من أعلام المدينة المنورة
سعيد بن المسيب
د . خالد أحمد الشنتوت
مقدمة
كانت المدينة المنورة عاصمة المسلمين العلمية والثقافية مذ هاجر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولما تحول الثقل السياسي عنها إلى عواصم الخلافة الأموية والعباسية؛ تركزت الحركة الثقافية في مجموعات من العلماء ظهروا في بقية عصر الصحابة ثم عصر التابعين.
وسعيد بن المسيب يرحمه الله،علم من أعلام المدينة المنورة، من كبار التابعين، عايش الصحابة رضوان الله عليهم، وأخذ عنهم العلم والخلق، والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، عاش حياته كلها للعبادة، وطلب العلم، حتى صار فقيه الفقهاء.
لازم مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يفارقه حتى في أشد الأوقات، وكان له مكان معروف في المسجد؛ لايتركه ولايفارقه إلى غيره،ولايغادره إلا إلى بيته.
وكان يصوم الدهر، ولايفطر سوى العيدين وأيام التشريق، يفطر على التمر والماء في المسجد النبوي، ثم يأكل الخبز والزيت في بيته.
أبو محمد، سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المدني. وأمه أم سعيد بنت حكيم بن أمية بن حارثة السلمي.
ولد في المدينة المنورة، لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي في سنة (15هـ).
والمسيَّب بفتح الياء المشددة المثناة من تحتها، وروي عنه أنه كان يقول: بكسر الياء، ويقول: سيب الله من يسيب أبي.
أبوه وجده رضي الله عنهما صحابيان، ويعرف بنو مخزوم بالشدة والصلابة والسيادة في مكة، استشهد جده (حزن) يوم اليمامة(1) سنة (12هـ)(2).
__________
(1) معركة بين المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه، والمرتدين بقيادة مسيلمة الكذاب، عام (12هـ)، وسميت المعركة باسم المكان وهو في نجد.
(2) وفيات الأعيان (2/262)، والطبقات الكبرى لابن سعد (5/119)، وصفوة الصفوة (2/44).(1/1)
نشأ سعيد بن المسيب وتربى في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عاصمة الخلفاء الراشدين السياسية، وعايش عدداً كبيراً من الصحابة رضوان الله عليهم، وكان لهذه النشأة أثرها الكبير في تكوين شخصيته، قوة وعزة وصلابة وزهداً وورعاً، حتى لقب بـ (راهب قريش).
تزوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه (1)، ويظهر أن له زوجة أخرى هي أم حبيب بنت أبي كريم بن عامر، أنجب منها أولاداً هم: محمد، سعيد، إلياس، أم عمرو، أم عثمان، فاخته، وله ابنة اسمها مريم أمها أم ولد (جارية)(2).
كان طويل القامة، أبيض الرأس واللحية، لايخضب بالحناء، لايخفي شاربه كثيراً وإنما يحفه، وكان أعور(3).
كان سعيد بن المسيب يفتي وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحياء، وكان ابن عمر(4) رضي الله عنهما إذا سئل عن الشيء وأشكل عليه يقول: سلوا سعيد بن المسيب فإنه قد جالس الصالحين(5) هو والله أحد المفتين، حتى سمي فقيه الفقهاء (6).
__________
(1) أبو هريرة هو عبدالرحمن بن صخر الدوسي، ولد في بادية الحجاز عام (19ق.هـ)، وأسلم في السابعة للهجرة، لزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصار عريف أهل الصفة، روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (5375) حديثاً، توفي بالمدينة عام (59) هـ، ودفن في البقيع.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/119).
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/140).
(4) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عدي القرشي، صحابي، ولد في مكة بالسنة الثانية من البعثة، أسلم مع أبيه وهو صغير، حضر الخندق وعمره (15) سنة، وكان كثير الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عرضت عليه الخلافة عدة مرات في أزمنة متفاوته فرفضها، توفي (73) هـ وعمره (84) سنة ودفن في المحصب بين مكة ومنى.
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 379) و (5/ 141).
(6) وهبة الزحيلي، ص 84.(1/2)
لقي جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وسمع منهم،وأكثر روايته عن أبي هريرة - رضي الله عنه - (1).
