجل كفر بعد إسلامه: " لولا حبستموه ثلاثة أيام واطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه فإن تاب أو راجع وإلا قتلتموه" ثم قال: " اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني".
وفي الدار قطني: "أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت".
والأثر الأول: ضعيف لانقطاعه وجهالة بعض رواته، والحديث الذي رواه الدار قطني فيه معمر السعدني وهو ضعيف الحديث.
وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي: أنه لا يستتاب وجوباً وإنما يستتاب استحباباً وهو مذهب أهل الظاهر.
واستدلوا: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( من يدل دينه فاقتلوه).
قالوا: والفاء تفيد التعقيب فدل على أن القتل يكون عقيب ارتداده عن دينه وليس فيه ذكر الإستتابة بل ظاهره ترك الإستتابة.(28/80)
وفي الصحيحين أن معاذ بن جبل قال في رجل أسلم ثم تهود: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله فأمر به فقتل".
وأما ما في أبي داود من أنه كان قد استتيب قبل ذلك فهذا من فعل أبي موسى الأشعري وليس في الأثر أن معاذا استفصل عن ذلك أي لم يقل هل استتبتموه أم لا؟
هذا من الأثر:
وأما من النظر: فيدل على ذلك أن الكافر المحارب للإسلام إذا بلغته الشريعة الإسلامية فقامت عليه حجة الله على عباده فإنه لا تجب استتابته عند إرادة قتله.
وهذا هو القول الراجح وأن استتابته لا تجب لكن إذا كان لم تبلغه الحجة فحينئذ لابد أن يعرف وذلك لقوله تعالى: (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) وأحكام الوعيد على الكفر في الدنيا والآخرة لا تثبت إلا بعد إقامة الحجة قال تعالى: (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)).
لكن إذا علمنا أن الحجة قد قامت عليه فهل يجب علينا أن نكررها عليها استتابة له أم لا؟ هنا الخلاف.
[ فإن لم يسلم قتل بالسيف] لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) والقتلة بالسيف قتلة حسنة.
قال: [ ولا تقبل توبة من سب الله أورسوله].
ليس كلام المؤلف هنا في التوبة في الباطن، فإنها تقبل توبته إذا كان صادقاً، تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل، فلا إشكال في أن كل من تاب من ذنب فإن الله يقبل توبته.
لكن إذا أتينا برجل قد سب الله أو رسوله لنقتله فقال: تبت فهل تقبل توبته؟.
الجواب: لا تقبل توبته.
فقد تقدم أن المشهور في المذهب أن من ارتد فإنه يستتاب ثلاثاً فإن تاب، وإلا قتل لكن استثنى المؤلف مسائل.
فهنا: من سب الله أو رسوله، فهذا لا تقبل توبته، أي في الظاهر وهذا لعظيم اعتدائه.
ويتوجه عندي أن يقال: إن هذا يدل على نفاقه وزندقته وسيأتي الكلام على الزنديق أو المنافق.
قال: [ ولا من تكررت ردته بل يقتل بكل حال].(28/81)
أي أسلم ثم كفر، ثم أسلم ثم كفر، فقد تكررت ردته، فإذا أتى به إلى القاضي ليقتل فقال: أسلمت فهل يقبل منه ذلك أم لا؟
قال المؤلف هنا: لا يقبل، لقوله تعالى: (( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً)).
ومثل ذلك أيضاً، الساحر، لقول عمر: " اقتلوا كل ساحر وساحرة" رواه البخاري. هذا كلام فيه إطلاق فلم يستثن من تاب ومثل هذا أيضاً الزنديق وهو ما يسمى عند السلف، المنافق وهو من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فإذا ثبت لنا ذلك كأن يشهد عليه من تقبل شهادته أنه قد قال كلمة تدل على نفاقه وأنه ليس بمسلم فكذلك لا تقبل توبته في الظاهر أي عند الحاكم.
هذا هو المشهور في المذهب في هذه المسألة وهو مذهب مالك.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أن توبته تقبل لعموم الأدلة التي تدل على قبول التوبة.
والصحيح هو القول الأول: وذلك لأن المنافق أو الزنديق الذي ظهر منه الإسلام وبطن منه الكفر إذا استدللنا على كفره فأراد أن يظهر الإسلام فإننا لا نستفيد من إظهاره للإسلام لأنه كاذب علينا في الأول فلم يكن مظهراً الكفر فإذا أظهر الإسلام كان إظهاره للإسلام مقبولاً حينئذ لأنه استبدل ظاهره، لكن هنا ظاهره الإسلام في السابق وباطنه الكفر فعرفنا زندقيتة فلا نأمن إذا ادعى الإسلام مرة أخرى أن يكون منافقاً والشرع يقصد حفظ الأديان، وإن كان صادقاً في توبته فالله يقبل توبته فيما بينه وبينه عز وجل، فهذا هو القول الراجح.
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شاتم الرسول وألف في ذلك مؤلفاً مشهوراً.
واختار ابن القيم هذا القول لكن قيّده بتقييد صحيح وهو ألا تقبل توبته إذا كانت بعد القدرة عليه، وأما إذا كانت قبل القدرة عليه، فإنها تقبل.
فلو أن رجلاً كان ساحراً فتاب إلى الله عز وجل قبل أن يقدر عليه السلطان فإن توبته تقبل لأن ما يخشى مأمون حينئذ.(28/82)
فلو أتينا به فوقفناه عند السيف فإنه يخشى أن يكون كاذباً في دعواه فإذا أظهر أنه ترك السحر فهذا أمر ليس بجديد منه فقد كان يظهره قبل ذلك فإذا أظهره الآن فلا نأمن أن يكون مبطناً للسحر وفي ذلك ضرر عظيم على الأبدان والنفوس.
أما إذا تاب قبل أن يقدر عليه فإن هذا يقبل لأن ما يخشى قد أمن.
إذا: الصحيح أن هؤلاء لا تقبل توبتهم في الظاهر بل يقتلون في كل حال، هذا حيث كانت هذه التوبة فيهم بعد القدرة عليهم، وأما قبل القدرة عليهم، فإن التوبة تقبل في الظاهر كما تقبل في الباطن.
ومثل هذا في المشهور في المذهب المبتدع الداعية إلى بدعته.
واختار شيخ الإسلام أنه تقبل توبته، وهو أصح لأن الله قد قبل توبة أئمة الكفر فأولى من ذلك أئمة البدعة.
ولأن الفارق ظاهر بينه وبين من تقدم، فإنه كان يظهر البدعة ويدعو إليها في الظاهر، فإذا تاب فقد تاب من أمر ظاهر ليس من أمر باطن لا يُدرى أصادق فيه أم كاذب.
بخلاف أولئك فقد تابوا من أمر باطن فالساحر عند ما يقول تركت السحر، والزنديق عندما يقول اترك الزندقة هذا لا يدري أصدق في الباطن أم لا، بخلاف هذا فإن توبته تدل على أنه قد ترك ما هو عليه.
مسألة:
أصح القولين لأهل العلم، أن السكران لا قول له، أي لا يعتد بقوله حتى في كفره.
خلافاً للمشهور في المذهب وتقدم الاستدلال على هذا في كتاب الطلاق.
قال: [ وتوبة المرتد وكل كافر اسلامه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله].
توبة المرتد وتوبة الكافر تثبت بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله".
أو أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله".
ودليل هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل".(28/83)
وقال في الفروع: " ويتوجه احتمال قبول شهادته بالوحدانية أي بأن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله" أو يقول: " لا إله إلا الله فإنه يقبل منه.
ودليل ذلك حديث أسامة بن زيد في الصحيحين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه قتل من قال: " لا إله الله".
وليس فيه أنه قال: " وأن محمداً رسول الله".
وهذا ظاهر جداً حيث استلزم ذلك الإيمان بالرسالة فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى " لا إله إلا الله فإذا أقروا بذلك فهذا دليل على إقرارهم بالرسالة.
بخلاف اليهود، مثلاً فإنهم إنما كانوا إذا قالوا: " لا إله إلا الله" فإن هذا لا يستلزم إيمانهم بالرسالة، فإنهم إنما كانوا يجحدوا نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يجحدوا ألوهية الله عز وجل ووحدانيته.
إذن: الصحيح أنه لابد أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
كما يدل عليه الحديث المتقدم.
لكن لو كان قوله: " لا إله إلا الله" أو قوله: " محمد رسول الله" يستلزم الشق الآمر ويدل عليه فحينئذ يقبل منه ذلك لأن الألفاظ إنما يقصد منها المعاني، فإذا دل لفظه على المعنى الآخر الذي يريد اثباته فإن ذلك يكفي.
قال: [ ومن كان كفر بجحد فرض ونحوه].
كأن يكون قد كفر بجحد النبوات أو بححد فريضة من فرائض الإسلام كأن ينكر وجوب الصلاة أو أحل محرماً من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كأن يحل الزنا أو حرم حلالاً مجمعاً على حله كأن يحرم الماء.
قال: [ فتوبته مع الشهادتين اقراره بالمجحود به].
فتوبته أن يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" ويقر بالمجحود به.
فالشهادتان كان يقر بهما سابقاً وهنا قد أنكر شيئاً آخر فلا يكفي أن يقر بالشهادتين بل لابد أن يقر بما نفاه وجحده فيقول: " وأن الصلاة فرض أو وأن الزنا حرام" ونحو ذلك فلا يقبل منه ذلك إلا بهذا لأنه إنما كفر به.
والقول الثاني: في المسألة: أن الشهادتين لا تجب عليه.(28/84)
وفي ذلك قوة، لأنه لم ينف ذلك بل هو مقر بهما، وهو على اقراره بهما.
فالأظهر، أنه لو أنكر الصلاة فيكفي في توبته أن يقول رجعت إلى الإسلام فأقول الصلاة فرض وهكذا.
مع أن الإقرار بالشهادتين أحوط، وفيه قوة أيضاً من حيث إنه يقال: إن جحده للصلاة ترتب عليه إبطال شهادته، فأصبحت الشهادتان باطلتين لأنه جحد ما يكفر به وهذا يبطل الشهادتين.
قال: [ أو قوله: " أنا برئ من كل دين يخالف الإسلام"].
أو قال: " أنا مسلم، أو " أنا مؤمن" فيكفي هذا في دخوله في الإسلام.
وقال الموفق: ويحتمل- وذكر تفصيلاً قوياً - وهو أن يقال إن كان هذا في إسلام الكافر الأصلي فيكفي أن يقول أسلمت ومن جحد وحدانية الله فيكفي أن يقول "أسلمت".
وأما من جحد نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نحو ذلك: فإنه لا يكفي أن يقول "أسلمت" وذلك لأنه قد يعتقد أن هذا الجحد هو الإسلام فمثلاً بعض اليهود الذين ليسوا على عناد يعتقدون أن الإسلام جحد نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن دين النبوة قبل أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإسلام، فإذا قال اليهودي: " أسلمت" فقد يكون مراده على دين اليهود، فلا بد أن يقول " أقر بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -".
ومما يدل على أن قول " أسلمت" أو "آمنت" يكفي عند الشهادتين، ما ثبت في صحيح مسلم عن المقداد بن عمرو أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أرأيت إن جاء أحد الكفار يقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فلما أردت أن أقتله قال: أسلمت أفأقتله يا رسول الله؟، فقال - صلى الله عليه وسلم - "لا".
فدل هذا على أنه إذا قال: "أسلمت" أو "آمنت" فإن ذلك يكفي لكن بالتفصيل الذي ذكره الموفق أي حيث كان قوله أسلمت يستلزم الإسلام الذي بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم -.(28/85)
والمقصود من ذلك كله، أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فإذا كان لفظ أسلمت، يدل على معنى الشهادتين فإنه يكفي عنهما وإذا قال قوله: " آمنت بالله ورسوله، يكفي عن الشهادتين وهو كذلك فهو كاف.
مسألة:
إذا فعل الكافر ما لا يفعله إلا المسلم فهل يحكم بإسلامه؟
كأن يصلي مثلاً.
الظاهر: نعم وذلك للمعنى المتقدم فإن المقصود هو ثبوت الإسلام.
[وثبوت الإسلام يكون بالتلفظ أو بالفعل الذي يدل عليه إلا أن يأبى أن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" فهذا شيء آخر].
مسألة:
إذا كان رجل من المسلمين يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله" وهو لا يدري ما معنى ذلك فحياته كلها على الشرك يذبح للقبور وينذر لها ويعبدها من دون الله عز وجل، فهل هو مسلم أم لا؟
تقدم أنه ليس بمسلم، لكن هل هو كافر أصلي أو كافر مرتد؟
والذي يترتب على هذا أن المرتد لا تحل ذبيحته وإن انتقل إلى اليهودية أو النصرانية ولا يقر على دينه بل يقتل وإذا كانت امرأة فارتدت إلى اليهودية أو النصرانية فلا يجوز نكاحها كسائر الكتابيات بل يجب قتلها.
فهنا هل نقول هو كافر أصلي أم مرتد؟
أما الشيخ الصنعاني فإنه يقول هو كافر أصلي.
يقول: لأنه لا يدري ما معنى " لا إله إلا الله"، والشيء لا يصح إلا بتوفر شروطه، ومن شروط " لا إله إلا الله" العلم وفي الصحيح من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فهذا لا يعلم معناها ولا يدري ما المراد بها، وربما لو قيل له إن معناها أن تترك هذه العبادات لم يقرّ بها.
والمشهور عند أئمة الدعوة النجدية أنه كافر مرتد، فإن الشيخ عبد اللطيف أو الشيخ عبد الرحمن لما ذكر قول الصنعاني قال: " وشيخنا لا يوافقه" يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والمسألة فيها تجاذب، وإن كانت النفس تميل إلى قول الصنعاني من باب ما تقدم.(28/86)
ومن باب آخر أن آباءهم كذلك أي على هذا الأمر من الشرك بالله فهذا فيه قوة، وعبارة الشيخ عبد الرحمن لا تدل على أن خلاف الصنعاني خلاف شاذ.
وظاهر كلام الشيخ حمد بن معمر موافقة الصنعاني على ذلك والله أعلم.(28/87)
كتاب الأطعمة
الأطعمة :- جمع طعام وهو ما يؤكل أو يشرب
قال تعالى { قل لا أجد فيما أوحى الى محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته } { والميته مما يؤكل } { أو دماً مسفوحاً } وهو مما يشرب وقد سماه الله طعاماً 0
وقال تعالى في قصة ملك بني اسرائيل { ومن لم يطعمه فإنه منى } فسمى الشراب طعاماً فالطعام يطلق على ما يؤكل أو يشرب 00
قال ]والأصل فيها الحل [.
فالأصل في الاطعمه الحل 0
لقوله تعالى { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } و لقوله { قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته } لانه بهذه الآيه يدل على انه ما سوى ذلك حلال وعلى أن مالم ينص الله على تحريمه فهو حلال 0
وأوسع مذاهب العلماء في باب الاطعمه هو مذهب الامام مالك رحمه الله وأصول مسائل الاطعمه هي :-
المسألة الاولى :-
أن جمهور العلماء يحرمون كل ذي ناب من السباع كالذئب و يحرمون كل ذي مخلب من الطير كالصقر والنسر ، ويدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ) وكل ذي ناب يفترس وينهش به ويعدو به فهو محرم وكل ذي مخلب من الطير يفترس به ويعدو فهو محرم أيضاً 0
وقال مالك بل هو حلال لقوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميته أو دماً مسفوحاً } 0
والصحيح مذهب الجمهور وذلك لأن الآيه مكية وليس فيها إلا إلاخبار عما هو حرام حينئذ – أى في مكه – ثم دلت الأدلة الشرعية بعد ذلك على تحريم انواع كثيرة.
المسألة الثانيه :-
أن ما نهى الشارع عن قتله فهو حرام أيضاً كالنحل والهدهد ونحو ذلك 0
ففي مسند أحمد وسنن داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم -نهى عن قتل اربع من الدواب ( النملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصرد ) والصرد هو نوع من أنواع الطير 0(29/1)
ونهى الشارع عن قتلها يدل على تحريم أكلها وذلك لأنه إذا أبحنا أكلها فهو ذريعه الى قتلها والشريعه تأتي بسد الذرائع 000
وهذا أيضا خلافا لمذهب مالك 0
المسأله الثالثه :-
-…أن كل ما أمر الشارع بقتله كالحيه والعقرب فهو محرم الأكل ففي الصحيحين أن النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - قال ( خمس يقتلن في الحل والحرم :- الحيه والغراب الأبقع (وهو الذي فيه بعض بياض في رأسه أو في بقية بدنه ) والحدأة وهي نوع من سباع الطير والفأره والكلب العقور )) 000
-…فهنا هذه الخمس قد أمر الشارع بقتلها ، وقتلها أتلاف لها وهذا يدل على تحريمها إذ لو كانت حلالا لأمر الشارع بذبحها فلما أمر بقتلها وإتلافها وقد نهى عن اضاعة المال دل على أنها محرمه – هذا هو مذهب الجمهور – خلافا لمذهب مالك 0
المسألة الرابعة :-
أن ما يأكل الجيف محرم عند الجمهور – لخبث مطعمه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الغراب الأبقع ، والغراب الأبقع إنما يأكل الجيف وليس من السباع ، وقد تقدم أن هذا يدل على تحريم أكله فقياس على ذلك كل ما يأكل الجيف وذلك لخبث مطعمه ، فإن خبث مطعمه يترتب عليه خبث لحمه ، ومذهب مالك خلاف هذا 00
المسألة الخامسه :-
أن مذهب الجمهور أن ما استخبثه العرب ذوو اليسار من سكان الحاضرة في المدن والقرى أنه محرم – وهذا مذهب أحمد في المشهور وأستدلوا بقوله تعالى :- { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فالمخاطب بهذه الآيه هم العرب يدل هذا على أن كل خبيث عند العرب أى من ذوي اليسار من أهل المدن والقرى فإن ذلك محرم 0
ومذهب مالك أنه ليس حرام وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيميه قال ( وهو قول أحمد وقدماء اصحابه ))0(29/2)
وهذا هو الراجح في هذه المسأله ويدل عليه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال في العنب (( إني لم أجده في أرض قومي فأجدني أعافه ) فدل على أن كراهيه بعض قريش لبعض الطعام لا يحرمه والنبي صلى الله عليه وسلم قد كره هذا الطعام فلم يحرمه 0
ولأن هذا لا يوافق أصول الشرع – فلا يمكن أن يحرم الشرع شيئا على العجم وهم يستطيبونه لكون العرب يستخبثونه هذا لا يمكن 0
وعليه فمعنى الآيه { يحل لهم الطيبات } أى كل طيب مما أحله الله عز وجل فهو طيب 0
(( ويحرم عليهم كل خبيث مما حرمه الله عز وجل فهو خبيث )) 0
ويقاس عليه كل خبيث بذاته وكل طيب بذاته أى من غير أعتبار الى من أستطاب ذلك أو أستخبثه 0
فكل خبيث بذاته مما فيه ضرر على الأبدان أو العقول أو الأخلاق فإنه محرم 0
فكل ما فيه ضرر على الأبدان كالسم أو العقول كالخمر أو الاخلاق كلحم السبع فإنه مضر بالأخلاق يثير بالآكل له قوة سبعية ومن هنا حرمه الشارع 0
هذه أصول مسائل الأطعمه ومن هنا يتبين أن مذهب مالك هو أوسعها 0
ومن ثم فإنه يبيح الحية والعقرب والحشرات وغيرها وكون بعض الناس يستخبثها هذا لا يدل على تحريمها – هذا هو مذهب مالك 0
ولم أر شيخ الإسلام – على أنه وافق مالك في مسألة الخبث والطيب لم أر أنه نص على إباحة الحشرات 0
فالمقصود أنه متى ما ثبت في الشىء ضرر على الأبدان أو الأخلاق أو العقول فإنه محرم 0
قال ] فيباح كل طاهر لا مضرة فيه من حب وثمر وغيرهما [ فكل طاهر لا مضرة فيه فهو مباح 0
قال : ] ولا يحل نجس كالميتة والدم [.
وكل نجس ومتنجس فإنه لا يحل وذلك لخبثه وقد قال تعالى ( حرمت عليكم الميتة والدم ) 0
وقال سبحانه ( قل لا أجد فيما أوحى الى محرماً على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس )0
قال: ] ولا ما فيه مضرة كالسم ونحوه [ لقوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة }
قال : ] وحيوانات البر مباحة الا الحمر إلا نسية[.(29/3)
لما ثبت في الصحيحين من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحوم الخيل )0
قال : ] وما له ناب يفترس به غير الضبع [ .
أستثنى – الضبع لأنه قد ورد في الأدلة – ما يدل على جوازه وقد روى الخمسة وصححه البخاري أن أبن أبي عمار قال لجابر (( الضبع (يصح بتسكين الباء وضمها ) أصيد هي قال جابر ( نعم فقال له قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جابر ( نعم ) وهذا أثر صحيح 0
فإن قيل : فما الفارق بين الضبع وبين غيرها من السباع ؟
فالجواب : أن الضبع ليس فيها القوة السبعيه التي في غيرها من السباع بل هي لا تفترس في الغالب والله أعلم 0 ، ثم ذكر أمثله كثيره تحتاج الى تحقيق المناط أى متى ما ثبت لنا أن فيه ناباً من السباع فهو محرم ( كالأسد والنمر والذئب والفيل والفهد والكلب والخنزير ) 0
وابن آوى وأبن عرس ؟ والسنور والنمس والقرد والدب ) 0
ثم قال بعد ذلك :-
] وماله مخلب من الطير يصيد به [0
ثم ذكر أمثله تحتاج الى تحقيق مناطها ( كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة والبومه )0
ثم قال :- ] وما يأكل الجيف كالنسر [ .
ثم ذكر أمثله كذلك تحتاج الى تحقيق المناط ] والرخم واللقلق والعقعق والغراب الأبقع والغذاف وهو أسود صغير أغبر ، والغراب الأسود الكبيرة [ وذكره عدة أنواع من الغربان مما يدل على أن هناك من الغربان ما هو مباح 0
وقال ] وما يستخبث [ أى عند العرب ذوي اليسار :- قالوا أما خلاف العرب فلا عبرة يهم لأنهم قد يستطيبون بعض ما يستخبث 0
قال :- ]كالقنفذ والنيص والفأرة [ 0
فالقنفذ مستخبث عند العرب ولكن هل فيه ضرر ؟ 0
يرجع في ذلك الى الطب لأن الصحيح أنه لابد أن يكون خبيثاً بنفسه وذاته 0
والفأرة ظاهرة للحديث المتقدم 0(29/4)
قال ] والحيه [ ، قالوا : لأنها خبيثه ولأن الشارع أمر بقتلها أما كونها خبيثه ، فهذا يحتاج الى تحقيق واما كون الشارع أمر بقتلها فهذا ظاهر 0
قال ] والحشرات كلها [ لما تقدم قال :- ] والوطواط [ هو ما يسمى بالخفاش 0
قال :- ] وما تولد من مأكول وغيره كالبغل [ فما تتولد من حيوانين أحدهما مأكول والأخر ليس بمأكول فإنه يحرم تغليباً لجانب التحريم 0
كالبغل فإنه متولد من الحمار والخيل 0
مسألة :- حمر الوحش أذا أستأنست فهل تحرم ؟
الجواب :- لا ، نظرا لأصلها ، فأصلها حلال ، وهي خلقه أخرى تختلف عن خلقة الحمار الأهلي لوعاش في البر فإنها لا يتغير طعامه وكذلك الحمر الوحشيه طعامها هو طعامها في البر 0
مسألة :- الحديث الذي قتل الخمس الدواب ظاهره الوجوب لأنه خبر 0
بمعنى الأمر يدل على الوجوب ، هذا من ناحيه 0
ومن جهة أخرى :- أنه قد وصفها بالفسق فدل على أن فيها استطالة واعتداء وإزالة ذلك واجب 0
مسألة كل ما حرم قتله فإنه يجوز – أى قتله – حيث كان منه أذى دفعاً لمفسدته ولأنه حينئذ يكون كالصائل 0
قال رحمة الله تعالى :- ] وما عدا ذلك حلال [ هذا هو الأصل ، فما لم يدل دليل على تحريمه من المطعومات والمشروبات فإنه حلال مباح 0
قال :- ] كالخيل [ 0
وهو مذهب الجمهور لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الخيل
وقال المالكية:- بل تحرم استدلوا بقوله تعالى { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينه } قالوا فلم يذكر الله تعالى أكلها وإنما ذكر أنها زينه وأنها مركب 0
واستدلوا :- بما روى أبو داوود أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى عن لحوم الحمر والخيل والبغال )0
والصحيح ما ذهب اليه أهل القول الأول :-
أما الأيه الكريمة فإنه ليس فيها أن الأكل حرام فالله عز وجل لم يذكر إلا أنها زينة وركوب.(29/5)
لأنها مع غير المطعومات فإنها ذكرت مع الحمر والبغال وهي محرمه – فلم ينص على اباحة أكل الخيل لأنها مذكورة مع ما لا يحل أكله 0 هذا هو الوجه الأول 0
والوجه الثاني :- أن الله سبحانه وتعالى لم ينص على أنها من المطعومات لأنها ليست لذلك في الغالب فالغالب أن الناس لا يطعمونها وأنما يركبونها ويتزينون بها 0
وأما فالحديث الذي رواه ابو داوود فهو ضعيف لا يصح ضعفه أحمد والبخاري والدارقطني وغيرهم 0
قال ] وبهيمة الأنعام [0
من البقر والغنم والابل قال تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام الا ما يتلي عليكم } 0
قال ] والدجاج [0
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أكل الدجاج ) والأصل يدل على ذلك 0
قال ] والوحشي من الحمر والبقر [ 0
فيباح الوحشي من الحمر ، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة في قصة صيده الحمار الوحشي ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( كلوا ما بقي من لحمه ) 0
وكذلك يباح البقر الوحشي ، وهو ليس من بهيمة الأنعام 0
قال ] والظباء والنعامة والأرنب وسائر الوحش [ كالزرافة وغيرها ، وذلك للاصل ، فالأصل في المعطومات الحل 0
قال : ]ويباح حيوان البحر كله [0
يدل على ذلك قوله تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه } 0
ويدل عليه ما روي الخمسه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال في البحر ] هو الطهور ماؤه الحل ميتته [ وقوله ( ميتته ) مفرد مضاف يفيد العموم – فدل على أن صيد البحر حلال كله 0
لكن أستثنى المؤلف فقال ] الا الضفدع والتمساح والحية [0
فالضفدع هي من صيد البحر لكنها تعيش في البر فهي تعيش في البر والبحر 0
ودليل تحريم الضفدع أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله طبيب عن قتل الضفدع لتوضع في الدواء ( فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها) رواه أحمد وأبو داوود والنسائي وهو حديث صحيح 0(29/6)
والتمساح لأن له ناباً يفترس به وهذا كما تقدم – يحتاج الى تحقيق المناط ، أى نقول كل ما له ناب يعدو به فهو محرم ثم نحتاج الى أن ننظر الى الأمثله التي يذكرونها فإن كان فيها ذلك فهي محرمة 0
والحيه أى حية البحر وذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها ، قالوا ولأنها مستخبثه 0
ولم يستثن الشافعية التمساح والحية 0
والصحيح ما ذكره الحنابلة حيث تحقق ما ورد في الحديث من أن في التمساح الناب الذي يفترس به 0
والحيه قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها لكن هذا حيث كانت حية البحر تلدغ وتؤذي لان الشارع أمر بقتل الحيه في البر لأذيتها ولأن فيها العدو والإعتداء فمن أكلها فإنه يكتسب شيئا من طباعها ، فإن كانت الحية التي في البحر ليست كذلك فإنه لا باس بأكلها 0
قال :- ] ومن أضطر الى محرم غير السم حل له منه ما يسد رمقه [0
هذه المسأله في الإضطرار ، فمن اضطر الى محرم كالميتة مثلا غير السم ، لأن السم قاتل وقد قال تعالى { ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة } فإذا أضطر الى محرم غير باع ولا عاد فلا إثم عليه
وقوله { غير باغ } أى غير طالب لذلك راغب فيه ( ولا عاد ) أى غير آكل منها مالا يحل له – أى متجاوز بها ما يسد به رمقه 0
ويحل له منها ما يسد رمقه ويحفظ قوته أى ما يدفع به ضرورته لقوله تعالى { غير باغ ولا عاد } أى غير متجاوز ما يسد رمقه .
وظاهر المذهب :- مطلقاً 0
وعن الإمام أحمد :- أنه يستثنى ما لو دام خوفه ، فلوا أن رجلا في مغازة من الأرض ، يغلب على ظنه أنه لا يجد من يؤويه فله أن يأكل من الميته حتى يشبع ، وذلك لان غلبة الظن دوام خوفه – وهذا ظاهر – وهو حينئذ لا يكون متجاوزا ولا معتدياً 0
إذن الصحيح أن هذا ليس على أطلاقه بل اذا كان يدوم خوفه فإن له أن يأكل من الميته حتى يشبع وذلك لأن شبعه يدفع عنه الضرورة في بقية وقته 0
مسألة :-(29/7)
قال شيخ الإسلام :- (( ويجب على المضطر أكل الميتة في ظاهر مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ))0
مسألة :-
ولا يجوز للمضطر أن يقتل معصوما فيأكله – إجماعا ولو كان ذمياً 0
فلو أن رجلا قتل ذمياً مضطرا الى ذلك فهذا لا يحل بإجماع العلماء وذلك لانه لا يحل له أن يبقي نفسه في إهلاك غيره 0
فإن وجد معصوماً ميتاً فهل له أن يأكله ؟ 0
المشهور في المذهب :- أنه ليس له أن يأكله 0
والقول الثاني :- واختاره الموفق وهو مذهب الشافعية أنه يحل له وهو الصحيح 0
وذلك لان حرمة الحي اعظم من حرمة الميت 0
وهل للمضطر أن يأخذ من بعض بدنه ما يأكله كأن يأخذ من فخذه أو من عضده فيأكله ؟
1- المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك 0
2- والقول الثاني في المذهب أن له ذلك وهو الراجح لانها مفسده صغري في درء مفسده كبرى 0
فإن لم يكن معصوماً كالحربي أو قاتل النفس للمضطر أن يقتله فيأكله 0
قال :- ] ومن أضطر الى نفع مال الغير مع بقاء عينه لدفع برد أو أستسقاء ماء ونحوه وجب بذله له مجاناً [
رجل أضطر الى نفع عين من مال غيره كأن يضطر الى ثوب لدفع برد أو أستسقاء ماء كأن يضطر الى دلو وحبل ليأخذ به الماء من البئر ما لمالك لذلك يجب عليه أن يبذل له الثوب أو الدلو والحبل مجاناً وذلك لان ذلك هو الماعون الذي نهى الشارع عن منعه فقال سبحانه ( الذين هم يراؤن و يمنعون الماعون ) فذلك واجب فإن اضطر الى عين كأن يضطر الى طعام ليأكله أو الى ماء ليشربه 0
فظاهر كلام المؤلف وهو المذهب أنه لا يجب بذله له مجاناً لكن يجب بذله بالقيمه 0
فمثلا رجل أدرك رجلا في الصحراء وهو في غاية الجوع ومعه طعام كثير ، فقال أبيعك هذا الطعام بقيمته ، فيجب عليه أن يبذله بقيمته ولا يزيد على ذلك هذا هو المشهور في المذهب وهو أنه يجب أن يبذله بقيمته 0
فإن أبي وقال :- لا ابذله لك ولو دفعت مال الدنيا ؟
فحينئذ له أن يأخذه منه قهراً وإن قاتله على ذلك لانه حينئذ كالصائل على النفوس 0(29/8)
واختار شيخ الاسلام وتلميذه ابن القيم :- أنه يجب بذل هذه العين مجاناً وذلك لأن أحياء النفوس وإنقاذها من الملكة واجب والواجب لا يحل أخذ العوض عليه 0 وهذا هو الراجح 0
قال : ] ومن مر بثمر بستان في شجره أو متساقط عنه ولا حائط عليه ولا ناظر فله الأكل منه مجاناً من غير حمل [ 0
من مر بثمر بستان في شجره أو متساقط عنه أى ليس بمجموع لان ما كان مجموعا فهو في حرز 0
ولا حائط عليه وقد نص عليه أحمد ، ولا ناظر أى حارس 0
فله الأكل مجاناً من غير حمل 0
فلو أن رجلا مر ببستان لا حائط له ولا حارس عليه فله أن يأكل منه مجاناً من غير أن يحمل.
ومثل ذلك :- في أصح الروايتين عن الإمام أحمد إذا وجد شاة لا راعي معها فله أن يشرب من لبنها من غير أن يحمل 0
ومثل ذلك إذا وجد زرعا فله أن يأكل منه من غير أن يحمل سواءاً كان محتاجاً الى ذلك أو غير محتاج هذا هو القول الاول في المسألة وهو مذهب الحنابلة 0
2- وقال الجمهور ، بل لا يحل له إلا أن يكون محتاجاً وعليه الضمان حينئذ وهو رواية عن الامام أحمد 0
وأستدلوا بعمومات الأدلة كقوله صلى الله عليه وسلم ( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) قالوا وهذا ما مال مسلم فلا يحل الا بإذنه 0
وإستدلوا :- بما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحلب احدكم من شاة أخيه بغير إذنه ) 0
والقول الأول هو الراجح وهو المذهب وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد والدليل عليه ما روى أبو داوود والترمذي وهو حديث صحيح قال فيه الترمذي ( حديث حسن صحيح ) وهو من حديث الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذن ، فإن أذن له فليحتلب وليشرب فإن لم يكن فيها – أى صاحبها – فليصوت ثلاثاً ( ينادي الراعي ) فإن أجابه والا فليحتلب وليشرب ولا يحمل ) وفي البيهقي نحوه من حديث أبى سعيد الخدري وفيه ذكر الحائط قال أبن القيم :-(29/9)
وقد ورد هذا عن طائفا من الصحابة – كما في سنن البيهقي منهم عمر بن الخطاب والاثر عنه صحيح ولا يعلم له مخالف فهذا القول هو الراجح في المسأله : وأنه أذا كان الشجر لا حائط له ولا حارس وكذلك في الماشيه والزرع فإن له أن يشرب أو يأكل من غير أن يحمل كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمل الصحابه وهو المشهور في المذهب 0
إلا أن الزرع واللبن فيه عن الإمام أحمد روايتان وأكثر أصحاب الإمام أحمد على أن ذلك - أي اللبن والزرع ليس كذلك والصحيح ما تقدم وأنه ثابت في الثمر والزرع والماشية حيث لا حائط وحارس ، وحيث كان الغنم لا حارس معها 0
قال :- ]وتجب ضيافة المسلم المجتاز به في القرى يوماً وليله [0
تجب ضيافة المسلم لا الذمي (( المجتاز به في القرى )) لا في المدن لأن المدن فيها أسواق فيمكنه أن يشترى الطعام فيطعمه ( يوما وليلة ) فالضيافة واجبة يوم وليلة 0
إذن الضيافة واجبة يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفة جائزته )) قالوا : وما جائزته قال (( يوم وليلة ، الضيافه ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقه )) والصحيح انها ليست خاصة بالمسلم بل حتى في الذمي 0
وقدمه ابن رجب وهو أحد الروايتين عن الامام أحمد ويدل عليه عموم الحديث (( فليكرم ضيفه )) وهذا عام في المسلم وغيره أى حتى الذمي يجب له هذا الحق 0
وقوله ( يوما وليله ) للحديث المتقدم 0
والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من أصحاب الامام احمد كأبي أبو بكر وأبن ابي موسى :- إن ذلك واجب ثلاثة أيام لقوله صلى الله عليه وسلم ( الضيافه ثلاثة أيام ) وهو أظهر 0
والحديث يدل على ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الضيافه ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقه ) فدل على أن الثلاثة أيام واجبة 0(29/10)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (( فليكرم ضيفه جائزته )) فهذا آكد أى اليوم والليلة آكد وفيها بر واحسان لان الحائزة تدل على البر والإحسان به 0
فيكون في اليوم الأول منه مزيد بر وإحسان وحفاوة وأما بعد ذلك فيطعم من سائر الطعام 0
ومرجع ذلك – كما قال شيخ الإسلام – الى العرف والعادة 0
فإن أبى فلم يضيفه فهل يجوز له أن يأخذ من ماله بغير إذنه بلا مفسدة ؟
وهل له أن يطالب بذلك عند القاضي ؟
قال الحنابله بذلك وهو صريح قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : ( فإن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي فأقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له )) وظاهره على وجه القوة حيث لم تترتب مفسدة
باب الذكاة
الذكاة : الذبح : ذكى الشاه تذكية : أي ذبحها
والذكيه : هي الذبيحه
وتعريفها – اصطلاحاً – في المشهور من المذهب :ذبح او نحر المأكول البري المباح بقطع حلقومة ومريئه او عقر ممتنع – هذا هو تعريفها وسيأتى الكلام على هذا .
قال رحمه الله : ] لا يباح شىء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة[
لقوله تعالى : { حرمت عليكم الميته }
فاذا كان الحيوان مقدوراً على تذكيته فلا يحل الا بالذكاة وهذا بإجماع العلماء .
قال : ] الا الجراد والسمك وكل ما لا يعيش الا في الماء [
أما الجراد فلقول ابن عمر :" أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالجراد والحوت " ولا يعلم له مخالف .
واما السمك – فلحديث "والحل ميتته "
"وكل ما لا يعيش الا في الماء " لقوله صلى الله عليه وسلم " والحل ميتته "(29/11)
لكن : ان كان يعيش في البر والبحر .فظاهر كلام المؤلف ان الذكاة شرط فيه لانه لم يستثن الا ما لا يعيش الا في الماء . وتقدم ان هذا هو القول الراجح وانه اصبح قولى العلماء – تقدم الكلام عليه في درس سابق وعليه فما يكون من الحيوانات يعيش في البر والبحر كالسلحفاه ونحوها ، فانها تشترط فيها التذكية ان كان فيها دم واما ان لم يكن فيها دم فلا يشترط ذلك .
قال : ]ويشترط للذكاة اربعة شروط :
أهليه المذكي : بأن يكون عاقلاً مسلماً أو كتابياً [
هذا هو الشرط الأول : وهو أهليه المذكي بان يكون عاقلاً : لاشتراط قصد التذكيه ،ولأن التسميه شرط في صحة التذكيه – كما سيأتي – ولا يصح ذلك الا من عاقل ، سواء كان مميزاً او بالغاً .
واما اذا كان غير عاقل كالمجنون او السكران او الطفل غير المميز فان تذكيته لا تصح باتفاق العلماء .
إلا ان الشافعيه أجازوا تذكيه الطفل غير المييز
قالوا : لأنه له نوع قصد .
والجواب : أن هذا النوع لا يكفى بل يشترط ان يكون القصد تاماً
(مسلماً او كتابياً): اما المسلم فظاهر.
واما الكتابي : فلقوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم }
قال ابن عباس – كما في البخارى - : " طعامهم ذبائحهم " أي ذبائح اهل الكتاب وهم اليهود والنصاري . وهذا باتفاق العلماء .
-وظاهر الادله الشرعيه انه لا يشترط ان يكون هذا الكتابي من أبوين كتابيين ، قال شيخ الإسلام :" وهو الثابت عن الصحابه بلا نزاع بينهم وعليه نصوص الامام احمد وهو مذهب اكثر الفقهاء " أ.هـ
واما المشهور في مذهب الحنابله : انه يشترط ان يكون أبواه كتابيين وهذا القول لا دليل عليه ، بل اطلاقات النصوص تدل على خلافه . والثابت عن الصحابه خلافه : وهو اختيار شيخ الإسلام .
مسألة :
هل يباح ما أهلوا به لغير الله – كأن يذبحوا على اسم المسيح هل يباح هذا أم لا ؟
قولان لأهل العلم :
القول الأول: وهو مذهب مالك وهو رواية عن احمد انه مباح(29/12)
لعموم قوله (وطعام الذين اتوا الكتاب حل لكم ) فيدل هذا على ان عموم طعامهم مباح لنا وكذلك ما اهلوا به لغير الله .
قال الجمهور : بل لا يحل ذلك ، للايات الداله على المنع منه كقوله (وما أهل به لغير الله ) وكقوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق )
قالوا : واذا ثبت ذلك في المسلم فأولى من ذلك الكتابي
بمعنى : اذا كان المسلم لا تحل ذبيحته التى أهل بها لغير الله فأولى من ذلك في الكتابي .
وان كان هذا الاستدلال مشكلا من حيث انه لا يكون مسلماً وقد ذبح لغير الله عز وجل ،
لكن المقصود انه اذا كان هذا شرطاً في صحة ذبيحه من هو مسلم في الاصل – فأولى من ذلك ان يشترط في الكتابي فغايه ذبيحته أهل الكتاب ان تكون مثل ذبيحه المسلمين لا ان تكون أرفع منها .
وقالوا : ان الاهلال لغير الله والذبح على غير اسمه ليس من دين اليهود والنصاري وانما هو من الشرك الذي دخل في دينهم .
