سيرة داع إلى الله على منهاج النبوة
في المملكة العربية السعودية
(مقدمة)
بسم الله الرحمن الرحيم
أ - باعث المقال:
استجابةً لطلب من وزارة المعارف كتَبْتُ ما أسمَيْته: (سيرة طالب علم في المملكة العربية السعوديّة) عن ممارستي التّعليم - طالبًا وعاملاً - أربعين عامًا، وربما عَلِم بذلك الوزير الشيخ د. عبد الله التِّركي فرأى لي أن أكتب سيرة داعٍ إلى الله في المملكة المباركة التي أُسِّسَتْ من أول يوم على الدعوة إلى منهاج النبوة في الدِّين، والدعوة إليه متميِّزة بذلك - من فضل الله عليها وعلى الناس - على دُوَل المسلمين منذ القرون المفضّلة.
وكان يسرّني سرعة الاستجابة لطلبه، ولكنِّي لست أهلاً لحسن ظنّه ولا أملك شيئًا يُذْكَر مما جمع الله له من العلم والعمل وحسن الخُلُق والدّأب على النّشاط والإنتاج وتحريك غيره في خدمة الجماعة المسلمة في بلاد التوحيد والسّنّة، وخدمة الجماعة المسلمة عامّة؛ فمرّت سنوات عديدة وأنا أمنِّي نفسي بالاستجابة وأَقْعُد عن العمل معتذرًا بأنّ ما يليق بالتّعليم العصري المبني على الفكر والظنّ لا يليق بالدعوة إلى الله المبنية على اليقين من الوحي والفقه فيه من أهله.
ولكن الآية الكريمة: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق: 7]، وغالب ظنّي أنّ أكثر دعاة العصر قد اجتالتهم الشياطين عن منهاج النّبوّة فلن يكونوا أحسن حالاً منّي، ولو كانوا أوفر حظًّا في الحركة ووسائل الإنتاج وأساليبه، وأن المطلوب منّي تسجيل سيرة ذاتيّة لارتباطي بوظيفة الدّعوة إلى الله في الثلاثين سنة الماضية؛ كلّ ذلك أقنعني ببدء المحاولة رغم إدراكي نقصي وتقصيري وكثرة خطئي مستغفرًا الله وراجيًا منه التّوفيق.
ب - فضل الدعوة إلى الله:(1/1)
الدعوة إلى الله من أعظم القُرُبات عند الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[فصلت: 33].
وقد اصطفى الله لها خير خلقه من الملائكة ومن النّاس، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}[الحج: 75].
وفيها اتّباعٌ وتأسٍّ وتشَبُّهٌ بسيّد ولد آدم يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم في أهمّ صفاته وأخلاقه ومميّزاته، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف: 108].
جـ - حكم الدعوة إلى الله:
الدعوة إلى الله فرض كفاية؛ إذا أدّاها بعض المسلمين حقَّ أدائها (أي: بتوفّر العلم الشرعي بما يدعون إليه ومتابعة منهاج النبوّة في الالتزام بأوليّاتها وكليّاتها وجزئيّاتها) صارت في حق بقية المسلمين سنّة مؤكدة، وإذا نقص أداؤها عن الكفاية عمَّ الإثم من فرَّط فيها.
د - مَنْ يقوم بالدّعوة؟ :
مِنْ حق كلّ مسلم ومن حق الله عليه أن يدعو إلى الله على بصيرة بحسب استطاعته {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، وبحسب ما وهبه الله من الصّفات الجبلّيّة وبحسب ما اكتسبه من العلوم الشرعيّة الضروريّة لأداء الدّعوة حق أدائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلّغوا عني ولو آية» رواه البخاري.(1/2)
فالدعوة إلى الله أمر عظيم من أمور الدِّين، وهي الوسيلة الشرعيّة لتبليغه، ولا تبرأ ذمّة الجماعة المسلمة ولا ذمة الفرد المسلم إلا بأداء القدر الضروري المستطاع منها؛ قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران: 104]، وقال تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[الحج: 41]، أمّا نتيجة الدعوة فأمرُها إلى الله وحده، لا إلى الفرد ولا إلى الجماعة.
هـ - لمن تُوَجَّه الدّعوة؟:
في شرع الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم (بل جميع رسله) تُوجَّه الدّعوة (نَفْسُها) بمنهاجها الشرعي الذي لا يتغيّر بتغيّر الزّمان أو المكان أو الحال لجميع المكلّفين شيوخًا وشبابًا، رجالاً ونساء، مسلمين وكافرين، صالحين وطالحين؛ فقد خاطب الله بكلماته التّامّة في كتابه الكريم الجميع بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}[البقرة: 21، وغيرها]، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}[آل عمران: 64، وغيرها]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}[البقرة: 104، وغيرها]، {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}[آل عمران: 12]، [الأنفال: 38]، {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ }[الأعراف: 195]، {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب: 59]، والجميع مطالبون بتدبّره والعمل به وتبليغه كلٌّ بحسب قدرته.
أما توجيه الدّعوة (للشّباب فقط)، أو: (للنّساء فقط)، أو: للمسلمين وحدهم أو لفئة منهم وحدها، أو للكافرين وحدهم، فهو عاقبة الدعوة بالفكر من مناهج البشر المحدثة وعاقبة التّحزّب والتّعصّب المبتدع باسم الدّين.
و - شمول الدعوة أصول الدّين:(1/3)
الدعوة إلى الله على منهاج النّبوة تشمل كل الدّين أصوله وفروعه (إن جاز تجزئة الدّين بين أصول وفروع)، ولكن يقدّم الأهمّ فالمهمّ حسب أوّليّات الدّين والدّعوة في شرع الله تعالى وسنة رسوله بل جميع رسله صلوات الله وسلامع عليهم أجمعين: الاعتقاد أوّلاً، ثم العبادات، ثم المعاملات، الفرائض قبل النوافل، والمحرّمات قبل المكروهات.
وقد انتكس ميزان أوّليّات الدّعوة في القرن الأخير بسبب انتكاس مناهج الأحزاب والجماعات والفِرَق والطوائف الموصوفة بالإسلاميّة، وفَرَح أتْبَاعها بما لديهم، وهجرِهِمْ منهاج النّبوّة المعصومة؛ فَنُحِّي الاعتقاد باستحقاق الله وحده للعبادة، وانشغل أكثر الدّعاة بما هو دونه من المعاملات بخاصّة، وبالصّغائر عن الكبائر، وبالظنّ عن اليقين.
ومع أن جميع الأحزاب والجماعات نشأت بين أوثان المقامات والأضرحة والمشاهد والمزارات (أوثان الجاهليّة الأولى والأخيرة) وأنّ النّهي عنها كان أوّل ما أرسل الله به كلّ رسله منذ نوح عليه السلام؛ تجنَّبت الفِرَق كلّها النّهي عنها وعما دونها من البدع، ولو اتّبعت منهاج النّبوّة ما تبعها إلا القليل: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ}[هود: 17، الرعد: 1، غافر: 59]، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ}[يوسف: 106]، ولكن الحزبيّة والحركيّة المبتدعة تُغَلِّب الشكل والعَدَد.
ز - خُلُق الدّعوة:(1/4)
أمَر الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم (وهو الأسوة الحسنة للمؤمنين) باختيار طريق اللين في القول، والإحسان في المجادلة والمعاملة، والعفو عن الإساءة، بل مقابلة الإساءة بالإحسان والمغفرة؛ سبيلاً للدعوة إلى دينه، قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[فصلت: 34]، {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد: 22]، {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}[القصص: 54] {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ}[الجاثية: 14]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كلّه» متفق عليه، «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» متفق عليه.
وهذه الآيات المحكمة والأحاديث الصّحيحة عامّةٌ في معاملة الجميع؛ صالحهم وطالحهم، مسلمهم وكافرهم.
ولوليّ الأمر وحده قرار مقابلة الاعتداء بمثله في حال الفتنة عن الدّين «لتكون كلمة الله هي العليا» ولم يأذن الله لرسوله بمقاتلة المشركين إلا بعد أن تحمّل المسلمون أذاهم ثلاث عشرة سنة انتهت بإخْراجهم من المسجد الحرام، ومع ذلك قال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ}[المائدة: 2].
حـ - علم الدّعوة:(1/5)
1) الأمر بإفراد الله بالعبادة والنّهي عن إشراك غير الله معه في عبادته (وهو أخصّ وأهمّ ما تضمّنته العروة الوثقى: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}[الصافات: 35، محمد: 19] أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله وحده)؛ هو أول ما خاطب به الأنبياءُ والرّسلُ جميعًا أقوامهم بإذن ربهم؛ قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 25]، {وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف: 21].
وقد أمَرَ الله تعالى عباده بهذا قبل الهجرة فقال لنبيّه الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء: 23]، وأمَرَهم بذلك بعد الهجرة فقال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على ذلك قبل الهجرة، وكان يبايعهم عليه بعدها؛ فقد روى مسلم في «صحيحه» من حديث عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قلنا: قد بايعناك فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ...».
ولم يتجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الأعظم من أمور الدّين الذي بعثه الله به؛ إلى الصّلاة (ثاني أركان الإسلام) إلا بعد عشر سنوات من بعثته.(1/6)
وكان يوجّه الدعاة إلى الله على بصيرة إلى أن يكون هذا أول مطالب الدعوة لا يتجاوزونه إلى بقيّة أركان الإسلام حتى يقبل؛ فقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «... فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أنّ الله فرض عليهم خمس صلوات ...» متفق عليه.
وكان هذا أساس ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدّين، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}[البينة: 5].
وكان آخر ما خاطب به أصحابه وآل بيته رضي الله عنهم أجمعين عند موته: التّحذير من الشرك ووجوب سدّ ذرائعه؛ فقد صحّ عن أبي عبيدة أنّ آخر ما تكلّم به النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه أحمد.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يَقُمْ منه: «لعنة الله على اليهود والنّصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وعن جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «... ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنّي أنهاكم عن ذلك» رواه مسلم.
فالشرك الأكبر بتعظيم قبور الأنبياء والصالحين ودعائهم أو الذبح والنّذر لهم أو الاستغاثة بهم وطلب المَدَد منهم ونحو ذلك من العبادات؛ هو أكبر الكبائر والموبقات، وهو أصل الأوثان والأصنام منذ قوم نوح، فقد ورد في «صحيح البخاري» و«تفسير الطبري» من تفسير ابن عباس لقول الله تعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] قال: «أولئك أسماء رجال صالحين لمّا ماتوا أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن ابنوا في مجالسهم أنصابًا».(1/7)
وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال عن النّصارى في بنائهم الكنائس على قبور الصالحين: «أولئك إذا كان فيهم الرّجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثم صوّروا تلك الصّور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»، وقد يُفَرِّق العلماء واللغويون بين مسمّى الوثن والصّنم، فالأول: البناء على القبر أو الرّموز المعظّمة مثل الصّليب، والثاني: الصّورة المعظّمة، وقد جمع النّصارى بين الوثن والصّنم في كنائسهم، واكتفى أكثر المنتمين إلى الإسلام (على اختلاف طوائفهم) بالأوثان منذ أحدثها الشيطان بالفاطميّين حتى اليوم.
ولقد أنزل الله من الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ما يُؤَكّد اتّباع أكثر المنتمين للإسلام اليهودَ والنّصارى في الانحراف عن شرع الله مثل ما ورد في «الصّحيحين» من قوله: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم» قالوا: اليهود والنّصارى؟ قال: «فَمَنْ»؟ أي: مَنْ غيرهم، وفي رواية: فارس والروم؟
وإفراد الله بالعبادة ونفيها عمّا سواه (أهمُّ أمور الإيمان أو التّوحيد أو الاعتقاد) هو أهمُّ ما خالف فيه المشركون رسلهم فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص: 5]، وقالوا: {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62] ولا تغترّ بسوء فَهْم سيّد قطب - رحمه الله - في «الظِّلال».(1/8)
أما إفراد الله بالخلق والرّزق والملك والإحياء والإماتة والتّدبير وأكثر صفات الله وأفعاله فأكثر المشركين مُقِرُّون به بشهادة الله لهم بذلك؛ قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } [الزخرف: 9]، وقال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ} [يونس: 31]، وقالوا عن دعائهم آلهتهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس: 18].
2) كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم هما وحدهما مرجع علم الدّعوة مبنى ومعنى، وغايةً ووسيلةً، ومنهاجًا وأسلوبًا، وهما البصيرة التي وصف الله بها سبيل نبيّه ومتبعيه ودعوتهم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وهما أشرف العلوم وأوثقها وأثبتها وأبينها وأصحّها لغةً وخبرًا، وهما وحدهما علم اليقين المُوحى به من رب العالمين، بل هما وحدهما العلم إذا أُطْلق في الآية أو الحديث، أمّا الفكر والعلم البشري فهو مبنيّ على الظّنّ والإدراك والتّصور القاصر، ولا يجوز أن يُحكم به على الدّين ولا أن يُرْبط به؛ قال الله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {6} يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم 6: 7] فلا تغترّ بدعوى الإعجاز العلمي في القرآن.(1/9)
دين الله تعالى لا يليق بل لا يحلّ لمسلم أن يتجاوز به حدود ما أنزل الله في كتابه وفي سنّة رسوله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَلَّفْت فيكم شيئين لن تضلّوا بعدهما: كتاب الله وسنّتي ولن يتفرّقا حتى يَرِدَا على الحوض»، «صحيح الجامع الصّغير» (3232).
وقد فضّل الله تعلّم القرآن وتَعليمه (لا أقول حِفظه وتجويده) على سائر العلوم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» رواه البخاري، وفضّل الله هدى كتابه وسنة نبيّه على كل هدى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «... أمّا بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها» أي في الدّين «وكلّ بدعة ضلالة» رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
ومن أعرض عن ذكر الله في الكتاب والسّنّة خسر الدّنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، ولو حفظ القرآن والحديث بما لا يجاوز حنجرته.
وأهمّ حقوق هذا العلم العظيم: تدبّره والعمل به وتبليغه لا مجرّد حفظه والتبرك به وإحصاء حروفه وكلماته كما يفعل الأعاجم ومن اقتدى بهم.
قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24].(1/10)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين عضّوا عليها بالنّواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي وابن ماجه وابن حبّان والدّارقطني.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين» متفق عليه.
3) الفقه في الدّين، وهو معرفة الأحكام الشرعيّة في الاعتقاد والعبادة والمعاملة من نصوص كتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فهمها وعمل بها الخلفاء الرّاشدون المهديّون، وبقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهاء الأمّة في القرون المفضّلة يوم كان الدّين غضًّا لم يَبْعُد به أهل القرون المتخلّفة عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تخالطه البِدَع، ولا غَشَت العُجْمة اللسان الذي أُنْزِل به وحيًا من الله تعالى على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا صار عرضًا من عروض التّجارة الدّنيويّة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النّاس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» متفق عليه، وفي رواية للبيهقي: «ثم يكون بعدهم قوم يخونون ولا يؤتمنون».(1/11)
4) خطبة الجمعة: هي وعاء علم الدّعوة الموحى به من ربّ العالمين، وتتميّز بأنها عبادة توقيفيّة لها أحكامها المفروضة والمسنونة مثل بقيّة العبادات، وقد بيّن الله تعالى شرعه لها في الكتاب والسّنّة (زمانها ومكانها وأقوالها وأفعالها وآدابها)؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]، وقال تعالى في الآية الأخيرة من سورة الجمعة {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11] أي: على المنبر تخطب كما ذكره ابن كثير في «تفسيره» عن أبي العالية والحسن، وزيد بن أسلم، وقتادة، وجابر؛ والخطبة مكمّلة للصلاة باتّفاق، وعلى هذا فهي من علم الدّعوة وهي أفضل وأهمّ وسائلها؛ إذ هي اليقين من ربّ العالمين.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْصُرُها على الثوابت الشرعيّة ويجنّبها الحوادث والطوارئ، وتقيّد بهديه في ذلك خلفاؤه وأصحابه ومتّبعوا سنّته من أهل العلم في القرون الأولى؛ فإن الله شرع خطبة الجمعة لتعليم النّاس أمور دينهم، ولتذكيرهم بربّهم وبآلائه وبأيّامه، ولحثّهم على طاعة الله وتقواه وتحذيرهم من غضبه وعقابه، ولتذكيرهم بالموت والبعث والحساب وبالجنّة والنّار: الأمور العظيمة التي خُلِق كلٌّ منهم لمعرفتها والعمل لها، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].(1/12)
ومن أصحّ وأصرح ما ورد عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم في «صحيحه» عن أم هشام بنت حارثة بن النّعمان قالت: (كان تنّورنا وتنّور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب النّاس)، مهما جاء من الحوادث والطوارئ والخطوب.
ولم يَرِدْ عنه مرّة واحدة أنّه صَرَف خطبة الجمعة أو جزءًا منها لحادثة من الحوادث العظيمة التي حدثت في عصره قَبْلَ أو بَعْدَ أو أثناء حدوثها كالهجرة والإسراء والمعراج والغزوات والإفك؛ إلا أن تكون آية من كتاب الله تعالى أو حديثًا من سنّته صلى الله عليه وسلم فإنّ خُطَب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى به لم تخرج عنهما أبدًا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْصُر الخطبة ويطيل الصّلاة، ويشير بأصبعه، ويرفع صوته كأنّه مُنْذِر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم، ويعلم أمّته شرع الله، يدعوهم إلى الإيمان وإفراد الله بالعبادة ويحذّرهم الشرك بالله في عبادته، ويذكرهم بالله ويرغّبهم في ثوابه ويخوّفهم من عقابه ويحثّهم على الاستعداد للموت وامتحان القبر والحشر والصّراط، يُكرِّر ذلك في كلّ خُطَبه؛ لأنّه الأمر الذي خُلِق له وكُلِّفَ به ولابدّ أن يهتم له كلّ مسلم يحضر الخطبة وهو في حدود استطاعته.(1/13)
أما الحوادث والطّوارئ فلو صحّ خبرُها فقد لا يُكلّف بأمرها أكثر المسلمين؛ أما ما أحدثه مبتدعة القرن الأخير من صَرْف الخطبة أو جزء منها لخبر المؤرِّخ والجريدة والإذاعة والإشاعة؛ فهو خروج عن منهاج السنّة وتعطيل للعبادة (والدعوة اليقينيّة) وتضييع لحقوق الإسلام والمسلمين (وأخصّ منهم من لا يعقل هذه الحوادث أو لا يستطيع التأثير في مجراها أو لم يكلفه الله بها) وعدول عن اليقين إلى الظنّ، وعن الوحي الإلهي إلى الفكر البشري مظنّة الخطأ، وعن السنّة إلى الابتداع في الدّين؛ بل فيه مخالفة صريحة لقول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، نستغفر الله لنا ولهم ونرجوه الهداية إلى صراطه المستقيم، والثبات على شرعه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم.
