بسم الله الرحمن الرحيم
سيرة طالب علم في المملكة العربية السعودية
كتبها:
سعد بن عبد الرحمن الحصين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
مقدمة
استجابةً للدعوة الكريمة أن أحاول المساهمة في مشروع وزارة المعارف الموسوعي لتأريخ التعليم في بلاد التوحيد والسنة: المملكة العربية السعودية، خلال مئة عام (1319-1419هـ)؛ لم أجد في حيازتي خيرًا من سرد تجربتي التعليمية في المملكة طالبًا (18 سنة 1359-1376هـ)، وعاملاً في التعليم العام (25 سنة 1377-1401هـ في وزارة المعارف)، ثم عاملاً في التعليم الشرعي: الدعوة إلى الله على بصيرة (16 سنة 1402-1417هـ) في مكتب الدعوة في الأردن التابع لرئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء ثم لوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد).
وقد تمنيت أن تمتد الفترة الزمنية التي نؤرخ لها الموسوعة للتعليم فيها إلى ما قبل مئتي سنة يوم قامت دعوة ودولة التوحيد والسنّة بجمع شمل «جزيرة العرب» عقيدة وعبادة ومعاملة على شرع الله تعالى.
وتمنيت أكثر لو قصرت تلك الفترة الزمنية التي يراد التأريخ للتعليم فيها على سبعين سنة بدأت بإعلان قيام المملكة العربية السعودية تحت لواء التوحيد، معيدة جزيرة العرب للمرة الرابعة في تاريخ الإسلام إلى الوحدانيّة والسنّة، والوحدة الإدارية وطنًا للمسلمين وحدهم، متميزة كما أراد الله لها بتنفيذ الأحكام الشرعية والدّعوة إلى الله على بصيرة وتطهير البلاد من الوثنية.
التعليم الشرعي المحلي
(1) المسجد(1/1)
المسجد: أول مدرسة وجدت في تاريخ الإسلام، بني أساسًا ليذكر فيه اسم الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، والصلاة أعظم أنواع العبادة بعد الشهادتين -تشمل جميع أقوال الذكر: التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم، وأكثر أفعال الذكر: القيام والركوع والسجود والجلوس، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. وفي المسجد يتعلم المسلم عمليًّا -بسمعه وبصره وممارسته- كل هذه الألوان المفروضة والمسنونة من العبادة.
ومنذ عهد النّبوّة اتخذه المسلمون معهدًا للعلوم الشرعية «اليقينية» تأسيًّا بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتنفيذًا لشرع الله وطاعة لأوامره: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]. ولم يقصره رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم على الأمور التعبديّة، بل شمل عددًا من الأمور العاديّة؛ فاستعمل دارًا للغريب والفقير، ومجلسًا للشورى، ومركزًا للتعبئة العامة للجهاد، وسجنًا لمن يستحقه من المسلمين أو المشركين، ومكانًا يستقبل فيه ولي الأمر وفود المسلمين والمشركين عند الحاجة.
وكانت المساجد في بداية حياتي (ولا يزال بعضها) منهلاً للعلم الشرعي بما يلي:
1- خطبة الجمعة، التي شرعها الله وفرضها لتعليم المسلم أمور دينه اليقينية الثابتة قبل أن يحوّلها الفكر «الإسلامي» الضالّ عن منهاج النّبوّة إلى وسيلة أخرى للإعلام الظنّي مستمدًّا أخبارها من الصحافة والإذاعة والإشاعة. وما شرعت إلا للتذكير بالوحي.(1/2)
2- دروس الدين التلقيني للعوام: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ وأجوبتها المحددة. وهذا الدرس على بساطته من أهم ما يتعلمه المسلم؛ لأنه يعدّه لامتحان القبر .. الامتحان النهائي والشهادة النهائية .. (وتستعمل الكنيسة الكاثوليكية «بخاصة» هذا الأسلوب من قبل باسم: كاتيكيزم Catechism).
3- دروس الدين العامة في الوعظ، والخاصة في التوحيد وعلوم الآلة.
4- دروس القرآن الكريم تلاوةً وحفظًا (وقليلاً من التدبّر).
التعليم الشرعي المحلّي
(2) المدرسة
سنّ التعليم:
بين السادسة والسابعة من العمر يمكن أن يبدأ الطفل خطواته الأولى في طلب العلم، والمؤسسة الوحيدة التي يجد فيها بغيته في أكثر قرى المملكة ومدنها تسمى «المدرسة».
ولا حدّ للسنّ التي يجب عليه أن يتوقف عندها عن طلب العلم في «المدرسة» قد يكون طالب العلم في المدرسة طفلاً في الخامسة أو السادسة، وقد يكون رجلاً في الخامسة عشرة أو الخامسة والعشرين أو الخامسة والثلاثين.
وقد يبدأ الطالب في دراسته في «المدرسة» في أيّ يوم من أيام السنة، وقد يكون ذلك اليوم نفسه الذي ينهي فيه الطالب آخر ما كتب الله له من أرقى العلوم: كتاب الله الكريم، تلاوةً أو حفظًا.
تنظيم بسيط، يساير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ويساير الواقع الذي قدره الله عليهم؛ فليس من الحكمة فرض نمط واحد من التنظيم التعليمي على عقول وأجسامٍ وأقدار مختلفة، إلا أن يتميز بقدر كبير من المرونة لاستيعاب ضرورات الاختلاف.
العلم:
القرآن الكريم -في غالب أحوال المدرسة- هو وحده العلم، لا ينافسه غيره، ومن خلال تعلّمه يعرف طالب العلم: القراءة والكتابة، الأداة الأولى والأهم لتحصيل العلم.(1/3)
كان القرآن الكريم منذ بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى منصف القرن الرابع عشر الهجري (في جزيرة العرب) أول ما يطلب من العلم، وفي الغالب كان أقصى ما يطلب، وفي الواقع فهو أعلى وأغلى ما يطلب. ومن خلال تعلّمه يتعرف طالب العلم إلى الحكمة في أعلى مراتبها: منه يعرف ربّه ورسوله ودينه، ويعرف غاية وجوده، ويعرف ما يجب أن تكون عليه علاقته بالله وعلاقته بأخيه الإنسان وعلاقته بالكون عامّة، ويعرف الطريق المستقيم لتحقيق رضا الله في ذلك كله، ومن ثَمَّ ثوابه.
ومِنْ تَعَلُّم القرآن يملك طالب العلم مفتاح العلم الشرعي (وما دونه من الفنون): اللغة العربية، أوضح ما تكون وأنقى ما تكون وأثبت ما تكون. وبهذه الصفات (الوضوح والنقاء والثبات) كان أهلاً لأن يختارها الله بفضله -لينقل كلامه ووحيه وشرعه في رسالته الكاملة والأخيرة إلى الثقلين: الإنس والجن، ويبعث بها خير رسله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبيّن للناس ما نُزّل إليهم: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28].
وبأهليّتها لحمل العلم اليقيني الموحى به من الله لهداية خلقه؛ حملت خير إرث العرب والمسلمين من العلم والحكمة: آلاف الكتب من العلم العميق المبني على نصوص الوحي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم،. وفقه أئمة القرون الخيّرة في هذه النصوص، مما تقوم عليه حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
فماذا ورّث التعليم المحدَث. لو ورّث طلابه قدرة على قراءة وفهم جزء يذكر من هذا الإرث العظيم لكان خيرًا، ولكن .. هيهات.
المُعلّم:
كان لقبه الذي يعرف به في نجد «المطوّع» مأخوذ من التطوّع لله بالعمل الصالح من أعمال «الحسبة» وتعليم القرآن أعظم أعمالها عند الله (خيركم من تعلم القرآن وعلّمه) رواه البخاري.
«(1/4)
والمطوّع» في مدرستي الأولى مثل جميع «المطاوعة» في مدارس شقراء الستّ للبني، (إضافة إلى ثلاثة مدارس للبنات، معلمتها «مطوعة») تعلّم تلاوة القرآن، عمل إمامًا في أحد مساجد البلد، وعرف بالالتزام الديني والخلقي، وتميّز «مطوّعنا» رحمه الله (عبد العزيز بن حنطي) بزيادة حرصه على العمل بالسنّة في العبادات والعادات.
طريقة التعليم:
يبدأ طالب العلم بتعلّم حروف اللغة العربية، ويردد عبارات معينة تساعده على التمييز بين الحروف وحفظها: «با» تحتها نقطة، «تا» فوقها ثنتين، «ثا» فوقها ثلاث، «جيم» في وسطها نقطة. وقد تضاف بعض العبارات المرحة فيقال عن حرف «هـ» أمّ أذينات شتّار عرّافها يقول: ها.
ويبدأ تعلّم القرآن بتلاوة وحفظ فاتحة الكتاب والمعوذتين وسورة الإخلاص. ويستمر تعلم التلاوة (وربما الحفظ) حتى نهاية سورة البقرة.
وحين يختم طالب العلم القرآن (الشهادة العليا بعد شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله) ينال المعلّم وبقية الطلاب حظّهم من ميسور وليّ أمره من المال أو الطعام. كما أن المعلم يحصل على أجر غير محدد من المال حسب قدرة أهل طالب العلم ورغبتهم، لقاء تفرغه للتعليم.(1/5)
كيف يقوم معلّم واحد على تعليم عدد غير محدد من الطلاب (ويسمون «القَرّاية» محرّفة من القراءون) يختلفون في السنّ والإدراك ودرجة التحصيل العلمي؟ ينشغل المعلم بدارس واحد أو اثنين، وقد يعهد بدارس إلى زميل له أكبر سنًّا وأكثر تحصيلاً، وقد يجتمع عدد من «القرّاية» في مستوى متقارب حول زميل لهم يُقْرِئهم القرآن بصوت مرتفع مؤتلف، وقد ترتفع أصوات الطلاب جميعًا بالقراءة من سور مختلفة لا يلوي أحدهم على الآخر، ولا يتأثر به ولا يؤثر فيه، وقد يفتعل المعلّم هذا الأمر عند معاقبة أحد طلابه حتى لا يسمع الناس خارج المدرسة صراخه، وفي هذه الحال يحث بقية الطلاب على رفع أصواتهم بقوله: «صجوا صجة الطلعة» (والصجّ: ضرب الحديد على الحديث ليصدر صوتًا، والصجج: ذلك الصوت).
أدوات التعليم:
لكل طالب لوح يملكه من الخشب البسيط مستطيل الشكل، في أعلاه نتوء مثقوب يربط فيه خيط للحمل والتعليق، يحضره كل يوم (وبخاصة في بداية عهده بالتعليم في طفولته) يكتب عليه المعلم درسه من الحروف أو الآيات أو السور، فيُكِبّ على تعلمها في المدرسة والبيت، ويعود به في اليوم التالي مغسولاً بالماء، ومبيّضًا بالصالوخ» وهو نوع من الجير الأبيض يؤخذ من أحد الجبال المحيطة بالبلد، (لعل كلمة «الصالوخ» محرّفة من كلمة «الصاروج» من النّورة وأخلاطها).
ويؤخذ القلم من نبات القصب، ويبرى طرفه بسكين صغيرة (مِبْراة) ليلائم صاحبه.
ويؤخذ الحبر من آثار نار الحطب أو الرّوث أسفل قدور الطبخ أو أسفل (المِقْرصة) وهي صفحة مدورة ومُقببة من الحديد تخبز عليها أقراص الخبز الرقيق من القمح (قِرْصان) في غالب بيوت القرى والمدن.
وتنحت دواة الحبر المستطيلة من الخشب، ويحفظ فيها (مع الحبر) القلم.