-ولا شك ان الراجح في هذه المسأله ما ذهب اليه جمهور العلماء وذلك لما تقدم من الادله القويه على هذا ….
مسألة :-
هل يباح ما ذبحه أهل الكتاب مما هو محرم عليهم كلاً او بعضاً ؟
فمثال : ما هو محرم كلاً : الإبل فانها محرمة على اليهود .
ومثال ما هو محرم بعضا : الشحم فانه محرم عليهم بنص كتاب الله تعالى قال تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما }
فاذا ذبح يهودي أو نصراني بعيراً ، او ذبح غنماً او بقراً وفي ذلك شحم فهل يحل لنا اكل البعير في الصوره الاولى ، وأكل الشحم في الصوره الثانيه ام لا ؟
قولان لأهل والعلم :
القول الاول : وهو مذهب مالك انه لا يحل لقوله تعالى :( وطعام الذين اتوا الكتاب حل لكم ) قال : وهذا ليس من طعامهم .
والقول الثاني في المسأله : وهو مذهب الجمهور : ان ذلك حلال .(29/13)
قالوا : لأن الادله الشرعية قد دلت على صحة تذكيته وانه اهل لأن يذكي ، وانما حرمت الابل والشحم عليهم خاصة ، فعلى ذلك التذكيه فيهم صحيحه ، فاذا ذكوا الابل فان تذكيتهم صحيحه وهي انما هي محرمه عليهم دوننا – وهذا هو القول الأرجح في هذه المسأله .
قال : ]ولو مراهقاً[
وهو من قارب البلوغ
قال : ]أو امرأة [
ويدل على ذلك ما ثبت في البخارى : ان امراه ذبحت شاة بحجر فسئل النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر بأكلها " أي كان الحجر حاداً قد انهر الدم .
والشاهد هنا : ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قد أقر بأكلها مع ان المذكيه لها امرأه .
قال : ]أو اقلف او أعمى [ أو جنباً او حائضاً .
أو فاسقا . ما دام انه مسلم او كتابي فان ذبحه يصح .
والنصراني أقلف أي غير مختون ومع ذلك تصح ذبيحته ، فهذا دليل على صحة تذكيه الأقلف
قال : ]ولا تباح ذكاة سكران ومجنون [ .
لانه يشترط ان يكون عاقلاً ، وليس المجنون ولا السكران كذلك.
قال : ]ووثني ومجوسي ومرتد[
الوثنى لا تحل ذبيحته اجماعاً
وكذلك المجوسي باتفاق العلماء الا ما ذكر عن أبي ثور فانه أباح تذكيته بناءً على انه من اهل الكتاب
والصحيح ان المجوس ليسوا من أهل الكتاب كما تقدم تقريره في درس سابق ، وانما أجرى النبى - صلى الله عليه وسلم - الجزيه عليهم كسائر الكفار ، لان الصحيح ان الجزيه ليست مختصه بأهل الكتاب كما تقدم تقريره في كتاب الجهاد .
(ومرتد) : وقد تقدم التنبيه على هذا وان المرتد لا تحل ذبيحته – حتى لو ارتد الى اليهوديه او النصرانيه .
قال : ]الثاني : الالة فتباح الذكاة بكل محدد[
لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السنّ والظفر ، اما السن فعظم ، واما الظفر فمدى الحبشه ) متفق عليه .
فكل ما انهر الدم فان التذكيه به صحيحه مجزئه .
قال : ]ولو مغصوبا [
في اصح الوجهين في مذهب الإمام احمد ، وهو اصح القولين لاهل العلم .(29/14)
وذلك : لان المغصوب إذا ذبح به ، فالنهي عنه ليس عائداً الى الذات وانما الى أمر آخر .
- صلى الله عليه وسلم - لم يقل لا تذبحوا بالشىء المغصوب ولو قال ذلك لكانت الذبيحه محرمه . فهنا التحريم لأمر خارج .
والقاعده : ان التحريم اذا كان لأمر خارج فان الفعل يجزئ وعليه فالتذكية صحيحه لكنه آثم.
قال : ]من حديد و حجر وقصب وغيره[
وكل ما انهر الدم فالتذكيه به جائزه .
قال : (الا السن)
قالوا : الا السن خاصه ، للحديث المتقدم : (ليس السن والظفر ).
وقال الشافعيه وهو روايه عن الامام احمد واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم : بل السن وسائر العظام . وهو الراجح .
لقوله - صلى الله عليه وسلم -(( اما السن فعظم )) فهنا علل - صلى الله عليه وسلم - المنع فكل عظم لا يحل ان يذكي به .
وعليه فالتذكيه ايضاً لا تصح لان النهي لذاته .
قال : ]والظفر [
لحديث : ) ليس السن والظفر – واما الظفر فمدى الحبشة( – ومدى جمع مديه وهي السكين
أي كان الحبشة يطيلون أظافرهم فإذا أرادوا ان يذكوا ذكوا بالظفر فنهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
-والمشهور في المذهب : ان الظفر – مطلقاً – لا تحل التذكيه به سواء كان متصلاً ام منفصلاً ، من انسان او من حيوان .
-وقال الأحناف : لا يجزئ الا إن كان متصلاً .
وهذا – فيما يظهر لى – اظهر لظاهر تعليل النبى - صلى الله عليه وسلم -فإنه قال :" ما انهر الدم " ويدخل في ذلك الظفر ، فان الظفر ينهر الدم – واستثنى من ذلك الظفر وعلل ذلك بانها مدى الحبشة فدل على انه ما كان على صفه فعلهم فانه لا يحل .
وقد يكون المنع من ذلك لما فيه من التشبه بهم ، ولما فيه من التشبه بالطيور ومن التشبه بالطيور ذات المخالب والسباع لذلك حرم .
اذن الراجح ما ذهب اليه الأحناف في هذه المسألة
فالراجح انه انما يحرم حيث كان ظفر الانسان خاصه وكان متصلاً به والله اعلم .
قال : ]الثالث : قطع الحلقوم والمرىء[(29/15)
الحلقوم هو مجرى النفس
والمرى هو مجرى الطعام والشراب .
1-والمشهور في مذهب احمد والشافعي ان الذبيحه لا تحل حتى يقطع الحلقوم والمرىء قالوا : لان بهما غياب الحياة في الحيوان فإذا قطع اجزأ ذلك .
2-وعن الإمام احمد انه لا يجزئ حتى يقطع الحلقوم والمريء والودجين " وهما الوريدان اللذان يحيطان بالمريء والحلقوم وهما مجرى الدم فيتبين لنا أنهما أهم واولى بالقطع لكونهما مجرى الدم . قال - صلى الله عليه وسلم - (ما انهر الدم )
وقال الأحناف : حتى يقطع ثلاثا من اربع ، فإذا قطع احد الودجين والحلقوم والمريء أجزأ ، واذا قطع الودجين وقطع الحلقوم أو المرىء فان ذلك يجزى .
وقال بعض الحنابله كما قال – صاحب الكافى – " يجزئ قطع الودجين "
اذن في المسأله خلاف كثير بين اهل العلم
والنبى - صلى الله عليه وسلم - قد قال :" ما انهر الدم " يدل هذا على ان ما ثبت فيه انهار الدم فانه يجزئ .
وعلى ذلك فالذي يرجح ما ذكره بعض الحنابله من انه اذا ُقطع الودجان فان ذلك يجزئ .
ذلك لان قطع الودجين ينهر الدم .
واما قطع الحلقوم فالذي يرجح وجوبه وانه ليس شرطاً في الإجزاء – لكنه يجب لما فيه من أراحة البهيمة ،وذلك لان بقاء نفسها مع قطع ودجها فيه إيذاء كبير وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان الذبحة فقال : ( فإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحه ).
قال : ] فان ابان الرأس بالذبح لم يحرم المذبوح [
هذا ظاهر جداً
فلو اخذ السيف فقطع رأسها مره واحده ففصله عن جسمها فحينئذ يكون قد قطع الودجين والحلقوم والمريء فلا إشكال في انه يجزئ .
قال : ]وذكاة ما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشه ، والواقعه في بئر ونحوها نحره في أي موضع كان من بدنه [ .
(والنعم المتوحشه ) كالإبل والبقر والغنم التى تتوحش(29/16)
فما عجز عنه من الصيد والنعم المتوحشه او الواقعه في بئر ونحوها بان يجرحه في أي موضع كان من بدنه ويدل عليه : ما في الصحيحين : قال ندّ بعير فاهوى اليه رجل بسهم فحبسه فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -:(ان لهذه البهائم أو ابد كأوابد الوحش فما ندّ منكم فاصنعوا به هكذا ) فاذا فرّ البعير وعجز عن امساكه لتذكيته او البقر او غير ذلك من الحيوانات او سقط شئ منها في بئر فما امكن لنا ان نذكيه الا ان نرميه بسهم ونحوه فإن حينئذ يجوز ذلك .
إذن : الواجب علينا في البقر والأغنام والإبل من بهيمه الأنعام الواجب التذكيه لكن هذا مع القدره على ذلك
اما مع العجز عن التذكيه كأن يفر البعير او يسقط في بئر او نحو ذلك فانه يرمى بسهم من أي موضع كان في بدنه للحديث . قال ]إلا ان يكون رأسه في الماء ونحوه فلا يباح [
ولانه لا يدري هل السهم قتله أم الماء لذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين : (فإذا وجدت غريقاً في الماء فلا تأكله فإنك لا تدري الماء قتله أم سهمك)
فما لم نتحقق من تذكيته فانه لا يحل ، كان يكون على راس نهر فرمى بسهم فوقع في الماء فإننا لا ندرى الماء قتله او السهم فتغليباً لجانب الحظر يحرم .
لكن لو تحققنا ان السهم هو الذي قتله كأن يكون الماء قليلاً ونحو ذلك فانه يجوز أكله .
مسألة :
اذا ذبحت البهيمه وفي بطنها جنين ، فذكاتها ذكاة لجنينها .
لما ثبت في مسند أحمد – والحديث صحيح – ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال
" ذكاة الجنين ذكاة أمه "
لكن ان خرج وفيه حياه مستقره فحينئذ تجب تذكيته .
أما لو خرج ميتاً او خرج يتحرك حركة المذبوح فانه يحل للحديث المتقدم .
-وظاهر كلام الحنابله ، بل نصوا على ذلك – سواء أشعر ام لم يشعر أي سواء نبت الشعر عليه ام لا ؟
وقال المالكيه ، هذا الحكم حيث أشعر وهذا هو الصحيح لاثر موقوف صحيح على ابن عمر رواه مالك في موطئه ولا يعلم لابن عمر مخالف .(29/17)
والقاعده عند الحنابله – ان قول الصحابي يخصص العموم – فعلى ذلك يجب ان يخصص الحديث بهذا الأثر الصحيح الثابت عند ابن عمر الذي لا يعلم له مخالف .
اذن : هذا الحكم حيث أشعر اما إذا لم يشعر فانه لا يحل كما هو مذهب المالكيه وهو قول ابن عمر – كما تقدم .
مسأله :
من أدرك مترديه أو ما أكل السبع منه – فذكاها – فهل تحل ام لا ؟
نص الله عز وجل على حلها بقوله (وما أكل السبع الا ما ذكيتم )
فإذا أدركنا شاة مع سبع فذكيناها أو تردت شاه فأدركناها فذكيناها فإنها تحل بنص القرآن
لكن اختلف اهل العلم متى تحل بالتذكيه .
فقال الحنابله والشافعيه : إنما تحل حيث كانت فيها حياة مستقرة هي ما دون حركات المذبوح .
فلو أدركناها وهي حية حياة مستقرة فإنها تحل بالتذكية .
والقول الثاني : وهو مذهب الاحناف : إنها تحل متى ما وجد فيها شىء من الحياة وان كانت تتحرك كحركه المذبوح واختار هذا القول شيخ الاسلام : حيث خرج منها الدم الأحمر الذي يخرج من المذكاة في العادة .
وهذا هو القول الصحيح في المسأله .
فاذا أدركها مع السبع أو تردت فلما ذبحها خرج الدم الاحمر الذي يخرج من المذكاة في العادة فانها تكون حلالاً ويستدل على هذا : بما ثبت في البخارى عن كعب بن مالك ان جارية له كانت ترعى غنما بسلع فاصيبت شاة منها قال : "فأدركتها فذبحتها ، فسئل - صلى الله عليه وسلم -عن ذلك فقال : كلوها ".
وهنا النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل هل ادركتها وفيها حياه مستقره ام ان فيها بعض حياة ، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزله العموم في المقال .
قال : ]الرابع : ان يقول عند الذبح بسم الله لا يجزيه غيرها[
هذا هو الشرط الرابع .
ودليله : ما ثبت في الصحيحين ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل " فقوله (وذكر اسم الله ) في سياق الشرط فكانت من الشروط – فدل على ان التسميه شرط .(29/18)
وهو مذهب جمهور العلماء .
وقال الشافعيه : وهو روايه عن الإمام أحمد : بل هي سنة
واستدلوا : بما ثبت في الصحيحين عن عائشه : ان ناساً قالوا يا رسول الله : ان قوماً يأتوننا باللحم لا ندرى أذكروا اسم الله عليه ام لا فقال صلى الله عليه وسلم (سموا عليه انتم وكلوا) .
قالوا : ولو كانت التسميه شرطاً لما اكتفى النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله (سموا عليه انتم وكلوا ) بل لاشترط ان يتحقق من وجود التسميه أي لقال : لا تأكلوا حتى يثبت لكم انهم ذكروا اسم الله عليه "
وهذا الاستدلال ضعيف . بل الحديث يدل على شرطية التسمية فان هذا السؤال إنما يدل على ان المتقرر عندهم هو فرضيه التسمية – لكنهم سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن ناس من المسلمين وهم لا يدرون –أي المأتى اليهم – لا يدرون اذكروا اسم الله عليه ام لا ؟ والأصل في ذبيحه المسلم الحل وانه يذكر اسم الله عليها .
ولذا أرشدهم النبى صلى الله عليه وسلم الى ما هو مشروع في حقهم وهو قوله (سموا عليه انتم وكلوا) فهذا هو المشروع في حقهم والمتعلق بفعلهم واما التسميه عند الذبح فهي متعلقه بفعل الذابح .
إذن : الصحيح ما ذهب اليه الجمهور من ان التسميه شرط (لا يجزئ غيرها ) : فلو قال باسم الرحمن او باسم الخلاق او غير ذلك فانه لا يجزىء لقوله صلى الله عليه وسلم (اذكروا اسم الله عليها ) واسم الله اذا اطلق فانما ينصرف الى قول "باسم الله "
وهو الثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم لما ضحى
انه قال : ( بسم الله والله اكبر ).
اذن لا يجزئ الا ان يقول باسم الله
لكن قالوا : لو قال بغير اللغة العربية ما يرادف باسم الله فانه يجزئه ولو مع القدره .
ومع القدره فيه اشكال والذي يتبين عدم الاجزاء واما مع عدم القدره فلا يكلف الله نفساً الا وسعها .
قال : ] فان تركها سهوا أبيحت لا عمداً [ .(29/19)
هذا هو المشهور في المذهب لان التسميه اذا تركت سهوا فان الذبيحه تحل واما اذا تركت عمداً فانها لا تحل
قالوا واما اذا تركها جهلاً فانها لا تحل .
فالمشهور في المذهب : انها شرط لكنها تسقط بالسهو ولا تسقط بالجهل .
قالوا : كالصوم فان من اكل ناسيا عندهم فانه لا يفطر ومن اكل جاهلاً فانه يفطر – هذا هو القول الاول في المسأله وهو المشهور في مذهب احمد وكذلك هو المشهور في مذهب مالك وابى حنيفه .
2- والقول الثاني في المسألة : إنها سنه وهو مذهب الشافعي وروايه عن الأمام احمد وتقدم ذكر دليلهم والجواب عنه .
3-والقول الثالث : وهو مذهب اهل الظاهر وروايه عن الأمام احمد واختيار شيخ الإسلام : إنها لا تسقط أي التسميه لا بسهو ولا بجهل .
واستدل : بعمومات الادله كحديث (ما انهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) ولقوله تعالى { لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق } قالوا : فهذه أدلة عامه تدل على انها لا تسقط لا بسهو ولا بجهل .
قالوا : واما قوله – صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) " فهذا في رفع الإثم والمؤاخذه كما ان الرجل اذا صلى بلا وضوء فلا اثم عليه لكن صلاته لا تصح فكذلك اذا ذبح ولم يسم الله فلا إثم لكن دبيحته لا تجزئ.
-والذي يترجح من هذه الأقوال ما ذهب اليه الحنابله وذلك لامور :
منها ان هذا هو الناس عن ابن عباس – فقد ثبت عنه انه قال : "ان نسى فلا بأس " روى ذلك البخارى معلقا وبوب عليه ، مما يدل على اختياره لهذا القول ووصل هذا الاثر الدارقطنى واسناده صحيح ، ولا يعلم له مخالف / وقول الصحابي يخصص العموم كما تقدم تقريره .
ان الطبرى – وهو ممن اختار هذا القول – قد حكى الاجماع عليه . وقال – فيمن لا يسقط بالنسيان – وهو قول بعيد لشذوذه وخروجه عما عليه الجماعه " وحكى الاجماع على هذا القول ولم يذكر خلافا في المسأله .(29/20)
ثم ان قوله تعالى { ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق } يدل على ان المراد بما لم يذكر اسم الله عليه ، مما اهل به لغير الله او كان ميته .
بدليل قوله تعالى : { وانه لفسق } ومعلوم ان كون المسلم نسي التسميه هذا ليس بفسق
والقرآن يفسر بعضه بعضا ، فقد قال تعالى هنا { وانه لفسق } وقال في ايه اخرى : { او فسقاً اهل لغير الله به }
فالذي يرجح هو ما ذهب إليه الحنابله
-والحنابله عمدتهم في التفريق بين الجاهل والناسي – ليس حديث (رفع عن امتى الخطأ والنسيان) لان هذا الحديث يدخل فيه الجهل .
انما عمدتهم : حديث ضعيف رواه الدارقطنى : ان النبى - صلى الله عليه وسلم - قال (المسلم يكفيه اسمه فان نسى فلم يسم فلسم ويأكل ) لكن الحديث إسناده فيه ضعيف .
لكن هذا ثابت عن ابن عباس ولا نعلم له مخالف – كما تقدم – فعمدتهم تعريفهم هذا الحديث وهو ضعيف .
قال : ]ويكره ان يذبح بآلة كالة[
أي غير حاده ، قد استعملت مراراً وتكراراً حتى صارت لا تنهر الدم انهاراً تاماً وتؤذى البهيمه .
ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فاحسنوا القتله وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحه وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )
وظاهر الحديث الوجوب وهو قول بعض الحنابله – وهو ظاهر اختيار شيخ الإسلام .
لقوله : (ان الله كتب ) والكتب يدل على الوجوب .
ولقوله (وليحد ،وليرح) هذا أمر وظاهر الأمر الوجوب .
قال : ]وان يحدها والحيوان يبصره [
فيكره ان تحد السكين ونحوها – والحيوان يبصره لما فيه من الاذيه للحيوان .
وفي مسند أحمد بإسناد ضعيف ان النبى - صلى الله عليه وسلم - ( أمر ان تحد الشفار وان يوارى عن البهائم )
قال : ] وان يوجهه الى غير القبله [
يكره ان يوجه البهيمه الى غير القبله .
ولا دليل على الكراهيه ، بل ولا هناك نص ظاهر يدل على استحباب ذلك .(29/21)
واستدلوا : بما يروى البيهقى ان النبى صلى الله عليه وسلم في حديث جابر " وجهها " أي الى القبله " وقال وجهت وجهى :" الحديث "
لكن الحديث اسناده ضعيف .
قالوا : وتقاس على الاذان ، قالوا لانه يتعبد لله بها فالمقصود ان غايه الامر ان يكون ذلك مستحباً
وأما ان يقال ان ترك ذلك يكره فلا يظهر هذا .
قال : ]وأن يكسر عنقه او يسلخه قبل ان يبرد [
فلوا ان رجلاً كسر عنقها وبها حياة أو سلخها وفيها حياة . هذا لا يحل .
وقوله (قبل ان يبرد ) أي قبل ان يموت
وقد قال هنا (يكره).
وهذا الحكم ضعيف بالنسبه الى هذا الفعل ، والذي يستحقه هذا الفعل هو التحريم وهو قول القاضى من الحنابله ويدل عليه حديث (ان الله كتب الاحسان) (وليرح ذبيحته).
فالراجح ان هذا الفعل محرم ، وهو قول القاضى من الحنابله وظاهر اختيار شيخ الإسلام .
والحمدالله رب العالمين
باب الصيد
دلّ على اباحة الصيد : الكتاب والسنة واجماع العلماء .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { واذا حللتم فاصطادوا }
وأما السنه : فيها حديث عدي بن حاتم وهو ثابت في الصحيحين وسيأتى ذكر بعض الفاظه .
وأما الإجماع فقد أجمع أهل العلم على ذلك أي على اباحة الصيد .
والصيد هو : اقتناص المأكول الحلال المتوحش طبعاً غير المقدور عليه .
فقولنا : " المتوحش طبعاً " يخرج من ذلك ما توحش على غير طبع كالإبل والبقر إذا ندّت ، ولها حكم الصيد كما تقدم ذكره في قوله - صلى الله عليه وسلم -" الا ان لهذه البهائم أوابد كاوابد الوحش فما ندّ منها فاصنعوا به هكذا " .
"غير المقدور عليه " يخرج من ذلك المتوحش طبعاً المتأهل وان كان في الاصل متوحشاً .
كأن تؤخذ بعض صغار الغزلان او غيرها ثم توضع في البيوت فتربى فهي في الأصل متوحشه ، لكنها في هذه الحاله ليست كذلك بل هي متأهله ، فلا يحل صيدها وانما لا بدّ ان تذكى لأنها مقدور عليها .
قال : ]لا يحل الصيد المقتول في الاصطياد الا باربعه شروط :-(29/22)
احدها : ان يكون الصائد من أهل الذكاه [.
هذا هو الشرط الأول : وهو ان يكون الصائد من اهل الذكاة ، لان الاصطياد يقوم مقام الذكاه.
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -– كما في الصحيحين ( فإن اخذ الكلب ذكاة ) .
وعليه فلا بد وان يكون الصائد من أهل الذكاة ، فلو صاد غير المميز او صاد المميز الكافر او المييز غير العاقل فان الصيد لا يحل الا ان يكون الكافر كتابياً .
اذن : لا بدّ ان يكون الصائد عاقلاً مسلماً او كتابياً كما تقدم ذكره .
قال : (الثاني : الآلة وهي نوعان : محدد يشترط فيه ما يشترط في اله الذبح )
فالشرط الثاني : الآلة وهي نوعان :-
النوع الأول : محدّد فيشترط فيه ما يشترط في آله الذبح فلا تحل ان يكون سناً ولا ظفراً لان الاصطياد يقوم مقام الذكاة "
وفي صحيح البخارى ان عدي بن حاتم سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض فقال - صلى الله عليه وسلم - (إذا أصبت بحّده فكل واذا أصبت بعرضه فانه وقيذ فلا تأكل )
والمعراض : يشبه الرمح
فلا بد ان يكون محدداً ينهر الدم كأن يضرب بسهم او ان يضرب بالرصاص او غير ذلك مما يكون حاداً
واما اذا لم يكن حادا فانه لا يحل للحديث المتقدم .
قال : ]وأن يجرح [
فلا بد ان يكون جارحاً
ويدل عليه ما تقدم من حديث عدي وفيه "( اذا اصبت بحده فقتل فكل )
أما لو ضرب بسهم لكن هذا السهم لم يجرحه فإنه حينئذ يكون وقيذاً .
قال : ]فإن قتله بثقله لم يبح [
اذا قتله بثقله فانه لا يباح
فلو رميت برمح فقتل طائراً لكنه قتله بثقله فإنه لا يحل لانه لم يجرح .
اذن : لا بد ان تكون الآلة ذات حد وأن تجرح .
قال : ] وما ليس بمحدد كالبندق [
المراد بالبندق : الحصى وهو كحصى الخذف ، فإذا ضربه به فانه لا يصح لانه يكون وقيذا .
واما البندق الذي هو الرصاص فلا إشكال في حله بل هو ابلغ من السهم لانه يجرح وينفذ أشد من نفوذ السهم .
قال : ]العصا والشبكه [ .(29/23)
فلو وضع شبكه فصادت ، لكنه وجد الصيد ميتا فيها ولم يدركه فذبحه فلا يحل .
قال : ]والفخ لا يحل ما قتل به [ .
فلو وضع فخا فصاد صيداً ، فوجد الصيد ميتاً فيه فإنه لا يحل .
لكن لو أدركه في الشبكه او الفخ فذبحه فانه يحل لقوله تعالى { إلا ما ذكيتم }
وهذه المسألة يرجع فيها الى المسألة السابقه .
والمشهور في المذهب انه اذا كان فيه حياة مستقره الذبح يصح .
والراجح انه بمجرد ما يخرج منه ما يخرج من المذكى في العادة فانه يجزئ .
قال : ]النوع الثاني : الجارحه [
لقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح }
وهي نوعان :
النوع الاول : الجارح من السباع كالكلب والفهد .
النوع الثاني: الجارح من الطير كالصقر ونحوه .
-ولا تحل الا ان يكون معلماً لقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } أي مؤدبين
-فان كانت طيراً فتعليمها بشيئين :
أنها اذا أرسلت استرسلت أي إذا أشار إليها بالصيد انطلقت اليه .
وأنها إذا زجرها انزجرت أي إذا قال لها قفى فإنها تقف أي بعبارته التى تفهمها منه .
فمتى ما كانت الطير هكذا فإنها تكون معلمه ، فإن صادت فان صيدها يحل .
واما إذا كانت كلباً فيشترط فيها مع الشرطين المذكورين في الطير – شرطاً ثالثا وهو آلا تأكل فان أكلت فإنها ليست بمعلمه .
لقوله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم }
ففى تأديبها ثلاثه شروط :
أنها إذا أرسلت استرسلت .
وإذا زجرت انزجرت .
ألا تأكل مما أمسكت .
-والمشهور في المذهب ان ذلك – أي عدم الأكل يعرف بمرة واحده
فإذا أرسلها مرة واحدة فلم تأكل فإنها تكون معلمه .
والقول الثاني في المذهب ان ذلك يعرف بثلاث مرات(29/24)
فإذا أرسلها ثلاث مرات فلم تأكل فإنها تكون معلمه والقول الثالث في المسألة :- وهو مذهب الشافعية وقول في مذهب أحمد أنه لا يكون معلماً الا أن يكون ذلك من طبيعته ويكون ذلك بثلاث مرات أو خمس أو عشر يرجع في ذلك الى أهل الخبرة ، وهذا هو الصحيح إذ لا دليل على التحديد وكونه لا يأكل في المره الأولى أو لا يأكل حيث أرسل ثلاثا هذا لا يدل على أنه أصبح معلماً ، بل حتى يكون من طبيعته أنه اذا أرسل الى الصيد لم يأكل منه 0
وأما الفهد – فالمذهب انه يشترط فيه ما يشترط في الكلب 0
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه :- بل يرجع فيه إلى أهل الخبره ، فإن كان من تعليمه الا يأكل فيكون كالكلب 0
وإن كان من تعليمه أن يأكل ، فلا مانع أن يأكل كالطير فحينئذ يرجع الى أهل الخبرة بذلك 0
فقد تقدم أن الطير يكون معلماً إذا أسترسل إذا أرسل وأنزجز أذا زٌجر - وإن أكل مما يصيد 0
وأما الكلب فيشترط ألا يأكل 0
وأما الفهد فالمذهب كذلك – وأختار شيخ الاسلام أنه يرجع في ذلك الى أهل الخبرة فقد يكون عندهم يكتفى باسترساله أذا أرسل وانزجاره أذا زجر ولو أكل وهذا هو الراجح وأن مرجع ذلك الى أهل الخبره وهكذا في غير الفهد مما يصيد ننظر فيه الى أهل الخبره فإن قيل : لم فرقنا بين الطير وبين الكلب ؟ 0
فالجواب :- أن الطير لا يضرب فيشق حينئذ تعليمه على ألا يأكل بخلاف الكلب ونحوه قال :- ] الثالث :- إرسال الآلة قاصداً [ .0
أي قاصداً الصيد
فلو أرسل الآلة ولم يقصد فيها الصيد فإن الصيد لا يحل فلو أن رجلا رأى شاخصاً في بيته فظنه لصاً – فرماه فإذا هو وحش مما يحل صيده فلا يحل وذلك لأنه لم يقصد صيده ومعلوم أن القصد شرط في التذكية فكذلك في الصيد ومن ثم أشترطنا أن يكون الصائد عاقلاً 0
فإن أرسل سهماً يقصد طائراً ليصيده فصاد طائرا أخر أو أرسل سهمه ليصيد طائرا فصاده وصاد معه غيره فهل يحل ذلك أم لا ؟ هذه مسألة 0(29/25)
المسألة الثانية رجل أخذ السكين ليذبح شاة وقال بسم الله ثم ذبح غيرها فما الحكم ؟
أما المسألة الأولى :- وهو فيما إذا أراد صيدا فأصاب آخر فإنه يحل له ذلك :- قال صاحب الانصاف(( بلا نزاع أعمله )) وكذلك أذا أصابه وأصاب معه غيره وذلك لأنه قصد الصيد فأجزاه ذلك 0
وأما في مسألة الشاه فلا يجزئ لاشتراط التمسة عليها لقوله صلى الله عليه وسلم ( ما أنهر الدم وذكر أسم الله عليه فكل ) فلابد أن تكون التسمية على خصوص المذكاة وأما الصيد فلا يشترط أن تكون التمسية على خصوصه 0
فهنا فرق في باب التسمية بين الصيد وبين الذبيحه 0
فالذبيحة :- يشترط أن تكون التمسيه لخصوصها فلو سمى على شاة وذبح غيرها لم يجزئ ذلك لحديث ( ما أنهر الدم ) الحديث 0
وأما اذا قال :- بسم الله وأرسل كلبه أو طائره أو رمى بسهمه فإنه يحل الصيد وإن صاد غيره وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ( أذا أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك )) ولم يقل (( وذكرت اسم الله عليه )) وهو عام 0
وكذلك في السهم فقد قال صلى الله عليو سلم – كما مسند أحمد وسنن أبي داوود والترمذي – وابن ماجه والحديث صحيح من حديث أبي ثعلبه الخشني قال صلى الله عليه وسلم ( كل ما رد عليك قوسك ) 0
وهذا هو الذي تقتضيه السعه في هذا الباب ، فإن الصائد قد يقصد شيئاً فيصيد شيئاً أخر لأن الصيد غير مقدور عليه فليس تحت يده بخلاف المذكى فإنه تحت يده فلا يشق عليه أن تكون التسمية على خصوص العين المذبوحة 0
ومسألة :- إذا قال(باسم الله )وأخذ سهماً ثم غير هذا السهم بسهم أخر ثم رمى به 0
قال الحنابلة :- لا يجزئ ، فلو أن رجلا جهز البندقية وفيها شئ من الرصاص ، فلما أراد أن يرمي بها كأنه غير ذلك لأمر معين ثم وضع رصاصه أخرى ثم رمى بها فإنه لا يجزئ.(29/26)
ولو وضع الشاه على الارض ثم أخذ سكيناً فسمى بالله فوجد السكين كاله فرماها ثم أخذ سكيناً أخرى فذبح بها فإنه يجزئ في المذهب في هذه الصورة ، وفي الصورة الأولى لا يجزئ 0
ولا يظهر أن هناك فارقاً معتبراً ، لذا إختار الشيخ عبدالرحمن السعدي إستواء الصورتين لأن المقصود هو التذكيه فلا فرق بين الصورتين 0
وكأنهم – أى الحنابله – لمحوا أن التسمية على الآلة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل التسميه على الآله مجزئه وإن لم تكن بخصوص الصيد ، لكن لا يظهر أن هذا فرق مؤثر 0
قال :- ] فإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه لم يبح [ 0
إذا أسترسل الكلب أو غيره كالصقر بنفسه كأن يرى شيئا من الصيد فإنطلق اليه ليصيده فإنه لا يباح 0
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم ( أذا أرسلت كلبك (( وهذا شرط )) وذكرت أسم الله فكل ) 0
قال :- ] الا أن يزجره فيزيد في طلبه فيحل [ .
فلو رأى الصائد أن الطير قد أنطلق الى شىء مما يصاد فلما رآه أنطلق زجره فأنزجر وزاد في عدوه كأنه يحل وذلك فإنه لما زاد في عدوه دل على أنه إنما صاد لصاحبه ولأنه اجتمع فعل ادمي وفعل بهيمه وأذا وجد فعل الآدمي مع فعل البهيمه فإنه هو المعتبر ، وعليه فيلغى فعل البهيمه 0
وظ\هر كلام المؤلف أنه لو زجره فلم يزد في عدوه تبين أنه ليس للأدمي أثر وعليه فلا يحل – وهو كما ذكر – وذلك لأن الكلب لم يسترسل بإرسال صاحبه وإنما أسترسل بنفسه والشرط أن يرسله صاحبه للحديت المتقدم 0
مسألة
فإن أرسل الصائد كلبه فأكل فهل يحل أكله أم لا ، وهذا خاص في الكلب والفهد على قول ؟
الجواب لا يحل كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم ومنه (( إذ1 أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله فكل مما أسكن عليك الا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما امسك على نفسه )) 0
والله عز وجل يقول { فكلوا مما أمسكن عليكم } فإذا أكل منها فهذا يدل على أنه إنما أمسك على نفسه فلا يحل ذلك 0(29/27)
فإن قيل :- فما الجواب عما روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا أرسلت الكلب وذكرت اسم الله فكل وإن أكل )0
فالجواب أنه من حديث عمرو الأودي وهو مقارب الحديث كما قال ذلك الإمام أحمد لكن هنا خالف هذا الحديث المتفق عليه وكان حديثه منكراَ فعلى ذلك الحديث منكر لا يصح 0
قال ]: الراجح التمسيه عند إرسال السهم أو الجارحه [ .
أو قبيله بزمن يسير غرفاً لقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا رميت سهما فأذكر اسم الله )، وقال صلى الله عليه وسلم ( إذا أرسلت كلابك المعلمه وذكرت اسم الله )0
قال ]: فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح [ 0
اذن في الصيد ان تركها سهواً فانه لا يباح ، فقد فرقوا بين التسميه على الصيد وبين التسميه على الذبيحه .
قالوا : الفرق بينهما ،1- التسميه على الذبيحه يسامح فيها لان الذبح وقع في محله فقد قطع الحلقوه والمرىء فكان الذبح في محله .
واما الصيد فليس في محله فانه قد يضربها في بطنها او ظهرها فتموت بذلك فليس الذبح في محله فلم يتسامح فيه .
-وعن الامام أحمد وهو قول الأحناف والمالكيه :- أن السهو كذلك هنا معفى عنه كما يعفى في الذبيحه .
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي :" والصواب التسوية بين النسيان والجهل في ترك التسميه على الذبائح والصيد لعدم الفارق بينهما ولان الشارع قد سوى بينهما بعدم المؤاخذه "
والصحيح هو هذا القول لعدم الفارق بين الذبيحه والصيد في هذا الباب بل الصيد أولى لأن الصيد يتسامح فيه .
ولذا انه اذا سمى على الآله او على الكلب – فصاد ولو كان الصيد شئاً آخر غير الذي أرسل اليه فانه يجزئ .
وكذلك لا يد فى الذبيحه ان يكون ذلك بقطع الودجين كما تقدم (انظر الدرس السابق ) واما هنا فاالأمر يتسامح فيه ، فدل على ان الصيد يتسامح فيه وأيضا في الغالب يكون النسيان ، فانه قد يتبع الصيد فيغفل عن التسميه ، ومن تتبع الصيد غفل .(29/28)
ولأنه قد يخرج عليه فجأة ، بخلاف الذبيحه فان ذلك لا يكون فيها فكان الصيد أولى بالتسامح .
وأما ما ذكروه فليس بمؤثر لأن الشارع جعل الإصابه بحد السهم او بناب او مخلب الجارح – جعله في مقام الذبح تماماً .
قال ]:ويسن ان يقول معها الله اكبر كالذكاة [
فيستحب في الذكاة والصيد ان يقول مع بسم الله : الله اكبر .
أما في الذكاة ، فلما ثبت في صحيح مسلم ان النبى صلى الله عليه وسلم قال – على أضحيته : " بسم الله والله اكبر ".
قالوا : والصيد يقاس على ذلك .
-واما الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم حينئذ فلا تشرع وذلك لعدم ثبوت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم .
والحمد الله رب العالمين
ثم سالت شيخنا بعد الدرس : عن استحباب الحنابله قول " الله اكبر " عند الصيد مع التسميه
فقال – حفظه الله – هذا محل توقف وذلك لأن القياس في باب العبادات محل نظر بل الاصل انه لا يقاس في باب العبادات .
ثم سئل : عن رجل رمى صيداً فأصابه فوقع على حجر فمات فما الحكم ؟
الجواب : اذا كان يعلم انه قد مات بسبب رميته فانه يحل .
وكذلك اذا وقع في الماء فوجوه غريقا .
اما اذا كان لا يدرى هل مات بسبب رميه او بسبب الحجر في الصورة الأولى ، والماء في الصورة الثانيه ، فلا يحل للحديث المتفق عليه :( واذا وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدرى الماء قتله او سهمك) .(29/29)
كتاب القضاء
القضاء في اللغة : الفصل والحكم
وفي الاصطلاح الفقهي :تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات .
"تبيين الحكم الشرعي "،وبهذا يتفق القاضي مع المفتى في تبين الحكم الشرعي ، وإن كان المفتى أوسع دائرة منه في تبيين الحكم الشرعي وذلك لان القاضي إنما يبين الحكم الشرعي في المسائل المتنازع فيها .
وأما المفتى فانه يبينها في المسائل المتنازع فيها وفي غيرها .
وفي قولنا : والإلزام به " يفترق بهذ القيد المفتي عن القاضي فإن المفتي لا يلزم بالحكم الشرعي وأما القاضي فإنه يلزم به" .
قال :] وهو فرض كفاية [
فالقضاء فرض كفاية ، لأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا به .
-وهل متعين على أحد ان يتولى القضاء ؟
لا يتعين ذلك إلا ألا يكون هناك من يقوم به سواه ، فان لم يكن في الإقليم أو في المنطقة أو في البلدة من يقوم بالقضاء وقد توفرت فيه شروطه ، سوى هذا العالم فواجب عليه أن يقوم به فهو فرض عين عليه .
إذن : القضاء في الأصل فرض كفاية لكن قد يتعين
فإن كان غير متعين عليه فهل يسن أن يتولى القضاء ام لا ؟
قولان لاهل العلم هما روايتان عن الامام أحمد :
القول الأول : أنه لا يتعين .
واستدلوا : بما روى الاربعة أن النبى صلي الله عليه وسلم قال (من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين ) والحديث حسنه الترمذي وهو كما قال
واستدلوا :بما روى الخمسة – أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :"القضاة ثلاثه: اثنان في النار وواحد في الجنه : رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به جاز في الحكم فهو في النار ، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار" .
واستدلوا بحديث ضعيف في مسند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سيأتي على القاضي العادل ساعة يود انه لم يقض بين الناس في تمرة "
والقول الثاني : أنه سنة .(30/1)
يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يتولى القضاء ، وأن خلفاءه الراشدين كانوا يتولونه , وكذلك كان خيار الناس وفضلاؤهم في القرون المفضله كانوا يتولون القضاء وهذا هو القول الراجح في المسألة وأنه مستحب وأما الدليلان اللذان استدل بهما أهل القول الأول فليس فيهما أنه ليس سنة ، وإنما فيهما ما يحيط القاضي من المخاوف في قضائه فانه يخشى عليه الرغبة أو الرهبة او المجاملة أو المحاباة ..
وأما أن يكون من تأهل للقضاء لا يستحب له ذلك مع أمنه على نفسه من هذه المخاوف فلا
إذن : أرجح القولين أنه سنه .
قال شيخ الإسلام :"" والواجب في ولاية القضاء اتخاذها ديناً وقربة فإنها من أفضل القربات وإنما فسد حال الأكثر بطلب الرئاسة والمال فيها "" هـ
فهو إذن من افضل القربات لما فيه من فصل النزاع بين الناس وإقامه العدل بينهم .
قال : ]يلزم الإمام ان ينصب في كل إقليم قاضيا [
ففرض قيام الإمام أن ينصب في كل إقليم من الأقاليم الاسلامية قاضيا يقضى بين الناس .
قال : ]ويختار أفضل من يجده علماً وورعاً[
يختار الإمام أفضل من يجده علماً وورعاً ، لأنه – أي الإمام ناظر للمسلمين – والواجب على الناظر ان يختار الأصلح .
