من أعلام المدينة المنورة
سليمان بن يسار
د.خالد أحمد الشنتوت
باحث متعاون في مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
تمهيد
أسس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجتمع المسلم في المدينة المنورة، فصارت طيبة عاصمة المسلمين السياسية والثقافية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجيب الصحابة رضوان الله عليهم على أسئلتهم عن شؤون دينهم ودنياهم، ويعلمهم أحكام الإسلام، واستمرت المدينة المنورة خلال الخلافة الراشدة، على منهاج النبوة، اقتفى الخلفاء الراشدون سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت اهتماماتهم تشمل جوانب الحياة كلها، فكان عهد هم امتداداً لعهد الرسالة، غير أن الوحي انقطع بانتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى.
ثم انتقل الثقل السياسي إلى عاصمة الخلافة الأموية في دمشق، ثم العباسية في بغداد، وبقيت الحركة الثقافية في المدينة المنورة، يمثلها مجموعات من العلماء ظهروا في عصر الخلفاء الراشدين، وفي عصر التابعين، واستمرت المدينة المنورة عاصمة علمية وثقافية للمسلمين .(1/1)
وفي عصر التابعين الذي قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)(1). ظهرت مجموعة من العلماء حملت إرث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تلقوه من الصحابة الكرام، ونشروه بين المسلمين، من هؤلاء التابعين الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقهاء السبعة(2) الذين عاشوا في المدينة المنورة، وكانوا من أعلامها. ومن أشهرهم: سليمان بن يسار، الفقيه الإمام عالم المدينة ومفتيها، أخذ عن الصحابة رضوان الله عليهم؛ العلم والخلق، والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، عاش حياته كلها للعبادة، وطلب العلم، حتى صار فقيه الفقهاء.
__________
(1) صحيح البخاري رقم (2458) باب لايشهد على جور إذا أشهد، وباب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
(2) الفقهاء السبعة في المدينة المنورة هم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار. يرحمهم الله تعالى... انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد، ج2، ص 383).(1/2)
أبو أيوب، ويقال أبو عبد الرحمن، أو أبو عبدالله، أو أبو تراب، سليمان بن يسار، مولى ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل كان مكاتباً لها(1)، أحد الفقهاء السبعة، ولد في خلافة عثمان - رضي الله عنه - وقيل في آخرها في سنة (34)هـ، وكان أبوه يسار فارسياً. ولسليمان ثلاثة أخوة علماء وهم: عطاء بن يسار(2)، وعبدالله بن يسار(3)، وعبد الملك بن يسار(4).
ولي سليمان بن يسار سوق المدينة لعمر بن عبد العزيز (محتسب يراقب التزام الباعة بالبيع الحلال)، وعمر يومئذ والي المدينة للخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان.
سليمان بن يسار أحد الفقهاء السبعة ؛ الذين وثق بعلمهم أهل المدينة النبوية، وبالإضافة لزهده في الدنيا، وورعه، كان عالماً ثقة يسأله المسلمون، ويأخذون منه أحكام دينهم.
__________
(1) روي عن سليمان بن يسار أنه قال: استأذنتُ على عائشة - رضي الله عنه - فعرفت صوتي فقالت: أسليمان ؟ قلت: سليمان، قالت: أديت ما قاضيت عليه ؟ أو قاطعت عليه ؟ قلت: بلى لم يبق إلا يسير. قالت: ادخل فإنك مملوك مابقي عليك شيء. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/174).
(2) عطاء بن يسار، مولى ميمونة، أم المؤمنين، سمع من أبي بن كعب، وعبدالله بن مسعود، وخوات بن جبير، وأبي أيوب الأنصاري، وأبي واقد الليثي، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن عمر، وعائشة، وغيرهم، وكان ثقة كثير الحديث. توفي سنة (103) أو(94) وعمره (84) سنة. انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (5 /173).
(3) عبد الله بن يسار: مولى ميمونة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد روي عنه، وكان قليل الحديث (الطبقات الكبرى 175).