مبنى المدرسة:
في طرف سوق البلد بنيت مدرستي من الطّين والتّبن، وسقفت بجريد النخيل وخشب الأثل المغطى بالطين والتبن، وبنيت سواريها الأربع من الأحجار البسيطة المستديرة.(1/6)
وتتكون المدرسة من غرفة واحدة مربعة ترتفع في وسطها (نحو ذراع) دكّة مفروشة بحصير من سعف النخل يجلس عليها المعلم، ويجلس الطلاب على الأرض حوله كما يفعل الطلاب قبل مئات أو آلاف السنين، فأسلوب المعيشة لم يتغير في جزيرة العرب (وبخاصة في نجد) من آلاف السّنين حتى منتصف العقد الثالث من القرن الرابع عشر للهجرة. (وتصوّر إحدى لوحات الفنّ الأوروبي الكلاسيكي جوّ التعليم الأوروبي قبل عصر النهضة بما يماثل جوّ التعليم في مدرستي الأولى، مماثلة دقيقة وغريبة بين عالمين مختلفين لا صلة لأحدهما بالآخر).
والتعليم غرض واحد من عدّة أغراض يخدمها هذا المبنى البسيط؛ فهو بيت للغريب حتى تنتهي غربته بالاستيطان أو النزوح، وهو مكان لحفظ مكاييل التجار وموازينهم، وكان (قبل أن أعرفه) يستعمله أي فرد من أهل البلد لاستقبال أضيافه إذا لم يكن في منزله متّسع لذلك؛ ولأن النار توقد فيه لطلب الدفء أو لصنع القهوة أو لصنع «الشاي» من الليمون الأسود المجفّف والسّكر النباتي للضيفان؛ اسودّت جدران المبنى وسقفه وسواريه.
التعليم العام المستورد
المدرسة الابتدائية
بعد عام من ملازمتي المدرسة (القرآنية) فتحت أول مدرسة ابتدائية حديثة في شقراء (عاصمة الوشم) عام 1360هـ، وحاولت الانتقال من جوّ البساطة إلى التكلف، ومن الفطرة إلى الافتعال، ولم أكن مهيئًا بطبعي لذلك فعدت إلى المدرسة (القرآنية) وقضيت عامًا آخر، ثم كان ما يتوقّع من تغلب النمط الوافد للإدارة المدرسية فلم يترك مكانًا لمنافسة.
التنظيم:(1/7)
تتمتع المدرسة الجديدة بمظهر يبهر عواطف العامّة: غرفها وأثاثها ودروسها وموظفيها؛ فالمعلم لم يعد «مطوعًا» بل أصبح «أستاذًا» مثقفًا، يحصل على مرتب حكومي لا يحصل عليه غيره (25-70 ريالاً شهريًّا في ذلك الوقت)، ولم يعد يجلس على الحصير فوق دكّة من التراب، بل صار له كرسي من الخشب أو الخيزران، وطلاب العلم لم يعودوا «قرّاية» بل أصبحوا «تلاميذ» يجلسون على الحصر ثم على مقاعد الدراسة بعد التراب وحوصر العلم بالأنظمة الأوروبية: تنطلق «الصفارة» فيبدأ التعلّم، وبعد 45 دقيقة تنطلق «الصفارة» فيتوقف التعلّم .. مما لا يتفق مع طبيعة المتعلّم ولا المعلّم ولا العلم ولا التعلّم، ولكنه يسهّل الأمر على إدارة المدرسة التي اتجهت في عصر النّهضة الأوروبية إلى تقديم ذواقة(1) من عدة فنون لأكبر عدد من المواطنين في سنّ التعليم، عوضًا عما جرت به العادة (منذ بداية التعليم في التاريخ البشري) من تقديم الكثير من العلم الديني والفكري إلى النخبة، وهم الأقلّون في كل مكان وزمان.
واتخذ التعليم طريقًا واحدًا ذا اتجاه واحد: الأستاذ يتكلم من بداية الحصة إلى نهايتها -والتلميذ يستمع، ويفترض أن يستوعب كل ما سمع. وأنى للعقل البشري- وبخاصة في مرحلة الطفولة وبداية الرجولة أن يبقى طيلة الوقت الحصة واليوم والعام الدراسي على وتيرة واحدة من الانتباه للدرس والاحتفاء به والرغبة فيه، وتبقى جوارح التلميذ ساكنة وحواسّه معطلة فلا أهمية هنا إلا لذاكرته وسمعه؟
سباق غير متكافئ ونتيجة غير عادلة وهدف متواضع:
__________
(1) أي طرفًا يسيرًا من العلم كمن يتذوق الطعام على عجل.(1/8)
يحرص التنظيم العصري للتعليم على تماثل أو تقارب التلاميذ في السن ... ، في كل مستوى دراسي، أما اختلافهم في القدرات والمواهب والرّغبات فلا يحسب له أي حساب. ولا يحسب حساب لما بذلوا من جهد، ومن باب أولى: لا يحسب حساب لما انطوت عليه صدورهم من نية صالحة أو دون ذلك، فعند الله وحده علم ما في الصدور.
وحتى لو أن النية ظهرت لما حسب لها النظام التعليمي العصري أي حساب: فالغاية من الدراسة: الإجابة على أسئلة الامتحان بما يماثل الإجابة المبيّتة (النموذجية)، والهدف النهائي: الشهادة الدراسيّة والوظيفية والمستوى المعيشي والاجتماعي.
وسنة الله في خلقه تخالف ذلك: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ} [النساء: 100]، و(إنما الأعمال بالنيات) متفق عليه. وفطرة الله أصلح وأحكم وأعدل. ولا عجب إذا توقف التعليم بالحصول على الشهادة الدراسية والوظيفة (الهدف الأول والأخير)، ولم يجد أكثر خريجي المدارس والمعاهد والجامعات رغبة في الحصول على المزيد من العلم؛ وبخاصة العلم الذي لا يحقق الهدف المتواضع للتعليم العصري: الوظيفة ومنافعها الدنيوية.
تعدد العلوم والفنون:
بعد أن كان كلام الله يستحوذ على المدرسة والدراسة؛ نافسه -في التنظيم التعليمي العصري- علوم شرعية، وفنون بشرية أخرى لُزَّت في قرن معه (وما هي بالندّ له) فاستحوذت على أكثر الوقت والاهتمام.
أهم العلوم الشرعية التي جاءت بها المدرسة العصرية: التوحيد وفقه العبادات والمعاملات من نصوص الكتاب والسنة وفقه علماء الأمة في القرون الثلاثة المتصلة (وبخاصة: أحمد بن حنبل رحمه الله).
ومن الفنون الطارئة: الجغرافيا، والتاريخ، والهندسة.(1/9)
وفي حالات قليلة بدا أن بعض الفنون النظرية الطارئة تخالف المعتقدات أو «المسلَّمات» المحلّية: فزع بعض الناس من فكرة «كرويّة الأرض»، ولكن الاعتراض لم يقم لورود ما يؤيد ذلك في بعض كتب العلوم الشرعية منذ مئات السنين. وفزعوا أكثر لفكرة «دوران الأرض» ورفعت شكوى إلى قاضي البلد (وهو أعلى سلطة بشرية ذلك الحين) وكان القاضي الشيخ/ محمد بن إبراهيم البواردي رحمه الله (بمرونته وحبه للمرح) خير من يقضي في هذه الملمّة، سأل المعترضين باللهجة العامية: يقولون توها بادية تدور؟ ويجيب المعترضون: لا، يقولون من يوم الله خلقها. قال القاضي: الحمد لله، هانَتْ، ما دامت بيوتنا في مكانها ما غيّرها الدّوران فالأمر من سعة.
ومع مزاحمة الفنون الطارئة للعلوم الشرعية في المدرسة العصرية فقد كان الاهتمام بالعلم الشرعي في المدرسة الابتدائية ذلك الوقت أقرب للشرع والعقل مما انتهى إليه الأمر الآن، ولا يزال الاهتمام بالعلم الشرعي في «المملكة العربية السعودية» خيرًا منه خارجها. والعلم والعمل الشرعي هو سبب الوجود البشري: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وأهمّ وأعلى أقسام العلم والعمل الشرعي توحيد الله بالعبادة الذي أرسل الله به جميع رسله إلى كل خلقه من الجن والإنس: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [التوبة: 31]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].(1/10)
ولأن هذا العلم الشرعي وما يصاحبه من اعتقاد وعمل، هو الأمر الجلل الذي سيحاسب عليه صاحبه في قبره يوم حشره كان هو العلم في دروس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي خطبه يوم الجمعة لا يشاركه فيها أمر من الأحداث والطوارئ مهما بلغ شأنها، وكان هو «العلم» في دروس وخطب خلفائه وأصحابه وتابعيه حتى القرن الرابع عشر للهجرة. وكنا ندرس في المدرسة الابتدائية الأولى: «كشف الشبهات والعقيدة الواسطية» في مادة التوحيد، و«زاد المستقنع» في مادة الفقه.
ولأن المقلّد لا يقف على أرض ثابتة؛ فقد تذبذب تطوير المنهاج التعليمي بين رأي ورأي، وبين تجربة وأخرى كان هاجسها المشترك: زيادة نسبة النجاح، فالامتحان هو المهيمن على المؤسسة التعليمية بمختلف أنواعها ومستوياتها.
المعلّمون:
كان مدير مدرستنا الابتدائية ومعلموها (من المدينة المنورة) من خيرة المعلمين، فقد كان الانتقاء يومها سهلاً لقلة عدد المدارس، (وقد عيّن مديرها الشيخ/ عبد المجيد حسن فيما بعد إمامًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعضوًا في هيئة التمييز، وعضوًا في هيئة كبار العلماء، وعين اثنان من معلميها في إمامة المسجد النبوي) ولحق بهم عدد من خيرة طلاب العلم في المنطقة أذكر ممن توفاه الله منهم:
1) إبراهيم بن محمد بن جهيمان رحمه الله، لا زلت أذكر درسه في الطهارة والصلاة كأنه أمامي الآن: مكانًا وزمانًا وأفرادًا. كان يحوّل الدرس في الصف الثاني الابتدائي إلى تمثيلية خفيفة الظلّ بالغة الأثر يشترك في تنفيذها الجميع. يخلع المعلم والتلاميذ طواقيهم (أغطية رءوسهم) ويضعونها على الأرض مثل آنية الوضوء، ويبدأ المعلم تمثيل الوضوء يتابعه الأطفال في كل حركة، ثم يؤم المعلم تلاميذه في تمثيلية الصلاة موردًا جميع الأحكام «المقررة» فيها بما في ذلك قتل الحية والعقرب إذا عرضت للمصلي.(1/11)
2) إسحاق كردي رحمه الله، قدم من «ديار بكر» في تركيا إلى «المدينة» وأقام فيها أكثر سنّي حياته المديدة، ولم يتخلص لسانه من العجمة، ولكنه علمنا أنواع الخط العربي، وأعظم من ذلك تعلمنا منه التلاوة وأحكام التجويد، وعرفنا منه لأول مرة كذلك: بدعة التباهي بالتلاوة على أكثر من قراءة.
