سَرْد الأمثال
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
((
الدكتور: لؤي حمزة عباس
سَرْد الأمثال
دِرَاسةٌ في البنية السّرديّة لِكتبِ الأمثالِ العربيّةِ
مع عنايةٍ بكتابِ المُفضّل بن محمّدٍ الضّبّي
(أمثال العرب)
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2003
في التَّجارب عِلمٌ مستأنفٌ
مجمع الأمثال 2/79
إلى: ... حيدر سعيد
بهاء صداقة نادرة
الدراسة السردية لكتب الأمثال
(في الرؤية والمنهج)
تمهيد
المقدمة
ذكروا أن ملكاً من ملوك حِمْيَر خَرجَ مُتصيّداً ومعه نديم له كان يُقربّه ويكرمه، فأشرف على صخرة مَلْساء ووقَف عليها، فقال له النديم: لو أن إنساناً ذُبِحَ على هذه الصخرة إلى أين كان يبلغُ دمه؟ فقال الملك: اذبحوه عليها ليرى دمه أين يبلغ، فذُبح عليها، فقال الملك: رُبَّ كلمة تقول لصحابها دَعْني.
بمثل هذه الحكاية تنفتح (صيغة المثل) وتمتد بوصفها عين القلادة، وبين القصيد، ونُكتة المسألة، متجاوزةٌ الحضور المباشر للمثل وما يضرب فيه، جاعلةً له أعماقاً وظلالاً، ومحرزةً بما تجسده من مواقف وما تلتقطه من أحداث موقعاً في الشعور يرتفع بصيغة المثل، مؤداه اللفظي، من التجريد إلى التمثيل والتشخيص اللذين يرفدان الصيغ بتجارب من أولى مهماتها المعروفة تعيين مناسبة (المثل) والوقوف على قائله. وإذا كان المثل قد سُميّ باسمه تبعاً لسماته الجوهرية وهي سمات المقارنة التصويرية التي تجعل منه، بناءً على أحد معانيه الاشتقاقية، عرضاً في صورةً حسيّة، فإن قصة المثل، واقعته، وتجربة صيغته هي ما يؤمِّن العرضَ ويفتح أفقه باتجاه الخيال الذي تفيض بصورهِ كُتبُ الأمثال مخترقةً، في حركةٍ فنيةٍ فاعلة، حدود الزمان والمكان، مانحةً العربيّة جانباً مؤثراً من جوانب ثرائها، ومعبرةً في جزء حي من أدبها عن أحاسيس أناسها.(1/1)
وعلى الرغم مما حظيت به (الأمثال) من دراسات مختلفة المناهج والاتجاهات، فقد بقيت قصصها خارج الدرس والمعاينة، لم تجد مَنْ يُعنى بها بعيداً عن معيار الصدق والكذب الذي هيمن على اهتمامات الدارسين ونحا بالدراسات مناحي تاريخية أو مقارنة موضوعاتية في أفضل الأحوال، وهذا وجهٌ من وجوه المشكلة، أما وجهها الآخر فيتمثل بتركيز دراسات السرد العربية الحديثة على أنواع نثرية معيّنة ظلت ولأكثر من عقدين من الزمان مركز الفحص والمعالجة، مسهمةً بدرجة أو بأخرى بربط مشكلات دراسة السرد العربي بما تتعامل معه من نصوص، وليظل سؤال النوع الأدبي موقوفاً على الليالي، والمقامات، والسير، وهي، بلا شك، من أجلى مظاهر الأدب العربي القديم وأقربها لميادين الدرس النقدي الحديث لما تنطوي عليه من خصائص واضحة وما تتميّز به من سمات جعلت من بعضها أنموذجاً مؤثراً من نماذج الأدب الإنساني الذي ما يزال يتجدد مع كل قراءة ويُكتشف، بيد أن ذلك لم يمنع الباحث من مواجهة الحقيقة الصعبة التي تشير إلى بقاء جوانب مهمّة من أدبنا العربي وأنواعه بعيداً عن نور البحث، سيما أنواعه النثرية المبكّرة التي يبدو الطريق لدراستها، دراسة فنية، محفوفاً بالمخاطر والصعاب، وربما كانت من أولى الصعوبات التي حاقت بالدراسات السابقة آخذةً نصيباً وافراً من اهتمامها ومن جهود باحثيها، ملاحظة علاقة هذه النصوص بعصور إنتاجها، من منظور تاريخي، وفيما إذا كانت نتاجاً لإنسان أزمانها، أو أنها سعت بجهود علماء اللغة والأدب اللاحقين، لأهدافٍ مختلفةٍ وغايات، للتعبير عن تلك العصور بعدما غامت صورها الأصلية وأمحت أغلب ملامحها وهي تنتقل، أو ما تبقى منها من الجاهلية إلى الإسلام، وهو أمرٌ يجنبنا الخوضَ في التوجَهُ المباشر للنصوص، ومحاولة رصد فاعليتها التي منحتها موقعاً في تراتبيّة الأنواع الأدبيّة، وذلك ما لن تُدرك أهميته في دراسة الأمثال أو سواها من الأنواع، رئيسيّةً أو(1/2)
ثانويّةً، بغير النظر الفاحص لخارطة السرد العربي القديم، التي تزداد عناصرها، كلما اقتربنا منها، ثراءً.
توجّهت الدراسة في طموحها لملاحظة التشكيل السردي لكتب الأمثال، لتحديد العناصر المكونة لنصوصها، بعد أن قسمت مواد كتب الأمثال بحسب ما تكشفه أشكالها على امتداد مراحل التأليف فيها إلى تكوين ثلاثي الأركان: نص، صيغة، قصة، وقد عالجت تفاصيل ذلك في (التمهيد) وهي تبيّن رؤيتها لحقل عملها وتضيء منهجها، ثم انتقلت إلى موقع أدق في معاينة العناصر المكونة لقصص الأمثال في ارتباطها بـ(صيغ الأمثال) وفي تجليها داخل (النصوص)، في سبيل الوقوف على جانب من جوانب الشخصيّة الأدبيّة لهذه النصوص، والنظر، على نحو خاص، لمقوماتها الحكائية عبر إدراك عملية الاختيار والترتيب التي تخضع لها عناصرها الرئيسية: الإطار، والأحداث، والشخصية، والفضاء، وقد اختص بكل منها فصلٌ من فصول الدراسة الأربعة، هذه العناصر التي اقتُرحت من خلال تأمل مكوّنات النصوص، بما تكشفه من ميّزات وما تقيمه بينها من علاقات، للوقوف على فاعليّة أشكالها فإنما الشيء كشكله، بجملة أكثم بن صيفي، أو إن الشكل، شكل التعبير، بجملة دراسات النقد الحديثة، هو الذي يحدد فاعلية النوع الأدبي حسب قوانينه الخاصة ويحرّكه في سياق ثقافي ـ اجتماعي، إذ إن (الأمثال) بوصفها صور معرفةٍ تحمل، بين أهم ما تحمل، بجملة البحث، أطياف التجربة الإنسانية وهي تنعكس أبنيةً وانساقاً على مرآة العقل.
إن الدراسة تطمح ـ وهي تنظر من جديد لحكاية ملك حِمْيَر وقد جف دمُ نديمهِ على الصخرة الملساء، وغاب هو في تضاعيف الزمان، لتظل كلمته حيّةً لا تنوشها يد الحدثان ـ أن تُضيء، على قدر جهدها، وجهاً مهماً من وجوه (الأمثال) القديمة التي بقيت لأكثر من عشرة قرون مدارَ اهتمام علماء العربيّة، وباباً من أبواب إبداعها لم يستغنِ عنه سفرٌ من أسفار أدبها.
البصرة
1 تشرين أول 2001م
14 رجب 1422هـ
***(1/3)
1ـ أدبيّة النص السردي القديم:
شهدت دراسات السرد العربيّة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين اتساعاً ملحوظاً، تعددت خلاله سبل معاينة النص السردي، وتباينت منطلقاتها والأهداف المؤملة منها، مثلما تباينت إجراءات البحث فيها وهي تسعى للكشف عن بنيات النص الداخلية وملاحظة عناصره، في محاولة لاختبار فاعلية إسهامها في إنتاج النص والوقوف على شخصيته المميّزة التي بقيت لعقود طويلة ماضية أسيرة معاينة خارجية عملت، في أعلى مراحلها على وعي النص الأدبي بوصفه نتاج ضفيرة من المشكلات: تاريخية ونفسية واجتماعية.. وربما عُدَّ في بعض منها نتاج مشكلةٍ منفردة هي منظومة مؤثرات يُشكِّلها ميدان معرفي واحد من ميادين الحياة، وقد خضعت اللغة، لغة النص الأدبي، خلال تلك الدراسات لإرادة البحث وسلطة منهجه فبدت في الكثير منها مطواعة، ليّنة، تلبس مع كل دراسة خصائص منهجها وتتسمُ بسماته بما يكشف، بنظرة شاملة، عن خطورة هذا العنصر وهو يجلي النص الأدبي ويوجّه، بدرجة ما، قراءته لتتخذ في كل مرَّة وجهةً يؤْكَدُ فيها حضورُ وظيفة واحدة للغة أكثر من سواها(1).
وقد سعت الدراسات السرديّة في طموحاتها للإسهام بإنتاج نظرة معرفية (أبستمولوجية) تتأس على ما تقيمه مع سواها من أسباب التلازم والحوار، إلى إقامة نمط خاص من العلاقة مع (التراث) مستجيبةً لحاجة أساسية في ميدان البحث ومعبرةً عن ضرورة وعي أنموذج الأمة الحضاري عبر مختلف تجلياته خلال لحظاته الزمنية المتباينة، منقسم من جهة علاقتها بنصوص السرد العربي القديم قسمين أساسيين:
توجّه الأول لمعاينة تلك النصوص واستجلاء خصائصها، للوقوف على قدرات الموروث الحكائي العربي وكنوزه الكامنة، وانحرف الثاني تجاه تأصيل النص السردي العربي الحديث، الروائي منه على نحو خاص، في رغبة للبحث عن موقع عربي لرواية عربيّة.
__________
(1) -ينظر: رامان سلدن، النظرية الأدبيّة المعاصرة، ترجمة: سعيد الغانمي: 10.(1/4)
وإذا كان القسمان يتفقان، إلى حد ما، في فهم العمليّة السرديّة، فإن اتفاقهما لا يمتد إلى موقفيهما من التراث، حقل عمله المشترك، مثلما لا يمتد إلى تعاطي إجراءات السرد التي يقتضيها، بالضرورة، موقفاهما وهما يجسدان إشكالية الدراسة عبر الفجوة الحاصلة بين توجيهيهما لمعالجة نص السرد العربي القديم منفرداً أو في ضوء ما تجترحه نصوص السرد العربي الحديث من معطيات صلة معه، لتتغير تبعاً لذلك سبل الكشف عن السرد القديم من كونه مركز معاينة وفحص إلى كونه رديفَ إسناد، مسنداً إليه على الدوام، تتجلى ملامحه على مرآة النص الراهن، وتُضاء قيمُ وجوده بما يمدّ الأخيرَ من القوة والخصوصية.
إن دعوى حداثة النموذج الإبداعي الذي تتكئ عليه (السرديات)، أو إن أدبيّة السرد، بجملة أخرى، بنت العصر الحديث (1)، حددت من نوعية التعامل مع نصوص السرد القديم، وأعلنت خشيتها من مراودته، مثلما استدعت المجاهرةُ بعدم قدرة أسلاف السرد السابقين على فرض أنماطهم الأوليّة لفرط سذاجتها، واختلاطها بالكتابة التاريخية والتوثيقية فهماً مسبقاً لنوعية النص المدروس، وتطلبت صفاءً في سماته يُخلَّص معه من شبهتي التاريخية والتوثيقية، وبذلك غدت المعاينة السردّية للنص القديم ذات صعوبة مضاعفة وانقسمت مشكلة مواجهته سردياً إلى مشكلتين: نصيّة ومنهجيّة.
__________
(1) -ينظر: د. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص: 275.(1/5)
إن افتراض وجود نصوص، قديمة أو حديثة، تنطوي على (أدبيّة) خالصة يجرّد اللغة، مادة العمل الأساس، من حيوية وظائفها التي تلتقي جميعاً على سطح النص، مثلما يجرّد السرد من سمات أساسية هي سعته وشموله وتعاليه بجملة بارت، على التاريخ، ويحدد حركته باتجاهي النوع والعصر، ليغدو تاريخ السرد بمثل هذا التصور رصداً لوقائع منتظمة تنتجها نصوص معينة، بينما لا يبدو هذا التاريخ في حقيقته غير "توسيع وتعقيد وقلب لقوانين أساسية قليلة من قوانين البنية الأدبية" (1)، وهو مالا (ينوجد) على نحو منفرد أو صاف يطل من عليائه على النصوص والأزمان، إنه بجملة أخرى، صورة العصر ومزاجه وقد أنتجتهما شعريّة خاصة لا تنفلت خارج مدار زمنها ولا تترفع عن سياقاتها، بل تشكّل صيرورتها بما تقترحه من صلة مع عصور إنتاجها، من هنا يكون الحديث عن (أدبيّة) النص السردي معقولاً إذا ما أنتظم ضمن محددات العصر والسياق، إن النص يُدرك عندئذ لا بوصفه جزيرة منقطعة، بل بما يؤمِّنه من كشف لإمكانات لغة معينة وهي تُضاء مع كل تآليف جديدة بنور العقل وقدرته، لتسهم الدراسة السردّية في سعيها لمعالجة النص القديم في الانفتاح –على وفق مقتضيات النص المدروس وأهمية موقعه –على مهمة إنتاجه التي تشترك فيها روافد متعددة، إنها تنتج عندئذ معرفتها الفكرية الخاصة أو تهدف في الأقل إلى التوصل إلى مثل تلك المعرفة (2) من خلال إنتاج رؤيتها للنص: في رصد فاعليته، وتبيّن موقعه، وإدراك أهمية ما يثيره من أسئلة وما ينطوي عليه من احتمالات الفهم والتفسير، لتتجلى رؤية الدراسة السرديّة بوصفها "خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعيّة في نواحي النسج والبنية والدلالة والوظيفة" (3).
__________
(1) -والاس مارتن، نظريات السرد الحديثة، ترجمة د. حياة جاسم محمد: 61.
(2) -ينظر: رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة د. محمد عصفور: 10.
(3) -عبد الله إبراهيم، المتخيّل السردي: 5.(1/6)
لا تتوقف هذه الرؤية، كما هو معلوم، على حقل إنتاج النص المدروس أو صفته: قديماً كان أو حديثاً، إنها تملك من خصوصية التوجّه المعرفي ما يدعوها للنظر في مختلف ظواهر النص، والإحاطة، عبر إدراك موقعه، بظروفه الموضوعية، فإن جانباً من (أدبيّة) النص السردي لا يستند إلى ما يميّز عناصره من سمات، أو ما تنجزه هذه العناصر فيما بينها من محاورة والتحام حسب، بل بما يكون بين بنية هذا النص، عبر موقعها وطريقة تشكّلها، وما سواها من صلة إذ "تتجاوز الأدبيّة هيكل البنية كانتظام إلى فاعليتها الخاصة" (1) هذه الفاعلية التي لا تتم بحكم الطبيعة اللسانية –الدلالية لعناصرها بغير شبكة علاقاتها التي تجعل من النص نفسه موقعاً مقترحاً للنظر إلى فاعلية عصره فتسحبه من حضوره اللغوي المجرّد لتدخله في الثقافي الاجتماعي، مستجيبةً لإيعاز السياق ومسهمةً إلى حد بعيد بإنتاجه وإضاءة تغيراته، ليمكن عندئذ التمييز، بحسب تصور د. يمنى العيد، بين الانتظام كمفهوم، وبين حركة الانتظام كفاعلية خاصة للنص، الأول بانشغاله داخل الحدود الهيكلية للبنية، والثاني في انتقال حركة النص (أو فاعليته) إلى مستواه الدلالي (2) لينحرف التحليل في انشغاله بالنص التراثي، والسردي منه على نحو خاص، "من النظر إلى موضوعاته لا بوصفها مجرد مركبات بل بنى" (3) تسهم بتعزيز فهمنا لخصوصية عملها ضمن نمط العلاقات القائمة، مثلما تسهم بإضاءة حقولها وكشف إمكانية نماذجها التي ظلت خارج الدرس والمعاينة.
2-دراسة الأمثال بوصفها نوعاً ثانوياً:
__________
(1) -د. يمنى العيد، فن الرواية العربيّة بين خصوصية الرواية وتميّز الخطاب: 9.
(2) -نفسه.
(3) -د. محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: 47.(1/7)
ربما كان فهم (أدبيّة) النص السردي القديم عاملاً مؤثراً، إلى جانب عوامل أخرى، في اختصاص دراسات السرد العربي بأنواع معيّنة مثلّت، حسب توجهها، مركزاً مهماً في استكشاف السرد واستقراء فاعليته ضمن معطيات الثقافة العربيّة –الإسلامية، ليسهم بتركزه على استنباط البنية السرديّة للموروث الحكائي العربي ضمن اشتراطات نوعية بإقصاء إرث سردي أسهم بدرجات متفاوتة في الإعداد لتشكّل الأنواع القصصية التي توجّهت الدراسات لمعالجتها واستقصاء سماتها البنائية، وإن بطريقة غير مباشرة عولجت خلالها موضوعتا التأليف ودرجة حضور المتخيّل اللتان أصبحتا فيما بعد من مراكز البحث الأساسية.
إن التصريح بوجود أنواع قصصية (رئيسية) (1) أو أعمال حكائية (مكتملة) (2) من قبل دراسي السرد المعاصرين يقتضي، منطقياً، توفر الثقافة العربية في مرحلة مبكرة من مراحل تكونها على أنواع ثانوية، غير مكتملة، بمنظور البنى اللاحقة وحيوية مكوناتها، تتشكل فيها الخصائص السرديّة تشكلاً بسيطاً لا ينفصل في حضوره وآلية تنظيم عناصره عن معطيات عصره وسياقاته الثقافية التي تضافر مظهران أساسيان من مظاهر الثقافة العربية على إنتاجها، هما:
أولاً: المظهر التاريخي:
__________
(1) -ينظر: د. عبد الله إبراهيم، السردية العربية: 7.
(2) -ينظر: سعيد يقطين، الكلام والخبر: 7.(1/8)
ينبع بالأساس عن حساسية الموقع التاريخي لهذه النصوص بين (الجاهلية) و(الإسلام) بمختلف معطياتها وبما تحمله من تعارضات دينية، أو أخلاقية، أو اجتماعية، مما يفسح المجال للنظر في (صدق) محمولاتها، وما تنطوي عليه من (حقيقة) في التعبير عن حضور انمحت أغلب سماته، ووجه معظم ما تبقى من آثاره ليتناسب بشكل ما مع معطيات العصر الجديد وقد تعرضت في كل ذلك لإكراهات، وانزياحات، وإقصاءات كثيرة أسهمت بالانتقال بها من صورتها الشفاهية الأولى، إلى صورة ثانية تستجيب فيها لمقتضيات التدوين (1) مثلما تستجيب على نحو آخر لاستراتيجيات العصر التي عملت على احتضانها لأهداف جديدة وغايات، لنكون إزاء (التلقي التاريخي) لنصوص الأمثال خاصة بمواجهة موقفين نقديين متناقضين شكلَّتهما عقود من دراسة نصوص التراث ومحاولة تكوين رؤية علمية منهجيّة مما يطرحه من مشكلات:
-الموقف الأول:
يعمد إلى طرد(الأمثال) من النثر الفني العربي ويُلحق دراساتها بنمط الدراسات (الفيلولوجية) للغة، ففي الوقت الذي يعدها "مقياساً لدرس اللغة، ومقياساً لدرس الجملة القصيرة كيف تتكون، ومقياساً بنوع خاص لعبث الشعوب بالألفاظ والمعاني" (2) يحدّ من دراستها فناً لصعوبة (تحقيق) نصوصها الجاهلية.
-الموقف الثاني:
__________
(1) -ينظر: د. عبد الله إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية: 100.
(2) -طه حسين، في الأدب الجاهلي: 331. وينظر د. عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم: 25.(1/9)
يهتم بـ (الأمثال) بوصفها نمطاً من أنماط النثر المتميزة في الجاهلية (1). ويعدها مصدراً من مصادر دراسة الأدب الجاهلي لا سيما النثري منه، فهي إذا قورنت بالشعر الجاهلي كانت أقل عرضة للتحوير والتغيير، فضلاً عن أنها لا تقدم، لمجهولية قائليها، مادةً مغريةً للانتحال (2)، وهي على الرغم من كونها كنزاً هزيلاً بحسب تعبير بلاشير، تُفشي أسراراً كثيرة عن العقلية العربية التي غطى عليها أحياناً دوي أبواق الشعراء (3).
وقد أثّر الموقفان كلاهما على دراسة الأمثال، فلم يؤتَ الجانب الفني حظه من العناية مقابل دراسات تاريخية ولغوية ونفسية واجتماعية عملت على رصد موضوعية المثل وبحثت كلاً من جانبها مهمة تأصيله والوقوف على دوره في علاقته الجدليّة مع مجتمعه وهو يأخذ دور المرآة السكونية التي تعكس الواقع، مثلما يأخذ دور الموجّه الفاعل في صيرورة هذا الواقع (4)، وفي الجانبين تتوجّه الدراسة للنظر إلى العلاقة في تمثلاتها الخارجية ومظاهرها التي لا يُعدّ النص معها، بمختلف مركباته وعناصره، إلا شاشة لانعكاس الوقائع.
ثانياً: المظهر التعبيري:
__________
(1) -ينظر د. عز الدين إسماعيل، المكونات الأولى للثقافة العربية: 87.
(2) -ينظر د. صفاء خلوصي، دراسة في الأمثال العربية القديمة، مج (الأستاذ) بغداد، مج 4 ع 1 –2 /1967: 78.
... وينظر د. إبراهيم السامرائي، في الأمثال العربية، مج (التراث الشعبي) بغداد س 6 ع3 –3 /1975: 11.
... وينظر د. محمد توفيق أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي: 8
(3) -ينظر بلاشير، تاريخ الأدب العربي، ترجمة إبراهيم كيلاني: 3 /441.
(4) -ينظر د. محمد توفيق أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي: 7.(1/10)
يرتبط تجلي هذا المظهر بانطلاق حركة التأليف الأدبي، إذ أسهم تأليف الكتب المبكّرة للأمثال، منذ أواسط القرن الثاني الهجري، بإنتاج أول نماذج التأليف الأدبي العربيّة، بعد أن سبقتها طوال القرن الأول الهجري مدونات لم تُعد "تأليفاً أدبياً بمعنى البحث" (1) لكنها هيأت مادة أوليّة مناسبة لهذه الكتب من خلال تدوين المرويات الجاهلية (2)، وفتحت المجال لاختبار فاعليتها ضمن حركات السياق الثقافي الجديد، وهي تمنح (الثانوي) و(الهامشي) من الموضوعات والأنواع فرصة الظهور في مؤلفات خاصة وإن توجهت بالأساس لخدمة اللغة العربية حتى عُدَّت "دراسة الأمثال بداية تصنيف المعجمات العربية.. في تدوين الألفاظ وإيضاحها حسبما اتفق" (3).
لقد شكّل تأليف كتب الأمثال في مرحلتها الأولى فرصة مهمة لنسق الثقافة العربية –الإسلامية لاحتضان نمط مغاير من المؤلفات لم تتوجه لاستقصاء وفحص مدوناتها بقدر توجهها، على أيدي علماء اللغة ، لالتقاط صيغ الأمثال والانشغال بالتمثيل لها، مهيئةً المجال، تحت أهداف لغوية محضة، لرعاية بذار (أدبيّة) عبر اعتنائها بنماذج أمثالها التي اتخذت خلال عصور إنتاجها، حسب تقسيم د. صفاء خلوصي، ثلاثة اتجاهات كما في المخطط الآتي (4):
الأمثال
مولدة ... موجزة ... قياسية ... خرافية ... شعبيّة
(ظهرت في العصر العباسي) ... (انتهت مع العصر الجاهلي)
(امتدت من العصر الجاهلي إلى العصر العباسي)
__________
(1) -د. أحمد جاسم النجدي، منهج البحث الأدبي عند العرب: 13.
(2) -ينظر د. ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: ص ص 187 –
221.
(3) -د. صفاء خلوصي، دراسة الأمثال العربية القديمة: 81.
(4) -نفسه.(1/11)
يدعونا التقسيم للنظر في موضوع (شعبيّة) الأمثال واختصاصها باتجاه محدد من اتجاهات الأمثال العربية، فإذا كان المعنى يتغيّر بتغيّر الأزمان والتجارب لتبدو ثمة معانٍ قديمة وأخرى حديثة أو مولّدة، فإن (الشعبية) تظل سمةً مهمةً تغطي جانباً أساسياً من أمثال المراحل جميعها، تلك التي تختلف في مصادرها وعلَّة نشوئها عن الأمثال الذهنيّة النابعة عن الحكم والأقوال المأثورة، أو الأمثال النابعة عن الشعر، أو أمثال القرآن الكريم، وربما أخذت (الشعبيّة) في تقسيم د. خلوصي معنى (غير المدوّن) في إشارة إلى انتهائها مع العصر الجاهلي، لتكشف خصائص الاتجاه الثاني (خرافية، قياسية، موجزة) ما انتقل منها عبر مدونات الأمثال الأولى إلى العصرين الأموي والعباسي، ممثلاً مناسبةً مهمةً لتحولها من أمثال شعبيّة مجردةٍ تتناقلها الألسن إلى مدونات، تهتم بشكل ما بمساحتها النصيّة التي تجمع بين وحداتها الشعر إلى جانب النثر، وتؤكد عنايتها بالتمثيل الحكائي واهتمامها بقصص أمثالها وهي تُسهم، بدرجات متفاوتة باحتضان النموذج (الخرافي)، وخلق مجال مناسب يُعتنى فيه بـ "الحديث المستملّح من الكذب" (1)، عبر النقل والتدوين أو اعتماد الحدس والتخمين واختراع القصص والحكايات الخرافية (2)، التي وجدت للإيهام بواقعة المثل والارتفاع بها من كونها صيغاً مجردةً إلى تشكيلات حكائية تهتم بالصور الحسية لتجاربها.
__________
(1) -لسان العرب والمعجم الوسيط: مادة (خرف).
(2) -ينظر د. صفاء خلوصي، دراسة في الأمثال القديمة: 36.
ود. عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم: 37.
ورودلف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 50.(1/12)
إن عملية استعادة الخرافة أو إنتاجها داخل نصوص الأمثال وهي تمثل نزوعاً عاماً "تنطوي على تصورات ورؤى ووقائع، أسطورية ودينيّة وتاريخيّة قديمة" (1) ساعدت في الحفاظ على جانب من الموروث الحكائي والانتقال به عبر الأنواع الثانوية والأشكال الهامشية خلال القرنين الأول والثاني الهجريين إلى مراحل لاحقه شهدت نضوجاً حكائياً تطوّر خلاله الأنموذج السردي تطوراً ملموساً وتوفرت له بفضل عوامل متعددة فرصة اتساع عوالمه التخيلية وتعدد مستويات نصوصه ضمن حدودها التاريخية ومرتكزاتها وأنظمة اشتغالها السردي، يمكن إجمال السمات الخرافية في قصص الأمثال بالنقاط الآتية:
أ-الحكاية عن الحيوان.
ب-الحكاية عن الأقوام البائدة.
ج-الجذور الأسطورية لعدد من الشخصيات.
د-التناقض بين الصفات المعنوية والجسديّة لعدد من الشخصيات المعلومة في انتقالها من نص إلى آخر أو في امتداد صيغ أمثالها داخل النص الواحد.
هاعتماد نسبة مهمة من النصوص على شخصيات مغفلة، بلا اسم أو صفة ودونما تحديد زماني أو مكاني، غير ما تقترحه قصة المثل من حضور خاص تكون الشخصية فيه (بنت الواقعة) أو المظهر الإنساني لصيغة المثل.
__________
(1) -د. عبد الله إبراهيم، السردية العربية: 72.(1/13)
تُلاحظ أهميةُ حضور الخرافة ضمن نصوص الأمثال لا بوصفها نوعاً قصصياً بل بما تساعد في إقامته من أنواع قصصية تتحرف بمروياتها عن قول (الحقيقة) لتنشغل بالخيالي والمتوهم من الحكايات والأخبار، من دون أن توفر لنفسها، ضمن هذه النصوص، غطاءً اعتبارياً تخضع فيه "للإسناد الذي يفترض انتساب القول لصاحبه" (1) إنها تعمل بارتكازها على أرض جاهلية على تسويغ ظهورها وانتقالها من المدوّنات الأولى إلى الكتب بما تقيمه مع صيغ الأمثال من ارتباط تغدو فيه ركناً مهماً من أركان قصة المثل، وربما حفلت صيغ الأمثال بالعناية في المدونّات والكتب المبكرة بسبب من ارتباطها (بقصة) تحمل من سمات الخرافة وأصدائها ما يجعل منها مادةً مناسبةً للأسمار. وقد تلمّس مؤلفو كتب الأمثال المتأخرة حضور الخرافة في كتب الأمثال السابقة متخذين موقفاً حازماً منها وهم يتوجّهون توجهاً منهجياً تُراعى فيه علمية التأليف والتقسيم والانتقاء، إذ يُشير الميداني (ت 518ه) في حديثه عن مصادر كتابة (مجمع الأمثال) إلى أنه نقل "ما في كتاب حمزة بن الحسن إلى هذا الكتاب، إلا ما ذكره من خرزات الرقى وخرافات الأعراب" (2) من دون أن يحدد فهماً دقيقاً للخرافة المتروكة.
__________
(1) -د. عبد الله إبراهيم، السردية العربية: 72.
(2) -الميداني، مجمع الأمثال: 1 /4.(1/14)
وربما وُجد قبل إشارة الميداني، ما يُعيِّن مالا يتوافق مع العقل وما لا يقبله المنطق من الأخبار على أنه من الكذب، كما في كتاب (الكامل) للمبرد (ت 285ه) الذي خُصص بابٌ من أبوابه تحت عنوان (من تكاذيب الأعراب)، تطالعنا فيه بعضُ الحكايات التي لا تنطوي أصلاً على (صيغ أمثال) وإن وردت في كتب الأمثال، خصوصاً ما يتعلق منها بالشخصيات ذوات المصادر الأسطورية كشخصية لقمان، فهو يذكر طرفاً من خبره المروي على لسان جاريته في حكاية من حكايات كتاب المفضّل الضّبيّ (أمثال العرب) (1) مع إشارة صريحة إلى بطلان مثل هذه الأخبار "من ذلك ما يحكون في خبر لقمان بن عاد، فإنهم يصفون أنَّ جارية له سُئلت عما بقي من بَصَره لدخوله في السن؟ فقالت: والله لقد ضَعُفَ بصرهُ، ولقد بقيت منه بقيّة، إنه ليفصلُ بين أثر الأنثى والذكر من الذر إذا دبَّ على الصفا، في أشياء تشاكل هذا من الكذب" (2).
يتوجّه البحث في الفقرة اللاحقة، بناءً على ما أثير من قضايا وما نوقش من تفصيلات، للانشغال بالكيفية التي تقترحها /تقتضيها رؤياه لمعاينة موضوعها: الطرائق والآليات والإجراءات، فضلاً عما تقترحه من مصطلح تُناط به مهمة أساسية، بحسب دقته وفاعلية استخدامه، في تهيئة مجال مناسب لإضاءة حقل الدراسة والوقوف على سماته الخاصة بعيداً عن هيمنة التصوّر المسبق.
3-من (المثل) إلى (النص):
__________
(1) -ينظر: المفضل الضبي، أمثال العرب: 161.
(2) -المبرد، الكامل: 2 م207.(1/15)
ارتبطت دراسات المثل العربي، إلى حد بعيد، بما عُرف عن المثل من تصوّر في كتب النقد والبلاغة وعلوم القرآن والحديث، وما ثُبت له من معنى لغوي واصطلاحي، صبَّ على نحو مباشر في (صيغته)، مؤداه اللفظي، الذي عّدَّت (المشابهةُ) من أهم معانيه، وبها يُقصد، مع معانٍ أخرى مثل (النظير، والصفة، المثال والحذو والشاخص) إلى كشف مستواه العلمي أو التداولي، مثلما تُضاء المساحة البلاغية التي يقوم عليها جسراً بين واقعين: قديمة غائبة وأخرى راهنة، تلمِّح الصيغةُ إلى ما يكون بينهما من اتصال عماده (المشابهة) بهدف التبصير والعظة، فهو كما يقول المبّرد "قول سائر شبه به حال الثاني بالأول" (1)، أو كما يقول الراغب الأصبهاني "عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني، أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة" (2)، فلمثل هذا المعنى، ولما يتفرّع عنه دور في توجيه الدراسات على اختلاف أوجهها، وصرف أنظارها إلى (صيغة المثل) التي أخذت مركز البحث والاهتمام ودُفع كلَّ ما عداها إلى مرتبة ثانية (ثانوية)، حتى عُدَّت (قصة المثل)، في حال التعامل معها، أمراً تابعاً إنما يؤتى به لبيان مناسبة المثل وتفسير صيغته. وقد حددت سمات المثل ومميزاته
__________
(1) -الميداني، مجمع الأمثال: 1 /6.
(2) -الراغب الأصبهاني، المفردات في غريب القرآن: 462.(1/16)
كالإيجاز البالغ، والصيرورة، ومخالفة لفظ المضروب له وموافقته معناه، من مدى دراسته إلى الدرجة التي يصرِّح معها د. عبد الله إبراهيم بصعوبة ((إدراج المثل بوصفه نوعاً نثرياً طبقاً للمعايير التي تحدد الأنواع الأدبية))(1)، من دون أن تغيب عن الأذهان معالجة الباحث للأنواع القصصية (الرئيسية) كالحكاية الخرافية (ممثلة بألف ليلة وليلة)، والسيرة، والمقامة، التي خصص لها بحثه (السرديّة العربية)؛ إن إلحاق المثل بالأنواع المذكورة ولو على سبيل القياس أمرٌ يحمل المثل، بما يسحبه من ظلال حكائية، على غير محمله ويقيسه بغير مقياسه إذ تقتضي الدراسة في معاينتها للخصائص النوعيّة للمثل فصله عن الأنواع المذكورة وملاحظة سماته الخاصة وهي تؤسس حضورها (عبر التاريخي) في عدم انغلاقها على زمان ومكان معينين، وفي توجهها وهي تسعى لالتقاط وقائع صيغها وتجارب أناسها إلى تقديم وصف أثنولوجي (بانورامي) لشخصية الأمة خلال مراحلها المختلفة.
__________
(1) د. عبد الله إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية: 141.(1/17)
إن دراسة السرد العربي بوصفه حصيلة مجموعة من أنواع، تحمل أهميةً مضاعفةً فهي تُعلن قدرة هذا السرد على الامتداد والتنوّع اللذين يوفران له أفقاً (أجناسياً) يثرى بما يكون بين أنواعه من تباين واختلاف، مثلما تعمل في فحصها لأنواعه، على الإسهام في تأمل تاريخ هذا الجنس وترسيخ الوعي به(1) بما يمنح الدراسة عبر وضوح موقع مادتها على الخريطة النوعية للسرد العربي القديم، فرصة اختبار مكوناتها ضمن أطرها الخاصة وداخل سياقاتها، وممارسة دورها في فحص مقوماتها الشكلية، فإن شكل التعبير يتحكم إلى حد بعيد بتحديد النوع وكشف قوانينه إذ ((يصعب تحليل وفهم الفلسفة الشعبية والأخلاقية لكل نوع، أو الأنواع مجتمعة، إلا بعد الدراسة التشكليّة لنسق كل نوع وتحديد جذوره التاريخية))(2). من هنا كان اقتراح الدراسة بتحويل منظورها من الجزئي والخاص إلى الكلي والعام، من الفردي إلى الجماعي، في ملاحظة فضاء إنتاج المثل ورصد مظاهره التعبيرية، إجراءً منهجياً لفتح المجال الضيّق الذي حُدد غالباً أمام الدراسات السابقة بصيغة المثل نفسها، لتتوجّه إلى ملاحظة نص المثل (ضمن فضاء أوسع هو فضاء الكتاب) بما ينطوي عليه من وحدات حكائية، وتفسيرية، واستشهادية، وبما يسعى إلى تحقيقه من أهداف وعظية، وتعليمية، وترويحة، تكون ملتحمةً مع بعضها، وإن أسهمت سياقات تأليف كتب الأمثال بتقديم إحداها (أحدها) على الأخرى (الآخر)، لكنها تظل مترابطة على الرغم من ذلك، كما في الخطط الآتي:
نص المثل
الوحدة:
( حكي
( تفسير
( استشهاد
( وعظ ... ( تعليم ... ترويح ... الهدف:
__________
(1) ينظر: سعيد يقطين، كتابة تاريخ السرد العربي، المفهوم والصيرورة، مجلة (علامات) الرياض، ج 35، مج 9 مارس 2000: 41.
(2) كلود ليفي شتراوس: وفلاديمير بروب، مساجلة بصدد (علم تشكل الحكاية) ترجمة محمد معتصم: 81.(1/18)
1@المرحلة الثانية ... ترتبط مهمات نص المثل بنظام صياغته ونظام تحولاته وهو ينتقل من (الإِخبار) إلى (التمثيل) إلى (التخييل)، وإذا كان (الإِخبار) قد مثَّل القاسم المشترك بين مجمل أنواع السرد العربيّة، فإن الأخيرين يكونان مسؤولين بدرجة واضحة عن انتظام مميزات نصوص الأمثال واستجابتها لحركة السياق الثقافي، في ظهورهما وتواريهما، من دون أن يغيبا نهائياً عن سطح النص، إذ تظل مهمة (التمثيل) في أدنى مراحلها، هدفاً من أهداف (المثل) وميزةً مهمةً من ميزاته.
(الأدباء واللغويون) ... تقترح الدراسة في انتقالها من (المثل) إلى (النص) ضمن فضاء عام هو فضاء كتب الأمثال ومؤثرات التأليف فيها، كما ستبين الفقرة اللاحقة، ثلاثة مصطلحات تنظم قراءتها لعموميّة نصوص الأمثال وكليّتها وهي تفحص مكوناتها السرديّة ضمن مرحلة مهمة من مراحل الثقافة العربية-الإسلامية، هي (نص المثل)، و (صيغة المثل)، و (قصة المثل، وواقعته أو تجربته) بحسب موجّه الدراسة واختصاص مباحثها، سردياً (قصة)، بلاغياً (تجربة أو واقعة).
أ.نص المثل:
يُعتَمد (نص المثل) للإشارة إلى مادته اللغوية على اختلاف مكوناتها، وبما تؤديه من تمثيل، أو تفسير، أو استشهاد مؤتلفةً في نسيج سردي يضم (صيغة مثل) أو أكثر، يربطها نظام من العلاقات ويوحِّد عملها، وهي تنتظم تحت فقرة أو رقم أو باب من فقرات أو أرقام أو أبواب كتب الأمثال، كلاً حسب ما يختطه منهجه ويقترحه مؤلفه، فنص المثل، بذلك وحدة لغوية استعمالية تتكون داخل مجال ثقافي معلوم متأثرةً بما يكون فيه من موجهات خاصة وسياقات.(1/19)
يمكن تحديد ما تقدَّم بالنقاط الثلاث الآتية التي تعتمدها الدراسة في معاينة نص المثل وملاحظة خصائصه السرديّة، كما تعتمدها في النظر إلى ما يكون من صلة بين النص وبين مهيمنات الثقافة في عصر معين، بمستجدات موجهاتها، خصوصاً اللغوية وهي تحرف النص جهة الدرس اللغوي وتدرجه في ((نمط خطابي معيّن هو الخطاب التعليمي))(1)، مقدِّمةً في كل مرَّة مكوناً بنيوياً من مكوناته، فالنص:
1-مادة محددة.
2-تشكّل كلاً موحَّداً.
3-تعمل داخل مجال ثقافي معلوم.
ب.صيغة المثل:
تُعتمد (صيغة المثل) في دراسة جملته، مؤداه اللفظي، الذي يُبنى على أساس من خبرة جماعيّة، أو تجربة فردية تحظى لغرابتها بالقبول والتداول، وهي تختلف عن الحكمة في كون المثل (أقل تجريداً منها وأكثر تخصيصاً، وهو في أكثر الأحيان ذو بعد حسي)(2) توجهت كتب التراث لتحديده بثلاث صفات (إيجاز اللفظ إصابة المعنى، وحسن التشبيه)(3)، وبما أن صيغة الشيء أصله والهيئة التي بُني عليها، فإن صيغة المثل هي أصله ودرّة القول فيه، كقول العرب: أنجز حرٌ ما وعد.
ج. قصة المثل:
تُعتمد (قصة المثل) في دراسة النظام الأدبي الذي يختص بتشخيص محمول المثل والتمثيل له تمثيلاً قصصياً يُعنى بتتبع الأخبار وتقصيّها(4)،
__________
(1) عبد الفتاح كليطو، الأدب والغرابة: 17.
(2) د. محمد توفيق أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي: 49.
(3) ابن رشيق، العمدة: 1/280
... يضيف (إبراهيم النظّام) للمثل صفة رابعة هي (جودة الكناية) ليعده معها نهاية البلاغة.
... ينظر: الميداني، مجمع الأمثال: 1/6.
(4) ينظر: ابن منظور، لسان العرب: مادة (قص)
يقال قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء.(1/20)
وتتوفر فيه من العناصر ما تؤهله للإسهام بكشف أوليات التشكيل السردي لهذا الضرب من فنون الأدب في الثقافة العربية، فهو باعتماده الشخصية ركناً، وبانطوائه على السرد والوصف والحوار، وبملاحظته فضاء الحدث بدرجات تتناسب مع نظر عصور إنتاجه، يعمل على تنظيم عناصره تنظيماً لا يشذّ عن وعي الثقافة العربيّة للقص عموماً بوصفه (استعراضاً لأحداث ماضية كلاماً، وقد تكون الحوادث تاريخية أو مختلفة أو مزيجاً منهما)(1).
4.مؤلفات الأمثال:
ابتداءً من منتصف القرن الأول حتى القرن الحادي عشر الهجريين امتدت حركة مهمة من حركات التأليف العربية، توجّهت للعناية بالأمثال بمختلف أشكالها: الشعبيّة، والناشئة عن شعر، والناشئة عن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، شملت في امتدادها مساحات جغرافية واسعة، وأضاءت تنوعاً حضارياً كشف في جانب أساسي منه حياة العربي وتجاربه وهي تنعكس على مرآة المثل لتنطبع في ذاكرة الإنسان ضمن رصيد خبراته وتجليات معارفه.
وقد عملت دراسات الأمثال على تقسيم مراحل التأليف فيها إلى ثلاث(2)
__________
(1) د. عبد الله أبو هيف، القصة العربية الحديثة والغرب: 272.
(2) ينظر: العبدري، تمثال الأمثال، تح د. أسعد ذبيان: 56.
... وينظر: عفيف عبد الرحمن، الأمثال العربية القديمة، (المجلة العربية للعلوم الإنسانية) الكويت ع 10 مج 3/1983: 27.
... وينظر: عبد الغني أبو العزم، كتب الأمثال مجامع أم معاجم، مج (فكر ونقد) المغرب س 4 ع 35/ 2001: 121.(1/21)
مبتدئة بكتاب المفضّل الضّبّي لكونه أول ما وصل منها، مثلما هو أول كتب التأليف الأدبي العربيّة(1)بيد أن مرحلة مهمة سبقت كتاب المفضّل وهيأت له رصيداً من الأمثال وقصصها تستوجب النظر والتدقيق هي مرحلة الإخباريين والقصاص التي وجد رجالها خلال عصر بني أمية مجالاً لما في صدورهم من حكايات وأخبار وقد اكتفت الدراسات بالإشارة إليها وهي تركّز على (ما وجد) من كتب، في سعيها لتقديم تحليلاتها عن (مجتمع) المثل بمختلف ظواهره التي حمل كتاب المفضّل الضّبّي والكتب اللاحقة له حصيلةً مناسبةً منها.
إن أصداءً من المرحلة الأولى تدعونا، وهي تتردد في كتابي (البكري) و (الميداني) المتأخرين على نحو خاص، إلى النظر في خصوصية هذه المرحلة وهي تمثل بما حملتهُ مدوناتها الأولى الحجر الأساس في (التشكيل السردي) لنصوص الأمثال، الأمر الذي لم يكن وليد لحظته في كتاب المفضل، وإن اتخذ على يديه انتظاماً أدبيَّاً ميزته سمات حكائية واضحة، مثلما مثّلت هذه المرحلة حلقة مهمة في توصيل مادتها برصيدها من الأمثال، وبما حملته من نزوع قصصي ساعد، في جانب منه، في الحفاظ على صورة من صور التفكير (الخرافي)، وكشف أهمية حضور الفن القصصي وخصوصية أثره في الحياة العربيّة.
__________
(1) د. زكي ذاكر العاني، دراسة تحليلية في أقدم كتاب في الأمثال، مج (المورد) مج 24 ع1/ 1996: 8.(1/22)
لقد عرف التأليف في الأمثال تطوراً خضعت فيه الكتب بين مرحلة وأخرى إلى تغيرات في النظر إلى موضوعها، وتحولات في طرائق الإنتاج ومناهجها اقترحتها خصائص العصر الثقافية واهتمامات المؤلفين؛ تتوجه دراستنا في عنايتها بتفحص النسائج السرديّة لنصوص الأمثال لتقسيم إنتاج كتب الأمثال العربيّة إلى أربع مراحل تفصل فيما بينها تحولات نوعيّة أسهمت على نحو مباشر بتطوّر موضوعة التأليف الأدبي، ومنحت العربيَّة حقلاً ثرياً من حقول معارفها، ومن الضروري الإشارة إلى افتراضية هذه المراحل، وإلى ما يكون بينها من تداخل وتنافذ، فإن تغيرات التأليف لا تحدث في العموم على نحو فجائي بل تتطلّب من الإعداد والتجارب ما يمدُ جسوراً بين هذه المراحل لتغدو الحدود واهيةً إنما تقتضيها الدراسة لطموحها في المعاينة المنتظمة لأنشطة الإبداع الإنساني.
افتُتحتْ حركةُ تدوين الأمثال بعضاً من اهتمام بني أمية –على ما يبدو- بالحكاية والمسامرات التي ضمت ((أقاصيص القرآن، والكتاب المقدس، وحكايات جنوبي الجزيرة العربيّة، كما حكيت أخبار حياة الرسول عليه السلام والفتوحات الأولى، في ثوب روائي، وأصبحت الحروب العربيّة، أو ما يسمى (بأيام العرب) مادةً للمسامرة))(1)، إذ يُقال أن معاوية بن سفيان أحضر عبيد بن شَريَة الجرهمي، وهو من أوائل من صنفوا في هذا المضمار، من الرقة(2)
__________
(1) رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 51.
(2) الرقة: مدينة مشهورة على الفرات، بينها وبين حران ثلاثة أيام.
... ياقوت الحموي، معجم البلدان: 3/59.(1/23)
إلى دمشق ليقصَّ عليه قصص الأولين(1)، وقد مثّلت وقائع الأمثال وتجارب أناسها مصدراً من مصادر القصص التي تميّز رواتها بالبراعة في الحفظ بحسب وصف ابن النديم لصحار بن عياش العبدي(2)، وربما أجابت ملاحظة مثل ارتباط مدوّنات الأمثال الأولى بالقصص ورواتها عن السؤال الذي يبحث في دواعي تركيز المفضل في كتابه على الأمثال الجاهلية المقترنة بالحكاية- إلى الحد الذي تصادفنا في كتابه حكايات بلا أمثال(3)- فإن واحداً من الأسباب الرئيسية لذلك هو انشغال مدوّنات المرحلة الأولى التي هيأت مادةً مناسبةً للمفضّل الضّبّي، بالمثل الجاهلي وبما ارتبط به من حكايات، وإن لم يصرّح المفضل بمصادر كتابه، لكن الدارس يمكن أن يستنتج ارتباط الكتاب بما سبقه من مدوّنات من خلال اعتماد نصوصه على (الخرافة) بسماتها المذكورة، وإطلاق العنان للمخيلة في تصوّر العلاقات الجاهلية، الاجتماعية والعاطفية، وعلى نحو أخص الجنسية، من دون تحفظ أو شعور بالحرج(4)، فضلاً عن اعتماد الوقائع الجاهلية الكبرى وأخبارها التي مثلت مادة أساسية من مواد المسامرات، فضاءً لإنتاج المثل، وهو ما حدا بالدراسة للعناية بالكتاب لما مثّله من خطوة مهمة بين خطى تأليف كتب الأمثال، لم يقف أثره عند الكتب القريبة اللاحقة، بل اتصل ليشمل خارطة تأليفها الممتدة قروناً، وتعدى ذلك إلى مؤلفات الأدب العامة والمعاجم والموسوعات، فقد (انتقلت معظم قصص أمثال المفضّل الضّبّي- وإن لم تكن بكامل تفاصيلها إلى مؤلفات اللغويين القدامى من الكوفيين والبصريين)(5)،
__________
(1) ينظر: ابن النديم، الفهرست: 102.
(2) نفسه.
(3) ينظر: المفضل الضبي، أمثال العرب: 161.
(4) نفسه، مقدمة المحقق: 42.
(5) رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 53..(1/24)
ممثلاً مَعِيناً لم يُستغنَ عنه على الرغم من تغيّر سياقات الثقافة وموجهاتها، وتحوّل أساليب التأليف وطرائقه، وإن لم يكن قد كُتب بأسلوب علمي أو بطريقة منهجية، بيد أن ذلك لم يمنعه من اقتراح نظام أدبي لافت ضمن مقوّمات عصره، يضع أمام دارس السرد القديم وثيقة مبكرة من وثائق التأليف الأدبي عند العرب تستحق غير العناية الموضوعاتية واللغوية، والدراسة التاريخية والمقارنة، ملاحظة ما انطوت عليه من خصائص فنية تُسهم في تأمل نصوص كتب الأمثال لذاتها، فإن النصوص القديمة عندما لا تُدرَس لذاتها تبدو، لا محالة، مشوبةً بالنقص والشذوذ(1).
إن تفحّص مكونات الكتاب والنظر في عناصره السرديّة المميزة وحمولاته الخبرية داخل إطار عصره يُسهم بتبين ما ينطوي عليه من (فاعلية) لا تنغلق داخل حقل إنتاجه بل تعمل من موقعها على خريطة السرد العربي، على إدامة نمط من أنماط التفكير أدى معه علماء اللغة مهمات مضافة طبقاً لمعطيات هذه المرحلة المبكرة حتى غدا التصدي لموضوعة الأمثال، وجمعها، وتطوير خصائص وأساليب التأليف فيها، وجهاً من وجوه العناية اللغوية. يمكن إجمال مسوغات الدراسة للاهتمام بكتاب (أمثال العرب) بما تميّز به من خصائص لم يكن معها ((كتاباً خالصاً في الأمثال، وإنما كان كتاباً في الأمثال وفي الأيام وفي القصص))(2)، فضلاً عما يشكّله من أهمية على الصعيدين التاريخي والفني تمثلت في النقاط الآتية:
أ.أسبقيته بين كتب الأمثال.
ب.أهمية مادته القصصية.
ج.تنوّع محموله الخرافي.
د.خصوصية نظامه السردي.
__________
(1) عبد الفتاح كليطو، الحكاية والتأويل: 69. وينظر د.عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم:37.
(2) د. زكي ذاكر العاني، دراسة تحليلية في أقدم كتاب في الأمثال، مج (المورد) مج24 ع1/1996: 4.(1/25)
ولغرض ملاحظة أثر موجّهات التأليف وتغيّرات السياق الثقافي على إنتاج كتب الأمثال، ودوره في حركيّة التشكيل السردي لنصوصها تتوجه الدراسة للانفتاح على مراحل التأليف على النحو الآتي:
-المفضّل الضّبيّ (ت 170هـ) كتاب الأمثال
-أبو فيد مؤرِّج السدوسي (ت 195هـ) كتاب الأمثال
المرحلة الثالثة ... -أبو عبيد القاسم بن سلام (ت223هـ) كتاب الأمثال
(التصنيف بحسب الموضوعات ... -أبو عكرمة الضبّيّ (ت 250هـ) كتاب الأمثال
-البكري (ت 487هـ) فصل المقال في شرح كتاب الأمثال
-الميداني (ت 518هـ) مجمع الأمثال
المرحلة الرابعة
(معجمات الأمثال)
وقد سعت الدراسة في تأملها لخصائص نصوص المرحلة الأولى إلى معاينة ما ذُكر منها في كتاب (البكري)، على ما في هذه الخطوة من خطورة لما يمكن أن يكون قد داخل النصوص من تغيير خلال رحلتها من مدوّنات "صحار"، و"علاقة"، و "عبيد" في المرحلة الأولى، إلى كتاب (البكري)، لكنها خطوة لازمة في مثل هذه الدراسة لما تمثّله هذه المرحلة من بُعد تأسيسي أثّر في كتب الأمثال في المرحلة الثانية على نحو خاص، وأسهم، بدرجات متفاوتة، باقتراح تشكّلاتها السرديّة. وقد اعتمدت الدراسة الكتب المحققة تحقيقاً علمياً يؤمِّن لها الظهور بصورتها الأولى قدر الإمكان، متجاوزة الكتب المجموعة والمنشورة نشراً جزئياً، والمختصة بنوع معين من الأمثال، فإن الكتب المجموعة مثل كتابي أمثال الأصمعي، وأمثال أبي زيد الأنصاري، تختلف عن صورتها الأصلية في عدد أمثالها وفي منهجها وترتيب مادتها(1)،
__________
(1) ينظر: الأصمعي، كتاب الأمثال، جمع نصوصه وحققها وقدم لها د. محمد جبار المعيبد: 9 و 14
و: كتاب الأمثال لأبي زيد الأنصاري، جمع وتحقيق د. عبد الحسين معتوق الصكر (ضمن رسالته للدكتوراه، مرقونة على الآلة الكاتبة) جامعة البصرة، كلية التربية 1997.(1/26)
فهي تجتهد في سبيل جمع ما تبقى متناثراً في كتب الأمثال واللغة وكتب الأدب العامة من مواد كتاب معيّن، مما يؤثر، بالنتيجة، في صورة الكتاب الأصلية، ويُخضع نصوصه لإعادة الإنتاج ضمن سياقات جديدة تغيّر من نسائجها السرديّة ولا تهتم في أحيان كثيرة بغير محمولاتها ونقولات أخبارها. أما الكتب المنشورة نشراً جزئياً فلا تقدِّم إلا تصوراً محدوداً عن صورها الأصلية تغيب معه، كما في النقطة السابقة، سمات منهجها وترتيب موادها. وتهتم الكتب المختصة بنوع معيّن من الأمثال ككتب أمثال القرآن الكريم بكشف أهمية مرجعها، والوقوف على جانب من جوانب الإعجاز فيه، وهي تتفتح في دراستها لأمثال القرآن على حكمة الله تعالى، فإن من حكمته كما يقول الزركشي ((تعليم البيان، وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شيء على البيان))(1) بما ينأى بها عن الصورة العامة والمتداولة للمثل وقصته ويخضعها لاشتراطات القرآن الكريم البلاغية.
5-مراحل تأليف كتب الأمثال:
أ.المرحلة الأولى: الإخباريون والقصاص
-صحار بن عياش العبدي (ت نحو 60هـ)(2)
ـ علاقة بن كريم (أو كرسم أو كرشم) الكلابي (كان حياً قبل
64 هـ).(3).
__________
(1) الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تح محمد أبو الفضل إبراهيم: 1/487.
... *اعتمدت الدراسة في إعداد الجدول على:
(1)رودلف زلهايم، الأمثال العربية القديمة.
(2)محمد أبو صوفة، الأمثال العربية ومصادرها في التراث.
(3)د. محمد حسين علي الصغير، الصورة الفنية في المثل القرآني.
(4)الحسين بن الفضل، الأمثال الكامنة في القرآن، تح د. علي حسين البواب، مجلة (المجمع العلمي العراقي) ج1 مج 36/1985. مع مراجعة نتائج ما استجد من بحوث وتحقيقات.
(2) ابن النديم، الفهرست: 102.
(3) ـ ياقوت الحموي، معجم الأدباء: 12 /190.(1/27)
ـ عبيد بن شرية الجرهمي (ت نحو 67هـ)(1)
ب ـ المرحلة الثانية: الأدباء واللغويون:
ـ أبو عمر بن العلاء (ت 154 هـ): كتاب الأمثال(2).
ـ الشرقي بن القطامي (ت 158 هـ): .................(3)
ـ المفضل الضبي (ت 170هـ): أمثال العرب ـ طُبع بمطبعة الجوائب، مصر 1882م.
- طُبع بمطبعة التقدم، مصر 1909 م.
ـ نُشر بتحقيق د.إحسان عباس، بيروت 1981م.
ـ يونس بن حبيب (ت 182 هـ): كتاب الأمثال(4).
ـ أبو فيد مؤرج السدوسي (ت 195هـ): كتاب الأمثال.
ـ نُشر بتحقيق د. أحمد الضبيب، الرياض 1970م.
ـ نُشر بتحقيق د.رمضان عبد التواب، القاهرة 1971م.
ـ النضر بن شميل (ت 204هـ): كتاب الأمثال(5).
ـ أبو عمرو الشيباني (ت بين 205 ـ 235هـ).
ـ أبو عبيدة (ت 210 هـ): المجلة في الأمثال
ـ نُشر بتحقيق د. حاكم حبيب الكريطي (مجلة اللغة العربية وآدابها) جامعة الكوفة ـ ع1 س 1 2001.
ـ أبو زيد الأنصاري (ت 215 هـ): كتاب الأمثال ـ جمع وتحقيق د.عبد الحسين معتوق الصكر ضمن رسالته للدكتوراه، مرقونة على الآلة الكاتبة، جامعة البصرة، كلية التربية 1997م.