(4) عبد الملك بن يسار: مات سنة عشر ومائة، وقد روي عنه، كانوا أربعة أخوة روي عنهم كلهم، وكان قليل الحديث.(1/3)
قال الحسن بن محمد(1): سليمان بن يسار عندنا أفهم من سعيد بن المسيب (2)، ولم يقل أعلم ولا أفقه، وقال الزهري: كان (سليمان) من العلماء، وقال أبو الزناد(3): كان ممن أدركت من فقهاء المدينة وعلمائها ممن يرضى وينتهى إلى قولهم: سعيد بن المسيب، وعروة، والقاسم(4)، وأبو بكر بن عبد الرحمن(5)، وخارجة بن زيد(6)،
__________
(1) الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب، أبو محمد المدني وأبوه بن الحنفية ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة مائة أو قبلها بسنة. انظر: تقريب التهذيب (1/ 210).
(2) أبو محمد، سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أحد الفقهاء السبعة، ومن كبار التابعين، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وتوفي عام (94) هـ. نشأ وتربى في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاصمة الخلفاء الراشدين السياسية، وعايش عدداً كبيراً من الصحابة رضوان الله عليهم. كان يفتي والصحابة أحياء.
(3) أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيهاً من السابعة ولي خراج المدينة، مات سنة (74) وعمره (74) سنة (انظر: تقريب التهذيب (1/569)).
(4) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، أحدالفقهاء السبعة في المدينة، مات (106)هـ.
(5) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي اسمه وكنيته واحد روى عن أبي مسعود البدري وأبى هريرة وعائشة وأم سلمة وأسماء بنت عميس، وروى عن أبيه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، روى عنه الزهري. انظر: الجرح والتعديل (9 /336).
(6) خارجة بن زيد بن أبى زهير بن مالك صهر أبى بكر الصديق. روى عن أبيه وعن عمه يزيد بن ثابت وعن أم العلاء روى عنه الزهري ويزيد بن عبد الله بن قسيط وعثمان بن حكيم. انظر:الجرح والتعديل (3 / 373)..(1/4)
وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة(1)، وسليمان بن يسار، في مشيخة أجلة سواهم من نظرائهم أهل فقه وصلاح وفضل.
عن الواقدي عن عبدالله بن يزيد الهذلي: سمعت سليمان بن يسار يقول: سعيد بن المسيب بقيةالناس. وسمعت السائل يأتي سعيدبن المسيب فيقول: اذهب إلى سليمان بن يسار؛ فإنه أعلم من بقي اليوم (2).
وقال مالك: كان سليمان بن يسار من علماء الناس بعد سعيد بن المسيب، وكان كثيراً مايوافق سعيداً، وكان سعيد لايُجترأ عليه (3). وقال قتادة: قدمت المدينة فسألت من أعلم أهلها بالطلاق ؟ فقالوا: سليمان بن يسار (4). قال ابن سعد في وصفه: وكان ثقة عالياً رفيعاً فقيهاً كثير الحديث(5).
__________
(1) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلى الأعمى أبو عبد الله سمع ابن عباس وعائشة، قال عنه أبو زرعة: مديني ثقة مأمون إمام. انظر: الجرح والتعديل (319).
(2) سير أعلام النبلاء (4/446).
(3) سير أعلام النبلاء (4/446).
(4) وفيات الأعيان (2/399). وطبقات ابن سعد (5/174).
(5) الطبقات الكبرى (5/ 174).(1/5)
روى عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأم سلمة، وزيد بن ثابت(1)، وأبي واقد الليثي(2)، وابن عمر، وعبيدالله بن العباس، وعائشة، وميمونة، وعروة بن الزبير، وجابر بن عبدالله(3)، ورافع بن خديج(4)، وأبي رافع(5) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحمزة بن عمرو الأسلمي(6)،
__________
(1) زيد بن ثابت بن الضحاك بن لوذان الأنصاري النجاري، صحابي مشهور رضي الله عنه، من كتبة الوحي، أبو سعيد وأبو خارجة، مات (45 أو 48) هـ.