3) إبراهيم الهويش رحمه الله، وقد عيّن قاضيًا في بعض القرى المجاورة بعد تركه التدريس. وكان (لعلمه وفضله وإخلاصه في عمله) يتجاوز بنا حدود المدرسة الابتدائية: أذكر أنه رحمه الله بحث معنا مسألة وصف الله سبحانه وتعالى الشرك بأنه ظلم عظيم؛ هل هو ظلم من الإنسان لنفسه، أو هو ظلم منه لربه، فاختار بعض الأطفال -وكنت أحدهم- الرأي الأول بدليل قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57، الأعراف: 160]، واختار الشيخ رحمه الله وبقية الأطفال الرأي الثاني بدليل قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]، ويوم امتحان نهاية العام الدراسي أعاد الشيخ «أسكنه الله الجنة» عليّ السؤال، فذكرت رأيه وأكدت التزامي برأيي، فقال رحمه الله: إذن ينقصك درجة، (ربما لأن الطفل محكوم شرعًا وعقلاً بطاعته لله ولرسوله ولولي أمره (المعلّم) لا برأيه). ولكن المهم أن من عرف الآن ما وصل إليه مستوى الدراسة العصرية سيأخذه العجب مما ذكرت: عرض قضية خلافية لا يحتويها المقرر الدراسي في أدنى مراحل التعليم، ومقارعة الحجة بالحجة بين طالب العلم الطفل وبين زميله وبينه وبين المعلم.
الأدوات والوسائل التعليمية:(1/12)
كان لوح الكتابة أبيض خاصًّا بصاحبه، فأصبح أسود عامًّا لجميع الطلاب، وعرفنا لأول مرة الأقلام المستوردة والحبر المستورد. وفي الصف السادس الابتدائي قرر علينا درس الهندسة فعرفنا الأدوات المستوردة لرسم الدائرة وقياس الزاوية. إضافة إلى الكتاب المدرسي، ولم أعرف بوجود وسيلة للإيضاح تزيد على ذلك حتى تخرجت من كلية الشريعة المباركة عام 1376 هـ.
«دار التوحيد»
انتقلت في آخر سنة من مرحلة الطفولة إلى «دار التوحيد» بالطائف؛ لأنها السبيل الوحيد عام 1368 هـ لمواصلة الطالب (في وسط وشرق المملكة) دراسته. كان تأسيس هذه المدرسة عام 1364 هـ توفيقًا من الله لولاة الأمر في بلد التوحيد والسنّة؛ أمر بإنشائها الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله لتقدم علوم الشريعة بطريقة عصرية لتلائم الانفصال بين الماضي والحاضر وبين التعليم والعلم اليقيني، وكانت فتحً مبينًا وبابًا واسعًا وحيدًا للعلوم الدينية العامة (فوق مستوى المرحلة الابتدائية) يجلب إليها الشباب طوعًا أو كرهًا من مختلف أنحاء المملكة وبخاصة نجد، ووفرت لهم الدولة ما لم يحصل عليه غيرهم من قبل من العلم الجيد والمعلم الجيد والمعيشة الجيّدة، ووفر طلابها لأنفسهم تسلية أدبية جيدة في ناديهم المتميز.
المعلمون:
اختار لها الشيخ/ محمد بن مانع رحمه الله مدير المعارف (قبل أن تحول إلى وزارة بعد ذلك بعشر سنين): الشيخ/ محمد بهجت البيطار خير علماء الشام في وقته عقيدةً وفقهًا وخلقًا ليقوم على إنشائها وإدارتها، واختير لها عدد من خير علماء الأزهر التزامًا بالتوحيد والسنة وعلى رأسهم الشيخ/ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله (نائب المفتي في المملكة فيما بعد) والشيخ طه الساكت رحمه الله (عضو لجنة الإفتاء بالأزهر). ومن أبرزهم في تدريس اللغة العربية الشيخ عبد اللطيف سرحان رحمه الله، كان درسه في شرح ابن عقيل يجمع بين العمق والأسلوب المحبب والخلق القويم.
نمط جديد في الحياة:(1/13)
وبانتقالنا من القرية إلى القسم الداخلي في «دار التوحيد»، انتقلنا إلى عالم جديد يختلف كل الاختلاف عما تعودناه من طرق المعيشة في وسط جزيرة العرب؛ لأنها كانت محجوبة عن تأثير الثقافات خارج الجزيرة بموقعها الجغرافي البعيد عن طرق البرّ والبحر الرئيسية وفقرها الظاهر فيما يجذب المستعمرين من الشرق أو الغرب، وكان ذلك قدرًا من الله ورحمة منه وتطهيرًا لهذه البقعة من دنس الاستغلال والتسلط النصراني، وجور وبدع وشرك بعض المنتمين للإسلام.
تعرفنا على البناء الحديث والسقوف المشيدة المنقوشة من الطراز التركي، وقد كنا نعيش ولله الحمد مع الغنم والبقر اختيارًا ومع الخفافيش والخنافس والسحالي اضطرارًا، ومع ذلك كنا أكثر ذكرًا لله وتعلقًا به واتكالاً عليه: إن تأخر المطر دعونا الله وتضرعنا إليه لنجد ما نأكله، وإن جاء الله بالمطر دعوناه وتضرعنا إليه ألا يزيد المطر عما تحتمله بيوت الطين والتبن والخشب.
تعرفنا على ألوان جديدة من الطعام وفدت مع الحجاج من أمصارهم لم نكن سمعنا لها اسمًا ولا تذوقنا لها طعمًا: تعلمنا أكل الفور من مصر وخبز التميس من بخارى «وكبسة» الرز من تركستان و«شكشوكة» البيض من تركيا.
وبعد بضع سنين عرفنا الكهرباء، ومن بابه الواسع جاءت الرفاهية وما يصاحبها من كسل وغفلة واعتماد على الأشياء وبالتالي: ضعف في التعلق بالله.
هدف التعلّم:
لازمني في دراستي منذ الابتدائية حتى تخرجت من كلية الشريعة: فقد الهدف المشروع لتعلّم الدين أو المعقول لتعلّم الفنون الدنيوية، وجدت نفسي (ككل طفل) ملزمًا عرفًا بدخول المدرسة الابتدائية، ثم انتقلت إلى دار التوحيد، ثم كلية الشريعة لأنها الطريق الوحيد لمواصلة الدراسة.(1/14)
لم تكن الوظيفة أو المهنة من قبل تلقي بأي ظل على التعليم لندرة الوظائف الحكومية، وأما المهن فلم تكن المدرسة تعد طالب العلم لها إعدادًا يذكر، ولم تكن تتطلب شهادة دراسية نظرية (قد تفيد قليلاً وقد لا تفيد كثيرًا على محك الواقع) وإنما يحصل عليها من أثبت أهليته لها مهارة وعملاً تشهد بهما الخبرة والتجربة. وكم تمنيت (وطالبت فيما بعد، حين التفتّ إلى وجوب إصلاح التعليم) لو تخلص التعليم من رباطه العرفي المفتعل بالوظيفة وما تمليه من امتحانات وتعقيدات تعوق التعليم وتقيّده وتفسد الهدف منه أكثر مما تفيده.
كانت دراستي محاولة للجمع بين كثير من اللعب وقليل من أداء الواجب، ولم يخطر ببالي الاستفادة من علم ولا علماء دار التوحيد وكلية الشريعة فضلاً عن «معارف» المدرسة الابتدائية. وبالمناسبة فلقد أكبرت ثبات ولاة الأمر في المملكة على كلمة «معارف» عنوانًا للسلطة التعليمية فيها بدلاً من وزارة التربية والتعليم؛ استثناء من اتجاه العالم العربي للتغيير ذاته؛ لأن كلمة «معارف» تصدق على العملية التعليمية العصرية أكثر من وصفها بالتربية والتعليم، إذا قيست نتائجها بمقدماتها وما يبذل فيها من جهد ووقت ومال وما يعطل أثناء ذلك من طاقات عقلية ونفسية وعاطفية(1) كان يكفيني من المدرس الحصول على درجة النجاح والانتقال إلى صف جديد، وحصلت دائمًا على هذا المطلب المتواضع دون جهد يذكر، وذلك من فضل الله وحده؛ فهو سبحانه وتعالى (بعدله) يعطي كل عبد من عباده نتيجة عمله على قدر نيته وعلى قدر جهده: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
__________
(1) وتغير اسم وزارة المعارف أخيرًا للأسف ..(1/15)
وهكذا فعندما تغيّرت ظروف دراستي ومعيشتي في مكة المباركة في كلية الشريعة بعد ذلك وانتقلت إلى الحياة الفردية من الحياة الجماعية ووجدت تنافسًا على الأسبقية في درجات الامتحان، اتجهت إليها وبفضل الله حصلت على المرتبة الأولى في السنوات الثلاث الأخيرة، ولكن (في غياب الهدف الشرعي لطلب العلم الشرعي) ما كانت حصيلتي الدراسية تتجاوز كثيرًا ورقة الامتحان ويوم الامتحان.
«كلية الشريعة»
كانت كلية الشريعة بمكة المباركة قد أنشئت عام 1369هـ لاستقبال خريجي دار التوحيد فهي الطريق الوحيد المفتوح لهم لمواصلة الدراسة في الداخل والخارج، وكانت أول مؤسسة للتعليم العالي في المملكة ونواة للكليات والجامعات بعدها في مكة المباركة وفي غيرها من أرض الجزيرة المباركة مهد الدين وموئله. ولأنها الأولى في التعليم العالي فقد صارت شهادتها لعدد من السنين تذكرة مضمونة للحصول على الوظيفة الرسمية في التدريس أو القضاء أو الإدارة، ولشعوري بعد التخرج عام 1376هـ بالعجز عن الأولى والثانية واخترت الثالثة.
الحدود الزمنية للدراسة:
الدافع الأول والأخير في القيوم الزمنية للدراسة العصرية من البداية إلى النهاية: التقليد الشرقي للنظم الدراسية الغربية، لا الشرع ولا العقل ولا متطلبات الظروف المحلية.
وقد نجد تفسيرًا معقولاً لاختيار أوروبا (في عصر النهضة) حدودها وقيودها الزمنية للإدارة المدرسية، ولا نجد بأسًا في محاكاتها فيما يتعلق بتحديد بداية مراحل التعليم العام:
1- تبدأ الدراسة الابتدائية في سنّ السادسة عندما يبلغ الطفل من النمو ما يؤهله للانفصال ساعات في اليوم عن مراقبة أبويه وأمن بيته من الصباح إلى الظهيرة (ساعات الغياب عن البيت في المستقبل).
2- وعند بلوغه الثانية عشرة (سنّ التمييز) تبدأ مرحلة الدراسة الإعدادية أو المتوسطة.
3- وعند بلوغه الخامسة عشرة (سنّ البلوغ) تبدأ مرحلة الدراسة الثانوية.(1/16)
4- وفي سنّ الثامنة عشرة (سنّ الرشد) ينهي مراحل التعليم العام، وينتقل إلى المرحلة النهائية المستمرة من حياته العلمية والعملية.
ولكني لا أجد تفسيرًا شرعيًّا ولا عقليًّا للالتزام بتنظيم تقليدي يسبق هذه المراحل أو يلحقها:
1) الطفل قبل بلوغ السادسة من عمره غير مهيأ (بأي مقياس) للاستغناء عن رعاية أمه وأمن منزله. وقد أعذُرُ الغربيين وغير المسلمين عامّة في ابتداعهم «روضة الأطفال»؛ لأن الحصول على المتاع الدنيوي والأسباب المتطورة للرفاهية يقتضي عمل المرأة خارج المنزل واستغلال وقتها في طلب المال، وعلى هذا فلابد من تحريرها من واجبات الأمومة وواجبات الزوجية (الأمرين الذي خلقها الله لهما بعد عبوديتها له)، ولكن كيف يعذر مسلم (يقوم إسلامه على أن غاية وجوده: رضا الله وثوابه باتباع شرعه وفطرته التي فطر الناس عليها) باتباع خطى عدوّه المنحرفة عن الشرع والفطرة والعقل في تنحية الطفل ليسهل للمرأة مخالفة أمر الله لها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وحثّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها أن تصلي في بيتها. وأن ذلك خير لها من الصلاة معه في مسجده، فكيف بخروجها لطلب المال في غير ضرورة؟! وماذا يجني الطفل في مقابل ما يفقده؟ لقد أظهر بحث تربوي مشهور استمر سبع سنوات في سويسرا أن الفرق (بين الطفل الذي درس في الروضة والذي لم يدرس) إذا وجد، يزول أثره في الصف الرابع الابتدائي على الأكثر.
