سنن الله في المجتمع
من خلال القرآن
تاليف
محمد الصادق عرجون
عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر سابقًا
وأستاذ بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
هذا الكتاب
? يحاول مساعدة الكثيرين من المسلمين الحائرين للخروج مما هم فيه من واقع غريب عن دينهم وعن تاريخهم ببسط الموضوع أمامهم فى يسر ووضوح .
? استنطق فيه المؤلف القرآن الكرين ليتعرف منه سنن الله فى المجتمعات . ودرس المؤلف من خلال القرآن سنن الله فى الكون عامة ، لأن سنن الله بصفة عامة ، سواء أكانت كونية أم بشرية مرتبطة أشد الإرتباط فى وحدة نظامية يأخذ بعضها بحجز بعض ، وتتماسك فى اتساق حتى تكون نظاماً كونياً متناسقاً أبدع ما يكون التناسق .
? يرى المؤلف أن العلم بالسنن الإلهية هو الذى وضع المجتمع الإسلامى فى مكان الصدارة من الحياة يوم أن كان العلم بأوسع معانيه هو القائد لهذا المجتمع ، فطاف آفاق السماوات والأرض نظاراً باحثاً يستشف الحقائق الكونية من وراء السجف ، يكشفها له القرآن ويهديه لأصولها .
الناشر
سنن الله بصفةٍ عاّمة
? سنن ثايتة
? غيب محجوب
? اتساق عناصر الكون وتوازنها
مقدمة
... الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ، أرسله الله بالهدى ودين الحق على فترة من الرسل رحمة للعالمين ، وأنزل عليه القرآن الحكيم ، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور ، ذلك الكتاب لا ريب فيه ، أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، يهدى للتى هى أقوم ويبشر المؤمنين ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .
... وبعد . . فقد طلب إلىًّ أن أتحدث فى ظل الرابطة الإسلامية الموقرة عن :
... سنن الله فى المجتمع من خلال القرآن(1/1)
... والرابطة الإسلامية فى وجودها اليوم أمل مرموق ، يتطلع إليه المسلمون عامة فى لهفة متعطشة إلى دفعة إسلامية منقذة ، تخرجهم من واقعهم الغريب عن دينهم وعن تاريخهم ، وتعيدهم إلى حقيقة اسلامهم وعزة تاريخهم .
ويشرئب إليه خاصة المسلمين من رواد الإصلاح الإسلامى فى رجاوة رغيبة ، تجمع صفوفهم لعمل إيجابى موحَّد ، ينهض بحمل لواء الاصلاح فى منهج قرآنى عملى ، تتشاطر فيه الأمم الاسلامية فى سائر أوطانها وكافة شعوبها بما يشعر كل أمة وكل شعب ، بل كل فرد فى كل أمة وفى كل شعب بمسؤوليته إزاء هذا الواقع الغريب الذى تعيشه الأمة الإسلامية اليوم أُمماً متفرقة ودولاً متباعدة ، مزقتها السياسة الماكرة إلى شيع متنافرة باعدت بينها وبين وحدة الإيمان التى وثق القرآن الكريم عروتها بين أفرادها وجماعاتها فى ظل الإخاء الإيمانى اذ يقول ( إنما المؤمنين إخوة ) والقرآن لا يقف بهذا الإخاء الإيمانى عند حد العواطف السلبية ولايقيم لهذا العواطف وزناً ، وإنما يذهب القرآن بأمته فى الإخاء الإيمانى إلى وجوب تحمل المسؤولية الإيجابية العلمية التى تجعل من كل أفراد الأمة عضواً يتدفق إليه الشعور بالمسؤولية عن حياة الأمة ووزنها بين الأمم ، تدفقاً يدفعه دفعاً إلى العمل الجاد فى سبيل الحفاظ على كيان المجتمع الإسلامى سليماً من شوائب التحلل والإنهيار ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .(1/2)
... ونحن اذ نستنطق القرآن الكريم لنتعرف منه سنن الله فى المجتمع لا بد لنا نتعرف من خلاله . فى إيجاز مجمل وإجمال موجز سنن الله فى الكون عامة ، لأن سنن الله بصفة عامة ، سواء أكانت كونية أم بشرية مرتبطة أشد الارتباط فى وحدة نظامية يأخذ بعضها بحجز بعض ، وتتماسك فى اتساق حتى تكون نظاماً كونياً متناسقاً أبدع ما يكون التناسق ، يسير العالم فى ظله بسمواته وأراضيه ومن فيهما وما فيهما وما بين ذلك من خلق لا يعلم عدده ولا حقائقه إلا مقدره وخالقه ، محكوماً بتلك السنن الإلهية التى لا تحيد عن خطها المرسوم فى لوح الأزل ، وإنما عقول البشر هى التى قد تنحرف عن مهيع التناسق الكونى إفراطاً أو تفريطاً ، قصوراً عن إدراك وشائج التناسق، أو جموحاً فى ارتياد تلك الوشائج ، فتتوهم وتتخيل ، ثم لا تلبث الحقائق الكونية فى سنن الله أن تردها إلى دائرة الحقيقة الكونية الكبرى : ( ان الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما أحد من بعده ) .(1/3)
للقرآن الحكيم فلسفته الكونية الخاصة ونظرياته الفلسفية فى الحياة التى تقف على مشارف بيناته تترقب العليم ممن اهتدى بهديه ليأخذ بناصيتها فلسفة قرآنية خالصة ، لا شرقية ولا غربية ، هى مع القديم كنفسها مع الحديث ، لأنها فلسفة تقوم على دعائم النظام الإلهى المحكوم بسنن ثابته لا تتغير ، بيد أنها اتخذت فى طبيعتها سمة المرونه التى تتسع بها لأحتضان كل حق عرفه العقل البشرى عن طريق تجاربه قديماً أو كشف عنه بالعلم حديثاً ، وهذا النظام الإلهى هو فلسفة القرآن واحد لا يتبدل ولا يتغير ، لأنه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، وإنما معرفته هى التى قد تشتبه على العقل ، فيعرف منه وينكر ، والعقل ان لم يعتمد على الايمان بالله الواحد القهار – وهذا الايمان هو الدعامة لفلسفة القرآن – قد يطوح به الغرور فى مهامه لا معالم لها ، يهتدى بها السائرون فيها ، ويحسبون السراب ماء ، وركام الفراغ جبالاً ، وظلال الآفاق طرائق لهداية السالكين ، يدورون حول أنفسهم حيارى لا يهتدون إلا إذا فاءوا إلى دوحة الإيمان .(1/4)
... فنظريات القرآن العلمية وفلسفته الكونية ، وسننه فى الحياة عامة ، وفى المجتمع البشرى وتطوراته الفكرية والاجتماعية لا يزال كثير منها وكثيراً جداً غيباً حجبه الجهاد والفتح فى الماضى ، ويحجبه اليوم سحاب الفلسفات الغريبة عن القرآن التى وفدت إلى ساحاته مع الوافدين إلى ظلال الإيمان به ، والطامعين فى نفحاته ، فاكتسبت سرابيل من نسج لغته وبراعة بيانه ، فتوهمها أهل الطموح لتبوء آفاق الدنيا من أولئك الوافدين خلعاً من عطائه ، فتقمصوها شعارات للتعالم بفهم رموزه وإشاراته ، وقالوا للناس فى بيان مغلق يجمجم ولا يكاد يبين : هذه نظريات القرآن العلمية ، وهذه فلسفته الكونية ، وحسبها المؤلهون للعقل البشرى ، الوارثون فى إنحدار مواليدهم لترسبات تراث تلك الفلسفات ومضات من هدى العقل المهتدى بنور الإيمان ، فتعلقوها أسلوباً وتبنوها حقائق وافكاراً جعلوها بزعمهم هى نظريات القرآن وفلسفة الإسلام ، وهى بأسلوبها وحقائقها نبت مهجن استزرع فى أرض الإسلام ، وامتزج فيه لقاح العقل البشرى المنطلق من قيود الإيمان بالله ، بلقاح أفكار تدينيه تتنكر لهدى القرآن وينكرها هدى القرآن ، وبقيت نظريات القرآن الكونية ، وفلسفته الإلهية فى آفاقها على موعد ممن أدخره الله لتنزلاتها ، فلينهض إلى سمائها المقتدرون من غطارفة العلم الإسلامى ليستمطروا غيثها هدى ورحمة وبينات من جلال هذا الكون تفسير الجلال الخلاق العليم .
... والقرآن الحكيم هو النبع الأصيل لامداد الحياة بروافد الفكر المتهدى بنور الوحى الالهى ، فياض بالعلوم والمعارف ، زخار بروائع الحقائق ، يستثيره الباحثون بالبحث والنظر فيعطيهم من خزائن حكمته ما تشاء عقولهم المسلمة من فلسفته .(1/5)
... أخرج الترمذى عن الحارث عبد الله الهمدانى عن على رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ستكون فتن كقطع الليل المظلم ) قلت يا رسول ! وما المخرج منها ؟ قال ( كتاب الله تبارك وتعالى ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، والذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذى لا تزيغ به الهواء ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب فيه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ولا يمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضى عجائبه ، من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا به فقد هدى إلى صراط مستقيم
... وأسند ابن الانبارى فى كتاب ( الرد على من خالف مصحف عثمان ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ان هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، عصمة من تمسك به ، ونجاة من اتبعه ، لا يعوج فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب ، ولا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الرد ) .