(2) قيل الحارث بن مالك بن أسيد... قيل شهد بدراً، وكان قديم الاسلام، ويعد في أهل المدينة، توفي في مكة عام (68) هـ.
(3) جابر بن عبد الله بن رياب الأنصاري السلمي. شهد بدراً والمشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أول من أسلم من الأنصار قبل العقبة الأولى. (الإستيعاب في معرفة الأصحاب (1 / 65).
(4) رافع بن خديج بن رافع بن عدي الخزرجي، يكنى أبا عبد الله، شهد أحداً والخندق وأكثر المشاهد وأصابه يوم أحد سهم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أشهد لك يوم القيامة "، وانتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان، فمات سنة (74) وهو بالمدينة. (الاستيعاب في معرفة ألأصحاب (1/65).
(5) أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غلبت عليه كنيته، قيل اسمه أسلم، وهو قبطي، وهبه العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وزوجه مولاته سلمى، شهد أحداً ومابعدها، روى عنه ابناه عبيد الله والحسن، وعطاء بن يسار، مات قبل عثمان، أو في خلافة علي. (انظر: أسد الغابة 1/48).
(6) حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي، أبو صالح أو أبو محمد المدني، رضي الله عنه، صحابي جليل، مات (61) هـ / وعمره (71 أو 80) سنة..(1/6)
والمقداد بن الأسود(1)، رضي الله عنهم أجمعين(2).
روى عنه: الزهري(3) وأخوه عطاء بن يسار، وبكير بن الأشج(4)، وعمرو بن دينار(5)، وعمرو بن ميمون بن مهران(6)، وسالم أبو النضر(7).
__________
(1) المقداد بن الأسود : نسب إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري، لأنه تبناه في الجاهلية، وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ثمامة، قديم الإسلام وشهد بدراً والمشاهد كلها. وشهد فتح مصر ومات في الجرف فحمل الى المدينة ودفن فيها، سنة (33)، وروى عنه بعض كبار التابعين. انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1 / 466).
(2) سير أعلام النبلاء (4/445).
(3) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي الزهري أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين ومائة وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين. انظر: تقريب التهذيب (2 / 133).
(4) بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله أو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة من الخامسة مات سنة عشرين وقيل بعدها تقريب التهذيب (1 / 137).
(5) عمرو بن دينار المكي أبو محمد الأثرم الجمحي مولاهم ثقة ثبت من الرابعة مات سنة ست وعشرين ومائة تقريب التهذيب (1/ 734).
(6) عمرو بن ميمون بن مهران الجزري أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن سبط سعيد بن جبير ثقة فاضل من السادسة مات سنة سبع وأربعين وقيل غير ذلك (انظر: تقريب التهذيب (1 /747)).
(7) سالم أبو النضر هو بن أبي أمية سالم بن عمرو بن وابصة بن أبي الجعد أو ابن أبي المهاجر أو ابن عجلان (انظر: تقريب التهذيب (1 / 337)).(1/7)
وربيعة الرأي(1)، وأبو الأسود يتيم عروة(2)، ويعلى بن حكيم(3)، ويعقوب بن عتبة (4)، وأبو الزناد(5)، وصالح بن كيسان(6)، ومحمد بن عمرو بن عطاء(7)، ومحمد بن يوسف الكندي(8)،
__________
(1) ربيعة الرأي واسم أبيه فروخ ثقة فقيه مشهور قال ابن سعد كانوا يتقونه لموضع الرأي، من الخامسة مات سنة ست وثلاثين على الصحيح انظر: تقريب التهذيب - (1 / 297).
(2) أبو الأسود يتيم عروة هو محمد بن عبد الرحمن النوفلي(انظر: تقريب التهذيب (2 / 357)).
(3) يعلى بن حكيم الثقفي مولاهم المكي نزيل البصرة ثقة من السادسة تقريب التهذيب (2/340).
(4) يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفى ثقة من السادسة مات سنة ثمان وعشرين ومائة. انظر: تقريب التهذيب - (2 / 338).