2) وكلية الشريعة وعلوم الشريعة أخضعت أيضًا للتقليد الذي لا يَعقل ولا يُعقل. فقد حددت سنوات الدراسة فيها بأربع سنوات لمجرد أن كلية الآداب أو كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كذلك، وعلى النهج نفسه حدّد عدد الشهور والأيام والدقائق، حتى الأسماء نقلت أو غيّرت وفقًا للهزيمة النفسية، يروى عن «طه حسين» أنه قال: كان الأزهر جامعًا فمسخوه جامعة.(1/17)
علوم الشريعة بطبيعتها وأحكامها لا يصلح للحدود والقيود والتجزئة التقليدية: عدد محدد وموحّد من الدقائق لبدء التعليم ونهايته، وعدد من الساعات أو الدرجات للتخرج، وربط طالب بطالب لا يماثله في الموهبة ولا الرغبة ولا الحاجة، وربط مادة دراسية بمادة أخرى لا صلة لها بها، والتركيز على جزيئات صغيرة من العلم على حساب كليات عظيمة لا يجوز الفصل بينها ولا التفريط فيها، وعدد محدد من السنوات الدراسية لجميع علوم الشريعة ولجميع طلابها رغم اختلافها واختلافهم.
العلم والمعلمون:
كانت كلية الشريعة في مكة المباركة أول مؤسسة للتعليم العالي الشرعي في جزيرة العرب (كما أشرت من قبل)، «وقُرِّرَت» فيها مراجع قيّمة في التوحيد والفقه وأصوله والحديث ومصطلحاته والتفسير وعلومه واللغة العربية. واختير لها خير المعلمين من الأزهر، ولكن النّظم والقيود التقليدية حولتها (مثل غيرها من الكليات والجامعات بعدها) إلى «مفرخة» لموظفي الدولة، وتحول عملية التعليم فيها (مثل ما دونها من المدارس) إلى ميدان سباق وقفز للحواجز المفتعلة يضمن الوظيفة ولا يحقق جزاء الله الذي أعدّه لطالب علم شرعه.(1/18)
من أبرز القائمين على كلية الشريعة (زمن دراستي فيها): الشيخ عبد الله خياط رحمه الله، كان مديرًا للكلية، وكان من خيرة القائمين عليها التزامًا بما ألزمنا الله به من العقيدة الصحيحة، والسّنة في العبادات والمعاملات والدعوة إلى ذلك. ومن أبرز معلميها: الشيخ/ محمد متولي الشعراوي رحمه الله وسهل لنا وله طريق الجنة، كان يدرسنا البلاغة، وهو من نوادر المعلمين في اللغة العربية عمقًا وأسلوبًا، وذلك سُدَى شهرته ولحمتها بالأمس واليوم (وليس الفقه في كتاب الله وسنة رسوله على نهج الأئمة في القرون الثلاثة المفضلة). ولكن العلوم الشرعية قد أخضعت لسلطان اللغة والبيان، وتفسير القرآن الكريم (وبخاصة)، وهو أعظم العلوم وأهمها (لأنه قول على الله وبيان لكلماته) قد تعرّض لهجوم الأساليب اللغوية العصرية ممن لم ينتبهوا إلى خطر وإثم القول على الله بغير علم من شرع الله ولا فقه في نصوص وحيه ولا إحاطة بفقه علماء الأمة الأول.
وغالب كتب التفسير في القرون المتأخرة (وبخاصة القرن الأخير) تنهج واحدًا من طريقين ضالين عن هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن سبيل المؤمنين به من أصحابه وتابعيه:
1- إخضاع معاني القرآن للأساليب اللغوية والفكرية المتأخرة (فلسفية أو صوفية أو «أخيرًا» صحفية).
وكان الواجب والحق والعدل أن تخضع اللغة العربية رسمًّا وقاعدة وأسلوبًا للقرآن الكريم فهو أصحها وأفصحها وأنقاها وأوضحها. وهو وحده المتعبّد به.
2- البرهنة والاحتجاج الروحي للوحي اليقيني (من الله على رسوله) بالنظريات الطبيعية العصرية الظنّية المنقولة (دون تمحيص) من أعداء دين الله.(1/19)
وكان الواجب والحق والعدل ألا يربط اليقين من الله بالظنّ من خلقه في مثل هذا الأمر إثباتًا ولا نفيًا، بل يُحكم بالقرآن على غيره (من كلام البشر) لإظهار دين الله وإسقاط أديان الضلال، ويُنزه كتاب الله عن نظريات البشر القاصرة إطلاقًا. والإعجاز العلمي للقرآن لا يكون إلا فيما جاء به الوحي، لا يكون في موافقته (على فهم المتأخرين) لنظرية ظنّية في فهم جزئي محدود للكون قد يتغير أو يتطور أو يظهر خطؤه أو نقصه كما حدث لكثير من النظريات الكونية من قبل ومن بعد؛ فيتبع ذلك شك المثقف المعاصر في صدق كتاب الله.
والواقع أن كل من ولغ في هذه البدعة من «طنطاوي جوهري» في تفسيره «الجواهر» إلى «مصطفى محمود» في: «محاولة لفهم عصري للقرآن» لم يتوفر له العلم الشرعي الذي يعصمه من القول على الله بلا علم، ولا الإحاطة بالنظريات الحديثة في الكون والقدرة على تمحيصها، فجميعهم قاصرون في الأولى والثانية.
«بين الوظيفة الدّراسة»
التدريس:
عينت على وظيفة «مدرس» في المرحلة الثانوية عام 1377هـ في المرتبة الخامسة (في النظام براتب قدره 975 ريال. ولو أوتيت القدرة على أداء هذا العمل العظيم (موهبة أو تأهيلاً) لما ابتغيت له بديلاً، ولخاصة إذا كان البديل قضاء وقت العمل على مكتب رسمي بين كاسات الشاي والجرايد وقليل أو كثير من الأوراق الرسمية الروتينية التي لا تفيد الموظف ولا الوظيفة كثيرًا، بل إن أكبر مشكلات الإدارة المعاصرة في أكثر البلاد العربية كثرة الموظفين وكثرة الأوراق بما يتجاوز حدود الضرورة. ولم أكن في شوق إلى استمرار التعلم طمعًا في مزيد من العلم، ولكنه كان الحل الوحيد المناسب لتأخير المواجهة مع العمل الرسمي، وللتعرف على حياة مختلفة وثقافة جديدة.
الدراسة المهنية والعليا:(1/20)
لم أجد غير منحة للدراسة في معهد المكفوفين بالقاهرة فركبتها وزاوجت بين الدراسة في معهد المكفوفين صباحًا (حيث لا أذكر أني تعلمت من غير الكتابة بطريقة «بريل»)، وبين الدراسة في معهد الدراسات العربية العليا التابع لجامعة الدول العربية مساء. ولما كان قسم الأدب العربي في هذا المعهد الأخير أوسع التخصصات أفقًا وأقربها إلى نفسي (على بعده) اخترته وقضيت عامين في استعراض أدباء مصر وبعض الدول العربية واستعراض مناهج الأدب العربي في القديم والحديث.
وبعد عامين أنهيت الدراسة في المعهدين: المهني والنظري وعدت مرغمًا للعمل الإداري الذي لم أعرفه بعد ولم أؤهل له ولم أطمح إليه.
خبير في التعليم الابتدائي بلا خبرة:
عينت بالشهادة الجديدة (الدبلوم العالي) على وظيفة بالمرتبة الرابعة عام 1379هـ، وكان عنوانها: «خبير في التعليم الابتدائي» ولم تكن خبرتي فيه تتجاوز دراستي في المدرسة الابتدائية قبل اثنتي عشرة سنة، ولكن النظام المالي كان يقتضي ملء الوظائف الشاغرة والتغاضي عن حقيقة عمل الموظف وخبرته.(1/21)
من نعم الله عليّ (ولا حصر لنعمه) أن فطرني على عدم الاهتمام بالمظهر الذي يحكم حياة الإنسان المعاصر، وكان مدير الإدارة (د. عبد الله الوهيبي) من نوادر مواطنيه (في الذكاء والعلم والعمل) اختار لي مشاركة رئيس قسمي في مكتبه ظنًّا منه أني أهل للتعلم منه أو للقيام بعمله في المستقبل، ولم أرغب في مضايقة الزميل (رحمه الله) ولا مضايقة الإدارة في المطالبة بكرسيّ ومكتب فأخذت أوراقي وجلست على الأرض إلى صندوق من الحديد معدّ لحفظ أوراق الامتحان. (والامتحان بلغ به التعقيد وهالات السرية والقدسية إلى سجنه في خزائن الحديد، وفي غرف خاصة وراء القضبان كالنقد المالي، ومثل النقد المالي صار هو الغاية والحَكَمُ والآمر الناهي في كل مراحل التعليم والعمل). وربما احتسب مدير الإدارة وفقه الله هذه الصفة (ولا أذكر غيرها نقطة في صالح مستقبلي الوظيفي فسعى إلى تعييني (ولم يمر عليه في العمل الرسمي أكثر من عام) مديرًا لإدارة تشرف على البعثات الدراسية في الخارج (إدارة البعثات الخارجية).
دراسة اللغة الأجنبية:
لأن وظيفتي الجديدة تتطلب معرفة اللغة الإنكليزية حصلت على بعثته لدراستها في انكلترا مدة عام 1961م وتبيّن لي أن من لم يدرس «اللغة الأجنبية الثانية» من قبل، ومن درسها ست سنوات في مراحل التعليم العام يتساويان في مدى فقرهما وحاجتهما إلى إجادة اللغة. فكلاهما يحتاج إلى سنة دراسية إضافية للوصول إلى مستوى في اللغة يؤهله لاستعمالها قراءة وكتابة وفهمًا، وبخاصة: مواصلة الدراسة في جامعة غير عربية. إذن .. لماذا كل هذا الاهتمام والجهد وتضييع الوقت في الدراسة العامة للغة الأجنبية إلى درجة توقف كثيرًا من الطلاب عن مواصلة التعلم في المعاهد الدينية والمهنية فضلاً عن المدارس العامة؟
الإدارة العامة للثقافة:(1/22)
بعد أربع سنوات من عودتي إلى العمل نقلت للإشراف على الإدارة العامة للثقافة وهي تضم إدارات البعثات الخارجية، والآثار، والعلاقات الثقافية وكالعادة لم يكن نقلي لأهليتي لعمل أكبر، وإنما لمصلحة موظف جديد منقول من الخارج إذ تهيئ له إدارتي السابقة الصلة بالخارج. وحين وجدت أن من غير الممكن المواءمة بين قدراتي المحدودة والقيام بالعمل الواسع الجديد بدرجة مرضية؛ قررت اللجوء إلى المهرب القديم: الدراسة لا لذاتها بل وسيلة للتخلص من غيرها.