أخذ سعيد بن المسيب علمه عن زيد بن ثابت(2)، وجالس سعد بن أبي وقاص، وابن عباس (3)، وابن عمر، ودخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عائشة وأم سلمة رضي الله عنهن، وأخذ عنهن، وكان قد سمع من عثمان بن عفان وعلي وصهيب(4) ومحمد بن مسلمة(5)،و سعد بن أبي وقاص الزهري وأبا هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وسمع من أصحاب عمر وعثمان، وكان يقال: ليس أحد أعلم بكل ما قضى به عمر وعثمان منه(6).
وهبه الله في نشأته الباكرة ذكاءً متوقدًا، وذاكرة قوية، حتى شهد له كبار الصحابة والتابعين بعلو المكانة في العلم، وكان رأس فقهاء المدينة في زمانه، والمقدم عليهم في الفتوى، حتى اشتهر بفقيه الفقهاء.
__________
(1) وفيات ألأعيان، ج 2 / ص 375، 378
(2) زيد بن ثابت بن الضحاك بن لوذان الأنصاري النجاري، صحابي مشهور رضي الله عنه، من كتبة الوحي، أبو سعيد وأبو خارجة، مات (45 أو 48) هـ.
(3) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولد في مكة (3 ق هـ) هاجر مع والديه عام (8)هـ، دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه الله الحكمة وتأويل القرآن، له في الصحيحين (1660) حديثاُ، توفي في الطائف (68) هـ ودفن فيها.
(4) صهيب بن سنان أبو يحيى الرومي، أصله من النمر، يقال: كان اسمه عبد الملك، وصهيب لقب، صحابي مشهور رضي الله عنه، مات بالمدينة (38) هـ
(5) محمد بن مسلمة بن سلمة الانصاري، صحابي مشهور، وهو أكبر صحابي اسمه محمد، مات بعد الاربعين هجرية.
(6) الطبقات الكبرى لابن سعد (ج 2 / ص 380).(1/3)
ويقول عنه قتادة(1): ما رأيت أحدًا قط أعلم بالحلال والحرام منه، ويكفي ابن المسيب فخرًا أن الخليفة العادل (عمر بن عبد العزيز(2)) كان أحد تلاميذه، ولما تولى عمر بن عبد العزيز إمارة المدينة، لم يقض أمرًا إلا بعد استشارة سعيد، فقد أرسل إليه رجلاً يسأله في أمر من الأمور، فدعاه، فلبى الدعوة وذهب معه، فقال عمر بن عبد العزيز له: أخطأ الرجل، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك (3).
__________
(1) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي،، ولد عام (61)هـ، حافظ، مفسر، ولد مكفوف البصر. وتوفي عام (118هـ)
(2) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، ولد في المدينة ثم رحل إلى مصر مع والده، حفظ القرآن فأرسله أبوه إلى المدينة ليتفقه، ولاه الوليد بن عبدالملك على المدينة (86)هـ، فسار فيها سيرة حسنة، وفي (99) هـ صار خليفة للمسلمين، فاقتفى أثر الخلفاء الراشدين، توفي (101) هـ.
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (ج2 / 382).(1/4)
قال ابن وهب: حدثنا مالك (1) أن القاسم بن محمد(2) سأله رجل عن شيء، فقال: أسألت أحداً غيري ؟، قال: نعم عروة (3)، وفلاناً، وسعيد بن المسيب، فقال: أطع ابن المسيب فإنه سيدنا وعالمنا. وقال قتادة: ما رأيت أحداً أعلم من سعيد بن المسيب، ويقول مكحول(4): طفت الأرض كلها في طلب العلم، فما لقيت أحداً أعلم من سعيد بن المسيب ، وقال مالك: كان يقال لابن المسيب راوية عمر، فإنه كان يتبع أقضية عمر يتعلمها، وإن كان ابن عمر ليرسل إليه يسأله (5).
__________
(1) مالك بن أنس، (93- 179) هـ، ولد وتوفي في المدينة المنورة، أحد الأئمة الأربعة، صاحب المذهب المالكي المعروف .
(2) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، مات (106) هـ
(3) أبو عبدالله عروة بن الزبير بن العوام، أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، لازم خالته عائشة وأخذ الحديث عنها، بنى قصراً في المدينة، ومازال المكان يسمى (عروة)، توفي في المدينة (93) هـ.