(5) أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني مولى قريش صدوق تغير حفظه لما قدم بغداد وكان فقيهاً من السابعة ولي خراج المدينة، مات سنة (74) وله (74) سنة (انظر: تقريب التهذيب (1 / 569)).
(6) صالح بن كيسان: الإمام الحافظ الثقة، أبو محمد، ويقال: أبو الحارث المدني، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، رأى عبدالله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وكان عالماً ضمه عمر بن عبد العزيز إلى نفسه بالمدينة، فكان يأخذ عنه، ثم بعث إليه الوليد بن عبدالملك، فضمه إلى ابنه عبد العزيز بن الوليد. وكان صالح جامعاً من الحديث والفقه والمروءة. (انظر: سير أعلام النبلاء (5 / 454)).
(7) محمد بن عمرو بن عطاء القرشي العامري المدني ثقة من الثالثة مات في حدود العشرين ومائة، انظر: تقريب التهذيب (2 / 119).
(8) محمد بن يوسف الكندي: توفي سنة اثنتين وتسعين ومئة، فيما أخبرني ابن قديد، عن ابن عثمان، عن ابن بكير، وكان من أفضل أهل مصر. روى له أبو داود، والنسائي. انظر: تهذيب الكمال (17 / 251)..(1/8)
ويحيى بن سعيد الأنصاري(1).
ويونس بن يوسف(2)، وعبد الله بن الفضل الهاشمي(3)، وعمرو بن شعيب(4)، ومحمد بن أبي حرملة(5)، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر(6)، وخيثم بن عراك (7).
__________
(1) يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني أبو سعيد القاضي ثقة ثبت من الخامسة مات سنة أربع وأربعين أو بعدها. انظر: تقريب التهذيب (2 /303).
(2) يونس بن يوسف بن حماس، ثقة عابد من السادسة وقال بن حبان هو يوسف بن يونس َوهِمَ من قلبه والله أعلم انظر: تقريب التهذيب (2 / 351).
(3) عبد الله بن الفضل الهاشمي: ابن عباس بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي روى عن أنس بن مالك وأبي سلمة بن عبد الرحمن ونافع بن جبير وعبد الرحمن ابن هرمز الأعرج، وروى عنه الزهري وموسى بن عقبة ومالك بن أنس وزياد بن سعد وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وأسامة بن زيد وأبو أويس انظر: الجرح والتعديل (5 / 136).
(4) عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص صدوق من الخامسة مات سنة ثماني عشرة ومائة انظر: تقريب التهذيب (1 / 737).
(5) محمد بن أبي حرملة القرشي المدني مولى ابن حويطب وقد ينسب إليه ثقة من السادسة مات سنة بضع وثلاثين انظر: تقريب التهذيب (2 / 65).
(6) عبد الرحمن بن يزيد بن جابر من متقني الشاميين وصالحي الدمشقيين مات سنة أربع وخمسين ومائة. انظر: مشاهير علماء الأمصار (1 / 286).