دراسة الإدارة:
ذهبت لدراسة «الإدارة العامة» في جامعة «جنوبي كاليفورنيا» في لوس أنجلس عام 1968م لعلي أكون بعدها أكثر أهلية للعمل الإداري، ولكن المرحلة الأولى من هذه الدراسة وهي تقدم عينة من كل ما سأدرسه في الإدارة أيدت قناعتي القديمة إثر دورة تدريبية في جامعة «بتسبرك بنسلفينيا» قبل أربع سنوات عام 1964م: تعتمد الإدارة العامة على الحسّ السليم والخلق القويم أكثر من اعتمادها على الفكر، مثلها مثل معظم الوظائف المهنية البشرية، فغيرت وجهة دراستي في الجامعة نفسها إلى التربية: أسسها الفلسفية والاجتماعية والنفسية.
دراسة التربية:
كان ولداي يقتربان من سن التعليم العصري، وقد يكون المفيد لي ولهما أن أطلع على مختلف النظريات التربوية لعلي أقف على أرض ثابتة في أسلوب تربيتهما. ومن ناحية أعمّ: رغبت في التثبت من متانة الأسس التي بني عليها التعليم المعاصر، بل كان يهمني التثبت من وجود هذه الأسس على الإطلاق، فلو كانت موجودة وثابتة فلماذا كل هذه الحيرة والتذبذب والتخبط والركض وراء كل ناعق «تربوي» وحالة التقليد التي نعيشها لم تحوجنا إلى أكثر من النقل الحرفي الشكلي دون محاولة التعرف على الحقيقة وراء الظل (في لغة أفلاطون).(1/23)
وحصلت على درجة الماجستير في التربية عام 1970م، وآه من «تغريب الألقاب العلمية» كما يقول الشيخ/ بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء في كتابه بهذا العنوان. وحصلت على قناعة تامة بأن النظريات التربوية الغربية منذ أفلاطون (وهي عائمة على السطح غير راسخة الجذور في الأعماق) لا تحكم مؤسسات التربية المعاصرة، بل إن عملية التربية والتعليم منذ بداية عصر النهضة الأوروبية لم تؤسس عل ثابت من هذه النظريات وإنما كانت الهيمنة للنظريات الإدارية لزيادة الإنتاج الكمي حتى انتهت إلى ما انتهت إليه الإدارة الصناعية عندما ابتكرت «مصانع فورد للسيارات»: «خط الإنتاج» وهو لا شك ابتكار معقول وناجح فيما يتعلق بالإنتاج الآلي، وقد يصلح للتربية لو كان الإنسان كما قيل: «مسمار في عجلة المجتمع» ولكنه ليس كذلك.
وبهذه القناعة رفضت شاكرًا عرض الوزارة استمراري في الدراسة للحصول على درجة الدكتوارة فلن تحقق علمًا يجوز أن يطمح إليه، وقد أغناني الله دونها عما يبتغيه أكثر طلابها من مال أو جاه.
وفي المقابل طلبت وحصلت من الوزارة على دراسة حرة لمدة عام لا تحدها القيود الزمنية والمكانية للدراسة ولا حساب الساعات والدرجات، وكانت خير ما حصلت عليه من المزايا الإضافية للوظيفة، وكانت فرصة نادرة في دراسة التربية من أوسع جوانبها وآفاقها، وبخاصة في ذلك الوقت الذي كانت فيه أمريكا تقود العالم إلى التغيير الإنساني فيما سمي بحركة أو ثورة الشباب، وإلى البعث الديني فيما عرف بالصحوة الدينية بدءًا بالوثنية ثم النصرانية ثم بجمعيات الطلاب العرب والمسلمين.(1/24)
وزاد يقيني في نهاية اغترابي للبحث عن سراب التربية الحديثة أنها قامت على سلسلة من النظريات، والنظريات المعاكسة، ومحاولة الجمع بين النظريات المتناقضة، التي ميزت الفكر الغربي عامة، وعلى سلسلة من التجارب والمحاكاة؛ مما يجيز لي ولغيري إعادة النظر في «مُسَلَّماتنا» التربوية التقليدية، واستقراء التجارب الإنسانية القديمة والحديثة والتعرف على العقبات التي تواجه عملية التربية والتعليم في بلادنا والبحث عن حلول محلية حقيقية لا يشترط انتماؤها إلى ثقافة معينة قديمة أو حديثة، ولا يمنع من اقتباس تفاصيلها من أي مصدر أو من غير مصدر معروف. فليس الخطأ في الاستفادة من خبرات الآخرين في النظم والوسائل والأساليب الدنيوية ما لم تخالف شرع الله، وإنما الخطأ في الالتزام بها والانتماء إليها وتهيّب تصحيحها.
الإدارة العامة للتعليم الثانوي:
بعد عودتي إلى الوطن المبارك (الذي اصطفاه الله لأكمل رسالاته ولدينه الحق ولعباده المسلمين) عُينت عام 1392هـ مديرًا عامًّا للتعليم الثانوي، وحاولت منذ البداية تغيير العلاقات التقليدية بين الموظف ووظيفته، وبين الإدراة المركزية في الوزارة وإدارة التعليم، وبين إدارة التعليم والمدرسة، وبين المدرسة وطلابها.
فبدأت بنفسي فأهديت أثاث مكتبي في الوزارة إلى ثانوية الملك عبد العزيز في الرياض ردًّا على مطالبة مديرها بأثاث جديد لمكتبه. وأقنعت زملائي (على مضض) بالاكتفاء مثلي بكرسي بسيط ومنضدة عامة لا تجتوي على خزائن لحفظ الأوراق، وفي المقابل هيأت لي ولهم مكتبة تضمّ كل كتاب يحتاجونه لتنفيذ العمل أو تطويره، واخترتهم جميعًا من السعوديين.(1/25)
هذه البداية البسيطة مهمة جدًّا لتطوير علاقة الموظف الرسمي بعمله، فقد طغى الشكل والمظهر على أكثر جوانب حياتنا وعملنا؛ فاستحوذ على أكبر قسط من التفكير والجهد والنفقة والوقت، بل تجاوز حدود الدنيا إلى الدين: فزخرفت المساجد وحلّت المصاحف ولُحنت التلاوة والأذان والتسبيح في مخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أبو داود والنسائي. (إذا زوّقتم مساجدكم وحلّيتم مصاحفكم فالدمار عليكم) «الصحيح» (3/1351). (ما أمرت بتشييد المساجد) «الصحيح الجامع» (5426)، وفي مخالفة لسبيل المؤمنين القدوة من الخلفاء والصحابة والتابعين وأئمة الدين في القرون المفضلة: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 115]، وفي متابعة للوثنيين واليهود والنصارى.
وصرفت 80% من وقت العمل (تقريبًا) في زيارة إدارات التعليم والمدارس الثانوية ومناقشة الإداريين والفنيين والمعلمين والطلاب محاولاً إثارة التفكير والحوار واجتذاب الجميع- وبخاصة المباشرين للعملية التعليمية في المدارس- لقلب جميع أحجار التنظيم التعليمي في المملكة العربية السعودية، وتنحية هالة القداسة الزائفة التي اكتسبها هذا التنظيم بمرور الزمن، وإعادة النظر في جميع النظريات والتطبيقات التعليمية السائدة، وتعريضها للنقد والتمحيص، وكشف العوائق المصطنعة التي تعترض أو تقطع طريق طلب العلم والبحث عن خير طرق علاجها واختيار البديل الأقوم.
«محاولة أولى للإصلاح»
في 1/2/1393هـ وبرقم 119/16 قدّمت لوزارة المعارف وجهة نظري في الإصلاح المدرسي بعد مضيّ عام في مناقشتها مع جهات الاختصاص على كل مستوى، وبخاصة في المدارس الثانوية في المملكة.(1/26)
وبعد أكثر من نصف سنة من تخلّف الاستجابة أو الرفض أو الاهتمام أعدت بحث الموضوع مع إدارات التعليم والمدارس الثانوية للتذكير به.
الخلل:
تواجه الطالب في المرحلة الثانوية أكثر من عقبة تهدد مستقبله العلمي:
1- ليس له -وقد بلغ مبلغ الرجال- أيّ اختيار يذكر في محيط دراسته، وقد أهّله الله ببلوغ الحلم لمواجهة كل الاختيارات والحصول على كل الحقوق وتحمل كل الواجبات في فطرة الله له، فلا عجب إن تعامل مع دارسته على أنها «شر لابد منه» لا يحس بالمحبة لها ولا الرغبة فيها، ولكن يأتيها لأنه مكره عليها.
2- إذا رسب في مادة واحدة (في الدور الثاني للامتحان) أعاد دراسة جميع مواد الدراسة في العام الثاني.
3- إذا رسب عامين متتالين في مادة واحدة طُرد من التعليم.
4- إذا تأخر دقائق معينة في أول اليوم الدراسي مُنع من دخول المدرسة ذلك اليوم.
5- إذا تجاوز سنًّا معينة حرم من الدراسة.
6- هو مطالب بدراسة مواد عامّة مفروضة على الجميع ولو لم يكن له قدرة عليها ولا رغبة فيها ولا حاجة إليها، ويكثر رسوب الطلاب فيها مثل اللغة الإنكليزية والعلوم الطبيعية والرياضيات سواء في المدارس الدينية أو المهنية أو النظرية.
7- لن تقبله الجامعة حسب قدرته أو رغبته أو حاجته، ولا حسب متطلبات الدراسة فيها، بل وفقًا للتنظيم الروتيني لتوزيع الخريجين من المدارس والمعاهد الثانوية على الجامعات، إلى درجة أن الجامعة لا تقبل خريج معهد المعلمين في كلية التربية ولا خريج الثانوية التجارية أو الزراعية في التجارة أو الزراعة، بل لابدّ من شهادة التوجيهي.(1/27)
8- وأخيرًا فإن شبح الامتحان مصدر قلق للطالب وولاة أمره، ملازم لهم من بداية الدراسة إلى نهايتها، وهو مخيّم على واقع الدراسة: محتواها وتنظيمها، وقد احتلّ مكان الهدف الأول للتعليم، بل الهدف الوحيد. وحوّل المدرسة إلى ميدان قفز للحواجز المفتعلة، فمستوى الطالب لا يقاس بحسب محاولته وجهده وحدود طاقته، وحسب، وإنما يعتمد القياس أكثر على مقارنة أدائه بأداء غيره من زملائه. وعلى هذا يجب على الضعيف أن يتجاوز حدود قدرته ليلحق بمن هو أقوى منه، وعلى القوي أن يتباطأ حتى يلحق به من هو أضعف منه.
العلاج:
بما أن العقبات التي تعوق طالب العلم لا تعني المنهاج (أو المحتوى أو المقرر الدراسي) بالدرجة الأولى، وإنما تعني التنظيم الروتيني لتقديمه؛ فقد رأيت التركيز على تعديل أو تبديل هذا التنظيم أو الهيكل الإداري.
أهدافه:
1- إعادة بناء هيكل التعليم الثانوي على نحو مرن يتمشى قدر الاستطاعة مع أقدار الله على خلقه من حيث القدرة العقلية للطالب وظروفه الاجتماعية.
2- زحزحة الحواجز والروابط والمتطلبات المصطنعة في نظام التعليم الثانوي من حيث الزمان والمكان، ومن حيث علاقة طالب بآخر، ومن حيث علاقة مادة تعليمية بأخرى في دراسة الطالب نفسه.
3- ضمّ شتات التعليم الثانوي في مدرسة واحدة وعلى مستوى واحد.
4- فتح مجال التعليم الجامعي لجميع خريجي المرحلة الثانوية في الدراسات الدينية والتربويّة والمهنيّة والنظرية العامة؛ حسب اختيار الطالب مواصلة الدراسة العليا وحسب متطلبات الكلية التي يختارها.