قال : ]ويأمره بتقوى – وان يتحرى العدل ويجتهد في إقامته [
قال شيخ الإسلام " من عمل بما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه "
إذا تحرى العدل واجتهد في الوصول إليه فإنه معذور عند الله فيما عجز عنه.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم – في الصحيحين -: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله اجر "
وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما أقضي بنحو ما أسمع "
قال : ]فيقول : وليتك الحكم ، أو قلدتك ونحوه [
فيقول – أي الإمام الأعظم ومن ينوب عنه كما يكون هذا في رئيس القضاة ونحوه- فيقول لمن يريد أن يوليه القضاء : وليتك الحكم او قلدتك ونحوه من الألفاظ التى تدل على تولية القضاء فكل قول يدل عليه فإانه يعمل به .(30/2)
قال : ] ويكاتبه في البعد [.
فإذا كان بعيداً فإنه يكاتبه بذلك أي يكتب إليه ورقة فيها توليته القضاء ، وهذا كالوكالة فكما تجوز بالكتابة فكذلك القضاء .
-ثم شرع المؤلف في بيان ما يستفاد من ولاية القضاء أي الأعمال التى يقوم بها القاضي ز
وما يذكره المؤلف مبنى على ما جرت به العادة عندهم
قال : ]وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم ، واخذ الحق لبعضهم من بعض ، والنظر في أقوال غير الراشدين [.
أي النظر في أقوال السفهاء والصبيان .
قال : ]والحجر على من يستوجبه لسفه او فلس[
فمن استوجب الحجر عليه لفلس أو سفه فإنه يتولى ذلك القاضى
قال : ]والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها [
أي النظر في أوقاف الإقليم الذي هو فيه .
قال : ]وتنفيذ الوصايا ، وتزويج من لا ولى لها [
كما تقدم في الحديث : " فان اشجروا فالسلطان ولى من لا ولى له "
قال : ]وإقامة الحدود وإقامة الجمعة والعيد ، والنظر في مصالح عمله بكف الاذى عن الطرقات وأفنيتها [
والغناء ما يسع امام الدار .
قال : ]ونحوه [
من أخد الخراج وجني الزكاة.
-هكذا يستفاد من الولاية في عصر المؤلف – وليس لذلك حد شرعي كما قال ذلك شيخ الاسلام بل مرجع ذلك إلى الألفاظ والعرف .
ونحن في عرفنا لا يتسع كل ما ذكره المؤلف – للقضاة بل منه ما يكون لهم ومنه ما لا يكون لهم .
إذن : يستفاد من ولاية القضاء عندهم – ما ذكره المؤلف هنا إلا أن يستثنى شيء من ذلك ، كأن ينصب عامل لجنى الزكاة أو أن ينصب رجل لإقامة العيد والجمعة ؟
ومرجع ما يستفاد من الولاية الى الألفاظ والعرف .
قال : ]ويجوز ان يولى عموم النظر في عموم العمل ، ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما [.
الحاله الاولى : ان يولى المولي "وهو الإمام الأعظم أو من ينوب عنه "يولى عموم النظر في عموم العمل "
أي أن يوليه عموم النظر في المسائل المتنازع فيها وما يتصل فيها من المسائل التى تقدم ذكرها ، في عموم العمل .(30/3)
فيقول : قد وليتك سائر الأحكام في سائر البلدان وهذه أعلاها .
الحال الثاني : "ان يوليه خاصاً فيهما ، أي يوليه نظراً خاصاً في عمل خاص "أي اقليم خاص "
فيقول – مثلاً - : أنت ولى أمر النكاح في الاقليم الفلاني فهنا ولايه النكاح نظر خاص ، والإقليم الفلاني عمل خاص .
الحال الثالث : ان يكون النظر عاماً والإقليم خاصاً
كان يقول له : "وليتك سائر الأحكام في الاقليم الفلاني وهذا هو الكثير ، فقوله سائر الأحكام : عموم في النظر .
وقوله " في الاقليم الفلاني " خصوص في العمل .
الحال الرابع : ان يكون النظر خاصاً والعمل عاماً
كان يقول : وليتك أمور الأسلحة في سائر البلدان .
إذن المراد بقوله : عموم النظر " أي عموم النظر في الأحكام والمراد بالعمل هنا أي الأقاليم .
قال ]ويشترط في القاضي عشر صفات [
هنا شرع في الشروط التى تشترط في القاضي
قال ]كونه بالغاً عاقلاً[
أي مكلفاً لأن غير المكلف تحت ولاية غيره فلا يصح أن يكون والياً . وهذا بالاتفاق .
قال ] ذكراً [
لان الانثى لا تصح ان تتولى ولاية في الإسلام ، لقول النبى صلي الله عليه وسلم :"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " راوه البخارى .
وقال أبو حنيفه : يجوز ذلك في باب الأموال ونحوها أي دون الحدود لصحة شهادتها .
وهذا نظر يخالف النص فلا عبرة به .
فالصحيح ان المرأه لا تصح ان تتولى القضاء لا في الأموال ولا في الحدود.
قال: ]حرا ً[
قالوا : لأن العبد مشغول بخدمة سيده
-واختار ابن عقيل وابو الخطاب من الحنابلة : انه يصح وهذا اظهر لأن ما ذكروه لا يقوى على المنع .
قال (مسلماً عدلاً )
"عدلا" لقوله تعالى "ولا ينال عهدي الظالمين " وهذا بالاتفاق . فالعداله شرط في القاضى .
وعند العدم – أي عندما يعدم العدل .
فكما قال شيخ الإسلام ابن تميمه : يولى الأنفع من الفاسقين واقلهما شراً . فيولى الأمثل فالأمثل وذكر ان ذلك ظاهر كلام احمد وغيره .(30/4)
فالشروط تعتبر حسب الامكان ،فإن لم يوجد عدل فإنه يولى من الفساق أعدلهم وأنفعهم .
"مسلماً" وهذا شرط ظاهر جداً ، ولا خلاف فيه بين اهل العلم .
قال ]سميعاً [
لأنه إن لم يكن سميعاً فإنه لا يسمع كلام المتخاصمين .
قال : ]بصيراً [
لأن الأعمى لا يعرف المدعى من المدعى عليه
قال ]متكلماً [
لأن الأخرس لا ينطق بالحكم ، ولأن إشارته قد لا تعلم .
-والراجح في هذه الشروط الثلاثة إنها شروط كمال وليست شروط صحة .
أما السميع والبصير فقال صاحب الإنصاف :"وقيل لا يشترطان .
واما الأخرس فهو قول في مذهب الشافعي – أن الأخرس يجوز كونه قاضياً.
-وهذا ظاهر وذلك لان غير السميع يمكن أن تكتب له القضيه فيقضى فيها .
وغير البصير يمكن أن ينصب ثقات عنده يبينون له الناس فيعرفونه بالمدعي من المدعى عليه.
والأخرس الذي لا يتكلم يمكنه أن يكتب ، أو يكون عنده من يعرف إشارته .
قال ]مجتهداً [
وحكى ابن جزم الاجماع على ذلك .
وذهب أبو حنيفه : إلى انه لا يشترط .
فإما ان يقال : إن ابا حنيفه خالف الاجماع ، وإما أن يقال إن ابن حزم ذكر الاجماع على سبيل الخطأ مع وجود المخالف .
ويقوى أن يكون الاجماع هو الثابت وان يكون خلاف أبي حنيفة بعد الإجماع ..
وذلك لظهور الأدلة على اشتراط ذلك قال تعالى :"وأن احكم بينهم بما أنزل الله "وقال صلى الله عليه وسلم :"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وقال صلى الله عليه وسلم في ذكر القاضي الذي هو أحمد ثلاثة قضاة – قال : "ورجل عرف الحق فقضى به" فيشترط أن يكون مجتهداً .
-واما أبو حنيفة فلم يشترط ذلك وقال : لأن المقصود من ذلك فصل النزاع ، وهذا قول باطل لأنه ليس المقصود فصل النزاع فحسب بل المقصود فصل النزاع بالحق بالكتاب والسنة .
قال : ] ولو في مذهبة [ .
وهذه إشارة إلى خلاف .
فيشترط أن يكون مجتهداً ولو في المذهب ن بأن يحكم بالمقدم من المذهب قالوا : ولو اعتقد أن الحق خلافه ".(30/5)
وهذا كما قال الشيخ السعدي :" هذا في غاية الضعف وهو مبني على قول ضعيف جداً وهو وجوب الإلتزام بمذهب من المذاهب الأربعة ، والأخذ بالمقدم عند أئمة المذاهب .قال : وهذا قول لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إجماع بل الأدلة تدل على بطلانه ".
وهذا ما يقرره شيخ الإسلام . والأدلة المتقدمة تدل على بطلانه .
-فإن ألزم السلطان بالقضاء في مذهب من المذاهب فما الحكم ؟
قال شيخ الإسلام " فهذا شرط باطل لأنه يخالف كتاب الله عز وجل " 10.هـ
وأما توليته للقضاء فتكون صحيحة .
-ولكن إن اشترط السلطان ذلك فهل يتولى من هو أهل للاجتهاد ام لا ؟
قال شيخ الإسلام : "لكن إن لم يمكنه إلا أن يقضى به "أي لإلزام السلطان فإنه ينبغى له ان يقضى بذلك المذهب وذلك تقديماً الأدنى المفسدتين ، وخروجاً من أعلاهما .
فإذا تولى وهو من أهل الاجتهاد والعدالة والدين كان ذلك دفعاً أن يتولى القضاء من ليس من ذلك .
قال ]وإذا حكمّ اثنان بينهما رجلاً يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها[.
في مذهب أكثر الفقهاء
فإذا حكم اثنان بينهما رجلاً ، وهذا الرجل يصلح للقضاء فإنه ينفذ حكمه سواء كان رضاهما قبل معرفته بالحكم أو بعد معرفتهما له . وأيضا يلزم قاضى البلد بهذا الحكم - هذا هو مذهب أكثر الفقهاء .
وذلك لأنهما تعاقدا على الرضا بحكمه وهو من أهل القضاء وقد قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " .
وفي سنن أبي داوود – في قصه ابى شريح – انه كان يكنى ابا الحكم فسأله النبى صلى الله فقال :" ان قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الطرفين فقال النبى صلى الله عليه وسلم "ما احسن هذا "
اذن قد تراضا فلزمهما ذلك /لان الله عز وجل يقول (يا ايها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)
فقد تعاقدا على الرضا فلزمهما ذلك وهو حكم مبنى على شرع فكان على القاضي ان يلزم به.(30/6)
وهو في المشهور في المذهب : في المال والحدود واللعان وغيرها لكنه لا ينفذ لان التنفيذ الى الامام ، واذا نفذ كان في ذلك افتيات على السلطان .
-وقال القاضي من الحنابله : بل هو في المال خاصه
والصحيح ما ذهب اليه الحنابله وذلك لان العلة ثابته في الحدود واللعان كما هي ثابته في المال فقد تعاقدا على الرضا وهو من أهل القضاء فوجب عليهما ان يلتزما بحكم فهو مخبر عن الله عز وجل وعن دينه .
(باب : آداب القاضي )
يعنى : أخلاقه
فآداب القاضي هي أخلاقه
قال المؤلف رحمه الله : ] ينبغى [
لفظة ينبغى عند الفقهاء بمعنى يستحب .
قال ]ان يكون قوياً – من غير عنف [
لئلا يطمع فيه الظالم
قال : ]لينا من غير ضعف [
لئلا يهابه صاحب الحق .
فإذا اجتمع فيه هذا الوصف لم يهبه صاحب الحق فيدلى بحجته ويوضح بينته ،ولا يطمع فيه الظالم بل يهاب ان يتكلم بين يديه بغير حق .
قال : ]حليما [
لئلا يغضب على خصم فيحكم بغير الحق .
قال : ]ذا أناه [
أي ذا تؤدة وعدم تسرع – فليس متسرعاً مستعجلاً في قضائه بل هو ذو تؤدة.
قال : ]وفطنه [
أي صاحب فطنه لئلا يرى المحق مبطلاً، والمبطل محقاً بسبب عدم الفطنه ، ولئلا يخدع ويحتال عليه .
قال : ]وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً[
ليكن مجلسه في وسط البلد ليمضى اليه كل اهل البلد على التساوي .
وان كان في قرى يكون في وسطها أي في القريه المتوسطه "فسيحاً" لان ذلك اشرح لصدره ، وله اثر في حسن نظره وحسن تصوره .
قال : ]ومعدل بين الخصمين [
هنا : ويجب ان يعدل – كما قال الشراح.
قال : ]في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما[.
فيجب عليه أن يعدل بين الخصمين في لحظه : أي في نظره / فينظر اليهما نظرة واحدة لا يحسن النظر الى أحدهما ويسئ النظر الى الآخر ، بل ينظر إليهما نظراً واحداً .
"وفي لفظه : أي في إجابته السلام وفي السؤال ونحو ذلك ، فيكون عادلاً في الفاظه التى يوجهها أو يجيب الخصوم بها .(30/7)
"ومجلسه " فيكونان في مجلس متساو فلا يضع الشريف في مجلس وغير الشريف في مجلس دونه .
ولا يقدم أحدهما إلى المجلس الأدنى اليه ، ويجعل الآخر في المجلس الأبعد منه ، بل يكونان على درجة واحدة في المجلس .
"ودخولهما " بأن يدخلا مرة واحدة ، أو أن يقدم أحدهما الآخر بالدخول .
أما أن يقدم القاضى أحدهما بالدخول فلا .
إذن : العدل بينهما في هذه الأمور الأربع : في لحظه ولفظه وفي مجلسه وفي دخولهما .
قالوا : ويستثنى من ذلك ، ما إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً ، فإن المسلم يقدم في المجلس .
وقيل :- كما في الانصاف – بل يجب عليه أن يجعلهما في درجة واحدة في مجلسهما وغير ذلك .
والعلة في هذه المسائل الأربع : أنه إذا لم يعدل في هذه الأمور الأربع كان ذلك سبباً لانكسار قلب الآخر وضعفه عن القيام بحجته .
وهذه العلة يشترك فيها الناس لا فرق بين ما إذا كان الخصوم مسلمين او كان بعضهم مسلماً وبعضهم كافراً فالمعنى واحد ، فإنه إيجاب إيصال الحق الى صاحبه يستوى فيه المسلم والكافر والله اعلم
قال : ]وينبغى ان يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ، ويشاورهم فيما يشكل عليه [.
فينبغى ان يجمع فقهاء المذاهب الذين في بلده فيكون في المجلس فقيه حنفى وفقيه مالكي وفقيه شافعي وفقيه ظاهرى ، فإذا أشكل عليه شئ عرض ذلك عليهم واستشارهم – هذا هو المشهور في المذاهب .
-وفي ذلك نظر ، وذلك لما يترتب على ذلك من إفشاء السر ، فانه قد تكون بعض القضايا فيها سر للناس فحضور هؤلاء ،لا شك أنه يؤدى إلى إفشاء الأسرار .
وثانيا : قد يضعف صاحب الحق من الإدلاء بحجته ، فتصبح وكأنها خطبة ، فعندما يقف بين يدي فقهاء من المذاهب الاربعة هذا يجعله في هيبة عظيمة ، فقد لا يظهر حجته .
والعلة التى يذكرونها هي أنه قد يشكل عليه بعض الشىء فيستشيرهم .
وهذا يمكنه أن يفعله بأن يؤخر الحكم في القضيه حتى يراجع كتب أهل العلم ، وحتى يستشير أهل العلم المعاصرين .(30/8)
اذن : الراحج خلاف المذهب .
قال : ]ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً [.
والغضب الكثير : هو الغضب الذي يشغل الفكر ، ويؤدى في الغالب الى عدم تصور المسألة ، وعدم تطبيقها على الأدلة الشرعية .
أما إذا كان الغضب يسيراً فلا يمنع من القضاء .
ومن ثم فإن النبى صلى الله عليه وسلم قضى على الأنصاري – كما في الصحيح وقد قال : إن كان ابن عمتك "فقضى النبى صلى الله عليه وسلم .
وأما الغضب الكثير الذي يشغل الفكر فانه يحرم معه القضاء لقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( لا يحكم احد بين اثنين وهو غضبان )متفق عليه .
قال : ]أو حاقن أو حاقب أو في شدة جوع أو عطش أو هم أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج [.
فكل هذه الامور قياسها على المسألة التى ورد النص فيها ظاهر ، لأنها تشغل الفكر .
قال : ] وان خالف فأصاب الحق نفذ[.
فإذا خالف القاضي ذلك فقضى وهو غضبان أو قضى وهو في عطش أو جوع أو ملل أو نحو ذلك فما الحكم ؟
إذا أصاب الحق فإن حكمه ينفذ وذلك لأن الشارع إنما منع من قضائه وهو غضبان خوفاً من أن لا يصب الحق وهنا قد أصاب الحق فما خشى فواته قد حصل وعليه فلا داعي للقول بالبطلان .
وأما إذا لم يصب الحق فإنه لا ينفذ حكمه لأن الشارع قد نهى عن القضاء حينئذ وحصل ما يخشى منه من عدم إصابة الحق فوجب عليه أن يعيد النظر في القضية .
قال : ] ويحرم قبول رشوة [
للعن النبى صلى الله عليه وسلم الراشى والمرتشى . وتقدم الكلام على الرشوة .
قال : ]وكذا هدية [
فلا يحل للقاضي أن يقبل الهدية ، لما ثبت في مسند احمد بإسناد صحيح ان النبى صلى الله عليه وسلم قال :" هدايا العمال غلوك " والغلول محرم .
قال : ] إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته ان لم تكن له حكومه [
فيستثنى من عدم جواز قبول الهديه – فإذا كان يهاديه قبل ولايته ، ثم أهدى اليه بعد الولايه ، فإنه يقبل الهديه لعدم التهمه إذا لم تكن له حكومة عند القاضي .(30/9)
أما إذا كانت له حكومه عند القاضي ، فإن القاضي لا يقبل هذه الهدية وإن كان في الاصل يقبل هداياه .
اذن : لا يحل له أن يقبل الهدية إلا أن تكون ممن يهاديه قبل ولايته بشرط ألا تكون له حكومة.
-والذي يظهر : أنه إذا كان لا يهاديه قبل ولايته لكن مثله ممن يهادي ، وقد طرأ ذلك فالذي ينبغى القول به قبول الهدية .
فلو أنه اتخذ صديقا وكانت الصداقه طارئة أي بعد ولاية القضاء فلا يتبين أن هناك مانعاً من قبول القاضي لهديته إلا أن تكون له حكومة أو كان له – مثلا – ابن عم وكان قبل ولايته للقضاء صغير السن ثم كبر سنه ثم اهدي اليه هديه فلا ينبغى القول بالمنع حينئذ ، لعدم التهمه.
فظاهر قول المؤلف أنه لا يقبل إلا ممن كان يهاديه قبل الولاية .
والذي يظهر : أن من كان مثله فكذلك وإن لم يكن قد اهدي له قبل ذلك لكن طرأ السبب الذي يهدي به كأن تطرأ صداقه أو تطرأ قرابة . كأن يصاهر مثلاً بعد تولية القضاء فيهدي اليه صهره فلا يظهر أنه يمنع من ذلك لأن السبب لم يكن موجوداً قبل ذلك .
وهل للقاضي ان يبيع ويشترى ؟
المشهور في المذهب : ان له ذلك لكنه يكره ، ألا أن يضع وكيلاً لا يعرف به ، أي لا يعرف ان هذا وكيل القاضي .
والصحيح : انه لا باس ببيعه وشرائه ولا دليل على الكراهية لكن ليس له ان يقبل المحاباه بمعنى : اذا بيع له الشىء بأقل من سعره المعتاد او اشترى منه الشىء بأكثر من سعره المعتاد فلا يحل له ان يقبل هذه المحاباه وذلك لانها كالهدية .
إلا إذا كانت – هذه المحاباه – ممن كان يهاديه قبل ولايته القضاء – ولم يكن في ذلك تهمه .
قال : ]ويستحب آلا يحكم إلا بحضرة الشهود[
فيستحب الا يحكم القاضي الا بحضرة الشهود أي الشهود الذين ثبت الحكم بشهادتهم .
فإذا شهد اثنان على أن فلاناً قتل فلاناً عمداً فانه لا يقضي بالقتل إلا بحضرة الشهود – استحبابا –
وذلك لأنه قد يفوته بعض الشىء في شهادتهم فينبهه هؤلاء الشهود على ما قد فاته .(30/10)
وكذلك : قد يتراجع بعضهم عن الشهادة حيث كانت شهادة زور ، فإذا رأى أن الحكم يثبت وأن القاضي يصدع الآن بالحكم فإنه قد يتراجع عن هذه الشهادة
وهذا من باب الاستحباب لان شهادتهم قد أدوها قبل ذلك وضبطت عند القاضى .
قال : ]ولا ينفذ حكمه لنفسه [
بلا نزاع
قال : ]ولا لمن لا تقبل شهادته له [
كذلك لا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له كأبيه او أخيه .
قالوا : قياسا على الشهادة لأن الحكم يتضمن الشهادة ، فإن القاضي يقول " أشهد أن الحكم في المسألة كذا " فلما كان الحكم متضمناً للشهاده لم ينفذ حكمه في نفسه ولا فيمن تقبل شهادته له ولا فيمن لا تقبل شهادته عليه كالعدو ، وإن كان حكمه ظاهر القبول حيث حكم لعدوه وذلك لزوال التهمة ، لكن لو حكم عليه فإنه لا يقبل .
إذن : لا ينفذ حكمه لنفسه بلا نزاع .
ولا ينفذ حكمه فيمن لا تقبل شهادته له – وهو مذهب الجمهور.
وعن الامام احمد وهو قول ابى بكر عبدالعزيز من الحنابلة : أن حكمه يقبل ، فإذا قضى في مسألة بين أبيه وبين أجنبيي ، فقضى لابيه على الخصم فإن الحكم ينفذ ويقبل .
وفي هذا القول قوة ، لأن الأصل في القاضي البعد عن التهمة .
وكونه شاهداً ليس ككونه قاضاً ، فان كونه قاضاً هو بمنزلة النائب عن الامام الذي يقرر شرع الله ويلزم به الناس فهو في محل ينبغى ألا يتهم فيه وإن حكم لأبيه وإن حكم لأخيه بل وإن حكم لنفسه ، لكن الحكم للنفس لا شك انه أبعد من الحكم للغير .
ومع ذلك فالاحوط الا يقضى لنفسه ولا يقضى لمن لا تقبل شهادته له .
لكن لو رضى الخصم ، فقال : أنا أرضى بقضائك وان كنت أنت خصمى " او وإن كان أبوك خصمي ، لعلمي انك لا تقضى إلا بالحق فحينئذ لا إشكال في صحه القضاء ونفوذه – وذلك لأن الحق له فأسقطه .
اذن المشهور عند الفقهاء آن حكم القاضي لنفسه لا ينفذ وأن حكمه لمن لا تقبل شهادته له كذلك لا ينفذ .
أما حكمه على نفسه او على من لا تقبل شهادته له فهذا ظاهر القبول .(30/11)
لكن هل يتصور ذلك ام أنا نمنع من أصل إقامة القضيه على ذلك ، ونقول – ما دام أن الخصم هو القاضي او من لا تقبل شهادتهم له – فمن الأصل لا يكون القضاء .
-والذي يتوجه في مثل هذه المسائل صحة حكم القاضى لانه في منصب ينبغى ألا يكون متهماً فيه .
قال : ]ومن ادعى على غير برزة لم تحضر [
البرزة هي المرأة التى تبرز لقضاء حوائجها .
وغير البرزة – هي المرأة المخدرة التى لا تخرج لقضاء حوائجها.
فإذا ادعى على غير برزة لم تحضر للعذر ، ولأن حياءها يمنعها من القيام بالحجة .
قال : ]وأمرت بالتوكيل [.
فتؤمر بأن توكل لحفظ حق الخصم ، لانه قد يكون الحق مع المدعى ، فلا بد وأن توكل .
قال : ]وان لزمها يمين أرسل من يحلفها [
فإذا لزمها يمين فإنه لا يمكن للوكيل أن يحلف عنها لأن اليمين لا نيابه فيها ، وحينئذ فيرسل القاضى من يحلفها .
قال : ]وكذا المريض [
أي المصاب بمرض يشق عليه معه الحضور عند القاضى .
وحينئذ فان القاضي يأمره بالتوكيل ، وإن احتاج الى اليمين فإن القاضي يرسل إليه من يأخذ يمينه وهو في الموضع الذي يتمرض فيه .
مسألة .
إذا عزل القاضى فهل ينعزل قبل علمه أم لا ؟
بمعنى : إذا قضى وحكم في مسائل قبل ان يعلم بالعزل فهل ينفذ هذه الاحكام ام لا ؟
قولان في المسألة :
أصحهما وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه أنه لا ينعزل قبل العلم وذلك لأن ولايته حق لله تعالى وحقوق الله تعالى لا يثبت الفسخ فيها إلا بعد العلم أي بعد علم المكلف .
-بل هل ينعزل القاضى بالعزل ؟ وهل ينعزل بموت المولّى؟
قولان لأهل العلم :
-والصحيح في مذهب أحمد : أنه لا ينعزل
وهذا مبنى على : هل القاضى نائب عن الإمام او نائب عن المسلمين .
فإذا قلنا : هو نائب عن الإمام فانه ينعزل بعزل الإمام ، وإذا مات الإمام انعزل أيضا .
وإذا قلنا : هو نائب عن المسلمين أي قائم بحق الله تعالى فإنه لا ينعزل بعزله ولو عزله الإمام – وهذا هو المشهور في المذهب(30/12)
-وعلى القول بأنه ينعزل ، هل ينعزل قبل العلم أو لا ؟
قولان : أصحهما أنه لا ينعزل قبل العلم كما تقدم واختار هذا شيخ الإسلام ، ويختار أيضاً انه لا ينعزل وذلك لأن الولاية حق الله تعالى .
وهذا فيما يظهر أقوى . والله اعلم
والحمد لله رب العالمين
باب : طريق الحكم وصفته
أي كيف يقضى القاضى بين الناس ، فهذا الفصل في صفة القضاء .
قال رحمه الله : ]إذا حضر اليه خصمان قال : أيكما المدعي [
ويجوز غير ذلك من الألفاظ فليس هذا لفظا تعبدياً ، وانما يقول هذا اللفظ او ما يدل عليه .
-وليس له ان يقول : يا فلان ما تقول ؟ وذلك لانه يخصص أحدهما بالسؤال وليس من العدل
قال : ]فإن سكت حتى يبدأ جاز [
فإذا سكت القاضى ولم يقل : "أيكما المدعى " بل سكت حتى يبدأ المدعي جاز ذلك .
قال : ]فمن سبق بالدعوى قدمه [
فمن سبق بالدعوى من الخصمين قدمه ، فإذا كان كل واحد فيهما مدع على الآخر فسبق أحدهما بالدعوى فانه يقدمه وذلك لسبقه فهو قد سبق فكان أولى من الآخر .
وإن لم يتكلم أحدهما – وكل منهما مدع – فإنه يقرع بينهما .
إذن : إذا كان أحدهما مدع والآخر مدعى عليه ، فإن القاضي يقول : أيكما المدعي فيتكلم حينئذ المدعي أو يسكت القاضي حتى يتكلم المدعي .
وأما إن كان كل واحد فيهما مدع فانه يقرع بينهما فإن سبق أحدهما بالكلام قبل الآخر فإنه يسمع لدعواه لسبقه .
-وظاهر كلام المؤلف أن كل دعوى تسمع ، ولو كان المدعى عليه من أهل المروءة والشرف
وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم .
فلو أن رجلاً من فقراء الناس ادعى على رجل من أشراف الناس دعوى فإن دعواه تسمع ويطالب القاضي بهذا الشريف فيحضر وان شاء وكل ، وذلك حفظاً للحقوق ودفعاً للظلم ، اذ من الممكن أن يكون الأمر صدقاً .
-فإن قيل : قد يكون في ذلك أذى لأصحاب الشرف فلا يستطيع أحد ان يؤذيهم بذلك إلا آذاهم(30/13)
فالجواب : أن هذا وإن كان ضرراً متوقعاً لكن حفظ حقوق الناس ودفع الظلم عنهم اعظم من ذلك فترجح هذه المصلحه ويمكنه – أي صاحب الشرف – ان يوكل من يخاصم عنه .
إلا ان تكون الدعوى ظاهرة الكذب ، كأن يأتى إنسان مشهور بالفقر
ويقول : قد اقترض منى هذا الغنى- " وهو صاحب مال كثير - كذا من المال مما يبعد في العادة ان يقترض مثله فهنا قد يقال – لا سيما اذا ظهر فيه الكذب – قد يقال إنه لا تسمع الدعوى – حينئذ –
لكن مع ذلك القول بالعموم فيه قوة ، من باب ترجيح حفظ حقوق الناس .
قال : ]فإذا أقر له حكم له عليه [
إذا قال المدعى : ادعى على هذا أنه اقترض منى عشرة آلاف ريال ، فقال المدعى عليه : أقر بذلك واعترف فإنه يحكم عليه بذلك وهذا ظاهر جداً .
قال : ]وإذا أنكر [
أي قال : ليس عندي لفلان شيء أو فلان لا يستحق على شيئاً .
قال : ]قال للمدعى : إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت [
فيقول للمدعي : إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت – ولا يجب عليه إحضار البينة بل يحضرها إن شاء .
البينه : سيأتي الكلام عليها .
قال : ]فإن احضرها سمعها وحكم بها [
فإذا أحضر المدعي البينه فان القاضي يسمعها ، ولا يعنت الشهود بالأسئلة ، وذلك لأن تعنيت الشهود بالاسئلة ذريعة إلى كتمان الشهادة وعدم القيام بها
إلا إذا ارتاب بالشهود فله أن يسأل ما يظهر به الحق من الباطل .
فإذا قال : يشهد فلان وفلان ، واتى بهم أنى أقرضت فلاناً عشرة آلاف ريال ، فحينئذ يحكم بها .
قال : ]ولا يحكم بعلمه [
فلا يحكم القاضى بعلمه –لا في حقوق الله ولا في حقوق الآدميين وهذا هو مذهب الجمهور ، لقول النبي صلىالله عليه وسلم : " وإنما أقضي على نحو ما اسمع متفق عليه ". ولم يقل على نحو ما اعلم "
فلو أن القاضي رأى رجلاً يسرق أو يقتل أو رأى فلاناً وهو يقرض فلاناً ، فليس له أن يحكم بذلك أي بعلمه ، للحديث المتقدم .(30/14)
ولأن هذا ذريعة إلى اتهام القاضي ، فيقال قد قضى بالجور ولم يقض ببينة .
ولأن هذا ذريعة إلى باب شر عظيم ، فقد يسلك هذا قضاة الجور فيحكمون بعلمهم .
والقول الثاني : وهو قول في مذهب الشافعي ورواية عن أحمد : أنه يحكم بعلمه ،
قالوا : لأن علمه بالشهود مقبول أي علمه بثقه الشهود أو تجريحهم مقبول – فكذلك هنا .
وهذا قياس مع الفارق ، وذلك لأن حكمه بعلمه ، حكم على وجه المباشرة ، وأما حكمه بثقة الشهود أو تجريحهم فليس حكماً على المباشرة وإنما حكم بالشهود لكنه يعدل الشهود فليس هذا كهذا ، فالأول حكم على المباشرة أي يحكم بعلمه مباشرة ، وأما هنا فهو بواسطة الشهود وهو يعلم أن هؤلاء الشهود ثقات فقضى بقبول شهادتهم .
(3) وقال أبو حنيفه : يقضى بعلمه في حقوق الآدميين دون حقوق الله ،لأن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة وأما حقوق الآدميين فمبنية على المشاحة .
-والصحيح هو القول الأول لقوله صلى الله عليه وسلم : (إنما أقضي على نحو ما اسمع )
لكن هنا ثلاث مسائل تستثنى ، فيجوز للقاضى أن يحكم فيها بعلمه :
المسألة الأولى : وقد تقدمت وهي أن حكمه بعلمه بتوثيق الشهود أو تجريحهم مقبول .
فإذا آتاه الشاهدان فقال :لا أقبل شهادتكما لعلمي بجرحكما فانه يقبل .
إن قبل الشهود ولم يطلب من يزكيهم لعلمه بهم ومعرفته لهم فإن هذا مقبول اتفاقاً .
المسألة الثانية : في أصح القولين وهو المشهور في المذهب :-
أنه يحكم بعلمه فيما يكون في مجلس القضاء .
فمثلاً : ادعى زيد على عمرو في مجلس القضاء – عشرة آلاف ريال ، فقال عمرو : اقر بذلك ولا أنكره ، ثم بعد ذلك أنكر عمرو ، فإن القاضي يحكم بالإقرار بناءً على إقرار الرجل في مجلسه ، ولا تحتاج إلى شهود ليشهدوا على الإقرار .
المسألة الثالثة: إذا كان الأمر مستفيضاً مشهوراً عند الناس يعلمه الخاص والعام فإن للقاضى – أن يحكم بعلمه – وذلك لزوال ما يخشى من الإتهام .(30/15)
فإذا كان الناس – مثلا – يعلمون أن هذا الموضع تبع للمسجد يعلمه كل أهل السوق ، وربما عامة أهل البلد يعلمون ذلك ، فادعى شخص أنه له ، فإن القاضي يحكم أن الأرض للمسجد بناءً على ما اشتهر واستفاض عند الناس وحينئذ لا يكون محلاً للاتهام
فإن قيل :إذا رأى القاضي رجلاً يقتل ، فماذا يفعل ؟
الجواب : يشهد عند قاضى آخر أنه قتل .
وكذلك إذا علم أن فلاناً قد أقرض فلاناً ،فإنه يشهد عند قاضى آخر بذلك .
قال : ]وإن قال المدعى :مالى بينة [
ونحو ذلك من الألفاظ ، كأن يقول : لا أعلم لى بينة أو كانت لى بينة فنسيتها ونحو ذلك .
قال : ]أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه [
فإذا ادعى رجل أن له على فلان عشرة آلاف – فقلنا هل لك بينه فقال: مالى بينة ، فيقول له القاضي : لك اليمين على خصمك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي :"ألك بينة فقال النبى صلى الله عليه وسلم :- فلك يمينه – فقال يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يتورع عن شئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ليس لك إلا ذلك ".
وتكون اليمين على صفة جوابه ، فإذا قال المدعي قد أقرضت هذا الرجل عشرة آلاف فقال المدعى عليه : ما عندي له شئ ، فيكون يمينه بأن يقول :" والله ما عندي له شئ " .
فلا يلزمه القاضي أن يقول – مثلاً – :" والله ما أقرضنى شيئاً "
بل يلزمه بالحلف على اللفظ الذي تلفظ به حال الإنكار لانه قد يكون أقرضه سابقاً ثم رده عليه.
اذن تكون يمينه على صفة جواب المدعى عليه .
فلو قال : أقرضته عشره آلاف – فقال : ما أقرضني إلا خمسه آلاف فتكون يمينه : والله ما أقرضني إلا خمسه آلاف "
قال : ]فان سأل إحلافه أحلفه وخلى سبيله [
فإذا سأل المدعي احلاف المدعى عليه وقال : أريد يمينه
فإن القاضي يحلفه ويخلى سبيله .
فيقول له القاضي : احلف ،فيقول والله ما عندي له شئ.
فإن القاضي يخلى سبيله ، وبذلك تنتهى القضية .
قال : ]ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعى [(30/16)
إذا قال المدعي : إني أقرضت فلاناً عشرة آلاف ، فقال المدعى عليه منكراً - : " والله ما أقرضني "فإن هذه اليمين لا تلغى بل لا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي وذلك لأن اليمين حق له – أي حق للمدعي – فلا تستوفى الا بطلبه .
-لكن هل المراد طلبه اللفظي ام طلبه العرفي ؟
ظاهر كلام المؤلف : ان المراد بذلك طلبه اللفظي
لكن كذلك طلبه العرفي فإذا كانت العادة ان القاضي هو الذي يسال ، وأن هذا ما أتى إلا ليثبت حقه فحينئذ : بمجرد ما يقول : ادعى على فلان بكذا ، فيقول المدعى عليه : أنكر ذلك فيقول له القاضى : احلف فيحلف ، فإن هذه اليمين يعتد بها لجريان عادة القضاة بذلك .
قال : ]وان نكل[
فالقضيه مثلاً في قرض عشره آلاف
فإذا قال المدعي : قد أقرضته عشره آلاف ، فقال المدعى عليه : لا لم يقرضنى شيئاً ، فيقول القاضى للمدعي : هل لك بينه .
فإذا قال ، لا ، فانه يقول للآخر : احلف ،أو يقول للمدعي : نحلف صاحبك فان قال : حلفوه ، فيقول له احلف ، فان حلف فذاك وتبرأ ذمته وإن قال : لا احلف فيكون حيئنذ قد نكل.
قال : ]قضى عليه [
فإذا نكل فانه يقضى عليه ، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم
:"البينه على المدعي واليمين على من أنكر "
فحصر – عليه الصلاة والسلام – البينه على المدعي، وحصر اليمين على من أنكر .
وقد حكم بالنكول عثمان على ابن عمر كما في موطأ مالك باسناد صحيح .
ويدل عليه الحديث المتقدم : "ليس لك يمينه " ففيه أنه ليس له إلا اليمين ، لكن إن نكل فكما تقدم في اثر عثمان .
(1) إذن : اذا نكل المدعى عليه فإنه يقضى عليه ، ولا ترد اليمين الى المدعي وهذا هو المشهور في المذهب .
(2) وقال بعض أهل العلم وهو قول في مذهب أحمد : بل ترد اليمين الى المدعي .
واستدلوا : بحديث رواه الدارقطني : أن النبي صلى الله عليه وسلم :"رد اليمين على صاحب الحق " لكن الحديث إسناده ضعيف.(30/17)
(3) واختار شيخ الإسلام : التفصيل في هذه المسألة فقال : إذا كان العلم في هذه القضيه في جانب المدعي وحده فإن اليمين ترد عليه وأما إذا لم يكن كذلك فلا ترد اليه اليمين .
مثال ذلك ، قال رجل لورثة ميت : قد اقترض منى والدكم عشره آلاف – وهو ميت – فهذه العشرة آلاف مستحقه في التركه ، فقلنا للورثه احلفوا على عدم علمكم فقالوا لا نحلف على هذا فامتنعوا من ذلك تورعاً وإلا فيجوز لهم ذلك فما الحكم ؟
قال شيخ الإسلام : ترد اليمين على المدعي ، فإن حلف استحق ما ادعاه .
وقال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي : ترد اليمين على المدعي متى ما رأى القاضي ذلك خصوصاً إذا كان المدعي منفرداً بالعلم وهذا قول قوى . حفاظاً على الحق ، لانه في كثير من الأحوال المدعى عليه لا يحلف حينئذ فيترتب على ذلك أضاعه الحق ، فإذا حلفنا المدعي كان في ذلك حفظا للحقوق .
إذن : أصبحت الأقوال أربعة :
القول الأول : وهو المشهور في المذهب : إنها لا ترد الى المدعي مطلقا .
القول الثاني : وهو قول في المذهب : أنها ترد مطلقاً الى المدعي.
القول الثالث : انها ترد اذا رأى القاضي ذلك .
القول الرابع : انها ترد اذا كان المدعي منفرداً بالعلم .
-والذي يظهر – ولا يتبين أن شيخ الاسلام يخالف هذا – ان متى ما كانت هناك قرائن عند القاضي تقوى أن يحلف المدعي فإن له ذلك .
فأحيانا يأتي للقاضى رجل معروف بالصدق ، وهناك شخص يدعي عليه أنه اقترض منه عشره آلاف ، فيقول القاضي للمدعى عليه أتقر بذلك فيقول : لا بل أنكره ، فيقول القاضى : احلف ، فيقول لا احلف ، لعله اقترض منى ولكنى نسيت ، فأنا لا احب أن احلف ، فإن شئت أن تقبل إنكاري وإلا فليأخذ من مالىما شاء – وعلم القاضي صدقه فانه يحلف المدعي .
قال : ]فيقول : إن حلفت وإلا قضيت عليك[ .
فإذا نكل فإنه يقضي عليه مباشرة فيقول : إما أن تحلف وإما أن نقضى عليك من غير حبس.(30/18)
خلافاً لما ذهب اليه بعض أهل العلم من الحبس ولا دليل عليه .
قال : ]فإن لم يحلف قضى عليه [.
فان لم يحلف – أي المدعى عليه – قضى عليه .
قال : ]فان حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق[.
لما ادعى زيد على عمرو أنه اقرضه عشرة آلاف ، فقال القاضي : هل تقر بذلك يا عمرو قال : لا ليس عندي له شئ ، فقال له : احلف على ذلك فحلف فإنه بذلك تنتهى القضية على هذا .
ثم من الغد أحضر المدعي بينه فكيف نعمل ؟ فقد كنا حكمنا بالأمس أن ذمة المدعى عليه بريئة وقد حلف على ذلك لكن المدعى الآن احضر بينة فإنه يحكم بها .
وظاهر كلام المؤلف سواء كان المدعي قال : لا علم لي بالبينه أو قال " كانت لى بينه فنسيتها " فقلنا للآخر احلف فحلف فحينئذ انتهت القضية ، فإذا أتانا من الغد ومعه شاهدان فإننا نقبل لأن إيتانه بالشهود في هذا اليوم لا يناقض قوله بالأمس وهذا هو المشهور في المذهب.