(7) خيثم بن عراك بن مالك الغفاري المدني روى أيضاً عن أبيه وعن أبي هريرة وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي سلمة بن عبد الرحمن. انظر: التعديل والتجريح (3 /1171).(1/9)
حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: حدثنا مصعب بن عثمان، قال: كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه فامتنع عليها، فقالت له: ادن، فخرج هارباً من منزله وتركها فيه، قال سليمان بن يسار: فرأيت بعد ذلك فيما يرى النائم يوسف عليه السلام وكأني أقول له: أنت يوسف؟ قال: نعم، أنا الأسود الذي همت به وأنت سليمان الذي لم تهم. لفظ وكيع.(1/10)
وأخبرني جعفر بن محمد بن نصير في كتابه، وحدثني عنه محمد بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو العباس بن مسروق، قال: حدثنا بن حيان بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن بشر الكندي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن جرير بن عبيد بن حبيب ابن يسار الكلابي، حدثني عن أبي حازم، قال: خرج سليمان بن يسار خارجاً من المدينة ومعه رفيق له حتى نزلوا بالأبواء فقام رفيقه فأخذ السفرة وانطلق إلى السوق يبتاع لهم وقعد سليمان في الخيمة، وكان من أجمل الناس وجهاً وأورع الناس، فبصرت به أعرابية من قمة الجبل وهي في خيمتها فلما رأت حسنه وجماله انحدرت وعليها البرقع والقفازان، فجاءت بين يديه فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر، فقالت: أَهبْتَني ؟ فظن أنها تريد طعاماً فقام إلى فضل السفرة ليعطيها، فقالت: لست أريد هذا إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله فقال: جهزك إلي إبليس، ثم وضع رأسه بين كميه فأخذ في النحيب فلم يزل يبكي فلما رأت ذلك سدلت البرقع على وجهها ورجعت إلى خيمتها، فجاء رفيقه وقد ابتاع لهم مايرفقهم، فلما رآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه قال: مايبكيك؟ قال: خير ذكرت صبيتي، قال: لا إن لك قصة، إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها، فلم يزل به رفيقه حتى أخبره بشأن الأعرابية، فوضع السفرة وجعل يبكي بكاءً شديداً، فقال له سليمان: أنت ما يبكيك؟ قال: أنا أحق بالبكاء منك، قال: فلِمَ قال: لأني أخشى لو كنت مكانك لما صبرت عنها، قال: فما زالا يبكيان، قال: فلما انتهى سليمان إلى مكة وطاف وسعى أتى الحجر، واحتبى بثوبه فنعس، فإذا رجل وسيم جميل طوال له شارة حسنة ورائحة طيبة، فقال له سليمان: من أنت رحمك الله ؟ قال: أنا يوسف بن يعقوب، قال: يوسف الصديق ؟ قال: نعم، قلت: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لشأناً عجيباً، فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب (1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/446) .(1/11)
وعن أبي الزناد قال: كان سليمان يصوم الدهر، ويفطر العيدين وأيام التشريق، وذهب جمهور العلماء إلى استحباب صوم الدهر لمن أطاقه، ولم ينه النبي - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عمرو الأسلمي(1) عن متابعة الصيام، وكان أخوه عطاء يصوم يوماً ويفطر يوماً (2).
سليمان بن يسار يرحمه الله أحد الفقهاء السبعة في المدينة المنورة، الذين ورثوا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خلفه لأمته، ونقلوه للمسلمين، وله فهمه الذي يميز فقهه كما سنرى من خلال هذه النماذج:
1-اختلف العلماء في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، فقالت طائفة: لا ربا في الحيوان، وجائز بيع بعضه ببعض نقدًا ونسيئة اختلف أو لم يختلف، هذا مذهب علي بن أبي طالب وابن عمر وابن المسيب، وهو قول الشافعي وأبي ثور، وقال مالك: لا بأس بالبعير النجيب بالبعيرين من حاشية الإبل نسيئة، وإن كانت من نعم واحدة إذا اختلف فبان اختلافها. ... وإن أشبه بعضها بعضاً و اتفقت أجناسها، فلا يؤخذ منها اثنان بواحد إلى أجل، ويؤخذ يداً بيد، وهو قول سليمان بن يسار وربيعة ويحيى بن سعيد(3).
2-اختلف العلماء فيمن باع عبدًا واحتبسه بالثمن (أي أبقاه عنده حتى يستلم ثمنه)، وهلك فى يديه قبل أن يأتي المشتري بالثمن، وكان سعيد بن المسيب وربيعة والليث يقولون: هو من البائع (أي ملك البائع). وأخذ به ابن وهب، ومالك، وقال سليمان بن يسار: مضيته من المشتري (أي ملك المشتري) سواء حبسه البائع وثيقة من الثمن أم لا. ورجع مالك إلى قول سليمان بن يسار(4).
__________
(1) حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي، أبو صالح أو أبو محمد المدني، رضي الله عنه، صحابي جليل، مات (61) هـ وعمره (71 أو 80) سنة.
(2) سير أعلام النبلاء (4/448).
(3) انظر شرح البخاري لابن بطال (11 / 367) .