5- تعويد الطالب (بانتقاله من الطفولة إلى الرجولة) على ممارسة مسئولياته وتحمل نتائجها.
تفاصيل التعديل:
1- إلغاء جميع شروط القبول (ومن ضمنها السنّ) عدا شرط: إنهاء الطالب المرحلة الإعدادية أو ما يعادلها.
2- يخيّر الطالب في انتقاء موضوع دراسته، ولا يلزم إلا بما ألزمه الله به: علم شرعه.(1/28)
3- يخيّر الطالب في تحديده مدة دراسته وتخرّجه، حسب ظروفه العقلية والاجتماعية (قد يرغب في إنهاء الدراسة في سنتين أو خمس سنوات).
5- يخيّر الطالب في إعداد نفسه للدراسة العليا حسب متطلباتها أو العمل حسب قدرته ورغبته.
6- يخيّر الطالب في نوع «النشاط الإضافي»: الرياضة البدنية، التربية الفنية، المهارات التجارية، مختلف المهن المتوفرة، حفظ القرآن الكريم ... إلخ.
7- تقسّم مواد الدراسة إلى: إلزاميّة عامة: الدين، وإلزامية خاصة: ما يلزم الطالب به نفسه، واختيارية: ما يختار لنفسه.
8- إذا رسب في مادة أعاد دراسة هذه المادة وحدها (لا علاقة لذلك بغيرها).
9- درجات الامتحان تشمل: الحضور والغياب، والسلوك، والجهد، والأداء.
10- المدرسة (لا الإدارة الفرعية ولا المركزية) هي وحدها المشرفة على امتحان الطالب وتقدير مستواه.
11- لا حاجة إلى مراقب فالمدرس -بعد الله- خير مراقب.
12- لا حاجة إلى مشرف اجتماعي، وتعين هيئة من المدرسين المختصين والعاملين في المدرسة والطلاب للقيام بمهمة الإشراف الاجتماعي.
13- لا حاجة إلى باب خارجي ولا بوّاب ولا أسوار، لتعود المدرسة جزءًا من الجماعة (المجتمع) لا معزولة عنها كالسجن أو مسحة الأمراض المُعْدِية.
14- لا يحصل أي طالب على مخصص مالي تشجيعي، فدراسة الدين يجب أن تكون غايتها الآخرة، ودراسة الدنيا تترك لعامل العرض والطلب.
برهانه:
فطرة الله وشرعه، قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، وقال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5].(1/29)
أولاً: إذا كان الله فاطر الخلق قد أهّل الإنسان (ببلوغه الحلم) لتحمّل تكاليف شريعته من صلاة وصيام وحج، وثواب على الطاعة وعقاب على المعصية، وخيّره بين طريق الخير وطريق الشر، وأهله لممارسة مسئوليات حياته من زواج وإنجاب وتربية وإعالة أسرة، فهل لمسلم أن يدّعي أنه غير مؤهل لتحمل مسئوليات دراسته؟
ثانيًا: إذا كان الله بارئ الخلق -رحمة منه وفضلاً- قد وهب الإنسان القدرة على التعلّم حتى يبلغ أرذل العمر، فهل يليق بالمسلم أن يغلق أبواب المؤسسة التعليمية في وجوه طلاب العلم وهو يردد «العلم من المهد إلى اللحد»؟
2- لم تعد المدرسة المصدر الوحيد ولا الأول ولا أكثر جاذبية للحصول على المعرفة إذ نافستها وغلبتها وسائل النشر والاتصالات والإعلام، ومع هذا التحول الكبير، فلو كان نظام التعليم التقليدي هو الأصح في الماضي، لوجب تعديله أو تغييره الآن بالتركيز على ترغيب طالب العلم في العلم وتعويده على طلبه في المدرسة، وتهيئته لذلك بعد خروجه من المدرسة إلى أفق الحياة العلمية الأوسع مدفوعًا برغبته الذاتية وليس بالتسليط الخارجي.
3- قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم»، (هذا في أمور الدين اللازمة لحياة الإنسان في دنياه وأخراه، والصالحة له يقينًا من وحي الله إلى رسوله ولأمته إلى قيام الساعة)، فهل يجوز للمسلم أن يلزم طلاب العلم بمنهاج ظنّي محدّد قد يتعدى حدود طاقة بعضهم أو يقصر عنها، وإذا لم يتجاوز طالب حواجزها المصطنعة حكم عليه بالغباء والتقصير والفشل مما قد يؤثر على مستقبل حياته -وبالذات على طلبة العلم- حتى يموت؟(1/30)
4- بسبب التنظيم التقليدي الجامد اضطر عدد كبير من الطلاب إلى ترك الدراسة لرسوبهم أكثر من مرة في اللغة الأجنبية -مثلاً- الإلزامية في المدارس العامة والدينية والمهنية والوظيفية، ومع أنه لا شك في أهميّة الإنكليزية لبعض المهن والوظائف والدراسة في الخارج فما نفعها لـ 50% على الأقل من المسلمين لا يرغبون فيها أو لا يقدرون عليها أو لا يحتاجونها في دنياهم ولا أخراهم؟
5- وبسبب جمود التنظيم التقليدي، فلا يلين لحال الطالب ولا يلائم طبيعته الفردية التي ميّزه الله بها: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32]، بل حال بين الطالب وبين تحقيق ذاته وما تتميز به من قدرات ورغبات ومواهب؛ تعلّم أكثر الطلاب كراهية البحث الذاتي عن المعرفة دينية ودنيوية وقطع حبل التعلم بمجرد حصوله على وثيقة التخرج أو طرده من المؤسسة التعليمية.
مواجهة مع الأعراف والتقاليد:
عرضت مشروعي للإصلاح مرتين على زملائي القائمين على التعليم الثانوي في الوزارة، والإدارة التعليمية في المناطق، والمدارس فلم ألق استجابة تذكر لطلبي لحث الأمر ونقده.
وعرضته مرتين على وكيل الوزارة يومها: «د. أحمد بن محمد علي» وكان متميزًا في ثقافته ونشاطه ونزاهته واهتمامه بالصالح العام، ولم ألمس منه أي اهتمام بالأمر، إما لأنه يخالف رأيه في التعليم، وإما لأنه بطبعه الإداري المعروف لا يميل إلى التغيير، وإما لأنه يرى أمْن التعليم في الثبات على الطريق المحفور.(1/31)
وأعذر زملائي المسئولين عن التعليم في الوزارة والمنطقة والمدرسة في الحذر والتردد والتوقف؛ فأمام المشروع عقبة إقناع الرأي العام، فليس من اليسير إقناعه بتعريض الطالب لتجربة جديدة لا يعلم عاقبتها إلا الله، وقد تعوّد على السير في طريق معروف مهما اشتمل عليه من مساوئ. وأمام المشروع عقبة إقناع المسئولين عن التعليم (وبخاصة الهيئات واللجان المتخصصة) بحكمة التنازل عن «قناعات» أوحاها ورسّخها مرور الزمن والممارسة في تنظيم مجدد وموحّد في العالم أجمع. وظننت أن محاولة الإصلاح قد ماتت في مهدها، وأن توقع مثل هذا المصير قد منع ظهور محاولات سابقة، وقد يمنع ظهور محاولات لاحقة.
خارق للعادة:
وجاء أمر من الله وحده لم يكن في حساب أحد: مشروع خطة التنمية الثانية.
ففي الخطة الدراسية المقترحة من قبل الهيئة المركزية للتخطيط ورد اقتراح بتجربة التعليم الثانوي الشامل، وأثناء مناقشتها في وزارة المعارف اعترضت بحدّة: لا يجوز أن نخرج من نظام قديم إلى نظام جديد لمجرد وجوده أو شهرته؛ لابد أن تبرز الحاجة محليًّا إليه، وأن يوجد فيه ما يسد هذه الحاجة، وأن ينبع الإحساس بالحاجة واختيار الوجه المناسب لسدها من المدرسة والقائمين عليها. وأسر إلى د. سعود الجماز (مدير عام الأبحاث والمناهج يومها ومن أجرأ القائمين على التعليم في بحث الواقع ومحاولة إصلاحه) بأني لو قبلت فكرة التجربة الشاملة وجعلتها عنوانًا لمشروعي في الإصلاح لحلّت عقد كثيرة. شكرت الله ثم شكرت أخي، وعدّلنا الاقتراح ليكون «تجربة لون من ألوان التعليم الشامل» حتى لا نُرْبط بحدوده ونظمه المعروفة في الخارج.
ومن هنا جاءت تسمية محاولة الإصلاح هذه «بالمدرسة الشاملة» بالرغم من نفوري وعزوفي عن تقييدها باسم مميز. وفتح الباب الرسمي للمحاولة.(1/32)
وأقر ولاة الأمر الخطة التعليمية الجديدة ومن ضمنها مشروع الإصلاح وزالت العقبات دفعة واحدة بفضل الله ثم بفضل وكيل الوزارة ذلك الوقت الأمير/ خالد بن فهد بن خالد، وكان خير من عرفت من المسئولين عن التعليم خلقًا وجرأة وعونًا للعاملين رغم كثرة العقبات واحتمالات الفشل.
وصدر قرار وزير المعارف برقم 1/ 12/ 3848/1 في 1/7/1395هـ بالموافقة على طلب وكيل الوزارة للشئون التعليمية والإدارية الإذن ببدء التنفيذ.
تميز المحاولة:
تسابق المهتمون بالتعليم (ولابد أن يكون التعليم موضع اهتمام كل فرد في الجماعة المسلمة «المجتمع» لملازمته حياته: طالبًا أو ولي أمره أو معلمًا أو قائمًا على التعليم) لعزو هذا المشروع لأقرب الأنظمة القديمة أو الحديثة إليه من وجهة نظره (كما يقال عن سبعة من فاقدي البصر يصفون فيلاً بما يلمسون من جسمه فمن لمس جلده وصفه بأنه كالجدار، ومن لمس ساقه قال: إنه كالشجرة، ومن لمس ذنبه وصفه بأنه مثل الحبل، ومن لمس أذنه قال : إنه كالمروحة ... إلخ).
والحقيقة أن هذه المحاولة لا تشبه نظامًا معينًا في كل شيء، ولا يختلف عن كل الأنظمة في كل شيء. لقد رفض وفد المملكة على مؤتمر اليونسكو في جنيف عام 1975 (وكنت عضوًا فيه) عرض المشروع على المؤتمر بحجة أنه خروج على الاتجاه العالمي للتربية، وفي المقابل فإنه لا يمكن لبشر أن يتخلص من تأثّره بمن قبله ومن حوله ، وكل كسبه من الثقافة والخبرة والتربية والعلم إنما هو نتيجة لعلاقته بهذا الإرث الإنساني العظيم.
وأهم ما في هذه المحاولة مخالفتها لما سبقها في العالم المسلم (وكذلك في العالم الكافر غالبًا) من حصر التعديل والتبديل والتغيير التربوي في الانتقال من تقليد اتجاه معين إلى تقليد اتجاه آخر لمجرد حداثته أو شهرته، وليس في إدراك الخلل ومحاولة إصلاحه أولًا وقبل كل شيء.