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خُماً بين مكة والمدينة فقال ( يا أيها الناس إنى تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله فيه الهدى والنور ، هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على الضلال ) .(1/6)
... وسنن الله تعالى فى المجتمع جانب من جوانب الفكرة القرآنية التى بثها الله فى آيات هذا الكتاب المبين نظاماً اجتماعياً مترابطاً إلى جانب سنن الله العامة فى الكون ، التى تصور فلسفة القرآن فى فهم الحياة كما تصور حكمته فى نعوت الكمال لله تعالى خالق الحياة ، وفلسفة القرآن تجعل من الكون كله حقيقة واحدة طوى فيها خالقها دلائل وجوده ، وبراهين وحدانيته ، وآيات قدرته وعلمه وحكمته ، ووكل إلى العقل البشرى تكليفاً وتشريفاً الكشف عن هذه الدلائل والبراهين بما أودع فيه من قوة إدراكية غائصة ، وبما أمده به من عون فى تهديه إليها ، وهذا المعنى هو خلاصة وعد الله تعالى لهذا العقل بالكشف عن آيات الله تعالى ( سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )(1/7)
... يتحدث القرآن الحكيم عن سنن الله العامة فى الكون على أنها دعامة النظام الكونى المتماسك بوشائح التوازن الإلهى الذى يحكم به هذا النظام ، فهذا الترابط المحكم بين عوالم الكائنات علويها وسفليها ، وهذا التنسيق بين آحادها ومجموعاتها ، وهذه الأوضاع المنسجمة التى تتراءى فى وضع كل كائن فى مكانه من التركيب الكونى ، وهذا الاتساق فى تقدير صلة كل عنصر من عناصر الكون بسائر العناصر . هو الإطار الذى تجمعت فيه الخطوط التى تصور سنن الله الكونية التى يتحقق بها التوازن بين جميع المخلوقات ، وقد بين القرآن ذلك فى عديد من آياته فقال فى سورة الحجر ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينها إلا بالحق ) وقال فى سورة الروم (أولم يتفكروا فى أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) وقال فى سورة الدخان ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق) وتختص آية الدخان هذه بلطيفة قرآنية تؤكد قيام النظام الكونى على السنن الإلهية ، وذلك فى نفى اللعب عن خلق السموات والأرض ، وذلك يعنى نفى الفوضى التى تعتمد المصادفات العمياء ، ولهذا عقبها القرآن بما رجع الآية إلى أختيها آيتى الحجر والروم فى بيان أن خلق السموات والأرض وما بينهما صدر منذ الأزل متلبساً بالحق ، والحق هو الوجود الثابت الذى لا يتغير ولا يتبدل .
... والتوازن بين عناصر الكون ووشائجه هو سنة الله التى دبر بها الكون ، وعليها أدار فلك نظامه الإلهى البديع ، وهذا التوازن هو العدل الذى قامت به السموات والأرض ، وهو الحق الذى خلقت به الحياة .(1/8)
... ومن أبرع ما عبر به البيان القرآنى من سنة الله العامة فى الكون ما لقن الله تعالى كليمه موسى عليه السلام فى جوانب التعنت الفرعونى إذ يقول حاكياً للسؤال والجواب فى أوجز أسلوب إعجازى ( قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ) والتعبير بقوله (أعطى كل شئ خلقه ) بيان لسنته تعالى فى توازن عناصر كل مخلوق ، توازناً جرى على تقدير منسق محكم ، والتعبير بقوله ( ثم هدى ) بيان لسنة الله تعالى فى توازن التمكين الذى أوتيه كل مخلوق فى طرائق عيشه وضوابط حياته فإعطاء الله تعالى كل شئ فى الوجود تقديره الملائم لمكانه من نظام الكون ، وتوجيه الله تعالى لكل مخلوق ، بمقتضى خلقته الخاصة التى فطره الله تعالى عليها لكى يُعْطى ما أريد منه فى الحركة الكونية الدائبة هو سنة التوازن الكونى العام التى يقوم عليها صلاحه وبقاؤه فى نظامه الالهى البديع .
... ومن هذا النبع انساب نمير ما تنزل من آفاق التقديس لجلال الله فى قوله تعالى مبدوءاً بعلم التنزيه وعنوان التقديس ( سبح اسم ربك الأعلى الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى ) فالثناء على الله تعالى بعد الأمر بتقديس اسمه الذى انبثقت منه سننه الكونية فى تدبير ملكه وتربية خلقه ، بأنه قدر خلق كل مخلوق وسواه في أوضاع عناصره تقديراً متوازناً مع سائر عناصر الكون والحياة بيان لسنة الله تعالى فى نظامه الأبدى للكون .
... والثناء على الله سبحانه بأنه قدر خلق كل من خلق وما خلق وسواه فى صورة لا تتكرر وهى فى موضعها من الحياة والكون ، تؤدى مهمتها التى لا تؤديها صورة أخرى فى مخلوقات الله ، بيان لسنة التوازن الابداعى فى خلق الله ، وبيان لارتباط حياة كل مخلوق فى طريقة عيشه بطبيعته وخلقته التى أبدع عليها .(1/9)
... وهذا التوازن الإبداعى الذى يصور سنن الله فى الكون هو فى القرآن الكريم صورة واحدة ، بيد أنها تتألف من خطوط مختلفة الألوان والمقادير ، فهو فى عوالم السموات كنفسه فى عوالم الأرض ، ولكل عالم خطوطه وألوانه ، وفى هذا المجال الفسيح يصرف القرآن الحكيم أياته بين ألوان من الحقائق ، فيعم تارة ، ويخص أخرى ، فإذا تحدث عن خلق السموات والأرض خلقاً متلبساً بالحق – أى محكوماً بسلطان سنن الله – نراه يتحدث عن عوالم الكواكب ونظام سيرها فى فلكها فيقول ( والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون ) فمستقر الشمس فى جريها هو مدى سيرها الذى تنتهى إليه وى تتجاوزه فى حركتها المقدرة لسبحها فى فلكها الخاص بما يحقق التوازن بينها وبين عالمهاوسائر عوالم السموات والأرض وما بينهما فى تقدير العزيز العليم ، وكذلك منازل القمر فى سيره قرباً وبعداً وصغراً فى رأى العين وكبراً ، حتى إذا بلغ آخر منزل منها بداً دقيقاً باهت النور متقوساً كما هو قضية هذا التشبيه اللطيف الذى جاءت به الآية الكريمة ، توازن ثابت محكوم بسلطان السنن الإلهية ، فلا تدرك الشمس فى جريها لمستقرها القمر فى سيره إلى منازله لأن كلاً منهما محكوم بسلطان وضعه الخاص فى نظام الكون العام ، لا يجيد عنه ولا ينحرف حتى يأتى وعد الله ، ولهذا جاءت فاصلة الآية الأولى مقررة لألهية التوازن فى سنن الله اذ تقول مشيرة إلى جرى الشمس لمستقرها ( ذلك تقدير العزيز العليم ) وجاءت فاصلة الآية الثالثة لترد ما خص بعض الكائنات من سنن الله إلى عموم التوازن فى نظام الكون فتقول ( وكل فى فلك يسبحون ) والشمس والقمر فى تعبير القرآن الكريم نموذج لعالم الكواكب فى توازن النظام الكونى . فما ثبت لهما من حظ فى سنن الله يثبت لغيرهما من سائر الكواكب فى مداراتها .(1/10)
... والقرآن الحكيم فى حديثه عن آيات الله الكونية يقرن الأرض بالسماء ، ثم يتحدث عن شئ من عوالم السماء إبرازاً لمافيه من سنن الله وآيات ودلائل قدرته ، كما رأينا فى حديثه عن الشمس والقمر ، فإذا استوى الدليل بهذا العالم العلوى على باهر قدرة الله تعالى انتقل إلى الحديث عن الأرض وألوان الحياة فيها ، وسيد الأرض الذى سخر الله له ما فيها من منافع هو الإنسان ، لأنه صاحب السلطان على كل ما سخر الله له من شئ ، ومن هنا كان لابد من اختصاص هذا الإنسان بنوع من السنن الالهية ، يقيم عليها بناء حياته بدأ وانتهاء .(1/11)
... وأول ذلك خلقه وابداعه فى صورة من التناسق الخلقى لم تكن لغيره من سائر المخلوقات، ولذلك كانت موضعاً لامتنان الله تعالى بها عليه باعتبارها أعظم نعمة أنعم الله بها على نوع الانسان لما أودع فيها من سنن الله تعالى المحققة للتوازن الخلقى بين أعضاء الإنسان وعناصر تركيبه ، فالله تعالى إذ يقول مقسماً ( لقد خلقنا الانسان فى أحسن تقويم ) فإنه سبحانه ينبئ الإنسان عما أودعه فى خلقته من سنن الهية خاصة جعلته أحسن خلق الله تركيباً وتصويراً ، وهذا كما بينه الله فى سورة الانفطار إذ يقول مثنياً على نفسه تبارك وتعالى فى صدر بيان فيض جوده مبيناً منازل هذا الجود ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما شاء ركبك ) فهذه الآيات الثلاث بيان لسنة الله تعالى فى التوازن الذى أقام الله عليه خلق الانسان فى تسويته بين أعضائه تسوية تلائم هيئة كل فرد من أفراده ، فقوله تعالى (فسواك) إشارة إلى سنة الله فى التنسيق الابداعى لخلقه الإنسان ، وقوله ( فعدلك ) إشارة إلى التوازن الذى تحققه سنة الله تعالى فى هذا الخلق ، وإذاً فمناط التسوية لابد أن يكون شيئاً آخر غير مناط العدل أو التعديل ،وإن كان بينهما تلازم يشبه أن يكون اتحاداً وليس به ، ولا نرى أن فى القرآن تكراراً ليس فيه تأسيس لحقيقة جديدة زائدة ، يقول الإمام الرازى فى تفسيره عن مقاتل أنه قال فى بيان معنى الآية : " يريد تبارك وتعالى عدل خلقك فى العينين والأذنين واليدين والرجلين ، فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع " قال الرازى معقباً على قول مقاتل : وتقريره فى علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبى هذه الجثة على التساوى ، حتى إنه لا تفاوت بين نصفيه ،لا فى النظام ولا فى أشكالها ، ولا فى ثُقُبها ، ولا فى الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها .(1/12)
... فالقرآن العظيم يرسم صورة للنظام الكونى فى نماذج من المخلوقات ، يستبين منها أن الكون كله خاضع فى نظام سيره وتركيب عناصره لسنن الله التى خلقه محكوماً بها ، مترابطاً بوشائجها فى وحدة قائمة على اتساق فى وضع وتركيب كل كائن بما يهيئ له القيام باداء ما خلق له من المنافع والمصالح ما دام فى موضعه من نظام الكون العام ، وهذا التماسك والاتساق بين ذرات الكون هو ما نعنيه بالتوازن المحكوم بسنن الله فى هذا الكون العظيم .
