شرح كتاب الصيام
من
( دليل الطالب )
إعداد
أنيس بن ناصر المصعبي
-1-
قوله : ( كتاب الصيام)
الصيام في اللغة : الإمساك ، ويُقال للساكت صائم ، ومنه قوله تعالى (إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً [مريم : 26) أي إمساكاً عن الكلام ، وفي الاصطلاح: التعبد لله بالإمساك عن أشياء مخصوصة في زمن مخصوص . وفضائل الصيام كثيرة ، فمنها : ما أخرجه مسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ )
ومنها ما رواه الشيخان : عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)(1/1)
قوله ( يجب صوم رمضان) بالكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 183]) وأما السنة : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ) متفق عليه ، وأما الإجماع فقد حكاه ابن حزم وغير واحد من أهل العلم
قوله ( رمضان) كره بعض أهل العلم أن يُقال (رمضان ) مجرداً دون إضافة شهر إليه ، وهم أصحاب مالك ، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة ، لأن رمضان من أسماء الله وذلك لما أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقولوا رمضان فإن رمضان من أسماء الله تعالى) وهو حديث ضعفه البيهقي والنووي وغيرهما فالراجح جواز اطلاق رمضان دون إضافة شهر، لضعف الحديث الوراد في ذلك ، ولأنه جاء في السنة غير مضاف فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ) متفق عليه
قوله (برؤية هلاله ) لقول الله تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ولما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ) ، وبالإجماع حكاه ابن قدامه ، فهذا هو السبب الأول لصيام رمضان(1/2)
والسبب الثاني لوجوب صيام رمضان كمال شهر شعبان ، وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (فإن غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)
قوله : ( وعلى من حال دونه ودون مطلعه غيم ، أو قتر ليلة ثلاثين) أي لو كانت السماء غائمة ليلة الثلاثين من الشعبان أو كان هناك مانعا من رؤية الهلال فيجب صيام ذلك اليوم ، ولو لم يُرَ الهلال لما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إ(ِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ) فمعنى (اقدروا له ) أي ضيقوا الشهر بأن يجعل شعبان تسعا وعشرين يوما ، وقد جاء في القرآن (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أي أن لن نضيق عليه ، وهو تفسير رواي الحديث ابن عمر- كما في البخاري- أنه كان إذا مضى من الشهر تسعة
وعشرون يوما يبعث من ينظر له الهلال ، فإن رأى فذاك ، وإن لم يرَ ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما ) ، ولأن الأصل أن الشهر تسعة وعشرون يوما ، والثلاثين مشكوك فيه فوجب البقاء على الأصل ، ولأنه جاء عن تسعة من الصحابة رضي الله عنهم صوم هذا اليوم، ثلاثة منهم هم الذين رووا أحاديث النهي عن صيام يوم الشك ، وهم : أبوهريرة وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم جميعا.(1/3)
والجمهور على إكمال العدة ثلاثين يوما ، لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فإن غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ ) و أعل بعض أهل العلم قوله ( عدة شعبان) وحملها على (رمضان) ولما أخرجه أحمد من حديث عَائِشَةَ قالت كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَفَّظُ مِنْ هِلَالِ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَصُومُ بِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ) وصححه الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن عبدالهادي في ( تنقيحه) وابن حجر في (تلخيصه) وأعله ابن الجوزي ، وتعقبه ابن عبدالهادي
ولما أخرجه أهل السنن والبخاري معلقا عن عمار بن ياسر : (ٌ مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ النَّاسُ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )قَالَ الترمذي حَدِيثُ عَمَّارٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، فالأصل بقاء شعبان لا دخول رمضان(1/4)
والمذهب الثالث : وهو الراجح استحباب صيامه لأنه عبادة والعبادة إما واجبة أو مستحبة وهو رواية عن أحمد حكاها ابن عبدالهادي في( رسالة له ) واختار ابن تيمية الجواز وحكى البعلي عنه أنه مذهب طوائف من السلف والخلف ، وتبعه تلميذه ابن القيم في( الزاد )، و المذهب الثالث هو الأرجح لأن به تجتمع الآثار و الأحاديث . ويحمل النهي عن صيام يوم الشك إذا كان الجو صحوا ،وكذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ )
قوله ( احتياطا بنية رمضان) لغلبة الظن إنه من رمضان كما تقدم ، وسبق بيان الراجح
قوله ( ويجزئه إن ظهر منه) أي إن ثبت فيما بعد أن هذا اليوم الغائم كان رمضان فهل يحزىء صيامه أم لا؟ قولان لأهل العلم : الأول لا يجزئه ، والثاني يجزئه ، والخلاف فيها مبني على جواز النية المطلقة والمعلقة أو أنه لابد من تعيين رمضان ، والأظهر إنه يجوز أن ينوي نية معلقة أو مطلقة إن لم يكن يعلم أن غدا رمضان ، فينوي إن كان من رمضان فهو عن فرضه ، وإن لم يكن من رمضان فهو نفل ، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله ومذهب أبي حنيفة جواز الصيام بينة معلقة أو مطلقة مطلقا ، وما ذكره ابن تيمية متجه في أنه جائز في حالة عدم علمه إن غدا رمضان ، أما إن علم فلابد من التعيين ( مجموع فتاوى ابن تيمية25/100)
قوله ( وتُصلى التروايح ) احتياطا لأنه صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ولا يتحقق قيامه كله إلا بذلك ، وذهب بعض الحنابلة إلى إنها
لا تصلى اقتصارا على النص ، و المشهور من المذهب أقرب والله أعلم(1/5)
قوله ( ولا تثبت بقية الأحكام ، كوقوع الطلاق والعتق ، وحلول الأجل) أي إن الأحكام المعلقة على دخول شهر رمضان ، كقول رجل لزوجته إن جاء رمضان فأنت طالق ، أو أجل يحل استفيائه بدخول رمضان ، فإن هذه الأحكام لا تثبت بصيام اليوم الغائم ، لأنه لابد فيها من اليقين ، ولا يوجد يقين هنا إنما احتياط.
قوله : (وتثبت رؤية هلاله بخبر مسلم مكلف عدل ) فلا تصح شهادة الكافر ولا الفاسق ولا المميز ، لاحتمال الكذب من الكافر والفاسق واللعب بدين المسلمين ، ولاحتمال الغلط والخطأ من المميز.
ومذهب الحنابلة أن رمضان يثبت بشهادة واحد ، وهو أحد قولي الشافعي وهو المذهب عندهم كما قاله النووي وابن المبارك وهو الراجح وقيده أبو حنفية بإذا لم تكن في السماء علة قُبلت شهادة الواحد ، وإلا فلا ، وهو قول ابن عمر ،و يُذكر عن عمر ولا يصح.
والقول الآخر : إنه لا يٌقبل إلا شاهدان عدلان كسائر الشهور وهو قول مالك والثوري والأوزاعي والليث وإسحاق ، ويُذكر عن عن عثمان وعلي ولا يصح عنهما ، وحجة هذا القول ما أخرجه أحمد والنسائي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَالَ أَلَا إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَاءَلْتُهُمْ وَإِنَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ وَانْسُكُوا لَهَا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا) فعلق الصوم على شهادة عدلين ، لكن الحديث ضعيف لا يصح في إسناده الحجاج بن أرطأة ، قال ابن عبدالهادي في التنقيح ( وفيه كلام )أ.هـ ، ولا تغرنك طريق النسائي الخالية من ذكر الحجاج ، فإن المحفوظ ذكره كما في (مسند أحمد)(1/6)
والراجح هو القول الأول لما أخرجه أبو داود وغيره عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ) وصححه ابن خزيمةو ابن حبان والحاكم والنووي والألباني وحسنه المنذري ، وقال الدارقطني (تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة) وتابع مروان هارون بن سعيد الأيلي عند الحاكم لكنها لا تصح هذه المتابعة ، وعلى القول بضعف الحديث ، فإنه قد صح ابن عمر كما أخرجه الطبري في ( تهذيبه) عن عبدالملك بن ميسرة قال ( شهدتُ المدينة في عيد ، فلم يشهد على الهلال إلا رجل واحد فأمرهم ابن عمر أن يجيزوا شهادته )
قوله ( ولو عبدا أو أنثى) قوله ( ولو ) إ شارة خلاف فهناك وجه عند الحنابلة وهو قول الشافعية أنها لا تقبل ، لأنها شهادة والشهادة لا يٌقبل فيها إلا إمرأتان ورجل كسائر الحقوق.
والقول الثاني : تقبل شهادة المرأة لأنه من باب الرواية ، والمرأة تقبل روايتها للخبر الديني ، والأول أرجح فإن هذا ليس من باب الأخبار بل من باب الشهادات ، لذلك لا يٌقبل في باقي الشهور إلا شهادة عدلين
قوله ( وتثبت بقية الأحكام تبعا) لأنها ثبتت تبعا لهلال رمضان ، فمادام أن الهلال قد ثبت ، فتثبت الحقوق المترتبة عليه
والقول الثاني : وهو مذهب الشافعية لا تثبت بقية الأحكام كالطلاق والعتق المعلق على رمضان إذا ثبت الهلال بشهادة واحد ، لأنه لابد في ثبوت هذه الحقوق من شهادة رجلين عدلين والأول أرجح(1/7)
قوله ( ولا يُقبل في بقية الشهور إلا رجلان عدلان) لما أخرجه أبوداود : ( عن حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ الْجَدَلِيُّ مِنْ جَدِيلَةَ قَيْسٍ أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا فَسَأَلْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ الْحَارِثِ مَنْ أَمِيرُ مَكَّةَ قَالَ لَا أَدْرِي ثُمَّ لَقِيَنِي بَعْدُ فَقَالَ هُوَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنِّي وَشَهِدَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى رَجُلٍ قَالَ الْحُسَيْنُ فَقُلْتُ لِشَيْخٍ إِلَى جَنْبِي مَنْ هَذَا الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ قَالَ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَصَدَقَ كَانَ أَعْلَمَ بِاللَّهِ مِنْهُ فَقَالَ بِذَلِكَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وصححه الدراقطني والنووي في (المجموع ) ، وبالإجماع قال الترمذي : ( لم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين ) وحكى الإجماع ابن عبدالبر أيضا ، ونقل النووي الخلاف عن أبي ثور ، وقال ابن العربي في( القبس) (إن أبا ثور مسبوق بالإجماع )
مسائل في رؤية الهلال :
الأولى: حكم اتفاق المطالع واختلافها:
قالت هيئة كبار العلماء في (أبحاثها ) (اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلا ولم يختلف فيها أحد ، وإنما وقع الاختلاف بين العلماء في اعتبار المطالع من عدمه ) .
والبلدان في ذلك تنقسم إلى ثلاثة أقسام الأول : أن تتباعد البلدان كالأندلس وخرسان فبالاتفاق لا يُراعى فيها اتحاد الرؤية حكى الاتفاق ابن عبدالبر وأقره ابن تيمية(1/8)
الثاني: أن تتقارب البلدان كالبلد الواحد فهذه رؤيتهم واحدة ، وأشار ابن عبدالبر إلى الاتفاق في ذلك
الثالث : ما تقارب من البلدان ولم يتباعد جدا ، فلأهل العلم في ذلك مذهبان
الأول : أنه إذا رأى أهل بلد الهلال لزم سائر البلدان الصيام ,هو قول الليث وأحمد وأبي حنيفة ومالك
وحجتهم ما جاء في الصحيحين (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ) والحديث خطاب عام لجميع المسلمين
والمذهب الثاني : أن لكل أهل بلد رؤية وهو قول ابن عباس وعكرمة والقاسم بن محمد وسالم بن عبدالله ، وإسحاق والحجة في ذلك ما أخرجه مسلم (عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قَالَ فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ مَتَى رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَقُلْتُ رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَنْتَ رَأَيْتَهُ فَقُلْتُ نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ فَقُلْتُ أَوَ لَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ فَقَالَ لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَكَّ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى فِي نَكْتَفِي أَوْ تَكْتَفِي) وقد اجتهد المعارضون في دفع هذا الحديث أن هذا مجمل فسره فهم ابن عباس رضي الله عنه ، والراجح هو القول باختلاف المطالع قال ابن عبدالبر في التمهيد ( ولأن فيه أثرا مرفوعا ، وهو قول صاحب كبير لا مخالف له من الصحابة)(1/9)
الثانية من المسائل : من رأى الهلال وحده ولم يصم الناس بقوله قولان لأهل العلم
الأول: يصوم وهو قول الجمهور لقوله تعالى (َفمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
والثاني: لا يصوم وهو قول عطاء وإسحاق ورواية عن أحمد واختيار ابن تيمية وذلك لما رواه الترمذي عن أبي هريرة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ قَالَ الترمذي ( حَسَنٌ غَرِيبٌ) وجود إسناده ابن مفلح ، وجاء عن ابن عمر أنه قال (صوموا مع الجماعة ) وسنده حسن خرجه حنبل في مسائله -كما في زاد المعاد - وجاء عن عائشة بسند ضعيف كما في البيهقي ، وهو الراجح
الثالثة: حكم من رأى هلال شوال لوحده ، هل يفطر أم يتم صومه ؟
قولان لأهل العلم أصحهما أنه لا يفطر لأنه لابد من شهادين عدلين في رؤية هلا شوال ، ولحديث أبي هريرة السابق
الرابعة : من رأى هلال رمضان بمفازة لوحده ، صام وقدم يقينه في الرؤية على شكه مخالفة الجماعة
الخامسة : لو أن رجلا صام رمضان في بلد ثم سافر إلى بلد آخر فإنه يتم صومه معهم لحديث (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ) أشبه ما لو سافر إلى بلد فتأخر غروب شمسها ، وكذا لو عكس إلا أنه لا ينقص صومه عن 28 يوما لأن لشهر لا ينقص فيفطر مع أهل البلد إن أفطروا ويقضي ما فاته ، وهو مذهب الشافعية و فتوى اللجنة الدائمة واختيار ابن عثيمين ، فإن قيل والشهر لا يكون (31) يوما , وأنتم توجبون عليه صيام اليوم الزائد؟
فالجواب: فرق بين الأمرين فإنه هنا تحقق صيام الشهر وزيادة بخلاف صيام (28) فأنه لم يصم شهرا والشهر لا يكون (28) واليوم الزائد فوق الثلاثين فإنه ثبت صومه تبعا لا استقلالا والله أعلم(1/10)
السادسة : إن إثبات دخول الشهر معتبر بالرؤية لا بالحساب ، لأن الحديث علق الصوم على الرؤية . قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى : (ولا ريب أنه ثبت بالسنة الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم , كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : { إنا أمة أمية لا نكتب , ولا نحسب , صوموا لرؤيته , وأفطروا لرؤيته } " . والمعتمد على الحساب في الهلال , كما أنه ضال في الشريعة , مبتدع في الدين , فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب ) ا. هـ كلامه
السابعة : من كان في بلد كافرة فينبغي أن يتبع جماعة المسلمين هناك إن كان لهم هيئة أو مركز ، وعليه فتوى جماعة من المحققين من أهل العلم ، حتى لا يزيدوا تفرقا إلى فرقتهم
الثامنة : إذا قامت البينة على أنه رمضان في أثناء النهار : قولان لأهل العلم:
الأول : أنه يمسك بقية اليوم ، ثم يقضي وهو قول عامة أهل العلم ، لأنه لا صيام لم يبيت النية من الليل
الثاني : أنه يصوم بقية اليوم ولا يقضي نسبه ابن حزم لعمر بن عبدالعزيز ، وهو مذهب ابن حزم واختيار ابن تيمية ، ودليل ذلك : ما أخرجه الشيخان عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ) فصيام عاشوراء كان فرضا ، نٌسخ فرضه ، وبقيت الأحكام الأخرى ، والجمهور على أن أحكام عاشوراء منسوخة جميعا منها التخيير بين صيام الفرض والفدية لمن أطاقه ، وكلام شيخ الإسلام متجه من جهة القواعد ، وقول عامة أهل العلم أحوط والله أعلم
تنبيه : الحنفية لا يوافقون ابن تيمية في هذه المسألة كما قد يظن البعض ، لأن مذهبهم جواز إنشاء نية رمضان من النهار إذا لم يأكل مطلقا ، وهو مذهب مرجوح(1/11)
فائدة : لا يتثبت في رؤية الهلال دعاء قاله أبو داود
(وشروط وجوب الصوم أربعة أشياء الإسلام ) فلا يجب على الكافر إذا أسلم قضاء رمضان أصليا كان أو مرتدا لأن الصوم عبادة شرطها الإيمان والكفر ينافي الإيمان
قوله ( والبلوغ والعقل) لما أخرجه أبوداود وغيره عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ) وقال البخاري أنه غير محفوظ وصححه الألباني في ( الأرواء)وله شواهد والله أعلم
( والقدرة عليه) لقوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
قوله ( فمن عجز عنه لكبر ، أو مرض لا يُرجى زواله أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره) أما المريض الذي يرجى زوال مرضه فيأتي الكلام عليه ، وأما الذي لا يُرجى زوال مرضه ، فقد اختلف العلماء على قولين ،- بعد إجماعهم على أنه يفطر- ، في فدية الصيام
فالقول الأول : إن عجز عن الصيام فلا فدية ، لأنه ترك الصيام لعجزه ، فلم تجب عليه الفدية وهو مذهب المالكية ، وقول للشافعية.
والقول الثاني : يفدي عن صيام كل يوم إطعام مسكينا وهو مذهب الحنابلة ، لقوله تعالى( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال ابن عباس( ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكين ) رواه البخاري ، وفي لفظ للحاكم والبيهقي عن ابن عباس - بسند صحيح -(1/12)
قال ابن عباس ( ولم يرخص في هذه الآية إلا للشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام ، والمريض الذي علم أنه لا يشفى) ، وقال ثابت البناني ( كبر أنس بن مالك ، حتى كان لا يطيق الصيام ، فكان يفطر ويطعم ) أخرجه عبدالرزاق وسنده صحيح وهذا هو الراجح والله أعلم
قوله (مد بر أو نصف صاع من غيره) اختلف أهل العلم في مقدار الإطعام فالقول الأول ما ذكره المصنف ، والقول الآخر أنه ( مد) سواء كان حنطة أو شعير أو غيره من قوت البلد لما جاء عن ابن عباس أنه قال في الإطعام ( مد ) وعن ابن عمر ( مد حنطة) وهو مذهب الشافعية وهو الراجح
وله أيضا أن يصنع طعاما ويدعو ثلاثين مسكينا ، يأكلونه وهو مطبوخ فقد صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه( أنه صنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا)
قوله : (وشروط صحته ستة ) والفرق بين شرط الوجوب وشرط الصحة أن الأمر قد لا يجب لكنه يصح من فاعله كصوم المميز
قوله ( انقطاع دم الحيض والنفاس) لما أخرجه مسلم عَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ قَالَتْ كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ ) وأخرجه البخاري مقتصرا على نفي الأمر بقضاء الصلاة
وأيضا بالإجماع أن الحائض لا تصوم ، حكاه النووي وابن قدامة وابن تيمية وغيرهم ، و قيل في الحكمة أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة أن الصوم لا يشق قضاؤه لأنه لا يتكرر بخلاف الصلاة
مسألة : متى وجد الحيض في أي جزء من أجزاء النهار ، فإنه يفسد الصوم ، ولو كان قبل غروب قرص الشمس بدقيقة
مسألة : و إن انقطع الدم قبل الفجر ونوت الصيام وأخرت الغسل صح الصوم بخلاف الأوزاعي الذي قال بعدم الصحة ، لأن الغسل ليس شرطا لصحة الصوم(1/13)
قوله ( التمييز ) قيل هي السن التي يعرف فيها الصبي منافعه ومضاره ، قيل الذي يفهم الخطاب ويعرف الجواب
قوله (فيجب على ولي المميز المطيق للصوم أمره به ، وضربه عليه ليعتاده) وذلك لما أخرج الشيخان ( عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ)
أما ضربه على الصوم فقياسا على الصلاة ، وقيده صوم الصبي بالإطاقة ، والجمهور على أنه يُعلم الصوم لسبع ويضرب عليه لعشر قياسا على الصلاة ، ومذهب الحنابلة أرجح لأن الصوم أشق من الصلاة فاعتبرت له الإطاقة ، والله أعلم
قوله : ( العقل ) بالإجماع قوله ( لكن لو نوى ليلا ثم جُن ، أو أغمي عليه جميع النهارو أفاق منه قليلا صح) لأنه جمع بين النية والإمساك ، ولما أخرجه الشيخان عن ِ أَبِي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)(1/14)
قوله ( النية ) بالاتفاق قوله ( من الليل ) كل ليلة ، والشافعية والقول الآخر : أن النية تكفي في بداية شهر رمضان وهو قول المالكية ، والخلاف في ذلك مبني هل شهر رمضان عبادة واحدة ، أو أنه ثلاثون عبادة؟ الثاني هو الراجح لما أخرجه أهل السنن حَفْصَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ لَمْ يُجْمِعْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ) لكن هذا الحديث لا يثبت مرفوعا والراجح وقفه قَالَ الترمذي حَدِيثُ حَفْصَةَ حَدِيثٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ وَهُوَ أَصَحُّ ) وهو قول ابن عمر أيضا قال ابن تيمية و(ليس لهما مخالف من الصحابة)(1/15)
قوله ( لكل يوم واجب) دخل فيه صيام رمضان والكفارة وصوم النذر ، وخرج به صيام النفل فيجزيء إنشاء نية من النهار إن لم يأكل شيئا لما أخرج مسلم عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قَالَتْ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَتْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ قَالَتْ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ وَقَدْ خَبَأْتُ لَكَ شَيْئًا قَالَ مَا هُوَ قُلْتُ حَيْسٌ قَالَ هَاتِيهِ فَجِئْتُ بِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا قَالَ طَلْحَةُ فَحَدَّثْتُ مُجَاهِدًا بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) ولما أخرجه عبدالرزاق وغيره عن أنس ( أن أبا طلحة كان يأتي أهله من الضحى ، فيقول هل عندكم غداء فإن قالوا لا. صام ، وقال إني صائم ) وسنده صحيح ، وصح عن أبي هريرة أخرجه البيهقي في الكبري ، وعن ابن عباس أخرجه الطحاوي في (معاني الأثار) وهو مذهب الشافعية والحنفية .
والقول الآخر : لابد من تبيت النية من الليل في صيام النفل ، لعموم حديث حفصة السابق ، وقول الجمهور أرجح لأن هذا الحديث مخصص لحديث حفصة
مسألة واختلفوا إلى أي وقت من النهار له أن ينشىء النية؟
الأول نيته جميع النهار وهو مذهب الشافعية ، وقال الحنابلة بعد الزوال وقبله(1/16)
والثاني : إلى وقت الضحى ، لأنها نصف النهار ، فوجب أن يمتد الصوم إليها ، والراجح في ذلك مذهب الشافعية والحنابلة للآثار السابقة ، ولما جاء عن حذيفة أنه بدا له الصوم بعدما زالت الشمس ، فصام) أخرجه ابن أبي شيبة وغيره وسنده صحيح
مسألة: استثنى بعض أهل العلم صيام النفل المعين المقصود كصوم عرفة وعاشوراء ، فقالوا لابد من تبيبت النية لها حتى يحصل الفضل والأجر ، والذي يظهر لي - أن الآثار لم تفرق في ذلك والله أعلم - وإن كان الأحوط تبييت النية لها والله أعلم
( قوله فمن خطر بقلبه ليلا أنه صائم فقد نوى ) لأن النية لا يلزم النطق بها بل هو بدعة
قوله ( وكذا الأكل والشرب بنية الصوم) لأن الأكل دليل على أنه مريد للصوم
قوله ( ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم) فلا تبطل نيته ، لأن الله سبحانه وتعالى أباح الأكل والشرب والجماع إلى آخر الليل .قوله ( أو قال إن شاء الله غير متردد) لأنه أراد التبرك أو التحقيق ، وإنما يبطلها لو قالها شاكا غير جازم
بينة الصوم .
قوله ( وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان : ( إن كان غدا من رمضان ففرضي ، وإلا فمفطر ويضر إن قاله في أوله)
المسألة لها صورتان الأولى : كما قال الماتن أن يقول ذلك ليلة الثلاثين من رمضان فصيامه صحيحه ، لأن الأصل هو الصيام ، ولم يثبت زوال هذا الأصل فصح صيامه
والصورة الثانية : أن يقول ذلك في أول رمضان بإن يقول لو كان غداً رمضان فهو فرضي ، فإن صيامه لا يصح على المذهب ، لأن نيته هنا مترددة ، وليس هنا إن الأصل هو الصوم بخلاف الصورة الأولى ، والرواية الأخرى :صيامه صحيح وهو اختيار ابن تيمية وهو الراجح لأن لتردد ليس في النية ، إنما في ثبوت شهر رمضان ، والله أعلم(1/17)
قوله : ( وفرضه الإمساك عن المفطرات ) أي ركن الصيام الإمساك عن المفطرات بالإجماع ، ولقوله تعالى(وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) .
قوله ( من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) وقت الصيام يمتد إلى غروب الشمس بالإجماع لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ) وصلاة المغرب من الليل بالإجماع كما حكاه ابن عبدالبر .
ولما أخرجه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) و بالإجماع ، نقله عبدالبر وابن حزم والنووي وغيرهم
قوله ( من طلوع الفجر الثاني ) احترازاً من الفجر الأول ، وهو المسمى الفجر الكاذب وذلك لما أخرجه الشيخان عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ)
ولما أخرجاه عن عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ) قَالَ الْقَاسِمُ( وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَذَانِهِمَا إِلَّا أَنْ يَرْقَى ذَا وَيَنْزِلَ ذَا)
وقد اختلف أهل العلم متى يبدأ الصيام بطلوع الفجر؟ أو طلوع الشمس!؟(1/18)
القول الأول : من طلوع الشمس لأن الخيط الأبيض هو ضوء الشمس ، والخيط الأسود هو سواد الليل و حجتهم كما أن الإجماع قام على أن آخر النهار هو غروب فكذلك يكون أوله هو طلوع الشمس! وهذا القول نسبه ابن جرير في تفسيره(3/257/ط التركي) لطائفة من السلف ، وأما الحافظ في الفتح(4/166) فجعل قولهم جواز السحور حتى يتضح الفجر والذي وقفت عليه من الآثار - والله أعلم - فيه جواز السحور وإن اتضح الفجر مادام أنهم لم يصلوا الفجر ، فكأن السحور مربوط عندهم بإقامة الصلاة والله أعلم .لكن قال إسحاق بن راهوية - رحمه الله- عندما ساق آثار الصحابة ، قال ( وهؤلاء لم يروا فرقا بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة) ( تهذيب السنن لابن القيم 3/334) والآثار الورادة في ذلك هي :
1- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال سالم بن عبيد قال كنت في حجر أبي بكر الصديق ، فصلى ذات ليلة ما شاء الله ، ثم قال اخرج فانظر هل طلع الفجر ، قال فخرجت ثم رجعت فقلت : قد ارتفع في السماء أبيض ، فصلى ما شاء ، ثم قال : اخرج فأنظر هل طلع الفجر ، فخرجت ثم رجعت فقلتُ قد اعترض في السماء أحمر ، فقال هيت الآن ، فأبلغني سحوري ) أخرجه الدارقطني ، وخرجه بسند آخر نحوه وقال ( إسناده صحيح) ، وصححه الحافظ في الفتح ، وله لفظ آخر عن أبي بكر أخرجه ابن أبي شيبة عن سالم بن عبيد الأشجعي أن أبا بكر قال( قم فاسترني من الفجر ، ثم أكل ) صححه ابن حزم والحافظ في الفتح
2- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أخرج وابن جرير عن حبان بن الحارث ، أتيت عليا هو معكسر بدير أبي موسى فقال ( ادن) فقلت أني أريد الصيام ، قال , أنا أريد الصيام ، فلما فرغ قال للمؤذن أقم الصلاة) وفي سند حبان بن الحارث ذكره ابن حبان في (ثقاته ) وقال الشيخ أحمد شاكر ( تابعي ثقة)(1/19)
3- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عامر بن مطر قال أتيت عبدالله في داره فأخرج لنا فضل سحوره فتسحرنا معه فأقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا) قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على تفسير ابن جرير ( سنده صحيح)
4- عن حذيفة رضي الله عنه ، أخرج ابن ابي شيبة عن إبراهيم التيمي عن ابيه ، قال ( خرجت معه في رمضان إلى الكوفة ، فلما طلع الفجر ، قال هل كان أحد منكم آكلا أو شاربا؟ قلنا أما رجل يريد الصوم ، فلا ، فقال لكني . ثم سرنا ، حتى إذا استبطأته بالصلاة ، فقال هل منكم أحد آكلا أو شاربا؟ قلنا أما رجل يريد الصوم ، فلا قال لكني ، فنزل ثم تسحر فصلى) وصححه الحافظ في الفتح
5- عن أبي الضحى مسلم بن صبيح قال قال لم يكونوا يعدون الفجر فجركم ، إنما يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق ) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح ، وذكر النووي في (المجموع) و ابن تيمية في (شرح العمدة) ، و ابن مفلح في (فروعه) عن مسروق مثله .ومسلم بن الصبيح الكوفي من أواسط ثقات التابعين قال ابن المنذر ( وكان إسحق يميل إلى هذا القول من غير أن يطعن على الآخرين ) ذكره النووي في المجموع ( 6/324) وقال النووي رحمه الله ( وحكى أصحابنا عن الأعمش ، وإسحاق بن راهوية أنهما جوزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس ، ولا أظنه يصح عنهما) . قلتُ بل صح عن الأعمش قال( لولا الشهرة لصليت ثم تسحرت) ، خرجه إسحاق عن وكيع أنه سمع الأعمش فذكره وسنده صحيح ذكره ابن القيم في حاشية سنن أبي داود(3/233)(1/20)
والقول الثاني : يحل الأكل إلى وقت طلوع الفجر الثاني ، وهو مذهب جمهور أهل العلم كم حكاه ابن المنذر فيما نقله النووي عنه ، وحكاه ابن عبدالبر إجماعا ، ونٌقل عن عمر بن الخطاب وابن عباس نقله عنهم ابن المنذر ، ذكره النووي في (شرح المهذب) ، وهو الراجح لما أخرجه الشيخان من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ)
مسألة : أخرج أبو دواد وأحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ ) هذا الحديث قال أبو حاتم( ليس بصحيح) كما في ( العلل) وأعله ابن القطان بالشك في رفعه، وضعفه صاحب (المنار) كما حكاه المناوي في الفيض ، وقد صححه الحاكم و الألباني ، والجمهور على خلاف الحديث لضعفه ، فإنه بمجرد طلوع الفجر الصادق حرم الأكل ، ولو كان الأناء في يده ، وهو ظاهر حديث عائشة في آذان بلال كما سبق أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عام لم يستثن صورة دون أخرى ، وهذا هو الراجح ، أما آثار الصحابة فهي لا تشهد لحديث أبي هريرة ، لأن الآثار تدل على جواز الأكل مطلقا ما لم يصل الفجر ، أو حتى الإسفار جدا أما حديث أبي هريرة السابق فإن الجواز فيه في صورة واحدة فقط حال كون الإناء في اليد أو على المائدة فقط، والله أعلم(1/21)
قوله ( وسننه ستة : تعجيل الفطر ، وتأخير السحور ، والزيادة في أعمال الخير ، وقوله جهرا إذا شُتم : ( إني صائم) وقوله عند فطره : (( اللهم لك صمتُ ، وعلى رزقك أفطرتُ ، سبحانك ، وبحمدك ، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم) ، وفطره على رطب ، فإن عدم فتمر ، فإن عدم فماء)
قوله(( وسننه ستة : تعجيل الفطر) لا خلاف بين أهل العلم في جواز الفطر بعدد تحقق غروب الشمس ، كما حكاه ابن جرير وغيره ، وإنما اختلفوا في وقت الاستحباب على قولين
الأول : بعد الصلاة وهو قول بعض أهل العلم منهم ابن حبيب من المالكية ، ودليل ذلك ما أخرجه مالك عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا يُصَلِّيَانِ الْمَغْرِبَ حِينَ يَنْظُرَانِ إِلَى اللَّيْلِ الْأَسْوَدِ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَا ثُمَّ يُفْطِرَانِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ) قال ابن عبدالبر ( صحيح) ( التمهيد 7/185 / الفاروق) وصححه النووي في المجموع . لكن فيه نزاع في سماع حميد بن عبدالرحمن من عمر وعثمان ، وقال ابن عبدالبر ( إن عمر خشي أن يطول المكث على العشاء فقدم العشاء على العشاء ) ونقل عن عثمان مثل ذلك ، وقال الشافعي ( كانا يريان تأخير الفطر واسعا ، لا أنهما يتعمدان) المجموع ( 6/406) وظاهر الأثر يرد تفسير الشافعي والله أعلم(1/22)
الثاني وهو قول أكثر أهل العلم ،يفطر قبل الصلاة وبعد مغيب قرص الشمس وهو الراجح، وذلك لما أخرجه الشيخان من حديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَزَال ُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ) ، ولما أخرجه الشيخان من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ) ولهما من حديث ابْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الشَّمْسُ قَالَ انْزِلْ فَاجْدَحْ لِي فَنَزَلَ فَجَدَحَ لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَا هُنَا ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) وجاء في صحيح مسلم عن أَبِي عَطِيَّةَ قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ وَالْآخَرُ يُؤَخِّرُ الْإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ قَالَتْ أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الْإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ قَالَ قُلْنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَتْ كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ أَبُو مُوسَى) .(1/23)
وأما الآثار : فعن ابن عباس كان يفطر قبل الصلاة ، ومثله عن أنس ، وعن أبي برزة الأسلمي ، وعن ابن عمر ، وعن أبي سعيد رواهن الفريابي في ( الصيام ) بأسانيد صحيحة ، وعن ابن مسعود كما تقدم في صحيح مسلم
قوله : ( وتأخير السحور ) لما أخرجه الشيخان من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ يَعْنِي آيَةً )
ولما في البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وعن بن ميمون قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
أعجل الناس فطرا ، وأبطأوه سحورا ) أخرجه الفريابي في (الصيام) بسند صحيح(1/24)
مسألة فضل السحور : أخرج الشيخان عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً) قوله ( بركة ) قال النووي في شرح مسلم (وَأَمَّا الْبَرَكَة الَّتِي فِيهِ فَظَاهِرَةٌ ; لِأَنَّهُ يُقَوِّي عَلَى الصِّيَام , وَيُنَشِّط لَهُ , وَتَحْصُلُ بِسَبَبِهِ الرَّغْبَة فِي الِازْدِيَاد مِنْ الصِّيَام ; لِخِفَّةِ الْمَشَقَّة فِيهِ عَلَى الْمُتَسَحِّر , فَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الْمُعْتَمَد فِي مَعْنَاهُ , وَقِيلَ : لِأَنَّهُ يَتَضَمَّن الِاسْتِيقَاظ وَالذِّكْر وَالدُّعَاء فِي ذَلِكَ الْوَقْت الشَّرِيف , وَقْت تَنْزِل الرَّحْمَة , وَقَبُول الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار , وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ صَاحِبه وَصَلَّى , أَوْ أَدَامَ الِاسْتِيقَاظ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاء وَالصَّلَاة , أَوْ التَّأَهُّب لَهَا حَتَّى يَطْلُع الْفَجْر). وأخرج مسلم في صحيحه عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: (َ فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ)
مسألة : حكم السحور : مستحب بالإجماع حكاه ابن المنذر والنووي وابن قدامة وغيرهم من أهل العلم
مسألة : بما يحصل السحور : الظاهر أنه يحصل بكل أكل وشرب ، وبه تحصل فضيلة السحور ، قال ابن تيمية : ( وإن قدر على الأكل فهو السنة لما جاء عن عمرو بن العاص : (َ فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ) رواه مسلم
مسألة حكم الوصال :الوصال : هو صوم يومين فأكثر من غير أكل أو شرب في الليل قاله النووي المجموع
واختلف أهل العلم في حكمه على قولين :(1/25)
الأول: التحريم وهو ظاهر مذهب الشافعي وذلك لما في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى) ولهما من حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ مَرَّتَيْنِ قِيلَ إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَاكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ).
القول الثاني : الكراهة وهو مذهب الحنابلة وهو الأقوى لما جاء عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً ) متفق عليه . فإنما كان النهي لأجل المشقة ، ولأن الصحابة لم يفهموا التحريم بدليل أنهم واصلوا بعد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج الشيخان عن ابي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْوِصَالِ قَالُوا فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ قَالَ أَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ رَأَوْا الْهِلَالَ فَقَالَ لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ)
مسألة: وأما الوصال إلى السحر فجائز بلا كراهة وهو مذهب أحمد وإسحاق لما أخرجه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تُوَاصِلُوا فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى حَتَّى السَّحَرِ )(1/26)
قوله ( والزيادة في أعمال الخير) من قراءة قرآن وصدقة ، وصلاة ، واعتكاف ، وعمرة ، لما جاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلمَ قَالَ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي )
قوله (وقوله جهرا إذا شُتم : ( إني صائم)) لما في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ )
قوله ( جهرا) لظاهر الحديث وهو اختيار النووي وابن تيمية .
والقول الثاني لبعض أهل العلم : أنه يقول ذلك في نفسه سراً ، لأجل دفع الرياء ، وزجر نفسه عن السب .
والقول الثالث : التفصيل بين صوم الفرض ، وصوم النفل ففي النفل يسر ، وفي الفرض يجهر ، وهو قول لبعض الحنابلة ، والأظهر هو القول الأول والله أعلم(1/27)
قوله : ( وقوله عند فطره : (( اللهم لك صمتُ ، وعلى رزقك أفطرتُ ، سبحانك ، وبحمدك ، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم) أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ الطبراني في ( الدعاء ) وفي معجمه الصغير من حديث أنس ، وفي إسناده داود بن الزبرقان ( متروك الحديث ) وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الدارقطني وفي سنده عبدالملك بن هارون متروك الحديث ، وشاهد آخر من مرسل معاذ بن زهرة أخرجه أبو داود وفي سنده مقال وهناك حديث آخر أخرجه أبو داود والدراقطني عن مَرْوَانُ يَعْنِي ابْنَ سَالِمٍ الْمُقَفَّعَ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ وَقَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) وقال الدراقطني ( إسناده حسن ) وفي سنده مروان بن سالم ، لم يوثقه غير ابن حبان ، ولم يرو عنه إلا ابن واقد ، وضعفه ابن منده فقال (غريب) كما في( تهذيب الكمال)
قوله : (وفطره على رطب ، فإن عدم فتمر ، فإن عدم فماء) لما أخرجه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ ) قال الترمذي ( حَسَنٌ غَرِيبٌ ) وقال الدرقطني ( إسناده صحيح ) و أعله الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة(1/28)
والقول الآخر : أنه يستحب الفطر على تمر وهو مذهب الجمهور و أخرج أهل السنن عن سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ ) وصححه أبو حاتم الرزاي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان و قال النسائي( هذا الحرف ( فإنه بركة) لا أعلم أحدا ذكره غير ابن عيينة ، ولا أحسبه محفوظا ) .
والذي يظهر أنه لا فرق بين الرطب والتمر كما قال الحنابلة ، كما هو قول الجمهور ، والله أعلم ، فإن كان هناك فرق فالتمر مقدم على الرطب
تنبيه : ذكر بعض أهل العلم أن السنة للصائم في مكة أن يفطر على ماء زمزم ، ثم تمر ، والصحيح أنه خلاف السنة والحديث ، وأيضا ما ذكره بعضهم أن الصائم يفطر على حلاوة ، إن لم يجد تمراً ، لأن المقصود الحلاة ، خلاف السنة ، لأن الحديث جعل الماء في حال عدم وجود التمر .
وكره بعض أهل العلم مج الماء إذا أفطر عليه الصائم ، لأنه أثر عبادة ، والتعليل ضعيف ، والكراهة منتفية لعدم وجود الدليل عليها ، والله أعلم
قوله : ( ويحرم على من لا عذر له الفطر برمضان) لأنه صوم واجب وتركه محرم
قوله : ( ويجب الفطرعلى الحائض والنفساء) لما أخرجه البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ قُلْنَ بَلَى قَالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا) وبالإجماع حكاه ابن قدامة وابن تيمية وغيرهما.
قوله ( وعلى من يحتاجه لإنقاذ معصوم من مهلكة ) لأنه يمكنه تدارك الصوم بالقضاء ، ولا يمكنه تدارك انقاذ الغريق ونحوه.
قوله ( ويُسن لمسافر يُباح له القصر) اعلم أن المسافر له عدة أحوال :(1/29)
الأولى : أن يلحق المسافر بصيامه ضرر فهذا حرام عليه الصوم ، أو يلحقه مشقة بصيامه فهذا يكره في حقه الصيام لما أخرجه الشيخان عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا صَائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ ) ولما أخرجه مسلم في صححيه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وفي لفظ : ( فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ)
الحالة الثانية : أن يتساوى الفطر والصيام في حق الصائم : فقولان لأهل العلم الأول : فالجمهور على أن الأفضل الصوم ، والقول الثاني : وهو قول الحنابلة على أن الأفضل الفطر(1/30)
ودليل الجمهور ما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنِ رَوَاحَة)َ وفي مسلم ( في شهر رمضان) فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعله أفضل لأنه لا يفعل إلا الأكمل ، ولما رواه مسلم أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَصُومُ الصَّائِمُ وَيُفْطِرُ الْمُفْطِرُ فَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ولأنه أسرع في إبراء الذمة ، وأسهل إذا صام الناس
وحجة الحنابلة ما تقدم من الأحاديث في أنه ليس من البر الصيام في السفر ما رواه مسلم عن حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ قَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثِهِ هِيَ رُخْصَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ اللَّهِ) ولأن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يُكره أن تؤتى معاصيه ، ومذهب الجمهور أقوى ، لأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم(1/31)
وذهبت طائفة إلى تحريم الصوم في السفر منهم أبو هريرة ، فقد أخرج الفريابي في (الصيام ) وابن أبي شيبة وغيرهما عن محرر بن أبي هريرة ، عن أبيه قال ( صمتُ رمضان في السفر ، فأمرني أبو هريرة أن أعيد في أهلي ) ومحرر من التابعين ذكره ابن حبان في الثقات وروى عنه جماعة ، وهو يروي عن والده ، ويروي قصة وقعت له ، فهذا إسناد حسن ، والله أعلم ، ولكن هذا الأثر مقابل بغيره من الآثار ، فقد أخرج ابن أبي شيبة
وغيره عن عثمان بن العاص رضي الله عنه ، أنه قال ( الصوم أفضل ) ومثله عن أنس بسند صحيح خرجه ابن أبي شيبة
وقول آخر حكاه ابن جرير عن قوم ، أنه يجب الصيام في السفر! وهذا أغرب الأقوال
وأرجح هذا الأقوال هو مذهب الجمهور -على التفصيل الذي تقدم - ، لأنه فعل الرسول صلى الله عليه وسلم .والله أعلم
قوله ( ولمريض يخاف الضرر ) لقول الله تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
وبالإجماع حكاه ابن قدامة رحمه الله تعالى.
مسألة ضابط المرض الذي يبيح الفطر أقوال لأهل العلم
الأول : أنه المرض الذي يطيق صاحبه معه القيام لصلاته ، حكاه ابن جرير عن الحسن وإبراهيم بن مسلم
الثاني: كل مرض يُسمى مرضا ، لأن الآية أطلقت ، فكل ما وقع عليه اسم المرض ، فلصاحبه أن يفطر ، وإن كان الصيام لا يشق عليه ، كمن كان به جرح في اصبعه أو نحوه ، وهو مذهب ابن سيرين ، والظاهرية
الثالث: هو ما يلحق به المريض مشقة في صيامه ، سواء من زيادة مرض أو تأخر برء ، وهو الراجح
لقوله تعالى (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
واعلم أن المريض الذي يخشى المرض بالصيام ، كالمريض الذي يخاف زيادته في إباحة الفطر ، لأن المريض إنما أبيح له الفطر خوفا مما يتجدد بصيامه من زيادة المرض ، فالصحيح الخائف من المرض بالصيام في معناه ، والله أعلم(1/32)
مسألة : أصحاب المهن الشاقة ، يجب عليه الصيام ، فإن لم يطق عمل بالليل ، وصام بالنهار ، فإن لم يستطع ، ترك مهنته هذه في رمضان وصام ثم عاد إليها فإن لم يستطع ذلك كله ، وخشي على نفسه التلف مع الصوم ، أفطر ، وقضى ، قال الآجري - رحمه الله تعالى - ( من صنعته شاقة ، فإن خاف تلفا ، أفطر وقضى ، وإن لم يضره تركها أثم ، وإلا فلا هذا قول الفقهاء) ( الفروع 4/ 437 / تركي)
مسألة :و إن خاف على نفسه من غلبة الجوع والعطش فخاف الهلاك لزمه أن يفطر ، وإن كان صحيحا لقوله تعالى تعالى (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) المجموع (6/262)
قوله ( و يٌباح لحاضر سافر أثناء النهار ) صورة المسألة مقيم شرع في السفر وهو صائم ، فله الفطر أو لا ؟ قولان لأهل العلم: الأول : أنه لا يجوز له الفطر ، لإنه اجتمع في حقه الحظر ،- وهي الإقامة- ، والإباحة - وهي السفر - فغُلب جانب الحظر الحظر ، هو عدم الفطر
الثاني: أن له الفطر وهو مذهب أحمد وإسحاق لما أخرجه أبو داود وأحمد عن جَعْفَرٌ ابْنُ جَبْرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرُفِعَ ثُمَّ قُرِّبَ غَدَاهُ قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ فَلَمْ يُجَاوِزْ الْبُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ قَالَ اقْتَرِبْ قُلْتُ أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ قَالَ أَبُو بَصْرَةَ أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَعْفَرٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَكَلَ) وفي سنده كليب بن ذهيل ، قال ابن خزيمة ( لا أعرفه بعدالة) وقال ابن حجر ( مقبول ) أي إذا توبع ، والراجح وهو جواز الفطر لأن السفر سبب مبيح للفطر والله أعلم .
مسألة متى يفطر الصائم الذي يريد السفر ؟ : قولان لأهل العلم(1/33)
الأول : بعد خروجه من البيوت ، وهو رواية عن أحمد قياسا على الصلاة
الثاني : في المنزل هو قول بعض أهل العلم - كما حكاه الترمذي - منهم إسحاق ، لما جاء عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا وَقَدْ رُحِلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ فَقُلْتُ لَهُ سُنَّةٌ قَالَ سُنَّةٌ ثُمَّ رَكِبَ ) أخرجه الترمذي وحسنه ، وصححه ابن القطان ، والألباني (جزء في تصحيحه) قال الترمذي ( وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ جِدَارِ الْمَدِينَةِ أَوْ الْقَرْيَةِ وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ) وهو الراجح والله أعلم
قوله : (ولمرضع وحامل خافتا على أتفسهما ، أو على الولد ، لكن إن أفطرتا خوفا على الولد لزم وليه إطعام مسكين ) الحامل والمرضع إما أن تفطر رمضان لخوفها على نفسها ومشقة الصيام عليها ، فهذه عليها القضاء فقط ، لأنها في حكم المريض ، وإما أن تفطر خوفا على ولدها لأن الجوع يضر بالطفل أو نحوه ، فهذه عليها القضاء ، وعلى ولي الطفل الفدية ، لأن الفطر حصل بسبب الولد وهو مذهب الشافعية والحنابلة، و جواز فطر المرضع والحامل في هاتين الصورتين بلا خلاف بين أهل العلم قاله ابن قدامة
والقول الثاني : تفطران وتقضيان ولا تفديان وهو قول عطاء وأصحاب الرأي وابن المنذر
والثالث: التفريق بين الحامل والمرضع ، فالمرضع تفطر وتقضي وتفدي ، والحامل تفطر وتقضي ولا فدية وهذا مذهب مالك.
والرابع : يفطران ويفديان ولا قضاء عليهما وهو قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ، ومذهب سعيد بن جبير وإسحق(1/34)
قال الترمذي : (وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ و قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ تُفْطِرَانِ وَتَقْضِيَانِ وَتُطْعِمَانِ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ و قَالَ بَعْضُهُمْ تُفْطِرَانِ وَتُطْعِمَانِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ شَاءَتَا قَضَتَا وَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَقُ) وهو الراجح وذلك لما رواه الترمذي
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ أَغَارَتْ عَلَيْنَا خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُهُ يَتَغَدَّى فَقَالَ ادْنُ فَكُلْ فَقُلْتُ إِنِّي صَائِمٌ فَقَالَ ادْنُ أُحَدِّثْكَ عَنْ الصَّوْمِ أَوْ الصِّيَامِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ وَعَنْ الْحَامِلِ أَوْ الْمُرْضِعِ الصَّوْمَ أَوْ الصِّيَامَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِلْتَيْهِمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا ) وحسنه الترمذي والألباني وغيرهما ، وقد أعله ابن التركماني بالاضطراب ، وقول من حسن الحديث أولى بالصواب ، والله أعلم
ولما جاء عن ابن عمر ( الحامل إذا خشيت على نفسها في رمضان تطعم ، وتفطر ولا قضاء عليها ) أخرجه عبدالرزاق بسند صحيح عنه ، وكذا أخرجه الشافعي وفيه ( تطعم كل يوم مسكينا مدا من حنطة)
وصح عن ابن عباس أخرج ابن جرير عنه أنه قال ( إذا خافت الحامل على نفسها والمرضع على ولدها في رمضان. قال يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينا ولا يقضيان صوما ) قال ابن قدامة و ابن تيمية ( وليس لهما مخالف من الصحابة )(1/35)
قوله ( و إن أسلم الكافر ، وطهرت الحائض ، وبرىء المريض ، وقدم المسافر ، وبلغ الصغير ، وعقل المجنون في أثناء النهار ، وهم مفطرون ، لزمهم الإمساك والقضاء)
قوله ( وإن أسلم الكافر ) أما الأيام التي مضت قبل إسلامه فلا يقضيها بالاتفاق ، و ما استقبله من أيام فإنه يصومها بالإجماع ، حكاهما ابن قدامة . وأما إن اسلم أثناء النهار ، فهل يقضيه قولان لأهل العلم
الأول : أنه يقضي ، لأنه أدرك جزءا من وقت العبادة ، كما لو أدرك جزءا من وقت الصلاة ، وهو قول أحمد وإسحاق.
الثاني : أنه لا يقضي هذا اليوم ، لأنه لم يدرك ما يمكنه التلبس به ، وهو قول مالك وأبي ثور ومذهب الشافعي على الصحيح ورواية عن أحمد وابن المنذر وهو الراجح ومثله الصغير إذا بلغ ، والمجنون إذا أفاق والله أعلم
أما الإمساك فقولان لأهل العلم : يجب عليه الإمساك وهو مذهب الحنابلة ، والرواية الأخرى وهو قول مالك والشافعي لا يمسك ، وهو الراجح وذلك لما أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن مسعود ( من أكل أول النهار فليأكل آخره) وهذا كله في حق من أفطر بعذر ثم زال عذره في أثناء نهار رمضان ، كالصبي إذا بلغ والحائض إذا طهرت ، والمسافر إذا قدم ، والمجنون إذا أفاق .