5) ولا أمَلّ من تكرار التّذكير والنّصيحة والأمر (لو كان في حدود استطاعتي ومسئوليتي) بتلاوة كتاب الله حقّ تلاوته وتدبّره حقّ تدبّره شكرًا لنعمة الله به، فهذه أول وأعظم حقوقه وحقوق المتكلّم والمُنْعِم به سبحانه وبحمده، وهي الطريق الشرعي الصحيح للعمل به وتبليغه.(1/14)
ويوم عرفت قواعد التجويد قبل ستّين سنة ظننت - كما يظن أكثر المسلمين العرب اليوم - أنّها من شرع الله ووحيه، فتكلّفت الإمالة في {مَجْرَاهَا} [هود: 41]، والإشمام في {تَأْمَنَّا} [يوسف: 11]، وتسهيل الهمزة الثانية في {أَأَعْجَمِيٌّ} [فصلت: 44]، والمبالغة في قلقلة {الْفَلَقِ} [الفلق: 1]، وزيادة حركات المدّ في {الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7، الأنعام: 77، الشعراء: 20، 86، الواقعة: 92] وأيّ مدّ متّصل (وجوبًا) لقول الناظم: (والأخذ بالتجويد حتم لازم) يوم تخلّف المسلمون فحكّموا النّظم في شرع الله، وتكلفت الالتزام بالسّكتة (اللطيفة) في {بَلْ رَانَ} [المطففين: 14]، وتكلّفت محاولة الجمع بين (التزام إخراج الحرف من مخرجه وإظهاره) وبين (التزام إخفاء الحرف وإدغامه) وتكلّفت عدم الوقوف على آخر الآية إذا تعلّقت بالآية بعدها في {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } [الماعون: 4]، رغم أن الله شرع الوقوف وسنّه رسوله، ورغم قول الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17، 22، 32، 40] ثم صرفنا الفكر والهوى ومن ورائهما الشيطان إلى الشكل المبتدع فعسّرنا القرآن، وإلى التّحفيظ عن التّدبّر.
وذكرت الشيخين ابن باز والألباني بنعمة الله عليهما وبهما لإعادة المسلمين إلى الدليل فيما عدى تلاوة القرآن، فردّ كلّ منهما بأنه ليس مختصًّا بالتّجويد، وكذلك كان كلٌّ منهما يتبع المختصّين في المذهب الحنبلي أو الحنفي دون اهتمام بالدّليل من الوحي، ثم ردّهما الله وردّ المسلمين بهما إليه في هذا العصر جزاهما الله خير جزائه.
أما أنا فقد قبلْتُ نعمة بالله بالتّيسير والقراءة بالحرف الذي يسّره لي وعرفته جزيرة العرب وتركت الالتزام بالإمالة والإشمام والتّسهيل والقلقلة الكبرى والسكتة اللطيفة وحرصت على الوقوف على رأس كلّ آية، والذكر عند آخرها بما يناسبها.
الدَّعوة في جزيرة العرب بعد منتصف القرن 14(1/15)
أبرز ما عرفْتُ من مؤسّسات مناهج الدّعوة ووسائلها في نهاية العقد السّادس من القرن الرّابع عشر للهجرة ما يلي:
1) المدرسة: وتُعْنى بتعليم أعظم العلوم: القرآن الكريم، تلاوةً للمبصرين وحفظًا للمكفوفين، ولم يكن يزاحمه في المدرسة علم أو فنّ غير اللغة التي أنزله الله بها: العربيّة قراءة وكتابة.
وكان في شقراء (المدينة التي وُلِدْت وعشت فيها أكثر سنوات الطّفولة) ستّ مدارس للبنين، وثلاث مدارس للبنات تُعلِّم الأقلّين (كما هي الحال منذ عُرف التّعليم) أهمّ أمور حياتهم: الغاية من خَلْقِهم كما بيّنها الله في كتابه أعظم نِعْمه على عباده.
2) المسجد: البيت الذي أَذِن الله أن يُرْفع ويُذْكر فيه اسمه؛ للصّلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتأمر بالمعروف بأقوال الذّكر وأعماله وأعظمها تلاوة كتاب الله وتدبّره، وتُهيِّئ للمخلوق تعظيم خالقه تسبيحًا وتهليلاً وحمدًا وتكبيرًا ودعاءً له، وصلاةً على عبده ورسوله وتسليمًا.
وفي المسجد أعظم قدوةٍ للدّعوة إلى الله على بصيرة منهاجًا ووسيلةً ومكانًا وزمانًا: خطبة الجمعة التي فرضها الله لتعليم خلقه أمر دينهم وتذكيرهم بربّهم وإعدادهم ليوم مَعَادِهم، وكانت في ذلك الوقت ما زالت محتفظةً بما تميّزت به في عصر النّبوّة (وعصر الخلافة وعصر الصّفوة من الصّحابة والتّابعين وتابعيهم) من بنائها على نصوص الوحي والفقه فيها وتخصيصها بالثوابت الشّرعيّة من حلال وحرام وفَرْض ونافلة، ومن موت وبعث وحساب وجنَّة ونار، ومن وَعْد ووعيد، وتلاوة من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجنيبها لَهْو الحديث (من الفكر وروايات المؤرّخين الأقدمين والإعلاميِّين المحْدَثين، وأخبار الحوادث والطّوارئ من الصّحف والإذاعات والإشاعات)؛ وهو ما نَقَمَه منها المفكّرون والحركيّون والحزبيّون لانحرافهم وقلّة فقههم.(1/16)
وفي المسجد يجلس القاضي للرّاغبين في طلب العلم الشرعي من الرّجال في التّوحيد والتّفسير والحديث والفقه عامّة والفرائض خاصة، ولا يكاد المسجد يخلو من دَرْس بعد صلاة العصر في فضائل الأعمال لعامة النّاس من كتاب رياض الصالحين للنّووي يوميًّا، ودَرْس بين حين وحين للإعداد لامتحان القبر: مَنْ ربك وما دينك وما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟
3) السّوق: وهو شرّ البقاع يحتاج أهله لمن يذكّرهم بالله وبأوامره ونواهيه وبآلائه وأيّامه؛ لأن أكثرهم منشغلون بمعاشهم ومِهَنِهم وتجارتهم الدّنيويّة عن حضور حلقات العلم والموعظة في المسجد والمدرسة؛ فقد يجلس القاضي على عتبة أحد محلات التّجارة في أحيان متباعدة ليعوّضهم عمّا فاتهم من الخير.
4) الحسبة، أو التطوّع للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: أوّل مؤسّسات الدّعوة المستقلة وأهمّها وأعظمها أجرًا، ومنذ عرفت الحياة خارج المنزل أدركت أن بضعة رجال من أهل شقراء يقومون بهذه الوظيفة العظيمة تعاونًا على البرّ والتقوى واحتسابًا للأجر من الله وحده فيما يظهر من حالهم، وكان والدي - رحمه الله - واحدًا منهم أكثر من ربع قرن فيما علمت منه.
وكان من أهمّ ما يأمرون به: الصّلاة على وقتها في المسجد، وأهم ما ينهون عنه تطفيف المكيال والميزان، وكان القاضي وهو وليّ الأمر في شقراء عونًا لهم على القيام بهذا الأمر العظيم وقد شهدتُ مرارًا إقامة أمير شقراء (وهو وليّ التّنفيذ) الحدّ بالجلد (على من ثبت استحقاقه له) ومرّةً بالنفي.(1/17)
5) واستمرّت مؤسّسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في دولة التوحيد والسّنة تقوم على الاحتساب والتّطوّع حتّى وَلِي الأمر الملك سعود - رحمه الله - في عام 1373هـ، وكان من مميّزات عهده (التي يصعب إحصاؤها) أنْ رَفَعَ مستوى مؤسّسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى مستوى وزارة لها ميزانيتها المستقلّة، فزاد عدد فروعها وموظّفيها وانتشرت في طول البلاد المباركة وعرضها، وكان - رحمه الله - متميّزًا بالخضوع للعلم الشرعي وأهله.
وبرز اسم الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر (في المنطقة الوسطى والشرقيّة) وهو رجل اصطفاه الله لهذا وزاده بسطة في العلم والجسم والبيان، وكان العمل العظيم الذي اصطفاه الله له شُغْله الشّاغل في الليل والنّهار لا تحدّه ساعات الدّوام الرسمي، بل اشتهر عنه أنه كان يجوب شوارع الرّياض حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل (قبل الوظيفة الرسميّة وبعدها) وكان ولاة الأمر - بعد الله - عونًا له حتى اشتهر أن الملك عبد العزيز - رحمه الله - كان يخوّف بعض أبنائه بعقاب من الشيخ عمر لِما أعطاه الله من هيبة وقيام بالحقّ ولِما أعطاه ولاة الأمر من سلطة واسعة.
وأذكر أنّي كنت مقيمًا مع والدي وأخي - رحمهما الله - في جناحين من أجنحة مستشفى الشميسي بالرّياض، وفي الثالث أحد المقرّبين من الشيخ عمر - رحمهما الله - وعندما استيقظنا لصلاة الفجر وجدنا أشرطة السّينما مبعثرة في طول الرّواق، وعَرَفْنا أن الشيخ/ عمر - رحمه الله - عَلِمَ أن هذا الرّجل المقرّب (مِنْ حاشيته) يقيم وليمةً لبعض الأطباء والممرّضات تتضمّن عرضًا سينمائيًّا مما لا تقره الدولة المباركة ولا يقرّه القائم على الأمر والنّهي، ونحن - جيرانه - لم نحسّ بشيء من وقوع الخطأ ولا العقاب حتى الصّباح.(1/18)
وكان هذا الرجل المقرّب إليه من أبرّ النّاس به وأكثرهم خدمةً له جزاه الله بعفوه، وكان بعض الناس يتّهمونه بالوقوع في معاصي الشهوات، يدلّ على هذا وعلى دأب الشيخ عمر في أداء عمله أنهما لقيا بعض رجال الهئية قريبًا من منتصف الليل ومعهم فتاة وضيئة وُجِدت في مكان مشبوه لم يجدوا مكانًا يحفظها حتى يتمّ التّحقّق من أمرها، ولما انتهت جولة الشيخ عمر بعد منتصف الليل ولم يجد حلاًّ آخر للمشكلة وافق على رأي هذا الرّجل أن يأخذ الفتاة لتنام عند والدته ودعا له بالفرج عند الضّيق، ولما ذهب بالفتاة قال أحد مرافقي الشيخ عمر (-رحمهما الله-) للشيخ: (الظّاهر يا شيخ أنّنا الآن خرجنا من الشّك إلى اليقين).
وكان الشيخ عمر برًّا بوالدي - رحمهما الله - كان يعوده كلّ يوم بعد صلاة العصر، وطالب الملك سعود وألحّ في الطّلب للبتّ في عقاب مَن اتّهموا بالاعتداء عليه أثناء عمله (وعلى أخي رحمة الله عليهما) دون انتظار لشفائهما والجلوس مع المتّهمين في المحكمة، ولكن الملك سعود - رحمه الله - رفض بإلحاح التّدخّل في أمر وُضِع بين يدي القضاة بشرع الله (وكان موفّقًا في رفضه)، وبعد مضيّ بضعة أشهر قضاها المتّهمون في السّجن تنازل الوالد عن حقّه في محاكمتهم - تجاوز الله عنهم جميعًا - وطلب منّي الشيخ عمر محاولة إقناع الوالد - رحمهما الله - بالبقاء في الرّياض مستشارًا له في مرتبة عالية لم يكن أحدٌ يتوقّع أن تُعرض عليه بعد تجاوزه السّبعين، فأجاب - رحمه الله-: لولا أنّي اخترت المدينة النّبويّة مَنْزِلاً ومَدْفَنًا لما اخترت بديلاً بأبي حسن دون راتب ولا مرتبة، وكان قد رفض القضاء في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله-.(1/19)
ومما أذكر من اهتمام الشيخ عمر بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله وشرعه أنّني اخْتِرْتُ لتمثيل وزارة المعارف في قضيّة بين هيئة الزلفي وعدد من المدرّسين الوافدين لم يعتادوا الصّلاة في المسجد كادت تتجاوز حدود المملكة المباركة، ورأى الشيخ عمر والشيخ عبد العزيز بن حسن آل الشيخ وزير المعارف مناسبة اختياري لهذه المهمة؛ لأنهما - رحمهما الله - يحسنان الظنّ بي أكثر ممّا أستحقّ، وحرص الشيخ عمر على مقابلتي قبل السّفر وحرص على مقابلتي فور عودتي للاطمئنان على النتيجة وكانت خيرًا بفضل الله وتوفيقه، وكان يغلب عليّ (مثل الشيخ عمر) الحِرْص على مؤسّسة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثر من الحِرْص على بقاء عدد من المدرّسين يصرّون على التّخلّف عن الجماعة، وأعزّ الله الهيئة واستمرّ المدرّسون في عملهم حتى نهاية عقدهم، وكان قاضي الزّلفي عبد الله بن عبدان وأميرها علي بن مبارك - رحمهما الله - خير عون بعد الله على تحقيق هذه النتيجة.
وذكر لي الشيخ عمر - رحمه الله - أنه كان في مجلس الملك عبد العزيز الأسبوعي للعلماء - رحمهم الله - جميعًا، فأتي بأحد رجاله شرب مُسْكِرًا فتسوّر بيت جيرانه واغتصب إحدى النّساء فأمر بقتله، وخالف العلماء هذا الحكم حتى تتحقّق شروط الرّجم فيُرْجَم، وبدون ذلك ليس لوليّ الأمر أن يتجاوز به الجلد والسّجن، فأصرّ الملك وقُتل الرجل في يومه، واستمرّ اهتمام الشيخ عمر بالأمر بعد خروجه من المجلس حرصًا على شرع الله وعلى براءة ذمّة وليّ أمر المسلمين وعلمائهم، فوجد فيما بين يديه من كتب الفقه: أن لوليّ الأمر الوصول بالتّعزير إلى القتل إذا رأى المصلحة العامّة تقتضي ذلك كما في هذه القضيّة؛ فسبق الشيخ إلى مجلس الملك التّالي وأطْلعه على ذلك، فقال الملك عبد العزيز - رحمهما الله-: (الحمد لله الذي علّمنا ما خفي على علمائنا) تحقّق الاجتهاد وتحققت الإصابة.(1/20)
لا يسوءني أني أطلت الكلام أكثر ممّا تعوّدت عن الشيخ عمر بن حسن - رحمه الله؛ لأنه أبرز رمز عمليّ عَرَفْتُه للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر (أعظم ميزة ميّز الله بها هذه البلاد والدّولة المباركة) ثبّتها الله عليها قدوة صالحة للمسلمين في كلّ مكان في الحاضر والمستقبل.
ومن نوادر مجلسه - رحمه الله - أنّ بعض زوّاره من آل الشيخ تذاكروا العلاقة الوفيّة الكريمة بين الأسلاف من آل سعود وآل الشيخ وواجب تعهّدها والمحافظة عليها بحجّة وجود ميثاق بين الأسرتين (بأنّ في يد آل سعود السّيف وفي يد آل الشيخ الكتاب) فقال محمد بن عمار مرافق الشيخ عمر - رحمهما الله - - فيما رواه لي: (شرط الميثاق أن يحافظ آل الشيخ على الكتاب كما حافظ آل سعود على السّيف)، ويشهد العلماء والمؤرّخون أن محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - (رأس أسرة آل الشيخ ومجدّد الدّين والدعوة في القرن الثاني عشر) جمع الكتاب مع السّيف في يد عبد العزيز بن محمد بن سعود تلميذه بعد أن بلغ من العلم والحكمة ما أهّله للجمع بينهما، وأشهد شهادة حقّ أنّ آل سعود هم حماة الكتاب والسنّة في القرون الثلاثة الأخيرة؛ بتطهيرهم ما ولاهم الله من جزيرة العرب (مُعْظَمها) من أوثان المزارات والمشاهد والمقامات والأضرحة، ومن زوايا التّصوّف، ومن بِدَع الاعتقادات والعبادات، ولا يزال الأمر قائمًا حتى كتابة هذه الأسطر ثبّتهم الله عليه وثبّت به ولايتهم المتميّزة فهو أساسها وقاعدتها لا ينفصل عنها أبدًا، كما هي سنّة الله التي خَلَتْ في عباده.(1/21)
وكما يحدث في كل تنظيم لم يَخْل أمر الحسبة والهيئة من طرائف ومبالغات وأخطاء؛ ففي زمن الحسبة استنكر أهلها لُبْس الرجال السّاعة على المعصم خوفًا من التّشبّه بالنّساء، واستنكروا المذياع لما يبثّ من أصوات المعازف والمغنّين، بل استنكروا الدرّاجة الهوائيّة وسُمّيَت (حصان إبليس) ووقاني الله شرّها فلو صُغِّر أوّل اسمها لشاركتني في الاسم ولربّما ظنّ ظانّ أنّ ذلك سبب حرصي على امتلاكها واستعمالها مدّة ثلاثين سنة قبل أن تضيق الطّرقات بالسيّارات، وكنت أتنقّل بها بين المنزل والعمل حتى آخر أيّامي في وزارة المعارف مديرًا عامًّا للتّعليم الثانوي، وكان وزير المعارف د. عبد العزيز الخويطر (وهو آخر وخير من عملت معه فيها دِيْنًا وخُلُقًا وسمتًا وعدلا، وكان وحده رمز الاقتصاد في مجتمع الإسراف) كان يسألني كلّما قابلته في الوزارة: (وِيْن الكَدْلَك؟)، وكان السَّمَر بعد العشاء (قبل الكهرباء) مثيرًا للشكّ، وبقليل من التّنصّت والتّبصّر قد تثبت التّهمة؛ فقد عَرَفْتُ أنّ شراء فقير نصف صاع من الأرز (الهورة) وأَكْل الأرزّ نادر في الماضي نتج عنه نَفْي رجل وجَلْد رجل وامرأة، وفيما دون ذلك؛ طَرَقَ رجال الهيئة باب منزل ارتفعت منه أصوات رجال يلعبون الكيْرَم بعد صلاة العشاء أنساهم الحماسُ الحذَرَ، فخرج صاحب المنزل وأنكر اللَّعِب واللاعبين، فجاء أحد رجال الهيئة بالبيّنة: (سمعت أحدكم يقول: سقَطتْ في الجفيرة)، وأنكر رجال الهيئة على رجال يستعينون على عملهم بالنّشيد فجحد المنشدون نشيدهم، ومرّة أخرى جاء رجل الهيئة بالبيّنة: (سمعتك أنت يا هذا تقول: شيلوه) فلم يجد المتّهم وجهًا لاستمرار الجحود فقال: (لا بالله إن قلت: شيلوه فأنا الآن أقول: حطّوه).(1/22)
وأخذني والدي - رحمه الله - عندما كان في الحسبة للوقوف على رجال يحفرون زبية للدّبى (صغار الجراد قبل أن يطير)، وينشدون فلما رأوه سبقوا العتاب فتحوّلوا إلى قصيدة للشاعر عبد الله الصّبَيّ من شقراء تَجْمَع بين حَمْد الله، والثناء على الملك عبد العزيز، وذمّ عدوّه - رحمهم الله جميعًا - وكان البيت الأوّل فيها: (نحمد اللي عزّ دينه وصدّق بالوعد . ونلبس التّوحيد ثوبًا من البيضا جديد) ونجوا ممّا خافوا من وقوعه بهم.