ـ اللحياني (ت نحو 215هـ): كتاب الأمثال(6).
__________
(1) ـ ابن النديم، الفهرست: 102، وياقوت الحموي، معجم الأدباء : 12/ 72، ذُكر عبيد في قصص الأمثال كثيراً عند المتأخرين من جُمّاع الأمثال، مثل البكري والميداني في حين أن علاقة وصحار لم يذكروا إلا في شرح البكري لأمثال أبي عبيد، فقد ذكر الأول ست مرات، والثاني مرتين.
ينظر: رودلف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 52.
وينظر: البكري، فصل المقال: علاقة الكلابي، 37، 75، 99، 290، 328، 337، صحار العبدي، 306، 308.
(2) ـ الميداني، مجمع الأمثال: 1/ 4.
(3) ـ نفسه.
(4) ـ ابن النديم، الفهرست: 69.
(5) ـ الميداني، مجمع الأمثال: 1/ 424.
(6) ـ حمزة الأصبهاني، الدرة الفاخرة: 55.(1/28)
ـ الأصمعي (ت 216هـ) كتاب الأمثال ـ نُشر بتحقيق د.إياد عبد المجيد، مؤسسة الورّاق عَمّان، 1999م.
ـ نُشر بتحقيق د.محمد جبار المعيبد، بغداد 2000م.
ـ سعدان بن المبارك (ت 220 هـ) : كتاب الأمثال (1)
ج ـ المرحلة الثالثة: التصنيف بحسب الموضوعات:
ـ أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 223 هـ): كتاب الأمثال ـ نُشر بتحقيق عبد المجيد قطامش، الرياض 1980م.
ـ ابن الأعرابي (ت 231 هـ): .........(2)
ـ التوزي (ت 233 هـ): كتاب الأمثال (3)
ـ ابن السكيت (ت 243 هـ): كتاب الأمثال (4)
ـ محمد بن حبيب (ت 245 هـ): كتاب الأمثال ـ نشر محمد حميد الله، قطعة منه في (مجلة المجمع العلمي العراقي) م4 / 1956م.
ـ الزيادي (ت 249 هـ): كتاب الأمثال(5).
ـ أبو عكرمة الضبّي (ت 250 هـ) كتاب الأمثال ـ نُشر بتحقيق د.رمضان عبد التواب، دمشق 1974م.
ـ الجاحظ ( ت 255 هـ): .........(6)
ـ ابن قتيبة (ت 276 هـ): حِكم الأمثال(7).
ـ أبو جعفر البرقي (ت 380 هـ): كتاب الأمثال.
ـ علي بن مهدي الأصفهاني ( ت بين 251 ـ 292 هـ): كتاب الأمثال.
ـ الحسين بن الفضل (ت 282 هـ): الأمثال الكامنة في القرآن ـ تحقيق د.علي حسين البواب (مجلة المجمع العلمي العراقي) ج1 مج 36 / 1985م.
د ـ المرحلة الرابعة: معجمات الأمثال:
ـ المفضل بن سلمة (ت 291 هـ): الفاخر ـ نُشر بتحقيق عبد العليم الطحاوي، القاهرة 1960م.
ـ ثعلب (ت 291 هـ): كتاب الأمثال.(8)
ـ أبو محمد الأنباري (ت 304 هـ): كتاب الأمثال.(9)
__________
(1) ـ الخطيب، تاريخ بغداد: 9/ 203.
(2) ـ السيوطي، بغية الوعاة: 1/ 106.
(3) ـ القفطي، إنباه الرواة: 261.
(4) ـ ابن خلكان، وفيات الأعيان، 6/ 395.
(5) ـ ابن النديم، الفهرست: 63.
(6) ـ ياقوت، معجم الأدباء: 16/ 109.
(7) ـ ابن النديم، الفهرست: 85.
(8) ـ ابن النديم، الفهرست: 80.
(9) ـ نفسه: 81.(1/29)
ـ الترمذي (ت بعد 318 هـ): الأمثال في الكتاب والسنة (1).
ـ نفطويه (ت 323 هـ): كتاب الأمثال وكتاب أمثال القرآن(2).
ـ محمد بن الجنيد ( ت بعد الثلاثمائة): كتاب الأمثال (3).
ـ أبو بكر بن الأنباري (ت 328 هـ): الزاهر في معاني كلمات الناس ـ نُشر بتحقيق حاتم صالح الضامن بغداد 1979م.
ـ محمد بن أبي جعفر المنذري (ت 329 هـ): كتاب زيادات في أمثال أبي عبيد(4).
ـ ابن سمكة القمي (ت نحو 350 هـ): جامع الأمثال(5).
ـ الرياضي (ت بين 382 ـ 344 هـ).
ـ حمزة بن الحسن الأصبهاني (ت 351 هـ): الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة.
ـ نُشر بتحقيق عبد المجيد قطامش، القاهرة، 1971م.
ـ أبو علي القالي (ت 356 هـ) كتاب أفعل ـ نُشر بتحقيق محمد الفاضل بن عاشور، تونس 1972م.
ـ الاصطخري (؟): كتاب الأمثال(6).
ـ زيد بن رفاعة( ت نحو 373 هـ): كتاب الأمثال ـ نُشر في حيدر آباد 1934م.
ـ أبو أحمد العسكري ( ت 383 هـ): الحِكم والأمثال(7).
ـ الخالع، الحسين بن محمد بن جعفر الرفقي (ت 388 هـ): كتاب الأمثال.(8)
ـ أبو هلال العسكري (ت 395 هـ): جمهرة الأمثال، طُبع أكثر من مرة آخرها بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، القاهرة 1964م.
ـ أبو الندى الغندجاني(؟).
ـ أبو بكر الخوارزمي( ت بين 375 ـ 395 هـ): كتاب الأمثال.
ـ النيسابوري (ت 406 هـ): أمثال القرآن(9).
ـ محمد بن الحسين السلمي (ت 412 هـ): كتاب أمثال القرآن(10).
__________
(1) ـ فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي: 4/ 148.
(2) ـ ياقوت، معجم الأدباء: 1/272.
(3) ـ ابن النديم، الفهرست: 238.
(4) ـ ياقوت، معجم الأدباء: 18/ 100
(5) ـ اقتبس منه السيوطي في المزهر: 1/ 494.
(6) ـ انفرد بذكره الميداني، مجمع الأمثال: 1/ 331.
(7) ـ ياقوت، معجم الأدباء: 8/ 233.
(8) ـ نفسه: 10/ 155
(9) ـ حاجي خليفة، كشف الظنون: 1/ 168.
(10) ـ نفسه: 1/ 150(1/30)
ـ الثعالبي (ت 429 هـ): كتاب الأمثال. ويسمى الفرائد والقلائد، ويسمى العقد النفيس ونزهة الجليس: طُبع بدار الكتب، القاهرة 1909هـ.
ـ علي بن الحسن بن هندو (ت بين 406 ـ 421 هـ): كتاب الأمثال.
ـ علي بن الفضل الطالقاني (ت 421 هـ): رسالة الأمثال، طبع في القاهرة 1911م.
ـ أبو الفضل الميكالي (ت 436 هـ): كتاب الأمثال. نشره د.زكي مبارك، القاهرة 1944م.
ـ علي بن محمد الماوردي ( ت 450 هـ): أمثال القرآن(1).
ـ الحسن بن عبد الرحمن القضاعي (ت 454 هـ): الأمثال الكامنة في القرآن(2).
ـ الواحدي (ت 468 هـ): الوسيط في الأمثال: نُشر بتحقيق د.عفيف عبد الرحمن، الكويت 1975م.
ـ البكري (ت 487 هـ): فصل المقال في شرح كتاب الأمثال: نُشر بتحقيق د.عبد المجيد عابدين، ود.إحسان عباس، جامعة الخرطوم، السودان 1958م.
ـ الميداني (ت 518 هـ): مجمع الأمثال ـ نُشر بتحقيق محي الدين عبد الحميد، القاهرة 1959م.
ـ الزمخشري (ت 538 هـ): المستقصى في أمثال العرب ـ طُبع في حيدر آباد 1960م.
ـ ابن الجوزي (ت 597 هـ): كتاب الأمثال.
ـ ابن الأثير (ت 637 هـ): المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ـ نُشر بتحقيق محي الدين عبد الحميد، القاهرة 1939م.
ـ عبد العظيم بن عبد الواحد المصري (ت 654 هـ) بديع القرآن، تحقيق: د.حفني محمد شرف، القاهرة 1957م.
ـ ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ): الأمثال في القرآن الكريم ـ نُشر بتحقيق سعيد محمد نمر الخطيب، بيروت 1981 ـ وبتحقيق د.موسى بناي العليلي، بغداد 1987م.
العبدري (ت 837 هـ): تمثال الأمثال ـ نُشر بتحقيق أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش القاهرة 1964م وبتحقيق د.أسعد ذبيان، بيروت 1982م.
ـ اليوسي (القرن الحادي عشر الهجري) زهر الأكم ـ تحقيق حجي والأخضر الدار البيضاء 1981م.
***
الفصل الأول
الإطار
ـ (مدخل) الإطار السردي
ـ الاستهلال
__________
(1) ـ نفسه : 1/ 150
(2) ـ رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 36.(1/31)
ـ الفصل والوصل
ـ الخاتمة
الإطار السردي: مدخل
إن الدراسة التفصيلية لوحدات النص الأدبي، والوقوف على حيوية عناصره، تتطلب بدءاً، النظر إلى صورته واستجلاء نظام وحداته وهي تتصل فيما بينهما بما يضيء جانباً أساسياً من شخصيته الأدبية، هذا الجانب الذي يرتبط بترتيب الوحدات وانتظامها وهي تشكّل إطارها الخاص بما تشغله من مساحة سرديّة وبما تقيمه من علاقات فيما بينها لتكّون، بذلك، لُحمة النص ومجال الارتباط بين أجزائه، وهي تنتقل، في شمول معنى (الإطار) وامتداد عمله، من الحدود الخارجيّة للنص إلى طرائق ارتباط وحداته الداخليّة وأوجه ترتيبها وهي، كما يُشير أرسطو في شعريته مكمن الجمال فيه(1). لتندرج معالجة موضوع الإطار السردي عندئذٍ، ضمن مبحث عام هو (ترتيب) وحدات النص الأدبي الذي يُعدّ مسؤولاً عن الانتظام الشكلي للنصوص، ويُسهم في مجال أوسع من البحث، ضمن خصائص سرديّة أخر، في معاينة السمات النوعيّة التي تفرّق بين نصوص السرد العربي القديم وتجسّد شخصياتها ضمن النمط الواحد، إذ يتشكّل نص السرد عبر تنسيق مجموعة من الوحدات تخضع في حضورها لبناء خاص لا يتحدد بنقطتي البدء والانتهاء على ما تمثلانه من أهمية، بل يمتدّ ليشمل طرائق تنظيم وحداته الداخليّة وهي تؤمِّن ما يمكن من العلاقات فيما بينها، لنكون أمام وحداتٍ ثلاث تشكّل بما تقترحه من صلات مركز عناية الدراسة في توجّهها لفحص إطار نصوص الأمثال وهي:
1 ـ الاستهلال.
2 ـ الفصل والوصل،
3 ـ الخاتمة.
__________
(1) ـ ((لا ينبغي أن تقع فيه [الشيء الجميل] الأجزاءُ مرتبةً فحسب، بل ينبغي كذلك أن يكون له عِظم لا أيّ عِظمٌ واتفق، لأن الجمال هو العِظم والترتيب)).
... أرسطو، كتاب أرسطو طاليس في الشعر، تح: د.شكري محمد عياد: 60.(1/32)
إن محاولة النظر إلى ما يتشكّل من انتظام بين بدء النص وانتهائه، ومن ثم الارتفاع به لإدراك مايكون بين وحداته من ترابط بنائي ممكنةٌ في ضوء ما يميّز وحدات الإطار من سمات ((فالنص ذو بداية، ومجال وسط قد يطول وقد يقصر، ونهاية، وهي نقاط يمكن التوقف عند أي واحد منها وفصلها عن غيرها، ولكنها لا يمكن أن تُفهم معزولة عنها فكل مكوّن من مكوّناته يمثل معلماً تتقدم بها الأحداث إن كانت حدثاً، وتتعدد بها الذوات إن كانت ذاتاً))(1).
إن خصوصية الترابط، وآليته، بين وحدات النص السردي تدعو الدراسة لملاحظة فاعلية نظامه الأدبي وهو يقترح، في كلِّ مرّة يستجيب فيها لموجّهات النسق الثقافي، انحرافاً ما في الانتظام الشكلي لنصوصه، على الرغم من محافظته على تقاليد محدودة تظل، مع تغيّر السياق، أساسية في توجّه كل نوع من الأنواع، إذ إن السرد القديم ((يحرص على احترام افتتاحية معيّنة، وإن شيئاً من التفكير يجعلنا نقتنع بأنه يحترم كذلك خاتمةً معيّنة تنبئ بأن السرد قد انتهى))(2)، بما يوجّه الدراسة لتأمل قدرة النسائج السرديّة على اقتراح ترابط بنائي يضم وحداتها المختلفة ويرتفع بها في إنتاج شكل تميّزه، من بين أشكال النثر، فاعلية نوعية هي في الوقت نفسه نتاج عملية (الاختيار والترتيب) التي تقوم بالمهمة الرئيسة في إنتاج (الإطار) بما يميّز وحداتها من تواشج وتنظيم، وهي تمهد لانطلاق السرد وتهيء المجال، باشتغالها ضمن نسق ثقافي معيّن، لتحقيق أهدافه.
الاستهلال:
__________
(1) ـ الأزهر الزنّاد، نسيج النص: 43.
(2) ـ عبد الفتاح كليطو، الحكاية والتأويل: 34.(1/33)
توجّهت العناية البلاغية والنقدية لدراسة الاستهلال بوصفه ((الطليعة الدالة على ما بعدها))(1)، والاهتمام بما ينطوي عليه من خصائص أو سمات تفتح المجال باتجاه النص والقارئ فتعمل على إضاءة (غرض) النص(2) مثلما تسعى لتنبيه وإيقاظ نفس القارئ(3)؛ غير أن دراسة الاستهلال في كتب الأمثال يمكن أن توجّهنا جهة ثانيةً تكشفها الخصائص السرديّة التي تميزت بها بنيته، في ثباتها وحركيتها وهي تقوم بالأساس على ما يوفره السرد من إمكانيات تُسهم، على نحو غير محدد، بتشكيل نص المثل، وتأمين نُظم علاقاته ليكون الاستهلال عندئذٍ، ((فعلاً تأليفياً يتقدم النص ويؤطره ممهداً لجريان السرد في مسارات شتى تشكّل شبكةً عريضةً من العلاقات))(4).
إن الاكتفاء بموقع (حسن الابتداء) الذي عملت النظرة النقدية على تثبيته وإطالة معاينته في دراسة موضوع الاستهلال والوقوف على ما يحققه من ملاءمة لإضاءة النص الأدبي لا يُعين الدارسَ على تبيّن ما تنطوي عليه بنيته من علاقات ظلت بمنأى عن نظر النقاد والدارسين باكتفائهم بجهة واحدة من جهتي الاستهلال، إذ إن باستطاعتها أن تمدَّ أثرها بشكل مزدوج فتنفتح على ماقبلها مثلما انفتحت على ما بعدها، لتضيء سلسلة إسناد، وتكشف نظاماً، وتحدد موجهات، مثلما تُعيّن غرضاً، وتنبّه قارئاً، فإن الغرض والتنبيه لا يؤَدَيان من دون علاقة يقيمها نمط الاستهلال الحالي مع أنماط الاستهلال السابقة، بأساليبها وأشكالها المختلفة داخل جنس أدبي معيّن، بما يُعين على تأمين (أفق انتظار) يكون من بين سماته التنبيه والإيقاظ.
__________
(1) ـ حازم القرطاجني، منهاج البلغاء: 309.
(2) ـ ينظر: د.أحمد مطلوب، معجم المصطلحات البلاغية: 1/ 196.
(3) ـ ينظر القرطاجني، منهاج البلغاء: 310.
(4) ـ الطاهر رواينيه، شعرية الدال في بنية الاستهلال في السرد العربي القديم، عن: مختلفون، السيميائية والنص الأدبي: 140.(1/34)
إن نوعاً من التلازم الضمني بين جهتي الاستهلال يدعونا لمعاينة بنيته بقدرتها على إضفاء مستوى من الفاعلية والانتظام على ما يقوم داخلها من علاقات، فالاستهلال كما تقدِّمه كتبُ الأمثال لا يكتفي بجهة واحدة من بين جهتي السرد، بل يُلمع إلى أهمية علاقته بما قبله، فالموقع البنيوي للاستهلال في كتاب معيّن من كتب الأمثال يملك أن يشير لموقع آخر هو موقع الاستهلال نفسه في سلسلة استهلالات هذه الكتب، من هنا، كانت أهمية معاينة جهتي الاستهلال في كتب الأمثال على النحو الآتي:
... ... ... ما قبل: علاقة الاستهلال الحالي
بنية الاستهلال ... بما قبله من الاستهلالات
... ... ... النص: غرض
... بعد ... ... القارئ: تنبيه وإيقاظ(1/35)
يحيلنا تأمل الاستهلال في كتب الأمثال العربيّة إلى خصوصية بنيته السردية التي لا تتوجّه في الغالب إلى كشف عناصرها وتهيئة المجال أمامها للتشكّل والانسجام كما في (ألف ليلة وليلة) على سبيل المثال، ولا تتكفل كما في (المقامة) بكشف المستويات الزمنيّة لبنية السرد وتنظيم مهمات الراوي(1)، بل إنها تعتمد إلى الانفتاح على جهتي الإخبار، الـ(ما قبل) ممثلة بسلسلة رواة غائبين، والـ(ما بعد) ممثلة بمفاد الخبر، محموله، ونظام الإبلاغ فيه، فهو العتبة التي ((تفتح السبيل إلى ما يتلو))(2) وتشير أو تكشف في الوقت نفسه عن سابقي رواته. فالمثل العربي لا يُقدَّم بالنظر إلى نظام الاستهلال، بوصفه نتاجاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بـ(مؤلف) أو يتمثل لرغبات (راو) معين، فالخبر يتجسد وهو يمرُّ عبر سلسلة مخبرين لا تتجرّد عن شعورها ولا تصرّح بشكل واضح بما تشعر أو تظن فتكتفي كما تُقدِّم إحدى حلقات السلسلة بالظن أو التلميح بعدم صدق ما يُروى، يقول ابن منظور ((وقال الليث: سمعت أهل العربية يقولون إذ قيل ذكر فلان كذا وكذا فإنما يُقال ذلك لأمر يُستقين أنه حق، وإذا شُك فيه فلم يُدْرَ لعلَّه كذب أو باطل قيل زعم فلان))(3)، ويورد القرآن الكريم ما يؤكد ذلك { زعم الذين كفروا أن لن يُبعثوا(4) } ، { فقالوا هذا لله بزعمهم(5) } ، { أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون } (6)، فـ(زعم) أي قال، وقيل –بجملة ابن منظور- هو القول يكون حقاً ويكون باطلاً.
__________
(1) -ينظر د.عبد الله إبراهيم، السردية العربية: 194، 196.
(2) -أرسطو، الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي: 235.
(3) -ابن منظور، لسان العرب: مادة (زعم).
(4) -التغابن/7.
(5) -الأنعام/136.
(6) -الأنعام/22.(1/36)
إن هيمة صيغة (زعموا أن) على استهلال نصوص أمثال كتاب (المفضّل الضّبيّ)، وامتدادها من الاستهلال إلى المتن في نماذج كثيرة منها بما تتمتع به من قدرة على التنويع والتفصيل لإدامة السرد، تدعونا إلى ملاحظة علاقة هذه الصيغة من بين صيغ افتتاح أُخر بجنس الخبر، بتعدد أنواعه، وأشكاله، وما يدور حوله من قصص أو وقائع، تاريخية أو متخيلة(1)، فالاستهلال السردي، على العموم، ((ما هو إلا نوع من الإسناد المركب الذي انحدر من تقاليد الإسناد في فن الخبر))(2) وقد بقيت الأمثال، على نحو خاص، أمينةً على تلك التقاليد وإن خضعت في بعض أوجهها لموجّهات عصريّة غيّرت من مستوى وشكل تعاملها مع محمولات نصوصها، في الوقت الذي عملت نماذج سرديّة أخرى على الانفصال عن صور استهلال الخبر بما يُسهم بتشكيل بناها السرديّة، وهي ملاحظة لن تقف داخل حدود النوع متأملةً علاقة الاستهلال، في ثباته أو تغيره، بالبنية السرديّة: سيرة، أو حكاية خرافية، أو مقامة، بقدر ما تؤشر مسافةً معنويةً يحددها مستوى التغيير الحاصل بين نوع من الأنواع وبين الخبر، إذ تعني هذه الملاحظة انشغالاً فنياً وفهماً مختلفاً لأدوار العناصر والوحدات في تشكيل العمل السردي.
__________
(1) -ينظر: سعيد يقطين، الكلام والخبر: 192.
(2) -د.عبد الله إبراهيم، السردية العربية: 196.(1/37)
إن التعامل مع تقاليد الإسناد، والافتتاح أولها، يدعونا للسؤال عن الإمكانية التي يحققها هذا التعامل في تنظيم العمل السردي لـ(ما بعد) الافتتاح، فاختلاف البنى السرديّة بين قصص الأمثال وبين الحكاية الخرافية، أو المقامة، أو السيرة يكشف عن مستوى من الثبات تتمتع به قصص الأمثال مقابل مستوى من التحوّل والتغيير للأنواع الأخرى، يختلف بين كل منها، بما تحدده فعالياتها الإخبارية، وما تنهض به من فاعليّة سرديّة تؤمِّن لمستوياتها مجالاً للتشكّل والمؤازرة، الأمر الذي بقي المثلُ محافظاً فيه على تقاليد الأداء الخبرية بما يشير إلى موقعه وانتظام حدوده في السرديّة العربيّة.
وإذا توجهنا للنظر إلى موقع صيغة الاستهلال (زعموا أن) كما وردت في كتاب (المفضّل الضّبيّ)، وكما انتظمت في سلسلة الأمثال العربية تبينا توسطها بين نوعين من أنواع الاستهلال، مما يمنحها أهمية يمكن تحديدها بالنقطتين الآتيتين:
1- الحفاظ على تقاليد قول سابق، مع ما تنطوي عليه من ظن أو تكذيب.
2- منح كتب الأمثال اللاحقة (التي توجهت منها توجهاً لغوياً) إمكانية الإفادة من متونها عبر الحذف والانتقاء.
تُشير النقطة الأولى إلى الأهمية التاريخية لصيغة (زعموا أن) فضلاً عن سماتها البنيوية ودورها واسطة بين حلقات، فلم تعمد كتب المفضل
((1/38)
ت 170 هـ) وأبي فيد (ت 195 هـ) وأبي عبيد (ت 223 هـ) وأبي عكرمة (ت 250 هـ) إلى استعادة المثل بصورته الأولى، والاستهلال منه بخاصة، كما ورد في ما يتوفّر من نقل عن كتب الأمثال الأولى لصحار بن عياش العبدي (ت نحو 60هـ) وعلاقة الكلابي (كان حياً قبل سنة 64هـ) وعبيد بن شريه الجرهمي (ت نحو 67 هـ)، بل إنها عملت على الإفادة من محمولاتها السرديّة، من دون أن تهتم بعنصر المطابقة مع نصوص أمثالها، وقصصها، وصيغها، إذ يُلاحظ توزع الصياغات الأولى لنصوص الأمثال بين تنظيم جمل افتتاح اسمية، نكرة أو معرفة، تشير من دون تمهيدات أو صيغ استهلال متغيرة أو ثابتة إلى (فواعل) الحدث التي صيغت على أساس أفعالها الأمثال، وبين (أول من..) التي تُسهم على نحو واضح بإضاءة أدوار (الفواعل) ليستمر التركيز على أهمية التجربة بوصفها واقعةً تاريخيةً أسهمت ببلورة (صيغة المثل) جرياً على تقاليد شفاهية أسبق، فالصوغ والتشكيل لم يكونا ليبتعدا عن موقع (المثل) تدويناً وتاريخاً، ليتمكنا من ملاحظة قابلية الأداء السردي، وتفحّص إمكانياته، بل إن الانشغال بالخبر دفع بصياغات المرحلة الأولى للتماهي بالواقعة والاهتمام بالتجربة التي لولاها لما كان المثل. إننا بذلك نتأمل (موقعاً) لتشكيل الصياغة السرديّة لقصص الأمثال، لا تبدو فيه مسافةً فاصلةً بين (التجربة) وبين (إعادة إنتاجها).
مما نُقل عن كتابيّ علاقة الكلابي، وعبيد بن شريه الجرهمي، نقرأ مجموعة من الاستهلالات تؤكد سعي الصياغة لمواجهة قصة المثل على نحو مباشر، كأنها إذ تُكتب تستعيد الواقعة كما كانت أو كما رُويت أول مرَّة على أقل تقدير(1):
ت
صيغة المثل
الاستهلال
الكتاب
علاقة الكلابي ... حذام هي بنت الريان.. ... القول ما قالت حذام ... 1
__________
(1) -الأمثال منقولة عن: أبو عبيد البكري، فصل المقال: 37، 75، 99، 290، 29، 328، 337 (علاقة) 64، 93، 239، 255 (عبيد).(1/39)
علاقة وعبيد الجرهمي ... هذا المثل لرجل من العرب له فرس.. ... عرفتني نسأها الله ... 2
علاقة الكلابي ... الرجل الذي مرَّ بعمرو بن حمران هو.. ... كلاهما وتمرا ... 3
علاقة الكلابي ... أول من قال (خلا لك الجو.. ... خلالك الجوفبيضي واصفري ... 4
علاقة الكلابي ... أول من قال ((التجريد لغير نكاح.. ... التجريد لغير نكاح مثله ... 5
علاقة الكلابي ... إن عروساً لرجل من العرب.. ... لا مخبأ لعطر بعد عروس ... 6
عبيد بن شريه الجرهمي ... أول من قال سبق السيف العذل.. ... سبق السيف العذل ... 7
عبيد بن شريه الجرهمي ... كان عمرو بن تَقْن قد طلق امرأة.. ... إحدى حظيات لقمان ... 8
عبيد بن شريه الجرهمي ... أتى النعمان بحمار وحش فدعا.. ... وابأبي وجوه اليتامى ... 9
10
أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك
كان أصل هذا المثل أنَّ فتاةً..
عبيد بن شريه الجرهمي(1/40)
يُلاحظ مع انتقال الأمثال من كتاب (علاقة الكلابي) أو كتاب (عبيد بن شريه الجرهمي) إلى كتاب (المفضّل الضّبيّ) ما يُجرى عليها من تغير سردي، ما يقع منه على استهلال قصة المثل نحو خاص، ففي المثل رقم(5) يُلاحظ دور الصفة في كتاب علاقة في توجيه الاستهلال لبيان ترتيب، أو دور، أو أسبقية الفاعل، فـ(رقاش بنت عمرو بن تغلب) هي (أول من قال) بناءً على واقعة تتوجّه قصةُ المثل لسرد تفاصيلها. أما في كتاب (أمثال العرب) للمفضّل فلا يُستعاد المثل كما ورد في الكتاب السابق، بوحداته السرديّة وموجهاته بل إن وحدات جديدة تتشكل في ضوء موجهات من نوع آخر، إذ لم يَعد سرد القصة قائماً بغية تحديد دور أو ترتيب، وإن أصبح هذا الأمر من لوازم ورود القصة، فإن صيغة (زعموا أن)(1) تملك أن تنظم مجالاً مختلفاً لاشتغال عناصر القصة يُلمس فيه، منذ البدء، دور راو غير معيّن، تتسع المسافة بينه وبين ما يروي، مما يسمح بحضور أصوات مجموعة من الرواة من بينهم (علاقة الكلابي)، وإذا كان المثل قد حافظ مع انتقاله من كتاب (علاقة) إلى (كتاب المفضّل الضّبيّ) على (حكايته) بأسماء أشخاصها، وأدوارهم، ومناسبة المثل، مع امتداد ملحوظ يُسهم به كتاب (المفضّل) بإضافة وحدة قصصية جديدة توسع من
__________
(1) -المفضل الضبي، أمثال العرب: 128.(1/41)
حلقة الشخوص، والأدوار، وتنظم مناسبة لاحتواء مثل جديد، فإن انتقال المثل رقم(7) من كتاب (عبيد بن شريه الجرهمي) إلى كتاب (المفضّل الضّبيّ) يخضع لتغيّرات تشمل (الحكاية) والتشكيل السردي في وقت واحد، ولم يبق من نص المثل في كتاب (عبيد بن شريه) غير صيغة المثل، ويُلاحظ جريان التغيرات أنفسها التي جرت على استهلال المثل في كتاب (علاقة الكلابي) على استهلال مثل (عبيد بن شريه)، فاهتمام عبيد يتوجه نحو (أول من قال) أسوة بكتاب علاقة في الإفادة من الصفة(1) لتحديد الأسبقية والترتيب، في الوقت الذي تُسهم (زعموا أن) في استهلال المثل في كتاب (المفضّل)(2) بتنظيم سبل أداء مختلفة يقترحها موقع المفضّل في سلسلة مؤلفي كتب الأمثال، فاختلاف الحكاية بين الكتابين، وثبات صيغة المثل يكشف دور رواة آخرين غابت أسماؤهم وحضرت رواياتهم ليسهموا بوصول المثل إلى المفضّل الذي سيعمل بدوره على إيصاله إلى لواحق السلسلة من مؤلفي كتب الأمثال، مع الاهتمام بالموجّهات الذاتيّة منها والموضوعيّة التي تُسهم في توجيه نُظم الصياغة والتأليف.
__________
(1) -في (أول) وأحوالها يُنظر كتاب سيبويه، تح عبد السلام محمد هارون: 397-398.
(2) -المفضل الضبي، أمثال العرب: 48.(1/42)
إذا كان موقع صيغة (زعموا أن) في سلسلة الأمثال العربيّة يُعيّن مرحلةً وسطى من مراحل الاستهلال السردي فإن موجهّات جديدةً تحدد استهلالات من نوع آخر لكتب الأمثال اللاحقة بكتاب (المفضّل الضّبيّ)، مما يُشير إلى دور الصيغة في الحفاظ على بعض عناصر القصة ووحداتها ومن بينها العنصر اللغوي الذي توجّهت الكتب اللاحقة للإفادة منه تبعاً لتوجّه مؤلفيها وعنايتهم بالدرس اللغوي، فدور الصيغة يمكن أن يكشف أهميةً مزدوجةً في الحفاظ على تقاليد سابقة، وتهيئة الفرصة لإغناء توجّه لاحق، فلم تنفصل كتب (أبي فيد) و(أبي عبيد) و(أبي عكرمة) عن كتاب (المفضّل الضّبيّ) بما يمكّن الدارسَ من الإشارة إلى أسلوب جديد أو طريقة مضافة في التعامل مع نص المثل، كما إنها لم تكرر تجربة المفضّل نفسها في العناية بالمثل بوصفه نصاً أدبياً يُكتفى في أحيان كثيرة بتركيز النظر داخل حدوده الفنيّة من دون أن تُمنح جوانبه اللغوية أو التأريخية ما حظيت به من عناية واهتمام في الكتب اللاحقة، إذ أن مسافةً من الانفصال بين نموذجي كتب الأمثال ظلت مؤثرةً بما يتحرّك فيها من عناصر النموذجين متماثلةً مرَّة ومختلفةً أخرى، بما يُمكننا ملاحظته عبر النقاط الثلاث الآتية، متأملين أَثر كل منها على الاستهلال:
1-اعتماد صيغة المثل.
2-اعتماد معنى المثل ثم قصته كما وردت عن المفضّل.
3-اعتماد رواية المفضّل.(1/43)
في النقطة الأولى تتوجّه كتب الأمثال اللاحقة للإفادة من كتب الأمثال السابقة، والمفضّل من ضمنها، في حدود صيغة المثل، من دون أن تمنح جانبها القصصي اهتماماً، إذ تُنقل صيغتا المثلين، (اليوم خمر وغداً أمر) و(أعزّ من كليب بن وائل) إلى كتاب (أبي فيد)(1) وتُنقل صيغة المثل (إذا طلبت الباطل أَنجح بك) إلى كتاب (أبي عبيد)(2) مجردةً عن قصصها، على الرغم من أهمية مرجعيّة تلك القصص وارتباطها بشخصية مهمة مثل صيغة مثل (أبي فيد) الأولى بإشارتها لـ(امرئ القيس بن حجر الكندي) والثانية بارتباطاتها بإحدى حوادث العرب الجسام ويوم مؤثر من أيامها مثل حرب البسوس التي يستخدم (المفضّل الضّبيّ) صيغة (أعزّ من كليب..) مستهلاً لنص مثلها في كتابه، فيما يتوجّه (أبو عبيد) لإضاءة معنى المثل في ست كلمات على النحو الآتي: (إذا طلبت الباطل أنجح بك، معناه: أن نُجح الدعوى يكون عليه لا له) وهو مفاد نص المثل كاملاً في (باب الظلم في ادعاء الباطل والحكم قبل أن تُعرف حجةُ الخصم).
وفي النقطة الثانية (اعتماد معنى المثل ثم قصته كما وردت عن المفضل) يُلاحظ الاهتمام بجانب اللغة والتفسير للإحاطة بمعنى المثل والتهيئة لاستحضار قصته، فالقصة تعتمد في سبيل تأكيد معنى أو إضاءة تفسير، بما يتطلب توجيهاً خاصاً للعناصر والوحدات السردية، والاستهلال من بينها، ففي المثل (أسرع من نكاح أمِّ خارجة) يعتمد (أبو فيد)(3) صيغة المثل نفسها استهلالاً لنصه، مختزلاً القصة إلى أقصى حد ممكن باعتماده صيغة المثل، والفعل الماضي الناقص، مع نقل ما ينتظم من حوار ليخلص إلى العناية بالجانب اللغوي على النحو الآتي:
((
__________
(1) -أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 68، 72، المفضل الضبي، أمثال العرب: 127 و129.
(2) -أبو عبيد بن سلام، كتاب الأمثال: 266، المفضل الضبي، أمثال العرب: 118.
(3) -ينظر: أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 65 والمفضل الضبي، أمثال العرب: 66.(1/44)
أسرع من نكاح أمِّ خارجة)) كانت إذا أتاها الخاطب، قال: خطب، قالت: نُكح، فيقول: ارتحلي، فتقول: أَنخ.
حدَّثنا الحسن، قال: حدَّثنا إسماعيل، قال: أخبرني أبو فيد، قال: سمعت أبا هشام يرفع. وقد سمعت من يقول: خِطْبٌ نِكحٌ).
إن الاهتمام بموجّهات مختلفة يتطلّب تغيير نظام الارتباط بنص المثل وقصته في وقت واحد، فإذا عَمِلت النماذج الأولى لصحار وعلاقة وعبيد على الانشغال بالواقعة، وإذا ابتعدت صياغات المرحلة الثانية مسافةً مع صيغة (زعموا أن)، فإن موجّهات العناية اللغوية عملت على تجاوز النظر في المسافة أو الاهتمام بواقعة معيّنة، منشغلةً على نحو كامل بالبحث والاستقصاء اللغويين، الأمر الذي خلخل انتظام القصة وعاءً سردياً وغيّر من عمل عناصرها.
ويمكننا أن نلمس اهتماماً مزدوجاً بين (اللغة) و(القصة) كما في كتاب (أبي عكرمة الضّبيّ) وهو يورد المثل (لا أطلب أثراً بعد عين) من دون أن تفوتنا ملاحظة الأهمية التي تُعامَل بها اللغة من عدة أوجه مثل:
1-تقيم العناية اللغوية كالبحث في المعاني أو التفسير على العنصرين التاريخي والقصصي.
2-الاهتمام بالشواهد الشعريّة لتأكيد المعنى.
3-التعامل الخاص مع قصة المثل.(1/45)
فلا يُمثّل الاهتمام اللغوي في كتاب (أبي عكرمة الضّبيّ) توجهاً ثانوياً، بل إنه كما في كتابي (أبي فيد) و(أبي عبيد) يأخذ موقعاً مركزياً لا يؤثر في نظام ورود القصة فحسب، بل يتعداه لفهم المثل نفسه، إذ أنهم وقفوا أمام غريب اللغة أو الشاذ فيها بغية تفسيره والتمثيل له بدلاً من الاهتمام الكامل بـ(الأمثال) نصوصاً وقصصاً؛ من هنا نتأمل استهلالاً جديداً لا للقصة بل لتنظيم سلسلة الأمثال في الكتاب، فلم تَعُد جملة (زعموا أن) باحتوائها الظن والتكذيب لتفيد في استقصاء تفاصيل الدرس اللغوي، بل إن هذا الدرس بحاجة إلى ما يؤكد اتجاهاً من اتجاهاته أو يؤَسس منحىً، فـ(وقولهم) التي اتُخذتْ فاتحةً لإيراد المثل تعتمد بالأساس صدق السابق وأحقيّة قوله بالأخذ والدرس والمعاينة، ولم تكن غزارة الشواهد الشعريّة غيرَ سعي عصرٍ لتأكيد أهمية الاشتغال اللغوي الذي دفع بعنصري التاريخ، المرجع القصصي، والقصة إلى مصاف ثانوي من الاهتمام.(1/46)
لذا لن يكون من الغريب أو تُقدَّم صورة جديدة لقصة المثل لا يُراعى فيها دور الانتظام السردي لصورته الأولى، مثلما وردت في الكتاب (المفضل الضبي)، إذ إننا نلمس دور الصفة (أول) في تغيير الاستهلال السردي واعتماد القصة بوصفها عنصراً تكميلياً لا يُطلب منه أكثر من تحديد أسبقية (مَنْ قال)، وهو ما يعززه موقع القصة في نظام إيراد المثل في كتاب (أبي عكرمة)، فليس لها غير موقع خاتمة (المثل) بعد أن تتم العناية اللغوية وتُستقصى الشواهد الشعريّة، فلا يقوم نظام الإيراد على أساس قدم، أو تجربة يُتوجَّه فيها للإفادة من المحمول الحكائي لإضاءة موعظة، أو الوقوف على قيمة معيّنة اجتماعية أو أخلاقية بقدر ما يُعتمد بوصفه إنموذجاً لغوياً يُسعى للإفادة منه بالحفاظ على الجانب اللغوي وصيانته، فنص المثل يُقيم شبكةً لغويةً قبل أن تؤدى قصته، أو يُنظر لتجربته نظرةً خاصةً، إذ أنه يُقدَّم عبر مجموعة من الوحدات يمكن ملاحظتها كما يأتي(1):
1-الاستهلال: وقولهم ((لا أطلب أثراً بعد عين)).
2-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالنثر: ومنه قولهم ((لا آخذ ثوبي إلا بعينه)).
3-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر، وقال الشاعر يذكر رجلاً: وعينه كالكاليء الضِّمار.
4-التفسير/ الكاليء: النسيئة، وهو التأخير.
5-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالنثر: ((إن الجواد عينه فِرارُهُ)).
6-التفسير/ عينه: نفسه.
7-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر: ومثله قول الأخطل: تُخبِرُ عن مجهولهِ مرآتُهُ.
8-التفسير/ أي إذا رأيته دلتك رؤيته على ما غاب عنه منه.
9-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر وقال: فلم يَبْقَ إلا كلُّ خوصاء تدَّعي..
10-التفسير/ تدَّعي: تُخبِر عن نفسها..
11-التمثيل اللغوي/ الاستشهاد بالشعر: وقال علقمةُ بن عبدة: ولا تزايلني في الروع سَلهبَةٌ..
12-التفسير/ أي يدلُّ عليها ذلك..
__________
(1) -أبو عكرمة الضبي، الأمثال: 63-65.(1/47)
13-القصة/ وحكى ابن الإعرابي، عن المفضّل أن أول من قال ((لا أَطلب..). لا تُشير عمليةُ التشكيل السردي لنص المثل بوحداته السابقة، وبتأكيده على جانبي التمثيل والتفسير إلى اهتمام بالجانب اللغوي، وعناية بتقديم عدد من النصوص التي يؤتى بها لتأكد معنى معيّن يتطلّب بدوره نصوصاً أخرى ممثِلةً أو مفسِرةً بما يُقيم شبكة نصوص يُسهم النثر والشعر بحياكتها قبل الالتفات لقصة المثل فحسب بل إنها تكشف توجّه ثقافةٍ معيّنةٍ توجهاً خاصاً، فإذا كان تحوّل قول ما إلى (نص) يتم ((إذا انضاف إلى المدلول اللغوي مدلول آخر، مدلول ثقافي يكون قيمة داخل الثقافة المعينة))(1)، فإن اعتماد (نص) ما، أو مجموعة لتأكيد (قول) أو لتفسير ما غَمُض منه، أو للتمثيل عليه، لن يكون إلا بتوجّه عكسي يرتفع فيه المدلول اللغوي داخل تلك الثقافة، وهو ما لا يقف عند موقع الوحدة القصصية بين وحدات نص المثل، بل ينسحب على طريقة التعامل مع هذه الوحدة ابتداءً من استهلالها، إذ إن أسلوب الإسناد الذي يتوجّه لتأكيد ما يُروى يوحِّد بين (القصة) وبين الوحدات السابقة ويوجهها اتجاهاً واحداً (وحكى ابن الأعرابي، عن المفضل أن أوّل من قال ((لا أطلب أثراً بعد عين)) أن بعض ملوك غسان أسر رجلين..) فلم يتوجّه المفضل(2)
__________
(1) -عبد الفتاح كليطو، الأدب والغرابة: 14.
(2) -ينظر: المفضل الضبي، أمثال العرب: 142-143..(1/48)
في تقديم المثل، إلى العناية بـ(أول من قال) لانشغاله بمدلول ثقافي آخر يكشفه اهتمام كتابه بتفاصيل التجربة، واستقصاء قيمها، الأمر الذي يُغيّر من أسلوب التشكيل السردي لقصة المثل حال استقدامها في كتاب (أبي عكرمة)، أي حال امتثالها لموجَّهات ثقافية تختلف عن الموجّهات التي نظمت تشكيلها في كتاب المفضّل، فالاختزال، وتغيير مواقع الوحدات، والاكتفاء بالبيت الدال من بين النصوص الشعريّة التي تحتويها القصة، صياغات تقترحها مدلولات جديدة، أو ممثلات لقيم ثقافيّة متغيّرة.(1/49)
وفي النقطة الثالثة (اعتماد رواية المفضّل) نُلاحظ المثلين (في كل واد بنو سعد) و(في النوى ما يكذب الصادق) وهما ينتقلان بما يجري على روايتهما من تغيير، ما يقع منه على الاستهلال بخاصة، من كتاب (المفضّل الضّبيّ) إلى كتابي (أبي فيد) و(أبي عبيد) على التوالي، ففي المثل الأول يقدَّم الاستهلال صورةً لتقاليد الإسناد واستجابةً لنظامه، فقصة المثل تتحرّك شفاهاً حتى تستقر في كتاب (أبي فيد)، وهي باعتمادها الفعل (حدَّث) وبأخذها عمَّن لم يُعرف عنه كتاب في الأمثال (الحسن بن عليل، إسماعيل، أبو الخنساء)(1)، وبما يُجرى عليها من تغيير كأنما تؤدي مهمة المفضّل للمرة الأولى، فهي تلتقط المثل من بين أحاديث السلف، ليكون هذا السلف جزءاً من البنية السرديّة لنص المثل وصيغة استهلاله، بما يكشف عن جانب من جوانب تأليف كتاب (أبي فيد)، ويُعيّن استجابته لتقاليد عصره. لذا ليس من الغريب أن لا نجد من العناية بقصة المثل ما يعادل العناية بسلسلة سنده، فالقصة تُقدَّم، على ندرة القصص في الكتاب، مختزلة لا يُؤثّر منها غيرُ تحديد الفاعل، صاحب صيغة المثل (الأضبط بن قُريع بن عوف بن كعب) ومناسبته (الاغتراب عن القوم بعد رؤية ما يكره منهم، والعودة لهم بعد ما يلاقي من غيرهم ما لاقاه منهم)، في الوقت الذي يسعى المفضّل لإضاءة المناسبة، والاهتمام بتفصيلات حدثه القصصي، مثلما يمنح الشخصية في قصة مثله مساحة أوسع للتعبير عن نفسها.
__________
(1) -أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 100، والمفضل الضبي، أمثال العرب: 50.(1/50)
وفي المثل الثاني يُلاحظ توجّه (أبي عبيد) لرواية (المفضّل الضّبيّ) على نحو مباشر بما ينظم استهلالاً مكوّناً من صيغة المثل زائداً مصدر روايته (عند النوى يكذبك الصادق، وكان المفضّل يخبر بحديثه أن رجلاً..)(1)، مغيّراً تبعاً لنظامه من حدود تعامله مع ما يُروى، فصيغة الاستهلال في نص مثل (المفضّل الضّبيّ) تفتح مجالاً واسعاً، يكاد يكون غير منظور لقصته يُعمّق من زمن التجربة، ويمدُّ سلسلة رواتها (زعموا أن رجلاً مضى في الدهر الأول كان له عبد..) في الوقت الذي يحدد نظام استهلال (أبي عبيد) مجال روايته بـ(المفضّل) ويقصر من عمق تجربتها بحديثه، فالاستهلال، خلاصةً، يتحدد في استجابته لتقاليد الإسناد في الخبر بطريقتين، تعتمد الأولى نظاماً تقترحه صيغة (زعموا أن) وتحافظ عليه، بما يميّز بنيتيها النحويّة والدلاليّة من انفتاح، وتتشكل الثانية تبعاً لاستجابتها لموجّهات عصريّة تتمثل بالعناية بالدرس اللغوي، بما يتطلّب التركيز على بنية تصديق (قال، حدَّث، ذكر) أو عبر النقل المباشر باعتماد صيغة المثل نفسها استهلالاً للنص.
الفصل والوصل:
__________
(1) -أبو عبيد بن سلام، كتاب الأمثال: 56، والمضل الضبي، أمثال العرب: 163.(1/51)
إذا كانت الدراسات البلاغيّة قد أوقفت مبحث (الفصل والوصل) على ما يكون بين الجمل من اتصال وانفصال، مجتهدةً في تعيين مواضعه، وتحديد أضربه بما يشير لاختصاصه بركن من أركان الجملة، فإن من العلماء مَنْ رفع منزلته ووسّع من اختصاصه لتكون البلاغة بسعة مباحثها وانفتاح آفاقها عبارةً عن ((معرفة الفصل من الوصل))(1)، ولا شك في أن الجاحظ حينما أولى هذا المبحث أهمية كبيرة، معادلاً إياه بالبلاغة نفسها، أو معرِّفاً إياها به، لم يكن يعني حدود المبحث وتفصيلاته مثلما استقرت بين أيدي علماء البلاغة، بقدر ما يشير لقابليته على الانفتاح على طرائق التفكير وأساليبه التي يمثل الفصل والوصل جانباً مهماً من جوانب تشكّلها، وإذا كان الفصل والوصل قد دُرس بحسب تعريف الخطيب القزويني(2) معتنياً بالوصل بوصفه عطفَ بعض الجمل على بعض والفصل ترك العطف، فإن للمبحث من الأهمية، من جانب آخر، ما يجعله (نظاماً) بلاغياً تترتب على أساسه أجزاء القول وتنتظم مفاصله، فالبلاغة كما يُشير أبو هلال العسكري ((إذا اعتزلتها المعرفة بمواضع الفصل والوصل كانت كالأليء بلا نظام))(3)،
__________
(1) -الجاحظ، البيان والتبيين: 1/88.
(2) -ينظر: الخطيب القزويني، الإيضاح: 147.
(3) -أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين: 438..(1/52)
وإذ نسعى لتأمل مواضع الفصل والوصل في كتب الأمثال، وندرس خصائصها، نتوجه لنبيّن جانب من نظامها السردي وانتظامها الجمالي، فالمثل بوحداته وتعدد صوره يعتمد بالأساس، وهو يُورَد في هذه الكتب، على قابلية الفصل والوصل التي تؤمِّن امتداد المقاطع وانتظامها مثلما تحكم ارتباطها مع غيرها منظمةً إجراءات التشكل السردي، ليكون بمقدور نسيج السرد الامتداد من المثل الواحد إلى مجموعة أمثال كما في كتب (المفضّل الضّبيّ) و(أبي فيد مؤرِّج السدوسي) و(أبي عبيد بن سلام) كل على طريقته، مقدماً شبكة أمثال موضوعيّة تعتمد في نظام علاقتها موضوعاً معيّناً تتوجّه فيه للعناية بواقعة، أو شخصيّة حقيقيّة أو متخيّلة، أو تعتمد مجموع أمثال في خلق أو صفة أو حال، مرتفعةً بالموضوع عبر استقصاء تفاصيله ليُصبح عندئذ هدفاً للحركة السرديّة.
إن نصوص الأمثال تقدِّم عبر شبكية موضوعاتها إنموذجاً سردياً لاتساع مهمات (الفصل والوصل) وانفتاح نظامه الجمالي وهو يمتد من الجملة إلى المقطع، ومن المقطع إلى المثل الواحد، ومن المثل الواحد إلى مجموع الأمثال، بما يتطلّب دراسة (الصيغة) التي تعمل أداة فصل أو وصل تمتد من خلالها مقاطع المثل، وتلتحم وحداته، وتتشكّل فروعه وأغصانه، من دون أن تغيب عن أنظار البحث الأهمية الخاصة لصيغة بعينها، والدور الذي تؤديه في انتقالها من الاستهلال إلى المتن لتقوم بأكثر من مهمة في وقت واحد، بمفردها وهي تتكرر من مقطع إلى آخر، أو بمشاركتها مع (صيغ) أُخر، باتصالها مع الاستهلال أو بانفصالها عنه، مما يمنح فكرة الانتظام السردي التي يعمل مبحث (الفصل والوصل) على تبيّنها فرصة التجسد عبر قنوات انتظام مختلفة نلمس من خلال تغيراتها أهمية الموجّهات التي يملك كل عصر بمؤثراته الخاصة واهتماماته واقتراحها، لتقترِح بدورها طريقةً أو تنشيء سبيلاً.
يمكن تقسيم صيغة الفصل والوصل بحسب ما تُقيمه من علاقات مع صيغة الاستهلال على النحو الآتي:(1/53)
1-التطابق: كما تؤديه صيغة (زعموا أن) في حركتها من الاستهلال إلى المتن.
2-الاختلاف: باستخدام صيغٍ جديدة تنشغل بمفاد المقطع أو محموله شعراً كان أو نثراً، وتهيء المجال لوحداته باختلاف توجهاتها للانتظام داخل المثل الواحد.
يُقدِّم القسم الأول (التطابق) إنموذجاً سردياً تُراعى فيه العلاقات القائمة بين استهلال المثل وبين صيغة الفصل والوصل المعتمدة في الربط بين مقاطعه، مثلما تُراعى البنيتان النحوية والدلالية للصيغة في انتقالها من الاستهلال إلى المتن، فهي نحوياً تستعيد الموقع السابق باعتمادها في كل مرَّة ترد فيها تقديم تفصيل جديد تقصد به إضاءة جانب من جوانب المثل والتهيئة لاحتضان مثل جديد؛ إنها تفتح المجال لاتساع النسيج السردي وامتداده، فتكشف عبر الحفاظ على البنية الدلالية لصيغة الاستهلال مع انتقالها إلى موقع الفصل والوصل أهمية استجابتها لمعيار الظن أو التكذيب، وهي تمتد لإضافة تفصيل أو لتقديم مَثل؛ إن الصيغة بحفاظها على بنيتي النحو والدلالة لا تعمل بوصفها أداةَ ربط مجرّدة لا يُطلب منها أكثر من تحقيق وظيفة عطف بل إنها تسعى للإفادة من قيمة الاستهلال وموقعه لتجسيد نظام ينطوي على إمكانية كشف المناسبة بين مثلين أو أكثر، مثلما يكون بمستطاعه الإلماع لما بين هذه الأمثال من صلة.(1/54)
تدعونا حركيّة هذه الصيغة لملاحظة نظام ورودها وهي تُقيم أوضح اتصال لها مع صيغة الاستهلال في كتاب (المفضّل الضّبيّ)، فـ(زعموا أن) تحقق حضوراً تتسع على أساسه الأمثال، وتُضاء التفاصيل، إنها تستجيب لنظام صياغة محدد في سبيل تقديم تشكيل سردي خاضع لعناية وترتيب، فلم يكن سرد المثل القائم في بنية استهلاله على مستوى من الاتصال بين سلسلة رواة لم تُؤخَذ متونها بتسليم كامل أو تُترك برفض كامل، ليهشم بصيغة داخلية تعتمد الصدق في نقل أو قول، إن الصيغة تُستعاد كما وردت في الاستهلال، وإن خضعت لتغيير جزئي، ليظل مجرى الرواية قائماً، مثلما يظل حكمها سارياً بين التصديق والتكذيب، الأمر الذي يكشف عنايةً سرديةً خاصة تنظم (أمثال العرب) وتضيء مفاصله كما في الجدول الآتي:
ت
رقم المثل
صيغة الاستهلال
صيغة الفصل والوصل
عدد مرات ورودها
مرة واحدة ... وزعموا أن ... زعموا أن ... 1
مرة واحدة ... وزعموا أن ... زعموا أن ... 2
مرة واحدة ... وزعموا أن ... زعموا أن ... 3
مرة واحدة ... فزعم بعضهم أن ... وكان ... 4
مرة واحدة ... ويزعم بعضهم أن
ثلاث مرات ... فزعموا أن
مرة واحدة ... وزعم بعضهم أنه
مرة واحدة ... ويزعم بعض الناس
مرة واحدة ... ويزعم بعض بني
مرة واحدة ... وزعموا أنه
مرة واحدة ... زعموا أن ... أما قول الناس ... 5
أربع مرات ... وزعموا أن ... وزعموا أن ... 6
مرة واحدة ... زعموا أن ... زعموا أنه ... 7
مرة واحدة ... فزعموا أن ... زعموا أن ... 8
مرتان ... زعموا أن ... زعموا أن ... 9
10
زعموا أن
زعموا أن
مرة واحدة(1/55)
يهيء المثل عبر اعتماده صيغة معينة المجال لتنظيم حركته السردية، فالمثل رقم (62) على سبيل الدراسة يحتوي على عادة أمثال الضّبيّ، موضوعاً محدداً يؤدي دوراً مركزياً في تشكيل مقاطعه السرديّة أولاً، وإقامة ما يُمكن من علاقات فيما بينها ثانياً، ليكون ممكناً جمعها في إطار واحد، إذ تمثّل شخصية (لقمان) بصفتها وعاداتها، وبمن دار في فلكها من شخصيات، مركزاً موضوعياً، فالمثل لدى المفضّل لا يجمع أشتاتاً متفرقة من حكايات مختلفة، بل يعمل عبر الانشغال بموضوع معيّن على تنضيد مجموعة من صيغ الأمثال في مجال سردي واحد، ساعياً لخلق المناسبة التي يُصبح بالإمكان معها ربط عدد منها بنسيج سردي تنظم فيه صيغة (زعموا أن) موقعاً مناسباً لكل منها.
يحتوي المثل رقم (62) عدداً من صيغ الأمثال تنتظم على النحو الآتي:
الاستهلال: وزعموا أن: على أهلها تجني براقش.
وزعموا أن: هذا حِرٌ معروف وكنت البارحة في حِر منكر.
وزعموا أن: ذنب صحر أنها أتحفته وأكرمته وصدقته فلطمها.
وزعموا أن: كأن برحل باتت.
وبرحلها باتت لقم.
أشبه شرج شرجاً لو أن أسيمرا.
في نظم سيفك ما ترى يالقم.
الغادرة والمتغادرة والأفيل النادرة.
وزعموا أن: سدَّ ابن بيض الطريق.(1/56)
تؤمِّن (زعموا أن) انتظام النسيج السردي للأمثال، مثلما تؤمِّن موقعاً في تسلسلها الموضوعي لصيغة كل مثل على حدة، ويمكن لها بانتقالها من الاستهلال إلى المتن الوصل بين مقطع وآخر لا يتأديتها وظيفة عطف مجرّدة كما سبق، بل بما يُمكنِّها من إقامة الصلة بين مقطعين أو أكثر يكمّل أحدهما الآخر، فالمقطع الأول بتركيزه على (براقش ابنة تقن) امرأة لقمان يهيء مجالاً للشخصية المركزية (لقمان)، وإن بطريقة غير مباشرة، فصيغة المثل الأول (على أهلها تجني..) تتوجه بالأساس لشخصية (براقش)، لكنه مع (زعموا أن) الثانية يرفع (لقمان بن عاد) إلى مصاف اهتمامه، مركزاً موضوعياً تُنسج على أساس تجاربه مقاطع المثل، وتتحرّك الشخصيات بما يقوم بينها وبينه من علاقات، فنرى أخته مع المقطع الثاني قد اتفقت مع زوجته لتنام معه ليلة، فحملت منه، وولدت غلاماً أسمته لقيماً، لتنتظم المقاطع الآتية بما يكون بين لقمان ولقيم من حوادث تُصاغ على أساسها الأمثال.