... يقول الإمام الرازى : ان مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة ، بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية أو بحسب الكيفية من البعض الآخر لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب ، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بُعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لعظمت السخونة فى هذا العالم ، واحترق كل ما فيه ، ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم ، وكذا القول فى مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها ، فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم .
اخِتصاص الإنسان بنوعٍ من السُّنَن
? سلطان السنن الإلهية على المجتمع .
? نشاة المجتمع الإنسانى .
? العوامل الحافظة للمجتمع .(1/13)
... والعلم بسنن الله تعالى الكونية العامة طريق إلى العلم بسنن الله الخاصة فى المجتمع البشرى ومعرفة تقلبات الحياة به ، ومعرفة تطوره ، ومعرفة عوامل هذا التطور ، ومعرفة مدى سلطان السنن الإلهية على هذا المجتمع ، لأن العلم بهذه السنن عامة وخاصة هو القيم على توجيه الحياة وتصريفها بما وضع الله فى خصائصة من طاقات لتصوير الظواهر الكونية ودوافعها القريبة أو البعيدة ، وهذا العلم بالسنن الإلهية هو الذى وضع المجتمع الإسلامى فى مكان الصدارة من الحياة يوم أن كان العلم بأوسع معانيه هو القائد لهذا المجتمع ، فطاف آفاق السموات والأرض نظاراً باحثاً يستشف الحقائق الكونية من وراء السجف ، يكشفها له القرآن ويهديه إلى أصولها .
... ولقد بلغ القرآن الكريم ذروة البراعة البيانية فى تصوير سنن الله الكونية العامة ، ونحن إنما ذكرنا نماذج وامثلة وشواهد قصدنا بها – تأسياً بأئمتنا – إلى بيان ما بين سنن الله العامة وسننه الخاصة فى أجناس المخلوقات وأنواعها من ترابط متسق العرى ، ولا سبيل إلى الانطلاق فى رياض القرآن للإحاطة والاستيعاب ، وحسبنا هذه اللمحة المصورة فى روعة البيان القرآنى ( ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت ) .
... والقرآن العظيم إذا تحدث عن سنن الله فى المجتمع الانسانى فانه يتحدث عنها كحلقة فى سلسلة النظام الكونى القائم على التناسق بين عناصر الكائنات الوجودية ، تناسقاً تؤدى به عملها الذى تقتضيه طبيعة وجودها فى مكانها من الحياة ، فهو يتحدث عن نشأة هذا المجتمع نشأة استقلالية النوع ، ولكنه مرتبط أشد الارتباط بهذا الأرض يعيش عليها ، لأنه منها بمادته خلق ، وإليها بهذه المادة يعود ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) وبهذا الارتباط يحقق التوازن بين عناصر بنائه بناءً اجتماعياً ، ينبع منه تفكيره، وأخلاقه ، وطرائف عيشه ، ومراحل أطواره الاجتماعية صعوداً وانحداراً فى منازل الوجود المقدر له .(1/14)
... وفى نظرة القرآن العظيم إلى أطوار المجتمع الإنسانى التى مر بها فى مراحل الحياة بين مد وجزر واتساع وانحسار ، يعتمد على طبيعة النماذج بين قوى أفراد المجتمع تمازجاً يجعل من القوى الفردية قوة موحدة العناصر الفعالة فى توجيه المجتمع كله إلى آفاق التقدم الحضارى ، والإفادة من قوى الطبيعة المسخرة لصالحه – بيان لأصول السنن الإلهية فى حياة المجتمع الإنسانى التى يحقق بها التوازن الاجتماعى فى حياته .
... وهذه القوة الموحَّدة لعناصر التوجيه فى المجتمع الانسانى هى سنة الله العليا فى توازن حياة الانسان ، التى تنبثق منها سائر السنن الأخرى الموجهة للأفراد والجماعات والأمم والشعوب .
... والقرآن يتحدث عن سنة الله فى نشأة المجتمع الإنسانى وعوامل تكوينه ، مبيناً أن هذه النشأة لم تكن من قبيل الطفرة المبدعة ، ولكنها نشأة إنسانية مبدأً ونهاية ، مرت فى أطوار مختلفة الخصائص والمقومات ( يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) فهذه دورة كاملة مر فيها الإنسان بأطوار خلقية متعددة ، لئن كانت موجزة النص مجملة التعبير فقد فصلت آياتها في آيات آخر ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءً ) ويتردد هذا المعني في آيات القرآن ترداداً ليس لتكرار التأكيد ولكنه ترداد لتأسيس زيادة في حقيقة التكوين أو التوجيه ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها ) وهذه العلاوة في هذه الآية هي نقطة التحول في اول تطور اجتماعي للإنسان ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .(1/15)
... ومن هنا بدأ الإنسان تطوره الاجتماعي ، ومن هنا بدأ الإنسان يكون مجتمعا إنسانيا فقد أرشده القرآن الي طريقة البناء الاجتماعي لهذا المجتمع ، ووضع له أساس صيانته من التصدع والإنهيار ، فلينطلق من هنا الي طور آخر أوسع وأعمق ( ياأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .
... وهذا هو المجتمع الذي أنشأة الله تعالي ، ووضع له سننه لكي يعيش علي هذه الأرض يعمرها فكريا واجتماعيا ، ويقيم عليها منارات العدل ومنازل الرحمة و التعرف الأخوي ، ليضمن لنفسه البقاء في سلالاته المتتابعة إلى أن يجئ الأجل المقدور .
... وقد صور القرآن الحكيم هذا المجتمع في آياته خلقا وتوازنا بسلطان السنن الألهية وبيانا لعوامل البقاء التي تحفظه من معاول الهدم والانحلال وتصونه من التفتت والانهيار ، وتباعد بينه وبين الفناء المفاجئ المستأصل ، أما الخلق والتوازن فقد أوضحنا سنن القرآن فيهما ، وأما بيان العوامل الحافظه ، الضامنة للبقاء الي أن تجئ كلمة الله ، فنحن نجدها في هذه الآيات الثلاث التي قدمنا الحديث عنها .
