شذرات عن واقع العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر
أحداث ونتائج
محمد المنوني
كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط
خلال القرون الأخيرة تصاعدت دول أوربا إلى حاجات الاختراع، فغطت بابتكاراتها كثيرا من الحاجيات البشرية: عسكرية وصناعية واجتماعية وسواها. وقد يخل لجماعات من القارات الأخرى أن هذه الحضارة جاءت لخير البشر أجمعين، حتى إذا كان القرن التاسع عشر أصبحت فروع منها شرا مستطيرا على الإسلام: بالاستعمار والحمايات القنصلية وشتى أنواع التدخلات.. وعزز ذلك انتشار التبشير والمبشرين ليجعل من هذه الغارة المتشعبة حربا استعمارية وصليبية في آن واحد. وبذلك هبت دول من أوربا لتستخدم معطيات حضارتها في قهر المسلمين واحتلال بلدانهم، ولسوء الحظ زامن ذلك انحدار شامل في سياسة دول العالم الإسلامي مما مهد لأوربا أن تسير قدما في اعتداءاتها.
وقد تراءى لبعض قادة المسلمين أن واقع الاعتداء إنما هو لون جديد من الحروب الصليبية، بينما رأى آخرون أن مصدر هذا الواقع نقمة سماوية جزاءاً وفاقا على انحراف المسلمين.
وقد خلَّفت هذه الرؤية الأخيرة أصداءها في عدد من المؤلفات المعاصرة انطلاقا من صيحة الإمام جمال الدين الأفغاني قائلا في تحليل هذه الظاهرة(1):
"كل هذه الرزايا التي حطَّت بأقطارنا، ووضعت من أقدارنا، ما كان قاذفنا ببلائها، ورامينا بسهامها، إلا افتراقنا وتدابرنا، والتقاطع الذي نهانا الله ونبيه عنه.
لو أدينا حقوقا تطالبنا بها تلك الكلمة التي تهل بها ألسنتنا، وتطمئن قلوبنا بذكرها، وهي كلمة الله العليا. هل كان يمكن للغرباء أن يمزقوا ممالكنا كل ممزق؟ وهل كان يلمع سيف العدوان في وجوهنا؟ وهل كنا نسيم نيران الأعداء إلا وأقدامنا في صياصيهم، وأيدينا على نواصيهم؟
__________
(1) - لوثروب ستودراد، حاضر العالم الإسلامي، ترجمة: عجاج نويهض وتعليق الأمير شكيب أرسلان، دار الفكر، بيروت 1971، الطبعة الثانية، جـ. 1، 1971.(1/1)
إن لأبناء الملة الإسلامية بقينا بما جاء به شرعُهم، أليس على صاحب اليقين بدين الله أن يقوم بما فرضه الله عليه من ذلك الدين؟
أنرضى -ونحن المؤمنون وقد كانت لنا الكلمة العليا- أن تضرب علينا الِّذلةُ والمسكنة، وأن يستبد في ديارنا وأموالنا من لا يذهب مذهبنا، ولا يرد مشاربنا، ولا يخدم شريعتنا، ولا يرقب فينا إلاّ ولا ذمة."
وبعد صيحة جمال الدين الأفغاني، نشير في الموضوع ذاته إلى الرسالة القرنية التي صدرت عن العاهل المغربي السلطان الحسن الأول عند مطلع المائة الهجرية الرابعة عشرة، وقد تكرر نشرها (1).
ومن المؤلفات الحجازية في الاتجاه ذاته تأليف الشيخ فضل بن علوي بن محمد الحسيني المتوفي عام 1318هـ/1900م ويحمل اسم "عُدَّة الأمراء والحكام لإهانة الكفرة وعبدة الأصنام" والكتاب منشور بالمطبعة الحجرية المصرية من عام 1273هـ.
وبالمغرب نشير إلى فقرات متناثرة في رسائل الشيخ أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني (2) ثم كتاب "نصيحة أهل الإسلام" للشيخ محمد بن جعفر الكتاني(3).
ومن جهة أخرى تسابق الحكام ومن إليهم إلى وضع الدساتير وبرزوا فيها الدعوة إلى الإصلاحات الجديدة، وكانت السابقة لذلك هي الدولة العثمانية في دساتير تراجع الفينة بعد الفينة، ثم دستور تونس باسم "عهد الأمان" بتاريخ 20 المحرم 1274هـ/10 شتنبر 1857م(4).