نلمس تغيراً يطرأ على عمل صيغة (زعموا أن) مع انتقالها من الاستهلال إلى المتن، واعتمادها صيغةَ وصلٍ بين مقاطع متحدة موضوعياً، إذ إنها تعمل في مجال أكثر تحديداً من المجال الذي عملت به أول مرة، بما يغيّر من وظيفتها بين موقعي الاستهلال والمتن، فصيغة (الاستهلال) يمكن أن تقترح بدءاً، عدداً لا نهائياً من الموضوعات، يُنتقى من بينها موضوع واحد ليكون مركزاً سردياً تُصاغ على أساس تجربته الأمثال، لكن صيغة (الوصل) لا تعمل إلا بما يعيّنه موضوع المثل، إذ تنتمي (براقش) و(القيم) و(ابن بيض التاجر) لمركز موضوعي واحد هو (لقمان بن عاد)، فمهما امتدت وحدات المثل، أو تكرر عمل (زعموا أن) فإنها لا تشتغل، بوصفها صيغةَ وصل، خارج المركز الموضوعي، بل إنها تعمل بما يمكن أن تضيفه من تجارب أو تكشفه من خصائص أو عادات تميّز مركز المثل.(1/57)
وتؤدي صيغة (زعموا أن)، فضلاً عن الإضافة، دوراً في التنويع على موضوع معيّن إذ يكون موضوع المثل محدداً في شجاعةٍ، أو بخلٍ أو حكمةٍ شخصيةٍ معينةٍ، مثلما يقدم المثل رقم(83) بعض تفاصيل حمق (دغة بنت مغنج) الذي تؤكد زيادته باسم التفصيل (أحمق من دغة)(1) لتدخل عبره مع مجموعة من حمقى العرب(2).
تهيء (زعموا أن) مجالاً لاستحضار بعض وقائع هذا الحمق، بعد أن عُيِّن صفةً من صفات شخصية المثل في مقطعه الأول، لتشكل وقائعه مناسبة لامتداد النسيج السردي محتوياً في كل مقطع صيغة مثل أو أكثر على النحو الآتي:
الاستهلال: زعموا أن: نعم ويدعو أباه.
أحمق من دغة.
وزعموا أن: هَيْنٌ لين وأودتِ العين
زعموا أن: القوم ما طبّون.
__________
(1) -المفضل الضبي، أمثال العرب: 171-173.
(2) -ينظر: أبو علي القالي، كتاب افعل: 60-61 (أحمق) وجمع حمزة الأصبهاني بعض حكايات حمقها في الدرة الفاخرة: 145 والعسكري في جمهرة الأمثال: 1/54-389.(1/58)
عبر انتقال (زعموا أن) من الاستهلال إلى المتن، وبتغير عملها بين الموقعين يحدد (المفضّل الضّبيّ) نظاماً يسري بين مفاصل كتابه جميعها، فـ(زعموا أن) باقتراحها سمات سرديّة تختلف بين موقعي الاستهلال والمتن، وبتكملة إحداهما عمل الأخرى يُقيم (المفضّل) نظام إيراد المثل في كتابه، والطريقة التي تجمع وحداته بعضها إلى بعض وتصل بين قصصه بما يقتضي توجّه النظر إلى معالجة النقد العربي الحديث، وهو يُعيد قراءة النص التراثي، لـ(زعموا أن) من جهة موقعها التاريخي بين نماذج السرد بوصفها ((أول طريقة من طرائق السرد العربي المكتوب فـ((زعموا)) هذه كأنها أم الأشكال السرديّة، وأصلها، وأعرقها في الأدب العربي))(1)، أو من جهة عملها وهي ((تعلن للمتلقي أن السرد قد بدأ))(2)، لكن هذا النقد يكتفي في معالجته لكل من الموقع والعمل بقراءة (زعموا أن) وفحص أهميتها داخل كتاب (كليلة ودمنة)، فإذا كانت أهمية استخدام (ابن المقفع) (ت حوالي 142 هـ) لها تتأسس على ابتكاره ((عبارة تميّز بين ما ينقله هو إلى الأدب العربي من الفارسيّة القديمة، أو ما يفترض أن يكونه، وإنه لم يكن يندرج ضمن الرواية التاريخيّة الموثوقة المتصفة بالتحري الدقيق ما أمكن ذلك))(3)
__________
(1) -د.عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية: 165.
(2) -عبد الفتاح كليطو، الحكاية والتأويل: 34.
(3) -عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية: 164..(1/59)
فإن استخدام (زعموا أن) داخل شبكة نصوص تعود للغةٍ واحدة من ناحية، وعملها بين موقعي (الاستهلال) و(الفصل والوصل) من ناحية أخرى يتطلب نظراً خاصاً يُخرجها، إجرائياً، عن حدود استخدام (كليلة ودمنة) بما يوسع من فعاليتها السردية وهي تشكل، كما تقدم، مظهراً سردياً مهماً من مظاهر سرد نصوص كتاب (المفضّل الضّبيّ) في انحرافه من التدوين المجرَّد للنصوص إلى محاولة إنتاجها، بما يُضفي عليها من نظام، إنتاجاً أدبياً، الأمر الذي لا نجد له مثيلاً في كتب دراستنا عدا كتاب (أبي عبيد القاسم بن سلام) الذي يقدم وجهاً آخر من أوجه (الفصل والوصل) لا يقف داخل حدود المثل الواحد، أو يعتمد في باب محدد من أبواب الكتاب، بقدر ما يمثل نظاماً يمتد من المثل إلى الباب ومنها إلى جماع الأبواب، مكوّناً سلسلة من المعاني والموضوعات ميّزت كتاب (أبي عبيد) ومنحته موقعاً خاصاً بين كتب الأمثال، فهو لم يكتف بنقل جُلّ ما كُتب في كتب الأمثال السابقة أو الاستعانة في تفسير الأمثال بأقوال المشاهير من علماء العربية(1)، بل أخضع ذلك لنظام خاص من التبويب والتأليف عوملت فيه الأمثال المثقفة في موضوعها كما لو كانت مثلاً واحداُ يُكمل بعضه بعضاً بغير توقف أو انفصال، فموضع الكتاب الأول، مثلاً، يهتم بـ(جماع أبواب الأمثال في صنوف المنطق) ويمتد لسبعة وعشرين باباً يحتوي كل منها جانباً من جوانب الموضوع ويضيء ركناً من أركانه، من دون أن يكون بين المثل ومجاوره وبين الباب وما بعده شيء من نفور أو تعارض أو انفصال، فهو يستخدم كما في الباب الأول (باب المثل في حفظ اللسان وما يؤمر به منه للتقوى وسلامة الدين مع الموعظة فيه)(2) الفعل (قال أبو عبيد..) مفتتحاً ليتضمن قول أبي عبيد بعده إشارة لما (وجد) من الأمثال في هذا الباب (وجدنا من الأمثال في حفظ اللسان..
__________
(1) -أبو عبيد بن سلام، كتاب الأمثال، مقدمة المحقق: 17.
(2) -نفسه: 39-41.(1/60)
) مستخدماً فعلاً يشير لأحد مصطلحات الحديث، بما يُهيء المجال للنظر لما بين كتب الأمثال وكتب الحديث وأساليب روايته من أسباب يحكمها العصر وينظمها عمل العلماء في الحقلين معاً. نلاحظ بعدها استمرار (أبي عبيد) في إيراد أمثاله بروابط مثل (ومنها قول..، ويقال في نحو من هذا.. كذلك قولهم..) بما يؤمِّن اتصالاً بيّنا بين المثل وما بعده.
وفي كتابيَ (أبي فيد) و(أبي عكرمة) يلاحظ عدم الاهتمام بتحديد نظام سردي خاص يورد على أساسه المثل ويوصل بين نصوصه، على الرغم من اعتماد موضوع معين لكل مثل واستحضار عدد من قصصه كما في كتاب (أبي فيد)، إذ إنه يقدم في المثال رقم(12) سلسلة قصص تتخذ من (حمق الضبع) موضوعاً، إلا أن انشغاله بالموضوعة اللغوية، وعمله على تفسير غريب اللفظ ثم الاستشهاد بالشعر لتأكيد المعنى، يُسهم بإضعاف النسيج السردي ونفي سمة (النظام) عنه، إذ يظل الموحِّد الموضوعي ثانوياً في عدد كبير من أمثال الكتاب أمام رغبة مؤلفه، واهتمام عصره، بالبحث والمعاينة اللغويين. يُدرج (أبو فيد) المثلين (12) و(13) على أساس موضوعي على النحو الآتي(1):
ت
صيغة المثل
الفصل والوصل
المقطع
ما أضيف من صيغ الأمثال
لغة ... وإنما قيل ... خامري حضاجر ... 12
استشهاد ... وقال الراجز
قص ... وإنما قيل
قص ... ومما قالت العرب
قص ... وزعموا
قص ... وذكروا
قص ... وهي التي
في بيته يؤتى الحكم حر انتصر حدث حديثين إمراه.. ... قص ... ووجدت الضبع تمرة
إن الضبع تأكل الطعام ... ويقال فيها
تعليل
استشهاد
استشهاد ... يقال ذلك ... عيثي جعار ... 13
وسال
قص
__________
(1) -أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 45-49.(1/61)
مثلما يقدِّم الجدول، لا يعتمد كتاب (أبي فيد) أسوة بكتب الأمثال التي توجهت توجهاً لغوياً صيغةً معيّنةً في استهلاك أمثاله أو متونها، ولا يُقيم بين صيغتي الاستهلال والفصل والوصل أية سمة للمماثلة أو المطابقة، إذ أن صيغ الاستهلال لديه لا تعتمد إنموذجاً معيناً فهي تكاد تتعدد تعدد الأمثال في الكتاب، مثلما تتعدد صيغ الفصل والوصل لديه تعدد مفاد مقاطعها وتتغير بتغير محمولاتها. إن إيراد صيغة المثل نفسها مفتتحاً العمل على تفسيرها، ثم الاستشهاد على التفسير بالشعر يخلق مقاطع تؤثِر الصياغة التعليمية، وتنحو منحى الدرس اللغوي أكثر من جهدها في تقديم أنموذج يعتمد في صياغته السرديّة نظاماً محدداً يمكن ملاحظته على أمثال الكتاب في تقديم استهلالها أو متونها.
يُلاحظ تغير صيغة الوصل في كتاب (أبي فيد) بتغير المقاطع، فهي تعتمد كما في المثلين(12) و(13) (إنما) الكافة والمكفوفة في حالتي فتح المجال للمعلومة اللغوية وللمقطع الحكائي على السواء، مثلما يُلاحظ اعتماد صيغ مثل (مما قالت العرب، وزعموا، وذكروا) في مجال واحد، من دون النظر إلى ما بينها من فروق نحويّة أو دلاليّة بما يمكن أن يشير إلى اعتماد أسلوب شفاهي (تروى) فيه مادة الكتاب أو (تملى) على مجموعة من السامعين، فتغيّر الصيغة يُضفي مستوى من التنويع على الرواية، والإملاء يجدد انتباه السامع ويحفّز الصلة بينه وبين راوي الكتاب، فالنظر لم يعد محدداً-في كتب الأمثال التي نحت منحىً لغوياً-بأفق الكتاب، بما يكون بين وحداته من علاقة وما يؤسس من نظام، بقدر ما سعى لتنظيم علاقة بين (راو) وبين (مستمع) تظل بحاجة إلى ما يجدها ويؤكد الانتباه فيها.(1/62)
ومع كتاب (أبي عكرمة الضّبيّ) نلمس تغيراً في الموقف من محمول الكتاب وطريقة تأليفه، تمليه موجهات عصريّة لم يكن أثرها حاضراً بالأهمية ذاتها في كتاب (المفضّل)، إذ يُشير (أبو عكرمة) في أَول كتابه إلى الدور الذي يُتطلب منه؛ والغاية من تأليفه، فهو يتوجّه لمعاني الكلام مما يحتاج إلى تفسير والتبيين بالشواهد الشعريّة فضلاً عن نسبة كل قول لصاحبه: ((هذا كتاب ألفناه من معاني كلام العرب السائر، مما يُحتاج إلى تفسيره؛ لكثرة استعماله، وبينّاه بشواهد من الشعر واللغة، وفسرنا ذلك، ونسبنا إلى كل عالم قوله))(1) مما يبين اهتمام كتابه بالتفسير والتبيين والتعليم أكثر من اهتمامه بـ(المثل) تاريخاً وروايةً، أو إفادةً مما ورد في كتب الأمثال السابقة، فهو بناءً على هذا التصور لا يُقيم لانتظام المثل في كتابه أهميةً تعادل أهمية الاستقصاء والمعاينة اللغوية مما يقترح أسلوباً لا يكاد يستجيب في معظم خصائصه لعنوان الكتاب، فهو يستفيض في البحث عن مذاهب (القول) ومعانيه واستقصاء ما يناسبه من شواهد كما في: (حياك الله وبياك)(2)، و(ما ساءه وناءه)(3)، و(لبيك وسعديك)(4)، و(نادم سادم)(5)، و(الأصل والفصل)(6)، و(بيضة العقر)(7)، و(مرحباً وأهلاً وسهلاً)(8).. إلخ، وقد يكتفي بذكر ما يقع من اختلاف في أقوال العلماء في تفسير قول واحد مثل (ما يَعْرِف هِراً من برٍّ) فهو يجمع أقوال (خالد بن كلثوم) و(أبي عبيدة) و(جهم بن مَسْعَدة الفزاري) في تفسير القول السابق على ما بين الأقوال من تباين واختلاف(9)، أو يعتمد حديثاً للرسول محمد( - صلى الله عليه وسلم - ) مثل (نِيَّةُ المؤمن خير من عمله)(10)
__________
(1) -أبو عكرمة الضبي، كتاب الأمثال: 23.
(2) -أبو عكرمة الضبي، كتاب الأمثال: 24.
(3) -نفسه: 47.
(4) -نفسه: 48.
(5) -نفسه: 59.
(6) -نفسه: 61.
(7) -نفسه: 62.
(8) -نفسه: 62.
(9) -نفسه: 42.
(10) -نفسه: 36..(1/63)
أو (اطلبوا الخيرَ من حسان الوجوه)(1) بتفسيره والتمثيل لمعانيه.
يشير توجه (أبي عكرمة الضبي) ومن قبله (أبي فِيد مؤرِّج السدوسي) إلى تغير في مفهوم كتب الأمثال يؤثر على نحو مباشر على نُظم التأليف فيها، مثلما يكشف تصور مرحلة معينة لصيغة المثل نفسها، فاعتماد ما يدور على ألسنة الناس وتفسيره، والوقوف على أصله، لا يوجه النظر، في معظم الأحوال، إلى (المثال) الذي أُخذ (المثلُ) عنه، أو التجربة التي تم خلالها صوغ المثل وإنتاجه، بل إنه في أحيان كثيرة يهمل ما يقع من شبه بين اثنين ((يشبه له حال الثاني بالأول))(2) ولن يكون المثل من دونه، فهو بوقوفه على الجانب اللغوي يسعى لبيان واستقصاء ما قالته العرب أكثر من سعيه للوقوف على ما (خبرته) ونتج من تجاربها، بما يشابه تجربة راهنة أو مثالاً حالياً يكون معه إيراد المثل أمراً متطلباً يقيم الموعظة ويحقق الاعتبار.
إن التوسع في مفهوم المثل يشير إلى مجموعة من التحولات، يكشفها التشكيل السردي للكتب نفسها وهي توسع دائرة انشغالها من المثل ومناسبته إلى ما يجري على ألسنة الناس مع حفاظها على وحدة عنواناتها واتفاقها، على الرغم من تباين توجهاتها في (المثل) العربي. وقد يُؤتى في كتبنا، بالمثل نفسه شاهداً على معنى لغوي معيّن فتتراجع أهميته سواء ذُكرت قصته أو لم تُذكر، كما في مجيء (أعيينني بأشر فمالك بدردر) شاهداً على معنى (الدردر) في كتاب (أبي فيد)، أو الاكتفاء بإيراد معنى لفظ ما من دون صيغة مثل معتمدة: (("المنجود": المغلوب)) قال أبو زبيد:
صادياً يستغيثُ غيرَ مغاثٍ
ولقد كان عُصَرةَ المنجودِ
1@العدد ... صيغة الخاتمة ... وقال آخر:
(
__________
(1) -نفسه: 109.
(2) -يفتتح الميداني ما يشتمل على معنى المثل بقول المبرد: (المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر يشبه له حال الثاني بالأول والأصل فيه التشبيه فقولهم (مثل بين يديه) إذا انتصب معناه أشبه الصورة المنتصبة) الميداني، مجمع الأمثال: 5.(1/64)
لا يأكل التَّمرَةَ حتى يُنْجدا
ولا رخيف الزبدِ حتى يُزغدا)(1)
أو: ((هذا حبقر كما ترى))، أنشد أبو الدقيش:
كأن فاها حبقر بارد..
فقلت له: ما الحبقر؟ فقال: البَرَد)(2).
إن تأملنا لصيغ الفصل والوصل المعتمدة والوصل المعتمدة في كتب أمثال دراستنا، خلاصةً، يقودنا لملاحظة قدرتها على تقديم نظام سردي تأتلف من خلاله وحدات نص المثل وتتآخى مقاطعه، بما يُهيء لبنيته السرديّة مجالاً لتنظيم ما يمكن من علاقات بين عناصر النص، بما تقدمه بنيتا صيغة الفصل والوصل النحوية والدلالية من مناسبة لترتيب المقاطع والوحدات، استجابة لموجهات إنجاز الكتاب، الفنية منها، كما تمثلت في كتاب (المفضّل الضّبيّ) وهو يقدم إنموذجاً سردياً مميزاً تلتحم فيه مقاطع نص المثل عبر تواصل عمل الصيغة من موضع الاستهلال إلى موضع الفصل والوصل. أو بتباينها بين الموضعين كما في غيره من كتب دراستنا، ليكون التوجه لاستخدام أكثر من صيغة في موضع الفصل والوصل سمةً يحددها الهدف اللغوي لهذه الكتب، وعنايتها بتجديد سبل اتصالها مع مستمع يُملى عليه محتوى الكتاب بوصفه ركناً من أركان العملية التعليمية، مما يُفرّط، بالضرورة، بخصائصه الفنيّة مقترحاً خصائص وسمات يكون بمقدورها الاستجابة لموجهات عناية لغويّة تستعين معها بمصطلحاتها، مغيّرةً من فهمها لمفاد النصوص واشتراطات انتظامها في كتب (الأمثال).
الخاتمة:
__________
(1) -أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 80.
(2) -نفسه: 66.(1/65)
مثلما توجّهت عناية البلاغيين لدراسة الاستهلال، وتأمل الفصل والوصل لتعيين مواضع جودتهما، اهتموا بدراسة الخاتمة، ومنحوها من العناية ما تستحق لأنها ((آخر ما يبقى في الأسماع، فلا يُزاد عليه، ولا يأتي بعده أحسن منه))(1) فهي لأهمية موقعها شغلت مكانة مؤثرة في بناء النص الأدبي، مثلما أسهمت بانتظام وحداته، يُشير (حازم القرطاجني) إلى موقع الخاتمة ودورها في تنظيم أثر النص الأدبي بما يكشف عن خصوصية عملها، مثلما يُضيء أهميتها في النظر النقدي والبلاغي إذ إنها ((منقطع الكلام وخاتمه، فالإساءة فيه معفية على كثير من تأثير الإحسان المتقدم عليه في النفس))(2).
__________
(1) -ابن رشيق القيرواني، العمدة: 1/239.
(2) -حازم القرطاجني، منهاج البلغاء: 285.(1/66)
وللخاتمة في نصوص كتب الأمثال من الأهمية مثل مالها في كتب الأدب، مما يدعونا لدراسة دورها وتبيّن العلاقة بينها وبين وحدات المثل، إذ إنها تملك باستجابتها لطبيعة التكوين الداخلي أن تكشف جانباً مهماً من جوانب بناء النص وتضيء قابليته على منح وحداته من التلازم والانسجام ما يكشف سمةً سرديةً من سماته، فنصوص المثل وهي تحدد جهة عنايتها (قصصيّة مرةً، لغويّة مرةً أخرى) تغيّر بإيعاز داخلي صيغ خاتمتها. وإذا كانت دراسة (الاستهلال) قد كشفت لنا دوره في تنظيم الصلة مع سلسلة رواة غائبين، وحددت أهميته في الإسهام بتنظيم ما بعده، فإن دراسة (الخاتمة) لا تقل أهمية عن ذلك، فهي لا تتشكل بوصفها وحدةً زخرفيةً، ولا ترد تبعاً لذائقة آنية أو مزاج شخصي، على الرغم من كثرة صيغها التي قد توهم بمزاجيّة استخدامها واقتضابه، فإن تأمل علاقتها بما قبلها، وملاحظة استجابتها لموجّهات تُغيّر غرضاً وتقترح صيغةً، يكشف عن مستوى من التلازم بين الخاتمة وبين نص المثل من جهة، وبينها وبين غرضه من جهة أخرى، إذ إنها تهتم في أغلب نماذج كتاب (المفضّل الضّبيّ) بإنجاز وظيفة سردية تكتمل معها دائرة معها دائرة قصة المثل وتستدير، مثلما تُعنى بالصيغة التي تؤكد نظاماً سردياً يتجلى في عدد مهم من أمثال الكتاب.(1/67)
الأمر الذي لا نجد له مثيلاً في كتب الأمثال اللاحقة تبعاً لاستجابتها لموجهات لغوية صبغت هذه الكتب صبغةً متباينةً حسب عناية مؤلفيها –وعناية عصر كتابتها- بالدرس اللغوي، إذ تشكل العناية بالخاتمة اللغويّة والشعريّة نسبةً مهمةً بين أشكال الخاتمة في كتابي (أبي فيد) و(أبي عكرمة)، على الرغم من تباينها بين كل منهما مما يُشير إلى خصوصية التوجّه الجزئي داخل الغرض الواحد، وقد تتوحد أشكال الخاتمة بين كتب الأمثال فتتوجّه جميعاً للعناية بالشعر أو التفسير، أو استخدام صور مختلفة من (الخبر)، من دون أن تتطابق في ما تقيمه من علاقات بين الخاتمة بتعدد صورها وبين وحدات نصوص أمثالها، كما إنها تختلف في نوعية العلاقات بين كل منها، وهي تستجيب على نحو واضح لأغراض التأليف.
يقدم (المفضّل الضّبيّ) في كتابه (أمثال العرب) صورة مميزة للتنظيم السردي لنصوص أمثاله، إذ يخضع بناؤها، مثلما أشار مبحثنا الاستهلال والفصل والوصل، لنظام خاص تُمنح معه وحداتها من الاهتمام ما يمكن أن يُهيء لباحث السرد حقلاً مهماً للدراسة ومعاينة أنموذج في التأليف لا يقف عند صيغ الأمثال جمعاً وتفسيراً، بمقدار ما يعتني بمناسبة المثل ويعتمد قصته اعتماداً يكشف قابلية الأداء القصصي ويُضيء خصوصية عمله السردي، بما يمكننا من دراسة أثره على خاتمة نصوص أمثاله بعد جدولتها على النحو التالي:
ت
مثلاً ... الاختتام بصيغة المثل ... 1
مثلاً ... الاختتام بالشعر ... 2
مثلاً. ... الاختتام بالنتيجة التي تغيّر من مجرى القصة (وهي تُلحق على نحو مباشر بصيغة المثل) ... 3
أمثال ... الاختتام بالتفسير ... 4
أمثال ... الاختتام بالخبر ... 5
المجموع
مثلاً(1/68)
يُقدم القسم الأول (الاختتام بصيغة المثل) وهو يشكل نسبة (38.7%) من مجموع الأمثال نظاماً تورد على أساسه صيغة المثل في ختام النصوص، لتكون القصة منشغلاً سردياً يحدد الأدوار وينظم الوحدات وصولاً لبلورة صيغة تقيم مع القصة ومن خلالها مع عدد من التجارب الإنسانية الكثير من الصلات، فهي تتشكل بوصفها قولاً يُنسب لإحدى شخصيات القصة للتعبير عن وعيها لتجربتها، محددة عبر صيغة المثل مركزاً سردياً يمكنه الامتداد من القصة إلى ما يشابهها من التجارب باشتراط وقوع الشبه بين موضوع التجربتين: الخاصة (تجربة المثل، حدثه، ومحمول قصته) والعامة (تجارب الناس في حياتهم اليومية). فالصيغة تؤدي دوراً أساسياً في الصلة بين التجربتين، بجدّة الثانية وحضورها، وقِدَم الأولى وغيابها على الأغلب، لتمثل التجربة الأولى بذلك، ومن خلال تفشي صيغة مثلها، رصيداً في وعي الجماعة وصور ثقافتها ينتظم داخل لغتها ويشكّل وجهاً من وجوه بلاغتها، فلا يُشترط عند ضرب صيغة المثل في التجربة الثانية حضور قصتها الأولى، ولا يُتطلب العلم بها فهي تضيء خبرةً إنسانيةً وتنبثق عنها.
يُلاحظ عند دراسة (الاختتام بصيغة المثل) ارتباط الصيغة على نحو مباشر بموضوع القصة وانبثاقها عن تجربة شخصياتها فضلاً عن تناسب صياغتها مع ملفوظ الشخصية، فهي لورودها جملة في حوار منقول(1)
__________
(1) -تُقسَّم (حكاية الأقوال) في الخطاب السردي إلى:
أ-السرد أو المروي: هو أبعد الحالات مسافةً وأكثرها اختزالاً، يصوغ الراوي فيه ما تقوله الشخصيات بأسلوبه الخاص، مجسداً إياه عبر الأفعال والأَحداث.
ب-المحوّل: تتجلى فيه كذلك سلطة الراوي، وهو يؤثر في تركيب الجملة محولاً الضمائر والأزمنة.
ج-المنقول: هو الشكل الذي تُعطى فيه الشخصية الكلمة من دون أن تخضع الضمائر والأزمنة لتدخل الراوي.
... ينظر: جيرار جنيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج: ص ص 185-187.(1/69)
تكون غالباً خلاصة القول وخاتمته، إذ إنها تصاغ عبر شخصية محددة هي الشخصية المركزية التي خاضت تجربة حدث لها فيها تغيّر معيّن أو تحوّل في حال تنتج عنه زيادة في أمر أو نقصان، وهي تجربة تمتد لتنظم (موضوع) المثل باتساع دلالته ليكون بإمكانها الارتفاع إلى وعي الجماعة والإسهام بإنتاج موروثها.
إن ملاحظة علاقة (الصيغة) بـ(الموضوع) تدعونا لدراسة ما يكون من صلة بينهما، ومقدار تعبير الصيغة عن موضوع المثل، وهو ما نتبينه في صيغ أمثال (المفضّل) التي اندرجت تحت القسم الأول بإشارتها إلى موضوع كالحمق أو الإحسان أو نكران الفضل أو البغي.. إلخ، فالدارس يلمس، على سبيل التطبيق، في الأمثال (2)، (3)، (24) نوعاً من وضوح الصلة يحدده مجرى العلاقة بين موضوع قصة المثل وما يُنتج عنها من صيغ تقوم مقام الخاتمة، ففي المثل رقم(2) نلاحظ الصلة بين موضوع المثل (التضليل) وبين صيغتيه (العلني مضلل كعامر، إن المعافى غير مخدوع)(1)، إذ تكشف الصيغتان جانبين من جوانب قصة المثل يرتبط كل منهما بشخصيتي المثل الرئيسيتين (المستوغر بن ربيعة بن كعب) و(عامر)، وما يكون بينهما من حدث نتيجة (تضليل) فتى هو صديق عامر له، لتأخير مقامه عند (المستوغر) ولإشعاره بساعة انصرافه للانفراد بأم عامر حتى يفطن المستوغر للخدعة ويكشف الأمر لعامر فترد الصيغتان في ختام قصة المثل على لسان المستوغر مطابقتين لحال كل منهما هو وعامر (لعلني مضلَّل كعامر) في سريان التضليل والخديعة و(إن المعافى غير مخدوع) في تأكيد فطنة المستوغر ونباهته التي كشفت عمل الفتى وأبطلت خديعته، فالصيغة هنا تحدد صلة مهمة مع الموضوع حتى إنها تتوزع إلى صيغتين لتكشف كل منهما جانباً من جوانبه ووجهاً من وجوهه:
الموضوع: (الخديعة والتضليل).
الصيغة الأولى: لعلني مضلل كعامر: ... تمام الخديعة ( عامر
... :عدم وقوعها ( المستوغر
__________
(1) -المفضل الضبي، أمثال العرب: 49.(1/70)
... (بإفادة لعل توقع الممكن غير الواقع)
الصيغة الثانية: إن المعافى غير مخدوع: تمام الخديعة ( عامر
... : عدم وقوعها ( المستوغر
... (بإفادة المعافاة معنى الفطنة والصيانة)(1).
الصيغتان: الأولى والثانية:( تمام الخديعة: الضلال +عدم المعافاة: عامر
... ... ... ... عدم وقوعها: لعل +المعافاة: المستوغر
وهو ما ينظم أحداث قصة المثل ويختزلها إلى صيغة معنويّة سبق للقصة أن قدمتها مشخصةً، فالمستوغر بعد أن يفطن للحيلة يقود عامراً تحت التهديد بضرب عنقه ليريا معاً حال المرأتين، امرأة المستوغر وأم عامر، فيريان الأولى بين بنيها، وللتأكيد يسأل المستوغر: هل ترى من بأس؟ فيجيب عامر: لا أرى من بأس، لينطلقا بعدها إلى أهل عامر، بعد أن يكون نصف الحقيقة المكشوف قد أعلن نصفها المستور، فيجدان الفتى متبطناً أم عامر في ثوبها، فيقول المستوغر للتأكيد مرة أخرى: انظر إلى ما ترى، ثم قال (لعلني مضلل كعامر) فأرسلها مثلاً، وما زاده في الحديث إعلان براءته من أثر الخديعة: (إن المعافى غير مخدوع).
وفي المثل رقم(3) نقرأ أن (الأضبط بن قريع بن عوف) كان يرى من قومه بني سعد وهو سيدهم بغياً عليه وتنقصاً له ففارقهم وسار بأهله آملاً العيش مع قوم يجلّون أشرافهم لكنه يجد ما وجده عند قومه فيرتحل عنهم ويحل بآخرين فإذا هم كذلك، فينصرف عائداً إلى قومه وهو يقول (أينما أُوجِّه ألقَ سعداً)(2)، لنلاحظ أولاً موضوع المثل القائم على (البغي والتنقص وعلاقة الصيغة به ثانياً إذ تكون ناتج تجربة الشخصية وجوهر حصيلتها.
الموضوع: (البغي والتنقص).
الصيغة: أينما أُوجِّه ألقَ سعداً: اختلاف الوجهة: قوم الأضبط
... قوم آخرون
... قوم آخرون
... تشابه السلوك: ... الإساءة إلى أشراف القوم.
__________
(1) -تفيد (المعافاة) معاني: خيار الشيء وأطيبه، الصفوة من الشيء، و(المعفي) من يصحبك ولا يتعرض لمعروفك.. ابن منظور، لسان العرب: مادة (عفا).
(2) -المفضل الضبي، أمثال العرب: 49-50.(1/71)
ونقرأ في المثل رقم (24) أن (عمرو بن جدير بن سلمى) كانت عنده امرأة جميلة معجبة له وكان ابن عمه (يزيد بن المنذر بن سلمى) بها معجباً، وأن عمراً دخل بيته ذات يوم فرأى منهما ما كرهه، فطلق المرأة وأعرض عن ابن عمه، فمكث يزيد ما شاء الله لا يقدر على النظر إلى وجه (عمرو بن جدير) حياءً، ثم أن الحي أُغير عليه، فابتدر الفوارس عمراً فطعنوه وصرعوه ثم تنازلوا عليه، ورآه يزيد فحمل عليهم فصرع بعضهم وأخذ فرس ابن عمه واستنقذه ثم قال له: اركب وانج، فلما ركب قال له يزيد (تلك بتلك فهل جزيتك)(1) ليشكّل (محو الإساءة بالإحسان) موضوعاً تنتظم على أساسه قصة المثل وتتصل وحداته، فالإساءة تقع أولاً لتفرّق بين شخصيتي القصة الرئيستين وإن بقيتا متجاورتين في مكان واحد لسببين متلازمين: إدامة الإحساس بالإثم لدى المسيء، وانتظار الفرصة للتكفير وطلب العفو، وذلك لا يكون إلا بحدث جديد يغيّر من مجرى القصة ومواقع شخصياتها، فيقع (عمرو بن جدير) موقع الحاجة إلى العون فيسعى (يزيد بن المنذر) تحت ضغط السببين السابقين لمواجهة الفوارس وإنقاذ (عمرو) ليسارع قبل أن يسكن مُثارُ النقع إلى إعلان إحسانه والتخفف من ثقل ذنبه.
الموضوع: (محو الإساءة بالإحسان)
الصيغة: تلك بتلك فهل جزيتك: تلك (الأولى) اعتداء يزيد على عمرو ( إساءة
... تلك (الثانية) إنقاذ يزيد لعمرو ( إحسان
... الجزاء: إحسان يزيد يمحو إساءته.
يمكننا ملاحظة خصوصية القسم الثاني (الاختتام بالشعر) وهو يشكّل نسبة (35.3%) من مجموع أمثال (المفضّل) وأهمية وروده في موضع الخاتمة خلافاً للاختتام بالشعر في كتب الأمثال اللاحقة إذ أنه يشكّل وحدةً عضويةً مع قصة المثل ينتقل عبرها التشكيل السردي من النثر إلى الشعر من دون أن تتعثر حركته، إنها تمتد بما يُمكن أن يضيفه الشعر إلى القصة، أو يرتفع به من تفاصيلها ملخصاً حدثها أو معلقاً عليها عبر عدد من الشخصيات يمكن تقسيمها كما يأتي:
__________
(1) نفسه: 77.(1/72)
1. شخصية مشارِكة: تُسهم بالحدث وتكون عنصراً من عناصره، فهي تلخّص شعراً قصةً شاركت في أحداثها أو تعلّق عليها بما يكشف وجهة نظرها ويضيء موقفها من حدث معين أو شخصية أخرى من بين أحداث أو شخصيات القصة.
2. شخصية غير مشاركة: وهي التي لا تسهم بقصة المثل على نحو مباشر ويمكن تقسيمها قسمين:
أ ـ شخصية غير مشاركة قريبة: على الرغم من عدم إسهامها بقصة المثل إلا أن لها من الروابط مع شخصيات القصة ما يمكِّنها من التلخيص أو التعليق الشعريين.
ب ـ شخصية غير مشاركة بعيدة: وهي منفصلة عن حدث القصة وشخصياتها يُستخدم بعضُ شعرها الذي يستوحي القصةَ خاتمةً (وربما امتدت الخاتمة لأكثر من مقطع شعري يستوحي فيها أكثرُ من شاعر جانباً من جوانب القصة).
تُلاحظ على سبيل الدراسة خاتمتا المثلين (13) و(37) وهما تستعينان بالشعر (لتلخيص) موضوع قصة المثل مستأنستين بأهم عناصرها، ففي المثل رقم (13) يُلخّص (السليك بن السلكة التميمي) ما وقع له عند إغارته على بني شيبان وقتله لـ (يزيد بن رويم الشيباني)، فالشعر وهو يشكّل خاتمةَ نص المثل إنما يُلخّص ما سبق أن روي من حدث على لسان شخصيته الرئيسة:
وعاشيةٍ رجٍّ بطانٍ ذعرتها
بصوت قتيلٍ وَسْطَها يَتَسيّفُ
فبات لها أهل خلاء فناؤهم
ومرَّت بهم طيرٌ فلم يتعيفوا
وباتوا يظنون الظنونَ وَصُحبتي
إذا ما علوا نشزاً أهلّوا وأوجفوا
وما نلتها حتى تصعلكتُ حقبةً
وكدتُ لأسباب المنيّة أَعرفُ
وحتى رأيت الجوعَ بالصيف ضَرَّني
إذا قمتُ يغشاني ظلالٌ فأَسْدَف(1)
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب: 64.(1/73)
وفي المثل رقم (37) تُلخص الخاتمةُ القصةَ بشعر قاله (بعض شعراء طيء) الذين وقعت القصة في قبيلتهم، فالشاعر هنا، وإن لم يُذكر على نحو صريح، يمتُّ بصلة إلى (رقاش) التي كانت تغزو برجال طيء فهي مركز القصة وأساس حدثها، إذ إن قصة المثل تروي ما وقع لها عندما أُعجبت بأحد أسرى قبيلتها فدعته إلى نفسها فوقع عليها فحملت، وحين حلَّ أوان الغزو أَتوها لتغزو بهم فجعلت تقول (رويد الغزو ينمرق)(1) بمعنى يمرُّ سريعاً ويُصيب، فلما عاودوا المجيء رأوها نفساء مرضعاً قد ولدت غلاماً، فالشاعر الذي لا يعبّر عن حضوره على نحو مباشر (شخصية غير مشاركة قريبة) يُلخص حدث القصة تلخيصاً لا يخلو من موقف تنمُّ عنه سخريةُ المقطع الشعري:
نُبئت أنَّ رقاشِ بعد شماسها
حبلت وقد ولدت غلاماً أَكحلا
فالله يحظيها ويرفعُ ذكرها
والله يلحقها كشافاً مقبلا(2)
كانت رقاشِ تقودُ جيشاً جحفلاً
فَصَبَتْ وحق لمن صبا أن يحبلا
دُرّي رقاش فقد أصبتِ غنيمةً
فحلاً يَصُورك أن تقودي جحفلا
__________
(1) نفسه: 121، وينظر: أبو عبيد البكري، فصل المقال: 269. يروى المثل (رويد الغزو يتمزق) وينظر: أبو عبيد بن سلام، كتاب الأمثال: 234. يروى المثل (رويد الغزو يتمرَّق)
(2) وردت في فصل المقال: يلقحها: والكشاف الحمل على الناقة بعد نتاجها، أبو عبيد البكري، نفسه.(1/74)
وفي (التعليق) يسعى المقطع الشعري للتركيز على حدث محدد من أحداث قصة المثل فهو لا يلخص الحدث بقدر ما يكشف موقعه، ويحدد قيمته، فالخاتمة الشعريّة بذلك ترفع تفصيلاً قصصياً عبر إعلانها موقفاً صريحاً منه، ويُلاحظ، كما في (تلخيص الحدث) عدم اعتماد مستوى معين من العلاقة بين الشاعر صاحب الخاتمة وبين قصة المثل، فقد يكون شخصيةً مشاركةً تؤكد حدثاً أو تُعلن موقفاً مباشراً من شخصية أخرى من بين شخصيات القصة كما في المثل رقم (16) إذ إن (أوفى بن مطر المازني) صاحب المقطع الشعري قال معيّراً (جابر بن عمرو) بعد أن خرجا صحبة (شهاب بن قيس) في طلب رجلين، فهرب جابر بعد أن تبيَّن بأس الرجلين وشدتهما، فالمقطع، إذن، يرفع (فرار جابر) إلى مستوى من الأهمية عبر استعادته شعراً على سبيل التعليق وتحديد الموقف:
إذا ما أَتيتَ بني مازنٍ
فلا تسقِ فيهم ولا تَغْسِلِ
وليتك في البطنِ لم تُحملِ ... فليتكَ لم تُدعَ من مازنٍ
وليتَ سنانَك صنارةٌ
وليتَ قناتَك من مغزلِ(1)
وقد يرد التعليق من خارج قصة المثل عبر (شخصية غير مشاركة بعيدة)، فالشاعر صاحب الخاتمة الشعريّة لا يمتُّ إلى شخصيات القصة بصلة غير أن ذلك لا يمنعه عن التلويح بما في القصة من إنقاص أو انتصار أو محبة أو حقد، كما في المثل رقم 23) إذ يُعرِّض (اللعين المنقري) بـ (بني مالك بن سعد رهط العجاج) وكان يقال لهم (بنو العفيل)(2) نتيجة حدث وقع لجدتهم (رهم بنت الخزرج بن تيم الله) تختص قصة المثل بسرده:
ما في الدوائر من رجليّ من عَقَلٍ
عند الرهانِ وما أُكوى من العَفَلِ(3)
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب: 68.
(2) العفل: غلظ في الرحم، ينظر لسان العرب، مادة (عفل).
(3) المفضل الضبي، نفسه: 77.(1/75)
نلاحظ في القسم الثالث (الاختتام بالنتيجة التي تغيّر من مجرى القصة) وهي تشكّل نسبة (14.8%) من مجموع أمثال (المفضل) ارتباط الخاتمة بقصة المثل، فهي تَرِد مباشرةً بعد صيغة المثل التي تُقدِّم خلاصةً وتركيزاً لقصته فيحدث بعد ذكر الصيغة تحول مباشر في القصة فتوفى حاجة، أو يُعاد أسير، أو يُكف عن شر، أو يُمتنع عن عدوان، فالخاتمة بذلك ترتبط ارتباطاً عضوياً بموضوع القصة، وهي تُروى على لسان راوي قصة المثل نفسه فلا يستشهد معها بقول شعري أو نثري يفصل بينه وبين القصة فاصل، ففي المثل رقم
(35) على سبيل الدراسة يكون الاختتام بـ (الكف عن فعل) مُلحَقاً بصيغة المثل وناتجاً منها، فـ (الحارث بن أبي شمر الغساني) سأل (أَنس بن الحجيرة) عن بعض الأمر فأخبره به فلطمه، فقال أنس (ذُلَّ لو أجدُ ناصراً) ثم قال الحارث: الطموه، فقال أنس (لو نُهي عن الأولى لم يَعُد للآخرة) فقال: زيدوه، فقال أنس: أيها الملك (ملكت فإسجح)(1) فأرسلها مثلاً فأمر أن يُكفَّ عنه(2).
إن اختتام المثل لا يصف ولا يُلخّص ولا يُعلّق على حدث منته أو مستمر، بل يحرف مسار الحدث ويغيّر اتجاهه بناءً على ما تؤديه صيغته من تأثير في الشخصيات، فلم يُكف عن إحداث الأذى كما في المثل السابق لولا وجود الصيغة وقدرتها على استيعاب القصة والتهيئة لتغيير مجرى حدثها.
__________
(1) الاسجاح: حسن العفو، خلق سجيح: لين سهل، ينظر لسان العرب، مادة (سجح)
(2) المفضل الضبي، أمثال العرب: 118.(1/76)
وفي المثل رقم (36) يكون (النقص) موضوعاً، فقد (شردت إبل بني صحار بن وهب ابن قيس بن طريف) فيركب (الجميح وهو منقذ بن الطماح بن قيس) في طلبها ليحدث معه ما يحدث فترد الإبل جميعها إلا ناقة يقال لها اللفاع يراها مع رجلين يحلبانها، فيطلب منهما تركها فيضرط البائن (البائن هو الذي يقف من جانب الحلوبة الأيمن، ومن يقف من جانبها الأيسر يسمى المستعلي) ويقول المستعلي: والله ما هي لكما، فقال الحارث (إست البائن أعلم) فأرسلها مثلاً ورد الإبل(1)، ليكون (إكمال النقص) نتيجةً مبينةً على صيغة المثل وملحقة بها مباشرة.
وفي المثل رقم (52) يكون الاختتام بـ (الاستجابة) بعد أن كان (الرفض) موضوعاً، تفصل بين كل منهما صيغة المثل نفسها، فقد أغار (الهذيل بن هبيرة) على أناس من ضبة فغنم ثم انصرف، فخاف طلب القوم لهم وأسرع السير، فقال له أصحابه: اقسم بيننا غنيمتنا، فرفض محتجاً بالخوف من أن تشغلهم القسمة فيدركهم الطلب، فأعادوا عليه مراراً، فلما رآهم لا يأخذون برأيه قال (إذا عَزَّ أخوك فهن)(2)، وتابعهم على القسمة.
__________
(1) نفسه: 120.
(2) نفسه: 137.(1/77)
يسعى القسمان الأخيران من أقسام خاتمة أمثال (المفضل الضبي): (الاختتام بالتفسير) و (الاختتام بالخبر) وهما يمثلان نسبتي (6.9%) و(4.6%) من مجموع الأمثال لإيضاح صيغة المثل أو ما يتعلق بها من خلال تفسير ما غمض من لفظها أو إكمال موضوعها فالخاتمة الأولى لا تنتمي لحدث القصة أو تهتم بفعل أو قول إحدى شخصياتها بقدر ما تهتم بتفسير الصيغة لتقريب المعنى، ففي المثل رقم (5) على سبيل الملاحظة تعتمد الخاتمة تفسير كلمة مذقة (المذقة شربة ممزوجة) الواردة في صيغة المثل (هذا ومذقة خير)(1)، وخاتمة المثل رقم (44) تفسر كلمتي (الصبوح: شراب النهار، والغبوق: شراب الليل) الواردتين في نص مثل (أعن صبوح ترقق)(2)، في حين تعمل خاتمة القسم الأخير على إضافة حدث لاحق بعد إكمال قصة المثل، فهي عبر اعتمادها (خبراً) معيناً تضيف ما يوسّع من نص المثل ويفتح حدوده عبر الامتداد بحدث من أحداث قصته كما في الأمثال (9، 29، 38)، إذ يهتم المثل رقم (9) بحمق (مالك بن زيد مناة بن تميم) مورداً قصة زواجه من (النوار بنت جد بن عدي بن عبد مناة) بما يتنظم فيها من صيغ الأمثال حتى تختتم جرياً على عادة (المفضل) بصيغة (أستي أخبثي)، لكن نص المثل يمتد لخبر مَنْ ولد للنوار ومالك مضيفاً إليه ما قاله الشاعر الفرزدق(3).
وفي المثل رقم (29) يلاحظ اكتمال النص عبر اعتماد عدد من المقاطع الشعرية للحارث ابن ظالم، وللفرزدق في ذكر قصة المثل والوقوف على بعض تفاصيلها، حتى ينتهي النص بجملة (فأتى على ذلك ما شاء الله) ليتمم بعدها بخبر الحارث ومصيره(4).
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب، 58.
(2) نفسه: 116.
(3) نفسه: 58.
(4) نفسه: 116.(1/78)
وفي المثل رقم (38) يقدم النص تمام قصة (الحارث بن جبلة الغساني) مع (المنذر ابن امرئ القيس) وما حدث فيها من وقائع وصولاً لمواجهة جيشهما ومقتل المنذر ليلحق ذلك بخبر (عمرو بن شمر بن عمر) الذي ادعى أنه مَنْ قتل المنذر بعد أن رأى مصرعه فأخذ بُرداً كان عليه، فقال له الحارث حين رآه: (أتتك بحائن رجلاه) فيمتد الخبر بعد ذلك لذكر ما جرى بينهما ويتابع مصير عمرو حتى بعد تنفيذ الجزاء(1).
يلاحظ على هذا القسم متابعته لمجريات الحدث القصصي، وإضافته لما لا يغير من منحى القصة واتجاه أحداثها، بل إنه يُقدِّم تعليقاً على حدث، أو متابعةً لإحدى الشخصيات بعد تمام قصة المثل باعتماد خبر من أخبارها، بغض النظر عن أهمية هذه الشخصية، ودورها في قصة المثل، فنص المثل يوسِّع عبر اعتماده الخبر من دائرة سرده، ويمنح قصته النظر خارج حدودها.
قدمت كتب الأمثال اللاحقة، تبعاً لاهتمامها بمادتها اللغوية واستجابتها لمنهج تأليفها، نماذج متعددة للخاتمة يمكن أن تضيء جانباً من جوانب دراستنا لبنية الإطار السردي وهي تنجز باتساع نماذجها ما يهيؤها لاختبار حيوية الصياغة الأدبية في تحولها وشمولها، إذ قدم كتابا (أبي فيد) و(أبي عكرمة) من صور الخاتمة ما توجّه للعناية باللغة تفسيراً واستشهاداً، وبالشعر جمعاً وتمثيلاً، مثلما اهتما، وإن بدرجة أدنى من العناية بقصة المثل، وصيغته، فضلاً عن توجههما لاستضافة بعض الأحاديث النبوية الشريفة، بما يحدد سمة أخرى من الانفصال بينها وبين صور خاتمة أمثال (المفضّل الضّبّي) بانشغالها بالصياغة الفنيّة في سبيل إقامة أقصى ما يمكن من العلاقة العضوية بينها و بين نص المثل، والقصة منه على نحو خاص.
تتعدد صور الخاتمة في كتابي (أبي فيد مؤرج السدوسي) و(أبي عكرمة الضبّي)، وتختلف أشكالها بما يمكن دراسته كما في الجدول الآتي:
ت
الاختتام
كتاب أبي فيد
كتاب أبي عكرمة
__________
(1) نفسه: 123.(1/79)
62 ... 19 ... الاختتام بالمعنى اللغوي للشعر ... 1.
الاختتام بالشعر ... 2.
الاختتام بتفسير الشعر ... 3.
الاختتام بقصة المثل ... 4.
الاختتام بصيغة المثل ... 5.
الاختتام بالخبر ... 6.
الاختتام بالصيغة اللغوية التي تقوم مقام المثل ... 7.
الاختتام بالحديث النبوي الشريف ... 8.
المجموع
يشكّل الاهتمام (بمعاني اللغة) و(الشعر) موقعاً مركزياً بين صور خاتمة أمثال كل منهما، ففي الوقت الذي ينصرف فيه (أبو عكرمة الضبّي) للعناية بالجانب اللغوي، وهو يشكّل نسبة (55.9%) من بين صور خاتمة أمثاله، تلاحظ عناية (أبي فيد مؤرِّج السدوسي) بالشعر فهو يشكّل نسبة (43.3%) من بين صور الخاتمة في كتابه، إلى الدرجة التي عُدَّا فيها كتابي لغة أكثر من كونهما كتابي أدب، حيث تحوَّل كل منهما إلى ((خزانة صغيرة لمختارات من الشعر القديم))(1)، في إكثارهما من الأشعار التي يفسرانها متوسلين (الأمثال) حجة لذلك(2)،
__________
(1) د. رمضان عبد التواب: مقدمة (الأمثال) لأبي عكرمة الضبي: 11.
(2) ينظر: د. محمد توفيق أبو علي: الأمثال العربية والعصر الجاهلي: 52..(1/80)
بما يُغيّر من نُظم السرد وطرائقه في معالجة موضوعاته وقد غيرت من مراكز اهتمامها، فلم تعد العلاقة بين قصة المثل وبين لواحق خاتمته مهمة بما يؤمِّن انتظاماً سردياً لمجمل أمثال الكتاب، بقدر ما استأثرت العناية اللغوية بالاهتمام، فهي حتى في حال اتفاقها موضوعياً مع أحد أقسام الخاتمة في كتاب (المفضّل الضّبّي) تختلف فيما تقيمه من علاقة بين خاتمتها وبين نص مثلها، كما في الاختتام بالشعر وقد ورد في كتب (المفضل) و(أبي فيد) و(أبي عكرمة)، إذ يلاحظ الدارس سعي الأخيرين إلى إيراد المقطع الشعري، طال أم قصر، تمثيلاً أو تفسيراً لمعنى لغوي أو مناسبة، فقد خضع نظام السرد في الكتابين لتغيّر نوعي لم يَعُد في المثل من التفصيل والانتظام ما يدعوه للتعليق أو التلخيص كما لوحظ في كتاب (المفضل)، فالشعر يورد في كتاب (أبي فيد) مجرداً من مناسبته، ومقطوعاً في معظم الأحيان عما قبله إلا بما يؤكد نمطية الاستشهاد بـ (الصيغة) كما في المثل رقم (3) من كتاب أبي فيد: ((قبل الرماءِ تُملأ الكنائن)) يقول: خُذْ أهبة الأمر، قبل أن ينزل بك. قال الأعشى لمالك بن سَعْد بن ضُبَيعَة:
كفى قومهُ شيبانَ إِنَّ عظيمةً
متى ما تَحِنْ تُؤخَذْ لها أَهَباتُها))(1)
أو كما في المثل رقم (51) من كتاب أبي عكرمة:
((وقولهم: ((ما يساوي فلان طليةً)) قال الأصمعي: الطلية: الخويط والخويصة يُجعل في عنق الجدي، على هيئة الرِّبق. يقال: قد طلا البَهْمَة، إذا فعل ذلك بها. والطَّلْية مشتقة من الطُّلية، وهي صفحة العُنق. وفي العنق طُليتان.
قال ذو الرُّمة، يذكر بعيراً:
أضلَّه راعيا كلبيّةٍ صَدَرا
عن مُطِلبٍ وطُلَى الأَعناق تضطَرِبُ))(2)
__________
(1) أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 40.
(2) أبو عكرمة الضبي، كتاب الأمثال: 90.(1/81)
وفي المجال نفسه حقق (تفسير الشعر) حضوراً بين صور خاتمة أمثال الكتابين مشكّلاً نسبة (9.7%) بين صور خاتمة كتاب (أبي فيد) و(14.5%) بين صور خاتمة كتاب (أبي عكرمة)، بما يشير لأهمية العناية الشعرية وهي ترتفع للمراتب الثلاث الأول في جدول خاتمة نصوص أمثال الكتابين متقدمة الاختتام بقصة المثل وصيغته وقد تراجع دوراهما حتى لا يكاد أن يُلحظان في كتاب (أبي عكرمة) على نحو خاص، فقصة المثل لا تتشكل في نصوصه على النحو الذي صادفنا في كتاب (المفضل) إذ أنها على الدوام تأخذ صورة الخبر القصير الذي يؤتى به في ختام المثل لتفسير قول، أو ذكر تقليد أكثر مما يُستحضر بوصفه تجربةً أنتجت صيغة المثل وأمّنت لها من الدقة والعناية ما يمكّنها من الارتفاع إلى موروث الجماعة والإسهام برصيد تجاربها، كما في المثل رقم
(70) وهو يورد قول الأصمعي في تفسير معنى (لئيم راضع) التي قامت في كتاب (أبي عكرمة) مقام المثل:
((قال الأصمعي: عَرَض لصٌ لبعض العرب، ومعه صِرْمَة من إِبل، فقال: خَلِّ عنها، فإنك لا ترضع منها. قال: لكني أحتلب فأشرب))(1).
وقد يُعتنى في تغيّر تشكيل النصوص، وانفتاح مجالها اللغوي، بما هو تأريخي يُستحضر في ختام قول من أقوال الكتاب التي تقوم مقام المثل معتمدةً من الخبر ((ما يغلب عليه قول الحقيقة، ويشير إلى سرد شيء من التاريخ))(2)، تماشياً مع سعي الكتاب لتفسير بعض من أقوال العرب وبيان معانيها، بما يساوي بين الخبر وبين ما يسبقه من مقاطع شعرية أو تفسير نثري كما في المثل رقم (5) من أمثال (أبي فيد) وهو يعتمد قول العرب: (قد بلغ السيلُ الزُّبى) إذ يُختتم بسلسلة سند وصولاً إلى مفاد الخبر:
((
__________
(1) نفسه: 99.
(2) د. عبد الله أبو هيف، القصة العربية الحديثة والغرب: 267.(1/82)
قال: أتى معاذ بن جبلٍ بثلاثة نفرٍ، قتلهم أسدٌ في زُبْيةٍ، فلم يدر كيف يفتيهم، فسأل عليَّ ابن أبي طالب عليه السلام، فقال: قصُّوا عليَّ خبركم، قالوا، صدنا أسداً في زُبْيةٍ، فاجتمعنا عليه، فتدافع الناسُ عليها، فَرَمُوْا برجلٍ فيها، فتعلَّق الرجل بآخر، وتعلَّق الآخرُ برجلٍ آخر، فهَوَوْا فيها ثلاثتُهم، فقضى فيها علي بن أبي طالب أَن للأول رُبْع الديَّة وللثاني النِّصف، وللثالث الدِّية كلها))(1).
__________
(1) أبو فيد السدوسي، كتاب الأمثال: 43.(1/83)
ويُلاحظ على استخدام (الخبر) خاتمةً ما يكون بينه وبين (الصيغة) من انفصال، سواء كانت مثلاً أو قولاً، فالأساس المعتمد في الصلة بينهما هو تأصيل قول أو الاستشهاد عليه، ففي المثل الأول يورد (أبو عكرمة) قول الأصمعي بغية تأكيد (قول العرب) وتحديد مناسبته، مثلما يتوجّه (أبو فيد) للاستشهاد بخبر من أخبار القضاء في الدولة الإسلامية في سبيل بيان معنى كلمة (زُبْية) التي تضمنتها جملة المثل، لذا لا يكاد الباحث يلمس من الصلة مثلما تحقق في كتاب (المفضّل)، فلم يكن التغير في نصوص كتابي (أبي فيد) و(أبي عكرمة) خاصاً، يمتد لجزء محدد أو جانب من جوانب نص المثل بقدر ما كان تغيّراً كلياً يتخطى الجزء والجانب إلى المفهوم وما يقتضيه من تغيّر في بنية نص المثل، الأمر الذي قدَّم مع كتاب (أبي عبيد بن سلام) أنموذجاً مختلفاً، تُتطلب ملاحظتُه على نحو مفرد، عبر انتظام منهجيته وموسوعية اهتمامه على الرغم من كونه ((يميل إلى شيء من الإيجاز، ولا يحتفل كثيراً في إيراد قصة المثل على طولها))(1)، إذ إن نظام تبويبه يقترح طريقة خاصة للتعامل مع نص المثل لا يشكّل النص بمفرده مركز اهتمامها، مثلما يعتمد اندراج المثل في باب، واندراج الأبواب في جمع أبواب الأمثال في موضوع معيّن، مما يتطلب النظر إلى النص بمختلف وحداته بوصفه وحدة صغيرة توصل بما بعدها بما يؤمِّن امتداد السلسلة ودقة حلقاتها بين مثل وآخر وهي تؤثر في نص المثل نفسه باستهلاله وخاتمته بشكل خاص، وهو يقيم ارتباطاً مع جهتي السلسلة، فاستهلال المثل يوثّق ارتباطاً بما قبله من أمثال، مثلما تَعتمد خاتمته صياغةً أسلوبيةً محددةً تهيئ لما بعده، بما يمكن أن نلاحظه على أبواب الكتاب جميعاً على النحو الآتي:
(باب العفو عند المقدرة
قال أبو عبيد: من أمثالهم في هذا قولهم:
ـ ملكت فاسجِح...
ومن أمثالهم في هذا قولهم:
__________
(1) أبو عبيد البكري، فصل المقال، مقدمة الناشرين: ن.(1/84)
ـ إنَّ المقدرَة تُذهب الحفيظة...