مسألة : أما من أفطر بغير عذر ، فليزمه الإمساك بقية اليوم بلا خلاف قاله ابن قدامة رحمه الله تعالى
قوله : ( وليس لمن جاز الفطر برمضان أن يصوم غيره فيه ) كرجل مسافر ، فأراد أن يصوم نذرا أو قضاء أو تطوعا بدلا من رمضان لأن الله رخص له في الفطر فيه ، فلا يصح صيامه لأن الوقت معين لشهر رمضان
قوله (فصل في المفطرات ) أي في مفسدات الصوم ومبطلاته ، واعلم أن بعض الفقهاء جعلها على قسمين ، الأول مفطرات يجب فيها القضاء فقط ، والثاني مفطرات يجب فيها القضاء مع الكفارة ، والراجح - كما يأتي إن شاء الله تعالى - أن كل المفطرات لا كفارة فيها عدا الجماع .(1/36)
والمفطرات بالنسبة لبدن الصائم على نوعين : الأول : ما يخرج من البدن على سبيل الاستفراغ كالقىء والحجامة ، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. الثاني : ما دخل إلى البدن ، وقد اختلف أهل العلم في ضابط المفطر الداخل إلى البدن : فمنهم من قال ( كل ما وصل من عين إلى ما يسمى جوفا ) وهو مذهب الشافعية وشرطه أن يكون بواسطة منفذ مفتوح لا بمسام) ، وعند الحنابلة ( أن الواصل إلى الجوف وشرطه أن يصل إلى البطن أو ما كان بينه وبين البطن مجرى) وظاهر كلام شيخ الإسلام هو ما يصل إلى المعدة ويغذيه
أو يغنيه عن الغذاء ، وهو الراجح والله أعلم
قوله : ( خروج دم الحيض والنفاس ، الموت ، والردة ) بالإجماع ، وقد تقدم الكلام على الحيض والنفاس عند شروط صحة الصوم ، والموت هو انقطاع التكليف ، ولو أرتد المسلم - والعياذ بالله - ثم عاد إلى الإسلام في نفس اليوم ، قضى ذلك اليوم بل خلاف قاله ابن قدامة
قوله (والعزم على الفطر ) أي لو نوى الصائم الفطر جازما بذلك ، فإنه يفطر ، ولو لم يفعل شيئا من المفطرات وهذا هو قول المالكية والحنابلة ، والقول الآخر : أنه لا يفطر وهو مذهب الحنفية ، وجماعة من الشافعية ، وحجتهم في ذلك ما أخرجه الشيخانعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ) واللفظ للبخاري .ولإن نية الفطر لم يتصل بها فعل فلم تعتبر .(1/37)
والقول الأول هو الراجح لما أخرجه الشيخان - واللفظ للبخاري - عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)
ولأن الصوم عبادة والأصل أن تكون النية في كل جزء من أجزاء الصوم ، إلا أنه رخص في استصحابها فيه ، لمشقته ، وفرق بين الصوم وغيره من الأفعال ، فإن الصوم كف عن المفطرات فلابد فيه من النية،
والله أعلم
قوله ( والتردد فيه) أي التردد في الصوم وإتمامه يبطل الصوم لأن التردد قطع نية ، والوجه الثاني في مذهب الحنابلة ، وهو الراجح أنه لا يبطل بالتردد ، لأنه دخل بنية متيقنة ، فلا تزول بالشك والتردد
مسألة : أما صيام التطوع فإنه وإن قطعه بنيته له أن يستأنفه مرة أخرى ما لم يأكل شيئا أو يفعل شيئا من المفطرات لأنه يجوز إنشاء النية فيه من النهار والله أعلم
قوله ( القىء عمدا) لما رواه أهل السنن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا ) والحفاظ على ضعف هذا الحديث كأحمد والبخاري والدارمي والترمذي و أبو داود والبيهقي ، وأعلوه بتفرد هشام بن حسان ، وإن كان ظاهر الإسناد الصحة ، ولم يعتدوا بمن تابع هشام بن حسان . وصح عن أبي هريرة خلاف ما رواه أنه قال ( إذا قَاءَ فَلَا يُفْطِرُ ) رواه البخاري ، لكن قد يٌحمل على أنه إذا لم يفعل ذلك عمدا ، لأنه قال ( قاء) وهذا في غير المتعمد ، ولم يقل (استقاء) .(1/38)
َو قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ (الصَّوْمُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ )أخرجه البخاري في صحيحه معلقا. وصحح الحافظ في ( الفتح ) ذلك عن ابن مسعود أيضا .
وجاء عن ابن عمر خلاف ذلك فقد أخرج مالك عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ اسْتَقَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ) . وقد انعقد الإجماع عليه كما حكاه ابن المنذر ، والترمذي ، وهو الراجح ، وأن القيء عمدا يفطر به صاحبه والله أعلم
قوله ( والاحتقان من الدبر) لأنه وصل إلى الجوف باختياره ، فأشبه الأكل ، وقال القاضي عبدالوهاب المالكي في ( الإشراف) أنها لا تفطر لأن داخل الدبر موضع حصول اللبن فيه لا يوجب الرضاع ، فلم يوجب الفطر ، ولأنها ليست بمغذية ، ولا يحصل بها غذاء ، وهو اختيار ابن تيمية وهو الراجح
مسألة : أما الإبر المعروفة اليوم فهي قسمان : قسم مغذي ويحصل به الغذاء فهي مفطرة لأنها قائمة مقام الطعام ، وقسم آخر في العضل أو الوريد فهي ليست بمفطرة لأنها ليست طعام ولا شراب ولا في معناهما ، وهو اختيار ابن باز والألباني وابن عثيمين - رحمهم الله جميعا -
قوله ( وبلع النخامة ) مفطرة لأنه أمكن التحرز منها ، ولأنها من غير الفم ، والرواية الأخرى عن أحمد أنه لا تفطر لأنها كالريق وليست طعاما ولا شرابا ، ولإنها ليست من خارج البدن ، وهو الراجح
قوله ( والحجامة خاصة حاجما كان أو محجوما ) لما رواه الترمذي عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ) قال الترمذي (حسن صَحِيحٌ ونقل عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الباب) وقد أخرج أبو داود هذا الحديث من حديث ثوبان وصححه ابن المديني ، وهو مذهب أكثر أهل الحديث.(1/39)
والقول الآخر : وهو مذهب جمهور الفقهاء أن الحجامة لا تفطر ، وذهبوا إلى أن حديث ثوبان منسوخ ،واستدلوا بما رواه البخاري : (ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ) وأنكر الإمام كلمة ( صائم ) كما حكاه ابن تيمية والحافظ ، وذكر أن يحي بن سعيد القطان كان ينكرها كذلك ، واستدلوا على النسخ أيضا بما أخرجه النسائي في ( الكبرى) من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم ( رخص في الحجامة للصائم ) والرخصة لا تكون إلا بعد عزيمة النهي ، لكن هذا الحديث رجح حفاظ أهل الحديث كأبي حاتم وأبي زرعة والترمذي و، والبخاري ، وابن خزيمة على أنه من قول أبي سعيد ، أنه هو الذي رخص في الحجامة للصائم
وأما آثار الصحابة فهي متعارضة في ذلك ، فالراجح في ذلك أن الحجامة مفطرة للحاجم والمحجوم ، كما هو مذهب أكثر أهل الحديث وأما دعوى نسخ حديث رافع وثوبان فلا تثبت بمجرد الاحتمال، وقد أجاد الإمام ابن قيم الجوزية في بحث هذه المسألة في ( حاشيته على سنن أبي داود)
مسألة : علة الفطر في الحجامة اختلف فيها أهل العلم على قولين : الأول أنها تعبدية وهو مذهب الحنابلة ، والثاني أنهما معقولة المعنى ، وهو اختيار ابن تيمية ، وثمرة الخلاف في أن الدم لو لم يصل إلى فم الحاجم فإنه لا يفطر ، لأنه جعل فطره مظنة وصول الدم إلى فمه ، والراجح مذهب الحنابلة في ذلك أنها تعبدية، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل هل وصل الدم لفم الحاجم أم لا ، ولإنه لو وصل إلى فمه لسهل دفعه ومجه ، وأيضا لو دخل الدم إلى حلقه بدون قصد وعمد لم يفطر.(1/40)
مسألة : وعليه تعلم حكم الفصد وسحب الدم لأجل التحليل أنه لا يفطر وهو اختيار ابن باز ، أما دم تبرع وهو الدم الكثير فقد أفتى الشيخان ابن باز وابن عثيمين ، أنه يفطر صاحبه، لأجل ما يلحق صاحبه من الضعف . ولأنه في معنى الحجامة.
مسألة : تغيير الدم لمرض الكلى أفتى الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى بأنه يفطر ، لأجل ما زود به الصائم من الدم النقي .
قوله ( إنزال المني بتكرار النظر ، لا بنظرة ، و لا بتفكر ، ولا احتلام ، ولا بالمذي) فيه مسائل
الأولى : إن فكر في زوجته فأنزل ، قولان لأهل العلم:
الأول : يفطر وهو اختيار بعض الحنابلة منهم ابن عقيل ، لأن الفكرة يمكن السيطرة عليها ودفعها
الثاني: أنه لا يفطر هو قول الجمهور لما رواه الشيخانعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ) واللفظ للبخاري .
فلا نص ولا إجماع على الفطر ، ولا يٌقاس تكرار النظر على المباشرة ، لأنه دونها في استدعاء الشهوة ، هو الراجح والله أعلم
الثانية:لو نظر فجأة فأنزل ، قولان لأهل العلم
الأول :يفسد صومه وهو قول مالك لأنه أنزل بالنظر كما لو كرر النظر أنزل
والثاني: لا يفسد صومه وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة ، لأنه لا يمكن التحرز من النظرة الأولى فلا يفسد بها ، وهو الراجح
الثالثة :إنزال المني بتكرار، النظر قولان لأهل العلم
الأول : يفطر وهو قول مالك والحنابلة ، لإنه إنزال بفعل التلذذ يمكن الاحتراز منه
الثاني: لا يفطر وهو قول الشافعية والحنفية ، لإنه إنزال عن غير مباشرة كما لو أنزل بالتفكر
قوله ( والاحتلام) أي انه لا يفسد صومه ، ولو قع في نهار رمضان ، بالإجماع حكاه ابن عبدالبر والقاضي عبدالوهاب المالكي(1/41)
قوله ( لا بالمذي) أي لو أمذى نتيجة النظر لأنه لا يمكن التحرز منه ، ولأنه لا يمكن قياسه على إنزال المني
قوله ( خروج المني أو المذي بتقبيل أو لمس أو استمناء أو مباشرة دون الفرج ) فيه مسائل :
الأولى : التقبيل بلا إنزال ، بالإجماع أنه لا يفسد الصوم
الثانية : حكم التقبيل يختلف باختلاف المقبل فقد يجوز ، ويكره ، ويحرم ، بحسب ملكه لنفسه لما رواه الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ وَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَآرِبُ حَاجَةٌ ) واللفظ للبخاري
الثالثة : خروج المني بالتقبيل أو اللمس أو المباشرة ، بالإجماع أنه يفطر ، حكاه صاحب ( الحاوي )و ابن قدامة في ( المغني ) ، وخالف في ذلك الظاهرية ومن المتأخرين الصنعاني والشوكاني ، واحتجوا بإنه لا نص ، ولأن الإجماع لم ينعقد ، لخلاف بعض الصحابة ، والراجح في ذلك هو مذهب عامة أهل العلم ، لإن آثار الصحابة كلها خالية من ذكر الأنزال ، وإنما الكلام فيها على المباشرة ، والمباشرة لا كلام في جوزاها إأنها ثابتة، عن الرسول صلى عليه وسلم في الصحيح ، وقالت عائشة ) وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ )، إنما النزاع في الإنزال معها
الرابعة :خروج المني بالإستمناء ، يفطر قياسا على المباشرة لأنه في معناها ، وقد ذهب الميرغاني من المتأخرين من الحنفية أنه لا يفطر ، والأرجح أنه يفطر
الخامسة : المذي الصحيح أنه لا يفطر لو أمذى بسبب المباشرة ، لأنه لا دليل على ذلك ، ولا يٌقاس على على الاستمناء ، وهو قول الحنفية والشافعية ، والله أعلم(1/42)
قوله( الثاني عشر : كل ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ من مائع أو غيره ) هذا هو ضابط المفطرات التي تصل إلى الجوف عند الحنابلة ، وقد تقدم أن الراجح ما قرره ابن تيمية هو كل ما وصل إلى المعدة وكان طعاما أو مغنيا عن طعام ، ومن هذه المفطرات
- الأكل والشرب من المفطرات ، لقوله تعالى ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) وبالإجماع ، واختلف أهل العلم في البرد ، والدرهم والحصى ، فأما البرد فقد جاء عن عن أبي طلحة أنه كان يأكل البرد . أخرجه البزار( الكشف 1022) وقال ابن قدامة في المغني ( لا يثبت) ، وفيه عنعنة قتادة ، وأما التراب ، فقد قال الحسن بن صالح بن حي أنه لا يفطر
وقال ابن الصلاح في ( مشكل الوسيط) أن الإجماع انعقد بعدهما على خلاف ما قالاه . وهو قول بعض المالكية أن ما لا يُغذي ولا انماع في الجوف كالحصاة والدرهم فإنها لا تفطر ، والراجح خلاف ذلك لأنها مغنية عن الطعام وإن كانت هذه الأمور ضارة لكنها مفطرة ، كأكل السموم ، والله أعلم
قوله ( فيفطر إن قطر في أذنه ما وصل إلى دماغه) لأنه وصل إلى جوف الدماغ .
والقول الآخر : أنه لا يفطر لأنه ليس بطعام ولاشراب ولا في معناهما ، وهو قول الليث والأوزاعي وداود وهو الأظهر
قوله ( أو دواى الجائفة فوصل إلى جوفه ) الجائفة : الجراحة التي تصل إلى الجوف ، فإن داوى هذه الجائفة بدواء نفذ من خلالها فإنه يفطر ، لأنه وصل إلى الجوف
والقول الثاني : أنه لا يفطر لأنه ليس بطعام ولا في معناه وهو قول المالكية وهو الراجح
قوله : (أو اكتحل بما علم وصوله إلى حلقه ) فإن لم يجد طعم الكحل في حلقه جاز ، لأنه لم يصل إلى الجوف. وإن وجد طعم الكحل في حلقه فقولان لأهل العلم:
الأول: يفطر وهو مذهب الحنابلة والمالكية ، لأنه وصل إلى حلقه.(1/43)
الثاني لا يفطر ولو وجد طعمه في حلقه ، لأنه ليس بطعام ولا في معناهما وهو الراجح ، لأنه ليس بطعام ولا في معناهما ، وهو مروي عن عطاء والحسن والنخعي وغيرهم ، كما في ( البناية للعيني)
قوله : (أو مضغ علكا ) دون وصول الطعم إلى الحلق ، فقولان لأهل العلم :
الأول : الكراهة ، وهو مذهب جماعة من أهل العلم لأنه يصيب الصائم بالعطش
الثاني: الجواز ، لأنه لا دليل على الكراهة ، وحكاه ابن قدامة عن عائشة وعطاء
فإن وصل طعمه إلى الحلق : فقولان لأهل العلم وهما وجهان عندالحنابلة ، والراجح في ذلك هو قول من قال أنه لا يفطر ، لأنه لم ينزل منه شىء ، ومجرد وجود الطعم في الحلق لا يفطر ( المغني /4/351)
تنبيه: إن وصل من العلك إلى جوفه بلا شك أنه يفطر
قوله : ( أو ذوق الطعام ووجد الطعم بحلقه ) قولان لأهل العلم : الأول الكراهة ، وهو قول الشافعية والمالكية والحنفية .
والثاني : الجواز وهو مذهب الحنابلة وهو الراجح لما أخرجه البخاري في صحيحه معلقا عن ابن عباس بصغية الجزم أنه قال : (لَا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ الْقِدْرَ أَوْ الشَّيْءَ )
مسألة : فإن وجد الطعم في حلقه فقولان لأهل العلم ، أنه يفطر.
والثاني : أنه لا يفطر وهو قول بعض الحنفية ، لأنه لم ينزل منه شيء إلى جوفه ، وهو الأظهر ، والله أعلم
قوله : (أو بلع ريقه بعد أن وصل إلى ما بين شفتيه ) لأنه ابتلعه من غير فمه ، كما ما لو بلع ريق غيره ، فإنه يفطر بالإجماع كما قاله النووي في ( شرح المهذب)(1/44)
قوله : ( ولا يفطر إن فعل شيئا من جميع المفطرات ناسيا أو مكرها ) لما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ ) و أما المكره لقوله تعالى (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ)
قوله ( قوله لا إن دخل الغبار حلقه أو الذباب بغير قصده) لأنه لا يمكن التحرز منه ، و كذلك من نزل شيء الماء في أثناء وضوءه إلى حلقه بغير قصده.
قوله : (ولا إن جمع ريقه فبلعه) لأنه ليس بطعام ولا شراب ولا في معناهما
- ولا بأس بشم البخور وإن قصده لأنه ليس بطعام ولا في معناه ، قاله ابن تيمية في (شرح العمدة) وهو قول بعض المالكية كما في ( الذخيرة)
- حكم البخاخ لمريض ضيق التنفس ، جائز وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - لأنه ليس بطعام ولا في معناه ولا يصل إلى الجوف
- ومعجون الأسنان لا بأس به لأنه لا ينزل إلى الجوف وهي فتوى الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى(1/45)
قوله ( ومن جامع نهار رمضان في قبل ) فأنه يفطر لما رواه الشيخان : عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ قَالَ مَا لَكَ قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لَا فَقَالَ فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَ لَا قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنَا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ)
- سواء أنزل أو لم ينزل فإنه يفطر بالإجماع حكاه ابن قدامة .
قوله ( أو دبر ) لم أجد خلافا بين الفقهاء أنه من المفطرات فيما وقفت عليه من الكتب والله أعلم . واختلفوا في في وجوب الكفارة عليه : قولان لأهل العلم الأول : تجب الكفارة عليه وهو مذهب الجمهور قياسا على الجماع في القبل . والقول الثاني : لا تجب الكفارة وهو قول أبي حنيفة لأن الدبر ليس محل الاستمتاع ، وجعله ابن مفلح متجه تخريجا له على الحد(1/46)
قوله ( ولو لميت ) أي لو جامع ميتا فإنه يفطر ، لأنه جماع وهل عليه كفارة ؟ وجهان في مذهب أحمد الأول أنه ليس عليه كفارة لأنه ليس بجماع .
والوجه الآخر : عليه كفارة لأنه أوجب الغسل .
قوله ( أو بهيمة) لأنه كالجماع . والوجه الآخر : لا يفسد الصوم ولا كفارة عليه ، لإنه لا نص فيه وليس في معنى الجماع وهو متجه
قوله : ( في حالة يلزمه فيها الإمساك ) وهو الذي أفطر بلا عذر - كما تقدم - فإنه يجب عليه الإمساك بالاتفاق كما حكاه ابن قدامة ، فلو أنه أكل بدون عذر ثم جامع ، فإن عليه الكفارة ، والأرجح أنها لا تجب لأنه قد أفسد صومه بالأكل وهو مذهب الجمهور ، إلا أن يقصد الفطر بالإكل احتيالا حتى يصل إلى الجماع
قوله ( مكرها كان أو ناسيا ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الذي جامع أهله ، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، والقول الآخر وهو مذهب الجمهور أنه لا شيءعلى الناسي لإن السائل قال :( هلكتُ) فدل ذلك على أنه تعمد الفعل ووقوع النسيان بعيد ، وهو الراجح والله أعلم.
- والمكره قولان لأهل العلم الأول يفطر وهل عليه الكفارة قولان و قولان لأحمد أيضا
- . والقول الثاني: لا يفطر وهو مذهب الشافعي وهو الراجح.
قوله : ( لزمه القضاء والكفارة) أما القضاء ، فقولان لأهل العلم :
الأول: لا يقضي اليوم الذي أفطره ، وهو داخل في الكفارة وهو قول الشافعي والأوزاعي وبعض أهل العلم .
والثاني : يقضي وهو قول جمهور أهل العلم لما رواه أبو داود ( وَصُمْ يَوْمًا وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ) وهذه الزيادة ضعفها البخاري والبزار وابن خزيمة
وقال الخليلي في الإرشاد ( أنكره الحفاظ قاطبة) وابن عبدالبر وابن تيمية ، لكن مذهب الجمهور أرجح قياسا على من استقاء عمدا فإنه يقضي ، والله أعلم(1/47)
قوله : ( والكفارة عتق رقبة مؤمنة ) خرجت به الرقبة الكافرة فلا تجزىء ، والقول الثاني : أنها تجزىء الرقبة الكافرة لإطلاق الحكم ، والجمهور على خلافه لأن الإطلاق قيد بحديث الجارية ( أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم ، وقياسا على كفارة القتل ، وهو الراجح
مسألة : هل الكفارة على الترتيب أو التخيير قولان لأهل العلم
الأول أنها على الترتيب .
والثاني : أنها على التخيير لما جاء في مسلم عن أبي ا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ) والراجح أنها على الترتيب لأن رواية الترتيب أصح ، فقد روى الترتيب عن الزهري أكثر من ثلاثين نفسا كما قاله الحافظ في ( الفتح).
قوله : (فإن لم يستطع انتقل إلى صيام شهرين متتابعين ) للحديث الذي تقدم ، وشرط الصيام أن يقع متتابعا فإن أفطر من غير عذر استأنف من جديد والله أعلم
قوله : ( فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) للحديث ، واختلفوا في مقدار الطعام والراجح أنه مد من طعام .لما جاء عن ابن عمر وابن عباس وليس لهما مخالف من الصحابة كما قاله ابن قدامة.
- ويجزئه أيضا إن جمعهم فأطعمهم لأثر أنس المتقدم في صيام الشيخ الذي لا يطيق ، وهو رواية عن أحمد
قوله ( فإن لم يجد سقطت) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل ( أطعمه أهلك ) ولم يأمره بكفارة أخرى .
والقول الثاني :أنها لا تسقط ، وهو قول الشافعي والأول أرجح لأنه لا واجب مع العجز
قوله ( بخلاف غيرها من الكفارات ) فهي لا تسقط بالعجز ككفارة القتل وظهار ويمين بل تبقى في الذمة
والقول الثاني : أنها تسقط وهو رواية عن أحمد وهو الراجح لأنه لا واجب مع العجز
قوله ( ولا كفارة في رمضان بغير الجماع والإنزال بالمساحقة)
أما الجماع بالإجماع تجب فيه الكفارة .(1/48)
وأما المساحقة فوجهان في مذهب الحنابلة ارجحهما أنه لا كفارة فيه مع الأنزال ، لأنه ليس جماع ولا في معناه
- وذهب الحنفية أن الكفارة تجب بالأكل والشرب عمدا في رمضان
- والمالكية تجب الكفارة عندهم بكل ما كان هتكا للصوم بلا عذر إلا الردة نسأل الله العافية
- والراجح هو مذهب الشافعية أنها لا تجب إلا بالجماع
مسألة : أن أكل شاكا في طلوع الفجر، ولم يتبين . قولان لأهل العلم
الأول : يجب القضاء لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته ، فلا يسقط بالشك ، وهو قول مالك
الثاني: لا يجب عليه القضاء وهو قول الشافعي وأحمد وجماعة من أهل العلم ، لإن الأصل بقاء الليل ، ولما خرجه عبدالرزاق بسند صحيح عن ابن عباس ( أحل الله لك الشراب ، ما شككت حتى لا تشك) وهو الراجح
مسألة : وإن أكل شاكا في غروب الشمس فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار هذا ما لم يتبين له شىء ، فإن بان أن أكله كان بعد غروب الشمس فصيامه صحيح
مسألة : وإن أكل يظن الفجر لم يطلع ، وقد طلع أو أن الشمس قد غابت ولم تغب والمراد هنا غلبة الظن الراجح لا الظن المساوي للشك . قولان لأهل العلم :
الأول :عليه القضاء هو قول جمهور أهل العلم
الثاني : لا يقضي وهو قول عروة ومجاهد والحسن واختيار ابن تيمية(1/49)
وسبب الخلاف في ذلك هو الخلاف في فهم حديث أسماء ، وأثر عمر بن الخطاب ، أما حديث أسماء فقد أخرجه البخاري عن فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتْ الشَّمْسُ قِيلَ لِهِشَامٍ فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ وَقَالَ مَعْمَرٌ سَمِعْتُ هِشَامًا لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا ) فاستدل الجمهور بهذا الحديث على وجوب القضاء لفهم الرواي هشام بن عروة ، واستدل الفريق الثاني بقول هشام بإنه لا يدري قضوا أما ، فلا قضاء فيه ، لإنهم لو قضوا لذكرته أسماء رضي الله عنها. وهو الأظهر
أما أثر عمر فقد أخرجه مالك حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِك عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَفْطَرَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَمْسَى وَغَابَتْ الشَّمْسُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ عُمَرُ الْخَطْبُ يَسِيرٌ ) وقد جاءت بألفاظ أخرى عن عمر مختلفة ، عند عبدالرزاق والبيهقي . وخلاصة هذه الاختلاف أن الأثر ورد بثلاثة ألفاظ عن عمر أنه قال
الأول : ( الخطب يسير نقضي يوما ) ورجح هذا اللفظ البيهقي وهو ظاهر كلام ابن عبدالبر في الترجيح
الثاني: أنه قال( لا نقضي ) ورجح هذا اللفظ ابن تيمية وتلميذه ابن كثير في ( مسند الفاروق) وهو الأرجح لأن رجاله أقوى وأحفظ ، من رجال باقي الأسانيد
الثالث: أنه قال ( الخطب يسير) تأوله الجمهور على أن مراده القضاء ، والفريق الآخر تأوله على أن المراد عدم القضاء ، والراجح في ذلك هو عدم القضاء والله أعلم كما هو اختيار ابن تيمية رحمه الله تعالى(1/50)
قوله ( ومن فاته رمضان قضى عدد أيامه ) المفطرون في رمضان قسمان: بعذر وبغير عذر ، أما من أفطر بعذر كسفر وحائض فلا خلاف في قضاءه لقوله تعالى (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
أما من أفطر بغير عذر ، فقولان لأهل العلم
الأول : عدم القضاء وأنه لا يجزيء القضاء وهو قول ابن حزم واختيار ابن تيمية ، لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد وليس هنا أمر جديد ، ولما رواه أهل السنن إلا النسائي من حديث أبي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ )وسنده ضعيف ضعفه الترمذي والبخاري وابن عبدالبر وقال ابن حجر في (الفتح) ( في سنده اختلاف واضطراب وجهل بحال أبي المطوس) ،
وأيضا لما جاء عن ابن مسعود أنه قال ( من أفطر يوما في رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر كله) أخرجه عبدالرزاق وابن أبي شيبة بسند صحيح وجاء عن علي بن أبي طالب بسند ضعيف
والقول : الثاني : وجوب القضاء قال ابن قدامة ( بغير خلاف نعلمه) ، ولأنه كان ثابتا في الذمة فلا تبرأ إلا بادائه ، وقياسا على من إستقاء عمدا ، فإنه يجب عليه القضاء بالإجماع ، وأما أثر ابن مسعود فيحمل على التغليظ . وهو الراجح والله أعلم
مسألة المغمى عليه إن أفاق جزءا من النهار صح صيامه على الراجح ، لإنه جمع بين ركني الصيام ، النية والإمساك عن المفطرات . , وإن لم يفق فإنه يقضي بلا خلاف قاله ابن قدامة
قوله (ويسن القضاء على الفور) لأنه أسرع في ابراء الذمة ، ولأن وقت القضاء ممتد حتى رمضان الآخر أما كونه على التراخي لقول الله عز وجل قال (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فدلت الآية على جواز التراخي لأن الله تعالى أوجب القضاء في عدة من الأيام المطلقة غير مقيدة بزمن ، بخلاف من نسي الصلاة فأنها تجب عليه فور تذكرها(1/51)
ولما أخرجه الشيخان عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ قَالَ يَحْيَى الشُّغْلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال يَحْيَى الشُّغْلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهذا هو الراجح ، ولا يرد عليه أن تأخير عائشة رضي الله عنها كان خاصا لأجل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه مدفوع ، بإن الأصل عدم الخصوصية ، وقولها ( الشغل بالنبي صلى الله عليه وسلم ) مدرج من كلام يحي ليس من كلام عائشة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن صيام النفل وزوجها حاضر إلا بأذنه، فدل على جواز صومها الفرض بغير أذنه ، ولأن عائشة تستطيع الصيام في غير نوبتها والله أعلم
قوله ( إلا إذا بقي من شعبان بقدر ما عليه فيجب ) لما سبق
مسألة : إن أخر القضاء حتى رمضان الآخر لعذر فلاشيء عليه
مسألة : إن أخره لغير عذر قولان لأهل العلم
الأول القضاء فقط ولا يلزمه شيء وهو قول الحنفية
الثاني عليه القضاء وإطعام عن كل يوم مسكين وهو مذهب الحنابلة والمالكية وهو الراجح ، لما جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة قال يحي بن أكثم ( وليس لهم مخالف من الصحابة) وقاله ابن قدامة في المغني والله أعلم
مسألة من مات وعليه صوم له صورتان
الأولى أن يموت عن صيام رمضان ، وإما أن يكون معذروا في عدم القضاء ، كأن يموت في ثاني يوم شوال فقولان لأهل العلم :
الأول : يطعم عنه وهو قول قتادة وطاوس.
والثاني لا شيء عليه وهو قول أكثر أهل العلم لأنه لا واجب مع العجز .
وإما إن كان بإمكانه القضاء قولان لأهل العلم : الأول يصام عنه وهو قول الشاقعي وطاوس والحسن وقتادة(1/52)
لما جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ )
والقول الثاني : يطعم عنه كل يوم مسكين من تكرته وهو قول مالك وأحمد وأكثر أهل العلم كما قاله ابن قدامة ، وذلك لما قاله ابن عمر ( من مات وعليه صيام رمضان أطعم عن كل يوم مدا حنطة للمسكين) رواه البيهقي وعن ابن عباس أيضا عن عائشة ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة قاله ابن تيمية
وهو الراجح لفهم السلف
الصورة الثانية : أن يموت عليه وصيام نذر
الأول : يطعم عنه وهو قول جماعة من الفقهاء منهم الشافعي
الثاني : يصوم عنه وليه وهو مذهب الحنابلة وهو الراجح لفهم عاشة وابن عباس وليس مخالف من الصحابة رضي الله عنهم
- الولي : قيل هو الوراث وهو مذهب الحنابلة ، وقال ابن حجر كل قريب ، وقيل هم العصبة ، ويرده حديث التي صامت عن أمها
- ولا يجب الصيام على الولي لإنه النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين ولا يجب على الولي قضاء دين الميت
- وهل يختص بالولي قولان لأهل العلم: الأول لا يختص به بل كل من تبرع بالقضاء جاز لأنه كقضاء دين ، والثاني : أنه خاص بالولي لظاهر الحديث
- ولا بأس بصيامهم جميعا في يوم واحد
قوله ( ولا يصح ابتداء تطوع عليه من قضاء من رمضان ) لما أخرجه ابن ابي شيبة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال ( اعلم أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ) وفي سنده انقطاع ، وأخرج عبدالرزاق بسند صحيح أن رجلا سأل أبا هريرة ( إن علي أياما من رمضان ، أفأصوم العشر تطوعا؟ . قال لا، أبدأ بحق الله ثم تطوع ما شئت )
والقول الآخر يصح أداء النافلة قبل قضاء رمضان ، وهو قول المالكية والحنفية ، لأن قضاء رمضان على التراخي ، وعائشة رضي الله عنها كانت تقضي في شعبان ، ويبعد أن لا تتطوع بشىء من صيام النافلة(1/53)
وهذا الأثر محتمل ، وأثر أبي هريرة نص ، فهو أحوط والله أعلم
قوله ( فإن نوى صوما واجبا أو قضاء ثم قلبه نفلا صح ) هذا في غير رمضان ، وذلك أن الصوم اشتمل على نيتين ، نية الصوم المطلقة ، ونية التعين ، فإذا قلبه نفلا ذهبت نية التعيين ، وبقية نية الاطلاق
والله أعلم .
قوله ( ، ويسن صوم التطوع ) لما في فضل الصيام من أخبار منها ما جاء عن أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) متفق عليه
قوله ( وأفضله يوم ويوم ) لما أخرجه الشيخان عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا)
قوله ( ويسن صيام أيام البيض: وهي ثلاثة عشر، وأربعة عشر ، وخمسة عشر) لما جاءعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ) متفق عليه
أما كونها ثلاثة و أربعة وخمسة عشر لما رواه الترمذي وصححه ابن حبان وابن خزيمة عن أبي ذَرٍّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ )(1/54)
قوله ( وصو الأثنين الخميس) لما جاء عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ ) رواه الترمذي وقال ( حسن غريب ) والنسائي
قوله ( وستة من شوال) في استحبابها قولان لأهل العلم
الأول : أنه يكره وهو مالك لأنه لم ير أحدا من أهل الفقه من صامها ، ولأنه خشي أن يلحق برمضان ما ليس منه.
الثاني : يستحب هو قول أكثر أهل العلم لما رواه مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ )
مسألة: سبق الكلام على من تقديم صيام التطوع ومنها الست من شوال ، على قضاء رمضان ، ومن خشي فوات شوال بقضاء رمضان ، فلا حرج عليه أن يصوم ستة أيام من غير شوال ، إذ التضعيف لا يختص بشوال ، فالحسنة بعشر أمثالها ، وذلك لما أخرجه ابن ماجة عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ كَانَ تَمَامَ السَّنَةِ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) وصححه أبو حاتم الرزاي والله أعلم
قوله ( يسن صوم المحرم ) لما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ) رواه مسلم(1/55)
قوله ( وآكده عاشوراء) لما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ أَوْ مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ قَالَ فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ قَالَ لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ قَالَ فَقَالَ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ ) رواه مسلم
وعاشوراء هو اليوم العاشر من محرم ، ويستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع لما أخرجه مسلم عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( وصوم عشر من ذي الحجة ) لدخولها في عموم الأعمال الصالحة(1/56)
قوله ( وآكده يوم عرفة وهو كفارة سنتين) لما جاء عنْ أَبِي قَتَادَةَ رَجُلٌ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ ) رواه مسلم
قوله ( وكره إفراد رجب) لما أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح أن عمر كان يضرب أيد المترجبين ، ويقول( إنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية) ، وعلم من كلام المؤلف أنه لو لم يفرد جاز صومه ، لأنه داخل في جملة الأشهر الحرم وهو ما قاله ابن رجب في (اللطائف) وصح عن ابن عمر أنه كان يصوم الأشهر الحرم
قوله ( والجمعة ) مراده إفراد الجمعة لما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ)
والقول الآخر : لا يكره وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، والأول أرجح
تنبيه : لم أرَ من صرح بتحريم إفراده إلا ابن حزم - رحمه الله تعالى -
مسألة هناك صورة جائزة في إفراد الجمعة ، إذا كان يوافق صوم أحد ، كصيام يوم وترك يوم ، لما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ)(1/57)
قوله ( والسبت ) أي كره إفراده لما رواه أهل السنن إلا النسائي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ )
والقول الثاني : التحريم وهو قول بعض الفضلاء المعاصرين
والقول الثالث : الجواز ، وهو قول أكثر أهل العلم وهو الراجح ، لأن علة النهي كون يوم السبت عيدا لليهود، واليهود لا تصومه بل تأكل فيه ، فبصيام السبت تحصل مفارقة اليهود ، وبترك صيامه تحصل مشابهة اليهود ، ثم إن النهي شديد جدا أشد من نهي صوم يوم العيدين ، وهي محرمة بالإجماع بخلاف صوم السبت . ولذك ضعف هذا الحديث الائمة الأوائل كالزهري والأوزاعي ومالك ويحي بن سعيد القطان ، وأحمد والنسائي ، والأثرم وابن تيمية ، وابن القيم ، والله أعلم
قوله ( وكره صوم يوم الشك وهو الثلاثون من شعبان إذا لم يكن غيم أو قتر ) وقد تقدم الكلام عليه
قوله ( يحرم صوم العيدين ) لما رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ )
قوله ( وايام التشريق) لمارواه مسلم عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ )(1/58)
قوله : ( ومن دخل في تطوع لم يجب إتمامه ) لما رواه مسلم عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَقُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ فَقَالَ أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ)
قوله( وفي فرض يجب ما لم يقلبه نفلا) قال المجد ابن تيمية ( بغير خلاف نعلمه ) وجوزه الشيخ ابن عثيمين إن قطع الفرض لمصلحة أكبر ، كمنفرد شرع في فريضة ، فأحس بالجماعة فله القطع ، واستدل له بما أخرجه أبو داود أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلِّ هَاهُنَا ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ شَأْنُكَ إِذَنْ ) وصححه ابن دقيق العيد
قوله (الإعتكاف ) وهو لزوم مسجد لطاعة ، قوله ( هو سنة ) لثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم ، وبالإجماع حكاه ابن المنذر قوله (وشروط صحته ستة أشياء : الإسلام ، والنية ، والعقل ، والتمييز) لإنها شرط في صحة جميع العبادات كما تقدم مرارا
قوله ( وعدم ما يوجب الغسل ) وهذا مبني على عدم جواز لبث الحائض والجنب في المسجد ، وهما قولان لأهل العلم . الأول : المنع قال ابن قدامة في المغني ( بلاخلاف )
، والثاني الجواز وهو قول الظاهرية ، و الأول أرجح
قوله ( وكونه بمسجد)بالاتفاق حكاه ابن قدامة والقرطبي . قوله ( ويزاد في حق من تلزمه الجماعة) وهو قول الحنفية أيضا.
والقول الثاني : تصح في كل مسجد ولو تقام فيه الجماعة وهو قول المالكية والشافعية(1/59)
والقول الثالث: لا تصح إلا في مسجد تقام فيه الجمعة وهو قول حماد وبعض أهل العلم
القول الرابع: لا تصح إلا في المساجد الثلاثة وهو قول حذيفة
والراجح مذهب الحنابلة ، لقوله تعالى (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ، ولما جاء عن ابن عباس ( لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الصلوات) خرجه عبدالله في ( مسائله)
وأما دليل حديث حذيفة ( لا إعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) فالراجح أنه موقوف وحذيفة مخالف بغيره من الصحابة ، والله أعلم
مسألة هل يشترط الصوم للإعتكاف؟ قولان لأهل العلم
الأول : ليس شرطا وهو قول الشافعية والحنابلة
الثاني: شرط وهو قول المالكية واختيار ابن تيمية
ودليل القول الأول : قوله تعالى (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) فلم يشترط صوما ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعتكف في شوال ، ولم يذكر أنه صام صلى الله عليه وسلم ، ولما جاء في الصحيحين ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ) وما جاء في بعض ( روايات الحديث )( صم واعتكف ) فلا يصح ، وقد أعلها هذه اللفظة جماعة من أهل العلم منهم البيهقي قال (ذكر نذر الصوم مع الاعتكاف غريب ، تفرد به سعيد بن بشير) وكذا أنكره عبدالحق الأشبيلي ، وضعفه ابن الجوزي في ( التحقيق) ، وايضا ما جاء عن ابن عباس أنه قال ( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) خرجه البيهقي بسند صحيح عن طاوس عن ابن عباس ، خرج الفاكهي(2/149) بسند صحيح عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس لم يجعلا الصوم إلا على من اعتكف من أهل مكة وجاء عن ابن عباس أيضا اشتراط الصيام ، وابن عمر فيحمل على توجيه عطاء(1/60)
وأدلة القول الثاني : ما أخرجه أبو داود عن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ ) قال البيهقي : ( قد ذهب كثير من الحفاظ أن هذا الكلام من قول من دون عائشة ، وأن من أدرجه في الحديث وهم فيه) ، لكن صح عن ابن عمر وابن عباس وعن عائشة أنهم قالوا ( لاإعتكاف إلا بصوم) والأحوط الصيام ، والآثار متعارضة ، وايضا أثر يعلي بن أمية رضي الله عنه أنه كان يعتكف ساعة
في المسجد يدل على عدم اشتراط الصيام ، والله أعلم
قوله ( ومن المسجد ما زيد فيه ) كالمسجد النبوي فإن ما زيد فيه في عهد عمر منه بالإجماع حكاه النووي ، لأنه جزء من المسجد قوله ( ومنه سطحه ) وهو قول جمهور أهل العلم ، وعند المالكية لا يصح الاعتكاف هناك لعدم صحة الجمعة عليه ، وفيه نظر ، وقول الجمهور أرجح . قوله ( ورحبته المحوطة) أي ساحته إذا كانت متصلة بالمسجد ، وإلا فلا لقوله تعالى (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) وهي جزء من المسجد ، إما أن لم تكن متصلة فلا يصح قوله ( ومنارته التي هي أو بابها فيه) أي في المسجد أو في رحبته
فأنها من المسجد
قوله ( ومن عين الاعتكاف بمسجد غير الثلاثة لم يتعين) لأنه ليس قصد مسجد بعينه دون غيره طاعة ، إلا المساجد الثلاثة
قوله ( ويبطل الاعتكاف بالخروج من المسجد لغير عذر ) لأنه مناف لمقصود الاعتكاف ، وهوقول جمهور أهل العلم ، قوله ( وبنية الخروج ولو لم يخرج) لحديث ( إنما الأعمال بالنيات) قوله ( وبالوطء في الفرج وبالإنزال بالمباشرة دون الفرج) بالإجماع ، قوله ( بالردة والسكر)أما الأول فلعدم صحة اعتكافه ، والثاني لمنافته مقصود الاعتكاف(1/61)
قوله ( وحيث بطل الاعتكاف . وجب استئناف النذر المتتابع غير المقيد بزمن ولا كفارة) كرجل نذر أن يعتكف لله عشرة أيام متتالية ، ولم يقيده بشهر معين ، فإن بطل اعتكافه في اليوم الخامس ، أعاد مرة أخرى، لأنه لم يأت بنذره ، ولا كفارة ، للأنه يمكن استدراكه للنذر
قوله ( وإن كان مقيدا بزمن معين استأنفه ، وعليه كفارة ، لفوات المحل ) كرجل نذر أن يعتكف آخر عشرة أيام من رجب فبطل اعتكافه في اليوم الثالث ، فعليه كفارة النذر لأنه لأنه فات موضع نذره وهو شهر رجب واستئناف من جديد ولو دخل في شهر شعبان
قوله ( ولا يبطل الاعتكاف إن خرج من المسجد لبول أو غائط أو طهارة واجبة ، أو لإزالة نجاسة ، أو لجمعه تلزمه ، ولا إن خرج للإتيان بمأكل ومشرب لعدم خادم) بالإجماع حكاه ابن المنذر ، لأنه لابد له من هذه الأمور
قوله ( وله المشي على عادته ) إذا خرج فلا يلزم بالإسراع في المشي لأن فيه مشقة
قوله : ( وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه ، لاسيما إن كان صائما) لما جاء عن يعلى بن أمية بسند صحيح أنه قال إني أمكث في المسجد الساعة ما أريد إلا أن أعتكف ) أما من قال باشتراط الصوم فأقله يوما بل لا يجزيء حتى ليلة
والحمدالله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
??
??
??
??
17(1/62)
بُغْيَةُ الرَّاغِب
دليل الطَّالب
في شرح
( كتاب الحج )
لفضيلة الشيخ
صالح بن محمد بن حسن الأسمري
حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الحج
وهو واجب :
1ـ مع العمرة .
2ـ في العمر : مرة .
يقول المصنف ـ يرحمه الله ـ [ كتاب الحج ] .
أي هذا مكتوب ، فيه مسائل تتعلق بالحج ، وها هنا مسائل :
أولها : تتعلق بتعريف الحج ، إذ هو لغة : القصد . كما قاله الجوهري في [الصحاح] وكذا غيره . وللحج لغةً أكثر من معنى ، وأصل ، إلا أن المقصود هو القصد . وأما في الاصطلاح : فعرفه البهوتي في [ الروض المربع ] بقوله : قصد مكة المكرمة لأعمالٍ مخصوصة ، في وقتٍ مخصوص . ويقصد بالقصد نية التعبد والعزيمة ، ويقصد بمكة بلد معروف مشهور ، ويقصد بأعمال مخصوصة من سعي وطواف وما أليهما ، مما سيأتي من أعمال الحج ، ويقصد بالزمن المخصوص أشهر الحج الثلاثة شهر شوال ، وشهر ذي القعدة ، وشهر ذي الحجة .
ثانيها : تتعلق بزمن تشريعه وفيه خلاف . وأصوبها كما قاله ابن قيم الجوزي في [ الهدي ] هو أن زمن تشريع الحج في السنة التاسعة ، أو العاشرة ، وصوب المرداوي في [ الإنصاف ] أنه في التاسعة . وعلى هذا جمهور المفسرين والمؤرخين وغيرهم .
ثالثها : تتعلق بحجته - صلى الله عليه وسلم - ، إذ لم يحج إلا حجة واحدة ، يقال حجة ـ بسكر الحاء المهملة ـ وحَجه ، وحِجْ وحَجْ وكلها بمعناً واحد . وكانت حَجةُ صلى صلاة وسلم في أخر سَنّيه ، في السنة العاشرة ، خرج من المدينة ، حاج يوم الخميس ، بعد أن صلى صلاة الظهر أربع ركعات ، فيها سنتين بقين من شهر ذي القعدة .
رابعها : تتعلق بما يروى أنه ما من نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا وحج ، إلى الكعبة قاله ابن إسحاق في [ سيرته ] وكذا غيره .
خامسها : هو أن المصنف ـ يرحمه الله ـ أخر كتاب الحج ، بعد الصلاة ، والزكاة ، والصيام لعلتين :(2/1)
الأولى : لأن أكثر الراويات التي أُورد فيها الحج ، والصيام ، وما إليهما أخر فيها الحج على الصلاة ، والزكاة ، والصيام . منها حديث ابن عمر في[ الصحيحين ] : ( بني الإسلام على خمس ) . وكذلك حديث عمر عند مسلم في قصة جبريل عليه السلام .
والثانية : هو موافقة الاصطلاح العام ، الذي درج عليه أصحاب المذهب ، وكذا جمهور الفقهاء من تأخير الحج على الصيام ، وكذلك الزكاة والصلاة .
قال المصنف رحمه الله تعالى : [ وهو واجب مع العمرة ؛ في العمر مرة ].
قوله وهو واجب : يعني ، الحج . دل على وجوبه دليل الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
أما الكتاب : فآيات منها قوله سبحانه وتعالى : { ولله على الناس حِجُ البيت …. } . قال شيخ الإسلام حرف ( على ) يدل على الوجوب في أصح أقوال أهل العلم بهذا جزم الموفق في [المغنى] وجماعة .
وأما السنة : " فتواترت النصوص واستفاضت الأحاديث في وجوب الحج " . قاله شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] . وكذا غيره .
ومن الأحاديث ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر ـ - رضي الله عنه - ـ أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم - (بني الإسلام على خمس ـ وذكر منها ـ حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.. ) .
ومنها حديث عمر بن الخطاب ، وفيها قصة جبرائيل المعروفة وذكر فيها الحج ومنها ما أخرجه مسلم في [صحيحه] من حديث جابر ـ - رضي الله عنه - ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إن الله قد أفترض عليكم الحج فحجوا ..) ودِلالته ظاهرة وواضحة .
وثالثها : الإجماع ، وقد حكاه غير واحدٍ ، منهم ابن المنذر في كتابه [ الإجماع ] وابن حزم في
[مراتب الإجماع] والنووي في [المجموع] والموفق في [ المغني ] وقال شيخ الإسلام في
[شرحه على العمدة] : " الإجماع في الجملة منعقد على فَرَضيه الحج ووجوبه " .
قوله : [مع العمرة] : في دلاله على أن العمرة واجبة ، ويتعلق في هذه الجمله مسائل:(2/2)
أولها : معنى العمره ومعناها : الزياره . يقال اعتمره ، إذا زاره . قاله الأزهري في [ التهذيب ] وزاد معناً أخر وهو القصد ، إلا أن الأشهر في معنى العمرة : هو الزيارة كما قاله الزبيدي في [ التاج ] وقرره النووي في [ المجموع ] وجماعة .
وتعريفه اصطلاحاً شرعياً : هو أن يُقال قصد مكة لأعمال مخصوصة ، وسبق بيان معنى القصد ، ومكة، والأعمال المخصوصة ، ويُقصد بها ما يأتي من صفة تتعلق بالعمرة ، ولها أركان ، وواجبات ، وسنن ، ولا يُذكر لها وقت ؛ لأن وقتها في بقية السنة .
ثانيها : ليُعلم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بأربع عُمر .
أولها : هي عمره الحديبية وكانت في السنة السادسة ، وأخرها : عمرته التي قرنها بحجته وكانت في السنة العاشرة .
ثالثها : ما يتعلق بمسألة حكم العمرة : الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب قاله المرداوي في [الإنصاف] هو وجوب العمرة في العمر مرة ، وهو ما ذكره المصنف يرحمه الله هنا ولذلك أدلة .
أولها : كتاب الله وفيه قوله سبحانه : { وأتموا الحج والعمرة لله } إذ فُسِرَ الإتمام هنا بالمجيء بالشيء على ما جاء في الشرع ، لا أنه إتمام الشيء بعد البدء به ، ومن ثَمَّ يكون دلالة الآية على الحكم واضحة ، أي المقصود المبادرة إلى العمرة ، والمجيء بها ، وقوله { وأتموا } فعل أمر . والأمر يقتضي الوجوب ما لم يصرف صارف ، ولا صارف هنا .(2/3)
ثانيها : السنة : وفيها أحاديث منها حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذ جاء في بعض رواياته عن الحديث ( بني الإسلام ) . كذلك حديث عمر الطويل حديث جبرائيل ـ عليه السلام ـ الروايات ذكر الاعتمار ، والعمرة . ولكن حكم عليه جماعة المحدثين بالشذوذ ، وعدم الصحة ، وهو من الدلائل التي يذكرها فقهاء المذهب على صحة وجوب العمرة في العمر مرة ؛ لأنها ذكرت في الأمور التي هي واجبة من الإسلام المتعلق بصلاة ، وزكاة ، وصيام ، وما إلى ذلك . ومن الأدلة أيضاً : ما أخرجه الإمام أحمد في [ مسنده ] والترمذي وصححه . من حديث لقيط العامري "أنه سائل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبيه ، وأنه شيخ كبير لا يستطيع الحج ، والعمرة ، ولا الضعن ـ يعني السفر ـ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( حج عن أبيك وأعتمر ) . والحديث صححه الحاكم في [ المستدرك ] وواقفه عليه الذهبي ، وكذا جماعه . والدلالة فيه هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالعمرة ، وألزمه أن يأتي بها كما يأتي بالحج عن أبيه ، ولا يكون ذلك إلا لما كان لازم في الأصل ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن الحج واجب ، ولذلك طلب أن يأخذ الحجة عن أبيه ، ومن ثم ألزمه بالعمرة مع الحج أيضاً ؛ وليس ذلك إلاَّ لأن العمرة واجبه على أبيه فتحمل هو الواجب عنه ، وهذه دلاله نوقشت . وأن الدلالة هنا ضعيفة ؛ لان الصحيح من أقوال الأصولين أن الجواب عن السؤال يكون حكمه جائزاً ، إلا إذا أتت قرينة . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب سائلاً ، وجواب السؤال يكون جائزاً . من أحكام لا يأتي عليه الوجوب أو الحرمة ، أو غير ذلك إلا بقرينه تدل عليه .
ومن الأدلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتمر ، وأعتمر أصاحبه ، واشتهر ذلك . مما يدلل على اللزوم وعدم سُنيته ؛ إذ لو كان مستحب فحسب ، لنبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك قاله بعض الأصحاب .(2/4)
ثالث الأدلة : دليل الأثر . حيث جاء عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " العمرة واجبة على كل مسلم " . وممن جاء عنه ذلك جابر ـ رضي الله عنه ـ وقد حسن سنده الحافظ
ابن حجر في كتابه [ فتح الباري ] وأخرجه ابن حزم في [ المحلى ] مُسنداً ، وممن جاء عنه ذلك ابن عباس ، وابن عمر ، أخرجه عنهما البخاري في [ صحيحه ] . هذه أدله تدل على وجوب العمرة ولزومها ، وأختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ وهو مذهب المالكية ، والحنفية ، وجماعة ، أن العمرة مستحبة وليست بواجبة وله أدله إلا أنها معارضة بأدلة المذهب ، وهي أقوى ولذلك أختلف كلام شيخ الإسلام ففي [ شرحه على العمدة ] رجَّح وجوب ذلك ، وفي اختياراته رجح سُنية العمرة.
قوله : [ في العُمر مره ] : أي في عُمر كل مسلم ومسلمة العمرة واجبة والحج واجب .
وها هنا مسائل :
الأولى : أن الحج واجب على الفور ، متى ما توفرت الشروط وانتفت الموانع ، ويأتي إن شاء الله .
الثانية : أن العمرة متفق على إتمامها بعد الشروع فيها ، لقول الله عز وجل : { وأتموا الحج والعمرة لله } والإتمام هنا : أي بعد الشروع فيه . وقد حكى الإجماع في ذلك غير واحد ، ومنهم النووي في [المجموع] والموفق في [المغني] وشيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] وكذا جماعة .
وثالثها : أن العمرة ، يصح إيقاعها في جميع أيام السنة ، ولذلك لم تُحدد بوقت ، وعلى هذا الإجماع ، وقد حكى الإجماع غير واحدٍ ، ومنهم ابن حزم في كتابه [ مراتب الإجماع ] وكذا ابن رشد في(2/5)
[ بداية المجتهد ] إلا أنهم استثنوا يوم التروية ، وكذا أيام التشريق ، وأنه لا يكون فيها عمره ، المقصود في ذلك عمره من غير الحاج في تلك السنة ، أما الحاج في تلك السنة فيجوز له في يوم التروية، واختلف في أيام التشريق فالنزاع في هذه . بغض النظر عن صحة هذا النزاع أو عدمه ، لكن النزاع موجود . والإجماع في غير هذه الأيام ، جاء الإجماع وصح ، كما حكاه أئمة.
وشروط الوجوب خمسة أشياء :
1ـ الإسلام .
2ـ والعقل .
3ـ والبلوغ .
4ـ وكمال الحرية :
لكن يصحان من الصغير والمجنون ، ولا يجزئان عن حجة الإسلام وعمرته .
فإن بلغ الصغير ، أو عتق الرقيق :
ـ قبل الوقوف .
ـ أو بعده : إن عاد فوقف في وقته :
أجزأه عن حجة الإسلام ، ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً :
وسعى بعد طواف القدوم .
وكذلك تجزء العمرة إن بلغ أو عتق : قبل طوافها .
[ وشروطه خمسة أشياء]
يتعلق به شيئان :
أولهما : هو أن هناك فرق بين شرط الوجوب ، وشرط الصحة ، والمقصود أن هناك شروطاً إذا توفرت وجب على الشخص أن يأتي بالحج والعمرة ، وجوباً فرضياً على ما سبق .
والثاني : حده لتلك الأمور بخمسة . وذلك لعلة الاستقراء لنصوص الشرع وعلى ذلك جمهور الفقهاء كما سيأتي تفسير كلٍ .