وذُكِر لي (أو لربما رأيت عام 1368) أنّ سلسلة توضع في شارع الوزير بالرّياض (وهو أول شارع مُسَفْلَت) لتوقف مرور السّيارات بعد الأذان، وقد ميّز الله هذه البلاد والدّولة المباركة منذ أذن الله برفعها منارًا لخلقه بأنّها تُلْزِم الناس بإغلاق متاجرهم وقت الصّلاة تنفيذًا لأمر الله، بل يُروى أن رجل الهيئة كان ينادي نصرانيًّا من لبنان يعمل في أحد المتاجر: (صلّ يا جورج) ولو صحّت الرواية فالمقصود: أغلق مَتْجرك وقت الصّلاة، كما يُرْوى أن الهيئة ردّت فلسطينيًّا تجاوز المسجد إليه ولم تقبل عذره بأنّه ذاهب إلى بيته للوضوء فقال: (إذن نصلّي للسّعودية بلا وضوء ولا نيّة).
فِرَق الدعوة الوافدة إلى جزيرة العرب
منذ قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودولة آل سعود أمات الله بها فِرق وجماعات وأحزاب الدّين والدّعوة الخارجة عن منهاج النّبوّة وجماعة المسلمين، ومجرّد تعدُّد الفِرَق والجماعات والأحزاب، خروج عن السنّة والجماعة؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].(1/23)
يقول الشيخ د. بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء والهيئة الدائمة للإفتاء في كتابه الفريد [حكم الانتماء إلى الفِرَق والأحزاب والجماعات الإسلاميّة]: (وجماعة المسلمين على منهاج النّبوّة لا تقبل التّشطير ولا التّجزئة، فالنبي صلى الله عليه وسلم من حين بِعْثته إلى وفاته ثم صحابته رضي الله عنهم فمن تبعهم بإحسان كانت دعوتهم لتكوين جماعة المسلمين حاملة راية التّوحيد لا لجماعة من المسلمين، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنّهم هم المسلمون وهم الطّائفة المنصورة ... وهم من كان على مثل ما عليه النّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأمر بلزومهم ونهى عن مفارقتهم ... فإذا انخزل فرد أو فرقة عنهم فهذا انشقاق على المسلمين وتفريق لجماعتهم، وهو في طبيعة حَالِهِ انخزال عن كلّ الإسلام على منهاج النّبوّة)، وعلى هذا قَرَّر في بداية كتابه هذا وجوب وصفها (بالفِرَق لا بشعار الجماعات والأحزاب الإسلاميّة؛ لأن جماعة المسلمين واحدة لا تتعدّد «على مثل ما أنا عليه وأصحابي» وما عداها فهم من الفِرَق [المنخزلة عن] جماعة المسلمين).
ولا تزال منذ بداية القرن الثالث عشر من الهجرة حتى اليوم متميزة على جميع بلاد ودول المسلمين عربًا وعجمًا بأنّ الدّولة المباركة لا تقرّ وجود طريقة، ولا زاويةٍ صوفيّةٍ، ولا جماعةٍ، ولا حزبٍ دينيٍّ ولا دنيويٍّ غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم وبيت الله وجماعة المسلمين وحزب الله المفلحين.(1/24)
وبعد منتصف القرن الرّابع عشر: أنشئت جماعة التّبليغ بين أوثان المقامات والمزارات في الهند وجماعة الإخوان المسلمين بين أوثان المقامات والمزارات في مصر، وحاولت الثانية دخول بلاد التّوحيد والسّنّة من أبوابها في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - فأوْصَد الأبواب في وجهها قائلاً فيما يروى عنه: (لا حاجة لنا بها؛ فكلّنا إخوان مؤمنون) فتسلّلت الجماعتان إلى بيوت أهل التّوحيد والسّنّة من ظهورها بطريق الحجّ والعمرة وطلب العمل وطلب العلم، ومقاومة القومية والاشتراكيّة، والأمر بالخير، إذ زيّن لهم الشيطان عدم النّهي عن المنكر. وجاء ما يسمّى بالصّحوة أو الرّجوع إلى اسم الدّين حقًّا أو باطلاً، فاستغلّتها الفرقتان وانتشرتا في أرض التّوحيد والسّنّة تضلان الموحدين عن منهاج النّبوّة، والأكثرون {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104].
وباضت فِرْقة الإخوان المسلمين فِرَقًا: التّكفير والهجرة، التّحرير، أتباع حسن البنّا الذين يرون المسالمة حتى يَحِين حِيْن الاستيلاء على السّلطة، وأتباع سيّد قطب الذين يرون تكفير وهجر غيرهم (الحكام ثم المحكومين)، والجهاد وهم مثل التّحرير يرون المناجزة، وكانوا كما قال الله عنهم: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]؛ يرون الكمال في أنفسهم والنَّقص في غيرهم.
وكان من نتائج هذا التَّفرّق باسم الدّين والدعوة: فتنة جهيمان في بيت الله الحرام، ثم فتنة التّكفير والتّفجير في بلاد المسلمين والعلمانيّين وقَتْل الأنفس التي حرّم الله إلا بالحق وإشاعة الدّمار والرّعب في الأرض، حتى صار قَتْل المسلم نَفْسه وغيره من المسلمين وغيرهم قربة وشهادةً وجهادًا في سبيل الهوى، وشرعًا لم يأذن به الله، وإساءة لسمعة الإسلام والمسلمين وجلبًا للدّمار على أفغانستان والعراق وعلى البلاد والعباد.(1/25)
وكان من أسوأ نتائج هذا التّفرّق وأعمقها أثرًا: هَجر منهاج النّبوّة المعصومة، والتّقليد الأعمى لمناهج البشر القاصرة بل الضّالة عن شرع الله والمتّبعة لشرع حسن البنّا ومحمد إلياس - تجاوز الله عنهما - وكلاهما ممن قَصُرت مداركه عن العلم الشرعي المبنيّ على الوحي والفقه فيه، وكلاهما ممن أَلِفَ البدع والتّصوّف ووُلد وعاش ومات بين أوثان المقامات والمزارات ومظاهر الشرك الأكبر والأصغر، فلم يجعل من بين أهداف جماعته القضاء على شيء منها أو مجرّد التّحذير منها، وعلى هذا النّهج الضّال سار الأتْباع، واعتمد كل فرقة ذريعة الرّحلات القريبة والبعيدة وسيلة لفصل الولد عن أبيه والأخ عن أخيه، وفصل الجميع عن جماعة المسلمين وعلماء الوحي والفقه فيه من أهله وجرّهم إلى ضلال التّفرق والتّحزب المبتدع.
الإعداد العلمي للدّاعي في بلاد الدّعوة(1/26)
كان التعليم الفطري ثم العصري كافيًا لإعداد طالب العلم في دولة الدّعوة للدّعوة سواء في مدارس القرآن أو مدارس التّعليم العام التي حلّت محلّها، وبخاصّة في المدارس والمعاهد الدينيّة التي أنشئت في عهد الملك عبد العزيز وفي كلّيّة الشريعة بمكة المباركة (نواة جامعة أم القرى) وهي أوّل مؤسّسة للتّعليم العالي في جزيرة العرب أنشئت في آخر عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - وفي كلية الشريعة بالرياض (نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) أنشئت في أوّل عهد الملك سعود - رحمهم الله جميعًا - فقد كانت كلها (في الرُّبْع الثالث من القرن الرابع عشر الهجري) تُعَلِّم القرآن ثم السّنّة؛ وفي نصوص الوحي بفهم أئمة الفقه الأُوَل أعظم وأصحّ وأثبت عُدَّة للدّاعي إلى الله على بصيرة من الوحي والفقه فيه، فإذا خرج عنهما الدّاعي إلى الله ولو بحُسْن نيّةٍ وحِرْصٍِ على مصلحة الدّعوة - كما هو حال أكثر الدّعاة اليوم - خالف منهاج النّبوّة وربما زلّت قدمه على مزالق الفكر والظنّ والهوى وشاقّ الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى واتّبع غير سبيل المؤمنين فضلّ وأضلّ.(1/27)
وكان نصيب كاتب هذه الأسطر عند تخرّجه من كليّة الشريعة بمكة المباركة شهادة دراسيّة تَشْهد أنّه قفز جميع حواجز النظام التّعليمي الموجود في جزيرة العرب عام 1376هـ بنجاح فائق، وتُخَوِّله الحصول على وظيفة معلّم للشريعة، أو قاضٍ في إحدى المحاكم، وكلّها شرعيّة - فضلاً من الله ونعمة وميزة على كلّ بلاد المسلمين - ولكنّه لم يكن يطمح للوظيفة معلّمًا أو قاضيًا، وبكلّ توكيد لم يكن يطمح لأن يُعيّن داعيًا إلى الله على منهاج النّبوّة، وهذه هي حال أكثر أقرانه؛ لأن الوظائف الحكوميّة جديدة على أغلب مناطق جزيرة العرب، وإنّما كان طالب العلم يتعلم لمجرد التعلم دون التطلع إلى هدف دنيوي أو أخروي بل ربما كان الدّافع الأوّل للتّعلّم: تقليد زميل أو قريب سبق إلى التّعليم، وفي حال الكاتب لم يكن يدفعه للتّعلم غير السّير على خُطى قُدوَته طيلة حياته: أخيه صالح وكان بفضل الله من خير من جمع الله له العلم والعمل والخُلُق، وكانت وظيفة الحسبة أو الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا تتطلّب شهادة مدرسيّة ولا وظيفة حكومية؛ لأنّها وظيفة النّبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104]؛ فتكفيه (الشهادتان) بحقّهما علمًا وعملاً.(1/28)
وقدّر الله للكاتب الانصراف للعمل الإداري ربع قرن في وزارة المعارف وعشرين عامًا في الإشراف على دعاة دولة الدّعوة في بلاد الشام؛ لأنّ أكثر العمل الإداري لا يحتاج إلى مهارة أو موهبة جِبِلّيَّة أو مُكْتَسبة، ولم يَدُرْ بخَلَدِه التّطوّع للدّعوة إلى الله؛ كان الجميع لا يكادون يتصوّرون الدّعوة خارج نطاق وظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وكانت عقول العرب في كلّ مكان مأخوذة بالثّورة المصريّة (واشتراكيّتها وقوميّتها العربيّة وعلاقاتها بالشرق والغرب وتقدميّتها وتحرّرها)، كان روّاد المساجد القليلون في جزيرة العرب (فضلاً عن غيرها) من كبار السّنّ إضافة إلى الإمام والمؤذّن، وكنّا نذهب إلى المسجد الكبير (عمر مكرم) في القاهرة عام 1378 لصلاة الفجر فنجده مُغلقًا، وفي انكلترا أعياني البحث عن مسجد لصلاة عيد الفطر عام 1381 حتى وجدت مسجدًا على بُعْد أربع ساعات بالقطار تبيّن أنّه للبهائيّين وأنّهم أجّلوا صلاة العيد ليَوْم غدٍ حتى يتمكّن المسلمون من حضوره على اختلاف طوائفهم، وهو أول مسجدٍ في انكلترا.
الرّجوع إلى مظاهر الدّين(1/29)
في أوّل العقد التّاسع من القرن الرّابع عشر بدأ النّاس بأمر الله وقدره وتدبيره يعودون إلى أديانهم (وأكثرها وأوّلها أديان الضّلال) ولعل أتباع (كريشنا) من الوثنيّة الهندوسيّة كانوا أسبق من غيرهم إلى العودة والدّعوة إلى دينهم في أمريكا وأوروبا، فاقتدى بهم النّصارى عودةً ودعوةً للنّصرانيّة، وأيقظت هذه الظّاهرة جماعة التّبليغ وجماعة الإخوان المسلمين من سُبات عدد من السنين فاستَبَقا دعوة المسلمين إلى صفّهما ومنهاجهما وما اختاره لكلّ منهما مُرْشدُه ورئيس جماعته ومؤسِّس حزبه فنجح كلّ منهما في الشكل وخسر كلٌّ منهما في المضمون {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]: زاد عدد المساجد وزاد عدد المصلّين فيها، ولم ينقص عدد عبّاد الأوثان (المقامات والمزارات المحيطة بهما)، وكثُرَت دور وجمعيّات ومدارس تحفيظ وتجويد القرآن، ولم يُلْتفت إلى تَدَبُّرِه، وانتشرت المطالبة بحجاب جسم المرأة (غير الوجه والكفّين) وبسُنَن العادات والهيئات، وأُهْمل ما هو أهمّ: وهو الحثّ على التزام الفرائض والسّنن عامّة ومجانبة البِدَع (في الدّين والدّعوة إليه)، ورُكّزَت الخُطَب والمحاضرات والرّحلات على انتقاد الرّاعي ومداهنة الرّعيّة، وبالغ الدّعاة في التركيز على أحكام المعاملات في مقابل التّفريط في أحكام الاعتقاد والعبادات. وكان ذلك كله مكيدةً من الشيطان؛ لِصَرف الدّعوة والدّعاة عن منهاج النّبوّة، وصَرْف النّاس عن الرّجوع إلى الدّين الحقّ ومنه دعوته للاعتقاد أولاً، ثم العبادات، ثم المعاملات أخيرًا.
كثرة الدّعاة وانتشار الدعوة على دَخَل(1/30)
كان الحياء (وفيه خير) والغفلة والكسل (وكلاهما شرّ) يَحُوْل بين الكاتب (ومثله أكثر طلبة العلم)، وبين الدّعوة إلى الله تعالى، وكانت النّفس الأمّارة بالسّوء والشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدّم أكبر العقبات في طريق الدّاعي إلى الله على منهاج النّبوة، فلمّا انحرفت الدّعوة عن منهاج النّبوة إلى منهاج: حسن البنّا أو سيّد قطب أو تقيّ الدّين النّبهاني أو محمد إلياس أو محمد سرور زين العابدين أو ابن لادن وأمثالهم - تجاوز الله عنّا وعنهم - زالت العقبات أو ذُلِّلت إلى حدّ بعيد إذْ صار المسلم المنحرف يدعو في واقع الأمر إلى حزبه وفرقته وجماعته وإلى شيخ طريقته على شرعٍ غير شرع الله، وعلى منهاج مخالف لمنهاج جميع رسل الله ورسالاته.(1/31)
ولأنّ جماعة الإخوان المسلمين وأفراخها تَنْتَخِب دعاتها من بين قادتها ومفكّريها ولا تُشِع الدّعوة بين تابعيها، ولأنّها تُظهر اهتمامًا كبيرًا بحيازة الأموال والوظائف، وتسعى إلى انتزاع السّلطة ممن ولاهم الله أمرها وجمع عليهم شمل الأمّة؛ فقد اختار الكاتب جماعة التبليغ لما وجد فيها مِنْ عُزُوف عن جمع المال وعن منازعة الأمر أهله، ومن اقتصاد في النّفقة والمتاع يوافق طبعه، ومِنْ إعطاء جميع أفرادها الحقّ في الدّعوة حسب وُسْعهم؛ ليتدرّب معهم - أثناء العمل - على التّخلّص من العقبات الجِبلّيّة والمكتسبة في طريقه إلى أداء فريضة الدّعوة، والجمع بين تقديم ما علَّمتْه مؤسّسات دولة التّوحيد والسنّة من منهاج النّبوّة في الدّين والدّعوة، وبين اكتساب أسلوب الأعاجم في الصّبر والتّضحية والقصد والتّقشف، أمّا من حيث المنهاج فهم مثل الأعراب {أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ} [التوبة: 97]. صحب الكاتب جماعة التّبليغ لحضور أكبر تجمّع لهم في (تونكي) قرب العاصمة (داكا) على ضفّة النّهر حيث يعيش كلّ عام مئات الألوف من أفراد الجماعة في العراء بضعة أيام يستمعون إلى مواعظ مشايخهم، ثم ينصرفون بقية اليوم يقضون وقتهم بين تدبير أمر معاشهم وتنفيذ برنامج الدّعوة التّبليغيّة.
ويأوي المشايخ إلى منزل مخصّص لهم، كما يأوي العرب إلى حظيرة خُصِّصت لهم في ضيافة الجماعة، ويَضْمَنُ هذا جهلهم ببعض البدع التي لا يرضاها مواطنوا دولة التّوحيد والسّنّة وأبرزها ظهورًا بيعة المشايخ الصّوفيّة.(1/32)
وزار الكاتب مركز الجماعة في (راي وند) قرب لاهور، ثم زار المركز الأول والأهمّ في (دلهي حيّ نظام الدّين) المجاور لأوثان المنتمين للإسلام من المقامات والمزارات وقابَلَ رئيس الجماعة عامّة عام 1397 هـ (إنعام الحَسَن) وأُنْسِيَ تحذير رئيس الجماعة في بنكلاديش (عبد العزيز) فذكر له أنّه زار معه نائب رئيس الوزراء، ويبدو أن في ذلك مخالفة للنّظام المركزي لرئاسة الجماعة، واقترح الكاتب الجمع بين العلم الشرعي في جزيرة العرب منهجًا، وبين مزايا دعوة التّبليغ الأعجميّة أسلوبًا؛ فأبى إنعام وردّ بأنّ الجماعة لا تُغيِّر منهاجها ولا تُبَدّله فهي تُعْطِي ولا تأخذ، وهذا هو ميزان حسن البنّا - تجاوز الله عنهما: (نزنها [الجماعات الأخرى] بميزان دعوتنا فما وافقها فمرحبًا به وما خالفها فنحن منه بَرَاء ...؛ لأنّ دعوتنا محيطة بكلّ شيء وغيرها لا يَسْلَم من النّقص)، وهو ميزان حزب التّحرير وغيره من الأحزاب المبتدعة مصداقًا للآية: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].