(4) مكحول الشامي، أصله فارسي، ولد في كابل، رحل في طلب الحديث إلى العراق، والمدينة، ثم استقر به المقام في دمشق، وتوفي فيها عام (112) هـ.
(5) تاريخ الإسلام للذهبي (ج2/ ص 252).(1/5)
و لما مات العبادلة (1)، صار الفقه إلى الموالي، إلا بالمدينة فإن الله منَّ عليها بقرشي فقيه (2). وسعيد بن المسيب من مدرسة المدينة (أهل الحديث) (3). وهوأحد الفقهاء السبعة بالمدينة(4)، سيد التابعين من الطراز الأول، جمع بين الحديث والفقه والزهد والعبادة والورع.
__________
(1) العبادلة هم: عبدالله بن عباس، عبدالله بن عمر بن الخطاب، عبد الله بن عمرو بن العاص، عبد الله بن مسعود، وكانوا من أشهر فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، أما أن الفقه صار إلى الموالي، لأن الدولة الأموية كانت تقوم على العرب، وانشغل العرب بالدولة ومهامها، كما انشغلوا بالفتوحات... والله أعلم.
(2) أعلام الموقعين (1/22).
(3) وهبه الزحيلي، ص 17، والمدرسة الثانية هي مدرسة الكوفة، وهم أهل الرأي...
(4) الفقهاء السبعة في المدينة المنورة هم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة، والقاسم بن محمد، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار. يرحمهم الله تعالى... (الطبقات الكبرى لابن سعد، ج2،ص 383).(1/6)
وكان مجاب الدعاء، حدثنا علي بن زيد(1) (وكان مكفوفاً)، قال: قال لي سعيد بن المسيب: قل لقائدك يقوم؛ فينظر إلى وجه هذا الرجل (وإلى جسده) فقام، وجاء فقال: رأيت وجه زنجي وجسده أبيض، فقال سعيد: إن هذا سب هؤلاء: طلحة(2)والزبير(3) وعلياً رضي الله عنهم، فنهيته فأبى، فدعوت عليه، قلت: إن كنت كاذباً فسوَّد الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة، فاسوَّد وجهه(4).
روي عنه أنه قال: مافاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة (وفي رواية أربعين)، ومانظرت إلى قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة؛ لمحافظته على الصف الأول، وقيل: إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة (5).
وهو العابد حتى في أحلك المواقف، يقول سعيد بن المسيب: لقد رأيتني ليالي الحرة(6) وما في المسجد أحد من خلق الله غيري، وإن أهل الشام ليدخلون زمراً زمراً يقولون: انظروا إلى هذا الشيخ المجنون، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت أذاناً في القبر، ثم تقدمت فأقمت فصليت وما في المسجد أحد غيري(7).
__________
(1) علي بن زيد بن عبدالله بن زهير بن عبدالله بن جدعان، التيمي البصري،أصله حجازي، مات (131)هـ.
(2) طلحة بن عبيدالله بن عثمان التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة المبشرين بالجنة، استشهد يوم الجمل (36) هـ.
(3) الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، زوج أسماء بنت أبي بكر الصديق،وأبو عبدالله وعروة، أحد العشرة المبشرين بالجنة، استشهد يوم الجمل (36) هـ.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/136)، وسير أعلام النبلاء (4/242).
(5) وفيات الأعيان، ج 2 / ص 375، 378.
(6) وقعة الحرة بين جيش يزيد بن معاوية بقيادة مسلم بن عقبة، وأهالي المدينة المنورة الذين خلعوا بيعة يزيد، في السنة (63) هـ.
(7) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/132).(1/7)
وعن سعيد بن المسيب: أنه اشتكى عينيه فقيل له: يا أبا محمد، لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك، فقال سعيد: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح? (1).
ويقول سعيد بن المسيب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد (2). ومكث سعيد بن المسيب أربعين سنة لم يلق القوم قد خرجوا من المسجد وفرغوا من الصلاة (3).
وعن سعيد بن المسيب قال: ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل عليّ قضاء فرض إلا وأنا إليه مشتاق.
وعن الأوزاعي(4) قال: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها؛ لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة؛عشرين منها لم ينظر في أقفية الناس (5).
وذكرأنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة (6)، وكان يكثرالتهجد، يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل شر، والله لأدعنك تزحفين زحف البعير، فكان يصبح وقدماه منتفختان، ويقول: بذا أمرت، ولهذا خلقت (7). وكان يلازم المسجد ولايخرج منه إلا إلى منزله فقط، يقول: ما أظلني بيت بالمدينة غير منزلي، إلا أني آتي ابنة لي فأسلم عليها أحياناً (8).
__________
(1) ـ الطبقات الكبرى (5/132) والعقيق موضع بناحية المدينة فيه عيون ونخل.
(2) صفوة الصفوة (2/44).
(3) سير أعلام النبلاء _ج 4 / 225).
(4) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو الفقيه، توفي (157) هـ.
(5) تاريخ الإسلام للذهبي (2/252).
(6) وهبة الزحيلي، ص 51.
(7) الطبقات للشعراني (1/30).
(8) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 131).(1/8)
كان يصوم الدهر، ويفطر العيدين وأيام التشريق، وذهب جمهور العلماء إلى استحباب صوم الدهر لمن أطاقه، ولم ينه النبي - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عمرو الأسلمي(1) عن متابعة الصيام، وكان سعيد بن المسيب يفطر في المسجد النبوي على التمر والماء، ثم يذهب إلى بيته ليأكل الخبز والزيت(2).
و يقول سعيد بن المسيب: لقد حججت أربعين حجة (3).
__________
(1) حمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي، أبو صالح أو أبو محمد المدني، رضي الله عنه، صحابي جليل، مات (61) هـ / وعمره (71أو 80) سنة.
(2) وهبة الزحيلي، سعيد بن المسيب، ص 49.
(3) - تاريخ الاسلام للذهبي (4/5) ووفيات الأعيان (2/325). والحج يومها على البعير أو الأرجل...(1/9)
ومن مواقفه الشهيرة في ذلك قصة تزويج ابنته لابن أبي وداعة(1)، وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان(2) تقدم لخطبتها لابنه الوليد(3)؛ حين ولاه العهد، ويذكر المؤرخون أنه أرسل موكباً كبيراً على رأسه مندوب خاص نزل المسجد، ووقف على حلقة سعيد، فأبلغه سلام أمير المؤمنين، وأنه قدم يخطب إليه ابنته لابنه الوليد ولي العهد، وانتظر الناس أن يستبشر سعيد بهذا التشريف الذي ناله، ولكنه لم يزد على كلمة (لا)(4).
__________
(1) - قال أبو بكر بن داود : ابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، قلت : هو سهمي مكي ، روى عن أبيه المطلب أحد مسلمة الفتح ، وروى عنه ولده جعفر بن كثير ، وابن حرملة . انظر سير أعلام النبلاء (ج4/ص 234) .
(2) عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي، أبو الوليد المدني، ثم الدمشقي، كان طالب علم قبل الخلافة ثم اشتغل بها فتغيرت حاله، ملك (13) سنة استقلالاَ، وقبلها (9) سنين منازعاً لابن الزبير، توفي (86هـ).
(3) - الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أمية القرشي ، كان والياُ على المدينة ، ثم تسلم الخلافة بعد وفاة أبيه (86هـ) واستمر فيها حتى وفاته (96هـ) .
(4) وفيات الأعيان (2/377)، ذكر الخبر، بدون هذا التفصيل.(1/10)
قال أبو وداعة: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها. قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هلا أحدثت امرأة غيرها؟. فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني؛ وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة، فقال: إن أنا فعلت تفعل قلت: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجني على درهمين أو قال على ثلاثة، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن آخذ وأستدين، وصليت المغرب، وكنت صائماً، فقدمت طعامي لأفطر، وكان خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا قال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا بسعيد بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له، فقلت: ياأبا محمد، هلا أرسلت إلي فآتيك قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمرني قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوج فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله ثم دفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، فناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: ما شأنك؟ فقلت: زوجني سعيد بن المسيب اليوم ابنته، وقد جاء بها على غفلة، وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام؛ إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأعرفهم بحق الزوج؛ قال: فمكثت شهراً لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر، وهو في حلقته، فسلمت عليه، فرد علي ولم يكلمني حتى انفض مَن في المسجد، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان قلت: هو على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي (1).