__________
(1) - ابن زيدان عبد الرحمان، إتحاف أعلام الناس، المطبعة الوطنية، الرباط، 1930، جـ 2، ص. 218-234.
(2) - انظر هذه الرسائل في مخطوط الخزانة العامة بالرباط، رقم 3279، وفي كتاب الشيخ محمد الكتاني الشهيد بقلم محمد الباقر الكتاني، مطبعة الفجر، الرباط 1962.
(3) - الشيخ محمد بن جعفر الكتاني، نصيحة أهل الإسلام، نشر مكتبة بدر، الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1989.
(4) - حسن حسني عبد الوهاب، خلاصة تاريخ تونس، الدار التونسية للنشر، تونس 1976، ص. 206-208.(1/2)
وفي المغرب الأقصى لمعت أربع مشروعات دستورية منشورة في "مظاهر يقظة المغرب الحديث"(1).
وبينما هذه الحركات تتلمس التقدم في خطواتها، إذا بها تفاجأ بمقاومتها مقاومة عنيفة أولا من انكلترا ضدا على تركيا، فتعتدي -جهارا- على الأسطول العثماني المسالم: إحراقا وإغراقا(2)، ثم تتتابع هذه الكراهية للبعث الإسلامي من جهة دول أخرى أوربية، وذلك ما أضعف الأمل في نجاح هذه المحاولات الإصلاحية، وبالتالي ظهر عجز القادة عجزا بيّنا، فظهرت مقاومة الشعوب، فكانت ثورة أحمد عرابي باشا في مصر(3) ومحمد المهدي في السودان(4)، ثم مقاومة الزعيم عمر المختار في ليبيا(5) والأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب(6) وسواها.
__________
(1) - محمد المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، دار الغرب الإسلامي، بيروت وشركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، جـ. 2، ص. 399-445.
(2) - خير الدين التونسي، أقوم المسالك، ونقلها عنه محمد بيرم الخامس التونسي في رحلته صفوة الاعتبار المنشورة مرتين.
(3) - خير الدين الزركلي، الأعلام، مطبعة كوستا توماس وشريكاه، 1955، ط. 1، جـ. 1، ص. 161.
(4) - المرجع نفسه، جـ.6، ص. 245.
(5) - نفسه، جـ 5، ص. 226.
(6) - ترجمته مذكورة في أكثر من كتاب، انظر: تاريخ المغرب للتهامي الوزاني، مطبعة الريف، تطوان، سنة 1940، جـ 3، ص. 160-170.(1/3)
ومن الجدير بالذكر أن هذه النهضة كانت في معظم هذه الفترة إسلامية روحية، وذلك هو موقع الأبحاث سالفة الذكر، ثم تطورت إلى حركة وطنية تعمل للاستعداد المادي الموازي -نسبيا- لما عند أوربا، وكان في طليعة المفكرين في هذه المرحلة خير الدين التونسي، فيسجل أنه سمع بعض أعيان أوربا يقول ما معناه:"إن التمدن الأوروباوي تدفق سيله على الأرض، فلا يعارضه شيء إلا استأصله قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوربا من ذلك التيار إلا إذا أحذوه وجَرَوْا في التنظيمات الدنيوية فيمكن نجاتهم من الغرق."(1)
وإلى جانب خير الدين التونسي نشير إلى الصحفي الروسي المسلم إسماعيل بك غصبر نسكي، وقد زار مصر عام 1324هـ/1907م ودعا –في جمع كبير بالقاهرة- إلى عقد مؤتمر إسلامي عام للبحث في شؤون المسلمين وقال في بيان المشروع الذي ابتكره:
"إن انحطاط العرب والأتراك لم يكن السبب فيه ضعفا في المعارك، أو نقصا في الاستعداد أو تأثيرا من الدين الإسلامي الذي هو –بالعكس- موافق للرقي والتقدم، وإنما السبب هو سلوكنا المخالف لأصول الدين وقواعده، ولذا كان من اللازم عقد مؤتمر إسلامي عام، لا غاية له سوى النظر في أسباب انحطاط المسلمين، وفي الوسائل الدينية المؤدية إلى غياب النجاح والمفضية إلى حصولنا على حصتنا من المدنية الغربية."(2)
وقد تجاوبت جهات من العالم الإسلامي على مستوى بعض الحكام والشعوب مع هذا النداء وأشباهه، فتسارعوا للأخذ بمبادئ التنظيم العسكري الحديث، واستكثروا من اقتناء الأساطيل البحرية ومعداتها، وأرسلوا البعثات إلى أوربا، واستجلبوا منها المدربين إلى بلدانهم، ورصدوا لذلك الميزانيات الضخمة.