ورغم ذلك رأى الكاتب أن يستمرّ في الدّعوة معهم مستفيدًا من حسناتهم في الأسلوب والأداة محاولاً تصحيح منهاجهم، وقد أقرّ ذلك الشيخ ابن باز - رحمه الله - بعد ربع قرن في فتواه عام 1414 (جـ 8 ص 331): (جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة، فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة؛ حتى ينصحهم ويرشدهم).
وفي يوم من أيام رجب عام 1404 زار الرّياض ثلاثة من قدماء جماعة التبليغ وهم: عباس شرقاوي وسالم الدعجاني وسعيد بن صالح من جدّة؛ لِيُطْلعوا يوسف الملاحي وسعود الدّحيم وكاتب هذه الأسطر على ما جهلوه من أمر الجماعة:
1) مبايعة رئيس الجماعة إنعام الحسن بضعة عشر مواطنًا سعوديًّا (من أعضاء الجماعة أحدهم عباس شرقاوي) البيعة الصوفيّة المعتادة في الهند.(1/33)
2) اشتمال (تبليغي نصاب، الذي كتبه لهم محمد زكريا كاندهلوي ويجتمع عليه كلّ التبليغيين غير العرب) على الشرك والخرافة وتزيين البدع.
3) تلبُّس قادة الجماعة بالابتداع في الدّين ومنه: المراقبة الجشتيّة عند قبر أحد الصالحين، والذِّكر المبتدع بلفظ النَّفي من (لا إله إلا الله) أكثر من لفظ الإثبات، وكتابة الحُجُب للمريدين.(1/34)
ورأى الشيخ يوسف الملاحي (وهو أوّل من خرج معهم في المملكة المباركة وخيرهم علمًا وعملاً) مقاطعتهم كما فعل مِنْ قَبْل، ورأيت التَّثبّت قبل الحُكم بسؤال أحد المبايعين في جدّة فأكّد لي: أنه بايع إنعام الحسن بعد أن سبقته زوجته إلى البيعة، ومن إسماعيل منشي، وموسى كَرَمَاني من قدماء التّبليغ في لندن عرفت تفاصيل البيعة على الطّرق الأربع، وأنّها اختياريّة (وهذا ما أكّده إنعام الحسن لي في رسالة لا زلت أحتفظ بها)، وعرفت نظام البيعة وصيغتها والأذكار المبتدعة المرتبطة بها، وصفة المراقبة الجشتيّة، وأن محمد إلياس - تجاوز الله عنهم جميعًا - كان يمارسها عند قبر عبد القدوس الكنكوهي بشهادة أبي الحسن النَّدوي، وأن محمد إلياس وابنه محمد يوسف مؤلّف حياة الصحابة كانا يمارسان البيعة أخذًا وعطاءً، وأنّ تبليغي نصاب موبوء بالخرافات والبدع الكبيرة والصّغيرة، وبعد أن ردّ قادة التّبليغ في المدينة ودلهي وعمّان محاولاتي للإصلاح في بضعة أشهر عزمت مع الشيخ سعود الدّحيم على ترك الجماعة مع الاستمرار في تحذيرهم والتّحذير منهم، وبدا للشيخ يوسف الملاحي أن يرجع عن رأيه ويشاركهم حركتهم بين حين وآخر وعندما عَلِمْتُ إثر فتنة جهيمان باتّجاه المسئولين في المملكة المباركة إلى مَنْع التبليغ المبتدع في المساجد أبديت رأيًا مخالفًا لهذا الاتّجاه بأنّ الأصلح ربط الجماعة بأحد العلماء الدّعاة على منهاج النّبوّة؛ طمعًا في إصلاحها ما دامت ظاهرة لتعذّر ذلك عند إخفائها عن ولاة الأمر من العلماء والأمراء، ولكنّ سموّ نائب وزير الدّاخليّة وفقه الله فتح عيني على حقيقة شرعيّة وتنظيميّة كانت غائبة عنّي وهي: أنّه لا خير - شرعًا ولا عقلاً - في تفرّق الأمّة باسم الدّين (أو الدّنيا) ونصوص الوحي صريحة في التّحذير من ذلك، وأن جماعة التّبليغ هي الحزب الوحيد الذي ظهر علنًا مخالفًا السّياسة الشرعيّة والتنظيميّة، وأن هذه الدّولة إنما قامت على(1/35)
الدّعوة إلى الله على بصيرة ومن واجبها الحذر من الدّعوة على المناهج المحدثة، وللرّاغب في الدّعوة إلى الله - خارج التنظيم - أن يحصل على إذن بذلك من المفتي العام بعد إثبات أهْلِيّتَه، وله الالتحاق بإحدى مؤسّسات الدّعوة الحكوميّة: رئاسة إدارات البحوث والإفتاء والدّعوة والإرشاد، ورئاسة هيئات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ونحوها.
وعجبت لغفلتي عن هذه الحقيقة (وأكثر تعلّمي متعلّق بشرع الله) وأكّد لي ذلك صحّة الولاية بالعهد (وراثة الملك) أكثر من الانتخاب (فضلاً عن اغتصاب الولاية بالقوّة أو الكثرة) لأن وليّ العهد يحصل على ما يُعِدُّه للولاية من مجالسة العلماء والقادة، ومن التدرّب على مواجهة مختلف الآراء والاتجاهات والأحداث ووزنها بموازين الشّرع والعقل.
الدّعوة بوسائل وأدوات الإعلام
أعرف مَنْ تقرّب إلى الله بتغيير نوع تجارته لِتَجنُّب بيع أشرطة وآلات التّسجيل؛ لأنها كانت تستعمل غالبًا للهو، ثم تقرّب كثير من الدعاة والتّجار إلى الله بنشر الأشرطة وآلات التّسجيل بعد إضافة وصف الإسلامي إليها (وقُل مثل ذلك في الفيديو والفضائيّات وشبكة المعلومات العالميّة)، يستعجل الشباب بكثرة حماسهم وقلّة فِقْهِهِم فيضعونها مكان الشرك الأكبر، ثم يضاف لها وصف الإسلاميّ والإسلاميّة، فيضعونها مكان التّوحيد أو يشغلون النّاس بها عنهما.(1/36)
1) واختار الكاتب مجلّة الدّعوة بالرّياض عام 1397 لنشر بعض مقالاته، وجرّب الطريقة الصّحفيّة التي تقوم على التّهييج والمبالغة لتضمن بذلك كسب القبول من أكثر القرّاء، بل حَصلَتْ على قبول بعض العلماء وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء والعضو المتميّز في هيئة كبار العلماء - رحمه الله - فكان يحثّ الكاتب على تقديم المزيد بقوله في كلّ مرّة لقيه: (اكتب يا سعد فإن في كتابتك بركة) وكان ردّ الكاتب في كلّ مرّة: (لعلّ الله أن يجعل فيها بركة)، ولكنّ اثنتين من مقالاته عام 1397 بعنوان (رأي آخر في الحرمين والقدوة) و(رعاية النخل ورعاية الشباب) أثارتا غضب بعض ولاة الأمر (مع ظهور نتيجة طيبة للمقالة الأولى لم يتوقعها الكاتب) فعرض على اثنين منهم التّوقف عن الكتابة فكان ردّ كلّ منهما على حدة: (لا نطلب من الدّاعي التّوقف عن الدّعوة وإنما نطلب منه العمل بأمر الله: بالحكمة والموعظة الحسنة). ومرة أخرى استفاد الكاتب من توجيه بعض ولاة الأمر وفقهم الله ما لم يستفده من معلِّميه فحرص بَعْدُ على التّقيُّد بأمر الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم في الدّعوة إليه ولو لم يرْضَ بها الأكثرون ولو لم تحصل النتيجة المرجوّة.
2) ولم يختر الكاتب الدعوة بالشريط الإسلامي لأنّ أكثر الأشرطة الإسلامية تخدم الحركيّة والحزبيّة والفكر والظنّ ولا تهتم بالوحي والفقه واليقين، وليس من السّهل التمييز بين غثّها وورمها وبين سمينها وشحمها بل بين باطلها وبين حقّها.(1/37)
3) ولكنّه وجد في لبنان (أقرب البلاد العربية إلى الحضارة الغربيّة) عددًا من الشباب لا يظهر عليهم انتماءٌ لحزبٍ أو جماعةٍ أو طريقةٍ مبتدعة، يجمعهم مركز للدّفاع المدني التّطوعي فوافق على تمويل نشاطهم وإضافة إذاعة (FM) بالتّعاون مع شركة عبد العزيز ومحمد العبد الله الجميح بالرياض كثيرًا ومع جمعيّة إحياء التّراث بالكويت قليلاً سُمّيَتْ (إذاعة صوت الإسلام) ضمن (وقف القدوة للعلم والدعوة والخدمة)، ودفع المموّلون ثمن ثلاث شقق في بيروت - المزرعة - طريق الجديدة، كما دفعوا ثمن أجهزة البثّ وإعداد الأشرطة وتوليد الكهرباء ورواتب العاملين، وبدأ البث الإذاعي واستمر العمل بضع سنوات، وضاق الشباب بالمنهاج الواحد: (الكتاب والسّنّة وفقه الأئمة الأُوَل في نصوصهما) وتاقت أنفسهم إلى الدّعوة بالتمثيليّات والأناشيد وفِقْه الواقع والحركة والموقف (من فكر سيّد قطب) تجاوز الله عن الجميع كما لم يصبر أبناء عمّهم على طعام واحد فاستبدلوا {الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]، ثم عادت الإدارة المدنيّة إلى لبنان بعد الحرب الأهليّة ومعها نظام المطبوعات ولم يؤذن للإذاعات الصّغيرة بالعمل فتوقّفت (إذاعة صوت الإسلام) وحاول بعض أعضاء الوقف الاستيلاء على تركته بحجّة الصّرف على مشروع تعليميٍّ جديد، فقبل البقيّة الصّلح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على يد الشيخ زهير والشيخ الجوزو.(1/38)
4) وكانت الجرايد تطالب بما تُسمِّيه: الرّأي والرأي الآخر، ولما جاءت ريح الدّبور بحريّة الصّحافة المشئومة اغتصبت الصّحافة الرّأي والرّأي الآخر فلا تنشر إلا ما يمليه عليها الهوى، إذ قلّ نصيبها من الشرع والعقل، فلم يجد الكاتب بدًّا من الاستفادة من شبكة المعلومات العالميّة في نشر مقالاته. ولو أنّ الشبكة - مثل الحَرَاج - يختلط فيها الخير بالشرّ بل يكثر فيها الشرّ ويقلّ الخير وتغلب عليها المساومات والمزايدات بالباطل؛ فاختار بعض الدّعاة إلى الله على بصيرة استئجار حيِّز خاصّ به على الشبكة، واختار آخرون منهم نشر مقالاته في المواقع العامّة جزاهم الله خير الجزاء، ونفع الله بعلمهم وعملهم، وغفر للكاتب خطاياه وجبر نقصه ورحم ضعفه.
من التّعليم الظنّي إلى التّعليم اليقيني
في بداية عام 1400 فوجئ الكاتب بزيارة في منزله تفضّل بها الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع نائب الرّئيس العام لإدارات البحوث والإفتاء والدّعوة وعضو هيئة كبار العلماء، يحمل دعوة منه ومن الرّئيس والمفتي العام الشيخ ابن باز لينقل الكاتب عمله للإدارة العامّة للدّعوة في الخارج، وبعد انتقال الشيخ ابن منيع للعمل في هيئة التّمييز بمكة المباركة تكرّرت الدّعوة من الشيخ ابن باز - بلسان أخي الكاتب إبراهيم - مرّات كان آخرها دعوة مباشرة من الشيخ ابن باز - رحمه الله - وبيّن الكاتب للجميع عزوفه عن الإدارة وضعفه عن أداء حقها بعد تجربة تجاوزت عشرين عامًا، وأنّه مرتبط بالإشراف على تجربةٍ لتعديل وإصلاح هيكل التعليم العام بدأها قبل بضع سنوات لا يرغب ولا يليق به التخلي عنها قبل نضجها.(1/39)
ولما ظهر أخيرًا نضج التّجربة بقرار وزارة المعارف نشرها في المملكة المباركة بتعديلاتٍ لا يرى أنّها تخدم أهداف التّجربة، رأى الاستجابة للدّعوة الكريمة بعيدًا عن الإدارة المركزيّة، قريبًا من أرض البركة والقداسة أرض الشام، وإذا كان الله قد اختار لأحد أوائل الأجداد: عبد العزيز بن عبد الله الحصين أن يكون أوّل من تُوفده الدّعوة التّجديديّة إلى مُلك الهاشميّين في الحجاز، فقد اختار الحفيد لنفسه بإرادة الله وقَدَرِه أن يُوفَدَ للدّعوة على منهاج النّبوّة إلى مُلك الهاشميّين شرقي نهر الأردن (وغربيّه) وإلى بقية أرض الشام المباركة.
وقضى الكاتب من عمره في هذه الوظيفة العظيمة أكثر من عشرين عامًا يُشرف على الدّعاة على منهاج النّبوّة، ممن يعملون على نفقة دولة التّوحيد والسّنّة أو على نفقة المحسنين من بلاد التّوحيد والسّنّة، ويحاول سدّ النقص الذي أنتجته دعوة الفكر والحركيّة والحزبيّة في أهمّ أمور الدّين والدّعوة: نشر التوحيد والسنّة ومحاربة الشرك والبِدَع الأخرى بالحِلَق في المساجد وبالكتب الموجزة الشاملة للأحكام الشرعيّة في الاعتقاد ثم في العبادات ثم في المعاملات لا العكس، كما سوّلت النّفس ووسوس الشّيطان للدّعوات المحدثة المنحرفة.
وكان الفضل في المقدّمة والنتيجة بعد الله للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فإذا كان الكاتب يرى في الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رمزًا لمؤسّسة هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فإنه يرى في ابن باز (-رحمهما الله-) رمزًا لمؤسّسة الدّعوة إلى الله على بصيرة (في دولة التّوحيد والسّنّة). بل لا أعرف في هذا العصر من جمع الله له من العلم والعمل وحُسْن الخلق (وبخاصّة الكرم بنفسه وجاهه ووقته وماله، واللِّين والتّواضع والصّبر والزّهد) ما اجتمع للشيخ ابن باز - رحمه الله -.(1/40)
1) كان أوّل من نقل النّاس من التّقليد والتّعصب المذهبي إلى اتّباع الدّليل - وافق المذهب أو خالفه - وإن وجد الشباب في الشيخ الألباني - رحمه الله - (وهو الثاني بعده) من صلابة الخُلُق ما يجذبهم أكثر من لين ابن باز وتسامحه جزاهما الله خير الجزاء.
2) وكان ابن باز أكثر من عَرَفْتُ طاعةً لله في مناصحة الراعي والرّعية والنّصح لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى.
3) وكان منزله مأوى ومطعًما لكثير من طلاب العلم وغيرهم من يوافقه ومَن يخالفه منهم. وكان ينفق (من ماله وأموال المحسنين) على نحو ألف داعٍ إلى الله في مشارق الأرض ومغاربها (وبخاصة في آسيا وأفريقيا).
4) وكان عفيف النفس واللسان واليد زاهدًا في متاع الدّنيا فيما يعلمه عنه من عرفه، وأعلم عنه أنّه رد عرض أحد ولاة الأمر سدّ دَيْنه من خزانة الدّولة ثم قَبِل ذلك بشرط أخذ المقابل من راتبه تدريجيًّا حتى يتم السّداد، وأعلم أنه ردّ إعانة خاصّة من أحد ولاة الأمر لتأثيث منزله بحجّة عدم الحاجة إليها مع أنّه لا يرى كراهية أخذ جائزة السّلطان (مثل أكثر أهل العلم)؛ قال ابن المنذر: (وبعضهم أوجب أخذها) لما صحّ عن النّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموّله أو تصدق به» متفق عليه.(1/41)
5) وأعلم أنّه حين عُيِّن مفتيًا عامًّا للمملكة المباركة كان يَسْكن بيتًا مبنيًّا بالطّين آيلاً للسّقوط حتى أنّ أحد أهل النّظر طرق عليه الباب عند منتصف الليل ينبّهه إلى الخطر ويطلب منه أن يبيت بقيّة الليل عنده مع أهله ولم يستطع الشيخ التّخلّص منه إلا بالنّوم في بيته. وربما حرّكت هذه الحادثة أخًا لي ميّزه الله بالجمع بين الفقه والفكر وميّزه - مثل الشيخ - بالحرص على صرف المال إلى مستحقّه لا إلى نفسه فأشار على ولاة الأمر بشراء مَسْكن له فاشترت الدّولة المباركة للشيخ منزل المفتي السّابق الذي بناه له الملك سعود - رحمهما الله - (وهي سابقة من سوابق الملك سعود الدّينيّة والدّنيويّة التي لا يحصيها إلا الله واستحقّ بها لقب (أمير العلماء وعالم الأمراء) في لفظ الشيخ محمد بن حامد الفقي في مقدمة جامع الأصول ط1). ثمّ أشار عليه النّاصحون ببيعه وبناء منزل بثمنه يسعه مع ضيوفه ومكتبه وأهله خارج منطقة وسط المدينة، وتولّوا عنه تنفيذ ذلك قبل أن يَنْفَد المال بالصّدقة والهدية وهو في حاجة إليه إذ كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يأبه بحاجته - هو - إليه، وقد أعانه الله بثمن البيت على قضاء دَيْنه وصلة من أراد الله أن يصله، وبناء ثلاثة مساكن مجتمعة في محيط واحد بمنطقة البديعة، ولكن شائعات من لا خلاق لهم في الدّنيا (وعِلْم الآخرة عند الله) جعلتها سبعًا وصفت بالموبقات بدعوى أنّها مُوِّلَتْ ممّن يريد إسكات صوت الحقّ والله يعلم إنّهم لكاذبون على الجميع، وآوى الله بالبيت الجديد أهله وضيوفه ومكتبه حتى مات.(1/42)
6) وكان - رحمه الله - لا ينتصر لنفسه بل يرجع إلى الحقّ إذا جاءه من أصغر تلاميذه وموظفي إدارته: جادله الشيخ الغبوشي أحد دعاة مكتب بيته (على نفقة آل الجميح) في الحكم على الإيلاء المعلّق على شرطٍ بما يحكم به أهل الحديث على الطلاق المعلّق على شرط (وكان الشيخ ابن باز - رحمهما الله - لا يسوِّي بينهما) فما زال به حتى سوّى بينهما.