... ومن العفو قولهم:
... إذا أرجَجنَّ شاصياً فارْفع يداً...
... ومن أمثال العامة في مثل هذا:
... ـ أكرمُوا الصَّريع)(1)
لا ينتمي كتاب (أبي عبيد بن سلام) كما تبين الدراسة لما عُرف قبله من نظام تأليف كتب الأمثال، ولا يتبع في جمع مادته وتقديم أبوابه طريقتها في الجمع والتقديم، ولا يسعى سعيها في الاهتمام بالجانب (الأدبي) مثلما في كتاب (المفضّل الضّبّي) أو يستجيب لموجّهات لغويّة تغيّر من نصوصه وصيغه كما في كتابي (أبي فيد مؤرِّج السدوسي) و(أبي عكرمة الضّبي)، على الرغم من انتظامه زمنياً في حلقتها، إذ أنه يهيئ الأسباب لما بعد هذه الكتب، ابتداءً من كتاب (المفضّل بن سلمة) (ت291هـ) (الفاخر) مروراً بالكتب الكبرى في الأمثال العربية على اختلاف أعصر كتابتها في توجهها جميعاً للاعتماد على سوابقها حتى غدت ((في وجه من الوجوه، تلخيصاً لما سبق من كتب الأمثال))(2)، وفي عنايتها بمناهج تأليفها حتى اختص كل منها بنظر إلى سبل التأليف وطرائقه، مما قدَّم اجتهاداً منهجياً مميزاً ما يزال ينتظر جهود باحثينا للدراسة والتأمل في سبيل الوقوف على ركنٍ مؤثرٍ من أركان التأليف عند العرب.
***
الفصل الثاني
الأحداث
ـ التجربة والصيغة في المستوى البلاغي للمثل (مدخل)
ـ الأنساق
ـ الدورة القصصية (المتتاليات)
ـ تغيّرات النصوص
... (حركة السياق الثقافي وأثرها في بناء الأحداث)
التجربة والصيغة في المستوى البلاغي للمثل (مدخل)
__________
(1) أبو عبيد بن سلام، كتاب الأمثال: رقم الباب (88) ص154.
(2) د. محمد توفيق أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي: 53.(1/85)
تقودنا دراسة التشكيل السردي في كتب الأمثال إلى معاينة جانبها القصصي الذي يُسهم في منح نصوص الأمثال خصوصيتها بالنظر إلى أهمية موقعه بين جوانب نص المثل، ولا تكتفي دراسة تركيب قصة المثل واستكشاف طبيعتها بأن تضيء أمامنا حدود النص الداخلية ولا تنغلق على بيان نُظم الأحداث وأنساق ورودها، بل تتوجّه من خلالها لبيان عددٍ من العلاقات مع مرجع مؤثر مثلما تحدد موقعاً لصيغتها، فلا تكاد قصة المثل تنفصل عن مرجعها أسوة بالفن القصصي بالإضافة إلى سعيها لتحقيق نوع من الحضور للتجربة التي لا تنبثق صيغةُ المثل ولا يُؤَكد حضورُها في وعي مجموعة لغوية من دونها.(1/86)
إن نوعاً من التلازم بين التجربة وهي تُصاغ في منظومة خبريّة محددة وبين الصيغة، يظل واضح الأثر مع استخدام الصيغة في الممارسة اليوميّة: إن (المثل) بجملة أخرى لا يحقق مجاله التداولي مرتفعاً إلى ثقافة جماعة معيّنة من دون أَن تُحيط هذه الجماعة بتجربته وتأتلف واقعته، وتعيد إنتاجها بطريقة أو بأخرى، وهي تملك من الحساسية والتنظيم ما يدفعها على الدوام إلى الكشف عن جانب من الهاجس الفني للجماعة. ولعلّ من الغني عن البيان الإشارة إلى اختصاص هذا التصوّر بالأمثال المنبثقة عن تجربة معينة، تُصاغ في (قصة) لتنظيم مجال صيغتها وبيان أصلها، من دون أن يشمل الأمثال النصيّة التي إنما قامت لخصوصية أصلها وأهميته الثقافية كأمثال القرآن الكريم، وأمثال الحديث النبوي، وأمثال الشعر، وما نُقل على ألسنة الخطباء والحكماء من مشهور القول ومتداوله، وإن اعتمدت جميعها ((ما يكاد يكون فطرياً في أمثال الأمم جمعاء نعني: الاقتضاب وبعد الإشارة))(1). وإذا كانت (القصة) قد تجلّت فناً أدبياً مميزاً لأهداف عديدة وغايات، فإن غايات وأهدافاً محددةً تعمل على استحضار القصة وتأمين عمل منظومة أخبارها داخل نص المثل واعتمادها وحدةً مهمة من بين وحداته، إذ أنها فضلاً عن اشتراكها مع القصة عموماً بحكم مركزيتها للتجربة الإنسانية(2)، وارتفاعها عن نوعية ومستوى الأدب الذي تتجلّى فيه(3)، تعمل على إنجاز مجازها، وتأمين استعارتها بوصفها ((اللفظ المركب المستعمل فيما شبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه))(4)،
__________
(1) أنيس المقدسي، تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي: 93.
(2) ينظر: سوزان لوهافر، الاعتراف بالقصة القصيرة، ت محمد نجيب لفتة: 170.
(3) ينظر: رولان بارت، التحليل البنيوي للقصة القصيرة، ت د. نزار صبري: 23.
(4) القزويني، الإيضاح: 304، وينظر حول أهمية الصورة المجازية في مدلولات المثل د..عبد المجيد عابدين: الأمثال في النثر العربي القديم: 16 وما بعدها.(1/87)
فالتشبيه في الاستعارة التمثيلية لا يقع لما يكون بين مشبّه ومشبه به من تقارب في (المعنى) فحسب، بل يتعدى ذلك لتأشير ما يُلتقط من أوجه الشبه بين تجربتين، تقوم إحداهما بدور المشبّه، في حين تقوم الثانية بدور المشبّه به، لتنتظم الاستعارة باستحضار التجربة الراهنة التي تقوم مقام (المشبّه) وتغييب أو تأجيل التجربة السابقة، تجربة المثل نفسها التي تقوم عندئذ مقام (المشبّه به)؛ إن مهمة الاستعارة القائمة على حذف المشبّه واستعارة التركيب الدال على المشبّه به، أي صيغة المثل للمشبه(1)، تدعونا لتأمل أهمية تجربة المثل وملاحظة نُظم صياغتها القصصيّة في كتب الأمثال وهي تحدد بالإضافة إلى محتوى التجربة صيغة المثل التي ستشير لخبرة الجماعة ووعيها لتجاربها، فلا يُحدد استخدام المثل بزمان ومكان معيّنين، ولا يُعتمد لرغبة آنية عابرة، بل إن له من الخصوصية ما يؤكد حضوره في مختلف التجارب الإنسانية رصيدَ ثقافةٍ تنشؤه الجماعة وتحافظ علية بما يُقترح له من مجال تداولي في حياة أبنائها ((ذلك أن تركز البعد العملي فيها خصب وعميق وموح))(2)، الأمر الذي يكشف أهمية قصة المثل في التركيب الاستعاري، ويُعيّن لها موقعاً مؤثراً بغض النظر عما تؤديه من إخبار أو ما تتوسل به من طرائق وأساليب.
__________
(1) ينظر: أحمد مطلوب وكامل البصير، البلاغة والتطبيق: 360.
(2) د. عبد الله إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية: 138.(1/88)
وإذا توجّهنا لتأمل قصة المثل ومعاينة وحداتها تبيّناً ما تتفق به هذه القصة مع ((أبسط شكل للقصص النثري هو قصة تحكي سلسلة من الأحداث))(1)، فإن عناية المثل بالتجربة التي أنتجت الصيغة وأمّنت لها مجالاً سردياً مناسباً دفع القصة للانشغال بمفاد التجربة، بالنظر إلى خصوصية موقعها في حياة الجماعة وفي رصيد خبراتها، فالأحداث في مثل هذا الشكل من القصص لا تستجيب على نحو كلي لإيعاز فني أو بنائي تتقدم على أساسه باقي وحدات قصة المثل، بقدر ما تبدو استجابة لمنطق خارجي يوجّه القاص، معلوماً كان أو غير معلوم لـ ((يقدم لسامعيه الأحداث في خط متسلسل تسلسلاً زمنياً مضطرداً وبنفس ترتيب وقوعها))(2)، إنه يمثل باستجابته تلك صورة لممارسة سرديّة وضعت نصب عنايتها الاهتمام بوقائع الجماعة التاريخية منها والمتخيّلة، ورصد صيغتها المنتجة بما يُقترح عندئذ من نمط هو عبارة عن ((سلسلة من الأحداث المترابطة زمنياً ومنطقياً))(3) بما يميّز دور الأحداث ويدفعها للإسهام إلى حد كبير بتوجيه القصة داخل نص المثل باعتمادها عدداً من الوقائع التي يجمع بينها رابط معيّن، الأمر الذي يزيد من دور الخبر وفاعليته في تأمين مادة مناسبة باستعمال ((السرد القصصي على مجموعات وطوائف من الأحداث والوقائع))(4) ويؤمِّن لتجليه في قصة المثل تنضيداً مناسباُ يمكن أن يُشير لمرحلة مهمة من مراحل تطوره، ويكشف وجهاً خاصاً من وجوه استخدامه قبل أن يستقل عن التاريخ ويكتسب ((قيمة أدبية خالصة))(5).
__________
(1) أدوين موير، بناء الرواية، ت إبراهيم الصيرفي: 12.
(2) سيزا قاسم، بناء الرواية: 37.
(3) روبرت كازينو، القص والخطاب وفلسفة الحدث، ت علاء العبادي، مج الثقافة الأجنبية ع1/ 1998: 92.
(4) د. عبد الحميد يونس، الحكاية الشعبية: 8.
(5) د. شكري محمد عياد، فن الخبر في تراثنا القصصي، مج (فصول) مج2/ ع4/ 1982:
14.(1/89)
إن الأحداث وهي تشكّل وحدة مؤثرة من وحدات نصوص الأمثال، وتُسهم في نمط من الصياغة يراعى فيه توجّه التأليف للواقعة التاريخية وهي تتداخل مع التخييل في نصوص المؤلفين العرب الأوائل، تضيء توجهاً عربياً قديماً اختصت به القصص ((منذ العصر الجاهلي ثم نمى [كذا] وازدهر في العصور الإسلامية. نما من داخله ووفقاً لمنطقه الخاص ولمنطق العصر والمجتمع اللذين كان يخاطبهما)) (1).
الأنساق:
إذا نظرنا إلى ما تعتمده قصة المثل من أنساق في بناء أحداثها تكشَّف لنا جانب من جوانب تقليديتها واقترابها من (الحكاية) بما ينتظم أحداثها من ترتيب زمني يُراعى فيه التسلسل والاتساق، وتجنب تقديم أنساق جديدة لا تتشكل الحبكة ولا تتوفر العناصر الجماليّة في القصة من دونها، وهي تغيّر فعالية أحداثها من مبدأ التتابع إلى مبدأ السببيّة(2). إن المبدأين يعتمدان، كما هو واضح، عنصر الزمان، لكن الثاني يتميّز بما يكون فيه من تأكيد على السبب تتقدم معه القصة وهي تنظم حبكتها وتعقّد من نسج خيوطها إلى الحكاية التي تعتمد أقصر السبل وأوضحها للوصول إلى غايتها.
تلاحظ الدراسة اعتماد قصة المثل في تقديم أحداثها نسقين أساسيين هما:
1. نسق التتابع ENCHAINEMENT
2. نسق التنضيد ENFILAGE
__________
(1) د. عز الدين إسماعيل، المكونات الأولى للثقافة العربية: 138.
(2) ينظر: فورستر، أركان القصة، ت كمال عياد: ص ص 105- 106.(1/90)
ويبلور هذان النسقان حضوراً معيّناً (للحدث) وهو يشكّل بمختلف مكوناته اللبنة الأولى في تكوين قصص الأمثال وإنشاء نصوصها، بما يجسده بمظهريه الأسطوري والواقعي من ((رصد للوقائع التي يُفضي تلاحمها وتتابعها إلى تشكيل مادة حكائية تقوم على جملة من العناصر الفنيّة والتقنيّة والألسنيّة معاً))(1) توجّه حركة السرد وتؤمِّن فاعليته بما تكون بينها من علاقات وما يُقترح لها من ترتيب، فإن ما يعنينا في القصة بالدرجة الأساس، حسب تعبير (روبرت شولز) هو ترتيب الأحداث(2)، وانتظام حضورها، وهي تحقق عبر النسقين المذكورين شكلين مهمين هما عُدَّة تجليها في قصص الأمثال، سواء ما استُحضِر منها بصورةٍ مفردة ليقدِّم باعتماده خبراً معيّناً تجربةً محددةً لمثل لا تبدو معه مجتزأة أو مقطوعة، أو ما انتظم منها مع مجموعة أخبار يتميّز كل منها باستقلال نسبي لكنها ترتبط فيما بينها برابط معيّن، شخصية أو حدث، ففي النسق الأول الذي يُعدُّ أكثر الأنساق بدائيةً في الأدب تُقدَم قصة المثل على أساس رواية الحدث جزءاً بعد آخر من دون أن يكون بين هذه الأجزاء شيءٌ من قصة أخرى(3)،
__________
(1) د. عبد الملك مرتاض، ألف ليلة وليلة: 19.
(2) ينظر: روبرت شولز، السيماء والتأويل، ت سعيد الغانمي: 110.
(3) ينظر: د. شجاع العاني، البناء الفني في الرواية العربيّة في العراق: 1/ 13..(1/91)
وهو يُلاحظ على نحو خاص في الأمثال التي تنطوي على حدث واحد، تتوجّه لتقديم أجزائه تقديماً تراتبياً في حين تعمد في النسق الثاني إلى تنضيد مجموعة من الأحداث المستقلة التي يربط فيما بينها، كما تقدَّم، رابط معيّن من دون أن تفرّط بحضور النسق الأول في تقديم كل حدث منها وقد تتوجّه النصوص لتقديم (تنويع) داخل نسقيها يهيئ لأحداثها مجالاً مناسباً لتوسيع مساحتها السرديّة بما يُسهم باستضافة عدد من الصيغ التي لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوعها الأساس أو شخصيتها بل تنبثق عن تنويع داخلي.
يشير حضور نسقي (التتابع) و(التنضيد) في بناء أحداث قصص الأمثال إلى جانب أساسي في العملية السرديّة المنتجة لها، إذ إنها تحرص على إقامة صلة مع تجربة المثل التي تُعتمد بوصفها مرجعاً لإنتاج القصة وتأمين مجال حياتها، وهي لا تقوم، عندئذ، بأكثر من استعادة واقعة أو رجوع لخبر يتساوى فيهما وجها الحقيقة والخيال بما يُحدَد للقصة من هدف لا تكون فيه أنموذجاً فنياً خالصاً، ولا تُعدّ عنصراً تكميلياً بقدر ما تسعى لإضاءة فضاء إنتاج (صيغة المثل) التي تُعتبر قسماً مركزياً من أقسامه مهما تغيّر موقعها، أو تعددت صورها في نصوص الأمثال. إن القصة وهي تنظم أحداثها في نسقي (التتابع) و(التنضيد) تستجيب لأقدم الأسئلة وأكثرها بساطة متوجهةً للكشف عن (ما) وقع، من دون أن تهتم على نحو واضح بالكيفية التي تنتج بها واقعتها السرديّة، إنها تقدم بجملة أخرى واقعةً سرديةً مناسبةً تُحافظ معها على حضورها مستهديةً بأثر سابق له من الأهمية ما يدعو لإعادة إنتاجه والنسج على منواله، كما لو كنا نروي (واقعة) أو نستعين بإمثولة, مما يتطلب حداً أدنى من الفعالية السرديّة يمثله من جانب بناء الأحداث النسقان المذكوران.
- الدورة القصصيّة (المتتاليات):(1/92)
يقدم أنموذج الدورة القصصية إمكانيةً مناسبة لتأمل الهيكل الرئيس لأحداث قصة المثل وهو يعتمد خمسة مواقف (أو جمل) تشكّل متتاليةً تامةً يتوزعها نوعان من الحلقات ((حلقات تصف حالة (توازن أو اضطراب) وحلقات تصف الانتقال من حالة إلى أخرى))(1)، فهما ينفتحان على نوعي القول في القصة، يصف الأول (حالة ما) من توازن وعدمه، ويصف الثاني (عملية الانتقال) من حالة لأخرى، ويمكن مقارنتهما بنموذجين لغويين هما (الوصف والفعل) بما تتضمنه الأوصاف من رصد حالات معيّنة ثابتة وقابلة للتكرار، وما تقتضيه الأفعال من رصد عمليات الانتقال من حالة إلى أخرى في حركتها وديناميكيتها وعدم حدوثها إلا مرة واحدة(2)، منتظمة على النحو الآتي:
التوازن ـ عملية التغيير ـ فقدان التوازن ـ عملية إعادته ـ التوازن الجديد
يشير (تودوروف) إلى تعامله مع الأحداث في ((مستواها الأكثر تجريداً))(3) وهي تضم عدداً أدنى من الجمل يمكن أن تَرد متتاليتها مكتملةً بمواقفها الخمسة، وقد تنقطع في أحد هذه المواقف أو يُطوى بعضُها فتعدُّ، عندئذ، غيرَ مكتملة، من دون أن يغيّر ذلك من هيكلها. وقد حدد (تودوروف) عبر دراسة المظهر التركيبي للنصوص نوعين من الأنظمة التي يمثل النص الأدبي فرصةً مهمةً لامتزاجها، يجمع في الأول منها العلاقات الزمنية والسببية التي تمنح الأحداث فرصة التعاقب المنطقي بما ينشأ بينها من تلازم وارتباط، والنوع الثاني هو العلاقة المكانية التي تُمنح الوحدات من خلالها ترتيباً مطّرداً، وتتجاور أَجزاء النص لرسم سطح معيّن.
__________
(1) تزفيطان طودوروف، الشعرية، ت شكري المبخوت ورجاء بن سلامة: 69.
(2) ينظر: د. صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي: 404.
(3) تزفيطان طودوروف، نفسه.(1/93)
ويمكننا رصد قصص الأمثال، وتبيّن ترتيب أحداثها مستعينين بالمتتالية السابقة وهي تتوجّه لاستقصاء الهيكل القصصي اعتماداً على وعيها القصة بوصفها متواليةً من الأحداث، إنما تحقق عبر تشكّلها السردي ((أمثلة لافتراضات وقيم ثقافية عامة))(1) بما يحافظ على سمة معيّنة، أو يُعرف بها، أو بما يُفترض من انتقال بين السمات والأحوال، ليضيف إلى عاملي الزمنيّة والسببيّة عاملاً آخر هو ((الاهتمام الإنساني)) الذي ((يقرر ما إذا كانت الأحداث والأسباب تتلاءم في عقدة ذات بداية ونهاية))(2). يمكن دراسة قصص الأمثال من خلال تأمل أحداثها، ومعاينة الوحدات التي تشكّل تلك الأحداث مستجيبة في ترتيبها لنظام سردي معيّن، عبر تقسيم القصص بحسب اعتمادها على ما تُقدِّم من أحداث، أحاديّة، أو ثنائيّة، أو عنقوديّة، وهي تعتمد (الخبر) وحدةً أساسيّةً إنما تتشكّل القصة وتُقيم عالمها تبعاً لعنايتها به، مستجيبةً لأصول ((وقواعد القص المصطلح عليها آنذاك، وهي السرد المتتابع الذي يخلو من التعليق ومن التركيز على الدوافع الداخلية للشخصية المحكي عنها))(3).
__________
(1) والاس مارتن، نظريات السرد الحديثة، ت د. حياة جاسم محمد: 112.
(2) نفسه.
(3) د. نبيلة إبراهيم، لغة القص في التراث العربي، مج (فصول) م2 ع2 –1982: 15.(1/94)
تُقَسَّم القصة في نصوص كتب الأمثال تبعاً لعنايتها بـ (الحدث) إلى قصة أحادية الحدث، أو ثنائية الحدث، أو عنقودية الأحداث، وهي تنشأ على ما يُلتقط من أخبار تشكّل رصيداً مهماً في أفق المثل العربي الذي ينفتح على تجربة تعد خزانته ومنبع صيغته، فهي في الوقت الذي (تخبر) فيه تستحضر واقعة، وتمثل عالماً يفترق عن (القول) في كونه يحافظ على زمنية صيغته، ففي الوقت الذي ((يبرز القول في إنجاز الكلام بصدد ما هو قيد الوقوع.. يتمثل الإخبار في إنجاز الكلام بصدد ما وقع))(1). لتشكّل قصة المثل وجهاً خاصاً من وجوه التعامل مع الخبر، فإذا كان الأخير قد حقق على أساس تراكمي للأحداث حضوره في الأنواع السرديّة المتصلة بالقصة نظراً لأصالتها وثباتها، ولإمكان وجودها متعالية عن الزمان والمكان(2)، فإنه مع قصة المثل قدَّم أنموذجاً خاصاً لم يُستحضر لذاته بقدر ما استُثمرت خصوصيته في إنشاء مجال سردي مناسب لاحتضان صيغة المثل، وتوفير فضاء نصي مناسب لها، بما يعلل تفوّق حضور القسم الأول من القصة بشكل ملحوظ بين قصص أمثال (المفضّل الضّبّي) وانسحاب القسمين الأخيرين على النحو الآتي:
1. القصة أحادية الحدث (75) مثلاً.
2. القصة ثنائية الأحداث (5) أمثال.
3. القصة عنقودية الأحداث (7) أمثال.
__________
(1) سعيد يقطين، الكلام والخبر: 191.
(2) نفسه: 195.(1/95)
يُعين القسم الأول وهو يمثل نسبة (85.3%) من مجموع قصص (أمثال العرب) على فهم دور (الخبر) في إنشاء قصة المثل، وإضاءة تجربته، وهو يمتد في الموروث الثقافي من جانب، ويجيب من جانب آخر عن تساؤل أساسي يواجه دارس كتب الأمثال إذ يلاحظ الثبات النسبي الذي ميّز نص الأمثال على الرغم من تغيّر نُظم التأليف، واختلاف عصوره وموجّهاته، بالمقارنة مع أنواع سرديّة أُخرى استطاعت أن تقترح لنفسها من الحركيّة والتحوّل ما أَمَّن لها حضوراً مهماً لا في تاريخ السرد العربي حسب، بل بما قدَّمته من إثراء للنوع ما يزال أنموذجه الإنساني حياً، فإن اهتمام نص المثل بإضاءة تجربته، واقعية كانت أو خيالية، في سبيل تأمين مجال سردي مناسب لصيغته، دفع قصته للعناية بـ (الخبر) بوصفه أصغر وحدة حكائيّة تتميّز بالثبات وتعدّ أصلاً سردياً يتجلى ـ عبر مبدأي التراكم والتكامل ـ على أساس ارتباطه بـ (الحدث)، في حين يتصل نوعان مثل القصة والسيرة على أساس ارتباطهما (بالشخصية)(1)، بيد أن قصص الأمثال تقدم أنموذجاً للخبر يمكنه ـ عبر المبدأين نفسيهما ـ الارتباط بالحدث في حال اعتماده مفرداً، وبالحدث والشخصيّة في حال تقديم مجموعة من الأخبار ثنائية أو عنقودية كما سنلاحظ في نصوص أمثال السليك بن السلكة، وطرفة، أو داحس والغبراء.
1ـ القصة أحادية الحدث:
__________
(1) ينظر: م. ن.(1/96)
تتوجّه نصوص الأمثال لتقديم أحداثها في منظومات خبريّة قد تكتفي بخبر محدد يضيء تجربة المثل وينشئ مجالاً سردياً مناسباً لاحتضان صيغته، وقد تمتد لأكثر من خبر تتوحد نسائجها السرديّة في نسق متتابع وتتضافر في (متواليات) تسعى حلقاتها لوصف حالتي (التوازن أو الاضطراب) و(الانتقال من حالة إلى أخرى)، ولعلَّ من نافلة القول الإشارة إلى الطبيعة المرنة للمتتالية التي تمكّنها من الورود كاملة أو مجزوءة، إذ ((يمكن للمتتالية بطبيعة الحال أن تُقطع في وسطها (انتقال من التوازن إلى الاضطراب فقط أو العكس) أو تقطع إلى أقسام أصغر))(1)، بما يمكننا من دراسة المتتاليات المختصة بحدث واحد على النحو الآتي:
أ. المتتالية التامة.
ب. المتتالية غير التامة.
ج. المتتالية المزدوجة.
يقدم المثل (32) مثالاً مناسباً من بين أمثال (المفضّل الضّبّي) التي تقوم على خبر مكتمل تحدده متتالية تامة تسهم عبر حضور وحداتها بكشف السبب والنتيجة اللذين يقيمان الحدث وينظمان حركته عبر ظهور التوازن وغيابه محققه لسرديّة المثل أحد أَبسط أشكالها القصصية.
1. توازن: رجل له فرس معلّمة قد تآلفها وعرفته.
2. عملية التغيير: بعثه قومه طليعةً، وهو لا يدري أن العدو قريب. (سبب)
3. فقدان التوازن: أُسر الرجل وهربتِ الفرس. (نتيجة)
4. عملية إعادته: الطلب من الرجل إِعادة الفرس فديةً لنفسه. (نتيجة/ 2)
5. توازن جديد: عودة الفرس. (عرفتني نسأها الله)(2) (صيغة المثل)
__________
(1) تزفيطان طودرروف، الشعرية: 69.
(2) المفضل الضبي، أمثال العرب: 117.(1/97)
في حين يُقدِّم القسم الثاني من القصة أحاديّة الحدث عبر (المتتالية غير التامة) نماذج سرديّة مختلفة تُسهم بما يكتنف حلقاتها من نقص وما يشوبها من فقدان بإضاءة موضوعها الأساس فهي تُقيم نوعاً من جدل العلاقة مع موضوعها، إذ أنها تكشف عبر نقص حلقاتها ما يتوجّه الموضوع للتعبير عنه من دون أن يكون هذا الكشف محدداً بصيغة معينة، كما في المثل رقم (18):
1. توازن: أحب النمر بن تولب امرأة من بني أسد بن خزيمة فاتخذها لنفسه وقد أسنَّ يومئذ. كان له بنو أخ.
2. تغيير: بعض بني أَخيه يراود امرأَته عن نفسها (سبب)
... الزوجة تشكو للنمر (نتيجة)
... النمر يرد: قولي لهم وقولي..
3. فقدان التوازن (المحتمل): الزوجة تقول (سأكفيك ما كان قولاً)(1) (صيغة المثل)
يرتفع قول الزوجة مؤدياً مهمتين في وقت واحد، الأولى هي إنتاج صيغة المثل بعد أن وفّرت القصة فضاءً مناسباً لها، والثانية هي الانفتاح على ما يمكن أن يُكمل دورته القصصية ويُتم أحداثها (حلقاتها)، فليس المقامُ مقامَ قولٍ وردّ بقدر ما هو مقام عمل ومواجهة، وهو ما يفتقد إليه الزوج لكبر سنّه، مما يدفع المتوالية، على الرغم من عدم اكتمالها، باتجاه (الأشعار بالفقدان) الذي تمثّله صيغة المثل على نحو واضح وهي تكتم شعوراً بالسخرية.
ويقدم نص المثل رقم (24) عبر متتاليته غير التامة أنموذجاً مختلفاً يمكن تأمله كما يأتي:
1. توازن: عمرو بن جدير عنده امرأة معجبة له جميلة.
2. عملية التغيير: ابن عمه يزيد بن المنذر بها معجب (سبب)
3. فقدان التوازن: دخل عمرو ذات يوم فرأى من ابن عمه ومن زوجته ما كرهه، فأعرض عن ابن عمه وطلّق المرأة. (نتيجة)
4. عملية إعادته: تعرّض القبيلة للسلب
... إنقاذ يزيد لعمرو
... يزيد يقول: (تلك بتلك فهل جزيتك؟)(2) (صيغة المثل)
__________
(1) نفسه: 69.
(2) نفسه: 77.(1/98)
تتفق متوالية المثل رقم (24) مع سابقتها في كونهما ينفتحان على ما يمكن أن يُكمل المتوالية من أحداث أو ينبئ بها، وإذا كانت المتوالية السابقة قد اتجهت نحو (الإشعار بالفقدان) فإن متواليتنا تتجه نحو (الإشعار بالتوازن الجديد) الذي يظل من دونه سؤال يزيد (صيغة المثل) مفتوحاً، لا ينغلق ولا يستقر بغير اكتمال المتوالية وتحقق التوازن الجديد.
ويمكن لنص المثل رقم (33) أن يقدم جانباً آخر تُسهم المتوالية فيه بكشف الموضوع:
1. توازن: قوم يعيشون في جزيرة من جزر البحر دونها خليج.
2. عملية التغيير: أتى الجزيرة قوم يريدون أن يعبروها فلم يجدوا معبراً.
... نفخوا أسقيتهم وجعلوا يعبرون عليها.
... رجل منهم أَقلَّ النفخَ وأضعفَ الربط. (سبب)
3. فقدان التوازن: لما توسط الرجل الماء خرجت الريح حتى لم يبقَ في السقاء شيء وغشيه الموت فنادى رجلاً من أصحابه.
... صاحبه يقول: (يداك أوكتا وفوك نفخ)(1) (صيغة المثل)
إن ما تسعى إليه المتوالية في سبيل إكمال نقصها والخروج من مأزق الرجل هو (طلب التوازن الجديد) الذي لن يكون مختلفاً عن التوازن الأول كثيراً، لكن الجملة الأخيرة (صيغة المثل) تقوم بتلخيص الواقعة وتأكيد عملها بما يُشير لاستحالة تحقق الطلب، واحتمال انفتاح المتوالية على حدث مختلف يكمل فيه القوم عبورهم من دون الرجل صاحب السقاء.
__________
(1) نفسه: 117.(1/99)
ويمكننا أن نُلاحظ عبر القسم الثالث (المتتالية المزدوجة) أنموذجاً يعتمد تضافر الأسباب والنتائج وتعاضدهما بما يكون بين متتاليات أحداثه من تواشج وارتباط سواء وردت المتتالية تامةً أو مقطوعةً فهي تمنح أحداثها تشكيلاً يختلف عن القسمين السابقين بالتعقيد النسبي لنسائجه السردية، وقدرته على الامتداد لمساحة أوسع من الأحداث والشخصيات من دون أن يغيّر من انتظام نسق التتابع الذي يحكم وحداته ويحدد مجالاً متواتراً لحركة أحداثه، وهي تتوجّه بالأساس للإجابة عن سؤال معيّن، فإذا كانت ((هناك قاعدة شبه عامه وهي أن السرد يكون جواباً عن سؤال، أي تلبية لرغبة أو طلب قد يكتسي صيغة الأمر))(1)، فإن سرد الأمثال يكون جواباً عن سؤال معلوم لا يبحث عن حدث ولا يطلب شخصية ولا يديم لغزاً، بل يتوجّه بالتحديد لتجربة المثل التي تفترض دوران (صيغته) بين الناس بما يوجّه السؤال على نحو أكثر تخصيصاً لمعاينة (الكيفية) التي تجلّت بها الصيغة، فإن سؤالاً سردياً معيّناً مثل (كيف كان ذلك؟) يشكّل موقعاً خاصاً في أفق إنتاج نصوص الأمثال وتنظيم مجالها القصصي إلى جانب كونه مسؤولاً إلى حد بعيد عن إبراز محفّزات الحكي في العديد من أنواع وأشكال السرد العربي القديم(2) مما يمكّن السرد، مع توالي السؤال، من تغيير نسائجه وإن عملت جميعها في مجال معلوم كما في نصوص الأمثال (1)، (8)، (88) التي تسهم أكثر من متتالية في نسج أحداثها، ففي المثل رقم (1) ترد الأحداث كما يأتي:
1. توازن: كان لضبة بن أد ابنان هما سعد وسُعَيد
2. عملية التغيير: نفرت أبلهما ... ... (سبب أ)
... خرجا يطلبانها ... ... ... ... (نتيجة أ)
3. فقدان التوازن: عاد سعد ولم يرجع سُعَيد (أسعد أم سُعَيد)
(نتيجة أ/2) (سبب ب)
2. عملية التغيير: الحارث بن كعب يُحدِّث ضبة عن قتله شاباً ... (نتيجة أ/3)
__________
(1) عبد الفتاح كليطو، الغائب: 49.
(2) ينظر: سعيد يقطين، الرواية والتراث السردي: 35.(1/100)
... ضبة يتبين أن الحارث هو قاتل سُعَيد
... (إن الحديث لذو شجون)
... ضبة يقتل الحارث ... ... ... ... (نتيجة ب)
... الناس تلومه لقتله رجلاً في الأشهر الحرم ... (نتيجة ب/2)
... (سبق السيف العذل)(1)
وفي نص المثل رقم (8) نلاحظ الترتيب الآتي:
1. توازن: تقن بنت شريق تحت رجل من قومها
... أخوها الريب من فرسان بني سعد وأشرافهم
... كانت لها ضرَّة، ولضرَّتها ولد يقال له الحميت.
2. عملية التغيير: وقوع الشر بين تقن وضرتها ... ... (سبب أ)
3. فقدان التوازن: الحميت يطعن تقن في فخذها ... ... (نتيجة أ)
4. عملية التغيير: زوجها يدعوها للسكوت مقابل ثلاثين من الإبل ... (نتيجة أ/2)
5. التوازن الجديد: تقن تلحق إِبل زوجها بإبلها
وتسمها بميسم أخيها الريب ... ... ... ... (نتيجة أ/3)
1. توازن: سفيان بن شريق (أخو تقن) يرد الماء
2. عملية التغيير: يلاقيه الحميت على الماء ويكون بينهما كلام (سبب ب)
3. فقدان التوازن: الحميت يضرب سفيان فيدمي قروحاً
... كانت في عنقه ... ... ... ... (نتيجة ب)
4. عملية التغيير: سفيان يأتي أخاه الريب ... ... (نتيجة ب/2)
الريب يطارد الحميت ... ... ... ... (نتيجة ب/3)
الريب يضرب الحميت بالسيف ... ... ... (نتيجة أ4/ ب4)
(أعركتين بالضفير)(2)
ونلاحظ في نص المثل رقم (88) الترتيب الآتي:
1. توازن: إن أخوين كانا في إبل لهما
2. عملية التغيير: أجدبت بلادهما ... ... ... (سبب أ)
... هبوط أحد الأخوين إلى الوادي ... ... ... (نتيجة أ)
3. فقدان التوازن: الأخ تلدغه حيّه الوادي ... (نتيجة أ/2)(سبب ب)
... طلب أخيه الحيّة لقتلها (نتيجة ب)
4. عملية التغير: الحيّة تطلب الصلح، الأخ يوافق ... (نتيجة ب/2)
5. التوازن الجديد: الحيّة تُعطي الأخ كلَّ يوم ديناراً
... الأخ يصبح أحسن الناس حالاً ... ... ... (نتيجة ب/3)
2. عملية التغيير: يذكر أخاه فيأسف ... ... (سبب ج)
... عمد إلى فأس فأحَّدها ... ... ... ... (نتيجة ج)
... ضرب الحيّة فأخطأها
... الفأس يترك أَثراً على الحجر ... ... (نتيجة ج2) (سبب د)
__________
(1) المفضل الضبي: أمثال العرب: 47.
(2) نفسه: 56.(1/101)
3. انعدام التوازن: الحيّة تقطع الدينار الذي كانت تعطيه ... (نتيجة د)
... الأخ يندم، يطلب العودة إلى ما كان عليه مع الحيّة ... (نتيجة د/2)
الحيّة ترفض ... ... ... ... ... (نتيجة د/ 3)
... (كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟)(1)
تبيّن التطبيقات السابقة قدرةَ نصوص الأمثال على استحضار (الخبر) وتنظيم وحدات أحداثه بما يُسهم بكشف موضوعاته وبيان محمولاته، فلم يقف اعتماد المتتاليات عند حدود شكليّة مغلقة بل ساعد على الارتفاع بموضوع المثل وتأمين المجال الأنسب لصيغته على مختلف أشكال المتتاليات (التامة، غير التامة، المزدوجة) وهي تُنظم أخبارها عبر إشعار بالفقدان، أو إشعار بتوازن جديد، أو المطالبة به، فالنقص الحاصل في المتوالية غير التامة يَنمُّ عن مستوى صريح من النقص والحاجة اللذين يكتنفان موضوع المثل ويشوبان واقعته بما يتطابق، إلى حد بعيد، مع صيغة المثل التي تَرِدُ مفردةً هي الأخرى في مجمل نصوص هذا القسم، في حين يُقدِّم القسم الثالث باعتماده متتالية مزدوجة (تنفتح على متتاليتين غير تامتين تقدمان خبراً محدداً) صيغة واحدة أو أكثر، يُسهم تعاضد المتتاليتين وتواشج الأسباب والنتائج بينهما بتنظيم مجال سردي مناسب لها.
__________
(1) نفسه: 177.(1/102)
ويمكن تأمل إمكانية هذه النصوص على تأمين مستوى من الرصد لحركة أحداثها، وتحوّلات شخوصها بما يشيع من روح تنبيء في الأدب النثري لتلك المرحلة(1)، لا يتوجّه لرصد تحولات خارجيّة أو التنبؤ بها فحسب، بل يكون بمستطاعه، إلى حد ما، إضاءة دواخله والأشعار بتحولات أحداثه، ومتغيرات شخوصه، ومن المهم الإشارة إلى نوعيّة هذا (الأرصاد) الذي لا يعمل على تقديم قصص متضمنة تكون بمثابة تلويح بتحولِ أو مصير إحدى شخصيات قصة المثل بل يتم ((عن طريق جملة قصصية صغيرة من القصة الأصلية))(2) تَرِد على لسان إحدى شخصيات القصة مما يُعزّز سمةً نبوئيّةً توحِّد أحداث قصة المثل وتزيد من فاعلية الأواصر فيما بينها، ففي المثل الأخير (رقم 88) يُصرِّح السارد بأن ((في الوادي حيّة قد حمته من كل أَحد))(3) معززاً بالجملة المحققة دور الحيّة في الحفاظ على الوادي ومنع الناس عنه، ليكون حوار الأخوين عندئذ مبيناً في تصوّر مسبق إذ يُحذِّر أحدهما الآخر قائلاً ((إني أخاف عليك الحيّة، ألا ترى أَن أحداً لم يهبط ذلك الوادي إلا أهلكته))(4) ثم يحدث أَن تلدغ الحيّة الأخ فتقتله بعد أن يرعى إبله زماناً في الوادي، فيُتيح الحوار على هذا النحو ((الفرصة للمواقف المتغيّرة والقفزات السريعة ويجنب المنشئ تراكب الجمل، والدوران حول الفكرة الواحدة التي تربط بين أجزائها برباط محكم ثقيل))(5)،
__________
(1) ينظر: د. عبد الله إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية: 100.
(2) د. شجاع العاني، البناء الفني في الرواية العربية في العراق: 1/ 31.
(3) المفضل الضبي، أمثال العرب: 177.
(4) نفسه.
(5) د. عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم: 100..(1/103)
ليكتمل الأرصاد وتتحقق النبوءة وتواصل قصة المثل بناءً على مقتل الأخ سرد أحداثها، الأمر الذي يمكن متابعة تطور عمله وتعقيد دوره مع القسمين اللاحقين وهما ينفتحان على أكثر من خبر مما يمنح القصة مسافة أبعد من الأحداث تسهِّل أمامها إرصاد أحداث لاحقة أو الإشارة إلى تحولاتها.
2- القصة ثنائية الأحداث:
تُقدِّم القصة ثنائية الأحداث إنموذجاً مهماً من بين نصوص أمثال (المفضّل الضّبي)، على الرغم من ضعف نسبتها أمام نسبة القصة أحادية الحدث، إذ أنها تشكل (5.7%) من مجموع الأمثال بيد أنها بتحولها من نسق التتابع إلى نسق التنضيد، وعنايتها بقصص (الشخصيات) تقدم مقترباً آخر لتأمل سردية نصوص الأمثال وفحص أساليب صياغتها، فإذا كان نسق التتابع يقوم بالأساس على تقديم أحداث القصة جزءاً بعد آخر، فإن نسق التنضيد يتوجّه لتقديم تتابع قصصي تستقل كل قصة فيه عن الأخرى ((تصل فيما بينها شخصية مشتركة))(1) مما يمنح الخبر فرصة أكبر في التنظيم وهو يستجيب لرابط فني لم يكن يتوفر في نصوص القسم الأول باعتمادها تقديم خبر محدد بمتوالية تامة، أو غير تامة، أحادية، أو مزدوجة ترتبط بالحدث وبسبل أدائه بالدرجة الأساس، في حين تواجهنا القصة ثنائية الأحداث باستجابتها لنسق التنضيد- الذي لا يقل بدائية وشيوعاً عن سابقه- بوضوح عنايتها بشخصية معينة إنما تتوحد في إطارها الأحداث ويعتمد نص المثل سرد وقائعها، كما يوضح الجدول الآتي:
ت
رقم المثل
الشخصية
الأحداث
صيغة المثل
أسرع من نكاح أم خارجة ... أ.خبر نكاح أم خارجة ... أم خارجة ... 1.
ماله أُلَّ و غلَّ ... ب.خبرها مع بعض ولدها
إن الليل طويل وأنت مقمر ... أ.صفته وخبر خروجه للغزو ... السليك بن السلكة ... 2.
أضرطاً وأنت الأعلى ... ب.خبر آخر من أخبار غاراته
العاشية تهيج الآبية
__________
(1) ف، شلوفسكي، بناء القصة القصيرة والرواية، عن نظرية المنهج الشكلي، ترجمة إبراهيم الخطيب: 146.(1/104)
بمثل جارية فلتزن الزانية ... أ.خبر وقوعه على امرأة من خثعم ... جارية بن سليط بن الحارث ... 3.
عوف يرنأ في البيت ... ب.خبر ابن جارية من المرأة
رُميتُ فرَميت.. ... أ.خبر لقمان والإبل ... لقمان بن عاد ... 4.
لا فتى إلا عمر ... ب.خبره مع امرأة بن تقن
إحدى خطْيات لقمان
أضرطاً آخر اليوم..
5.
طرفة بن العبد
أ.خبره طفلاً مع المتلمس
ب.خبر مقتله
استنوق الجمل
-------
قد تقوم قصة المثل، كما في القسم السابق، على تقديم أحداثها في متتالية تامة أو مجزوءة تُطوى إحدى حلقاتها ويُختزل أثرُها في حلقة لاحقة بما يمكننا من تأشير الحلقة المفقودة وتعيين أثرها، ولا تكتفي القصة، كما يبين الجدول، بخبر واحد فهي تنفتح على خبرين توحِّد بينهما شخصية معينة، وتضم عدداً من (صيغ الأمثال) يستجيب لتنوع الأحداث التي توسع من مساحة (الخبر) وتزيد من مدى حلقاتها بما يهيئ المجال لتلمّس أنساق ضمنية تنتظم داخلها الأحداث وتتعدد الصيغ. وتجدر الإشارة إلى الصلة بين الخبرين وهما يتنضدان في قصة واحدة تتوجه بالأساس لجمع أحداث قد تتفق موضوعياً كما في المثلين (10)،
((1/105)
13) اللذين يتوجهان للجمع بين خبرين متآلفين يكشف الأول بعضاً من سيرة أم خارجة، ويلتقط الثاني خبرين من أخبار غارات السليك بن السلكة، وقد ينفصل الخبران موضوعياً على الرغم من اتفاق شخصيتيهما كما في الأمثال الأخيرة (19)، (64)، (87)، فيقدم المثل الأول خبر مثل جارية وإعجاب امرأة من الخثعم به، وهو يتوجه في خبره الثاني لسرد بعض من طبائع ولدهما، مثلما تقدم قصة المثل رقم (64) في أحداثها خبرين منفصلين من أخبار لقمان بن عاد، وتقدِّم قصة المثل الأخير إنموذجاً مختلفاً يُلتقط فيه خبران من أخبار طرفة بن العبد يتوزعان بين طفولته ومقتله من دون أن تضاء المدة الفاصلة بينهما. إن فاعلية نسق التنضيد وحيويته تمنح نص المثل فرصة لتطوير نُظم صياغته وتأمين مساحة أوسع لإنتاج مناسبة سردية لاحتضان (صيغ الأمثال) التي ستتعدد هي الأخرى بتعدد وحدات نصل المثل وتعقّد أحداثها، كما في المثل
رقم (13):
1.توازن: السليك بن السلكة التميمي من أشد فرسان العرب وأكثرهم شعراً
2.عملية التغيير: افتقر حتى لم يبقَ له شيء ... ... (سبب)
... خرج رجاء أن يصيب شيئاً. اشتمل الصماء في ليلة باردة ... (نتيجة)
... بينا هو نائم جثم عليه رجل قصد أسره
... السليك يقول: (إن الليل طويل وأنت مقمر)
... الرجل يؤذي السليك، يُخرج الأخير يده فيضم الرجل ضمّةً ضرط منها
... السليك يقول: (أضرطا وأنت الأعلى)
... يتحادثان ثم يتبيّن السليك فقرَ صاحبه، فينطلقان معا
... يصادفهما رجل قصته مثل قصتهما فيمضون جميعاً
... يصلون جوف مراد الذي باليمن وإذا نعَمٌ قد ملأ كل شيء
... السليك ينفصل عن صاحبيه ليستطلع حال الحي
... يتيبن بُعدَ رجال الحي إن طلبوا لم يدركوا
... يكيد برعاء الحي فيغني منادياً صاحبيه:
يا صاحبيّ ألا لا حي بالوادي
إلا عبيدٌ وآمٌ بين أذوادٍ
أنتظران قليلاً ريث غفلتهم
أم تعدوان فإن الريحَ للعادي(1/106)
3.توازن جديد: صاحبا السليك يسمعان غناءه فيأتيانه، يطردون الإبل ويذهبون بها من دون أن يلحق بهم أحد.
2.عملية التغيير: خرج السليك ومعه عمرو وعاصم للإغارة (نتيجة/ب)
... مروا على بني شيبان وهم مخصبون
... السليك يُغير على بيت يزيد بن رويم الشيباني
... الشيخ يزيد وامرأته بفناء البيت، لم يلبث أن أراح ابن لهما إبله
... الشيخ غضب وقال لابنه: هلا كنت عشيتها، قال الابن: إنها أبت العشاء.
... قال الشيخ (العاشية تهيج الآبية) ثم أرجعها إلى مرتعها حتى رتعت.
... الشيخ يرجع إلى العشاء مغطياً وجهه بثوبه من البرد.
... السليك يتبع الشيخ ثم يضربه فيطير رأسه.
3.توازن جديد: السليك يصيح بالإبل فيطردها، يعاونه صاحباه عليها(1)
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب: 61.(1/107)
يهيئ نص المثل رقم (13) فرصة لملاحظة عدد من التغيرات الحاصلة على نسيجه السردي، وهو يعمل على تطوير موضوعه منوّعاً تفاصيل خبَريه، ويشمل عدداً أكبر من (الصيغ) التي يكون السرد بتنوعه وانفتاح أفقه حاضناً لها. يُلاحظ، منذ البدء، اعتماد الخبرين سبباً واحداً (افتقار السليك حتى لم يبقَ له شيء) مثلما يعتمدان (توازناً) هو نوع من العرض أو تقديم الشخصية المركزيّة بما عليه صفتها وما عُرف عنها بما يؤمِّن المجال لحضور (الخبر) في قصة المثل بوصفه واقعةً أو تجربةً معلومةً يُعيد النص تنظيم وحداتها ويحدد مواقع صيغها، محققاً نوعاً من الصلة المضافة التي يسري بين طرفيها- خبريها- حكم (زعموا أن) وهي تعمل في وقت واحد استهلالاً لنص المثل وصيغة وصل بين قسميه، فالنص بذلك يُقيم أكثر من صلة بين القسمين: موضوعية وإطارية، تُسهم الأولى بإضاءة صفة الشخصية وتعيين وحدات التغيير في تجربتها التي يقوم نص المثل على تنظيمها وإعادة إنتاجها، وتعمل الثانية على تنظيم نسيج السرد وهو يتحرك من خبر إلى آخر، بما يفسح مجال حلقات متتالية ويوسّع حدودها لتضم قصصاً أصغر قد تعد محاولة لملء فراغ العمل، أو بحثاً عن التنويع(1)، الذي لا يكتفي السرد معه بإضاءة حدثه داخل حدود خبر معيّن كما في (القصة أحادية الحدث)، بل يعتمد قصصاً ثانوية تقوم معها قصة المثل بدور الإطار حسب تعبير شلوفسكي(2)،
__________
(1) ينظر: أوستن وارين، رينيه ويليك، نظرية الأدب: 289.
(2) ينظر: شلوفسكي، بناء القصة القصيرة والرواية.
عن: نظرية المنهج الشكلي، ترجمة إبراهيم الخطيب: 143.(1/108)
وهي توحِّد أجزاء القصص الصغيرة وتنظم مجال عملها، وقد تعتبر بالإضافة إلى ذلك نوعاً من تعليق الحدث الأساس والانشغال بحدث آخر لا يتشكّل إلا داخل حدود الحدث السابق، بما يُعد مسوّغاً مناسباً لتقديم أكثر من (صيغة مثل)، فالصيغ الثلاث الواردة في المثل رقم (13) تنتمي لتنويعات الخبر أكثر من انتمائها للخبر نفسه، وإذا كانت الصيغتان الأوليان (إن الليل طويل..) و(أضرطا..) قد انبثقتا عن فعل يرتبط بالشخصية الأساسية لنص المثل (السليك بن السلكة التميمي)، فإن الصيغة الأخيرة (العاشية تهيج الآبية) لم تنبثق إلا نتيجة حوار بين شخصيتين ثانويتين (يزيد بن رويم وابنه) وهما بالأساس وليدتا تنويع يقدمه الخبر الثاني.(1/109)
ويُلاحظ على نص المثل عدم عنايته بما يكون بين خبرية من اتصال زمني، فهما من عموم أخبار الشخصية التي يمثل النص مناسبة لاستحضارهما معاً، ويمكن أن يُقدَّم أيٌّ منهما على الآخر من دون أن يؤثر في موضوعية قصة المثل أو يغيّر من قيمة حضور كل منهما، فالنص يتشكل بوصفه إطاراً سردياً مناسباً لتآلف الخبرين ولخلق مسوغ موضوعي لتلاحمهما دونما رابط زمني معين، إنهما نقطتان، أيُّ نقطتين، على منحنى حياة الشخصية، الأمر الذي يتطابق فيه المثل رقم (13) مع المثلين (10) و(64) وهي تقدم بنصوصها الثلاثة إنموذجاً يخضع لعمومية التأليف واعتباطيته الزمنية، على العكس من نَصي المثلين (19) و(87) اللذين يلحق الخبرُ الثاني في كل منهما الخبرَ الأول زمنياً، وينبني عليه موضوعياً، وإن ظلت المسافة بينهما مجهولة إلا بما يقترحه موضوعا النصين من تواشج بين زمنيهما، ففي نص المثل رقم (19) تكون المسافة الزمنية بين الخبرين هي عُمْر ابن جارية الذي تمتد زمنية الخبر الأول منهما من وقوع (جارية بن سليط بن حارث) على امرأة من خثعم بعد أن استحسنته المرأة في سوق عكاظ حتى فطام وليدها لراس ثلاثة أحوال ولقائهما في عكاظ أيضاً فدفعت المرأة الغلام إليه فسماه عوفاً، في حين يتوجّه الخبر الثاني لذكر بعض من صفات عوف وبأسه وقد كبر وشب.(1/110)
ويقدم نص المثل رقم (87) إنموذجاً يُضاء فيه طرفا عمر الشخصية، طفولتها ومماتها، بما يقترح مسافة زمنية ممتدة بين الخبرين امتداد حياة الشخصية نفسها، إن المدة الزمنية المغفلة بين الخبرين تكشف عنها طبيعة الحدث ومستوى التلازم يبن خبريه بما يفتح المجال لنوع من النبوءة والرصد لم يكن ليتضح في القسم السابق من النصوص، فارتباط الخبر الثاني بالأول، وانشغالهما بشخصية معينة أو بشخصيتين معينتين كما في نص المثل الآتي، يُهيئ للخبر الأول فرصة التنبؤ ورصد بعض أحداث الخبر الثاني، كما يُهيئ للخبر الثاني بناء على ما تقدم من كشف لشخصيتيه فرصة التنبؤ بنهاية إحداها ورصد خاتمة نص المثل على النحو الآتي:
نص المثل (87)
1.توازن: المتلمس أشعر أهل زمانه يُنشد في مجلس بني قيس بن ثعلبة.
... وطرفة بن العبد يلعب مع الغلمان.
2.عملية التغيير: أقبل طرفة مع الغلمان يسمعون. ... ... (سبب)
3.فقدان التوازن: المتلمس يُنشد:
وقد أتناسى الهمَّ عند احتضاره
بناجٍ عليه الصيعريةُ مُكدم
... طرفة يقول: (استنوق الجمل) ... ... ... (صيغة مثل)
... المتلمس يغضب وينظر إلى لسان طرفة قائلاً:
-ويل لهذا من هذا. ... ... ... ... (نبوءة 1) (نتيجة)
1.توازن: عمر بن المنذر بن امرئ القيس، عم النعمان، يرشح أخاه قابوساً ليملك بعده
2.عملية التغيير: قدم عليه المتلمس وطرفة فجعلهما في صحابة قابوس وأمرهما بلزومه
... قابوس يجهد الشاعرين ولا يمنحهما أذناً صاغية ... ... (سبب)
... طرفة يهجو قابوساً ... ... ... ... ... (نتيجة)
3.فقدان التوازن: قابوس يذكِّر عبد عمر بن بشر، ابن عمر طرفة، وكانت بينهما عداوة بهجاء طرفة له ... ... ... ... (سبب/ب)
... عبد عمر يُنشد هجاء طرفة لقابوس ... ... ... (نتيجة ب)
4.عملية التغيير: قابوس يكتب لعامله على هجر أن يقتل المتلمس وطرفة
... أخبرهما أنه قد كتب لهما بحباء ومعروف، ثم أعطى كلاً منهما صحيفته
(نتيجة ب/2)
... المتلمس يدفع صحيفته لغلمان يقرأون عليه أمر قابوس فيلقي صحيفته في الماء.(1/111)
... يقول لطرفة: أطعني وألقِ كتابك ... ... ... ... (نبوءة/2)
... طرفة يعارض، حتى أتى به عامل قابوس فقتله(1).
يُلاحظ تطور سمة النبوءة في نص المثل مع انفتاح النص على خبرين متواشجين، فإذا كانت المتتالية الأولى في نص المثل رقم (88) من أمثال القسم الأول (القصة أحادية الحدث) قد قدّمت إرصاداً لحدث لاحق هو هلاك الأخ بلدغة الحية، كما تقدم، فإننا مع نص المثل رقم (88) لنكون بمواجهة مستوى آخر من النبوءة والرصد يُعد فيه الخبر الثاني جميعه فضاء سردياً لتحقق نبوءة الخبر الأول واكتمال دائرتها، فالويل الذي أنذر المتلمس به طرفة من لسان طرفة إنما يتحقق بهلاك الأخير ونجاة المتلمس، وكان حرياً بهما أن يهلكا معاً، ولكن للسرد إرادته التي تقرر مع اقتراب الخاتمة إطلاق نبوءتها الثانية على لسان المتلمس أيضاً بصيغة الطلب هذه المرة (أطعني وألقِ كتابك)، لكن تمام النص لا يكون إلا بانحراف طرفة عن طاعة المتلمس لطاعة أمر السرد.
3-القصة عنقودية الأحداث:
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب: 174.(1/112)
يدعونا هذا القسم من أقسام نصوص أمثال (المفضّل الضّبي) وهو يمثل نسبة (7.9%) إلى معاينة نص المثل بوصفه (منظومة خبرية) تتوجه عبر إطاري الشخصية والموضوع إلى مغادرة ما سعت الدراسة حتى الآن لكشفه وبيان أساليب صياغته: وهو إنتاج مجال سردي مناسب باعتماد واقعة معينة تمثل حاملاً خبرياً لصيغة المثل، يتحقق بينها وبين صيغة المثل من التلازم ما يشير إلى عمق الوشائج بينهما وبما يُعلن أهمية مزدوجة، فيروى خبر التجربة بمسوغ صيغة المثل، والصيغة لم تكن لتخلق مجال تداولها بغير الخبر، لكننا نلاحظ في قصص هذا القسم سعي النصوص لتقديم إنموذج توجه الخبر فيه عناية خاصة يمتد معها خارج دوره السابق، لتتراجع عندئذ صيغة المثل أمام هيمنة الخبر وأهمية حضوره وفاعلية نظامه السردي التي تجترح موقعاً خاصاً في كتاب (أمثال العرب)، ينحرف من خلاله لمدِّ أفق أحداثه وتنويع مجرياته ووقائعه باتجاه أيام العرب وملاحمها وغريب حوادثها التي لا تكتفي بخبر مجزوء أو حضور عارض، بل تشكل قابلية مضافة تتلاحم معها الأخبار وتتواشج الوقائع مؤيدة وحدة المظهر والنسيج الداخلي التي تمثلها ((ملحمية هذه الأيام وتنفي عنها صفة الثبات التي لاحقتها من تجزئتها وضعتها في مختلف الكتب))(1)، لتشكل وحدة النسيج عاملاً أول يُعِدُّ نص المثل بامتداده وتنوع موضوعاته لاحتضان مادة روايات الأيام، بالإضافة إلى السمة الملحمية التي هيأت لنص المثل بثرائها وتشعّب موضوعاتها، وباختلاف الأنساق السردية التي تتشكل منها بنيتها مثل الأسطورة والحكاية الخرافية والقصص المتعلق بأعمال البطولة(2)
__________
(1) د.عادل جاسم البياتي، كتاب أيام العرب قبل الإسلام: 320.