(4) انظر: شرح البخاري لابن بطال - (ج 11 / ص 272) .(1/12)
3-ذكر مالك عن عبد ربه بن سعيد أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كان لا يفرض إلا للجدتين، قال أبو عمر وهو قول سليمان بن يسار وابن شهاب وطلحة بن عبد الله بن عوف وبن هرمز وربيعة وابن أبي ذؤيب ومالك بن أنس(1).
4-الديات عند الشافعي ديتان مخففة ومغلظة، المخففة دية الخطأ وهو قول سليمان بن يسار وابن شهاب وأهل المدينة، والمغلظة في العمد الذي لا قصاص فيه وفي شبه العمد، والتغليظ عنده في ذلك كله سواء(2).
5-قال يزيد بن خصيفة أنّّه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله، أعليه زكاة ؟ قال: لا (3).
6-في المطلّقة ثلاثاً أو واحدة يموت زوجها وهي في العدّة، عن اللّيث بن سعد أنّ بكير بن عبد اللّه حدّثه عن سليمان بن يسار أنّّه قال: يقال إنّما آخر الأجلين، أن يطلّق الرّجل المرأة تطليقة أو تطليقتين ثمّ يموت قبل أن تنقضي عدّتها من الطلاق، فتعتدّ من وفاته، (أي تعتد عدة الوفاة وهي زوجته ترثه)، فأمّا الرّجل يطلّق امرأته ألبتّة (الثالثة) ثمّ يموت وهي في عدّتها فإنّّما هي على عدّة الطّلاق (أي ليست زوجة، ولاترثه)(4).
7-ولا يحرم الجمع بين ابنتي العمّ، وابنتي الخال في قول عامّة أهل العلم لعدم النّصّ فيهما بالتّحريم، ودخولهما في عموم قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ژ (النساء: 24)، وفي كراهة ذلك روايتان؛ إحداهما: يكره، روي ذلك عن ابن مسعود. وبه قال جابر بن زيد وعطاء والحسن وسعيد بن عبد العزيز، وروى أبو حفص بإسناده عن عيسى بن طلحة، قال: نهى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أن تزوّج المرأة على ذي قرابتها، كراهية القطيعة ؛ ولأنّّه مفض إلى قطيعة الرّحم المأمور بصلتها، فأقلّ أحواله الكراهة.
__________
(1) انظر الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار - (ج 5 / ص 348).
(2) انظر التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (ج 17 / ص 352).
(3) انظر المدونة – (ج2/ص 182).
(4) انظر المدونة – (ج4 / ص 403).(1/13)
والأخرى: لا يكره وهو قول سليمان بن يسار والشّعبيّ وحسن بن حسن، والأوزاعيّ، والشّافعيّ، وإسحاق، وأبي عبيد ؛ لأنّه ليست بينهما قرابة تحرّم الجمع (1).
توفي سليمان بن يسار في المدينة المنورة عام (104)هـ، وقيل (100)هـ، وقيل (94)هـ الذي سمي عام الفقهاء، وهو العام الذي توفي فيه سعيد بن المسيب وغيره من الفقهاء يرحمهم الله تعالى (2).
المراجع
1-التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح تأليف الحافظ أبي الوليد أيوب الباجي المالكي دراسة وتحقيق أحمد البزار، مراكش.
2-تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار المكتبة العلمية بيروت – لبنان.
3-تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ليوسف المزي، ط 4، 1406 - 1985م.
4-تهذيب مسائل المدونة، للقيرواني، تحقيق وتعليق أبو الحسن أحمد فريد المزيدي.
5-الجرح والتعديل للرازي، ط1، دائرة المعارف العثمانية – دار إحياء التراث العربي بيروت.
6-سير أعلام النبلاء للذهبي ط 9، 1413هـ 1993 م مؤسسة الرسالة بيروت.
7-الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع أبو عبدالله البصري الزهري. تحقيق إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: 1، 1968 م .
8-وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر – بيروت.
-
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة - (ج 15 / ص 109) .
(2) انظر سير أعلام النبلاء (4/ 454).(1/14)