والصورة الثانية : أن يكون المدعي قد قال : " ليس لي بينة " ثم من الغد أو بعد زمن يأتي بالشهود ، فإن إتيانه بالشهود اليوم يناقض قوله " ليس لى بينه " فحينئذ لا تقبل .
هذا هو المشهور في المذهب : فإنها – أي البينة – إنما تقبل منه حيث كان قوله لا يناقضها كأن يقول : " لا أعلم لى بينة أو كأن لى بينه فنسيتها " ونحو ذلك .
اما إذا قال : " ليس لي بينة " ونحو ذلك فلا تقبل منه البينة بعد ذلك .
لكن قول المؤلف هنا على خلاف هذا فظاهر العموم أي سواء كان قوله : " لا اعلم لى بينة او كانت لى بينه فنسيتها " وكان قوله "ليس لي بينه " فإنه تقبل منه البينة لأنه قال قبل ذلك :" ان قال المدعي : مالى بينه " إلى أن قال إن حلف المنكر ثم احضر المدعي بينته حكم بها ".
فظاهر كلام المؤلف خلاف المشهور في المذهب وهو أحد القولين في المسأله وهو قول في المذهب وهو القول الراجح في المسألة .(30/19)
لان قوله بالامس :" لا بينة لي " هذا بناءً على ما يعتقد به لكنه قد تذكر بعد ذلك أو أتاه بعض الشهود فأخبروه فالصحيح انه يحكم له بالبينة سواء كان قال :" لا اعلم لي بينة " أو قال :" ما لى بينة ".
أما إذا قال " لا أعلم لي بينة" فهذا هو المشهور في المذهب .
واما إذا قال :" لا بينة لى " فالمشهور في المذهب خلاف ذلك لكن الصحيح خلاف المذهب .
وذلك لأن اليمين ليست مزيلة للحق لأن اليمين إنما ترفع النزاع لكنها لا تزيل الحق .
فصل
قال رحمه الله : ] ولا تصح الدعوى الا محررة معلومه المدعى به إلا ما نصححه مجهولاً كالوصيه [.
لا تصح الدعوى ولا ينظر اليها القاضي ولا يلتفت إليها إلا أن تكون محررة ، أي موضحة مبينه .
فإذا ادعى أن له على فلان طعاما فإنه يقول : لى عليه مائه صاع من الأرز الجيد، فيذكر الجنس ويذكر النوع ويذكر الوصف ويذكر القدر .
فان لم تكن موضحة كأن يقول : ادعى عليه طعاماً فإنها لا تسمع حتى يحررها وحتى يبينها ويوضحها ، وذلك لأن القاضي لا يمكنه أن يلزم المدعى عليه بالمدعى به وهو مجهول .
فلا بد وأن تكون محررة موضحة– إلا ما استثنى مما نصححه مجهولاً كالوصية .
فلو أن رجلاً أوصى لزيد بشيء فتقدم ان هذا الشيء المجهول تصح الوصية به ، وعليه فيسمع القاضى الدعوى به ، فلو قال رجل : ادعي على ورثة فلان أن مورثهم قد اوصى لي بشيء ، فإن الدعوى تسمع لأن القاضي يحكم بشيء ويكون له في الوصية أي شئ ولو كان شيئاً يسيراً.
قال : ] وعبد من عبيده مهراً ونحوه [.
فلو أمهرها عبداً من عبيده فقد تقدم أنه يصح . فكذلك إذا ادعت المرأة على زوجها فقالت ،قد أمهرني عبداً من عبيده فحينئذ يسمع القاضى هذه الدعوى وذلك لأن هذه الجهالة لا تضر ، فإذا أقر الزوج بذلك فيقضي القاضي بأن لها عبدا من عبيده .(30/20)
(ونحوه) أي سواء كان مهراً او غيره مما يصح فيه هذه الجهالة كالخلع كأن تخالعه على عبد من عبيدها او ارض من أراضيها فإن الخلع يصح على مثل هذا ويمكن فإن الدعوى يسمع وينظر اليها .
إذن : هذه المسألة في الدعوى التى تسمع من القاضي ، لا بد أن تكون محررة معلومة المدعى به وذلك لأن القاضي يلزم بذلك ولا يمكن أن يلزمه بشيء مجهول .
والقول الثاني في المسألة : أن الدعوى تسمع ، والقاضى يستفصل – وهذا أظهر لأنه إذا استفصل فإنه حينئذ – لا يلزم بمجهول .
ويدل على ذلك : حديث الحضرمي والكندي في صحيح مسلم وفيه أن الحضرمي قال : يا رسول الله : " إنه قد أخذ منى أرضا كانت لأبي : فقال الكندي : هي بيدي وأنا ازرعها "
فهنا قد قال : قد أخذ منى أرضاً كانت لأبي ، ومع ذلك فإن النبى صلي الله عليه وسلم قد سمع هذه الدعوى .
فالأظهر أن الدعوى تسمع لكن يستفصل إلا إذا علم القاضى أنها ليست محررة عنده ، كأن يكون عند القاضي من يستفصل في الدعاوي قبل عرضها على القاضى ويكون القاضي قد علم أن هذا المدعي ليس له شيى محرر فانه حينئذ لا يمكنه ان يقضي إلا أن يقال : إنه إذا اقر بها المدعى عليه فإنها تستفصل منه أي من المدعى عليه ، فإذا كانت معلومة عند المدعى او المدعي عليه فلا وجه لعدم سماعها .
-كذلك لا تسمع الدعوى –(1) في المشهور من المذهب – إن كانت على دين مؤجل لاثباته .
فإذا جاء رجل فقال :أريد أن أثبت على فلان ديناً لي عليه موجلاً الى سنة – ولم يحل الدين – فإن الدعوى لا تسمع لإثباته حتى يحل .
(2) والقول الثاني في المذهب : أن الدعوى تسمع لاثباته وهذا هو الصحيح . وذلك لأنه يخشى موت الشهود أو نسيانهم فيحتاج أن يثبت الدين الذي له وإن كان الدين موجلاً فهو لا يطالب باعطائه قبل حلوله لكنه يطالب باثباته واثبات الدين حق له .
إذن : الصحيح أنها تسمع ما دامت لاثبات مؤجل .(30/21)
قال : ] وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلا بد من ذكر شروطه [.
فاذا قال – مثلاً – ادعى ان فلانة زوجة لي – وشروط النكاح متوفرة الشرط الأول كذا والشرط الثاني كذا والشرط الثالث كذا فإن كانت المرأة ممن يشترط رضاها فإنه يذكر ذلك .
فلو قال : ادعى آن فلانة زوجة لي ولم يذكر الشروط فإن هذه الدعوى لا تقبل ولا تسمع حتى يذكر الشروط .
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب مالك وأبى حنيفة : أن الدعوى تسمع ، ولا يشترط فيها ذكر شروط النكاح ، وذلك لأن النكاح نوع – ملك – فكما لو ادعى عبداً فكذلك هنا .
والأظهر في الاستدلال أن يقال : الأصل صحة النكاح فلا يحتاج الى ذكر شروطه .
وأما المشهور في المذهب من أن ذكر الشروط لا بد منه ، فتعليلهم أن الشروط في النكاح مختلف فيها ، فقد لا يكون هذا النكاح صحيحاً عند القاضى .
-والصحيح أن ذكر الشروط عند القاضى لا يشترط لأن الأصل في الانكحة الصحة .
-وإذا قال : ادعى أن فلاناً قد باع عليّ أرضه ، وهؤلاء هم الشهود ، فيقال له : اذكر شروط البيع وذلك للعلة المتقدمة .
-والقول الثاني في المذهب أن ذلك ليس بشرط وذلك لأن الاصل صحة البيع ، وهذا هو الصحيح وأنه ليس لا بد من ذكر شروط البيع ولا غيره من العقود كالإجارة ونحوها وعلى ذلك فالصحيح في هذه المسائل كلها أن ذكر الشروط لا يحتاج اليه .
-ويقوى – بناءاً على التعليل المتقدم من أن الأصل في العقود الصحه – يقوى أن القاضى إذا ارتاب في أن هذا البيع لا يصح فإنه يسأل كما تقدم في مسأله الشهود .
قال : ] وان ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها [.
فإذا ادعت المرأه أن فلانا زوج لها ، فسئلت لماذا ادعت ذلك ؟ فقالت : أريد النفقة أو أريد مهرى أو نحوهما .
كأن تقول : أريد السكنى فهل تسمع دعواها ؟
قال المؤلف :" سمعت دعواها " لان لها حقاً(30/22)
فهذه الدعوى إذا سمعت وثبتت ، بينت لها ما يترتب على النكاح من الحقوق التى تسألها من نفقة أو سكنى أو مهر .
قال : ] فإن لم تدع سوى النكاح ولم تقبل [.
فإذا قالت : أنا لا أدعي إلا النكاح ، فلا أدعي النكاح من اجل نفقة أو من أجل مهر أو من أجل سكنى ، لكنى أدعي النكاح المجرد لم تقبل دعواها قالوا : لأن الحق في النكاح للزوج فلم تسمع دعواها في حق غيرها .
-والقول الثاني في المذهب : إن دعواها تسمع وهذا الصحيح وذلك لأن ثبوت هذه الدعوى سبب لحقوق لها ثم إن المرأة لها حق في النكاح ويترتب على هذه الدعوى حقوق لها من قسم ونفقة وسكنى ونحو ذلك وإن لم تذكرها في الدعوى لكن هذه حقوق لها ثبتت بالنكاح .
ثم إن المرأة قد تدعى هذا النكاح وهي لا تريد نفقة ولا سكنى ولا مهراً لكن تريد أن تثبت هذا النكاح ثم تطالب بالطلاق لتحل نفسها للأزواج فلا تكون معلقة بهذا النكاح الذي تعتقده .
قال : " ]وإن ادعى الإرث ذكر سببه [.
فإذا ادعى الإرث فقال : أنا وارث من فلان ، فلا بد من ذكر سببه لأن اسباب الإرث تختلف ، ويختلف الإرث بها .
لأن الإرث لا يثبت إلا بسببه من نكاح أو نسب أو ولاء .
وأما سائر الدعاوي فلا تحتاج الى ذكر سبب لكثره الأسباب
فإذا قال : لي على فلان ألف ريال فلا يشترط عليه أن يذكر سبب ذلك .
فلا نقول : هل هي قرض أم بيع أم غير ذلك . بل تسمع دعواه .
وان لم يذكر السبب .
قال : ] وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً [.
فالشهود يشترط أن يكونوا عدولاً في الظاهر وفي الباطن .
في الظاهر : بمعنى ألا تظهر عليهم ريبة فيكون الصلاح فيهم هو الظاهر .
"في الباطن" : هي أن يعلم من حاله – في باطن أمره – أنه عدل ، فإن الإنسان قد يكون في ظاهره حسن لكنه في باطنه سيئ ،يعلم ذلك من له خبره بحاله .(30/23)
ويدل على ذلك : ما ثبت في البيهقي بإسناد صحيح :" أن رجلاً شهد عند عمر رضى الله عنه ، فقال له عمر :"إني لست أعرفك ، ولا يضرك أني لا أعرفك فأتني بمن يعرفك " فقال رجل : أنا أعرفه يا أمير المؤمنين " فقال له : بأى شئ تعرفه فقال : بالعدالة ، فقال هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ "فقال لا .
فقال : عاملك بالدرهم والدينار اللذين يستدل بهما على الورع ؟ قال : لا .
فقال : فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الاخلاق؟ قال لا .
فقال : لست تعرفه ، ثم قال للرجل : ائتني بمن يعرفك)).
فهذه هي العدالة الباطنة ، يعلمها الجار الأدنى ، ويعلمها الصاحب ويعلمها الذي يعامل الناس ببيعهم وشرائهم وغير ذلك من معاملاتهم بهذا نعرف العدالة الباطنة ، وليس المراد شق القلوب فإن ذلك لا يعلمه إلا الله عز وجل .
-والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة أنه يكتفى بالعدالة الظاهرة ، لأن الأصل في المسلمين العدالة .
-والصحيح هو الأول ، للأثر المتقدم ، ولأن الأصل في المسلمين ليس العدالة – كما قرر هذا شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم .
لقوله تعالى (( وحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولاً ))
فالإنسان مركب على الظلم والجهل ، فليس صحيحاً أن الأصل في المسلمين العدالة .
فالصحيح هو القول الأول . ويدل عليه قوله تعالى (( واشهدوا ذوي عدل منكم )) فلم يقل : واشهدوا اثنين منكم " يدل على أنه لا يكتفى بالإسلام بل لا بد أن يكون من أهل العدالة .
-واختار شيخ الإسلام ابن تيميه : انه يكتفى بما يرضاه الناس ، بمعنى : أن يكون الرجل أميناً ليس معروفاً بالكذب فمن رضيه الناس فإن شهادته تصح ، لقوله تعالى ((ممن ترضون من الشهداء )).(30/24)
وقال : الآية المتقدمه ((واشهدوا ذوى عدل منكم ))هي في التحمل ، فالإنسان لا يحمّل الشهادة إلا ذوي العدالة لأن من لم يكن كذلك يخشى ألا يحمل العدالة ،لكن إن حملها وأداها فإنها تقبل منه لأن الله قال (( واشهدوا ذوي عدل منكم )) فالشهادة تحمل ذوى العدالة لكن إذا أداها من ليس بعدك لكنه مرضى عند الناس فإن الشهادة تقبل .
-وهذا القول هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به ، وذلك لأن الناس تقل فيهم العدالة جدا – أي العدالة الظاهرة والباطنة فهذا يسب الناس وهذا يغتابهم وهذا يتكلم بالنميمة وغير ذلك فيقل في الناس العداله فلا يسع الناس إلا ما ذكره شيخ الإسلام فمن كان مرضيا عند الناس يعلم أنه يحمل الشهادة وأنه يصدق فيها وإن كان ممن يقترف بعض الكبائر ويصر على بعض الصغائر فإنه متى علم أنه يؤدى الشهادة أداء صحيحا وأنه مرضي فإن شهادته تقبل . وهذا موضع ضرورة ولا يسع الناس إلا هذا .
قال : ] ومن جهلت عدالته سأل عنه [.
فإذا جهلت العدالة ، فلا يدري القاضى هل هذان الشاهدان عدلان أم لا فإنه يسال أهل الخبرة الباطنة بهم .
قال : ] وإن علم عدالته عمل بها [.
فاذا علم القاضي أن هذا عدل فإنه يعمل بذلك اتفاقا ، كما تقدم في مسألة سابقة في الدرس السابق .
قال : ] وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به [.
فإذا قال الخصم : هؤلاء الشهود ليسوا بعدول لا تصح شهادتهم .
فالحكم أن يكلف البينة به . فيقال له : أحضر من يشهد على هذا أي من يشهد على أنهما ليسا بعدلين وأنهما فاسقان ويشترط في هذا الجرح ان يكون مفسراً .
فلو أتى بشاهدين فشهدا على أن هذين الشاهدين فاسقان فلا يقبل ذلك حتى يبينا سبب الفسق ، فيقولان مثلا: يشربان الخمر ، وغير ذلك مما يجرح .
وذلك لأن الناس يختلفون اختلافاً كبيراً في أسباب الجرح فقد يجرح الجارح بما ليس بجرح ، وقد يفسق بما لا يفسق بمثله .(30/25)
ولا تقبل شهادته هو " أي شهاده الخصم " فلا تقبل شهادته على فسق الشهود لأنه متهم بذلك .
إذن : إذا جرح الخصم الشهود كلف البينه بذلك ، فيأتي بشاهدين يقولان : إن هذين الشاهدين فاسقان ، وسبب فسقهما كذا وكذا ..
أو يستدل بالإستفاضة فيقول : هذا مستفيض عند الناس ، فهم يعرفون أن هذين فاسقان ، فإذا ثبتت هذه الإستفاضة فإن الشهود يكونون مجروحين .
قال : ] وأنظر له ثلاثاً إن طلبه [.
فإذا طلب الخصم الإنظار ، فقال : أنظروني حتى أثبت انهم ليسوا بعدول فإنه ينظر ثلاثه أيام
فإن طلب أكثر من ثلاثه ايام فإنه لا ينظر إلا أن يرضى بذلك خصمه ، فاذا رضى خصمه بذلك فإنه ينظر لأن الحق للخصم .
قال : ]وللمدعي ملازمته [.
فإذا قال المدعي : انا أريد أن ألازم هذا الخصم " أي المدعى عليه " لئلا يهرب بحق ، لأن الحق قد ثبت له ، فله ذلك .
قال : ] فان لم يأت ببينة حكم عليه [.
فإذا لم يأت ببينة على جرحهم فإن القاضى يحكم عليه عملاً بالبينة .
قال : ]وان جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم [.
فإذا قال القاضي للمدعي : أنا لا أعرف عدالة هؤلاء الشهود الذين أتيت بهم ، فحينئذ يطلب من المدعي تزكيتهم فيقول – أي القاضي- للمدعي : ائت بمن يزكيهم .
قال : ]ويكفى فيها عدلان يشهدان بعدالته [.
فيكفى في التزكيه لكل شاهد ، عدلان يشهدان بعدالته
هذا هو المشهور في المذهب .
وقال شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد : بل يكفي مزك واحد وهو الراجح .
وذلك لأن التزكية خبر لا يفتقر الى شهادة ، فلم يشترط فيه أكثر من واحد كالرواية .
ولأنه خبر ديني فقبل فيه خبر الواحد
فالصحيح أنه يكفي في التزكية عدل واحد : فإذا أتى عدل واحد فقال : أزكي هذين الشاهدين جميعاً فأنا اعرفهما فإن قوله يقبل وتثبت بذلك عدالتهم .
فإن قال : لا أعلم فيهما إلا خيراً فهل يقبل ذلك؟
قولان: أظهرهما – وهو المشهور في المذهب – أنه لا يقبل .(30/26)
وذلك لأن الفاسق الذي هو فاسق في الباطن لا يعلم منه في الظاهر إلا خيراً فالجاهل بالفاسق لا يعلم منه إلا خيراً .
فلا بد أن يتلفظ بما يدل على عدالتهما الظاهره والباطنة .
قال : ]ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح [.
الترجمة : أن يكون أحد المدعيين أو كلاهما غير عربيين فالقاضي حينئذ يحتاج لمن يترجم ، فلا يكفي واحد بل لا بد من عدلين اثنين يترجمان للقاضي ، فلا يكفي آن يكون عدلا واحداً
وكذلك في التزكية كما تقدم .
والجرح : فإذا ادعى الخصم جرح الشهود فلا يكفى أن يأتي بعدل واحد يثبت جرحهم بل لا بد أن يأتى باثنين عدلين يشهدان على ذلك .
قال : ]والتعريف [.
التعريف كأن يحتاج إليه قبل ظهور البطاقات الشخصية فعندما يدعى رجل على رجل ، فان القاضى سيكتب ادعى : فلان ابن فلان على فلان ابن فلان بكذا وكذا ، فلا بد أن يعرف القاضى بالمدعي وأن يعرف بالمدعى عليه . وأن يعرف بالمدعى به وهو ما وقعت فيه الخصومة ، فلا بد أن يكون التعريف من عدلين . فيعرف المدعي عدلان – ويعرف المدعى عليه عدلان ويعرف المدعي به عدلان .
قال : ]والرساله [
فإذا أرسل القاضي الى آخ رسالة ، فلا بد أن يقول عدلان إن هذه هي رسالة القاضي اليك .
قال : ]إلا قول عدلين [
فلا يقبل في هذه المسائل إلا قول عدلين .
-واختار شيخ الاسلام انه يكفي في هذه المسائل كلها قول عدل وهو الصحيح – كما تقدم – لآن هذا خبر لا يفتقر إلى شهادة فقبل فيه خبر الواحد العدل كالرواية .
قال : ]ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق [
اذا دعى زيد على عمرو مالا ، فقلنا أين عمرو ، فقيل : عمرو غائب فى سفر تقصر فيه الصلاة .
كأن يدعى رجل في حايل على رجل في الرياض .
فإن القاضى يحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق .
فيقول القاضى للمدعي : أحضر بينتك ،فإذا أحضرها فإنه يقضي عليه .(30/27)
قالوا : لما ثبت في الصحيحين : أن هند بنت عتبة ادعت على زوجها أبي سفيان أنه لا يعطيها وولدها ما يكفيهما بالمعروف ، فقال لها النبي صلىالله وعليه وسلم : (خذى من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) قالوا : فقد قضى عليه الصلاه والسلام وهو غائب .
وهذا الاستلال فيه نظر من وجهين :
الوجه الأول / أن أبا سفيان لم يكن غائباً عن مكة بل كان فى مكة اثناء هذا القضاء ، وهم لا يقولون بالقضاء على الغائب في البلد .
الوجه الثاني : أن هذا من باب الفتوى وليس من باب القضاء بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يسألها البينة.
ولذا فذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الأمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة إلى أن الغائب لا يقضى عليه حتى يحضر .
استدلوا : بما ثبت عند أحمد وأبي داوود والنسائي والترمذي وحسنه – وهو كما قال – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى : (( اذا تقاضى اليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدرى كيف تقضى )) وهذا سواء كان الخصم في المجلس كما هو ظاهر هذا الحديث ام لم يكن كذلك لان العلة واحدة وهي أن يسمع من الثاني كما سمع من الأول ، والقاضى إذا حكم على الغائب فإنه لم يسمع من هذا الغائب وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة .
إلا أن تكون هناك ضرورة ، وتكون هناك قرائن قوية عند القاضي تقوي له إن المدعي محق فحينئذ له أن يقضى لأن الموضع موضع ضرورة فله بينة والقرائن تدل على صدق قوله .
إذن : المشهور في المذهب : أن القاضى يحكم على الغائب اذا ثبت عليه الحق .
لكن هل يحلف المدعي أم لا ؟
ادعى زيد انه اشترى من عمرو داراً ومعه بينة على ذلك
فقيل له: اين خصمك فقال : في الرياض
فاذا قضى القاضي بالبينة على الخصم ، فهل يسأل المدعي اليمين ام لا ؟ أي هل يحلفّ زيداً أو لا ؟
قولان لاهل العلم :-(30/28)
القول الأول : وهو المشهور في المذهب : أنه لا يحلفه لأن البينة على المدعي وهذا هو المدعي فعليه البينة وليس في ذلك ذكر اليمين .
والقول الثاني في المذهب وهو مذهب الشافعية : انه يحلفه وذلك احتياطاً لحق الغائب وذلك لأنه يحتمل أن يكون قد طرأ بعد البينة ما يجعل الحق للغائب ، كأن يبيعه هذه الدار في أول السنة ثم يشتريها منه في آخر السنه ، فالذى في البلدة يحضر شهوداً يشهدون أنه قد باعه هذه الدار وهم صادقون في شهادتهم وقد باعها إياه ، لكنه بعد ذلك باعها إلى من اشتراها منه .
آو أن يكون قد اقرضه ثم أرجع اليه ماله والشهود هؤلاء قد شهدوا على القرض الأول وللغائب شهود يشهدون على انه أعاد المال فاحتياطاً لحق الغائب فإن القاضى يحلفه .
ثم هل يطالب القاضي بكفيل للمدعي ، لانه قد يكون الحق مع الغائب ، فإذا رجع وأتى القاضي وقال : هذه بينتي التى تدل على أن الحق لى ، وثبت للقاضى أن له الحق ، فقد يكون المال قد ضاع ، فهل نضع كفيلاً او رهناً او نحو ذلك ؟
قولان لاهل العلم
المشهور في المذهب أنه لا يوضع الكفيل .
والقول الثاني : قال صاحب الأنصاف : " وما هو ببيعيد " انه يوضع الكفيل – هذا هو الأظهر احتياطاً لحق الغائب .
-هذا كله على القول بجواز القضاء على الغائب وهو المشهور في المذهب .
وأيضا على القول الذي ترجح من أن له أن يقضى إذا كانت هناك قرينة فكذلك يحتاط لحق الغائب باليمين وبالكفيل .
قال : ] وإن ادعى على حاضر في البلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة [.
إذا قال :أدعي على عمرو وهذه بينتى ، قيل له : أين عمرو ، قال : عمرو في البلد فهنا لا يسمع القاضي الدعوى ولا يحكم له ببينته حتى يحضر الخصم في مجلس القاضى .
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم :-(30/29)
لكن إن كان مختفياً أو امتنع من الإتيان لمجلس القاضي فإنه يحكم عليه . فإنه إن كان مختفياً فهو كالمسافر ، ثم إن اختفاءه قرينة قوية على أنه لا حق له .
وإذا امتنع من حضور مجلس القاضي فالقاضي يحكم للعذر .
إذن : إذا كان في البلد فلا بد من إحضاره مجلس القاضي ، ولا يحكم القاضي بالبينة حتى يحضر الخصم الى المجلس .
لكن إن امتنع من الحضور أو اختفى فان له حينئذ أن يحكم .
استدراك :
اذا ادعت الزوجة أن هذا زوج لها وأنكر ذلك وأتت ببينة تدل على أنه زوج لها ، فهل يمكن منها في الظاهر ؟
قولان لأهل العلم وهما قولان في المذهب :-
(1)القول الأول : انه يمكن منها في الظاهر لأن الحاكم قد حكم بأنها زوجة له ، وعليه فيمكن منها في الظاهر .
القول الثاني : انه لا يمكن منها في الظاهر ، وذلك لأنه ينكر أن تكون زوجة له ، فهو لا يقر بهذه الزوجية .
وهذا هو الصحيح ، لأنه مقر على نفسه أنه لا حق له في هذه المرأة فيعامل بإقراره في حقه .
واما المرأه فيثبت لها ما يترتب على ذلك حتى يفارقها .
-وأما على القول بأنه يمكن منها في الظاهر فهل تحل له في الباطن أم لا ؟
قولان لأهل العلم
القول الأول
الجواب : فيه تفصيل :
فإن اعتقد أنها بائنة منه وأنها ليست بزوجة له فهنا لا تحل له في الباطن لأن حكم القاضى لا يحل حراماً.
وأما إن اعتقد أنها زوجه له فإنها تحل له في الباطن .
الدرس الثامن عشر بعد الأربعمئة
( يوم الجمعة : 23 / 4 / 1417 )
باب كتاب القاضي إلى القاضي(1)
قال رحمه الله : ] يقبل كتاب القاضي الى القاضي [.
إجماعاً : لأن الحاجة تدعو إليه
فإذا كتب القاضي الى قاض آخر في قضية لينفذها القاضي الآخر أو في قضية ليحكم فيها الآخر .
__________
(1) روجع وطبق على الأصل ، أي باب كتاب القاضي إلى القاضي .(30/30)
فيأتي المدعي والمدعى عليه الى القاضي ويدلي المدعي ببينته ، ويتم لقاضي القضية ثم يحكم فيها ثم يكتب إلى قاض آخر في بلد أخرى أو في البلد نفسها – يكتب اليه بحكمه ، فيقول : حكمت على فلان بأن لفلان عليه مئة ألف فنفِّذ هذا القضاء .
أو ادعى فلان على فلان أنه قد قذفه وأتى ببينة تدل على ذلك ،فحكمتُ بجلده ثمانين جلده فنفِّذ ذلك .
أو أن يكتب القضية ولا يحكم فيها فيكتب : شهد عندي فلان وفلان على أن فلانا قد أقرض فلاناً كذا ، أو يقول : ثبت عندي أن فلاناً قد أقرض فلاناً كذا ويكتب البينة .
ففى الصورة الأولى : أرسل اليه بالحكم لينفذه .
وأما في الصورة الثانية : فانه لم يحكم سواء عبر بقوله : " شهد عندي فلان وفلان " ، أو بقوله :" ثبت عندي أن لفلان على فلان " ولا يقال : إن قوله : " ثبت عندي " حكمٌ ؛ للفرق بين الحكم والثبوت ، فإن الحكم فيه أمر ونهي يقتضي الإلزام ، وأما الثبوت فليس كذلك .
ومثل هذه المسألة يحتاج إليها ، فقد يكون القاضي في هذا البلد ضعيفا لا يستطيع أن ينفذ الحكم فيكتب بالقضية لتنفذ من قاضي أقوى منه .
أو أن يكون المدعى عليه له بالقاضي صلة قوية ، فيخشى إن نفذ الحكم أو حكم أن يترتب على ذلك قطيعة رحم فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر للمصلحة .
فالحاجة تدعو الى كتاب القاضي الى القاضي ومن ثم فقد أجمع أهل العلم على صحة كتاب القاضي الى القاضي .
قال : ]في كل حق حتى القذف لا في حدود الله كحد الزنا ونحوه [
فالقضايا التى تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي : هي كل حق - أي من حقوق الآدمي – حتى القذف .
فكل ما كان من حقوق الآدميين فإن القاضي له أن يكتب بالقضية إلى القاضي الآخر وهذا بالاتفاق .
واستثنى المؤلف حدود الله كحد الزنا ونحوه ، فلا تقبل فيها كتابة القاضي إلى القاضي ، فلا يحل أن يكتب القاضي : قد شهد عندي أربعة شهود على أن فلانا قد زنا .(30/31)
قالوا : لأنها من حدود الله وحدود الله ينبغي فيها الستر ؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ،وكتابة القاضي إلى القاضي فيها شبهة ، هذا هو المشهور في المذهب .
وهذا القول ضعيف .
- ولذا فقد اختار شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية وحكي رواية عن الإمام أحمد : أن كتابة القاضي في الحدود مقبولة .
وذلك لأنه لا فرق بين المسألتين .
وما ذكروه فهو ضعيف
أما قولهم : إن حدود الله يجب فيها الستر .
فالجواب : أنه قد فضح نفسه بإتيانه ما حرمه الله عليه .
ولأنه قد يكون في الإظهار مصلحة ، وقد قال تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين }
ثم إن مصلحة كتابه القاضي إلى القاضي أعظم من هذه المصلحة .
وأما قولهم : إن الحدود تدرأ بالشبهات ؟
فالجواب : أن هذه شبهة ضعيفة ، أشبه ما تكون بشبهة كذب الشهود ، فإن الشهود يحتمل فيهم الكذب ، ومع ذلك فإذا شهد شاهدان أن فلانا قد قتل فلانا عمداً فإن القتل يثبت مع أن الكذب محتمل .
فليس كل شبهة ينظر إليها ، بل لا بد أن تكون الشبهة قوية يدرأ بها الحد – كما تقدم في كتاب الحدود .
إذن : الصحيح أن حدود الله كذلك أي يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي .
قال : ]ويقبل فيما حكم به لينفذه [.
هذه الصورة الأولى : وهي أن يكتب القاضي إلى قاضٍ آخر بالحكم كأن يكتب له : " قد حكمت على فلان بأن يجلد مئة جلدة لأنه قد ثبت عليه الزنا " فهنا يقبل هذا الكتاب ويجب على القاضي أن ينفذه ، وذلك لأن حكم القاضي لازم فيجب تنفيذه .
قال : ]وإن كان في بلد واحد [
كأن يكتب قاضٍ في المحكمة إلى قاضٍ آخر في المحكمة نفسها أو في محكمة أخرى في البلد ، أو أن يكتب بعض القضاة إلى رئيس القضاة لينفذ ونحو ذلك – ولو كانا في بلد واحد ؛ لوجوب تنفيذ حكم القاضي .
قال : ]ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر[
هذه الصورة الثانية : وهي أن يكتب إلى قاضٍ آخر فيما ثبت عنده ليحكم به .(30/32)
فلا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بينهما مسافة قصر ، وأما إن كانا في بلد واحدة فلا يقبل هذا الكتاب هذا هو المشهور في المذهب .
ولم أرَ دليلاً يصار إليه في هذه المسألة .
-والقول الثاني في المسألة ، وهو اختيار شيخ الإسلام : أنه يقبل ، وهو أظهر لأن الحاجة داعيه إليه .
فقد ثبتت عنده القضية ولا يحكم بها لمصلحة من المصالح أو لدفع مفسدة من المفاسد فيرسل بالقضية إلى قاضٍ آخر ليحكم فيها فلا مانع من صحة هذا الكتاب وقبوله .
فالذي يترجح : أن الكتاب إلى قاضٍ آخر ليحكم يقبل سواء كان بينهما مسافة قصر أم لم يكن بينهما مسافة قصر .
قال : ]ويجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين ، وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين [.
اتفاقاً
فيجوز أن يكتب إلى قاضٍ معين كأن يقول :" من القاضي إلى القاضي فلان " فهنا قد كتب إلى قاضٍ معين .
ويجوز أن يكتب إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين .
كأن يكتب :" إلى كل من يصله كتابي هذا من قضاة المسلمين " فهو جائز ، فيجوز على التعيين ، ويجوز على التعميم .
قال : ]ولا يقبل إلا أن يُشهد به القاضي ، الكاتبُ شاهدين فيقرأه عليهما ثم يقول : اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما [.
فإذا كتب القاضي القضية سواء كان فيها حكم أم لم يكن فيها حكم فإنه يأتي بشاهدين ويقرأ عليهما الكتاب .
ويقول : "هذا كتابي فادفعاه إلى القاضي فلان "
فلا يقبل إلا أن يشهد عليه القاضى شاهدين عدلين ويقرأه عليهما ثم يقول : اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان ابن فلان ثم يدفعه إليهما – هذه هو المشهور في المذهب .
- والقول الثاني في المسألة ، وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد : أنه لا يشترط أن يقرأ عليهما الكتاب بل يكفى أن يقول : هذا كتابي إلى القاضي فلان ، فادفعاه إليه .(30/33)
قالوا : لأنهما يشهدان أن هذا كتاب القاضي إليه ، وهذا كاف فإن المقصود هو الشهادة على أن هذا الكتاب هو كتاب القاضي الأول إلى القاضي الثاني وإن لم يقرأ عليهما مع ما في القراءة من ظهور شىء من الأسرار ونحو ذلك ، وهذا القول أصح .
3- والقول الثالث ، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم : أنه يصح ولو لم يشهد عليه ما دام أن المكتوب عليه عرف أن هذا هو كتاب القاضي الأول إليه .
فإذا أتاه من حائل أو من الرياض كتاباً من القاضي فلان وهذا هو خطه وعليه ختمه فإنه يقبل ذلك ، وذلك لأن المقصود هو العلم أو غلبة الظن أن هذا هو كتاب القاضي إليه وقد حصل ذلك .
قال ابن القيم : " وهذا هو عمل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال من عهد النبى صلى الله عليه وسلم إلى الآن "ا.هـ أي أنهم يعتمدون على كتب بعضهم لبعض .
وهذا هو الراجح في هذه المسألة .
وهذه القضية لا يحتاج إليها في عصرنا هذا ، لأنه قد وجدت طرق أخرى لإرسال الرسائل .
باب القسمه
القسمة : هي جعل الشيء أقساماً
والقسم : هو النصيب
قال : ]لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض إلا برضاء الشركاء [.
إذا كان بين شريكين مال كأرض ونحو . فلا يجوز قسمتها إن كانت لا تنقسم إلا بضرر أو رد عوض ، فلا يجوز قسمتها إلا برضا الشركاء .
وما هو الضرر ؟
فيه روايتان عن الأمام أحمد
(1)الرواية الأولى : وهي المشهورة عند المتأخرين : أن الضرر هو نقصان القيمة بعد القسم في كل نصيب أو في نصيب أحدهما .
والرواية الثانية : وهو القياس على قول الموفق وهو قول الخرقى : أن الضرر هو ألا يمكن الإنتفاع فيها بعد القسم .(30/34)
-صورة هذا : إذا كان الاثنان يشتركان في أرض مساحتها مائتان متر ، لاحدهما الخمس ، وأربعه أخماسها للآخر ، فإذا قسماها فإن نصيب صاحب الخمس يكون أربعين مترا والأرض ليست في موقع تجارى فهذه الأربعين مترا لا يمكن الانتفاع بها بعد ذلك فحينئذ : لا تجوز القسمة إلا برضا الشريكين وذلك لوجود الضرر وهو أنه لا يتمكن من الانتفاع بها بعد ذلك .
ومثال نقصان القيمة : إذا كانت الأرض تساوي مائة ألف ، ومساحتها خمسمائه متراً ، ولأحدهما الخمسمائة والآخر له ثلاثة أخماس ، فإذا قسمناها صار للأول مائتا متر ، وللآخر ثلاثمائه متر .
وقد كانت الأرض بكاملها تساوى مائه ألف ، ونصيب صاحب الخمسين منها أربعون الفاً والآخر نصيبه ستون الفاً وبعد القسم أصبحت المائتا متر لا تساوي إلا ثلاثين الفاً . فقد تضرر بذلك لنقصان القيمة .
وهذا – فيما يظهر – أقوى وذلك لثبوت الضرر لأن هذا نوع ضرر .
إذن : لا تجوز قسمة الأملاك التى لا تنقسم إلا بضرر والضرر في المشهور – هو أن تنقص قيمة قسم أحدهما بعد القسمة .
(أو رد عوض) : أي لا يمكننا أن نقسم حتى نقول لأحدهما : أعط الآخر خمسة آلاف أو عشره آلاف لتكون القسمة عادلة فلا يلزم أحدهما بالقسمة بلا رضا ، بل لا بد من الرضا .
وهذا هو النوع الأول من القسمة وهو : قسمه التراضى .
فمتى ما كان في القسمة ضرر أو رد عوض فلا تجوز القسمة إلا بالرضا .
وتكون القسمة هنا من البيع ، لأنه لما ثبت رد العوض كان ذلك بيعاً – هذا هو المشهور في المذهب ، وعليه فيشترط فيها الرضا وفيها خيار المجلس لأنها بيع .
قال : ]كالدور الصغار [.
فمثلاً : يملكان شقة فيها ثلاث غرف ولها حمام واحد ومطبخ واحد فلا تمكن القسمة من غير ضرر ورد عوض .
قال : ]والحمام والطاحون الصغيرين [.
(الحمام ) : فإذا كان لكل منهما غرفة والحمام مشترك بينهما فأردنا قسمته فإذا هو متر في نصف متر فلا يمكن أن يقسم من غير ضرر ، فإنه لا يجوز إلا بالرضا .(30/35)
" الرحى
(والطاحون) هو ما يسمى عندنا في السابق بـ " وله دار خاصة به ، فإذا كانت هذه الدار صغيرة والرحى كذلك فلا تمكن القسمة إلا برضا الشريكين ، لأنه إما أن يكون هناك ضرر أو رد عوض .
قال : ]والأرض التى لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة ، كبناء أو بئر في بعضها [.
كأن تكون الأرض مساحتها خمسمائة متر وفيها شئ من الحجارة من الجبال الثابتة أو فيها بعض البناء أو فيها بئر ، ولا يمكن ان تتعدد بالأجزاء وكان لكل واحد منهما النصف ، فلو أعطينا كل واحد مائتين وخمسين متراً لكن في قسم أحدهما بئر والآخر ليس في قسمته بئر ، وفي قسمة أحدهما جبل والآخر ليس فيه ذلك ، فليست قسمة عادلة فلا يمكننا أن نعدل بينهما بالأجزاء .
-وهل يمكننا أن نعدل بينهما بالقسمة ؟ بأن نقول لأحدهما خذ مائتى متر ليس فيها جبل ، ونقول للآخر خذ ثلاثمائة متر فيها هذه القطعة من الجبل ، ووجدنا أن المائتين متر هنا تساوي الثلاثمائه متر هناك فهذه قسمة عادلة .
لكن إذا لم يمكننا القسمة لا بالأجزاء ولا بالقسمة فلا تكون القسمة مقبولة بغير الرضا ، بل لا بد من رضاهما .
قال : ]فهذه القسمة في حكم البيع ولا يجبر من امتنع من قسمتها [.
لأنها في حكم البيع ويشترط في البيع التراضي
ولقوله صلى الله عليه وسلم - حيث كان ضرراً - : " لا ضرر ولا ضرار "
فإن قال أحدهما : ما دامت الأرض لا يمكننا أن نقسهما بيننا ، ولا يرضى أحدنا بالنصيب الأقل ، فأطلب أن تباع الأرض وآخذ نصيبي من القسمة ، فهل يلزم الآخر بذلك أم لا ؟
الجواب : أن الآخر يلزم بذلك ، لدفع ضرر الشراكة فإن أبى أن يبيع فإن الحاكم يجبره .
قال : ]وأما مالا ضرر ولا رد عوض في قسمته [.
هذه قسمة الإجبار – فلا يشترط الرضا فيها لأنه لا ضرر ولا رد عوض في قسمته .
قال : ]كالقرية والبستان[.
فلو كانت هناك قرية بين اثنين فاقتسماها فهذا صحيح
قال : ]والدار الكبيرة [.(30/36)
كأن تكون الدار فيها عشرة غرف وفيها مجلسان وفيها مطبخان وحمامان ، فقسمت بينهما فهذا صحيح .
والدار الكبيرة : أي التى يمكن أن تقسم قسمة عادلة .
قال : ]والأرض [.
كأن تكون لهما أرض مساحتها ألف متر ، فيأخذ كل واحد خمسمائة متر . فهذا جائز .
قال : ]والدكاكين الواسعة [.
كأن يكون لهما في السوق دكان مساحته عشرة أمتار في خمسة أمتار ، فيقول : خمسة في خمسة لي ، وخمسة في خمسة لك ونضع بينهما جداراً فهذا جائز ويكون في هذا القسمة إجبار.