(2) ينظر: د.أحمد أبو زيد، الملاحم كتاريخ وثقافة، مج (عالم الفكر) عدد خاص بالملاحم مج 16 ع1/ 1985..(1/113)
مساحة أوسع: سردية وموضوعية، فهي فضلاً عن كونها أطول نصوص الكتاب- وتلك واحدة من سمات الملحمة التي يُشير أرسطو إلى ما يمكن أن يؤتى فيها بفضل أسلوبها الروائي السردي من ((أجزاء كثيرة تفعل في وقت واحد))(1)- تمثل أكثر مواده غزارة وأقربها إلى التاريخ الأسطوري كما مثلته على نحو خاص قصتا لقمان والزباء(2)، ويمكننا توزيع نصوص القصة عنقودية الأحداث إلى قسمين يضم الأول منهما نصوص الأمثال (33)، (38)، (62)، (83) وهي بانشغالها الكامل بشخصية معينة تعمل على تنظيم مجرى أحداثها على وفق ما تقترحه سمات الشخصية من قوة، أو غرابة، أو حمق ليرتفع النص ببناء أحداثه من تواتر متوالياته إلى نوع من التواشج يمثل منطقة بنائية وسطى بين كل من القسمين السابقين وهما يؤمِّنان لمتتاليات أخبارهما تواتراً ملحوظاً والقسم اللاحق وهو يعمل بامتداد أخباره وانفتاحه على أيام العرب وملاحمها على إعادة إنتاج أخباره الصغار، كما ستبين الدراسة، في خبر واحد كبير.
إن نصوص أمثال سعد بن زيد مناة، وبيهس، ولقمان، ودغة، تقدم في كل خبر من أخبار أمثالها منظومة صغرى تنطوي في غالب الأحيان على أكثر من صيغة فالتشكيل العنقودي للأحداث يكون استجابة لتطلع النص للانفتاح على التجربة ومدِّ خزين أحداثه على النحو الآتي:
ت
رقم المثل
صاحب المثل
الأخبار
صيغ الأمثال
قد لا يقاد بي الجمل ... 1.خبر سعد وكبر سنّه ... سعد بن زيد مناة ... (22) ... 1.
والله لا أرى سن الحسل ... 2.خبر سعد مع ولدين من أولاده
والله لا أسرح فيها الوّة الفتى هبيرة ... 3.رواية ثانية للخبر السابق
حتى يجتمع معزى الفزر
-------
لكن بالأثلات لحماً لا يظلل ... 1.خبر حمقه ومقتل أخوته ... بيهس ... (28) ... 2.
لو خيّرك القوم لاخترتِ ... 2.خبر عودته إلى أهله وبعض حمقه
__________
(1) أرسطو، كتاب أرسطو طاليس في الشعر، تح د.شكري محمد عياد: 136.
(2) ينظر: د.عادل جاسم البياتي، كتاب أيام العرب قبل الإسلام: 80.(1/114)
يا حبذا التراث لولا الذلة ... 3.خبر حمقه مع خاله
دعوني فكفى بالليل خفيراً
ألبس لكل حالة لبوسها..
مكره أخوك لا بطل
على أهلها تجني براقش ... 1.خبره مع زوجته براقش ... لقمان ... (62) ... 3.
هذا حِرٌ معروف وكنت البارحة في حِر منكر. ... 2.خبره مع أخته وولادة لقيم
ذنب صحر. ... 3.خبره مع لقيم
كأن برحل باتت ... 4.خبر آخر مع لقيم
وبرحلها بات لقم ... 5.خبره مع ابن بيض لتاجر
أشبه شرج شرجاً لو أن أُسيمراً
في نظم سيفك ما ترى يا لقم
لي الغادرة والمتغادرة والأفيل النادرة
سدَّ ابن بيض الطريق.
4.
(83)
دغة
1.خبر زواجها وولادتها
2.خبر حسد النساء لها
3.خبر رهان زوجها عليها
نعم ويدعو أباه
أحمق من دغة
هين لين وأودت العين
القوم ما طَبَون
يبدو تلاحم الأخبار في هذا القسم ضرورياً بما يُشير إلى جانب مهم من جوانب توزيع صيغ الأمثال داخل الخبر الواحد وامتدادها بين مجموعة أخبار داخل النص الواحد، فإن أهمية حكايات هذا الصنف من الأبطال، سيما لقمان في هذا القسم والزباء في القسم اللاحق، بوصفها قطعاً متطورة من أساطير، كما يشير د.أحمد كمال زكي ((ظلت تتردد صدى للوجدان الجماعي، وكثير منها تسلل بدوره إلى أيام العرب))(1)، تجلى لتضم عدداً مهماً من صيغ الأمثال بما يدعونا لملاحظة الدور الذي تؤديه الشخصية بين قسم وآخر من أقسام البحث مستفيدة من مرجعها وما تسحبه وراءها من أسطورية التصور لتشتمل على عدد من صيغ الأمثال يواجهنا تسللها إلى قصص أُخر في مرحلة متأخرة من مراحل كتب الأمثال(2)،
__________
(1) د.أحمد كمال زكي، الفن القصصي في التراث العربي، مج (الآداب) ع7، 8 سن 37/1989: 41.
(2) نشير، على سبيل الملاحظة، للصيغة التي يقدمها نص المثل رقم (62) في خبره الأول: (على أهلها تجني براقش)، وبراقش في الخبر زوجة لقمان، لكنها كما يذكر الميداني (ت518هـ) كلبة لقوم من العرب، وفي قصة أخرى امرأة لبعض الملوك.
... ينظر: الميداني، مجمع الأمثال: 2/14.(1/115)
فالشخصية، بجملة أخرى تترك أثرها على ما يجتمع تحت ظلها من صيغ، تتساوى في هذا التصور شخصية المثل الأساسية، إنسانية أو حيوانية، كما سيبين القسم الأخير من الدراسة، وهي كلما امتد أثرها في الذاكرة والوجدان ازداد رصيدها من الصيغ، فالنص، هنا، يسعى لإقامة صلة أعمق بين الشخصية وما يُنتج من وقائع حياتها وتجاربها من صيغ إنما تُضاء بما تختزنه الذاكرة وما يؤثره الوجدان.
يقدِّم القسم الثاني من (القصة عنقودية الأحداث) بنصوصه الثلاثة (27)،
((1/116)
51)، (60) إنموذجاً لانفتاح نص المثل في كتاب المفضل يُمنح معه الخبر فرصة لكسر نظام سابق هو الترتيب المتواتر للحدث، الذي يمكن لمتتاليته أن تحدد الخبر وتُشعر بمجال عمله وامتداده سواء وردت تامة ومجزوءة، أحادية أو ثنائية أو مزدوجة، لتتسنى لها الحركة في مجال جديد تذوب فيه الحدود بين أخبار كل نص من النصوص، وتتماهى في شكل تملك فيه (الواقعة) من الأهمية ما يدفعها لتتقدم صيغة المثل نفسها. إن عدم التناسب البيِّن بين طول النص، بوقائعه وتلاحم أخباره، وعدد الصيغ يدعونا للنظر إلى عناية كتاب (أمثال العرب) بالنص نفسه، وانشغاله بنقل الخبر على امتداده وتداخله مع (أيام العرب) عن تنظيم مجال خبري محدد لإنتاج صيغة المثل. إن ذلك يدعونا لملاحظة أثر الأيام على إنتاج الأمثال العربية، ما اختص منها بوقائع الجماعة وأخبار غزواتها على نحو خاص فمن الباحثين مَنْ يُرجِّح هذا الأثر إلى الدرجة التي يعد معها ((أن الأيام هي التي أنطقت الرجال والنساء أمثالاً تُعبّر عن تجارب قائليها، إن ذكروا، فهم من الذين كان لهم دور في تلك الأيام))(1)،
__________
(1) عفيف عبد الرحمن، الأمثال العربية القديمة (مصادرها- توثيقها- أهمية دراستها) المجلة العربية للعلوم الإنسانية- الكويت ع.1م3 ربيع 1983: 24..(1/117)
إن نص المثل في هذا القسم يحقق انحرافين في وقت واحد: فني وموضوعي، يكون الأول بالخروج على محدودية الخبر ووضوح نظامه، ويتجلى الثاني بعنايته بالمحمول، أو الفضاء المنتج أكثر من عنايته السابقة بالخبر بوصفه مجالاً لإنتاج الصيغة، فإذا كان الخبر في ما تقدم من نصوص قد مثَّل مناسبة سردية لتأمين موقع صيغة المثل في تجربة معينة، فإن الخبر في هذا القسم يتجسد بوصفه واقعة معلومة تملك لأهميتها ولخصوصية موقعها أن تنفتح فتضم عدداً من صيغ الأمثال، وعلى الرغم من كون رواية أيام العرب وذكر وقائعها تمثل الجانب الأبرز في جهود (المفضّل الضّبّي) في الأخبار(1)، سواء منها ما تعلق بأخبار داحس والغبراء التي نشبت بين عبس وذبيان وذكر إنها دامت أربعين سنة، أو وقائع الحرب التي دارت بين المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة والحارث بن جبلة ملك الغساسنة، فإننا نلاحظ تباين الطرائق التي يَرِد بها الخبر، واختلاف الآلية التي يتصل بها مع سواه من الأخبار، فإذا كان ((الرواة يغلبون الجانب القصصي عند سردهم للحوادث على النسق التاريخي))(2) فإن عنايتنا بالجانب السردي تدعونا لملاحظة خصوصية هذا النموذج بين نصوص أمثال (المفضّل الضّبّي)، وهي تتفرق بين الخبر المختزل الذي لا يكاد يضم غير المتحاربين وذكر اليوم كما في نص المثال رقم (75): ((زعموا أن سليحاً من قضاعة طلبوا غسان في حرب دارت بينهم، فادركوهم بالقسطل، فقالوا: يوم كيوم القسطل، فذهبت مثلاً))(3)، والخبر الطويل الذي يضم من التفاصيل ما يضيء جهد (المفضّل الضّبّي) ويُبرز عنايته بهذا الضرب من الأخبار(4)،
__________
(1) ينظر د.زكي ذاكر العاني، دراسة تحليلية في أقدم كتاب في الأمثال، مجلة (المورد) مج24 ع1/1996: 8.
(2) منذر الجبوري، أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي: 77.
(3) المفضل الضبي، أمثال العرب: 168.
(4) من الأيام الواردة في كتاب (أمثال العرب): 1.يوم الفروق: 98-99
2.يوم ذي حس: 98
3.يوم عراعر: 98
4.يوم ذي نَجَب: 78
5.يوم القسطل: 168
6.يوم عين أباغ: 122
7.يوم حليمة: 169(1/118)
بما يقترح صلة معينة، عارضة نوعاً ما ولا تؤمن ارتباطاً تفصيلياً بين الخبر في القسم الأول وصيغة مثله كما في نص المثل السابق وما يخلق وشائج واضحة بين الخبر في القسم الثاني وصيغة مثله التي تنبثق في الغالب عن تفصيل محدداً وواقعة جزئية مثل: (جري المذكيات غلاب)، (لا تركض مركضا)، (رويدا يعلون الجدد).. الخ التي ترد في معظم الأحيان حواراً لإحدى شخصيات الحدث المركزية بما يزيد من ارتباطها بالحدث واقترابها من الواقعة، في حين يمثل الأنموذج الأول (يوم كيوم..) تعليقاً خارجياً عامَّاً يُراد منه الإشارة لعنف اليوم وقوة واقعته.
يمكن ملاحظة أثر الانحراف الأول (الفني) عبر صعوبة الفصل بين مكوّنات قصة المثل من الإخبار، وملاحظة الانحراف الثاني (الموضوعي) بتمام الوقائع المقدَّمة في نص المثل، وهي تسعى لإقامة مستوى من التكامل القصصي بين عناصرها، كما في خبر (ابنة الزباء)(1)، بشكل خاص، ويمكنا النظر إلى تواشج الأخبار وتلاحمها، ومواقع صيغ الأمثال فيها، عبر المقترحات الثلاثة الآتية لقراءة النصوص، من دون أن ندَّعي نهائية هذه القراءة لصعوبة الفصل بين وحدات هذه النصوص إلا على أساس الفصل التقريبي بين حدث وآخر:
المثل رقم (27):
1.خبر داحس
2.خبر إغارة قيس بن زهير على بني يربوع.
3.خبر الرهان بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر.
4.خبر الرهان: ترك الخداع من أجرى من مائة غلوة (صيغة المثل)
... ... جري المذكيات غلاب (صيغة المثل)
... ... إنك لا تركض مركضا (صيغة المثل)
__________
(1) تثبت رواية المفضل الضبي صدر الاسم (ابنة) أو (بنت) خلافاً لعدد من الروايات اللاحقة التي تكتفي بـ(الزباء)، وفي رواية المفضل لاسم الملكة مطابقة للاسم الوارد في النقوش التدمرية وقد يكون هذا دليلاً، كما يُشير د.عبد المجيد عابدين، على أن رواية الضبي في بعض أجزائها- على الأقل- مأخوذة من مصادر آرامية.
ينظر: د.عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم: 38-41.(1/119)
... ... رويداً يعلون الجدد (صيغة المثل)
5.خبر كمين بني فزارة
6.خبر مقتل عوف بن بدر على يد قيس بن زهير.
7.خبر مقتل مالك بن زهير.
8.خبر الربيع، ووقوع الحرب: وحسبك من شر سماعه (صيغة المثل)
9.خبر مقتل جنيدب على يد مالك بن بدر.
10.خبر (الخاثرة): اجتماع بني فزارة وثعلبة على بني عبس، وهزيمة عبس لهم.
11.خبر توجّه حذيفة مع رجاله ورجال بني ذبيان لبني عبس:
... اتق مأثور القول بعد اليوم (صيغة المثل)
12.خبر مسير بني عبس حتى وقوعهم باليمامة.
13.خبر رجل من الضباب أسرته بنو عبد الله بن غطفان.
14.خبر إغارة قرواش بن هني العبسي على بني فزارة ومقتله.
15.خبر ارتحال بني عبس عن بني عامر إلى بني تغلب.
16.خبر يمين الحصين بن ضمضم المرّي.
17.خبر غضب فزارة وحصن وبني عبس لمقتل الحصين.
18.خبر الصلح بين بني مُرّة وبني فزارة.(1)
المثل رقم (51):
1.خبر كليب: أعز من كليب بن وائل (صيغة المثل)
2.مقتل كليب وناقة البسوس: تجاوزت شبيثاً والأحص (صيغة المثل)
... أشأم من ناقة البسوس (صيغة المثل)
3.خبر جساس بن مُرَّة: أسته أضيق من ذاك (صيغة المثل)
4.خبر الحارث بن ضبيعة: لا ناقة لي في هذا ولا جمل (صيغة المثل)
5.خبر بني تغلب مع مرَّة بن ذهل بن شيبان (صيغة المثل)
6.خبر مقتل بجير بن الحارث: بؤ بشسع نعل كليب (صيغة المثل)
7.خبر مقتل عمر بن أبان على يد أبي بجير
8.خبر أسر كثيف.
9.خبر مقتل عمر بن الزبان على يد كثيف: آخر البز على القلوص (صيغة المثل)
... ... ... ... ... أشأم من خوتعة (صيغة المثل)
... أثقل من حمل الدهيم (صيغة المثل)
10.خبر نذر الزبان: إيتِ فقد أَنى لك(2) (صيغة المثل)
المثل رقم خبر (60):
1.خبر ابنة الزباء.
2.خبر حصارها دومة الجندل: تمرَّد مارد وعزَّ الأبلق (صيغة المثل)
3.خبر جذيمة الأبرش وطلبه الزواج منها: لا يُطاع لقصير رأي (صيغة المثل)
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب: 81-109.
(2) نفسه، 129-137.(1/120)
4.خبر مضي جذيمة إليها: وإنها لا يشق غبارها (صيغة المثل)
... ... ... ببقةُ صُرم الأمر (صيغة المثل)
... ... ... أشوار عروس ترى (صيغة المثل)
... ... ... لا يحزنك دم هراقه أهله (صيغة المثل)
5.خبر نجاة قصير: يا ضُلَّ ما تجري به العصا (صيغة المثل)
6.خبر عمرو بن عدي اللخمي خليفة جذيمة وابن أخته وطلب الثأر من ابنة الزباء:
... ... ... خير ما جاءت به العصا (صيغة المثل)
... ... ... أمنع من عقاب الجو (صيغة المثل)
... ... ... فأعنّي وخلاك ذم (صيغة المثل)
... ... ... لإمرٍ ما جدع قصير أنفه (صيغة المثل)
... ... ... قد جئت بما صاء وصمت (صيغة المثل)
... ... ... بيدي لا بيديك يا عمرو (صيغة المثل)
7.خبر إعجاب جذيمة بعدي بن نصر وتوليته كأسه
... ... ... وإعجاب رقاس أخت جذيمة به
8.خبر ولادة رقاس غلاماً سمته عمراً
9.خبر استطارة الجن لعمرو: أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعا (صيغة المثل)
10.خبر عودة عمرو إلى أمه: شبَّ عمرو عن الطوق (صيغة المثل)
... وإقامته مع خاله إلى أن خرج إلى ابنة الزباء(1).
... يقودنا اهتمام نصوص الأمثال بتفاصيل الخبر والعناية بوحداته الصغرى إلى ملاحظة حركة النصوص وتأمل قدرتها على الملاءمة بين أهدافها، بوصفها منظومات خبرية تحتضن الصيغ وترتفع بها، وخصوصياتها النصية وهي ((تزداد ثراء بتفاعلها مع سياقات ثقافية متغيرة))(2)، فنصوص أمثال (المفضّل الضّبّي) كما تُشير الدراسة لم تختط لنفسها أنموذجاً محدداً شكّل قانون الكتاب وقالبه، بقدر ما وفرت لها عناية التأليف منطقة من الاختيار والتركيب تدرجت فيها النصوص فتباينت إمكانياتها السردية وأسهمت بمنح كتاب (أمثال العرب) خصوصيته: حلقة مؤثرة في سلسلة كتب أمثال العربية وإنموذجاً لافتاً من نماذج أدبها.
تغيّرات النصوص حركة السياق الثقافي وأثرها في بناء الأحداث
__________
(1) نفسه: 143-150.
(2) د.عبد الله إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية: 99.(1/121)
مثلما أثرت موجّهات الثقافة ومتغيراتها في الحياة العربية بمختلف أنشطتها الأدبية والفكرية، أثرت في نص المثل، وهو جانب مهم من جوانب الحياة، وغيّرت من نُظم التأليف فيه مع دخول كتبه مرحلة شهدت تغيراً في سياق التلقي واستجابة لنوع من الموجّهات اقتضته طبيعة المرحلة وخصوصية عملها، لا بما خضعت له نصوص الأمثال من نظر في سياق (التلقي التاريخي)(1) بوصفها مرويات جاهلية عوملت معاملة مرويات سردية ونثرية أخرى كالقصص والخطابة ونثر الكهان، بل بما سحب هذا الضرب من التأليف إلى جهة الدرس اللغوي وإخضاعه لعناية تفسيرية وضعت نصب اهتمامها مقتضيات عصرها وحاجاته اللغوية أكثر من اهتمامها بالنصوص نفسها. الأمر الذي يمكن أن يُجيب عن سؤال التغير النوعي في مفهوم (المثل) نفسه بين كتاب (المفضّل الضّبّي) والكتب اللاحقة، باعتماد الأول نمطاً محدداً من صيغ المثل المعروفة، وتوخي إضاءة ما علُق بها من أخبار، إنما قامت في سبيل إحياء التجربة بالدرجة الأساس والتقاط تفاصيلها، وبتوجه الكتب اللاحقة لتطويع نصوص الأمثال لغايةٍ هي الاستقصاء والاستزادة اللغويين بما يجيب ضمناً عن تحول بعض كتب الأمثال إلى مختارات شعرية أو نوع من المعاجم اللغوية.
__________
(1) نفسه.(1/122)
إن تغير السياقات وتباعد أهدافها يؤثر، بالضرورة، في النصوص وهي تستجيب في كل مرة لإيقاع مختلف يشمل بآثاره نُظم التأليف وأساليبه مثلما يشمل عناصره ووحداته، والحدث واحد من العناصر التي خضعت لتغيرات كمية ونوعية، انسحبت معها عن أداء دورها الأساس كما تمثَّل في كتاب (المفضّل الضّبّي) لتشغل موقعاً ثانوياً لا يتعدى عُشر نصوص أمثال الكتاب أو أدنى من ذلك تاركاً مكانه لحضور تفسيري يصبغ الكتب بصبغته ويخلخل مركزها القصصي، إذ إن الحدث، فضلاً عن محدودية وجوده، لا يتشكل إلا من خلال تعليق مؤلف الكتاب نفسه وهو يهشّم الوحدات ويجزئها بما يحد من فاعلية حضورها السابق، فالحدث لم يعد يُطلب، في كتاب أبي فيد وأبي عكرمة على نحو خاص، لذاته أو لإضاءة تجربة المثل على أبعد تقدير بل بما يمكن أن يعزز من حضور الملفوظ الذي أصبح تبعاً لاختلاف الموجّهات مركزاً من مراكز هذا النوع من الكتب بما يحقق لصاحب الكتاب بوصفه عالم لغة بالدرجة الأساس، موقعاً يتحكم من خلاله ((تحكماً كلياً في شكل القص ولغته، أو بمعنى آخر، يتحكم في طريقة السرد وفي أبعاده اللغوية والدلالية والإشارية))(1) فيقدِّم جانباً من جوانب النص ويؤخر آخر، مشكِّلاً أكثر من مظهر لنص المثل وموجّهاً النصوص جميعها نحو الهدف الأساس للتأليف وغايته الأولى بما يمكن معه تحديد أنواع ثلاثة لصياغة النصوص هي:
1.النصوص اللغوية.
2.نصوص الحديث النبوي الشريف.
3.نصوص الأحداث، أو تجارب المثل.
__________
(1) د.نبيلة إبراهيم، لغة القص في التراث العربي: 12.(1/123)
يشكّل القسم الأول جانباً مركزياً من جوانب كتاب أبي فيد وأبي عكرمة على نحو خاص، وهو يمكن أن يمتدّ ليشمل القسمين الأخيرين وإن توجه كل منهما وجهة مختلفة، يعتمد النص فيه على نحو كامل على ما يُقدَّم من تفسير للفظ مفرد أو جملة تقوم بوصفها مثلاً، أو ما يعادل المثل تُلتقط على أثر حركة جديدة قامت بها فئة معلمي اللغة ورواتها منذ أواخر القرن الثاني بوصفها شواهد لغوية(1)، وتتطلب من العناية والاهتمام ما يتطلبه المثل، فألفاظ مثل (المبسل)، (الفنع)، (الرعلاء)، (التعتة)، (العرص)، (الوقبة)، وجمل مثل (ما به قلبه)، (لبيك وسعديك)، (نادم سادم)(2)، تقوم في الكتابين مقام المثل وتعامل معاملته، وهي تعتمد من جانب آخر العناية اللغوية وجهاً من وجوه تقديم الأمثال وإنتاج نصوصها، فلا يُضاء من المثل في هذا الجانب إلا وجهه اللغوي بحثاً عن معنى أو تفسير واستشهاداً بما يناسب من الشعر لتقريب الصيغة وتأمين عملها مثل:
((بدت جنادعُهُ)) قال أبو فيد: سمعت أبا الدقيش يقول:
قد خرجت جنادعُهْ
والشَّرُّ ليسَ وادعُهْ
والجنادع: دواب أمثال الجداجد، تكون قريباً من الضَّب، فإذا خرجت تلك فهو عنده [كذا] دُنُوه)(3) (وقولهم: ((لا تُبَلِّم عليه))، أي لا تقبِّحْ عليه.
وأصله: من أبلمت الناقة، إذا وَرِم حياؤها من شدة الضبعة، ومن قولهم: قد أبلمَ الرجل إذا ورمت شفتاه، ورأيت شفتي فلان مبلمتين. المعنى لا تشدد عليه)(4).
__________
(1) ينظر: عبد المجيد عابدين، الأمثال العربية القديمة: 57 وما بعدها.
(2) أبو فيد مؤرخ السدوسي كتاب الأمثال: 53، 54، 57
... وأبو عكرمة الضبي، كتاب الأمثال: 46، 48، 59.
(3) أبو فيد م.س: 62.
(4) أبو عكرمة م.س: 95.(1/124)
لا تُعتمد في هذا القسم أخبارُ المثل أو منظومة أحداثها، ولا يُنظر في معظم الأحيان لقائله أو مناسبة قوله، بل يُكتفى بالمعنى والتفسير الذي يوجّه عنايته جهة تداول صيغة المثل (اللفظ والجملة) من دون أن يمنح جهة الإنتاج عناية تُذكر.
ويتداخل القسم الثاني (نصوص الحديث النبوي الشريف) مع القسم الأول من حيث عنايته اللغوية والتفسيرية، غير أنه يختص بأحاديث الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) مضيفاً لكتب الأمثال ركناً جديداً يستجيب على نحو واضح لجدة الموجِّهات وتغيّر السياقات الثقافية التي عملت على تأسيس نمط من العلاقة بين النص القرآني والحديث النبوي وبين آثار علماء الأمة، فإذا كان كتاب المفضّل الضّبّي قد اعتمد بشكل كامل على موروث نص المثل، مقترحاً موقعاً معيناً لراويه بين سلسلة رواة معلومين ومجهولين، فإن الكتب اللاحقة في مرحلة دراستنا اقترحت نوعين من المزاوجة بين نص المثل، أو صيغته كما عُرِفت في كتاب المفضل، وما كان بين أيدي مؤلفيها من نصوص- يدخل من ضمنها الحديث النبوي الشريف- مضيئاً موقعاً جديداً لراوي المثل ومنظِماً مع تغير مفهوم (المثل) صورة أولية لمستجد الأمثال، عمِلت الكتب المتأخرة على تحديد مجالٍ خاص لها، وهي خصيصة أخرى يُضيفها البحث للتمييز بين كتاب المفضل وما لحقه من كتب باعتماده الكامل على نصوص ماضية، وانفتاح الكتب اللاحقة على نصوص معاصرة لها، بغض النظر عن نوعية هذه النصوص ومستوى حضور (المثل) فيها.(1/125)
إنها خصيصة يمكن أن تكشف عن أهميتها المرجعية التاريخية والابستمولوجية إذا ما نُظر لها في إطار عصر التدوين (القرن الثاني والثالث الهجريين) وما اتبع فيه من عقائد ومعارف وتشريعات ورؤى(1) لم تتحدد بنوع معين من التأليف ولم تختص بمجال دون غيره، وهي تضيف لبحثنا ملاحظة ذات شطرين يصب الأول في حركية نص المثل- ومفهومه من قبل- وهو يخضع ضمن آلية تأليف كتب الأمثال لتغير حدوده واختلاف سياقاته، ويُشير الثاني إلى دور هذه الكتب وموقعها في الثقافة العربية التي تدعوها للاستجابة لتغير موجِّهات هذه الثقافة بما يقلل من أهمية فكرة الهامش التي طُرد إليها هذا النمط من التأليف طويلاً وينقله إلى موقع مركزي، لا على أساس نوع الكتب بل بحسب استجابتها لتغيّرات السياق الثقافي.
ويمكن ملاحظة كتاب أبي عبيد بن سلام في هذا الباب بوصفه إنموذجاً لمنهجية لم تكن تتوفر في الكتب السابقة، عومل معها الحديث النبوي معاملة خاصة فهو يضم أكثر من خمسة وتسعين حديثاً تقع معظمها في فاتحة أبواب الكتاب، في الوقت الذي اختلطت فيه الأحاديث النبوية في كتب أبي فيد وأبي عكرمة مع سواها من أمثال العرب وأقوالهم وغريب ألفاظهم، واقتصر وجودها على عدد محدود (حديثان في كتاب أبي فيد، وتسعة عشر حديثاً في كتاب أبي عكرمة).
ومن المهم الإشارة إلى طريقَتي استضافة الحديث النبوي الشريف في كتب الأمثال، ففي الأولى يُقدَّم في مفتتح النص كما تقدَّم صيغ الأمثال، معتمداً لأهميته ولخصوصيته اللفظية التي تتوجَّه الكتب في معظم الأحيان لبيان معانيها كما في الأمثلة الآتية:
(وأخبرني أبو فيد، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(((نعم الحيُّ بنو مُدْلِج، إذا أهلّوا عجوا، وإذا نحروا ثجّوا)))(2)
(قال أبو عبيد: جاءنا الخبر عن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أنه قال:
__________
(1) ينظر: د.محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: 21.
(2) أبو فيد كتاب الأمثال: 77.(1/126)
إنما المرء بخليله، فلينظر امرؤٌ مَنْ يُخالُّ. ومع هذا إنه المثل السائر في:
عن المرء لا تسألُ وسَلْ عن قرينهِ
فكلُّ قرينٍ بالمقارن مُقتَدِ
وهذا البيت لعديِّ بن زيد العبادي)(1).
(وقولهم: "اطلبوا الخير من حِسان الوجوه")
يُروى ذلك عن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الوجوه ها هنا: المطالب، أي اطلبوا الخير من أحسن المطالب، التي تحِلُّ بكم وتحسُن بكم)(2).
وفي الطريقة الثانية يُعتمد الحديث لبيان معنى معيّن أو تفسير لفظ أو تحديد دلالة فهو يقع في نص المثل موقع الاستشهاد بالشعر وبعض ما نُقل من سير الخلفاء وأقوال العلماء، فالحديث النبوي بذلك يُسهم بتشكيل النصوص في وحدة تتساوى في هدفها مع وحدات أُخر شعرية أو نثرية فضلاً عن خصوصية موقعها في الثقافة العربية. كما في الاستشهاد في الحديثين الآتيين في كتاب أبي عبيد:
(الحرب خدعة)(3)، و(ما صدقة أفضل من صدقة قول)(4).
والاستشهاد بالأحاديث الآتية في كتاب أبي عكرمة:
(إذا رأيت سواداً في الليل فلا تكن أجبن السوادين، فإنه يخافك كما تخافه)(5)
و(إذا سلك أحدُكم طريقاً، فلا يرجع على حافرته)(6)
و(ارجعن مأزورات غير مأجورات)(7)
__________
(1) أبو عبيد القاسم بن سلام، الأمثال: 178-179.
(2) أبو عكرمة الضبي، كتاب الأمثال: 109.
(3) أبو عبيد القاسم بن سلام، كتاب الأمثال: 37.
(4) نفسه: 40.
(5) أبو عكرمة الضبي، كتاب الأمثال: 72.
(6) نفسه: 58.
(7) نفسه: 28.(1/127)
ويُقدِّم القسم الثالث (نصوص الأحداث، أو تجارب المثل) جانباً من جوانب التغيير الذي لحق نص المثل ومناسبةً للحديث عن انفصال آخر في العناية والاهتمام بين كتاب (المفضّل الضّبّي) والكتب اللاحقة، لا يتحدد بقلة عدد النصوص المعتمِدة على أحداث أو تجارب، وهي ميّزة لا يمكن إنكار أهميتها، بل ينسحب على نوعية الحدث وآلية تشكيله السردي التي خضعت لتقطع واضح يفسح المجال داخل نص المثل لاستشهاد أو تفسير، وقد يُعتَمد الحدث نفسه للاستشهاد على لفظ مُعيّن، وليس للإحاطة بالتجربة أو بيان مناسبة الصيغة والتعريف بقائلها، فالخبر في قسم مهم من أقسام الكتب لم يعد يستجيب لمثل هذه المحددات لحداثته النسبية ولانحرافه عن خصوصية الأثر الأدبي، وتراجع موقعه في النص، كما تقدَّم في الفصل الأول، فضلاً عن السبب الأساس أي تحول هدف التأليف تبعاً لتغيّر سياقات الثقافة وموجهاتها.
تواجهنا في كتاب أبي فيد وأبي عكرمة مجموعة من النصوص المنطوية على حدث (تسعة نصوص في كتاب أبي فيد، وثلاثة في كتاب أبي عكرمة) تتباين في توجهاتها وأساليب صياغتها مثلما تباينت في أعدادها، ولعل من الجدير بالإشارة هو ما يحدث من تداخل وانتقال بين الأخبار والأحاديث والمعاني داخل النص الواحد، وهو جانب يعيد أمامنا فكرة الإملاء وأثرها في تأليف كتب الأمثال، ففي الوقت الذي تنتظم فيه النسائج السردية لكتاب المفضّل حتى تنحرف في أخبارها الطوال بخاصة جهة أيام العرب، تنحرف الكثير من نصوص كتب أبي فيد وأبي عبيد وأبي عكرمة ومعها الكثير من نصوص الأصمعي وأبي زيد نحو كتب الأمالي بآلية تأليفها التي تعتمد انفتاح النصوص وتنقلها بين الموضوعات، ولاختلاف ما تنقله عن السلف فقهاء وعلماء لغة ورواة شعر، فضلاً عن عدم مراعاتها حدود إنتاج المثل الصياغية أو المفهومية.(1/128)
نلاحظ أولاً الأخبار المنقولة وآلية النقل التي تعتمد التصريح بالمصدر فيما يخصُّ الأخبار العامة والتعريفات، وإقامة سلسلة سند بالأحاديث النبوية الشريفة، وتجارب الخلفاء والصحابة، كما في نص أبي فيد (قد بلغ السيلُ الزبى)(1)، ونص أبي عكرمة (لا يفارق سوادي سوادك)(2)، إذ يروي أبو فيد خبراً من أخبار قضاء الإمام علي بن أبي طالب بعد أن يورد الصيغة ويفسِّر معنى كلمة (الزُبْيَة) التي ذُكرت الصيغة من أجل بيانها وجلاء معناها، ثم يستشهد عليها بمقطعين شعريين، ثم يذكر بعد سلسلة سند حديث القضاء الذي يتوجّه بالأساس لكشف معنى (الزُبْية)، الأمر الذي نجد مثيله في كتاب أبي عكرمة إذ تُعتمد الصيغة ما يستشهد به من شعر أو نثر لبيان معنى (السَّواد: الشخص) فبعد أن يورد النص معنى الكلمة مباشرة يورد شعراً لزهير بن أبي سلمى، ثم شعراً لحسان بن ثابت، ثم شعراً لراجز، ثم يتوجّه لحديث الصحابي سلمان الفارسي (وحولي هذه الأساود) المتضمن حديث الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ): (لتكن بلغةُ أحدكم مثلَ زاد الراكب) ثم يُلحق بحديث آخر (إذا رأيت سواداً... الخ) يوسع من معنى الكلمة ويستشهد على وجه آخر من وجوهه، ثم يُختتم النص ببيت للأعشى، ليفارق هذا الأسلوب في صياغة نص المثل بتعدد طبقاته واختلاف أهدافه أسلوب صياغة نص المثل كما لاحظناه في كتاب (المفضّل الضّبّي).
لكننا ما نعدم أن نجد نصوصاً تتضمن تجارب خاصة إنما تروى لأجل إضاءة عمل الصيغة وتحديد مجالها كما في نصوص أمثال أبي فيد الآتية:
المثل رقم (11): أنا إذاً كراعي المعزى.
المثل رقم (14): عطر منشم.
المثل رقم (19): اليوم ظلَمْ(3)
وفي كتاب أمثال أبي عكرمة:
المثل رقم (96): هو على يدي عدل(4)
__________
(1) أبو فيد، كتاب الأمثال: 40-43.
(2) أبو عكرمة، كتاب الأمثال: 71.
(3) ينظر: أبو فيد، كتاب الأمثال: 45، 49، 51.
(4) ينظر: أبو عكرمة، كتاب الأمثال: 110.(1/129)
تُلاحظ على هذا القسم من النصوص سمتا الاختزال والعناية بالخبر الذي يتضمن حدثاً معيناً لا ينقطع تتابع وحداته بالتفسير وطلب المعنى بل يؤجل ما يعتمد فيه من الشعر أو التفسير حتى تمام الخبر كما في إلحاق بيتي الأعشى وزهير في ختام نص المثل رقم (14)، وتأخير التفسير حتى اكتمال الخبر كما في المثل رقم (19)، وهو يستجيب، في انتظامه وتتابعه وعدم انقطاعه، لمعيار القسم الأول من أقسام نصوص المفضّل الضّبّي (القصة أحادية الحدث) معتمداً في الغالب متتالية تامة أو مجزؤة تضيء تجربة (الصيغة) وترتفع بها.(1/130)
مثلما قدَّم القسم الأخير من أمثال المفضّل الضّبّي إنموذجاً فنياً خضعت فيه آلية احتضان الخبر وطريقة الربط بين مجموعة أخبار ضمن النص لتشكيل خاص يقيم مستوى من التنضيد يقترب فيه بمعاونة موضوع ذي سمة بطولية من أيام العرب ووقائع أبطالها، يُقدِّم هذا القسم أنموذجاً آخر يتوجّه كتاب أبي فيد بتوسعه والربط من خلاله، ربطاً موضوعياً، بين أكثر من مثل لما يمكن أن نُطلق عليه سلسلة أمثال الحيوان التي ستكوّن مع مضي عقود التأليف جانباً ثرياً من جوانب المثل العربي الذي تتجاوز فيه الموضوعة- أي قصص الحيوان- حضورها كـ(موتيفة بلاغية ينتهي دورها بانتهاء الموقف الذي مَثُلَتْ فيه)(1) إلى الإسهام بإنتاج نمط من النسائج السردية القائمة على انفتاح التجربة الإنسانية ومراقبتها لما حولها، حيث تكون نصوص هذه الأمثال صدىً مهماً لمرحلة مبكرة من مراحل الملاحظة البشرية. وإذا كان القسم الأخير من أمثال المفضّل قد توجَّه فنياً وموضوعياً جهة الأيام، فإن هذا القسم يُقيم مع (الفابولات: قصص الحيوان) في الأدب العربي بوصفها نوعاً(2)
__________
(1) د.أحمد كمال زكي، الفن القصصي في التراث العربي: 40.
(2) نفسه: 41..(1/131)
اتصالاً بيّناً يتعدى الإطار الوعظي لمثل هذا النوع من القصص إلى مستوى التمثيل والمشاركة الذي تتقاسم فيه الشخصية الإنسانية الأهمية مع الحيوان كما تقدم في دراسة المثل رقم (88) من أمثال المفضّل الضّبّي (كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟) أو مستوى من الاختصاص الذي يُحدد لحيوان معيّن صفةً تُصبح في الغالب مدارَ أخبار نصوص أمثاله مثلما تُصبح إطار وجوده في الفكر والأدب، والنص بهذا يحقق سمة أخرى يُعامل بها الحيوان معاملة الشخصية الإنسانية، فكما كان لحمق دغة، أو حمق بيهس، على سبل المثال، موقع في المثل العربي بخاصة والأدب بعامة، كان لحمق الضبع أو النسناس ما يوحد أخبارهما مع بني البشر، وهو ما تقدمه نصوص الأمثال (12) (13) (60) من أمثال أبي فيد في توجهها وجهةً موضوعيةً يجمع النصان الأولان منها أخبار الضبع، ويُقدِّم الثالث خبراً في حمق النسناس. ويمكن ملاحظة آلية الأخبار وانتظامها قبل تحليل نصي المثلين (12) (13) كما في النقاط الآتية:
1.امتداد موضوع المثل (حمق الضبع) بين النصين إلى أكثر من خبر، تعتمد في أحداثها تأكيد الموضوع والتمثيل له.
2.وفرة الأخبار (ثمانية أخبار).
3.لا تنطوي الأخبار جميعها على صيغ أمثال.
4.انفصال الأخبار عن بعضها.
5.اعتماد التعليل والتفسير للوصل بين الأخبار.(1/132)
تقدم النقاط عبر تأكيدها تلاحق أخبار المثلين صورةً من صور التنضيد التي يتسع النسق معها أفقياً من خلال تتالي أخباره من دون أن يضيف لموضوعه إشارة نوعية تحرف اتجاهاً أو تغيّر أثراً كما في نصوص الأيام والوقائع، بل إنها تسعى مع كل خبر جديد لتأكيد موضوعها الأساس والامتداد داخل حدودها، إلى الدرجة التي دعت أحد الباحثين إلى الإشارة إلى أن أول ظهور لقصص الحيوان في الأمثال العربية كان في كتاب أبي فيد السدوسي ((حيث تشكّل قصص الأمثال التي أوردها حول حمق الضبع وطباعه الأخرى مجموعة فريدة يكاد ينفرد بها دون غيره من رواة الأمثال وجامعيها))(1) وهي في وفرتها وتباينها تفتح أمامنا مجالاً للتفكير بثراء الرصيد الموضوعي للمثل الذي سيبدو بأكثر صوره كمالاً في مرحلة لاحقة من مراحل التأليف، إذ سيخلق الجهد الموسوعي في الجمع والتبويب مناسبةً للمؤاخاة بين النصوص والنظر المنهجي إلى الأمثال بنصوصها وصيغها وسلاسل أحداثها بوصفها وعاءً للتجربة الإنسانية وواحدة من أقدم صور معارفها.
__________
(1) عفيف عبد الرحمن، الأمثال العربية القديمة (المجلة العربية للعلوم الإنسانية) الكويت ع10م3 ربيع 1983: 42.(1/133)
تضيء النقطة الثالثة أمامنا ملاحظة أساسية وهي تجمع أخباراً لا تنطوي على صيغ أمثال، مفادها عناية نصوص الأمثال، ومؤلفيها من قبل، بتنويع الوحدات القصصية داخل النص الواحد مما يؤدي إلى انفصال الأخبار وعدم تلاحمها، فالخبر، هنا، وحدة صغرى مكتملة بنفسها تشدّها نسائج تعليمية إلى وحدات مجاورة لتكوّن جميعُها نص مثل في موضوع معيّن، إن ما يعنينا بالدرجة الأساس هو تغير المسافة السردية بين أخبار نصوص كتب الأمثال، ففي الوقت الذي تتحدد فيه هذه المسافة وتنتفي أو تكاد بين أخبار نصوص المفضّل الضّبّي، مقدمةً أكثر الأبنية استجابة لفاعلية أنساق بنائها، نراها تمتد وتتسع في كتب أبي فيد وأبي عبيد وأبي عكرمة، فاعتماد جمل التفسير والتعليل والاستشهاد يُشكّل لازمةً من لوازم بناء نصوصها كما يتضح في النصين الآتيين:
المثل رقم (12)
(خامري حضا جر) ... ... ... ... (صيغة المثل)
تعليل 1: ... وإنما قليل للضبع...
استشهاد 1: وقال الراجز..
تعليل 2: وإنما قيل للرجل الواهن (خامري حضا جر) و..
تعليل 3: خبر (1)
... ومما قالت العرب:
... خبر (2)
... وزعموا إنها:
... خبر (3)
... وذكروا أنها:
... خبر (4) وهي التي أبصرت الظبية
... خبر (5)
... ... ... 1 ووجدت الضبع تمرةً
خبر (6): سميعاً دعوت ... ... ... (صيغة 2)
... في بيته يؤتى الحكم ... ... (صيغة 3)
... حرٌ انتصر ... ... ... (صيغة 4)
حدِّث حديثين امرأة ... ... ... (صيغة 5)
... ويُقال فيها:
... إن الضبع تأكل العظام، ولا تدري ما قدر استها ... (صيغة 6)
تعليل 4: وهي مع حمقها
استشهاد 2: ألا ترى الحطيئة..
استشهاد 3: دعا رجل على شاء رجل..
المثل رقم (13)
(عيثي جعار) (صيغة 1)
تعليل 1: يقال ذلك للرجل المفسد
استشهاد 1: قال القحيف العقيلي..
خبر (1):
وسال سيل بالضبع فطرحها في البحر، ... ... ختام السلسلة(1)
ففتحت عينيها وقالت: وذا ماء!
__________
(1) أبو فيد، كتاب الأمثال: 47-49.(1/134)
يُلاحظ الدارس على نصي المثلين، خلافاً لما تقدم في انتظام الأخبار في نصوص أمثال المفضّل الضّبي، توجهاً لإحاطة أخبارهما بإطار من التعليل والاستشهاد يكون محتواه الأداء القصصي لسلسلة أخبار الضبع بما يؤكِّد موضوعه الأساس (حمق الضبع) عبر تنضيد خبري لا يقدَّم ضمن مجال نصي مفتوح بعد عتبة استهلال بل ينبثق انبثاقاً عن تعليل أو استشهاد، إذ إن الخبر في كتابي أبي فيد وأبي عكرمة على نحو خاص لا يحقق حضوره إلا عبر استجابته لغاية النص وهدفه بوصفه أثراً لغوياً يُضيء عدداً من صيغ الأمثال، التي لا تكون هدفاً بذاتها.
***
الفصل الثالث
الشخصيَّة
-الشخصية في نصوص الأمثال. (مدخل).
-شخصيات نصوص الأمثال العامة.
-شخصيات نصوص الأمثال الخاصة.
-الشخصية الرئيسة.
-الشخصية الثانوية.
-الشخصية الهامشية.
-نصوص أخبار الشخصية وصيغ أمثالها.
الشخصيّة في نصوص الأمثال (مدخل)(1/135)
تُعدُّ الشخصية ركناً مهماً من أركان العمل السردي، وواحداً من عناصره الأساسية، تتجلى عبر أفعالها الأحداث وتتضح الأفكار وتتخلق من خلال شبكة علاقاتها حياة خاصة تكون مادة هذا العمل، فهي تمثّل ((العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده كافة العناصر الشكلية الأخرى بما فيها الإحداثيات الزمنية والمكانية الضرورية))(1) التي لا يستطيع العمل التعبير عن مفهوماته عن مصير الإنسان وتحولات تجاربه إلا من خلالها، وهي تضطلع بأدوار مؤثرة مؤدية ((مختلف الأفعال التي تترابط وتتكامل في مجرى الحكي))(2)، إن تشكّل نسيج السرد واتصال حلقاته معقود إلى درجة كبيرة بما يميّز شخصياته من نشاط وما ينمُّ عنها من أفعال وحوارات تتباين بتباين محمولاتها واختلاف مواقعها ومستوياتها، معبرة بذلك عن تباين عالم العمل السردي وتعدُّد مستوياته وعدم خضوعه لمقولات أو حقائق تعجز معها الشخصية إن تنمي حدثاً أو تدير صراعاً أو تنشئ حواراً وهي تقيم جدل علاقاتها مع سواها من الشخصيات، ومع عناصر العمل السردي الأخرى.
__________
(1) حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي: 20.
(2) سعيد يقطين، قال الراوي: 87.(1/136)
وبالنظر لأهمية الشخصية وخصوصية دورها فقد استقطبت الكثير من العناية النقدية على اختلاف مراحل واتجاهات العمل السردي، والروائي منه بخاصة، إلى الدرجة التي يمكن معها تعيين سمات كل مرحلة تبعاً لما تقيمه من صلة مع الشخصية وما تعبّر عنه من فهم لها وهي تشكّل علاقاتها مع الواقع، التي بقيت- هذه العلاقة- مركز الوعي النقدي في استيعاب فاعلية الشخصية وتحديد ما تتميز به من ملامح وسمات في استجابتها لـ(ازدواجية السياق) وهي ((تقدم عالماً متخيلاً في شيء من العلاقة المكتشفة مع عالمنا التجريبي))(1) من دون أن تؤسس فهماً ثابتاً لعلاقتها مع الواقع أو تستجيب بصورة محددة منه، إذ أننا نكون بمواجهة نوعين من التصورات النقدية تشكلهما حساسية هذه العلاقة وفاعلية حركتها داخل النص الأدبي وخارجه، ويقتضيها نوعان من الوعي يتوجه الأول منهما لفحص النص الأدبي في ضوء ما هو خارجي، تاريخياً كان، أو نفسياً أو اجتماعياً، فيما يتوجه الثاني لفحص النص بوصفه كلاً متكاملاً يستمد حياته ويشكّل حضوره مما تمنحه اللغة من فاعلية، إنهما التصور (ما قبل البنيوي) و(البنيوي)(2)،
__________
(1) روبرت شولتز، البنيوية في الأدب، ترجمة حنا عبود: 41.
(2) للتمييز ما بين التصوّرين ينظر:
أ.سعيد يقطين، قال الراوي: 90.
ب.عبد الملك مرتاض، نظرية الرواية: 85.
ج.محمد سويرتي، النقد البنيوي والنص الروائي: 2/70.(1/137)
يخلط الأول بين مفهومي (الشخص) و(الشخصية) ويحدد الثاني فهماً خاصاً لـ(الشخصية)، فقد سعى الأول طويلاً لتجسيد الإنسان كما هو موجود في الواقع، وبالطريقة التي يكون بها نتاج ظاهرة اجتماعية تسهم بتشكيلها مكونات متعددة وتتأسس على تصور ثقافي أو أيديولوجي فيما عمل الثاني على النظر إلى الشخصية بوصفها معطى من معطيات العمل الأدبي وواحداً من أهم عناصره وأكثرها تميزاً ((مما جعل مفهومها تخيلياً لسانياً، فهو تخيلي لأن الشخصية تُخلق بواسطة الخيال الإبداعي الروائي وهو لساني لأن اللغة هي تجسد الشخصية المبدعة))(1)، وقد حافظ المجتمع على أهمية دوره في إنتاج (الشخص/ الشخصية) وهي تستمد مقومات وجودها وسماتها من واقع خارجي يُعدُّ العمل السردي معه تاريخاً لتحولاتها أو توثيقاً لصراعها مع قوى مختلفة، فيما مثّلت اللغة المادة الأساس لتكوّن (الشخصية) وهي تُدير صراعاً ضمن واقع نصي تتجلى فيه سماتها وتنتظم مقوماتها التي تميزها عن سواها من الشخصيات.
__________
(1) د.إبراهيم جنداري، في مفهوم الشخصية الروائية، مجلة (الأقلام) ع2/2001: 11.(1/138)
وقد شكّلت الشخصية في نصوص الأمثال ركناً من أركان العلاقة بين هذه النصوص ومراجعها الواقعية لما تنهض به من مهام بين حدي (الإخبار) و(التمثيل)، ففي الوقت الذي تعبّر فيه عن تاريخ تجربة زمنية تسعى لتمثيلها بما تقوم عليه النصوص من أنظمة وآليات، وهي مع تقديمها لتجربة الصيغة وإيحائها بفضاء وقوعها لا تستغني عن دور الشخصية بوصفها العنصر الذي يتجسد ((في العمل السردي ضمن عطاءات اللغة التي يغذوها الخيال للنهوض بالحدث وللتكفل بدور الصراع داخل هذه اللعبة السردية العجيبة))(1)، وإذا كانت الشخصية في النصوص السردية عموماً وفي نصوص الأدب الواقعي بشكل خاص قد وُجِّهت لفحص هذه العلاقة من خلال معاينة تجسدها ضمن سياق اجتماعي مُعيّن ورصد مختلف تغيراتها خلال تغير مجرى الأحداث، فإنها تولد في نصوص الأمثال وتنمو وتنفعل وتتفاعل لترتفع بأهداف النصوص وتُنجز مهماتها في كشف تجربة صيغة المثل والتمثيل لها. وإذا كانت (الأمثال) قد عُدَّت صورَ معرفة تحمل، بين أهم ما تحمل، أطياف التجربة الإنسانية وهي تنعكس أبنية وأنساقاً على مرآة العقل، فإن الشخصية تُعدُّ في مثل هذا التصور واحداً من أهم ملامح التجربة وأوضح أطيافها، إنها العنصر الذي تُناط به مهمة الحركة بين مجالي (المرجع) و(النص) من دون أن يفقد خلال حركته وانتقاله صورته الأولى أو يغادر ملمحاً من ملامحه، فهو يحافظ على حراجة العلاقة التي تقام بين النص ومرجعه فتتكون له حينئذ صورتان: صورة تأريخية وأخرى أدبية(2)،
__________
(1) د.عبد الملك مرتاض، نظرية الرواية: 85.
(2) ينظر: د.نبيلة إبراهيم أشكال التعبير في الأدب الشعبي: 7..(1/139)
تعملان في إهاب واحد وتُنتِجان في امتزاجهما وتضافرهما مرتكزاً أساسياً من مرتكزات نصوص الأمثال، وهو ما دفع بعض الباحثين إلى عدم التسليم بتاريخية ما ترويه هذه النصوص من قصص وما يتخللها من وقائع وأحداث، وإن لم يتخلوا بشكل كامل عن النظر إلى ما تُنمّ عنه من تاريخ فسميت لذلك بالقصص (شبه التأريخية)(1) لتشير التسمية لما يمتزج فيها من حوادث التأريخ والخيال(2)، مثلما هي الحال في معظم نصوص الأدب الشعبي الذي يتوجه في مختلف أشكاله لتأمين صلة حية مع واقع معلوم، وإن تعامل مع هذا الواقع في كثير من الأحيان تعاملاً حراً ينفلت فيه من إرادة التاريخ أو حدود الجغرافيا ولا يحافظ على اشتراطاتهما إلا بمقدار.
إن حضور الشخصية التاريخية في نصوص الأمثال باسمها ولقبها وكنيتها، وبسماتها الجسدية وما عُرف عنها من نزوع واهتمامات يُعين على تأمين هذه الصلة والارتفاع برصيد كتب الأمثال على التقاط جانب من التجربة الإنسانية لإضاءة صيغها وبيان وقائعها للاقتراب من (حقيقة) ما تروي وتوثيق تأريخيته بحضور الشخصية نفسها التي تُعدُّ بما تُعزز به من معلومات وثيقة إنسانية تستحضرها النصوص للارتفاع بمصداقية روايتها، وإن خضعت الشخصية نفسها لأسطورية الحضور واستجابت في أداء تجاربه لهيمنة الخيالي وقوة تشكّله.
__________
(1) ينظر: بلاشير، تاريخ الأدب العربي، ترجمة د.إبراهيم الكيلاني: 3/468، 471.
(2) ينظر: د.زكي ذاكر العاني، دراسة تحليلية في أقدم كتاب في الأمثال، مجلة (المورد) مج24 ع1/1996: 9.(1/140)
وإذا كان الاسم يُطلق على الشخصية على سبيل التعيين من دون أن يُسهم بإعطائها صفة لازبة، أو يؤكد شريّتها أو خيريتها، لأن أية علامة يمكن أن تحل محله، كما أن أي ضمير من الضمائر يمكن أن ينهض بهذه المؤونة (1) فإن المهمة تأخذ بعداً آخر في نصوص الأمثال يؤدي خلاله اسم الشخصيّة دوراً أساسياً في بيان شخصيته، مثلما يعمل على تحديد المحور الإنساني لتجربة المثل وهو يُنمّي صلتها مع مرجعها الواقعي، إن الشخصيّة وتجربتها تُوثَّقان بما يُحدد للأولى من اسم وما يُكشف عنها من معلومات تُسهم عبر كمّها ونوعيتها بتحقيق فاعليتها داخل النص مثلما تُسهم عبر الطريقة التي تَرِدُ بها بإضاءة جانب أساسي من جوانب بنائه. بيد أن ذلك لا يمنع وجود نوع ثان من الشخصيات تكتفي النصوص في استحضاره، ومتابعة أفعاله بالجنس (رجل، امرأة) أو بالضمير، وقد يشترك هذا النوع من شخصيات النوع الأول فيؤدي عندئذ أدواراً ثانويّة تدور في فلك الشخصيات الأساسية وتُكمل أفعالها، فينطوي النص عندئذ على تنويع في الشخصيات يُسهّل انفتاحه على مراجعه ويؤمّن له صلة مع واقع تجربته، مثلما تتعدّد داخله مستويات الشخصيات وتتباين أهميتها. وقد يقوم هذا النوع من الشخصيات المغفلة بالمهمة كاملةً فتبدو تجربة المثل عندئذ عامةً لا ترتبط بشخصية معلومة ولا تنتمي ولو على سبيل التسمية إلى زمن مُعيّن، بما يعيد إلى الذهن الهدف الأساس للنصوص: التمثيل للوقائع المنتجة لصيغ الأمثال أكبر من تدوين وقائع تاريخية مجّردة (2)،
__________
(1) -ينظر: -د. عبد الملك مرتاض، نظرية الرواية: 98.
(2) -يشير زلهايم إلى أن كتاب المفضل يفيض بالقصص التعليلية للأمثال، إذ يظهر فيه روح الأديب الذي يهتم بالقصص المسلية.