وخالفت مرارًا ما يُكتب باسمه تأييدًا لجماعة التبليغ، ولما تبيّن له حالهم أعلن في فتواه ضمن مجموع الفتاوى (8/331): أنّ (جماعة التّبليغ ليست على بصيرة في مسائل العقيدة وأنّه لا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصّحيحة التي عليها أهل السّنّة والجماعة حتى يرشدهم وينصحهم)، ومعلوم أنّ الدعوة على غير بصيرة بالعقيدة تخالف شرع الله تعالى وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، وهذه الفتوى تلزم بقية الأحزاب والجماعات.
وخالفته في رأيه أنّ الصّور الفوتكرافية من التّصوير المحرّم شرعًا المذاع في (نور على الدّرب) فردَّ (في حَلْقة لاحقة) ردًّا متواضعًا كريمًا لا يليق إلا بمثله.
وخالفته في فتواه جواز هزّ الرأس أو الجسم عند التلاوة أو الذّكر عامّة وأنّه أمر جِبِلِّيّ، فرجع عن رأيه بعد أن بيَّنت له أنّ منشأه من الهندوس ثم البوذيّين ثم اليهود ثم أعاجم المسلمين (في القارة الهندية بخاصّة) وغيرها عامّة.
7) وكان - رحمه الله - يصل من يحتاج ومن لا يحتاج ومن يستحقّ ومن لا يستحقّ، ولا يقطع رزق الله عن أحد:(1/43)
طَلَب منه الإعانة قاضٍ مُبْتَدِع (من بلد مجاور فُصِل من القضاء لخيانته الأمانة في مال يتيم) بحجّة النفقة على المحتاجين وتعليم أولاده في بلدٍ شيوعيّ، ولما أُخبر بأمره قال: (نتألّفه وننصحه لعل الله أن يهديه)، وأعطاه ما طلب. وجاءه أحد طلاب العلم المنتمين للسّلفيّة يطلب منه شراء مُهَذَّب ومُؤَلَّف له فأمرني أن أشتري منه بضعة آلاف نسخة منهما وأعانه بخمسة آلاف ريال، ولما بيّن له أنه في غير حاجة للإعانة أصرّ وقال: (اقبل صلة أخيك) فقبلها، ولما رأيت المؤلّف زاد في الثمن عن التّكلفة أضعافًا كلّمتهما في ذلك لتصحيح ظنّ المؤلف أنّ الدّولة وليس الشيخ ابن باز مَنْ سيدفع الثمن، فأصرّ على الثمن المبالغ فيه بحجّة أن الدّولة ستعوّضه، ووافق الشيخ ابن باز على دفع المبلغ المطلوب من ماله رغم ظُلم المؤلّف ومقابلته الحسنة بالسّيئة؛ وطلب منه طالب علم من دعاة الرئاسة إقراضه (مائة وخمسين ألفًا يؤخذ من إعانته أو خمسة عشر ريال) إظهارًا لشدة حاجته وهو غير مضطر، فلمّا أقرضه الشيخ مائة وخمسين ألفًا تُسَدَّد مِنْ راتبه على مدى عشر سنين (وهو على معرفة بحاله) طلب مني المقترض إلغاء عقده حتى لا يبقى اسمه بين الدّعاة وراتبه مرهون بدَيْنه، ولما ذكّرته الموت ادّعى أن الشيخ ابن باز أعفاه من أداء دينه، هدانا الله وإيّاهم جميعًا.
وكان أحد الدّعاة في الأردن يميل إلى حكومة إيران ظنًّا منه أنّ أيام حكّام الخليج أوشكت على الزّوال، بل صار يطعن في معاوية - رضي الله عنه - فضلاً عمّن دونه من الأمويّين، ويهيّج الغوغاء على الحكّام العرب، ولما اقترحتُ فَصْله من قائمة الدّعاة؛ لأنه صار يُفسد أكثر مما يُصلح قال: (لا أقطع رزقًا ساقه الله إليه) فتولّت وزارة الماليّة إيقاف راتبه بناء على طلب السّفارة.(1/44)
وعندما انتهى عمل الشيخ ناصر الدّين الألباني في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة النّبويّة وافَقَتْ دولة التَّوحيد والسّنّة على طلب ابن باز صرف راتب الألباني له مدى الحياة.
وعندما بلغ الشيخ نسيب الرّفاعي سنّ التقاعد وأُلْغِيَ عقده تفضّل الأمير سعود بن سلمان بن محمد آل سعود بصرف راتبه وخصَّص مكانًا له في قصره إذا زار الرّياض، فطلبت من الشيخ ابن باز الشّفاعة لدى خادم الحرمين، فأمَرَ بصرف راتبه مدى الحياة.
وطلبتُ منه الشفاعة لصرف مرتّب ذاتي مدى الحياة للشيخ عبد القادر الأرناؤوط فصدرت موافقة خادم الحرمين على ذلك.
ولم تتأثر هذه القرارات بوقوف كلّ من الشيخين: الألباني والأرناؤوط من قضيّة الاستعانة بالقوّات الدّولية لتحرير الكويت من احتلال البعث العراقي للكويت موقفًا مخالفًا للشرع وللعقل ولِوُلاة أمر الدعوة من العلماء والأمراء انسياقًا مع العاطفة والظّن والفتنة، بل نُقل عن بعض ولاة الأمر من الأمراء إصرارهم بعد الفتنة على استمرار صرف الإعانات والمرتّبات للمخالف مثل الموافق. أما الشيخ نسيب الرّفاعي - رحمه الله - فلا أعلم مثيلاً لثباته على الحق من علماء الشام، وصدّه دواعي الفتنة غير الشيخ يوسف البرقاوي جزاهما الله خير الجزاء.
الدّعوة إلى الله على نفقة المحسنين(1/45)
كان دعاة مكتب بيت الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يحصلون على إعاناتهم الشّهريّة مما يقدمه المحسنون من مواطني البلاد والدّولة المباركة للشيخ من الزكاة أو الصّدقة، ولمّا بلغ عددهم نحو ألف داع إلى الله زادت المصروفات على الواردات، فاهتمّ عدد من الدّعاة بالعمل على حثّ التّجار على زيادة وسرعة صرف تبرعاتهم ضمانًا لوصول الرّواتب إلى الدّعاة في وقتها أو قريبًا من ذلك، وحضَرْت اجتماعًا من الاجتماعات لهذا الغرض فاقترحت توزيع الدّعاة على التّجار كلٌّ بحسبه؛ ليضمن الدّاعي إلى الله الحصول على إعانته في حينها، وليعرف المتبرّع الدّعاة الذين يستفيدون من إعانته، وليستطيع الإشراف عليهم إذا رغب في ذلك وضمان صرف إعانته لمستحقها، فرفض هذا الاقتراح بعض الإخوة المتطوّعين بحجّة عدم قبول التّجار مثل هذا التّرتيب، وقَبِلَه بعضهم بحجة المحاولة قبل الحكم على النتيجة، ولم يُنَفّذ الاقتراح؛ فعرضت الأمر على رئيس شركة عبد العزيز ومحمد العبد الله الجميح في الرّياض، (رحمهم الله جميعًا أحياءً وأمواتًا) فوافق على كفالة نحو ثمانين من الدعاة في آسيا وتركيا ومصر تُصرف رواتبهم مع بداية كلّ عام وتتولّى جهة الاختصاص في رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الصّرف كالعادة، واستمر تأخّر صرف الإعانات بسبب الخلط بين المكفولين وغير المكفولين؛ فطلبتُ من شركة الجميح صرف إعانات الدّعاة في البلاد التي شرّفني الله بخدمة الدّعاة فيها، فردّت الشركة بأن ما تقرّر صرفه لمكتب الشيخ ابن باز لا سبيل إلى تغيير طريقة صرفه، ولكن لي الحقّ في اختيار عدد آخر من الدّعاة تعينهم الشركة، فاخترت عددًا ممن يعملون في الدّعوة تطوعًا على منهاج النّبوّة بلغ عددهم قريبًا من خمسين حتى كتابة هذه السطور.(1/46)
وحصلت على إعانة دعاة آخرين في كردستان ولبنان بتمويل من خادم الحرمين - رحمه الله - بطريق الأمير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز آل سعود - نصر الله به الدّين؛ ولكن حوادث الإرهاب والعدوان الموصوفة بالجهاد كان من نتائجها السَّيّئة توقّف هذه الإعانة. والحقيقة أنّ أكثر مصائب الدعوة سببها سوء الدعوة جهلاً أو حزبيّة أو تعصبًا أو اتباعًا لمنهاج مُبْتَدعٍ ضالٍّ يحسبه قليلُ الفقه ماءً حتى إذا جاءه وجده سرابًا، كانت فتنة الإخوان المسلمين في مصر مصيبة على الإسلام والمسلمين، وكانت فتنة جهيمان سببًا في تشديد الحراسة على المسجد الحرام والمسجد النّبوي، واشتراط الإذن الرّسمي قبل الوعظ والتّعليم فيهما، وإغلاق أبواب المسجد النّبويّ ساعات من الليل، وكانت فتنة الإخوان المسلمين في حماة شرًّا على الإسلام والمسلمين في سوريا، وكانت فتنة ابن لادن وعصابته شرًّا على الإسلام والمسلمين في أفغانستان والعراق وغيرهما .. وهلمّ جرّا.
انتقال الدّعوة من الرئاسة إلى الوزارة(1/47)
تعوّد النّاس أن يظنّوا بالله (وبمن يولّيهم الله أمرهم) الظّنون ويتوجسّوا الشرّ وسوسةً من الشيطان وتسويلاً من النّفس الأمّارة بالسّوء قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة: 268]. وما أبرّئ نفسي؛ فمع إدراكي لهذه المذمّة وحذري وتحذيري من الوقوع فيها وحولها، وهَجْر مجالس السّمر بعد أن نبّهني أخي صالح (مدّ الله في عمره على طاعة وخدمة دينه) إلى أنّ النّاس في أكثر مجالسهم ينزعون إلى رسم الحياة بمداد أسودٍ بعد أن التقطوا العدوى من الصحفيّين فلا يقتاتون إلا على أخبار السّوء المبنيّة على الظّنّ والمبالغة والإشاعات مخالفةً لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]وموافقةً لأهل السّوء من قبلهم ممن قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ} [النساء: 83]؛ فخصّصتُ بين المغرب والعشاء للرّباط في المسجد، ولم أزُرْ ولم أقْبَل زيارة أحد ولا الاتصال بعد العشاء منذ أكثر من رُبْع قرن، ومع ثقتي بالله وتوفيقه لهذه الدّولة المباركة فقد خِفْتُ على مستقبل الدّعوة الرّسميّة بعد ابتعادها عن إشراف الشيخ ابن باز - رحمه الله - من جهة ورجوت الله - من جهة أخرى - أن يجعل العاقبة خيرًا كما تعوّدنا من نتائج أقداره لهذه البلاد والدّولة المباركة، وكما يحدث لمن رضي بقسمة الله وتفاءل الفأل الحسن.
وكنت على وشك الوصول إلى سنِّ التّقاعد دون محاولة التّمديد، مع العزم على استمرار العمل في الدّعوة إلى الله تطوّعًا إذ لا يليق بمن اختاره الله لوظيفة خَيْرِ خلْقِهِ من الملائكة والنّاس أن يتخلّى عنها ولو كان مثلي لا يرى في نفسه الكفاءة لأدائها حقّ أدائها.(1/48)
ورأى لي الشيخ د. عبد الله بن عبد المحسن التِّركي أنّني في حاجة إلى مظلّة رسميّة تمكّنني من الدّعوة إلى الله في الخارج فأمر بالتّعاقد معي وعملْتُ معه مشرفًا على دعاة الوزارة بضع سنين حتى ترك العمل فيها، وكان أوّل وزير للشئون الإسلاميّة والأوقاف والدعوة والإرشاد في دولة الدعوة إلى التّوحيد والسّنّة، وهو الذي أنشأها بضمِّ أجزاء من رئاسة إدارات البحوث والإفتاء ومن وزارة الحجّ والأوقاف، وقد استفدت منه أكثر ممّا كنت أتوقّع بل أشهد شهادة حقّ - أكثر مما كنت سأحصل عليه مع الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إضافة إلى ما سبق أن حصلت عليه منه كما تقدّم:
1) تمويل معهد طرابلس - لبنان - للعلوم الشرعيّة بضع سنوات حتى أثار دعاة الفتنة والتّكفير والجهاد الوهمي العدواني الشكّ والرّيبة في عمل الدّعوة الخارجيّة خاصّة وفي تسابق المحسنين لتمويلها، ثم تولّت جمعية إحياء التّراث بالكويت تمويل المعهد (أثاب الله الجميع) بما استطاعت.
2) المشاركة في مراجعة التّفسير الميسّر الذي أشرف على إعداده بصفة المشرف العام على مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبويّة ليتمكّن المجمّع من تقديم تفسير موجز صالح، وترجمات صالحة لمعاني القرآن بعد أن ظهر كثرة وشناعة أخطاء التّرجمات السّابقة لجميع اللغات في الاعتقاد فما دونه، وكانت عقبةً كئودًا لم يكن لغير عبد الله التِّركي أن يجرؤ على التّفكير في اقتحامها فضلاً عن حُسْن التّنفيذ وحُسْن العاقبة بفضل الله.(1/49)
3) المشاركة في رسم خطّةٍ لإعداد الدّعاة في بلاد المسلمين أقرّها المؤتمر السّادس لوزراء الأوقاف والشئون الإسلاميّة الذي عُقد في إندونيسيا من 28/6/1418 إلى 1/7/1418هـ، وصرف جزء مهمّ منها لبيان منهاج النّبوّة في الدّعوة وأسسها وأهدافها وعِلْمِها وخُلُقِها ووسيلتها الشرعيّة ليكون القائمون على الدعوة في كلّ مكان على بيّنة من شرع الله للدعوة إلى سبيله ومن سنّة الرّسول صلى الله عليه وسلم في العمل به، والحثِّ على تعاون دول المسلمين وتكاملها لسدّ النّقص في عدد الدّعاة وإزالة العقبات الرّوتينيّة التي تعوق أداءهم هذه المسئولية الشرعيّة العظيمة.
4) المشاركة في رسم مشروع للسّياسة العليا للدعوة إلى الله في بلاد ودولةٍ تميّزت على جميع بلاد ودول المسلمين منذ نهاية القرون المفضّلة بتأسيسها من أوّل يوم على الدّعوة إلى الله على بصيرة، ولا زلت أرجو الله أن يعين على تنفيذه.(1/50)
وعبد الله التركي مُتَّفَّقٌ على قوّة عَزْمه وحَزْمه الإداري، وإنتاجه العلمي الخاصّ والعامّ في الدّاخل والخارج، وهو من أبرز القادة الإداريّين في المملكة المباركة، وهو عضو في هيئة كبار العلماء وألّف وحَقّق وطَبَع ونَشَر في علم الاعتقاد والحديث والفقه والتّفسير (وكلّ ما يتعلّق بشرع الله والدعوة إليه) مئات المجلدات، ومن النّادر أن يجمع الله لعبدٍ من عباده ما جمع له، زاده الله توفيقًا، ولكن النّاس يحتارون في تصنيفه بين الفكريّة والحركيّة (التي صَبَغَتْ جامعة الإمام محمد بن سعود التي غرس بذرتها الملك سعود - رحمه الله - في أوّل سنة من ولايته المتميّزة، وتحوّلت على يد عبد الله التّركي وبقيادته وتحت إدارته نحوًا من ربع قرن إلى مؤسّسة علميّة كبرى تجاوزت فروعها الرياض إلى مناطق أخرى في المملكة بل إلى مناطق أخرى في العالم، وكادت أن تسمّى جامعة الملك فيصل الإسلاميّة، ولكن دولة الدّعوة وَفْق رأي الشيخ ابن باز جَعَلتها لِسَان صدق في العالمين للإمام محمد بن سعود الذي اصطفاه الله ورفع قدره بنصرة دعوة الحقّ وتجديد الدّين من أوّل يوم) وبين السّلفيّة التي برزت في مؤلفاته ومنشوراته، في المشروعات الدّينية الخاصّة والعامّة التي تحقّقت بيده أو بسببه، وأسبوع الدعوة التّجديديّة الذي أقامته الجامعة بجهده وتوجيهه وقيادته، وطُبِقت فيه كتب الدعوة وما أضيف إليها من بحوث ومؤلفات شاركت في إظهار فضل الله بالدعوة والدّولة وفضله عليهما وعلى أهلهما.(1/51)
والسّبب في وجود الصِّبغة الفكريّة الحركيّة للجامعة: أن نشاط عبد الله التركي النّادر وتطلّعه إلى الإنتاج القويّ الشامل وما طبعه الله عليه من رغبة في إعطاء كلّ ذي حقٍّ والإحسان في معاملة الجميع؛ كلّ ذلك يجعل الفكريّين والحركيّين أسرع من السّلفيّين إلى مصافحة اليد الممدودة للجميع، فالسّلفيون على منهاج النّبوّة يجدون من تثبيط الشيطان والنّفس ما لا يجده الفكريّون والحركيّون على مناهج البشر المبتدعة، ووليّ الأمر الإداري يهمّه الإنجاز الإداري، والحركيّون والحزبيّون هم أوّل من يتقدّم لملء الفراغ بدافع من القيادة الحزبيّة، أو بدافع من التّعصب للمنهاج المبتدع، ولذلك نجدهم أكثر المعلّمين والإداريّين والإعلاميّين والأئمة والخطباء والدعاة رغم معرفة الدّولة بِخَطَرهم على مستقبلها وتحذيرها منهم، كما قال وزير الداخلية في تصريحه لجريدة السياسة الكويتيّة بأنّ (جماعة الإخوان المسلمين أصل الفساد هنا وفي كلّ بلد مسلم) وهي كذلك أصل فساد كلّ حزب سياسيّ دينيّ مُبْتَدَع ينتمي إلى السّنّة والجماعة في هذا العصر عدا جماعة التبليغ. ولعلّ الله اختار لعبد الله التّركي - بعد أدائه حقّ وزارة الشئون الإسلاميّة في المملكة المباركة - أن يخدم الإسلام على نطاق أوسع بأدائه حقّ الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، ولكنّه هو الذي أنشأ الوزارة والجامعة فكان عبقريًّا لا يكاد أحدٌ يَفْرِيْ فريه، أمّا الرابطة فقد ورثها بعد أن مَرَدَت على الرّوتين الإداري لذاته ووجود الوظيفة لذاتها واختيار الموظّف لذاته وهَرِمَتْ على ذلك فكادت لا تقبل الإصلاح، واعترفت أنّني أحد من طَلَبَ منهم الإعانة على محاولة الإصلاح فخذلوه بحجَّةٍِ لا تُردّ: العجز عن مجرّد المحاولة، ولكنّي أثق بالله وبما تفضّل الله به على عبده من كرامة ثبت أنّه أهل لها.