__________
(1) وفيات الأعيان - (ج 2 / ص 376، 377) .(1/11)
قدم عبد الملك بن مروان المدينة، فاستيقظ من قائلته فقال لحاجبه: انظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي، فلم ير فيه إلا سعيد بن المسيب، فأشار إليه بإصبعه فلم يتحرك سعيد، ثم أتاه الحاجب فقال: ألم تر أني أشير إليك? قال: وما حاجتك? فقال: استيقظ أمير المؤمنين، فقال: انظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي، فقال له سعيد: لست من حداثه . فخرج الحاجب فقال: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم، قلت له: إن أمير المؤمنين استيقظ، وقال لي: انظر هل ترى أحداً من حداثي. قال: إني لست من حداث أمير المؤمنين. قال عبد الملك بن مروان: ذلك سعيد بن المسيب دعه (1).
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/130).(1/12)
وقدحمل عبد الملك على سعيد في نفسه،حين لم يقبل تزويج ابنته لابنه الوليد، ولما سنحت له فرصة اشتفى منه. قال يحيى بن سعيد(1): كتب هشام بن إسماعيل(2) والي المدينة إلى عبد الملك بن مروان: إن أهل المدينة قد أطبقوا على البيعة للوليد وسليمان؛ إلا سعيد بن المسيب، فكتب أن أعرضه على السيف، فإن مضى [ أي امتنع ]؛فاجلده خمسين جلدة،وطف به أسواق المدينة، فلما قدم الكتاب على الوالي دخل سليمان بن يسار(3) وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله (4) على سعيد بن المسيب، وقالوا: جئناك في أمر، قد قدم كتاب عبد الملك، إن لم تبايع ضربت عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فأعطنا إحداهن، فإن الوالي قد قبل منك أن يقرأ عليك الكتاب، فلا تقل لا ولا نعم، قال: يقول الناس، بايع سعيد بن المسيب، ما أنا بفاعل. وكان إذا قال لا لم يستطيعوا أن يقولوا نعم، قالوا: فتجلس في بيتك ولا تخرج إلى الصلاة أياماً، فإنه يقبل منك إذا طلبك من مجلسك فلم يجدك.
__________
(1) يحيى بن سعيد بن العاص الأموي، أخو عمرو الأشدق، مات في حدود (80) هـ.
(2) هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، زوّج ابنته للخليفة عبدالملك بن مروان، ولاه على المدينة المنورة، عام (82) هـ، كان ادارياُ ناجحاً شديداً على آل علي بن أبي طالب، وشديداً على آل عبدالله بن الزبير، عاقب سعيد بن المسيب فوبخه الخليفة عبدالملك، وعزله الوليد بن عبدالملك وولى عمر بن عبدالعزيز عام(86) هـ..مات هشام عام (87) هـ
(3) سليمان بن يسار الهلالي، المدني، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، مولى ميمونة، وقيل أم سلمة، ثقة فاضل، مات بعد المائة.
(4) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، القرشي العدوي، أحد الفقهاء السبعة، يشبه والده في الهدي والسمت، مات (106) هـ.(1/13)
قال: فأنا أسمع الأذان فوق أذني حي على الصلاة حي على الصلاة، ما أنا بفاعل، قالوا: فانتقل من مجلسك إلى غيره، فإنه يرسل إلى مجلسك، فإن لم يجدك أمسك عنك. قال: أفرقاً من مخلوق ؟ ما أنا بمتقدم شبراً ولا متأخر، فخرجوا وخرج إلى صلاة الظهر، فجلس في مجلسه الذي كان يجلس فيه، فلما صلى الوالي بعث إليه، فأتي به، فقال: إن أمير المؤمنين كتب يأمرنا إن لم تبايع ضربنا عنقك. قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين، فلما رآه لم يجب أخرج إلى السدة، فمدت عنقه وسلت السيوف، فلما رآه قد مضى أمر به فجرد، فإذا عليه ثياب شعر، فقال: لو علمت ذلك ما اشتهرت بهذا الشأن، فضربه خمسين سوطاً، ثم طاف به أسواق المدينة، فلما ردوه والناس منصرفون من صلاة العصر، قال: إن هذه لوجوه ما نظرت إليها منذ أربعين سنة، ومنعوا الناس أن يجالسوه، فكان من ورعه إذا جاء إليه أحد يقول له: قم من عندي، كراهية أن يضرب بسببه (1).