ينظر: رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 52(1/141)
فالشخصية في الاتجاهين كليهما تُقدَّم من خلال منطق الأحداث سواء استثمرت رصيداً واقعياً يبلور أفعالها ويُسهم بإنتاج نصوصها عبر منظومة أخبار يسحب كل خبر منها صيغة مثل أو أكثر بما يشير إلى أهمية حضور الشخصيّة وانفتاح تجاربها مثل (ضبّة، امرئ القيس، النعمان بن المنذر، طرفة بن العبد..)، أو عُدَّت نتاجاً نصياً يُكتفى في سبيل تعيينه بالضمير، وينغلق على نص محدد لا يمتد إلى سواه، فهي تستمد حضورها من حضور الصيغة نفسها وتتعدّد صورها تَعدُّد الصيغ وامتداد شبكة الأحداث.(1/142)
تبدو من المهم هنا الإشارة إلى هيمنة البعد الخارجي على بناء الشخصيّة، فإذا كانت الشخصيّة في النص الأدبي لا تكتمل إلا بتضافر بعديها الداخلي والخارجي، أو الذاتي والموضوعي بما يمنحها صوتاً خاصاً تُعِلن من خلاله عن خفي رغباتها وكوامن أحاسيسها، فإن شخصية نصوص الأمثال تظل مهما قُدّم عنها من معلومات أحادية البعد لا تتكشف أهم سماتها إلا من خلال (الفعل) أو (الحوار)، وهي تتحرّك داخل فضاء النص، أو وهي تُعلن حضورها لسواها من الشخصيات ويمكننا تأسيساً على هذه الملاحظة الإشارة إلى نوعية تجربة صيغة المثل، وأثرها في حياة الشخصيّة، إذ تقوم واقعة الصيغة في معظم أحوالها على حادثة جزئيّة لا تحرف سلوك الشخصيّة ولا تغير من مجرى حياتها بعد انتهاء نص المثل، بل تعود لسابق سيرتها مع إضافة تجربة معلنة إلى رصيد تجربتها، مع وجود نصوص معدودة تتعلّق في معظمها بحوادث جلية أهمها موت شخصية أو عجزها، ومن أجل اكتمال تجربة المثل ودوران دائرته فإن الشخصية التي تموت أو يصيبها العجز هي شخصية (ثانويّة) نلمس آثار ميتتها أو عجزها على سلوك الشخصيّة (الرئيسة) التي تحدُث تفاصيل واقعة المثل على مرأى ومسمع منها كما في شخصيتي (ضبّة بن أد بن طابخة، والأخ) في نصي مثلي المفضّل الضبّي رقم (1) ورقم (88) إذ يموت كلٌ من سُعَيد، بن ضبّة في المثل رقم (1)، وأحد الأخوين في المثل رقم (88) ليفسحا بموتها المجال لتطوّر الحدث وتشعبه بما تقوم به الشخصيّة الرئيسة من أفعال.(1/143)
ويمكننا مواصلة النظر في نوعيّة الشخصيّة ومستوى حضورها للوقوف على جانب من جوانب نصوص أمثال المفضّل الضبّي وتبيّن حيويتها وفاعلية تعاملها مع عناصرها السرديّة التي تنظم وتتواشج في سبيل تعيين أدبيّة كتب الأمثال، فإن النصوص التي تنطوي على شخصيات متعينة ومسماة تنقسم بدورها قسمين تُستحضر الشخصية في القسم الأول من خلال نص واحد فهي وليدة تجربة مفردة، فيما تمتد شخصيات القسم الثاني على مدى أوسع من التجارب والخبرات فهي تنتقل عبر عدد من النصوص بما يمنحها من خلال سعة مساحتها السرديّة وامتداد علاقاتها مع الشخصيات فرصة لكشف سماتها على نحو واضح وتأمين صلة أقوى من الصيغ بما يمكن تسميتها بـ (صيغ أمثال الشخصيّة) قبل أن تكون عامةً لما تشمل عليه من صفات أو ما تنتج منه من مواقف ترتبط على نحو مباشر بشخصياتها كما في صيغ أمثال (لقمان) على سبيل المثال.
يكشف المدخل السابق أن نصوص الأمثال أسوةً بنصوص الأدب السردي لا تنطوي في جانبها القصصي على صورة واحدة للشخصية تنتقل بين مختلف وقائع صيغتها وتتجسد على الرغم من تباين تجاربها، بل إنها تقدم في سمة سرديّة مهمة في سماتها صوراً مُتعددة تقتضيها نوعية التجربة وخصوصية أدائها، يمكن إجمال تلك الصور بالنقاط الثلاث الآتية:
1-شخصيات نصوص الأمثال العامة:
إنها الشخصيات التي تُعدُّ تمثيلاً إنسانياً، أو إجراءً تعتمده النصوص في تقديم وقائعها من دون أن تُميّزه أسماء أو ألقاب أو صفات سوى اشتراكه في تجسيد واقعة صيغة المثل. إنها شخصيات مبتكرة، وليدة نصوص لا تنطوي على خبرةٍ شخصيةٍ بذاتها فهي تستجيب في حركتها لمنطق الحدث ونمط التجربة.
2-شخصيات نصوص الأمثال الخاصة:(1/144)
إنها الشخصيات التي تَرِد داخل نص المثل بالاعتماد على صورها التأريخيّة، فالنصوص تقوم على صيغها ووقائعها على تجربة مُعينة وخبرة تميّز الشخصيّة وتُعرف بها، لذا فهي تُقدَّم بإسمها وما عُرف من صفاتها، وفي أحيان أخرى يمتدّ النص إلى ما يقوّي حضورها ويوثّق تاريخيتها شعراً أو نثراً. وهي تختلف عن شخصيات النقطة اللاحقة في كونها تُستحضر خلال نص واحد لا يمتد إلى سواه.
3-نصوص أخبار الشخصيّة وصيغ أمثالها:
وهي نصوص تقوم بالأساس على شخصية مُعيّنة تتوفر على حصيلة من الخبرة وتنوّع التجربة مما يهيئ لها إنتاج مجموعة من الصيغ تُعرف على نحو مباشر بها: أمثال لقمان، أمثال الزبّاء، أمثال امرئ القيس..(1/145)
يُمكن عبر تأمل الصور الثلاث للشخصية ملاحظة قدرة نصوص الأمثال على تنويع علاقتها بمرجعها وتأمين حيّز سردي مناسب لإنتاج نوع من الشخصيات يحتكم إلى فضاء الصيغة ومجال تجربتها بما يحقق لها نوعاً من (التعريف) عبر الصيغة نفسها، فالشخصيّة التي تملك إسماً ولا تتميّز بسمات خاصة تفيد، ضمن الفضاء العام للنصوص، مما تنطوي عليه الصيغة من خصائص إنسانية: نفسية أو جسدية تمنح الشخصية حضوراً يختلف عن حضورها في النوعين الأخيرين، فالشخصيّة هنا تمثل على نحو شبه كلي إجراءً نصياً تمثل فيه واقعة صيغة المثل تمثيلاً خيالياً، لا يُعنى النص معه بكشف اسم الشخصيّة أو إضاءة ما تتمتع به من سمات. إن الشخصيّة تضيء عبر تنوعها وتباين حضورها جانباً من أدبية هذه النصوص وهي تسعى للارتفاع بتجارب صيغ أمثالها إلى مستوى معلوم من الوقائع، تتشكّل عبر الصورة الأولى بوصفها وقائع نصية تستعين بالمتخيل لتأصيل ما هو واقعي، وتتعامل في الصورتين الأخيرتين مع الواقع تعاملاً مختلفاً يتغير معه نوع (المعلومات) المقدَّمة وكمّيتها تبعاً لامتداد المساحة التي تشغلها الشخصيّة وتعدّد صيغ أمثالها، فمهما بَعُد الزمان بصيغة المثل وانفصلت عن وقائع تجاربها تظل محافظة على السمة الواقعية لإنتاجها سواء بما يُقيض لها من صلة مشابهة مع تجربة راهنة أو بما تكتنزه من خبرة ماضية تمثل شرطاً من شروط تداولها.
1-شخصيات نصوص الأمثال العامة:
يستمد هذا النوع من شخصيات نصوص الأمثال أهميته من توجهه لإنتاج نماذج إنسانية مفترضة تقوم بمهمة تمثيل وقائع صيغ الأمثال وتشخيص أحداثها من دون أن تعتمد في سرد وقائعها على مرجع معلوم تكشفه داخل النص إشارات مُعيّنة ومعلومات سواء ما تعلّق منها بالشخصيّة نفسها (الاسم والسمة وما عُرف عنها من نزوع واهتمامات) أو ما ارتبط بواقعة مُعيّنة (أيام العرب وتواريخ أحداثها).(1/146)
إن افتراضية هذا النوع من الشخصيات تدعو الباحث لتأمل صلة نصوص الأمثال بواقع التجربة وفضاء إنتاجها، فإذا كانت نصوص الأمثال لا تقوم بغير تأمين مثل هذه الصلة التي لا تتميّز من دونها خبرة ولا تتشكّل تجربة، فإن نصوص هذا النوع لا تحدد أياً من العلامات التي تنتمي إلى مرجع معلوم فتظل نتيجةً لذلك وقائع نصيّة شبه منقطعة عن وقائع تجاربها ذلك لأن الصيغ نفسها نتاج تجارب معلومة تتوجه النصوص لتمثيلها بافتراض تجارب جديدة بعد أن سقطت وقائعها، وثائق أحداثها، فتقوم عندئذ بمعالجتها معالجة نصية مكتفية بمحمولات أخبارها فهي تنشئ من العلاقات السرديّة بين عناصرها ما يوحي عبر اكتمال تجاربها (النصية) بـ (تأريخية) أحداثها وهي بذلك تؤسس لأدبيّتها عبر إنتاج واقع بديل قوامه حضور النص بمختلف عناصره واكتفاؤه، ويمكن تحديد سمات هذا النوع ومميزاته بين النص والصيغة والعنصر مدار بحثنا (الشخصيّة) بالنقاط الثلاث الآتية:
1-قصر نصوص الأمثال.
2-اعتماد صيغة مثل واحدة في الغالب لكل نص منها.
3-اعتماد الشخصيات غير المعرَّفة.(1/147)
يلاحظ تلازم النقاط السابقة وترابطها فإن الصيغة المفردة تقترح في معظم الأحيان مساحة سردّية محددة يتجنب النص خلالها تنويع حوادثه فهو يُعتمد بوصفه (جملة تعريف) تكشف محمول الصيغة وتضيء تجربتها أكثر من اعتماده "جملة خبرية تخبرنا عن حادث وقع في وقت مضى.." (1) مما يتطلب حضور شخصيات غير معّرفة تستدعيها واقعة الصيغة وتستوجب وجودها فهي تستمد تعريفها من صيغة المثل نفسها وتكتسي بما يدل عليه الصيغة من سمات (البخل، الحمق، الحكمة..)، من هنا يمكن النظر إلى أساليب (تعريف) الشخصيّة داخل نصوص هذا النوع بما يقوم بينها وبين عناصر النص الأخرى من علاقات قد تنحسر أو تغيب سوى علاقة أساس هي علاقة الشخصيّة بصيغة مثلها إذ تُعدُّ الصيغة تشبيهاً بالشخصيّة (كالطاحنة)، أو تعليقاً على سلوكها (تنهانا أمنا عن الغي..)، (يداك أوكتا وفوك نفخ)، أو قولاً منقولاً من أقوالها (صكاً ودرهماك لك)..، (صغراهن مراهن)، (عرفتني نسأها الله).
ويسعى النص في ذلك كله للتأثيث لواقعته السرديّة من أجل أن يمنحها موقعاً مناسباً لا ضمن نصوص الأمثال وانتظام وقائعها فحسب، بل ضمن عادات العرب وتقاليدها، إن النص يهيئ بجملة أخرى موقعاً عرفياً لشخصيته يُضاء معه جانب محدد من جوانب حياة إنسان المثل كما في النص الآتي:
"كان الناسُ يتبايعون على طلوع الشمس وغروب القمر من صبح ثلاث عشرة ليلة تخلو من الشهر:
__________
(1) -ينظر، د. عفيف عبد الرحمن، الأمثال العربية القديمة، (المجلة العربية للعلوم الإنسانية) الكويت ع 10 م3 /1983: 34 و: جورج صدقني، سيكولوجية الأمثال العربية، مجلة (المعرفة) السورية ع 204: 17.(1/148)
أتطلع بعد غروب القمر أم قبله، فتبايع رجلان على ذلك، فقال أحدهما: تطلع قبل غروب القمر، وقال الآخر: يغيب القمر قبل طلوع الشمس، فكان قوم الذين تبايعا ضلعوا مع الذي قال إن القمر يغرب قبل طلوع الشمس فقال الآخر: يا قوم إنكم تبغون عليّ، فقال له قائل: إن يبغِ عليك قومك لا يبغِ عليك القمر، فذهبت مثلاً." (1)
إن الشخصية ترتبط عندئذ ارتباطاً مباشراً بصيغة مثلها، وتعرف بها، فنقول على سبيل تحديد الشخصيّة: الطاحنة، أو البغي، أو صاحب الفرس، أو صاحب السقاء، إذ لا تكون لها سمة مميزة غير اتصالها على نحو مباشر بالصيغة وانبثاقها عن تجربتها على النحو الآتي (2):
رقم المثل ... الشخصية ... الصيغة
الطاحنة ... كالطاحنة
البغي ... صكاً ودرهماك لك، لا أفلح من أعجلك.
البغي ... تنهانا أمنا من صغراهن مرّاهن الغي وتغدو فيه.
صاحب السقاء ... يداك أوكتا وفوك نفخ.
ونظراً لغياب السمات الخاصة للشخصيات الرئيسة في هذا النوع من النصوص فإن الشخصيات الثانوية لا تمثل غير حافز يقوم بمهمة توجيه أو تكليف الشخصيّة الرئيسة للقيام بعملها، وهي لا تنطوي بالضرورة على سمات تعريفية ولا تشغل مساحةً سرديةً مميزةً. وفي أسلوب آخر يُلاحظ تعريف الشخصية بالاعتماد على شخصية ثانويّة تكون معلومةً ومسماةً غير أنها لا تؤدي دوراً مركزياً في واقعة صيغة المثل، كما في نص المثل رقم (11) إذ تدور تجربة الصيغة في بيت رجل هو جار "معاوية بن سنان بن جحوان بن عوف بن كعب بن عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم" (3)، إن ا لدور الثانوي للشخصية لم يمنع النص من إيراد سلسلة نسبها الطويلة بينما بقيت الشخصيات الثلاث (الرجل وصديقته وزوجها) مبهمة، تُعرَّف بما يكون بينها وبين الشخصيّة الثانويّة المُعرَّفة من صلة.
__________
(1) -المفضّل الضبّي: أمثال العرب: 124.
(2) -الأمثال في كتاب المفضّل الضبيّي: 173، 124، 168، 117.
(3) -نفسه: 59.(1/149)
وفي أسلوب ثالث يقوم تعريف الشخصية على بيان انتسابها وذكر قبيلتها على نحو عام أو مفصّل بينما تظل هي نفسها غير معلومة كما في نصي المثلين (46)، (65): "زعموا أن رجلاً من جهينة رمى رجلاً من القارة –وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر –فقتله، فرمى رجل من القارة رجلاً من جهينة، وكان القارة فيما يذكرون أرمى حيّ في العرب، فقال قائلهم: قد أنصف القارة من راماها فأرسلها مثلاً" (1)، "زعموا أنه كان لرجل من طسم كلب فكان يسقيه اللبن ويطعمه اللحم ويسمنه ويرجو أن يصيد به أو يحرس غنمه، فأتاه ذات يوم وهو جائع فوثب عليه الكلب فأكله فقيل: سمِّن كلبك يأكلك" (2).
إن النص يسعى في سبيل بيان صيغته والتمثيل لها إلى الإفادة مما عُرف بعض قبائل العرب، كما في نصِّ المثل (46) (القارة أرمى حيّ في العرب)، وهو يخلق بذلك فضاءً مناسباً لعمل صيغتهُ من دون أن يمنحَ شخصياته ميّزةً تُذكر، فالشخصيّة تستمد حضورها من رصيد قبيلتها وما عُرف عنها، وقد ترتفع بعض قصص هذا الأسلوب إلى الأقوام البائدة وتتصل كما في نص المثل رقم (65) الذي يُقدم شخصية من قبيلة (طَسْم) (3)، مما يضيء انشغال النص بواقعته الأدبيّة في تمثيله لصيغته تمثيلاً لا يُتوخى فيه تاريخ التجربة ودقة وقوعها بقدر توجهه لبيان واقعتها النصية التي تفتح أفق الصيغة وتوسع مجال حياتها.
__________
(1) -نفسه: 127.
(2) -نفسه: 160.
(3) -ينظر: الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون:187.(1/150)
يمكننا بناءً على ملاحظة النوع الأول باختلاف صوره تأكيد أهمية حضور الشخصيّة في نصوص الأمثال، فإذا كانت الشخصيّة في بعض الأنواع السردّية، كما ذهب توماشفسكي، ليست ضرورية لصياغة المتن الحكائي "فهذا المتن باعتباره نظام حوافز، يمكن أن يستغني كلياً عن البطل، وعن خصائصه المميزة" (1)، فإن قصة المثل وعلى الرغم من أهمية أحداثها إنما تقوم بوصفها نشاطاً لشخصية تكون صيغةُ المثل عصارةَ خبرتها التي تدور، لعمقها ولدقة صياغتها، بين الناس، فقد تغيب سمات الشخصيّة ومميزاتها الخاصة من دون أن يؤثر ذلك على موقعها في التشكيل السردي لوقائع الصيغ وتجارب أناسها، مما يدعو إلى تأمل (فاعلية الإسناد) بين تجربة الشخصيّة وصيغة مثلها في موقعيها خارج النص وداخله، إن ملاحظة هذه الفاعلية تضيء بالدرجة الأساس دور الشخصية بوصفها عماد التجربة ومركز وجودها، فإذا مثّلت التجربة خارج النص دورَ المسند إليه والصيغة، ناتج التجربة، دور المسند، فإنها مع استعادتها داخل النص تؤدي دور المسند وتقوم الصيغة بدور المسند إليه كما في الجدول الآتي:
الإسناد ... خارج النص ... داخل النص
مسند إليه ... تجربة الشخصيّة ... صيغة المثل
مسند ... صيغة المثل ... تجربة الشخصيّة
__________
(1) -توماشفسكي، نظرية الأغراض، عن: مختلفون، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس: 207.(1/151)
إن ما يحدث من تغير في موقعي الإسناد بين التجربة والصيغة بين دور الشخصيّة وهي تؤدي أفعالها في الحياة، خارج النص، أو عبر إعادة إنتاج تلك الأفعال باستعادتها داخله، سواء على وجه الحقيقة أو الخيال، إذ أن نص المثل الذي يتشكّل على هدي الصيغة وفي سبيل التمثيل لها لا يتجاوز ارتباط صيغته بالتجربة، أو انبثاقها، بجملة أخرى، عن شخصية بعينها. إن أسبقية القصة على المثل، حسب تصور رودلف زلهايم في دراسته للأمثال العربية القديمة تتطلب موقفاً خارجياً وهي "تحتوي على المغزى من القصة، أو تشرح موقفاً مُعيّناً، لا يُفهم إلا من سياق القصة" (1)، هذا الموقف الذي سيؤدي دوراً أساسياً في استعادة القصة، أو التمثيل لها، بما يتناسب مع صيغة المثل التي تُعدُّ، عندئذ، مركزاً في عملية إنتاج نصوص المثل.
2-شخصيات نصوص الأمثال الخاصة:
تنفتح نصوص هذا القسم في إفادتها من مراجع شخصياتها إلى الدرجة التي تتعدَّد معها صورها وتتباين مهماتها محققة لكل منها (رتبةً) داخل النص تقوم على ما تتمتع بن الشخصيّة من مستوى وما يُكشف عنها من معلومات، متدرجةً كما يأتي:
أ-الشخصية الرئيسة:
وهي الشخصية التي يستند النص إلى تجربتها في تقديم وقائع صيغه وتمثّل في قوة حضورها مركز الحدث وأساس حركته، وهي تستمد سماتها من واقع معلوم تنفصل فيه عن شخصيات النوع السابق في كونها تُقدَّم داخل النص باسمها وكنيتها ولقبها، وقد يمتد النص ليشمل بإضاءته صفاتها الجسدية والمعنويّة.
ب-الشخصية الثانويّة:
وهي الشخصية لا يميّزها حضور خاص ولا يعتني النص بصفاتها وملامحها الجسدية والمعنوية بل تدور الشخصيّة الرئيسة وتتصل بها اتصالاً مباشراً يُنمّي الحدث عبرَ تلاحم أفعالهما ويوسع المساحة الإنسانية للنص، ولا تكون التجربة إلا بما يقع بين هاتين الشخصيتين من تعارض أو اتفاق.
ج-الشخصيّة الهامشيّة:
__________
(1) - رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 70.(1/152)
وهي الشخصيّة التي تقع في آخر المشهد فتتساوى في حضورها مع عناصر تكميلية أخرى يعتمدها النص في تجسيد وقائعه من دون أن تكون لها ميزة أو سمة أو اتصال مباشر بالشخصيّة الرئيسة لنص المثل.
وبناءً على ما تقدِّمه النصوص فإن الشخصيات المذكورة لا تنتظم انتظاماً هندسياً ولا تعتمد صورةً تتكرر على مدار نصوص الكتاب، بل إن نوعاً من الفاعلية يُلمس في حضورها تؤمِّنه حيوية حركتها وتباين أهميتها بين النصوص وهي تسعى لتشكيل صور التجارب والخبرات التي تمثّل صيغ الأمثال رصيدها وعنوان دوامها، فقد يُكتفى بشخصية رئيسة واحدة كما في نص المثل رقم (13) الذي يتجلّى بوصفه التقاطاً لجانب من تجارب (السليك بن السلكة التميمي)، بينما ينفتح آخر على أكثر من شخصية رئيسة تكاد تتساوى في مقدار المعلومات المعطاة عن كل منها، كما في شخصيات نصي المثلين (5)، (8) إذ تمثل شخصيات (عمرو بن عمرو، ودختنوس بنت لقيط، وعمير بن معبد) صوراً لتعدُّد الشخصيات الرئيسية في نص المثل الأول، مثلما تمثل شخصيتا (تقن والريب) صورتين للشخصية الرئيسة في الثاني، فالنص يُقدَّم بوصفه ناتج خبرة تسهم ببلورتها أكثر من شخصية، تنمُّ عنها (الصيغة) وتكشف محتوى تجاربها.
تتوزع شخصيات نص المثل رقم (5) بين رئيسية وهامشية متجاوزة حضور الشخصيات الثانويّة، إذ أن النص يشمل شخصياته الثلاث بأنماط متساوية من التعريف تقدّمها معلومات (الاسم والكنية واللقب، والصفة الجسدية منها والمعنوية) التي تكشف رتبتها وتحدد موقعها كما في الجدول الآتي:
الشخصية ... رئيسة ... ثانويّة ... هامشية
عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم ... - ... --
دختنوس بنت لقيط بن زرارة بن زيد بن عبد الله بن دارم
عمير بن معبد بن زراره ... --
الخادمة ... --
تتجسد الشخصيات الرئيسية الثلاث عبر تقديم خصائصها التعريفية على النحو التالي:
1-عمرو بن عمرو: الاسم: عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم
... ... الكنية: أبو شريح(1/153)
... ... الصفة:
أ-جسدية: كبر سنّه
ب-معنويّة: أكثر قومه مالاً وأعظمهم شرفاً:
2-عمير بن معبد: الاسم: عمير بن معبد بن زرارة
... ... الصفة:
أ-جسدية: شاب.
ب- معنويّة: قليل المال.
3-دختنوس: الاسم: دختنوس بنت لقيط بن زرارة بن زيد بن عبد الله بن دارم.
... الصفة: - -
أ-جسدية: --
ب-معنويّة: ابنة عم عمرو بن عمرو.
... ... ... ابنة عم عمير بن معبد
ويُلاحظ اعتماد النص صيغتي مثل (الصيف ضيَّعتِ اللبن، هذا ومذقةٌ خير) ترددان على لساني شخصيتين من بين شخصياته الرئيسية (عمرو بن عمرو، ودختنوس) في تأكيد مركزية حضورهما، مثلما يُلاحظ اختصاص شخصية (عمرو بن عمرو) بوجه من وجوه التكريم تقدّمه (الكنية) فتزيد من أهمية موقعه داخل النص. إن الكنية ترتفع برصيد الشخصيّة وتحقق لها حضوراً مضاعفاً تملك معه أكثر من نمط من أنماط التعريف، فالكنى "ليست ببساطة مجرد أسماء أساسها الابن الأكبر للشخص بل هي أشكال من المخاطبة للتشريف أو الشهرة" (1)، ومن المهم الإشارة إلى أن حضور الكنية في نصوص الأمثال لا يمتد محيطاً بالشخصيات الثلاث (الرئيسية والثانويّة والهامشيّة) بل يرتفع بخصوصية ارتباطه ببعض الشخصيات الرئيسة التي تكون بدرجة ما مركز التجربة فيُضفي عليها ملمحاً من الإجلال يستثمر من خلاله النص السردي تقاليد التسمية وأعرافها في الحياة العربية، من دون أن يقلل ذلك من أهمية الشخصيّة الرئيسة الثالثة التي مثّلت فضلاً عن حضورها الخاص نقيضاً للشخصية الأولى في صفاتها الجسدية والمعنويّة:
شيخ ... ... ... شاب
كثير المال ... ... ... قليل المال
__________
(1) -فدوى مالطي –دوجلاس، بناء النص التراثي: 196.(1/154)
مثلما عبّرت عن تغيّر المرأة وتقلّب أهوائها مما أفقدها الحاجة في عزَّ تطلّبها، بيد أنها تدافع، ربما في التفاته من النص لكشف قّوة رغباتها الجديدة، عن اختيارها. بينما نلاحظ تفاوت حضور شخصيات نص المثل رقم (8) بين رئيسية وثانويّة وهامشيّة على النحو الآتي (1)
شخصية ... رئيسية ... ثانويّة ... هامشية
(1) ... تقن بنت شريق ... -
الريب بن شريق ... -
الضرة ... -
(2) ... الحميت ... -
أبوه ... -
سفيان بن شريق ... -
(3) ... الحي ... --
تتجسد قدرة النص في التعامل مع شخصياته، كما تَقدَّم، من خلال تباين ما يُعطى من (معلومات) حول كل منها تدفعها لشغل مواقع متفاوتة، وتهيؤها وإن على نحو غير مباشر لتأدية أدوارها. ومن المهم الإشارة إلى أن بعضاً من الخصائص المعنويّة للشخصية لا تُقدَّم منفصلةً عن أفعالها، بل إن الأفعال في الغالب تسهم بكشف خصيصة معنويّة تحدد محتوى الشخصيّة وتضيء دوافعها، وهي صورة من صور تلاحم الوصفي بالسردي وعدم انفصال مهماتها في نصوص الأمثال، كما سنلاحظ ذلك في الفصل اللاحق، فالنص يهتم بما تُوَّفر له من مساحة سرديّة ببيان سمات شخصياته، الرئيسة منها على نحو خاص، مثلما يتوجّه لبيان أفعالها. وإذا كانت نصوص السرد العربي المعروفة على اختلاف أنواعها: ألف ليلة وليلة، المقامات، السير الشعبية، كليلة ودمنة، البخلاء، قد عملت على تقديم صور تعبيريّة عن شخصياتها هُيِّئت لها في معظم الأحيان مقاطع وصفيه منفصلة (2)،
__________
(1) -المفضّل الضبّي، أمثال العرب: 56.
(2) -ينظر أ. د. عبد الملك مرتاض، ألف ليلة وليلة: 63
... ب - سعيد يقطين، قال الراوي: 92
... ج-حاتم الصكر، البئر والعسل: 29
... د. أحمد بن محمد أمبيريك، صورة بخيل الجاحظ الفنية: ص ص 53 –72
... ه. د. وديعة طه النجم، الجاحظ والحاضرة العباسية: ص ص 174 -199(1/155)
فإن نصوص الأمثال وبما عين لها من أهداف تقف معها في المنطقة الحرجة بين الواقع والأدب، وبين التجربة وإعادة إنتاجها بمصطلح البحث، تقتضي تعاملاً خاصاً مع الشخصيّة لتظل معه أكثر عناصر البنية السرديّة اتصالاً مع واقع تجربتها مرجع إنتاجها، فهي تعمل تحت تأثير حساسيتها هذه على تمثيل خصائص شخصياتها تمثيلاً سردياً تُدمج (صفة) الشخصيّة خلاله مع (أفعالها) وهي تُعدُّ في معظم الأحيان سبباً للفعل لما لصيغ الأمثال من دلالة على الطبائع الإنسانية وهي تقيم في اختلافها وتنوّعها أرضا خصبةً للتجارب والعِبر.
من هنا يكون توزيع الشخصيات إلى مستويات أمراً قائماً يجسده وضع الشخصيّة وفاعلية مشاركتها في واقعة النص، إذ يُلاحظ تدرّج التسمية بوصفها أولى المعلومات التي تُحدِد بها النصوص شخصياتها، تبعاً لتدرّج أهمية الشخصيات وارتباط الرئيسة والثانويّة جميعها بشخصية مركزية تمثّل وحدها المستوى الأول من مستويات حضور الشخصيّة، مع العلم بأن الشخصيات الرئيسة لا تنتمي جميعها إلى المستوى الأول على الرغم من تقارب المعلومات المعطاة عن كل منها، إذ أن تحديد المستوى يعتمد بالأساس مركزية حضور الشخصيّة وفاعلية دورها، كما يمكن ملاحظة ذلك على حضور شخصية (تقن بنت شريق) في نص المثل رقم (8) التي يُستمد من مركزية حضورها حضور باقي الشخصيات التي تتدرج في ارتباطها بها على النحو الآتي:
(1) تقن بنت شريق أحد بني عثم من بني جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم
(2)الريب بن شريق (أخوها)
(3)تحت رجل من قومـ (ها)
(4)ضرتـ (ها)
(5)الحميت، إبن ضرتـ (ها)
(6)سفيان بن شريق أخو الريب، أخو (ها)(1/156)
وهي سمة يُمكن ملاحظتها في معظم نصوص الأمثال التي تتوجّه لتقديم واقعة محددة من حياة شخصية تنبثق عن تجربتها صيغة المثل، مثلما يُلاحظ عليها ضعف حضور الشخصيات بين مستوى وآخر لتغدو مع شخصيات المستوى الأخير مجرد تسمية عامة لا يميزها جنس أو ضمير فتندفع إلى آخر المشهد مكتفيةً بدور (هامشي) يكمّل النص ويوسّع من فضائه فلا طاقة لها للإسهام بتّحول الحدث أو كشف عناصره لمحدودية المعلومات المعطاة عنها، كما يُلاحظ مع (الحي) في نص مثلنا:
(ثم لحق الحي وهم سائرون، فقال: مَنْ أحسَّ من بكرٍ أورقَ ضل من إبلي؟ فيقولون: ما رأيناه)
يُلاحظ مع المثل رقم (13) أسلوبٌ آخر في تقديم الشخصيّة وإضاءة سماتها يمثل منطقةً وسطى بين النصوص السابقة التي تكشف جواب محددة من الشخصيّة لا تتجلى فيها، رئيسة أو ثانويّة، إلا بما يتناسب مع حضور التجربة ويدخل ضمن حدودها الزمانية والمكانية، وبين شخصيات النوع اللاحق التي تعتمد وقائع عامة تتجاوز حضور التجربة وتوسّع من حدودها الزمانية والمكانية بما يؤثر على بناء النصوص أنفسها كما أشار الدكتور إحسان عباس "فإن الأمثال حول الأحداث يضبطها سياق متسلسل، بينا تجيء الأمثال حول "الأبطال" في صورة "عناقيد مفّرقة" ليس فيها وحدة الحكاية" (1)، إن تفرقة عناقيد النصوص إلى (حبّات) في تحوّلها من العناية بالحدث إلى العناية بـ (الأبطال) أسلوب يتطلّب مساحة سرديّة أوسع لتجلية الشخصيّة وكشف خصائصها بمختلف "الترسبات الحكائية والأسطوريّة التي تراكمت بفعل العملية الخيالية الإبداعية"(2) كما سنلاحظ ذلك في المبحث اللاحق.
__________
(1) -المفضّل الضبّي، أمثال العرب، مقدمة الدكتور إحسان عباس: 41.
(2) -سعيد يقطين: قال الراوي: 87.(1/157)
إن ما يهمنا هو ملاحظة دور (العناصر) في التأثير على طرائق صوغ النصوص ونُظم بنائها بما يهيئ لها إمكانية متباينة لمد جسور مع واقع خارجي تتحكم عبرها بنوع الصلة المقامة معه ومستوى المسافة الفاصلة بينها وبين مراجعها الواقعية. إن نصوص مبحثنا تعتمد من وضوح الشخصيات ما يُعدُّ مركزاً من مراكز متتالياتها وهي تسعى في سبيل تحقيق مركزيتها لتقديم أكثر ما يمكن من المعلومات كما في نص مثل رقم (13) وهو يوّسع من مساحة شخصية (السليك بن السلكة التميمي) على النحو الآتي:
1-الاسم: السليك بن السلكة التميمي أحد بني مقاعس: الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة.
2-الصفة:
أ . جسدية: من أشد فرسان العرب
... أجودهم عدواً
... كانت أمُهُ سوداء
ب.معنويّة: أنكر فرسان العرب وأشعرهم
... أدلُّ الناس بالأرض
3-اللقب: يدعونه سليك المقانب، والمقنب ما بين الثلاثين إلى الخمسين.
4-من أقواله: زعموا أنه كان يقول: اللهم إنك تهيئ ما شئت لما شئت، اللهم إني لو كنت ضعيفاً كنتُ عبداً، ولو كنتُ امرأةً كنت أمةً، اللهم إني أعوذ بك من الخيبة، فأما الهيبة فلا هيبة (1).
إن الغزارة النسبية في المعلومات توفر للشخصية وضوحاً يُمكّنها من الانتقال بين حبات النصوص في تراكيبها (عناقيد متفّرقة)، فالسليك يظل شخصية رئيسةً في متتاليتي نص المثل تنمو من خلال أفعالها الأحداث وتتشعب:
الشخصيّة ... رئيسة ... ثانويّة ... هامشية
السليك ... -
رجل (1) ... - ... متتالية (1)
رجل (2) ... -
الرعاء ... -
السليك ... -
عمرو ... - ... متتالية (2)
عاصم ... -
يزيد بن رويم ... -
الابن ... -
الزوجة ... -
__________
(1) -المفضّل الضبّي، أمثال العرب: 64 –61.(1/158)
إن اعتماد رصيد الشخصيّة من المعلومات فاتحةً للنص يؤِّمن حضوراً نوعياً لها، تظل محافظة معه مهما اتسع نشاطها وتعدّدت تجاربها على صورتها الأولى، أو سماتها المقدَّمة عبر نمط التعريف المذكور، إن المعلومات المعطاة تُعين، وهي تؤسس نوعاً من (الرصيد) الإنساني، على فهم أفعال الشخصيّة وتسوّغ انتقالاتها، إن وظيفة ما يُمنح من معلومات بجملة أخرى وظيفة مركبة، تقدم ما ينبغي من الوضوح للشخصية داخل النص وتشير، في الوقت نفسه، إلى حضور خارجي –بغض النظر عن فعلية وجوده أو عدمه –يحقق اثنتين من خصائص واقعة المثل: مصداقيتها التجريبية وسبقها الزمني للحادثة التي تُستحضر الصيغةُ معها.
ومثلما تُلاحظ على النص عنايته التفصيليه بشخصيته الرئيسة يُلاحظ ما يعتمده من تسوية في تعامله مع شخصياته الثانويّة إلى درجة يُستخدم بها (التلخيص) في سبيل عدم تكرار فقرتين متشابهتين تضمان شخصيتين من شخصياته كما في شخصيتي الصعلوكين في نص مثلنا، الأولى بحضورها التفصيلي المتضمن الفعل والحوار، والثانية بتحديد حضورها من خلال ما وقع بينها وبين الشخصيّة السابقة من مماثلة:
(ثم قال له السليك: مَنْ أنت؟ قال: أنا رجل افتقرتُ فقلتُ لأخرجنَّ فلا أرجعنَّ حتى استغني فآتي أهلي وأنا غنيّ، قال: فانطلق معي. قال: فانطلقا حتى وجدا رجلاً قصته مثل قصتهما، فاصطحبوا جميعاً..) (1).
إن اعتماد المقطع السابق (التلخيصَ) في تقديم شخصيته الجديدة يُسهم في تحقيق وظيفتين من وظائفه، الأولى هي التقديم العام لشخصية جديدة، والوظيفة الثانية هي عرض الشخصيات الثانوية التي لا يتسع النص لمعالجتها معالجة تفصيلية (2)، مما يعزِّز من تراتيبه الشخصيات ويحقق لمستوياتها حضوراً ملموساً تؤدي كل منها، تبعاً لمستواها الخاص، وظيفة داخل نص المثل.
3-نصوص أخبار الشخصيّة وصيغ أمثالها:
__________
(1) -المفضّل الضبّي، م. س: 62.
(2) ينظر: سيزا قاسم، بناء الرواية: 56.(1/159)
إذا كانت الشخصيّة قد تجسدت في النقطتين السابقتين بوصفها عنصراً يُنتج داخل نص المثل بما يتماشى مع واقعة صيغته أحياناً، أو بما يُستفاد من محدودية أخباره خارج النص أحياناً أخرى، فإن (نصوص أخبار الشخصيّة وصيغ أمثالها) تتوّجه بالأساس لتنظيم تجارب نوع خاص من الشخصيات يملك حضوراً مسبقاً ممتداً في إرث الجماعة الحكائي، مثلما يحمل العديد من التعالقات الأسطوريّة التي يصعب معها حصر تأريخيته أو الوقوف على مرجعية مُعينّة له، إذ يكون مسوّغ حضوره داخل النصوص هو ما أثر عنه من صيغ ارتبطت بشخصياته لما اشتهر عنها من سمات جسدية أو معنويّة أو ما تناقل من أخبار وقائعها، بما يهيئ لنصوص الأمثال، مثلما هيأ لنصوص سرديّة غيرها، مادةً ثرّيةً لصوغ متتالياتها.
بناءً على ما تقدم يمكن أن نحدد، بدءاً، انفصالاً أساسياً بين النوعين مفاده اقتصار شخصيات النوع الأول على صور مُعيّنة تحيا تداخل نصوص الأمثال وتتنوّع وقائعها بتنوع الصيغ وتعدّدها، بينما تشكّل شخصيات مبحثنا حضوراً مختلفاً يستمد وجوده من قوّة وجود خارجي تشكّلت الشخصيّة فيه لعمقها وامتداد ظلالها من مجموعة متراكبة من الطبقات إلى الدرجة التي يشعر معها دارس هذا النوع من الشخصيات أنه إزاء عدة أشخاص يحمل كل منهم الاسم ذاته، كما في شخصية لقمان (1)
__________
(1) -ينظر: الجاحظ، البيان والتبين: 1 /184، 187، 365
و: د. إحسان عباس، مقدمة (أمثال العرب): 43
و: محمود سليم الحوت، في طريق الميثولوجيا عند العرب: 184(1/160)
التي تسحب وراءها خليط ظلال آشوريّة وفرعونيّة وسريانيّة وعربيّة، وليس بينهم لقمان الذي ورد ذكرهُ في القرآن الكريم أو حتى لقمان صاحب النسور، إذ أن القصة نفسها يُرجَّح إنتاجها بين 650 –500 ق. م كما يُشير الأستاذ أنيس فريحه (1)، بما يمنح نصوص الأمثال وهي تختص بجانب مُعيّن من الجوانب العديدة لتلك الشخصيات، ميّزة مهمةً تُسهم من خلالها بصياغة وجه من وجوه ثراء النص السردي العربي، فالشخصيّة التي يتشكّل حضورها في الميثولوجيا وتتردد أصداؤها في الحكايات الشعبيّة والمسامرات تنبعث حيّةً، واضحة الملامح، في كتب الأمثال التي تعمل في إعادة إنتاجها على وفق نظام سردي كما في كتاب (المفضّل الضبّي) وبحسب صيغ أمثالها التي تُعدُّ، هذه المرَّة، مفتاحَ حياتها وربما استلهمت هذه النصوص جانباً مُعيّناً من جوانب الشخصيّة، وسمةً من سماتها تتجلى بوصفها (حافزاً حراً Motiflibre) (2)،
__________
(1) -ينظر: أنيس فريحه، أحيقار، حكيم من الشرق الأدنى القديم: 151
(2) -يظهر (الحافز الحر) كوحدة أنماط تصوريّة، تملك معنى مستقلاً بالنسبة لمجموع القصة التي تعمل فيها.
... ينظر: د. سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة: 69(1/161)
يُسهم بصياغة نصوص الشخصيّة مهما امتدت وقائعها وتعدّدت صيغ أمثالها، كما في شخصية (امرئ القيس) التي تكتفي نصوص كتاب أمثال المفضّل الضبّي بما تناقل عنها من عجز مع النساء، هذه الشخصيّة التي كانت سعة أخبارها وتضاربها مسّوغاً للارتفاع بها إلى مصاف الأسطورة إذ إن "امرئ القيس، إن يكن قد وجد حقاً. فإن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم" (1)، نراه يتجلى مع كل نص (مئناثاً مفّركاً يفتقد أهم ما يُطلب في الزواج وما من أجله تتزّوج المرأة) (2) وقد تستثمر النصوص في بناء نسائجها السرديّة ما عُرف عن الشخصيّة من أخبار بوصفها مرجعاً حكائياً تشترك فيه مع نصوص السرد العربي، مثلما تشترك فيه مع كتب تاريخ الأدب العامة، فهي بذلك، تعمل على إعادة إنتاج جانب من المتخيل العربي في عملية تمثيل سردي عمادي (صيغ أمثال الشخصيّة) ومادتها (ما عُرف من أخبارها)، وربما واجه الباحث سؤال حول أهمية ما تؤديه كتب الأمثال، وكتاب الضبّي منها على نحو خاص، إذا كانت المادة موجودةً كلاً أو تفصيلاً قبل هذه الكتب، سيمثل السؤال فرصةً لتأمل النظام الأدبي بوصفه طريقةً لأداء العقل، فالمادة التي طُرحت سابقاً سواء ما تعلّق منها بشخصية امرئ القيس أو بسواه تهيئ الإمكانية لإنتاج تآليف متنوعة، تبعاً لقدرة العقل وقابليته على اقتراح سبل جديدة للتأليف، فالواقعة النصيّة هنا تتفتح، في وجه من وجوه ثراء كتب الأمثال، في إمتياحها من مياه مُتعدّدةٍ في سبيل توطيد صيغ أمثالها بوصفها ثمار تجارب جماعية.
__________
(1) -طه حسين، في الأدب الجاهلي: 196
(2) -د. الطاهر أحمد مكي، أمرؤ القيس حياته وشعره: 63(1/162)
ويمكن الإجابة عن اختصاص نصوص أمثال المفضّل الضبّي من حياة امرئ القيس وأخباره بجانب علاقته بالمرأة وما نتج منها من صيغ أمثال باهتمام الكتاب الواضح بالعلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة –وفي الغالب الجنسية –الأمر الذي لفت اهتمام معظم الباحثين الذين تطرقوا لدراسة الجانب الموضوعي من الكتاب، وفحص منظوره للعصر الجاهلي وطبيعة علاقاته الاجتماعية على نحو خاص (1). بيد أننا نلمس مقدار الخسارة التي مُني بها هذا النوع من الأدب بتركيزه، لغاية ما، على جانب محدد من العلاقات الإنسانية التي كان يمكن لها أن تُقدِّم بتشابكها والتحام عناصرها صورةً بانورامية للعصر الجاهلي –بغض النظر عن حقيقة وقائعها، إذ إنها تعالج، بجملة الدكتور عبد المجيد عابدين، أمثالاً تصوّر في صياغتها وموضوعها نزعةً جاهليةً (2) -مثلما توفر بتشعب موضوعاتها وغزارة تفاصيلها فرصةً مهمّةً للارتفاع ببناء نصوصها.
يُلاحظ على نَصّي صيغ أمثال (امرئ القيس) (39)، (47) اعتمادها الخبر المذكور مسّوغاً لإضاءة واقعتي الصيغتين (أصبح ليل، ومرعىً ولا كالسعدان) مع إضافة مناسبة صيغة المثل (اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ) في ختام النص الثاني في خبر مختزل. إن اعتماد النص تقديم صفة الشخصيّة وتحديد بعض شؤونها مع النساء يُسهم بإنجاز صورةٍ مُعيّنة لها لا تتغيّر بتغير النصوص والصيغ، بل إن الصيغ تعتمد على ما يقوم بين الشخصية وباقي شخصيات النصين، وهي شخصيات نسائية، من علاقات مركزها الصفة المعلنة بما يُسهم بإنتاج أفق محدد لتجربتها داخل نصوص الأمثال.
__________
(1) -ينظر: أ. رودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة: 53
ب. المفضّل الضبّي، مقدمة الدكتور إحسان عباس: 42
ج. د. زكي ذاكر العاني، دراسة تحليلية في أقدم كتاب في الأمثال، مجلة (المورد) مج 24 ع1 /1996: 13
(2) -ينظر: د.عبد المجيد عابدين،الأمثال في النثر العربي القديم: 36.(1/163)
يتضح ذلك أكثر عبر تحوّل النص في تقديمه صفة الشخصيّة من (الإخبار) إلى (الحوار) لتأكيد حضورها بين الاستهلال والمتن، فإذا كانت جملتا استهلال النصين تقومان على ما يُنتقى من صفات الشخصيّة وسمات حياتها فإن ا لحوار يعتمد مواجهة (الصفة) والشعور بها عبر الشخصيات أنفسها وهي تقع تحت وطأتها وتعاني من ربقتها كراهيةً ونكراناً، بما يتطلب توّجه النص لاستضافة بعض ما أثُر عن الشخصيّة وتطويعه لصالح واقعة صيغته كما في النص رقم (39) وهو يُعمّق أثر صفة شخصيته الرئيسة عبر الحوار الآتي:
"فلما أصبح قال لها: قد رأيت ما صنعتِ الليلة، وقد عرفتُ إن ما صنعتِ ذلك من كراهية مكاني في نفسك، فما الذي كرهت مني؟ قالت: ما كرهتك، فلم يزل بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العجزة، ثقيل الصدرة، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة.." (1).
تَحدُّ هيمنةُ الصفة المحورية في نَصّي (امرئ القيس) من فاعلية الشخصيّة وتنّمط علاقاتها مع سواها من الشخصيات، على الرغم من تَعدُّد صيغ أمثالها، على العكس مما يشغله حضور شخصية (لقمان) من مساحة تتعدّد خلالها الصفات وتتداخل الأخبار إلى الدرجة التي يُلمس بعضُ التناقض في تقديمها سببه اختلاف الأخبار وهي تصور القوّة والحكمة مثلما تصّور الضعف والوهن، من دون أن تفصل بينها فواصل سرديّة زمانية أو مكانية يمكن أن تُشير لتغير أحوال الشخصيّة وتسوّغ التباين الحاصل بين صفاتها، بما يؤكد جانباً من حضورها (الإشكالي) في الأدب العربي القديم، لقدمها البالغ، وتعدُّد صورها، وتناقض صفاتها أحياناً بين المظان المختلفة: الأسطوريّة والشعبيّة والدينيّة، وقد لعبَ ذلك دوراً في تقسيم شخصية لقمان إلى مراحل تتسم في كل منها بصفات خاصة، فقد زعم ( Heller) أن شخصية لقمان مرّت بثلاث مراحل:
__________
(1) -المفضّل الضبّي، أمثال العرب: 123.
... وينظر: د. الطاهر أحمد مكي، امرؤ القيس، حياته وشعره: 63.(1/164)
أولاً. مرحلة جاهلية: وفيها يتراءى لقمان الأسطوري.
ثانياً: مرحلة قرآنية: وفيها يبدو لقمان بصورة يسودها الصلاح والحكمة، كما في قوله تعالى: { ولقد آتينا لقمان الحكمة } (1)
ثالثاً. مرحلة متأخرة: وهي المرحلة التي نُسج فيها ولفّق قصصٌ كثيرة يخص الشخصيّة.
ويؤكد د. شوقي ضيف عدم صحة تقسيم ( Heller) لأن لقماناً، حسب تصوره، ليس شخصاً واحداً يمكن تقسيم وجوده إلى مراحل، بل شخصيتان، الأولى تُعنى بها كتب الأمثال، والثانية تعنى بها كتب الفقه والتفسير (2)، إن توزع أخبار شخصية (لقمان) بين النصوص (62، 64، 66) (3) بتعدُّدها (ثمانية أخبار) وتباين حصيلتها من الصيغ: النص الأول (تسع صيغ) النص الثاني (أربع صيغ) النص الثالث (صفر) يفتح مجالاً متسعاً لاحتضان عدد وافر من الشخصيات التي مثّلت شخصية (لقمان) مسوغاً لاستحضارها كما في النص رقم (66) الذي يجعل من (لقمان) مناسبة نصيّة لخلوه من الصيغ، إذ يتشكل الخبر وتتنوع وحداته بما يكون بينها وبين الشخصيّة الرئيسة من تلازم واتصال، وهو يهيئ فضلاً عن ذلك فرصة مثلى لاستحضار صفات لقمان الإعجازية بعد أن كَبُر، على لسان جاريته التي تُعدُّ لحكمتها وذكاء ردودها، وهي تعيش واقعة اختبار بالغة القدم مع قوم من (العمالقة) البائدة (4)، صدى لشخصية مركزية مثل شخصية (لقمان) التي يمكن ملاحظة صفاتها الإعجازية المُقدَّمة خلال منظومة أخبارها.
__________
(1) -لقمان /12.
(2) -د. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي: 406.
(3) - المفضّل الضبّي، أمثال العرب: 151، 157، 161.
(4) -الجاحظ، البيان والتبين: 187(1/165)
تقودنا النقطتان السابقتان (تَعدُّد أخبار الشخصية وتناقضها أحياناً، وانفتاح النصوص لاستحضار عدد وافر من الشخصيات الثانويّة والهامشيّة) إلى النظر في إمكانية الشخصيّة على النهوض بمهمتي النص الأساسيتين: الإخبار والتمثيل، وهي تتحرّك بتعدُّد صورها على مساحة سرديّة متسعة تمكّنها من تجاوز هيمنة صفة مُعينّة، كما في نَصّي (امرئ القيس) بل إنها تحقق من الأهمية لشخصياتها الثانويّة ما يمنحها فرصةَ التعبير عن نزوعاتها ورغباتها، أي إن النصوص تعمل على بلورة صفات هذه الشخصيات، لا الشخصيّة المركزية حسب، وهي تَمدُّ شبكة علاقاتها مع الشخصيّة الرئيسة، وفيما بينها بدرجة أقل، مما يسمح بتشكيل مستوى أول يستمد فاعليته من حضور شخصية (لقمان) التي بقيت حتى في حال انسحابها عن الحدث، كما في النص
رقم (66)، مركز حركته.
بخلاف نصوص أمثال أيام العرب حيث تظهر الشخصيات وتختفي تبعاً لإرادة (الحدث) وهو يُقيم بُعدَه المركزي في بناء النصوص، تُقدِّم نصوص أمثال الشخصيّة صورةً مقرَّبةً لشخصية محددة تُسهم الأخبار بامتداد أحداثها، وتواشج متتالياتها، بإضاءة صفاتها وتجلية وقائع صيغتها. يغدو الحدث في نصوص أمثال الأيام كلما تداعت الوقائع واتصلت النسائج نقطةً مولِّدةً ينشغل النص بمتابعة آثارها على الناس والأشياء، ليكون النص عندئذ صدىً لواقعة محددة، بينما تسعى أخبار الشخصيّة وصيغ أمثالها إلى خلق مساحة سرديّة خاصة تمارس فيها الشخصيّة وجودها شبه المستقل ضمن فضاء الكتاب العام، إنها تُقدَّم مثل لوحة فسيفساء كبيرة كل قطعة صغيرة منها ترصد صفةً من صفات الشخصيّة من دون أن تنظر لما يكون بين صفات القطع الصغيرة من تناقض واختلاف ضمن حضور الشخصيات بتباين مواقعها وتواتر علاقاتها، وإنتاج الصيغ التي تُضيء مهما ابتعدت عن الشخصيّة الرئيسة سمةً مُعيّنةً من سماتها، كما في الجدول الآتي:
نص رقم (62)
الشخصيّة ... رئيسة ... ثانويّة ... هامشية ... الصفة ... صيغ الأمثال(1/166)
خبر (1) ... لقمان ... -- ... صاحب غنم ... على أهلها تجني براقش.
تقن ... لا يطعم لحوم الإبل
أخوتها
خبر (2) ... لقمان ... - ... -- ... ذو أدب ودهاء ... هذا حرٌّ معروف..
أخته ... --
زوجته
زوج أخته
خبر (3) ... لقمان ... - ... -- ... لقم: من أحزم الناس وأنكرهم. ... ذنب صحر..
لقيم ... --
صحر
خبر (4) ... لقمان ... - ... الغزو إذا اشتد الشتاء ... كان برحل باتت.
لقيم ... -- ... برحلها باتت لقم.
أشبه شرجٌ شرجاً..
في نظم سيفك ما ترى..
لي الغادرة والمتغادرة...
خبر (5) ... لقمان ... - ... -- ... -- ... قطع الطريق ... سدَّ ابن بيض الطريق
ابن بيض التاجر ابنُه
نص رقم (64)
خبر (1) ... لقمان ... -- ... -- ... الخداع والمكر ... رمُيتُ فَرَميت..
عمرو بن تقن ... --
كعب
خبر (2) ... لقمان ... -- ... -- ... لا فتى إلا عمرو.
المرأة ... -- ... إحدى حظيات لقمان
عمرو ... أضرطاً آخر اليوم
نص رقم (66)
خبر (1 ... لقمان ... -- ... -- ... -- ... حدّة البصر.
الجارية ... -- ... كثرة الأكل.
أَمَة ... دقة الرماية.
ثمانية من سادة العماليق ... القوّة.(1/167)
يكشف الجدول عن فاعلية أداء شخصيته الرئيسة والثانويّة، حيث تُسهم الأخيرة بتطوير الحدث وتنظيم تغيراته وهي تُقيم علاقةً متكافئة مع الشخصية الرئيسة، فيُقدِّم النصان (64)، (66) مثلما يُقدّم الخبر رقم (2) من النص الأول فرصةً للارتفاع بحضور الثانويّة، وهي تفكر وتعمل في سبيل تحويل أفكارها إلى وقائع تغيّر من مجرى النصوص، لنكون مع الخبرين (3) و(4) من النص نفسه بمواجهة شخصيتين رئيستين هما (لقمان) و(لقيم) اللتان تجسدان بتوازن الفكر والتجربة بينهما صورةً لرغبةِ شخصيةٍ سابقةٍ هي أخت (لقمان) التي تمنّت أن يكون لها ابن يحمل صفات خاله. إن نصوص أخبار الشخصيّة، بذلك، تتسع باتساع شبكة علاقات شخصيتها الرئيسة، من دون أن يؤثر ذلك في وضوح الشخصيات الثانويّة ويقلل من قدرتها على التعبير عن رغباتها، وإذا كان الحدث قد امتدَّ بين السبب والنتيجة، كما لوحظ في الفصل السابق، فإن شخصيات هذه النصوص تولد وتنمو نتيجةَ رغبةِ شخصيةٍ سابقة تُسهم على نحو واضح بتطور مجرى الحدث وخلق نوع من التوازن بين شخصياته.
***
الفصل الرابع
الفضاء
عن الفضاء في السرد العربي القديم (مدخل)
-الزمان والمكان في صيغة المثل. (مقترب دلالي)
-الزمان في نصوص الأمثال:
-درجة الصفر (من زمن الرواية إلى زمن المروي)
-الحلقة الزمنية الوسطى
-الزمانية والسببيّة
-المكان في نصوص الأمثال
-التعبير المباشر عن المكان
-التعبير غير المباشر عن المكان
عن الفضاء في السرد العربي القديم (مدخل)(1/168)
إذا كانت نصوص الأمثال تنطوي في جانب مهم من جوانبها على (حدث) يُقيم تجربة المثل، ويحدد موقع صيغته، فإن هذا الحدث لا ينتظم خارج حدود (فضاء) معيّن، مهما اختلفت نوعية هذا الفضاء، أو تباينت المساحة التي يشغلها داخل النص، فهو يشكّل حيز تحقق الفعل، ومجال تجسده في زمان ومكان معلومين، يعمل النص بوصفه واقعةً لغويةً على بلورته داخل نظامه السردي، محافظاً على درجة إسهامه في تأمين المجال المناسب للأحداث؛ والفضاء في العمل الحكائي يظل (تمثيلاً ذهنياً) (1) يتجلّى بما يُوفر له من (حيّز) داخل النص، ويختلف تبعاً لاختلاف قابلية النصوص وفاعلية عناصرها وهي تقيم ما يمكن من علاقات فيما بينها في سبيل إضاءة وقائعها وتجسيد تجارب صيغ أمثالها.
__________
(1) -سعيد يقطين، قال الراوي: 240(1/169)
يمكن ملاحظة أثر الفضاء في النص الأدبي، وتبيّن أهمية موقعه، وقدرته على التعبير عن وعي النصوص من خلال استجابته لمنطقها، وتأثره بنظرتها للتجربة الأدبيّة وللعالم في وقت واحد، بما يحققه من تمثل يتغيّر بتغيّر النصوص وتحوّل نظرتها وهو يسعى لـ (إدماج الحكي في فضاء المحتمل) (1) بما يتجاوز التصور الذي يرى الأدب، كقاعدة عامة، يلح "على بعض التجسيد الزماني، ويتيح للتمثيل المكاني أن يظل غير محدد تماماً" (2)، فالفضاء بجملة أخرى، يُعين على توجيه نصوص الأمثال، وبلورة أثرها على الرغم من بساطة حضوره فيها، بما يملكه من موقع جوهري في العملية الأدبيّة، وهو يتأثر بنمط المعارف والموجّهات وتبدّل السياقات التي تخضع لها تلك العملية، بما يشير لحساسية موقعه وقدرته على أن يلمع في السرديّة العربيّة لحيوية هذا الترابط، عبر تجليه في مختلف أنواعها، ومن خلال ما يرتفع به من أثر يكشف، بالضرورة، عن منطق النصوص، مثلما يُسهم بإضاءة ركن من أركان معرفة عصر معيّن التي يمثل النص الأدبي، مهما اختلف نوعه، أحد تجلياتها المهمة، فقد خضع الفضاء في (ألف ليلة وليلة) على سبيل المثال لمؤثرات عصر إنتاج الحكايات، مستجيباً في وصف (البيئة) كما تشير د. سهير القلماوي لمؤثرين قويين "أما المؤثر الأول، وكان الأقوى والأعم، فهو مؤثر الحياة الحاضرة للقاص، وأما المؤثر الثاني فكان ما برز في أذهان الشعب من أخبار التاريخ العام عن عصر الإسلام الذهبي))(3)،
__________
(1) -د. حميد الحمداني، بنية النص السردي: 65
(2) -بوريس أوسبنسكي، شعرية التأليف، ت سعيد الغاني وناصر حلاوي: 85
(3) سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة: 228..(1/170)
إن للمعرفة في تشكيل فضاء (ألف ليلة وليلة) وهي تتوجّه جهتي الحاضر: واقع إنتاج النص وأفق منتجه، والماضي: ما تشكّل من أطياف عصر ذهبي تمثل الذروة فيه خلافة (هارون الرشيد)، دوراً في تنويع الفضاء وإضفاء طابع الغرابة عليه وصولاً (لاصطناع الحيز المستحيل، والحيز البعيد الذي لم يره أحد قط)(1) اللذين ينبعان من تضافر المعارف والقدرات الممكنة منها والسحريّة في خلق نماذج خاصة من الفضاء. مثلما تكشف مقارنة الفضاء ضمن نماذج النوع الواحد عن مقدار المهمة التي يضطلع بها للإسهام في التعبير عن محتوى رسالة النص الأدبي وفاعلية الإبلاغ فيه، إذ تبيّن مقارنة الفضاء بين مقامات الحريري والهمذاني تغيّر الأُطر الزمانية- المكانية، واختلاف تمثلها في كل منهما من ناحية احترام التسلسل المنطقي التي يكون نص الحريري فيها أقرب للزمان الطبيعي، على الضد مما في مقامات البديع التي تتجاوز تنقلات شخصياتها الحد المنطقي بحركتها عبر زمن يتعدى القرنين مما لا يتلاءم والنظرة الواقعية للزمن، ومن ناحية اختلاف تجليات المكان في عمل كل منهما ففي الوقت الذي تنحصر حركة بطل البديع وراويه بين المدن الواقعة ضمن حدود الدولة البويهية، تنفتح تنقلات شخوص الحريري من المدن الواقعة تحت الهيمنة السلجوقية حتى مصر الفاطمية(2)، مما يُهيء المقام للحديث عن مسوغات تباين الفضاء في نصوص السرد العربي في مراحله المختلفة، وقدرته على التعبير عن تطلعات تلك النصوص وتغيّر أهدافها.