قال : ]والمكيل والموزون من جنس واحد كالأدهان والألبان ونحوها[.
كالأرز ونحو ذلك ، فهذه مكيلة أو موزونة ، تمكن قسمتها قسمة عادلة ولا ضرر ولا رد عوض .
قال : ]إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها [. .
أي على القسمة لأنه لا ضرر ولا رد عوض وهي مشتركة بينهما .
قال : ]وهذه القسمة إفراز لا بيع [.
فهذه القسمه ليست بيعاً وإنما هي إفراز ، أي تمييز حق كل ذي حق بينهما ، ففيها تمييز حق كل واحد منهما عن الآخر ، وعليه فلا يشترط فيها الرضا – كما تقدم – ولذا كانت إجباراً ، وإذا قسمت بينهما فلا يثبت خيار لأنها ليست بيعاً وإنما هي إفراز .
قال : ]ويجوز للشركاء في قسمة الإجبار - أن يتقاسموا بأنفسهم أو بقاسم ينصبونه او يسألوا الحاكم نصبه [ .
لان الحق لهم ، ويشترط أن يكون القاسم عالماً بالقسمة ليوصل الحقوق إلى أهلها .
قال : ]وأجرته على قدر الأملاك [
فأجرة هذا القاسم تكون على الشركاء بقدر أملاكهم ، لأنها مؤنة ملك فكانت بقدره ، كما لو كان هناك عبد مشترك بينهما فنفقته بقدر الأملاك .
لكن إن كان بينهما شرط ، كأن يقول صاحب القسمة الأكبر لصاحب القسمة الأقل أشترط أن تكون الأجرة بينى وبينك بالسوية ، فرضي بذلك ، فالذي يظهر صحة الشرط لأن المؤمنين على شروطهم – وهو قول في المذهب قال صاحب الكافى :" وهو على ما شرطاه "(30/37)
إذن : إذا كان بينهما شرط فهو على ما شرطاه ، وإن لم يكن هناك شرط فيكون بقدر الأملاك.
قال : ]فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة [
فإذا اقتسموا بأنفسهم – في قسمة الإجبار – أو بقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه – فإذا اقتسموا على ذلك لزمت القسمة ، وذلك لان القسمة قسمة إجبار ورضاهما لم يكن معتبراً في الأصل فكذلك لم يعتبر في الأثناء.
-إذا كانا قد نصبا حاكماً عالماً بالقسمة فكما لو حكما بينهما قاضياً فيلزمهما كذلك.
إذا كانا قد قسما بينهما القسمة من غير قاسم : فإذا كانا تراضيا على ذلك فكذلك أي تلزم القسمة لأنهما قد تراضيا على ذلك .
وأما إذا لم يتراضيا فلا ، لأنه يقول أحدهما :القسمة جائزة أو نحو ذلك فلا يلزمه الرضا .
قال : ]وكيف اقترعوا جاز[
بأي كيفية اقترعوا جاز ذلك سواء كان بالحصى أو بالرقاع وغير ذلك من طرق القرعة
فإذا لم يرض كل واحد فيهما بهذا النصيب فوضعوا القرعة بينهما فخرجت لأحدهما فيلزم الآخر الرضى بأي طريقه من طرق القرعة .
-لا شك أنه ليس المراد أن يكون أحدهما غانماً أو غارماً بل المقصود أنهما اجتهداً في التسوية ، ومن أجل أنهما قد يختلفان في اختيار النصيب وضعت القرعة بينهما.
أما إذا كان أحدهما غانماً والآخر غارماً فلا يجوز ذلك .
والحمدالله رب العالمين
باب : الدعاوى والبينات
الدعاوى : بفتح الواو وكسرها جمع دعوى وهي في اللغه : الطلب قال تعالى : ولهم فيها ما يدعون "
وأما في الإصطلاح : فهي إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شئ في يد غيره او ذمته .
كان يقول : مثلاً : هذه الدار لي والدار بيد رجل آخر فهي دعوى ,
او يقول : في ذمته لي عشرة آلاف ، فهي دعوى .
-أما البينات فهي جمع بينه وهي ما اظهر الحق وأبانه
كالشاهد : فالشاهد يظهر الحق ويبينه .
قال رحمه الله : ] المدعي : من إذا سكت ترك والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك [
يعنى مع المطالبة .(30/38)
فإذا ادعى زيد على عمرو أن في ذمته له عشرة آلاف ، ثم سكت زيد عن الدعوى فإنه يترك لأن الحق له .
واما المدعى عليه وهو عمرو في هذا المثال ، فإذا سكت فانه لا يترك .
وقيل غير ذلك
وتعريفهما ظاهر : فالمدعي : هو الطالب ، والمدعى عليه هو المطالب وفيه تعريفات أخرى.
قال : [ولا تصح الدعوى والإنكار الا من جائز التصرف ]
جائز التصرف : هو الحر المكلف الرشيد ، وقد تقدم ذلك في كتاب البيع .
فاذا ادعى ابن سبع سنين او ادعى السفيه غير الرشيد او ادعى العبد – فلا تسمع دعواه أي في المال .
وكذلك إنكاره لا يسمع ، فإذا ادعى عليه – أي على غير جائز التصرف – فأنكر فكما لو لم ينكر ، فلا يسمع إنكاره في المال ، وغير جائز التصرف لا قول له في المال ، والدعوى والإنكار قول في المال .
قال : [وإذا تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه ]
إذا كان عمرو عنده أرض يزرعها فادعى زيد أن هذه الارض له ، فنقول : هي لمن بيده وهو عمرو ، مع يمينه .
ولو أن رجلاً راكب راحلة فادعى رجل أن هذه الراحلة له ، فهي لراكب الراحلة مع يمينه .
ودليله : ما ثبت في الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعّى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) يعنى المطالَب.
وفي البيهقى : " البينه على المدعي واليمين على من أنكر " وفيه ضعف
واجمع أهل العلم على ذلك أي على أن البينّة على المدعي واليمين على من أنكر .
قال : [إلا أن تكون له بينه فلا يُحلّف ]
فإذا قال المدعى : هذه بينتى وأحضر من يشهد له ، فإنه يحكم بها ولا يحلف أي المدعي .
وإنما حكمنا بها في المسألة السابقة لمن هي بيده لشاهد الحال ، فإن الحال يشهد أنها له :
لكن لو كان الحال يشهد أنها ليست له ، فحينئذ نحكم لمن يشهد له الحال .(30/39)
فمثال ذلك : إذا وجدنا رجلاً معه عمامة بيده وآخر قد حسر رأسه في الشارع فتحاكما إلينا ، وأحدهما على رأسه عمامة وفي يده عمامة ، والآخر حاسر الرأس ، وكلاهما معروف أنه لا يخرج على هذه الصفه ، فإننا نحكم بالعمامة لمن كان حاسر الرأس ، وإن كانت العمامة ليست بيده لشاهد الحال ونقول له – أي لحاسر الرأس – احلف أنها لك .
والأصل أن من في يده المدعى به أنه لهٍ الا أن يعارض ذلك قرينة ظاهرة , وذلك لأن اليمين من جانب أقوى المدعيين ، ففى المثال المتقدم / من ليس المدعى به "وهي العمامه " في يده جانبه أقوى فعليه اليمين .
ومثال آخر :-
لو أن رجلاً طلق امرأة ، وادعى شيئاً مما يختص بالنساء ادعى أنه له فإنه يحكم به للمرأة مع يمينها .
والعكس بالعكس ، فلو كانت الدعوى سّيارة فادعت المرأة إنها لها –وطبعاً يوجد الآن في هذا الوقت الإستمارات التى يكتب فيها اسم مالك السيارة- ، لكن لنفرض أن هذا ليس بموجود – فإننا نحكم بها للرجل مع يمينه إلا أن تأتى المرأة ببينة .
قال : [وإن أقام كل واحد منهما بينة أنها له ]
كأن تكون هناك أرض يزرعها زيد ، فادعي عمرو أنها له وأحضر بينّة ، وأحضر زيد بينة أيضاً ، فتعارض عندنا البينات فلمن نحكم ؟
قال : [ قضى للخارج ببينته ولغت بينة الداخل ]
ففى المثال المتقدم نحكم بها لعمرو لأنه هو الخارج ، ولغت بينة زيد وهو الداخل .
فإذن : يقضى بها للخارج وهو المدعي الذي ليس المدعى به في يده ، وأما الداخل فهو من كان المدعى به في يده ، فإن بينته تلغى .
قالوا : لان البينة في جنب المدعي، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر ، فالبينة إنما تسمع من المدعي ، وعلى ذلك فوجودها من المدعى عليه – كعدمها .
قالوا : ولأن معه – أي مع الخارج – زيادة علم لأنه ناقل عن الأصل فالخارج هو الناقل عن الأصل – لأن الأصل إنها لمن هي بيده .(30/40)
وقال الجمهور وهو اختيار الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم : أنه يقضى فيها للداخل .
قالوا : لشاهد الحال ، فإن شاهد الحال يدل على أنها للداخل ، والبينات تعارضتا فتساقطتا ، فكما لو لم يكن لهما بينة وعليه فيحكم لمن هي بيده .
قالوا : وأما كون البينة في جنب المدعي في الأدلة الشرعية فلأن الأصل ألا يكون في القضايا إلا بينّة واحدة ،ولقوة جانب المدعى عليه اكتفينا بيمينه ولم نقبل من الآخر دعواه فيحكم بها إلا ببينة ، فاشترطنا عليه البينة وحففنا مع الآخر فقبلنا منه اليمين ، فجانبه أقوى ، واما المدعي فلما كان جانبه أضعف اشترطنا البينّه .
قالوا : وأما ما ذكرتموه من أن في دعوى المدعي زيادة علم فهذا معارض بالأصل، فإن الأصل أنها لمن هى في يده ، وهذا أقوى من هذا النقل .
إذن : الصحيح أن البينتين إذا تعارضتا وكان المدعى به تحت يد أحد الطرفين فإنا نحكم له مع يمينه ؟ كما هو مذهب الجمهور .
فإذا كان المدعىّ به تحت يديهما جميعاً :
كأن يأتي اثنان إلى قاضى براحلة كل واحد منهما قد أخذ بزمام الراحلة فهنا لا ترجيح.
فلو كان أحدهما أقوى كأن يكون أحدهما راكبا للراجله والآخر أخذ بزمامها فإنا نرجح الراكب لان يده أقوى . أما هنا فان كليهما اخذ بزمام الراجله ، فاليدان مشتركتان لا مزية لأحداهما على الأخرى فما الحكم ؟
الجواب : إن كان لا بينة لأحدهما فإننا نحلفهما جميعاً . ونجعلها بينهما نصفين .
وإن كان لكل واحد فيهما بينة فكذلك أي نقول : احلفا وتناصفا .
والقول الثاني في المسألة : إننا لا نحلفهما – أي حيث أدلى كل واحد منهما ببينة – لأن بينة كل واحد منهما تثبت النصف فلا نحتاج إلى اليمين . وهو قول الأكثر .
-وعن الإمام أحمد في المسالتين كلتيهما – أي حيث لم يأتيا ببينة – أو أتى كل واحد منهما ببينة– أننا نقرع بينهما فمن خرجت القرعة له فإنه يحلف فيكون جانبه أقوى .(30/41)
فعلى هذا القول : نقوى جانب أحدهما بالقرعة .
فهذا له بينة وهذا له بينه قد تعارضتا فتساقطتا .
وهذا الدابة تحت يده وهذا الدابة تحت يده فليس أحدهما مرجحاً على الآخر ، وكذلك إذا كانت الدابة ليست عند أحد منهما بل هي عند شخص آخر فكذلك – إذن جانب كل واحد منهما يساوي جانب الآخر فحينئذ يقرع بينهما فمن خرجت القرعة له كان جانبه أقوى فحينئذ نقول له احلف وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة .
ويدل عليه ما ثبت في سنن أبي داوود – والحديث صحيح : أن رجلين تداعيا عيناّ وليس لأحدهما بينة فأمرهما النبى صلى الله عليه وسلم " أن يستهما على اليمين أحبّا أو كَرها " .
فهذان الرجلان اختصما في عين وليس لأحدهما بينة كما أن العين ليست تحت يد أحدهما بدليل قصه الحضرمي والكندي فإن النبي صلى الله عليه وسلم " جعل البينة على الحضرمي لما كانت الأرض بيد الكندي يزرعها أما هنا فليس المدعى به تحت يد أحدهما ، فلما كان الآخر كذلك رُجّحَ جانب من خرجت القرعة له .
وفي سنن البيهقى ومراسيل أبي داوود بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب : أن رجلين اختصما إلى النبى صلى الله عليه وسلم في شىء فجاء كل واحد منهما بشهود على عدة الآخر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقترعا وقال : "إن الله يقضي بينكما "
وله شاهد مرسل عن سليمان بن يسار ومراسيل سعيد بن المسيب صحيحه عند أهل العلم ففي هذا الحديث انه قد جاء كل واحد منهما بشهود عدول بعدد شهود الآخر فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرعة وقال : " والله يقضى بينكما " وهو استهام على اليمين كما في الحديث الأول . فليس فيه إلا تقوية جانب أحدهما .(30/42)
-إذن الصحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد في رواية عنه وأنهما إن كانت العين تحت يديهما وليس لأحد منهما بينة أو لكل واحد منهما بينة أو كان الأمر كذلك لكن العين بقيت تحت يد أحد منهم فأنا – حينئذ – نقرع بينهما ومن خرجت له القرعه نقول له : احلف فإن حلف فانه يأخذ العين .
-إذن : عندنا حالات :
الحالة الأولى : إذا ادعى رجل على آخر أن هذه العين التى تحت يده له ولا بينة له فإنا نحكم بالعين لمن هي في يده ونقول له : احلف كما في حديث الحضرمي والكندي وهو ثابت في صحيح مسلم .
الحالة الثانية : أن تكون العين ليست تحت يد أحد منهما أو تحت يديهما جميعاً ، ولا بينة لأحدهما على الآخر أو لكل واحد منهما بينه فحينئذ نقرع بينهما ومن خرجت القرعه له فإنه يحلف – هذا في اصح أقوال أهل العلم.
-وفي تعارض البينتين مسألتان :
(1) المسألة الأولى :
هل يرجح بين البينتين أو لا؟
فإذا كانت إحدى البينتين شهودها أكثر أو أشهر فهل يرجح أم لا ؟
أ - مذهب الجهور : أنا لا نرجح إحداهما على الأخرى ، لأن كل منهما بينة فهي حجة .
فلو جاء أحدهما بمائه شاهد ، وجاء الآخر بشاهدين فإن البينتين متعارضتان لا ترجح إحداهما على الأخرى .
وكذلك لو أتى أحدهما بشهود مشهورين بالعدالة وأتى الآخر بشهود عدول لكنهم ليسوا على درجة الشهود الأول فإنا لا نرجح .
ب- والقول الثاني : وهو مذهب مالك وهو قول مخرّج في مذهب أحمد : أنا نحكم بالبينة التى هي أرجح .
وهذا أظهر كأدلة الشرع ، فان أدلة الشرع كل دليل بمفرده حجة لكن لما تعارضت الأدلة وأمكننا الترجيح فإننا نرجح ، فكذلك البينات هنا .
ولأن من معه بينة أقوى فان جانبه أقوى ، واليمن في جانب أقوى المدعيين .
إذن : الراجح أن البينات إذا تعارضت فإنه يقدم الأرجح .(30/43)
ولا شك أن هذا القول قوي حيث كان الرجحان ظاهراً أما أن يدخل في ذلك شئ من التلاعب بالترجيح الخفي فليس هذا هو المراد لكن المراد ان يكون الترجيح ظاهراً بيناً حتى لا يتهّم القاضي .
ويقوىَّ هذا القول ما تقدم في حديث سعيد بن المسيب فإن فيه ((وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدّة الآخر)) : أي على عدد شهود الآخر .
المسألة الثانية :
المشهور في المذهب : أن البينة المتقدمة مقدمة على البينة المتأخرة .
فإذا كان لأحدهما شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنتين وهذا له شاهدان يشهدان أن الأرض لفلان قبل سنة قالوا : نقدم البينة المتقدمة .
قالوا : لأن البينة المتقدمة تثبت الملك في زمن لا تعارضها فيه البينة المتأخرة .
ب- والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر كلام الحرقى من الحنابلة أن البينتين متساويتان .
قالوا : لأن البينة المتاخرة تثبت مِلْكاً حادثاً .
ولذا لو قالت البينة الحادثة إنه يملكه منذ سنة بهبة من زيد فإن البينة الأولى تطرح لأنه لا تعارض .
لكن الكلام : إذا قالت البينة المتأخرة نحن لا نقول إنه قد وهبه أو نحو ذلك لكن تثبت أنه مِلْك له قبل سنه فهذه البينة تثبت ملكاً حادثاً ، والبينة المتقدمة تثبت ملكاً قديماً ، ولا شك أن إثبات الملك الحادث أقوى من إثبات الملك القديم .
قالوا :وهذا دليل يقتضى ترجيحها فلا أقل من أن يقتضي التساوي .
يعنى : أن هذه العلة تعارض تلك العلة . فهذه تدفع هذه وحينئذ يكونا متساويين .
-ولم أر قائلاً يقول بتقديم البينة الحادثة .
إذن : الصحيح أنهما على التساوي – كما هو أحد القولين في مذهب الشافعي وهو ظاهر قول الحرقي من الحنالبة .
والحمدالله رب العالمين
كتاب الشهادات
الشهادات : جمع شهادة .
والشهادة هي : الإخبار بما علمه بلفظ أشهد . هذا هو المشهور في المذهب .(30/44)
فلو قال :" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك ، فإن شهادته لا تقبل ، بل لا تقبل حتى يقول :" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ : أشهد أو شهدت .
-واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف : أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة . فلو قال : " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح .
وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها .
لكن لو قال : أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل ، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه ، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله ، فصدقه وأخبر بما علم فقال : " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية .
قال رحمه الله : [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية ]
فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى : (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا ) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة .
ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة ، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين .
-وقال المؤلف هنا : ( في غير حق الله تعالى ) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها ، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة ،ولأن المشروع فيها الستر .(30/45)
فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر ، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها .
أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع .
قال صاحب الفروع : يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال .
فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة ،فالستر عليه مصلحة خاصة ، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة ، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة .
فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين ، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى
فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً ، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد ، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي .
قال : [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه ].
فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين .
وهكذا سائر فروض الكفاية ، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق .
فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء .
كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية .
مسألة :
هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة ؟
المشهور في المذهب : أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية ، فإذا قام بها فقد قام بفرض .(30/46)
والقول الثاني : أنه يجوز أخذ الأجرة عليها ، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة .
والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال .
فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال .
قال : [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها ]
لقوله تعالى :((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ))
فأداؤها فرض عين على من تحملها .
قال : [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل]
فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد ) ولقوله صلىالله عليه وسلم :( لا ضرر ولا ضرار ) رواه أحمد .
أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب .
قال : [ولا يحل كتمانها ]
لقوله تعالى : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه )
مسألة :
هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها ؟
الجواب : نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ) رواه مسلم .
وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له .
كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة ، والشهادة أمانة ، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة .
والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي ، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل .(30/47)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم .
قال : [ولا أن يشهد إلا بما يعلم ]
لقوله تعالى : ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون "
وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال :" على مثلها فاشهد أو دع " .
لكن الحديث إسناده ضعيف
قال : [ برؤية أو سماع]
لا بخبر ثقة .
" برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك .
"أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك .
قال : [أو استفاضةٍ ]
الاستفاضة : أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه .
قال : [ فيما يتعذر علمه بدونها ]
فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها ، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية .
قال : [كنسبٍ ]
فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان ،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة .
فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس .
فإذا قيل له : هل تشهد أن فلان بن فلان ؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة .
قال : [وموت]
فمثلاً : مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان ، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس ، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه ، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة .
قال : [ومْلكٍ مطلق ]
الملك المطلق : هو غير المقيّد بشراء ولا هبة و نحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه ؟ فانك تقول : نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس .(30/48)
لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع .
قال : [ونكاح ووقف ونحوها ]
كالخلع والولاية والعزّل ونحوها ، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة .
إذن : أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة :-
(1) الطريق الاول : السماع (2) والطريق الثاني : الرؤيه وهما الأصل .
(3) والطريق الثالث : الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية .
-وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟
مثال ذلك : إذا أتاك رجل فقال : أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان ، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس ؟ فقال نعم ، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك ؟
المشهور في المذهب : أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم .
واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس .
وقال القاضي بن الحنابلة : يكفي عدلان .
-وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك .
بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية . فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه ، فكذلك هنا ، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية ، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة .
قال : [ ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه ]
إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة .
فالقاعدة عندهم : " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة "
ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.(30/49)
فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال : " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة : فنقول له هل توفرت الشروط ، فان قال نعم فنقول له : ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا ، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا .
--والصحيح هنا كالصحيح هناك ، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة .
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له : أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل ، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة .
قال : [وإن شهد برضاع ]
فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه ، فتقول المرأة :" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات ، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط .
-والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك ، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل .
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم : لما قالت المرأة : " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل :" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل .
قال : [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه ]
فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد . وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة .
وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف .
فان قيل : لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل ، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع ؟
فالجواب :(30/50)
أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل .
قال : [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها ]
فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة ، فنقول له : في أي ساعة ؟
قال : في أول النهار / في أي مكان ؟ قال في المكان الفلاني ؟ فنقول : أذكر لنا المرأة
فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور .
فإن قال : بعض الشهود في أول النهار ، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم .
إذن : لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد .
لكن هل يشترط ذكر المزني بها ؟
ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب .
والقول الثاني في المذهب : أن ذلك ليس بشرط
-وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة ، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك ؟
إلا إذا كان هناك شبهة ، كأن يشتبه في أنها امرأته ، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك ، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
قال : [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل ]
ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم .
وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة .
والحمدالله رب العالمين(30/51)
كتاب الشهادات
الشهادات : جمع شهادة .
والشهادة هي : الإخبار بما علمه بلفظ أشهد . هذا هو المشهور في المذهب .
فلو قال :" سمعت فلاناً يقر بكذا " أو " رأيت فلاناً وهو يشرب الخمر ونحو ذلك ، فإن شهادته لا تقبل ، بل لا تقبل حتى يقول :" أشهد على فلان أنه قد شرب الخمر "أو" اشهد على فلان أنه قد اقترض من فلان " ونحو ذلك فالمشهور فى المذهب أن الشهادة لا تصح إلا بلفظ : أشهد أو شهدت .
-واختار شيخ الإسلام وهو مذهب المالكية والأحناف : أنها تصح الشهادة بكل لفظ يدل على الشهادة . فلو قال : " سمعت أو "رأيت " فإن شهادته تصح .
وليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولا في إجماع العلماء ولا في القياس الصحيح ولا في أقوال الصحابة ما يدل على ما ذهب اليه الحنابلة – كما قرر ذلك شيخ الإسلام فالصحيح أن الشهادة تصح بكل لفظ يدل عليها .
لكن لو قال : أعلم أن فلاناً قد أقرض فلاناً " و " أعلم أن فلاناً يشرب الخمر " فإنها ليست بشهادة ولا تقبل ، وذلك لأن العلم قد يحصل بإخبار الثقه ، فقد يكون أخبره ثقة بأن فلاناً قد شرب الخمر وهو يثق بقوله ، فصدقه وأخبر بما علم فقال : " أعلم أن فلانا قد فعل كذا " فإذا قال مثل هذا اللفظ فإنه لا يقبل في الشهادة حتى يصرح بالسماع أو الرؤية .
قال رحمه الله : [تحملّ الشهادات في غير حق الله تعالى فرض كفاية ]
فتحمل الشهادة في غير حق الله – فرض كفاية لقوله تعالى : (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا ) أي إذا ما دعوا للتحمل أو الأداء فإذا دعوا لتحمل الشهادة أو أدائها فلا يجوز لهم أن يأبوا للآية المتقدمة .
ولأن حقوق الناس إنما تثبت وتحفظ بالشهادة ، فالشهادة طريقة لحفظ وثبوت حقوق الناس فكانت فرض كفاية فإذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين .(31/1)
-وقال المؤلف هنا : ( في غير حق الله تعالى ) أي في حقوق الآدمين وأما حق الله تعالى فلا يجب فيه تحمل الشهادة ولا أداؤها ، لأن حقوق الله عز وجل مبناها على المسامحة ،ولأن المشروع فيها الستر .
فإذا دَعى لتحمل الشهادة في رؤية رجل يشرب الخمر ، أو يكون قد رآه يشرب الخمر فَيدعي عند القاضى لأدائها .
أو يدعى للنظر لرجل يزني بامرأة فيتحمل الشهادة أو يَدعى لأدائها عند الحاكم فإن ذلك لا يجب بل هو مباح بل لا يستحب لأن الستر هو المشروع .
قال صاحب الفروع : يتوجه عدم الستر لمن عرف بالشر والفساد " وصوّبه صاحب الإنصاف وهو كما قال .
فإذا كان الرجل معروفاً بالشر والفساد فأمكن أن تتحمل الشهادة أو أن يَؤدى بما يزجره عما هو عليه وبما يزيل عن المسلمين شره وفساده فإنها تتحمل حينئذ للمصلحة العامة ،فالستر عليه مصلحة خاصة ، ودرء الفساد عن الامة مصلحة عامة ، والمصلحه العامة راجحة على المصلحة الخاصة .
فإذا كان ترك الشهادة يترتب عليه ضرر على الآدميين ، فالذي يظهر هو وجوب أداء الشهادة وإن كانت في حقوق الله تعالى
فلو شهد ثلاثة على أن فلاناً قد زناً ، وهناك رابع قد رأى لكنه لم يشهد بعْدَ عند الحاكم فإذا أتاه هؤلاء الثلاثة وقد قذفوا ذلك الرجل بالزنا وهم يحتاجون إلى شهادة هذا الرجل ليدفعوا عن أنفسهم معرة الفسق وكذلك ليدفعوا عن أنفسهم الجلد ، فالذي يتبين أنه يجب أداء الشهادة لما في ذلك من دفع الضرر عن الآدمي .
قال : [وإن لم يوجد إلا من يكفى تعين عليه ].
فإذا لم يوجد إلا اثنان يشهدان على أمر من الأمور فإن الشهادة تتعين عليهما حيث كان الحق لا يحفظ إلا باثنين .
وهكذا سائر فروض الكفاية ، فإنها تتعين حيث لم يوجد إلا من يقوم بالحق .
فإذا كان ليس في البلد إلا مجتهد واحد فإنه يتعين عليه القضاء .
كذلك إذا لم يمكن حمل الشهادة إلا من هذين الشخصين فإن الشهادة تتعين عليهما كسائر فروض الكفاية .
مسألة :(31/2)
هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة ؟
المشهور في المذهب : أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليها لأنها فرض كفاية ، فإذا قام بها فقد قام بفرض .
والقول الثاني : أنه يجوز أخذ الأجرة عليها ، واختاره شيخ الإسلام وهو مبني على مسألة سابقة في جواز أخذ الأجرة على القرب فاختار شيخ الإسلام هنا وهناك جوازها عند الحاجة .
والأولى في مثل هذه المسائل التى تتعلق بحقوق الناس – الأولى سدّ هذا الباب لما يترتب على أخذ المال من الفساد فقد يشهد بالزور ليأخذ بالمال .
فالصحيح في هذه المسألة أنه لا يجوز أخذ الأجرة لئلا يفتح هذا الباب على الناس فيشهد الرجل بالزور ليأخذ المال .
قال : [وأداؤها فرض عين على من تحمّلها ]
لقوله تعالى :((ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ))
فأداؤها فرض عين على من تحملها .
قال : [متى دَعي إليه وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله وكذا في التحمل]
فلا يجب تحمل الشهادة ولا أداؤها إلا أن يقدر على ذلك بلا ضرر لقوله تعالى: ((ولا يضار كاتب ولا شهيد ) ولقوله صلىالله عليه وسلم :( لا ضرر ولا ضرار ) رواه أحمد .
أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر في عرضه او ماله آو أهله فلا يجب .
قال : [ولا يحل كتمانها ]
لقوله تعالى : ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتهما فإنه آثم قلبه )
مسألة :
هل له أن يؤدي الشهادة قبل أن يسألها ؟
الجواب : نعم له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها ) رواه مسلم .
وذلك لأن المشهود له قد يخفى عليه أن فلاناً شاهد له فحينئذ يبادر بالشهادة حيث يظنّ أن المشهود له يخفى عليه أن هذا شاهد له .
كذلك قد لا يخفى عليه بل يعلم أنه شاهد لكنه – أي المشهود له – يحتاح إلى هذه الشهادة ، والشهادة أمانة ، فكما أن الأمانة يبادر لها عند الحاجة فكذلك الشهادة .(31/3)
والطلب الحالي والعرفي كالطلب اللفظي ، فهذا المشهود له – وإن لم يأت إلى الشاهد ويسألة أن يشهد له لكن حاله تسأل .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم :" يشهدون ولا يستشهدون " فهذا حيث كانوا متساهلين في الشهادة يتسارعون إليها من غير تثبيت بل ربما يشهدون وهم يعلمون أنهم كاذبون فهذا في محل الذم .
قال : [ولا أن يشهد إلا بما يعلم ]
لقوله تعالى : ""إلا من شهد بالحق وهم يعلمون "
وفي مسترك الحاكم بإسناد ضعيف " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ترى الشمس قال نعم " قال :" على مثلها فاشهد أو دع " .
لكن الحديث إسناده ضعيف
قال : [ برؤية أو سماع]
لا بخبر ثقة .
" برؤيته " كأن يرى فلاناً يزني أو يشرب الخمر ونحو ذلك .
"أو سماع" كأن يسمعه وهو يطلق إمرأته أو أن يسمعه وهو يبيع أو ينكح أو نحو ذلك .
قال : [أو استفاضةٍ ]
الاستفاضة : أن يشتهر الخبر عند الناس فيتناقلونه .
قال : [ فيما يتعذر علمه بدونها ]
فالاستفاضة تقبل فيما يتعذر علمه غالبا بدونها ، أي بدون الاستفاضة – فلا يمكننا أن نثبت هذا الحق في الغالب إلا بالاستفاضة فلا يمكن إثباته بالسماع أو الرؤية .
قال : [كنسبٍ ]
فالواحد منا الآن يعرف أن فلان ابن فلان من العائلة الفلانية وأنه ابن فلان ،يعرف ذلك من طريق الاستفاضة .
فهو لم ير الولادة ولم يكن شاهداً عليها لكن يعرف هذا باشتهاره عند الناس .
فإذا قيل له : هل تشهد أن فلان بن فلان ؟ فإنه يشهد بناءً على الاستفاضة .
قال : [وموت]
فمثلاً : مرّت الجنازة فقيل لك هذه جنازة فلان بن فلان ، وأصبحت عائلته تعّزى واشتهر هذا عند الناس ، فإذا دعيت لتشهد على وفاته للإرث ونحوه ، فإنك تشهد بناءً على الاستفاضة .
قال : [ومْلكٍ مطلق ]
الملك المطلق : هو غير المقيّد بشراء ولا هبة و نحو ذلك – فهل تشهد أن هذا البيت لفلان وأنه ملكه ؟ فانك تقول : نعم أشهد لأنى أرى أنه مالك له وهذا مشهور مستفيض عند الناس .(31/4)
لكن لا تشهد بالاستفاضه أنه قد اشتراه من فلان أو وهبه له فلان وذلك لأن هذا لا يكتفى فيه بالاستفاضه لأن الشهاده ممكنة بالرؤية أو السماع .
قال : [ونكاح ووقف ونحوها ]
كالخلع والولاية والعزّل ونحوها ، فإن هذه الأمور لا يمكن في الغالب إثباتها إلا بطريق الاستفاضة .
إذن : أصبح عندنا ثلاث طرق للشهادة :-
(1) الطريق الاول : السماع (2) والطريق الثاني : الرؤيه وهما الأصل .
(3) والطريق الثالث : الاستفاضة حيث تعّذر في الغالب السماع والرؤية .
-وهل يشترط أن يكون قد تلقى هذا الأمر المستفيض ممن يثبت العلم بهم أم يكفي أن يخبره أحد من الناس أن هذا أمر مستفيض؟
مثال ذلك : إذا أتاك رجل فقال : أريد أن أشهد أنا وأنت عند القاضي على أن هذا الرجل ابن لفلان ، فقلت هل هذا مستفيض عند الناس ؟ فقال نعم ، فهل تشهد أو لا تشهد حتى يستفيض هذا عندك ؟
المشهور في المذهب : أنه لا يشهد حتى يأتيه عن عدد كثير يثبت العلم بهم .
واختار شيخ الإسلام وهو اختيار المجد ابن تيميه " جدّ شيخ الإسلام " أنه يكفي في ذلك الثقة الواحد الذي تسكن اليه النفس .
وقال القاضي بن الحنابلة : يكفي عدلان .
-وأظهرها الأول / وذلك لأن الشهادة إنما تُبنى على الاستفاضة وهنا لم يستفض عنده ذلك .
بل أخبره الثقة به وهذا أشبه بمسألة السماع والرؤية . فإذا أخبره الثقة بأنه قد سمع فالثقه يشهد وأما هو فلا يشهد وقد علم بخبر الثقه ، فكذلك هنا ، فهناك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في السماع والرؤية ، وهنا كذلك لا نقبل أن يكون هناك واسطة في الاستفاضة .
قال : [ ومن شهد بنكاح او غيره من العقود فلا بد من ذكر شروطه ]
إذا شهد بنكاح أو غيره من العقود فلا بدّ أن يذكر شروطه وهذه المسألة تبنى على مسألة سابقة .
فالقاعدة عندهم : " أن ما صحت به الدعوى تصح به الشهادة "
ولا تصح الدعوى من غير ذكر شروط النكاح أو شروط البيع أو غيره من العقود في المذهب.(31/5)
فكذلك هنا في الشهادة / فإذا قال : " أشهد أن فلاناً قد نكح فلانة : فنقول له هل توفرت الشروط ، فان قال نعم فنقول له : ما هي هذه الشروط فيذكرها لنا ، لأنه قد يشهد على نكاح فاسد ويظنه صحيحا .
--والصحيح هنا كالصحيح هناك ، فالراجح أن ذكر الشروط في الشهادة ليس بشرط وذلك لأن الأصل هو الصحة .
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له : أن قوماً يأتوننا باللحم ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( سموا أنتم وكلوا) فهنا لم يشترط النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت عندهم تحقق الشرط وهو التسميه بناء على الأصل ، لأن الاصل أن المسلم إذا ذكى فإنه يذكر اسم الله على ذبيحته فكذلك الأصل في نكاح المسلمين الصحة .
قال : [وإن شهد برضاع ]
فإذا شهد برضاع فلا بد وأن يصفه ، فتقول المرأة :" أشهد أن فلانة قد أرضعت فلاناً خمس رضعات معلومات من ثديها أو تذكر أن الحليب وضع في إناء فشربه خمس مرات ، فلا بد وأن تصفه بما يقضتى التحريم وذلك للإختلاف في الشروط .
-والصحيح ما تقدم وهو أنه لا يشترط ذلك ، إلا أن يرتاب القاضي في الشاهد هل يعلم الرضاع المحّرم أم لا؟ فإنه يسأله – أما إذا لم يرتبْ فإنه لا يسأله بناءً على الأصل .
ولذا فإن النبى صلى الله عليه وسلم : لما قالت المرأة : " قد أرضعتكما " قال النبى صلى الله عليه وسلم للرجل :" كيف وقد قيل " فلم يأمره أن يستوصف منها كيفيه الرضاع وعدده بناء على الأصل .
قال : [أو سرقه أو شرب أو قذف فإنه يصفه ]
فإذا شهد بسرقة فلا بد وأن يصف هذه السرقة بما يقتضى الحد . وتقدم الكلام على هذا في حد السرقة .
وكذلك الشرب فلا بدّ عند الشهادة أن يصفه بما يقضتى الحد وكذلك إذا أراد أن يشهد أن أنساناً قذف .
فان قيل : لم اشترطنا الوصف في هذه المسائل ، ولم نشترطه في عقد النكاح وسائر العقود وفي الرضاع ؟
فالجواب :(31/6)
أن هذه حدود والحدود تدرأ بالشبهات فلا بدّ من الوصف وأما المسألة السابقة فإننا نبني على الأصل .
قال : [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزنيّ بها ]
فإذا شهد أن فلانا قد زنا بفلانة ، فنقول له : في أي ساعة ؟
قال : في أول النهار / في أي مكان ؟ قال في المكان الفلاني ؟ فنقول : أذكر لنا المرأة
فيقول هي فلانة أو يصفها وصفاً بيّنا فلا بدّ من هذه الأمور .
فإن قال : بعض الشهود في أول النهار ، وقال الأخر في آخره وقال بعضهم في الغرفة الفلانية في الدور الأسفل وقال الآخر في الدور الأعلى فحينئذ ترد شهادتهم لأن هذا الإضطراب يدل على كذبهم .
إذن : لا بد أن نسألهم بما يقتضي صدق شهادتهم وبما يقتضي إقامة الحّد .
لكن هل يشترط ذكر المزني بها ؟
ذكر المؤلف هنا أن ذلك شرط وهو المشهور في المذهب .
والقول الثاني في المذهب : أن ذلك ليس بشرط
-وهو الصحيح لأن الحد معلق بثبوت الفاحشة ، فإذا ثبت لنا أنه قد زنا فإن الحكم يترتب على ذلك ؟
إلا إذا كان هناك شبهة ، كأن يشتبه في أنها امرأته ، أو من لا يقام عليه الحد بها كأن تكون أمة لابنه ويجوز ذلك ، فإذا اشتبه في ذلك فلا بدّ من الإستفصال لأن الحدود تدرأ بالشبهات .
قال : [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل ]
ففي كل القضايا لا بدّ للشاهد أن يذكر ما يعتبر به الحكم وما يختلف به الحكم .
وذلك لأن الحكم مرتب على الشهادة .
والحمدالله رب العالمين(31/7)
فصل
قال رحمه الله : [شروط من تقبل شهادته ستة ]
هذا الفصل في شروط من تقبل شهادته .
قال : [الأول : ( البلوغ ) فلا تقبل شهادة الصبيان ]
فالبلوغ شرط في قبول الشهادة . فالصبى المميز لا تقبل شهادته
لقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه )
الصبي لا يأثم لأن قلم التكليف مرفوع عنه .
-فالصبي المميز لا تقبل شهادته وهذا في الأداء وأما في التحمل فتحمله صحيح .
-وظاهر كلام المؤلف – وهو المذهب – أن هذا على إطلاقه حتى في شهادة بعضهم على بعض في الجراح إذا شهدوا قبل التفرق .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب مالك واختيار ابن القيم : أن شهادة بعضهم على بعض تقبل في الجراح إذا شهدوا بذلك قبل التفرق .
وهو قول ابن الزبير – صح عنه ذلك ، كما قال ذلك ابن حزم ويدل عليه : احتياط الشرع على حفظ الدماء .
ولأن هذه الجراح التى تكون بينهم – لا يطلع عليها في الغالب إلا الصبيان ، فأشبهت المسائل التى تُقبل الشهادة على خلاف الأصل لكون الشاهد لا يطلع عليها إلا هُو في الغالب كشهادة المرأة في الرضاع ونحوه ، فإنها لا يطلع عليها إلا النساء في الغالب وكذلك الشهادة بالاستفاضة .
إذن شهادة بعضهم على بعض في الجراح مقبولة بشرط أن يشهدوا قبل التفرق .
أما إذا شهدوا بعد التفرق فإن شهادتهم لا تقبل وذلك لاحتمال التلقين ، فيحتمل أن يلقنوا من أوليائهم .
(3) وقيل : تقبل شهادتهم مطلقاً .
-والذي يترجح قبول شهادتهم مطلقاً في المسائل التى لا يطلع عليها في الغالب إلا الصبيان سواء كانت في الجراح أو في غيرها .
قال : [الثاني : العقل ]
وهذا شرط بالإنفاق ، فالمجنون والمعتوه لا تقبل شهادتهما وكذلك الصبي غير المميز وهو الطفل .
قال : [فلا تقبل شهادة مجنون ]
المجنون : هو من لا عقل له مطلقاً .
قال : [ ولا معتوه ]
وهو من له عقل لكنه لا يميز به التمييز التام .
قال : (وتقبل ممن يخنق أحياناً في حال إفاقته )(32/1)
فتقبل الشهادة ممن يحنق أحياناً أي يجن إذا شهد في حال إفاقته وذلك لأنه شهد في حال العقل فهي شهادة من عاقل .
قال : [الثالث : الكلام ]
هذا هو الشرط الثالث .
قال : [فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته إلا إذا أداها بخطه ]
فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته –هذا هو المشهور في مذهب أحمد .