قوله : [ الإسلام ]
وضده الكفر ودل على شرطيته الإخبار ، والإجماع . وقد سبق التدليل عليه في كتاب الصيام ، وكذا في غيره ؛ وذلك لأن الحج يتطلب نية تَقَرُبٍ والكافر ليست عنده تلك النية ، ومن ثم لا يقع الوجوب على الكافر ، ولا تصح منه أيضاً .
قوله : [ العقل ] :
العقل:ضده الجنون وما إليه ودل على شرطيته دليل الخبر ، والإجماع ، والنظر.
أما الخبر فحديث ( رُفع القلم عن ثلاثة ـ وذكر منها ـ المجنون حتى يفيق ). أخرجه ابن ماجه وكذا غيره وسبق .
وأما الإجماع : فقد حكاه ابن عبد البر في [ التمهيد ] وابن المنذر في [الأوسط] والنووي في [المجموع] وجماعة .(2/6)
أما علة النظر : لأن المجنون ليس مكلف ؛ ومن ثم لا يقع عليه حكم الوجوب .
قوله : [ البلوغ ]
سبق شرحه وبيانه في كتاب الصيام ، وكذا في غيره ، ودل على شرطيه وجوبه هنا أدلة : الخبر ، والإجماع ، والأثر ، أما أدلة الخبر فسبقت وأما الإجماع فحكاه غير واحد ومنهم النووي في [ المجموع ] والموفق في [ المغني ] وشيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] وفي [ المجموع ] .
وأما الأثر : فقد جاء ذلك عن عمر ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وأنس ، وجماعة . أخرجهما عنهم ابن المنذر كما في [ تفسيره ] فيما ذكره السيوطي في [ الدُر المنثور ] وكذا ابن جرير في [تفسيره] والبيهقي في [ السنن ] وجماعة …
قال المصنف يرحمه الله تعالى : [ وكمال الحرية ……….قبل طوافها ] .
قول المصنف يرحمه الله : [ وكمال الحرية ] . هو الشرط الرابع من شروط وجوب الحج والعمرة أيضاً .
وكمال الحرية يُقصد بها : كمال الحرية بالبعد عن الرق وما إليه ، وضد كمال الحرية : الرق والعبودية ، وللرق والعبودية صورتان :
أما الصورة الأولى : فَرِقٌ كامل ، وعبودية تامة ، ويدخل في ذلك القِنّ ، والمكاتب ، والمدَّبَر ، وما إلى ذلك من صور الرق والعبودية ؛ وإنما سُميت هذه الصورة بالرق الكامل ، والعبودية التامة لعلةٍ وهي :
أن العبودية قد اكتملت في هذه الصورة ، فليس فيها شائبة الحرية ، ولا نُقصان العبودية .
وأما الصورة الثانية : فعبوديةٌ ناقصة ، وهذه العبودية الناقصة لها صور ، وسبق في باب الزكاة شيءٌ من صورها .
فهاتان صورتان تدخلان في ضد كمال الحرية ، فإذا وُجِدَ الرق التام أو الرق الناقص ، والعبودية الناقصة ، فإن ذلك مؤذنٌ بعدم وجوب الحج ، والعمرة ، على صاحبها ؛ وإنما كان ذلك كذلك ، وقد نصَّ عليه الإمام ، وعليه الأصحاب ، وهو المقطوع به مذهباً كما قاله المرداوي في [ الإنصاف ] لشيئين:(2/7)
أما الأول : فالخبر وذلك ما أخرجه البيهقي في [ سننه الكبرى ] وكذا غيره من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أيما صبي حج ، ثم بلغ ، فعليه حِجة أُخرى ، وأيما عبد حج مع أهله ، ثم أُعتق فعليه حجة أخرى ) .
وهذا الحديث مختلفٌ في رفعه ، ووقفه على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والصحيح أنه مرفوع ، وقد صححه مرفوعاً جماعة ، ومنهم الحاكم في [ مستدركه ] وقال : على شرط الصحيح ، ووافقه الذهبي ، وكذلك صححه ابن حزم في كتابه [ المحلى ] ، وكذلك صححه البيهقي ، والنووي في [المجموع شرح المهذب] وجماعة. ووجه الاستدلال به : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن العبد الرقيق إن حج مع أهله ، لكنه بعد ذلك أُعتق ، فعليه حجة إسلام يجب أن يأتي بها ، إذ جاء في بعض روايات الحديث ذكر: ( حجة الإسلام ) . بدلاً من قوله : ( حجة أخرى ) . وهذا فيه دلالة واضحة على أن الحج لم يكن واجباً عليه أصالةً ، فلما عَتُقَ وجب عليه أن يأتي بالحج ، وأن الحجة الأولى لم تقع حجة وجوبٍ وإسلام ، فلزمه حينئذٍ أن يأتي بأخرى .
وأما الدليل الأخر : فالإجماع ، وقد حكى الإجماع غير واحد من الأئمة ، ومنهم ابن المنذر يرحمه الله كما في [ الأوسط ] ، وكذا ابن عبدالبر في [ التمهيد ] ، وكذا قاله الترميذي في [ سننه وجامعه ] ، وكذا قاله ابن رشد في [ بداية المجتهد ] ، والنووي في [ المجموع شرح المهذب ] ، وقال به الموفق في [المغني] لمّا حكى الشروط ، ومنها كمال الحرية قال : ولا أعلم اختلافاً في هذه الجملة عند الأئمة .
فهذان دليلان يدلان على شرطية كمال الحرية ، وهو الشرط الرابع من شروط وجوب الحج والعمرة .
قوله : [ لكن يصحان ……. وعمرته ] .(2/8)
حقيقة ما ذكره المصنف يرحمه الله : أن الصغير والمجنون ، وسبق أن الصغير هو من كان دون البلوغ ، فيشمل المميز وغير المميز من الصبية والغلمان ، وسبق أن المجنون هو من فقد عقله كليةً ، وقسَّم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ المجنون إلى نوعين اثنين :
أما الأول : فما يُنعت بالجنون المُطبِق ؛ وهو الذي فيه فقدٌ للعقل تام .
وأما الثاني : فما يُنعت بالعته المبُعض ؛ الذي يأتي أحياناً العقل فيُصيب المرء ما يُصيب اليقظ من إغماء .
ومثل هاتين الصورتين تدخلان في قول المصنف : [والمجنون] ، إلا أن الثانية : اختار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في [ شرحه على العمدة ] : أنه في حكم المغمى . أي أن من أُصيب بالعته المُبعض الذي يأتي أحياناً على العقل كصرعٍ يُفقد من خلاله العقل ، أو مرضٍ يأتي على المرء يُفقد عقله أو نحو ذلك وقتاً ما ، وزمناً وحيناً ثم يعقل بعد ذلك ، اختار شيخ الإسلام : أنه في حكم المغمى .
فصورة هذه المسألة : إذا كان الصبي قد أتى بالحجة وقت صباه ، والمجنون قد أُتي له بحجةٍ ، وحُمِل مع أهله ثم نُوي عنه في حجة ونحو ذلك ، فيجزيء المجيء بالحجة من قبل هذين من حيث كون ذلك صحيحاً عنهما ، أي تصح العبادة بالنيابة عن المجنون الذي أُصيب بالجنون المطبق ، وكذلك تصح بالمجيء بها من قبل من أُصيب بجنون مبعض في المذهب إذا كان جنونه قد أتى في غير الركن ، فإن غير الأركان يُدرك إما باللحاق في وقته ، وإما المجيء بدم ، حتى يُدرِك المرء ما فاته من واجب ، وأما الصبي فإذا أتى بالحج ، فإنه يصح .
ودلَّ على صحة ذلك دليلان :(2/9)
أما الدليل الأول : فهو الخبر ، حيث أخرج أبو بكر القُطيعي في [ كتاب المناسك ] عن ابن عباس ـ رضي عنهما ـ أنه أفتى بذلك ، وأن الصبي الذي لمّا يحتلم بعد إن أتى بحجة وعمرة فهي صحيحة عنه ، وكذا المجنون إن أُتي بحجة عنه ، فإنها تصح مجزئة أو بالجنون المُبعض ، وقد أخرجها كما ذكرنا القطيعي أبو بكر في [ كتاب المناسك ] وذكره الحافظ في كتابه [ الفتح ] وقال : إسناده حسن ، وصحح سنده جماعة كذلك .
وقد جاءت الفُتيا كذلك عن قتادة ، وعطاء ، وأخرجه عنهما الإمام أحمد كما في [ مسائل عبد الله ابنه له ] ، وسندها على شرط الصحة .
وفي هذا دلالة واضحة على صحة ذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في [ شرحه على العمدة ] : ولا يُعرف مخالفٌ لهم من السلف ـ يعني عطاء ، وقتادة ، وقبلهما ابن عباس ـ رضي الله عن الجميع .
أما الدليل الثاني : فهو النظر : لإن الصبي ، وكذلك من أوكل المجنون عنه يصح أن يكون من أهل العبادة بالصورة السابقة ، ومن صح أن يكون من أهل العبادة في باب حجٍ ، وعمرة ونحوهما ، فإنه يكون الفعل صحيحاً ، مجزئاً صحةً ، ولا يجزئ عن حجة الإسلام كما سيأتي .
وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، إلا أن داود الظاهري قد خالف في ذلك ، وكذلك حُكي الخلاف عن بعض المتأخرين فيما ذكره الموفق في كتابه [ المغني ] ، وكذا جماعة .
قوله : [ ولا يجزئان عن حجة الإسلام وعمرته ] .
صورة ذلك : أن الصبي إن أتى بحجةٍ وعمرة قبل بلوغة ، وكذلك المجنون بصورتيه السابقتين ، فإن ذلك وإن صح منهما لانطباقِ شرط العبادة عليهما،خصوصاً في باب الحج ، والعمرة ، فإنه لا يُسقط حجة الإسلام الواجبة عند بلوغ الصبي ، وعند إفاقة المجنون ، فلا بد حينئذٍ من المجيء بحجة الإسلام الواجبة عند بلوغ الصبي ،وعند إفاقة المجنون ، ولا تُسقط الحجة السابقة ، هذه الحجة الواجبة .
وقد دل على ذلك دليلان :(2/10)
أما الدليل الأول : فدليل الخبر ، حيث أخرج البيهقي في [ سننه الكبرى ] عن محمد بن كعب القُرضي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أيُما صبي حج مع أهله ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما مجنون حج مع أهل ثم أفاق فعليه حجة الإسلام ) .
وهذا الخبر صحيحٌ مرسلاً عن محمد بن كعب القرضي ـ يرحمه الله ـ وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في [ شرحه على العمدة ] ، وقال : "المرسل إذا عمل به الصحابة فإنه حجة". وهذا منهم ؛ ولذلك عمل به الصحابة ـ رضوان الله عليهم .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكى الإجماع ، غير واحد ، ومنهم النووي في [ المجموع ]،وكذلك الموفق في [ المغني ] ، وجماعة .
قوله : [ فإن بلغ الصغير …… أجزأه عن حجة الإسلام ] .
صورة ذلك : أن الصغير أو الرقيق ، إن حدث للصغير البلوغ ، وحدث للرقيق العتق قبل الحج الأكبر ، وهو ما يُسمَّى بيوم الوقفة ، وهو عرفة ، أو أثناءه بحيث يستطيعان أن يُدركا الوقفة في عرفة ، وإدراك الوقفة في عرفة كما سيأتي وهو اختيار شيخ الإسلام ، وأصح الأقوال ، وعليه تدل الدلائل أن ينتهي بفجر ذلك اليوم الذي وُقِفَ ـ يعني يمتد من نهار يوم عرفة إلى آخر الليلة التي بعده ـ وهذا هو اختيار شيخ الإسلام، وجماعة . فإن بلغ الصبي قبل يوم عرفة ، كيوم التروية ـ وهو الثامن ـ من ذي الحجة ، أو بلغ أثناء يوم عرفة ـ كظهيرة يوم عرفة ـ أو قبل غروب يوم عرفة ، أو وقت اندفاع الناس من عرفة ثم رجع إلى عرفة فوقف فيها ، فإن ذلك مجزئٌ عن حجة الإسلام ، ويصح أن يعتد به حجة واجبة تُسقط عنه الحجة الواجبة ، وكذلك يُقال في المجنون إن أفاق من جنونه قبل الوقفة ، قبل يوم عرفة، في يوم التروية أو في ليلة عرفة السابقة ليوم عرفة ، أو في أثناء عرفة ، أو قبل اندفاع الناس ، أو عند اندفاعهم ثم رجع إلى عرفة فوقف ، فإن ذلك أيضاً مجزئٌ ، وقد دل على ذلك دليلان:(2/11)
أما الدليل الأول : فهو ما جاء أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عند البيهقي في
[سننه الكبرى] وهو صحيح ، صححه الحافظ ابن حجر كما في [ الفتح ] ، وكذا قواه ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في [ شرحه على العمدة ] ؛ وفيه الفتوى بالأمر السابق : أن المجنون إذا أفاق يوم عرفة ، أو أثناءه ، فقد أصبحت حجة إسلام ، وكذلك يُقال في الصبي إن بلغ .
وأما الدليل الثاني : فهو النظر ، وذلك أن الصبي إذا بلغ ، فإنه يصبح من المكلفين ، فإذا أتى بعمود الحج وأعظم أركانه ، فإنه قد أُتى بالحجة صواباً تماماً لاشية فيها ؛ ومن ثم كان معتداً بها ، ولذا فهي مسقطة عنه وجوب حجة أخرى هي حجة إسلام ، وكذلك يُقال في المجنون إذ أفاق ، فلما تمت صورة الحج ، وأصبحت حجةً صحيحة بأن أٌتي بركنها وهو يوم عرفة ، والوقوف فيه ، وما بعده ، فإن ذلك مؤذنٌ بسقوط حجة أخرى هي حجة إسلام ، فصارت الصورة صورة شرعية في الحج ، وكذلك يقال في العمرة ، إذا أتي بها قبل الطواف ؛ إذ الطواف أول أركانها العملية ، فإنه حينئذٍ يكون مسقطاً للعمرة الواجبة ، وسبق أن العمرة واجبة على المكلفين في العمر مرة واحدة وهو المذهب وعليه كثير من الأصحاب .
قوله : [ ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً وسعى بعد طواف القدوم ] .
فيه اسثناء لصورة من الصور التي تخرج عن الحكم السابق في أفاقة المجنون ، أو في بلوغ الصبي ، وهي إذا قدَّم المرء أحد أركان الحج ، بإن يأتي بسعي الحج بعد طواف القدوم ولهذا صورتان صحيحتان :
أما الصورة الأول : فتأتي مع من حج حجاً مفرداً .
وأما الثانية : فتأتي مع من حج حجاً قارناً .(2/12)
فللمفرد والقارن أن يقدما سعي الحج بعد طواف القدوم ، وسعي الحج أحد أركان الحج ؛ ولذلك تقديمه له ثم إفاقة المجنون يوم عرفة بعد ذلك السعي ، وكذلك بلوغ الصبي في يوم عرفة بعد ذلك السعي فيه تعدٍ على الركن ؛ ولذلك لا يُحتسب له حجة إسلام ؛ لأن الحجة بُدئت بركن عملي ، كان في غير وقت بلوغ الصبي ، وكان في غير وقت إفاقة المجنون ؛ ولذلك لا يُعتد بها .
يُشكل على ذلك ما يقوله بعض الفقهاء وهو : أن أول الأركان : الإحرام فإذا أحرم الصبي قبل بلوغه ، وأحرم المجنون قبل إفاقته ، فكيف يُعتد بتلك الحجة التي إذا أفاق في أول أركانها وهو الركن الأكبر ، الوقفة بعرفة ، أو بلغ الصبي فيها ، كيف يُعتد بذلك ؟
فيُجاب بأن الإحرام نية ، وهو من عمل القلب ، وهو مستمر مُسْتَحْضَر ، وقد يُقال بما قيل لولا الخبر الذي أتى وسبق حكايته وصحته ؛ ومن ثَمَّ لا يكون له وجه اعتراض عل هذا الحكم ؛ فدليل هذا الاستثناء ، هو النظر وسبق ذكره .
قوله : [ وكذلك تجزئ العمرة إن بلغ أو أُعتِقَ قبل طوافها ] .
أي أن العمرة كالحج ، في الصورة السابقة عندما يبلغ الصبي ، أو عندما يفيق المجنون ، فإن العمرة تكون صحيحة ، وسقط الوجوب عنه بأداء هذه العمرة ، بشرط وهو أن يكون بلوغ الصبي قبل طواف العمرة، وأن تكون إفاقة المجنون قبل طواف العمرة ، وسبق التدليل على ذلك ، بالخبر ، والإجماع المحكي، وكذلك يُقال إن النظر يقتضيه ؛ لأن البدء بالطواف ، ثّم يحصل البلوغ من قبل الصبي ، أو الإفاقة من قبل المجنون هو حصول شيءٍ يقتضي التكليف بعد البدء حقيقةً بالعمل ؛ ولذلك لا يُجزئ ، فلا بد من المجيء بعمرة أخرى وقد سبق في درج الكلام السابق تدليل على صحة هذه المسألة.
الخامس : الاستطاعة ، وهي :
ملك زاد وراحلة : تصلح لمثله ، أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك .
بشرط كونه فاضلاً عما يحتاجه من : كتب ، ومسكن ، وخادم .
وأن يكون فاضلاً عن مؤنته ومؤنه عياله : على الدوام .(2/13)
فمن كملت له هذه الشروط :
لزمه السعي فوراً : إن كان في الطريق أمن .
قول المصنف يرحمه الله : [ الخامس : الاستطاعة ]
الاستطاعة : هي بمعنى القُدرة ولذا يذكرها بعض الفقهاء بقولهم : " أن يكون قادراً أو ذا قدرة " . ودل على شرطية الاستطاعة ثلاثة أدلة :
أولها : كتاب الله : وفيها قوله سبحانه : { ولله على الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلاً } فقوله : { من استطاع إليه سبيلاً } . فيه دلالة واضحة على المقصود .
وأما الثاني : فما استفاضت السُنة . وفيه أحاديث ومنها : ما أخرجه الشيخان من حديث جَبرَائيل الطويل ، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلام : أن تشهد ألاّ إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، وتُقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) . ودلالة الحديث كدلالة الآية في الوضوح والظهور .
وأما ثالث الأدلة : فهو الإجماع ، وقد حكى الإجماع غير واحد ، ومنهم ابن المنذر كما في كتابه [الإجماع] وابن حزم في [المُحَلَّى] والنووي في [المجموع] وشيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] وجماعة.
ثم إن الاستطاعة مختلف في حقيقتها ، المذهب والذي عليه الأصحاب كما قاله المرداوي في [الإنصاف] هو ما ذكره المصنف بقوله : [ وهي ملك زادٍ وراحلة ] الزَّادُ : هو القُوت الذي يُتَقَوّتُ به ، حتى يُتَوَصَّل إلى بيت الله العتيق ذهاباً ومجيئاً .
وأما الراحلة : فهي الناقة ، أو الجمل ، أو نحوهما مما يُتبَلّغ به إلى بيت الله العتيق .
وقد دل على تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة أدلة :
أولها : ما أخرجه الحاكم في [ مستدركه ] وصححه ، ووافقه عليه الذهبي ، من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تلا قوله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً } قيل: ما السبيل يا رسول الله ؟(2/14)
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( زاد وراحلة ) . والحديث مختلف في صحته إلا أن له طُرقاً يُعضِّدُ بعضها بعضاً ومن ثم يَصِح . وقد جزم بذلك شيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] والحافظ ابن حجر كما في [التلخيص الحبير] وجماعة .
ومن الأدلة أيضاً : ما أخرجه البيهقي في [السنن] وكذا أبو داود في [مراسيله] عن الحسن البصري يرحمه الله أنه فسر ( السبيل ) : بالزاد والراحلة . وقد صححه إلى الحسن جماعة ، ومنهم الحافظ ابن حجر
ـ يرحمه الله ـ كما في[ التلخيص الحبير ] .
ومن الأدلة أيضاً : هو أن يُقال : الذهاب إلى مكة للحج ، أو العمرة ، هو ذهاب إلى مسافة طويلة ، فإما أن يكون بلا مال ، ولا راحلة ؛ وفي ذلك انقطاع وهلكة ومشقة؛ وعَنَت شديد ، وإما أن يكون بمال وراحلة ، إذ إن الراحلة يُتبلَّغ بها ، والمال يُتقوت به حتى يُتوَصل إلى البُغية وهي الحج ، ومن ثم صَحّ اشتراطه من حيث النظر .
قوله : [ تَصلح لمِثلِه ] .
أي : تصلُح الراحلة والزاد لمثل هذا الشخص ، إذ الأعراف والأشخاص يختلفون . فمنهم من تصلح له راحلة مسرجة ، ومنهم من تصلح له راحلة بهودج ، وهكذا فهم يختلفون . وضابط ذلك هو صلاحها له من حيث العادة ، ومن حيث العُرف ، فما صَلُح لمثلهِ صَلُح له عُرْفاً وعادة . وهذا الضابط جزم به جماهير الأصحاب وجزم به المصنف هنا .
ودليله هو من حيث النظر : إذ إن أحكام الله ورسوله T إذا لم يأتِ ضابطها لا في الشرع ، ولا في اللغة ، فإنه يُرجع في ذلك إلى الأعراف ، والعوائد الصحيحة والعُرف والعادة محكمة في مثل ذلك .
قوله : [ أو مِلكُ ما يقدر به على تحصيل ذلك ] .
أي : لا يُشترط وجود زاد وراحلة قائمة عنده ، لكي يكون الأمر واجباً عليه ، بل إذا كان قادراً على امتلاك راحلة ، وكذلك زاد يتقوت به ؛ جيئةً وذُهوباً إلى مكة في الحج فإن ذلك هو كاشتراط الزاد والراحلة وجوداً وعدماً .(2/15)
وقد حكى ابن رشد في [ البداية ] إجماع الأئمة أنه لا يُقصد الزاد والراحلة بنفسها. وإنما الاقتدار عليها، وهذا داخل في الشرط المذكور آنفاً : فملك ما يُقدر به على تحصيل زادٍ وراحلة ؛ هو كاشتراط الزاد والراحلة . وسبقت أدلة الزاد ، والراحلة والاقتدار في حكمه . كما ذكره ابن رشد إجماعاً .
قوله : [ بشرط كونه فاضلاً عما يحتاجه من : كُتب ، ومسكن ، وخادم ] .
فيه تنبيه إلى أن الزاد والراحلة إن وُجِدت ، أو القدرة على الزاد والراحلة ، لا بد أن يكون فاضلاً عن حوائج المرء الأصلية ، ومن ذلك المسكن : وهو البيت . ومن ذلك الخادم ، لمن هو بحاجة إلى الخادم ككفيف أو غيره ، ومن ذلك الكُتب ، لأهل العلم وطلابه ، فإنه لا يجوز بيعها في المذهب لأن يُتقوّت إلى الحج . وبهذا جزم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في [شرحه على العمدة] والكتب : وهذا هو المختار عند جماعة من الفقهاء نوعان :
الأول : مالا يُستطاع تركه للحاجة إليه في التّفقه في الدين ، ونحو ذلك فهذا لا يجوز بيعه .
الثاني : ما كان زائداً عن هذا المقدار ، فأداء الحج ولو بيعت أولى من إبقائها .
وهذا الشرط إنما ذكر ؛ لأن أوامر الشرع تُفهم في ظل الاستطاعة والإبقاء على الحوائج الأصلية التي يسير عليها المرء في حياته ، وهذا أمر متفق عليه كما قاله شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] .
قوله : [ وأن يكون فاضلاً عن مؤونته ومؤنة عياله على الدوام ] .
أي : ينضاف إلى ذلك ، أن تكون الراحلة والزاد ، قد فَضُلَت عن النفقة الأصلية على النفس وعلى من يعوله الشخص . فإذا كانت زائدة على ذلك ، فإنها هي التي يُتبَلغ بها. أما إذا لم تكن زائدة على ذلك ، فإنه لا يجوز ترك النفقة الواجبة على النفس لِشِراء راحلة ، أو تقوت ، وتَرك الأهل بلا نفقة حتى يموتوا ويَهلكوا فهذا لا يجوز .
ويدل عليه أدلة :(2/16)
منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ضرر ولا ضِرار ) وهو حديث حسن وسبق مِراراً ودلالته هنا ظاهرة .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه النووي في [ شرحه على المهذب ] وكذا غيره .
قال رحمه الله تعالى : [ فمن كمُلت له هذه الشروط.. لمن يحج ويعتمر عنه ]
هذه الجملة ذكر فيها المصنف يرحمه الله مسائل :
أولها : أن من كمُلت له الشروط السابقة ، فإنه يجب عليه أن يأتي بالحج ، والعمرة فوراً ولا يؤخر الحج، ولا العمرة . قياساً على الحج وهو قول المصنف : [ لزمه السعي فوراً ] .
السعي : أي السير إلى تجهيز الراحلة ، والزاد ، وما إلى ذلك للذهاب إلى مكة في حج أو عمرة .
وقد دلّ على أن الأمر على الفورية ، لا على التراخي أدلة :
أولها : المُصَحَّح عند الأصوليين : هو أن الأمر المُجرّد عن القرائن كـ ( افعل ) ونحوه يدل على الفورية لا على التراخي .
وقد دلت على ذلك دلائل :
منها مطلق الأمر بالمسارعة ، والمسابقة في الخيرات . كما في قوله سبحانه : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } وقوله : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } والمسابقة والمسارعة فيها أمر بالفورية لا التراخي.
ومن الدلائل أيضاً : أن السَّيد لو أمر عبده بأن يعطِيَه شيئاً ، فلم يفعله لكان مستحقاً للوم والعتب ، من قبل سيده . وهذا متفق عليه عند أهل اللغة .
ومن الأدلة الدالة على الفورية : ما أخرجه الحاكم في [مستدركه] وصححه ، ووافقه عليه الذهبي من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من أراد الحج فليَتعَجَّل) وهذا الحديث مُختلف في صحته ، إلا أن له طرقاً وشواهد تشهد له ، ولذا صححه بمجموع طُرُقِهِ عبد الحق . كما في كتابه [الأحكام] وأشار إلى صحته الشوكاني في [نيل الأوطار] وكذا جماعة .
ووجه دِلالته أن قوله : ( فليتعجل ) أمر بالتعجيل ، والتعجيل يحتمل أحد أمرين :(2/17)
إما أن يكون تعجيلاً مندوباً إليه ، وهذا معلوم بغيره قوله : ( فليتعجل ) فلا يكون إلا تعجيلاً واجباً فورياً ، وهو المقصود هنا .
ومن الأدلة : ما أخرجه البيهقي في سننه ، عن عَدِيّ بن عَدِيّ ، أن عمر بن الخطاب ـ - رضي الله عنه - ـ قال : "والله لأبعثن إلى هذه الأمصار ليُنظر صاحب الجِدَه ـ يعني القوة ـ فمن لم يحج ، لأكتُبّن عليه الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين " . وهذا الأثر صححه غير واحد ، قال الحافظ في [التلخيص] : "أخرجه سعيد بن منصور وإسناده قوي" وفيه دِلالة على ضرب الجزية على من لم يذهب إلى الحج ، من صاحب الجِدَةِ والقوة ؛ وما ذلك إلا لأن الحج على الفورية وإلا لما ضَرب عليهم الجزية . ولما قال : (ما هم بمسلمِين ، ما هم بمسلمين) . أما ضَرَبَان الجزية فيقول شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] : "ليس المقصود أن يضربها على المسلمين ؛ وإنما لأن أكثر هذه الأمصار كان الأصل فيهم الكفر ، ثم أسلموا فمن لم يحج دل على أنه باقٍ على كفره ، ومن حج دل على صحة إسلامه " . فمن لم يحج أُبقيت عليه الجزية على كفره الأصلي .
ومن الأدلة : ما أخرجه الحاكم في [مستدركه] وكذا غيره عن ابن عمر أنه قال : (من كان مُوسراً ولم يحج ، فليس عليه أن يموت إن شاء يهودياً ، أو أن يموت إن شاء نصرانياً) . وهذا الأثر مختلفٌ في صحته وله طرق .
وفيه دلالة : على أن من لم يأت بالحج فوراً فإنه مُتوعد بذلك الوعيد .
وفيه دلالة على وجوب فورية الحج وفي حكمها العمرة .
قوله : [ إن كان في الطريق أمن ] .
فيه تنبيه على أن السعي إلى الحج ، والعمرة ، يكون على الفور ، لكن بشرط أمن الطريق . وأمنُ الطريق المقصود به : ألا يكون فيه عائق يُعيق السائر إلى الحج . العوائق كثيرة منها :
قُطّاعُ طريق ، ومنها عوائق قهرية من رياح شديدة ، وسيول منحدرة في طريق يسيرون فيه ، ليس لهم غيره ونحو ذلك مما يذكره الفقهاء .(2/18)
فإذا كان الطريق غير آمِن ، إما من قِبل إنْس ، من قُطّاع طرق ، ولصوص ، ونحوهم. أو بهائم كَسَبُع في طريق ، ونحو ذلك ، ليس لهم إلا هذا الطريق فإنه لا يجوز حينئذ السعي . ولذلك أدلة منها :
مطلق قوله سبحانه وتعالى : { ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة } إذ إن السير في هذا الطريق غير الآمن، هو إلقاء بالنفس في التهلكة وهذا لا يجوز .
ومنها حديث : ( لا ضرر ولا ضِرار ) وسبق .
ولا ريب أن السعي في مثل هذا الطريق المَخُوف ، هو من باب الإضرار على النفس أو الإضرار بمن معك .
واختلف الأصحاب يرحمهم الله هل أمن الطريق ، شرط من شروط الحج ، والعمرة
أم لا ؟ وجهان :
المختار عندهم أنه ليس شرطاً ، وإنما هو مُفَرَّعٌ عن لزوم السعي على الفور ، وهو ما ذكره المصنف يرحمه الله هنا .
فإن عجز عن السعي لعذر ـ ككبر ، أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم نائباً :
1ـ حراً ، ولو امرأة .
2ـ يحج ويعتمر : عنه .
3ـ من بلده .
4ـ ويجزئه ذلك : ما لم يزل العذر قبل إحرام نائبه .
5ـ فلو مات قبل أن يستنيب : وجب أن يدفع من تركته لمن يحج ويعتمر عنه .
ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه : حجة عن غيره .
وتزيد الأنثى شرطاً سادساً ، وهو :
1ـ أن تجد لها زوجاً ، أو محرماً : مكلفاً .
2ـ وتقدر : على أجرته ، وعلى الزاد والراحلة لها وله .
فإن حجت بلا محرم :
1ـ حرم .
2ـ وأجزأ .
قوله : [فإن عجز عن السعي لعذر ككبر ، أو مرض لا يُرجى بُرؤُه ، لزمه أن يقيم نائباً]
مسألة تعذر القيام بالحج والعمرة بالنفس لعذر صحيح . وقد ضرب المصنف يرحمه الله على هذا العذر مثلين :
أما الأول : فالكِبر الموجب لذلك ، فليس كل كِبَر يوجب العُذر ، وإنما هو الكِبر الذي فيه زَمانَة ـ وهي شدةُ عَجز ـ لا يستطيع الإنسان أن يستوي على راحلة ولا أن يؤدي شعيرة الحج والعمرة بنفسه؛ لمشقةٍ يُخشى معها عَنَت شديد ، أو هلكة .(2/19)
وأما المثل الثاني : فهو المرض الذي لا يُرجى برؤه . ويُمثِل عليه الأصحاب بالسُّل: وهو مرض مشهور ، إلا أن العصور المتأخرة ، قد يُتّخذ مع السُّل مضادات تجعله خفيفاً يستطيع المرء معه الحج ، فحينئذ لا يكون مُضطرداً . ويُمَثل على ذلك بالسرطان في عصرنا الذي يقع على الجسم ، أو في الدم ،ومن ثم لا يقوى صاحبه على الاستقلال بالحركة والذهاب إلى شعيرة الحج ، وأدائها . وكذلك يُقال في العمرة .
فمن كان كذلك لزمه ، أن يقيم نائباً يقوم بالحج أو العمرة عنه . وشرط المرض : أن لا يرجى برؤه كما سبق . وشرط الكِبر : أن يكون فيه عنت شديد أو مشقة شديدة تُورثُ هَلَكة إن هو مشى فيه .
وقد دلّ على هذا الحكم أدلة منها :
ما أخرجه الشيخان ، من حديث ابن عباس ، والفضل بن عباس : في قصة المرأة الخثعمية التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبيها كبير سنٍ لا يستوي على راحلة أفَتَحُجُّ عنه ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( نَعم ) وذلك على الوجوب كما قاله النووي ، وشيخ الإسلام وجماعة .
وكذلك ما جاء عند النسائي ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاءه رجل فسأله عن أبيه أيَنُوب عنه في الحج ، وهو كبير لا يستوي على راحلة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إذا كان عليه دَيْن أنت قاضِيه ؟ قال : نعم ، قال : فَدَين الله أحق بالوفاء) . يعني : الحج . والحديث صححه جماعة منهم النووي في [ المجموع ] والحافظ ابن حجر في [ التلخيص ] وشيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] وجماعة.
وفيه دِلالة أن الحج كالدَّين ؛ من حيث أداؤه والوفاء به . فإذا لم يُؤت به من قِبل صاحبه فإنه يُؤتى من قِبل نائبٍ ينوب عنه ، كإبن ، أو بنت ، أو غير ذلك ممن يُناب . ويدخل في حكم ذلك المريض ، الذي لا يُرجى برؤه ؛ لأنه كالكبير .(2/20)
ولذلك يذكر بعض الفقهاء وجهاً نظرياً في تقرير ذلك ، وهو أن الحج كالدَين ، والدَين بين الأوَادِم واجب القضاء ، فدين الله أحق بالقضاء ؛ لأنه من جنس الدين فوجب . فإذا لم يُستطاع من قِبل الشخص ، أقام من ينوب عنه بأن يأتي به . ثم إذا وجبت النِّيابة في ذلك فيجب أن يكون وفق شروط :
أولها : أن يكون النائب حُرّاً ، سواء أكان رجلاً أو امرأة . وسبقت شرطية الحرية وسبقت أدلتها .
أما أن يكون النائب رجلاً عن رجل ، فهذا دل عليه دليلان :
أما الأول : فدليل الخبر ، وسبق حديث النسائي ، وكذلك حديث الرجل الخثعمي ، كما عند مسلم وغيره . حيث ناب فيه الابن عن أبيه ، وفيه نيابةُ رجُلٍ عن رجل .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكى الإجماع غير واحد ، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ حيث قال : " لا أعلم فيه اختلافاً " كما في [ المجموع ] .
وأما نيابة المرأة عن الرجل فقد دل عليها قصة الخثعمية ، وهي مُخرّجة في [الصحيحين ] من حديث ابن عباس ، والفضل بن عباس ـ - رضي الله عنه - ـ حيث نابت فيها البنت عن أبيها الكبير ، الذي لا يستوى على الراحلة .
قوله : [ من بَلَدِه ] .
هذا هو الشرط الثاني : أي من بلد المُستَنِيْب ، فالمُستنيب الذي عجز عن أداء شعيرة العمرة، أو الحج ، إما لِكِبَر أو مرض لا يُرجى برؤه ، فإذا وَكّل غيره ، بأن يأتي بشعيرة الحج والعمرة ، فيجب في صحيح المذهب والذي عليه جماهيرهم ، أن يأتي بشعيرة الحج والعمرة من بلد المُستنيب الذي وَكّل غيره .
واستدلوا على ذلك بدليلين :(2/21)
أما الدليل الأول : فهو ما أخرجه الطبري في [ تفسيره ] قال الحافظ في [ التلخيص]: " إسناده قوي " عن علي بن أبي طالب ـ - رضي الله عنه - ـ أنه تلا قوله سبحانه : { وأتموا الحج والعمرة لله } قال : "تمامها هو أن تأتي بها من دُوَيْرَة أَهْلِكَ" ، قالوا : فجعل الحج والعمرة ، يؤتى بها من دُويرة الأهل ، لمن أتى بها ؛ والنائب يقوم مقام المُستنيب ، ومن ثم لا بد أن يأتي بها من دويرة صاحب الأصل .
وأما الدلالة الثانية :
فهو أن الحج كالدَّين ، وسبق حديث النسائي في ذلك ، ومِن ثم فالدَّين يُؤدّى في دويرة الناس الذين أخذوا المال ، فكذلك يكون الحج يُبْدَأُ مِنهُ .
إلاّ أن جماعة من الفقهاء اختاروا أن الحج والعمرة ، لا يُشترط أن يؤتى بهما من دويرة المُستنيب ، وإنما يؤتى من أي محل على الوجه الشرعي ، بان يُؤتى بها من الميقات لمن كان خارج الميقات ، ويؤتى بها من مكة لمن كان داخل مكة وهكذا .
وهذا القول تشهد له ظواهر النصوص وعموماتها ، إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِل عن الإنابة في الحج ، كما في قصة الخثعمية وغيرها ، لم يذكر أن يذهب المرء إلى المحل الذي استناب فيه ، ثم يأتي به ، وإنما أوجب ذلك مطلقاً ، ولم يذكر فيه هذا الشرط . وأمّا ما قاله علي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فهو من باب التوضيح لا من باب الشرطية . فإن المرء إذا أنشأها في داخل مكة وكذلك الحج إذا أنشأ العمرة من داخل مكة ، جاز أن يأتي بها من الحِلّ بعد أن أنشأها في غير بلده ، إذا أنشأ الحج في غير بلده كأن يكون صاحب يسار ، بعد أن كان صاحب إعسار في بلده ، وسافر إلى غيره فيُنشِأ نِية الحج من غير بلده ، ذاهباً إلى الحج . وهذا متفق على صحته في الجملة ، كما قاله ابن القيم في [ الهَدْي ] .
قوله : [ من بلده ] .
يُقصد به شيئان :
أما الأول : فهو البلد الذي هو دار إقامة للحاج أو المعتمر .(2/22)
وأما الثاني : فهو البلد الذي أَيْسَرَ فيه ـ يعني صار صاحب يسار بعد إعسار ـ فإنه حينئذ ينبغي أن يُنشِأ النية منه .
ومثال ذلك : كأن يكون زيدٌ من الناس مُقيماً في خُراسان ، وهي دار إقامة له، ولكنه صاحب إعسار ، فسافر إلى المدينة النبوية فأقام فيها وقتاً ، قبل أشهر الحج . ثم بعد ذلك أيسر بتجارة تسبب فيها واشتغل بها ، فإنه حينئذ لو أنشأ الحج أو العمرة من المدينة النبوية لصحّ على المذهب ؛ لأن المقصود بقوله : [ من بلده ] أي من بلد الإقامة أو من بلد الإيسار .
قوله : [ ويُجزؤه ذلك ما لم يَزَل العُذر قبل إحرام نائبه ] .
حاصله ذكر مسألة تتعلق بالإستنابة وهي : أن النائب إذا أتى بشعيرة العمرة أو الحج عن مستنيب ، فإنها مُجزأة عن المستنيب أمّا كونها مُجزِأة فقد دل على ذلك دليلان :
أما الدليل الأول : فهو الخبر ، وسبقت في ذلك أحاديث ، منها حديث الخثعمية وغيرها .
وأما الدليل الثاني : فالإجماع في الجملة ، إذ إن النائب إذا قام بشعيرة العمرة والحج على وجهها ، بعد استنابةٍ صحت . إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك في مسألة وهي :
إذا بَرِأَ المريض ، بعد أن أُتِيَ بحجة وعمرة عنه ، أو نَشِطَ المُسِن الكبير واستطاع أن يأتي بالعمرة والحج بنفسه ، فهذه المسألة لها مَحَلاّن :
أما المحل الأول : فهو أن يَشرَع النائب في النُسُك ، في نسك العمرة ، أو في نسك الحج بالإحرام فيه . والإحرام : هو عقدُ النية على حج وعمرة ، ومن ثَم التَّخلي عن محذورات الإحرام وما إلى ذلك . فإذا أَحْرم بذلك ، فإنه حينئذ على المذهب مُجزِأٌ عن المستنيب ـ أي أن النائب ـ إذا أوقع الشعيرة بادئاً بإحرامها ، قبَل أن يَسْلَم المريض ، وقبل أن ينشط الكبير ، فإن ذلك مُجزِأ عنه ـ أي مجزأ عن حِجه الإسلام ، ومجزأ عن عمرة الإسلام . على القول بوجوبها وهو المذهب .(2/23)
واختار شيخ الإسلام ، والموفق في [ المغني ] أن ذلك غير مُجزأ ، وأنه يجب عليه أن يأتي بحجة الإسلام وعمرة الإسلام ؛ لأنه مُطالَب بإيقاعها بنفسه ، فما دام أنه قد قَدُرَ على ذلك ؛ فلا يُجزأه ما قام به غيره. ويكون ما قام به غيره نفلاً ، وخيراً له ، وفضلاً يكسب أجره من جرَّاء ما قام به .
وهذا القول قوي وفيه احتياط .
وأما المحل الثاني : فهو أن يسلم المريض ، وينشط الكبير قبل أن يباشر النائب أول النُسك ـ وهو الإحرام . فالمذهب والذي عليه جمهور الأصحاب ، وقطع به أكثرهم ، كما قاله في [ الإنصاف ] هو أن لا يُجزأ عن حجة الإسلام ، ولا عمرة الإسلام ؛ وذلك لأن المستنيب لا تصح إنابته ؛ لأنه قد وقع منه ما وجب عليه ، أن يباشر الشيء بنفسه ، قبل وقوع أول الشعيرة وهو الإحرام . وقع منه بُرْأ مرضٍ، ووقع منه نشاط في كِبَرٍ ، فحينئذ يجب عليه أن يأتي بالشعيرة . إذ إن الإنابة : حقيقتها هو مباشرة النُسك ، قبل حصول البُرْأ من المرض ، وقبل حصول النشاط من الكبر ، أما وقد حصل النشاط، وحصل البُرأ ، فإنه لا يجزء البتّة . وهذا هو المذهب ، وعليه جمهور الفقهاء . كما حكاه النووي في [المجموع] .
ودليله كما سبق ، دليل نظري ، وهو قوي واضح جَلِي . إلا أنهم اختلفوا في هذا النائب ما العمل حينئذ. فهو أعني النائب يكون على حالتين :
أما الحالة الأولى : فهي أن يعلم قبل مباشرته للنسك ، بُرأ المستنيب ، ونشاط المستنيب فيرجع حينئذٍ من حيث أتى . ونفقةُ ذهابه ، ومجيئه ، على مُرْسِلِه ، وهو المستنيب وهذا قول الجمهور ودلالته واضحة ؛ لأنه هو الذي أرسله فيتكفل بنفقته .
وأما الحالة الثانية : فهو ألا يعلم بذلك فيستمر . وإستمراريته في ذلك تنقلب نفلاً للمستنيب على المُختار كما سبق .
قوله : [ فلو مات قبل أن يستنيب وجب أن يُدفع من تركته لمن يحج ويعتمر عنه ] .(2/24)
حاصله ذكر مسألة : وهي إذا فرّط المرء في حجة الإسلام ، وعمرته ، حتى مات . فما هو المتُعَيِّن ؟
المُتَعَيِّن : أن يُخرج من تركته مال ليُناب عنه في حجة الإسلام وعمرته .
ويدل على ذل . دليلان الخبر ، والنظر :
أما دليل الخبر : فما أخرجه أبو داود في [ سننه ] من حديث ابن عباس وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل عن أبٍ له مات ، قبل أن يأتي بحجة الإسلام فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي عن أبيه . وفيه دلالة على تعيُّن القضاء عن الميّت الذي لم يأت بالحج والعمرة تفريطاً .
وأما الدليل الثاني : فهو قياس الحج على الدَّيْن . ومعلوم أن الدَّين واجبٌ إخراجه قبل الإِرث .
والدَّين نوعان :
دَيْنٌ لآدمِيِّ ، ودين يتعلق بحقوق الله ، ومن حقوق الله المتعلِقَة : الحج والعمرة ، ويلد على أنه دَيْن ، ما سبق من حديث النسائي : أن النبي T قال : (فَدَين الله أحق بالوفاء) . فسَمّى الحج دَيْناً ، فيدخل حينئذ في مطلق الدَّين الذي استُثنِيِ إخراجه قبل إخراج الإرث ، هو والوصية . فتُخرَج حينئذ من تركته . يُخرج من تركته مال ثم يُستناب عنه ، إما من ورثته أو من غير الورثة ، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ـ أعني جواز الاستنابة من الورثة . أن يُعطى مالاً ليقوم بالعمرة أو الحج.
قوله : [ ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه حج عن غيره ] .
هذا شرط ثالث يتعلق بالإستنابة : وهو أن يكون النائب قد حج واعتمر عن نفسه ، فإذا لم يحج ولم يعتمر عن نفسه فلا تصح حجته ولا عمرته عن غيره ، وتنقلب لنفسه .
ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود في [ سننه ] والنسائي وغيرهما : أن النبي T سمع رجلاً يقول : "لَبّيكَ عن شُبْرُمَه" فقال النبي T: ( من شُبْرُمَة ؟ ) قال : أخٌ لي ، أو قريب لي . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (حُجّ عن نفسك ثم حُج عن شبرمة ) .(2/25)
والحديث صححه النووي في [ المجموع ] وكذلك الحافظ في [ التلخيص ] وجماعة . وفيه دلالة أن الحج يجب أن يُؤتى به عن النّفس أولاً ، ثم عن المستنيب ثانياً ؛ إن كنت نائباً عنه .وينقاس على الحج العمرة فهي كالحج .
قوله : [ وتزيد الأنثى شرطاً سادساً : وهو أن تجد لها زوجاً أو محرماً مُكلفاً وتقدر على أجرته وعلى الزاد والراحلة لها وله ] .
حاصله ذكر شرط يتعلق بالمرأة زائد عن الشروط العامة ، وهو وجود المحْرَمِيَّةِ للمرأة .
ويدل على ذلك دليلان :
أما الدليل الأول : فالخبر ، وهو ما أخرجه مسلم ، من حديث أنس : أن النبي T قال : ( لا تُسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم ) فيه دلالة أن السفر لا يجوز مطلقاً لا للحج والعمرة ، ولا لغير ذلك ، إلا مع ذي محرم .
أما الدليل الثاني : فدليل النظر : وهي أن المرأة مَظِنَّة الضَعف ، والشهوة والاعتداء عليها ، ونحو ذلك فتَعيّن من يكون قريباً منها ، يُشرف عليها ليس طامعاً فيها ، ولا يُخشى منه ، وليس إلا ذي محرم . ومن ثم تنضاف دِلالة النظر ، إلى دلالة الخبر ، لتدل على صحة شرطية المَحْرَمِيّة للمرأة في ذلك
والزوج هو داخل في جنس المحرمية ، من باب جواز كشفه عليها ، والذهاب معها ونحو ذلك ، لا من باب أنه مُحرَّم عليه غشيانها .
وقد دل على أنه داخل في ذلك أدلة مستفيضة :
منها ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس : أن النبي T لما ذكر المرأة وأنها لا تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع محرم قال : ( أو أخٍ أو زوجٍ ) فذكر الزوج .
قوله : [ مكلفاً ] .
أي يجب أن يكون المحرم مكلفاً . والمكلف : أي أن يكون عاقلاً ، بالغاً فلو كان غير عاقل فلا قيمة له؛ لأنه لا حُرمة له ؛ ولأنه لا يؤدي الغرض من الرقابة والقيام عليها . ونحو ذلك .(2/26)
ولو كان عاقلاً ، ولكنه غير بالغ ، فإنه مظِنة عدم أداء الشيء ، ومظنة أنه لا يكون له حُرمة يُخشى منها ، ولا يُعتدى عليها ، فلا بد من هذين الشرطين . لا بد من كونه عاقلاً ، ولا بد من كونه بالغاً . وهو أن يكون مكلفاً في تعبير المصنف ـ يرحمه الله .
ودل على ذلك أدلة :
إذ إن الأحاديث السابقة تدل عليها ، كما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ فذو المحرم الأصل فيه أن يكون عاقلاً بالغاً ، حتى تتم المحرمية ويكون له حرمة ، ما تُقترب حُرمته التي هو معها .
ويدل عليه دلائل نظرية كثيرة ، إذ إن المرء إذا لم يكن له حرمة ببلوغه ، ولا بصحة عقله وتمييزه ؛ فإنه لا يُأْبه بمن معه ، ويُعتدى عليهم ، فكأنه غير موجود .
وأضاف بعضهم شرطية الإسلام . وهو أن يكون مُسلماً ؛ لان المسلم هو الذي يغار على الحُرُمات ، خلافاً للكافر فقد لا يكون صاحب مرؤة ؛ ومن ثم لا يغار على الحرمات . وهذا هو اختيار شيخ الإسلام .
قوله : [ وتقدر على أجرته وعلى الزاد والراحلة لها وله ] .
أي للمحرم ، ولها هي فلابد من أن تكون قادرة على تقويت نفسها . وتقويت محرمها والمجيء براحلة لنفسها والمجيء براحلة لمحرمها . فنفقة المحرم عليها ؛ لأنه كالمستأجر المؤتمن .
قوله : [ فإن حَجّت بلا محرم حَرُم وأجزأ ] .
أي حَرُم فعلها الحج ، والعمرة تدخل كذلك ؛ لأنها خالفت ما جاء في النصوص الشرعية كقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم) فإيقاع السفر مخالفة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا فيه تأثيم وحُرمة .
وأما كونه مجزأٌ ؛ فلأنها أتت بالشيء بأركانه ، وواجباته ، وسننه ، على ما هو به . وليست المحرمية ركناً من أركان الحج والعمرة ولا شرطاً في صحة الحج والعمرة.ومن ثم يعلم أن الشروط المذكورة في باب الحج والعمرة على نوعين :
أما النوع الأول : فشروط صحة : كالإسلام ، والعقل ، ونحوهما .(2/27)
وأما الثاني : فشروط إجزاء كالحُرِّية ، والمحرمية ، ونحو ذلك .
ثم إن المحارم نوعان : مَحْرَم بنَسَب ، ومَحْرم بسبب .
أما المحرم بالنسب فمثاله : الأخ والجد لأم ، ولأب ، والابن ، ونحو ذلك .
وأما المحرم بسبب فنوعان :
بسبب مصاهرة وهو الزواج ، وبسبب رضاعة .
وما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة كذلك .
ما يحرم بالمصاهرة : أبو الزوج ، وابن الزوج ، وآخرون . وسيأتي إن شاء الله في باب النكاح تفصيل للمحارم بالنسب كلهم وللمحارم بالسبب وفيه فصل هناك .
باب الإحرام
وهو واجب :
من الميقات .
ومن منزله دون الميقات : فميقاته منزله .
ولا ينعقد الإحرام مع وجود :
الجنون .
أو الإغماء .
أو السكر .
وإذا انعقد :
لم يبطل : إلا بالردة .
لكن يفسد بالوطء في الفرج قبل التحلل الأول : ولا يبطل ، بل يلزمه : إتمامه ، والقضاء.
قال المصنف ـ يرحمه الله : [ وهو واجب من الميقات وَمَنْ منزله دون الميقات فميقاته منزله ] .
يقول المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ باب الإحرام ] .
الإحرام لغة : كالتحريم معنى . كما قاله الجوهري في [ الصَحاح ] وإنما سُمِّي بذلك ؛ لأن الإنسان عندما يُحرم بنسك من عمرة أو حج ، يُحرِّمُ على نفسه أشياء كانت حلالاً له قبل إحرامه . ولذلك قيل له الإحرام والحُرُم والتحريم ، ونحوها من الإشتقاقات اللغوية . ولذلك صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (الصلاة تحريمها التكبير) يعني - صلى الله عليه وسلم - أن تكبيرة الإحرام تُحرِّمُ على الإنسان ، ما كان حلالاً له قبل أن يكبِّر هذه التكبيرة ؛ ولذلك سُميَّت بتكبيرة التحريم ، وبتكبيرة الإحرام . وهذا المعنى موجود في الإحرام المتعلق بنسك عمرة وحج .(2/28)
وأما الإحرام في الاصطلاح الشرعي : فالمذهب ، والذي عليه عامة الأصحاب قاله في [الإنصاف] هو نية النُسك . ونية النسك ، معناها : أن ينوي الإنسان النسك . أي نسك عمرة أو نسك حج . وهل المقصود هو أن ينوي الدخول فيه ؟ أم أن يقصد النسك ؟
قولان ، والصحيح وعليه الأكثر ، وبه جزم شيخ الإسلام وجماعة . أن المراد هو نية الدخول في النسك . وفرق بين المعنيين : فالمعنى الأول الذي هو نية النسك ، معناه : أن يريد العبد نسك عمرة وحج ، فإذا أراد النسك من عمرة وحج ، حَرُم عليه أن يتلبَّس بمحظورات الإحرام ، وأن يتجاوز الميقات إلا بإحرام ، فيحرم عليه هذان الأمران .
مثاله : رجل نوى حجاً وعمرة ، أو قصد حجاً وعمرة متمتعاً في أشهر الحج ، فبمجرد قصده يَحرُم عليه أن يأخذ شيئاً من محظورات الإحرام ، أو أن يتجاوز الميقات .
وأما المعنى الثاني : وهو نية الدخول في النسك ، فهو أخص من المعنى الأول ، إذ إن الإنسان قد يقصد نُسكاً . ولكنه لا ينوي الدخول في النسك ، وعمل النسك إلا بعد أيام أو بعد أشهر ، أو بعد وقت يَقل ويطول .