... وأول تلك العوامل الحافظة – الاخاء الرحمي الذي قام علي الوحدة النوعية في الدم والتوالد ، وهذه الوحدة ثمرة لوحدة المنبع الأصيل الذي انسابت منه السلالات الإنسانية بصورة موحدة المنشأ لم تختلف منذ آلاف أو ملايين السنين والأحقاب كما يقرر القرآن ذلك في نوع من السنن الألهية الثابتة التي لا تتغير ، يقول الله تعالي مثنيا علي نفسه بما هو أهله ، مبيننا سنته في توالد النوع الإنساني ( الذي أحسن كل شيئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) فجعل نسل الإنسان من سلالة الماء صورة لم تختلف قط في انسان أي إنسان منذ عرف آدم حواء ، وعرف ذكر أنثاه وهذا إعجاز في جانب الاخبار التكويني يتحدي به القرآن العالميين والعالمين .(1/16)
... وهذا العامل الحافظ للمجتمع الإنساني من التفتت والإنحلال قد تكفل بإقامة دعامته أمر جازما وترغيبا محببا قول الله تعالي عقب بيان سنة الله إجمالا في خلق الإنسان ( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) كما تكفل به نهيا زاخرا ووعيدا مرعبا قوله تعالي ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) وثاني العوامل الحافظة للمجتمع من التحلل والانهيار هو المودة الرحيمة والرحمة الودودة، وهذا العامل تكفل به قول الله تعالى ( وجعل منها زوجها ليسكن اليها ) وهذا اجمال فصله بعض التفصيل قوله عز شأنه ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) وزاده تفصيلا وارتباطا وثيق العري قوله تبارك وتعالي ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفده ) فالمودة والرحمة التي يريد الله في سنته لحفظ المجتمع هما مادة لبناء أول مجتمع يقوم عليه صرح المجتمع الانساني الشامخ العريض ، وهما ثمرة الاخاء الرحمي الذي ربط الله بوشائجه الانسانية كلها رباطا أخويا لا تنفصم عراه .(1/17)
... وثالث العوامل الحافظه للمجتمع من الذوبان هو التعارف العام بين فصائل الانسان تعارفا يقرب تباعد التوالد والاستيطان ومؤثرات البيئات الطبيعية والأجتماعية وهذا العامل تكفل به في القرآن النص الذي بدأ الطور الأكبر لتكوين المجتمع الإنساني في اعظم واوسع معانيه في كلمة واحدة ( لتعارفوا ) ولكن هذه الكلمة الواحدة في حقيقتها الإجتماعية موسوعة المجتمع الانساني في حياته الصالحة وهي كتاب السنن الألهية في توازن هذا المجتمع توازنا يقوم على ما أسسته الآيات الأخر من الإخاء الرحمي والمودة الراحمة فتعارف المجتمع الذي جعله القرآن غاية لحياته الصالحة وضمانا لبقائه سليما معافي من الأمراض الإجتماعية يجب أن يعتمد علي عنصري الإخاء الرحمي والمودة الراحمة ، فإذا انحرف المجتمع عنها تخطفته عوامل الانفرادية وتحكمت فيه الأنانية وتفرق وسائل وغايات وأهدافا وأمالا وفكرا وعملا وعندئذ تبدأ فيه الأطوار الانحدارية فيهوي متفتتا مأخوذا بعدل الله وسلطان السنن الإلهية .
عوامل إنحدار المجتمع
? فساد القمة
? الإنغماس في الترف
? الركون الي الظالمين(1/18)
... ويتجلي ذلك في نظرة القرآن الي هذه الأطوار الإنحدارية التي مر بها المجتمع الإنساني بين مد وجزر ، قد يكون أثرها عاما عموما نسبيا أو عموما مطلقا كما في حادث الطوفان ، وقد يكون أثرها جزئيا في جانب من جوانب المجتمع في زمن معين بسبب العوامل الإنحلالية التي جعلها الله في سننه التي تحكم تطورات المجتمع معاول هدم لبناء أي مجتمع من المجتمعات التي قام بناؤها في اصل وجودها علي دعائم اجتماعية سليمة ، ثم انحرف بها قادتها وسائقوها في قافلة الحياة عن سنن الله البنائية وتركوا في سيرهم بها جواد الطريق وسلكوا بنياتها في متعرجات الصخور والأوحال الاجتماعية فارتطموا في هوة الانحلال الخلقي وغاصوا الي مهالك الفناء في عملية طفو وانحسار قد تطول وقد تقصر تبعا لقوة عناصر البناء الأصيلة لهذا المجتمع أو ضعفها وتغلب عوامل التحلل عليها .
... والقرآن الحكيم ينبه الي سنة من سنن الله في تصوير الآخذين بزمام المجتمع والانحراف به الي منحدرات الرذائل الخلقية ، وحمله بالقدوة السيئة علي الانحراف معهم تقليدا – إذا أراد الله أخذهم استئصالا ، أو أخذهم تأديبا – فتقودهم شهواتهم الي مزالق الخبائث كفرا وإلحادا أو إلى مزالق الخبائث الإجتماعية رذائل وانحدارا مع أحط الشهوات فيقول ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) ويقول ( وإذا اردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ) فهاتان الآيتان الكريمتان بينتا أن سنة الله التى تخضع لسلطانها المجتمعات فى مراحل الانحدار والفساد تبين أن هذا الانحدار إلى هاوية الفساد والانهيار يبدأ من تفتت القمة الاجتماعية فى الأمم والشعوب ، وفساد القمة نذير صارخ بافساد المجتمع ، وهذا الافساد اذا وقع لا يخص جانباً أو طائفة ، وانما ينصب عاماً شاملاً مغرقاً .(1/19)
... ... وتزيد الآية الثانية أن الترف عامل من أقوى وأسرع وأخبث عوامل التفتت الاجتماعى وانحلال روابط المجتمعات البشرية ، لأن الانغماس فى مراتع الشهوات واشباع الغرائز المنهومة يميت الشعور بالنخوة ويقتل الاحساس بالعزة والغيرة ، ويجعل الرذائل من مؤلفات الحياة فى هذه المجتمعات المنحدرة إلى هاوية الانهيار بل يجعل الزذائل ميداناً للتنافس الفاجر فلا يهتم احد برفع رأسه انكاراً لها بل يجد المجتمع فى كبرائه المترفين من ينكر على من ينكر هذه الرذائل ، وتصبح الفضائل الخلقية والقيم الروحية غرائب فى نظر هذا المجتمع المنحل المتحلل ، وعندئذ تحق عليهم كلمة الله وتحل بهذا المجتمع عوامل الفناء ، يقول الله تبارك وتعالى ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد فى الارض الا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مااترفوا فيه وكانوا مجرمين 0 وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) وهذه الآية يلوح من اشراقها ان الله تعالى جعل من سنته أن يأخذ بالافساد الاجتماعى واشاعة الفواحش والشرور أسرع مما يأخذ الكفر والاشراك به ، كما أنها تبين أن أهل الخير والصلاح لو قاموا بواجب النهى عن الفساد فى الأرض بصدق واخلاص وشجاعة فى الحق وللحق لنجا المجتمع وسلم من انتقام الله وبطشه ، لان سنته تعالى ألا يهلك الناس هلاك استئصال بكفرهم ماداموا صالحين للحياة المستقيمة ، وجزاء الكفر يقبل التأجيل الى الدار الآخرة ، ولكن جزاء البغى والفجور والفساد فى الأرض معجل فى هذه الحياة موفور فى الآخرة.(1/20)
فالله تعالى جعل من سنته فى المجتمع ألا يترك الظالمين دون عذاب معجل فقال عز شأنه ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد ) وحذر من الركون للظالمين خشية بطش الله بهم فيمس الراكنين اليهم فقال ( ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار ) وقضى على الظالمين بالخسران وعدم الفلاح فقال ( إنه لا يفلح الظالمون ) وقضى سبحانه بأن نقمته وبأسه لايرد عن المجرمين فقال تبارك وتعالى (ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ) وشر أنواع الإجرام الظلم والطغيان وقال جل وعلا فى اهلاك الظالمين ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ) وقال سبحانه ( فكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ) فقد يملى الله للظالم حتى اذا أخذه لم يفلته ( والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملى لهم إن كيدى متين ).