والقول الثاني : في المسألة : وهو مذهب الشافعية : إنها تقبل حيث أفادة العلم .
-وهذا هو الصحيح لأن إشارة الأخرس تقوم مقام نطقه : فإذا علمنا ما يريد وفهمناه فإن ذلك كالنطق .
وأما قولهم إنها لا تفيد اليقين .
فالجواب : أن هذا خلاف الظاهر بل تفيد اليقين حيث فهمت ، فإنها إذا فهمت تفيد اليقين كا يفيده اللفظ .
(إلا إذا أداها بخطه) فإذا كتب الأخرس شهادته بخط يده ، فإنها تقبل وذلك لأن دلالة اللفظ كدلالة الخط . وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم :" ما حق امرىء مسلم عنده شىء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه " فالخط مقبول في الشرع
وهنا إذا كتب الأخرس شهادته بيده فإنها تقبل حتى في المشهور من المذهب .
إذن : المشهور في المذهب أن شهادة الأخرس لا تقبل إلا أن يؤديها بخطه .
والصحيح أنها تقبل مطلقاً حتى لو أشار وعلمت إشارته .
أما إذا لم تعلم إشارته فإن شهادته لا تقبل قولاً واحداً فإذا لم يدرى ما يريد فإن شهادته لا تقبل.
قال : [ الرابع : الإسلام]
لقوله تعالى : (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فيشترط في الشهود أن يكونوا مسلمين .
وهنا مسالتان :
المسألة الأولى :-
أن المشهور في المذهب – وهو من مفردات المذهب – أن شهادة اثنين من أهل الكتاب على الوصية في السفر عند الضرورة جائزة .
لقوله تعالى : (يا آيها الذين أمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم صربتم في الأرض )
فهذه الآية نص في جواز ذلك .(32/2)
فإذا أراد أن يوصي ولم يجد شاهدين مسلمين فإنه يشهد اثنين من أهل الكتاب إذا كان في سفر.
-وعن الإمام أحمد : أنه لا يشترط أن يكونا من أهل الكتاب فلو كانا من غير أهل الكتاب كأن يكونا مجوسيين أو وثنيين فكذلك وهو اختيار شيخ الإسلام وهو ظاهر الآية فإن الله عز وجل قال : (أو آخران من غيركم ) وهو عام من أهل الكتاب وغيرهم .
-فالصحيح أن الشهادة تقبل عند الضرورة سواء كانت من أهل الكتاب أم من غيرهم .
-واختار شيخ الاسلام – أيضاً - : أن هذه الشهادة تصح ولو في غير سفر للضرورة ، لانها موضع ضرورة فإذا جازت في السفر جازت في الحضر وهذا هو الراجح .
المسألة الثانية :
أن مذهب الجمهور – منهم الحنابلة – أن شهادة الكفار بعضهم على بعض لا تقبل .
فإذا شهد يهودي على يهودي أو شهد يهودي ليهودي أو شهد نصراني على نصراني أو لنصراني ، أو شهد يهودي على نصراني أو شهد نصراني على يهودي وهكذا ، فان الشهادة لا تقبل .
(ب) وذهب الأحناف إلى أنها تقبل ، هو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الاسلام ابن تيمية .
-هذا هو أصح القولين ، وذلك لأن الآيات الواردة في اشتراط العدالة إنما هي في المؤمنين خاصه قال تعالى ((يا آيها النبى إذا طلقتم النساء – الى أن قال سبحانه -أشهدوا ذوي عدل منكم )) وقال سبحانه (يا آيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين /إلى ان قال - سبحانه – ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)) .
فالآيات في اشتراط العدالة إنما خوطب بها المؤمنون .
ولأن المقصود من العدالة انتفاء التهمة وعليه الظن بالصدق فلم تشترط العدالة إلا لهذا .
ولأن الحقوق إنما تحفظ بذلك ، فإن الغالب في حقوقهم أنهم يثبتونها بشهود منهم فاذا لم نقبل شهادة بعضهم على بعض فإن ذلك يترتب عليه ضياع الحقوق .
فالراجح قبول شهادة بعضهم على بعض .
-وهل يشترط اتحاد الملة أم لا ؟(32/3)
قولان لأهل العلم ، هما قولان في المذهب :-
القول الأول : أنه لا يشترط اتحاد الملة فعلى ذلك تقبل شهادة اليهودي على النصراني والعكس ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والقول الثاني : أنها تشترط ، وهو قول إسحاق وأبي عبيد .
-والصحيح هو الثاني – للتهمة في اختلاف الدين .
ولأنه إنما يحتاج إلى شهادة بعضهم في بعض – في الغالب – عند اتفاق دينهم فالغالب أنهم إنما يحفظون حقوقهم بشهداء من ملتهم .
فأرجح القولين أنه يعتبر اتحاد الملّة .
قال : [الخامس : الحفظ ]
فلا تقبل شهادة من عرف بكثرة السهو والخطأ ،لأنه لا يوثق بقوله .
قال : [ السادس : العدالة ]
قال الشيخ محمد بن ابراهيم – رحمه الله - : " العدالة بحسب الإمكان وهكذا سائر شروط الشهداء " إنما تعتبر بحسب الإمكان .
وهذا ما يدل عليه كلام شيخ الاسلام ، وأن العداله تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة . فالعدل فينا ليس كالعدل في القرون المفضلة .
"فشارب التنباك " أي الدخان " لا تقبل شهادته كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم لكن اذا كان في بلد الدخانُ فيها فاشٍ فإن شهادته تقبل وذلك لأنهم ممن ترضى شهادتهم ،لأن الدخان فيهم فاش وعلى ذلك فإنه يقع حتى ممن هو معروف بالصدق والأمانة .
قال ابن القيم : وتقبل شهادة الفاسق الأمثل فالأمثل عند الضرورة .
قال : وعليه العمل وإنما ينكره أكثر الفقهاء بألسنتهم .
فالعمل على هذا لأن الناس لا يسعهم إلا هذا .
قال : [ويعتبر لها شيئان : الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة ]
الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة فمن لم يؤد السنن الراتبة فليس بعدل ولا تقبل شهادته في أحد القولين في المذهب.
-والصحيح من المذهب أنها تقبل .
أما دليل ما ذكره المؤلف فهو أن من ترك السنن الراتبة فإنه لا يسلم – كما قالوا- من ترك فرض .(32/4)
لكن هذا ضعيف بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم – في الرجل الذي قال : لا أزيد على هذا – أي على الفرائض - ولا أنقص منه فقال صلى الله عليه وسلم : " أفلح والله إن صدق "
فالصحيح من المذهب أن أداء السنن الراتبة لا يشترط في العدل .
قال : [واجتناب المحارم ]
ويبين ذلك بقوله :
(بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة)
لأن إصراره على الصغيرة يدل على استهانته بما حرم الله عز وجل .
وهذا يجعله مظنة الكذب ولا يوثق بقوله .
والكبيرة – كما عرفها شيخ الاسلام – ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الاخرة أو ترتب عليه لعْن أو غضب أو نفْي إيمان .
قال : [فلا تقبل شهادة الفاسق ]
فشهادة الفاسق لا تقبل لأنه ليس بعدل .
سواء كان فاسقاً في عمله أو فاسقاً في اعتقاده .
فالفاسق في عمله : كمن يزني أو يشرب الخمر فلا تقبل شهادته .
والفاسق في اعتقاده : هو من لم يكفر من أهل البدع ، فإنه فاسق باعتقاده فلا تقبل شهاده أهل الأهواء (1) في المشهور في المذهب .
(2)وذهب الشافعي وهو مذهب أبي حنيفة واختيار ابن القيم : إلى قبول شهادة المتحفظين من أهل الهواء .
وهذا ظاهر ، لأنهم قد اعتقدوا ما اعتقدوه من البدع على اعتقاد أن هذا هو دين الله عز وجل ، فهو كمن فعل أمراً محرماً يعتقد إباحته فإن هذا لا ينقض عدالته ،فشارب النبيذ ممن يعتقد إباحته لا يفسق ولا تنتقض بذلك عدالته ، فلذلك من له اعتقاد يخالف اعتقاد أهل السنة والجماعة فإن شهادته لا ترد لأنه متحفظ في دينه ، يعتقد أن هذا هو دين الله ويتعبد لله عز وجل بهذه البدعة . فتقبل شهادتة .
نعم : قد ترد شهادته زجراً له حيث لم نضطر إلى قبولها وأما إذا كنا نحتاج إلى شهادته فالصحيح قبولها ، فإذا كانت الحقوق تثبت بشيء فالصحيح هو قبولها وذلك لأنه ما دام أنه يعتقد أن هذا هو الحق وأن هذا هو دين الله – فالتهمة بعيدة عنه والغالب صدقه فهو معروف بالصدق والأمانة(32/5)
قال : [الثاني : استعمال المرؤة وهو فعل ما يجمله ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه]
"فعل ما يجمله ويزينه " من محاسن العادات كالسخاء والشجاعة ونحو ذلك .
"واجتناب ما يدنسه ويشينه به ذكروا لذلك أمثله منها أن يطعم في الشارع فإذا أخرج إناء الطعام من بيته فأكل فإن ذلك يدنسه ويشينه وهذا في البلاد التى تعيب ذلك ، وأما البلاد التى لا تعيب ذلك فإن ذلك لا يدنسه ولا يشينه .
قالوا : ومن ذلك مضغ العلك . ومن ذلك الطفيلي الذي يأتى إلى الدعوة من غير أن يُدعى لها ، ومن ذلك الذي يسخر من الناس ويحكي أفعالهم وهكذا ، فهذه أفعال تشين وتنقص مروءته فلا تقبل شهادته لأنه مظنة الكذب .
فاستعمال المروءة : هو فعل ما يجملّه ويزينه واجتناب ما يدنسه ويشينه " وهذا ليس مرجعه – في الغالب – إلى الشرع وإنما مرجعه الى العادة .
فكون الرجل يخرج وهو حاسر الرأس فليس معيباً في كثير من البلاد الاسلامية الآن لكن في هذه البلاد فقد كان معيباً ، وأما الآن فليس معيباً بتلك الدرجة... بينما كانوا في زمن قديم يستعيبون أن يخرج الرجل بلا مشُلح .
قال : [ومتى زالت الموانع : فبلغ الصبي وعقل المجنون وأسلم الكافر وتاب الفاسق قبلت شهادتهم ].
لأن هؤلاء إنما اشترط فيهم ما اشترط في الأداء لا في التحمل فإذا كان رجل فاسق وعنده شهادة فإننا لا نقلبها منه فإذا تاب الى الله فإن شهادته تقبل وإن كان قد تحملها في فسقه .
ولو أن غير البالغ تحمل شهادة فإننا لا نقلبها منه ، فإذا أداها بعد بلوغه فإننا نقبلها منه .
ولوا أن رجلاّ يحمل الشهادة وهو كافر فلا تقبل منه لكن إذا أسلم فإنها تقبل منه تلك الشهادة.
وأما العقل فشرط في الأداء والتحمل وكذلك الحفظ فإنه شرط في الأداء والتحمل .
وأما الكلام فإنه شرط في الأداء لا في التحمل فإن الأخرس يتحمل الشهادة لكن هل يؤديها ؟
فيه الخلاف المتقدم والصحيح أن شهادته تقبل أيضاً .(32/6)
إذن : إذا زالت الموانع فبلغ الصبي وأسلم الكافر وتاب الفاسق وعقل المجنون قبلت شهادتهم وذلك لزوال المانع الموجب لرد الشهادة .
والحمد لله رب العالمين
___________________________________________________________الدرس : الثاني والعشرين بعد الأربعمائه 422
-ذكر المؤلف – كما تقدم – شروطاً ستة للشاهد ولم يذكر فيها الحرية ،فليس من شروط الشاهد أن يكون حراً بل يصح أن يكون عبداً لعمومات الأدله كقوله : (وأشهدوا ذوى عدل منكم) (واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) والعبيد كذلك .
ولما ثبت في البخارى في قصة المرأة التى قالت :" إني قد أرضعتُ عقبة والتي تزوج " فقال النبى صلى الله عليه وسلم : "كيف وقد قيل " وفي رواية إنها كانت أمة سوداء .
*وقال الجمهور : لا تقبل شهادة العبد ، وذلك لما فيه من النقص بالرق فأشبه النقص بالكفر ، وهذا قياس باطل لأن الله عز وجل يقول : ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم).
فلا يصح قياس العبد المسلم بالكافر .
فالصحيح هو القول الأول .
-وفي الحديث المتقدم – وهو شهادة المرضعة – فيه صحة شهادة الإنسان على فعل نفسه ، كالمرضعه على الرضاع والقاسم على القسمة والحاكم على حكمه بعد العزل – فقد شهدت هذه المرأة على فعل نفسها وهو الرضاع وقبل ذلك النبى صلى الله عليه وسلم .
( باب موانع الشهادة وعدد الشهود )
قال رحمه الله : [لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض ]
المانع : هو ما يلزم من وجوده العدم .
فاذا وجد المانع – وان توفرت الشروط – فان العقد يبطل والعبادة أيضا تبطل .
فهذه الموانع يلزم من وجودها رد شهادة الشاهد وإن توفرت فيه الشروط التى تقدم ذكرها .
-ويدار هذه الموانع كلها على التهمة
"فلا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم على بعض "
وعمودا النسب هما الأصول والفروع فلا تقبل الشهادة للأباء والأمهات وإن علوا ولا تقبل الشهادة للأولاد وإن نزلوا .(32/7)
فإذا شهد لأبيه أو لأمه لم تقبل شهادته وإن كان عدلاً وإذا شهد لجد أو لجدته فكذلك .
وإذا شهد لابنه او ابنته فكذلك واذا شهد لابنة ابنته او لأبن ابنه ،فكذلك وهكذا .
فمتى شهد الاصل لفرع وإن نزل هذا الفرع لم تقبل شهادته ، ومتى شهد الفرع لأصل وإن علا هذا الأصل فان شهادته لا تقبل .
قالوا : للتهمه لقوة القرابة وهذا هو أحد أقوال أهل العلم في هذه المسألة :
فالقول الأول : وهو مذهب الجمهور : أن شهادة الأصول للفروع وشهادة الفروع للأصول لا تقبل .
القول الثاني : وهو مذهب أهل الظاهر وهو قول شريح لقاضي ، والمزني وابن المنذر وأبي بكر بن حزم أنها تقبل .
قالوا ولعمومات الأدلة (وأشهدوا ذوى عدل منكم )
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) والوالد عدل والولد عدل من رجالنا .
وهذا القول قد ورد عن عمر ففي مصنف عبدالرزاق أن عمر رضى الله عنه قال : " تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده ، والأخ لأخيه "
(3) والقول الثالث : أن شهادة هؤلاء تقبل مع انتفاء التهمة وترد للتهمة : إذن جعلوا المناط للرد هو التهمة بأن كان هناك تهما فإنها لا تقبل ، وإن لم يكن فانها تقبل وهذا القول رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن القيم وهو أظهر هذه الأقوال وهو ظاهر اختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي وذلك لأن العدل مقبول الشهادة كما دلت عليه الأدله الشرعية فهو عدل والعدل مقبول الشهادة .
وقد ورد أثر عن عمر يدل على الرد بالتهمة ، وهو ما ثبت في سنن البيهقى بإسناد صحيح : أن عمر قال : (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً بجلد او مجّرباً بشهادة زور أو ظنيناً ) أى مُتهماً ( في قرابة أو ولاء )
فقد قال :" أو ظنيناً" أي متهماً – فلما كان متهماً ردت هذه الشهادة .
وأثر عمر يدل على الرد بالتهمة ولا يدل على الرد بالقرابة لأنه لم يقل " ولا قريباً" وإنما قال "ولا ظنيناً" في قرابة أو ولاء"(32/8)
وهم -أي الجمهور – لا يقولون بهذا الأثر على عمومه ، فإن هذا الأثر يدل على أن كل قريب ترد شهادته على قريبه .
-حيث استدل به على طريقتهم – وليس فيه تخصيص الولد والوالد بل هو عام في الولد والوالد وسائر الأقارب .
فأظهر هذه الأقوال : عدم قبول الشهادة عند التهمة والقبول عند انتفائها .
وعلى ذلك فينظر الحاكم في كل قضيه بعينها ، فإذا ظهرت له التهمة ، فإنه لا يقبل ، وإن لم تظهر له التهمة فإنه يقبل .
فإذا كان الشاهد ممن هو مبّرز في العدالة يبعد في العادة أن يشهد لولده شهادة زور أو أن يشهد لوالده شهادة زور ، فالتهمة منفية عنه فتقبل شهادتة .
إما إذا كان ليس مبّرزاً في العدالة ، فله عدالة ظاهر – لكن العدالة الباطنة غير معلومة منه / فيقوى حينئذ الرد في التهمة .
-وقد اتفق أهل العلم على قبول شهادة الأخ لأخيه ، وشهادة الأخ لعمه وشهادة الرجل لابن عمه وسائر الأقارب فهم إنما خصّوا المنع بمن بينهم قرابة إيلاد وأما من بينهم قرابة أخرى فإنها لا تقضي المنع عند جمهور العلماء .
-وتقدم الكلام على أثر عمر وأنه لو استدل به على المنع لاقتضى المنع من قبول شهادة كل قريب ، لكن المنع إنما هو للتهمة فحيث وجدت التهمة منعت الشهادة ولم تقبل .
وهكذا أيضاً شهادة الصديق لصديقه فهى مقبولة .
واستثنى الإمام مالك : شهادة الصديق لصديقه حيث كانت الصداقة مؤكدة " أي بالغة " وهو اختيار ابن عقيل .
وهذا الضابط الذي ذكروه – في الحقيقة – قد يكون أقوى في التهمة مما يكون بين الوالد وولده ، فان الرجل قد يحابي صديقه أكثر مما يحابي ولده ، بل قد يحابي صديقه أكثر مما يحابي ولده والده وهذا ظاهر حيث كانت الصداقة مؤكدة .
وعليه : فالصداقة المؤكدة تدخل في المسألة السابقة فإذا كانت التهمة موجودة لم تقبل هذه الشهادة .
وأما إذا لم تكن التهمة موجوده كأن يكون الشاهد مبرّزاً في العادلة فان شهادتة تقبل .(32/9)
-وعن الإمام مالك : أن شهادة الأخ لأخيه لا تقبل حيث كان منقطعاً على صلته – أي لا واصل له إلا أخوه – فهو يسكن عنده ويطعمه ويبرّه .
وهذه أيضاً تدخل في المسألة السابقة .
-الصحيح في هذه المسألة ما هو صحيح في المسألة السابقة من القبول عند عدم التهمة والرد عند وجودها .
وقد قال صلىالله عليه وسلم – كما في مسند أحمد وسند أبي داود :" لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر " أي حقد " على أخيه ولا القانع لأهل البيت "
-والقانع وهو المنقطع لأهل البيت يبرونه ويصلونه ، وعليه فكذلك حتى لو كان أجنبياً لكن " أهل البيت يقومون بصلته فهو منقطع إليهم فحينئذ الحكم كذلك كأن يكون له معتق يصلونه ويبرونه فهو منقطع إليهم لا واصل له سواهم فالمحاباة – احتمالها قوي جداً فعلى ذلك لا بد أن ينظر في شهادته .
قال : [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه]
فإذا شهد الرجل لامرأته ـ أو شهدت المرأة لزوجها فترد الشهادة ، قالوا لقوة الوصلة بينهما .
وحيث عللنا بالتعليل المتقدم وهو احتمال التهمة ،فالتهمة إنما : ظاهرة بين الزوجين .
ولكن – كما تقدم – إنما ترد مع التهمة وأما إذا كانت التهمة منتفية أو ضعيفة فإننا نقبل الشهادة بناءً على الأصل ، فالأصل هو قبول شهادة العدل وقبول شهادة ذات العدالة .
فالمشهور في المذهب وهو قول الجمهور أن شهاده أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل قالوا : لقوة الوصلة .
-وعن الأمام أحمد وهو مذهب الشافعية إنها تقبل مطلقاً لعموم الأدلة .
-والصحيح التفصيل في ذلك كما تقدم في المسألة السابقة.
-وشهادة أحد الزوجين لصاحبه تردّ – كما هو المشهور في المذهب – ولو كان ذلك بعد الطلاق .
وكذلك إذا كان إثناء الطلاق فإنها ترد فان كانت رجعية فظاهر لأنها زوجة وإن كانت بائناً فإنها كانت زوجة وبينهما قوة واصلة فكذلك ، ولو كان الطلاق قبل الدخول.
والصحيح في هذه المسألة ما تقدم ، وأناّ ننظر إلى التهمة.(32/10)
لكن : إذا كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً قد انتهت مدة عدتها به فإن التهمه بعيدة فإنها أجنبيه عنه فالتهمة ضعيفة .
قال : [وتقبل عليهم ]
لقوله تعالى : ( يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) .
فشهادة الرجل على ولده ، وشهادته على والده وشهادة المرأة على زوجها وشهادة الزوج على امرأته، شهادة مقبولة بنص الآية ، ولا مانع من قبولها ولا دليل يدل على المنع .
قال : [ولا من يجر إلى نفسه نفعاً]
فلا تقبل شهادة من يجر إلى نفسه نفعاً . فإذا كان الشاهد يجر إلى نفسه نفعاً بهذه الشهادة فإنها لا تقبل .
مثال ذلك :إذا شهد الورثة أن مورثهم مات بالجرح قبل اندماله ، فالذي يترتب على ذلك أن تكون لهم الدية لانهم هم الورثه فلا تقبل شهادتهم في ذلك لأنهم يجرون الى أنفسهم نفعاً .
ومثال آخر : شهادة الشريك لشريكه في مال الشركة ، فإذا باع أحد الشريكين شيئاً من مال الشركة فلا يصح أن يكون الشريك الآخر شاهداً على ذلك ، أي حيث وقع خلاف أو نزاع أو خصومة ، وذلك لأن الشهادة تجر له نفعاً فهو كالشاهد لنفسه والشاهد لنفسه لا تقبل شهادته اتفاقاً .
قال : [أو يدفع عنهم ضرراً ]
فإذا كانت الشهادة تدفع ضرراً عن الشاهد فإنها لا تقبل منه فإذا شهد الشهود أن فلانا قتل فلاناً خطأً فيرتب على ذلك ثبوت الدية ، والدّية على العاقلة ، فإذا شهدت العاقلة أن هؤلاء الشهود مجروحون فلا تقبل شهادتهم ، فلو قال أحد العاقلة : هذا يشرب الخمر وقال الآخر : نعم هو كذلك ، وقالوا في الثاني : هو يزني وقال الآخر نعم هو كذلك ……فلا تقبل شهاده العاقلة على جرح هؤلاء الشهود وذلك لأن في ذلك دفع ضرر عنهم لأن ثبوت هذه الشهادة يترتب عليها الدية والدية عليهم فإذا شهدوا على جرح الشهود ترتب على ذلك دفع الضرر عنهم .
إذن : لا تقبل شهادة من يدفع عن نفسه ضرراً ، لأنه شاهد لنفسه والتهمة في ذلك ظاهرة .(32/11)
قال : [ولا عدو على عدوه ]
للحديث المتقدم : (ولا ذي غمر على أخيه ) والغمر هو الحقد فإذا شهد العدو على عدوه فلا تقبل شهادته .
ومثلّ لذلك المؤلف بقوله :
[كمن شهد على من قذفه ]
قذف زيد عمراً بزنا أو لواط ، فلما قذفه – وهذا لا شك أنه يثير بينهما عداوة – قال : أشهد أن لفلان عليه كذا وكذا فلا تقبل هذه الشهاده للعداوة .
قال : [أو قطع الطريق عليه ]
فإذا شهد أن فلاناً قد قطع الطريق عليه ، فلا تقبل شهادته بذلك لأن ذكره أن فلاناً قد قطع الطريق عليه هذا إقرار منه بالعداوة فلم تقبل شهادته .
وكذلك إذا رمى الزوج إمرائه بالزنا وشهد عليها بذلك فلا تقبل شهادته وذلك لأن شهادته عليها بالزنا تصريح منه بعداوته وبغضائه لها وحينئذ فلا تقبل شهادته .
إذن : لا تقبل شهادة العدو على عدوه – وهذا حيث كانت عداوة دنيوية .
وأما اذا كانت دينية فلا ترد – بل تقبل ، كما لو شهد مسلم على كافر أو شهد سني على مبتدع فان الشهادة تقبل وذلك لأن دينه يمنعه من شهادة الزور وهو لا يبغضه لشخصه ولنفسه وإنما يبغضه لدينه فدينه الذي حمله على بغضائه لهذا المبتدع وعلى بغضه لهذا الكافر يمنعه من أن يشهد عليه بالكذب .
قال : [ومن سره مساءة شخص أو غمّه فرحُه فهو عدوه ]
هذا هو العدو .
فإذا سمع أن هذا الشخص أصيب بمصيبه سر في ذلك
وإذا سمع انه قد أصيب بخير ونعمة : فإن ذلك يحزنه ويسئه فهذا هو العدو .
فضابط العدو : من يسره أن يساء هذا الشخص أو يغمه أن يفرح .
فإن قيل : ألا يقضى ذلك : رد شهادته مطلقاً لأن هذا هو الحاسد ؟
فالجواب : أنه ليس كذلك مع كل أحد وإنما مع هذا الشخص المعين للعداوه التى بينهما .
أما لو كان يسيئه أن يسّر أي شخص ويغمه أن يفرح أي شخص فهذا لا شك أنه حاسد فإذا ظهر فيه ذلك فليس بعدل . .
-لكن إذا شهد العدو لعدوه فهل تقبل ؟
الجواب : نعم لعدم التهمة ولا مانع من قبولها
-فإن قيل : ألا تحتمل أن يكون شهد له لدفع ضررة ؟(32/12)
فالجواب : إنه يحتمل ذلك لكنه احتمال ضعيف وبعيد فلا ترد به شهادة المسلم العدل .
والحمد لله رب العالمين
الدرس : الثالث والعشرون بعد الأربعمائة 423
فصل
-هذا الفصل في عدد الشهود وهم البينة .
وعدد الشهود يختلف باختلاف المشهود به كما سيتبين من خلال هذا الدرس .
قال : [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة ]
لا يقبل في الزنا إلا أربعة ، فإذا شهد أربعة على شخص بالزنا ، فإن الزاني يحد ، كما تقدم في حد الزنا قال تعالى (حتى يأتوا بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ).
فبينة الزنا أربعة شهود وتقدم بيان هذا في حد الزنا (والإقرار به ) : فإذا شهد أربعة أن فلاناً قد أقرً على نفسه بالزنا فإنه يحد بذلك .
فلو أن رجلاً في مجلس أقرّ على نفسه أنه قد زنا بالزنا الصريح فتلفظ بما يدل على أنه قد زنا فشهد عليه أربعة بهذا الإقرار فإنه يحد وذلك لأنه إثبات للزنا فلم يثبت إلا بأربعة كشهود الفعل فنقيس شهود الإقرار على شهود الفعل فكما أن شهود الفعل يشترط فيه أن يكونوا أربعة فكذلك شهود الإقرار بجامع أن كليهما إثبات للزنا .
والقول الثاني في المسألة : وهو رواية عن أحمد انه يكتفى بالإقرار بشهادة اثنين كسائر الإقرارات فسائر الإقرارات يكتفى فيها بشهادة اثنين فكذلك في الإقرار بالزنا .
-والأول أظهر ، لما تقدم فتعليله أقوى لأنه إثبات للزنا فأشترط فيه أن يكون الشهود أربعة كفعل الزنا .
إذن : لا يقبل في الزنا ولا في الإقرار به إلا أربعة .
وكذلك ما يوجب حد الزنا كاللواط فانه يشترط فيه أيضاً شهود الزنا لأنه يوجب حد الزنا في المشهور من المذهب .
وتقدم أن الراجح : أن حده أعظم وأنه لا فرق بين المحصن وغيره ، وعليه فيشترط فيه أربعة من باب أولى .
وإذا قلنا في إتياك البهيمة أنه يوجب حد الزنا فيشترط فيه أربعة ، وتقدم أن الصحيح أن حكمه ليس كذلك .
قال : [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان ](32/13)
وذلك لأنه هذا الفعل لا يوجب حد الزنا وإنما يوجب التعزير فاكتفى فيه بشهادة رجلين.
قال : [ويقبل في بقية الحدود والقصاص ]
سائر الحدود كالقذف والسرقة ، وكذلك القصاص أي القود .
قال : (وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالباً كنكاح …..إلى أن قال : يقبل فيه رجلان ).
فالحدود كالسرقة وغيرها من الحدود تقبل فيها رجلان اتفاقاً . وكذلك القصاص ، فإذا شهد اثنان أن زيداً قتل عمراً عمداً فهذا يوجب القصاص بالشروط التى تقدم ذكرها وعليه فيشترط فيه شاهدان ذكران .
-وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالباً يشترط فيه رجلان ، وضرب المؤلف لذلك أمثلة .
(كنكاح ) : فيشرط في النكاح أن يشهد عليه رجلان وكذلك في الطلاق وكذلك في الرجعة والخلع والنسب والولاء وكذلك في الإيصاء إليه يعني بغير المال .
فإذا ادعى رجل إلى ورثة فلان : أن فلاناً قد أوصى إليه بانكاح بناته ،أو قال : أوصاني أبوكم أن أقوم برعاية القُصّار فيشترط في ذلك أن يكون الشهود رجلين .
إذن : عندنا ثلاثة أشياء يشترط فيها شاهدان :
الأول : الحدود سوى الزنا .
الثاني: القصاص .
الثالث : ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال غالباً.
قال تعالى (واشهدوا ذوى عدل منكم )
-وهل يكفى شهادة رجل أو امرأتين أو الشاهد واليمين في هذه المسائل أم لا ؟
الجواب فيه تفصيل :
أما الحدود والقصاص فالراجح أن شهادة النساء لا تصح فيها هذا هو مذهب عامة أهل العلم.
ويدل عليه قوله تعالى : (حتى يأتوا بأربعة شهداء ) فاشترط الله عز وجل في تثبوت الزنا الذكورية فيقاس عليها سائر الحدود ويلحق بها القصاص لأن القصاص مما يحتاط فيه لأن فيه إزهاقاً للنفس أو اتلافاً للطرف أو جرحاً للبدن فكان مما يحتاط به .
-وذهب بعض السلف وهو اختيار الشيخ عبدالرحمن بن سعدي إلى أن شهادة النساء تجزئ فيه .(32/14)
واستدل – رحمه الله – بالأثر والنظر .
-أما الأثر فهو قوله صلى الله عليه وسلم – في الصحيح – " أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل " وهذا عام .
-وأما النظر فإن مبنى الشهادة على الحفظ والضبط والصدق وهذه الصفات ثابته في النساء كما هي ثابتة في الرجال ، وما يكون في النساء من نقص يجبر بمضاعفة العدد .
وهذا الاستدلال وإن كان قوياً . فالأظهر ما ذهب اليه أهل القول الأول وذلك لما تقدم في اشتراط الله عز وجل الذكورية في حد الزنا ويلحق به غيره ويلحق به القصاص احتياطاً للدماء .
وعليه العمل عند عامة أهل العلم .
-وأما ما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال كالنكاح وحده :
فالصحيح فيه : وهو رواية عن الإمام احمد : قبول شهادة رجل وامرأتين .
فإذا شهد رجل وامرأتان على نكاح أو طلاق أو رجعة او خلع أو نسب أو ولاء أو إيصاء بغير مال فإن ذلك يجزئ .
وذلك لما تقدم من قول النبى صلى الله عليه وسلم :(أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل ).
وليست هذه الشهادة بمعنى الحدود والقصاص ، ليس ثمت إجماع يخالف .
-وهل يقبل فيها الشاهد واليمين أم لا ؟
فإذا ادعى رجل أنه قد راجع زوجته قبل انتهاء عدتها وأتى بشاهد يشهد على ذلك – وحلف بعد الشاهد فهل تثبت له الرجعه أم لا ؟
-المشهور في المذهب : إنها لا تثبت له الرجعة حتى يأتى بشاهدين .
-وفي القول الثاني في المسألة : وهو رواية عن أحمد واختيار شيخ الإسلام : أن الشاهد ويمين المدعي يقبل في هذه المسائل أي المسائل التى يطلع عليها الرجال غالباً وليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد بها المال .
وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد .
وليس في الحديث ما يدل على أنه في المال .
-هذا هو الراجح .
قال : [ ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه أو نحوه رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعي ].(32/15)
(يقبل في المال ) : إذا ادعى زيد أن له في ذمة عمرو عشرة آلاف ريال ، فنقول: إن أتيت بشاهدين ثبت الحق لك وإن أتيت برجل وامرأتين ثبت الحق لك ، وإن أتيت بشاهد مع يمينك ثبت الحق لك .
قال تعالى : (واستشهدوا شهدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء ) وهذه الآية في مسألة مالية وهي المداينة : (يا أيها الذين آمنوا اذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ) .
(وما يقصد به كالبيع ) : فإذا ادعى فلان أن فلاناً قد باعه داره فأتى برجلين يشهدان قُبل ذلك او أتى برجل وامرأتين قُبل ذلك ، أو أتى بشاهد مع يمينه ..
(والأجل ): إذا ادعى زيد أن عمراً قد باعه هذه الدار بمائة ألف مؤجلة الى سنة فأقرّ عمرو بالبيع ولم يقرّ بالأجل .
فنقول له : احضر البينة ، وبينتك رجلان أو رجل وامرأتان أو شاهد مع يمينك .
-(الخيار فيه ) : كأن يقول : أنا اشترطت لى الخيار ثلاثه أيام .
فيقول : احضر البينه ويكفي في ذلك شاهدك ويمينك أو شاهد ذكر وامرأتان .
(ونحوه ) : كالقرض والرهن والغصب والعتق ، وعامة المسائل المالية .
ودليل ثبوت الحقوق المالية بالشاهد واليمين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس : أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد .
وهو من حديث أبي هريرة في سنن ابي داود والترمذي .
وهل يقبل فيه – أي في المسائل المالية – شهادة امرأتين مع اليمين ؟ أم لا ؟
إذا ادعى رجل أن فلاناً قد باعه داره فقلنا له : أحضر البينة،
فقال : بينتي امرأتان مع يمينى ، فهل يقبل ذلك ؟
قولان لأهل العلم :
المشهور في المذهب : أن ذلك لا يقبل .
واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك وأحد الوجهين في المذهب قبول ذلك.
وهو الراجح لقوله صلى الله عليه وسلم :" أليس شهادة المرأتين كشهادة الرجل ".
ولأن شهادة المرأتين قرينة قوية تجعل الظاهر مع المدعي واليمين في جنب أقوى المتداعيين.(32/16)
قال شيخ الإسلام : "ولو قيل : بقبول المرأة مع اليمين لتوجّه ".
وفيه قوة ، لأن شهادة المرأة تجعل الظاهر مع المدعي فحينئذ تكون قرينة قوية ، فإذا حلف معها كان القول قوله .
إذن : وجّه شيخ الإسلام قبول شهادة المرأة الواحدة مع اليمين قال : كخبر الديانة ، فكما أن المرأة يقبل خبرها في الدين فكذلك هنا .
وأما قوله تعالى ((واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء )) يقول هذا في التحمل فيحتاط في التحمل واما في الاداء فليس كذلك .
-والمشهور – وحكي إجماعاً – عدم قبول شهادة أربع نسوة فإذا شهدت أربع نسوه بأن فلاناً قد باع فلاناً داره فان شهادتهن لا تقبل .
-ولو قيل بقبول شهادتهن لكان قوياً لما تقدم من أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل ، والله اعلم .
-وهل تقبل اليمين قبل الشاهد ؟
الجواب : لا تقبل اليمين إلا بعد الشهادة ، وذلك لأن اليمين إنما صارت في جنبه بعد الشاهد ، فإذا شهد الشاهد كانت اليمين له أي للمدعي .
قال : [وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه يقبل فيه شهادة إمراة عدل ]
(كعيوب النساء ) : كبرص ونحوه .
(والاستهلال) : أن يخرج المولود صارخاً فتثبت له الإرث ونحوه من الأحكام .
(ونحوه ): كالجراحة تكون في مجمع النساء كعرس أو حمام أو نحو ذلك فإنه يقبل في ذلك شهادة إمرأة عدل .
-فإذا شهدت امرأة أن في فلانة برصاً في جلدها أو شهدت أنها بكراً وأنها ثيب أو شهدت أنها حائض أو شهدت بولادة أو رضاع أو استهلال فإن شهادتها تقبل في هذه المسائل لأن هذه المسائل مما لا يطلع عليها الرجال في الغالب ، فقد يطلع عليها الرجال لكن اطلاعهم عليها نادر ، فقبلت فيها شهادة النساء .(32/17)
وقد تقدم حديث المرأة التى قالت – وهي أمة سوداء – أنى قد أرضعت عقبة والتي تزوج فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كيف وقد قيل " فقبل النبي صلى الله عليه وسام شهادتها وهي إمرأة واحدة وهكذا في عامة ما ذكره المؤلف من المسائل .
إذن : ما لا يطلع عليه الرجال في الغالب تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة .
-وقال المالكية : بل لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين .
وقال الشافعية : بل لا يقبل فيه إلا شهادة أربع نسوة والأظهر هو القول الأول لشهادة المرضعة على الرضاع وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم شهادتها .
ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فإن الغالب في مثل هذه المسائل ألاّ تشهد فيها إلا المرأة الواحدة فيتعسر في الغالب شهادة أكثر من امرأة .
إلا ما تقع من جراحات بين النساء , فالذي يقوي – أنه لا يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة ، لأن الشهادة فيها بأكثر من امرأة لا تتعسّر .
ولأن جراحات الرجال لا تثبت بالرجل الواحد فأولى من ذلك ألا تثبت جراحات النساء بالمرأة الواحدة فالأظهر أنه لا يقبل فيها – أي الجراحات التى تكون في مجتمع النساء – لا يقبل فيها إلا شهادة أربع نسوة كما هو مذهب الشافعي في عامة مسائل هذا الباب .
وإذا كان يوجب المال فإذا شهدت امرأتين أو امرأة واحدة مع اليمين اكتفينا بذلك لأننا لا نقبل في الجراحات التى يوجب المال إلا شهادة رجل وامرأتين أو شاهد واليمين فإذا كان هذا في حق الرجال فأولى من ذلك النساء لأن شهادة النساء دون شهادة الرجال .
فالأظهر أنا لا نقبل إلا شهادة أربع نسوة . لكن ظاهر كلام الفقهاء أن القود لا يثبت بذلك وإنما هو في المسائل المالية اذ لا مدخل لشهادة النساء في الحدود والقصاص .
فالذي يوجب قوداً الأظهر عدم قبول شهادتها .
قال : [والرجل فيه كالمرأة](32/18)
بل أولى . فإذا شهد رجل برضاع فقال : أشهد أن فلاناً قد رضع من فلانة فهو أولى من المرأة لأن شهادته أعلى من شهادة المرأة ، فإذا قبلنا شهادة المرأه فأولى من ذلك شهادة الرجل .
-وظاهر كلام المؤلف أن هذه الشهادة لا تفتقر إلى يمين وهو نص الإمام أحمد وهو ظاهر الحديث المتقدم في قضيه شهادة المرضعة فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يستحلفها .
إذن : إذا شهدت المرأة على أمر لا يطلع عليه في الغالب إلا النساء فان شهادتها تقبل بلا يمين .
لكن إذا ارتاب القاضى فله أن يحلفها ، لقوله تعالى (فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمناّ) الآية .
قال : [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا مال ).
تقدم أن القود يشترط فيه شهادة رجلين فإذا أتى مدع برجل وامرأتين أو أتى بشاهد ويمين فيما يوجب القود .
كأن يدعى رجل أن فلاناً قد قتل وليّه عمداً وأحضر رجلاً وامرأتين أو اأحضر رجلاً وقال : أنا أحلف على ذلك . فلا يثبت به قود ولا مال .
فلا يثبت القود لأنه يشترط في القصاص شهادة رجلين فلم تكتمل البينة .
ولا يثبت المال ، فلو قال : أنا أحضرت لكم رجلاً وامرأتين فاقضوا لي بالدية فلا يحكم له بذلك وذلك لأن المال فرع وبدل عن القود ، وإذا لم يثبت المبدل لم يثبت البدل ، فلم يثبت القود بهذه الشهادة ، والمال بدل عنه فكذلك لا يثبت .
لكن لو أتى برجل وامرأتين أو بشاهد مع يمينه يشهدون أن فلاناً قد قتل وليه خطئاً فإن المال يثبت هنا لأن هذه المسألة مالية والمسائل المالية تثبت بشهادة رجل وامرأتين أو شاهد مع اليمين .
قال : [وإذا أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع ].
إذا ادعى رجل على آخر أنه قد سرق منه عشرة آلاف ريال ثم أتى برجل وامرأتين يشهدون على ذلك .
فلا يثبت حد السرقة لان حد السرقة يشترط فيه شهادة رجلين .