__________
(1) د. عبد الملك مرتاض، ألف ليلة وليلة: 136.
(2) ينظر: مشتاق فالح، البنى الوظائفية في مقامات الحريري (رسالة دكتوراه): ص ص 104-143.(1/171)
إن تباين أهمية الفضاء في أنماط السرد العربي القديم يدعونا للسؤال عن دوره في حلقة مهمة من حلقات تشكيل السرديّة العربيّة، نصوص الأمثال بخصوصية موقعها وهي تمثل عبر معاينتها لما حولها مرحلةً من مراحل وعي التجربة وإعادة إنتاجها بما تنطوي عليه من خصوصية تتطلب ملاحظة النصوص وهي تشكّل فضاء أحداثها عبر إشارات مختزلة للمكان، ولا تمنح تبدلاتها الزمنية عناية خاصة(1) بل إنها تُعلَن في الغالب بما يتركه النص من (ثغرات)، أو ما يقدمه من (تلخيص) لمدد زمنية مجهولة في أفضل الأحوال، وعلى الرغم من ذلك فإن الزمان والمكان يظلان مقولتين إجرائيتين تسهمان في ضوء مفهومية عامة يقترحها العصر وتقتضيها أنماط معارفه، بتأمين موقع خاص لنصوص الأمثال في السرد العربي القديم من خلال ما يقدمه هذا السرد من تباين العناصر واختلاف الآليات.
__________
(1) ينظر: إشارة ((كاسكل)) W. caskel للزمان والمكان في حديثه عن قصص أمثال المفضّل الضّبيّ: ((فالمكان والزمان، لا يُحددان في الغالب، والجو العام للقصة، لا يتضح وضوحاً تاماً)) نقلاً عن: رودولف زلهايم، الأمثال العربيّة القديمة: 53.(1/172)
إن ارتباط كل من الزمان والمكان في نصوص الأمثال بالحركة والانتقال في الوحدات السرديّة يدعو لملاحظة نقطتين أساسيتين تتوجّه الأولى للنظر إلى (التغيّر) وفحص قدرته وهو يُحرِّك أحداث النصوص وينوّع في وجهتها، على إضاءة عناصره الزمانية والمكانية، إذ إن ما يصادفنا من تحول في الأحداث وانتقال بين متتالياتها نابع من تصوّر يقوم على أن الزمان، في هذه النصوص، لا يجلب التغيير، وإنما التغيير، بجملة (نيقولاي برد يائيف)، وهو الذي يجلب الزمان، فـ ((الزمان ليس إلا حالة من حالات الأشياء))(1) مثلما يبدو المكان موضعاً لتجلي الحدث أو مظهراً من مظاهره، إن الزمان والمكان بجملة أخرى يتجليان في نصوص الأمثال بمقدار ارتباطهما بالحدث ومستوى تعبيرهما عن مراحل الصراع والتحوّل فيه.
وتتوجّه النقطة الثانية للنظر إلى ما يكون بين عنصري الزمان والمكان من تلازم يُعدّ سمةً سرديّة من سمات نصوص الأمثال، فهما يتصلان في وحدة
لا تنفصل هي مُتّصل الزمان المكاني أو المكان الزماني، وهما في حالة
حركة دائمة(2).
__________
(1) نيقولاي برديائيف، العزلة والمجتمع، ترجمة فؤاد كامل: 122.
(2) د. علي عبد المعطي محمد، تيارات فلسفية معاصرة: 308-309.(1/173)
إن نصاً سرديّاً مثل نص المثل يقوم بالأساس على تهيئة سبل الحكي الممكنة من أجل إضاءة تجربته وكشف محمول صيغته، يتطلب نظراً خاصاً في معالجة فضاء أحداثه فهو لا يعتمد الوقفات السرديّة المميزة كما في (ألف ليلة وليلة) وهي تنتقل بنسيج حكاياتها من السرد إلى الوصف بغية تحقيق جماليات فضائها بما يمنح المكان أبعاده المختلفة التي ترتفع بالخصائص البنائية للعمل، ولا يُعطي زمان أحداثه من الأهمية ما يُعطاها الزمان في (المقامات) أو (السير) وهي تُلخّص أزماناً وتوسع مدى أزمان، بل يفتح مجالاً مباشراً لحضور الحدث ويُهيء المقام لبلورة (الصورة السرديّة) التي تقوم بالأساس على التحام الوصف بالسرد في تقديم عنصريهما، فإذا كان عنصر الزمان يتبدى من خلال السرد، وعنصر المكان يتبدى في خلال الوصف، فإن (الصورة السرديّة) هي نتاج امتزاج الوصف بالسرد(1) وهي ما يمكن ملاحظة حضوره في مجمل نصوص الأمثال، وقد خضعت سمات الفضاء فيها لهيمنة الحدث وفاعلية تجسده.
الزمان والمكان في صيغة المثل (مقترب دلالي)
__________
(1) ينظر: د. شجاع العاني، البناء الفني في الرواية العربية في العراق، ج2 (الوصف وبناء المكان): 17.(1/174)
تؤمِّن صيغة المثل، بدءاً، علاقةً صريحةً مع الفضاء بقسميه: الزمان والمكان، فهي، قبل أي شيء آخر، أنموذج الخبرة البشريّة في قالب لغوي، وبيان التجربة في أفق ثقافي، والمثل يتميز بقدرته على التعبير المختزل عن المحتوى الزماني للتجربة الإنسانية، وقابليته على التقاط أثر المكان فيها، وهو يُعلن علاقته بالفضاء عبر التركيب اللغوي لصيغِه على نحو مباشر مستفيداً مما توفّره الخبرةُ البشريّةُ لإدامتها وتأكيد حضورها في ما ينتج من صيغ، فإن الشعور بالفضاء في حده الأدنى ((يفترض نمطاً من النضج الفكري والقدرة على التأمل))(1)، ليرتفع هذا الافتراض عبر تنويعات النصوص وتجلياتها اللسانية بما يوفره عنصرا الزمان والمكان من إمكانية تسمح ((بالبحث في فضاءات تتعدى المحدود والمجسد، لمعانقة التخييلي، والذهني، ومختلف الصور التي تتسع لها مقولة الفضاء))(2)، فالبنية الزمانية التي تقترحها صيغة المثل (وتُقترح من خلالها) تضم داخل حدودها نسيجَ علاقاتٍ يؤمِّنها عدد من العناصر التي تؤدي وظيفةً جزئيةً في كشف (زمنية) المثل بحسب أفق إنتاجها، وصيرورتها وهي تتحرّك بما يمنح ((الزمان بعده الحقيقي باعتباره، وفي آنٍ معاً، إطاراً للفعل وموضوعاً للتجربة))(3)
__________
(1) ليفي بريل، العقلية البدائية، ترجمة، د. محمد القصاص: 21.
(2) سعيد يقطين، قال الراوي، 240.
(3) نفسه: 161..(1/175)
مثلما يُحقّق للمكان حضورٌ ينمُّ داخل صيغة المثل عن نمط الخبرة وهي ترتفع بتماسِّها بما حولها، موسعةً من إدراكها لمجال حياتها، لتقيم ما يمكن من الصلة بين محمول تجاربها وصيغها، خلاصات وعيها لعالمها، فالتجربة تُقدَّم في صيغة المثل بوصفها ناتجاً لفاعلية تماس الإنسان بما حوله من أُناس وموجودات، وصورةً لجدل العلاقة بين الإنسان ومحيطه، مهما اختلفت درجة التعبير عن الوقائع، أو تباين مستوى تجليّها في النصوص، في الوقت الذي تقوم الصيغ بوصفها نصوصاً صغرى تحتكم إلى أداء لساني خاص وتنطوي على قيم جُمليّة مميزة، على تأمين نوع من الصلة الدلالية مع نصوص الأمثال تتعدى دور عنوان أو مناسبة النص إلى إضاءة مجال عمل النصوص وتنظيم معانيها.
إن اشتغال النصوص بمجال الإخبار والتفسير أدى بها إلى ضرورة الارتباط بـ/ أو البناء على صيغ معيّنة فهي بمجملها تمثيل كنائي يتوسل السرد لكشف دلالة وإضاءة معنى، الأمر الذي يُلاحظ معه أحياناً تعدد القصص بوصفها تفسيرات لصيغة واحدة، فقد يتغيّر المحمول بتغيّر كتب الأمثال وتَحوّل سياقات إنتاجها مع الثبات النسبي للحامل، كما يُلاحظ أحياناً التغيّر النسبي للصيغ بين الكتب في زيادة أو نقصان مساحتها اللغوية، أو تغيير وجهتها النحويّة مع الحفاظ على وضوح أفقها الدلالي في كل صورة من صورها.
تواجهنا، في مرحلة دراستنا، مجموعتان من الصيغ تستفيدان على نحو مباشر من (الفضاء) في التجربة، فهما تقومان بالأساس على ناتج الخبرة والملاحظة لتحدد الإنسان المثل موقعاً في (التاريخ) يكشفه موقعه في (الصيغة) ويستند إليه، إذ تبدو الصيغةُ خلاصةً لحدث تقع في المركز منه موضوعةُ الزمان، في المجموعة الأولى، بشمولها واتساع نمط الخبرة الذي تقوم عليه، وتقوم المجموعة الثانية على ما يتجلى فيها من سمات مكانية مباشرة أو غير مباشرة تُضيء عبر فاعلية صيغها وعي إنسان المثل لعالمه، محيط علاقاته المتسع اتساع الخبرة نفسها.(1/176)
نُلاحظ في المجموعة الأولى اشتغال الزمان (أو أحد لوازمه) مركزاً دلالياً ينظم عمل الصيغ ويوجّه أثرها كما في الجدول رقم (1):
الكتاب ... صيغة المثل ... الصفحة والسطر
(أمثال العرب) ... أصبح ليل ... 123/14
للمفضّل الضبّي ... أضرطاً آخر الليل وقد زال الظهر ... 159/10
أعن صبوح ترقق ... 126/1
إن الليل طويل وأنت مقمر ... 62/7
إن يبغ عليك قومك لا يبغ عليك القمر ... 124/5
حتى يجتمع معزى الفزر ... 75/13
دعوني فكفى بالليل خفيراً ... 111/4
رب عجلة تهب ريثاً.. ... 138/7
سبق السيف العذل ... 48/2
الصيف ضيعت اللبن ... 51/8
عرفتني نسأها الله ... 117/6
عش رجباً تر عجباً ... 140/4
قد لا يقاد بي الجمل ... 75/4
لا أسرح فيها ألوة الفتى هبيرة ... 75/9
والله لا أرعاها سن الحسل ... 75/7
وبرحلها باتت لقم ... 154/1
اليوم خمر وغداً أمر ... 127/8
(كتاب الأمثال) ... أبقى من حجر ... 65/5
أبو فيد السدوسي ... إذا طلع سهيل، رفع كيل ... 79/5
إذا طلع سهيل على أثباجها ... 79/15
أسرع من نكاح أم خارجة ... 65/9
أمر قضي بليل ... 44/1
أوشم البرق ... 55/7
قد تبيّن الصبحُ لذي عينين ... 89/2
كريت ليلتي هذه كلها ... 58/1
كرينا الليلة ... 58/13
لا أفعل ذاك ما سمر ابنا سمير ... 74/1
لا أفعله حتى تجز الظباء ... 74/5
لا أفعله ما حنَّ بعير ... 74/4
مشترى سهر بنوم ... 45/4
اليوم ظلم ... 51/10
يوم عماس ... 80/10
(كتاب الأمثال ... أخذ الدنيا بحذافيرها ... 128/1
أبو عكرمة الضبي ... إني لآتيه بالعشايا والغدايا ... 28/1
ذات يوم ... 116/11
ماله طارف ولا تليد ... 120/3(1/177)
يوجهّنا الجدول لتحديد صورة أولى للتعامل مع (الزمان) في صيغة المثل العربي، تقوم على ما تعتمده الصيغة من نمط التجربة، والملاحظة، والخبرة، لتنظم، بعدئذ وعي الصيغة نفسها في انفتاحها على مختلف التجارب الإنسانية، مع وجوب شرط المشابهة، محققةً نوعاً من العلاقة التي تكشف على نحو أولي فاعلية الأثر الزمني للأمثال وهي تتحرّك بين مجموعة من الدوائر الدلالية التي توسع بالضرورة من مجال اللفظة بانتقالها من حقل فينومينولوجي يقوم على معاينة الظاهرة لحقل لغوي تنتظم فيه ضمن فاعلية خاصة تُسهم بكشف مستوى من وعي (الفضاء) عبر منظومة التجارب والعلاقات التي تشف عنها الصيغ وهي ترتفع بصفة (الإيجاز) محققةً واحدةً من غاياتها البلاغية، ممتدةً بأقل ما يمكن من الكلمات إلى أغراضها، فتبدو في اتساع دلالتها واختزال ألفاظها أقرب إلى (الإشارة) في إحاطتها بموضوعها(1).
__________
(1) تنبّه العلماء العرب لما بين الإيجاز والإشارة من صلة فقد عقد (ابن سنان الخفاجي) في كتابه (سر الفصاحة) مبحثاً للإيجاز سماه (الإشارة) يقول فيه: ((أن يكون المعنى زائداً على اللفظ، أي أنه لفظ موجز يدل على معنى طويل على وجه الإشارة واللمحة))- ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، تحقيق عبد المتعال الصعيدي: 243.(1/178)
إن الصيغ السابقة تحقق حضوراً للزمان ما يقوم على ما توفره خبرة لغوية معينة من رصيد دلالي فـ ((اللغة هي التي تُعبّر عن كون الزمن يُشكل، بحضوره المستمر، خلفية التجربة))(1) مثلما يكون محط اهتمامها في النظر إلى موضوعاتها بما يُضيء اتجاه الصيغة وينمّط حركتها وهي تؤدي وظائفها على مستوى الكلمة أو الجملة فيما يخص الصيغة، أو يتعدى ذلك إلى نص المثل نفسه، هذه الوظائف التي تسهم أولاً بتعيين نوعية الأثر اللغوي بوصفه (صيغة مثل)، وتقوم ثانياً على ربط هذه الصيغة برباط زمني موضوعي بما يماثلها من التجارب. نختار، على سبيل الملاحظة، من بين صيغ الجدول الصيغ الثلاث الآتية:
1.أمرٌ قُضي بليل.
2.اليوم خمرٌ وغداً أمرُ. ... ...
3.إن يبغِ عليك قومك لا يبغِ عليك القمر.
__________
(1) محمد سويرتي، النقد البنيوي والنص الروائي: 2/11.(1/179)
تنقسم الصيغ الثلاث بحسب بنائها اللغوي إلى مركّبات ثلاثةٍ: اسميّة، وظرفيّة، وشرطيّة وهي تتوجّه جميعها لتنميط الموضوعة الزمنية للإشارة إلى تجارب أمثالها وتحديد عمل صيغها مستثمرة المنحى الدلالي للكلمة في حال كونها دالاً (عبر قيمة خلافية صوتية وتركيبية تميّزها عن غيرها) وفي حال كونها مدلولاً (عبر الوظائف التي تؤديها على مستوى الكلمة، أو الجملة، أو النص)(1)، ففي الصيغة الأولى (أمرٌ قُضي بليل) يتشكّل المركّب الأسمي من مكوّن + (فعل ماض (م. م) + حرف جر + مفردة مجرورة) ليتجلى الزمان بمعانيه الدالة على الظلمة والخفاء التي تفتح للصيغة أفق عملها، فشبه الجملة المتكونة من (حرف الجر + ليل) تؤسس دلالتها على معنى الظرفية في الحرف – ببينة أن يَحسُن في موضعه حرفُ الجر في(2)- ليعيّن معنى الظرفية، بذلك، صفةَ الأمر المقصود فهو (أمرٌ ليلي) يُتوخى فيه السترُ وعدمُ المكاشفة، مستفيدةً قبل ذلك من مجهولية الفاعل، وقد تنفتح الصيغة في إفادتها من دلالة الزمان كما تكشف الصورة التي وردت عليها في (مجمع الأمثال) (أمرُ نهارٍ قُضي ليلاً) بما يفيد وضوح الغاية وغموض التنفيذ وسريّته فهو ((يُضرب لما جاءَ القومَ على غرةٍ منهم ممن لم يكونوا تأهبوا له))(3)، نُلاحظ كيف يكون بمقدور الصيغة الخروج على حدود تفسيرات كتب الأمثال لتحقق حضوراً أوسع وانفتاحاً أشمل لدلالة الصيغ.
__________
(1) منذر عياشي، اللسانيات والكلمة: 41.
(2) ينظر: ابن هشام، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تح محمد محي الدين عبد الحميد: 1/104.
(3) الميداني، مجمع الأمثال: 1/30.(1/180)
إن الصيغة تُضيء مجال استخدامها مرتفعةً من الجزئي والمحدود (الظرفي) في التجربة، إلى منح هذا المجال صفةً تكون ملازمةً له وكاشفةً لنوعه، فالليل، كما هو معروف، واحد بمعنى الجمع، أي أن (الأمر) يستقي معناه وصفته من معنى الليل جميعه، فهو يستبعد على نحو صريح نقيضه كما استبعدت الصيغة الواردة في كتاب (أبي فيد) لفظة (نهار) بما تسحب من مكاشفة ووضوح بتمام معنى الصيغة ووضوح مفادها معتمدةً (أمراً) نكرةً لإمكانية استيعابه ما لا ينتهي من (أمور) تتطلب (الليل) فضاءً لوقوعها:
أمرٌ قضي بليل
أمرٌ ( ليلي
أمرُ ( ليلٍ: (خلسة، غموض، ظلمة..)
وفي الصيغة الثانية يتشكّل مركّب العطف من: مكّون + حرف عطف + مكوّن، يعمل رباط العطف على (المقابلة) بين المكونين (اليوم خمر ... غداً أمر) التي تفيد دلالة التسويف والتأجيل بين (اليوم) و (غداً) الظرفين المعلومين، الأول بتحققه ووقوعه، والثاني بمجهوليته واحتمال ما يحدث فيه، من هنا كان (الخمرُ) بمعلوميته ودلالته على اللهو ونفض اليد مقابلاً لـ (أمر) غير المعلوم والذي لا تتضمن الصيغة رغبة مساءلته أو كشف مخبوئه وهي تنظم نوعين من العلاقات يعملان في أفق دلالي واحد، الأولى ظرفيه والثانية اسمية يمكن بيانهما كما في المخطط الآتي:
اليوم خمر ... و ( ... غداً أمر ... ... ... ... الصيغة
... ظرفية ... ... ... اسمية
(معلوم ( مجهول) ... (معلوم ( مجهول) ... ... ... الدلالة(1/181)
وفي الصيغة الثالثة (إن يبغِ قومك لا يبغِ عليك القمر) يتشكّل المركب الشرطي من أداة الشرط + فعل الشرط+ جوابه، ويتجلى الزمان عبر أحد لوازمه (القمر) وهو بحضوره في جواب الشرط يُبطل عمل الليل الذي يعني هنا (البغي) كما عنى في الصيغة الأولى الستر وعدم الوضوح، فالقمر، كما تكشف حياةُ الصحراء، هو دليلها ونور ظلمائها، وهو في الوقت نفسه علامة العدل والحَكَم المنصف بين أبنائها، فإذا احتمل الحُكم بين البشر شيئاً من اختلال الميزان، فإن حكم (الزمان) المُدَرك عن طريق الخبرة، لا بغي فيه ولا اختلال:
(إن) ... يبغِ عليك قومك ... ... لا يبغِ عليك ... ... (القمر)
... جملة الشرط ... ... جواب الشرط
... احتمال بغي القوم ... ... تأكيد عدم بغي ... (الإنارة، الكشف، الإيضاح)
أما من الناحية المكانية فإن صيغ الأمثال تعتمد في جانب أساسي من جوانبها على خبرة خاصة لا يبدو معها المكان ظرفاً منفصلاً عن وقوع التجارب والأحداث بل إن له من الأثر ما يشير إلى أهمية دوره في التجربة نفسها، كما في الجدول رقم (2):
الكتاب ... الصيغة ... الصفحة والسطر
(أمثال العرب) ... أزمت شجعات بما فيهن ... 68/15
المفضّل الضبّي ... أضرطاً وأنت الأعلى ... 62/11
أعركتين بالضفير ... 56/16
أينما أوجّه ألقَ سعداً ... 50/5
ببقة صُرم الأمر ... 145/2
تجاوزت شبيثاً والأحص ... 130/10
سدَّ ابن بيض الطريق ... 156/1
عوف يرنأ في البيت ... 70/10
في كل وادٍ بنو سعد ... 50/7
لكن بالاثلات لحماً لا يظلل ... 110/7
كتاب الأمثال ... أبقى من حجر ... 65/5
أبو فيد السدوسي ... البئر جُبار ... 52/6
في بيته يُؤتى الحكم ... 47/19
في كل أرض سعد بن زيد ... 81/9
قد أرضَ فلان أرضه ... 82/9
قد بلغ السيلُ الزبى ... 40/8
لا حر بوادي عوف ... 73/9
(كتاب الأمثال) ... أحمق لا يتوجّه ... 95/10
أبو عكرمة الضبي ... أرض لا يطير غرابها ... 73/1
أعطاه ما قطع البطحاء ... 110/10
ضاقت به بلادي ... 93/1
ضقت به ذرعاً ... 74/5
فوق كل طامّة طامّة ... 83/13
ماله مال ولا عقار ... 109/11(1/182)
يتشكّل المكان رابطة واضحة تجمع بين صيغ الجدول وتوحِّد توجّهاتها في النظر إلى محيط تجاربها، فلا تكتفي هذه الصيغ بالتعامل مع الحدود الجغرافية لأماكن وقوع أحداثها، بل تمتد إلى تأكيد جوهرية إسهامها فيها وإضاءة جدلية العلاقة بين الأماكن والأفعال التي أولتها الصيغ من العناية ما حقق لها تنوعاً ملحوظاً، فلا ينبثق المكان من ملاحظة تولّدها لحظة زمنية عابرة بقدر ما يقدم من الصلة مع صيغ الأمثال في مراقبتها لمحيط تجاربها ما يؤكد وجوده عنصراً فاعلاً من عناصرها، مشيراً إلى مستوى الوعي القائم على الملاحظة والتأمل الذي تُسهم صياغةُ المثل بتجسده وبيان أهميته، وإذا كان الأدب على مختلف وجوه إبداعه قد أولى المكان عنايةً بيّنةً فإن صيغ الأمثال تشكّل أنموذجاً خاصاً من التعامل الأدبي مع المكان نظراً لانبثاقها عن نمط المعرفة القائمة بالدرجة الأساس على ملاحظة العالم، عالم لغة المثل ومحيط تجسدها بما فيه من ثوابت ومتغيّرات، والمكان بلا شك واحد من العناصر التي يتخلّق وعي الإنسان وتتشكّل تجاربه عبر تماسه معها، فهو بذلك ليس وعاءً مجرداً لوقوع الحدث، أو حيزاً للحياة فحسب، بل صورةٌ مهمةٌ من صور وجودها، وهو يمثل في صيغ الأمثال ملمحاً لحضوره في السرد العربي القديم لتجسده عن علاقة إلفة واعتياد تمكّنه من تشكيل وجه قريب من وجوه الحياة في الأدب، مثلما يشكّل صورةَ الخبرة وبيان حضورها لما انطوى عليه من سمات وعي خاص، قائم على التجربة، تنظمه الصيغ وترتفع به، بتعيينه مرةً وترك التعيين أخرى؛ إن أبرز ما يصادفنا من أساليب احتضان المكان داخل صيغ الأمثال هو اعتماد الأماكن (المُتَعيّنة) والمثل من هذا الجانب يُعدّ وجهاً من وجوه الذاكرة التي نقع فيها على ما اندرس من أماكن أو تجارب أو ممارسات، مما يُهيء لاستعادته نمطاً حياتياً يقوم بالأساس على التشبيه بتجارب مستمرة، فالضفير، وشبيث والأحص، وبقة، ووادي عوف، وأماكن أخرى تُستحضر(1/183)
بأسمائها وقد تختص الصيغة بواحدة من صفاتها، تشكّل حضوراً معرفياً يكون عماد التجربة ومفاد مثلها، على العكس مما يُستحضر من أماكن غير مُتَعيّنة، وإن اعتمدت الصيغة صفةً من صفاتها، فالأرض، والطريق، والزُبيّة، والبطحاء مواقع عامة تشير لانتباهةٍ كليةٍ، طبيعية في الغالب، مقترحةً مجالاً دلالياً متسعاً كما في الصيغ الآتية:
1.أبقى من حجر.
2.أرض لا يطير غرابها.
3.قد بلغ السيلُ الزُبى.
الأولى بدلالتها على البقاء، والثانية على الكثرة، والثالثة على بلوغ الأمر منتهاه.
إن تحديد دلالة الصيغة على الرغم من عدم تعيينها مكانياً يرتبط بالخبرة التي تتجاوز في بعض الأحيان تفسيرات كتب الأمثال، فإذا كانت الملاحظة تقوم في الصيغتين الأوليين على صفة محددة يضيؤها التفسير: (البقاء في الأولى، والكثرة في الثانية) فإن الصيغة الثالثة تستثمر صفة المكان متجاوزةً مستواها اللغوي العام، إلى مستوى من الممارسة أكثر عمقاً، فـ (الزُبيّة) كما تُرى في كتاب (أبي فيد مؤرِّج السدوسي):
(((1/184)
غير القُتَرة، الزُبيّة تُحفر للأسد فيُصاد فيها، وهي ركية بعيدة القعر، إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها لبعد قعرها))(1)، إن دلالة الصيغة على (بلوغ الأمر منتهاه) تقوم في كتاب أبي فيد على نوع (الزبية) وأهميتها التي تميزها عن (القُتْرَة والناموس والبُرْأة) التي تحتفر على موارد الوحش (غير الأسد)، كأن السيل يمرُّ بمصائد الحيوان جميعها ثم يصل الزُبية التي لا يبلغها لعمقها وبُعد موقعها غيرُ السيل العظيم، بيد أننا نلاحظ في مجمع أمثال الميداني اعتماد أصل اللفظة في تفسير الصيغة ((هي حفرة تُحفر للأسد إذا أرادوا صيده، وأصلها الرابية لا يعلوها الماء، فإذا بلغها السيلُ كان جارفاً مجحفاً))(2)، نحن إذن، أمام توجيهين، تفسيرين للصيغة يجمعهما الميداني ويكتفي أبو فيد بأحدهما، بما يفتح من دلالة اللفظة (والصيغة من بعد) على بُعدين من أبعاد المعنى: مباشر يتوخى معنى اللفظة، وغير مباشر يتوجّه لاستخدامها في مجال معيّن، كما نلاحظ على النحو الآتي:
قد بلغ السيل [الزُّبى]
(رَكِيَّة) تحفر للأسد
(الرابية) لا يعلوها الماء
(معنى مباشر)
(معنى غير مباشر)
__________
(1) أبو فيد مؤرج السدوسي، كتاب الأمثال: 41.
(2) الميداني، مجمع الأمثال: 1/91.(1/185)
إن اعتماد غير المُتعيّن في صيغ الأمثال يُهيئ الصيغ للانتقال في تماسها من المكان أو المحيط بسعتهما وشمولهما إلى (الوسط) بارتباطه بالموضوع، وافتراضيته، ونظام عناصره الذي يُسهم الزمان بإنتاجه. إن المكان يتشكّل عبر مجموع مكوناته التي تستثمر الصيغ خصائصها معلنةً رصيد أناسها من الخبرة والملاحظة، وقدرتهم على إعادة إنتاجها في صيغ مؤثرة، كما في الصيغة الأولى (أبقى من حجر) التي يتواشج كلٌ من الزمان والمكان في فتح أفق دلالتها، إن البقاء والخلود يخترقان المكان لانتقاء علامته وتأمين رمزيته، وهو ما تُنجزه بإيجاز بالغ صيغة (أفعل) التي تسعى إلى تعيين أنموذجها عبر عزله عما سواه، لتمتلئ الصحراء بحكمة الحجر التي لا تعبأ بالزمان، مشيرةً إلى مستوى من التلازم الفاعل بين كل من الزمان والمكان في إنتاج الصيغ وتنظيم مجالات دلالتها، فلم يكن الشعور بالظاهرة ليتجزأ إلى مجموعة من الملاحظات يمكن معها الفصل بين صيغ الزمان وصيغ المكان، فإن صيغةً مثل (أبقى من حجر) تعتمد مثل هذا الترابط الزمكاني المبني على وعي التحوّل والثبات، ففي الوقت الذي تتغير فيه الأشياءُ بفعل الزمان يبقى الحجرُ بإشارته الواضحة ودلالته المكانية صورةً للوجود الذي تبدو الحوادثُ عنه وهو ملموم.
إن الشعور بالمكان (المُتَعيّن منه وغير المُتَعيّن) ينتظم تحت منظور زمني تفصح عنه الصيغ وتؤمِّن حركة علامتها بما يُشير إلى نوع من القياس القائم على الربط بين المكان والزمان، وهو ما يُضيء أفق الصيغة ويجمع في محتواها الدلالي بين طرفي الفضاء كما في صيغة (أخذ الدنيا بحذافيرها)، فالدنيا امتداد زماني يُقاس في الصيغة بما هو مكاني (الحذافير: الجوانب والأطراف) موحداً أثر الفضاء في الصيغتين مع اختلاف محمول كل منهما:
أبقى ... من ... حجر ... ... :البقاء والخلود
أخذ ... ... الدنيا ... بحذافيرها ... : التملّك
زمان ... ... مكان(1/186)
وقد يمتد هذا التلازم في سبيل إضاءة حقول التجارب وميادين وجودها لا لنقلها نقلاً حرفياً إلى صيغ الأمثال، فقد تحضر الأشياء بأسمائها والأزمنة بمحدداتها لكنها، على الرغم من ذلك، تُسهم بخلق فضائها الخاص الذي يبدو فيه كلٌ من الزمان والمكان مرآةً تعكس إحداهما صورةَ الأخرى، ومناسبةً تستنطق أثرها.
الزمان في نصوص الأمثال: درجة الصفر
... ... (من زمن الرواية إلى زمن المروي)
تقوم البنية الزمنية في نصوص أمثال (المفضّل الضّبّي) على درجة صفر معيّنة تعتمدها النصوص بوصفها نقطةَ انطلاق السرد وبؤرة حركته، وهي تشكّل المحور الأفقي للزمان الذي يؤكد موقعاً تتحرّك منه النصوص وتوثق تجارب صيغها، إنه الموقع الذي يتخذ من (الاستهلال) مركزاً سرديّاً يُنظر من خلاله لتنوّع زمان نصوص الأمثال، وملاحظة محورها العمودي الذي يعمل على تنظيم تراتبية خاصة لزمنية نص المثل تقوم على سلسلتي الحوادث والصيغ، ينظم الاستهلال موقعاً أولياً لزمنيته بوصفها ((الطابع الذي يأخذه كل ما يتحقق في الزمان))(1) حسب تعبير جان بويون، لينظر عبر هذا الموقع من (حاضر) الراوي إلى ماضي ما يروي، معيّناً تحققات أحداثه الزمانية وارتباط صيغ الأمثال بها أو انبثاقها عنها، إذ تقترح (زعموا أن) مستويين من الزمان –كما اقترحت من قبل نوعين من الارتباط بجهتي الاستهلال الـ (ما قبل) والـ (ما بعد)- يقوم الأول على تحديد موقع الراوي نفسه وهو يشكّل حاضر النص الذي سيفتح عبر (زعموا أن) باباً للولوج إلى ماضي التجربة الذي يشكّل باختلاف وقائعه المستوى الثاني للزمان، فالزمان كما يبين بول ريكور، لا يغدو زماناً إنسانياً إلا بتمفصله من خلال نمط حكائي معيّن، وإن الحكي لا يكتسب دلالته إلا ضمن الشرط الزماني الذي يتحقق من خلاله(2).
__________
(1) سعيد يقطين، قال الراوي: 160.
(2) ينظر: نفسه: 164.(1/187)
يعمل الاستهلال في نص المثل بتعدد مستوياته وأبعاده على إقامة نقطة يُستحضر فيها زمنا النص: زمن الرواية وزمن المروي، فجملة الاستهلال تنبني أساساً على فعل ماض يولّد أفعالاً ماضية تتعدد تعدد أحداث النص وتتوزع توزع صيغه، وعلى الرغم من وضوح هذا الماضي وقوّة حضوره فهو لا يتجسد إلاّ من خلال موقع حاضر الرواية الذي لا يصرّح النص به على نحو مباشر، فليس ثمة حلقة تسبق (زعموا أن) وتهيء لها بصوت راوٍ معلوم أو غير معلوم، إلا ما يثبته السند في أول الكتاب من سلسلة ثلاثية يكون آخرها (المفضل الضبّي) الذي يقتضي نظام الإسناد أن ينطلق السرد، في كل نص لاحق، منه: (قال الطوسي: أخبرنا محمد ابن زياد ابن الإعرابي أبو عبد الله عن المفضّل الضّبّي قال)(1) من دون أن يحتكم هو نفسه لهذا الماضي، فقول المفضل في ختام سلسلة الإسناد يحيلنا إلى جملة مقول القول التي تتطلب صوتاً راهناً يروي نصوص الكتاب مثلما يُنسِّق أحداثها وينظم وحداتها السرديّة، من هنا يتجلى دور الاستهلال في تثبيت (الماضي) عتبةً لاستعادة رواية ما حدث، وما روي من قبل بزعم رواة عديدين يستهلُ المفضّل الضّبّي روايته بزمنهم الذي يستحيل بين يديه إلى زمن مروي بعد أن كان زمن رواية، ليتفرق زمنُ الاستهلال وهو يشكّل درجة الصفر إلى خمس صياغات تقوم على تأمين مجال الفعل الماضي (التام أو الناقص) الذي يهيمن على استهلال نصوص المفضل جميعها وينظم صياغته على النحو الآتي:
1.زعموا أن + فعل ماضٍ تام (45) مثلاً.
2.زعموا أن + فعل ماضٍ ناقص (كان) (30) مثلاً.
3.فعل ماضٍ ناقص (7) أمثال.
4.فعل ماض تام (4) أمثال.
5.أما الافتتاحية (2) مثلان.
__________
(1) المفضّل الضّبّي، أمثال العرب: 47.(1/188)
يتوجّه السرد بعدها إلى العناية بالمحور العمودي للزمن لمعالجة الحدث بانحرافاته وتوقفاته في سبيل إضاءة صيغ أمثاله وتأمين مجال حضورها داخل النصوص، وبناءً على ما سبق تفتتح أحداث هذا المحور حركتها الزمنية ابتداءً من درجة الصفر التي يتصل عندها المحوران مكونين زاوية هي نظام الحركة الزمنية في نصوص أمثال المفضّل الضّبّي.
الحلقة الزمنية الوسطى:(1/189)
تتوجّه نصوص أمثال المفضّل الضبّي لكشف تجارب صيغها وبيان وقائعها باعتماد (زمن داخلي) ينتظم على أساس ما يقترحه الحدث وما تتطلبه التجربة، فالزمان من هذا الجانب، مكوّن سردي يخضع، أسوة بمكونات السرد الأخرى، لغايات النصوص وأهدافها ويتأثر، بما يُحدد له من موقع في العملية السرديّة، بسبل أداء النصوص وأساليب عملها، وهي تتوجّه، في الوقت نفسه، لإضاءة (زمن خارجي) تشير من خلاله لموقع الحدث في سلسلة لا نهائية من الأحداث، وموقع التجربة في سلسلة لا نهائية من التجارب، إن النصوص تُؤثر بانتظام زمنيها فتح مجال عملها والتوسيع من دائرة خبرتها، مُستعيدةً تجارب بالغة القدم ومحاورِةً أحداثاً لا زمان معلوماً لوقوعها، وعلى الرغم من توجّهها لتحديد مواقع حكائية لتجاربها في منحنى الزمان التاريخي، فإن فاتحةً زمنيةً مثل (في الدهر الأول) أو (في الجاهلية) تقوم مقام (كان يا ما كان) في الحكاية الشعبية وتعمل عملها، وهي تفتح لمروياتها مجالات زمنية لا نهائية تسمح لها بالحركة الحرّة بين عالمي الحدث الواقعي والخيالي، بمعقولية الأول وإمكانية وقوع حوادثه، ولا معقولية الثاني واستحالة وقوع حوادثه، إنها تقترح بذلك مسوغها لتجسيد الفضاء المستحيل، إذ يتفق سرد نصوص الأمثال مع الحكاية الشعبية في جانبٍ مهم من جوانب الصياغة الزمنية لنصوصهما وهو انحرافها عن تحديد مجال زمني معلوم في الوقت الذي يتطلب السرد ذلك، فهي غالباً ما تمتد خارج التعيين التاريخي مستبدلةً معلومية الزمان بماضٍ مطلق وإن ارتبط في بعض الأحيان بمؤشر زمني:
شخصيّة أو حدث أو عادة متبعة، فيبدو (الزمن الخارجي) بناءً على ذلك ممتداً خارج حدود زمنية النص نفسه من دون أن يحقق حضوراً تاريخياً واضحاً.
يمكننا ملاحظة تنويعات زمنية تقوم مقام حلقة وسطى بين جملة الاستهلال (زعموا أن) وأحداث نص المثل، وتؤدي دوراً خاصاً في تحديد تاريخ للتجارب والأحداث تتوزع على النحو الآتي:(1/190)
1-في الدهر الأول:
... المثل رقم (33): زعموا أن قوماً كانوا في جزيرة من جزر البحر في الدهر الأول..
... المثل رقم (67): زعموا أن رجلاً مضى في الدهر الأول..
2-في الجاهلية:
... المثل رقم (17) كان مرباع مالك بن حنظلة في الجاهلية في زمان صخر بن نهشل بن دارم لصخر..
... المثل رقم (32) زعموا أن رجلاً في الجاهلية..
3-فيما مضى:
... المثل رقم (88) زعموا أن أخوين كانا فيما مضى..
4-طلوع الشمس وغروب القمر:
... المثل رقم (40) كان الناس يتبايعون على طلوع الشمس وغروب القمر..
5-الوقائع والأيام:
... المثل رقم (27) وكان من أمر داحس وما قيل فيه من الأشعار..
... المثل رقم (45) زعموا أن سليحاً من قضاعة وغسان احتربوا..
إذا ما استثنينا النموذجين الأخيرين اللذين يقومان على قياس الزمن التأريخي للنصوص على زمان بعض العادات التي كانت قائمة في وقت ما، أو على بعض الوقائع والأيام التي تُعتمد في نصوص الأمثال بشكل خاص، وفي نصوص الأدب الجاهلي بشكل عام، بوصفها معالم زمنية يُحدد تاريخ حدث ما بحسب اقترابه منها أو ابتعاده عنها، فإن النماذج المتبقية تُثير عدداً من الأسئلة تتوجّه جميعها للاستفهام عن الخصوصية الزمنية لأحداث نصوصها، وتأريخية هذه الأحداث التي يمكن أن تُضاء بجمل مثل (في الدهر الأول) أو (في الجاهلية) أو (فيما مضى)، التي تتطلب أن يكون الدهر دهوراً مقسمةً في الأولى، والتي تحدد موقعاً جاهلياً للمثلين (17) و (32) وحدهما في الثانية، في حين تعمل الجملة الثالثة على النظر إلى ما مضى من دون أن تحدد تاريخاً واضحاً يعضّد أحداثها غير ما يَنمُّ عنه النص من ماضٍ أسطوري في إشارته لمرحلة خاطب الحيوانُ فيها الإنسانَ وتقاسم معه الأمن والثروات.(1/191)
وتُلاحظ معادلة الاستخدامات المذكورة في بنيتها اللغوية لـ (الظروف المبهمة) التي لا تُشير على الرغم من وظيفتها الزمنية، إلى وقت معلوم فهي تمتد للدلالة على (قدر من الزمان غير معيّن نحو: أمد، وأبد، وحين، ووقت، وزمان)(1) مما يوسع من تجارب الأمثال ويفتح نصوصها على مدى زمني تتقاطع فيه مع قصص العربي الأولى التي تكشف بواكير خبرته.
إن التنويعات الزمنية السابقة لا تشكل أفقاً تاريخياً يُضاء معه (الزمن الخارجي) لنصوص الأمثال بقدر توجهها لإنتاج حلقة تتوسط بين الزمنين المعالجين في المبحث السابق (زمن الرواية/ زمن المروي)، وتستمد من الزمان التاريخي أهميتها من دون أن تُعيّن مرحلةً معلومةً لوقوع أحداثها، إن النصوص تبذر بتنويعاتها تلك بذرةً زمنيةً تقوم على ما يقترحه زمان الواقعة من إشارات قد تبتعد حتى (الدهر الأول) أو تقترب مقترنةً بزمن عادة أو تقليد، على الرغم مما يكون بين (الدهر) و (الزمان) في العربية من مشاكلة واتفاق(2)، لتوفر فضاءً قادراً على إنضاج البذار الزمنية للتجربة التي تتطلب كما يقدم مفتتح الحكاية الشعبية مدى زمنياً شاملاً تُستعاد فيه الحوادث والتجارب وتستنبط المواعظ والحكم، إن دور الحلقة الوسطى يقوم بالأساس على تهيئة المجال للزمن الداخلي، زمن النص الذي يتشكل كما تقدم بانتظام الحوادث والصيغ على المحور العمودي.
الزمانية والسببية:
__________
(1) الشيخ مصطفى الغلاييني، جامع الدروس العربيّة: 3/45.
(2) ينظر: د. محمد أحمد الشحاذ، لغة الزمن ومدلولاتها في التراث العربي: 46.(1/192)
إذا كانت الزمانية، بحسب ما تقدم، هي الطابع الذي يأخذه كل ما يتحقق في الزمان، فإن النصوص السردية تقترح طرائق متعددةً لانتظام زمنيتها وتوجيه عناصرها وهي تسعى لتقديم ترتيب مقنع لأحداثها، فتعمل في سبيل ذلك على توفير سمتين تُناط بهما على نحو مباشر مهمةُ ترتيب الأحداث وانتظامها في نسق مُعيّن هما الزمانية والسببية(1) يصعب أن تتواشج الأحداث ويمتد الحكي من دون توافرهما فإن ((الحكي لا يكتسب دلالته إلا ضمن الشرط الزماني الذي يتحقق من خلاله))(2)، وهو يُنشيء عالماً يتجسد ويرتقي بما يتجلّى فيه من حضور للسمتين السابقتين، وما يُؤثِرهما السرد به من فاعلية تميّز النصوص عن بعضها وتمنحها أهميةً متفاوتةً.
ومن المهم ملاحظة طبيعة التفكير الزماني في المرحلة التي نهضت نصوص الأمثال على كشف تجارب أناسها والاستعانة بنمط خبراتهم في توفير مادة سرديّة مناسبة لإنتاج صيغها، فالزمن كما يُستَّدل عليه من انتباهات الشاعر الجاهلي زمنان: طبيعي واجتماعي، يتصل الأول بحركات الكواكب وتغيّر الليل والنهار فهو زمن عياني يقوم على ما تتطلبه الطبيعة من ارتباط وما تقتضيه من ملاحظة تتغيّر بتغيّر الموقع الجغرافي ونوعية الحياة، ويتصل الثاني بالمتغيّرات والثوابت التي توجد داخل الزمن السابق كالناس والملوك والوقائع، فهو زمن حدثي يتميز عن الأول بعدم ثباته وشدة تماسه مع حياة الإنسان وواقع تجاربه(3).
ويمكن تلَمّس أثر طبيعة التفكير الزماني على النصوص وهي تعمل على ربط إشارات زمنها الداخلي بالزمنين الطبيعي والاجتماعي اللذين يكتنفان نشاط إنسانها ويبلوران، إلى حد، وعيه.
__________
(1) ينظر: روبرت شولز، السيمياء والتأويل، ت سعيد الغانمي: 110.
(2) سعيد يقطين، قال الراوي: 164.
(3) ينظر: ت. ج. دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ت. محمد الهادي أبو ريدة: 153 ود. حسام الآلوسي، الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم: 55 وما بعدها.(1/193)
إن سؤال الزمان ينفتح في نصوص الأمثال على حصيلة التجربة بين ماضٍ زائلٍ وحاضر مرصود ومستقبل مُتأَمل، وقد تغيب الحدود وتتماهى الأزمان في زمنٍ واحدٍ هو زمن التجربة التي يتخلّق على أساسها السرد وينمو مشكّلاً أحداث نصوصه، كما تَقدَّم في الفصل الثاني، على وفق متواليات حدثيّة تقوم بالدرجة الأساس على حضور السمتين السابقتين: الزمانية والسببية وتعاضدهما إلى الحد الذي تؤدي معه كل منهما إلى الأخرى أو تُشعر بها، فالسببية تعتمد، في نصوص دراستنا على نحو خاص، عنصراً زمنياً يكون نواةً لحركة زمنية في أفق السرد، مثلما تنطوي الزمنية على عنصر سببي يمثل علةً لما بعده وسبباً موجباً يندفع معه السرد خطوة إلى الأمام، بناءً على هذا التصور يمكننا دراسة المظهر الزماني ضمن الحدود القصصية السابقة التي تجلّت عبرها النصوص وتشكّلت وقائعها كما يأتي:
1-الزمان في القصة أحاديّة الحدث.
2-الزمان في القصة ثنائيّة الحدث.
3-الزمان في القصة عنقوديّة الأحداث.
تنبغي الإشارة قبل التوجّه لدراسة زمنية النصوص في محورها العمودي إلى أن كل متتالية حدثية تقترح بنيتها الخاصة التي يمكن أن تمتد امتداد النصوص، أو تكتمل مع متتالية محددة فتجاور بنية أخرى داخل النص، قد تحتوي العناصر نفسها بغير زيادة أو نقصان، وقد تزيد أو تنقص مع اختلاف نظام تشكلّها الذي تتخلق بموجبه بنية زمنية جديدة.
نُلاحظ من القسم الأول (الزمان في القصة أحادية الحدث) نَصّي المثلين
(32) و (1) اللذين يقومان على متتاليتين مختلفتين، تامةٍ في النص الأول، ومزدوجةٍ في النص الثاني وهما يقدمان أنموذجين زمنيين يعتمدان، أسوة بنصوص الأمثال، تضافر الأسباب والنتائج التي تتحدد معها بنية زمنية تامة في النص الأول، وتتجاور في ظلها بنيتان زمنيتان، في النص الثاني، تختص كل منهما بمتوالية من متواليتي النص.(1/194)
يستهل النص رقم (32) حركته السرديّة بتنظيم محور أفقي يحتوي بالإضافة إلى درجة الصفر حلقته الوسطى مكّوناً نمطاً زمنياً أنموذجياً يقتضي تحولين:
*الأول: من زمن الرواية إلى زمن المروي: (زعموا أن) رجلاً (في الجاهلية).
*الثاني: من زمن المروي (العام والمطلق) إلى زمن الواقعة: (في الجاهلية) (كانت له فرس...)
ليبدأ بعدها بناء زمنه عبر انتظام متتالية أحداثه في خمس انتقالات تتلازم فيها السببية والزمنية في تقديم محوره العمودي الذي يمتد بتطوّر الأحداث وتنوعها، وهو هنا يقوم على أساس بيان تجربةٍ تشكّلها متتاليةٌ تامة تقوم بإضاءة منحنى زمني يعتمد، فضلاً عن تعيين الأولوية وأسبقية الوقوع، على اقتراح مساحة زمنية للأحداث ابتداءً من زمن الواقعة (الفعل الماضي الناقص وما يليه) حتى صيغة المثل التي تقوم مقام خاتمة النص(1):
... ... ... زعموا أن: رجلاً في الجاهلية
(درجة الصفر) ... ... ... ... ... كانت له..
... ... ... المحور الأفقي ... ... ... بعثه قومه
... ... ... (زمن الرواية) ... ... ... أسر
... ... ... ... ... ... ... طلب منه
... ... ... ... ... ... ... عودة الفرس
... ... ... ... ... (صيغة المثل)
... ... ... ... ... عرفتني نسأها الله
أما في النص رقم (1) فإن توزيع الأحداث بين متتاليتين يقدم أنموذجاً مختلفاً ينطوي على بنيتين زمنيتين تكتفي كل منهما بنفسها، وتتصل اللاحقة اتصالاً سببياً بسابقتها، ويخضع المحور العمودي في مثل هذا الأنموذج لمجموعة من (الثغرات) التي لا يذكر السرد في نصنا ديمومة ما يسقط من زمن أو مدته، بل يعمل على تحديد موقعه فاصلاً بين بنيتيه ليقوم على تأكيد الحدث والربط بين عناصره مهما امتد الزمان بين أحداثه فجملة مثل (ثم أتى على ذلك ما شاءَ اللهُ أن يأتي..) تعمّق أثر البنية الأولى، وتفتح المجال، بما تفيد من ترتيب، لما بعدها من أحداث.
__________
(1) المفضّل الضبّي، أمثال العرب: 117.(1/195)
أما من جهة ما تختص به كل بنية من البنيات فنُلاحظ انغلاق الأولى على (الليل) مجالاً زمنياً لا يُقاس باعتماد زمان طبيعي معلوم فحسب، بل يخضع لشعور متصل بالفقدان، فللزمان الشعوري دور في تأمين مظهر طبيعي واحد يضم البنية جميعها، بعكس البنية الزمنية اللاحقة التي تستغرق أحداثها زمناً أطول وتتفرق إلى أربعة مواقف هي: (السير، والتعرّف، والقتل، واللوم) يضمها جميعاً زمن (الأشهر الحرم) من دون أن يحدد النص يوماً معيّناً أو شهراً معلوماً منها، وهي سمة كثيراً ما تواجهنا في نصوص الأمثال، إذ إن ميل النص لانفتاح مجاله الزمني يتوجّه، فضلاً عن دلالته، إلى التوسيع من مجال التجربة لتبدو صورةً سرديّةً لحياة أكثر مما هي تدوين آني لوقائع معلومة، يمكننا أن نتأمل المخطط الزمني لنص المثل السابق كما يأتي(1):
... ... زعموا أن: ضبة بن أد بن طابخة
(درجة الصفر) ... ... ... ... ... وكان له ابنان
... ... المحور الأفقي ... ... ... نفور الإبل
... ... (زمن الرواية) ... م(1) ... ... خروج سعد وسُعَيد
... ... ... ... ... ... عودة سعد ...
... ... ... ... ... ... صيغة (1): أسعدٌ أم سُعَيد
... ... ... ... ... ... الحارث يحدث ضبّة
... ... ... ... ... ... معرفة ضبّة
... ... ... ... ... ... صيغة(2): إن الحديث لذو شجون
... ... ... ... م(2) ... ... قتل الحارث
... ... ... ... ... ... اللوم
... ... ... ... ... ... صيغة(3): سبق السيف العذل
__________
(1) المفضل الضّبّي، م. س: 47.(1/196)
تُقدِّم المتواليتان، كما قدمت متوالية النص السابق، واحدةً من السمات الأساسية في زمنية نصوص الأمثال وهي المعالجة الحركيّة للزمان، إذ إن هذه النصوص تعمل على تعيين تغيرات زمنها من خلال تغير الأفعال نفسها، وهي ملاحظة يمكن أن تشير لمستوىً أولي في التعامل مع الزمان داخل النص السردي، فهو لا يُمنح من الخصوصية ما يُضيء تفاصيله المختلفة، بل يُقدَّم، في هذا النوع من النصوص، بوصفه نمطاً حركياً يساعد على دوران عجلة السرد وينبثق عنها، فإن أفعالاً مثل: نفر، خرج، عاد، قُتل، تنظم ترتيباً يُعين الدارس على ملاحظة التغيرات الزمنية للحدث، على الرغم من اعتمادها جميعاً صورة الفعل الماضي فالترتيب هنا يُنشيء نوعاً من التلازم الزماني الذي يمد النص بالفاعلية الزمنية لأحداثه، وهو ما يُلاحظ بوضوح على (الزمان في القصة ثنائية الحدث) التي تقوم بالأساس على العناية بزمان أحداثها وتحديد المنحى الطبيعي لها مرتفعةً بمستوى تعاملها مع الزمن، فإن اعتماد حدثين مختلفين من منحنى حياة الشخصية يتطلّب إجراءً زمنياً قادراً على احتواء هذين الحدثين والمؤالفة بين عناصرهما فضلاً عن اعتماد مسوغ محدد يكون بمثابة النول الذي تُلَّف عليه خيوط السرد، من هنا يمكن ملاحظة حضور أكثر وضوحاً للزمان الطبيعي الذي يتحرّك داخله حدثا النص الأساسيان، ويهيئان المجال للأحداث الصغيرة (التنويع) للظهور والمشاركة بإدامة أفعال السرد.(1/197)
إن نصوص أمثال أم خارجة، والسليك بن السلكة، وجارية بن سليط، ولقمان بن عاد، وطرفة بن العبد تعنى بزمان أحداثها عناية تمكنها من المؤالفة بين الوقائع المعتمدة في النص من جانب، وتوجيه ما تنطوي عليه من صيغ توجيهاً يتناسب مع موقع الحدث وأثره في منحنى حياة الشخصية من جانب آخر، وهي تعتمد في سبيل ذلك ما يمكن أن تسميه (المؤشر الزمني) الذي يمكن أن يكون مكاناً أو واقعةً أو حدثاً، لكنه يتوجّه لأداء وظيفة عمادها الربط الزمني بين العناصر وخلق فضاء لانتظام وحداتها القصصية كما في نصوص الأمثال(10) و (19) و (87)، إذ يكون في المثل الأول زواج (أم خارجة) مؤشراً لحركة زمنيّة على الرغم منَ كونه صفةً ميّزت الشخصية ومنحتها موقعاً خاصاً، نلاحظ طريقة تعامل النص مع الموضوع على كشف بُعده الزماني ثانياً، فانتقال (أم خارجة) بين أزواج عدة يقتضي زمناً يقيسه السرد بما تلد لكل منهم (ولدت لعمر بن تميمة ثلاثةً، وولدت لبكر بن عبد مناة ثلاثةً، وولدت لمالك بن ثعلبة اثنين)، ويكون سوق عكاظ في المثل رقم (19) مؤشراً زمنياً يلتقي فيه (جارية بن سليط) امرأةً ويواقعها ثم يتواعدان لرأس ثلاثة أحوال في عكاظ، فلا يكتفي (عكاظ) بكونه مكاناً لنشاط معيّن، بل يُسهم بثوابت زمنه بتحديد زمنية نص المثل وتعيين انتقالاتها، مثلما تكون حياة (طرفة بن العبد) في المثل رقم (87) مؤشراً تُرهَّن به زمنية النص، فزمان النص، المذكور منه والمحذوف، يعمل داخل حدود حياة طرفة ابتداءً من استماعه للمتلمس وهو طفل يلعب مع الغلمان حتى نجاة المتلمس وقد أسنَّ يومها وهلاك طرفه، إن ترهين النصوص وإضاءة جانبها الزمني يتطلّب تأمين مدى أكثر سعةً لمواضيعها ليكون بمستطاعها تعيين زمنية النص بطريقة غير مباشرة تقترحها موضوعة (المؤشر الزمني) على اختلاف أنواعها وأساليب تجليها في النصوص، أو بطريقةٍ مباشرةٍ من خلال اعتماد لوازم الزمان الطبيعي وعناصره اعتماداً مباشراً، من دون(1/198)
أن يعني ذلك أننا سنكون بمواجهة زمن تفصيلي، تخضع فيه الأحداث لعنايةٍ زمنيةٍ دقيقةٍ، لكن على الرغم من ذلك يبدو الزمان في هذه النصوص أكثر وضوحاً وأشد ارتباطاً بالأحداث مما هو عليه في سابقتها.