«تنفيذ المحاولة»
الخطوة الأولى :(1/33)
فتحت مدرسة واحدة في الرياض لبدء التنفيذ (ومن خلال التقويم) اخترت لها أن تعاني النقص الذي تعانيه المدارس الجديدة في المبنى والأثاث والأدوات والخدامات، ولم أقبل عرض الوزارة إقامة مبنى خاص تتوفر فيه كل التجهيزات التي نقترحها لإنجاح المحاولة، لأن النجاح الحقيقي هو في ثبوت قدم التنظيم الجديد في الظروف نفسها التي تتعرض لها أي مدرسة ناشئة في المدينة الكبيرة أو القرية النائية.
وبدأت الدراسة الثانوية بهيكلها الجديد في مبنى بسيط لمدرسة ابتدائية من الألياف الزجاجية ليس فيها ماء ولا كهرباء ولا دورة مياه ولا مختبرات لدراسة «العلوم الطبيعة»، (ولضرورة وجود هذه المختبرات استعمل الطلاب مختبرات المدرسة المتوسطة المجاورة بعد انتهاء وقت الدراسة).
مقياس النجاح:
رضيت من مؤشرات نجاح المحاولة بما يلي:
1- عاد إلى مقاعد الدراسة رجال تجاوزوا سن التعليم التقليدي ويئسوا من مواصلة التعليم بسبب إلزامهم في الماضي بالنجاح في مادة دراسية (فأكثر) لم يؤهلهم الله للنجاح فيها. ولم أجد غرابة، بل سرني، أن يدرس طالب مع والده في المستوى الدراسي نفسه.
2- زاد ارتباط الطالب بالمعلم بعد أن أضيف إلى الأخير مسئولية الإشراف والإرشاد والتقويم الابتدائي والنهائي.
3- دلت المقارنة على أن الطالب أهل لتحميله مسئولية سلوكه فلم تزد نسبة الغياب (كما توقع البعض) في هذه المدرسة عن المدارس الأخرى بل نقصت.
4- ودلّت المقارنة على أن الطالب أهل لتحميله مسئولية دراسته؛ فقد أظهرت نتائج الجامعات (بعد بضع سنين) أنه لم بتخلف مستوى خريج المدرسة التجريبية (كما توقع البعض) عن خريج المدارس الثانوية التقليدية رغم نقص عدد الساعات الدراسية في الأولى عن الثانية.
5- دلّ إقبال الطلاب على الالتحاق بالمدرسة (رغم قصورها في الخدمات) وهي في مرحلة التجربة ، على أن إعادة مسئولية الدراسة إلى الطالب قرار صالح؛ فالإقبال على العمل من أهم عوامل نجاحه.(1/34)
6- دلّت عودة الرجال من سوق العمل للدراسة على أن التنظيم الجديد (ولا شك) سيخفف معضلة التسرب (ترك الطلاب المدرسة).
7- بالمقارنة النظرية والعملية ساهمت المحاولة في تخفيف أزمة المباني والمعلمين: بإلغاء نظام الإعادة، وبإدخال الوقت المسائي للدراسة.
خطوات أخرى:
بعد استقرار الدراسة في مدرسة التجربة الأولى، وتجاوزنا مرحلة الخوف من تعريضها لذبذبة الآراء والنظريات، دعت وزارة المعارف ممثلي الجامعات في المملكة للنظر في مستقبلها، وبخاصة المشاركة في التقويم والتعديل حسب الحاجة، ولابد أن تهتم للأمر لأنها ستواجه ثمار التجربة قريبًا بالتحاق خريجيها بالدراسة الجامعية. وكالعادة طغت على اجتماع ممثلي الجامعات بالمعنيين في الوزارة مناقشات نظرية ظنّية، وميل إلى الاهتمام بالتفاصيل الشكلية وغالبًا عدم اهتمام على الإطلاق.
وعرضت الوزارة على ممثلي الجامعات أن تحول البحث من النظر إلى التطبيق بوضع مدرسة تجريبية تحت إشراف كل جامعة للتعرف مباشرة على محاسن التجربة (ولابد لها من محاسن) ومساوئها (ولابد لها من مساوئ) وإعادة الاجتماع بعد فترة كافية لمقارنة النتائج.
وكان أول مستجيب لهذا العرض «د. عبد الله المعجل» الأستاذ في «جامعة البترول والمعادن بالظهران» فأبدى استعداد جامعته للإشراف على مدرسة تجريبية قريبًا من الجامعة ففتحت المدرسة الثانية في المبنى القديم لثانوية الدمام.
وكان الدكتور «عبد الله محمد الزيد» الأستاذ في «جامعة الملك عبد العزيز» (شطر مكة) من خبر من عرفت اهتمامًا بالتربية في المملكة وعملاً على تطويرها، فكوّن مع زملائه الدكتور سعيد أبو عالي والدكتور إسماعيل ظافر والدكتور طه السبع لجنة للإشراف على مدرسة تجريبية في المنطقة، وفتحت المدرسة الثالثة للتجربة (حراء) في مكة، ثم فتحت المدرسة الرابعة للتجربة (بدر) في جدة. ثم وسّعت هذه اللجنة للإشراف على التجربة عامة في المملكة.
أماني لم تتحقق :(1/35)
أثناء التطبيق لم يتحقق بعض ما كنت أحرص على تحقيقه:
1- رغبت في إقناع المعاهد العلمية الدينية بتجربة هذا التنظيم لما فيه من مغريات طبيعية ومشروعة لدراسة العلوم الدينية، ولتخليصها مما فرضه عليها التقليد من مواد دراسية غير دينية تعوق طلب العلم الديني أكثر مما تنفعه. وللأسف رأى القائمون عليها (من زملائي في الدراسة) أن معايشة القيود والعقبات المألوفة أكثر أمنًا ويسرًا من القيام بمحاولة جديدة.
2- ورغبت في إدخال مناهج معاهد المعلمين في مقررات المدرسة الجديدة لأهميتها والحاجة إليها لكل فرد من البشر، وبخاصة للمرأة فقد كنت أتمنى أن تؤهلها المدرسة لعملها الأول في البيت: التربية، وتثبطها عن مواصلة الدراسة التي تقودها إلى العمل خارج البيت لغير ضرورة، قال الله تعالى لقدوة النساء في هذه الأمة أمهات المؤمنين : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وبيّن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه لنساء المسلمين أن صلاتهن في بيوتهن أفضل من صلاتهن معه في مسجده.
3- ورغبت في إدخال المناهج الوظيفية والمهنية: تجارية وزراعية وصناعية إلى المدرسة الجديدة، تأكيدًا لإزالة الفوارق بين مناهج الدراسة الثانوية، وتيسيرًا للطالب، الذي هيأه الله للمهنة والوظيفة دون المستوى الجامعي، لاختيار ما يسر الله له يوم خلقه وإبقاء الطريق مفتوحًا لمواصلة دراسته في المستقبل لو تغيرت ظروفه واتجاهه، دون حرج ولا إغراء مادي في الانصراف عن الدراسة النظرية.
ولكن التنفيذ قَصُر عن تحقيق الأمرين الأخيرين.
بداية النهاية:
بعد عشر سنوات من ثبات المحاولة واستقرارها قرر ولاة الأمر عام 1405هـ نشر تنفيذ المشروع في أنحاء المملكة بعد إعادة دراسته وتعديله، وانتدب عدد من المختصين والمعنيين للإعداد لذلك. وكانت النتيجة مخططًا جديدًا للتنفيذ يبتعد عن أصل المحاولة ويقترب من التنظيم العالمي المعاصر تضمّن:(1/36)
1- زيادة عدد المواد الدراسية الإلزامية العامة، وهذا في رأيي أسوأ ما طرأ على التجربة.
2- زيادة الزمن الذي يحتاج الطالب الالتزام به في الدراسة قبل التخرج، وهذا مما عجل بتوقف المحاولة.
3- زيادة بعض المهارات والخبرات الحديث.
وتحولت التجربة بذلك إلى مصالحة بين التنظيم التقليدي وبين مشروع تعديله؛ عودة إلى المنهاج الفكري الأوروبي: النظرية، وضدها، ثم محاولة الجمع بينهما، وسلب من المشروع خير ما فيه كونه علاجًا محليًّا لمشاكل تعليمية محلية سببها التقليد بلا تعقل.
قطع علاقتي بالتنظيم:
لم أجد بدًّا من إنهاء علاقتي بالتنظيم بعد أن وضعني التعديل والتطوير الجديد بين خيارين مستحيلين: فرض رأيي على ولاة الأمر، ولست بقادر على ذلك، أو اشتراكي في تنفيذ خطة لا أراها أهلاً للتنفيذ ولا للبقاء ، ولا أدري من فائدة من ذلك لي ولا لها.
وفي بضع سنين تبين لولاة الأمر أن من خير البلاد والعباد في المملكة العربية السعودية إلغاء «المدارس المطورة» وانتهت محاولة الإصلاح إلى غير رجعة إلا أن يشاء الله.
«محاولات ثانية للإصلاح»
بعد سنين من بدء تنفيذ المحاولة الأولى، وثباتها بدرجة لم أتوقعها رأيت أن أتم مشروع الإصلاح فتقدمت إلى الوزارة باقتراح لإصلاح التعليم العام قبل الثانوي وكان ذلك في أول شهر رجب عام 1397 للهجرة، وبعد شهر واحد صدر قرار وكيل وزارة المعارف برقم 32/ 4/ 2886/1 في 4/ 8/1397هـ بالموافقة على بدء تنفيذ هذا الاقتراح بصفة تجريبية في مدرسة واحدة من مدارس الرياض، ولم أجد غرابة في سرعة الحصول على الموفقة الرسمية فيما يتعلق بأمر بالغ الحساسية ولكلّ فيه رأي وبه اهتمام، ولكن الله وهب الأمير/ خالد بن فهد بن خالد، وكيل الوزارة يومها، خلقًا إداريًّا نادرًا تشتد الحاجة إليه ولا يكاد يوجد: احترام العاملين معه، وإيلاؤهم من الثقة ما يراهم أهلاً له، وإعطاء آرائهم الفرصة العملية لإظهار قيمتها، وسرعة البت بعد الاقتناع.(1/37)
الخلل:
1- تعريض الطفل في سن مبكرة لمنافسة غير عادلة مع غيره مع تفاوت أقدارهم.
2- ربط نجاحه في مادة أو خبرة دراسية يجيدها بمادة أو خبرة لا يجيدها.
3- تعويده منذ البداية، أن طلب العلم هدفه الأول والأخير: درجات الامتحان. ليس رضا الله، ولا المعلم لذاته.
4- حصر التعليم في تجاه واحد: لسان المدرس وأذن الطفل .. مما يثقل على كليهما، فمن الصعب على المدرس إسماع 30 طفلاً على الأقل 45 دقيقة، ومن الصعب على الطفل (بخاصة) الصبر على الاستماع كل هذا الوقت فضلاً عن الاستيعاب.
5- نتيجة لما تقدم أظهرت إحصاءات التعليم لخطة التنمية الثانية أن 15% من الأطفال (وحسب) يصلون إلى المرحلة الثانوية دون رسوب ولا تسرب، خلال سنوات الدراسة العادية: 12 سنة.
العلاج :
يعدل التنظيم على النحو التالي:
1- تبدأ الدراسة في هذه المرحلة (مرحلة الطفولة) من سن السادسة تقريبًا، وتنتهي بسن الخامسة عشرة تقريبًا.
2- تشمل هذه المرحلة الخبرات والمهارات والمعارف التي تقدمها المرحلة الابتدائية والمتوسطة في النظام التقليدي، وحسب الحاجة تضاف إليها الخبرات والمهارات التربوية والتعليمية التي تقدمها روضة الأطفال في السنة الأولى من هذه المرحلة.
3- العلوم الدينية والعربية (العملية) هما المحور التربوي والتعليمي في هذه المرحلة، وتلتف حولهما وترتبط بهما الخبرات الأخرى: علوم الحرف والرقم، والعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية.