بقيّة علماء الدّعوة من نَسْل الإمام المجدِّد(1/52)
أوّل ما عرفت وزير الشئون الإسلامية الثاني صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ خطيبًا وإمامًا لجامع جنوب طريق الأمير محمد بن عبد العزيز (التّحلية) بالرياض، وشكرت الله على معرفتي به إذ بشّرتني أنّه لا يزال في نَسْل مُجَدّد الدّين والدّعوة في جزيرة العرب (بل في بلاد المسلمين منذ القرن الثاني عشر) علماء ودعاة إلى الله على بصيرة، وزاد من فرحي بمعرفته أنّه طهّر منبر هذا الجامع من أحد الحزبيّين الذين غرسهم حزب الإخوان المسلمين في منابر الدّعوة والإعلام والتّعليم في كلّ مكان وكتم بهم نَفَس التّوحيد والسّنّة في بلاد التوحيد والسّنّة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] فلا تسمع منهم إلا تشدّقًا وتفيهقًا ورطانة فكريّة لم يسلم من لوثتها وعدواها المساجد التي تُشَدُّ إليها الرّحال؛ فلم يَعُدْ أكبر همّ خطبائها ما شرع الله له خطبة الجمعة من تعليم النّاس دينهم الحقّ وحثّهم على إفراد الله وحده بالعبادة ومتابعة السّنّة، وتحذيرهم من الشرك بالله في عبادته والابتداع في دينه، وبيان الأحكام الشرعيّة في الاعتقاد والعبادة والمعاملة للملايين من المسلمين الذين يجمعهم الله لهم من كلّ فجٍّ فلا يجدون في خطبهم إلا القليل مما شرعه الله تعالى وسنّه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل من التّرف الفكري واللغوي المبتدع أو من أخبار الجرايد والإذاعات.(1/53)
وبعد أن عَرَفْتُ عن الشيخ صالح ما منّ الله عليه وميّزه به (بين أهله) من البحث الجادّ، والعلم الشرعي العميق (علم الاتّباع لا التقليد)، وإنفاقه ممّا رزقه الله من العلم على طلابه في حِلَق المساجد التي تذكّرك بمثلها في القرون المفضّلة، ثم ردِّ ضلالات محمد بن علوي المالكي التي أراد بها الشيطان محاربة الدعوة التجديديّة التي بدأها جدُّه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقامتْ عليها من أول يوم دولة آل سعود وتميّزَت بها على دول المسلمين منذ القرون المفضّلة؛ صلّيْتُ معه المغرب أو العشاء ورأيت ما ميّزه الله به (على الأغلبيّة) من حرصه على التّمسّك بالسّنّة في هيئته وسَمْته وفعله، في حركاته وسكناته وفي النّصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم، وذكّرني حاله بما كان يردّده أخي صالح وغيره من ثناء على جدّه الشيخ المفتي العام محمد بن إبراهيم آل الشيخ في علمه وعمله وخُلُقِه وتواضعه وتعليمه ونصيحته للرّاعي والرّعيّة، وعلى والده الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ (الذي رأس إدارة المعاهد العلميّة (الشّرعيّة) ورأس هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عدد سنين) بما تميّز به من الذكاء والفطنة، وكان الأخ صالح يميّز بالثناء ممّن عرفهم معهم: الأمير مساعد بن عبد الرحمن آل سعود وزير الماليّة في عهد الملك فيصل بالعلم والعمل والصّدق وعُمْق الفِكْر، والعدل وعفة اللسان واليد وحصافة الرأي وقوة الحجّة، وكان يضمّ إلى الثلاثة: د.(1/54)
أحمد بن محمد علي (رئيس البنك الإسلامي للتنميّة في جدّة) ويعدُّه مثالاً للإنسان المتكامل (غير الإنسان الكامل لابن عربي)، والحقّ أنّه من نوادر مَنْ عرفت: حُسْن خلق وأمانة وحسن أداء للوظيفة عدد سنين في وزارة المعارف ورئيسًا لجامعة الملك عبد العزيز بجدّة ورابطة العالم الإسلامي ثم البنك الإسلامي مرة أخرى، وكان لا يهتمّ بمنفعته الخاصّة كما يهتمّ بالمحافظة على المصلحة العامّة، وتنفيذ الأنظمة إلى درجة جعلتني أصفه بالظّاهريّة في المنهاج الإداري وبالمركزيّة والرّوتينيّة، وكان الله يعوّضه عما ترك من حقّه؛ أذكر من طرائفه أنّه نشر جريدة على الأرض يأكل عليها أثناء دراسته في أمريكا فوقع بصره على ترقيته دون أن يطلبها (في زمن لا تحدث فيه التّرقيات إلا بطلبها إلى درجة أني مكثت في آخر مرتبة حصلت عليها مدّة اثنتين وعشرين سنة؛ لأني لم أسع إلى التّرقية بفضل الله (ولا الانتداب ولا المكافآت) منذ عملت للدعوة مع أن القائمين على العمل يقدرونني فوق قدري رفع الله قدرهم بطاعته وخدمة دينه.(1/55)
وعملت تحت إمرة الشيخ صالح بن الشيخ سنتين أو تزيد، ولكني كنت أضيق بالعمل الإداريّ الرّوتيني - مِنْ قَبْل ومِنْ بَعْد - فطلبت تحويل مسئوليته إلى مأمور الصّرف وأن أتفرّغ للبحث والإشراف العلمي، فتفضّل الشيخ بالموافقة كما تعوّدت منه، ولما شارفتُ السّبعين سنة وهي الحدّ الأقصى لأعمار أكثر هذه الأمّة طلبت من الشيخ صالح أن يتولّى أحد طلبة العلم من غير الحزبيّين القيام بعملي وهو الشيخ وليد بن سليمان الفنيخ، وهو مِنْ خير من عَرَفْتُ علمًا ومنهاجًا وبُعْدًا عن التّعصّب والتّحزّب وهما أكثر ما أحذر أن يتّصف بهما خَلَفِي، ولما تأخّر التّنفيذ شهورًا لتأخّر انتقاله من التّعليم العصري إلى الدّعوة استجبت لطلب الشيخ رياض الحقيل ترشيحه للعمل إذ توفّر فيه أهمّ شرط وهو عدم التحزّب (في آخر أمْرِه) فوافق الشيخ صالح على ذلك (جزاه الله خير الجزاء) وعلى أكثر من ذلك إذ أبقى لي ما يعينني على أداء عملي التّطوعي في المنطقة، ولا زلنا متعاونين على البرّ والتقوى والنّصيحة للدعوة على بصيرة، ولا زلت حريصًا على الاستفادة من المظلة الرّسميّة في متابعة شئون الدّعوة التّطوعيّة في بلاد الشام عامّة وفي مصر والسّودان، وفي كل مكان أجد فيه لجهدي الضعيف متّسع، ولا زال الشيخ صالح - رغم أعبائه الإدارية - حريصًا على بذل العلم لطلابه دروسًا ومؤلفاتٍ في الاعتقاد والحديث، وكنت في أوّل لقاء به دعوت الله له أن يجعله من الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وقال لي بعد تولّيه العمل: (لا تزال كَلمتُك ترنّ في أذني).
مخالفة الأغلبيّة أقرب إلى الخير منها إلى الشّرّ(1/56)
لم يَسؤْني أن أتبيّن ويتبيّن غيري مخالفتي الأغلبيّة في الرأي والقول والعمل ما دمت موافقًا بل متبعًا للكتاب والسّنّة بفهم سلف الأمة في القرون المفضّلة، فقد قال الله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116]، وقال عن خلقه من الناس وهو أعلم بهم: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243، يوسف: 38، غافر: 61]، {لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود: 17، الرعد: 1، غافر: 59]، {لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187، يوسف 21، 40، 68، النحل: 38، الروم: 6، 30، سبأ: 28، 36، غافر: 57، الجاثية: 26] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24]. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك).
أ - وممّا تقرّبتُ إلى الله بمخالفة الأغلبيّة فيه من أمر الدّين والدّعوة إليه:
1) التّركيز في التّعليم والدّعوة على نشر إفراد الله بالعبادة والحثّ على التّمسّك بالسّنّة والتّحذير من الشرك في العبادة ومن الابتداع في الدّين عامّة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» متفق عليه.(1/57)
وكلّ الجماعات والأحزاب والفِرَق والطّوائف المنخزلة عن جماعة المسلمين بمنهاجها أو شيخها أو شعارها، بل أكثر دعاة العصر يتجنّبون هذا الأمر العظيم الذي قامت عليه جميع الرّسالات قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] ودعا إليه جميعُ الرّسل: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59، 65، 73، 85، هود: 50، 61، 84، المؤمنون: 23] ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم قومه عشر سنين (قبل أن تُفْرض الصّلاة، وبضع عشرة سنة قبل أن يُفرض الصّوم والحج وقبل أن يُؤْذَن للمسلمين بقتال الكفّار وقبل أن يُحَرَّم شرب الخمر ويُفرض الحجاب)؛ فيَنْشَغِلُون ويُشْغِلون النّاس عنه بما دونه جهلاً بأوّليّات الدّين والدّعوة {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30، الزخرف: 37] وضلالاً عن منهاج النّبوّة والرّسالة المعصومة بمناهج البشر القاصرة المبتدعة، وقد يعتذرون عن تقصيرهم ونقصهم، وفي الوقت نفسه ينتقدون الدّاعين إلى منهاج النّبوّة وبه: بأن الزّمن تغيّر، وأنّه لا يوجد اليوم من يعبد الأصنام، وأنّ قضايا اليوم غير قضايا الأمس، وأن التكرار مُمِلّ، وأنّه لا يجوز الانشغال عن قضايا العصر المصيريّة بالكلام عن الحيض والنّفاس أو عن القدريّة والمعتزلة، ونحو ذلك.
وتغيُّر الزّمان والمكان والحال وقضايا العصر بين نوح وبين محمد ومن بينهما من الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لم يغير رسالة الله تعالى إلى خلقه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].(1/58)
وليس للدّين الثابت على الوحي إلا أن يُكَرَّر؛ فهو لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يتجدّد إلا بالعودة به إلى أصله بعد أن يغفل عنه أهله أو يشوّهوه بالابتداع فيه بما لم يأذن به الله، وقد تكرّرت الآيات في السّورة الواحدة، وتكرّرت القصص في سور متتالية ومتفرقة، وتكرّرت خطب النبي صلى الله عليه وسلم دون التفات لتغيّر الزّمان واختلاف الحوادث والطّوارئ، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم النّاس على عبادة الله وحده وترك الشرك في العبادة قبل الهجرة، وبايعهم على ذلك في المدينة وهم خيار الخلق، وكما حذّر النبي صلى الله عليه وسلم النّاس من الشرك في أول بعثته استمرّ يحذّرهم منه حتى آخر أيامه كما تقدّم، وأخبر أنّ عبادة الأوثان ستعود قبل قيام السّاعة، وهي اليوم منتشرة في بلاد المسلمين ما عدا بلاد ودولة التّوحيد والسّنّة باسم المزارات والمشاهد.(1/59)
2) لقد حفظ الله الكاتب من اللحاق بركب الابتداع والتّفرّق باسم الدّين رغم جاذبيته، وإن جرّب التّعاون مع جماعة التبليغ قريبًا من تسع سنوات كما تقدم، بل لقد حاول أحد رفقائه في التّبليغ إغراءه بشراء مزرعة في النُّخَيْل قرب المدينة، وقد قُتل في اليوم الثاني من أيام فتنة جهيمان تجاوز الله عنهم جميعًا، بل حاول أحد قادة الإخوان في عمّان اجتذابه إلى صفّ الإخوان المسلمين، ولكن الهوّة بينهما لا يمكن تجاوزها، وفي فتنة حماة زاره في منزله الشيخ إبراهيم بن غيث مدير عام رئاسة الهيئات (أو لعلّه وكيلها) ومعه د. مصطفى مُسْلم، وهو كردي من كبار قادة الإخوان في السّعوديّة يطلبان منه نقل معونة ماليّة للثّوار في سوريا، فألهمه الله ردّهما خائبين بحجة أنه موظّف للدّولة والسّيادة للدّولة، وحمد الله كثيرًا بعد أن عرف أن منهاج العقيدة في المدارس الدّينيّة للدّولة السّورية خيرٌ منه في مدارس الإخوان، وأنّ القتال كان على السّلطة وليس على الدّين، وعلى هذا حارب الكاتب التفرّق والتّحزّب في الدّين ولو سمّاه أهله تجمعًا، ولو أضيف إليه وصف الإسلامي والإسلاميّة، ولو ظهرت له نتائج طيّبة، ولو كان القصد منه الخير؛ فإن الله قد نهى عنه في آيات كثيرة محكمة، منها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].(1/60)
وصلاح النيّة والقصد لا يكفي عن صلاح العمل، فإن أكثر أهل الفرق الضّالّة من المنتمين للإسلام والسّنّة مثل الخوارج والأشاعرة والمرجئة، بل مَنْ دونهم يَغْلب عليهم - فيما يظهر - حسن القصد والنّيّة، وقال المشركون عبّاد الأوثان (الأوائل والأواخر): {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقالوا: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس: 18]، بل قال الله تعالى عن شرّ خلقه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف: 30].
وقد «يؤيّد الله الدّين بالرّجل الفاجر» كما في الصّحيحين، وأعرف فاجرًا عاصيًا اشتهر عنه ادّعاء النّبوّة أدخل الله بسببه الإسلام مئات الألوف في أمريكا وأصلح الله به حالهم الدّنيويّة، ولم يُؤْمِن مع نوح عليه السّلام {إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] من قومه بعد أن لبث فيهم {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14]، «ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد».
ولا شكّ أن من التزم بمنهاج جماعة أو حزب أو فرقة أو طائفة محدثة غير الجماعة العامّة الواحدة فقد تشيّع لها ولأميرها أو مؤسّسها، وخرج عن جماعة المسلمين وفرّق الدّين (كلّه أو بعضه) وحقّ عليه الوعيد في الآية السّابقة من سورة الأنعام بحسب نصيبه من التّفريق والتّشيّع والابتداع في الدين والدعوة إليه.(1/61)
3) الثبات على منهاج الدّعوة (الذي أرسل الله به جميع رسله كما دلّ عليه الكتاب والسّنّة وعمل به الخلفاء الراشدون المهديون وبقية الصّحابة وآل البيت والتابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة) يقتضي الثبات على وسيلتها في عهد السّابقين: لغة الكتاب والسّنة ليتميّز الحقّ من الباطل والأصل من البديل؛ ليتميّز الوحي والفقه من الفكر، واليقين من الظّنّ، والدّاعي إلى الله على بصيرة من الدّاعي إلى نفسه أو حزبه على ما يختاره هواه من القَصَص والشِّعْر والأمثال والفكاهة والفكر عامّة.
وقد أوحى الشيطان إلى دعاة الهوى أن يضعوا كلمة الفكر والمفكّر الإسلامي مكان كلمة العلم والعالم الشرعي، ويضعوا كلمة المحاضرة والنّدوة واللقاء مكان كلمة حلقة الذّكر والخطبة، ويضعوا كلمة المقام والمشهد والمزار مكان كلمة الوثن والصّنم، ويضعوا كلمة العلمانيّة مكان كلمة الشرك، وكلمة الحاكميّة مكان كلمة العبوديّة، وهذه وأمثالها كثير مكيدة من إبليس وقَبِيْلِه ليسوِّغ لأتباعه خروجَهم عن شرع الله تعالى ومشاقّة الرّسول صلى الله عليه وسلم واتِّباع غير سبيل المؤمنين رضي الله عنهم وأرضاهم.