وكان سعيد بن المسيب يلزم مكاناً من المسجد لا يصلي من المسجد في غيره، وأنه ليالي صنع به عبد الملك ما صنع؛ قيل له أن يترك الصلاة فيه فأبى إلا أن يصلي فيه (2).
وكان يرحمه الله يقول: لاتملأوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار قلوبكم لكي لاتحبط أعمالكم، وقيل له وقد نزل الماء في عينه: ألا تقدح عينك؟ قال: حتى على من أفتحها!!؟(3) .
وقيل لسعيد بن المسيب: ما شأن الحجاج(4) لا يبعث إليك ولا يحركك ولا يؤذيك، قال: والله ما أدري، إلا أنه دخل ذات يوم مع أبيه المسجد، فصلى صلاة لا يتم ركوعها ولا سجودها، فأخذت كفاً من حصى فحصبته بها، زعم أن الحجاج قال: ما زلت بعد ذلك أحسن الصلاة (5).
__________
(1) وفيات الأعيان (2/377).
(2) المرجع نفسه.
(3) المرجع نفسه.
(4) الحجاج بن يوسف الثقفي، الأمير المشهور، ولي أمر العراق (20) سنة،واشتهر بالشدة والحزم، مات (95) هـ.
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 129).(1/14)
وفى سنة (91هـ) حج الوليد بن عبد الملك بالناس، فلما اقترب من المدينة أمر عامله عليها عمر بن عبد العزيز أشرافها فتلقوه، فرحب بهم وأحسن إليهم، ودخل المدينة النبوية، فأخلي له المسجد النبوي، فلم يبق به أحد؛ سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه، وعليه ثياب لا تساوي خمسة دراهم، فقالوا له: تنح عن المسجد أيها الشيخ، فإن أمير المؤمنين قادم، فقال: والله لا أخرج منه، فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه ويصلي ههنا وههنا، ويدعو الله عزوجل، قال عمر بن عبد العزيز وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه، فحانت منه التفاتة فقال من هذا؟! أهو سعيد بن المسيب؟ فقلت نعم يا أمير المؤمنين، ولو علم أنك قادم لقام إليك وسلم عليك، فقال: قد علمت بغضه لنا، وشرع الوليد يثني عليه بالعلم والدين، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر – وإنما قلت ذلك لأعتذر له – فقال: نحن أحق بالسعي إليه، فجاء فوقف عليه، فسلم عليه فرد عليه سعيد السلام ولم يقم له، ثم قال الوليد: كيف الشيخ؟ فقال: بخيروالحمد لله، كيف أمير المؤمنين؟ فقال الوليد: بخير والحمد لله وحده، ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز: هذا فقيه الناس فقال أجل يا أمير المؤمنين(1).
__________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي (4/6) وتهذيب التهذيب (4/97) . وفي الطبقات الكبرى لابن سعد حدث موافق لهذا الحدث في المضمون (5/ 132).(1/15)
أما الدنيا فمالها ولسعيد بن المسيب، فقد كان يعيش من كسب يده، له أربعمائة دينار يتجر بها في الزيت، (وكان أبوه يتجر في الزيت أيضاً)، ويقول عن هذا المال: (اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه بخلاً، ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي عن بني مروان، حتى ألقى الله فيحكم في ّ وفيهم، وأصل منه رحمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه، وأعود منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار)(1)، وكان له في بيت المال بضعة وثلاثون ألفاً من الدراهم، عطاؤه تراكمت بسبب رفضه قبولها، فكان حين يدعى إليها يأبى ويقول: (لا حاجة لي فيها حتى يحكم الله بيني وبين بني مروان)(2).
وكان من أورع الناس فيما يدخل بيته وبطنه، (كان في رمضان يؤتى بالأشربة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فليس أحد يطمع أن يأتي سعيد بن المسيب بشراب فيشربه، فإن أتى من منزله بشراب شربه، وإن لم يؤت من منزله بشيء لم يشرب شيئاً حتى ينصرف). أما طعامه فهو بسيط، يشتمل فى الغالب على خبز وزيت، ولما حبس صنعت ابنته طعاماً كثيراً، فلما جاءه أرسل إليها قائلاً: (لا تعودي لمثل هذا أبداً، فهذه حاجة هشام بن إسماعيل، يريد أن يذهب مالي فأحتاج إلى ما في أيديهم، وأنا لا أدري ما أحبس، فانظري إلى القوت الذي كنت آكل في بيتي فابعثي إليّ به) (3).