__________
(1) - خير الدين التونسي، مقدمة أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تحقيق ودراسة معن زيادة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1978.
(2) - فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين.(1/4)
وإلى هنا فقد أشرنا عند مدخل هذا العرض إلى أن هذا المد الأجنبي، شارك فيه –إلى جانب الحكّام- رجال الكنيسة المسيحية، وبهذا نلقي بعضا من التوضيح على هذه المساهمة التبشيرية، وقد كان من أهداف مدارسها التدرج بأطفال المسلمين المتمدرسين إلى إبعادهم عن دينهم الإسلامي واستبداله بالمسيحية. وهو قدر تشارك فيه بعض المدارس الرسمية التي تسيرها الدول الاستعمارية وذلك ما أدى بالجماهير الوطنية الأولى إلى النفور من هذه المدارس. وقد أفتى علماء الهند المسلمون في منتصف القرن التاسع عشر بمقاطعة المدارس الحديثة التي أنشأها الانجليز واستبدلوها بإنشاء مدارس دينية عربية. وكانت أول مدرسة دينية أنشئت لتنفيذ نظام المقاطعة: هي مدرسة "دار العلوم في دبوبند" ثم توالت المدارس بعد ذلك لتكون مجالا لتعليم المسلمين فيها.(1)
وعن خارج الهند يقول ذ. عثمان الكعاك التونسي عن سياسة الفرنسيين التعليمية في شمال إفريقيا:"... فسعوا إلى القضاء على العربية وآدابها بالجزائر وتونس والمغرب الأقصى.. وكان أسلوب تعليم العربية قليل الحصة، عديم الجدوى، معطلا لرقي الطالب، موجبا لزهده في لغة آبائه وأجداده، ولغة دينه القويم، وأدبه الكريم."(2)
وقد كان هذا التلقين التعليمي الذي زهد التلميذ في لغته هو أحد العوامل التي حفزت وطنيا غيورا، ووزيرا تونسيا شهيرا هو الرائد محمود المسعدي أن يروي عن جيله الأول القولة التالية:
"كنا نعتبر من يكتب أو ينتمي للثقافة الفرنسية شبه خائن."(3)
ومن المؤلفات في الموضوع ذاته "إرشاد الحيارى في تحذير المسلمين من مدارس النصارى" للشيخ يوسف النبهاني، ثم ألف "مختصر الإرشاد للحيارى" وهما معا منشوران.
__________
(1) - عبد المنعم النمر، كفاح المسلمين في تحرير الهند، ص. 122.
(2) - عثمان الكعاك، مراكز الثقافة في المغرب، ص. 10-11.
(3) - انظر جريدة العلم، الثلاثاء 10 رجب 1408هـ/11 نونبر 1997.(1/5)
ومن الجدير بالذكر أن هذه المواقف ضد تعلم اللغات الأجنبية لم يكن مصدرها جمودا أو نَفْرَةً من هذه اللغات، وإنما كان مبعثها هذا التعليم الاستعماري الذي تعلق عليه واختلطت فيه المادة التعليمية بما دُسَّ خلالها من الطعن المكشوف في العقائد والمقدسات الإسلامية. فلم يسع العلماء السكوت عن ذلك فهبوا للدعوة إلى مقاطعة المدارس الملتزمة بالتشويه لمقومات الإسلام، وإلا فهذا الدين وأعلامه لا يعارضون –بتاتا- تعلم اللغات الأجنبية والإفادة منها، ما دام يسير في خدمة الصالح العام، وقد جاء عند الإمام البخاري عن الصحابي زيد بن ثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: تعلم كتاب يهود فإني ما آمن يهود على كتابي، فتعلمت في نصف شهر حتى كتبت إلى يهود، وأقرأ له إذا كتبوا إليه."(1)
وفي "العمدة" للتلمساني أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، كان يكتب للملوك ويجيب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وكان ترجمانه بالفارسية والرومية والقبطية والحبشية، تعلم ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن."(2)
وقد استمر على هذا النهج مع اللغات الأجنبية زمر من علماء المسلمين في المشرق والمغرب، وامتد ذلك حتى العصر الحديث انطلاقا من مبادرات محمد علي باشا مصلح مصر إلى من قلده من حكّام الإسلام.