4) الثّبات على سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صرف خطبة الجمعة إلى تعريف المسلم بالله وتحبيبه إليه، وتذكيره بآلاء الله وأيّامه، وترغيبه في طاعته وثوابه، وترهيبه من معصيته وعقابه وتذكيره الموت وسؤال القبر والبعث والحساب والصّراط والجنة والنّار، وتعليمه أحكام الشّريعة وأهمّها المعتقد ثم العبادة ثم المعاملة، والأمر بالفريضة قبل النّافلة، والنّهي عن الحرام قبل المكروه.(1/62)
والثّبات على السّنّة في صرف خطبة الجمعة عن أخبار الحوادث والطّوارئ؛ لأن خطبة الجمعة عبادة وفريضة من فرائض الدّين، والدعوة لا يليق ولا يصلح ولا يجوز أن يُدْخل فيها إلا اليقين من وحي رب العالمين. وأخبار الحوادث والطّوارئ مبنيّة على الظّنّ وهي مظنّة الخطأ والزّيادة والنّقص، وهذا هو الهدي الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كما تقدّم (ص7 و8 و9) ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها. وأكثر خطباء العصر لا يصلحون قدوةً؛ لأنّهم خالفوا هدي من أرسله الله أسوة حسنة؛ فقد جنحوا إلى التّلاعب بالألفاظ تشدّقًا وتفيهقًا وسجعًا، وإلى نقل أخبار المؤرّخين، والصّحفيّين، والمذيعين، وأساطير الأوّلين والآخرين وأشعارهم، فلم يتركوا مكانًا للدعوة إلى التّوحيد والسّنّة، ولا إلى التّحذير من الشرك والبدعة، ولا لأحكام الشريعة عند الحاجة إليها، ولقد استمعتُ إلى خُطَب الجمعة في شهر رمضان كلّه في أحد المساجد المقدّسة فلم يُذكَر حكمٌ واحد من أحكام الصّوم، وسمعت الخطيب الدكتور فيه مرّة ينشد بيتًا ماجنًا من شعر الجاهليّة: (ألا هُبِّي بصحنك فاصبحينا.(1/63)
ولا تُبْقي خُمُور الأندرينا)، وسمعت دكتورًا خطيبًا في مسجد مقدّس آخر (أطال خطبته وقصر صلاته خلافًا للسّنّة وأكثرهم يُصرّ على ذلك) يتكلّم عن أصابع خفيّة وراء ما يحدث في الأرض، وسألني بعد الصلاة أحد طلاب الدّراسات الشرعية العليا عما يقصده الخطيب فأجَبْتُه: المعنى في بطن الخطيب، وإذا كُنْتَ (طالب العلم الشرعي) لا تفهم ما يقول فكيف بعامّة المصلين وأكثرهم عوامّ؟! وسمعت دكتورًا خطيبًا في مسجد بالأردن من أرض الشام المباركة (لا تُشَدّ له الرّحال) يَصْرِف خطبة الجمعة إلى الفتنة بين الرّعيّة والرّاعي (البترولي ثم غير البترولي)، ولمّا تذمّر المصلّون من التطويل والتكرار استرضاهم بقصّة مفتراة: (تشاجر كويتي مع انكليزي فتفل عليه الكويتي وضربه الإنكليزي، وجاء فلسطيني لنصرة الكويتي، وجاءت الشرطة الكويتيّة تُحقِّق في الأمر فَبَدَأَتْ بمساءلة الفلسطيني عن سبب اعتدائه على الإنكليزي فقال: لأنه اعتدى على أخي الكويتي، ثم سألت الشرطة الإنكليزي فقال: ضربت الكويتي؛ لأنّه تَفَل علي، ولما سألت الشرطة الكويتي لماذا تَفَل على الإنكليزي قال بكل ندم: العفو، ما عَرَفْت أنه إنكليزي أنا ظنّيته فلسطيني، وعلت أصوات المصلّين المفتونين: (هذا الكلام اللي بدّنا ايّاه)، والحقيقة أن هذه الكلمات العامّيّة الأخيرة توجز سبب انحراف أكثر الخطباء اليوم عن الشّرع والسّنّة: (طلب رضا النّاس، أو بلغة الإذاعة: ما يطلبه المستمعون) هدانا الله وإياهم لأقرب من هذا رشدًا أو كفى المسلمين شرّهم.(1/64)
ومن خطباء العصر الحزبيّين من {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] فيجادلون مثلاً بأنّ أخبار الحوادث والطّوارئ من السّياسة (والسّياسة من الدّين) وقد يجهلون أو يتجاهلون أنّ السّياسة الشّرعيّة القائمة على الكتاب والسّنّة وفقه سلف الأمّة غير السّياسة القائمة على المكر والخديعة والكذب والغشّ (ومصدرها الجريدة والإذاعة وبقية وسائل الإعلام الظّنّية في أحسن أحوالها بل والإشاعة)، والثانية هي التي يعرفها النّاس من كلمة السّياسة وهي التي يُلَطِّخ بها المبتدعة من الخطباء الحركيين والحزبيّين والمفكرين الإسلاميّين وَجْه خطبة الجمعة العبادة المفروضة.
5) النصيحة والشكر لأعظم نِعَم الله على عباده (كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) بما أراد الله؛ أولاً: بتدبّره ، ثم بالعمل به، وتبليغه ثانيًا، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
واستجابةً لأمر الله وطاعةً له صرفتُ أكثر وقتي ووقت الإخوة الدّعاة (الذين شرفني الله بخدمتهم) وجهودنا للتّدبّر والعمل والتّبليغ وهو ما يتعلّق بالفريضة، أمّا ما يتعلّق بالنّافلة في هذا الأمر وهو الحفظ والتّجويد فإنه في غير حاجة إلى أن يُصْرَف له مزيد من الوقت والجهد؛ لأن أكثر الدّعاة منشغلون به ومُفْرطون في أدائه إلى حدّ التّفريط فيما هو أهمّ منه وما بيّن الله في محكم كتابه أنّه أنزله من أجله.(1/65)
والانصراف إلى حفظ القرآن وتجويده عن تَدَبُّره ظَهَر أوّل وأكثر ما ظَهَر في الأعاجم؛ لأنّه أيْسَر لهم من محاولة فهمه، وقد يُعْذرون في ذلك لمشقَّة تعلّم اللغة العربيّة على غير العرب؛ فهل يُعذَر العربيُّ في تقليدهم؟ لا شكّ أنّ هذا من كُفْر النّعمة العظمى على العرب، ومن هَجْر القرآن الكريم واتّخاذه ظِهريًّا كما اتّخذ الكافرون ربّهم وراءهم ظهريًّا، ومن مشابهة من يمرقون من الدّين مروق السّهم من الرمّية؛ لأنّهم «قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم» من حديث أبي سعيد في الصّحيحين، ومن الملاحظ أنّ أكثر خوارج العَصْر ظهروا من جمعيّات تحفيظ القرآن بعد أن نشأت في المملكة المباركة على يد أعجميّ منتمٍ إلى الإسلام (أوّل ما نشأتْ) ثم رَكِبَها الحزبيّون والحركيّون لبذر الفتنة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] تجاوز الله عنّا وعنهم جميعًا برحلاتهم وخلواتهم. ولم يكن علماؤنا القدوة منذ القرن الأوّل يفصلون الحفظ أو ينشغلون به عن التّدبّر، بل (لم يكونوا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا معانيهنّ والعمل بهنّ) كما في مسند الإمام أحمد عن بعض التّابعين من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم. ولم يكونوا يأخذون قواعد التّجويد - بعد وَضْعها - بمثل المبالغة التي يأخذها بها المتأخّرون بل لم أعرف من علماء العصر من اهتم بتعلمها غير الشيخ ابن باز رحمه الله، ولم يجد من يأخذها عنه غير مسلم من أصل بخاري، ولم أعرف منهم من عَلَّمَها، ولم آخذها ومَنْ في سنّي إلا عن مسلم من أصل كردي - ونحن أوّل من تعلّمها في شقراء، وقد سئل الشيخ ابن باز - رحمه الله - عن وجوب الالتزام بها، وهل هي من التّرتيل فأجاب: (لا أعلم دليلاً شرعيًّا يدلّ على وجوب الالتزام بأحكام التّجويد، أمّا قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] فهو يدلّ على شرعيّة التّمهّل بالقراءة وعدم العجلة).(1/66)
ودعوى (الإعجاز العلمي في القرآن) قولٌ على الله بغير علم، وتأويلٌ لكلمات الله بالظّنّ، وربط للإسلام الذي جاء من عند الله بالنّظريات الحديثة التي جاءت ممّن لا يؤمن بالله ولا بكتابه ولا برسوله، وكلّ من ولَغَ فيه قاصرون في علم الشريعة وفي فنون النّظريّات الكونيّة، وعلى هذا تجنَّبْتُ الوقوع فيه وحذَّرت منه.
6) الرّجوع في أمور الدّين كلها إلى كتاب الله وسنّة رسوله بِفَهم السّلف الصّالح وتجنُّب تحكيم العاطفة والحميّة والفكر والظّنّ؛ فإن تحكيم هذه تحكيم للهوى، وقد حذّر الله منه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36].
وعلى هذا ردَدْتُ الأمر فيما يسمّى بالجهاد إلى الله والرّسول فوجدت أكثره: لتكون كلمة الفَرْد أو الحزب أو القبيلة أو القوميّة لا كلمة الله هي العليا، وقد كُنْتُ مِنْ أوّل من زار زعماء الأحزاب الأفغانيّة مع أوّل إعانة أهليّة بواسطة إمارة الرّياض - حسب رغبة اللجنة المختارة لحملها - ووجدنا كلّ زعيم يقول بصراحة وإصرار: (نفسي نفسي أو حزبي حزبي) ووجدناهم بين سياسيّ وبين صوفيّ، ولما انفصل سيَّاف عن حزب حكمتيار بحزب سياسي قبله الجميع، ولما انفصل جميل الرحمن عن حزب حكمتيار بسبب عقدي، وأقام دولة الإسلام قام الجميع في وجهه حتى قتل وعلى هذا - أيضًا - لم تُعمني العاطفة الدّينيّة عن معرفة الحقيقة في ظهور الجمهوريّات الإسلاميّة، وأن نشر الاعتقاد الصّحيح والسّنّة ومحاربة الشرك والبدعة ليس من أوليّاتها، بل تخالف شرع الله وسنّة رسله فيه، بل تَبْنِي الأوثان أو تَحْمِيْها.(1/67)
وعلى هذا - أيضًا - لم أغفل عن حقيقة الأمر في قضيّة المسجد البابري وأنّ المنتمين للإسلام هم أوّل من أخطأ في حقّه؛ إذ هجروه خمس عشرة سنة حتى أُخِذَ منهم، وهل يأثم غير المسلمين بأخذه منهم أكثر من إثمهم بهجره؟
ولم أشترك مع أتْباع كلّ ناعق في مقاطعة العلامات التّجاريّة الأمريكيّة ثم البضائع الدّنماركيّة (تقربًا إلى الله) لأنه لا يجوز التّقرب إلى الله إلا بما شرعه.(1/68)
ولم يشرع الله تعالى مؤاخذة الجميع بما فعل سفيهٌ منهم، قال تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ولم يقابل النبي صلى الله عليه وسلم أذى اليهود بالمقاطعة التّجارية، فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير (متفق عليه)، وزارع يهود خيبر بنصف ما يخرج منها (متفق عليه)، ودخل في جوار المطعم بن عدي، واستأجر ابن أريقط دليلاً له في هجرته واستعار أدرع صفوان (والثلاثة مشركون)، بل نزل عن ثوبه كفنًا لعبد الله بن أبيّ، ولما دخل اليهود بيته فقالوا: السّام عليكم قال: «وعليكم» فلما ردّت عائشة عليهم: (وعليكم السّام واللعنة) قال: «مهلاً يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كلّه» رواه البخاري، وفي رواية: «عليكِ بالرفق وإياك والعنف والفحش» فهل من الرّفق حَرْق الأعلام والسّفارات وقتل الأنفس التي حرّم الله قتلها بغير حق (وبيد غير ولاة الأمر)؟ ولو كان هذا عدلاً فلا يجوز مجابهة غير المسلم بقول أو فعل يعود بالسّوء على الإسلام والمسلمين، قال الله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقد عاد ما فعله السّفهاء منّا بالسّوء (وحده) على الإسلام والمسلمين (وحدهم): نُشِر سبّ الرّسول صلى الله عليه وسلم على أهل الأرض جميعًا بعد أن كان محصورًا في صحيفةٍ واحدة ولغة غير شائعة وبقعة واحدة، وثارَ الحِقْدُ في نفوس النّصارى (المعتدى عليهم بخاصّة) على الإسلام وعلى المنتمين إليه، ظنًّا من أولئك أن المنتمين إلى الإسلام يعملون وفق شريعته، هذا والمُقَاطِعُ في الواقع تجارة وعلامات دَفَع المسلمون ثمنها، فالمظلومون هُمْ قَبْل غيرهم.(1/69)
ويعلم كلّ عاقل أنّا عاجزون عن مقاطعة الوثنيّين فضلاً عن أهل الكتاب لو كان وراء المقاطعة ذرّة من شرع أو عقلٍ، وأنّنا عاجزون عن تحمّل مقاطعتهم أو استغنائهم عن بضاعتنا الوحيدة النّفْط.
وليس للجاهلين قدوة في المقاطعة إلا حصار المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشِّعب قبل الهجرة، أو مقاطعة الهندوس الإنكليز في الهند، (وليس للمسلمين مثل صَبْر متصوّفة الهند على شظف العيش، وما هي إلا أيام ثم تخبو العاطفة وتنتهي المقاطعة وتبقى الخسارة) أو مقاطعة الأمم المتحدة جنوب أفريقيا العنصرية أو مقاطعة أمريكا العراق وأكثرها لم يحقّق غايته.
ب - ومما خالفت فيه أكثر النّاس مما هو أقرب إلى المباحات والعادات:
1) القصد في الطّعام والشراب بحيث تكفيني وجبة واحدة في اليوم، وكان ذلك هو المعتاد قبل أن يبدأ تقليد الغرب في الالتزام بالأكل حسب التّوقيت المتعارف عليه للفطور والغداء والعشاء لا حسب الحاجة، قالت عائشة رضي الله عنها: (ما أكل آل محمد أكلتين في يوم إلا وكانت إحداهما من التَّمر)، وقال ابن القيّم عن أهل عصره عند الكلام عن وِصَال من واصَلَ الصّوم: إن الخلاف لفظي؛ لأن النّاس يأكلون مرة واحدة في اليوم، وكان النّاس في القرى يأكلون أكلة مطبوخة واحدة في اليوم بعد العصر أو بعد المغرب، ثم كثرت الأكلات حسب التوقيت التقليدي وكثرت الأمراض الناتجة من الإفراط في الأكل مثل السّكر والكلسترول والسّمنة). ولم أعتد شرب القهوة ولا المشروبات الغازيّة، وتركت شرب الشاي منذ (30 سنة) وتجنّبت كل فضول الطّعام والشراب شكرًا لله على نعمته.(1/70)
2) القصد في استعمال الآلات والأمتعة التي يُلْزمنا بها التّقليد أكثر من الحاجة، فلم أستعمل البيجر ولا الجوال ولا مسجل الهاتف ولا كاشف الأرقام، وكفاني الله بالكتابة على رُكْبَتي عن الآلة الكاتبة والكمبيوتر والمكتب، ولا اشتريت جريدة ولا مجلّة إلا نادرًا وإن كنت مثل أحد الزّملاء في مصر لا يدخّن ولا يَرُدُّ سيجارة قُدِّمتْ له، بل لقد ردَدْت الجرايد والمجلات التي كانت ترسلها إليّ الإدارة المركزية ولو وُصِف أكثرها بالإسلاميّة ولا يُنْسب إلى الإسلام إلا ما صدر عن الوحي والفقه فيه من أهله، لا من الفكر الموصوف زورًا بالإسلامي. ولم أشتر أثاثًا أجنبيًّا، ولا سيارة جديدة تفقد جزءًا كبيرًا من ثمنها بمرور الزّمن ولو لم تُستعمل أبدًا، بل لم أشتر سيارة مراعاة للزّينة أو الموضة بل الحاجة والتّوفير.(1/71)
3) وكان مديرو مكاتب الدّعوة يأتون إلى الاجتماعات في الرئاسة والوزارة وأهمّ ما يبغونه الأثاث والسّيارات والآلات المكتبيّة والمكاتب والسُّلفة المالية، وكان المنظّمون للاجتماعات في الرئاسة يطلبون منّي أن أتكلم باسم الله ثم باسم المديرين، فكنت أحرص على تذكير نفسي وتذكير إخواني بأن يكون همّنا واهتماماتنا أعلى من التّنافس أيّنا أحسن أثاثًا ورئيًا، بل ما يقرّب العمل إلى منهاج النّبوّة، وفي أوّل وآخر اجتماع خاص بالشيخ ابن باز طلب مديرو المكاتب شراء مبنى في مناطق عملهم لسكن مدير المكتب باسم مستودع حتى لا ترفضه المراقبة الماليّة، فوافق الشيخ - رحمه الله - كعادته في الكرم بماله وبالمال العامّ وليس مثل غيره ممن قامت شهرتهم ومحبة الناس إياهم على الكرم بالمال العام وحده)، وبيّنتُ للشيخ أنّ هذا لا يحلّ لأيٍّ منّا؛ لأنه تحايل على النظام الذي أعطى الموظف إضافة على أجره لتوفير السّكن والعلاج، فقال: إذًا تُسْتَأْذن جهة الاختصاص، وغضب الزّملاء ثم انفردوا بالشيخ مرّة أخرى، فحصلوا على ما ليس من حقهم بالإشراف والسؤال. وفي أوّل اجتماع في الوزارة حرصوا على ألا أتكلّم باسمهم، ولمّا رأس الاجتماع الأوّل الوزير د. عبد الله التركي طلب مني الانتقال من مكاني للجلوس بجانبه، فوقعت في حرج بين رغبته تقريبي ورغبة الإخوة إبعادي، ورأيت إرضاء الكثرة هذه المرة فبقيت في مكاني الذي خصصوه لي، ولما رأيت الإجماع على تقديم المهمّ أو غير المهمّ على الأهمّ كالعادة، طلبت أن ينوب عنّي مأمور الصّرف في الاجتماعات التّالية حتى لا أُغْضِب الإخوة أكثر مما فعلت، وقد بلّغت.(1/72)
4) إمساك المال الخاصّ والعام عند عدم الحاجة إلى إنفاقه، وإنفاقه عند الحاجة إليه من غير إسراف ولا مخيلة؛ لأننا مُسْتَخْلَفون فيه ومسئولون عنه؛ فأمسكتُ أجرة المكتب وثمن تأثيثه وتجهيزه، إذ آويتُه في منزلي، ولم يتكلّف تجهيزه أكثر من ثمن آلة تصوير (بلغ عمرها رُبْع قرن) وآلة فاكس آلت إليّ بعد نقل مأمور صرف سابق، وسيّارة أعَدْتُها للوزارة بعد استعمالها ثلاث عشرة سنة ونصف مليون كيلو متر.
وأنفقت ملايين الرّيالات من تبرّعات المحسنين على بناء مئات من المساجد للصّلاة لا للزينة ولا للتّباهي (فلا قبة ولا أقواس البيزنطيّين) ولا مصلّى للنّساء ولا دار ما يسمّى تحفيظ القرآن ولا أكثر من مئذنة صغيرة ترفع عليها مكبّرات الصّوت وتهدي الغريب إلى مكان المسجد)، ومئات الألوف على طباعة الكتب الشّرعيّة الصّغيرة (بلا ألوان ولا تجليد ولا حفظ حقوق) لتعليم الاعتقاد والعبادات والمعاملات، وملايين لشراء الطعام وإسكان العائلات الفقيرة، تقبّل الله نفقة المحسنين.