لا يغير الله مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
? الاعتصام بحبل الله
? خطر تفرق القيادات
? انتقام الله من الظالمين(1/21)
... وقد بين القرآن العظيم ان من سنن الله تعالى التى اجرى نظام المجتمع فى ظل سلطانها أنه اذا اعتصم المجتمع أى مجتمع بحبل الايمان ، واستمسك بالتقوى ، واستقام فى منهج حياته على طريق الخير والحق تنزلت عليه بركات الله ورحماته وإتعاماته من السماء ، وتفتحت له الأرض عن خيراتها وكنوزها فقال ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) أما إذا أمالت بهم شهواتهم عن مهيع الايمان والاستقامة فإن الله تعالى يأخذهم بذنوبهم وإفسادهم فى الارض ولهذا اختتمت الآية بهذا الانذار المرعب والإخبار المهلك ( ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ثم اتبع ذلك بلون من التهديد المرعب إرهاباً لمن ينسى بطش الله بالظالمين ، ويتأسى بهؤلاء المفسدين فقال ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون . أو أمن اهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون . أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون ) وهذه المفاجأة التى يهدد الله بها الضلال من عباده قد تأتي والمفسدون والطغاة يعمهون في غيهم سكاري بنشوة الافساد لا يفرغون من البطر بنعمة الله لتذكر أيام انتقامه ( ولقد أرسلنا الي أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتي إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) .(1/22)
... فهذه الأيات الكريمة تقرر أن سنة الله في المجتمع البشري منذ كانت رسالات الله اليه أنه لا يأخذ المنحرفين عن جادة الاستقامة إلا بعد إنذارهم علي أيدي رسله فإذا لم يزدجروا ولم يرعووا ، وعتو عن أمر ربهم غرورا بإمهاله لهم أخذهم بغتة فشد عليهم وطأته ، وأوقع بهم بأسآءه وضراءه ، وأذاقهم الخزي والهوان ، ليتذكروا قهر الله واقتداره علي أخذ الطغاة الظالمين ، ويكونوا علي رجاء الأوبة الي الله متضرعين تائبين ، وهو سبحانه يحرضهم علي التوبة ويفتح لهم ابواب القبول وهم في اشد أزماتهم النفسية ، ولكنهم كانو قساة القلوب غلاظ الأكباد ، لا يتعظون ، وقد استولي عليهم الشيطان وهو عدوهم المنذرين بعدواته لهم ، فزين لهم سوء أعمالهم ، وابلسهم هائمين في أرض الغفلة وتيه النسيان لله وانعامه وبطشه وانتقامه ، فزادهم الله رجسا علي رجسهم وفتح عليهم أبواب الملذات الفاجرة ، ومكنهم منها بأسبابها وظنوا أنهم من أهل الانعام ، لا من اهل الانتقام ، وأخذتهم سكرة الغرور بالدنيا وشهواتها ، وفرحوا بطرا وأشرا بما أوتوا ، ففاجأهم الله بنقمته ، وأخذهم وهم حياري من شدة ما نزل بهم فجأة من هول الانتقام ولا شك أن المغافلة بالانتقام في غمرة الملذات أنكى وأشد نكالا من العذاب المرتقب الذي تهيأت النفوس لنزوله .(1/23)
... ومن سنن الله التي يقررها القرآن العظيم ، والتي يجب أن تسترعي أنظار المسلمين عامة ودعاة الاصلاح فيهم خاصة ما تكرر في آيات هذا الكتاب الحكيم في اسلوب تحاوري بديع بين المستكبرين والمستضعفين بيانا لأن الله تعالي لم يرضى في سننه لأحد من عباده بذل الاستضعاف ومهانة الاستسلام للباطل وأهله ، مهما علوا واستكبروا في الأرض ،لأن الذل والمهانة والاستسلام المستكين خارجة عن سنن الله التي اجري بها الحياة الكريمة ، وأن تكن من سنن الله التي يعاقب بها المغرورين بالباطل والبهتان ، وهذه المحاورات القرآنية وان لم تكن في هذه الحياة الدنيا إبانها ومكانها ولكن قصتها في القرآن وحكايتها في آياته بيان لحاضر واقع في حياة الناس ، يتدافعون المسئولية عنه يوم لا ينفع التملص منه يقول الله تعالي ( ولو تري إذا الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم الي بعض القول يقول الذي استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدي بعد إذا جاءكم بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار اذا تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا )(1/24)
... ويختلف أسلوب هذه المحاورات اختلافا يدفع عنها سمة التكرار ، ويتشاجع في بعضها المستضعفون فيلقون بالمسئولية في وجه المستكبرين ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا) ولكنهم إذا ارتطموا في جهنم جميعا تلاعنوا وتسابوا ( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتي اذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) فالله تعالي لم يرضى في سننه في المجتمع أن يذل ويهين المستضعفون ، ولا أن يطغي ويتجبر المستكبرون لأنه تعالي خلقهم سواسية في طبيعة الانسانية ، فلماذا يطغي ويستكبر المستكبرون ، ويذل ويضعف المستضعفون ( إن الذين توافاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) ومن سنن الله تعالي التي قررها القرآن ليحقق بها التوازن الاجتماعي في المجتمع أن الله تعالى ينتقم من الظالمين بظالمين مثلهم أو أطغي منهم ، فإذا استشري الفساد في أمة من الأمم ، وعجز العامة عن الأخذ علي يدي الخاصة من الطغاة الظالمين سلط الله تعالي علي هؤلاء الظلمة أمثالهم ليؤدب بعضهم بعض ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) .(1/25)
... ومن سنن الله في المجتمع ما قرره القرآن الحكيم في مواضع فيه من أن الله تعالى يأخذ أهل البطر والغرور الذين تطغيهم نعم الله عليهم فيفسدون في الأرض فيدمرهم الله تدميرا يقطع به شأفتهم من الحياة تطهيرا لها من رزائلهم وأنه تعالى لا يؤاخذ الناس إذا انحرفوا عن منهج الخير حتي يعذر اليهم بالإنذار والبلاغ وارسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس علي الله حجة ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) وكذلك لا يؤاخذهم عاما إلا إذا ظلموا وبغوا في الأرض ، يقول الله تبارك وتعالي : ( وكم اهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين . وما كان ربك مهلك القري حتى يبعث في أمها – أي حواضرها وعظائم مدنها – رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القري إلا وأهلها ظالمون ) فإذا انحرفوا بعد دعوة الرسل ، وأفسدوا في الأرض ، وتسلط عليهم الطغاة الظلمة أنزل الله بهم انتقامه عاما وأحل عليهم سخطة جزاء وفاقا لأعمالهم بعد الاعذار اليهم عدلا من الله ورحمه .(1/26)
... ومن سنن الله في المجتمع التي يقررها القرآن الحكيم أن أخذ الله للمفسدين الظالمين لا يفردهم بالعذاب والنكال دون سائر من يحيون معهم ، ويخالطونهم فى عيشهم ، ولكنه إذا أخذ بانتقامه لتفشى الفساد عم المذنب وغير المذنب ، وشمل الظالم والمظلوم ، لا يميز بريئاً من جارم ، يقول الله تعالى ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) وانما يحشرون إلى الله على حسب نياتهم ، وهناك يكون التمييز بين جارمين والبراء ، وعموم هذه الآية مقيد بقوله تعالى ( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ) فالراضى بالشر والفساد شريك لفاعله ، يؤخذ معه بما يؤخذ به من بأس الله ونكاله ، ومقيد بقوله تعالى ( لعن الذين كفروا من بنى اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) فترك التناهى عن المنكر والفساد جعل الساكتين عن إنكار المنكر شركاء لأهل الفساد ، فنزلت عليهم جميعاً لعنة الله وحل بهم سخطه ، واعتبروا كافة عصاة آثمين .(1/27)
... ومن سنن الله تعالى فى المجتمع التى يقررها القرآن أن الله تعالى لا يُحدث للناس حالاً من النعيم أو البؤس إلا اذا أحدثوا لأنفسهم حالاً غيروا به ما كانوا عليه من الخير والهدى ، فعاثوا فى الشر والفساد ، أو ما كانوا عليه من الطغيان والإفساد ، فثابوا إلى الخير ، وأنابوا إلى ربهم تائبين ، والله تعالى أخبر أنه فطر الناس على الخير والهدى ، فقال جل شأنه ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) فإذا غير الناس فطرة الله بسوء تصرفهم ، وانحدروا مع الشيطان إلى مزالق الشر والفساد فى عقائدهم وتفكيرهم وسلوكهم الاجتماعى أنزل الله بهم عقابه ، وأذاقهم عذابه الشديد ليتذكروا ماكانوا عليه من خير وهدى ، علهم يعودون الى إصلاح أحوالهم ، فيرفع الله عنهم بأسه وشدة وطأته ، فإذا عادوا الى الشر والفساد عاد الله عليهم ببطشه وانتقامه ، وهكذا تقتضى سنة الله وعدله أن يجزى الإحسان إحساناً ، والسوء عقاباً وعذاباً ، فإن أحسن الناس كان احسانهم لأنفسهم ، لأنهم يجنون ثماره نعماً ورحمة ، وإن أساؤوا فعواقب إساءتهم راجعة اليهم ، لا يضرون إلا أنفسهم 0 يقول تعالى فى بيان هذه السنة الإجتماعية التى يعامل الله الناس بمقتضاها ( إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءً فلا مرد له ومالهم من دونه من وال) أما الأمانى الكاذبة والضراعات الجوفاء الخالية من مصاحبة العمل الجاد للتخلص من الشرور والآثام فهذه لا يقام لها وزن فى قوانين السنن الالهية التى أقامها الله معالم يهتدى بها الناس فى حياتهم وامور دينهم ودنياهم .(1/28)