لكن ثبت له المال الذي ادعاه .(32/19)
والفارق بين هذه المسألة والتى قبلها هو : أن ثبوت السرقة يترتب عليه شيئان : القطع وهو الحد والشىء الثاني : الضمان . فليس المال فرعاً عن القطع كالمسألة الأولى . فإذا لم تستكمل بينة الحد واستكملت بينة المال ثبت المال .
وكذلك في الشاهد واليمين . فإذا ادعى أن فلاناً قد سرق منه عشرة آلاف وقال : بينتى هذا الشاهد ثم أدلى الشاهد بشهادته ثم حلف هو أي المدعي – فإنا نضمن المدعى عليه المال الذي أدعّى عليه ،لأنها أصبحت مسألة مالية لا تثبت السرقة وبالتالى لا نقطع يده لأن بينة الحد لم تستكمل .
قال : [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه ].
إذا ادعى رجل أنه خالع امرأته على عشرة آلاف ريال وهو يريد هذه العشرة آلاف منها ، واحضر رجلاً وامرأتين بينة على ذلك . فلا يثبت الخلع بذلك –في المشهور من المذهب – لأنه ليس بمال ولا يقصد به المال فلم تثبت إلا بشهادة رجلين – هذا في المشهور من المذهب وتقدم الراجح .
إذن لا يثبت الخلع بهذه البينه لكنه يثبت عليه الخلع بإقراره ولذا قال : وتثبت البينونة بمجرد دعواه، ويثبت له العوض لأنه مال والمال تقبل فيه هذه البينة .
فإذا ادعت المرأة الخلع ، فقالت : قد خالعنى زوجي على عشرة آلاف وأتت بشاهد ذكر وامرأتين . فلا يثبت الخلع لأنه لا يثبت إلا برجلين في المشهور من المذهب ، وبالتالى لا يلزمها العوض لأن العوض مرتب على صحة الخلع .
والصحيح – كما تقدم – أن الخلع يثبت بشهادة رجل وامرأتين .
والحمدلله رب العالمين
___________________________________________________________
الدرس الرابع والعشرون بعد الأربعمائة 424
فصل
هذا الفصل في الشهادة على الشهادة.(32/20)
إذا شهد زيد أن لعمرو على بكر ألف ريال – مثلاً – فقال : زيد وهو الشاهد الأصل ، قال لسعد احفظ عنى إني شاهد لعمر على بكر بألف ريال ، أو اشهد على شهادتى أن هذا البيت وقف ، أو اشهد على شهادتي أن هذا قد قذف فلاناً ونحو ذلك .
إذن : عندنا شاهدان : شاهد أصل وهو الذي قد سمع أو رأى ، وشاهد فرع وهو الذي لم يسمع ولم ير لكنه حملّ شهادة غيره واستحفظ .
كأن يحتضر رجل فيقول لبعض أولاده : اشهد عليّ إني شاهد لفلان بكذا على فلان ونحو ذلك.
-وهي – أي الشهادة على الشهادة – جائزة بالاجماع ، والحاجة تدعو إليها ، كما يكون في الوقوف .
وأيضاً قد يتأخر عرض القضية على الحاكم فيحتاج إلى شهادة الفرع فيحتاج إليها في حفظ الحقوق .
قال رحمه الله : [ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي ].
فهذه المسألة متفرعة عن مسألة سابقة وهي كتابة القاضي الى القاضي .
وقد تقدم أن المشهور في المذهب أن كتابة القاضي الى القاضي لا تصح إلا في حقوق الآدميين – ولا تصح في الحدود .
وتقدم أن الراجح خلافة .
وهنا كذلك فهذه المسألة كتلك المسألة ، فالمشهور في المذهب إنها لا تصح إلا في حقوق الآدميين ولا تصح في الحدود .
-والمشهور في مذهب الشافعي صحة الشهادة على الشهادة في الحدود .
فالصحيح / أن الشهادة على الشهادة لا يشترط فيها أن تكون في حقوق الآدميين بل تصح في حقوق الآدميين وغيرها فلو شهد فرع عن أصل في حد الزنا أو في حد قذف أو في حد سرقه ونحو ذلك فإن هذه الشهادة صحيحة .
فمثلاً : أراد اثنان أن يذهبا إلى القاضي ليشهدوا على فلان أنه سرق ، فاحتضر أحدهما فالقى بالشهادة الى آخر لم ير ولم يسمع فهي شهادة فرع فتقبل .
قال : [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل ، بموت أو مرض …او غيبة مسافة قصر ](32/21)
فإذا أمكننا أن نحكم بشهادة الأصل فلا يجوز أن نحكم بشهادة الفرع . وذلك لأن شهادة الأصل هي الأصل ، وشهادة الفرع بدل عنها .
ولأن في شهادة الفرع تطويلاً ، فإنا نحتاج إلى أن ننظر في عدالة شهود الأصل وننظر في عدالة شهود الفرع .
ولأن احتمال الخطأ يكون أكبر .
إذن : لا يجوز أن نحكم بشهادة الفرع إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو كخوف من سلطان . إذن لا يجوز لنا إلا عند الحاجة – فهي كالماء والتراب ، فلا يجوز التيمم بالتراب إلا عند عدم الماء أو الضرر باستعماله – وهذا هو مذهب جمهور العلماء كما تقدم تعليله .
-وهل يكفى أن يشهد فرع عن الأصلين ؟
الجواب : لا يكفي ذلك .
فإذا كان زيد وعمرو يشهدان على قضية تحتاج إلى شاهدين – فحَفَظ عنهما هذه الشهادة بكر ، فلا تقبل شهادة الفرع . وهذه هي الصورة الأولى .
-الصورة الثانية : أن يشهد لكل أصل فرع .
فإذا حفظ زيد وعمر شهادة فهما شاهدا أصل فحفظ شهادة زيد بكر وحفظ شهادة عمرو سعد ، فإنها تقبل – في المشهور في المذهب - .
قالوا : لأنه نقل للشهادة فقبل فيها خبر الواحد كخبر الديانة .
-وقال الجمهور : بل لا يقبل وذلك لأنها شهادة في إثبات حق كالإقرار فاشترط فيها شاهدان وعليه فلا بد أن يكون لكل أصل فرعان فيجتمع في القضية أربعة شهود .
أو أن يكون الفرعان قد حفظوا الشهادة عن هذا وعن هذا .
-والقول الأول أظهر لأن تعليله أقوى ، فهي نقل للشهادة وليست إثبات حق وذلك لأنها لا يثبت الحق عليه فإن هذا الشاهد بشهادة الفرع لا يثبت على شاهد الأصل حق وإنما هي نقل لشهادته .
فالأظهر هو قبول ذلك كما هو المشهور في المذهب وهو قول إسحاق، قال الإمام أحمد :" لم يزل الناس على هذا "
فعليه عمل السلف ، ونحوه عن إسحاق .
-الصورة الثالثة : أن يشهد عن كل أصل فرعان .(32/22)
ففي المثال المتقدم : يقول بكر اشهد على زيد وعمرو أنهما قد شهدا بكذا ويقول سعد : اشهد على زيد وعمرو أنهما قد شهدا بكذا وهي مقبولة .
اذن : الخلاف فيما إذا كان لكل أصل فرع واحد والصحيح القبول لكن لا ينفرد في القضية فلا بد في القضية أن يكون شهود الأصل كشهود الفرع فإن كانت القضية مما لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين فلا بد وأن يكون الفرع كذلك / وإذا كانت مما يقبل فيها شهادة رجل وامرأتين فيكون الفرع كذلك ، والنساء لهن مدخل في الباب – على الصحيح وهو المشهور في المذهب.
قال : [ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل ]
اذا كنت في مجلس فسمعت زيدًا يقول : " أشهد أن هذا البيت وقف " فليس لك أن تشهد على شهادته – كما ذكر المؤلف – حتى يسترعيك أي حتى يستحفظك ، فإذا قال : اشهدوا عليّ إذا شهد على فلان ، فحينئذ تصح شهادتك .
إذن : يشترط أن يسترعي شاهد الأصل .
قالوا : لأنه يحتمل أن تكون شهادته على العلم فيحتمل بأنه لما شهد لم يشهد على ما سمع ورأى بل شهد على العلم .
أي : يعلم أن هذا البيت وقف فقال : اشهد أن هذا البيت وقف فهو إنما يشهد بعلمه ، ومعلوم أن الشهادة بالعلم لا تصح .
-والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد : أن شهادة الفرع تصح وإن لم يسترعه شاهد الأصل .
قالوا ولأن الأصل في الشهادة أن تكون بما يسمع وبما يرى أما كونه يشهد بعلمه هذا خلاف الأصل .
فإن قيل : قد يكون شهد على أمر ماض ؟
فالجواب : أن هذا – أيضاً – خلاف الأصل- والأصل بقاء ما كان على ما كان .
فالراجح من هذه المسألة ، صحة الشهادة لا سيما أن الشهادة في هذا الباب إنما شرعت للحاجه اليها .
قالوا : [فيقول : اشهد على شهادتى بكذا ]
فيقول شاهد الأصل لشاهد الفرع : اشهد على شهادتي بكذا فيكون بذلك قد استرعاه أي قد استحفظه الشهادة .
قال : [أو يسمعه يقر بها عند الحاكم ](32/23)
فإذا سمع شاهد الفرع شاهد الأصل يقر بالشهادة عند الحاكم فإنه يحفظها عنه ويجوز له أن يشهد عنه بذلك لأنه يزول الإحتمال المتقدم .
فإذا كان في مجلس الحاكم فأتى بشاهدين لكن القاضي لم يحكم بالقضية لأمر ما أو لم تستوف البينة ، فشهد الرجل أن فلاناً قد شهد عند الحاكم بكذا ، كأن يكون قد مات هذا الشاهد الذي شهد في مجلس الحاكم وكان هناك من يجلس عند القاضي فشهد أن فلاناً قد شهد فحينئذ تقبل لزوال الإحتمال المذكور .
قال : [أو يعزوها إلى سبب من قرض او بيع ونحوه ].
فعزوها إلى سبب يقويها ، وحينئذ يضعف ذلك الإحتمال .
فاذا قال : أشهد أن فلانا قد شهد أن لفلان على فلان كذا وكذا قيمة داره التى باعها إياه
أو قال : أشهد أن فلانا شهد لفلانة على فلان كذا وكذا مهراً لها .
إذن : المشهور في المذهب : أنه يشترط أن يسترعيه الشهادة إلا أن يشهد في مجلس القاضي أو أن يشهد على شئ ويذكر سببه فحينئذ لا يشترط أن يسترعيه الشهادة .
قال : [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض – يلزمهم الضمان دون من زكاهم ].
إذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض ولو قبل الإستيفاء هنا ثلاثة أحوال .
(1) الحالة الأولى : أن يرجع شهود المال قبل الحكم .
كأن يشهد زيد وعمروّ أن لبكر على سعد عشرة آلاف ريال وأثناء جلوسهم مع القاضي وقبل أن يُبتّ بالحكم رجعوا عن الشهادة .
فالحكم : أن القاضي لا يحكم وذلك لأن الشرط في الحكم قد زال فشرط الحكم الشهادة وقد زالت قبل الحكم .
(2) الحالة الثانية : أن يرجعا بعد الحكم وقبل الإستيفاء .
أي لما حكم القاضي وبتّ في القضية قالوا رجعنا ، وكان ذلك قبل الإستيفاء أي قبل أن يعطى المدعى عليه المدعي هذا المال المدعى به .
فالحكم : أن الحكم لا ينقض .
(3) الحالة الثالثة : أن يرجعا بعد الحكم وبعد الإستيفاء .
فالحكم : أن الحكم لا ينقض .(32/24)
إذن : بعد الحكم سواء كان بعد الاستيفاء أو قبله فإن الحكم لا ينقض وذلك لأن الحكم قد ثبت بتوفر شروطه .
ولئلا يكون حكم القاضى العوبة بأيدي الشهود .
وقد يكون رجوعهم لرغبةٍ او رهيةٍ ، لرغبة بمال كأن يعطوا رشوة أو رهبةٍ كان يهددوا ليرجعوا .
-ويلزم هولاء الشهود الضمان دون من زكاهم ، فنقول للمدعى عليه أعط المدعي حقه الذي قد ثبت وارجع بحقك إلى الشهود وذلك لأن الشهود هم الذين قد اخرجوا منه ماله بغير حق فكان الضمان عليهم .
(دون من زكاهم ) فإذا رجعوا فإن الحق ثبت عليهم دون من زكاهم لأن من زكاهم إنما بنى على ظاهر أمرهم من العدالة وهم قد رجعوا فيكونون هم الذين قد باشروا ذلك فأخرجوا الحق عن صاحبه .
لكن إذا بان أن هؤلاء الشهود فسّاق أي لم يرجعوا لكن بان فسقهم وكان فسقهم ظاهراً فحينئذ : يرجع على المزكي .
ولا يقال : إنه يرجع إليهم هم أي الشهود ، لأنهم لا يزالون يثبتون الحق ولا يزالون يقولون نحن شهود على كذا ، لكن شهادتهم لا تقبل ، والذي غررّ الحاكم بهم هم هؤلاء المزكون .
وفي قوله : (شهود المال) قيد يخرج القصاص والقود ، فإذا كان الشهود قد شهدوا في القصاص ، فإذا رجع الشهود بعد الحكم وقبل الإستيفاء ، فإن القصاص لا يستوفى .
فإذا شهد فلان وفلان أن زيداً قتل عمراً عمداً فحكمنا على زيدٍ بالقود واختار ذلك الأولياء ، وقبل أن يسُتوفى رجع الشهود ، فحينئذ لا تنفذ القود ، وذلك احتياطياً للدماء والأطراف .
وكذلك في الحدود ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولا شك أن رجوع الشهود شبهة كبيرة.
لكن هل تثبت الدية ؟
الجواب : نعم تثبت الدية ، فرجوع الشهود بعد الحكم لا ينقض حكم القاضي ، لكن احتطنا للدماء فلم ننفذ القود لكننا نثبت الدية ، فشهادتهم تثبت الدية وبرجوعهم لا نقيم القصاص احتياطاً للدماء .
قال : [ وان حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله ]
إذا حكم القاضي بشاهد ويمين :(32/25)
كأن يدعى زيد على عمرو أن له عليه عشرة آلاف وليس عنده إلا شاهد فيقول : يحلف على ذلك فقال : نعم فشهد الشاهد وحلف هو، ثم رجع الشاهد ، فإنه يرجع إلى الشاهد بالمال كله ، وذلك لأن الشاهد هو حجة الدعوى وأما اليمين فهي قول الخصم .
فعليه : اذا رجع هذا الشاهد فإنا نضمنه المال كله .
********
"باب اليمين في الدعاوي"
قال : [لا يستحلف في العبادات ]
إذا ادعى رجل أنه قد أخرج زكاة ماله أو أنه أوفى بنذره أو أنه يصلى في بيته ، فإنه لا يستحلف على ذلك ، لأن العبادات حقوق الله وهي مبنية على المسامحة .
وقال الشافعية : بل يستحلف لأنها دعوى .
والصحيح هو الأول . لأن اليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين في قول النبى صلى الله عليه وسلم " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ".
فاليمين إنما شرعت في حقوق الآدميين ولا تقاس عليها حقوق الله للفارق ، فإن حقوق الله مبنية على المسامحة .
إذن : إذا قال عند صاحبي الحسبة : إني أصلى في بيتى فإن ذلك يقبل منه بلا يمين .
قال : [ولا في حدود الله تعالى ]
لأن حدود الله تعالى حق مبنى على المسامحة ،
ولأن المشروع هو الستر ، وإذا كان يُلقّن عدم الاقرار فأولى من ذلك ألا يستحلف وهذا باتفاق العلماء .
قال : [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي ].
فيستحلف المنكر في كل حق لآدمي إذا كان الحق مالاً أو يقصد به المال
فإذا ادعى زيد أنه اقرض عمراً ألف ريال فأنكر ذلك عمرو فنقول له : احلف
وكذلك إذا ادعى زيد أن عمراً قد باعه داره فأنكر ذلك عمرو فنقول له : احلف ونحو ذلك .
قال : (إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والإستيلاد والنسب والقود والقذف )
" اصل الرق " إذا ادعى فلان أن اللقيط الذي عنده في البيت رقيق له فهنا قد ادعى اأصل الرق .
" والاستيلاد " أي استيلاد الأمة .(32/26)
فهذه الامور التى ذكرها المؤلف مستثناه لأنها ليست بمال ولا يقصد بها المال فلا يستحلف فيها المنكر .
فإذا ادعت امرأه أن زوجها قد طلقها فنقول : احضري البينة ، فإذا قالت لا بينة عندي ، فإننا لا نحلف الرجل .
وإذا ادعى رجل أنه قد راجع امرأته فأنكرت المرأه ذلك فنقول للرجل : احضر البينة ، فإن قال ليس عندى بينة فلا نطلب منها اليمين .
كذلك في الإيلاء : إذا ادعت المرأة أن زوجها قد أتى منها أي حلف ألا يطأها فأنكر ذلك فلا نقول له احلف وهكذا عامة المسائل التى ذكرها المؤلف هنا .
-والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية : أن الاستحلاف ثابت في هذه المسائل من حقوق الآدميين وأن حقوق الآدميين كلها يستحلف فيها سواء كانت في الأموال او في غير الأموال .
-وهذا هو القول الراجح في المسألة ، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه " يدل على أن اليمين تثبت حتى في الدماء أي حتى في القود .
فلو قال رجل : ادعى أن فلانا قد قتل وليي عمداً ، فنقول : احضر البينة فقال : لا بينه لي ، فنقول للمدعى عليه احلف اأنك لم تقتل وليه عمداً .
-وهل يقضى بالنكول ؟
تقدم انه في المسألة قولان :
وتقدم اختيار شيخ الاسلام في هذه المسألة وأنه يقضى بالنكول إلا أن يكون المدعي يختص بالعلم فإن اليمين ترجع إليه .
إذن : في النكاح والطلاق والرجعة وفي عامة المسائل التى هي من حقوق الآدميين تثبت اليمين .
وأما في حقوق الله عز وجل فلا .
قال : [واليمين المشروعة هي اليمين بالله ]
تقدم ذكر هذا .
قال : (ولا تغلظّ إلا فيما له خطر)(32/27)
فلا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر كالجناية التى لا ترتب عليها قود ، لأن الجناية التي يترتب عليها قود ليس فيها في المذهب – استحلاف ، لكن الجناية التي تثبت فيها مال كأن يدعى زيد أن عمراً قد قتل وليه خطئاً فإن المدعى عليه يستحلف حتى في المذهب – لأنها في الأموال وهذه المسألة لا خطر فللإمام أن يغلظ في اليمين .
أو كان ذلك في طلاق ، كأن تدعى المرأة أن زوجها قد طلقها ثلاثاً وهو ينكر ذلك ، وقلنا بالإستحلاف فانها تغلظ حينئذ وذلك لأن الأمر فيه خطورة .
وكذلك في العتق فإذا ادعى العبد أن سيده قد أعتقه فالأمر فيه خطر فحينئذ تغلظ اليمين .
-والتغليظ في اليمين مشروع – كما قال شيخ الاسلام – حيث رأى الإمام مصلحة في ذلك .
بل قد مال شيخ الاسلام إلى وجوبه حيث كان فيه مصلحة والأمر كذلك لأنه وسيلة الى إيصال الحق إلى صاحبه .
-والتغليظ قد يكون بالقول كأن يقول له : قل " والله الذي لا الله إلا هو عالم الغيب والشهادة أنه ليس لفلان عليّ كذا "
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم – لعالم من علماء اليهود " أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون الحد في كتابكم "
-وقد يكون التغليظ بالزمان وذلك بعد صلاه العصر قال تعالى ( تحبسونهما من بعد الصلاه فيقسمان بالله )
وهي صلاة العصر بإجماع المفسرين .
وقد يكون التغليظ في المكان : كالمنبر في الجامع .
لما روى مالك في موطئه وأبو داود وابن ماجه وغيرهم : ان النبى صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على منبري يميناً آثمة فليتبوأ مقع من النار )
قال الفقهاء : ويقاس عليه غير منبره : والله أعلم لكن لا بأس بذلك من باب التغليظ .
قالوا : وكذلك بين الباب والركن عند الكعبة فهذا تغليظ في المكان .
إذن : له أن يغلظ بالزمان وله أن يغلظ بالمكان وله أن يغلظ باللفظ .
-فإذا نكل فما الحكم ؟(32/28)
أي قيل له :" والله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة أنه ليس لفلان على حق " فقال أنا لا احلف إلا أن اقول :" والله " أو قيل له : احلف بعد صلاه العصر أو إحلف على المنبر .
فقال : لا أحلف ، إن شئتم مني : " والله " وإلا فلا أحلف ، فما الحكم ؟
قالوا : يقبل منه ذلك ولا يحكم بنكوله لأنه ليس عليه إلا اليمين وقد قام بما عليه وهي اليمين .
ومال شيخ الاسلام إلى أنه يحكم بنكوله لأنه لا فائدة من التغليظ إلا هنا ، فالمقصود زجره وردعه عن الإنكار بحيث إنه إذا أنكر فحلف بهذه اليمين انزجر وارتدع ونكل فثبت الحق لصاحبه وهذا هو الراجح .
------------------------------------------------------الدرس الخامس والعشرون بعد الأربعمائة – والأخير 425
كتاب الإقرار
الإقرار : هو الإعتراف بالحق .
وهو أقوى البينات ، ذلك لأن العاقل لا يكذب على نفسه بما يضّرها فلا يمكن أن يعترف أن لفلان عليه عشره آلاف درهم وهو كاذب على نفسه .
-والفقهاء .منهم من يضعه في آخر كتاب الفقه تفاؤلاً بالإقرار بالشهادتين عند الموت.
ومنهم من يضع العتقَ في آخر كتاب الفقه تفاؤلاً بالعتق من النار .
قال رحمه الله [يصح من مكلف] .
فاذا كان الإقرار من غير مكلف كالصبي والمجنون ، فإنه لا يصح .
فإذا أقر صبي أن عليه عشرة آلاف فإن إقراره لا يصح، وكذلك إقرار المجنون أو المغمي عليه أو النائم .
لقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاثة – ذكر منهم – الصبي والمجنون والنائم " .
لكن هل للصبي أن يقرّ بما يصح تصرفة فيه ، مما يأذن له فيه وليه ؟
فالولى يأذن للصبي أن يتصرف ببعض الشيء الذي لا يضر بماله ، فإذا أذن له أن يتصرف بشيء من البيع والشراء ، فهل له أن يقر به .
الجواب : نعم ، لأنه لما صح تصرفه فيه صحّ إقراره معه .
مسألة :(32/29)
إذا أقر الصبي ابن عشر أو الجارية بنت تسع بالاحتلام – وهذه هي السن التى يمكن فيها الاحتلام في مذهب أحمد كما تقدم – فما الحكم .
الجواب : إنهما إذا ادعياه فإنه يقبل منهما فاقرارهما بالإحتلام مقبول .
وذلك لأن الإحتلام لا يعلم إلا من جهتهما . فكان القول قولهما .
-لكن لو ادعى السن ، فقال قد بلغت خمس عشرة سنة فلا تقبل إلا ببينة وذلك لأن بلوغ السن الخامسة عشرة ظاهر معلوم يعلم من غير صاحبه فاحتيج إلى بينة .
قال : [مختار ]
أي ليس بمكره ، لقوله تعالى : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فالإكراه مرفوع .
فإذا أكره على الإقرار بالمال فأقر به مكرهاً فهذا الإقرار لا يصح .
قال : [غير محجور عليه ]
أي غير محجور عليه لسفه وذلك لأن تصرفه في المال لا يصح وعليه فلا يصح إقراره.
وأما المحجور عليه لفلس فقد تقدم ان إقراره يصح في الذمة ولا يصح في المال الذي قد حجر عليه فيه .
قال : [ولا يصح من مكره ]
هذا تفريع على قوله : مختار " فلا يصح من مكره" .
فلو أن رجلاً ضُربَ حتى أقر أنه قد طلق إمراته أو حتى أقر أن لفلان في ذمته عشرة آلاف فلا يصح إقراره لأنه مكره .
-فإذا أقرّ وادعى الإكراه ما الحكم ؟
رجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف وشهد شاهدان على هذا الإقرار ثم ادعى أنه قد أُكره على هذا الإقرار فما الحكم ؟
الجواب : لا يقبل منه ذلك إلا ببينة تدل على الإكراه .
وكذلك إذا كان هناك ما يدل على الإكراه كأن يكون أقر في حبس أو في قيد أو أثناء ضرب فإن هذه يدل على الإكراه .
وعليه : فإذا ضُرب المتهم حتى اعترف فهل يصح إقراره ؟
الجواب : لا يصح إقراره لأنه مكره .
لكن هل هذا على إطلاقه ؟
في المسألة قولان لأهل العلم – كما حكى ذلك شيخ الإسلام –:(32/30)
القول الأول : أن ذلك على إطلاقه وهو قول بعض أصحاب أحمد والشافعي ، فإذا ضرب الرجل فاعترف فإنه لا بد وأن يصدق اعترافه مرة أخرى أي لا بد وأن يقر مرة أخرى عند القاضي فإذا أقر بعد ذلك فإن الإقرار يصح .
والقول الثاني في المسألة : وهو الذي عليه القضاء هنا أن ذلك ليس على إطلاقه ، بل إذا أقرّ وكان هناك ما يصدق إقراره أثناء الضرب فإن ذلك يصدق .
مثال ذلك : رجل لما أتى به فضرب على السرقة،
قال : اعترف أني قد سرقت القيمة الفلانية ، من المكان الفلاني وذهبت وأخذت الشيء الفلاني وكسرت الباب ووصف السرقة وصفاً ظاهراً ، والمال المفقود هو ما ذكره والباب المكسور هو المذكور فحينئذ نعلم أنه قد سرق ولا نحتاج حينئذ إلى إقراره ، هذا هو أصح قول العلماء في هذه المسألة .
قال : (وإن أكره على وزن مال فباع ملكه صح )
أي صح البيع ،
رجل قيل له : ادفع عشرة آلاف ريال وإلا قتلناك ، وليس عنده إلا هذه الدار أو عنده غيرها ، فباع هذه الدار ودفع هذه العشرة آلاف ، فان البيع يكون صحيحا ، وذلك لأنه لم يكره على هذا البيع ، وهذه المسألة استطراد من المؤلف .
قال : (ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره به في صحته )
رجل في مرضه قال : أُقرّ أن لفلان عليّ عشرة آلافً فإن هذا الإقرار يصح ، كما أقرّ في صحته لعدم التهّمه واستثنى المؤلف فقال :
[إلا في إقراره بالمال لوارث ].
فإذا أقر بالمال لوارث فلا يقبل
فلو كان له ابنان فقال في مرضه أقر أن لابنى فلاناً عشرة آلاف في ذمتي فلا يصح هذا الإقرار للتهمه .
لكن إذا أقام بينة أو أجاز بقية الورثة فإن هذا الإقرار يصح .
قال : [وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره ]
رجل عنده زوجتان فأقر لكليهما أو لأحدهما بالصداق فقال : أقر أن لفلانه عليّ الصداق أو أن هناك مهر مؤخر لفلانه فلها مهر المثل بالزوجية لا بإقراره ، لأن إقراره لوارث لا يصح والزوجة وارثة .(32/31)
فكونها زوجة له يدل على أن لها صداقاً عنده ، وإقراره هذا إخبار منه بأنه لم يوفها صداقها .
قال : [ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها ].
إذا قال في مرضه (أنا قد أبنتها " أي طلقتها " طلاقا بائناً في صحتى) فنقول : هل عندك بينة ؟ فإن قال لا ، فنقول : إقرارك هذا لا يسقط إرثها لأنك متهم بحرمانها .
-كما تقدم في كتاب الفرائض .
قال : [وإن أقر لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره لأنه باطل ، وإن أقرّ لغير وارث أو أعطاه صح وإن صار عند الموت وارثاّ].
فالإقرار المعتبر في صحته حال المقرَّ له حال الإقرار .
فإن كان المقر له ليس بوارث فإنه يصح هذا الإقرار وإن صار وارثاً بعد ذلك .
وأما إذا كان إثناء الإقرار وارثاً فإن الإقرار له لا يصح وإن كان ليس بوارث بعد ذلك.
فمثلاُ : رجل له زوجة حامل وله ابن عم ، فإن العم وارث فلا يصح الإقرار له ، لكنه أقرّ له ثم ولد له ابن من زوجته ، فلا يرث ابن العم ، ولا نرجع الى الإقرار المتقدم فنصححه لأن العبرة بحاله عند الإقرار ، وحاله عند الإقرار أنه وارث وإن كان ليس بوارث بعد ذلك .
وكذلك العكس : رجل قال لفلانة عليّ كذا ، ثم لم يمت حتى تزوجها فإن هذا الإقرار يثبت لأن حالها عند الإقرار أنها ليست بوارثه .
إذن : إذا أقرّ لوارث فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره لا أنه باطل لأنه موقوف على إجازة الورثة فلو أجاز ذلك الورثة صح هذا الإقرار .
قال : [وإن أقرت المرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قبل ].
رجل قال لامرأة : " انك زوجة لى : فقالت "أقر بذلك" فهذا الإقرار صحيح لأن النكاح حق فصح إقرارها فيه كالمال .
لكن هنا شرط ألا يدعيّه اثنان .
فإذا أتى اثنان إلى قاضي وكل منهما يدعي أن فلانة زوجة له فأقرت لأحدهما فظاهر كلام المؤلف أنه لا يقبل هذا الإقرار .
-والقول الثاني – وهو الصحيح في المذهب – أن إقرارها لأحدهما صحيح وهو ظاهر.(32/32)
لأنها قد أقرت لأحدهما بحق عليها وليس هناك ما يمنع فليس مع الآخر بينة تمنع ,
لكن إن كان مع كل واحد فيهما بينة ؟
كأن يدعى اثنان على فلانة أنها زوجة وكل يقول هي زوجتى وأقام كل واحد فيها بينة .
فالحكم : أننا نحكم بالبينة الأسبق .
فإن لم نعلم أيهما أسبق وادعى ولي المرأة أن بينة أحدهما هي الأسبق قُبلَ قولْهَ بيمينه .
فإن قال ولىّ المرأة : لا أعلم أيهما أسبق ، فحينئذ تفسخ نكاح الإثنين كما إذا زوجها وليان ولم يعلم أيهما الأسبق .
وهل نحكم لمن هي تحت يده .
الجواب : لا نحكم بها لمن هي تحت يده لأن الُحرَ لا يحكم عليه باليد .(الحر: الفرج)
قال : [وإن أقرّ وليّها المجبر بالنكاح أو الذي أذنت له صحّ ].
اذا أقرّ الولى المجبر بالنكاح فهل يصح ويكون كإقرار المرأة ؟
الجواب : نعم لأن الولى المجبر – وهو الأب في المذهب – يملك إنشاء عقد النكاح فيملك إقراره .
-وكذلك الولى غير المجبر إن أذنت له المرأة لأن المرأة إذا أذنت له ملك أنشاء عقد النكاح عليها وإذا ملك عقد النكاح ملك الإقرار به .
إذن : الإقرار بالنكاح يصح بإقرار المرأة ويصح بإقرار وليها المجبر وبإقرار وليها غير المجبر إذا أذنت له بالإقرار .
قال : [وإن أقر بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه ]
إذا أقر بنسب صغير فقال – مثلاّ – هذا الطفل أبن لي أو أخ لى ، وقيده بالصغير لأنه إن كان كبيراً بالغا فلا بد وأن يصدق هذا الإقرار .
كذلك لا بد أن يكون الصغير ومثل ذلك المجنون – لا بد أن يكونا مجهولى النسب لأنه إن كان معلوم النسب فلا يصح ادعاء نسب آخر له .
فإذا ادعي على هذا الصغير أو المجنون مجهول النسب أنه ابنه أو أخوه أو ابن أخيه فإن نسبه يثبت منه .
والشارع متشوف إلى إثبات النسب ، وهذا المقرّ يقر بحق عليه فقبل إقراره .
لكن كان المقرّ له بالغاً فأنكر ذلك فان الإقرار صحته قاصر، فلا يصح الإقرار على الغير ، بل يصح على النفس .(32/33)
فلو أن رجلاً اقرّ على نفسه وعلى شريكه فيلزمه ذلك ولا يلزم شريكه
قال : [فإن كان ميتاً ورثه ]
فإذا كان هذا المقرّ له ميتاً ورثه المقر ، لأن الإرث يترتب على النسب وقد ثبت النسب فيترتب على ذلك الإرث .
-وصوّب صاحب الإنصاف : أنه لا يرثه للتهمة .
فلو أن هذا مجهول النسب لا يعرف نسبه له أموال كثيرة طائلة فلما فاق جاء رجل فقال هو ابني أو أخي فهل يقبل هذا الإقرار ؟.
-كلام المؤلف يدل على أنه يقبل لأنه أثبت نسبه إليه ومن ثم يثبت إرثه .
-والقول الثاني : انه لا يرثه للتهمة وهذا أظهر لكن ليس على إطلاقه ، فلو أن التهمة انتفت وكان الإرث عنده لا يستحق عنده إثبات النسب بل هو صادق في دعواه النسب لكن الإرث يرتب على ذلك فلا يمنع .
إذا كان الرجل غائباً وكان الإرث ليس بالكثير فادعى صاحب هذا المال أخ له فدعواه ممكنة والتهمة ضعيفة ، فالمقصود أن الحكم يدور وجوداً وعدما مع التهمة فإذا كانت التهمة ظاهرة لم نقبل وإلا قبلنا .
ومثل ذلك الإقرار لوارث ، فإذا انتفت التهمة فكذلك .
فلوا أن رجلاً له بنت وابن عم ، فلو أنه أقرّ لابن عمه بشىء من المال لم يكن متهماً بخلاف ما لو أقر لابنته وهذا هو مذهب مالك في المسألة السابقة .
قال : ]وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صحّ]
أي صح إقراراً
هذه المسألة بينّ فيها المؤلف أن الإقرار يصح بكل لفظ يدل عليه .
فإذا قال له :" لي عليك عشرة آلاف " فقال صدقت " فيكون ذلك إقراراً
أو قال :" أليس لي عليك عشرة آلاف " فقال بلى " أو كان من العامة فقال نعم ، فإن ذلك يعتبر إقراراً .
***************
فصل
قال : [إذا وصل بإقراره ما يسقطه مثل أن يقول : له على ألف لا يلزمني ونحوه لزمه الألف ]
إذا وصل بإقراره ما يسقطه ، بمعنى أقرّ لكنه وصل بإقراره ما يسقط الإقرار وينفيه .
فمثلاً : قيل له : أليس لفلان عليك ألف ، فقال : له على ألف لا تلزمني .(32/34)
أو قال : له عليّ ألف هي ثمن خمر ، ومعلوم أن ثمن الخمر باطل .
أو قال : له على ألف هي حلوان كاهن ونحو ذلك فما الحكم ؟
قال هنا : لزمه الألف ، لأنه أقرّ بما يثبت الحق ثم ناقض نفسه فنفاه ، وعليه فلا تقبل هذه الوصلة من الكلام إلا ببينة ، فإذا قال : له عليّ ألف لا تلزمنى " فيقال له : أقم البينة على أن هذه الألف لا تلزمك وإلا فهي لازمة .
قال : [وإن قال : كان له على فقضيته فقوله مع يمينه ]
إذا قال : كان له على الف ريال لكنى قضيته ، فما الحكم ؟
قوله الثاني المتصل بقوله الأول لا يناقض القول الأول فحينئذ لما كان هذا هو اقراره فإنا نصدقه في قوله لأنا لم نعلم ثبوت الحق إلا بإقراره فكان مؤتمنا على قوله فحينئذ يصدق قوله ويكون عليه اليمين ، فنقول احلف أنك قد قضيته .
-وقال أبو الخطاب من الحنابلة : بل يكون مثبتا مقراً ، ومدعياً فهو مقر بان عليه الفاً ، ومدع انه قد قضى فتقول عليك البينه .
والراجح هو الأول لما تقدم فإن تعليله أقوى فإن هذا الرجل لم يثبت الحق إلا بإقراره مؤتمناً على قوله فلم تلزمه أكثر من إقراره لأنا إذا قلنا له هات بينة لزمه أكثر من إقراره .
إذن : الصحيح ما ذهب اليه الحنابلة في المشهور عندهم كما قرره المؤلف هنا .
قال : [ما لم تكن بينة أو يعترف بسبب الحق ].
إذا كانت هناك بينة تدل على الحق فلا يقبل قوله (إني قضيته ) وذلك لوجود البينة .
وكذلك إذا كان اعترف بسبب الحق فقال :" له على عشرة آلاف ثمن مبيع لكني دفعتها له ، فنقول له لما ذكرت سبب الحق ، فحينئذ لا بد من بينة لأنه ذكر سبب الحق يوجب الحق فيكون كالبينة فعلى ذلك لا يقبل قوله :" فقضيته " إلا ببينة وقول آخر .
قال : [وإن قال : له علىّ مائة ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ثم قال ، زيوفاً أو مؤجله لزمه مائة جيدة حالهّ ]
قال : لفلان على مائه ثم سكت ثم قال : زيوفاً أي دراهم رديئة وهذا من أنواع الدراهم عندهم في السابق .(32/35)
أو قال : " مؤجله " فانه يلزمه مائة جيدة حالة وذلك لأن هذا هو مقتضى اطلاقه ، فإن قال :" له على مائه " فمقتضى هذا الإطلاق إنها حالة وإنها جيدة وأما الرابع الذي ذكره وهو قوله :" زيوفاً أو مؤجلة " فهو رافع منفصل فلم يغير من الحكم شيئاً .
قال : [وان أقر بدين مؤجل فأنكر المقرّ له الأجل فقول المقر مع يمينه ]
هذه كالمسألة المتقدمة
قال رجل : لفلان علىّ مائه ألف ريال إلى سنة – فقال المقر له قد اثبتّ على نفسك الحق لكنها ليست إلى سنة بل هي حالة الآن فاحضر البينة التى تدل على أنها مؤجلة.
فنقول له : هذا المقر مؤتمن على قوله قد أقر بنفسه فلم يلزمه أكثر من اقراره وعليه فالقول قوله مع يمنيه .
قال : [وإن اقر أنه وهب أو رهن أو قبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار وسأل إحلاف خصمه فله ذلك ].
معلوم أن من وهب انساناً شيئاً فإنه لا يلزم إلا بالإقباض كما تقدم في مشهور مذهب أحمد .
فلو أن رجلاً أقر على نفسه أنه قد وهب زيداً داره وأقبضه إياها أو قال وهبته عشرة آلاف وأقبضه إياها ثم لما أتى الى القاضى ، قال نعم أنا قد وهبته لكني لم أقبضه .
فنقول له : إنك قد أقررت فيقول : إني إنما أقررت لجريان العادة بذلك ، فإن الكثيرين في مسألة الهبة ان يقر بالإقباض الواهب لتنقطع علاقته بها وإن كان لم يقبض حقيقة فلجريان هذه العادة نقول : حلفوا خصمى ، فإن حلف أني قد اقبضته فهي له ، فهل نحلفه ؟
الجواب : نعم نحلفه لجريان العادة بمثل هذا أي بالاقرار بالهبة مع عدم الإقباض .
إذن : العادة تصدقه في دعواه وحينئذ نحلف خصمه .
فان حلف أنه اقبضه أخذ الهبة .
وان لم يحلف فحينئذ نرجع اليمين الى الأول لأنه منكر للإقباض .
كذلك في ثمن المبيع والرهن .وثمن المبيع هذه تقع كثيراً .(32/36)
فالآن كتابة العدل لا تكتب الدار أو الأرض حتى يثبت لهم أن الثمن قد قبض ، فيتبايع اثنان على أرض – مثلا- بثمن قدره عشرة آلاف ريال ، وقالوا : نريد أن نقرها باسم المشترى عند كتابه العدل ، فلما ذهبوا إلى كاتب العدل قال : صاحب الدار : أقر أنى أخذت الثمن كاملاً .
فلما كان بعد زمن أنكر المشترى أن تكون هذه الأشياء مجرد أشياء رسمية وقال : أنا قد أعطيتك حقك وأنت قد أقررت بذلك عند كاتب العدل ،فذهبا إلى القاضي ، فهل يستحلف القاضى الخصم على أنه قد أقبضه الثمن فيقول للمشترى إحلف أنك قد أعطيته الثمن ؟
الجواب : نعم نستحلفه ، فإن حلف وإلا رجعت الثمن على المدعي الذي هو المقر .
إذن : العادة جارية بمثل هذا أي بأن يقر بالقبض أو الإقباض لمصلحته ، فالعادة جارية بهذا قديماً وحديثاً .
ولذا فان هذا الإقرار لا يحكم عليه به حتى يحلف الخصم .
قال : [وإن باع شيئا أو وهبه او أعقبه ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله ].
رجل قال : من يشترى هذه السيارة ، فقال : رجل آخر ، أنا اشتريها فاشتراها بعشرة آلاف ، فلما أخذ البائع العشرة آلاف قال : هذه ليست سيارتي وإنما سيارة زيد من الناس فما الحكم ؟
الجواب : أنه لا يقبل قوله لأن إقراره في حق غيره والإقرار حجه قاصرة .