وإلى الدسائس التعليمية للمسيحيين البروتستانت كانت لهم حملات عنيفة ضد مقام الرسول عليه السلام وضد القرآن الكريم والإسلام بصفة عامة، ويستعملون لذلك التبشير بها في مجامع المسلمين، وتأليف الكتب والرسائل التي يوزعونها على نطاق واسع، وبين المناطق التي منيت بهذه الفتنة إقليم الهند انطلاقا من منتصف القرن التاسع عشر تقريبا بعد احتلال الإنكليز.
__________
(1) - صحيح الإمام البخاري في كتاب الأحكام.
(2) - الخزاعي، تخريج الدلالات السمعية، بيروت،/ دار الغرب الإسلامي، ص. 218-219، ومثله في كتاب التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني.(1/6)
وقد قاوم علماء الهند المسلمون هذه المطاعن النصرانية، بالمناظرة أولا ثم بتأليف الكتب والرسائل. وكان في طليعة المؤلفين الشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، فوضع في دحض مزاعم القسيس كتابه "إظهار الحق"، ثم ترجمه إلى العربية بإشارة الإمام أحمد بن زيني دحلان حينما لقبه في مكة المكرمة خلال حجته. وقد نشرت هذه الترجمة في جزءين من قطع متوسط، مهمشة بأربع رسائل موضوعية:
الأولى: تعريب رسالة عبد الله أكبر آبادي بترجمة الشيخ رفاعي الخولي.
الثانية: التنبيهات في إثبات الاحتياج إلى البعثة والحشر، لمؤلف إظهار الحق.
الثالثة: خلاصة الرجيح للدين الصحيح.
الرابعة: مختصر الأجوبة الجلية لدحض الدعوات النصرانية، وهذا وسابقته من تأليف محمد بن علي بن عبد الرحمن الطيبي الدمشقي(1).
وإن هوية هذا المؤلف الأخير "الطيبي الدمشقي" لتلوح إلى إسهام الشرق العربي في هذا التيار، وبالتالي وجوده في بلدانه. وتدل وفرة المؤلفات الصادرة بمصر ضد الحملات التنصيرية على أن بلاد الكنانة كانت تحتل –بين البلاد العربية- الدرجة الأولى في التبشير المسيحي.
ونختم حديث مصر بالإشارة إلى منظومة موضوعية نظمها ونشرها الشيخ المصري محمد علي المليجي الكتبي باسم "أصدق الحديث في هدم التثليث"، وقد صدرها بالتحذير التالي:"ليعلم كل المسلمين أن هذه البيوت وتلك الجمعيات التي ما فتحت أبوابها في نفس الأمر إلا لأجلهم، مؤسسة على الخوض والإلحاد في آيات الله تعالى، والطعن في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحط من كرامة الدين الإسلامي والمسلمين."(2)
__________
(1) - الشيبخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، كتاب إظهار الحق، المطبعة الحجرية المحمودية القاهرة، عام 1317هـ.
(2) - الشيخ محمد علي المليجي الكتبي، منظومة: أصدق الحديث في هدم التثليث" القاهرة، مصر.(1/7)
اللهم بارك للأمم الإسلامية في استقلالها، وسدد خطاها لخير شعوبها وقادتها، واجعل هذه السنة الجامعية فاتحة تقدم وازدهار لجامعتنا وكليتنا، وأسعد اللهم كل من ساهم في تنظيم هذا اليوم الافتتاحي لكلية الآداب بأكادير، وعلى رأسهم سيادة قيدومها الأستاذ الدكتور حسن بنحليمة، خديم الثقافة والتقدم لكليته، وسليل العلم والفضل والأخلاق.(1/8)