مثاله : رجل قصد أن يأتِيَ بعمرة في شهر رمضان ، وهو يُدَرِّس في مكة ، فعندما ذهب يُدَرِّس ، يجوز له أن يذهب عن الميقات ، ويذهب إلى مكة مُدرِّساً ، ثم يعود إلى البلد الذي هو بعد الميقات ، كالطائف مثلاً ـ لكنه لا يجوز له أن يتعدَّى الميقات إذا دخل في النُسك .
نية الدخول في النسك هل يُشترط أن يقترن معها قول أو عمل ؟
قولان : اختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ أن يُقترن مع النية قول ، كالتلبية أو عملٍ، كَسُوقِ هَدْي قال : " فإذا لم يقترن مع النية قول ، ولا عمل ، فإن ذلك لا يوجب الدخول في النسك حقيقة " . وهذا من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية ، وعلى الأول جمهور الأصحاب وعامتهم. على ما ذكره في [الإنصاف] .
قال المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ وهو واجب ] .(2/29)
يعني : الإحرام إذ هو ركن في نفسه ـ أي بنيته . ولكنه واجب أي يكون من الميقات، وأن يكون في زمن الحج ، وأن يكون في المكان المؤقت شرعاً . ففرق حينئذ بين حكمين : بين حكم الإحرام نفسه في النسك . الذي هو نية الدخول في النسك ، فهذا ركن ركين من أركان النسك ، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله في أركان الحج .
وأما كون الإحرام واجباً من الواجبات ؛ بحيث يُؤتى به قبل تعدِّي الميقات ، وأن يكون من الميقات ، أو من منزل المرء ، إذا كان دون الميقات فهذا من واجبات النسك ، لا من أركانه على الصحيح . وسيأتي .
ويدل على وجوبه ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( فهن لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ، ممن أراد الحج أو العمرة ) . وفي راوية ( والعمرة ) . والحديث متفق عليه من طريق ابن عباس ـ - رضي الله عنه - ـ وقد استفاضت الأخبار : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - . أحرم من ميقاتٍ في عُمَرِه وحَجِّه - صلى الله عليه وسلم - . فتقترن السُنة القولية بالسنة الفعلية في ذلك . وقد حكى صاحب [ المغني ] وجماعة ، إجماع أهل العلم في وجوب الإحرام من الميقات .
قوله : [ من الميقات ] .
من : بمعنى الابتداء أي يبتدئه من الميقات ، إذ إنّ مِنْ تأتي في اللغة على معانٍ أنسبها في مساق كلام المصنف هنا : هو الابتداء ، فيكون المعنى : يكون ابتداء وجوب ذلك من الميقات .
والميقات : مأخوذ من وَقَّت يُوقِّتُ إذا جعل الشيء ميقاتاً . قال عِيَاض وقَّت حدَّد . وهذا المعنى هو المقصود هنا .
إذ المقصود أن النبي T حدَّد أماكن بعينها لكي تكون ميقاتاً للناس في نُسُكهم ، لا يتعدونها حتى يأتوا بالإحرام من عندها .
ولم يذكر المصنف ـ يرحمه الله ـ المواقيت المكانية ؛ اكتفاءً بشُهرتها ، ومعرفتها عند جمهور الناس .
والميقات المتعلِّق بنسك الحج ميقاتان :
أولها : ميقات زماني ، وذلك بأن يُؤتى بالحج في أشهر الحج ، وأشهر الحج ثلاثة :(2/30)
شهر شوال ، وشهر ذي القِعدة ، والقَعدة لغتان والثانية أفصح . وشهر ذي الحَجَّة والحِجَّة والثانية أفصح. والمذهب أنها عشر من ذي الحِجَّة . واختار جماعة من الفقهاء أن الله عز وجل ، جعلها في القرآن أشهراً وأقل الجمع في اللغة هو ثلاثة ، ولذلك قالوا أشهر الحج شهران هما شوال وذو القعدة هما شهران تامان كاملان ، ثم شهر ذي الحِجَّة كاملاً . فيدخل فيه شهر ذي الحِجَّة كاملاً ، على ظاهر الآية اختاره جمع من الفقهاء ، وجزم به الشوكاني وجماعة .
وأما العمرة فلا توقيت زماني يتعلق بها ، ففي أي وقت أتى بها المرء جاز ، وللمسألة طَرَفٌ يأتي إن شاء الله .
وأما الثاني : فتوقيت مكاني وهو تحديد مواقيت مكانية للحج ، ويدخل في ذلك العمرة أيضاً وقد وقت النبي T مواقيت مكانية عيّنها :
فأولها : ميقات أهل المدينة المُسَمَّى : بذي الحُلَيْفَة .
وثانيها : ميقات أهل الشام المُسَمَّى : بالجُحْفَة .
وثالثها :ميقات أهل نجد المُسمى : بِقَرْن المنازل أو الثَّعَالب .
ورابعها : ميقات أهل اليمن المُسَمَّى : بِيَلَمْلَمْ .
وآخرها : ميقات أهل العراق المُسَمَّى : بذات عِرْق .
وقد دل على توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك المواقيت أحاديث : منها ما أخرجه الشيخان في [صحيحهما] من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : ( وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحُليفة ، ولأهل الشام الجُحْفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، فهنّ لهنّ ولمن أتى عليهن ، من غير أهلهن وفي رواية : (والعمرة) .
وأما ذات عِرْق فقد ثبت ، عند أبي داوود من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: (وقَّت النبي T لأهل العراق ذات عِرْقٍ) .(2/31)
قال ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في شرحه على [ عمدة الفقه ] "إسناده جيد" ثم حكى طُرقاً للحديث ومراسيل ، تدل على توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لذات عِرق . ثم قال يرحمه الله "فهذه الأحاديث والطرق الثابتة الحِسان المرسلة ، والمرفوعة ، تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على ذات عِرق ". وقد حكى ابن قدامة المقدسي في [المغني] عن ابن عبد البر ـ يرحمه الله ـ أنه قال : "أجمع الفقهاء وعامة الناس ، على أن من جعل ذاتَ عِرْق ميقاتاً فأحرم منه ؛ أنه ميقات صحيح ، وإحرامه لا شيء فيه " . وهذه المواقيت المكانية ، مواقيت معروفة مشهورة . فميقات أهل المدينة المسمى بذي الحُلَيْفة . تصغير حَلفاء : اسم زرع ينبتُ في ذلك المكان . ويَسميه بعض الناس بآبار عليٍّ لوجود بئر هناك ، يزعمون أن علي بن أبي طالب قاتل الجن عنده .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في شرحه على [ عمدة الفقه ] "وهذا كَذِب فإن علياً أعظم من أن يقف الجن أمامه ، ولم يثبت ذلك عنه رضي الله عنه" . وفيه مسجد يسمى بمسجد الشجرة، وهو معلوم معروف . وهذا الميقات هو أبعد المواقيت عن مكة ، إذ إنه يُقدَّر بعشرين وأربعمائه من الكيلوهات ، عن مكة المكرمة .(2/32)
وأما ميقات أهل الشام المسمى : بالجُحْفة وسميت بالجُحفة . بضم الجيم وتَسكين الحاء المُهْمَلة ؛ لأنها كانت بلدة مغمورة إلا أن الأمراض والسيول اجتحفتها ـ اجتحفتها أي أزالتها في اللغة . وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت عنه (أن ينقل الله الداء والمرض الموجود في المدينة إلى الجُحْفة) ، فانتقلت إلى الجُحْفَة، فذهب منها الناس نتيجة السيول التي اجترفتها ، والأمراض والأوباء التي حلت فيها . والجُحْفَة قد تركها الناس فلا يأتون إليها ؛ لأنها أصبحت مهجورة لا شيء فيها فاتخذوا محلاً بعدها اسمه رابغ ، هذا محلاً قريب من الجُحْفَة . وهو أبعد من الجُحْفَة عن مكة بقليل ، من حيث النظر والجُحفة تبعد عن مكة المكرمة بطريقها القديم نحو مائتين وثمانية من الكيلوهات ، وأما رابغ فمائة وستة وثماينين من الكيلوهات ، إذ طريقها المُعَبَّد ، أسرع وأيسر من طريق الجُحْفة السابق والجحْفة أصبح مكانها مهجوراً لا يأيته الناس .
وأما ميقات أهل نجد : فيسمى بقرن المنازل ، وبقرن الثعالب ، وهو الآن يسمى بالسيل الكبير ، وله طرفٌ في أعلاه ، وطرفٌ في أدناه ، طَرفُه الذي هو أدنى : يسمى بالسيل الكبير وهو قرن الثعالب ، وقرن المنازل ، إلا أن هذا الوادي عيدَ إلى أعلى ، إلى وادي سمُي بوادي مَحْرم ، ولذا وادي محرم هو أعلى وادي السيل الكبير ، المسمى بقرن المنازل وهو محاذٍ له فاتخذه الناس لما عُبِّد الطريق عن طريق الكرا، عُبِّد الطريق اتخذوه أيضاً طريقاً إلى مكة فميقات أهل نجد المسمى بقرن المنازل ، الثعالب ، الذي هو أدنى ذلك الوادي المسمى الآن بالسيل الكبير ، يبعد عن مكة ثمان وسبعين كيلو متراً تقريباً . وأما أعلاه فيبعد عن مكة نحواً من خمسة وسبعين كيلو متراً .(2/33)
وأما ميقات أهل اليمن : فيسمى بيلَمْلَم ، ويقال ألَمْلَم . وأهل تلك المَحَلَّة ينطقونه لَمْلَم بحذف الياء والألف . ويسمى اليوم بالسَّعْدِية ؛ لأن فيه بئراً حفرته إمرأة اسمها فاطمة السعدية ، وأصله جبل له وادٍ منه ، وهو معروف مشهور ، ويبعد يلملم عن مكة المكرمة مائة وعشرين كيلو متراً .
وأما ميقات أهل العراق : المسمى بذات عِرْق ـ بكسر العين المُهْمَلة وتسكين الراء المُهْمَلة ـ فهو ميقات معروف يسميه الناس اليوم : بالضَّريبة ـ بفتح الضاد مع كسر الياء ـ ويسميه في هذا العصر بالحِزَينات وهو ميقات معروف إلا أن الناس هجروه لاندماره وعدم اعتناء الناس به ، وليس هناك طريق مُعبَّد للسيارات التي يركبها الناس اليوم ولذلك تركه أكثرهم وأصبحوا يأتون طريق رابغ أو عن طريق المواقيت الأخرى خاصة ميقات أهل نجد .(2/34)
فهذه المواقيت المكانية ، عُلِم أن أبعدها عن مكة هو ميقات أهل المدينة المسمى بذي الحُلَيْفَة . وأن البقيّة الباقية تختلف ، وأن أقربها هو ميقات السيل في أعلاه المسمى بوادي مَحْرم إذ هو أقربها إلى مكة المكرمة . يقول شيخ الإسلام ـ ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في شرحه على [العمدة] إنما اختلف تقدير هذه المواقيت المكانية بُعْداً وقُرباً عن مكة ؛ لأن أهل تلك الأمصار الذين ذُكرت لهم تلك المواقيت أقربهم إلى مكة ؛ أهل المدينة ، خلافاً لغيرهم فإنهم يأتون من أماكن بعيدة . فاقتضى الحال أن يكون التمتُع من قِبَلهم بمباشرة ما عُذِر عليهم بعد الإحرام ، اقتضى الحال أن تكون مواقيتهم المكانية ، قريبة من مكة خلافاً لأهل المدينة ، إذ أهل المدينة يسافرون من المدينة مباشرة إلى مكة ، فليس هناك شيء يعترض لهم ، أما أهل تلك الأمصار ، فيمرون ببلادٍ ، وقِفَار ، وأمصارٍ كثيرة ، فيتمتعون بما يتمتع به غيرهم ، حتى إذا اقتربوا من مكة كان هناك ميقات مكاني لهم ، بعده يُحذَر عليهم أن يتمتعوا بما كانوا يتمتعون به ، وهذه من الحِكَم التي يذكرها بعض الفقهاء ، كشيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ .
قال المصنف يرحمه الله [ وَمَنْ منزله دون الميقات فميقاته منزله ] .
مكانٌ دون الميقات نوعان :
أما النوع الأول : فَمَنْ يسكن مكة .
وأما النوع الثاني : فمن لا يسكن مكة ؛ كأهل جُدَّة .
فأهل مكة ، ميقاتهم مكة . أما العمرة فعامة أهل العلم والفقه على أن تُنشأ من الحِل ، كأدناه في مسجد عائشة . في المكان المسمى بمسجد عائشة والتَّنعيم ، وأما الحج فمُختلف فيه على قولين . فمنهم من يقول يُنشأه من بيته . ومنهم من يقول يُنشأه من الحِل . وسيأتي في المسألة طرفٌ من كلام المصنف يرحمه الله .(2/35)
وأما غير ساكني مكة ، كأهل جُدَّة ونحوهم . فميقاتهم منازلهم والمكان الذي هم فيه، فينشأ المرء نية الدخول في النسك من ذلك المكان الذي هو فيه مثال ذلك : رجل يسكن جُدة ، وهي دون الميقات ؛ لأن رابغ خلفها ، فإذا أراد العمرة فإنه ينوي نية الدخول في النسك في منزله ثم يرتدي إحرامه ويتخلى عن محظورات الإحرام ، ويذهب إلى مكة كآفاقي ذهب إلى ميقات يلملم تخلى عن المحظورات ، ولبس إحرامه ثم انطلق إلى مكة ، فهما سيان لا فرق بينهما حينئذ .
قوله [ ومن منزله ] .
يعني : المحل الذي نزل فيه ، وسكن به ، وهذا يشمل نوعين :
أما النوع الأول : فمن كان منزله منزلاً له إقامة ، وسكناً وبقاء . فهذا لا خلاف في انطباق الحُكم السابق عليه .
وأما الثاني : فرجل لم يكن ينوي نية نسك ، لا حجاً ولا عُمرة ، إلا أنه نزل في مَحَلٍّ دون الميقات وبقي فيه فترة . ثم بدا له أن يأتي بنسك عمرة ونحوه . فمنزل من نزل عنده منزل له عنده حينئذ ، في أصح قولين أهل العلم .
ودليل هذه المسألة هو ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عباس ـ رضي الله
عنهم ـ وسبق وفي آخره (ومن أنشأ نية ذلك دون الميقات فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة).
قال المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ : [ ولا ينعقد الإحرام مع وجود الجنون أو الإغماء أو السُكر ] .
قوله [ولا ينعقد] من العقد : وهو ثَني النية على شيء . وأصله مُستعملٌ في الحبل ونحوه عندما يُعقد، إذ فيه ثَنيٌ له على بعضه ، وكذلك يُستعمل في المعاني ، كثني القلب على معتقد أو نية أو نحو ذلك . ومنه انعقاد الإحرام بثني النية على قصده ، وإرادته ، والدخول في نسكه .
قوله [مع وجود الجنون أو الإغماء أو السُكر] . الجنون معروف وسبق والإغماء: حالة طارئة على الإنسان يفقد فيها شعوره بما حوله . والغالب أنه يصاحبها احتلام .(2/36)
قوله [ أو السكر ] يقصد به : ما ساكر العقل وخامره ، بحيث أفقده اتزانه من التمييز بين الأشياء ، ومن اعتدال الهيئة والحركات وما إلى ذلك فمن أصاب عقله جنون أو فقد بطارئ ، كإغماء أو سُكر ونحهما، فإن الإحرام لا ينْعقد لا بحجّ ولا بعمرة ؛ وذلك لأن الإحرام أو النسك قد فقد شرطاً من شروطه الرئيسية ، هي العقل ، وسبق التدليل على شرطية العقل ، وكونه واجب فيمن يجب عليه الحج أو العمرة كما سبق .
يقول المصنف ـ يرحمه الله تعالى ـ : [ وإذا انعقد : لم يبطل إلا بالردة ، لكن يفسد بالوطء في الفرج قبل التحلل الأول : ولا يبطل ، بل يلزمه : إتمامه ، والقضاء]
قول المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ وإذا انعقد] .
يعني : الإحرام بالنسك سواءٌ أكان حجاً أم عمرة ، وسياق الكلام هنا في الحج .
قوله : [ لم يبطل إلا بالردة] .
البطلان حقيقته عند الأصوليين والفقهاء : عدم صحة الشيء ، ويُفَرِق بعضهم بين البطلان والفساد ، والمذهب أنه لا تفريق ، وعليه عمل جمهور فقهاء المذهب .
قوله : [ إلا بالردة] .
الردة هي : النكوص إلى الكفر بعد إيمان . وبهذا عرفها جمهور الفقهاء ، وتقع بعبادات أو أفعال أو اعتقادات .
والمُتحصل من كلام المصنف ـ يرحمه الله ـ أن الإحرام بالنسك إذا انعقد؛ فإن النسك لا يبطل إلا في حالة واحدة ، ثم استدرك أخرى .
أما الحالة الأولى : فهي أن يرتد بعد إسلام ، ودليل بُطلان ذلك شيئان :
أما الأول : فالنص : حيث قال الله عز وجل : { إنما المشركون نَجَس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } . وفيه دلالة على أن الكافر سواءٌ أكان أصلياً ، أم مرتداً ؛ لوجود وصف الكفر فيهما ، لا يجوز له البقاء في المسجد الحرام . ومعلوم أن شعيرة الحج لا تكون إلا في المسجد الحرام ، وكذلك العمرة .
وأما الثاني : فدليل النظر : ويرجع إلى شيئين :(2/37)
أما الأول : فهو أن الكافر لا تصح منه العبادات ؛ لعدم وجود النية الصحيحة والحالِ الصحيح في العبادة . وهذا مُجْمع عليه عند الفقهاء ، كما حكاه ابن عبد البر في [التمهيد] وكذا الموفق في [المغني] وجماعة .
وأما العلة الثانية : فهي أنه لا يجوز للمشرك أن يقرب المسجد الحرام ، وأن يبقى فيه وهذا يكاد ينعقد عليه الإجماع والاتفاق ، كما قاله ابن العربي في [الجامع لأحكام القرآن] وكذا القرطبي في [تفسيره] وجماعة .
وفي ذكر المصنف ـ يرحمه الله ـ المرتد : دلالة على أن الكافر الأصلي من باب أولى يبطل حجه ؛ لعدم انعقاده أصالةً .
قوله : [ لكن يفسد بالوطء في الفرج قبل التحلل الأول …. ]
حاصله ذكر أمر آخر يبطل به النسك ، بعد انعقاده وهو الوطء في الفرج ، قبل التحلل الأول ، وهذا الأمر لا بد فيه من وصفين واجتماعِهما :
أما الوصف الأول : فهو وقع الوطء في الفرج ، والوطء : يقصد به المواقعة ، والفرج مخلتفٌ في المقصود به على أقوال . المذهب والذي عليه أكثر الأصحاب كما قاله المرداوي في [الإنصاف] : " هو أن الفرج هنا يشمل القُبُل والدُبُر سواءٌ أكان لذكرٍ أو انثى ، لآدمي أو بهيمة" .
مثال ذلك : أن يطأ من انعقد إحرامه بحج زوجته في فرجها ، ومن الأمثلة وطء البهيمة في فرجها .
واختار شيخ الإسلام كما في [ المجموع ] وغيره : " أن الفرج يُطلق في الأصل على قُبُل المرأة ، سواءٌ أكان حلالاً أو حراماً ، وربما دخل فيه الدبر " .
وأما الوصف الثاني : فهو أن يكون الوطء قبل التحلل الأول ؛ إذ إن في الحج . فيه تَحلُيلين :
أولهما : يكون بعد رمي جمرة العقبة والتقصير أو الحلق .
وأما الثاني:فيكون بعد رمي جمرة العقبة والتقصير أو الحلق ، مع الطواف والسعي.(2/38)
واختلف الفقهاء في الشيء الذي يحصل به التحلل الأول ، قال شيخ الإسلام في [شرح العمدة] : "المنصوص عن أحمد والذي عليه قدماء الأصحاب وبه جزم من حقق في ذلك ، كالخرقي وابن أبي موسى ، وأبي بكر ، وغيرهم أن التحلل الأول يقع برمي جمرة العقبة ، سواءٌ أقصر وحلق أم لا سواءٌ أذبح هديه إن كان له هدي أو لا".
وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن التحلل الأول هو فعل اثنين من ثلاثة ، أن التحلل التام هو ثلاثة أشياء :
أما الأول : فهو رمي جمرة العقبة .
أما الثاني : فهو الحلق أو التقصير .
وأما الثالث : فالطواف والسعي لمن لم يأتِ بسعيٍّ سابق .
قالوا : ومن أتى باثنين من تلك الثلاثة ، فقد تحلل التحلل الأول . وعلى هذا جمع كثير من الفقهاء ، كما حكاه النووي في [ المجموع شرح المهذب ] وكذا جماعة ، ومنه يُعلمُ أمور ثلاثة :
أولها : أن ذبح الهدي ونحره لا تَعلُقَ له بالتحلل مطلقاً ، ويكاد الإجماع ينعقدُ على ما أشار إليه شيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] .
وأما الثاني : فهو أن رمي الجمرة ـ جمرة العقبة ـ هو الذي يحصلُ به التحلل الأول على المُحقق في المذهب .
وأما الثالث : فهو أن هناك اختلافاً بين الفقهاء ، في الشيء الذي يحصل به التحلل على ما سبق .
قوله : [ ولا يبطل ] .
يعني لا يبطل النسك بالوطء في الفرج ، بطلاناً كأنه لم يكن ، لا يؤجر على شيء سبق مثل : المرتد بل هو دون ذلك وهذا هو الذي يُحمل عليه كلام المصنف ، وإلا فقد ذكر جمع من الأصحاب أن البطلان يقع في مثل هذه الحالة ، فيوجه كلامهم على أنه بطلانٌ دون بطلان من ارتد ؛ لأن هناك أمور تلزمه تأتي :
قوله : [ بل يلزمه إتمامه والقضاء ] .
إذا وقع الوطء في الفرج قبل التحلل الأول ؛ فإنه يترتب على ذلك خمسة أمور :
أولها : الأثم ودلَّ عليه دليلان :(2/39)
أولهما : النص أو الخبر : فهو قول الله عز وجل : { فلا رفث ولا فسوق } قال ابن عباس كما في [صحيح البخاري] : " الرفث هو الجماع فمن أوقع الرفث أثِمَ ".
وأما الدليل الثاني : حيث أجمع المسلمون على تأثيم من واقع أهله قبل التحلل الأول لظاهر الآية ، وقد أشار إلى هذا الإجماع غير واحد ومنهم النووي يرحمه الله كما في [المجموع شرح المهذب] وكذا جماعة .
وأما الثاني : فإتمام النسك الذي بدأ فيه ؛ ومعنى الإتمام : أن يُتمَ الحاج ما بدأه من نُسك على هيئته الشرعية المعروفة .
مثاله : رجلٌ أحرم بحج متمتعاً قارناً فأتى بطواف وسعي العمرة ، وكذا سعي الحج ثم واقع أهله قبل التحلل الأول ، فإنه يستمر في حجته على الجهة الشرعية ، فيقضي حجته ثم يأتي بالهدي في وقته المعروف وهكذا .
وأما الثالث : فالقضاء وذلك بأن يقضي المرء نسك حجه ، بان يأتي بحجة أخرى في العام القادم .
مثاله : رجل واقع أهله في الفرج قبل التحلل الأول ، فإنه يجب عليه أن يأتي بحَجة أخرى في السنة التي بعدها .
أما الرابع : الهدي ، واختلف في حقيقة الهدي على قولين :
أما القول الأول : فهو أن يكون بدنة . والبدنة : هو الجزور ـ الإبل ـ وهذا هو الصحيح والذي جرى عليه فتوى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وعبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وكذا جاء عن عمر بن الخطاب ، وعلى بن أبي طالب ، وأبي هريرة كما حكاه مالك في كتاب الحج من [الموطأ] وهو عند البيهقي بإسنادٍ صحيح، كما قاله البيهقي في [السنن] .(2/40)
وأما الثاني : فهو شاه وهذا هو الصحيح في المذهب كما حققه المرداوي في [الإنصاف] وجعلوا الأمر فيه عاماً في كل محظور يقع ؛ لأن عليه دم ؛ لفتوى ابن عباس أنه قال : "من وقع منه شيء من هذه المحظورات فليجبره بدم" أخرجه البيهقي في [السنن] وابن أبي شيبة في [المصنف] وهو صحيح عنه، كما قاله شيخ الإسلام ، وابن حجر وجماعة . إلا أن أثر ابن عباس عام مخصص بما جاء عنه في الوطء قبل التحلل ، وما جاء عن بعض السلف ـ يرحمه الله ـ وقد جاء ذلك في مراسيل عِدَة كما في كتاب [المراسيل] لأبي داود ، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ شيئاً من تلك المراسيل ، ومنها ما أخرجه أبو داود في [مراسيله] : " عن يحي بن أبي كثير عن ابن نُعيم أنه قال : سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند رجل واقع أهله ـ يعني قبل التحلل ـ فأفتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك) ، والحديث فيه ضعف لكنه مُرسلٌ . ولذلك قال الحافظ في [التلخيص] : "رجاله ثقات إلا أنه مُرسل" وساق مرسل آخراً عن سعيد بن المسيب ـ أعني شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] عن سعيد بن المسيب ثم قال : "وهذا المرسل يشهد له ظاهر القرآن ، وفعل - صلى الله عليه وسلم - الذي منقول ومشهور عن الصحابة ، وعليه عامة الصحابة" .
وهذه الأشياء الثلاثة قد دل عليها دليلان : الشيء الأول ذكرنا أدلته ، والثلاثة الباقية نذكر أدلتها :
وأما الأشياء الثلاثة فدل عليها دليلان :
أما الدليل الأول : فالخبر ؛ وذلك ما أخرجه البيهقي في [ السنن ] : عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ ، أنهم أفتوا بذلك ، والأثر أخرجه البيهقي وقال : " إسناده صحيح" وصححه الحاكم في [مستدركه] ووافقه عليه الذهبي ، وأشار إلى أنه حسن ابن مفلح(2/41)
ـ يرحمه الله ـ كما في كتابه [الفروع] وقد جاءت عدة مراسيل وأثار أخرى ، كما حكاها البيهقي في [السنن] وحكى بعضاً مالك ـ يرحمه الله ـ كما في كتاب الحج من [الموطأ] من ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم أفتوا بنحو ما أفتى به أولئك.
وأما الثاني : فالإجماع ؛ وقد حكى الإجماع ، غير واحدٍ ومنهم ابن عبد البر كما في [التمهيد] ، وكذا ابن المنذر كما في كتاب [الإجماع] وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية في [شرحه على العمدة] وقال : "إجماع الصحابة فالتابعين فمن أتى بعدهم على لزوم تلك الأشياء" ـ يعني الإتمام والقضاء والهدي ـ .
وليُعلم أن الفقهاء ـ يرحمهم الله ـ اختلفوا هل يلزمه أن يأتي بعمرة مع الحج الفاسد؟ وهل يجوز أن يتحلل من حجته ؟ بأن يأتي بعمرة ، خالف الظاهرية في ذلك . والإجماع المحكي على خلاف قولهم ، حيث ذهب ابن حزم في [ المحلي ] إلى جواز التحلل من الحج بعمرة ؛ لأن المُضي في الفساد خطأ ؛ ولأن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يأتِ أمرٌ بالإتمام في ذلك ، وهو محجوجٌ بالآثار السابقة وقد حُكِيَ الإجماع وسبق .
ويخير من يريد الإحرام بين :
أن ينوي التمتع ، وهو أفضل .
أو ينوي الإفراد .
أو القران .
فالتمتع ، هو :
أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج .
ثم بعد فراغه منها : يحرم بالحج .
والإفراد ، هو :
أن يحرم بالحج .
ثم بعد فراغه منه : يحرم بالعمرة .
والقران ، هو :
أن يحرم بالحج والعمرة : معاً .
أو يحرم بالعمرة ، ثم يدخل الحج عليها : قبل الشروع في طوافها .
فإن أحرم به ثم بها : لم يصح .
قوله : [ ويخير من يريد الإحرام بين أن ينوي التمتع ….. ] ...
حاصله شيئان :
أما الأول : فهو أن الأنساك في الحج ثلاثة :(2/42)
أما الأول : فَنُسك التمتع وسمي تمتعاً ؛ لأن فهي مُتعةً للنفس بين العمرة والحج،ومتعة بمباشرة ما حَظُرَ على المكلف بعد إحرامه ، حيث إنه يفرغ من العمرة ثم يَحلُّ له ما حرم عليه بالإحرام ، فإذا أتى الحج أتى به .
وأما الثاني : فالقران ؛ وسمي بذل لأنه يَقْرنُ بين العمرة والحج ، أي يُجمع بينهما .
وأما الثالث : فالإفراد ؛ وسمي بذلك لأنه يأتي بالحج مفرداً ليس معه عمرة .
وأما الثاني : فهو أن المكلف مخير بين هذه الأنساك الثلاثة ، فإن شاء تمتع بعمرة إلى الحج وإن شاء قرن بين العمرة والحج ، وإن شاء أفرد الحج في نُسكه . وقد دل على ذلك دليلان :
الأول : الخبر ، وذلك ما جاء في [ الصحيحين ] من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فَمِنْ مَن أهل بالعمرة ، ومِنْ مَن أهل بالحج ، ومِنْ من أهل بحجة وعمرة ، وأهل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج" ففيه ذكرٌ للأنساك الثلاثة السابقة ، وفيه إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلك الأنساك ولفعلها، مما يدل على التخيير .
وأما الثاني : فالاتفاق المحكي ، وقد حكاه الموفق في [المغني] والنووي في [المجموع] وجماعة .
وينضاف إلى الأمرين السابقين ، أمرٌ ثالث وهو قول المصنف يرحمه الله : [وهو أفضل] : يعني التمتع ، وهذا هو المذهب والذي عليه جمهور الأصحاب ، كما قاله في [الإنصاف ] . وكون التمتع أفضل ، هو الذي دلت عليه الدلائل الكثيرة ومنها :
ما جاء في [ الصحيحين ] من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : (فمن لم يُسِق الهدي فليتحلل بعمرة إلى الحج) .
وكذلك جاء في حديثها أن - صلى الله عليه وسلم - قال : (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ، لما سُقت الهدي ولأتيتُ بعمرة ) يعني مع الحج متمتعاً - صلى الله عليه وسلم - .(2/43)
ومن الدلائل ما جاء في [ الصحيحين ] من حديث ابن عباس أنه كان يُفتي بذلك، وأن التمتع أفضل . فحكيت له المخالفة عن أبي بكر ، وعمر في ذلك . فقال : " أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول قال أبو بكر وعمر ، تكاد أن تنزل عليكم حجارة من السماء " . الأثر وفيه دلالة على أن التمتع هو أفضل جزماً ، من ابن عباس، ولا يجزم إلا بما تيقنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووافقه أكثر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إلاّ أن مَنْ ساق الهدي معه ، فالأفضل في حقه أن يكون قارناً ، لا أن يكون متمتعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم السابق ولفعله ؛ إذ لو كان التمتع أفضل لما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ أن الإفراد أفضل لمن أتى بعمرة في سفر ، قبل الحج قال : " لأنه أتى بسفرتين ، سفرةٌ للعمرة ، وأخرى للحج . وهذا أكثر جُهداً وأعظمُ أجراً " ، إلا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - السابق ، وما سبق من دلائل ، يدُل على أن الأفضل مطلقاً التمتع ، إلا لمن ساق الهدي معه ، فالأفضل في حق الأخير القِران .
قوله : [ فالتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ثم بعد فراغه منها : يحرم بالحج ] .
فيه ذكرٌ لحقيقة التمتع ؛ إذ إن حقيقة التمتع ما توفر فيه الصفات التالية :
أولها : أن يؤتى بعمرة في أشهر الحج ، والمجيء بالعمرة في أشهر الحج ، يعني أمرين :
أما الأول : فهو أن تكون نية العمرة في أشهر الحج .
وأما الثاني : فهو أن يفرغ منها .
ويتفرع عن ذلك صور :
أولها : من بدأ العمرة في غير أشهر الحج وأتمها في أشهر الحج فلا يكون متمتعاً .
مثاله : رجلٌ نوى عمرةً وبدأ فيها في اليوم الثلاثين من شهر رمضان ، ثم ذهب زائراً إلى أحد أصدقائه وهو مُحرم في مكة فبقي إلى أن دخل يوم العيد ، وثاني العيد أتى بباقي مناسك العمرة ، فهذا لا يكون متمتعاً ؛ لأنه بدأ العمرة في غير أشهر الحج .(2/44)
وأما الثاني : فهو أن يأتي بالعمرة بدءاً وانتهاءاً في غير أشهر الحج ، فهذا لا يكون متمتعاً .
مثاله : رجلٌ أتى بالعمرة في أشهر شعبان بدءاً وانتهاءاً أفلا يكون متمتعاً .
وأما الثالث : فمن أتى بالعمرة بدءاً في أشهر الحج لكنه لم يُنهها حتى دخل الحج الأكبر ، فمثله يُدْخِل الحج على العمرة فيكون قارناً ؛ لأنه لم يفرغ من العمرة قبل دخول الحج الأكبر .
وأما الرابع : فهو من أتى بالعمرة بدءاً وانتهاءً في أشهر الحج ، قبل مجيء الحج الأكبر بمعنى تمكن من الانتهاء قبل الفراغ من الوقوف بعرفة فهذا يكون متمتعاً .
وأما الوصف الثاني : فهو أن تكون العمرة في أشهر الحج ، وأشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، على ما سبق .
وأما الثالث : فهو أن يأتي بالحج بعد العمرة ، فلا بد من الانفصال من عمرة ، ثم الشروع في حجٍ ، أما إذا لم يحدث التحلل من العمرة ، فإنه لا يكون متمتعاً .
قوله : [ والإفراد ، هو : أن يُحرِم بالحج ، ثم بعد فراغه منه يُحرِم بالعمرة ] .
صورة الحج مفرداً هو أن يأتي بالحج فقط دون عمرة .
مثاله :رجلٌ أنشأ نية الحج من بلده ماراً بالميقات ، ثم أنهى شعائر الحج . فهذا لا يكون إلا مفرداً .
اختلف الفقهاء ـ يرحمهم الله ـ هل يتعين على المفرد أن يأتي بعمرة بعد الحج أم لا ؟ قولان :
جمهور فقهاء المذهب على ما ذكره المرداوي في [ الإنصاف ] وكذا غيره أنه ينبغي أن ياتي بعمرة بعد الحج ، واستدلوا على ذلك بدليلين :
أما الأول : فما فعلته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أتت بعمرة بعد حجتها . قالوا في هذا دليل على تَعُين العمرة للحاج مفرداً وأدنى التَعيُن الاستحباب .
وأما الثاني : فقالوا ينبغي ألا يُفَرِط في سفره ، ومن التفريط أن يقتصر على الحج فينبغي أن يستغل سفره بما يستطيعه ، فيأتي بالحج ثم بالعمرة .(2/45)
وأما الثاني : فهو أن المفرد ينبغي أن يقتصر على حجة دون عمرة ، وهو اختيار شيخ الإسلام
ابن تيمية كما في [المنسك] له . قال يرحمه الله : "ولم يَرِدْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاعن خلفاءه الراشدين ، ولا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم أتوا بعمرة بعد الحج ، وعد ذلك من الأمور الحادثة بعدهم " ، قال : " إلا ما ثبت عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولها عذر في ذلك ، فلا يُقاس عليها في هذه المسألة " يعني في استحباب المجيء بعمرة بعد الحج مُطلقاً . واختيار شيخ الإسلام هو الذي عليه عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام ، ولا يُعرف لهم مخالف .
قوله : [ والقِران هو : أن يُحرم بالحج والعمرة : معاً ، أو يحرم بالعمرة ثم يُدْخِل الحج …….] إلى آخره .
حاصله ذكر حقيقة القِرَان وله صورتان :
أما الأولى : فهو أن يُحرم المرء بالحج والعمرة معاً ، فيقول : ( لبيك حجاً وعمرةً ) أو ( لبيك عمرةً وحجاً ) اختلف في تقديم العمرة على الحج ، أو العكس . عند التلبية استظهر جمع من الفقهاء تقديم العمرة على الحج ؛ لأن العمرة تسبق الحج حقيقةً .
مثال ذلك : رجلٌ أراد أن يقرن بين عمرة وحج فلما ذهب إلى الميقات لبى وقال : (لبيك عمرةً وحجاً)، ثم استمر في نسك القِرَان .
وأما الثانية : فهو أن يأتي بالحج ، ثم بعد ذلك يدخل على الحج . أو أن يُحرم بالعمرة ثم يُدخل الحج عليها ، ولذلك شرطان :
أما الشرط الأول : فهو أن يصح عقد العمرة لِيُبنى عليه ، أي أن ينقعد نسك العمرة حتى يُبنى عليه نسك الحج .
وأما الثاني : فهو أن يُدخل الحج على العمرة قبل طواف العمرة ، فلو أراد أن يُدخل الحج على العمرة بعد السعي ـ أعني سعي العمرة ـ فإنه لا يجوز .
وهاتان الصورتان اتفق عليهما فقهاء المذهب على ماذكره شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] .(2/46)
وثم صورة ثالثة اختلف فيها الأصحاب والفقهاء : وهي أن يحرم بالحج مُفِرداً ثم بعد ، يُدخل على الحجِ العمرة .
فقال قوم : لا يجوز أدخال العمرة على الحج ؛ لأنه إدخالٌ لنسك أصغر في نسكٍ أكبر وهذا لا يصح .
وقال آخرون : بل يجوز ؛ لأن إدخال الحج على العمرة جائزة اتفاقاً فكذلك يكون العكس ، والقول بأن الأصغر لا يدخل على الأكبر لا دليل عليه ، وإلى ذلك أشار المصنف يرحمه الله : [فإن أحرم به] يعني الحج [ثم أحرم بها] . يعني العمرة : [لم يصح] يعني لم يصح أن يكون قِرَاناً وإنما كان مُفرداً ؛ لأنه لا يجوز أن يُدخل الأصغر على الأكبر في قياس المذهب ، واختار شيخ الإسلام جواز ذلك وسبق التدليل عليه .
ومن أحرم وأطلق :
صح .
وصرفه لما شاء .
وما عمل قبل : فلغو .
لكن السنة لمن أراد نسكاً :
أن يعينه .
وأن يشترط ، فيقول : اللهم إني أريد النسك الفلاني ، فيسره لي ، وتقبله مني ، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني .
قال المصنف يرحمه الله [ ومن أحرم وأطلق : صح ، وصرفه لما يشاء ، وما عمل قبل : فلغو ] .
قوله : [ ومن أحرم ] . يعني بالنسك .
[ وأطلق ] : يعني لم يعين نسك حجٍ ولا عمرة ، فلم يعين تمتعاً ، ولا قِراناً ولا إفراداً . قوله [ صح ] : أي صح نسكه عند انعقاده .
قوله : [ وصرفه لما شاء ] .أي جاز له أن يصرف نسكه إلى ما شاءه من الإنساك الثلاثة ، فيسوغ أن يكون متمتعاً أو قارناً ، أو مفراداً .
قوله : [ وما عمل قبله : فلغو ] :(2/47)
أي ما عمله قبل تعين النسك من الإعمال من تلبية ، لم يعين فيها شيء ، أو غير ذلك من السنن فإنه يكون لغو ، لغوٌ من حيث النظر إليه في تحديد النسك ، لا لغوٌ من حيث عدم الأجر عليه ، ودليل ذلك هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الأعمال بالنيات ) وقد نوى من أطلق نية النسك فصح نسكه ، وأما التعين حيث كان متأخراً ، فإنه يجوز تأخير التعين ، بدليل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصاحبه أن يتحللوا من العمرة ليتمتعوا بحج . فكان التعين للنسك هنا متأخراً فجاز في الإنساك الأخرى .
قوله : [ لكن السنة لم أراد نسكاً : أن يعينه ، وأن يشترط ….]
فيه شيئان :
الأول : أن السنة هو تعين النسك ، لا أن يُحرم الإنسان إحراماً مطلقاً . وكون ذلك سنة هو الذي دلت عليه الدلائل ، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عُمُراً أربع وحج حجةً واحدة ، وعيّنَ فيها نُسكه . وجاء عند مسلم من حديث جابر ، ومن حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فقال له : (إن الله يأمرك أن تقول لبيك حَجَاً وعمرة ) .
وأما الثاني : فهو الاشتراط في النسك ، والاشتراط في النسك معناه : أن يشترط العبد على ربه أنه إذا حبسه حابسٌ فله أن يتحلل من النسك . وفيه عبارتان للفقهاء :
أما الأولى : فهو أن يُقال : ( فمحلي حيث حبستني ) ، والمعنى أي في المكان الذي وقع لي الحبس جاز لي التحلل ، ويقع عند الحبس .
وأما الثاني : فقولهم : ( فلي أن أتحلل ) وفيه التخيير من العبد بالتحلل ؛ إذ إن العبد اشترط على الله أن يكون هو مُخيراً في التحلل ، لا أن يقع التحلل منذ وجود الحبس، ففرق بين العبارتين ، والأولى
هي التي جاءت في حديث ضُباعة بنتِ الزبير وقد أخرجه مسلم في [ صحيحه ] من حديث عائشة(2/48)
ـ رضي الله عنها ـ حيث شكت ضُباعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجَعَهَا فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : (اشترطي على ربك) ثم ذكر لها ما قاله المصنف ـ يرحمه الله ـ : (وإن حبسني حابسٌ فمحلي حيث حبستني) .
ودليل السنة عند المذهب دليلان :
أما الأول : فالخبر ، وهو حديث ضُباعة حيث أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاشتراط ، ولا يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بما فيه خيرٌ وأقله الاستحباب .
وأما الثاني : فهو عدم دِراية العبد بما قد يُلاقيه في مستقبله بعد إراد النُسك ؛ فقد يُحبس عن إتمامه ؛ وقد يواجهه عدو ؛ ونحو ذلك . فيكون حينئذ المتعين استحباباً في حقه أن يشترط ؛ وكذلك حتى يَخرج من الدم الذي قد يقع عليه لو لم يشترط ، والقول بِسُنية الاشتراط مُطلقاً هو المذهب ، كما قاله المجد
أبو البركات في [ المحرر ] وجزم به جمهور فقهاء المذهب كما قاله المرداوي في [ الإنصاف ] ، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في [ المنسك ] وغيره أن الاشتراط لا يكون مُستحباً إلا لمن كان شاكياً
أو متخوف من حابس يحسبه ودل على ذلك دليلان :
أما الأول : فهو حديث ضُباعة السابق ، حيث أنها كانت وَجِعَة شاكِية ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاشتراط . فإذا قيس عليها غيرها كان على وفق حالها ، حتى يكون القياس صحيحاً وإلا كان مع الفارق .
وأما الثاني : فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر عُمُراً أربع ، وحج حجةً ؛ ولم يَشترط على ربه - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولم يأمر الصحابة بالاشتراط أمراً عاماً ؛ ولم يكن هدياً للصحابة هدياً عاماً . قاله شيخ الإسلام في [المنسك] فيدل ذلك على أن الاشتراط يكون في تلك الحالة .
مثال الحالة الأولى : وهي كون الشخص شاكياً وجعاً ، هو أن يكون قد اعتصب بخرقة في جُرحٍ يخشى أن ينفجرَ عليه مرةً أخرى فيحبسه ، فله حينئذ أن يشترط .(2/49)
ومثال الحالة الثاني : وهي حالة التخوف ، هو أنه يخشى من عدوٍ غَلبَ على ظنهِ أنه يُطارده من بلده ، فله أن يشترط .
باب محظورات الإحرام
وهي سبعة أشياء :
أحدها : تعمد لبس المخيط : على الرجل ، حتى الخفين .
الثاني : تعمد :
تغطية الرأس : من الرجل ، ولو بطين ، أو استظلال بِمَحمَل .
وتغطية الوجه من الأنثى ، لكن : تسدل على وجهها للحاجة .
الثالث : قصد :
شم الطيب .
ومس ما يعلق .
واستعماله في أكل أو شرب : بحيث يظهر طعمه أو ريحه :
فمن لبس ، أو تطيب ، أو غطى رأسه :
ناسياً ، أو جاهلاً ، أو مكرهاً : فلا شيء عليه .
ومتى زال عذره : أزاله في الحال ، وإلا فدى .
يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى : [ باب محظورات الإحرام …… إلخ]
قوله : ( باب محظورات الإحرام ) .
يعني ما حَظرُ على المكلف ؛ لأجل دخوله في الإحرام وهو النُسك سواء أكان حجاً أم عمرة . والمحرِم بحج وعمرة ثَمَّ محظورات تتعلق به وهي نوعان :
أولاً : محظورات تتعلق بالإحرام ، وهو ما أراده المصنف يرحمه الله .
وأما الثاني : فمحظورات تتعلق بالحَرَم ، وسيأتي شيء منها إن شاء الله .
قوله : [ وهي سبعة أشياء ]
لفقهاء المذهب تعبيران في محذورات الإحرام :
أما الأول : وهو ما درج عليه جمهورهم ، وأكثرهم من قولهم : "وهي تسعة أشياء" .
وأما الثاني : وعليه المصنف وجماعة فقولهم : "وهي سبعة أشياء" .
والخلاف لفظي ، إذ منهم من أدرج الإثنين الزائدين على السبعة ضمن بعض السبعة . وإلاّ فالجميع ذكر سبعةً أو تسعة . والحصر هنا حصر استقرائي ، حيث استقراء الفقهاء ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، في باب محذورات الإحرام فوجدوا أنه لا يجاوز هذا العَدَّ إما سبعة ، أو تسعة .
قوله : [ أحدها : تَعمُّد لُبس المَخِيط على الرجل حتى الخُفين ](2/50)
فيه ذكر لأول محاذير الإحرام وهو : لِبس المخيط . والمخيط مأخوذ من خاط الشيء ، يخيطُهُ خياطةً . اسم المفعول منه : مَخِيْط . وجَعْلُ المخيط من محذورات الإحرام ، بهذا اللفظ لم يكن دارجاً عند السلف . قِيل إن أول من استعمله : إبراهيم النَّخَعِي ـ يرحمه الله ـ ثم درج الفقهاء من بعده عليه. وتحاشاه جمع من الفقهاء لما في لفظ المخيط من الإبهام والإيهام .
فأما الإبهام : فهو الإجمال .
وأما الإيهام : فلأنه يوهمُ غير المقصود عند الشارع ، كتحريم كل ما فيه خيط ، وهذا ليس مقصوداً .
وعلى كلٍ فالفقهاء يذكرون هذا المحذورَ بلفظ المخيط . ويُقصد بالمخيط كُلُ ما فُصِّل على الجسم ، أو على عضوٍ منه . ففيه قيدان :
أما القيد الأول : فهو أن يكون مُفصلاً . وحقيقةُ التفصيل هو أن يكون على عضوٍ أو على الجسم .
فالتفصيل نوعان ، وهو القيد الثاني : من كونه على عضو ، أو على جسم .
والتفصيل يُقصد به حقيقةً ما لُبِس على عضو أو على الجسم كله .
مثال ما يُلبس على الجسم : القميص ، والثوب ، والمِشْلح ، والعباءة ، والكوت ، ونحو ذلك .
ومثال ما يلبس على بعض الجسم : الجَوْرَب ، الشُّرَّاب ، الخُفَّان ، القُفَّازان ، العِمامة ، الطّاقِية : المسماه بالقُلُنسُوة ونحو ذلك .
ويَخرجُ بهذين القيدين السابقين : قيد التفصيل ، وقيد كونه على الجسم كله ، كثوب أو على عضو منه كالقفاز أو الشُّراب .
يَخْرُج أشياء :
أولها : ما لم يكن مَفصلاً على الجسم أو عضو منه : كإزارٍ ، ورداءٍ ، ونحوهما .
ثم إن التفصيل على الجسم أو عضو منه ، له وسائل : قد يكون بالخيط ، وقد يكون بالنَّسْج ، وقد يكون باللَّصق ، وقد يكون بالأَزْرَار ، ونحو ذلك .
فلو أن رجلاً أخذ رداءً ثم وضع له أزِرَّة على يديه بحيث أصبح له كُمَّاً ، ثم وضع أزِرَّة من جانبيه حتى أصبح شبيهاً بالكوت . فإن هذا تفصيل وهو مُحَّرم ولا يجوز .(2/51)
كذلك قُل في الإزار عندما يوضع عليه مِشبك ، حتى يكون مفصلاً كهيئة السِروال من بين الفخذين يوضع مشبك إلى آخره ، أو نحو ذلك . هذا أيضاً داخل فيما سبق ؛ لأنه أصبح مُفصلاً على الجسم . أصبح كالملبوس يُخلع ويُلبس كالسروال . فهذا هو معنى المخيط عند الفقهاء ـ يرحمهم الله ـ .
قول المصنف : [ على الرّجُل ]
هو قيد يُخرج المرأة . إذ إنه يجوز للمرأة أن تلبس المخيط سِوى شيئين .
أما الأول : فالنقاب .
وأما الثاني : فالقُفازان .
قوله : [ حتى الخُفَّين ] :
(حتى) يسميها فقهاء المذهب بحتى المشيرة إلى الخلاف . أي الفقهاء قد اختلفوا في لُبس الخفين . إلاّ أن المذهب أن تعَمُّد لبس المخيط ، كما خيط على القدمين المُسمى بالخُف ، فإنه داخل في المحذورية . والخُفان : سبق تعريفهما في الطهارة .
وحاصل هذا المحذور يرجع إلى شيئين :
أما الأول : فما يَرجعُ إلى الرُجل . وضابطه تحريمُ كُلِ مخيط : وهو المفصل على الجسم كله أو على عضو منه .
ودليل تحريمه شيئان :
أما الأول : فالنص ، والأحاديث في ذلك مستفيضة . ومنها ما أخرجه البخاري في [صحيحه] من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل : ما الذي يلبسه المُحرم ، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - : (لا يَلبس القميص ، ولا العمائم ، ولا البَراَنُس ، ولا الخفين ، ولا السراويلات) والحديث عند مسلم أيضاً . وفيه دلالة واضحة على النهي عن المخيط . ووجه ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُوتِيَ جوامع الكَلم فذكر النوعين الذَيْن يُلبسان للإشارة إلى غيرهما مما يجمع بينه وبينها جامع المخيط .(2/52)
أما النوع الأول : فما فُصِّل على الجسم كله ، ومثّل له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقميص . فالقميص هو الثوب الذي له فَتحة من فوق يُدْخلُ من خلالها الرأس . تُسمى في اللغة : الجَيب . أي جيب الثوب وهو فتحته . فيَدْخُل غير الثوب كالعباءة والمِشلَح والبرانُس ونحوها . والبرانس : واحدها بُرْنُس : وهو الثوب الذي يَلصقُ فيه شيء فُصَّل على الرأس . ويشبه لِبس المغاربة اليوم ، فيه شيء مفصل على الرأس في نفس الثوب ، يضعه على رأسه . هذا يسمى بالبَرَانُس . البرانُس ـ بضم النون ـ .
وأما النوع الثاني : فما فُصِّلَ على بعض الأعضاء وهي ثلاثة :
الأول : عضو فوق الجسد وهو الرأس . ومثل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعِمَامَة. ويدخل مع العمامة القُلُنْسُوة : وهي كالطّاقية اليوم . وكذا غيرها مما يُفصَّل على الرأس.
وأما الثاني : فوسطُ الجسد . وهما الفخِذان ، ويدخل معهما السُّرَّة ، والساقان . ومثل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسراويلات . والسراويلات واحدها سَراويل وقيل سِرْوال وسِروالة . وهي لفظ فارسي مُعرب ، اختلف اللغويون : هل سراويل جمع أم مفرد ؟ اختار بعضهم أنه جمع مفردة : سِروال أو سِروالة . وجمهور أهل اللغة على أنه مفرد جَمعُه سراويلات . فسراويل مفرد جمعه سراويلات . والسروال : هو لبس مفصل على الفخذين والساقين . يبدأ من السُّرَّة ، قاله في [ النهاية ] .
ويدخل في حكم السراويل ما يُسمى بالتُبّان ـ بضم التاء المُثناة من فوق مع تشديد الباء الموَحَّدة ـ وهو ما يستر السَّوْئتين . ويسمى اليوم بالكلسون .
وأما الثالث : فأسفل الجسد وهما القدمان . وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بالخفين : وهما لِباسُ القدمين .(2/53)
وفي هذا دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر جميع أنواع الألبسة المتعلقة بجميع أنواع الجسد . ليُبين أنها داخلة في باب التفصيل . في نوع التفصيل المسمى بالمخيط عند الفقهاء .
ولذلك جرى إجماع الفقهاء على تحريم لُبس المخيط المفصل على الجسم كله ، أو عضو منه .
وهذا هو الدليل الثاني : هو دليل الإجماع . وقد حكاه جماعة ، ومنهم ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في [ شرح العمدة] وكذا المَرْداوي ـ يرحمه الله ـ في كتاب [الإنصاف] .
وها هنا تنبيهات :
أولها : هو ما يتعلق بربط الإزار ، بعقد ، أو هِمْيَان ، أو ما يُسمى اليوم بالسُّبتِيةَّ ، أو نحو ذلك المذهب: أن الحال الذي يكون معه ربط الإزار حالان :
أما الحال الأول : فهو أن يتوجب عليه ربط الإزار ؛ خشية أن يسقط عليه . فحينئذ لا كراهة في ذلك فيلزمُهُ أن يفعله .