... وهذه السنة كما تقررها الآية الكريمة عامة شاملة ، فهى فى جانب الخير والانعام نفسها فى جانب الشر والآثام ، ولباب هدايتها أن الله لا يغير ما بالناس من عافية ونعمة حتى يغيروا ما هم متلبسون به من طاعة وإحسان ، فلا يسلبهم نعمه التى أنعم بها عليهم حتى يحدثوا تغيير مابهم من خير وهداية الى شرور وضلالات ، ولا يغير مايحل بقوم من عذاب ونكال ، وخزلان وإذلال جزاء مارتكبوا من عصيان وآثام حتى يغيروا مابأنفسهم من الشرور ويحدثوا توبة صادقة تنقلهم من حضيض الفساد والفجور الى آفاق الهدى والاصلاح ، فيؤمنوا بعد كفر وجحود ، ويهتدوا بعد ضلالة وكنود ، ويعلموا بعد جهالة ويحسنوا بعد إساءة 0
وقد أكد القرآن الحكيم منهج هذه السنة الاجتماعية ببيان أحد جانبيها تقريرا للواقع الذى وعظ به المنحرفون الذين غيروا مابهم من نعم الله كفراً وتحليلاً ، وتقليداً لأئمة الكفر والضلال ، فأنزل بهم انتقامه ، واخبر أن ذلك سنته وعدله فى الأمم منذ كان المجتمع ، وبين أن الطغاة من أحلاس الشرك يتشاكلون فى عتوهم وسوء خلائقهم ، فعقاب المتأخر منهم كجزاء المتقدم ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب 0 وذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا مابأنفسهم وأن الله سميع عليم ) ومعنى ذلك أن هذا النكال الذى أنزل على الطغاة من معاندى القرآن الكافرين بآياته ودعوته الى الخير والحق متدرج فى قانون سنن الله فى المجتمع ، فعمل هؤلاء كعمل من تقدمهم من الطغاة الذين عاندوا الرسل وبغوا على ربهم من آل فرعون والذين من قبلهم من الطغاة ، فأخذهم الله بذنوبهم عدلاً منه تعالى ، وقد أخذ هؤلاء كما أخذهم ليعتبر من عنده بقية من خير 0(1/29)
... وهناك سنة من سنن الله فى المجتمع يقررها القرآن مرتبطة بتلك السنة الالهية المتقدمة التى تقرر أن الله لا يغير ما بالناس من حال سعادة أو شقاء إلا إذا غيروا ما بأنفسهم 0
... ذلك هو الطريق العملى الذى يرسمه القرآن للمسلمين إذا ارادوا أن يغيرالله مابهم من شقاء وذلة وضعف وجهالة ، وسنة الله تعالى مع المجتمع الاسلامى فى هذا الموقف الذى يتكالب فيه اعداء الاسلام على المسلمين ويتناصرون عليهم مادياً وفكرياً ، أنه تعالى يأمر هذا المجتمع المسلم أن يعود الى وحدته الإيمانية بصورة إيجابية عملية لا تغنى فيها العواطف السلبية ولا الخطب الكلامية ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) وحبل الله هو عهده الذى أخذه على المؤمنين أن يكونوا قوة رائدة قائدة ، لا يكتفون بحماية انفسهم ولكنهم يجب أن يحموا الآخرين ( ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) 0 ولم يكتف القرآن العظيم بالأمر بالإعتصام بحبل الله والنهى عن التفرق ، بل أكد ذلك فى جانب النهى بقوله ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين ) والتنازع المنهى عنه هنا وان كان عاماً فإن رأسه وذروته التى يترتب عليهما الفشل وذهاب الريح والقوة إنما هوتفرق القيادات واختلاف سياسة المجتمع ، فإذا لم تتحقق للمسلمين وحدة ايمانية كاملة يشعر فيها كل شعب مسلم ، وكل امة مسلمة ، وكل جماعة مسلمة ، وكل حاكم مسلم ، وكل محكوم مسلم اينما حل من أرض فى وطن مسلم أو غير مسلم ، بمسؤوليته مسؤولية ايجابية عملية ، تتحقق بالمشاركة العقلية فى حرب اعداء الاسلام المتكالبين عليه ، على اية صورة تبلغها اقصى طاقة المسلم ، بالمال أو النفس او الرأى والتدبير والدعاية الصادقة فلن يتحقق للمسلمين نصر على أعدائهم ، ولن يرفع الله عنهم أثر الهزائم التى اوقعها بهم ليذيقهم بأسه تأديبياً لهم على انحرافهم عن جادة الحق التى جاءهم بها(1/30)
القرآن العظيم 0
... وليس فى ارض الاسلام وأوطانه امة مسلمة او جماعة مسلمة إلا ولها مشاكل معقدة ، تثير عليهم أعدائهم ، يستضعفونهم ويقودونهم الى الفرقة الممزقة لشمل المسلمين ، وحسبنا هنا هذه الاشارة لننقل تفكير رواد الاصلاح الاسلامى من التعميم الى التخصيص لنرى أن حاجة المسلمين الى الوحدة الإيمانية والتناصر الايجابى العلمى ضرورة ملحة لواقع المسلمين عامة فى اقطار الاسلام من اقصى الشرق الى اقصى الغرب ، والذين يتخيلون انهم ليسوا فى الميدان واهمون مغرورون ، وليست هذه الحرب القائمة التى تخرب ديار المسلمين وتعتدى على مقدساتهم إلا مثل يضربه الله تعالى لما هو قائم فى جميع بلاد الاسلام واوطان الأقليات الاسلامية التى تسام سوء العذاب ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
... والسنة الالهية التى يقررها القرآن العظيم فى أخذ المجتمع الاسلامى بها تضيف الى الوحدة الإيمانية اذا تحققت مايجعل تلك الوحدة ذات أثر فعال فى اعادة عزة الاسلام والمسلمين ، ذلك أن هذه الوحدة لا تستطيع أن تؤدى واجبها فى انهاض الأمة الاسلامية وايقاظ ضميرها إلا اذا تحقق لها الاعتصام بالايمان ، ايمانا يعمر قلوب القادة والشعوب على السواء ، ايماناً يدفع الرعاة فى ظل مسؤليتهم العظمى ويدفع الرعية معهم تأسياً بهم إلى الرجوع إلى الله رجوعاًلا يقف عند الحوقلة والاسترجاع ، والترامى بالقاء المسئولية على أكتاف الآخرين ، رجوعاً لا تدفعه الأمانى والتشبث بمظاهر جوفاء لا تغنى عند الله شيئاً .
... وأساس ذلك الرجوع المثمر إلى الاستمساك بشرعة القرآن استمساكاً يحكمه فى سائر أحوال المسلمين ويقيم لهم نهج العزة المادية والفكرية ، ويحقق لهم الاكتفاء الذاتى مادياً وعلمياً بما يكون بينهم من تعاون صادق فى كل مايحتاجون اليه فى حياتهم 0(1/31)
... والشعوب الاسلامية أغنى شعوب العالم بما منحها الله فى أوطانها من خيرات ونعم لو أنها استغلت استغلالاً صالحاً بايد إسلامية لكان فيها الكفاية كل الكفاية لسد حاجات الأمم الاسلامية 0
... فالسنة الالهية فى المجتمع الاسلامى توجب على المسلمين إذا أرادوا الخروج مما هم فيه أن يعودوا الى وحدتهم الايمانية عودة عمل جاد ، يقلب أوضاعهم الغريبة عن إسلامهم الى أوضاع مسلمة فكرياً واجتماعياً ، وتربوياً ، لأن الله تعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) فإذا لم يتحقق رجوع المسلمين إلى الاعتصام باسلامهم ، وهو المراد بنصرهم لله تعالى لن يتحقق نصر الله لهم مهما زينوا أو زيفوا ، هذه سنة الله وعدله ، فالأمانى المغررة لا تدخل فى سنن الله تعالى لأنه يقول ( ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً . ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ) ويقول مندداً بالذين يغفلون عن سنن الله ويطيرون وراء الامانى الكواذب بأجنحة الأوهام ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) .
... والقرآن العظيم يؤكد ارتباط نصر الله المؤمنين على أعدائهم بنصرهم له واستمساكهم بشرائعه التى أنزلها على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم فيقول ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) .(1/32)
... وهذه الآية فيها زيادة اختصاص لقادة المسلمين وبشرى لمن ينهض منهم إلى نصر الله صادقاً مخلصاً بان الله ينصره بقوته وقهره لانه قوى لا يقاوم وعزيز لا يغالب ، ولهذا عقبت نصر الله من ينصره ببيان من هم الذين يستطيعون أن ينصروا الله عملياً بقيامهم بواجب حماية الشرائع الإسلامية واقامة معالمها فقال ( الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) فالتمكين فى الأرض إنما يعنى وضع سلطان الشريعة فى أيديهم ، وإعطائهم وسائل التنفيذ بالقوة القاهرة لما يجب تنفيذه بالقوة كالجهاد واقامة الحدود وزجر المنحرفين ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وإقامة الصلاة وإيتاء للزكاة .
... والاسلام فى عقيدته وعبادته ونظمه الاجتماعية حقيقة واحدة ، مرتبط بعضها ببعض ، لاتقبل التجزئة والتفريق ،فعبادته كلها إذا لم تقم على أساس عقيدة التوحيد الخالص كانت سراباً لا حقيقة له ، ونظمه الاجتماعية فى سياسته واقتصاده وأخلاقه إذ لم يكن أساسها العقيدة والعبادات معاً – وأجلها الصلاة – وهى ركن إخلاص العبادة لله تعالى ، وتتبعها فى الفضل أختها بالزكاة ، وهى ركن التكافل الاجتماعى الذى يجمع كلمة المسلمين على المؤاساة والتعاون الصادق – كانت أشباحاً لا روح فيها وكانت أعمالاً آلية لا تثمر فى القلب أثرها .(1/33)
... وقد جاءت فى القرآن الكريم آيات – يتعلق بها المتمنون على الله الامانى – تربط نصر الله لعباده المؤمنين بمجرد تحقق الايمان كقوله تعالى ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) وقوله عز شأنه ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ) وكل ما كان من هذا القبيل يجب أن يحمل على ارادة الايمان بحوافزه وشرائطه ، لأن مجرد الايمان من غير إعداد نفسى وفكرى بالعمل الصالح والعلم النافع ودون إعداد مادى بالقوة المرهبة للعدو لا يتفق مع سنن الله تعالى فى إنزال نصره على المجاهدين فى سبيله ، فيجب توحيد النصوص فى ظل السنن الالهية أن يُرد المطلق إلى المقيد ، والعام إلى الخاص تحقيقاً للتوازن العملى بين موقف المسلمين وموقف أعدائهم ، غير أن القرآن قد يعنى فى النصوص المطلقة بيان أن الايمان هو الاساس فى تحقيق النصر على أعداء الاسلام .