المبالغة في تنظيم الدّعوة قد تُسِيء أكثر مما تُحسن(1/73)
أثناء عملي في وزارة المعارف لم أكن أتقيّد إلا بالحدّ الأدنى من التّنظيم؛ لإدراكي أنّ التنظيم وسيلة لتحقيق المصلحة العامّة للوطن والمواطن؛ فبَدَأْتُ عملي في الوزارة بلا مكتب لقلّة المكاتب والغُرف، وخَتَمْتُ عملي في الوزارة بلا مكتب لأن المدرسة أحوج منّي إليه، وردًّا على ظاهرة الإسراف (زمن الطّفرة استجابةً لدعوة وزير البترول زكي يماني إلى زيادة الصّرف في مقابل زيادة الدّخل) وقد قال الله عن نفسه {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141، الأعراف: 31]. وكان النّظام يعطي الموظف المبتعث للدّراسة تذكرة له وأخرى لزوجته ولولدين من أولاده، وعندما جاء لأول مرة موظّف متزوّج بأكثر من زوجة لم أر سؤال المستشار القانوني في الوزارة ليسأل المستشار القانوني في وزارة الماليّة لعلّ وعسى، بل منحته (ومَنْ بَعده) الحقّ في اصطحاب زوجته (واحدة أو أربع) لأن النّظام حدّد عدد الأولاد لا الزّوجات، وصارت سنّة. وكنت أقضي أكثر وقتي في المدرسة وإدارة التّعليم دون استئذان ومرّة أو مرّتين كان الثمن اقتطاع جزء من مرتبي؛ لأني سافرت دون استصدار قرار انتداب، ولو كانت الرّقابة جيدة لما بقي لي راتب.(1/74)
وتفادى الدكتور عبد العزيز الخويطر وزير المعارف قبول طلبي التقاعد المبكّر، وأعفاني من قيود النّظام الزّمانيّة والمكانيّة رغم اشتهاره بالحرص على تنفيذ النّظام، وكانت حُجَّته في ذلك أنّه ظنّ - ولعله لم يأثم - أنّ مصلحة بقائي أرجح من مصلحة الالتزام بالقيد الزّمانيّ والمكاني للموظف جزاه الله برضاه. وعندما وصلت مقرّ عملي في بلاد الشام لم أطالِبْ ولم أطالَبْ بالالتزام بهذا القيد - فضلاً من الله ونعمة - وكنت أبدأ العمل من طلوع الشمس إلى غروبها في المنزل أو المسجد أو في جولة على القرى والمدن، وحين تطلب الإدارة المركزيّة صورة للمكتب أجيبها بأن لا مكتب عندي ولا آلة تصوير. ولأنّ المسئولين عن الأمْن يتخوّفون من كثرة الحركة والتّجمّع (لما رأوه من تصرّفات سيئة باسم الدّين) فقد حرصت على دعوتهم للتعرّف على حقيقة الدّعوة على منهاج النّبوّة، وقدّمت لهم نسخة من كل ما نطبع وننشر، ومن كل ما يصلنا من مطبوعات الرئاسة ثم الوزارة، ويؤسفني أن أقول: إنّ كلّ المحاولات في هذا السبيل قد خابت وقَصُرت عن تحقيق غايتها؛ لأنّ المؤسّسات الأمنيّة تعيش على الحذر وتغليب سوء الظّنّ كما يقول أحد الأمنيّين السابقين في انكلترا (الأصل فضلاً عن التقليد).
ولما ألحّ وزير الأوقاف في البلد المضيف على حلّ لقضيّة الدّعاة الذين يموَّلون من دولة أخرى’ اتّفقت معه (بحضور الشيخ ابن باز) على إعارتهم لوزارته بشرط واحد: التزامهم بمنهاج النّبوّة.
ونَجَت الدّعوة بهذا الاتفاق ونجوْتُ من مكابدة التّنظيم الإداري فيما يتعلّق بعدد الدّروس ومكانها وزمانها وبدء إجازة كل داعٍ ونهايتها ... إلخ.(1/75)
وبقي لي التّركيز على نشر الاعتقاد الصّحيح والسّنّة، والتّحذير من الشّرك والبدعة، وتدبّر كلام الله والصّحيح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى العمل به وتبليغه على النّهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتقديم الفرض على النافلة والموبقة والكبيرة على الصّغيرة، وإحياء السّنن المهجورة (وإن كانت نافلة) لأنّها لازمة لتدبّر القرآن مثل الوقوف على رءوس الآيات كما شرعها الله وعمل بها رسوله صلى الله عليه وسلم، والذّكر عند الآية بما تقتضيه (تسبيحًا أو استعاذة أو استغفارًا أو حمدًا أو دعاء، أو غير ذلك من ذكر الله وشكره)، والتّوسعة فيما اتّفق الفقهاء على التّوسعة فيه مثل سنن الهيئات كجلسة الاستراحة والعجن والإقعاء، وحركة الأصبع للدّعاء في التّشهد، وعدم الانشغال بما قامت به الكفاية مثل تحفيظ القرآن وتجويده الذي يجتمع على الاهتمام به السّنّي والشيعيّ والصّوفيّ والقبوري والحزبي والحركي؛ لأن النّفس والشّيطان لا يأبهان بمجرّد الحفظ والتجويد بل يُحِبَّان الانشغال بهما عن فريضة التّدبر والعمل والتّبليغ.
والحقيقة أنّ كثرة الأنظمة (مثل كثرة الموظفين وكثرة المال والمتاع) من أكبر معوّقات الدّعوة إذ تتحول الوسائل إلى غاية بل تتحوّل الغاية إلى وسيلة لتحصيل المال والشرف، ولعل هذا من أهمّ أسباب فساد الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية المعاصرة.
(لغة الدّين والدّعوة إليه)(1/76)
ولا أمَلُّ - أيضًا - ولا يثبّطني الإخفاق المتكرّر عن تكرار التّذكير بحقّ لُغَة القرآن والحديث ولُغَة الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة، على المسلمين عامّة والعرب بخاصّة لما أراه في نَفْسي - قبل غيري - وفي طلاب العلم الشرعي وعلمائه من استبدال لغة الصّحافة والإذاعة والفنون والآداب المنحرفة (التي هي أدنى) باللغة الفصحى لسان قوم محمد صلى الله عليه وسلم التي اختارها الله لحمل رسالته الأخيرة الكاملة إلى الإنس والجنّ (وهي التي هي خير)، كما فعل بنو إسرائيل إذ استبدلوا المنّ والسّلوى بالفوم والعدس والبصل بل أسوأ مما فعل اليهود؛ لأنهم إنّما استبدلوا طيّبات أدنى بطيبات خير منها.(1/77)
وألوم نفسي أكثر من غيري؛ لأني أخذت اللغة العربيّة عن خيار معلمي العربيّة من الجامع الأزهر (قبل أن يُمسخ جامعة) مثل محمد متولي شعراوي ومحمد الطّيّب النّجار، وعبد اللطيف سرحان وهو خير منهما، ولكن الله توفّاه قبل أن يلمع نجمه - رحمه الله-. وعندما أدركت أن العُجْمة العربيّة الإعلاميّة غلَبَتْ عليَّ كما غلبت على غيري من طلاب العلم الشرعي بل كبار علماء الأمّة ودعاتها وخطبائها اليوم؛ حاولت أن أكفّر عن بعض خطئي بدعوة المسئولين في وزارة المعارف وإدارة التّعليم (موجّهي اللّغة العربيّة بخاصّة)، واستنجدت بالله ثم بالشيخ ابن باز - رحمه الله - ثم بوزير الشئون الإسلاميّة (راعي الدّعاة والخطباء)، واتّصلت بعدد من المهتمّين بتجديد اللغة العربيّة بإعادتها إلى أصلها، وإن لم يكن لي سابق معرفة أو صِلَة ببعضهم، وإن لم أعرف منهم مشاركة في همّ الدّعوة، زرت يحيى المعلّمي في مكتبه خلف وزارة الشئون الإسلامية الحالي، وكان يشترك في لجنة أسّسها - فيما علمت منه - لتصحيح لغة الصّحافة العربيّة، ولا أظنّها خَطَتْ خطوة تذكر في سبيل تحقيق هدفها، وكتبت إلى أبي عبد الرحمن بن عقيل وإلى غازي القصيبي وإلى كل من ظننت أنّه قادر أو راغب في علاج مرض الأمّة العربيّة الذي أصابها في صميم لغة دينها ووحي ربّها.
وبدا لي أنّ الخَرْق اتّسع على الرّاقع، فتوقّف أهل اللغة والإصلاح عن مجرّد المحاولة بل مجرّد التّفكير في المحاولة، حتى كليّات اللغة العربية في الجامعات السّعوديّة.(1/78)
وربما كان العلاج الفَرْد الذي أراه لهذا المرض مثبّطًا للمحاولات أو التّفكير فيها؛ لأنه يخالف ما تعوّده طلاب العلم والعلماء منذ قرون: (تحكيم القرآن والحديث الصّحيح في مبنى اللغة ومعناها، لا تحكيم قواعد اللغة فيهما)، فلم أر من الحقّ أن يوصف حرفٌ من القرآن بأنّه زائد أو كلمةٌ أو شرط فيه بأنّه لا مفهوم له أو لغة فيه بأنّها شاذّة - كما في بعض التفاسير - ولئن كان ذلك مقبولاً في الماضي، فإنه بلا شك غير مقبول اليوم، وأكثر طلاب العلم والعلماء يجهلون ما تعنيه هذه المصطلحات مِنْ قَبْل. ولم يكن لي من أمل في الإصلاح - ولا يأس من روح الله ولا من رحمته - إلا بأن يكون القرآن (والحديث تابع له) هو مرجع اللغة العربيّة قاعدةً ورسمًا وأسلوبًا ومعنى، لثباته إذ أنزله الله عز وجل وحيًا على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم {لَا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وقد منّ الله على عباده اليوم فوضعه بين يدي كلّ مسلم ومسلمة إلا من شاء الله.
وقد رأيت أن أوّل وأيسر خطوات التّنفيذ أن تُخصص السّنوات الأولى في التّعليم العام لِتَعَلُّم القرآن لا يزاحمه شيء من الفنون الحديثة حتى يتعوّد لسان المسلم وفؤاده على مصاحبة كتاب ربّه وألْفَته، والنّطق بلسانه العربي المبين والفهم عنه.(1/79)
وأعجبني أن أعلم من الملحق الثقافي السّعودي في المملكة المغربيّة أنّ الملك الحسن الثاني شاركني هذا الرّأي فأصدر مرسومًا ملكيًّا بأن لا يدخل المدرسة الابتدائيّة طفل إلا بعد أن يتعلّم القرآن سنتين في مدرسة القرآن، فلم نختلف إلا في تحديد سنّ الدّراسة فلست أرى من الشرع ولا من العقل أن يخرج الطّفل من أمن البيت ورعاية الأمّ قبل أن يكون أهلاً لذلك، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرُ الطفل بالصّلاة وهو ابن سبع سنين، والصلاة أهمّ وأعظم وأوّل أركان الإسلام العمليّة؛ أما رياض الأطفال فهي تقليد جاهل لفكر ضالّ يهمّه فكّ ارتباط الأمّ بطفلها لتتمكن من الخروج من قرار بيتها الشرعي إلى سوق العمل. وقد زرت المملكة المغربية فوجدت التّنفيذيين أفسدوا القرار الصّالح بتحويل مدرسة القرآن إلى روضة أطفال يتلقّن الطّفل قليلاً من القرآن وكثيرًا من الأناشيد والفنون تزاحم القرآن وتضيّق عليه، ووجدت قليلاً من مدارس القرآن الأولى كالتي تعلّمت فيها قبل خمس وستّين سنة لم تتأثر بالتعليم العصري ولم تؤثر فيها وهي أهلٌ لذلك فهي خيرٌ منه.
وعندما نفّذت تجربتي لإصلاح التّعليم العام حاولت التركيز على تعليم القرآن في الصّفوف الأولى فوجدت أنّ المعلمين أنفسم لا يتلون القرآن حق تلاوته، فأحضرت دروس تعليم القرآن من الإذاعة بالرّياض ليتمكن المعلّم من إقراء طلابه بآلة التّسجيل قراءة أقرب إلى الصّحة من قراءته، وأعفيت طلاب الصّفوف الابتدائيّة من تَعَلُّم قواعد التّجويد إذ لم أجد في الكتاب ولا في السنة ولا في فقه أهل العلم في القرون المفضّلة ما يلزمهم بها كما قال الشيخ ابن باز بعد ذلك ببضع عشرة سنة كما تقدم.(1/80)
وإني لأرجو الله أن يلهم المصلحين أهل اللغة الغيورين عليها (مثل د.عبد الله التركي و د. عبد العزيز الخويطر، بما وهبهم الله من علمٍ وجاهٍ وكلمةٍ مسموعةٍ عند ولاة الأمر) أداء حقّ اللغة العربيّة عليهم والعمل على خدمة دين الله بخدمة لغته التي لا تنفصل عنه، وكنت يومًا أرغب في تمييز الدّين بجعله الدّرس الإلزامي الوحيد (في تجربتي لإصلاح التّعليم الثانوي في العقد الأخير من القرن الرابع عشر) بحجة أن الله لم يلزمنا بغيره، ولكنّي تذكّرت أن الله ألْزَمَنا قدرًا وشرعًا باللغة العربية لنَعْقل ونعمل ونبلّغ شرعه؛ فصارت العربية مع الدين وحدهما ما يُلْزَم به الطالب في مدارس التجربة حتى طُوِّرَتْ، وأُلْغِي هذا التّمييز للدّين واللغة العربيّة، فألغيت التجربة كلها.
الدّعوة والدّعاء شرع من الله لجميع عباده(1/81)
أرسل الله جميع رسله لجميع عباده يدعونهم إلى دين الإسلام ويدعون الله أن يهديهم صراطه المستقيم، وفي هذا القرن بدا لي أنّ أكثر المنتمين إلى الإسلام والسّنّة - يقينًا أو ظنًّا - وصلوا إلى حال كأنما يحتكرون فيها الدّعوة والدّعاء لأنفسهم، ويضنّون بهما على غيرهم مع أنهم وصلوا إلى درجة من وثنية المقامات والمزارات والأضرحة، وما دون ذلك من البدع لا ينافسهم عليها إلا الوثنيّون في جنوب وشرق آسيا، والكنيسة الكاثوليكيّة والشّرقيّة، والوثنيّون في أفريقيا، ومع هذا فإنهم لا يَدْعون لأنفسهم ولا لغيرهم بالهداية، وإنما النّصر (وهي طريقة)، وهم يجتمعون على الدّعاء على حكّامهم وتَرك الدّعاء لهم مخالفةَ للسّنّة التي ينتمون إليها، وحكّامهم منهم ومثل كلّ ولد آدم خطاءون ليسوا من الجنّ ولا من الملائكة، وليس من العدل أن يطلبوا من حكامهم أن يكونوا على نهج عمر بن الخطاب، وأكثر المحكومين على نهج أبي جهل، ولكن منازعة الولاة ولايتهم - بعد وثنيّة الأضرحة والمقامات - هي أوّل وأكثر قواعد الفِتَن التي باض عليها الشيطان وفرّخ، وإذا كانت وثنيّة المزارات بدأت في قوم نوح كما ذكر البخاري في صحيحه وابن جرير في تفسيره، فإنّ فتنة منازعة الأمر أهله بدأت في عهد الخليفة الراشد المهدي عثمان رضي الله عنه وأرضاه رغم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع النّاس على تجنّب ذلك.(1/82)
وعندما زرت دمشق بعد انتهاء فتنة حماة وجدت الشيخ عبد القادر الأرناؤط - رحمه الله - محافظًا على دروسه في المساجد مجتنبًا خطبة الجمعة، وعرفت منه أن السبب خشيته من أن يُفرض عليه الدّعاء لرئيس الجمهوريّة السّوريّة، ولما أخبرت الشيخ ابن باز - رحمه الله - كتب إليه يطلب منه أن يخطب وأن يدعو للرئيس بالتوفيق لما يحبه الله ويرضاه، لعل الله أن يتقبّل دعاءه، وأشهد أني منذ ربع قرن في مختلف بلاد الشام ومصر لم أر رئيسًا ولا ملكًا يفعل ما يفعله مئات الألوف والملايين من التّبرك بأوثان من المقامات والأضرحة ودعاء أصحابها والنذر لهم والطواف بأنصابهم. وزارني في عمّان طالب عربي من أصل إسماعيلي يشكو من أمرين:
1) أن أهله من طائفة الإسماعيليّة (البُهَرة) أخذوها من دعاتها في الهند.(1/83)
2) أن الدّعاة - في بلده - سواء أهل الحديث أو التّبليغ أو الإخوان أو هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يجتنبون دعوتهم أو محاولة إصلاحهم بأيّ طريق، مع أنهم يخالطونهم في المدرسة والنّادي والسّوق. وبعد التّشاور مع الشيخ ابن باز - رحمه الله - (ومعرفة رأيه في جواز مخالطتهم ومؤاكلتهم ومعاشرتهم، بل والصّلاة وراء إمامهم في مساجدهم ما لم يظهر منهم شرك) ذهبت إليهم مع الشيخين إسماعيل بن عتيق ويوسف الملاحي، وزرناهم مع رئيس المحاكم، فأنكروا عبادة غير الله، واعترفوا بالجمع بين الصّلوات الرّباعيّة في آخر وقت الأولى وأوّل وقت الثانية (وهذا جائز ولكنّه مخالف للسنّة)، واعترفوا بأنهم يُتِمُّون صوم رمضان ثلاثين يومًا، ولو أفطر النّاس تأولاً لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} [البقرة: 185]، وأنّهم لا يصلّون الجمعة أخذًا برأي من اشترط المِصْر (ومثلهم بعض علماء السّنّة)، ولا شك أنهم سيقعون في الوثنيّة لو لم يكونوا في الولاية الوحيدة التي تمنع بناء أوثان المزارات والمشاهد في بلاد المسلمين وغيرهم. ولم يكن لنا إلا أن نطالب الدّعاة وعلى رأسهم إمامهم الشيخ عبد العزيز بن باز بأن يتقّوا الله فلا يبخلوا بالدّعوة ولا الدّعاء لهؤلاء وأمثالهم ولا لغيرهم.(1/84)
ويضيِّع الأئمة (في القنوت) والخطباء (في خطب الجمع) دعاءهم للمسلمين بالهداية التي يحتاجون إليها أشدّ الحاجة ليدْفَع ويرفَعَ الله عنهم البلاء والفتن التي جاءتهم بسبب الضلال، فيفترون ويعتدون في الدّعاء لهم بمثل: (اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم) حماسةً، أو اغترارًا بأكاذيب جامِعِي التبرعات لأحزابهم، أو انقيادًا لمبالغات الإعلاميّين الذين يعيشون على المبالغات. وأشهد شهادة حقٍّ - بعد متابعتي أو إقامتي في مناطق الفتن عشرات السّنين أني لم أر حافيًا ولا جائعًا ولا عاريًا، إلا من التّوحيد والسّنّة فلا يجد من يدعوه أو يدعو الله له. بل لقد سمعت خطيبًا يوم الجمعة يكذب - وهو يعلم - على الله بقوله عن العراقيين: (اللهم إنهم عطاش فاسقهم) وعندهم نهران من أكبر وأشهر الأنهار في بلاد العرب والمسلمين، ولكن بعضنا لا ينقاد إلى الشرع ولا العقل. هدى الله الجميع لأقرب من هذا رشدًا.(1/85)