أما الحال الثانية : فألا يكون خاشياً سقوط إزاره ، فلا يخلو من حالتين :
أما الحالة الأول : فهو أن يكون معه نفقة يريد أن يضعها في سُبْتِيَّة ، أو في مَرْبَط في إزاره أو نحو ذلك ، فهذا جمهور فقهاء المذهب على جوازه .
ويدل على ذلك ما أخرجه القاضي أبو يعلى في كتاب [ التَّعْلِيْق ] عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "أمسك عليك نفقتك وأثبِتْها" . فأخذوا من ذلك أنه يجوز أن يُثبتها في إزاره ولو بِمرَبط أو بِسُبتِيَّة ، أو بِهِمْيان أو نحو ذلك .
وأما الحالة الثانية : فهو ألا يكون معه نفقةٌ يحتاج أن يضعها في سُبتية ، أو نحو ذلك فالمذهب : منعُ الربط بسَبتية ، أو حبل ، أو نحو ذلك .
واستدلوا على ذلك بدليلين :
أما الدليل الأول : فما أخرجه النسائي ، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : "لا يَثْني إزاره ولا يَعْقِد عليه شيئاً" وفي رواية "يَعْقِد المُحرم شيئاً" . وحُمِلَ ذلك على الإزار ونحوه . وهو ثابت عنه .(2/54)
وأما الثاني : فهو بقياس ما رُبط على ما فُصِّلَ على الجسم ؛ لأنه مُحاكٌ على الجسم أصبح مُفصلاً عليه . وهو وجه نظري .
واختار جماعة من فقهاء المذهب : ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ أنه لاشيء في عقد الإزار ، واستعمال الهِمْيَان ، والسُبتية ونحوها ؛ وذلك لأن الهِميان ، والسُبتية ، والحزام ونحو ذلك ليست في معنى ما فُصِّل على الجسم ، فلا تدخل في المنع. ثم إن ما جاء عن ابن عمر يخالفه ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - من حصره للأشياء الممنوعة عن الرجل بخمسة أشياء . فلو كانت السُبتية ، والهِميان، من الأشياء الممنوعة لَذَكرها النبيُ - صلى الله عليه وسلم - ، فلما لم يذكرها ، مع أن الموقف موقف بيان ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز اتفاقاً ، دل على أن ذلك جائز ، وهي موجودة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ثُم ثَمَّ عَمَلٌ مشى عليه السلف ـ يرحمهم الله ـ وهو عدم الإنكار على من اتخذ هِمياناً ، أو رباطاً ، أو حزاماً ، على حِقْوَيه أو على وسطه . فهذا كله فيه دِلالة واضحة على جواز استعمال المِنْطَقَة أو الهِميان ، أو الحزام على الوسط برباط ، أو حبل ، أو نحو ذلك . والهِميان ـ بكسر الهاء ـ هو لفظ مُعَرب ، ليس بعربي أصلاً ، يُشبه السُّبتية وهو ما يسميه اليوم الناس بالكَمَرْ . والغالب أن الناس يتخذونه ليحفظوا نفقتهم فيه من دراهم ونقود ونحو ذلك . والمِنطقة ـ بكسر الميم مع فَتحِ الطاء وتسكين النون بينهما ـ هو كُلُ ما شُدَّ به الوسط . فيشمل الحبل ، ويشمل ما يُحتزم به من سُبتية ، ونحو ذلك .
وأما التنبيه الثاني : فهو هل يجوزُ أن يُشَبِكُ المُحرم ، بين طرفي رداءه بمشبك ، أو بزرار، أو نحو ذلك ؟ خلافٌ بين الفقهاء .
اختار شيخ الإسلام جواز ذلك ؛ لأنه ليس مخيطاً لا لغةً ، ولا شرعاً ولا يدخل في الثوب الممنوع لبسه . كالقميص ، والبَرانُس ، ونحوهما . فيبقى على الجواز الأصلي .(2/55)
وأما ما يتعلق بالخفين حيث ذكرهما المصنف ـ يرحمه الله ـ فالمذهب : أن الخفين لا يُلبسان حال الاختيار . وهذا لا نزاع فيه في المذهب ، قاله في [ الإنصاف ] . وأما في حال الحاجة وعدم وجود النّعل فقولان في المذهب :
الأول : جواز لبس الخفين لكن مع قطعهما ، وهو اختيار جماعة .
وأما الثاني : فهو جواز لبس الخفين دون قطع . وهذا هو المنصوصُ عن الإمام أحمد ، قاله شيخ الإسلام في [ شرح العمدة ] وعليه جمهور الأصحاب قاله في [ الإنصاف ].
ولذلك أدلة ـ أعني جواز لبسهما عند الحاجة دون قطع :
أولها : ما جاء عند مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ) وهو عند البخاري من حديث ابن عباس . وجاء من طريق شُعبة عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك بعرفات. وفيه دلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر قطع الخفين ، مع أنه ذكر قطعهما من حديث ابن عمر ، وكان ذلك في المدينة قبل وقوفه بعرفة . فيكون حديث جابر ، وابن عباس وغيرهما ناسخاً لحديث ابن عمر .
ومن الأوجه أن عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يُفتُون بذلك . ونقله عنهم القاضي أبو يعلى في كتاب [التعليق] وجاءت الفتوى بذلك عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وعائشة
ـ رضي الله عنهم ـ وجماعة . قال شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] : "وهذا الذي عليه عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " .
ومن الأوجه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على ذكر لبس الخفين ، عند عدم وجود النعلين ، دون ذكر قطعهما وهو بعرفات ، وقد جاء إلى عرفات أناسٌ كثيرون من بُلدانٍ مختلفة ، فلو كان قطعهما واجباً متعيناً ، لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتأخير بيان الشيء عن وقت الحاجة لا يجوز اتفاقاً ، فدل على جواز لبس الخفين دون قطع .(2/56)
ومن الأوجه : ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في [شرح العمدة] من أن الخفين إذا ذكر فينصرفان إلى الاستعمال العربي ، والاستعمال الشرعي ، ليس إلاّ . فقوله : (الخفين) تشتمل على (أل) التعريفية الدالة على الخفين المعهودين ، عند من سمع الخطاب ، والخفان المعهودان : هما خفان فوق الكعبين ، غير مقطوعين ، وهذا هو الاستعمال العربي ، ولا يُسمي العربي الخُفُ خُفاً وهي دون الكعبين. وهذا أمر مُشاع معروف .
ومن الأوجه أيضاً : أن يُقال إذا لم يجد المرءُ النعلين ، فإن لِبَسه للخفين مع قطعهما لا فائدة منه؛ وذلك أن الخُفَ لا يقال لها خُفَاً ، وقد قُطعت دون الكعبين فتكون نعلاً . فكان منتقلاً من النعل إلى النعل ولذلك يذكر جمهور الفقهاء أنه لا يجوز المسح عند الطهارة على الخف الذي قد قُطِعَ عن الكعبين؛ قالوا لأنه مثل النعل . فألحقوه بالنعل .
فعندما يقال . " ليقطعهما " فإنه يجوز لبس الخف المقطوعة ، ولو كان عنده نعلان لا فرق بينهما ؛ لأن الخف المقطوع نعل ، وليس بخف فيجوز حينئذ أن يُلبَس . فما الفائدة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فمن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) . وهذه من الأوجه التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في [شرحه على العمدة] .
وها هنا فائدتان :
الأولى : في معنى قول - صلى الله عليه وسلم - : ( فمن لم يجد ) إذ إن عدم وجود الشيء يأخذ صوراً ذكرها الفقهاء :
أولها : ألا تكون موجودةً حقيقة ، فليس في مُلكِه ولا حوله نعلان ، فحينئذ يجوز أن يلبس الخفين .
وأما الثانية : فهو أن يكون النعل موجوداً ، لكنه غيرُ قادرٍ على لبسهما ؛ لمرض في قدميه أو نحو ذلك .
وأما الثالثة : فهو أن يكون النعل موجوداً ؛ لكنه لا يستطيع أن يتملّكه ؛ لقلة النفقة . فليس عنده من النفقة إلا ما يكفي حاجته الأصلية ، فحينئذ يجوز أن يلبس الخفين .(2/57)
أما الصورة الرابعة : وهي مختلف فيها . وهو أن يكون عنده نعل ، لكنه لا يستطيع أن يسير سيراً صحيحاً بالنعل ، فهل يجوز له أن يلبس الخفين ؟ خلاف . المنقول عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها تُفتي بجواز ذلك ، وظاهر كلام شيخ الإسلام في [ المَنْسك ] وفي [ شرحه على العمدة ] يُفيد جواز ذلك لكن الأحوط تَركُه .
وأما الفائدة الثانية : فهي أن الفقهاء مجمعون على جواز لبس جميع أنواع النعل واختلفوا في نوعين :
أما النوع الأول : فهو نعل له سَيْر ، كالذي يُسمّى اليوم بالصَّنْدل ، أو نحو ذلك . فماله سَيْر على ظاهر القدم . هل يجوز لبسه أم لا ؟ قولان : المذهب : جواز ذلك . واختار القاضي أبو يعلى وتبعه آخرون كما حكاه عنهم في [ المغني ] أن فيه فدية ، وأنه لا يجوز ؛ قالوا لأنه مُفَصّلٌ على القدم ، فيكون في حكم المخيط . واختار شيخ الإسلام وجماعة وهو المذهب وعليه الجمهور جواز لبس هذا النعل .
وأما النوع الثاني : فما كان ساتراً لأكثر القدم ، أو لأطراف القدم من نواحيه ، كخف قُطِعَ ليكون دون الكعبين . واختار شيخ الإسلام أن هذا النوع جائز لبسه ؛ لأن الممنوع هو الخف أما غيُره فجائز . ويدخل في غيرِه جميع أجناس النعل . ومن هذا النعل ما يُسمى بالجُمْجُم . ويسمونه اليوم بالمَدَاسْ .
وأما ما يتعلق بالمرأة : فيَحْرُم عليها شيئان في باب المخيط :(2/58)
أما الأول : فهو النقاب . والنقاب اسم لثوب فُصِّل على الوجه تُرى العين منه أو العينان . ويُلحق به البُرْقُع .إلا أن البُرقع يُستعمل في الغالب للتجميل ، خلافاً للنقاب فللحاجة . ومعنى الحاجة : هو أن المرأة تحتاج إلى النظر في الطريق . فتُخرج عيناً أو عينين ، خصوصاً إذا غطّت وجهها بقماش ثقيل لا تَرى من وراءه . وهذا الذي عليه كثير من السلف . وقد جاء عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها طافت حول الكعبة وهي منتقبة لكن لم تكن مُحرمة . والطواف عِبادة وهذا ثابت عنها كما عند ابن أبي شيبة في [ مصنفه ] وكذا غيره .
وأما النوع الثاني : فالقُفاز . والقفاز : اسمٌ للباس فُصِّلَ على اليدين ، في أعلاه زِرار أو نحوه ، يُثَبّتُ على الساعدِ من خلاله . والغالب أنه يُحْشى قُطناً لتستددفء المرأة به أو نحوها كَرَجُل . وقد يكون خفيفاً . إلا أن البَعْلي في [ المُطْلِعْ ] عَرَّف القُفاز بقوله : "القُفّاز ـ مٌشدداً ـ هو اسم لما يُفصّلُ على اليدين ، ويُحشى قُطناً في أعلاه زِار أو نحو يُثبت من خلاله على الساعد " .
وإنما حَرُم على المرأة النقاب والقُفاز لدليلين :
أما الدليل الأول : فما جاء في حديث ابن عمر عند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ولا تنتقب المرأةُ المحرمة ولا تلبس القفازين ) .
وأما الثاني : فالإجماع المحكي . وقد حكاه شيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] وكذا جماعة .
وينبغي أن يُعلم أن المرأة يجبُ عليها أن تُغطي وجهها ، ولو كانت مُحرمةً ، في أصح أقوال أهل العلم إذا مَرّ بها الأجانب من الرجال . لِما أخرجه أحمد في [ مسنده ] من حديث عائشة
ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "كان الرُكبانُ إذا مَرَّوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزوا كشفت". وكان ذلك في إحرامهن . والحديث أخرجه الحاكم وصححه ، ووافقه عليه الذهبي .(2/59)
وكذلك ينبغي أن يُعلم أن المرأة لو أخذت نحو القُفاز ، وإن لم يكن مُسماً بالقفاز ، لكنه من جنس ما يُفصّل على اليدين ، فإنه يأخذ حكمه ، وهو المنع .
وها هنا فائدة تتعلق بالمحذور الأول وهو المخيط وهو أن يُلبَس على وجههِ المعتاد ، أما إذا حُمِلَ حملاً فإنه ليس محذوراً .
مثال ذلك : رجل وضع السروال رداءً عليه ، أي حمله على عاتقيه رداءً ، ووضع القميص معروضاً على وسطه ، على رجليه إلى ساقيه . فإن هذا لا شيء فيه . لماذا ؟ لأنه ليس مُفصلاً على الجسم . هذا ملتحف به ليس مفصلاً يعني كونه يأخذ الثوب ويعرضه عليه ، هذا غير مفصل . كونه أيضاً يأخذ الشماغ ويضعه على عاتقيه ، هذا ليس مفصلاً ، وهكذا قل في الأمثلة كلها .
يقول المصنف رحمه الله تعالى : [ الثاني : تعمد تغطية الرأس من الرجل …….. للحاجة ]
الجملة السابقة من كلام المصنف يرحمه الله فيها ذكرٌ لمسائل :
أولها : تغطية رأس الرجل : وتغطية رأس الرجل من محظورات الإحرام وذلك لدليلين :
أما الدليل الأول : فالخبر وسبق طرفٌ منه ؛ إذ إنه داخلٌ في جنس المخيط ، ومن المخيط : العمائم ، ولبوسٌ للرأس يُسمى البرانس لاصقٌ بها ، وقد جاء في [الصحيحين] من حديث ابن عمر وغيره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (نهى المُحرم أن يلبس العمائم والبرانس) . ومن الأدلة ما جاء في [الصحيحين] في حديث الرجل الذي وقصته ناقته فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه : (ولا تخمروا رأسه) ثم قال : (فإنه يُبعَث يوم القيامة محرماً) فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علة النهي عن التخمير للرأس ، وتخمير الرأس تغطيته ؛ وعلة ذلك هو أنه لا يزال محرماً أعنى من وقصته ناقته فمات .(2/60)
أما الثاني : فدليل الإجماع ، حيث أجمع الفقهاء على أن تغطية الرجل لرأسه من محظورات الإحرام ، وهو داخلٌ في المخيط ، وسبقت حكاية الإجماع في المخيط . وممن حكى الإجماع تقي الدين ابن تيمية كما في [شرحه على العمدة] ، وكذا صاحب [الإنصاف] وجماعة .
وليُعلم أن تغطية الرأس تأتي على جهات :
الجهة الأولى : فتغطية الرأس بشيءٍ فُصِّل عليه :
مثاله : العمامة ، والقلنسوة الشبيه بالطاقية ونحوهما . وهذا من محظورات الإحرام إجماعاً ؛ لأنه مخيط وسبق .
الجهة الثانية : فهو أن يُغطى الرأس بملاصق ؛ كخرقةٍ تُلاصق الرأس توضع عليه ونحو ذلك وهذا كالمخيط في الحكم ، ويدل على حرمته قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن وقصه الناقة : (ولا تخمر رأسه) والتخمير : التغطية فيشمل الحالة السابقة .
الجهة الثالثة : هو أن تكون التغطية بغير ملاصق ؛ ولكنه محمولٌ مع الإنسان . مثاله : الهودج : وهو اسمٌ لشيءٍ يُوضع على الناقة أو الجمل ؛ له ساترٌ من فوق الرأس يُغطيه من الشمس ومن الأمثلة : الشمسية .
وهذه الجهة مختلف فيها في المذهب وغيره ، والصحيح في المذهب والذي عليه أكثرهم قاله في [ الإنصاف ] وفي [ الفروع ] هو حرمة استعمال ذلك ، وأنه من محظورات الإحرام وللمذهب في ذلك أدله :
أولها : قياسه على تغطية الرأس بشيءٍ فُصِّل عليه كالعمائم ، أو لاصقه على ما سبق ، والقياس هنا مقارب .
والثاني : أن البيهقي أخرج في [ سننه ] من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ما من عبد محرم يُضحي ـ يعني لا يضع فوق رأسه شيئاً يحميه من الشمس ، والإضحاء ـ هو البروز للشمس ـ فيبقى على ذلك حتى تضرب الشمس إلا خرج من يومه كما ولدته أمه) إلا أن الحديث ، قال عن البوصيري : إسناده ضعيف .
ثالثها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يكونوا ليضعوا شيئاً فوق رؤوسهم يمشي معهم ، كهودج ونحوه على ما سبق .(2/61)
قال شيخ الإسلام في [ شرح العمدة ] : وهذا مشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن صحبه لا خلاف في ذلك .
والرابع : استفاضت الروايات عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان نهى عن الهودج ونحوه ويأمر بالإضحاء ـ وهو البروز للشمس ـ ويقول : (إبْرِزْ لربك وأنت محرم) . وفي رواية : (أضْحي لربك وأنت محرم) . ومن ذلك ما أخرجه البيهقي في [السنن] عن نافع عن ابن عمر أنه رأى رجلاً قد وضع فوق رأسه مثل الهودج ، فوق ناقته ، فقال له : (أضحي لربك فإنك محرم) والأثر ، قال عنه الساعاتي في [ الفتح ] : إسناده صحيح . وفتوى ابن عمر بذلك مستفيضة ثابتة ، أثبتها عنه لموفق في [المغني] وابن تميمة في [ المنسك ] وجماعة .
قال شيخ الإسلام في [ شرح العمدة ] : وابن عمر مِنْ أتْبَعِ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يُفتي بذلك ويأمر في مواضع كثيرة ولم يُنكِر عليه أحد . فدل على أن الأمر لا خلاف فيه .
واختار الموفق في [المغني] : أن الأمر في ذلك على الكراهة لا على التحريم فيُكره للمحرم ، أن يضع فوق رأسه نحو غطاء هودج وهو على نَاقَةٍ تسير به ، أو أن يأخذ شمسية ، للأدلة السابقة .
قال شيخ الإسلام في [ المنسك ] : الذي كان عليه السلف هو عدم استعمال ذلك يعني نحو الهودج والشمسية ـ وكان يُفتي به ابن عمر ولم يُخالف في ذلك ـ فينبغي عدم فعله .
قال ابن سعدي في [ الفتاوي ] : الأحوط للمحرم ألا يفعل ذلك ؛ لفتوى ابن عمر ؛ وتوافر الأدلة .
وليُعلم أن المَرْكَبْ المُسمَّى اليوم بالسيارة ؛ مقيسٌ على الهودج ، ومقيس على الشمسية أيضاً ، بجامع أنها تسير معك وأنت فيها .
وذهب جماعة من الفقهاء ، إلى أن الأمر في ذلك على الإباحة ولاشيء فيه واستدلوا على ذلك بأدلة :(2/62)
أولها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه أنه أمر الناس بعدم التغطي ؛ بنحو هودج ونحوه ؛ مع كثرة الناس ، وقيام الحاجة ، ولم يحج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حجة واحدة ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ؛ فدل على الإباحة وهي قاعدة سبقت مراراً .
ثانيها : ما ثبت عند مسلم : "أن أسامة كان يضع الثوب فوق رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - يُغطيه من الشمس" . وفيه دلالة على جواز جنس التغطية فيُلحق به ما مشى مع صاحبه من تغطيةٍ كهودج ونحوه .
ثالثها : ما جاء في حديث جابر عند مسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضُرِبت له قُبْة بِنَمرَة، فدخلها وبقي فيها حتى جاء الزوال) فيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل في محلٍ غُطِي عن الشمس . فَيُلحق به ما سار مع الراكب .
وأورد على الأدلة السابقة : أن القياس فيها مع الفارق ؛ لأن المسألة تتعلق بالتغطية التي تُصاحْب الراكب ؛ أو يمشي معه وهو يمشي ، كشمسية أو هودج .
أما تغطية أسامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فكان واقفاً وكان أسامة ليس سائراً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك يُقال في حديث جابر عند مسلم .
وأمَّا الدليل الأول : (وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَقُلُه) . فيُقال : قاله بعض أصحابه ولا يُعلم لهم مخالف ، فلو كان هناك مخالف لذُكِر فدل على أن الأمر منقول عن النبي- صلى الله عليه وسلم - .
الجهة الرابعة : أن يدخل الإنسان بيتاً ، أو أن يدخل خيمةً أو نحو ذلك .
فالمذهب والذي عليه الأكثر كما قاله في [ الفروع ] وفي [ الإنصاف ] : هو جواز دخول البيوت من أبوابها ، والبقاء في الخيام ونحو ذلك . بل حَكى تقي الدين ابن تيمية وابن القيم رحمها الله : "اتفاق الأئمة على ذلك" . ومما يدل على جواز ذلك أدلة منها :(2/63)
ما أخرجه الإمام أحمد في [ مسنده ] عن البراء أنه قال : "كانوا في الجاهلية لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم في نسك" ـ يعني وهم محرمون ـ حتى لا تتغطى رؤوسهم بشيء ، وكانوا يدخلون من أظهر البيوت ؛ فأنزل الله عز وجل قوله { وأتوا البيوت من أبوابها } . والأثر أصله عند البخاري في [صحيحه] من حديث البراء .
وفيه دلالة على جواز دخول البيوت ولو كان هناك تغطية ، وأن هذا من فعل أهل الجاهلية الذي أنكره الله عليهم .
ومن الأدلة : ما جاء في حديث جابر عند مسلم : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضُربت له خيمة بنمرة فدخلها" ووجه الدلالة فيه ظاهر .
ومن الأدلة : ما جاء في [ صحيح مسلم ] : "أن أسامة غطى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشمس بثوب" ودلالته كدلالة حديث جابر .
هذا دلالة واضحة على ما سبق .
ثم يقال : إن دخول البيوت والتغطي بها ، لا يُقصد به أصالةً الاستظلال ؛ وإنما المقصود به أصالة هو جمع حاجيات الناس في محل يأتون إليه ، قاله القاضي أبو يعلى في [التعليق] .
الجهة الخامسة : هي تغطية الرأس بشيءٍ يُحمل عليه ، كصفيحة فيها أكل أو غير ذلك .
فالمذهب والذي عليه الأكثر : جوازه . ولذلك علتان :
العلة الأولى : هو أن المقصود من حمل الشيء نقله ، لا تغطية الرأس به . قاله ابن عقيل .
العلة الثانية : ما قاله القاضي أبو يعلى في [التعليق] : إذ إن المقصود هو الانتقال بالشيء المحمول لا استدامة المحمول على الرأس . فيكون حينئِذٍ كحكم يد وضعها صاحبُها على رأسه يحك بها رأسه أو نحو ذلك .
وهما علتان واضحتا الحجية واكتفى بعض الأصحاب ، بما قاله ابن عقيل .
قوله : [ من الرجل ]
لتخرج المرأة ، فالمرأة يجب عليها أن تُغطي رأسها . والإجماع قد انعقد على ذلك حكاه الموفق في [المغني] والنووي في [المجموع] وجماعة .
قوله : [ ولو بطين ] .(2/64)
يعني لو غطى (المحرم) الرجل رأسه بطين ، فإن ذلك محظور عليه ؛ لأنه في حكم الخرقة عندما توضع على الرأس ، يغطي بها المرء رأسه . فالطين له ثخانة وجرم إذا وضع على الرأس منع وصول الشمس إلى جلد الرأس وهكذا .
وفي قوله : [ ولو ] .
إشارة إلى الخلاف في التغطية بالطين ؛ حيث إن الأصحاب قد اختلفوا إلاّ أن المذهب والذي عليه جمهور الأصحاب كما قاله في [ الإنصاف ] : هو ما ذكره المصنف من محظورية تغطية الرجل رأسه بالطين ؛ وعلة ذلك كما سبق قياسه على جنس التغطية بخرقةِ ونحوها ؛ لأن الطين له ثخانة توجب عدم وصول الشمس إلى الجلد ونحو ذلك فيأخذ حكم المنع .
وهل يدخل في حكم الطين بعض الدهون المستعملة أو الصمغ الخفيف عندما يوضع على الرأس أو نحو ذلك قولان في المذهب :
ـ الصحيح في المذهب والذي عليه الجمهور : هو جواز وضع تلك الأدهنة ما لم يكن فيها طيب ؛ وذلك لما جاء في الصحيح : (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم ورأسه مُلبد) وتلبيد الرأس ؛ وضع شيء عليه كنحو دهن لُبِّدبه الرأس ، وأصل التلبيد ؛ إبقاء شعر الرأس ثابتاً لا ينشعث ، أي لا ينتشر .
قوله : [ أو استظلال بمحمل ] .
المحمل فيه ضبطان :
أما الأول : فهو بكسر الميم وتسكين الحاء المهملة وفتح الميم الثانية ؛ قاله : ابن مالك وجماعة .
وأما الثاني : "فمَحْمِل" كـ "مَجْلِس" بفتح الميم الأولى وتسكين الحاء المهملة وكسر الميم الثانية. قاله الجوهري وجماعة .
والمحمل : اسم الشيء يوضع على الناقة ونحوها ، كنحو الهودج ، فله سقف يمنع من الشمس .
وفي قول المصنف : [ أو استظلال بمحمل ] .
دلالة عل أن المحمل والهودج ونحوهما ، مما يسير مع المحرم ماشياً أو راكباً أنه من محظورات الإحرام . وسبق حكاية الخلاف وأدلته .
المسألة الثانية : تغطية الوجه من الأنثى .(2/65)
ـ المذهب وقال في [ الإنصاف ] : بلا نزاع هو أن المرأة المحرمة إحرامها في وجهها فلا يجوز لها أن تُغطي وجهها إلا لحاجة . ويدل على ذلك دليلان :
أمَّا الدليل الأول : فيما يُروى مرفوعاً : (إحرام المرأة في وجهها) .
وأمَّا الثاني : فالإجماع المحكي ، فقد حكاه الموفق في [ المغني ] وعبارته فيه : "لا نعلم فيه خلافاً". وقال في [ الإنصاف ] : "بلا نزاع" .
وأشار إلى الإجماع فيه النووي كما في [ المجموع ] .
واختار شيخ الإسلام كما في [ المنسك ] وغيره : أن المرأة المحرمة المحظور عليها في وجهها شيئان :
أمَّا الأول : فهو النقاب .
أمَّا الثاني : فهو البُرقع .
وسبق التعريف بهما ، والتدليل على محظوريتهما على المرأة .
وأما محظورية تغطية الوجه مطلقاً فليس بصحيح ؛ ويدل على عدم صحته أدلة:
منها حديث عائشة وسبق .
ومنها ما أخرجه الحاكم في [مستدركه] وصححه ووافقه عليه الذهبي ، أن فاطمة بنت المنذر قالت : (كنا نُغطي وجوهنا ونحن محرمات ومعنا أسماء بنت أبي بكر) .
وأمَّا ما يُروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إحرام المرأة في وجهها) . فلا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال تقي الدين ابن تيمية في [ المنسك ] : أما "إحرام المرأة في وجهها . فلا يصح رفعه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - ولاعن أحد من أصحابه ؛ وإنما هو من قول بعض الفقهاء" .
قوله : [ لكن تُسدل ]
الإسدال مختلف فيه في المذهب على قولين :
أمَّا الأول : وهو المنصوص عن أحمد ، فهو كون الشيء الذي تُغطي به وجهها، يكون من جهة رأسها من فوق إلى صدرها ، لا من تحت .
وأمَّا الثاني : فهو أن تُغطيها بدون أن تمس البشرة . قاله أبو يعلى في [التعليق] وقال : "وإذا مس البشرة فعليا الفدية" .
إلى أن تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ قال : "إذا أُسدل الخمار على الوجه المعتاد ، أن يمس البشرة ، وعليه العمل دون نكير والقول بالفدية لا دليل عليه".(2/66)
قوله : [ للحاجة ] .
مختلف في معناها في المذهب وغيره .
والصحيح أن من الحاجات خشية رؤية الرجال الأجانب للمرأة ، كما في حديث عائشة ، أن الركب من الرجال إذا مروا عليهن ؛ أَسْدَلت إحداهُن جلبابها على وجهها.
ومن الحاجات باتفاق المرض ، فإذا كان في وجه المرأة مرضٌ ، تخشى أن يزداد أو نحو ذلك ؛ بكشف الوجه فإنها تُغطي وجهها ، لكن بغير بُرقع ولا نقاب .
المسألة الثالثة : تتعلق بتغطية الرجل لوجهه .
المذهب والذي عليه الأكثر قاله في [الفروع] وفي [الإنصاف] : هو جواز تغطية الرجل لوجهه حال كونه محرماً ، وسبق حد الوجه في الطهارة . ودليل ذلك : عدم الدليل الموجب للمحظورية .
وفي المسألة ثلاث روايات عن الإمام أحمد ، حكاها أبو يعلى الفراء في كتابه [التعليق] وذكرها أيضاً شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] .
واختار جماعة من الفقهاء أن تغطية الرجل لوجهه من محظورات الإحرام واستدلوا على ذلك بدليلين :
أمَّا الدليل الأول : فحديث الذي وقصته ناقته ، حيث جاءت الرواية فيه عند مسلم : (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) فزيادة الوجه ثابتة ، وقد تكلم في شذوذها جماعة من المحدثين والفقهاء ، لكن الصحيح ثبوتها .
وأمَّا الدليل الثاني : فهو القياس ، حيث قيس الوجه على الرأس بجامع المجاورة ، والقياس فيه ضعف ؛ لأن علة المجاورة ضعيفة عند الأصولين ، والقول بأن تغطية الوجه من محظورات الإحرام هو مذهب الحنفية . كما قاله الكاساني في [بدائع الصنائع] وكذا غيره وهو مذهب المالكية كما جاء ذلك في [ المدونة ] وفي [ الكافي ] لابن عبد البر .
المسألة الرابعة : هل يجوز تغطية الأذنين أم لا للرجل المحرم ؟(2/67)
المذهب والذي عليه الأكثر قاله في [الإنصاف] : هو محظورية تغطية الأذنين ؛ وذلك لأن الأذنين من الرأس ، فقد أخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (الأذنان من الرأس) صححه ابن القطان ، والنووي ، وقواه الحافظ ابن حجر ، وسبق في الطهارة . ومن ثم يدخل الأذنان في الرأس وكذلك المحل الذي فوق الأذنين فيكون آخر العنق المُسمَّى لغةً : بالسالف . من جهة الأذن فما فوق نحو الرأس ، وكذلك البياض الذي فوق الأذنين كله من الرأس مع الأذنين ، فلا يجوز أن يُغطى بشيء .
قال شيخ الإسلام : "تغطية بعض الرأس كتغطية جميع الرأس" .
ومن ثَّم لو غطى المرء أُذناً كتغطية الرأس كله فيقع المحظور ويجب الفدية .
قال المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ الثالث : قصد شم الطيب …..أو ريحة ] .
قوله : [ الطيب ] .
اسمٌ لكل ما يُتطيب به ؛ ويكون ذا رائحة طيبة ؛ ولطيابة رائحته سُمَّي طيباً ، فيشمل ذلك قليل الطيب وكثيره ، وزكي الرائحة منه وخفيها .
قوله : [ ومس ما يعلق ] .
يعني مس نوعٌ من أنواع الطيب يعلق باليد .
مثاله : الطيب السائل كالمسك ؛ فإن الإنسان إذا وضع على يده علق بها . وأماَّ الطيب الغير السائل الذي لا يعلق .
فمثاله : الجامد من أنواع الطيب ، كالجامد من الكافور ، والنّدِ الذي يُبخر به ونحو ذلك . فهذه لا تعلق باليد سواءٌ ألمِست أم لا .
وفي الجملة السابقة ذكر المصنف ـ يرحمه الله ـ محظوراً من محظورات الإحرام ، وهو استعمال الطيب أو شمه . وقد دل على النهي عن الطيب أدلة ، ترجع إلى الخبر ، والإجماع والنظر .
فأمَّا الخبر : فأحاديث منها ما أخرجه الشيخان في قصة الذي وقصته ناقته أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه فيه : (ولا تُقرِبوه طيباً) أخرجاه . وفي رواية (ولا تُحنطوه) .
ووجه الدلالة من الراوية الأولى واضح ، وأمَّا الثانية ، فالتحنيط يشتمل على الطيب كالكافور ونحوه .(2/68)
ومن الأحاديث ما أخرجه البخاري وغيره ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في ثياب المحرم قوله : (ولا يلبس ما مسه وَرْسٌ أو زعفران) .
والورس ، والزعفران ، من أنواع الطيب ؛ إلا أنها تَصْفَرُ بالثوب إذا مسته .
وأمَّا الثاني : فدليل الإجماع : وقد حكاه غير واحد منهم صاحب [الإنصاف] حيث نقل الإجماع فيه ، وكذا شيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] وكذا جماعة .
وأمَّا الثالث : فالنظر وذلك من أوجه :
منها أن الطيب يُخالف حقيقة النسك ، من الابتعاد عن الرفاهية والابتعاد عن ما يُهيج الغرائز والشهوات ؛ لأن شم الطيب قد يُزكي روح الشهوة عند مُستعمله وعند شامه فيه .
وليُعلم أن الطيب يأتي استعماله على أوجه :
أولها : شمه ، وشمه لا يخلو من إحدى ثلاث حالات :
الأولى : هو التلذذ بشمه تقصداً .
فمنصوص عند أحمد والذي عليه عامة الأصحاب قاله في [ الإنصاف ] هو : أنه من محظورات الإحرام .
وأمَّا الثاني : فهو ألا يتلذذ بشمه ، ولكن يقصده .
مثاله : رجل محرم أراد شراء طيب ؛ فأختبر شيئاً منه بشمه هل هو جيد أم رديء؟
وأمَّا الثالث : فهوا ألا يتقصد شمه ، وألا يتلذذ بذلك .
مثاله : رجل محرم ، مر بأستار الكعبة فشم رائحة الطيب فيه .
والاحتمالان الأخيران مختلف في كونها ناقصين من نواقض الإحرام .
وظاهر عبارة شيخ الإسلام : أن أصول المذهب هو إلحاق الاحتمالين السابقين بالأول ؛ لأن شم الطيب في المذهب ناقض من النواقض مُطلقاً .
واختار جماعة من فقهاء المذهب عدم كون الاحتمالين الأخيرين من محظورات الإحرام ؛ لأن المنهي هو التلذذ تَقَصُداً ، وأمَّا ما يقع شمه عَرَضاً فلا خيار للعبد فيه .
وظاهر الأدلة السابقة في تحريم الطيب يدخل فيها تحريم شمه ؛ لأن النهي عن استعماله مطلقاً يدخل فيه الشم وغيره .
وأمَّا الثاني : فهو استعمال الطيب في البدن والثوب . فهذا له حالان :(2/69)
الأولى : أن يكون قبل الإحرام وقبل الدخول في النسك . فهو جائز ولاشيء فيه وحكاه بعضهم إجماعاً ويدل عليه أدلة :
منها : ما أخرجه الشيخان من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "كأني انظر إلى وبيص الطيب في مفرق رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو محرم" . وعند أحمد : "بعد أيام وهو محرم" .
ومن الأدلة : ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : "كُنا نضع الطيب على رؤوسنا ، فإذا أصابنا العرق سال على وجوهِنا فيراه النبي- صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا عن ذلك" تعني وكنَّ محرمات .
وفي ذينك الخبيرين دلالة واضحة على أن بدء استعمال الطيب قبل عقد نية النسك لا شيء فيه ولو لا استمر أثره وهذا واضح .
وأمَّا الثاني : فهو البدء باستعماله بعد عقد نية النسك . وهذا لا يجوز إجمالاً على ما سبق من أدلة .
فمثال الصورة الأولى : رجلٌ قبل أن يعقد نية النسك تطيب ، بطيب مسك في شعر رأسه ، ثم بعد ذلك عقد نية النسك ، وسار في نسكه ، فلا شيء عليه ، ولو شم رائحة الطيب السابق ، ولو رأى أثره فيه ؛ لخبرين سبقاً .
وأمَّا مثال الصورة الثانية : فهو أن يبدأ العبد بالنسك ؛ وينويه ؛ ويدخل فيه ، ثم بعد ذلك يستعمل شيئاً من أنواع الطيب في ثوبه ، أو بدنه ، وهذا مُحرّم على المُحْرِم ، ولا يجوز .
وينبغي أن يُعلم أن جمعاً من الفقهاء يُفرقون بين وضع الطيب في البدن ، ووضعه في الثوب ، فيجوزونه في نحو الرأس والإبط واللحية ، خلافاً للثوب فإنهم لا يجوزون تطيبه، وهو قولٌ يتفق مع ظواهر النصوص ؛ لأن الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو استعمال الطيب في بدنه ، لا في ثوبه ، ومن ثم يوضع في المواضع التي لا يصل إليها الرداء عند الإحرام ، كالإبط ، وكشعر الرأس ، وكشعر اللحية ، والشارب ونحو ذلك . وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله .
وأمَّا الثالث : فأكل الطيب وشربه .(2/70)
مثال ذلك : وضع الزعفران في مشروب كقهوة ، ثم شربه بعد عقد نية الإحرام . وهذا من محظورات الإحرام ؛ لأن الزعفران من أنواع الطيب . وكذلك يقال في الأكل لو وضع الزعفران فيه.إلا أن المذهب يشترطون أحد شرطين في الطعام أو الشراب الذي وضع فيه طيب لكي يكون محظوراً على الُمحرم :
أولهما : هو أن يظهر طعم الطيب في المشروب أو المأكول .
مثال ذلك : رجلٌ وضع الزعفران في مشروب ، كقهوة فأحس طعم الزعفران عند شربه لها ، فهذا من محظورات الإحرام .
والثاني : هو أن يظهر ريح الطيب ولو خَفِيَ طعمه .
مثاله : رجلٌ محرمٌ وضع الزغفران في مشروب ، كقهوة فلم يحس بطعمه ولم يرى له ذوقاً ولكنه يشم رائحته ؛ فيكون من محظورات الإحرام .
ويتبين مما سبق أن الطيب ، إذا وضع في مشروب أو مأكول ؛ فظهر لونه وخفي طعمه وريحه ، فإنه ليس من محظورات الإحرام ؛ وذلك لعلة وهي أن المحظور أصالةَ يتعلق بالطيب عند إذكائه للشهوة ، أو كونه من أنواع الترفيه ؛ لأنه يُخالف حقيقة النسك ، ولا يكون ذلك إلا عند ظهور طعمه ، أو عند ظهور ريحه ، إذ إن الطعم يؤثر حينئذٍ فيمن شربه أو أكله ، وكذلك الريح يؤثر فيمن أحس به وشمه ، فيُذكي نفسه ولربما هيَّج شهوته قاله شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] .
وفي قوله ـ يرحمه الله ـ : [ ومس ما يعلق ] .
يعني ما يعلق بالبدن أو يعلق بثياب المحرم ؛ ولا يكون إلا سائلاً في الغالب ، أمَّا الجامد من أنواع الطيب فإنه لا يعلق في الغالب .
قوله : [ فمن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ……فلا شيء عليه ] .
جملة [من لبس أو تطيب أو غطى رأسه] تعود على المحظورات الثلاثة السابقة في الإحرام .
قوله : [ ناسياً أو جاهلاً أو مُكرهاً ] .
هي موانع تمنع كون المحظورات محظوراً ، ومن ثمَّ يوجب الفدية وما إلى ذلك ، وقد دل على أن المكلف معذورٌ حال نسيانه وجهله وإكراهه في المحظورات السابقة إذا كان محرماً أدلة :(2/71)
منها : قول الله ـ عز وجل ـ كما في [صحيح مسلم] من حديث ابن عباس: (قد فعلت) .
جواباً لقوله حكايةً { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ولا ريب أن النسيان والخطأ يدخلان فيما نحن بصدده ومن الخطأ ما يكون بسبب الجهالة .
ومنها : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (وعُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أخرجه ابن ماجه وغيره وحسنه النووي .
وفي الحديث ذكرٌ للخطأ ؛ ومن ضَمْنِهِ الجهالة ، والنسيان ، ولحالة الإكراه .
مثال ذلك : رجلٌ محرم جاوز الميقات فلما دنا من الحرم ـ من المسجد
الحرام ـ غطى رأسه برداءه ناسياً ، فلا شيء عليه ولا فدية عليه .
قول المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ ومتى زال عُذره ] .
الضمير في قوله : (عذره) يعود على الأعذار الثلاثة السابقة :
أولها : الجهل . وثانيها : النسيان . وثالثها : الإكراه .
قوله : [ أزاله في الحال وإلا فدى ] .
أي أزال المحظور الذي وقع بسبب من الأسباب الثلاثة السابقة ، من جهل ، أو نسيان ، أو إكراه، فإنه إذا زال عذره في ذلك ، وجب عليه حينئذٍ أن يُزيل المحظور ولا يبقى عليه .
وهل يدخل في ذلك المرض ؟
قولان : سيأتي ذكرهما في محلهما إن شاء الله .
قوله : [ وإلا فدي ] .
أي وإلا أخرج دمْاً ؛ لعدم إزالته للمحظور عند زوال العذر . وهذا الأمر مجمع عليه عند الفقهاء، كما حكاه الموفق في [ المغني ] والنووي في [ المجموع ] .
ومما يدل على ذلك قصة ذلك الرجل الذي . أتى بثوبٍ قد عصفره بالطين ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن ينزع رداءه المعصفر) . والقصة في الصحيح .
الرابع :
إزالة الشعر من البدن ، ولو من الأنف .
وتقليم الأظفار .
الخامس :
قتل : صيد البر ، الوحشي ، المأكول .
والدِلالة عليه .
والإعانة على قتله .
وإفساد بيضه .
وقتل الجراد والقمل : لا البراغيث ، بل يسن قتل كلِّ مؤذٍ مطلقاً .
قال المصنف يرحمه الله : [ الرابع : إزالة الشعر من البدن ……وتقليم الأظافر ] .(2/72)
في هذه الجملة ذكر مسألتين :
أما الأولى : فهي أن من محظوارت الإحرام إزالة الشعر من أي ناحية من نواحي البدن ، سواءٌ أكان في أعلاه . كشعر الرأس ؛ أم في أدناه كشعر الساقين والعانة ، أم في وسط البدن كشعر الإبط والصدر .
وفي قول المصنف : [ ولو من الأنف ] .
إشارة إلى الخلاف الموجودة في شعر الأنف .
وقد دل على أن إزالة الشعر من البدن ، من محظورات الإحرام أدلة :
أولها : دليل الخبر ، وهو قول الله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وفي الآية نهيٌ عن حلق شعر الرأس ، ما دام أن المحظور قائمٌ قبل التحلل . وينقاس على شعر الرأس ، بقية شعر البدن . إذ القياس في ذلك صحيح ؛ بجامع أن الجميع شعرٌ ثابت على الجسد ، سواءٌ أكان في أعلى الجسد ، أو في وسطه ، أو في أدناه .
وثانيها : دليل الإجماع ، وقد حكى الإجماع في ذلك ابن المنذر في كتابه [الإجماع] والموفق ابن قدامه في [المغني] وجماعة .
وثالثها : دليل النظر : وهو أن إزالة الشعر ونتفه أو حلقه وقصه ، من جنس الترفيه المنهي عنه ؛ لمن دخل في نسك عمرة أو حج ، وهو يخالف كون المحرم أشعث أغبر يباهي الله به الملائكة ، كما جاء ذلك في الصحيح .
وأمَّا الثانية : فمسألة تقليم الأظافر وقصها .
والقَلْمُ في اللغة هو : القص ، تقول : قَلَمتُ الظفر إذا قَصَصتُه ، وقلمت العود إذا قَصَصتُه .
والمقصود هنا هو إزالة الظفر أو بعضه بأي نوع من أنواع الإزالة ، كقص ، أو نتف ، أو نحوهما. وقد دل على تحريم قص الأظافر في حالة الإحرام أدلة ، مرجعها إلى شيئين :
أمَّا الأول : فالإجماع ، وقد حكاه ابن المنذر ، والموفق وغيرهما .
أمَّا الثاني : فالقياس حيث قيس الظفر على الشعر ؛ بجامع أن قص الظفر كقص الشعر ، يُبعد المُحرم عن حقيقة النسك ؛ ويجعله مترفهاً على ما سبق .
قال المصنف يرحمه الله : [ الرابع : إزالة الشعر من البدن ولو من الأنف وتقليم الأظافر ] .(2/73)
فيه ذكر محظورين من محظوارت الإحرام :
أما الأول : فهو إزالة الشعر مطلقاً ـ ويُقصد بـ (إزالة الشعر) استئصاله أو قصه بأيّ طريقة من الطرق ، من ذلك : النتف ، ومنه القص ، ومنه الجَزّ .
وإزالة الشعر من البدن نوعان :
أما الأول : فشعر الرأس ، هذا محذور باتفاق ، ودل على محظوريته ، دليل الخبر والإجماع .
أما الخبر : فأدلة عدة ، منها : قوله سبحانه وتعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلَّه } .
وأما الإجماع : فقد حكاه غير واحد من الأئمة ، ومنهم ابن المنذر في [كتاب الإجماع] ، والنووي في [ المجموع شرح المهذب ] ، وابن قدامة في [ المغني ] ، وجماعة.
وها هنا مسألة : وهي هل يدخل في شعر الرأس شعر الأذن ؟ قولان .
المذهب : أن الأذن من الرأس ، والقياس دخول شعر الأذن فيه .
وأما النوع الثاني : فغير شعر الرأس . مثاله : شعر الإبط ، وشعر العانة ، وشعر الشارب ، ونحوها . فيه روايتان عن الإمام أحمد . المشهور وهو المذهب وعليه جماهير الأصحاب ، وحكاه بعضهم اتفاقاً : هو أنه يُلحق بشعر الرأس ، ويدل على ذلك دليلان :
أما الأول : فدليل الخبر : وذلك أن (التَّفَث) الوارد في الآي الذي يفعله المحرم بعد نهاية إحرامه جاء تفسير عن جمعٍ من السلف بأنه حلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وغير ذلك . وفيه دلالة أنهم عدُّوا شعر الإبط ، وشعر العانة ، وغيرهما ، من التفث الذي يجوز فعله بعد الإحرام ، مما يدلل أنه كان محذوراً ، وقد جاء ذلك عن جمع . فقد أخرج ابن جرير الطبري في [ تفسيره ] ، وابن أبي شيبة في [مصنَّفه] عن ابن عباس ومجاهد نحواً من ذلك . وكذلك أخرج ابن أبي شيبة في [مصنفه] عن محمد بن كعب أنه قال ذلك أيضاً ، ولا يُعرف لهم مخالف من السلف ـ يرحمهم الله ـ أشار إليه ابن تيمية في [ شرحه على العمدة ] ـ أعني عدم وجود المخالف .(2/74)
وأما الثاني : فالقياس ، وهو قياس شعر البدن على شعر الرأس ، بجامع وجود الشعر على البدن ، فمن البدن الرأس ، وهو اكثر ما يورده الأصحاب في التدليل على منع الأخذ من الشعر في بقية البدن .
وأما المحظور الثاني : فتقليم الأطفار و(الأظفار) واحدها : ظُفْرٌ وظُفْر . بضمتين، أو بتسكين الفاء مع ضم الأول ، وهو معروف ، سواءٌ أكان في أصابع اليدين، أم كان في أصابع القدمين ، سواءٌ أكان في الأصابع العادية ، أو في أصبع زائدة في الكف أو في القدم، فكل ذلك يتعلق به النهي والحظر .
وقد دلَّ على حظر ذلك دليلان :
أما الأول : فدليل الخبر ، وهو ما جاء عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم . من أنهم عدوا من التحلل في تفسير التفث : تقليمُ الأظفار ، مما يدل أنه كان ممنوعاً عند الإحرام .
ومن الأدلة : الإجماع ، وقد حكى الإجماع في أن تقليم الأظافر من محظورات الإحرام ، ابن المنذر كما في كتابه [الإجماع] ، وكذا حكاه شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] بقوله : " وفيه إجماعٌ سابق " ـ يعني عن السلف يرحمهم الله ـ .
وها هنا مسألة : وهي إذا أُوذي المحرم بشعر أو ظفر ، فهل يجوز له أن يقلعه أو أن يقصه ؟
الصحيح في المذهب كما قاله المرداوي في [ الإنصاف ] وعليه تدل الأدلة :أنه يجوز له أن يقصه أو أن يقلعه ، أي : ما أُوذي به من شعرٍ وظفر .
مثاله : محرم انقلم واحد من أظفاره في قدمه فأوجعه وآذاه في مشيه ، فله حينئذ أن يقصه ويتخلص منه .
وقد حكى بعضهم على ذلك الاتفاق فيما ذكره في [ الإنصاف ] ، وكذا النووي في [المجموع] وجماعة .
وفي قول المصنف ـ يرحمه الله ـ : ( ولو من الأنف ) لو هنا : تشير إلى الخلاف بين الأصحاب، فيما لو أخذ المحرم من أنفه شيئاً من الشعرات ، فإنه يدخل في المحذورية ؛ لأن شعر الأنف من شعر البدن ، وشعر البدن سبق التدليل على محظوريته . أما إذا كان يؤذيه شيءٌ في أنفه فاقتلعه فأخذ مع ذلك شعراُ ، فلا شيء فيه على ما سبق.(2/75)
قال المصنف : [ الخامس : قتل صيد البر الوحشي المأكول …. إلخ ]
فيه ذكر محذورٍ ، وهو قتل الصيد ، والمقصود بقتل الصيد هو كل حيوانٍ توفَّر فيه الشروط التالية :
أولها : أن يكون مأكولاً . ويخرج غير المأكول .
وثانيها : أن يكون متوحشاً أصلاً ، وإنما قيل : ( أصلاً ) ؛ لأن المُسْتَأْنِسَ قد يتوحَّش فَيُرجع إلى أصله ؛ ولأن المتوحِّش قد يستأنس فَيرُجَع إلى أصله .
مثال الأول : إبلٌ توَّحشت فأصبحت تقوم بالاعتداء على صاحبها ؛ كهيئة السباع ، ولا تستأنس بالناس ، فَيُرجع إلى أصلها وأصلها أنها مستأنسة ، فيجوز قتلها من المحرم ، ونحرها ، وذبحها .
ومثال الثاني : الأرنب ، فالأرنب عندما يُوضَع في قفصٍ ، أو بيتٍ ، أو فناءٍ ليحبسه ، فإنه لا يجوز صيده من قِبَل المحرم ولا قتله ، ولو استأنس الأرنب ؛ لأن أصله متوحش .
والثالث : أن يكون من حيوانات البر ويلحق بحيوان البر : الحيوان الذي يعيش في البر والبحر ، من باب تغليب المحظورية .
مثاله : السُّلحفاة ، السرطان ، فإنهما يعيشان في البر والبحر ، فَيُغلَّب جانب البر ـ وهو المحظورية ـ على جابن البحر ـ وهو الحل .
ومثال الصيد الذي اجتمعت فيه الخِصال السابقة : الغزال ، وحمار الوحش .
فلا يجوز صيدهما من قِبَل المحرم .
وقد دلَّ على أن ذلك من محظورات الإحرام أدلة ، مرجعها إلى الخبر والإجماع فأما الخبر : ففيه أدلة منها : قول الله عز وجل : { حُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حُرما } فيه دلالة واضحة .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه غير واحد ، ومنهم الموفَّق في [ المغني ] ، والنووي في [ المجموع ] وجماعة .
ثم هناك مسائل تتفرَّع عن ذلك ذكرها المصنف يرحمه الله :
أولها : دِلالة المُحرم عل الصيد كصيد المُحرم للصيد سيَّان ، وهذا هو المذهب والذي عليه الأصحاب قاله المرداوي في [ الإنصاف ] .(2/76)
مثاله : محرم سار مع جماعةٍ في قافلة إبل ، فرأى أرنباً يسير فلتفت إليه ، ودلَّ عليه ، فقام أحد من كان حلالاً ، وليس محرماً بصيده . فقد وقع حينئذ المحرم في المحذور ؛ لأن دلَّ على الصيد ، كمثل الذي يقوم بالصيد ويباشرْ بنفسه .
ودليل ذلك : معاملة المحرم بنقيض قصده ؛ ولان الدلالة على الشيء كصيد الشيء.
وأما الثانية : فهي إعانة المحرم غيرَه على قتل صيدٍ .
مثال ذلك : رجلٌ حلال معه أُناسٌ محرمون رأى ظبياً أراد صيده ، فأخذ فرسه ثم نسي قوسه فعاد وقال للمحرم : ناولني إيَّاه ، فإن ناوله كان مُعيناً له ، فيأخذ حكم من باشر قتل الصيد .
وفي هذا حديث أخرجه البخاري ومسلم ، وهي قصة أبي قتادة عندما ذهب مع بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في خميس البحر ، فإن بعضهم من الحلال أرادوا صَيدَ صيدٍ فنسي سهمة ، فأراد أن يناوله فأبى المُحرم .
والثالثة : قوله : [ وإفساد بيضه ] .
( إفساد بيضة ) يعني : بيض الصيد .