قال : [ولم ينفسخ البيع ]
لأنه قد توفرت شروطه ، والإقرار هنا لا يقبل وعليه فالبيع صحيح .
قال : (ولا غيره )
كالعتق – فلو أن رجلاً اعتق عبداً ، ثم قال : (هذا العبد ليس ملكاً لي) أو وهب داراً وقال : هي ليست ملكاً لي / فهل يبطل العقد وهل تبطل الهبة ؟
الجواب : لا يبطل العتق ولا الهبة كالبيع .
قال : [ولزمته غرامته] للمقرّ له .
فنقول : أنت تقول أن السيارة لزيد فاذهب إلى زيد فأعطه حقه وهو قيمة هذه السيارة
لكن إن أحضر بينة أنها ليست له ، فهل ينفسخ البيع بذلك ؟
الجواب : نعم ينفسخ البيع بذلك ولذا قال :
[وإن قال : لم يكن ملكي ثم ملكته بعد وأقام بينة قبلت ](32/37)
للبينة .
قال : [ إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قد قبض ثمن ملكه لم يقبل منه ]
رجل قال : من يشترى سيارتى هذه ؟ أو من يشترى داري هذه ؟
ثم اشتراها رجل ، ثم أقام البائع بينة بأن هذه السيارة أو الدار ليست له فهل تقبل هذه البينة أم لا ؟
الجواب : لا تقبل لأنه مكذب لها لأنه قال :" من يشترى سيارتي هذه ".
ومثل ذلك : لو باع سيارة ثم قال قد قبضت ثمن ملكها ثم بعد ذلك أقام بينة أنها ليست له ، فإنها لا تقبل منه البينة لانه مكذب لها .
فصل
هذا الفصل في الإقرار المجمل .
والإقرار المجمل هو الإقرار غير المفسر وهو الذي يحتمل معنيين فأكثر على استواء.
قال : [إذا قال له : عليّ شًئأ أو كذا قيل له : فسره ]
اذا أقره عند القاضى ان لزيد عليه شئ او كذا وكذا فما الحكم ؟.
فإنه يطالب بتفسيره .
إذن : يقبل إقراره المجمل لكن لا يمكن القاضي أن يحكم بذلك فلا يتأتى الإلزام لأنه مجهول .
فيقال له : فسره – لأنه إقرار منه فلم يعلم تفسيره إلا من جهته
قال : [فان أبى حبس حتى يفسره ]
لحق الآدمي
قال : [فإذا فسره بحق شفعة أو بأقل مال قبل ]
كأن يقول له علي ريال واحد أو بحق شفعه فإن ذلك يقبل .
قال : (وإن فسره بميتة أو خمر أو قشر جوزه لم يقبل )
أو قال له على حبة شعير أو حبة حنطة أو شطر تمر فلا يقبل لأن هذا لم تجر العادة بالإقرار به .
-لكن قد يكون بعضه يجرى العادة به في بعض الأزمان كالتمرة يمكن أن يقرّ بها في وقت مجاعة لكن في غير مجاعه لا يمكن الإقرار بها .
إذن : لا بد أن يفسره بما تجرى العادة بالاقرار به .
أما لو قال : حقه علي رد السلام عليه أو تشميته إن عطس ونحو ذلك أو تشييع جنازته إن مات فلا يقبل منه ذلك لأن هذا لم تجر العادة بالإقرار به .
قال : [ويقبل بكلب مباح نفعه ]
لأنه واجب رده فهو حق ، والكلب المباح ككلب صيد أو كلب ماشيه أو نحو ذلك .
قال : [أو حد قذف ](32/38)
-قال : حقه عليّ أن أجلد ثمانين سوطا لأني قد قذفته ، فيفعل ذلك ، لالأنه حق وهو مما يقّر به في العادة .
قال : [وإن قال : له عليّ ألف رجع في تفسير جنسه اليه ]
فإذا قال ولزيد علي ألف ،فيقال من ماذا ؟ ألف دراهم أو ألف دنانير أو ألف من الثياب أو من القمص فيرجع بالتفسير أليه .
قال : [فإن فسره بجنس واحد]
كأن يقول : له عليّ ألف درهم قبل ذلك لأنه لا يعلم إلا من جهته فقبل قوله .
قال : [أو بأجناس قبل منه ]
كأن يقول : له عليّ خمسمائة درهماً وخمسمائة ديناراّ فيقبل ذلك .
قال : [وإن قال : له عليّ ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية ]
لأن الذي بين الدرهم والعشرة ثمانية دراهم .
قال : [وإن قال : ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة لزمه تسعة ]
والرواية الثانية ، أن تلزمه عشرة لأن الغاية تدخل في المغيّا لأن العشرة من جنس الدراهم وهذا أظهر .
قال : [وان قال : له عليّ درهم أو دينار لزمه أحدهما ]
إذا قال : له عليّ إما درهم أو دينار فيلزمه أحدهما فنقول لا بد من التعيين لأن القول قوله .
-وهنا المؤلف قد أجرى هذه الإقرارات على اللغة والصحيح أجراؤها على العرف كما قرره الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله .
فألفاظ الناس تجرى على أعرافهم وعاداتهم .
فنحن في عرفنا إذا قال : له على ألف فإنه يريد ألف ريال .
وإذا قال له علىّ ما بين عشرة آلاف الى مائة ألف فهو لا يريد تسعين الفاً ، وإنما يريد إما عشرة أو عشرين أو أربعين أو خمسين أو نحو ذلك ، هذا في عرف الناس .
قال : [وإن قال : له عليّ تمر في جراب أو سكين في قراب أو فص خاتم ونحوه فهو مقر بالأول ]
لأن هذا هو مقتضى لفظه .
إذا قال : لزيد عليّ سكين في قراب " وهو ما تدخل فيه السكين " فإنه يلزمه السكين فقط .
-وكذلك إذا قال : له عليّ فص في خاتم فإنه يلزمه الفص لا الخاتم .
وكذلك إذا قال : له عليّ تمر في جراب فإنه يلزمه التمر لأن هذا مقتضى لفظه .(32/39)
لكن لو قال : له عليّ سيف في قراب " فيلزمه القراب لأن السيف في العادة لا يخرج من قرابه إلا عندما يراد للضرب .
أما السكين فإنها توضع في أكثر الأحوال بلا قراب لذلك لو قال : له عليّ خاتم فيه فص فإنه يلزمه الخاتم والفص لأن هذا هو مقتضى لفظه .
والله سبحانه وتعلى اعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين
وبهذا نختم شرح الكتاب
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين(32/40)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
[ شرح زاد المستقنع ]
لفضيلة الشيخ/ حمد بن عبد الله الحمد
<< كتاب الطهارة >>
كانت البداية في هذا الدرس المبارك يوم الأحد بعد صلاة المغرب الموافق 8/10/1414هـ وكانت الدروس كل ليلة ما عدا ليلتيّ الجمعة والسبت*.
نسأل الله الإعانة على ما بدأنا به ، كما نسأله التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والحمد لله.
كتبه: أبو حافظ عبد العزيز الغسلان غفر الله له.
ـــــــــــــــــــ
* هذا في البداية لكن تغيّر هذا ـ كما ستلاحظه في تاريخ الدروس ووقتها ـ وهذا التغيير هو أنّ الدروس أصبحت كل ليلة سوى ليلتي الخميس والجمعة.
وهذا الدفتر الأول ، ويشتمل على شيء من كتاب الطهارة
من أول الكتاب إلى:
( باب: المسح على الخفين )
الدرس الأول
( الأحد : 8 / 10 / 1414 هـ )
المقدمة:
إن الحمدَ للهِ نحمَدُهُ وَنستَعينُهُ ونَتُوبُ إَلَيهِ ، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنَا ومن سيئاتِ أعمالِنَا من يهدِهِ اللهُ ، فلا مُضِلَّ لَه ، وَمَن يُضلِلْ ، فَلا هَادِيَ لَه.
وأشهدُ أَن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدهُ ورسولُه.
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مُّسْلِمُون )) آل عمران آية (102).
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَّاحِدَةٍ وَّخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مَنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَّنِسَاءاً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَام إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رقِيبَا )) النساء آية (1).(33/1)
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيداً، يُصْلِح لَكُم أَعْمَالَكُم وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُم وَمَن يُّطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) الأحزاب آية (70 ، 71).
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخير الهدي ، هدي محمدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُهَا ، وَكُلَّ مُحدثةٍ بِدْعَة ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالة ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ في النَّار.
هذه المجالس نتدارس فيها الفقه وهو من أعظم العلوم ومن أفضلها ، فإن هذا العلم يتعرف به المسلم على كيفية عبادته لربه سبحانه ، ويعبد الله على بصيرة من أمره. إذ العمل لا يتقبل مع الإخلاص إلاّ بأن يكون على السنة صواباً فوجب على المسلم أن يعبد الله على بصيرة من أمره بالتفقه في دين الله تعالى ، وبه يعرف المسلم ما أحله الله وما حرمه من البيوع والأنكحة وغير ذلك ، وبه يتعلم الحدود والجنايات ، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية التكليفية التي كلف الله بها عباده وقننها لهم سبحانه وتعالى .
فعلم الفقه من أهم العلوم الشرعية فليس يفضل عنه إلا علم التوحيد الذي هو متعلق بالله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته عز وجل.
وإن من الطرق التي يتدارس بها الفقه أن يتعلم من خلال أحد الكتب الفقهية المذهبية فإن ذلك من الطرق الصحيحة السليمة في تعلم الفقه ، وليس المقصود من ذلك أن يتلقى ما فيها من صواب وخطأ. بل أن يتدارس وأن يتحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام فيما وقع بين أهل العلم من الخلاف. فإن ما يذكره صاحب المؤلَّف الذي نتدارسه أو غيره من المؤلفين بالفقه ليس كله صواباً ، وليس كله مجمعاً عليه. بل قد وقع كثير من الخلاف بين أهل العلم .
إلا أن هذه الطريقة في التدارس وهي التلقي عن بعض الكتب الفقهية المذهبية أن هذا في الحقيقة فيه فوائد كثيرة: من ذلك:(33/2)
ـ أنه أسهل ترتيباً من التلقي عن طريق الكتب التي جمع فيها مؤلفها الأحاديث النبوية المشتملة على المسائل الشرعية ، فإن هذا بلا شك أسهل ترتيباً وأوضح. بل إن أصحاب الكتب المؤلفة الحديثية ، كصاحب بلوغ المرام ، والمنتقى من أخبار المصطفى وغير ذلك من الكتب إنما استفادوا ذلك الترتيب من هذه الكتب الفقهية.
ـ الأمر الثاني: أنه أبعد عن تشتت ذهن الطالب ، فإنه من المعلوم أن الكتب التي جمعت الأحاديث النبوية في الأحكام ليست جامعة للأحكام كلها ، إذ الأحكام الشرعية مستفادة من الأحاديث النبوية ومن غيرها ؛ فإنها تستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والإجماعات ، والقياسات الصحيحة وأقوال الصحابة.
وكتب الحديث الفقهية إنما تجمع الأحاديث التي قالها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسائل الأحكام التكليفية فلا شك أنه ـ حينئذ ـ يكون أبعد للتشتيت فإن الطالب عندما يقرأ الكتاب الفقهي يجد فيه جميع المسائل العلمية التي استفادها العلماء من القرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأحكام الشرعية.
فيكون أبعد لأَنْ يتشتت ذهنه بأن تجمع له المسائل من مصادر أخرى ، بل يجد هذه المسائل موجودة في الكتاب الذي يتدارسه.
فإن التدارس من الكتب الفقهية ليس منكراً ـ كما ينكره بعض طلبة العلم ـ هذا أمر ليس بصحيح ، بل تدارس ذلك من الطرق السليمة التي مازال يبينها أهل العلم ، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية وكذلك ابن القيم وغيرهم من أهل العلم قد تلقوا الفقه من مثل هذه الطريقة.
لكنهم لم يكتفوا ـ كما اكتفى كثير من الناس المقلدين ، اكتفوا بها فتلقوا العلم من هذه الكتب ثم اكتفوا بذلك ولم يحرروا ولم يبحثوا عن الحق ، بل اكتفوا بما فيها ، فهذا أمر ليس بصحيح ، وليس مشروعاً وهذا هو التقليد المذموم .(33/3)
لكن كون المسلم يتعلم منها ويتفقه ويتفهم ثم يبحث عن الحق بدليله ؛ فإن هذا أمر سائغ جائز ، مازال عليه أهل العلم ، والذّم إنما يقع في الصورة المتقدمة بأن يتلقى منها تلقي العلم مجرداً عن دليله ، فيأخذ المسائل مقلداً هؤلاء من غير أن يبحث عن الحق بدليله ، بل لو عرض له الحق بدليله أباه ورفضه .
أو هو قادر على أن يجد الحق بدليله لكنه يعرض عن ذلك ، ويكتفي بما تقدم .
بخلاف العاجز عن البحث والنظر فإنه يجوز له التقليد ، فإن العاجز الذي لا نظر له في المسائل العلمية يسوغ له أن يقلد أحداً من أهل العلم من غير أن يحدد ذلك بصاحب مذهب ولا غيره ،بل كل أهل العلم يقلدون كما قال تعالى :
{ فاسْأَلُوا أهلَ الذّكرِ إنْ كنتُم لا تعلَمُون }(1) .
* قوله: (( بسم الله الرحمن الرحيم )) :
ومؤلف الكتاب هو شرف الدين أبو النجا موسى بن أحمد المقدسي ، المتوفى سنة 960هـ ، وهو حنبلي المذهب ، وله مؤلفات نافعة في المذهب الحنبلي منها هذا الكتاب ( زاد المستقنع ) ، ومنها كذلك كتاب: ( الإقناع ).
وقام بشرحهما البهوتي ، المتوفى سنة 1046هـ شرح (زاد المستقنع) بكتاب أسماه: (الروضُ المُرْبِع) ، وشرح الإقناع بكتاب أسماه: (كشاف القناع عن متن الإقناع).
وهما كتابان نافعان.
والمؤلف مشهور من مشايخ المذهب الحنبلي ، وقد شرع المؤلف بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز.
__________
(1) سورة النحل ( 43 )(33/4)
واقتداء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رسائله وكتبه فإنه كان يفتتحها بالبسملة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين من كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى هرقل عظيم الروم ، فإنه كتب فيه: ( بسم الله الرحمن الرحيم: من مُحمَّد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم )(1) ، فشرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالبسملة فيه.
وقد قال تعالى عن ملكة سبأ: { قالت يا أيها الملأُ إني أُلقي إلى كتاب كريم ، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم }(2) . فهي من سنن أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وأما ما رواه الخطيب ، والحافظ الرهاوي في أربعينه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع ) (3) فهذا الحديث فيه ابن الجندي ، وهو متهم ، فالحديث ، ضعيف جداً ، لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
( بسم الله ) هنا الباء للاستعانة ، و (اسم) مجرور بحرف الجر و (الله) مضاف إليه، مضاف إلى اسم ، وهما متعلقان بمحذوف فعلي متأخر مناسب ، تقديره هنا: (بسم الله أُؤَلِّف) ، وعندما نتوضأ تقديره: (بسم الله أَتَوَضَّأ) ، وعندما نقرأ تقديره: (بسم الله أقرأ) ؛ فهو فعل متأخر عن الجار والمجرور يناسب المقام.
( بسم الله ): أي أستعين بالله في قراءتي وأستعين به في وضوئي ، وأتبرك بالبداءة باسمه سبحانه وتعالى في تأليفي وفي وضوئي أو في قراءتي ونحو ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري : في كتاب بدء الوحي ، رقم 7 ، وأخرجه كذلك برقم 51 ، 2681 ، 2804 ، 2940 ، 2978 ، 3174 ،4553 ، 5980 ، 6260 ، 7196 . وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ( 1773 ) .
(2) سورة النمل ( 30 ) .
(3) قال في الإرواء [ 1 / 29 ] رقم ( 1 ) : " ضعيف جداً ، وقد رواه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ( 1 / 6 ) " وقال : " وهذا سند ضعيف جداً آفته ابن عمران هذا ، ويعرف بابن الجندي " .(33/5)
و (الله): هو العَلَم الأعظم لله عز وجل ؛ فهو اسم الله سبحانه وتعالى الذي هو عَلَم من أعلامِهِ.
وأصله من الإله: وهو المعبود ، وهو يطلق على المعبود سواء كانت عبادته حقاً أو كانت باطلاً ، كما قال تعالى: { أنه لا إله إلا أنا} (1) ، وقوله { واتخذوا من دونه آلهة} (2): فهي آلهة لكنها باطلة. لذا يقال: لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى .
فإذاً (الله): مشتق من الإله: وهو المعبود ، والله هو الاسم الأعظم لله ، وهو علمٌ له.
( الرحمن ): أيضا اسم من أسمائه وتعالى متضمن لصفته الرحمة التي هي صفة من صفاته تعالى.
و (الرحيم) كذلك اسم من أسمائه متضمن لصفة الرحمة أيضا إلا أن الرحمة في الرحمن صفة متعلقة بذاته سبحانه ، أي ذو الرحمة الواسعة الشاملة.
وأما الرحيم فهي صفة متعلقة بفعله سبحانه: أي ذو الرحمة الواصلة أي إلى من يشاء من خلقه سبحانه.
والرحمن: نظراً إلى صفتة الذاتية.
والرحيم: نظراً إلى صفته سبحانه وتعالى الفعلية.
* قوله: (( الحمد لله حمداً لا ينفد )).
هنا شرع المؤلف بالحمد لما ورد في سنن أبي داود وابن ماجه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع ) (3) أي ذاهب البركة ، فلا بركة فيه.
وهذا الحديث رواه الحفاظ عن الزهري مرسلاً.
__________
(1) سورة النحل ( 2 ) ، سورة الأنبياء ( 25 ) .
(2) سورة الفرقان ( 3 ) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب ، باب الهدي في الكلام ( 4840 ) بلفظ : ( كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ) ، أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح باب خطبة النكاح ( 1894 ) " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا : حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع " .(33/6)
ورواه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف ، رواه عنه موصولاً بذكر أبي هريرة ، والصواب ترجيح رواية من أرسله ، فهم الحفاظ ولذلك قال الدارقطني: " فالحديث الصواب أنه مرسل " وعليه فالحديث ضعيف.
وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفتتح كلامه بالحمد والثناء على الله.
وكذلك اقتداء بالكتاب العزيز ، فإن فيه { بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين }. فالحمد يشرع للمسلم أن يفتتح كلامه به.
أما هذا الحديث الوارد فهو حديث ضعيف مرسل لا يثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ، وقد حسنه بعض العلماء كالنووي ، وابن الصلاح وغيرهما.
والصواب أنه ضعيف مرسل من مراسيل الزهري وهي من ضعاف المراسيل.
والحمد : هو ذكر محاسن المحمود محبة له وإجلالاً.
" ذكر محاسن المحمود " أي فضائله ، خيراته ، ما عنده من الصفات الحميدة والأفعال الطيبة، هذا كله يسمى حمداً.
" محبة وإجلالاً " : فليس مقابل النعمة فحسب ، بخلاف الشكر ، فإن الشكر أخص منه من هذه الحيثية ، فإنه إنما يكون ـ أي الشكر ـ مقابل النعمة ، أما الحمد فإنه سواء كان من هذا المحمود نعمة قد أسديت إليك أو لم يكن منه ذلك ، فإنك تحمد فلاناً على شجاعته وقوله الحق وصلاحه ونحو ذلك ، وإن كان هذا كله لا يصل إليك منه شيء.
وكذلك إن أسدى إليك معروفاً فكذلك يسمَّى حمداً.
أما الشكر فهو أخص منه ، فالشكر: لا يكون إلا مقابل النعمة ، والله عز وجل يحمد على كل حال ، ولا يحمد على كل حال سواه سبحانه وتعالى.(33/7)
وقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد صحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كان إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال )(1) .
إذاً الحمد : هو ذكر محاسن المحمود سواء كان مقابل النعمة أو لم يكن مقابلها.
فالله يحمد على كل صفاته سواء التي يصل إلينا منها شيء من النعم ، أو كانت الصفات اللازمة منه سبحانه كحياته سبحانه.
فالله يحمد على حياته ، ويحمد على غيرها من صفاته سواء كانت الصفات اللازمة أو الصفات المتعدية.
إذن: الحمد هو ذكر محاسن المحمود تحية له وإجلالاً.
( حمداً لا ينفد ): أي نفس الحمد لا ينفد . أما قول الحامد فإنه سينفد بنفاده وموته ، فإنه ينقطع حمده لكن هذه المحاسن وهذه الفضائل ، هذه الصفات التي يتصف الله بها لا تنفد ، فهي صفات لا تنفد ، فالله عز وجل لا يزال متصفاً بصفات الكمال ولن يزال على ذلك.
كما أنه سبحانه لا يزال محموداً من خلقه : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } (2) أما من حيث الأفراد فإن من مات منهم أو شغل بأمر من الأمور فإن حمده يقف وينقطع.
لكن الله عز وجل لا يزال محموداً من خلقه من حيث العموم.
كما أنه سبحانه لا يزال متصفاً بصفات الحمد.
( لا ينفد ): أي لا ينقطع.
* قوله: (( أفضل ما ينبغي أن يحمد )).
فهو أهل الثناء والمجد ـ سبحانه ـ ولا يحصى الثناء عليه ، فيثنى عليه سبحانه بما ينبغي له سبحانه.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب ، باب فضل الحامدين ( 3803 ) قال : " حدثنا هشام بن خالد الأزرق أبو مروان حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا زهير بن محمد عن منصور بن عبد الرحمن عن أمه صفية بنت شيبة عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى ما يحب قال : ( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا رأى ما يكره قال : ( الحمد لله على كل حال ) .
(2) سورة الإسراء 44 .(33/8)
* قوله: (( وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد )).
(صلى الله): أي أثنى.
فالصلاة من الله عز وجل هي الثناء ؛ كما قال ذلك أبو العالية.
وقيل : هي الرحمة ، وهو ضعيف.
والصواب أن الصلاة من الله هي الثناء ؛ لأن الله عز وجل قد عطف أحدهُما على الآخر.
{ عليهم صلوات من ربهم ورحمة }(1) فدل على أنهما متغايران إذ الأصل في التعاطف هو التغاير ؛ كما أن الرحمة عامة ، وأما الصلاة فهي خاصة فناسب ألا تفسر الصلاة بها.
إذن الصلاة من الله عز وجل هي الثناء فعندما تقول: " اللهم صل على محمد " أي بمعنى : اللهم اثن على محمد واثن عليه عند ملئك المقربين.
وعندما يدعو الإنسان بالصلاة ؛ فالمراد من ذلك أنه يدعو له بأن يثني الله عز وجل عليه.
إذن الصلاة من الله هي : الثناء .
( وسلم ): السلام من السلامة ؛ وهي البراءة من النقائص والعيوب والآفات : أي يدعو الله بأن يسلمه من كل نقص وعيب لا يليق به ـ أي الآدمي ، ومن كل آفة. فإذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجمع له بين الصلاة والسلام.
الصلاة: بأن يثني الله عليه وهذا جلب خير.
والسلام : أن يدعي الله بأن يسلم عليه : أي يلقي عليه السلامة من الآفات والعيوب فهذا دفع ضر ، فيجتمع له بين جلب الخير ودفع الضر.
*( على أفضل المصطفين ): المصطفين : جمع مصطفى وهو المختار من الصفوة: وهي خلاصة الشيء . فالمصطفون هم المختارون من الله سبحانه ، الذين اختارهم الله على خلقه ؛ لأنهم خلاصة خلقه.
__________
(1) البقرة 157 .(33/9)
وهم الأنبياء والرسل ، وهو عليه الصلاة والسلام أفضل هؤلاء ، فهو أفضل رسل الله عليهم صلاة الله وسلامه جميعاً. ويدخل في ذلك أولو العزم ، كإبراهيم عليه السلام وموسى وعيسى عليهم السلام ، وغيرهم من أنبياء الله فكلهم مفضولون بالنسبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو سيدهم وأفضلهم ، فهو سيد البشر ولا فخر ؛ كما صح ذلك عنه في الحديث المتفق عليه(1).
* قوله: (( وعلى آله وصحبه ومن تبعهم )).
( آله ): من آل يؤول إذا رجع.
وقيل بمعنى أهل وهو ضعيف ، ضعّفه ابن القيم في كتابه في الصلاة [ على ] النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدة أوجه ، ليس هذا موضع ذكرها.
فـ: (آله): أصلها من آل يؤول ، إذا رجع. فآل الرجل: هم الراجعون إليه المضافون إليه المنتسبون إليه. هم آل الرجل.
وآل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم إطلاقان :
1ـ إطلاق خاص ، 2ـ إطلاق عام.
* أما الإطلاق الخاص: فهم قرابته وزوجاته.
فزوجاته وذريته وسائر قرابته هم آله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( أما علمت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة) (2): فالمراد من (آل محمد): هم أقاربه من بني هاشم ، وذريته عليه الصلاة والسلام من فاطمة رضي الله عنها وزوجاته على قول قاله بعض أهل العلم تقدم البحث فيه.
__________
(1) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ... ) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل ،باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 2278 ) ، وفي لفظ : ( أنا سيد الناس يوم القيامة ) برقم ( 194 ) . وأخرجه البخاري ( 4712 ) ،( 3340 ) .
(2) أخرجه البخاري بلفظ ( أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة ) في كتاب الزكاة ، باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل ، وأخرجه أيضاً في مواضع أخرى دون ذكر ( الآل ) ، وأخرجه مسلم كذلك ( 1069 ) .(33/10)
وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) (1): فهنا زوجاته وأهل بيته خاصة فهم آله هنا. وهذا أخص من الإطلاق السابق أيضا.
* أما الإطلاق العام: فهم أتباعه عامة من قرابته المؤمنين ، ومن ذريته ومن زوجاته ومن سائر أتباعه من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وقد قال تعالى: { أدْخلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ العَذَاب } (2) ، فهنا لا شك أن آل فرعون ليس أهله خاصة ، وإنما أهله ومن اتبعه على باطِلِهِ فَهُم آلُ فِرعَوْن.
كما أنه يدخل فيه - وهذا أخص إطلاقات آل ، يدخل فيه - الشخص نفسه.
فالشخص نفسه عندما يقال آل فلان ، يدخل فيه الشخص نفسه ، ما لم تكن هناك قرينة تمنع من دخوله ، ومنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (اللهم صل على آل أبي أوفى) ، فإن هذا المتصدق المزكي ، وهو أبو أوفى أحق الناس بالدخول في هذه الجملة (اللهم صل على آل أبي أوفى) (3) : أي عليه وعلى آله ـ كما أن قوله تعالى { أدخلوا آل فرعون أشدّ العَذاب }(4) ، يدخل فيهم فرعون ولا شك.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، نهاية باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا ( 6260 ) بلفظ ( اللهم ارزق آل محمد قوتاً ) . وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب في الكفاف والقناعة ( 1055 ) وفي كتاب الزهد والرقاق باب ما بين بعد ( 2969 ) . وابن ماجه في كتاب الزهد ، باب معيشة آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ( 4139 )
(2) سورة غافر ( 46 ) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة ( 1497 ) ، وأخرجه كذلك برقم ( 4166 ) ، ( 6332 ) ، 6359 ) ، وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب الدعاء لمن أتى بصدقة ( 1077 ) ، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة ، باب ما يقال عند إخراج الزكاة ( 1796 ) .
(4) سورة غافر ( 46 ) .(33/11)
إذن تبين من هذا أن (آل) يدخل فيها الشخص نفسه وتدخل فيها زوجاته وذريته ، ويدخل فيها سائر قرابته ، ويدخل فيها على وجه العموم أتباعه والسياق يحكم ، فالسياق هو [ الـ]ـحاكم .
فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) (1) ، هنا: النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما يدعو بهذا الدعاء لأهله خاصة بأن لا يكون عندهم غنى زائد ، وإنما يكون عندهم ما يتقوتون به كفاية ، ومثل هذا الدعاء اللائق أن يكون للشخص نفسه وأهله خاصة دون أن يتعدى هذا إلى سائر قرابته ممن قد لا يكون متحملاً لمثل هذه المعيشة بأن يكون قوتاً ، وممن قد يكون محباً للغنى ، ونحو ذلك.
لذا كان أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهن رضوان الله ، كُنَّ قد أجيبت لهنّ هذه الدعوة ، فكُنَّ حتى بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معيشتهنّ قوتاً وما فَضَلَ فإنهنّ يتصدقن به.
وأما آله من قرابته من بني هاشم فإنه كان فيهم الأغنياء وكان فيهم الفقراء.
إذن لفظة (آل): من آل يؤول ، إذا رجع ، ومعناها الحاكم فيه السياق ، فإنه قد يراد بها العموم وقد يراد بها القرابة والذرية والزوجات ، وقد يدخل فيها الشخص نفسه ، وحكم ذلك كما تقدم إلى السياق.
(مُحمد): هو اسمه الذي هو أعظم أسمائه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو اسم مفعول على وزن: مُفَعَّل ، نحو مُعَظَّم ، ومُقَدّس ، ومُبجَّل ، ونحو ذلك.
وهذا الوزن يراد منه تكرار حدوث الفعل الذي اشتق منه هذا الاسم ، فيكون المعنى: من لا يزال يحمد ، فهو لا يزال يُحمَد حَمْداً بعد حمد من الله عز وجل وملائكته: أي لا يزال يثنى عليه ويذكر بمحاسن أفعاله وفضائله عليه الصلاة والسلام من الله والملائكة ومن المؤمنين.
بل يحمد من الناس عامة ؛ كما يكون هذا يوم يكون له المقام المحمود.
__________
(1) سبق قريباً .(33/12)
حتى مَن كَذَّبَ بِهِ ، وأنكر نُبُوَّته ؛ فإنه يحمد على ما فيه عليه السلام من الصفات الحميدة ، فهو محمود ، قد تكرر فيه الحمد فلا يزال يحمد .
وهذا الاسم " محمد ": هذا اسمه في التوراة.
ومن أسمائه (أحمد): وهو اسمه في الإنجيل ، كما قال تعالى: { ومبشراً برسُولٍ يأتي من بعدي اسمُهُ أحمد } (1).
واسم " أحمد": فيه مزيد معنى على المعنى المتقدم ؛ وهو أنه أحمد لله عز وجل من غيره: أي أكثر حمداً لله سبحانه وتعالى.
ومنه(2) معنى آخر ؛ أنه أفضل حمداً من غيره يعني : كما أن له الكمية في كونه محمداً: أي حمده كثير لا يزال متكرراً من الله: أي ليس لله إنما من الله فهو كذلك أحمد أي أحمد من غيره عند الله وعند ملائكته.
فهو محمود حمداً أفضل وأكثر ، أكثر كمية ، وأفضل كيفية من غيره ، فهو محمد أي لا يزال يحمد وحمده عليه الصلاة والسلام فاضل عن حمد غيره ، فحمده أي ثناء الله عليه ، وثناء غيره عليه ، أعظم وأبجل من ثنائهم على غيره صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه أحمد لله سبحانه من غيره ، محمد عليه الصلاة والسلام ، أفضل كيفية وأكثر كمية من حمد غيره ؛ فهو أكثر الناس حمداً وأعظم الحامدين لله عز وجل.
( وآله ): وآله هنا: هم قرابته وزوجاته وذريته ، للعطف ، فإنه عطف الصحابة عليهم.
فيكون حينئذ : نقول بالمعنى الخاص لدخول أتباعه بالمعنى العام .
(وأصحابه): جمع صحب ، وصحب جمع صاحب وهو من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمنا به ، ومات على ذلك ، فعلى ذلك لو أن رجلاً لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤمناً ونظر إليه ، لكنه ارتد ثم رجع إلى الإسلام فهو صحابي ؛ لأن هذا الوصف ثابت فيه ، فقد لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مؤمن به ، وإن طرأ على ذلك ردة.
__________
(1) سورة الصف ( 6 ) .
(2) لعل الأقرب : وفيه .(33/13)
وعليه أيضا ، من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجالسه لكنه لم يكن مؤمناً به ثم آمن بعد ذلك لكنه لم يسعد برؤيته ؛ فإنه لا يكون صحابياً وإنما يكون تابعياً.
فإذن الصحابي هو من رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان في تلك الحال مؤمناً بالله عز وجل.
ومثل ذلك من منعت رؤيته مانع كأن يكون أعمى لا يبصر فهو صحابي لأن الذي منع من الرؤية إنما هو كونه أعمى وليس المقصود هو مجرد الرؤية فحسب بل اللُّقيا ثابتة له فيكون صحابياً أيضاً.
( ومن تعبد) : أي تعبد لله وتذلل له وأطاعه ، والعبادة ـ كما قال شيخ الإسلام: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
* قوله: (( أما بعد )).
(أمّا): أي مهما يكن من شيء ، فأما هنا تنوب عن أداة الشرط وعن فعله ، و( أما ) بمعنى ( مهما يكن من شيء ).
(بعدُ): هنا ظرف زمان ، مبني على الضمة في محل نصب ، لكون المضاف إليه محذوف ، والأصل "بعد ذلك" ، والمعنى: (مهما يكن من شيء بعد ذلك).
* قوله: (( فهذا مختصر في الفقه )).
المختصر: اسم مفعول من الاختصار.
والاختصار في الكلام: هو أن تقل الألفاظ وتكثر المعاني.
وهذا ممدوح ـ حقيقة ـ ؛ لأنه أسهل للحفظ وأجمع للأحكام ولكن بشرط ألاّ يكون ذلك فيه غموض بحيث يحتاج إلى مشقة وتعب لتفهمه وتفهيمه ، يعني تعلمه وتعليمه يحتاج إلى مشقة ؛ لأن ألفاظه غامضة فهذا مذموم.
(الفقه): الفقه لغة: الفهم ومنه قوله تعالى: { واحْلُل عقدة من لساني يفقَهُوا قولي } (1): أي يفهموه.
اصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية التكليفية العملية من أدلتها التفصيلية.
__________
(1) سورة طه ( 28 ) .(33/14)
(معرفة): سواء كان هذا علماً يقينياً جازماً أو كان ظناً غالباً يغلب على الظن ، لأن العلم لا يدرك باليقين كله ، بل منه ما يكون ظناً غالباً ليس من الظن المذموم الظن المرجوح أو الظن السيئ ، وإنما المراد به أن يغلب على ظنه ، فيكون احتمال الصواب أكثر من احتمال الخطأ ، فإنه ليست المسائل الشرعية كلها - بل ولا أكثرها - يدرك باليقين ، بل الكثير أو الأكثر إنما يدرك بالظن الغالب ، لذا يقال: " الراجح " أي من القولين المحتملين للصواب أي هذا هو القول الراجح الذي احتمال الصواب فيه أكثر من احتمال الخطأ.
(الأحكام الشرعية): ليست أحكاماً عقلية ولا عادية ، وإنما هي أحكام شرعية أي منسوبة إلى الشرع.
( التكليفية): التي يكلف بها العباد.
( العملية ): تخرج بذلك الاعتقادية ، فهي ليست داخله فيها ، فليس البحث هنا في باب التوحيد ولا الأسماء والصفات ولا اليوم الآخر.
هذا محل بحثه كتب العقائد وكتب التوحيد ، إنما هنا في الأحكام العملية من صلاة وصوم وطلاق وبيوع ونحو ذلك.
(بأدلتها التفصيلية): لابد أن يكون ذلك مع الدليل وإلا لم يكن فقها ، فإن الرجل إذا عرف مسألة من المسائلِ الشرعيةِ لكنه لا يعرف دليلها فليس بفقيهٍ فيها.
وكذلك لو كان عالماً بكتاب من كتب الفقهاء مطلعاً عليهِ عارفاً بمعانيه ، لكن ليس عنده أدلة شرعية تدل على هذه المسائل فهو ليس بفقيه.
فالفقيه من جمع بين فهم المسألة ومعرفة دليلها ، لابد من فهم المسألة مع معرفة دليلها.
فليس بعالم من فهم المسائل وأحاط بمعانيها لكنه جاهل بأدلتها الشرعية بإجماع العلماء ، لذا أجمع العلماء - كما حكى ذلك ابن عبد البر - على أن المقلد ليس بعالم.(33/15)
و(التفصيلية): ضد الإجمالية ، فالإجمالية : هي الأصول العامة كالقياس والإجماع والسنة والكتاب هذه تسمى أدلة إجمالية لكنَّ الأدلة التفصيلية هي: ما تضمنه باب القياس من القياس في مسألة معينة ، والأحاديث النبوية بأفرادها ، يسمى أدلة تفصيلية ، لكن السنة من حيث العموم تسمى أدلة إجمالية وقد تقدم البحث في هذا في شرح الأصول.
* قوله: (( من مقنع الإمام الموفق أبي محمد )).
المقنع: هو كتاب ألَّفَهُ الشيخ: موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي ـ رحمه الله تعالى ـ المتوفى سنة 620هـ.
وهو شيخ المذهب وإمام الحنابلة ـ رحمهم الله تعالى ـ مع علمه بالسنة والعقيدة فهو من أهل العلم المشهورين.
وله هذا المُؤلف وهو المقنع ، هذا المؤلف: جمع فيه المسائل الفقهية في المذهب الحنبلي لكنه لم يكتف بقول واحد في المسألة بل يذكر في المسألة روايتين أو وجهين أو احتمالين .
ـ والفرق بين الرواية والوجه والاحتمال :
( وهذه كلها داخله في المذهب يعني: المذهب الحنبلي فيه مسائل خلافية ، وكذلك المذهب الشافعي في(1) مسائل خلافية في المذهب نفسه ) .
فالرواية هي : ما قاله الإمام نفسه.
فإذا قيل : " وفي هذه المسألة عن الإمام أحمد روايتان " أي قولان منسوبان إليه نفسه.
بمعنى : أفتى بقول ثم أفتى بقول آخر لكنهم لا يعرفونه التاريخ حتى يرجحوا أو أنهم عرفوا التاريخ فرجحوا وبقيت تلك الرواية .
ومعلوم أن الإمام مهما علا قدره وكثر علمه فإنه يتغير قوله فيبدو له من الترجيحات ما لم يبدُ له سابقاً فيقول قولاً وبعد فترة من الزمن يقول قولاً آخراً ؛ لأنه تبين له أن ذاك الدليل الذي استدل به مثلاً ضعيف أو لا وجه أو نحو ذلك أو أنه منسوخ أو غير ذلك فينتقل إلى قول آخر أو يبلغه دليل لم يكن قد بلغه ، فحينئذ ينتقل إلى قول آخر.
__________
(1) لعل الصواب : فيه .(33/16)
أما ما أضيف إلى أصحابه ـ أي أصحاب الإمام أحمد ـ أي العلماء الذين تقعدوا بقواعده وتأصلوا بأصوله فخرّجوا على مذهبه وفرعوا المسائل ؛ لأن ما نقل عن الإمام أحمد لا يحيط بالمسائل الفقهية كلها. لكن العلماء الذي اقتدوا به أو أخذوا هذه الأصول والقواعد فجعلوها أصولاً وفرعوا منها مسائل ، فجمع لنا هذا الفقه .
فليست كل مسألة من المسائل في الفقه الحنبلي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي مضافة إلى الإمام نفسه الذي ينتسب إليه ، ليس كذلك .
وإنما هي مضافة إما إليه نفسه وإما إلى أصحابه الذين تقعدوا بقواعده ، وهذا تخريج على نفس القواعد ، فليست خارجة عن قواعد الإمام لكنهم اختلفوا فبعضهم رأى هذا القول وبعضهم رأى القول الآخر فيقال في المسألة وجهان .
ـ أما الاحتمال: فهو ما يصح أن يكون وجهاً في المذهب.
إذن ليس بوجه لكن يأتي عالم بعد ذلك فيقول : " هذا احتمال" ينفي أن يكون وجهاً فينفى أن تخرج على قواعد الإمام رحمه الله.
وحينئذٍ تبين لنا: أن العارف بقواعد أحمد وأصوله يمكنه أن يختار القول الراجح من هذين القولين .
لذا المذهب فيه راجح ومرجوح ، فمثلاً: ألّف صاحب الإنصاف كتابه في الراجح من مسائل الخلاف أي في مذهب أحمد.
وكذلك صاحب الفروع يرجح ، وكذلك الموفق وغيره.
وعندما يقال (ظاهر المذهب): أي الراجح منه.
(والمشهور في المذهب): أي الراجح في المذهب.
فالمتفقه في مذهب الحنابلة يمكنه أن يرجح الحق من مسائل الخلاف فيه.
كما أن العارف بالأدلة الشرعية والمتمرس فيها يمكنه أن يرجح فيما يختلف فيه أهل العلم عامة من الحنابلة وغيرهم.
إذن المقنع : ليس فيه قول واحد عن الإمام أحمد أو أصحابه ، وإنما يذكر احتمالات.
فأتى هذا المؤلف واختار من الروايتين رواية واختار من كل وجهين وجها هو الظاهر والمذهب والمشهور فيه عنده ، وإلا فقد يقع خطأ منه فيختار ما ليس بمشهور في المذهب ويكون المشهور في المذهب بخلاف ما اختاره.(33/17)