نصر الله للمؤمنين
? دفع الله الناس بعضهم ببعض
? إرهاب الاعداء واعداد القوة
? فرضية القتال
? الاستمساك بالشريعة شرط(1/34)
... وحديث القرآن عن سنة الله تعالى فى المجتمع الايمانى بربط نصره تعالى للمؤمنين على أعدائهم بنصر المؤمنين لله واعتصامهم بدينه وتمسكهم بأحكامه والعمل بشرائعه ، وإقامة حدوده، مرتبط أوثق ارتباط بسنة من سنن الله العامة فى المجتمع الانسانى كله ، تلك هى سنة الصراع الدائم بين الحق والباطل التى يقررها القرآن الكريم كضرورة فى حياة المجتمع البشرى عامة ، وقد صور القرآن العظيم هذه السنة الكونية الالهية المسيطرة بسلطانها على الحياة فى مشارق الارض ومغاربها ، أبرع وأبلغ تصوير فقال عز شأنه ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ) وقد جاء هذا النص القرآنى العظيم بعد أول نص أذن الله فيه للمؤمنين أن ينتصفوا من أعدائهم ويردوا الاعتداء بكل ما فى طاقتهم من قوة ، وذلك قوله تعالى ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) .(1/35)
... وصور أمر الله المجتمع الايمانى بعد هذا الاذن فى سورة ( بدر ) وهى سورة الأنفال التى نزلت فى قصة تلك الغزوة المباركة ، بالانتصاف من أعداء الله واعداء المجتمع الايمانى ، بعد أن كانوا مأمورين بالصبر على الأذى ممنوعين من رد الاعتداء ، أن يعدوا لاعدائهم أقصى ما تبلغ استطاعتهم المادية والعلمية من قوة وسلاح ، يرهبون به أعداءهم الظاهرين المعلنين لعداوتهم فى حروب مدمرة ، وأعداءهم المستخفين وراء خداع الحياد والصداقات الزائفة ، فقال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) فهذا النص القاطع الصريح لم يبق للمسلمين قاطبة عذراً يتعلل به فى اهمال إعداد القوة الحربية بجميع أسلحتها التى أعدها ويعدها أعداؤهم بل أن النص القرآنى ليطلب إلى المسلمين أن يكون إعدادهم لقوتهم الحربية متفوقاً على أعداد أعدائهم ، لان قوة المجتمع الاسلامى الحربية لا يراد بها الهجوم على أحد ، ولا يراد بها مجرد الدفاع لهجوم واقع من العدو ، وإنما يراد بها – كما هو صريح النص القرآنى إرهاب عدو الله وعدو المسلمين ، وارهاب من خلفهم ممن يهمهم ألا تطفأ نار الحرب ولاتقف رحاها ، لان استمرار اشتغالها يحقق لهم مكاسب مادية ، يعيشون فى دنياهم من أجلها .
... وإرهاب هؤلاء وهؤلاء يقتضى إعداد قوة متفوقة على قوتهما ، لتخيفهم وترهبهم فلا يحدثوا أنفسهم باقتحام أسوار الأمة الاسلامية فى حرب عاتية باغية .(1/36)
... ولم يأذن الله تعالى للمؤمنين بقتال الظالمين والانتصاف منهم ورد اعتدائهم إلا بعد أن أصبح المجتمع الاسلامى متمكناً من الانتصاف ورد الاعتداء ، وقد بين القرآن فى نصه أن هذا الإذن كان لدفع غوائل الظالمين المفسدين الذين يجب على أهل الحق والإصلاح – بمقتضى سنة الله فى الصراع بين الخير والشر – أن يقاتلوهم دفعاً لظلمهم كما هو نص التعليل للاذن بالقتال بأنهم ظلموا ، فالمجتمع المسلم لا يقاتل حباً فى القتال ، ولا بغياً على أحد ، ولكنه يقاتل دفاعاً عن نفسه ورداً لاعتداء أعدائه عليه ، فآية الإذن فى القتال صريحة فى أن المجتمع المسلم مجتمع سلام ومسالمة ، لا يستكين ولا يستسلم ، وهو لا يخاف الحرب ولا يجبن عنها ، لكنه لا يشعل ثقابها ابتداءً ، فإذا أشغلها أعداؤه خاضها منتصراً للدفاع عن كيانه ، فى صراحة لا تعرف اللف والدوران ، ولا تتشدق بالسلام الزائف ، سلام الخطب الطنانة ، والكلمات الإنشائية الرنانة ، فسنة الله مع هذا المجتمع إذا ألجئ إلى الحرب تتمثل فى قول الله تعالى ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد ) وفى قوله عز شأنه ( فإما تثقنهم فى الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) وفى الآية توجيه للمحاربين من جنود الإسلام وقوادهم أن تكون ضرباتهم قوية حاسمة يذهب دويها إلى الآفاق لتبلغ الذين يتسترون وراء الاعداء المباشرين للحرب ، فتملأ قلوبهم رعباً وفزعاً يمنعهم من مناصرة أعداء المسلمين سراً وعلانية .(1/37)
... وقد عقب القرآن العظيم الاذن بالقتال لدفع الظلم ببشرى للمؤمنين الذين يقاتلون انتصافاً لانفسهم ختم بها النص مبيناً أن الله تعالى – وهو القوى القهار – هو الذى سيتولى نصر أوليائه المؤمنين ولو قل عددهم وكثر عديد أعدائهم ، بشرط أن يستجيبوا لسنة الله فى مجتمع الايمان ، فيعدوا للظالمين سلاحاً مثل أو أفضل من سلاحهم ، وأن يواجهوا أعداءهم قوة موحدة القيادة ، فقال تعالى ( وإن الله على نصرهم لقدير ) وذلك بعد أن قدم على آية الإذن بالقتال نصاً صريحاً بانه عز شأنه هو الذى يدافع عن المؤمنين فقال ( الله يدافع عن الذين آمنوا ) وهذا وعد من الله القوى العزيز ، ومن أصدق من الله قيلاً ، وقد صدق الله وعده مع الذين صدقوا فى نصره ، وأعز جنده الذين استجابوا لأمره فحكموا شرائعه فى حياتهم ، ووجهوا عدوهم أمة واحدة ، وقوة واحدة ، وقيادة واحدة بإيمان راسخ ، نصرهم فى بدر ، ونصرهم على الأحزاب فى الخندق ، ونصرهم فى حنين ، ونصرهم فى حروب الردة ، ونصرهم على جحافل فارس حتى اسلمت الفرس كلها ، ونصرهم على حشود الرومان حتى حُرر من نيرهم الشام ومصر ، ونصرهم على وحوش التتار فى عين جالوت ، ونصرهم على الصليبية المتألبة الحاقدة فى حطين ، فى كل هذه الانتصارات التى حفظها التاريخ واضحة المعالم كان عدد المسلمين أقل من عديد عدوهم ، ولكنهم انتصروا لأنهم حققوا سنة الله فى توجيه المجتمع المسلم ، فواجهوا عدوهم موحدة كلمتهم وأهدافهم ، يدافعون عن الحق ، ويقاتلون بالحق ، ويقاومون الفساد والظلم ، ليرفعوا راية العدل وينصرون الله ورسوله ، فنصرهم الله تحقيقاً لسنته تعالى فى تنازع البقاء وصراع الحق والباطل .(1/38)
... ثم بين نص الإذن للمؤمنين بقتال أعدائهم السبب المباشر لورود الإذن بالقتال ، فقال يصف المظلومين الذين اذن لهم فى قتال الظالمين ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) ومعنى ذلك أن أن هؤلاء الظلمة الطغاة تجردوا من طبيعة الانسانية ، فكانوا غلاظ الأكباد ، قساة القلوب ، لا يعرفون الشرف فى حرب ولا فى سلم ، شردوا الآمنين وأخرجوهم من ديارهم ، وعرضوهم لشتى أنواع العذاب وصنوف البلاء ، فكانوا أحرياء أن ينتقم الله منهم بصالحى عباده ، فيسلطهم عليهم ببأسه وقوته ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) .
... وهذا ما جاء فى بيان القرآن الحكيم لسنة الله تعالى فى الصراع بين الحق والباطل ، والتدافع بين أهل الخير والاصلاح وأهل الشر والفساد ، وأنه لولا إذن الله تعالى للمظلومين فى قتال الظالمين ومدافعتهم بالقوة لاستشرى الفساد فى الأرض ، وانتهكت الحرمات وضاعت معالم الخير والهداية بضراوة أهل الظلم والضلال فقال تبارك وتعالى : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ) فتخريب مواضع التعبد لله تعالى فى كل دين سماوى عنوان على أقبح صور الطغيان والافساد فى الأرض ، لأنه هتك لسياج الحرمات المقدسة ، ولا يبلغ الإفساد فى الأرض حد الاعتداء على المقدسات التعبيدية إلا بعد أن يجاوز كل حد فى الشرور والآثام ، فانتهاك حرمات المقدسات الدينية هو فى سنة الله ذروة الفساد والافساد ، وقمة الظغيان المسعور ، ودفع هذا الظلم المجنون بقوة الحرب القاهرة هو أرفع صور الإصلاح والعدل .(1/39)
... وهذا المعنى المحكم الذى بين به القرآن الحكيم سنة الله فى وقوف الحق وأهله أمام الباطل وحزبه هو الذى أكده القرآن فى آية أخرى تتفق تمام الاتفاق مع نص هذه الآية ، بيد أنها أجملت النتيجة المترتبة على ترك المفسدين فى الأرض دون مقاومة تمنعهم من الظلم والطغيان فقال تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ).