مثاله : بيضة الحمام ، والنعامة ، ونحوهما . الحمام أصله متوحِّش وبعضه يَسْتَأْنِس عندما يُؤَنَّس ، وإلاّ فأصله أنه متوحش ، ولذلك فهو صيد وكذلك النعامة باتفاق . والإفساد له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكْسِرَهُ .
مثاله : رجل مُحرم رأى بيضة نعامٍ فكسرها وأفسرها ، فهذا كمن باهر صيداً ، عليه الفدية .
الحالة الثانية : فهو من حمل بيضة صيد حتى تغيَّرت وفَسدَت . مثاله : محرم وجد بيضة نعامٍ فحملها معه حتى فسدت وإن لم يكسرها .
ودخول إفساد البيض في محذوريه الصيد ؛ لأن البيض من الصيد ، ويُنتَفعُ به ، وله حكم أصله ، وأصلُه صيد .
ورابعها : قوله : [ وقتل الجراد والقمل لا البراغيث ، بل يُسن قتل كل مؤذٍ مطلقاً ] .
ليُعْلَم أن الحيوانات على أقسام :
أولها : حيوان بحري ، إلاّ يعيش إلى في البحر . قال المرداوي في [ الإنصاف ]: "والبحر يشمل البحر المعروف ، والنهر ، والعين " .(2/77)
مثاله : السمك بأنواعه ، فهذا يجوز صيده عند جمهور الفقهاء ، وخالف في ذلك بعض الأصحاب ، ويدل على حِلَّه : قول الله عز وجل : { وأحِلَّ لكم صيدُ البَحرِ وطعامه } .
وأما الثاني : فما كان مأكولاً غير وحشي ، كالدجاج ، والغنم ، والإبل ، فهذا يجوز ذبحه ونحره من قِبلَ المُحرم باتفاق ، حكى الاتفاق : النووي في [المجموع] والموفق في [المغني] وجماعة .
وأما الثالث : فما يعيش في البر والبحر ، كالسُلحْفاةُ ونحوها . ففيه خلاف والصحيح أن يُغَّلب جانب الحظر على جانب الإباحة ، للقاعدة الفقهية القائلة : (إذا اجتمع في الشيء حظر وحل الحظر على الحل) . وهذا هو مقتضى الاحتياط .
وأما الرابع : فهو الحيوان البري الذي أمر الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتله ؛ كالفواسق الخمس ، كالفأرة ، والغراب ، والحدأة . وهذا لا محظور في قتله بل يتعيَّن قتله ، وقد وقع الاتفاق بين الأئمة على ذلك ، كما قاله ابن هُبيرة في [الإفصاح] والنووي في [المجموع] وجماعة .
ويدل عليه : مطلق حديث عبد الله بن عمر في [ الصحيحين ] وفيه الأمر بقتل الفواسق .
وأما الخامس : فهو الحيوان غير المأكول ، والمؤذي بطبعه ، كالأسد ، والنمر ونحوهما فله حالتان:
الأولى : أن يُخشى أذاه واعتداءه ، فالاتفاق على جواز قتله ، حكاه النووي في [المجموع ] والموفق في [ المغني ] وجماعة .
وأما الثانية : فهو ألاّ يُخشى أذاه ، لابتعاده عن الناس ، أو نحو ذلك .
فاختلف الفقهاء فيه ، واختار شيخ الإسلام جواز قتله ، خشية الاعتداء على الأنفس ، وأذيتها ولأنه غير صيد ، فلا يدل في مطلق المنع .
وأما السادس : فهو الحيوان الذي لا يُؤذي بطبعه وليس مأكولاً .
ومَثّل الفقهاء على ذلك بالخُنْفُسَاء . واختار شيخ الإسلام عدم قتلها .
وأختُلف إن قُتِلَت هل فيها فدية ؟ قولان . اختار شيخ الإسلام أنه لا فدية فيها.(2/78)
فأما السابع : فما كان حيواناً بريَّاً مأكولاً مُستَوحِشاً ، كحمار الوحش ، والغزال فهذا منهيٌ عن صيدها باتفاق . وسبق .
وأما الثامن : فهو ما تولَّد من حيوانٍ مأكولٍ وغير مأكولٍ ، أو من حيوانٍ مستأنسٍ وغير مستأنِس .
مثاله : إذا تولَّد من بين حمار الوحش ، والحمار الأهلي شيء ، فهل يكون صيداً محظوراً أم لا ؟
قولان عند الأصحاب وغيرهم . والمصَّحح في المذهب هو تغليب جانب الحظر عليه للاحتياط .
وهاهنا مسألة : وهي إذا صال الصيدُ البري المأكول المستوحِش على المُحرم فهل يجوز له أن يأكله ؟ وإن قتله فهل عليه فدية ؟
المذهب كما قال المرداوي في [ الإنصاف ] ، وبه جزم شيخ الإسلام في [شرح العمدة] وجماعة. أنه يجوز له أن يقتل الصيد ولاشيء عليه ، ويدخل في ذلك الآدمي إذا صَاوَل مُحرماً ، قاله شيخ الإسلام وجماعة .
مثاله : رجل مُحرم ، في طريقه هجم عليه قُطَّاع طريق ، وصاولوه على حاله ونفسه ، فدفع بعضهم ؛ فقتله فلا شيء عليه .
وهاهنا مسألة : وهي إذا صاد من هو حلالٌ لمحرم صيداً . هل يجوز أن يأكله المحرم أم لا ؟ قولان. والصحيح فيما اختاره شيخ الإسلام وجماعة هو التفريق بين حالتين :
الأولى : أن يُصاد الصيد لأجل إطعام المحرم منه ، فلا يجوز أكله ، ويدل عليه : حديث أبي قتادة في [ الصحيحين ] . ويدل عليه : حديث الصعب بن جَثَّامة وحديثه في [ الصحيحين ] وهو (أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما حجَّ حجة الوداع مرَّ به ، وكان صيَّاداً سريعاً سبَّاقاً ، فصاد حمار وحشٍ ، ثم قدَّمه للنبي- صلى الله عليه وسلم - ليأكل فقال : (إنا لا نأكله لأنا حُرُم) . وفيه دلالة أنه لم يصد الصيد إلاّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُشر عليه بذلك .(2/79)
والثانية : هو ألاّ يُصاد لأجل المحرم ؛ وإنما صاده الحلال لأجل نفسه ، أو لحلالٍ مثله ، فيجوز حينئذ أن يطعمه المرء ، ويدل عليه : حديث أبي قتادة في [الصحيحين] حيث أنه صِيد صيدٌ فجيء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسُئِل ، فجوَّز لهم أن يأكلوا منه .
وفي هذا جمعٌ بين الأحاديث .
قوله : [ قتل الجراد والقمل ] .
الجراد : دابة معروفة . والقمل : يشمل جميع أنواع القمل أما البراغيث ، فواحدها: بُرْغُوث . وهو طائر صغير مؤذٍ بطبعه ، يسميه بعضهم بـ ( البعوض ) ، وقيل : بل البراغيث يشمل كل طائر مؤذٍ بطبعه ، ومن ذلك البعوض . وهو المذهب وعليه جماهير الأصحاب ، وجزم به شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] وذلك لأنها مؤذية ، وقتل المؤذي لا محذور فيه ؛ ولأنه ليس صيداً ، ولذلك قال المصنف يرحمه الله : (بل يُسن) أي : يستحب (قتل كل مؤذٍ مطلقاً) .
أي سواءٌ أكان صيداً توفرت فيه شروط المنع ، إذا آذى الإنسان وصاد له،كإبلٍ اعتدت على إنسان فدفعها فقتل بعضها ، كحمار وحش هجمت على مُحرِمٍ فصاولته فدفعها ، فلا شيء عليه . ويشمل أيضاً : غير المأكول كالأُسد وغيرها . ويشمل أيضاً : الدويبات الصغيرة ، كالجُعْل ، والصُرصار، والبعوض ، وغير ذلك .
السادس : عقد النكاح ، ولا يصح .
السابع :
الوطء في الفرج .
ودواعيه .
والمباشرة دون الفرج .
والاستمناء .
قوله يرحمه الله : [ السادس : عقد النكاح ولا يصح ]
فيه ذكر مسألتين :
أما الأولى : فهي أن من محظورات الإحرام عقد النكاح ، ويُقصد بعقد النكاح أي نكاح الزوجة، أو نكاح الزوج ، أو أن يُقام بالعقد من قِبَل المحرم .
فهو يشمل حالاتٍ ثلاث :
أما الأولى : فهي أن يعقد مُحرمٌ على إمرأةٍ حلال .
وأما الثانية : فهي أن يعقد حلالٌ على امرأةٍ محرمة .
وأما الثالثة : فهو أن يكون العقد لزوجين محرماً ، ويُقصد بها : هو الذي يأتي بعقد الملكية أو الزوجية .(2/80)
مثاله : محرمٌ هو مأذونٌ شرعي قام بعقد الزوجية بين اثنين حلالين ، ليسا بمحرمين ، وهذا كله يدخل في صورة عقد النكاح . وقد دلَّ على أن عقد النكاح من قِبَل المُحرم في صورة الثلاث من محظورات الإحرام دليلان :
أما الدليل الأول : فهو ما أخرجه مسلم في [صحيحه] من حديث عثمان بن عفان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (المحرم لا يَنكَح ولا يُنكِح ولا يخطب) .
وأما الثاني : فهو أن النكاح من دواعي الجماع والمباشرة ، والتفكير فيه ، وما إلى ذلك ، ولذلك مُنع لمخالفته لأصل الإحرام .
ومن الدلائل أيضاً : ما أخرجه البيهقي في [ سننه ] عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه فرَّق بين اثنين؛ لأن عقد الإحرام فاسد . وجاء بنحوه عن ابن عمر . يقول شيخ الإسلام ابن تَيميَّة ـ يرحمه الله في [شرحه على العمدة] : "وهذا الذي كان عليه الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة ، ولم يعملوا ذلك إلاَّ ببرهان بيَّنٍ عندهم" .
وأما المسألة الثانية : فهي عدم صحة عقد النكاح إن عَقدْه محرمٌ لاثنين حلالين، أو لمحرمين ، أو لمحرمٍ وحلال ، وكذلك إذا عُقِد لمحرمٍ من قِبَل حلال ، أو لمحرمين من قِبَل حلال . فإن العقد فاسد .
وهو ما أراده المصنف بقوله : (ولا يصح) إذ ضد الصحة الفساد ، وما ذلك إلاَّ أنَّ النهي السابق في حديث عثمان يتعلَّق بالعقدِ نفسه ، لا بصيغته ، ولا بفاعله ، والقاعدة الأصولية : أن النهي إذا تعلق بالشيء وكان ذا جهةٍ واحدةٍ عليه ، فإنه يدل على فساده ، وعدم صحته .
وقد دلّ على ذلك دليلان :
أما الأول : فما أُشير إليه سابقاً من آثار عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم حكموا بفساد عقد الزوجيَّة في الإحرام بصورة الثلاث السابقة .(2/81)
وقد جاء بنحو ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كما عند البيهقي في [السنن]، وقد أخرجه مالك في [موطَّأه] عن عمر وابنه . يقول ابن تيميَّة ـ يرحمه الله ـ : "ولم يفعلوا ذلك إلا ببرهان بيِّن لا يشكون فيه ، ولا يعرف لكبار الصحابة والخلفاء الراشدين مخالف في عهدهم ـ رضي الله عنهم ـ " هو كلامه.
والثاني : هو أنه لا فائدة من عقد النكاح حالة الإحرام ؛ إذ المقصود به : تمتُّع الرجل بالمرأة والعكس ، وهو أيضاً من دواعي المباشرة ، فيُمنع .
وأما ما جاء في [الصحيح] من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد على ميمونة وهو حرام ( وفي رواية : وهو محرم ) . فالحديث سنده صحيح ، إذ إنه في [الصحيح] . ولكن أكثر المحدثين الكبار وهَمَّوا ابن عباس .
ويُوجَّه حديث ابن عباس على أحد توجيهين :
أما الأول : فهو الترجيح ، بأن يُرجَّح حديث ميمونة عند مسلم وغيره أنها قالت : (عَقَدَ عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال" . وما يدل عليه وصاحب الشيء أدرى بحاله فيه ، بخلاف من بَعُدَ عنه ، وابن عباسٍ وقتها لم يجاوز العشر سنوات ، وقد يهم من يكون في هذه السن . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة ـ يرحمه الله ـ في [شرح على العمدة] أكثر من ستة أوجه في ترجيح حديث ميمونة على حديث ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً .
وأما الثاني : فهو أن يُقال بالتسليم بحديث ابن عباس ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقد على ميمونة وهو محرم ؛ فيقال : هو من خصوصيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليس تشريعاً لعامة الأمة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل عليه تلك المفاسد ، من توقان النفس إلى مباشرةِ من عُقِد عليه ، أو نحو ذلك فهو أملك الناس لأََرَبه ( وإِرْبِه )- صلى الله عليه وسلم -.
إلاّ أن الترجيح أقوى وأولى ؛ لأن الأصل هو أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريع ، وليست خاصةً به .(2/82)
وها هنا مسألة : وهي أن يفرَّق بين ابتداء النكاح من قِبَل المحرم ، وبين استدامة النكاح من قِبَل المحرم . أما ابتداء النكاح : فهو أن يبتدأ بالزواج أو عقد النكاح بينه وبين امرأة أو العكس ، أو أن يعقد لأثنين عقد ابتداء نكاح ، فهذا يدخل فيما سبق من النهي وفساد النكاح .
وأما الثاني : الذي هو استدامةٌ للنكاح ، فيُمثِّلُ له جماهير الأصحاب وغيرهم بالطلاق الرجعي .
وصورته : أن يُطَلِّق المحرم قبل إحرامه زوجته طلاقاً رجعياً ، ثم يُحرم فيجوز له وقت إحرامه أن يَرْجِع إلى زوجته ، ويجوز له قبل إحرامه وبعده كذلك ؛ لأن المرجعة هي رجعةٌ إلى زوجة قد تمَّ العقد عليها بعقد صحيح سابق للإحرام ، فهي زوجة له ، ومما يدلَّ على أنها زوجة ، هو أن الله أمر بإمساكها بالمعروف ، ولا يشترط في ذلك مهرٌ جديد ، ولا عقد جديد .
قول المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ السابع : الوطء في الفرج … الخ ]
فيه ذكر مسائل :
أولها : أن من محظورات الإحرام الوطء في الفرج ، وقد سبق التدليل عليه ، وذكر أدلته ، وأنه مفسد للحج قبل التحلل الأول ، خلافاً لما كان بعد التحلل الأول، ففيه تفصيل يأتي :
فأما الثاني : فدواعي الوطء . مثاله : التقبيل والضم ونحوهما . وذلك أن الأصل في القواعد الشرعية هو : [أن الشيء إذا حُرِّم حُرِّمت دواعيه ، وقُطعت الذرائع الموصلة إليه]. وقد حكى شيخ الإسلام على ذلك الاتفاق ، كما في [ شرحه على العمدة ] .
ولا ريب أن دواعي الوطء قد تُوصل إليه ، وهي من جنس الاستمتاع المخالف لأصل الإحرام .
وأما الثالثة : فالمباشرة دون الفرج ، كالمحاككة والمفاخذة ونحوهما . كل ذلك أيضاً من دواعي الوطء ، وهو أيضاً مخالفٌ للإحرام ، إذ فيه استمتاع ورفاهية .(2/83)
وأما الرابعة : فالاستمناء . والاستمناء استفعالٌ من المني ، والمقصود تطلُّب خروج المني إما بمحاككة أو بكثرة نظر ونحو ذلك . وهو داخلٌ فيما سبق ، بكونه يدعو إلى الوطء ، وهو مخالفٌ لأصل الإحرام ، وفيه استمتاع ونحو ذلك .
وفي جميع المحظورات : الفدية ، إلا :
قتل القمل .
وعقد النكاح .
وفي البيض ، والجراد : قيمته مكانه .
وفي :
الشعرة ، أو الظفر : إطعام مسكين .
وفي الإثنين : إطعام اثنين .
والضرورات :
تبيح للمحرم المحظورات .
ويفدي .
قول المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ وفي جميع المحظورات الفدية ، إلى قتل القمل وعقد النكاح ]
فيه حصرٌ لما يُوجب الفدية ، وهو أن جميع المحظورات تُوجِبُ ذلك سوى شيئين :
أما الأول : فقتل القمل وسبق . ويدلُّ على أنه لا يوجب الفدية أدلة نظرية أهمها دليلان :
أما الأول : فهو أن القمل ليس بصيدٍ ولا يدخل في معناه والأصل أن الفدية تتعلق بالصيد في الحيوان .
وأما الثاني : فهو أن القمل لا قيمة له حتى يكون له فدية .
ومن الأمثلة على ذلك : ألاّ يَفْلِي المحرم شعر رأسه يتتبعُ قملةً فيه فإن قتل القمل من محظورات الإحرام كما سبق . أما إذا أُذِيَ المحرم في رأسه من القمل ، فيجوز له حينئذ أن يقتلها على ما سبق ، وكذلك يُقال في القمل الذي ليس في البدن .
وأما عقد النكاح فلا فدية فيه ، ودل على ذلك دلائل منها :
عدم وجود دليلٍ على ذلك ، ولم يُعْمَل بفدية عند عقد النكاح في عهد الصحابة فمن بعدهم .
ومنها: أن القاعدة الشرعية المُتَّبعة في ذلك : [أن الشيء إذا كان فاسداً ، وكان من جنس الأقوال والأحكام فلا يترتَّب عليه فدية في باب الإحرام] . وعقد النكاح من باب الأحكام والأقوال ، وليس فيه فدية .
قوله : [ وفي البيض والجراد قيمته مكانه ]
فيه ذكر شيئين :
أما الأول : فهو أن البيض فيه فديه ، وفديته إخراج قيمته .
وأما الثاني : فهو أن الجراد فيه فدية ، وفديته إخراج قيمته .(2/84)
وكل ذلك عند مواقعه محظور إفساد بيض ، كبيض نعام ، أو محذور قتل جراد.
فأما البيض فقد دلَّ عليه دليلان :
أما الأول : فالأخبار ، وفيها حديث أخرجه ابن ماجه ، وهو عند أبي يعلى الفرَّاء في [التعليق] : "أن رجلاً دَعَست ناقتُه شيئاً من بيض النعام ، فاستفتى عليََّ بن أبي طالبٍ فأوجب عليه ثمنه ، فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفتاه - صلى الله عليه وسلم - بنحو ما أفتى به علي - رضي الله عنه - والحديث قال عنه ابن مفلح في [الفروع] : "إسناده جيِّد حسن" .
وقد جاءت الفتوى من الصحابة بذلك ، كما جاء ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم ، وقد أخرج ذلك أبو يعلى الفرَّاء في [ التعليق ] .
وقد أثبت تقي الدين ابن تيمية في [شرحه على العمدة] أن الصحابة
ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا يفتون بذلك .
وأما الدليل الثاني : فهو الإجماع المحكي في بيض النعام خصوصاً ، فقد حكاه غير واحد ، ومنهم البرهان ابن مفلح في [المبدع] وجماعة .
وأما ما يتعلق بالجراد ، فهو داخلٌ في ذلك للأخبار ، وقد جاء عن جمعٍ من الصحابة أنهم كانوا يفتون بذلك ، كما في [ التعليق ] عن أبي يعلى الفراء ، وأثبته تقي الدين ابن تيميَّة في [ شرحه على العمدة ] .
والجراد صيد ، وهو من حيوانات البر ، لأنه يطير في البر ، ومن المأكولات ، فيأخذ حكم الصيد. لكن لعدم وجود مِثْلٍ له قيل بتعيُّن ثمنه وقيمته عند قتله .
قوله : [ وفي الشعرة أو الظفر :إطعام مسكين ، وفي الإثنين : إطعام إثنين](2/85)
المذهب كما صححه المرداوي في [الإنصاف] هو التفريق بين ثلاث شُعراتٍ وما دون ذلك ، وبين ثلاثة أَظْفارٍ وما دون ذلك . فإذا وقع المحذور بقص ، أو نتفِ ثلاث شعرات فأكثر ، أو ثلاثة أظفار فأكثر ، فإن ذلك يُوجِب الدم ؛ لأن أقل الجمع في المذهب ثلاثة وهو الذي يصدق عليه إزالة الشعر ؛ لأن الشعر اسم جمعٍ . ويصدق عليه إزالة الأظفار ، لأن الأظفار اسم جمعٍ . وقد جاء في الخبر عن ابن عباس وغيره أنهم فسَّروا التَّفث عند التحلل ، بإزالة الشعر ، وتقليم الأظفار . وأقل ذلك ثلاثة ـ أي ثلاث شعرات ، وثلاثة أظفار من ثلاثة أصابع أو نحو ذلك ـ . وأما إذا كان دون ثلاثة أظفار ، وثلاثٍ من الشعر ، ففيه إطعام مسكين ، بكل شعرةٍ وكل ظفرٍ ، وهو لا يخرج عن حالتين :
أما الأولى : فهو أن يُزيل شعرة واحدة ، أو ظُفُراً واحداً ؛ ففيه إطعام مسكينٍ واحد .
وأما الثانية : فهو أن يُزيل شعرتين أو ظُفْرين ، فيتعيَّن إطعام مسكينين اثنين بقدر ما أُزيل ، وإطعام المسكين يُقصد به إخراج مُدٍ من البر أو نحوه له ، وقيل : نصف صاع . ويدل على ذلك أدلة : منها ما أخرجه أبو يعلى الفراء في [التعليق] وجماعة عن جمعِ من الصحابة أنهم كانوا يُفتون بذلك كعمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم .
قول المصنف ـ يرحمه الله ـ : [ والضرورات تبيح للمحرمِ المحظورات ، ويَفْدي ]
فيه ذكر شيئين :
أما الأول : فهو أن المحرم إذا اضطُر إلى فعل إحدى المحظورات السابقة فلا إثم عليه. وقد دل على ذلك : أدلة عامة ، كقول الله : { لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها } ، وقوله حكايةً : { ولا تحملنا مالا طاقة لنا به } قال الله في الحديث القدسي : (قد فعلت) أخرجه مسلم ، وهو داخلٌ في جنس قاعدة : [الضرر يُزال] و [الضرورة تبيح المحظور] وهي من القواعد المتفق عليها .(2/86)
وأما الثاني : فهو وإن ارتفع التأثيِم عن المحرم فيبقى عليه إخراج فدية ، ويدلُّ عليه حديث كعب بن عُجْرَة لمّا أُتيَ به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل على وجهه ورأسه ، وفيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفدي بعد أن يحلق رأسه ؛ لأنه قد ارتكب محظوراً يرتفع الإثم بوجود الضرورة ، ويبقى ما يجبر ذلك الفعل ، وهو الفدية .
واختار شيخ الإسلام أن الضرورة إذا وجدت في فعل الشيء فيدخل في حالة الإكراه ، وما كان ذلك فلا يُوجب فدية ، ولا إثم على فاعله ؛ لأن الفدية إنما تجب وتتعيَّن عند تعمُّدِ الشيء ، وعدم وجود الضرورة ، وهو قولٌ أقيس من المذهب ، وفي قول المذهب احتياط ، وظاهر حديث كعبٍ يدلُ عليه .
باب أركان الحج وواجباته
أركان الحج أربعة :
الأول : الإحرام :
وهو : مجرد النية .
فمن تركه : لم ينعقد حجه .
الثاني : الوقوف بعرفة :
ووقته : من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر .
فمن حصل في هذا الوقت بعرفة لحظة واحدة :
وهو أهل ـ ولم مارّاً ، أو نائماً ، أو حائضاً ، أو جاهلاً أنها عرفة ـ صح حجه .
لا إن كان : سكران ، أو مجنوناً ، مغمى عليه .
ولو وقف الناس ـ كلهم ، أو كلهم إلا قليلاً ـ في اليوم الثامن أو العاشر : خطأ : أجزأهم .
الثالث : طواف الإفاضة :
وأول وقته .
من نصف ليلة النحر : لمن وقف .
وإلا فبعد الوقوف .
ولا حد : لآخره .
الرابع : السعي بين الصفا والمروة .
يقول المصنف يرحمه الله تعالى : [ باب أركان الحج وواجباته ] .
قوله : [ أركان الحج أربعة …..خطأ أجزأهم ] .
الأركان : واحدها ركن : وهو ما يقوم الشيء عليه ، وعَرَفها تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في [شرحه على العمدة] بقوله : الأركانَ هي أجزاءُ الشيء وتبعيضاتُه التي يتكونُ منها .
فأركانُ الحج : هي أجزاؤه وتبعيضاتُه التي يتكون منها ، إذا تُرك شيءٌ منها تُرك الحج وفسد حج من ترك شيئاً منها ؛ سواء أكان بعذر أم كان بغير عذر .(2/87)
ـ وثمَّ اختلافٌ وفرق بين الصلاة والحج في أركانها ؛ لأن الصلاة لا تدخلها الإنابة خلافاً للحج فتدخلها الإنابة ، فإذا عجز العبد عن أداء ركن في صلاة فإنه ينتقل حينئذٍ إلى الأيسر البعيد عن المشقة ، خلافاً للحج ، الإنابة تدخل فيه ، فإذا لم يستطع المرء أن يسير بنفسه إلى الحج ، فإنه ينيب من يحج عنه حجة الإسلام وغير ذلك مما سبقت الإشارة إليه . وإنما ذكرنا الفرق بين الصلاة والحج حتى تندفع الشبهه ويُبيّن الأمر بجلاء .
وأمّا الواجبات : فواحدها واجب . وسبق التعريف به .
قوله : [ أركان الحج أربعة ] .
إنما كانت أربعة : نتيجة الاستقراء التام لنصوص الكتاب والسنة والإجماع .
قوله : [ الأول : الإحرام ] .
سبق التعريف بالإحرام لغةً .
قوله : [ وهو مجرد النية ] .
يعني محض النية التي محلُها القلب ، وسبق أنَّ الإحرام : هو نية الدخول في النسك وسبق التدليل عليه.
قوله : [ فمن تركه لم ينعقد حجة ] .
الضمير في قوله : [ تركه ] يعود على الإحرام الذي هو مجرد النية ومَحضُها .
قوله : [ لم ينعقد حجه ] .
أي حجة الذي خلا من الإحرام ؛ لإن الإحرام هو الذي ينعقد به نسك الحج ، وكذا نسك العمرة، فإذا تُرك لم ينعقد النسك لا حجاً ولا عمرة . وسبق التدليل عليه أيضاً في باب الإحرام .
قوله : [ الثاني : الوقوف بعرفة ] .
عَرَفَه : اسم لمكان منبسط بمكة معروف ، وله حدود مكانية معروفة ، وفي زماننا هذا وضِع له راياتٌ واضحة ظاهرة .
وقد ثبت أن الوقوف بعرفة ركن ركنين في الحج بدلالة الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب : فقول الله عز وجل : { فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا الله عند المشعر الحرام } . يقول شيخ الإسلام في [ شرحه على العمدة ] : (إذا) هُنا تدخل على الفعل الذي يقع ، لتدل على أن الوقت الذي أُضيفت إليه لا بُدَّ من وقوع الفعل فيه .(2/88)
فالإفاضة إلى المشعر الحرام وهو مزدلفة لا تكون إلا بعد الوقوف بعرفة فدلالة الآية على المقصود على ما سبق .
وأمَّا السنة : فالأحاديث في ذلك مستضيفة ، منها مأخرجه أحمد في [ مسنده ] وأبو داود ، والترمذي وغيرهم . عن عبد الرحمن بن يَعمُر ( أن أُناساً من نجد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وسلم وهو واقفٌ بعرفة فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - منادياً يُنادي في الناس : الحج عرفة ) . الحديث وقد صححه الحاكم ، وقال الذهبي في [ تلخيصه ] : حديثٌ صحيح وجزم بصحته جماعة .
وأمَّا الإجماع : فقد حكاه غير واحد : ومنهم ابن المنذر في كتابه [ الإجماع ] ، والموفق في كتابه [المغني] فقد حكيا : أن الوقوف بعرفة ركنٌ من أركان الحج بإجماع المسلمين .
قوله : [ ووقته من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر ] .
فيه ذكرٌ لوقت الوقوف بعرفة المتسع للوقوف : وهو أنه يبدأ من أول يوم عرفة وينتهي بنهاية ليلة مزدلفة . وأول يوم عرفة يبدأ من طلوع فجره ونهاية ليلة مزدلفة يكون بطلوع فجر يوم مزدلفة واليوم يتأخر عن ليلته ، فالليلة تسبق اليوم .
وليلة مزدلفة لها ثلاثة أسماء :
يُقال لها : ليلة مزدلفة ؛ لإن الدفع يكون عند الغروب إلى مزدلفة .
ويُقال لها : ليلة النحر ؛ لإن يوم النحر يليها فيكون في اليوم الذي يلي هذه الليلة نحرٌ للأنعام والهدي وهو اليوم العاشر .
وتُسَّمى بليلة عرفة ؛ وذلك امتدادٌ ليوم عرفة ؛ لإن الناس يُفيضون من عرفة إلى مزدلفة ؛ ولإن ليلة النحر ومزذلفة هي وقتٌ للوقوف في عرفة كما سبق .
وقد دل على أن وقت الوقوف بعرفة هو ما سبق . حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبق ، وهو حديث عبد الرحمن بن يَعمُر وفيه : ( الحج عرفة فمن وقف بعرفةَ قبل طلوع فجر يوم الجَمْعِ فقد حجَّ ) . وفيه دلالة على امتداده .(2/89)
وفي روايةٍ عند أحمد صحيحة ، في حديث صححه الدار قطني ، والحاكم وقال : صحته على شرط أئمة الحديث كما في [ المستدرك ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (أيما رجلٍ وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً قبل صلاة الفجر ـ يعين بمزدلفة ـ فقد أتي بَنُسكِهِ وقضى تَفَثَه) وفيه دلالة واضحة على أن الوقوف يكون في نهار عرفة ، ونهار عرفة يبتديء من طلوع فجر يوم عرفة ، وكذلك يكون في ليل يوم عرفة ، وليل يوم عرفة يُقصد به ليلة مزدلفة ليلة النحر التي يليها يوم النحر العاشر وهذا كله داخلٌ في الحديث السابق.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ : أن الوقوف بعرفة ، يبتدئ بعد الزوال إلى طلوع فجر ليلة النحر بصلاة فجر مزدلفة .
واستدل على ذلك بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه لم يقف بعرفة إلا بعد زوال الشمس وقال : ثبتَ عند مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (خذوا عني مناسككم) . ففعله - صلى الله عليه وسلم - مُفسِّرٌ لقوله . فلزم الاهتداء بهديه والأخذ بِنُسكه ، خصوصاً وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - خارج عرفة حتى جاء الزوال ، ثمَّ ذهب إلى عرفة . وإذا كان قبل الزوال وقتٌ لعرفة ، كان الأولى المسابقة إلى ذلك المكان عبادةً وتذللاً لله عز وجل ، فلمَّا أخرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك دلَّ على أن ما قبل الزوال بعرفة ليس وقتاً للوقوف بعرفة .
فهذان دليلان : دليل الخبر ، ودليل النظر ، يجتمعان في اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله .
وليُعلم أن المسألة فيها موطن إجماع ، وموطن خلاف :
... أمَّا موطن الإجماع : فهو أن الوقوف بعرفة من بعد الزوال إلى المغرب وقوفٌ صحيح بإجماع المسلمين ، وقد حكى الإجماع في ذلك غير واحد . ومنهم ابن المنذر كما في كتابه [الإجماع] وكذا الموفق في كتابه [المغني] وجماعة .(2/90)
... وأمَّا امتداد الوقوف من بعد الغروب إلى طلوع فجر يوم النحر ، فأجمع أهل العلم على ذلك . على ما حكاه ابن المنذر ، وخالف في ذلك مالك على ما حُكي عنه .
وأمَّا ما قبل الزوال ، فأكثر أهل العلم وجمهورهم كما قاله ابن حزم في [المحلي] والنووي في [المجموع] وجماعة هو : أنه ليس بوقتٍ للوقوف ـ أعني قبل الزوال ـ .
فالاحتياط هو الأخذ باختيار شيخ الإسلام وعليه أكثر الفقهاء ، وإن وقِف قبل الزوال فله دليله على المذهب وهو المذهب على ما قرره في [ الإنصاف ] .
قوله : [ فمن حصَّل في هذا الوقت بعرفة لحظة واحدة ] .
لحظةٌ مفعول حصَّل .
فقد تُضبط [ حُصِّل ] أي في عرفة لحظةً واحدة ـ حُصِّل لحظةً واحدة ـ ففيها ضبطان محتملان :
حَصِّل ـ بفتح الحاء المهملة مع تشديد وفتح الصاد المهملة ـ مفعولها : لحظةٌ واحدة .
أو حُصِّل ـ للبناء للمجهول ويكون ظرفها الوقت أي حُصِّل في ذلك الوقت واقفاً لحظةً واحدة .
والأول أظهر وأليق .
وفي قوله : [ لحظة واحدة ] .
يعني أقل الوقت فإذا وقف المرء بعرفة أقل الوقت ، كمرور بمركب أو نحو ذلك فإنه قد وقف بعرفة وكذلك إن مر وهو يجري بِخُطاً سريعة فقد وقف بعرفة وهكذا .
قوله : [ وهو أهل ولو ماراً …….الخ ] .
كلمة أهل يعني من توفر فيه شرطان :
... الأول : الإسلام .
والثاني : أن يكون مُحرماً .
فبشرط الإسلام يَخْرُج الكافر ، أو من أسلم بعد مضي يوم عرفة ، فإنه يخرج ؛ لأنه كان كافراً في وقت الوقفة . وبشرط الإحرام يخرج غير المُحرم بنسك الحج ، فإنه ليس أهلاً في قول المصنف : [وهو أهل] .
وهناك صفاتٌ منفية ذكرها المصنف ـ يرحمه الله ـ تتعلق بالأهلية وهي صفة السُكر وصفة الجنون وصفة الإغماء فمن كان سكراناً ، أو كان مجنوناً ، أو كان مغمىً عليه فليس أهلاً للوقفة بعرفة .
أمَّا المغُمى عليه ، والمجنون ، فبإجماع المسلمين ، وقد حكى ذلك غير واحد ومنهم المرداوي في [الإنصاف] .(2/91)
وأمَّا السكران فمختلفٌ فيه والأكثر ويكاد يكون اتفاقاٌ : أنه ليس بأهل . فقد حكاه النووي في [المجموع] والموفق في [المغني] أعني قولاً للأكثر والجمهور .
قوله : [ ولو ماراً أو نائماً أو حائضاً أو جاهلاً أنها عرفة ……الخ ] .
لو تحتمل أمرين :
أمَّا الأول : فهو الإشارة إلى الخلاف فيما أتى بعدها ، فالمرور مختلفٌ فيه وكذلك من أتى على عرفة نائماً ، أو من أتى من النساء وهنَّ حُيّض ، أو كان جاهلاً بإن مامر عليه من مكان يُسمَّى عرفة ، وهو احتمالٌ ضعيف ؛ لإن الخلاف في ذلك ضعيف .
وأما الثاني : فهو إشارة إلى أشياء بعد (لو) تعزِبُ عن ذهن المتفقِّة مع دخولها في الأهلية ولعله مقصود المصنف يرحمه الله .
[ ولو ماراً ] .
يعني : غير متوقِف ، فضد المرور الوقوف ، إذ في المرور حركة وسير .
قوله : [ أو نائماً ] .
ضده المتيِّقظ .
قوله : [ أو حائضاً ] .
ضده غير الحائض ؛ لإنه لا يُشترط للمرأة أن تكون طاهرة وقت الوقفة ، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها "أنها وقفت في عرفة وكانت حائضاً" فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك على قول .
قوله : [ أو جاهلاً أنها عرفة ] .
لإنه عالمٌ بأن وقته وقت وقفة ، فالنية نية وقفة ، لكنه جهل أن المكان مكان عرفة ، فلا يضر ذلك .
قوله : [ صح حجه ] .
لعموم حديث عبدالرحمن بن يعمر وكذا غيره من الأحاديث في بابه ، إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن من وقف بعرفة ليلاً أو نهاراً ، وأطلق - صلى الله عليه وسلم - فيدخل في ذلك هذه الأجناس كلها .
قوله : [ ولم وقف الناس كلهم أو …………….خطأ أجزأهم ] .
حاصله : أنه إذا اشتبه على الناس يوم الوقوف بعرفة ، يوم الثامن الذي هو يوم التروية أو وقفوا بعرفة يوم العاشر الذي هو يوم النحر ، فإن الوقفة صحيحة في حالتين اثنتين :
... ... أمَّا الأولى : فهو أن يقف الناس كلهم خطأ .
... ... وأمَّا الثانية : فهو أن يقف الناس كلهم خطأ إلا قليلاً .(2/92)
وإنما كان غير مؤثرٍ في هاتين الحالتين ؛ لإن الحكم للغالب . والمعنى أن الأمر انبهم على عموم المسلمين ، وأن اليقين قد وقع عندهم أن ذلك الوقت هو يوم عرفة ، فيصح منهم الوقف . والأصل أن الله عز وجل لا يكلف الأنفس إلا وسعها ، وحينئذٍ يكون تكليف الأنفس بغير وسعها وهذا الأمر حُكي الاتفاق عليه . كما حكاه النووي في [ المجموع ] لكن فيه خلاف عند الظاهرية وغيرهم ، والعمل على ما ذكر المصنف ـ يرحمه الله ـ على ما قاله ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ في [شرحه على العمدة] .
ثَمّ هاهنا مسائل :
الأولى : إذا لم يُدرِك المُحرِم الوقفة بعرفة بحيث طلع فجر يوم النحر ولمَّا يقف بعرفة فما المُتعيِّن عليه ؟
قولان :
الأولى : أنه يقلب حجه عمرةً ، وإن كان معه هديً فلينحره ، ثُمَّ حجته من العام القابل . وبهذا أفتى عمر بن لخطاب ـ - رضي الله عنه - ـ كما جاء ذلك في [السُنن] للبيهقي وأخرجه مالك في [الموطأ] .
وأمَّا الثاني : فهو أن يقلب حجته إلى عمرة وإن كان معه هديً فلينحره ، ولا يلزمه أن يحج حجةً من العام القابل ، إلا إذا لم يكن قد حجَّ حجة الإسلام . وعليه يُحمل ما جاء من فتوى عن بعض السلف كعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
والثاني هو الأقيس وبه تجتمع النصوص .
وأما الثانية : فهو أن المذهب والذي عليه جماهير الأصحاب ، كما قاله في [الإنصاف] هو أن المُحرِم إذا وقف قبل الغروب ، ثم أفاض من عرفة قبل الغروب ، ولم يرجع بليلٍ إلى عرفة ؛ فحجهُ صحيح ، وعليه دم ؛ لوقوع المُخالفة . والمُخالفة : هي أن من أتى بالوقوف قبل الغروب يجب عليه أن يجمع بين النهار والليل بعرفة ، وأول الليل الغروب ، فإذا لم يأت بذلك فقد نقص حجه ويجبره بدم ، لكن إذا عاد من الليل بأن ذُكِّر وكان ناسياً ، أو عُلِّم وكان جاهلاً ، فلا دم عليه وهو اختيار شيخ الإسلام والموفق في [ المغني ] وجماعة .(2/93)
والثالثة : من أتى إلى عرفة ووقف بها ليلاً فلا دم عليه وحجة تامٌ كامل ، وهو المذهب على قول ورواية ، واختاره الموفق في [المغني] وشيخ الإسلام وجماعة ؛ لإن الوقفة بالليل جاءت في حديث : (ليلا أو نهاراً) ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقف ليلاً أن يأتي بدم مع قِيام الحاجة إلى البيان . وتأخير ذلك لا يجوز اتفاقاً ، خلافاً للجمع بين النهار والليل ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جمع بينهما وقال : (خذوا عني مناسككم) كما عند مسلم من حديث جابر .
يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ : [ والثالث : طواف الإفاضة …… بين الصفا والمروة ].
طواف الإفاضة : سُميَّ بطواف الإفاضة ؛ لإن المُحرِم يُفيضُ من مِنى إلى مكة إلى الكعبة . وله أسماء منها: طواف الحج ؛ لإن الحج لا يصح إلا به ، ومنها طواف الرُكن ؛ لإنه ركنٌ من أركان الحج ، ومنها طواف الزيارة ؛ لإن المحرم يزور مكة تاركاً مِنى ، فيطوف حول البيت سبعاُ ثم يرجع إلى منى ، ومنها طواف الصدر ؛ لإن المحرم يَصدرُ من منى إلى مكة ليطوف . وأشهر هذه الأسماء عند الفقهاء اسمان: طواف الإفاضة ، وطواف الزيارة .
وإنما كان طواف الإفاضة ركناً من أركان الحج لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك :
فأمَّا الكتاب : فقول الله تعالى : { وليطَّوفوا بالبيت العتيق } . إذ إن لام الأمر دخلت على فعلٍ مضارع فدلت على الأمر ، أي أن الله عز وجل يأمر العباد بالتطوف حول البيت العتيق ، أي سبعة أشواط .(2/94)
وأمَّا الثاني فالسنة : وفيها أحاديث كثيرة : منها ما أخرجه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذُكِر له أن صفية قد حاضت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أحابستُنا هي) فقالت عائشة : "لقد أفاضت وطافت ـ تعني بالبيت ـ ثم حاضت" . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إذاً فلتنفُر) . فيه دلالة على شرطية ورُكنية الطواف ؛ الذي هو طواف الحج والإفاضة ؛ لإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رتَّب النُفرة من مكة على القيام به ، وإلا لحبس النبي - صلى الله عليه وسلم - حيضُ صفية ومن معه ؛ لإن الطواف ركن ولا بد منه .
وأمَّا الإجماع : فقد حكاه غير واحد ومنهم الموفق في [ المغني ] وعباراته فيه : لا أعلم فيه خلافاً، وكذلك النووي في [ المجموع ] وجماعة .
قوله : [ وأول وقتِهِ من نصف ليلة النحر لمن وقف وإلا فبعد الوقوف ] .
فيه ذكرٌ لأول وقت طواف الإفاضة : وهو أنه يبدأ من إحدى حالتين :
الأولى : من منتصف ليلة يوم النحر ، المُسمَّاه : بليلة مزدلفة أو بليلة عرفة وسبقت . ويُضيف بعضهم غيابُ القمر ، لحديث أسماء بنت أبي بكر فقد جاء في [ الصحيح ] عن ابن عباس عن مولى أسماء بنت أبي بكر عن أسماء "أنها أخذت في الصلاة بمزدلفة حتى غاب القمر ثم دفعت لرمي الجمرة وما إلى ذلك". ويدل عليه أيضاً حديث أم سلمة رضي الله عنها ، حيث أذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تدفع من مزدلفة قبل الناس فرمت الجمرة وطافت وأدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حجرة العقبة " والحديث أخرجه أحمد وغيره وهو في [الصحيح] وفيه دلالة على أنها أفاضت إلى مكة قبل الفجر ، إذ بينها وبين مكة مسافة ميلين .(2/95)
وأمَّا الحال الثاني : فهو أن يكون بعد الوقوف بعرفة لمن تأخر عن نصف الليل ، فلم يقف بعرفة إلا بعد نصف الليل ؛ لإن الدفع إلى منى فمكة للطواف لا يجوز إلى بعد الوقفة . وهذا أمرٌ مجمع عليه كما حكاه الموفق في [ المغني ] وجماعة .
والفرق بين الحالتين : أن الأولى فيها تحديدٌ للوقت بمنتصف الليل فما بعد ، خلافاً للثانية ففيه تحديدٌ لإيقاع الوقفة ، ليكون جواز الطواف بعدها وشرط ذلك أن يكون بعد منتصف الليل ، لكن من تأخر عن الوقفة بعد منتصف الليل ، فبعد وقفته يجوز له أن يطوف بالبيت .
قوله : [ ولا حد لآخرة ] .
الضمير في قوله : (لآخره) يعود على طواف الإفاضة ـ أي ليس هناك حدٌ لآخر وقت طواف الإفاضة ـ فيجوز أن يكون في يوم النحر وفي أيام منى والتشريق وفي آخر ذي الحجة وفي مُحرَّم وغير ذلك .
ودليل ذلك : عدم وجود الدليل الموجب التوقيت لآخر طواف الإفاضة .
وقد حكى الشارح في [الشرح الكبير] : عدم وجود الخلاف في ذلك . وبنحوه قال المرداوي في [الإنصاف] . لكن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية كما في [الفتاوي] . قال : وينبغي ألاَّ يؤخِّرَ الطواف للإفاضة عن أيام التشريق ، ومنى ؛ لإن تأخيره بعد أيام منى مما اختُلفَ فيه .
وعلى كُلٍّ فالمذهب والذي عليه جماهير الأصحاب . قاله في [ الإنصاف ] هو عدم تحديد طواف الإفاضة ـ أعني آخر وقته بوقت ـ لعدم الدليل ـ والاحتياط ألا يؤخر عن آخر أيام التشريق وقد أشار إليه تقي الدين ابن تيمية يرحمه الله .
قوله : [ الرابع : السعي بين الصفا والمروة ] .
الرابع أي من أركان الحج : السعي : وهو الركض أو المشي السريع .
الصفا : اسم لمكان بأعلى الوادي المجاور للبيت ، والمروة كذلك وهما مكانان معروفان .
وقد دل على رُكنية السعي بين الصفا والمروة أدلة أهمها دليلان :(2/96)
... ... أما الأول : فالسنة وفيها أحاديث منها ما أخرجه أحمد في [ المسند ] والحاكم في [المستدرك] وصححه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا) وكتب: بمعنى فرض . فهو يدل على الركنية .
ومنها ما أخرجه مسلم عن عائشة بلفظ : "لعمري ما تمَّ حج من لم يسعَ بين الصفا والمروة" وأخرجه البخاري بنحوه .
... ... وأمَّا الثاني : فالإجماع المحكي وقد حكاه تقي الدين ابن تيمية في [ شرحه على العمدة ] والبرهان بن مفلح في [ المبدع ] وجماعة .
ولو قال قائل : هل يجب على من دفع منتصف ليلة مزدلفة أن يرمي قبل الطواف أم لا ؟
الجواب : يجوز أن يطوف من تقدم إلى منى بعد الذهاب إلى جمع مزدلفة ، يجوز أن يبدأ بالطواف ثم بعد ذلك بالرمي للجمرة ، ويجوز أن يعكس ، كلاهما صحيحُ . واستحب جمعٌ أن يبدأ بالطواف . ثم بعد ذلك برمي الجمرة ؛ لإنه أيسر له ولإدراك عدم وجود الزحمة فيجوز هذا وهذا ، فالدفع يكون إلى منى لا إلى مزدلفة ، يدفع إلى منى حتى يرمي الجمرة ، ثم يذهب إلى مكة ليطوف ، ويجوز أن يذهب إلى مكة ليطوف ثم يذهب ليرمي الجمرة والأصل فيمن يرمي ويذهب من منتصف الليل فما بعد ، الأحوط ألاَّ يذهب إلا الضعفة من الناس .
والضعفة ثلاثة أصناف : النساء ، والصبيان ، والمرضى ونحوهم .
... أولها : أن الاحتياط ألا يدفع إلى منى بعد منتصف الليل إلا الضعفة ، وهم ثلاثة أصناف : النساء، والصبيان ، والمرضى ، ويأخذ حكمهم من أُرسل معهم لحفظهم ودلالتهم ، فيجوز له أن يرمي أيضاً معهم ، وأن يطوف أيضاً معهم . ويدل على ذلك : ما أخرجه مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : "قد خرجت مع الضعفة من أهلي ، إلى منى قبل فجر يوم النحر" وكذلك حديث أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر وكلها أحاديث صحاح تدل على ان الذين ذهبوا هم من الضعفة أو المرضى .(2/97)
أمَّا الثانية : فهي جواز البدء بالطواف قبل رمي الجمرة ، إن دفع من مزدلفة بعد منتصف ليلة النحر وقبل الفجر ، ويجوز أن يعكس فيبدأ برمي الجمرة قبل الطواف ؛ لتجويز النبي صلى الله عليه وسلم الدفع لمن ذهب دون تحديدٍ بالبدء بالطواف أو رمي الجمرة .
أمَّا الثالثة : فهو أن حديث أسماء بنت أبي بكر فيه دلالة أنها لم تدفع إلى عند مغيب القمر ، ولذا قال بعضهم . يجب ألا يكون الدفع إلا بعد منتصف الليل ومغيب القمر ، فلا بد من اجتماعهما. ويدل على صحته ظاهر فعل أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها .
وأمَّا الرابعة : فهي إذا حاضت المرأة قبل أن تطوف بالبيت أو بعد أن طافت ولم تُكمل الطواف ، فالمتعين عليها أن تبقى بمكة حتى تطهُر ثم تأتي بالطواف إن لم تسطع إلى البقاء بمكة سبيلاً ، جاز لها أن تذهب إلى بلدة فإذا طهرت عادت إلى مكة وأتت بالطواف . .. سقط ..
ذلك تبقى حَاجَّة قد تحللت التحلل الأول ، وذلك برميها للجمرة ، وقصها لشيءٍ من شعرها ، ولا يجوز أن يقربها زوجها إن كانت متزوجة حتى تطوف وإن تأخر طوافها إلى شهر صفر أو رمضان أو غير ذلك.
إن كانت من محل نأي بعيد ، ولا يسمح لها رفقتها بالتأخر ولا تستطيع العودة ثانية إلى مكة ، فاختار شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية وشمس الدين ابن القيم : جواز طواف المرأة وهي حائض ، بعد أن تتحفظ من نزول الدم ؛ لإن الأصل في الأوامر فعلها وفق الاستطاعة لقوله تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } .
ولما جاء في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم …..) الحديث . والله أعلم .
وواجباته سبعة :
الإحرام من الميقات .
والوقوف إلى الغروب لمن وقف نهاراً .
والمبيت ليلة النحر بمزدلفة :إلى بعد نصف الليل .
والمبيت بمنى في ليالي التشريق .
ورمي الجمار : مرتباً .
والحلق أو التقصير .
وطواف الوداع .(2/98)
يقول المصنف رحمه الله تعالى : [ وواجباته سبعة : الإحرام من الميقات ….إلخ ]
قوله ـ يرحمه الله : [ وواجباته سبعة ]
الواجبات : واحدها واجب . والمقصود بالواجبات في الحج : ما وجب فِعلُه في الحج وما لم يسقط إلا بعذر . فإن فُعل الحج بدونه صح وجُبِرَ بدم .
قوله : [ سبعة ] فيه حصر لواجبات الحج ، وهو مبني على الاستقراء التام للنصوص ، والأجماعات وما إلى ذلك .
قوله : [ الإحرام من الميقات ]
الإحرام من الميقات : يُطلق عند الفقهاء على معنيين :.
أما الأول : فهو عدم تجاوز الميقات إلاَّ بعد إنشاء نية الدخول في النسك ، وهذا الذي عليه جمهور الفقهاء وأكثرهم ، وهو المقصود غالباً في كلامهم .
وأما الثاني : فهو ألا يتجاوز الميقات إلا وقد أحرم المرء ، بحيث ترك محذورات الإحرام من المخيط وقص الشعر ، والتطيب وما إلى ذلك . ويذكره بعض فقهاء المذهب وغيرهم .
وقد نص على هذين المعنيين وأنهما يدخلان في الإحرام من الميقات ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في [ شرحه على العمدة ] .
وكون الإحرام من الميقات من واجبات الحج قد دلت عليه أدلة كثيرة سبقت ومن الدلائل النظرية : أنه قد تُرك لمن كان دون الميقات ، أو أهل مكة أن يذهبوا إلى المواقيت المعروفة ، وأن يُنشأ كلٌ منهم نية النسك من محله الذي هو فيه ـ أعني نية الحج ـ ولم يُشترط عليهم أن يذهبوا إلى الميقات مرة أخرى ، وينشأوا نية الدخول في النسك منها . مما يدلل أن الإحرام من الميقات ليس ركناً من أركان الحج بحيث لو تركه بعض الناس بطل حجه .
إذ إن أهل مكة ومن كان دون الميقات قد ترك هذا الشيء ، مما يدلل على أن الإحرام من الميقات ليس ركناً وإنما هو واجب ، فلو كان ركناً لوجب على الجميع فعله وتعيّن .
قوله : [ والوقوف إلى الغروب لمن وقف نهاراً ] .(2/99)
الوقوف : يُقصد به البقاء بعرفة ، ويُشترط لذلك شرط ذكره المصنف ، وهو أن يقع الوقوف من المُحرِم في عرفة نهاراً . فلا بد حينئذ من أن يقرن الوقوف بالنهار بوقت من الليل ، وأول الليل الغروب .
مثاله : رجل وقف في عرفة بعد صلاة العصر ، فيلزمه أن يبقى حتى يدخل الليل ، فإذا دخل أوله وهو الغروب ، اجتمع وقوف له بالنهار مع أول الليل ، ثم بعد ذلك يجوز له أن يدفع إلى مزدلفة .
وقد دل على أن ذلك واجب أدلة :
منها فعله - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه قد وقف نهار عرفة ، وجمع بين هذه الوقفة في النهار وبين جزء من الليل وهو الغروب ، وقال : ( لِتأخذوا عني مناسككم ) والحديث في [ مسلم ] عن جابر . فخرج فعله - صلى الله عليه وسلم - تفسيراً للمُجمل المنُبْهم فكان كحُكم قوله : (لتأخذوا عني مناسككم) وحُكمه الأمر ، والأصل في الأمر والوجوب .