4- تُزال الحواجز الزمنية والمكانية التي تعوق الطفل أو تتعجله خلافًا لفطرته وقدرته وطبيعته التي ميزه الله بها عن غيره.
5- يوزع المحتوي الدراسي (المنهاج أو المقرر) على وحدات صغيرة يتقدم كل طفل في دراستها وفق قدرته واستعداده.
6- للطفل أن يدرس مادة أو أكثر مع فئة متقدمة، ومادة أو أكثر مع فئة مبتدئة حسب استعداده لكل مادة.(1/38)
7- المهمة الأولى للقائمين على المدرسة التوجيه والإشراف، ويوزع المعلم اهتمامه التعليمي على الأطفال حسب درجة احتياج كل منهم إليه، ويشجع الأطفال على التعلم الذاتي إلى أقصى حد ممكن ويشجعون على التعلم والتعليم فيما بينهم.
8- للمنطقة التعليمية التركيز على مادة أو مواد ثانوية (وهي ما عدا الدين واللغة العربية) حسب حاجة الجماعة (المجتمع) الذي تخدمه.
9- للطفل التركيز على مادة ثانوية أو أكثر وفقًا لميوله واستعداده وحاجته.
10- التقويم (الامتحان، من البداية إلى النهاية) أمر داخلي بين الطفل ومدرسه ومدرسته.
11- لا يعيد الطفل فصلاً ولا سنة دراسية ولا يعيد مادة نجح فيها، وإنما يعيد عند الحاجة دراسة مادة أو ممارسة خبرة لم يسبق له اجتيازها.
«تنفيذ المحاولة»
بالتعاون مع إدارة التعليم بالرياض: اختيرت مدرسة صغيرة في الرياض افتتحت حديثًا للمرحلة الابتدائية في مبنى جاهز من الألياف الزجاجية، لم يؤهل مديرها ولا مدرسوها تأهيلاً خاصًا لتنفيذ هذه المحاولة.
وبدأ التنفيذ على النحو الذي أفضله، بلا تعقيد ولا مظاهر ولا خدمات متميزة ولا نفقات إضافية. وعلى طريق التنفيذ حدث ما يلي:
1- واجهنا مشكلة تحديد مستوى الطالب عند انتقاله إلى مدرسة أخرى إذ أن طالب هذه التجربة يختلف مستواه في مادة عن مستواه في مادة أخرى. ووافقت الوزارة مشكورة على أن تتولى مدرسة التجربة تعيين مستوى الطالب المنتقل منها ومكانه في المدرسة المنتقل إليها، وكانت هذه المرونة النادرة تأسيًّا بموافقة وزير المعارف من قبل على أن تكون الكلمة الأولى والأخيرة للمدرسة في تقويم طلابها (امتحاناتهم) أثناء المحاولة الأولي.
2- حدث خلاف شخصي بين المدرسين وبين مدير المدرسة (وكان من خيرة من عرفت خلقًا وتقبلاً للتغيير وجرأة في تنفيذه) واضطرت إدارة التعليم إلى نقل مدير المدرسة تغليبًا للكثرة وتمشيًّا مع العادة واختيار الأسهل.(1/39)
3- عيّن مدير جديد للمدرسة يمتاز (مع الخلق والجرأة) بالذكاء والثقافة والمهارة والبحث عن البدائل في التنفيذ والاختيار بينها، وقد أنتج اجتهاده وبحثه: تنظيمًا عصريًّا دقيقًا لجميع خطوات المحاولة ورصدها وتسجيلها.
4- بانفصالي عن المحاولة الأولى (بعد تطويرها) وانتقال عملي إلى موضوع جديد: بلاد الشام، كادت تنقطع صلتي بهذه المحاولة الثانية والأخيرة لإصلاح التنظيم التعليمي، لولا أن مدير مدرسة التجربة لا يكل ولا يمل ولا يثبطه عدم اهتمام القائمين على التعليم (في أيّ مستوى) بهذه المحاولة (حيث مرّت سنوات وهي في برزخ بين الحياة والموت، لا تعدّ حيّة فيستفاد منها ولا تعد ميتة فتدفن).
5- أبرزُ محاولات مدير المدرسة الأستاذ/ عبد العزيز العريفج لبعث التجربة من الموت أو النسيان أو الإهمال: دعوته الباحثين والمختصين والمعنيّين لإعادة النظر والمساهمة في التصحيح، وأبرز نتيجة لذلك: بحث بعنوان: «مدرسة الفهد، تجربة في الإصلاح التربوي» أصدرته عام 1404هـ جامعة الملك سعود بالرياض، كلية التربية وقلم به الدكتور/ حمد البقادي الأستاذ بالجامعة، وهو بحث مستفيض ودقيق امتدّ سنتين من الدراسة والمقارنة والتقويم بالمقاييس والمعايير الحديثة المتوفرة. وكنت أحب أن أقول أنه خير ما مرّ على هذه التجربة من بحث أو اهتمام، ولكنه الوحيد، فلا أعلم محاولة سبقته ولا لحقته، غير أن الأستاذ/ يعقوب أبو حلو من مركز البحوث التربوية بكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض سبق أن قام بدراسة عام 1399هـ للمحاولة، وقدم تقريرًا فنيًّا مقتضبًا عن هذه الدراسة، كما قام زميله د. رفعت الشاذلي بإعداد مستخلص عام 1400هـ لمجموع آراء لجنة مدرسة الفهد الابتدائية المتوسطة التي قامت في كلية التربية بجامعة الرياض لمتابعة التجربة بدعوة من وزارة المعارف قبل انفصالي عنها.(1/40)
6- هذه المبادرة النادرة من الاهتمام والجهد الذي بذله مدير المدرسة والباحثون من جامعة الرياض (وليس لي في الأمر إلا إثارته بطريقتي البدائية) كان من المحتمل أن تبرز آثاره في إصلاح التعليم العام، وهو في حاجة ماسّة إلى الإصلاح، ولكن لا أجد من الظلم أن أقول عن الروتين الإداري التعليمي:
«لقد أسمعت لو ناديت حيًّا .. ولكن لا حياة لمن تنادي»
«عودة إلى العلم والتعليم الشرعي»
لم أكن -بفضل الله- من الراغبين في التنقل بين الوظائف والأعمال الحكومية بحثًا عن المال أو الجاه (بل إني لأفاخر زملائي بأني قضيت 22 سنة الأخيرة لم أطلب مرة واحدة راتبًا أو مرتبة أعلى رغم تيسّر ذلك وأحقيته إداريًّا)، ولكني وجدت من المناسب الآن، (وقد «طُوِّرت» المحاولة الأولى «وجُمِّدَت» المحاولة الثانية للإصلاح التعليمي)؛ الاستجابة لدعوة كريمة ملحّة من الشيخ/ عبد العزيز بن باز كبير العلماء والدعاة والمفتيين بالمملكة المباركة، للعمل في الدعوة إلى الله على بصيرة في الخارج (لا مديرًا عامًّا للدعوة ولا مديرًا لمكتب الدعوة في أمريكا كما طلبت مرارًا ولكن) مشرفًا على الدعوة والدعاة في أرض الشام المباركة. مبعوثًا من أرض التوحيد والسنة والقداسة والبركة، وفي ذلك استمرار لطلب العلم الشرعي ومساهمة في نشره.
«الدعوة إلى الله:
المنهاج الأول والأصح والأعلى للتعليم»(1/41)
كان اختيار الله لي للدعوة إلى سبيله على بصيرة من شرعه إعادة لي إلى العلم الشرعي وتعليمه، وقد اصطفى خير خلقه لذلك: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، أدركت فضل الله عليّ بذلك رغم ضعفي عن القيام بحقوقه وواجباته. ونقصي (في السلوك والعلم والعمل) عن أدائه على الوجه الذي أتمناه، واخترت منهاج النّبوّة في الدعوة، فالدعوة عبادة، والعبادة توقيفية: لا يجوز أن تؤخذ إلا عن الوحي من الله إلى رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فلا يجوز لي ولا لغيري إلى قيام الساعة اختيار غيره.
منهاج النّبوّة في الدعوة:
البصيرة في الدين: هي العلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفقه الأئمة من القرون المفضلة في نصوص الكتاب والسنة. فالإسلام (ومنه الدعوة إليه) يقوم على اليقين لا يقوم على الظنّ: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36].(1/42)
وموضوع الدعوة الأول في رسالات الله إلى كل خلقه: إفراد الله بالعبادة ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى «لا إله إلا الله» الصحيح: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وبعد أن يستقر هذا في القلوب تأتي أحكام العبادات والمعاملات ويلحق بها الآداب والأخلاق الشرعية، ويتخلل ذلك الترغيب والترهيب من نصوص الوحي لا من القصص والأمثال، صحت أو لم تصحّ، فلا يجوز أن يعرض دين الله لأهواء البشر. وكان أكبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بداية بعثته الدعوة إلى التوحيد العبادة لله والتحذير من إشراك غيره معه في العبادة، وكان هذا أكبر همّه وهو يموت، وكان هذا أكبر همّه فيما بين بعثته وموته، وثبت في صحيح مسلم أنه كان يقرأ سورة «ق» كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صرف خطبة الجمعة ولا شيئًا منها إلا الدعاء لحدث طارئ مثل غزوة بدر أو أحد أو غيرها، لا قبل حدوثها ولا أثناء حدوثها ولا في ذكراها، كان يخصّ بها الثوابت: التوحيد ونفي الشرك، اتباع السنة والتحذير من البدعة، الأحكام الفقهية، ذكر الجنة والنار، والتذكير بالموت، والتذكير بالله عامة.
مناهج البشر المنحرفة:(1/43)
الانحراف عن المنهاج الصحيح، والتقليد الجاهل، ليس وقفًا على علاقة المسلك المعاصر بالتنظيم التعليمي الحديث؛ فالدعوة إلى الله (أرقى مناهج التعليم) تحولت عند كثير من دعاة العصر إلى تقليد بشري حُجِب فيه المنهاج النبوي اليقيني بمناهج أصحاب الطرق والفرق والأحزاب والجماعات الموصوفة «بالإسلامية»، وهي بمجرد وجودها مخالفة للإسلام وخارجة عن جماعة المسلمين بعنوانها ومنهاجها وأميرها: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
وتحوّلت خطبة الجمعة (الدرس الديني المفروض الذي لا يشهد أكثر المسلمين غيره) إلى ملحق للجريدة والإذاعة والإشاعة ينشغل بالظن عن اليقين وبالفكر عن الوحي وبالتحليلات السياسية الفجّة عن أسس حياة الإنسان في دنياه وأخراه من شرع ربه وسنة رسوله.
ولا علاج إلا العودة بدين الله (ومنه الدعوة إليه) إلى وحي الله في كتابه وفي سنة رسوله وإلى فقه خير القرون في تاريخ الإسلام «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي»، «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة».
«خاتمة»
وأختم هذه الأسطر بما سبق وأن ألمحت إليه هنا، وأبديته لولاة الأمر في جزيرة العرب المميزة من الله بخير الدنيا والدين، أن أول ما يجب فعله لإصلاح التعليم بناؤه عمومًا، على شرع الله، وتفصيلاً على لغة القرآن: قاعدة ورسمًا وأسلوبًا. فهذه اللغة بعد الدين الذي حملته هما الركيزتان الثابتتان للعزة والرقي في الدنيا والآخرة. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين، واللهم نسألك بأسمائك الحسنى أن تجعلنا منهم.(1/44)