... والآيتان متفقتان منهجاً وأسلوباً وسبباً وغاية ، فآية تهديم أماكن العبادة جاءت عقيب إذن الله تعالى للمؤمنين فى قتال الظالمين ، فهى مبينة لشرعة الجهاد الحربى لدفع ظلم الظالمين ، وتأمين الحياة من شرورهم وطغيانهم ، وآية الفساد فى الأرض بشيوع الفتن والفزع والاضطراب والرعب فى حياة الناس جاءت عقيب قصة دفع جالوت وجنوده من نماذج الطغيان والظلم والإفساد فى الأرض بجند طالوت من المؤمنين أهل الخير والاصلاح ، وهذا صريح فى أن سنة الله فى المجتمع أن يدفع الناس بعضهم ببعض فيسلط أهل الإيمان والإصلاح على أهل الالحاد والفجور ليقوم بين الناس ميزان الحق والعدل ، ويأمن أهل الأديان على قداسة متعبداتهم وحرياتهم الدينية ، وهى من أقدس الحريات فى سنن الله تعالى .
إنقاذ المجتمع من الفتنة
? مدافعة الظالمين
? المجاهرة بكلمة الحق
? مسؤولية العلماء
... وقد اتبع القرآن العظيم آية تهديهم المتعبدات ببيان أن نصر الله معقود لواؤه للذين ينصرونه ، وبين المراد بهؤلاء الذين إن نصروا الله نصرهم ونصر مجتمعهم الإيمانى على أيديهم ، بأنهم الذين مكنهم فى الأرض ، وجعل لهم سلطاناً نافذاً ، وامدهم بقوة قاضية ، يدفعون بها عن حوزة الحق والعدل ، ويقاومون قوى الباطل ويردعون الظالمين، أولئك الذين أولادهم الله نعمة التأييد والرعاية، فلن يغلبوا أبدًا ما داموا معتصمين بالحق والعدل وعزة الإيمان، ولن يخدع الناس ربهم بالأمانى، وما يخدعون إلا أنفسهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.(1/40)
وهذه السنة الإلهية العظيمة وإن خصت ولاة أمور المجتمع الإيمانى بعظم الأمر فى مدافعة الظالمين لكنها عامة الإمتنان على المجتمع كله حكامًا ومحكومين ورعاة ورعية، وأممًا وشعوبًا، وأفرادًا وجماعات، وولاة ومولى عليهم، لأن التمكين الممتن به كان للأمة بإعتبارها جماعة أهل الحق الذين ظلموا من الطغاة المتجبرين وهذا الظلم إنما وقع على الأمة بوصفها الشامل لجميع أفرادها، ومنهم الذين وقع عليهم الظلم، لكن مبدأ الوحدة والتكافل الدفاعى يوحد بين جميع الفراد فى وجوب المدافعة للظالمين. روي أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه خطب الناس يومًا فذكر هذه الاية (الذين إن مكناهم فى الأرض) فقال رضى الله عنه: ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبؤكم بمالكم على الوالى من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتى هى أقوم ما استطاع، وإن له عليكم من ذلكم الطاعة التي لا يخالف سرُها علانيتها.
... وإذا كانت سنة الله فى الدفاع عن المجتمع الإيمانى بمقتضى تنازع البقاء والصراع بين الحق والباطل تجعل واجب ذوي السلطان وولاة أمور المسلمين ممن مكنهم الله بسلطانه في أيديهم عظيمًا، ومسئوليتهم خطيرة، فإن هذه السنة نفسها تجعل واجب علماء الأمة أعظم ومسؤليتهم أخطر فإن الحاكمين وولاة الأمر بيدهم قوة التنفيذ لجهاد الظالمين، والعلماء قد جعل الله على ألسنتهم الكلمة، والكلمة بالحق وللحق أقدم وجودًا وأثرًا من السيف، وكلمة الحق هى التى توجه السيف حتى لا يخطئ المرمى، والله تعالى أخذ الميثاق على العلماء أن يبينوا للناس دين الله فى غير رياء ولا مداهنة، قيامًا بحق النصيحة لله ولرسوله ولعامة المؤمنين وأئمتهم، وقيامًا بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين جعلتها آية التمكين فى الأرض دعامة من دعائم نصر الله للمؤمنين.(1/41)
فالعلماء ورواد الإصلاح فى المجتمع المسلم بمكانهم من هذا المجتمع علىنهج السنن الإلهية قد جعل الله فى أعناقهم مسؤليات خطيرة، وتعظم هذه المسؤليات كلما اشتدت بالمجتمع المسلم أزماته وضاقت عليه حلقاتها، ولن يخلى الله علماء الأمة من هذه المسؤليات حتى يعذروا إلى ربهم، وإلى دينهم بعمل جاد قوى، ينهض الأمة بأجمعها إلى صفوف الجهاد.
... وأمتنا المسلمة أمة قادرة على أن تصنع لحياتها وإسلامها أشياء واشياء تبدل ذلها عزًا، وضعفها قوة، واستكانتها شجاعة، واستسلامها رسوخا فى ميدان الحق، بيد أنها فى حاجة إلى التوجيه والقيادة الموحدة شعورًا وعملاً، ولا يستطيع أن يبعث الأمة بعثًا ينفخ فى روحها صوادق العزائم، وصوارم الإرادات الماضية إلا هبة العلماء بكلمة الحق مخلصة لوجه الله تعالى.
... ولنا من تاريخنا القريب والبعيد شواهد علىما منح الله أئمتنا من عزائم تحركت لله فى احلك أزمات المجتمع المسلم، وجمعوا كلمة الأمة، ونفخوا فى قادتها وولاة أمرها روح الغيرة، فتنزل عليهم نصر الله قويًا قاهرًا مدويًا خالدًا مخلدا، وفى موقف الإمام عز الدين بن عبد السلام فى حروب الصليبيين وتألبهم فى حقد متعصب على الإسلام والمسلمين مثل مضروب لما يستطيع أئمة الإسلام أن ينهضوا فى إثارة العزة الإسلامية فى نفوس المسلمين مهما اشتدت بهم الأزمات، إذا صدقوا الله وأخلصوا نياتهم لنصرة دين الله (إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).(1/42)
هذا عرض وجز لسنن الله فى المجتمع من خلال القرآن، أتينا فيه على ما نحسب انه أمهات السنن الإلهية، ولم نستوعب، لأن الاستيعاب فى هذا المقام يستدعى كتابة تفسير للقرآن العظيم، يبرزهذه السنن الإلهية ويضعها فى مقارها من الحياة عامة وحياة المجتمع المسلم خاصة، لأن القرآن العظيم فى جميع آياته وسوره ملئ بالسنن الالهية التى يفسرها العلم الكاشف عن أسرار الكون، وما أودع الله فيه من آيات تدل على جلال الله وعظمته (سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق).
ولقد اختص القرآن العظيم المجتمع المسلم بشئ كثير من هذه السنن التى تحدث عنها حديثًا يصف أمراض هذا المجتمع التى أقعدته عن النهوض، وخلفته وراء قافلة الحياة علمًا وعملاً، ويصف الدواء الناجع الذى ينهض بهذا المجتمع إذ يوفق إلى تعاطيه.(1/43)
وهنا لابد لنا أن نتساءل: ما موقف المسلمين من هذه السنن عامة، ومن سنن المجتمع خاصة؟ والجواب هو ما نرى وما نعلم، وما نحس وما نشعر، وهذا كلام لا يحسن السكوت عليه كما يقول النحويون، ولابد إذًا من تساؤل آخر، وما المخرج؟ والجواب الذى لا جواب غيره، هو – علميًا- ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا رضى الله عنه فى حديث الحارث الهمدانى عند الترمذى: المخرج هو الاعتصام علمًا وعملاً بكتاب الله، وأما الجواب العملى فهو تطبيق ما فصله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث، وما ذكره من نعوت وأوصاف القرآن التى إذا اقامها المسلمون خرجوا من أزماتهم منتصرين، وليس ذلك التطبيق العملى بتأليف الكتب وتنميق الخطب، وإنما يجب أن يكون دراسة تحليلية تصف الداء فى لطف لا يزعج المريض وتضع أمامه الدواء، وذلك فى خطة إيجابية يسجلها العلماء ورواد الاصلاح الاسلامى مكتوبة فى هدوء الحق، ترفع إلى المسؤلين عن التنفيذ فى جميع الأوطان الاسلامية وتذاع فى رفق بين سائر المسلمين ليفهموا داءهم ودواءهم، وعلى العلماء فى صورة جماعية يحققها موسم الحج وهو المؤتمر الاسلامى الذىأمر الله بعقده –أن يتابعوا السعي وراء هذه الخطة ليتعرفوا العقبات التى تقف دون تطبيقها علميًا، والمشاكل التى تعترضها، ليشاركوا فى حلها حلاً لا يهدم بناءً دون أن يقيم علىارضه بناءً يقوم على أسس من القرآن العظيم، ويجب أن يكون الحلول فى مستوى واقع الأمة الاسلامية، فلا تحلق فى سماء الخيال وتنسى أزمات الأمة .
... وليكن هذا اقتراحا أتقدم به إلى الرابطة الموقرة، وإلى القائمين على أمرها لتدرسه وتمضى الخطة إيجابية علمية فى طريقها (ولأن يهدى الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم) )(ولن تجد لسنة اله تبديلاً)
والله ولى التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله.(1/44)