وإنما لم يكن ركناً لازماً ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره ، وسبق : (إذا وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ) فأطلق - صلى الله عليه وسلم - الوقفة بعرفة من ليل أو نهار ، فمن وقف نهار عرفة ولو لم يجمع شيء من الليل ، فإن وقفته مُجزأة ولكنه خالف الواجب ، فيَجْبُر ذلك بدم . إلا إذا عاد بعد أن ذُكِّر أو تذكر أو استطاع في ليل يوم النحر وفي ليلة يوم النحر ، المسماة بليلة مزدلفة ، أو بليلة عرفة ؛ فإنه حينئذ لا دم عليه ، وقد سبق التوضيح والتدليل عليه .
قوله : [ والمبيت ليلة النحر بمزدلفة إلى بعد نصف الليل ]
المبيت : المقصود به البقاء والمكث ، لا أن يضطجع الإنسان وينام ، فليس شرطاً الاضطجاع والنوم بمزدلفة . وإنما عُبِّر بالغالب تعبير الدائم ، فإن الغالب أنه يُضطجع في ليلة مزدلفة وينام الناس ، ولكن من لم ينم فلا شيء عليه ، إذ المقصود المُكث بمزدلفة .
قوله : [ إلى بعد نصف الليل ] .(2/100)
أي أن الوقفة تمتد إلى نصف الليل ، فما بعد نصف الليل ، يجوز الدفع من مزدلفة إلى منى ، خصوصاً للضَعَفة من النساء ، والصبيان ، والمرضى ، ومن يقوم عليهم ، وسبق التوضيح والتدليل عليه .
دليل وجوب ذلك هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بمزدلفة ، وأقام بها ليلة يوم النحر ، وقال : (لتأخذوا عني مناسككم ) . أخرجه مسلم : من حديث جابر فخرج فعله مُفسراً لمُجمل قوله ، فكان تابعاً للقول ، والقول هنا أمر ، والأصل في الأمر الوجوب .
وإنما لم يكن ركناً ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذِن للضَعَفة من النساء ، والصبيان ، والمرضى، أن يدفعوا إلى منى بعد منتصف الليل ، كما في حديث أم سلمة ، وحديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث ابن عباس وقد سبق الإشارة إليها جميعاً .
فلو كان ركناً لما أُذن للضعيف ولا لغيره ؛ لأن الحج لا يقوم إلاّ على الركن ، فلا عُذر في التفريط فيه فدل أنه ليس بركن وإنما هو واجب من واجبات الحج .
وكذلك في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - السابق : (ليلاً أو نهاراً) . أي أنه إذ أتى المُحرم في ليلة عرفة فوقف في عرفة ، في الليل ثم بعد ذلك مرّ على مزدلفة فإنه حينئذ قد أوقع الواجب ، ولا يُشترط أن يبقى في مزدلفة بقاء الليل كلُه أو إلى الفجر ، أو نحو ذلك مما يدل أنه ليس ركناً .
قوله : [ والمبيت بمنى في ليالي التشريق ] .
المبيت في منى يُقصد به : البقاء ليالي التشريق ، البقاء في منى أكثر ليالي التشريق . والليلة تبدأ من غروب الشمس ، وتنتهي بطلوع الفجر ، وقيل بطلوع الشمس .(2/101)
فلا بد أن يبقى أكثر الليل ، ويُعرف ذلك بالحساب المعروف فَتُعد ساعات الليل من أوله ، وهو من غروب الشمس في تلك الأيام إلى طلوع الفجر ، ثم تقسمها على اثنين ، ثم بعد ذلك تزيد على النصف شيئاً بحيث يكون أكثر من المتبقي ؛ فلو كان الليل اثنى عشرة ساعة ، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، فإنك لا بد أن تَبْقَى سبع ساعات ، أو ست ساعات ونصف ، أو نحو ذلك ، مما يكون معظم الليل ، وأكثر الليل فلابد من المبيت بمنى معظم الليل ، وأكثر الليل ؛ ومعظمه لا يكون إلاّ بزيادة على نصف الليل بنصف ساعة ، أو بساعة ، أو بخمسة وأربعين دقيقة ، أو بنحو ذلك مما هو معروف في باب الحساب .
وليالي التشريق : هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر . الليل يسبق النهار .
فمساء يوم النحر ، الذي هو بعد غروب شمس يوم النحر ، هو أول ليالي التشريق ، ثم يأتي بعدها أول يوم من أيام التشريق ، بطلوع الفجر بعد ذلك الليل .
ويدل على أن المبيت بمنى من واجبات الحج أدلة :
منها فعله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ إنه خرج مخرج التفسير بقوله : (لتأخذوا عني مناسككم) فيأخذ حكم القول ، والقول هنا على الوجوب ؛ لأنه أمر .
وإنما لم يكن ركناً ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في [ الصحيحين ] استأذنه العباس بأن يبيت في مكة ؛ لسقاية الحاج ، فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، وفي رواية في [ السنن ] : (رخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت بمكة لسقاية الحاج) . فقوله : (رخّص) . وفي قوله : (استأذن) دلالة على أن الأصل المنع وهو عدم جواز الذهاب . وعدم جواز الخروج من منى ، والبَيْتُوتة خارج منى . فدل أنه واجب وليس بركن ، إذ لو كان ركناً لما أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للعباس .
وسبق أن الركن : هو . ما تجَزَّأ منه الشيء وتَبَعَّض بحيث يفتقر بعضه إلى بعض ، ولا يمكن أن يقع الشيء بدونه .(2/102)
وسقاية الحاج معناها : أن العباس بن عبد المطلب كان هو الذي يشرف على سقاية الناس من بئر زمزم فهو المتوكل عليها ، فيشرف على الناس ويسقيهم تطوعاً واحتساباً من بئر زمزم . وكذلك ما ثبت في [الصحيح] (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذِن لرُعاة الإبل بالبيتوتة خارج منى) وهذا أخرجه مسلم وغيره . وفي إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لرُعاة الإبل أن يبيتوا خارج منى ، دِلالة على أن الأصل عدم الجواز ، وإنما أُجيز لهم للحاجة ، ولو كان رُكناً لما أُجيز . ففيه نحو دلالة حديث العباس - رضي الله عنه - .
ورعاة الإبل يُقصد به : من كانوا يرعون الإبل للحجاج ، الذي يبيتون بمنى ؛ لأن الحاج إذا بات في منى ، وبقي فيها يوم النحر ثم أيام التشريق ، بحاجة إلى من يُشرف على إبله ؛ إذ لو أُدخلت الإبل في منى لما وجد الناس مكاناً ومُتنفساً ، فيقوم بعض الرعاة برعايتها يمنةً ويسرة بعيداً عن منى ، إذ إن الإبل بحاجة إلى السقاية ، وبحاجة إلى الأكل ، وبحاجة إلى من يُشرف عليها ؛ حتى لا تُنهب ولا تُؤخذ أيضاً ، فيُذهَب بها مع بعض الرعاة هنا وهناك فَجَوَّز النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء الرعاة أن يبيتوا خارج منى .
قوله : [ ورمي الجمار مرُتباً ] .
الجِمَار نوعان :
أما الأول : فهي جمرة العقبة التي تُرمى في يوم النحر ، وهو اليوم العاشر من أيام ذي الحجة .
وأما الثاني : فهي الجمرات الثلاث ، التي تُرمى في أيام التشريق ، ويأتي وصفها إن شاء الله .
قوله : [ مرتباً ] .
فالترتيب يأتي على صورتين :
الصورة الأولى : هو تقديم جمرة العقبة يوم النحر ، رمياً قبل بقية الجمار ، إذ بقية الجمار تأتي بعد يوم النحر وهو اليوم العاشر .
وأما الثانية : فهو الترتيب بين الجمار نفسها ، أعني الجمار الثلاث عند رميها في أيام التشريق المتبقية .(2/103)
وقد دل على أن رمي الجمار من واجبات الحج ، فعله - صلى الله عليه وسلم - فقد أخرج مسلم في [ صحيحه ] من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : رمى الجمرة من فوق راحلته وقال : (لتأخذوا عني مناسككم فإني أخشى ألاّ ألقاكم بعد عامي هذا) . وفيه دلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن بين الرمي وبين قوله : (لتأخذوا) . وهو فعل أمر ، والأمر يقتضي الوجوب ؛ فدل أن الرمي واجب ، وأنه من مناسك الحج المتعينة الواجبة.
وإنما لم يكن فرضاً ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعله فرضاً على جميع المسلمين فيَدخل فيه الإستنابة بان يُنوبَ بعضٌ عن بعضٍ حالة العْجْز .
وفي قول المصنف : [ ورمي الجمار مرتباً ] .
دلالة على أن الواجب شيئان :
أما الأول : فهو رمي الجمار .
وأما الثاني : فهو ترتيب الرمي .
فلو رمى ولم يرتب فقد أوقع شيئاً وخالف في شيء آخر ، فلا بد من اجتماعهما .
قوله : [ والحلق أو التقصير ] .
وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في [الصحيحين] : (ثم ليحل ويحلق) . وفيه أمر بالحلق ، وهو يخرج مخرج الوجوب وليس بركنٍ من أركان الحج اتفاقاً وإجماعاً ، كما حكاه الموفق في [المغني] والنووي في [المجموع] وجماعة .
قوله : [ وطواف الوداع ] .
طواف الوداع يُقصد به الطواف حول الكعبة سبعة أشواط توديعاً للبيت ، وليس نُسكاً من أنساك الحج ، وإنما هو نسك يتعلق بالبيت وهو توديع له .
وقد دل على أنه واجب أدلة :
منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (لا ينفِرَنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) .(2/104)
وما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : "أُمرنا أن يكون آخر عهدنا بالبيت ، إلاّ الحُيِّض من النساء فإنه قد رُخِّص لهم" . وفيه دلالة على تعين طواف الوداع ، وأنه واجب ، إلاّ الحيض والنفساء ، فإن أولئك قد رُخِّص لهن أن يتركن طواف الوداع . وإنما لم يكن ركناً ؛ لأنه رُخِّص للحائض وللنفساء أن تتركه فلو كان ركناً لما رُخص لأحد ؛ لأن الركن جزء العمل الذي لا يمكن أن يكون إلاّ به .
وهاهنا فائدة : وهي أن المذهب في كون المبيت بمنى ليالي التشريق ، أن المبيت واجب في الثلاثة مجتمعة ، فإذا بيّت الحاج ليلتين في منى ، وترك ليلة فلا يلزمه دم في المذهب . وكذلك لو بيّت ليلة واحدة في منى ، وترك ليلتين لما لزمه دم في المذهب . وهو المنصوص عن أحمد ، كما قاله شيخ الإسلام في [شرحه على العمدة] وحكاه القاضي أبو يَعْلَى الفَرَّاء في كتابه [التعليق] عن أحمد نصاً .
وأركان العمرة ثلاثة :
الإحرام .
والطواف .
والسعي .
وواجباتها شيئان :
الإحرام بها من الحل .
والحلق التقصير .
المسنون :
كالمبيت بمنى ليلة عرفة .
وطواف القدوم .
والرمل في الثلاثة الأشواط الأول : منه .
والاضطباع : فيه .
وتجرد الرجل من المخيط : عند الإحرام .
ولبس إزار ورداء : أبيضين ، نظيفين .
والتلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي .
فمن ترك :
ركناً : لم يتم حجه إلا به .
ومن ترك واجباً : فعليه دم ، وحجه صحيح .
ومن ترك مسنوناً : فلا شيء عليه .
قال المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ : [ وأركان العمرة ثلاثة : الإحرام والطواف … إلخ ] .
قوله : [ أركان العمرة ثلاثة ] .
سبق التعريف بالركن .
وأما قوله (ثلاثة) . فمبني على الاستقراء التام للنصوص والاجماعات وما إلى ذلك .
قوله : [ الإحرام ، والطواف ، والسعي ] .
سبق بيانها ، وأدلة ما ثبتت به في الحج هي أدلة العمرة سِيئّان .
وقوله : [ وواجباتها شيئان ] .
سبق التعريف بالواجب في المناسك .(2/105)
وقوله : [ شيئان ] مبنى على الاستقراء التام للنصوص والاجماعات وما إلى ذلك .
قوله : [ والإحرام بها من الحِلْ ] .
الإحرام بها من الحل : يُقصد به أحد شيئين :
أما الأول : فهو الإحرام بالعمرة من الميقات ، وقد سبق الكلام عن المواقيت المكانية ، وثبت من حديث ابن عباس في [الصحيحين] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكرها قال : (هن لهن ولغير أهلهن ممن أتى عليهن ممن كان يريد الحج أو العمرة) .
فليزم المعتمر ويجب عليه ألا يتجاوز الميقات المكاني إن كان آفاقياً ، أو نوى قبل الميقات ألا يتجاوزه إلا وقد أنشأ نية الإحرام بالعمرة، وقد سبق التدليل عيه .
وأما الثاني : فهو من كان بمكة في الحرم ، فإنه إذا أراد العمرة فيجب عليه أن يذهب إلى أدنى الحِل ، ويُنشأ نية العمرة ، ويلبي من هناك .
وقد دل على ذلك ما ثبت في [الصحيح] من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمرها أن تذهب إلى التنعيم وتُنشأ العمرة وكان ذلك بعد حجتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ) .
وفيه دلالة بأنه يلزم الخروج عن الحرم . ومما هو من الحل وخارج عن الحرم ما يسمى بالتنعيم . فلا يشترط الذهاب إلى التنعيم ، إلى أي مكان في الحل سواء أكان التنعيم أو الجعرانة أو غير ذلك من الأماكن . وإنما أَستحب جمعُ من الفقهاء أن يكون من التنعيم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة أن تُنشأ عمرتها من التنعيم . ولكن قال شيخ الإسلام : "ليس مقصوداً من النبي - صلى الله عليه وسلم - مكان التنعيم وإنما المقصود أدنى الحل" ، فيكون المستحب حينئذ أن يأخذ الإنسان المحرم العمرة من أدنى الحل ، لا من أبعد الحل ولا من أوسط الحل ، والحل : المقصود به غير الحرم ، وما هو خارج عن الحرم فيكون من أدنى الحل ، ومن أدنى الحل التنعيم ، وليس المقصود التنعيم نفسها .
قوله : [ والحلق أو التقصير ] .(2/106)
سبق التدليل عليه في واجبات الحج ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ليحل ويحلق) .
وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في عُمَرِهِ الأربع حيث إنه تحلل بالحلق ودعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين واحدة .
قال المصنف ـ رحمه الله تعالى : [والمسنون : كالمبيت بمنى ليلة عرفة …….. والتلبية من حين الإحرام إلى أول الرمي ] .
قول المصنف ـ يرحمه الله : [ والمسنون كالمبيت بمنى …..] إلى آخره .
فيه ذكر لأشياء مسنونه مشروعه ، منها ما يتعلق بالحج ، ومنها ما يتعلق بالعمرة وعلى كلٍ ، فنذكر المستحبات والأعمال المشروعة جملة فيما يتعلق بالحج والعمرة :
فأولها : ما يتعلق بالإحرام عند الميقات ، وما إلى ذلك وفيه عِدّة أعمال مشروعة ، مستحبة ومسنونه :
أولها : الاغتسال ، والاغتسال معناه : إمرار الماء على كامل الجسد . وأفضل طرائقه هو ما يتعلق بطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته عند غُسله من الجنابة . وسبق تفصيله في باب الغسُل في كتاب الطهارة . وقد دلَّ على استحبابه عدة أحاديث :
منها ما أخرجه الترمذي في [جامعه] وحسنه من حديث زيد بن ثابت أنه قال : "تجرد النبي صلى الله عليه وسلم من لباسه عند إحرامه ، واغتسل" . وزاد الدار قطني في [سننه] : "واغتسل لإحرامه" ففيه ـ أعني زيادة الدارقطني ـ ذكر علة الاغتسال وهو الإحرام . وكذلك ما ثبت عند أحمد في [مسنده] وقال الساعاتي في [الفتح] : (بسندٍ جيِّد) : أن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : "من السنة الاغتسال عند الإحرام" ، وليُعلم أن الاغتسال السابق ، مشروع في حق من كان طاهراً أو النساء الحُيَّض والنفساءَ.
فأما الصنف الأول : فيدل عليه الحديثان السابقان .(2/107)
وأما الصنف الثاني : فيدل عليه الحديثان السابقان بعمومهما ، وكذلك ما أخرجه مسلم في [صحيحه] : (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بنت عُميس عند كونها نفساء بمحمد بن أبي بكر أن تغتسل) ، وكذلك أخرج مسلم : (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة وهي حائض عندما أهلت بالحج ، أن تغتسل) .
وثاني السنن : التطيب ، ومعناه : أن يُطَيب المحرم جسده قبل إحرامه عند الميقات أو قبل الإحرام، والطيب أنواع ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الإدهان بالمسك ويُعجِبه - صلى الله عليه وسلم - ، ويدل على سُنيّة ذلك أدلة :
منها ما أخرجه البخاري من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "كنت أطيب النبي- صلى الله عليه وسلم - بأفضل ما أجد عند إحرامه ، وإني لأرى وَبِيصَ الطيب في رأسه ، ولحيته" . والحديث مُخرج في [الصحيحين] وما سبق لفظ البخاري ، وفيه دلالة واضحة على استعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - للطيب عند إحرامه أي قبل عقد النية بالإحرام ، وكذلك كان هدي السلف رضي الله عنهم . فقد ساق سعيد بن منصور في [ سننه ] عن جمع من السلف ، كعمر ، وابن عمر ، وابن الزبير وغيرهم . أنهم كانوا يفعلون ذلك . حتى إن ابن الزبير يبالغ في تخضيب شعر رأسه ولحيته ، حتى قال بعضهم : "لو أُخذ طيب شعر رأسه ولحيته لكان رأس مال" ، وليُعلم أن الاستحباب في التطيب أنما هو في البدن ، دون الثياب والملابس .
أما كونه في البدن فلحديث عائشة السابق إذ إن فيه : "أنها ترى وبيص الطيب في رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي لحيته" وهذا من بدنه - صلى الله عليه وسلم - .
وأما اللباس : فلا يُشرع للخبر والنظر :(2/108)
أما الخبر : فهو (نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَمس المُحرم ثوبه بورص أو زعفران) وهو في [الصحيح] ، والورص والزعفران ، من أنواع الطيب عند جمهور الفقهاء . ومن ثَمَّ يُجمع بين هذا الحديث ، وحديث عائشة ، وفعل السلف ، بأن الممنوع هو تطيب الثوب ، والملابس ، ولو قبل الإحرام؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه مطلقاً ؛ ولما أتى صاحب الثوب المعصفر نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فيدل على النهي ابتداء التطيب للبس عن استدامته .
وأما النظر : فذكر القاضي أبو يعلى وابن عقيل فيما حكاهما عنه صاحب [المغني] وابن تيمية في [شرح العمدة] أنهم قالوا : "لو قيل بأن الطيب يوضع في الثوب في الرداء ، أو الإزار ، للزم منه محظور ، وهو أنه إذا خلع المحرم رداءه وإزاره ثم ارتداه ، فقد ارتدى ثوباً أو لباساً مطيباً ابتداه بعد إن خلعه . وهذا محظور ولا يجوز عند جمهور وعامة الفقهاء والمعمول على الخبر السابق .
وليُعلم أيضاً أن النساء يشرع لهن التطيب كالرجال ؛ لعموم الأحاديث ولكن للنساء حالتان مع الطيب :
الأولى : هو ألا يَمرُرْنَ برجال . وألا يخالطن رجالاً ، فيُشرع لهن أن يأخذن الطيب ، والأفضل في طيب النساء ـ وسبق في كتاب الطهارة ـ أن يكون مما له لون ولا رائحة زكية له ، بحيث تُشم عن مجاورة ونحوها . ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في [سننه] وهو عند أحمد بسند صحيح ، أن عائشة رضي الله عنها قالت : "كُنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتضمد إحدانا جبهتها بالسك" كذا عند أبي داود ، وعند أحمد : "بالمسك" .
ولكن رواية : (السك) أقوى . والسك يقول ابن الأثير في [النهاية] : "هو نوع من أنواع الطيب" . يعني الطيب الخفيف الذي ليس له رائحة قوية ؛ "فتعرق إحدانا فيسيل على وجهها ، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهها عن ذلك" . وفيه دلالة واضحة على استعمال النساء للطيب .(2/109)
أما الثانية : فهو أن تخالط الرجال ؛ فحينئذ تُمنع من التطيب ؛ لأنه يُهيج الشهوة والأصل أن المرأة لا يجوز أن تظهر الطيب للرجال ؛ لحديث أبي هريرة وهو في [المسند] وهو حسن : (أيما امرأة استعطرت فمرت برجال فهي زانية ـ يُشم ريحها فهي زانية) وفي الحديث كلام ، لكنه أصلٌ متفق عليه وله آثار وأدلة .
ثالث السنن : هو أن يُحرم الإنسان بعد صلاة ، وقد وردت في ذلك أحاديث عدة منها حديث ابن عمر عند مسلم ، وحديث أنس ، وابن عباس عند مسلم ، وفيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أحرم بعد صلاة". قال شمس الدين ابن القيم في [ الهدي ] : " لا يصح خبر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بعد نافلة وإنما أحرم بعد مكتوبة" . يعني فريضة . واختار شيخ الإسلام أنها صلاة الظهر ، وجاء بذلك الحديث عن ابن عباس عند أحمد وغيره وهو صحيح ، وحينئذٍ يُشرع للمرء أن يحرم بعد صلاة . والصلاة نوعان :
النوع الأول : إما أن تكون فريضة والنبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بعد فريضة .
النوع الثاني : وإما أن تكون نافلة .(2/110)
والمذهب والذي عليه جماهير الأصحاب ، أن المستحب هو الإحرام بعد صلاة مطلقاً ، ولو أن الإنسان صلى في وقت نهي ، فليست من ذوات الأسباب التي يصح إيقاعها في وقت النهي ـ أعني ركعتين للإحرام بعدها بالنسك ـ فإن كانت الفريضة قد فات الإنسان وقتها فإما أن يكون الوقت وقت نهي ، أو يكون غير وقت نهي ، فإن كان غير وقت نهي جوز جماهير الأصحاب ، إحداث صلاة نفل للإحرام بعدها ، وإن كان وقت نهي فلا يجوز إيقاع نافلة للإحرام بعدها ؛ لأنها ليست من ذوات الأسباب ، واختار تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في [ المجموع ] : أنه ليس في الإحرام صلاة تخصه وإنما يحرم بعد صلاة ، فإن وافق المرء فريضة أحرم وإن تنفل بذات سبب أحرم . من ذوات الأسباب كركعتي الوضوء ، وتحية المسجد ، ونحو ذلك ، ويُأخذ من ذلك أن الإنسان إذا مر بالميقات ، وكان الوقت وقت نهي ، ثم أراد أن يصلي في المسجد هناك ركعتي الوضوء ، بعد وضوءٍ ، فإنه يجوز له إيقاع ذوات السبب في وقت النهي على اختيار شيخ الإسلام وجماعة .
ورابع السنن : هو عقد النية بعد الصلاة ، والتلبية من فوق الراحلة ، وقد وردت في ذلك أحاديث عدة ، كحديث ابن عمر عند مسلم : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم دبر الصلاة" وثبت عند مسلم ، من حديث ابن عمر ، وأنس وابن عباس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بالنسك من فوق راحلته ، وهي قائمة) . قال شيخ الإسلام في [شرح العمدة] : " يجمع بين الأخبار بأن يقال : النية تُعقد بعد الصلاة ودبرها ، وأما التلبية بالنسك فيكون من فوق الراحلة" وهذا الجمع ، هو الذي تدل عليه النصوص ، ويجمع بينها ، فهي سُنتان :
الأولى : عقد نية النسك من عمرة أو حج دبر الصلاة ، وجمهور الأصحاب على أنها تكون وقت كونه مستقبل القبلة ، جالساً ، مُنتهياً من صلاته ، حتى يوافق خشوعاً يسكن فيه الفؤاد ، ويَتُمَّ العقد بحضور الفؤاد ـ أي عقد النية .(2/111)
وأما الثانية : فهو الإهلال من فوق الراحلة ، ومعناها : التلبية بالنسك من فوق الراحلة ، وفي حديث ابن عمر : "وهي قائمة" . ذكر جمعٌ من الأصحاب أن فيه دلالة أن الإهلال يكون عند تهيئُ الراحلة للانطلاق ؛ لأن الراحلة من النياق والإبل ، عندما تنهض من جلوسها تكون مائلة منخفضة ، فعندما تقوم على أرجلها الأربع تكون قائمة مستوية ، وإذا قامت واستوت تهيئة للانطلاق ، فخصص بعضهم أن يكون الإهلال عند تهيئ الراحلة للانطلاق لا إذا رُكِبَت فحسب ؛ لأن رُكوبها قد يكون وهي باركة ، قد يكون وهي بين القيام والبروك ، حالة الانخفاض ، وقد يكون قبل تهيئها للانطلاق وما ذهب إليه أولئك الأصحاب ، قويٌ من حيث الدلالة اللغوية ؛ لحديث ابن عمر ، وقد ثبت في مسلم ، أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يركب راحلته ، حتى تستوي قائمة ثم يُهِلُّ من تحت شجرة ، ويقول :
"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل هكذا ، ويُهِلُّ هكذا ، ومن تحت هذه الشجرة" . هناك موضع في ذي الحليفة يسمى بموضع الشجرة والمسجد ، الآن يمسى بمسجد الشجرة به . فكان ابن عمر يُهِلُّ من هناك ، ويذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل منه .
خامس الأعمال المشروعة : وفي استحبابها نظر : هي التنظف بأخذ شعر الإبط ، والاستحداد ، وتسريح الشعر المشعث ، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب . والمذهب مشروعية ذلك ، ويُستدَلُ له بدليلين :
أما الأول : فما أخرجه سعيد بن منصور عن إبراهيم أنه قال : "كانوا يستحبون إزالة شعر العانة، والإبط ، وقص الشارب ، وقلم الأظفار ، عند الإحرام" .(2/112)
وأما الثاني : فهو أن الإحرام مِظِنَة الاختلاط بالناس ، وما كان كذلك أُستحب له النظافة ؛ حتى لا تنبعث الروائح الكريهة ؛ وكذلك لأن العبادات يُستحبُ في جنسها التنظيف وهذا منه ؛ وكذلك حتى لا يحتاج المحرم إلى إزالة شعر يؤذيه يطول عليه وقت إحرامه ، إن طال وقت إحرامه ؛ وكذلك يقال في قَلْم الأظفار وفي قص الشارب . واختار تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ أن الأمور السابقة من الإستحداد، ونتف الإبط ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، هي مُستحبة في أصلها لا لأجل الإحرام ، وهو اختيار متوجه ؛ لأنه لم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله ذلك في عُمَرِه ، ولا في حجته ؛ ولم ينقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً مستفيضاً ، وهو مما تتداعى الهمم إلى نقله ، وهو ظاهر أكثر من كثير السنن المعروفة .
سادس السنن : هو أن يُحرم في ثوبين نظيفين أبيضين ، ويدل على ذلك أدلة : منها فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - كما في [ الصحيح ] : (أنه أحرم في ثوبين أبيضين ، في رداء وإزار) . كما في حديث ابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم . وكذلك ما ثبت عند الترمذي وحسنه : (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإحرام في إزار ورداء ونعلين) . وأعل الحديث ابنُ القطان ، فيما حكاه عنه الزيلعي في [نصب الراية] لجهالة فيه ، لكن جنس الرداء ، والإزار ، والنعل ، ثابت في نُسِك النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه آثار .
وأما كونهما أبيضين ، فلما ثبت عند أحمد وسنده صحيح ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (خير ثيابكم البياض فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم) . وكذلك يدل عليه ما ثبت (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم في ثوبين أبيضين) .
وأما كونهما نظيفين فيأتي على حالتين :
... الأولى : أن يكون جديداً ، والأصل في الجديد أن يكون نظيفاً .(2/113)
وأما الثانية : فألا يكون جديداً ، ولكنه مغسول حتى تَنَظف ، فهاتان الحالتان تدخلان في جنس كون الرداء والإزار والثوبين نظيفين .
وليُعلم أن الرجل يجوز له أن يرتدي أنواع الملابس ؛ لكن بشرطين :
أما الأولى : فهو ألا يكون مخيطاً وسبق .
وأما الثاني : فهو ألا يكون فيه محظور ، والمحظور نوعان :
النوع الأول : ألا يكون لباس شُهرة وأصل لباس الشهرة ، ما يُشهر ويبُرز صاحبه للعيان ، بحيث تلتفت إليه الأذهان . وهو لا يخرج عن صنفين ذكرهما تقي الدين ابن تيمية في [ المجموع ] :
أما الأول : فهو أن يكون باهظ الثمن ، فاخراً .
وأما الثاني : فهو أن يكون دنيئاً منخفضاً .
قال تقي الدين وهذان النوعان يكرهما السلف وينهون عنهما .
النوع الثاني : أن يكون مباحاً ، وإباحته من جهتين :
... الأولى : فإباحة تتعلق بمادته كأن لا يكون حريراً .
... الثانية : فإباحة تتعلق بجهته ، هو ألا يكون مغصوباً ، ولا يكون فيه تشبه بالنساء ، ونحو ذلك .
وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية في [المجموع] : إلى أن اللباس الذي فيه حُمرة ينبغي ألا يلبسه المحرم ، وذكر أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان ينهى الرجال عنه .
وسابع السنن : هو أن يُحرم في نعلين من قِبَل الرجل ، ويُستدل لذلك بالحديث السابق ، وفيه ذكر للإزار والرداء والنعلين ، لكن قال تقي الدين ابن تيمية في [شرح العمدة] : الناس صنفان : صنفٌ يحتاج النعل فالأصل في حقه الانتعال .
وصنفٌ : لا يحتاج إليها كراكبٍ على راحلة ، أو نحو ذلك . فلا يُقال إن السنة الانتعال. وهو توجيه متجه ، خصوصاً وأن غالب الناس وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يمشون على أقدامهم ، فكانوا محتاجين إلى التنعل ، فيخرج حينئذ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، على الحالة الأكثرية والغالبية.(2/114)
وليُعلم أن المرأة في اللباس ، ينبغي أن يكون ساتراً ، ليس فيه تشبهٌ بالرجال ، ولا فتنة لهم . وهذا أمر متفق عليه ، وقد حكى الاتفاق فيه غيرُ واحدٍ ومنهم النووي في [المجموع] وجماعة .
وها هنا تنبيه : وهو أن لفظ التلبية الوارد جاء بصيغ :
أولها : عند العمرة ( لبيك عمرة ، أو اللهم لبيك عمرة ) .
وثانيها : عند الحج ( لبيك حجاً ، أو حجة ) عند الإفراد أو ( اللهم لبيك حجاً ، أو حجة).
وثالثها : عند الحج قراناً أو تمتعاً ( لبيك عمرة وحجاً ، أو اللهم لبيك عمرة وحجاً) ومن ثمَّ يُعلم أن زيادة متمتعاً بها إلى الحج ، في قول بعضهم "لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحج". لم يرد في ذلك الخبر ، لكن ذكره جمعٌ من الفقهاء . والأمر في ذلك واسع ؛ لأن الشأن سنة أو لأن التلبية سنة .
وأما الثاني : فما يتعلق من السنن والأعمال المشروع ، بدخول مكة .
وفيه سنن :
أولها : أن يُستراح في مكة قبل البدء بالطواف ، فقد ثبت في [ الصحيحين ] من حديث ابن عمر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بذي طوى ، ثم أصبح فدخل مكة) ، وذو طوى هو عند آبار تسمى بآبار الزاهر ، وهي معروفة بمكة .(2/115)
وثانيها : هو أن يغتسل عند دخول مكة ، فقد جاء في [الصحيحين] : "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يبيت بذي طوى ، ويغتسل ويقول : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك) . وعند أحمد وسبق ، عن ابن عمر أنه قال : "من السنة الاغتسال من الإحرام ، وعند دخول مكة" . وأما إذا لم يستطع الإنسان الاغتسال ؛ لمشقة أو نحوها ، فلا أقل من الوضوء ، فقد جاء عند مسلم وغيره من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل مكة ، بدأ بالوضوء ثم طاف" . وذكر بعض الفقهاء حِكمةٌ في ذلك : وهي مزيدُ نظافة ؛ لأن مخالطة الناس في المسجد الحرام أكثر ، فلا تنبعث الروائح المزعجة الكريهة ؛ ومنها تنشيط المحرم أكثر ، فإن مرور الماء على الجسد تطهراً وتنظيفاً ينشطه ويقويه .
وثالثها : هو دخول مكة من أعلاها لا من أسفلها ، فقد ثبت في [الصحيح] من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم مكة دخلها من أعلاها ، لا من أسفلها" . قال تقي الدين ابن تيمية كما في [المجموع] : "من أي جهة دخل الإنسان مكة جاز ، والأفضل أن يدخلها من أعلاها لا من أسفلها ومن وجه الكعبة ـ وجه الكعبة من جهة الباب : باب الكعبة فالبيت وجهة من جهة بابه فكذلك الكعبة ، وهو بيت ـ وفي النهار لا في الليل" انتهى كلامه . وفي دلالة على ما سبق وتأكيد له .
ورابعها : هو دخول مكة نهاراً ، لا ليلاً وهو الثابت في حديث ابن عمر في [الصحيحين] : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبيت بذي طوى ، ثم يصبح فيدخل مكة" . وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة بالنهار في أوله .
يتعلق بدخول مكة جملةَ أعمالٍ مشروعةٍ ، وسنن ، ذُكر كثير منها وبقي سُنتان مشروعتان :(2/116)
أما الأولى : فهو دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة . فقد ثبت في [صحيح مسلم] من حديث جابر أنه قال : "فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة عند طلوع الشمس ، وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ، ثم دخل" .
وفي ذلك أحاديث وآثار عدة وقال في [الإنصاف] : "بلا نزاع نعلمه" . يعني : في استحباب دخول المسجد الحرام من باب بني شيبة . وباب بني شيبة يسمى اليوم : بباب السلام .وهو يجعل الداخل منه ، يخرج على الكعبة على بابها ، ما بين زمزم والمقام . وفيه دخولٌ إلى البيوت من أبوابها . والمرء إذا قصد بيتاً أتاه من وجهه . وإذا أتى مَلِكاً أَمّ بابه واستلم وقَبّل يمينه . وأفضل جهات البيت ، جهةُ بابه ففيها يمينه : وهو الحجر الأسود . وجاء في الأخبار أن الحجرَ الأسود يمين الله في الأرض . وليس هناك مشقة في الاستدارةِ حول المسجد الحرام ، للدخول من باب بني شيبة ، ولذلك أُتُفِق في الجملة على الدخول من خلاله . والأصل كما سبق هو المجيء من أعلى مكة من ثَنِية كَدَاء ـ بفتحات ومدٍ آخرها همزة ـ إذا إنه طريق ما بين جبلين ، والطريق يسمى بطريقِ الحَجُون ـ بفتح الحاء المهملة وضم
الجيم ـ إذ إن الآتي منه يُشرف على مقبرة أهل مكة ، ثم بعد ذلك ينزل إلى أن يصل إلى المسجد الحرام ، فيواجهه بعد ذلك باب بني شيبة ، المسمى اليوم بباب السلام ثم يخرج بعدها من أسفل مكة ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة كُدَي ـ بضم الكاف وفتح الدال المعجمة آخرها ياء ـ فقد ثبت من حديث عائشة وسبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة من أعلاها ، وخرج من أسفلها .
وأما الثانية : فهو التكبيرُ والدعاء عند رؤيةِ الكعبة .(2/117)
فقد جاء في [ مراسل مكحول ] أنه قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى البيت ـ يعني الكعبة ـ رفع يديه وكبّر وقال : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام حيِّنا ربنا بالسلام ) ذكره البيهقي ، والطبري، وجماعة ، وصححه ابن القيم ، وأثبته شيخ الإسلام وقال في [ المبدع ] : " وعليه الأكثر " .
وأخرج ابن جرير الطبري عن عمر بن الخطاب بنحوه ، قال في [ الإنصاف ] : " استحباب الدعاء عند البيت لا نزاع فيه " ، وقال تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله : " كانت الكعبةُ في القديمِ تُرى من خارج المسجد ، ثم أصبحت الأسوار أعلى منها ، فمن رأى الكعبة من خارج الأسوار ، قال ذكر الرؤية ـ يعني رؤية الكعبة ـ ومن لم يرها إلا بعد دخولهِ من الأسوار والأبواب ، قال الذكر عند رؤية الكعبة " .
وفي الجُملة فالآثار في ذلك لا تخلو من ضعفٍ ، لكن أثبت بعضها ابن القيم وابن تيمية ـ يرحمهم الله .
وأما الثالث : فيومُ التروية وفيه أعمالٌ وسنن :
أولها : الإحرام يوم التروية . وله وقتٌ ، ومكان .
أما وقته : فهو أن يكون قبل زوال شمس يوم التروية ، وفي أول النهار ضُحى فقد جاء في حديث ابن عمر أنه قال : "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر يوم التروية بمكة ، حتى إذا طلعت الشمس راح إلى منى ، فصلى فيها الظهر" . وفي حديث جابر عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مِنى قبل الزوال وصلى الظهر بها ، والروايات تتفق على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمنى . وحديث ابن عمر فيه إثبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر في مكة وبين منى ومكة ، مسافة فرسَخ فيحتاج إلى وقت .(2/118)
وأما المكان : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه توجهوا إلى منى ، من مكة وأصحابُهُ الذين أحلوا من عمرةٍ سابقة ، أهَلّوا من الأبطح بمكة . وهذا ثابت في [صحيح مسلم] من حديث جابر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجماعة . قال تقي الدين ابن تيمية كما في [المجموع] و [والمنسك] : "كان منزل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه هو الأبطح لمّا نزلوا فيه ، ثم أهل أصحابه من الأبطح ؛ لأنه منزلهم الذي نزلوا فيه ، فالمستحب الإهلالُ بالحج من المنزل الذي نزله الإنسان" . انتهى كلامه ، ويؤخذ منه أن من كان خارج مكة دون الميقات ، فمَهَلُهُ من منزلِهِ ، ومن كان داخل مكة فمَهَلُهُ من منزله ، وإنما يُهلُّ يوم التروية ، مَنْ لم يكن قارناً بحيث أتى بعمرة قبل يوم التروية ، أي طَواف العمرة، أو أتى بعدة بسعي الحج ، فهو باقٍ على إحرامه فلا يُهل . أو من كان مُفرداً وبقي محرماً فإنه لا يُهِل . فالإهلال لا يكون إلاّ لأحد صنفين :
أما الأول : فمن أتى بعمرة وأنهاها ليتمتع بها إلى حج .
وأما الثاني : فمن لمن يُنشأ حجاً بعد ، من أهل مكة ونحوهم .
وثانيها : هو الإكثار من التلبية إلى أن يَرمي المحرم جمرة العقبة .
والأحاديث في ذلك مستفيضة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه . كحديث جابر في [ مسلم ] وابن عباس وغيرهما .
وثالثها : هو أن يصلى المحرم صلاة الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، وفجر يوم عرفة بمنى، يوم التروية .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر ، وجابر عند مسلم وغيرهم . أنه صلى تلك الصلوات بمنى ، يوم التروية .
ورابعها : هو قصر الرُباعية من تلك الصلوات ، في منى يوم التروية ، ولو كان الداخل لمنى من أهل مكة . فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر ، وكان أهل مكة وراءه ولم يأمرهم بالإتمام . ولا يُجمع بين الصلاتين في منى يوم التروية ، وإنما تُقصر الرباعية فحسب ، وتُصلى كُلُ صلاةٍ في وقتها .(2/119)
وقد ثبت ذلك من حديث ابن عمر ، وجابر ، عند مسلم وجماعة .
وخامسها : هو أن من أهل بالإحرام على ما سبق ، يفعل كما يفعل المحرم عند الميقات : من الغُسل ، والتطيب ، وما إلى ذلك ، وقد سبق .
أما من كان محرماً قارناً لم يفسخ منسكه ، فلا يجوز له أن يتطيب ، وإنما هو في حق الصنفين السابقين .
فائدة :
الأيام من اليوم الثامن ، فما بعد من أيام الحج ، لكل يوم اسم :
فأولها : يوم التروية ، سُمي بذلك ؛ لأن الناس كانوا يتروون بالماء ، ويُروون إبلهم بالماء؛ لأن عرفة ومزدلفة ليس فيها ماء ، وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - . فكانوا يتحصلون على الرِّيّ في أنفسهم وإبلهم . والرِّي : هو الشَبَع في الارتواء من الماء ؛ فسمي بيوم التروية .
وأما التاسع : فيسمى بيوم عرفة ، يُقال إن آدم لمّا أُنزل إلى الأرَض ، أضاع حواء بعد أن خُلِقتْ من ضِلَع أعوج من آدم ، وهو ضِلَعُه الأيسر ، فتعارفَ هو وإياها بعرفة ؛ فسيمت عرفة . ذكره ابن كثير في [البداية والنهاية] وجماعة وهو خبر مشهور .
وأما العاشر : فيسمى بيوم النحر ؛ لأن الهدي يُنحر فيه .
وأما الحادي عشر : فيسمى بيوم القَرْ ، قيل : لأن الناس يَقِرُّون فيه فلا يجوز لأحد النَّفْر والذهاب .
وأما الثاني عشر : فيسمى يوم النَّفْر الأول ؛ لأنه يجوز النفر من مكة للمتعجِل .
وأما الثالث عشر : فيسمى بيوم النفر الثاني ؛ لأن النفر من مكة يكون في هذا اليوم للمتأخر .
والنَفْرُ : هو الخروج من مكة ، وإنما سُمِي نَفْرَاً ؛ لأن فيه تعجُلاً للخُطا والمشي والحركة وما إلى ذلك . تقول نفر فلان من فلان : إذا شرد منه مُتعجلاً سريعاً .
ومِنَى ـ بكسر الميم وفتح النون آخرها آلف مَدِّية ـ سُميت بذلك من الإمناء للدماء ، والإمناء للدماء : أي صب الدماء وإهراقها . وصبُ الدماء وإهراقها يكون في مِنَى ، ويخطأ من يقول مُنى(2/120)
ـ بضم الميم ـ لأنه من الأُمْنِيَّة : وهي الأماني خلافاً للأول فهو من الصب والإهراق ، والثاني غير مقصود اتفاقاً ولا يصح ضبطه بضم الميم .
واليوم التاسع : يُسمى بيوم الوقفة أيضاً ؛ لأن الناس يقفون فيه للذكر والدعاء .
مسألة :
وهي هل يصح الإحرامُ بالحج قبل يوم التروية أم لا ؟
السُنة ، والوارد عن السلف ـ يرحمهم الله ـ أنهم أهلوا بالحج يوم التروية ، ولم يُفعل ذلك قبل يوم التروية ، ولو كان سائغاً جائزاً لتسابق الناس إلى ذلك ، قال تقي الدين ابن تيمية في [شرحه على العمدة ] : " لو قيل بذلك ـ يعني تقديم الإهلال بالحج على يوم التروية ـ للزم منه مفاسد منها : انقطاع تمتُعِ كثير . لأن معنى التمتع : هو التمتع بما حَظُر على الإنسان لمّا كان محرماً بالعمرة ، فإذا انتهى منها جاز له أن يتمتع بهذه المحذورات إلى يوم الإهلال بالحج ، وهو يوم التروية ، ففيه حينها تضييقٌ على الناس وإيجاد مشقة تخالف التمتع ومعناه . وعلى كلٍ فهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في ذلك هو الإهلال بالحج يوم التروية ، وعلى هذا جمهور وأكثر أهل العلم كما قاله النووي في [المجموع] وجماعة وجوّزوا الإهلال قبل يوم التروية ، لكنه خلاف الأفضل وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الرابع فيوم عرفة ، ويبتدأُ بطلوع شمس نهاره إلى طلوع شمس نهار يوم النحر . وفيه أعمال وسنن :
أولها : هو أن يكون الدفعُ من منى بعد طلوع الشمس .
وقد دل على ذلك دليلان :
الأول : دليل الخبر ، وفيه أحاديث ، ومنها حديث جابر عند مسلم .
وأما الثاني : فالاتفاق وقد حكاه غير واحد ومنهم ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ كما في [شرحه على العمدة] .
وها هنا تنبيهان :(2/121)
الأول : وهو ما ذكره تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله في [شرحه على العمدة] أن الأولى ألاّ يُدفع من منى إلى عرفة ، إلاّ إذا علت الشمسُ جبل ثَبير ، وجبل ثبير ـ بفتح التاء والمثلثة ، وكسر الباء والموحدة ، بعدها ياء تحتانية ساكنة ،آخره راء مهملة ـ جبلٌ مجاور لمِنى ، وهو أعظم الجبال حولها وأكبرها .
أما الثاني : فهو ما ذكره تقي الدين أيضاً في [شرحه على العمدة] بأن تجهيز الأحمال ، والمتاع على الراحلة والمركب ليس من السير ، فيجوز عندها أن تُفعل تلك الأشياء قبل طلوع الشمس ؛ لأنه ليس من السير .
وثاني الأعمال : هو أن يكون السيرُ من طريق (ضَبّ) بفتح الضاد ، وتشديد الباء الموحدة . وهو طريقٌ معروف . وأصله اسم جبل بأصله مسجد الخَيف ، كما قاله ياقوت في [معجم البلدان] وكذا الأزرقي في [أخبار مكة] وجماعة . قال القاضي أبو يعلى في [الأحكام السلطانية] "وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - من منى إلى عرفة ، بطريق ضب" وبنحو ما قال القاضي جزم تقي الدين ابن تيمية في [شرحه على العمدة] . وقال الأزرقي في [أخبار مكة] : (كان المَكيُّون يقولون : إن الني - صلى الله عليه وسلم - سار إلى عرفة ، من منى بطريق ضَب) .
وهاهنا تنبيهان :
الأول : أنه لا ينبغي أن يقف المحرم بالمشعر الحرام ، وهو سائر إلى عرفة . والمشعرُ الحرام : مزدلفة ؛ لأن ذلك من هدي أهل الجاهلية ؛ ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - . وكانت قريش تدفَعُ من مِنى ولا تذهب إلى عرفة بل تبقى في المشعر الحرام بمزدلفة ، عند جَبَل يُقالُ له جبل قَزَحَ ، بفتحات . وجبل (قَزَحَ) أصله وُضِعَ عليه مسجد مزدلفة اليوم ، ولكن وُضع عليه منارة ، وهذه المنارة فوقها مصابيح من كهرباء في عصرنا اليوم .
وأما الثاني : فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مُستمراً في التلبية حتى في طريقه إلى عرفة ، ولم يقطعِ التلبية.(2/122)
وجاء في الخبر أن أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ كان منهم من يُكبِّر ، وكان منهم من يُهِلّ ـ أي بالتلبية ـ ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد ، كما جاء عند أحمد من حديث ابن عباس وغيره .
ولِيُعْلَم أن طريق (ضَبّ) يسمى اليوم بطريق (القناطر) ، وهو مشهور معروف .
وثالث الأعمال : هو النزولُ بِنَمِرَة ، وهو موقع معروف ، قريب من عرفة ، بين الحرم وعرفة، وهو في الحِلْ ، ليس من الحرم .
وقد دلّ على شرعيةِ النزولِ بنمرة دليلان :
أما الأول : فالخبر ، وفيه أحاديث ومنها حديث جابر ، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ضُرِبت له قُبّة بنَمِرَة" .
وكذلك حديث ابن عمر عند البخاري .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه ابنُ الهُمَام كما في [شرحه على فتح القدير] والأصل في النزول بنَمِرَة ، أنه شعيرة ومنسك ، لا مِن جنس العوَائِد ، أو لطلب الراحة فحسب ؛ لمطلق قول النبي- صلى الله عليه وسلم - : (خذوا عني مناسككم) . كما عند مسلم من حديث جابر ، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك واشتهر ، أنه من المناسك . ويدل عليه فعل ابن عمر كما عند البخاري حيث جعل ذلك من الشعائر .
ورابع الأعمال : هو الدفعُ من نَمِرَة إلى عرفة عند زوال الشمس ، وزوالُها بميلها إلى جهة الغرب، عن وسط السماء .
وقد دل على ذلك جملة أحاديث :
منها حديث جابر عند مسلم ، وحديث ابن عباس عند أحمد . وحديث ابن عمر عند البخاري. وغيرها .
وخامس الأعمال : هو النزولُ ببطنِ وادِ (عُرَنَة) بضم العين المهملة ، وفتح الراء المهملة ، وفتح النون . قاله البَعْلِيّ في [المُطْلِع] .
وقد دل على ذلك جملة أحاديث :
ومنها حديث جابر عند مسلم ، وحديث ابن عباس عند أحمد ، وحديث المُستَورد عند الحاكم وصححه.(2/123)
وهاهنا تنبيه : وهو أن عُرَنَة ليست من عرفة ، على المُحقَق عند أهل العلم ، وبه جزم الأزرقُي في [أخبار مكة] وأبو يَعْلَى الفَرَّاء في [الأحكام السُلطانية] ، وتقي الدين ابن تيمية في [شرحه على العمدة] وجماعة .
وأصل عُرَنَة : مجمع السيل ؛ لأنه وادٍ تسيل فيه المياه عند إمطارها ، وفيه مسجد يُسمى بمسجد إبراهيم ، قال الإمام مالك كما في [المُدَوَّنَة] : "بناء المسجد في عُرَنة مُحدَث ، ليس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاءه ، وإنما حدث بعد بنىِ هاشم بعشر سنين" . وقال تقي الدين ابن تيمية كما في [المجموع لابن القاسم] : "المسجد الذي فيه ، هو مسجد إبراهيم بن محمد العباسي ـ وليس إبراهيم الخليل ـ وقد بُني هذا المسجد في أول دولة بني العباس" . واختُلف في مسجد إبراهيم هذا هل هو مسجد عرفة اليوم أم لا، قولان : المختار وبه جزم أبو يعْلَى الفَرّاء في [الأحكام السلطانية] وتقي الدين ابن تيمية في [المجموع] أنه مسجد عرفة الذي يُخطَبُ فيه .
وسادس الأعمال : هو أن يُخطبَ في عُرَنَة من قِبل الإمام ، أو من يوكِّلُه ـ من قبِل إمام المسلمين ـ أو من يوكِّله الإمام .
... وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خَطب بعرفة بدليلين:
أما الأول : فالخبر ، وفيه أحاديث :
كحديث جابر عند مسلم ، وحديث ابن عمر عند البخاري .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه المردَاوِيُّ في [ الإنصاف ] بقوله : "بلا نزاع" . وكذا قاله الشارح في [ شرحه الكبير ] .
وهاهنا تنبيهات :
أولها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوجزُ في خطبته تلك ، ولم يكن ليطيل فيها .
ويدل على ذلك حديث ابن عمر عند البخاري وفيه : (من السنة قصر الخطبة) .
وأما الثاني : فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس على ناقته القصواء وهو واضع قدميه في مركبه- صلى الله عليه وسلم -.(2/124)
وقد ثبت ذلك من حديث المُستورد عند الحاكم وصححه ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد .
وثالثها : أن المذهب ، على ما أشار إليه في [ الإنصاف ] هو البدءُ بالتكبير من قِبل الخطيب ، في هذا الخطبةِ . ولكنَّ المُختار على ما ذكره ، تقي الدين وجماعة . هو البدءُ بالحَمْدلَةِ في جنس الخُطَب ؛ لأنه هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - المحفوظ عنه .
ورابعها : هو أن هذه الخُطبة ، خطبة منسك ، لا خطبة جمعة ، بحيث تُبَيّن فيها مناسك الحج ، من الوقوف بعرفة ، ثم الدفع إلى مزدلفة ، ثم أعمال يوم النحر ، وأيام التشريق ، ويُوصى فيها بترك المحرمات والشِرك ، وبلزوم الطاعات والمستحبات ، وبوجوب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولزوم ذلك ، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في حديث جابر عند مسلم وغيره .
قال تقي الدين في [ المجموع ] : "وخطبة عرفة خطبة منسك ، لا خطبة جمعة" يعني أنه يُتكلم فيا عن مناسك الحج وما إلى ذلك .
وسادس الأعمال : هو صلاة الظهر ، والعصر ، جمع تقديم مع قصرها ، بعد خطبة عرفة ، لا قبلها . وهذا هو الصحيح والمذهب وعليه الأصحاب ، قاله في [الإنصاف] .
ويدل عليه حديث جابر عند مسلم ، وقد جاء عند أحمد "أن بلالاً هو الذي أذن وأقام ، في يوم عرفة للظهرين" .
وها هنا تنبيهات :
أولها : أن الظُهرين لهما أذانٌ واحدٌ وإقامتان . فيؤّذَّن للظُهرين ثم يُقام للظهر ، فإذا أُنتهي منها أُقِيم للعصر ثم تُصلّي .
ويدل عل ذلك صريح ما جاء عند مسلم من حديث جابر .