ومن أقواله الرائعة: (من استغنى بالله افتقر الناس إليه)، وقوله: (الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها من غير وجهها،ووضعها في غير سبيلها) (4).
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (ج 9 / 119).
(2) وفيات الأعيان (ج2 / 376)
(3) موضوع سعيد بن المسيب ، موقع صيد الفوائد على شبكة الانترنت.
(4) البداية والنهاية، (9/118).(1/16)
وعندما أمر الوليد بن عبد الملك بإدخال بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، قال سعيد بن المسيب: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق، فيرى ما استغنى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في زيف الدنيا (1).
وبالإضافة إلى تميزه في العلوم الشرعية، والآداب الربانية، برع إمام التابعين في علم تعبير الرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر، وأخذته أسماء عن أبيها رضي الله عنهم، وتُروى في براعته في التعبير مواقف رائعة، منها أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا محمد إني رأيت رؤيا. قال: ما هي؟ قال: رأيت كأني أخذت عبد الملك بن مروان فأضجعته إلى الأرض، ثم بطحته فأوتدت في ظهره أربعة أوتاد، قال: ما أنت رأيتها. قال: بلى أنا رأيتها، قال: لا أخبرك أو تخبرني. قال: ابن الزبير رآها، وهو بعثني إليك. قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك بن مروان، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال الراوي: فدخلت إلى عبد الملك بن مروان بالشام، فأخبرته بذلك عن سعيد بن المسيب، فسره وسألني عن سعيد وعن حاله، فأخبرته، وأمر لي بقضاء ديني وأصبت منه خيراً(2).
و قال رجل لابن المسيب: إني أراني أبول في يدي. فقال: اتق الله فإن تحتك ذات محرم، فنظر فإذا امرأة بينها وبينه رضاع(3).
وقال له رجل: إني أرى في النوم كأني أخوض النار. فقال: إن صدقت رؤياك لا تموت حتى تركب البحر، وتموت قتلاً. قال الراوي: فركب البحر فأشفى على الهلكة وقتل يوم قديد بالسيف(4).
__________
(1) حياة الصحابة،محمد يوسف الكاندهلوي، دار القلم، دمشق، (3/401).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 235)، وفي طبقات ابن سعد (5/ 123- 124).
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 235)، وفي طبقات ابن سعد (5/ 124).
(4) سير أعلام النبلاء (4/ 237)، وطبقات ابن سعد (5/124، 125).(1/17)
توفي يرحمه الله عام (94) هـ على الأرجح في خلافة الوليد بن عبد الملك (86-96)، وكان يقال لهذه السنة: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات منهم فيها (1). عاش ثمانين سنة، ودفن في البقيع، أما أئمة الحديث فأكثرهم على أنه توفي سنة خمس و مائة (2).
المراجع
1. أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1414هـ، 1993م.
2. البداية والنهاية، أبو الفداء الحافظ ابن كثير، دار الريان للتراث، القاهرة، 1408هـ، 1988م.
3. تقريب التهذيب، الحافظ ابن حجرالعسقلاني، دارالرشيد، حلب، ط4، 1417هـ، 1997م.
4. حياة الصحابة، محمد يوسف الكاندهلوي، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1408هـ، 1988م.
5. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين محمد الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1417هـ، 1996م.
6. سعيد بن المسيب سيد التابعين، وهبة الزحيلي، دار القلم، دمشق،ط5، 1412هـ، 1992م.
7. سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد الذهبي، الرسالة، بيروت، ط9،1413هـ، 1993م.
8. صفوة الصفوة، جمال الدين ابن الجوزي، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1417هـ، 1996م.
9. الطبقات الكبرى لابن سعد، محمد بن سعد، دار صادر بيروت.
10. وفيات الأعيان، أبو العباس ابن خلكان، دار صادر بيروت.
-
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 143).
(2) تاريخ الاسلام للذهبي (2/253).(1/18)