وثانيها : هو أن الجمع هو جمع نُسُك ، لا جمع سفر ، والمذهب عل ما أشار إليه البُهوتي في [الروض المُرْبع] هو أنه لا يَجمع إلاّ من كان حاجّاً وجاز له الجمع ، يعني مِن سَفَر .(2/125)
واستُثْنِي من ذلك أهل مكة ، فلا يجوز لهم الجمع على ما أشار إليه البُهوتي ـ يرحمه الله ـ . وأختار تقي الدين ابن تيمية كما في [ الإختيارات ] ومنسكه أن كلّ من صلّى وراء الإمام جاز له الجمع، والقصر ، سواء أكان من أهل مكة ، أو غيرهم . سواء أكان مسافراً ، آفاقِياً أم لا .
ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُبين ويُفصل في ذلك ، بل الناس صلوا وراءه ، فجمعوا بجمعه، وقصروا بقصره ، وتأخير بيان الحكم عن وقت الحاجة لا يجوز إتفاقاً .
ثم هو المعمول به إذ لم يُنقَل خلافة ، لا عن الخلفاء الراشدين ولا مَن زامن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء .
وثالثها : هو أن الصلاة تُصلّى دون قراءةٍ جهرية ، بل يُسَر فيها ، وهو الثابت في النصوص . إذ لم يُنقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر ، لا في حديث جابر عند مسلم ، ولا ابن عباس عند أحمد ، ولا غيرها .
ورابعها : أن من فاته الجمع مع الإمام ، جاز له أن يجمع مُنفرداً ، أو مع آخرين فاتهم الجمع .
سابع الأعمال : هو أن يُدفَع من عُرَنَة إلى عرفة ؛ ليُوقَف فيها . ويدل على ذلك دليلان :
أما الأول : فالخبر ، كحديث جابر عند مسلم وغيره .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه ابن المنذر ، والموفق في [ المغني ] والنووي في [ المجموع ] وجماعة .
وها هنا تنبيهات :
أولها : أن الأفضل في الوقفة هي وقفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولها صفات :
أولها : أنه كان مستقبل القبلة - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جاء ذلك عند أحمد قال الساعاتي في [الفتح] : "سنده جيد" .
ويدلُ عليه الاتفاق المحكي في استحباب جهة القبلة مطلقاً ، وقد حكاه النووي في [ المجموع ] وجماعة .(2/126)
وثانيها : هو رفعُ اليدينِ بالدُعاء ، وقد جاء ذلك عند مسلم ، من حديث جابر وجاء في حديث المستَورِد عند الحاكم (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه) . وفيه دلالة على إظهار الرفع ، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم - أكثر من الرفع . فليس رفعاً فيه انخفاض لليدين ، بل فيه إعلاء لهما .
وثالثها : هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان راكباً راحلته ، واختلف الفقهاء هل يُستحب في يوم الوقفة عند الدعاء والوقوف بعرفة أن يكون المحُرم راكباً ، لا راجلاً ؟ قولان ، المذهب : أن يكون راكباً ، قاله في [الإنصاف] ، واستدلوا على ذلك بدليلين :
أما الأول : فالخبر ، حيث جاء عند مسلم من حديث جابر : (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعوا وهو راكب على راحلته) .
وكذلك جاء من حديث أسامه عند أحمد وغيره .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في حديث جابر عند مسلم : (خذوا عني مناسككم) . ومن المناسك ، هيئة الوقفة بعرفة ، ومن هيئتها الركوب على الراحلة وقت الدعاء ، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو من جُملة المناسك .
وأما الثاني : فدليل النظر ، وذكروا فيه أشياء منها :
أن الراكب على الراحلة ، يكون أحسنَ من الراجل ؛ إذ يستطيع الاحتمال إلى الغروب ، فلا يصيبه العَيَاء والتعب ، فَيَترك الدعاء .
ومنها أن الراكب يُقتدى به ، وفيه إظهار شعيرة ليقتدي الناس به ، ويحث بعضهم بعضاً عليه .
واختار تقي الدين كما في [ المجموع ] وشمس الدين ابن القيم كما في [ الهدي ] أن الأمر في ذلك تَبَعٌ للمصلحة ، فإن كانت المصلحة أن يبقى المحرم راكباً ليُقتدى به ، أو يُتعلّم منه ، كالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يبقى راكباً وإن كانت المصلحة أن يكون راجلاً ؛ لمحبته لذلك ؛ وأُنْسِه بذلك ؛ أو لعدم وجود مركب له أو نحو ذلك جاز .(2/127)
ويُستدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب ، ومِن أصحابه من كان راجلاً ، فلم يأمر أحداً بالركوب . ولو كان مندوباً إليه لأمر ، وحث - صلى الله عليه وسلم - .
وكان الأمر على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر ، وعمر ، قاله ابن تيمية في [المجموع].
ورابعها : أن يُجعَل جبل الرحمة ـ وهو جبل يتوسط ساحة عرفة فوقه قُبّة تُسمى بقُبّة آدم ـ أن يُجعل بين الداّعي والقبلة ، وهو ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث جابر عند مسلم ، وابن عباس عند أحمد ، والأحاديث في ذلك كثيرة .
خامسها : قال تقي الدين : " لا يُستحب الصعود على جبل الرحمة بإجماع الفقهاء ، وجَعلُ ذلك سنة والتعَبُّد بذلك الفعل من البدع المحدثة " .
سادسها : هو أن عرفة كلها موقف إلاّ عُرَنة ؛ لأنها ليست من عرفة على الصحيح ولما أخرجه ابن ماجه في [ السنن ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (عرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عُرَنة) .
وقد أخرجه أحمد . قال الهيثمي في [ المَجْمَع ] : " رجاله موثوقون " .
وقد نُقِل الإجماع أن الوقوف بعُرَنة لا يصح ، حكاه الشارح في [ الشرح الكبير ] وأشار إليه تقي الدين في [ شرحه العمدة ] .
ثامن الأعمال : هو الدعاء عند الوقفة بعرفة ، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في ذلك اليوم ، كما في حديث جابر عند مسلم ، والأحاديث في ذلك مستفيضة كثيرة .
وينبغي أن يُحرص على قول : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) فقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحمد ، قال الساعاتي : "بسند جيد".
وأخرجه الترميذي وقال : "هو من وجه غريب بلفظ" : (خير ماقُلتُ أنا والنبيون : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) لكن الحديث ضعيف . وله طُرق يشد بعضها بعضاً ، كما قاله ابن عبد البر في [التمهيد] .(2/128)
وعلى كلٍ فكلمة التوحيد جاء بفضلها أحاديث كثيرة وأنها من أفضل الذكر .
وكان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك هو رفع اليدين ، مع الابتهال واستمرارية الدعاء، إلى غروب الشمس .
وجاء من حديث أسامة وغيره : (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تناول خِطام راحلته لمّا سقط بإحدى بيده ، وأبقى الأخرى رافعاً لها) . وفيه دلالة على استمرارية الدعاء ، وعدم قطع رفع اليدين قدر المستطاع ؛ وما ذلك إلاَ لأن يوم عرفة والوقفة فيه ساعة إجابة ؛ ويباهي الله فيه ملائكته ؛ وينخذل فيه الشيطان انخذالاً لا ينخذله في غيره وقد صحت بذلك الأحاديث .
آخر الأعمال : هو الدفعُ من عرفة إلى مزدلفة ، عند غَيَاب قرص الشمس وزوال قليل من الإصفرار فوقه . كما ثبت ذلك عند مسلم من حديث جابر . والاتفاق محكي على جواز الدفع عند مطلق الغروب . والأفضل أن يكون بهيئته السابقه التي فيها قديدان :
الأول : غياب قرص الشمس كاملاً .
والثاني : غياب قليل من الصفرة التي فوق الشمس .
وللفقهاء في ذلك توجيهان :
الأول : أنه يبقى قليل من الصفرة ، لا أن الصفرة القليلة هي التي تذهب .
والثاني : العكس ، وهو أن صفرة قليلة تذهب ، ويبقى كثير . وهو صريح حديث جابر .
فأماَّ الخامس : فليلة مزدلفة : وسُميت بذلك من الإزدلاف وهو التقرب إلى الشيء وذلك أن الحجيج يقتربون إلى منى عند ذهابهم إلى مزدلفة .
وتُسمَّى أيضاً بليلة جمع ؛ لاجتماع الناس فيها . وثمَّ أعمالٌ مشروعة :
أول الأعمال : هو أن الدفع من عرفة يُسَنُّ ألا يكون إلا مع الإمام فلا يُسبق الإمام وإن غربت الشمس . أو وكيل الإمام .
وقد دل على ذلك دليل الخبر ، وهو حديث أسامة في [الصحيحين] وفيه : "أن أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - دفعوا بِدَفعه" وقد نصَّ الإمام أحمد كما في رواية المرَّوزي : "أن ذلك من السنة" .(2/129)
قال في [الإنصاف] : الصحيح من المذهب والذي عليه جماهير الأصحاب هو أن الدفع مع الإمام سنة . ويروى عن الإمام أحمد : "أن من سبق الإمام فعليه دم" . ولكن الرواية الراجحة هو أن الشأن في ذلك سُنة ، وليس بواجب ، ولا يلزم المتقَّدم أو المستأخَّر دم .
وثاني الأعمال : هو أن يكون الذهاب إلى مزدلفة عبر طريق المأزمين ، إذ إن بين عرفة ومزدلفة طريقين :
أمَّا الأول : فطريق ضب ، وسبق .
وأمَّا الثاني : فطريق المأزِمَين ، والمأزمين : واحدها مأزِمَة من تأزُمِ الشيء إذا تصعب وتعسَّر ؛ لأن هناك جبلين بين عرفة ، ومزدلفة ، ما بين هذين الجبلين طريقٌ وهذا الطريق يُسمى بطريق المأزمين ؛ لأن الطريق بين الجبلين يتعسَّر ويُقال له : المأزمة وهذا نصَّ عليه أصحاب اللغة وغيرُهم والذهاب من طريق المأزمين دلت عليه الأخبار ، منها حديث أسامة في [ الصحيحين ] ومنها خبر ابن عمر ، يحكيه عنه أنس بن سيرين ، كما عند أحمد في [ مسنده ] . قال الساعاتي : "سنده جيد" ، ومعناه في [الصحيحين] وفيه : سير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مزدلفة من طريق المأزمين .
وثالث الأعمال : هو السكنية في السير إلى مزدلفة ، وعدم الإسراع وقد دل على ذلك دليلان :
أمَّا الأول : فدليل الخبر ، وفيه أحاديث كحديث جابر عند مسلم وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أيها الناس السكينةَ ، السكينةَ) ـ على النصب للإغراء ـ أي ألزموا السكينة ، ألزموا السكينة.
ومنها حديث أسامة عند مسلم : وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سار سير الهينة ـ أي سير الهون ـ فهو سيرٌ بين التباطؤ والإسراع وفيه تمدد .
وأمَّا الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه غير واحد ، ومنهم المرداوي يرحمه الله في [الإنصاف] بقوله : " بلا نزاع " .(2/130)
وليُعلم أن الشأن كذلك ، ما لم يجد المُحرم فجوةً ومتسعاً ، فإن وجد فجوةً ومتسعاً أسرع ، فقد جاء في [الصحيح] من حديث أنس : أنه سُئل عن سير النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : "كان سيره العَنَقْ ـ وهو السير بين التباطؤ والإسراع ـ فإذا وجد فجوةً نَصَّ ـ أي أسرع - صلى الله عليه وسلم - " . إلا أنه إذا وجد زِحاماً ، أو تدافعاً للناس ، فلا يُزاحم ـ نصَّ عليه تقي الدين ابن تيمية .
رابع الأعمال : هو الجمع بين الصلاتين بمزدلفة ـ أعني المغرب والعشاء ـ مع قصر العشاء ودل على ذلك دليلان :
أمَّا الأول : فالخبر ، والأحاديث في ذلك تبلغ حد التواتر ـ قاله تقي الدين ابن تيمية في [شرحه على العمدة] ومنها حديث جابر عند مسلم وحديث أسامه في [ الصحيحين ] وحديث أنس عند مسلم وغيرها وفيها : إثبات جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء .
... وأمَّا الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه غير واحد ، ومنهم النووي في [ المجموع ] والموفق في [المغني] والشوكاني في [نيل الأوطار] وجماعة .
المقصود هو جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغرب والعشاء .
... وها هنا تنبيهان :
أولها : أن السنة هو أداء صلاة المغرب عند الوصول إلى مزدلفة ، قبل أن تبرك الإبل أو يُنزل الرحل ، فإذا أُنْتُهي من صلاة المغرب ، لم تقيم صلاة العشاء حتى يُنزل الرحل ، وتُبرَّك الإبل . وهو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في حديث أسامه في [الصحيحين] .
وثانيها : هو أن التنفل ما بين المغرب والعشاء غير مشروع ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتنفل بينهما ، وقد دل على ذلك دليلان :
أمَّا الأول : فحديث جابر عند مسلم وفيه : "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُسبح بينهما" يعني يتنفل . وسُمِّيت النافلة تسبيحة ؛ لأنه يُسبِّح الله عز وجل فيها أي يُنزه كما في الركوع ، والسجود ونحو ذلك .(2/131)
وأمَّا الثاني : فالاتفاق على عدم مشروعية ذلك ، وقد حكاه النووي ـ يرحمه الله ـ
في [شرحه على مسلم] .
وثالثها : أن صلاة العشاء آخر وقتها متصف الليل ، فلا يجوز تأخير المغرب والعشاء عن نصف الليل جمعاً ، فإذا لم يُدرك الإنسان وقت العشاء الآخر ، في أوله ، أو منتصفه ، وخشي أن يدخل نصف الليل ولمَّا يصلي الصلاة ، فإنه يُصلي في المكان الذي هو فيه ، سواءٌ أكان في المأزمين ، أم كان في عرفة ، أم كان في غيرهما ، ولا يجوز له تأخير الصلاة عن نصف الليل ؛ لأنه إخراجٌ للصلاة عن وقتها الواجب ، وهذا مُحَّرم .
ورابعها : هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذّنَ للمغرب والعشاء أذاناً واحداً وأقام لكل صلاة إقامةً تخصها ، وقد جاء ذلك من حديث أسامة في [الصحيحين] وحديث جابر عند مسلم وغيره .
وخامس الأعمال : هو الإهلال بالتلبية ، والإكثار من ذلك ، واستمراريتُه ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلهج بذلك ، من مسيره من عرفه إلى أن وصل إلى المشعر الحرام ، إلى مزدلفة . وقد ثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وحديث أنس عند مسلم وحديث أسامة في [ الصحيحين ] وغيره .
وسادس الأعمال : هو البيتوتة في مزدلفة ، وعدم الخروج منها حتى يُسْفِر الصباح جداً . وقد دل على ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه لزم البيتوتة في مزدلفة حتى أسفر الصبح جداً . كما جاء ذلك في حديث جابر عند مسلم وحديث ابن عباس في البخاري وغيره .
وها هنا تنبيهات :
أولها : أن البيتوتة : يُقصد بها المُكث في المكان ، ولا يُشترط النوم . إلا أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أنه اضطجع حتى أصبح ، ولذلك يقول ابن القيم ـ يرحمه الله : "هديه - صلى الله عليه وسلم - في مزدلفة عند البيات بها ، هو الاضطجاع وليس المقصود الاضطجاع ، وإنما المقصود البقاءُ والمكث فيها " .(2/132)
ثانيها : هو أن الضعفة من الناس يجوز لهم أن يدفعوا إلى منى ؛ حتى يرموا جمرة العقبة ، قبل زحمة الناس . وقد دل على ذلك ما أخرجه الشيخان ، من حديث عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر : " أنها دفعت إلى منى ، ورمت الجمرة بعد مغيب القمر" وكذلك حديث ابن عباس في [الصحيحين] : "أنه قُدِّمَ مع ضعفة أهله إلى منى" وكذلك حديث عائشة : أن سودةَ ـ رضي الله عنها ـ أستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن تتقدم إلى منى وكانت امرأة ثَبِطَة ـ يعني ثقيلة ـ فأذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - . والأحاديث في ذلك كثيرة .
وليُعلم أن هناك شرطين حتى يجوز الدفع من مزدلفة إلى منى قبل الفجر :
أمَّا الشرط الأول : فهو أن يكون الإنسان ضعيفاً محتاجاً إلى الدفع ، لحديث ابن عباس في [الصحيحين] : "قُدِّمتُ مع من قُدِّمَ من ضعفة أهلي" ؛ ولأن المتقدِّمين جملتهم من الضعفة ، كالصبيان ، والنساء الضعيفات ، ونحو ذلك .
وأمَّا الثاني : فهو أن يكون الدفع بعد منتصف الليل ، واختُلف هل المقصود بمنتصف الليل ، منتصفه من غروب الشمس ليلة مزدلفة إلى طلوع شمس يوم النحر ، أم أنه نصفُ الليل من وصول المُحرِم في مزدلفة إلى أن تطلع الشمس قولان :
المذهب : الأول أي أنه من غروب شمس يوم عرفة ، الذي فيه دخولٌ لليلة مزدلفة إلى طلوع شمس يوم النحر . هذه الليلة يُقسم وقتُها على اثنين ، أي يُعدُّ الوقت من المغرب إلى طلوع الشمس ـ من غروب الشمس إلى طلوع الشمس ـ تُعدَّ الساعات ثم تُقسَّم على اثنين ، ناتج القسمة هذا هو نصف الليل ، إذا زاد عليه ، زاد على نصف الليل وهكذا يُقاس .
وعلى القول الأول السابق : هو أن الإنسان إذا وصل إلى مزدلفة ، يعدُّ هذا الوقت إلى طلوع الشمس ، من الساعات ثم يقسمها على اثنين ، حاصل النتيجة من القسمة على اثنين ، هو نصف الليل له ، وهذا هو القول الثاني :
والمذهب عليه جماهير الأصحاب أن الدفع جائزٌ بعد نصف الليل .(2/133)
وأختار تقي الدين ابن تيمية ، وشمس الدين ابن القيم : أن الدفع لا يجوز إلا بعد مغيب القمر ، وأن مغيب القمر يتأخر عن نصف الليل ، بحيث يذهب ثلثا الليلة ولا يبقى إلا نحو الثلث .
قال ابن القيم في [الهدي] : "وليس هناك دليلٌ مع من يُحدده بنصف الليل" . ويدل على تحديد ذلك بمغيب القمر ، حديث عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر وفيه : "أنها كانت ترقب مغيب القمر ، فلما غاب دفعت" . وذكرت أن ذلك هو السنة ، وفيه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وسابعها : أن الآتي إلى مزدلفة من أول الليل ، هو الذي يلزمه البيات في مزدلفة أمَّا من أتى بعد نصف الليل فلا يلزمه ، وهذا هو المذهب . لكن إن تأخر بحيث يخشى أن تطلع شمس يوم النحر ، ويفوته الحج . فهل يجوز له أن يُصلي صلاة الخائف على عجل ؟ قولان لأهل العلم :
اختار تقي الدين : أنه يجوز له أن يُصلي صلاة الخائف ـ وصلاة الخائف ـ يعني على مركبته سريعاً بالإشارة ـ قال : لأنه يخشى فوات واجبٍ أعظم وهو الحج ؛ لأن عرفة الحج . وقال : هذا من الضرورات التي توجب له هذا الفعل من جنس فعل الخائف .
أمَّا السادس : فيوم النحر : وأوله طلوع الفجر ، وآخره غياب شمسه . وفيه أعمالٌ مشروعة :(2/134)
أول الأعمال : هو أن تُصلى صلاة الفجر ، بمزدلفة في أول وقتها . ويدل على ذلك حديث جابر عند مسلم : "أن - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر بغلس بجمع" ـ يعني مزدلفة ـ والغَلَسُ معناه : وقت اختلاط أول الفجر الثاني بضوئه ، مع بهيم الليل وسواده . وأصرح من ذلك ما جاء عند عبدالله بن مسعود عند البخاري : "أنه صلى الفجر ، وقائلٌ يقول : لم يطلع الفجر وقائلُ يقول بل طلع" وفي هذا دلالة أن صلاة الفجر يوم الجمع ، يوم مزدلفة ، توقع في أول وقتها ، وأول وقتها عند طلوع الفجر الثاني ، بغلس قبل أن يُسفر جداً . ولذلك حكمةٌ من حيث النظر "ذكرها جمعٌ من الفقهاء" : وهي أن يبقى وقتٌ طويل ، منذ أن تُنهي صلاة الفجر إلى أن يُسفر الفجر جداً ، قبل طلوع الشمس ، حتى يقف الإنسان بالمشعر الحرام ؛ لأن الناس سيتوالون على المشعر الحرام ، فلو جُمِعوا الجميع في وقت واحد ضيق ، لما استطاعوا .
وثاني الأعمال : هو الوقوف بالمشعر الحرام بعد صلاة الفجر ، والمشعر الحرام أصله هو قُزَح ـ بضم القاف وفتح الزاء المعجمة : كذا ضبطه ياقوت في [ معجم البلدان ] ويضبطه بعضٌ بـ (قَزَحَ) بفتحات . والأول هو الصحيح وسبق بيان محله وأن المسجد اليوم قد بُني عليه .
وله ثلاثة أسماء :
أمَّا الاسم الأول : فالمشعر الحرام : سُمِّي بذلك لأنه يُحرم عنده وكان أهل الجاهلية يُعظِّمونه ويُحرِّمون أشياء كثيرة عنده ، وكانت قريشٌ تجمع عنده ولا تتجاوزه إلى عرفة ـ وسُمِّي بالمشعر الحرام لهذه المعاني . ويُصح تسمية جميع مزدلفة بالمشعر الحرام ، وقد جاء بذلك الخبر واستعمال الفقهاء درج على ذلك . قاله تقي الدين ابن تيمية في [شرحه على العمدة] إلا أن المقصود هنا ، هو المعنى الأخص وهو محلٌ عند المسجد اليوم .
والاسم الثاني : يُسمَّى بجبل قُزح وهو جبل صغير جداً ، بني عليه اليوم المسجد وعليه منارة مشعلة بالكهرباء .(2/135)
والاسم الثالث : فالميقَدَة ؛ لإن النار كانت توقد عنده وتُضرم ، وكانت قريشٌ يفعلون ذلك إبّان الجاهلية ، قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ثالث الأعمال : هو الدعاء عند جبل قُزَح ، والمشعر الحرام ، إن أمكن ذلك وإلا ففي أي مكان من مزدلفة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان وصفه في ذلك الوقت أنه كان راكباً على ناقته ؛ يدعوا الله عز وجل قائماً عليها . وكذلك كان رافعاً يديه مستقبل القبلة - صلى الله عليه وسلم - .
فأمَّا الوصف الأول : فثابت عند مسلم من حديث جابر وكذلك من حديث ابن عباس عند أحمد وهو صحيح ، وجماعة . وسبق ما يتعلق باستقبال القبلة ورفع اليدين وهذا منه . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله ويدعوه ، فكان ، يُكبِّر ، ويُسبِّح ، ويحمد ، ويُهِّلل ، أي يقول : (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير) . ونصَّ على التهليل بهذه الطريقة جمهور الفقهاء وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوا . وثبت من حديث النعمان بن بشير عند الترميذي "بسندٍ حسن" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (الدعاء هو العبادة) وأخرج الحاكم في [مستدركه] وصححه ، ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (أفضل العبادة الدعاء) . وهذا فيه دلالة على الإنسان ينبغي أن يُكثر من الدعاء وكذلك من جنس الذكر ، فكل ذلك فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - .(2/136)
رابع الأعمال : أن يدفعَ إلى منى ، قبل طلوع الشمس ، وبعد أن يُسفِر ضوء الفجرِ جداً ، وقد ثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم . وقد حكى ابن القيم ـ يرحمه الله ـ : اتفاق الفقهاء على أن ذلك سنة . وقد جاء عند البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان الناس في الجاهلية لا يذهبون إلى منى ، بعد جمع إلا إذا ارتفعت الشمس وطلعت ، ثم خالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الهدي الذي هم عليه ، ومعلومٌ حبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمخالفة أهل الجاهلية مطلقاً خصوصاً أهل الشرك .(2/137)
وخامس الأعمال : هو أن يُسرع في وادي مُحَسِّرْ ، ووادي محِّسر : اسم بطن وادي بين مزدلفة وبين منى . ومعلومٌ أن مسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج تخللتها أودية في ذهابه ، وفي عودته . كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - المنقول المستفيض أنه يُغير طريقه ، في ذهابه وعودته - صلى الله عليه وسلم - . وسبق ذكر الطريق في مجيئهِ إلى عرفة وهو طريق ضَبْ . فيُغيره بعد ذلك إلى طريق آخر ، ماراً بوادي مُحَسِر . ووادي محسِّر : هو بطن واديٍ بين مزدلفة ومنى . محسِّر ـ بضم الميم مع تشديد السين المهملة وكسرها ـ وإنما سُميِّي بذلك : لما فيه من الإحسار : وهو الشدة كذا قيل . وقيل : لأن الفيل الذي أُريد أن يُهدمَ به الكعبة حَسَرَ في ذلك المكان : أي بقي محسوراً قاعداً لا يستطيع القيام كأنه كُسِر . وهذا الذي جزم به جمهور فقهاء المذهب ، ولكن الأدلة في ذلك لم تصح . أعني قصة هدم الكعبة ، وأنه وقف في ذلك الوادي لا تصح . أعني في ذلك الوادي المُسَمَّى بوادي محسِّر وبالتالي سُمي محسِّراً . والمذهب أنه يُسرَعَ فيه قدر رمي حجر، واختُلِف في ضَبِط ذلك ، وضبطه بعض فقهاء المذهب بخمسائة ذراع ، ومعلومٌ أن الذراع متر إلا ثلث تقريباً فإذا وصل ذلك الوادي مشى خمسائة ذراع ، أي أسرع في المشي خمسائة ذراع على المذهب، وقد رمي حجر أي حجر معتدل برجل معتدل متوسط ، فتكون رمية على هذا المقدار في الغالب .(2/138)
ولماذا يُسرع في ذلك ؟ اختلف الفقهاء في ذلك : فمنهم من قال ؛ لأنه محل عذاب فنزل العذاب على الفيل ومن معه ، في ذلك المكان . ومن عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مر بمحل عذاب ، أنه يُسرع - صلى الله عليه وسلم - . ولكن القصة لا يصح وقوعها في ذلك المكان بالأسانيد ، وإنما هي نقول تُقال ، وذكر بعض الفقهاء كالقاضي في [الأحكام السلطانية] وغيره : هو أن من العلل في ذلك ؛ أن الإبل إذا كانت على أرضٍ فيها يُبس وقوة مشت بسرعة ، فإذا ارتاضت وادياً سهلاً فإنه تخف وتثقل فلا بد من الشد عليها ؛ حتى تُسرع . فيستوي سيُرها على أرضِ يُبسٍ وعلى أرض رخاةٍ ووادي ، وهذا من المعاني الأكثر صحةً من المعنى السابق المحكي .
سادس الأعمال : هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمشي وعليه السكينة ، في ذلك الطريق، منذ ذهابه ودفعه من مزدلفة ، إلى وصوله إلى منى ، وقد ثبت من حديث الفضل بن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ـ عند دفعه من جمع ـ (يا أيها الناس السكينة السكينة) وفي رواية : (عليكم السكينة) . والحديث في [الصحيحين] .
وسابع الأعمال : هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثر من التلبية عند تغير الأحوال ، وما إلى ذلك حتى وصل إلى جمرة العقبة ، وقد ثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم وابن عباس عند أحمد والترميذي ، وصححه . وهو مُستفيضٌ معروف .
ثامن الأعمال : هو أن يُدخَلَ إلى جمرة العقبة من الطريق الأوسط في والوادي المُخرج على جمرة العقبة مباشرة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل منه كما في حديث جابر عند مسلم .(2/139)
تاسع الأعمال : هو ألا يُحلَّ رحل ، وألا يُشتغلَ بشيءٍ قبل رمي الجمرة . فتحية منى رمي جمرة العقبة فيها ، كما أن تحية البيت الطواف به ، ولم يُكن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتغلاً بشيءٍ حتى رمى الجمرة . وقد ثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم ، وحديث ابن عباس عند أحمد وهو صحيح . والأمر في ذلك مُستفيض .
عاشر الأعمال : هو رمي جمرة العقبة يوم النحر ، دل عليه دليلان :
أمَّا الأول : فالخبر ، وثبت ذلك من حديث جابر عند مسلم ، وحديث عبد الله بن مسعود عند البخاري ، وحديث أنس عند مسلم ، والأحاديث في ذلك مستفيضة نقلها طوائف .
وأما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه ابن عبد البر في [ التمهيد ] والموفق في [المغني] والنووي في [المجموع] وجماعة .
ويتعلق برمي الجمرة أعمال :(2/140)
أولُها : لقطُ الحصيات .لم يثبت حديثٌ صريحٌ صحيحٌ في موضع لقط الحصيات ولذلك اختلف الناس ، والمذهب والذي عليه الأصحاب ، قاله في [الإنصاف] هو جواز لقط الحصيات من مزدلفة ، ومنى ، والطريق بينهما ، ومن أي موضع . لكن حديث الفضل بن عباس ، في [صحيح مسلم] وحديث ابن عباس عند أحمد وأخرجه الحاكم ، وصححه . فيهما إشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَقَطَ الحصى مِن منى ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الفضل عند مسلم : أمر ابن عباس أن يَلقُطَ له الحصى ، ثم أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده على هيئة الخَذْف ـ وهو السبابة بالسبابة ـ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (ارموا حصياتكم) . ويشير بيده بالخذف ـ يعني يقصد أنها حصيات كالحصيات التي تُستعمل في رمي الخذف . لا أن الإنسان يرمي الحصيات في الجمرة ، رمي الخذف . كما فهمه بعض الشافعية وقد أنكره النووي في [المجموع] على بعض الشافعية وقال المقصود : "هو تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس ، أن الحصيات التي تُلقط كحصياتِ الخذف التي يُخذف بها ويُرمى بها بالسبابتين تُوضع بين السبابتين كنواة تمر ، أو حصاةٍ صغيرة معروفة ، ثم يُضرب بها . هذا هو الخذف ورمى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففيه ذكر الرمي ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بلقط الحصى ، وكان يُشير بالخذف ، مما يدل على قرب رمية لذلك ، وأقله أن يكون في منى ، وعلى كلٍّ فيُجزئ لقطه من أي مكان من مزدلفة ، ومن الطريق بين مزدلفة ، ومنى ، من منى كل ذلك مجزئ.
ثانيها : هو وقت الرمي ، هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمى ضُحى يوم النحر ، أي بعد طلوع الشمس ، في وقت الضحى . ولذلك لا يُجزئ الرمي قبل طلوع الشمس إلا من استُثنوا وسبق ذكرهم ، كالضعفة من الصبية ، والنساء ، ونحو ذلك أعني هذا التوقيت في حديث جابر عند مسلم .(2/141)
ثالثها : هو في مقدار الحصيات ويتعلق بها سُنتان :
أما الأول : ففي عددها إذ يُلقط سبع حصيات ودل على ذلك دليلان :
الأول : الخبر في حديث جابر عند مسلم وغيره . قال شمس الدين ابن القيم ، ونقل ذلك
طوائف .
وأمَّا الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه النووي في [ المجموع ] وجماعة .
وأما الثانية : فحجم كُلِ حصاة ، وقد جاء في [ الصحيح ] : أن حجمها حجم الخذف
والخذف بفتح الخاء المعجمة ، وتسكين الذال المعجمة قاله ابن الأثير في [النهاية] وهو هيئة يُعقدُ فيما بين السبابتين ، ويُوضع بينهما حصاة ، أو نواة ، أو نحو ذلك فتُرمى . فهذا الحجر هو الذي يُشرعَ أن يُرمى به ، فيكون كنحو حجر الخذف ، وهو فوق الحُمُّص ـ بضم الحاء المهملة مع جواز كسر وضم الميم المشددة ـ كذا ضبطه ابن الأثير وجماعة وهو أعجمي ، وينطقه العامة الحنبص ، وهو نباتٌ معروف يؤكل ، فيكون فوق هذا النبات بقليل .
وحده بعضهم كشيخ الإسلام يقول هو : كرأس الأصبع المُسمَّاة بالأنملة فهو دون حجم الأنملة ، طولاً وعرضاً . ويمثله بعضهم أيضاً كبعرة الغنم وهاتان السُنتان ثابتتان كما سبق .
ثالثها : هو استحباب لقط الحصى ، واللقط هو أخذ الشيء بعد وجوده ، خلافاً لمن يأخذ صخرةً ثم يدقُها ويُكسرُها . فهذا لم يلقط وإنما يُكسِّر ، ويستخرج عدداً من الحصى بطريقة التكسير ، لصخرة أو نحو ذلك . وكذلك من يبحث في الأرض بعد حفرٍ ونحو ذلك ليستخرج حصى فهذا على خلاف هيئة اللقط .
ومن سنن الرمي :
المولاة بين الحصيات عند رميها . والموالاة : معناه عدمُ الانقطاع بين كل حصاة والتي تليها انقطاعاً طويلاً في العُرف . إذ إن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمى الحصيات دُفعةً واحدة ، واحدة تلو الأخرى، دون تأخيرٍ وانقطاع في عُرف الناس .
وقد ثبت ذلك في أحاديث عِدة ، والخبر بذلك مستفيض ، كحديث جابر عند مسلم ، وابن عمر عند البخاري ، وانس عند مسلم ، وجماعة .(2/142)
ولا يُجزئ دفع الحصيات جملة واحدة برمية واحدة ، فإن ذلك كله سيكون عن حصاة واحدة . جزم بذلك أحمد ـ يرحمه الله ـ كما في رواية صالح عنه ، وهو المذهب كما قاله في [الإنصاف] . ويدل على ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ إنه لم يرم بالحصيات دفعةً واحدة . وقد قال كما في حديث جابر عند مسلم : (خذوا عني مناسككم) .
الحادي عشر من الأعمال : بعد رمي جمرة العقبة ، يُنحر الهدي .
وقد جاءت الأحاديث في نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهديه ، والإجماع ، قد انعقد على نحر الهدي استحباباً في يوم النحر . وقد حكى الإجماع ابن المنذر وكذا النووي في [المجموع] والموفق في [المغني] وجماعة . والأخبار بذلك مستفيضة ، مشهورة معروفة ، نقلها الناس . واختلفت الأخبار هل نَحَر النبي - صلى الله عليه وسلم - هديه عند الجمرة أم عند منزله ؟ . ومنزله في موقع مسجد الخًيْف اليوم . فقد نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزله هناك ، وبقي أيام التشريق هناك . فجاءت الرواية الصحيحة أنه نحر ثلاثة وستين من النُّوق ، عند جمرة العقبة بعد رميها . وجاءت الرواية الأخرى عند مسلم من حديث أنس أنه نحرها بمنزله - صلى الله عليه وسلم -.
وعلى كل فجائزٌ نحر الهدي في أي موقع من المواقع . فقد جاء عن أبي داود في [سننه] وصححه النووي في [ المجموع ] وجماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (نَحرتُ هنا ، وفجاج مكة طريق ومَنْحر) .
وفيه دلالة واضحة على أن الإنسان يجوز له أن ينحر في منى ، وأن ينحر في مكة ، وأن ينحر في عرفة ، وأن ينحر في مزدلفة ، كل ذلك جائز . ولكنّ الأفضل هو أن ينحر الهدي في بمنى .(2/143)
وقد نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الجمرة ، أو في منزله ، على اختلاف الرواية وهذا من فعله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فمني الأفضل أن يُنحر فيها الهدي في أي موضع من مواضعها . والمذهب أن يُنحرَ عند منزل كُلًّ. فلكلٍ خيمة ، أو منزل فينحر عند منزله الذي وقع عنده . واستدلوا بان النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر في منزله،- صلى الله عليه وسلم - . وعند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انحروا في منازلكم) . فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس أن ينحروا في منازلهم . لكن قال تقي الدين ابن تيمية كما في [شرح العمدة] وغيره : "عنى النبي- صلى الله عليه وسلم - بقوله : (انحروا في منازلكم) بعد قوله : (نَحرتُ هنا ومِنى كلها مَنْحَر) أنه لا يُفضَّلُ موضع على موضع وأن الجميع جائز، فكلٌ ينحر حسب مكانه وما يستطِيعُهُ في منزله ونحوه . فلا يُقصد المنزل بحد ذاته ، وإنما يُقصد أن النحر جائز في جميع منى . وهذا هو الذي يدل عليه سياق الحديث جزم به تقي الدين ابن تيمية وجماعة .
ويُستحب عند النحر ، ما يُستحب عند ذبح الذبيحة : من استقبال القبلة بها ، ووضعها على جانبها الأيسر ، والتهليل عند ذبحها ، إلى آخره من السنن المعروفة ، ويجوز نحر الشاة ، والغنم وذبحها ، وكذلك قل في البقر والإبل . إلاّ أن السُنة هو نحر الإبل ، وذبح البقر والشياة والغنم . وهذا هو المشهور والذي عليه الجمهور . كما قاله النووي في [ المجموع ] .
الثاني عشر من الأعمال : هو الحلق أو التقصير بعد النحر .
وقد ثبت ذلك عند مسلم من حديث جابر وغيره . وفي ذلك سُنة كما في حديث ابن عباس عند أحمد وغيره وهو صحيح ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (بدأ بجانب رأسه الأيمن ، ثم بجانب رأسه الأيسر) .(2/144)
واستحب الأصحاب استقبال القبلة عند الحلق ، والتكبير . وقد ثبت التكبير من حديث ابن عباس عند أحمد وهو صحيح . وأما استقبال القبلة فقال : في [الفروع] : "استقبالُ القبلة مستحبٌ في جنس الأعمال ، والعبادات ، إلاّ ما استثناه الدليل" . وهذه قاعدة عامة معلومة معروفة .
الثالث عشر من الأعمال : هو التنظف بقصِ الشارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، ولبس أفضل الثياب ، وكلُ ذلك ثابت . قال ابن المنذر : "صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قلّم أظفاره بعد أن حلق" . وقد جاء في تفسير قوله تعالى : { ليقضوا تفثهم } عن ابن عباس ، وابن عمر : أنهم فسروا ذلك بقص الأظفار ، ونتف الإبط ، ونحوه . وقد سبق الإشارة إلى ذلك .
الرابع عشر : هو التطيب . وقد ثبت ذلك من حديث عائشة في [ الصحيحين ] أنها طيبت النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قبل أن يُفيض . تعني : قبل أن يطوف بالبيت طواف الإفاضة . وجاء عند النسائي من حديث عائشة أنها قالت : "طيّبتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ، بعد أن رمى جمرة العقبة ، وقبل أن يطوف بالبيت". وأصله في [الصحيح] . وفيه دلالة واضحة على استحباب الطيب مطلقاً ، في الثياب ، وفي الشعر ، وفي اللحية ، وفي الشارب ، ونحو ذلك . كُلُ ذلك جائز ، بل مُستحب .
الخامس عشر من الأعمال : هو الدفع إلى المسجد الحرام ، مسجد الكعبة ، ليُطاف به طواف الإفاضة ، وسعي الحج ، لمن عليه سعي .
والسُنةُ مستفيضة بذلك ، وهو منقول نُقْلاً متواتراً ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف طواف الإفاضة . ثبت ذلك من حديث أنس عند مسلم ، وحديث جابر ، ومن حديث ابن عمر في [الصحيحين] . والإجماع قد انعقد على ذلك . حكاه ابن المنذر والنووي في [ المجموع ] والموفق في [ المغني ] وجماعة .(2/145)
وأما من بقي عليه سعي كالمتمتع ، والقارن ، والمفرد إذا لم يأتِ بالسعي بعد طواف القدوم فإنه يأتي بالسعي بين الصفا والمروة بعد طواف الإفاضة ، المسمى بطواف الحج ، طواف الزيارة .
السادس عشر من الأعمال : هو الشرب من ماء زمزم . فقد ثبت عند مسلم من حديث جابر (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقى من زمزم ـ أي شرب من ماء زمزم) . والشرب من ماء زمزم سُنة . وقد ثبت عند ابن ماجه ، والحاكم وصححه ، ووافقه عليه الذهبي ، من حديث محمد ابن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه كان مع ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فَمرّ عليه رجل فقال : (أشربتَ من زمزم ؟) قال : نعم ، قال : "اذكر اسم الله عند شُربك ، واستقبل القبلة ، وتنفس ثلاثاً ، وتَضَلّع منه" . قال ابن الأثير في [النهاية] : " التضَلُّع : من ماء زمزم معناه : هو الإكثار من الشرب منها حتى يمتد الجانب إلى الضلوع". وهذا من جنس الإكثار والتروِّي من ماء زمزم . وقد ثبت عند الحاكم وصححه ، ووافقه عليه الذهبي ، وقال البُوصيري في تحزيجه لإبن ماجه : " اسناده صحيح ورجاله موثوقون" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( آية ما بيننا وبين المنافقين ، التضلع من ماء زمزم ) . ويُعلِلُ بعض الفقهاء ذلك بقولهم : ماء زمزم فيه ملوحة ، فلا تطاوع النفس صاحبها من الإكثار منه ، فلا يكثر منه إلاّ من يؤمن ببركتها ، ويأتمر بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويتابعه أشد المتابعة وهذا ضد النفاق . فكان فارقاً بين المنافق والمؤمن .(2/146)
وقد ثبت من حديث أبي ذر عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( هو ماء مبارك طعام طُعم ) وعند مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ماء زمزم طعام طُعْم ) وزاد الطَيَالِسي قوله : ( وشفاء سُقْم ) وثبت عند أحمد في [مسنده] وعند الحاكم وصححه ، ووافقه عليه الذهبي ، وحسنه الحافظ ابن حجر في [جزء من ماء زمزم] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ماء زمزم لما شُرب له) فقوله : (لِمَا شُرب له) أي : لأي علة أو أمر شُرب له ، سواء من عِلل الدِين أو الدنيا . فإذا نويت به الدِين كأن تحفظ البخاري ، أو أن تكون قائماً لليل ، ساجداً في الأسحار ، أو مواظباً على الصلوات ، أو نحو ذلك كان . وكذلك لأمر من أمور الدنيا ، كشفاء سُقم كان فيك ، أو نحو ذلك .
وقد أخرج ابن ماجه في [ سننه ] في حديثه المتقدم وقال البوصيري : " اسناده صحيح ورجاله موثوقون " وصححه الحاكم وقال : "لم يُخرِجاه" ووافقه عليه الذهبي أن ابن عباس ـ رضي الله
عنهما ـ كان (إذا شرب من ماء زمزم قال : "اللهم علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاء من كل داء" . وهي من الأدعية الجامعة ، كما قاله تقي الدين ابن تيمية .
قال تقي الدين ابن تيمية كما في [ المجموع ] : " ولا يُستحب الإغتسال من ماء زمزم " يعني في مثل هذا المكان . وهل يُستحب أن يضع ماء زمزم على ملابسه ووجهه وما إلى ذلك ؟ لم يثبت في ذلك حديث في هذا الموقف ولذلك عَدّهُ بعضهم من المنكرات .
السابع عشر : هو أن تُصلّى صلاة الظهر بمنى ، بعد الطواف والسعي لمن عليه سعي .(2/147)
فقد ثبت من حديث ابن عمر في [ الصحيحين] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر يوم النحر بمنى . وبهذا جزم تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ لكن في ظاهر الأخبار خلاف . فقد جاء من حديث جابر عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر بمكة . وقد بحث المسألة بحثاً مُسهَباً شمس الدين ابن القيم ـ يرحمه الله ـ كما في [تهذيب السُنن] واختار تقي الدين ابن تيمية ـ يرحمه الله ـ أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بمنى .
الثامن عشر من الأعمال : هو البَيَاتُ ليالي التشريق بمِنى ، وَسبق أنه من واجبات الحج .
ولا يُستثنى من ذلك إلاّ السُقَاة والرُّعاة . واختُلِف ما ضابط الساقي والراعي ؟ المذهب ، والذي تدل عليه ظواهر الأدلة أن المقصود بالسُقاة : الذين يسقون الناس من بئر زمزم . وقد اندرست هذه السُنة ـ أعني بقاء السُقاة على بئر زمزم ـ لإغلاقه اليوم ووضع أشياء أُخر من الوسائل المعروفة ؛ لان يشرب الناس منها ـ . فالعباس ابن عبد المطلب استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذهب إلى مكة حتى يُشرف على بئر زمزم ويسقي الناس هو ومن معه من أقاربه . فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له . وسبق . وأمّا الرُّعاة فالوارد أنهم رعاة الإبل بخصوصهم ، أما رعاة الغنم ، ونحو ذلك فهؤلاء لا يستثنون لأن الأصل أن الغنم لا تُقاد هناك ، إلاّ للهدي فتُنحر يوم النحر . وأما الإبل فهي تبقى لأنها هي مركب الناس ومطيتهم فيُشرَف عليها ويرعاها الرعاة .
التاسع عشر من الأعمال : هو رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق .
وأيام التشريق ثلاثة :
أولها : الحادي عشر .
وثانيها : الثاني عشر .
وثالثها : الثالث عشر .
ويتعلق بها أعمال :
أولها : هو ألاّ تُرمى الجمار إلاّ بعد زوال الشمس عن كبد السماء ، وسبق معنى الزوال .
وقد دلّ على ذلك دليلان :(2/148)
الدليل الأول : الخبر ، وفيه أحاديث كحديث جابر عند مسلم ، وابن عمر في [الصحيحين] أنه لمّا أُخبر بزوال . الشمس قام فرمى ثم قال : هكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - " .
وأما الثاني : فالإجماع ، فقد حكى النووي في [ المجموع ] والموفق في [ المغني ] وجماعة الإجماع على أنه لا يُجزيءُ الرمي قبل الزوال .
وثانيها : هو أن يُمْشَى إلى الجمار لرميها ، ويُعادُ مشياً .
وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر . في [الصحيحين] وفي ذلك علة ذكرها ابن القيم وجماعة : وهو أن المشي أكثر تذللاً وتواضعاً .
وثالثها : هو أن تُرمى كل جمرة على وَفْقِ ما سبق من صفة في رمي جمرة العقبة .
ورابعها : هو أن يُبدأَ عند الرمي بالجمرة الصغرى، ثم الوسطى ، ثم الكبرى . الكُبرى : خارج مِنى ، المسماة بجمرة العقبة . وهي أقرب الجمار إلى مكة إلى البيت العتيق .
والجمرة الصغرى : أقرب الجمار إلى مسجد الخَيْف .
والجمرة الوسطى : بينهما .
فيُبدأُ برمي الصغرى ، ثم برمي الوسطى ، ثم برمي الكبرى .وهذا هو الثابت من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أنس عند مسلم وحديث جابر عند مسلم وجاء كذلك عند ابن عمر في [الصحيحين] بنحوه .
خامسها : هو الدعاء بعد رمي الجمرة الصُغرى ، وبعد رمي الجمرةِ الوسطى . ويتعلق به ثلاثة أشياء :
أولاً : إذا رُميت الصغرى ، تُجعل عن اليمينِ ويتقدم الإنسان حتى يأتي إلى موضع سهلٍ بعيد عن الحصى ؛ حتى لا يقع عليه شيء ، وهو الثابت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في حديث ابن عمر في [الصحيحين] .
وأما الوسطى فتُجعل عن اليسار ويتقدم بعدها قليلاً إلى موضع سهل بعيدٍ عن الحصى .
وأما الكبرى : فَتُوضع على اليسار ولا يُوقف عندها .
ثانياً : هو استقبال القبلة .
ثالثاً : الدعاء .(2/149)
وهذان الشيئان ـ أعني استقبال القبلة والدعاء ـ ثابتان من حديث ابن عمر في [الصحيحين] وجاء عند [ مسلم ] من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقفُ طويلاً ، قال تقي الدين : "بقدر قراءة سورة البقرة " . وفيه تُفعل سنن الدعاء : من رفع اليدين ، والإبتهال ، والإخلاص ، وما إلى ذلك .
سادسها : من أعمال الرمي أن يقع الحصى في المرمى ـ في الحوض ـ وعلى هذا دلت الأحاديث، كحديث ابن عمر في [الصحيحين] وغيره ، وقد حكى تقي الدين إتفاق أهل العلم على ذلك ، وأنه إذا ضُرب الشاخِص ثم ذهبت الحجر خارجا لمرمى فإنه غير مُجزئ.
ومنها : هل يُسن غسل الحصى أم لا ؟ قولان : اختار تقي الدين عدم غسله إلا إذا كان فيه نجاسة فإنه يُغسل .
العشرون : هو أن النفرة من مِنى بالدفع إلى البيت العتيق . ويكون ذلك للمتعجل قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر . وللمتأخر في اليوم الثالث عشر بعد رميه للجمار .
وهذا هو الثابت في القرآن ، والسنة ، وعليه الإجماع ، كما حكاه النووي في [ المجموع ] وغيره. والله عز وجل يقول : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي نفر قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر .
ويُتنَبه إلى أن من أدركه غروب شمس اليوم الثاني عشرة في مِنى فيجب عليه البقاء إلاّ إذا كان بقاؤه مُكرَهاً كزحام ما استطاع أن يتخلص منه ، ونحو ذلك فحينئذ له حكم الخارج من مِنى .
الحادي والعشرون من الأعمال : هو أن يبقى المرء بوادِي الأبطح قبل أن يطوف طواف الوداع واختُلف هل بقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في وادي الأبطح سُنه ومنسك ، أم أنه عادة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ .
يدل على أنها سُنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : ( خذوا عني مناسككم ) كما عند مسلم من حديث جابر . وثبت أنه بقي في وادي الأبطح في حديث جابر عند مسلم ، وحديث أنس عند مسلم ، وغيرها . وهذا السنة به مستفيضة .(2/150)
وأما كونه من العَادِيّات فَيُثبته حديث أبي رافع في [ الصحيح ] قال : "وضعتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - منزله بالأبطح ، ولم يأمرني بذلك ثم نزل به " . وقد حكى شمس الدين ابن القيم القولين وسكت وهما مُحتملان . والأقرب أن يكون من جنس الأعمال المشروعة لمطلق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (خذوا عين مناسككم) ولأنه أقرّ أبا رافع فبقي فيه ؛ ولأن الصحابة فعلوا ذلك ، وفعله ابن عمر كما في [الصحيحين] وحكاه أنه من جملة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ أعني جملة ما فعله ابن عمر في ذلك اليوم ـ وكان منه أنه بقي في الأبطح .
الثاني والعشرون من الأعمال : هو الطواف بالبيت طواف الوداع .
وقد ثبت ذلك بدليلين :
أما الأول : فالخبر ، وفيه أحاديث منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا ينفِرَنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) وقد ثبت في [ السنن ] وسبق . وكذلك بنحوه حديث ابن عباس يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أُمرنا أن يكون آخر عهدنا بالبيت" . وهو في [ الصحيح ] .
وليس على المرأة الحائض ، ولا النفساء ، طواف وداع ، ويجوز للإنسان أن يؤخر طواف الإفاضة إلى أن يكون طواف وداع لكن له شرطان :
أما الشرط الأول : فهو أن يكون في أيام مِنى ، فلا يؤخره عن أيام مِنى ـ أعني الثالث عشر ، أو الثاني عشر ، للمتعجل . وهذا هو قول جمهور الفقهاء على ماحكاه بعضهم . لكن قال الشارح في [الشرح الكبير] : " إن أخرّه حتى كان آخر عهده بالبيت جاز بلا خلاف " . وقال في [الإنصاف] : "بلا نزاع" ولم يذكر شيئاً من الخلاف . لكن قال تقي الدين : " والأحسن أن يكون الطواف ـ يعني طواف الإفاضة ـ في أيام التشريق ؛ لان في تأخيره خلافاً هل يُجزئ أم لا " فذكر أن في تأخيره خلافاً.
وعلى كُلٍ فهذا شرط مُختلَف فيه .(2/151)
أما الثاني : فهو أن ينوي بالطواف ، أن يكون طواف الإفاضة ـ طواف الحج ـ ولا ينوي أن يكون طواف الوداع ، فإن نوى أن يكون طواف وداع ولم يأت بطواف الإفاضة من قبل فباطل ولا يصح ، وعليه أن يطوف مرة أخرى طواف الإفاضة ؛ لأنه ركن من أركان الحج .
الثالث والعشرون من الأعمال : ما يذكره جمع من الفقهاء من إلتزام المقام .
والمقصود بالمُلْتَزم ، والمقام الذي يُلْزَم فيه : هو المكان الذي بين الحجر الأسود والباب ـ باب الكعبة ـ فيبقى الإنسان ملتزماً ذلك المقام ومعناه أن يضع صدره ووجهه على الكعبة ويرفع يديه واضعاً ذراعيه على الكعبة ، ويبسط كفيه . وقد دل على ذلك دليلان :
أما الأول : فدليل الخبر ، قال شيخ الإسلام : " ثبت عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم وقفوا بالمُلْتَزَم". وقد ذكر هذه الكيفية عن الصحابة النووي ـ يرحمه الله ـ في [ المجموع ] .
أما الثاني : فالإجماع ، وقد حكاه النووي في [ المجموع ] بقوله : " وهو عمل متفق عليه " . لكن قال تقي الدين ابن تيمية كما في [ المجموع ] : " فإن وقف تجاه الباب ـ يعني غير ملصق صدره ولا وجهه ولا ذراعيه بالكعبة ـ إن وقف أمام الباب ثم دعا فحسنٌ " .(2/152)