تقوم درجة الصفر الزمني في نص المثل رقم (13) وهو يعتمد بعض تجارب (السليك بن السلكة التميمي) على تقديم مستوى أفقي يتسع لعدد من الصفات والخصائص التي تُهيء لحضور الشخصيّة داخل نص المثل، من دون أن يحدد جانباً معيّناً من الصفات فهو يجمع بين صفات الفروسية (أحد بني مقاعس، من أشد فرسان العرب، أنكرهم، أشعرهم) والصفات الجسدية (كانت أمه سوداء، يدعونه سليك المقانب، والمقنب ما بين الثلاثين والخمسين، وصفات الصعلكة (أدل الناس بالأرض، أجودهم عدواً، لا تَعلُق به الخيل) في مقام واحد، بالإضافة إلى ملفوظ الشخصية الذي تُمنح معه حضوراً مهماً تتكرر صيغة الاستهلال (زعموا أن) فيه مرتين، تتوجّه الأولى لتعيين زمن الرواية والإعداد لزمن المروي الذي يفتح بملفوظ الشخصيّة نفسها، لتستمر بعدئذ حركة المستوى العمودي بانتقالاتها الزمنية المختلفة، مؤشرةً في كل انتقالة منها مظهر الزمان الطبيعي المرتبطة به، ومن المهم الإشارة إلى مستوى من التلازم الحاصل، في هذا النوع من النصوص، بين الحدث وزمان وقوعه، نظراً لما يتطلّبه الموضوع (حياة الصعلكة وغاراتها) من استغلال لظروف مناخية يصادفنا في حدثي النص منها (ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة، مرّ على بني شيبان في ربيع والناس مخصبون في عشية فيها ضباب ومطر، انطلق وقد أمسى وجنَّ عليه الليل) التي يمكن أن توميء لقابلية النص السردي على استيعاب التجربة وتهيئه اشتراطات أحداثها في سبيل خلق تباين ملموس بين نص وآخر يعتمد بالأساس نوعية التجربة ونمط أحداثها. يمكن أن نُلاحظ مخطط النص على النحو الآتي:
... زعموا أن: السليك بن السلكة ( زعموا أنه كان يقول
(درجة الصفر) ... ... ... ... افتقر، خرج(1/199)
... المحور الأفقي ... ... ... اشتمل الصماء في ليلة باردة
... (زمن الرواية) ... ... ... جثم عليه رجلٌ
... ... ... ... ... صيغة(1): إن الليل طويل وأنت مقمر
... ... ... م(1) ... ... الرجل يؤذي السليك
... ... ... ... ... صيغة(2): أضرطاً وأنت الأعلى
... ... ... ... ... انطلقا
... ... ... ... ... صادفهما رجلٌ له مثلُ قصتهما
... ... ... ... ... أتوا جوف مراد الذي باليمن
... ... ... ... ... انطلق السليك وبقي صاحباه
... ... ... ... ... صاحباه يلحقانه ويطردان الإبل
... ... ... ... ... خرج ومعه ابنا سري بن الحارث
... ... ... ... ... مرَّ على بني شيبان في ربيع
... ... ... ... ... الشيخ يطلب من ابنه أن يعشّي الإبل
... ... ... م(2) ... ... صيغة(3): العاشية تهيج الآبية
... ... ... ... ... السليك يتبع الشيخ ثم يضربه
... ... ... ... ... السليك يصيح بالإبل يعاونه صاحباه(1/200)
ونُلاحظ في القسم الثالث (الزمان في القصة عنقودية الأحداث) قدرة نص المثل على الارتفاع بفاعلية الزمان فيه وتحقيق مستوى من الانتظام الناتج من تشكيل حلقات النص ومتتالياته التي لم تَعدّ تخضع، في الغالب، لاشتراطاتٍ موضوعيةٍ معيّنةٍ، بل إنها تلتقط من بين تجارب شخصياتها وأنماط وجودها مواقف يدخل فيها عنصر التتابع الزمني مرتقياً خلال حركات الحوادث والمواقف، وفي كل صورة منها بحسب تعبير د. عبد المجيد عابدين لفظ يُعين على هذا الترقّي الزمني، الذي يتعدى مؤداه ما يشير إليه د. عابدين من مدلول لفظي(1)، إلى الإسهام بإنجاز انتظام أكثر وضوحاً يلمع باتساع حلقاته للزمان بوصفه فعل تراكم نوعي يستند إلى رصيد النص من تجارب شخصيته ومقدار التباين والتنويع بين تجربة وأخرى.
__________
(1) ينظر: د. عبد المجيد عابدين، الأمثال العربيّة القديمة: 110.(1/201)
إن الزمان في هذا القسم لا يحافظ على انتظام سلسلته وتتابع حلقاتها، كما في القسمين السابقين، مهما امتدت بينها الساحة المغفلة متوجهاً لإنتاج زمنيته بوصفها تعييناً جدليّاً للوقائع والتجارب والأحداث، مرتفعاً عن زمنيّة الفرد التي تبدو معياراً لنصوص الشخصيات إلى تواشج حيوات يلاحظ بأوضح صوره مع النصوص التي تستفيد من رصيد حوادث أيام العرب ووقائعها، حيث تشهد العوالم الزمانية والمكانية التي تقع فيها الأفعال انفتاحاً ملموساً، مثلما يشهد الانتظام (الأكرونولوجي) للزمان هزاتٍ واختلالاتٍ تُسهم بإضافة خصيصةٍ سرديّة لهذا القسم من النصوص، وتعيّن أثراً مهماً لحركة الزمان في نصوص السرد العربي القديم، بعد أن عملت خلال قسميها السابقين على تهيئة المجال لمثل هذه التغيّرات ابتداءً من التواتر الزمني للمتتالية التامة، ومروراً بالانشغال بالزمان بوصفه نمطاً حركياً تُلتقط تغيّراتُه عبر تغيّر الأفعال أنفسها في نصوص المتتاليات المزدوجة، إلى اعتماد المؤشر الزمني بمختلف أنواعه للإفصاح عن أثر الزمان وصولاً لانفتاح زمنية النصوص بوصفها فاعليةً خاصةً تُسهم إلى حد بعيد بتحقق مستوى من التنوع في سرديّة نص المثل.(1/202)
تجتهد النصوص عنقوديّة الأحداث في تنظيم وحداتها متنقلةً من خبر إلى آخر بمسوغ صيغة المثل التي تُعدّ بالأساس مسوغاً لتأليف كتبها، إذ تُهيء فاعلية النظام السردي وهي تحقق زمنيتها انتظاماً أمثل لنصوص كتاب (أمثال العرب) التي انشغلت انشغالاً كلياً بإعادة إنتاج أخبارها على وفق مقتضيات أسهمت إلى حد بعيد بإنتاج أدبية نص المثل التي تتجاوز (هيكل البنية كانتظام إلى فاعليتها الخاصة)(1)، ومن ثم إلى كشف خصوصية موقعها وتعيين أهمية حضورها في أفق سردي غير محدود، فالزمان في القصة عنقودية الأحداث يخضع لمستوى أوضح من الاستجابة والتغيير، فهو يستجيب بما يُرى على وحداته من تنوع أو تراتب أو تقديم أو تأخير لإيعاز السرد الذي يعمل على الارتفاع بنسائجه النصيّة باقتراحه طرائق وصياغات يشهد فيها الزمان تغيّرات مختلفةً متأثراً بأهداف التأليف وغاياته التي تنحرف في كتاب المفضّل الضّبّي عن التدوين التأريخي العام أو السيري إلى تحقيق نوع من خصوصية التجربة التي يكون بمقدورها الارتفاع ركناً أولياً من أركان السرديّة العربية.
__________
(1) د. يمنى العيد، فن الرواية العربية بين خصوصية الرواية وتميز الخطاب: 9.(1/203)
نلاحظ من بين أنساق الأداء الزمني سيادة نسق (التراتب) على ما يمكن أن يتبع من أنساق بناء الزمان في نصوص الأمثال ذوات الأحداث العنقودية، لاعتماد هذه النصوص على نحو شبه كلي على نسق (التنضيد) في تقديم أحداثها والربط بين أخبارها، ولما يقتضيه هذا النسق من تراتبيّة معيّنة تنظم الأحداث في أسبقيةٍ نصيّةٍ تختلف فيها مع نسق قريب آخر من أنساق البناء التقليدي هو (التتابع) لما يعنيه من استحضار الوقائع والأحداث بحسب ترتيبها الزمني، فلا تعتمد النصوص في الغالب في تقديم سلاسل أحداثها انتظاماً زمنياً معلوماً تتابع الحلقات فيه بحسب أسبقية وقوعها- وهو ما دفع كتب الأمثال اللاحقة سيما المجامع باجتهادها الموسوعي إلى دسِّ حلقاتٍ خبرية لم تكن موجودةً في كتب مرحلة دراستنا، لانفتاح هذا النسق واستعداده للتحوّل إلى منظومة حكايات عمادها صيغ الأمثال- إننا نكون مع تراتبية الأحداث إزاء أسبقية نصية تنظم فيها الإخبار تحت ظل شخصية معينة كما في نص المثل رقم (62) حيث تتوزع منظومته الخبريّة المكوّنة من خمسة أخبار إلى ثلاث حلقات زمنية على النحو الآتي:
حلقة(1) ... ... 1.خبر لقمان مع زوجته براقش: على أهلها تجني براقش.
... ... ... 2.خبره مع أخيه وولادة لقيم: هذا حِرٌّ معروف
... ... ... 3.خبره مع لقيم ... ... السير بالليل والسير بالنهار
... ... ... ... ... ... لقيم يسبق لقمان: ذنب صحر...
حلقة(2) ... ... 4.خبر آخر مع لقيم ... الغزو في البرد
... ... ... ... ... ... بعد أن شب لقيم: كأن برحل باتت
... ... ... ... ... ... ... ... وبرحلها باتت لقمم
... ... ... ... ... ... سارا فأغارا فأصابا إبلاً
... ... ... ... ... ... أشبه شرج شرجاً لو أن أسيمرا
حلقة(3) ... ... 5.خبره مع ابن بيض التاجر: سدَّ ابن بيض الطريق.(1/204)
تتباين الحلقات تبعاً لمحمول أخبارها فيتسع أفق زمنها أو يضيق من دون أن تحقق صلةً معنويةً ملموسةً بين أخبار كل حلقة من حلقاتها، إن عنقودية الأحداث تتطلّب نوعاً من التوالي الزمني لوقائع كل حلقة، كما تتطلب نوعاً من الانفصال، فكل حلقة من الحلقات الثلاث تنغلق على تفاصيل وقائعها لتنتظم بعدئذ في (تراتب) زمني مع الحلقات الأُخر فتبدو شخصيات مثل: براقش، لقيم، ابن بيض التاجر، سمات لحلقات متعينة مركزها (لقمان بن عاد) الذي يقوم التدرج الزمني للنص على أساس بيان تجاربه، على عكس النصوص التي تفيد من أيام العرب ومجريات وقائعها، فهي تعتمد على رصيد جماعي من التجارب وإن انضوت جميعها تحت مسمى معين (شخصية: كليب، جذيمة، داحس، حليمة، أو موقع: القسطل، عين إباغ، ذي حُسَّى، الفروق) بما يُهيء مجالاً أنسب لتتابع النصوص باعتماد وحداتها [السبب ـ النتيجة] نظام حركة وأسلوب تدرّج زمني للأحداث حيث يتماهى الزمني مع الموضوعي فيغدو الثاني دليلاً على حضور الأول، وقد يغدو سببٌ واحدٌ يُقدَّم في مفتتح النص مسؤولاً عن عدد كبير من النتائج التي يجتهد النص في التقاط اشتجارها بين شخصيات تتوالد تبعاً لدوران عجلة الأحداث، الأمر الذي منح هذا القسم من النصوص إمكانية التنويع الزمني بما يُلمس على بعضها من تقديم وتأخير يحقق السرد فيه واحداً من تغيّراته المهمة وهو يعمل على خلخلة نسق بناء الزمان كما في النص المثل رقم (60) الذي يمكن ملاحظة انتظام حلقاته الزمنية على النحو الآتي:
... ... ... 1. خبر ابنة الزباء.
حلقة (-1) ... 2. خبر حصارها دومة الجندل: تمرَّد مارد وعزَّ الأبلق.
... ... ... 3. خبر جذيمة الأبرش وطلبه الزواج منها: لا يُطاع لقصير رأي.
حلقة(2) ... ... 4. خبر مضي جذيمه إليها: وإنها لا يُشق غبارُها
... ... ... ... ... ... ببقة صُرم الأمر
... ... ... ... ... ... أشوار عروسٍ ترى
... ... ... ... ... ... لا يحزنك دمٌ هراقه أَهله
حلقة (3) ... ... 5. خبر تجاه قصير: يا ضُلَّ ما تجري به العصا.(1/205)
... ... ... 6. خبر عمرو بن عدي اللخمي خليفة جذيمة وطلب الثأر من ابنة الزباء.
... ... ... ... ... ... خير ما جاءت به العصا
... ... ... ... ... ... أمنع من عقاب الجو
حلقة(4) ... ... ... ... ... فأعني وخلاك ذم
... ... ... ... ... لامر ما جدع قصير أنفه
... ... ... ... ... ... بيدي لا بيديك يا عمر
... ... 7. خبر إعجاب جذيمة بعدي بن نصر وتوليته كأسه وإعجاب رقاش أخت جذيمة به.
... ... 8. خبر ولادة رقاش غلاماً سمته عمراً.
حلقة(1) ... ... 9. خبر استطارة الجن لعمرو: أُعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً.
... ... ... 10. خبر عودة عمرو لأمه: شبَّ عمرو عن الطوق
... ... ... ... وإقامته مع خاله إلى أن خرج إلى ابنه الزباء.(1/206)
تنتظم زمنية النص المركزية عبر الحلقات (2، 3، 4) وهي تُمثّل مجموع أخبار جذيمة الأبرش في علاقته بالزّبّاء (أو ابنتها) وطلبه الزواج منها حتى مقتله في الخبر رقم (6) وظهور شخصية عمرو بن عدي اللخمي خليفةً له ومطالباً بثأره من ابنه الزّبّاء. مما يتطلّب الملاحظة هو التأطير الزمني للحلقات السابقة بحلقتي ابتداء واختتام تحملان الرقمين (-1) (1)، إذ إن نص المثل يُفتتح بمنظومة خبريّة صغرى تضم بعضاً من أخبار الزّبّاء التي يختلط فيها التاريخ بالأسطورة(1)
__________
(1) ينظر: د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: 1/42..(1/207)
في إعداد النص لوقائع الأخبار اللاحقة التي تغيب فيها الملامح التأريخية لشخصية الزّبّاء وتُستحضر السمات الأسطورية، إن الحلقة (-1) تعمل على التقاط شذرات من زمن خارجي لا يمتُّ إلى حدث النص المركزي بصلة مباشرة وإن عمل على تجسيد شخصية (الزّبّاء) وتهيئتها لدخول نص المثل بأحداث عظيمة (شق الفرات، جعل الأنفاق بين مدينتها، الغزو والقتال، حصار مارد حصن دومة الجندل، والأبلق حصن تيماء) لتتسلسل الحلقات بعدئذ تبعاً لإزمان أخبارها مؤثِرةً خلق المجال الأنسب لانتظام سرديتها فلا تكتفي زمنياً بأن يسبق الأول فيها الثاني، بل تُحمِّل السابقَ بذرةَ اللاحقِ معمقةً الوشائج بين الحلقات وصولاً إلى الحلقة رقم (1) ـ التي تُعدُّ نصيّاً الحلقة رقم (5) ـ وفيها يتم الرجوع إلى ماضٍ لم يُذكر من قبل، لنكون بذلك إزاء نوعين من الاسترجاع، الأول استرجاع خارج نصي يتضمن استعادة معلومات عن شخصية (الزّبّاء) لا تتعلق على نحو مباشر بأحداث النص، وهي ترتبط على الرغم من ذلك بصيغة مثلها (تمرَّد مارد وعزَّ الأبلق)، والثاني استرجاع داخل نصي يُستعاد فيه ما أُسقط سابقاً من أخبار شخصية (عمرو بن عدي اللخمي) ومنحه من ظلال الأسطورة بعضاً مما مُنحت (الزّبّاء) فقد استطارته الجن فلم يُحْسَنْ، ربما ليعادل في حضوره حضور (الزّبّاء) التي ظل زمنُ أخبارها مترجحاً بين حقيقة وخيال.
المكان في نصوص الأمثال:(1/208)
عالجنا في القسم السابق من الفصل موضوعة (الزمان) في صيغ الأمثال ونصوصها في محاولة للنظر إلى قابلية هذه النصوص على تنظيم عناصرها وهي تستعيد عبر منظومتها الخبريّة تماسَ صيغها مع تجارب معيّنة، مدركين أهمية (الزمان) وخصوصية إسهامه في وعي النصوص لعوالم تجاربها من جهة، وفي إسهامه، عنصراً مؤثراً، بتشكيل نسائجها السردية من جهة أخرى. وإذا كانت معالجتنا لموضوعة (الزمان) في نصوص الأمثال قد انطوت على رغبةٍ مفادها إضاءة دوره في تجلية العملية المنتجة للنصوص، فإن هذه المعالجة تظل قاصرةً عن الإحاطة بدور عنصر معيّن في حال توجهها لعزل هذا العنصر عن سائر العناصر التي تَنتُج بتواشجها نسائجَ النصوص، لا سيما العناصر التي تُحقق عبر تلاحمها بعناصر مجاورة مجالاً واضح الأثر في تأمين الخصوصية السرديّة لنصوص الأمثال، والزمان من بين هذه العناصر بما يُقيمه مع المكان من صلةٍ تبدو بأشد صورها تقارباً في نصوص الأمثال وهما يحققان حضوراً مؤثراً (للفضاء) الذي يمثل فاعليةَ اتصال بين العنصرين. إن المعاينة المنفصلة لكل منهما إجراء تقترحه الدراسة في سبيل استكناه إمكانية كل عنصر على حدة ومقدار استجابته لفاعلية الترابط والاتصال بينهما بما يدفع الفضاء للانفتاح عبر وعي هذين العنصرين و((تبعاً لعوامل عدة تتصل بالرؤيا الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب.. ليشمل أشياءً متباينةً ومتعددةً))(1) تكون عماد عالم الأمثال ومظهر تجليه. وإذا كانت دراسة المكان قد اتسعت في ميدان النقد وتحليل النصوص منذ زمن ليس بالبعيد محاولةً رصد شعريته وبيان مدى إسهامه في تشكيل نصوص الأدب، مستفيدةً من مشارب واتجاهات مختلفة، فإن دراستنا للمكان في نصوص الأمثال تتأسس على النقطتين الآتيتين:
__________
(1) منيب البوريمي، الفضاء الروائي في ((الغربة))/ الإطار والدلالة: 21.(1/209)
الأولى: نظراً لما تمثله مرحلةُ إنجاز نصوص الأمثال بين مراحل السرد العربي من أوليّة فنية لم تخضع خلالها لتعقيد نسائجها عبر بلورة مختلف عناصر العملية السردية، فإن المكان فيها لا يتطلب، في الغالب، حضوراً خاصاً، قائماً بذاته أو متصلاً بعناصر أخرى، ولا يؤدي مهماتٍ تزيينيةً أو تفسيريةً تُقيمها أنشطة وصفية في مقاطع مستقلة إلا في مواقع محددة تعتمدها نصوص (أمثال الشخصيات) على نحو خاص، إذ يُكتفى في سبيل تجليته بإشارات وتلميحات تدخل في لُحمة النص وتُسهم على نحو مباشر بخلق فضاء أحداثه.
الثانية: تُسهم الفاعليةُ الاستعاريةُ للأمثال عبر خصوصية علاقتها بأوساط أحداثها/ مراجعها الواقعية، بتوجيه إشاراتها المكانية، على الرغم من عدم اختصاصها في غالب الأحيان بمقاطع مستقلة، توجيهاً قادراً على كشف ((الطابع الثقافي العام الغالب))(1) في عصر وقوع أحداثها، بما تسميه (جوليا كرستيفا) (إديولوجيم) العصر (idiologéme) ليقوم التعبيرُ عن المكان، عندئذ، على ممارسة سيميائية ((تستوعبها أو تُحيل عليها، في فضاء ممارسة سيميائية خارجية)(2).
__________
(1) د. حميد لحميداني، بنية النص السردي: 25.
(2) د. سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: 42.(1/210)
لم يكن المكان، على الرغم من إشارية حضوره، خالياً من التضاريس، لا يُشير لآثار الوقائع وظلال الدهر والإنسان، بل إن للنصوص من القدرة على تنويع فضاءاتها ما يدفعها للانتقال بأحداثها بين أماكن مختلفة: صحراوات وحواضر وأودية وجزائر، وإقامة ما يمكن من الصلة بين المكان وتغيّرات الأحداث وتحولاتها، وهي في سبيل ذلك لا تقف عند حدود المواقع العامة مكتفيةً بسماتها الجغرافية بل تسعى لشمول تفاصيلها المكانية بإشاراتها بما يتوافق وفاعلية الحدث نفسه ويُسهم بكشف جدل العلاقة بين إنسان المثل ومحيط حياته بمختلف مكوناته: السرحات والثنيات والعيون والأنفاق والأنهار والجبال والحصون، إننا في أحيان كثيرة نكون إزاء (إشارة مكانية) تُلبّي حاجةَ النص وتُشير بدرجة أو بأخرى لخصائص عالمه، وهي تعتمد في سبيل ذلك تنويعاً سردياً في التعامل مع المكان مضفيةً على إشاراته أكثر ما يمكن من الخصوصية والحياة، فلا تتعامل نصوص الأمثال جميعها مع موضوعة المكان بطريقة واحدة وأسلوب متشابه بل تغير بين مجموعة من النصوص وأخرى أساليب احتضانها للمفردة المكانية تبعاً لعلاقتها بالأحداث ومستوى تعبيرها عن محيطها، وهي تخضع لطريقتين أساسيتين تتمايزان تبعاً لدرجة حضور المكان في كل منهما بين التعبير المباشر والتعبير غير المباشر عنه ويُلاحظ على الطريقة الأخيرة انقسام نصوصها في تعيين محيط أحداثها بين نصوص محددةٍ مكانياً وأخرى يكون المكان فيها عاماً لا يخضع لتشخيص أو تحديد.
1ـ التعبير المباشر عن المكان:(1/211)
يُقدِّم كتاب المفضل الضبي (أمثال العرب) نماذجه في التعبير المباشر عن المكان عبر اهتمامه بلفظة (مكان) على نحو خاص، كأنه يفصل من بين محيط وقائعه موقعاً خاصاً يمثل حيّز الواقعة ومركز أحداثها، وهو على الرغم من معالجته العامة لمكان فسيح تتصل عبر متتاليات أحداثه وحدات مكانية مختلفة يعمل على تخصيص موضع معيّن يكون مركزَ الفعل ووسط تجسده كما في الأمثلة الآتية:
* مرا على سرحة(1) بمكان فقال له الحارث: أترى هذا المكان (رقم المثل 1 ص47)
* فقال لأصحابه: كونوا بمكان كذا وكذا حتى آتي أهل هذا البيت (رقم المثل 13 ص63)
* إن مفتاح القيد مدفون في مذود الفرس بمكان كذا وكذا (رقم المثل 17 ص83)
* فما أ ظلم لقمان وهو بمكان يقال له شرج ـ وهو اليوم ماء لبني عبس.. (رقم المثل 62 ص154)
* حتى إذا كنت بثينة بمكان كذا وكذا فاقطعها بأهلك ومالك (رقم المثل 62 ص155)
بما يفيد (التعيين) في سعي النصوص لتحديد مكان على وجه التفصيل يُلاحظ تقديمه مختصراً بجملة تتكرر في مواضع متعددة (بمكان كذا وكذا) مع تغيّر المناسبة واختلاف الحدث، وقد يتوجّه النص لذكر مكان باسمه أو بعلامته (شرج، سرحة) ملحقاً بلفظ (مكان)، وقد يُخرق زمان النص تنبيهاً على صفة الموضع الجديدة بما يتقاطع مع ماضي الواقعة المعتمدة في نص المثل (وهو اليوم ماء لبني عبس)، إن لفظة مكان لا تختص بتوجّه معيّنٍ معلوم أو غير معلوم، ولا تعتمد في استخداماتها جميعها إضاءة موضع جغرافي بل تنقسم بحسب الوجهين الآتيين موسعةً من اللفظة ومساحة استخدامها:
سرحة ...
شرج ... (أ)
ثنية
مكان كذا وكذا (ب)
في مذود الفرس بمكان كذا وكذا
__________
(1) السرحة، السريحة: الطريقة الظاهرة الضيقة من الأرض وهي أكثر نبتاً وشجراً مما حولها.(1/212)
إن ما يلاحظ على القسمين (أ) و(ب) هو اتفاقهما في التعيين النصي لمكان الحدث والتنبيه على موقع منه دون سواه، سواء ذُكر هذا الموقع على نحو مباشر كما في (أ) أو ذُكر على وجه الاختصار كما في (ب)، فإن ما يحدث في القسمين هو اكتمال معرفة الشخصية (داخل النص) بالمكان، فالنصوص تُقدَّم عبر القسمين، فضلاً عن إمكانية الاختزال، أنموذجاً في التنويع السردي الذي لا يحتفظ معه قسما تقديم المكان بأهمية متساوية، فإن نماذج القسم (ب) تظل مبهمةً إذا ما نُظر لها من موقع (خارج النص) وهي لا تساوي من حيث معلومية الموقع وسماته الجغرافية القسم (أ)، لتفيدنا مثل هذه الملاحظة في الإشارة لإمكانية التنويع والتغيير التي تنطوي عليها مختلف وحدات نصوص الأمثال وعناصرها، وهو ما لا يقف عند الوحدات الكبرى منها لما تتمتع به من دور كما مرَّ بنا في فصل بناء الحدث، بل يؤكد حضوره داخل الوحدات والعناصر بغض النظر عن أهمية دورها وما تشغله من مساحة داخل النص، لتكشف واحدةً من السمات الأساسية لنصوص الأمثال في سعيها لتنويع نسائجها السرديّة التي يمثل التجسيد المكاني بتباين حضوره داخل النصوص صورةً من صورها المهمة.
2ـ التعبير غير المباشر عن المكان:
تختلف هذه الطريقة عن سابقتها في كونها لا تشير لمكانية الموقع أو المحيط بل تسعى إلى استثمار إشارية حضوره مؤثِرةً دمجها في نسيج النص وإقامة أوضح صلة لها مع باقي وحدات النص وعناصره، إن مهمة التبليغ المكاني تبدو مع التعبير غير المباشر أكثر ارتفاعاً وأشد أهمية من الطريقة الأولى لما يُتوخى فيها من أساليب تُسهم بتعددها واختلاف صورها بتوسيع حضور المكان في نص المثل، وهي تعتمد قسمين أساسيين يقومان على تحديد المكان أو عدمه هما:
أ ـ عدم التحديد المكاني.
ب ـ التحديد المكاني.(1/213)
يتميّز القسم الأول (عدم التحديد المكاني) بشموله وسعة حضوره في نصوص أمثال المفضل الضبي وهي تتوجّه في الغالب إلى تأشير أماكن أحداثها عبر ما يُلمس فيها من تغيّرات الأفعال التي تقوم بالأساس على التحول والانتقال، فلا يخضع المكان في هذا القسم لموجّهات وصفية تستقصي عناصره وتكشف تفاصيله بقدر امتزاجه بحركة السرد ونظام أفعاله، لكن المكان على الرغم من ذلك يحظى بانتباهة موضوعية (لا وصفية) يكون بمقدورها الإشارة إلى أبعاده الكلية، وبيان سماته العامة التي تطمح في معظم الأحوال لاستشراف محيط الحدث من حيث السعة والضيق، أو السهولة والصعوبة، أو الجدب والخصوبة بما يرتبط على نحو مباشر بالحدث ونظام تشكّله كما في المتتالية الأولى من المثل رقم (1) على سبيل الملاحظة:
(((1/214)
زعموا أن ضبّة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن معد وكان له إبنان يقال لأحدهما سعد والآخر سُعَيد، وأن إبل ضبّة نفرت تحت الليل وهما معها، فخرجا يطلبانها، فتفرقا في طلبها، فوجدها سعد فجاء بها، وأما سُعَيد فذهب ولم يرجع، فجعل ضبّة يقول بعد ذلك إذ رأى تحت الليل سواداً مقبلاً أسعد أم سُعَيد فذهب قوله مثلاً))(1)، تنشغل المتتالية، والنص من بعدها، انشغالاً واضحاً بالمكان يكون عماده ما يتحقق من صلة بين المكان وتغيّرات الأحداث: الخروج والنفور والرجوع وعدمه، فالعلاقة بين الوحدات الأربع علاقة مكانية تقوم على سعة المساحة التي نفرت عليها الإبل وتفرَّق الأخوان في طلبها حتى غيبتهما تلك السعة في مجهولية حدثها ـ التي يعمل النص على تأجيل المجاهرة بها حتى متتاليته الثانية ـ يجدها الأول ويعود بها فيما يوغل الثاني بعيداً في مجهول النص ولا يعود، لتقوم الصيغةُ بعدئذ على مساءلة القادم من بعيد هذه المرة (أسعد أم سُعَيد؟) والمكان في ذلك كله يؤكد ارتباطاً صميماً مع الفعل إذ إنه لا يتجلى من دونه، إن الفعل يمثل بطريقة ما (صفة) المكان وبيان تجسده، فإن تراتبية الأفعال في المتتالية تنظم نوعاً من التلازم في الإشارة لمكان وقوع أحداثها:
نفرت
خرجا
تفرقا
وجدها سعد ( جاء بها
ذهب سُعَيد ( لم يرجع
وهي تشير، من ضمن ما تشير إليه، إلى (نوعية) غير مصرح بها للمكان بما يُسهم على نحو جلي ببناء الحدث وكشف تحولاته، الأمر الذي تتساوى فيه الأماكن على الرغم مما بينها من تباينات مظهرية أو اختلاف في مستوى ارتباطها بالحدث كما في الأمثلة الآتية:
المثل رقم (9): انطلق به سعد حتى إذا كان بباب بيته..
المثل رقم (11): وجاء الصديق كعادته فوجد الزوج مضطجعاً بفناء البيت..
المثل رقم (15): فلم يزل ذلك الملك بمجاشع حتى أتاه بنهشل، فأدخله عليه وأجلَّه..
__________
(1) المفضل الضبي، أمثال العرب: 47.(1/215)
المثل رقم (33): زعموا أن قوماً كانوا في جزيرة من جزائر البحر في الدهر الأول ودونها خليج..
المثل رقم (88): زعموا أن أخوين كانا فيما مضى في إبل لهما فأجدبت بلادهما، وكان قريباً منهما واد فيه حية قد حمته من كل أحد..
تلاحظ عمومية موقع الحدث بما يتجاوز حضوره المجسَّد في أفق النص، لا فرق في ذلك بين بيت ومجلس ملك وجزيرة وواد إلا ما يكون بين المجرّدات من تمايز واختلاف، إنها تُسهم جميعها بتعضيد الحدث بدرجة متساوية بوصفها حيزاً لوقوعه أو مجالاً يجترحه النص لتحقيق تمثل سردي أنسب لوقائع صيَغهِ، لكننا نجد في أمثال الشخصيات بشكل خاص تحولاً في التعامل مع المكان، وتبايناً في الكيفية التي يُشكَّل بها حضوره داخل النصوص، فتبدو هذه النصوص صورةً لتواصل قسمي الحضور المكاني المحدد منه وغير المحدد، وسمةً لقياس التعامل النَصي مع المكان وهو يقترب من معالجة تأريخيته محاولاً الإحاطة بتفاصيله التي تؤدي فضلاً عن دورها التزييني مهمةً تفسيريةً ترتبط إلى حد بعيد بالمكانة الاجتماعية للشخصية ودرجة وعيها لخصوصية محيطها كما في النصوص التي تقوم على أحداث ترتبط بدرجة أو بأخرى بـ (النعمان بن المنذر) ملك الحيرة، وتتجسد في بلاطه:
المثل رقم (6): كان عند النعمان..
المثل رقم (14): وكان النعمان بادياً..
... وكان النعمان يجلس بالهاجرة في ظل سرادقه..
المثل رقم (68): اتخذ مجلساً قريباً من قصره بالحيرة، فجعل تحته طاقات
... وجصصه فكان أبيض، وكان المجلس يسمى ضاحكاً لبياضه.(1/216)
يُلاحظ، بدءاً، مستوى من التدرّج في التعامل مع المكان يبدأ من المكان العام غير المحدد الذي يُستنبط استنباطاً، فإن شخصيّة تكون عند (النعمان) تقتضي تصوراً لبلاط يتناسب مع أهمية هذا الملك وسعة سلطته من جانب، ولمظاهر عصره العمرانية من جانب آخر، ليُسهم هذان الجانبان بتنظيم الإشارة المكانية وتوجيه حركتها داخل النص وخارجه، داخل النص عبر تعزيز نظامه السردي، وخارجه عبر إدراك أهمية المرجع التي لا تقوم نصوص الأمثال بغير تأمين صلتها معه، ليشكل النص عبر طرفي الفاعلية ممارسته السيميائية. بيد أننا مع المثل رقم (14) نتقدم خطوة في استبصار علاقة معلومة بالمكان، فللملك عادات (مكانيّة) منها الخروج إلى البادية، ونصب السرادق، أما في المثل رقم (68) فيحدث تحولٌ كامل نحو القسم الثاني: التحديد المكاني، إذ يُلاحظ اهتمام النص بالموقع والبناء الهندسي واللون فضلاً عن التسمية، إن المكان يُحاط مع مفتتح نص المثل بعناية يُضاء فيها من (شجرة الوصف)(1) الوضع والصفات والعناصر، فيُدعَم الحضور المكاني بحضور آخر (معنوي9 يكشف موقع الشخصية ويُعلن عن أهميتها:
مجلس النعمان
الموضع ... ... ... ... الصفات ... ... العناصر
(مكان) ... ... ... ... (الشك، اللون) ... ... (المكونات)
قريباً من قصره بالحيرة ... ... مجصص، أبيض ... ... تحته طاقات
__________
(1) ينظر: د. سيزا قاسم، بناء الرواية: 88
... ومحمد سويرتي، النقد البنيوي والنص الروائي: 2/96.(1/217)
إن اعتماد المكان كما في مفتتح النص يُسهم بتحديد موصوفاته والإلماع لدوره في حركة الأحداث فهو يجيب عبر (الوضع) على السؤالية (متى وأين)، أما عبر الصفات والهيئات فيعتمد اتصاف الشيء بصفات تميّزه عن غيره، وينتقل عبر ذكر (العناصر) إلى مكوناته الصغرى التي أسمتها د. سيزا قاسم ((الموصوفات الثانوية الداخلية))(1)، والنص عبر مباشرته بإضاءة مكانه وتلمّس تفاصيله يكون قد اختار مدخلاً جمالياً لموضوعه الذي يقوم على بيان سلطة (النعمان بن المنذر) وعزَّه وتمايزه إلى الدرجة التي يَستحضِرُ فيها بعضاً من شعر لبيد بن ربيعة والأعشى في ذكر النعمان وفضله. وإذا كان المثل رقم
(68) يقوم على تجلية مكان محدد يمثل موقع الحدث ومركز تجسده فإن من نصوص الأمثال ما يقوم على تعدد الأماكن بتعدد أحداثه وتباين متتاليته كما في نص المثل (87)، فهو على الرغم من اعتماد خبرين أساسيين يكونان سلسلة انتقالات أحداثه بين طرفي عُمْر الشخصية (طرفة بن العبد) يعتمد عدداً من الوقفات المكانية بين خبر وآخر، ولعل من المهم ملاحظة تباين حضور المكان في كل من الخبرين، ففي الوقت الذي يكتفي الخبر الأول بمكان واحد يمتد الخبر الثاني بانتقالات أحداثه إلى أكثر من خمسة أماكن يُسهم كل منها ببلورة عنصر جديد يتواصل عبره مجرى الحدث وصولاً لاكتمال متتاليته الخبريّة، كأن النص حين يُقدِّم موقعاً مكانياً واحداً في خبره الأول يكتفي باسترجاع حدث يقوم مقام النبوءة التي يتوجّه الخبر الثاني بتتابع أحداثه وتعدد أماكنه لرصد تفاصيلها كما في التسلسل الآتي:
المتلمس يقف ذات يوم على (مجلس لبني قيس بن ثعلبة)
خبر (1)
المكان: مجلس بني قيس ... طرفة يُقبل على (المجلس)
ـ ويل لهذا من هذا.
خبر(2) ... المتلمس وطرفة يقدمان على عمرو بن المنذر فيجعلهما
الأماكن ... في صحابة قابوس
بلاط عمرو بن المنذر ... قابوس شاب كثير اللهو والصيد
__________
(1) د. سيزا قاسم، بناء الرواية: 88.(1/218)
موقع قابوس ... طرفة يهجو قابوساً
الحمّام ... عبد عمرو ابن عم طرفة ينشد عمراً هجاء طرفة (في الحمّام)
هجر ... عمر يكتب إلى عامله على (هجر) بقتل المتلمس وطرفة
نهر بالحيرة ... يمران على (نهر بالحيرة)
جفنة ... المتلمس يلقي كتابه في الماء ويأبى طرفة حتى أتى به عامل عمر فقتله
المتلمس يلحق بملوك جفنة بالشام.
وإذا كنا قد أشرنا لتميز المكان ووضوحه في نصوص أمثال الشخصيات فإن الذروة في التعامل مع المكان ووضوحه في نصوص أمثال الشخصيات فإن الذروة في التعامل مع المكان في كتاب (أمثال العرب) تبدو جليةً في نص (ابنة الزّبّاء) الذي يكاد يكون نصاً مكانياً بامتياز، إذ تتجلى فيه أكثر الصلات وضوحاً بين الشخصية والمكان من جهة، وبين الشخصية والحدث من جهة أخرى فيفيد نمط العلاقة الأول (الشخصية ( المكان) بخلق مجال خاص لا يقوم على صلة حاضرة يعتمدها النص في سلسلة متتالياته حسب بل يتوجّه للإحاطة بما يُمكن من ماضي المكان أو يمتد لمستقبله (وهو يمثل حاضر رواية النص)، ليكتمل النمط الثاني من العلاقة: (الشخصية ( الحدث) بما يُنجزه الأول من تجسيد فيبدو الحدث عندئذ عبارةً عن مجموعة من النقلات المكانية التي تؤمِّن، بما يقوم بين وحداتها من نبوءة ورصد، أعمق اتصال ممكن.(1/219)
إن الشخصية في نص المثل رقم (60) تتجسد عبر مجموعة من العلاقات المكانية التي تنضج وتتضح ملامحها عبر تماسها معها فيكشف موقع الشخصية مثلما يلمع لتأريخيتيها، فإن شخصيتي (ابنة الزّبّاء) و(جذيمة الأبرش) تُقدَّمان بالاعتماد على هيمنة مكانية لا تكتفي بتحديد موقع جغرافي عام بل تُسهم بمعالجة خاصة تميّز كل شخصية منهما (ابنة الزّبّاء: مدائنها على الفرات، شقت الفرات، جعلت أنفاقاً بين مدينتها، حاصرت مارداً والأبلق) (جذيمة الأبرش: ملك الحيرة وما حولها، ينزل الأنبار)، إن التقديم المكاني للشخصية يُقيم صلةً واضحةً بين سوابق الحدث ولواحقه فهو يرسم وحداتٍ مكانيةً تُسهم إلى حد بعيد بتمتين الوشائج السردية سواء ما استُثمر منها بتطوير حدث معيّن أو ما اعتُمد في إضاءة صيغة مثل، الأمر الذي يمكن ملاحظته في المجموعة الأولى من أخبار نص المثل (من الخبر رقم (1) إلى الخبر رقم (6) التي تبدأ برصد أهمية ابنة الزّبّاء، وذكر بعض أفعالها الجِسام وتنتهي بحصار (عمرو بن عدي اللخمي) لها وانتحارها، لنكون داخل نص المثل إزاء حلقات مكانية تتصل مكونةً سلسلةً مديدةً، واسعة المساحة، تستمد كل حلقة منها مركزها من حضور شخصية تتجسد الحلقة بالتقاط نشاطها المكاني الذي يُميّزها عن شخصية أخرى ويسمح لها بالانتقال والتركيز من أماكن (خارجية) فسيحة ذوات سمات جغرافية متعددة إلى أماكن داخلية محددة المساحة ذوات سمات تكشف على نحو مباشر عن أهداف الحدث واختلاف محاوره كما في حلقتي (ابنة الزباء) الأوليين التي يسعى النص عبرها للإشارة إلى أهمية الشخصية وسعة نفوذها، والثانية التي ينحرف بها متابعاً دخول (جذيمة الأبرش) لقصرها وصولاً إلى مفردات مكانية مثل السرير والنطع تختتم حلقةً وتُسهم بتغيير مجرى السرد، كما في المخطط الآتي:
... ... ... ... أ. ملكة على الجزيرة وقنسرين
... ... ... ... ب. مدائنها على شط الفرات من الجانب الغربي والشرقي
((1/220)
1) (إبنة الزبّاء) ... ... (وهي قائمة اليوم خربة)
... ... ... ... ج. وفيما يُذكر قد شقت الفرات
... ... ... ... د. وجعلت (أنفاقاً) بين مدينتها
... ... ... ... هـ. حاصرت مارداً فامتنع منها ... تمرد مارد وعزَّ الأبلق
... ... ... ... ... حاصرت الأبلق فامتنع منها
... ... ... ... أ. ملك على الحيرة وما حولها
(2)(جذيمة الأبرش ... ... ب. ينزل الأنبار
... ... ... ... ج. حتى إذا كان بمكان يقال له (البقة)
... ... ... ... موكب
... ... ... ... باب المدينة (ببقة صُرم الأمر)
(3) (إبنة الزّبّاء) ... ... قصر
... ... ... ... سرير
... ... ... ... نطع
... ... ... ... قصر الزّبّاء
... ... (4) ... ... العراق
(عمرو بن عدي اللخمي) ... اكتشاف موضع الأنفاق
... ... (قصير) ... ... دخول المدينة
... ... ... ... انتحار الزباء
يعتني النص بالمكان أسوة بنصوص الشخصيات، متميزاً عنها بعدم اكتفائه بالملاحظة المكانية العامة، وباختلاف موقع كل من شخصيتيه الرئيسيتين مما منحه إمكانيةَ الشمول والاتساع في المكان مثلما في الزمان، فالشخصية البطولية ذات الأثر الأسطوري تطبع الزمان بطابعها بما تُنجز من أفعال مميّزة مثلما تؤثر على المكان فيغدو صورةً لقوة إرادتها، ومظهراً من مظاهرها؛ إن المكان يرتفع في نصوص القسم الأخير، على الرغم من إشاريّة حضوره ليمثل أنموذجاً كنائياً(1) يملك أن يُعبِّر عن قدرة النصوص على الموازنة بين تطلعها النَصّي ورصدها لعوالم وقائعها، فيُلاحظ اهتمامها بعناصرها السرديّة وعنايتها بمواقعها النصيّة وهي تُعنى في الوقت نفسه بمراجع صيغ أمثالها.
***
الخاتمة ونتائج البحث
ـ سمات العناصر السردية.
ـ علاقة نصوص الأمثال بـ (فن الخبر).
ـ أثر حركة السياق الثقافي في نصوص الأمثال.
__________
(1) ينظر: محمد سويرتي، النقد البنيوي والنص الروائي: 2/ 106.(1/221)
توجّهت الدراسة في طموحها بتأمل مسالك مضافة من ثراء أدبنا العربي، للتصدي إلى تراث الأمثال وهي تُشكّل سِفراً مهماً من أَسفار العربيّة، امتدت معالجته والتأليف فيه أكثر من عشرة قرون، أسهم فيها خيرة علماء الأمة وأدبائها، فكان بحق مرصداً من مراصد الحياة، مثلما قدَّم في غنى مراحل تأليفه بانتقالها من التدوين العام إلى التنظيم الموسوعي والمعجمي صورةً للعقل العربي وهو يلتقط سمات كل عصر وملامحه المنهجيّة ليُعيد من خلالها تنظيم رصيد الأمثال، وقراءتها قراءةً جديدةً، وهو وإن وُصِم بالشكِّ ومجانبة الحقيقة يظل أشدَّ وجوه الأدب صلةً بالإنسان وهو يؤسس عبر تجاربه مع أخيه الإنسان نمطاً من الحياة، يكون بمستطاع الأمثال القبض على جوهره وكشف تفرده، مرتفعةً به من العارض واليومي الزائل إلى ما يتوهج في الحس والشعور على امتداد التجارب والأزمان.(1/222)
وقد سعت الدراسة لاستقراء القابلية السرديّة في كتب الأمثال، والنظر إلى مختلف تشكيلاتها، من خلال تأمل عناصر نصوصها وهي تلتحم مكونةً مجالها الحكائي الخاص تحت لافتةٍ معلومةٍ هي صيغة المثل: مؤداه اللفظي الذي لقي من العناية في تراثنا النقدي والبلاغي ما أسهم بعزل وتغييب كل ما عداه من أركان النصوص، مثلما ساعد على تحجيم النظرة (النوعيّة) للأمثال، وربما إلغائها، ودفعها على الدوام جهة الدرس اللغوي، أو البحث المقارن؛ وإذا كانت الأمثال قد اعتُمدت في دراسات منفردة فإنما لمعالجة ما عداها من جوانب النشاط الإنساني وهي تصادر، بجملة أحد الباحثيين، (دور الأيديولوجيا وتدخل في عمق الأنا الأعلى للفرد وللجماعة فيفعل فيهما فعلها البليغ، وتوجّههما كما تشاء))(1)،
__________
(1) د, محمد توفيق أبو علي، الأمثال العربية والعصر الجاهلي: 7..(1/223)
فتسعى هذه الدراسات لالتقاط ما تنمُّ عنه الأمثال واكتشاف ما تُشير إليه، وتظل هي بمكونات نصوصها، ووحداتها خارج مجال البحث والمعاينة، تنتظر قبل الشروع بالدراسة محاولةً تبدو أكثر صعوبةً لإدراك حضورها النوعي الذي لا يتشكل إلا عبر النظر في جانبيها الفني والتأريخي، إذ إن دراسة النوع وتحديد مستوى أهميته ترتبط بدرجة مؤثرة بدراسة أشكاله التعبيرية والنظر إلى موقعه بين أنواع السرد العربي التي شهدت دراساتها اتساعاً ملحوظاً، من دون أن تُحمَّل عبر أهداف الدراسة وطموحات الباحثين ما لا طاقة لها عليه، فإن ذلك مما يزيد غربة الأمثال ويُطيل من أمد هجرانها، فإن أسمى صورة ينشدها البحث تتجلى في المعاينة الفنيّة التي تُعيد لجانب مؤثر من جوانب الإبداع العربي حياته، وتؤمِّن مجالاً لاتضاح سماته، وتُسهم بما تحققه من إنجاز في فتح الأفق باتجاه معاينة إرث يملك من الأهمية ما يُعدَّ مشهد الإبداع العربي قاصراً من دونه، لا يغطي مراحل الحياة ولا يُضيء هواجس إنسانها، إذ إن الأدب، أي أدب، لا يؤدي دوره الفاعل في الحياة من دون أن تتصل حلقاته وتُستطلع مجاهله في النثر كما في الشعر، على امتداد عصوره، خصوصاً المبكرة منها، بما تحمله من مشاق وما تتكشف عنه من صعوبات، مثلما يتجسد ذلك على نحو أشد أهمية في أدبنا العربي وهو يُبنى على رصيد من المرويات النثريّة التي عُدَّت مظهراً ثقافياً مميزاً لما تنطوي عليه من جماليات خضع بعضُها لتبدّل السياق الثقافي وعانى وهو يمر، أو ما تبقى منه، من الجاهلية إلى الأعصر الإسلامية، لكننا نظل، على الرغم من ذلك أسيري ما أورده الجاحظ من أن ((ما تكلمت به العربُ من جيّد المنثور، أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يُحفظ من المنثور عُشرُه، ولا ضاع من الموزون عُشْرُه))(1)،
__________
(1) الجاحظ، البيان والتبيين: 1/287..(1/224)
يحدونا التطلّع لدراسة ما بين أيدينا من بقية العشر النثري وهو، لعمري، واسع وثري يفيض بدفق الحياة وعفويتها.
عملت الدراسة في آن واحد من إجراءاتها المنهجية على نقل منظورها من (المثل) إلى (النص) متحولةً بذلك من الجزء إلى الكل بما يسحبه من ظلال حكائية تعاين بالدرجة نفسها من الاهتمام الذي تُعاين به صيغة المثل ضمن حدودها النصيّة، لتنفتح النصوص بمكونات وحداتها الحكائيّة والتفسيريّة والاستشهاديّة على رصيد الخبر العربي مستجيبةً لحركة السياق الثقافي وهو يوجّه النصوص وجهاتٍ مختلفةً، توزع الدراسة بناءً على ذلك نتائجها على نقاط ثلاث، تنظر النقطة الأولى إلى سمات العناصر السرديّة المكوّنة للنصوص في مختلف تشكّلاتها، وتهتم الثانية بملاحظة علاقة النصوص ـ وقد أُضيأت وحداتها وفاعلية عناصرها ـ بفن الخبر العربي، فيما تتوجّه النقطة الثالثة لتَبيّن أَثر حركة السياق الثقافي في نصوص الأمثال.
1. سمات العناصر السرديّة:
حددت الدراسةُ العناصرَ السرديّةَ المكوّنةَ لنصوص الأمثال في أربع عناصر هي، بحسب دورها أو بحسب فاعلية إسهامها في التشكيل السردي:
أ. الإطار: (الاستهلال، والفصل والوصل، والخاتمة).
ب. الأحداث.
ج. الشخصيّة.
د. الفضاء: (الزمان والمكان)(1/225)
يعتمد (الإطار) في كتب الأمثال، بما ينطوي عليه من وحدات، عدداً من الصيغ، يقترح الاستهلال قسماً منها بوصفها نظاماً خاصاً لا يكتفي بالانفتاح على (ما بعده) من وحدات، بل يتعدّى ذلك للإشعار (بما قبله)، فهو يُشير إلى سلسلة رواة لا تحقق حضوراً كاملاً في صيغة الاستهلال الراهنة، ولا تنسحب انسحاباً كلياً، إنما تؤمِّن لصوتها منفذاً مناسباً للامتزاج بصوت الراوي الأخير من دون أن يُسلِّم هذا الراوي بصدق ما تروي، وهو يُلاحَظ بأوضح أشكاله مع صيغة (زعموا أن) في كتاب (المفضّل الضّبّي) التي تكشف فضلاً عن سلسلة الرواة الغائبين، عن (موقع) الصياغة السرديّة لنص المثل بالنظر لما بين (التجربة) و(إعادة إنتاجها) من مسافة تمنح الراوي الأخير فرصة العناية والتوجيه الأدبيين.
شكّل (الفصل والوصل) في كتب الأمثال، وفي كتاب (المفضّل الضّبّي) على نحو خاص انتظاماً سرديّاً تجلى بأوضح صوره بانتقال صيغة الاستهلال من مفتتح نص المثل إلى متنه، للحفاظ على موقع راوي المثل، وعلى الحكم المُتضَمن على ما يُروى، فلا ينتقض ما تتضمنه صيغة (زعموا أن) من حكم، وهي تعمل صيغةَ استهلال بصيغة فصلٍ تتضمن التصديق والتسليم، بل إن الانتظام يكشف في معظم صور (الفصل والوصل) عن عناية سردية تمنح نص المثل إمكانية التشكل تحت معيار واحد ينتظم النصوص ويوحّد حركة عناصرها مانحاً بذلك انشغاله الموضوعي فرصة جمع عدد من صيغ الأمثال في مجالٍ سرديٍ واحد.
تُسهم (الخاتمة) في نصوص الأمثال بإنجاز وظائف تتباين بتباين الكتب واختلاف موجهات تأليفها، وهي تمنح صيغها من العناية ما يشير لخصوصيتها وأهمية دورها في النصوص، فضلاً عن قدرتها على الاستجابة لنظام سردي تُراعى فيه مناسبة المثل وتُعتمد قصته كما في كتاب (المفضّل الضّبّي).(1/226)
تنبثق الخاتمة في نصوص (أمثال العرب) انبثاقاً عضوياً بما يتحقق بينها وبين عناصر المثل ووحداته من صلات، تُعتَمد لتلخيص حدث أو إضاءة جانب من جوانب المثل، وتكون في الغالب نتاج شخصية مشاركة تُسهم بحدث القصة، أو شخصية غير مشاركة تبتعد عن الحدث بمقدار، لكنها تحافظ في قسميها على مستوى من الاتصال مع تجربة المثل لتتمكن من وعي ما يُنتج من هذه التجربة من قيم، أو مواعظ، أو أحكام تُشكل بدورها خاتمةً مناسبةً.
على الرغم من تقليدية أنساق بناء الحدث، والثبات النسبي لحضور (الخبر) داخل نصوص الأمثال، تُلاحظ قدرةُ النصوص على الارتفاع بأساليب صياغة أحداثها مما يؤكد جدارتها بالدرس والمعاينة، حيث يكون بمقدور متتاليتها (التامة، وغير التامة، والمزدوجة) أن تنظم مكوناتها البنيوية بما يشير لخصوصية موضوعاتها، ومناسبات صيغها، عبر إشعار بالفقدان، أو إشعار بتوازن جديد، أو المطالبة به، وبما يوحّد نسائجها السرديّة بالتنويع والأرصاد اللذين يشدان الأخبار إلى بعضها داخل النص، ويوطدان الصلة بينها.
في سمة أساسية من سمات التشكيل السردي لنصوص الأمثال تُلاحظ حيوية (الشخصيّة) وهي تنتقل بين وقائع الصيغ المختلفة مجسدة مظهراً إنسانياً لا يتحدد بصورة ثابتة ولا يستجيب لمعيار واحد حيث تقدم في نماذج متباينة تقتضيها نوعية التجربة ومستوى الإخبار فيها، مما يمنح النصوص فرصةً لتعميق علاقتها بمراجعها ومن ثم تأمين أكثر من حيّز سردي لاحتضان أنواع من الشخصيات يتميّز كل منها بسمات تفيد، ضمن الفضاء العام للنصوص، مما تنطوي عليه الصيغة أو تشعر به من خصائص إنسانية.
تنقسم الشخصيّة، بناءً على ما تقدم، إلى أقسام ثلاثة:(1/227)
ـ تُعدّ في الأول وعلى نحو شبه كلي، إجراءً نصياً تُمثّل فيه واقعةُ صيغة المثل تمثيلاً خيالياً، فيها تفيد نصوص القسمين الأخيرين من مراجع شخصياتها، إذ تموّل نصوص القسم الثاني حضور شخصياتها بما عُرف عنها من سمات تاريخية، خارج نصيّة، إلى الدرجة التي تحقق كل منها (رتبةً) تقوم على ما تتمتع به الشخصيّة من مستوى داخل النص، وما يُكشف عنها من معلومات. فيما تعمد نصوص القسم الثالث إلى تنظيم تجارب نوع من الشخصيات يحمل العديد من التعالقات، الأسطورية في الغالب، التي يصعب معها حصر تاريخيته أو الوقوف على مرجعية معينة له.
يستجيب (الفضاء) في نصوص الأمثال لهيمنة الحدث وفاعلية حضوره مجسداً عبر (الصورة السرديّة) التي تتشكل بالأساس نتيجة التحام الوصف بالسرد في تقديم عنصريهما (الزمان، المكان)، وتُعدّ مسؤولةً إلى حد بعيد عن الصورة المنجزة للفضاء داخل النصوص، حيث تنشغل صيغ الأمثال بالتعبير عن المحتوى الزماني للتجربة الإنسانية وتفيد من خصوصية المكان التي تمنحه تجسداً بسيطاً يشير إلى جانب من وعي (الفضاء) عبر منظومة التجارب والعلاقات التي تنم عنها الصيغ.
2. علاقة نصوص الأمثال بـ (فن الخبر):
يستمد نص المثل أهميته من كونه (فاعلية إخبار) بالدرجة الأساس.
تتشكل نصوص الأمثال بما تُنجزه من (إخبار) يُضيء مساحةً حكائيةً محددةً، وبما تنطوي عليه من تفسير واستشهاد تغدو معها مجتمعةً وحداتٍ ثقافيةً صغرى ترتبط على نحو مباشر بحركة السياق الثقافي، وتوجّه عناصرها توجيهاً يستجيب لإيعاز التأليف ويعمل على تحقيق أهدافه وهو يُقدِّم، في كل مرة، مكوّناً بنيوياً من مكونات النصوص ويؤخر آخر.
حافظ (الخبر) على آلية تشكّله في كتب الأمثال بوصفه مجالاً سردياً مناسباً لاحتضان (صيغة المثل) وكشف مناسبتها، وهو ينقسم تبعاً لسمات إنتاجه إلى نوعين: عام وخاص يمكن ملاحظتهما كما يأتي:
أ ـ خبر عام:(1/228)
يتجلى بما يقيمه من صلة مع الرصيد الحكائي العربي، وعلى نحو خاص مع أشكاله السرديّة الأساسية: أيام العرب، قصص الشخصيات، وقصص الحيوان التي تُعدُّ مرجعاً عاماً لتكوّن نصوص الأمثال وفضاءً واسعاً لتوليد الصيغ، بما يُغذي تجاربها بوقائع لا تتحدد بمساحة المثل ولا تنغلق على مناسبته.
ب ـ خبر خاص:
يتجلى بما تقترحه الصيغة من تجربة تنغلق داخل مساحتها النصية مؤديةً دوراً (تمثيلياً)، تُشخّص فيه واقعة المثل باكتسابها مظهراً حكائياً، تربط معه شخصياتها وأحداثها مباشرة بصيغة المثل، إذ تُعدّ الصيغة في هذه الحالة المسوّغ الموضوعي لإنتاج الخبر.
تؤثر نوعية الخبر على التشكيل السردي لنصوص الأمثال، وتتحكم بفاعلية عناصره، وهي تُعدّ مسؤولةً عن حركة النصوص من (الإخبار) إلى (التخييل) مروراً بـ (التمثيل) الذي يُعتبر (فاعلية تعريف) تؤديها النصوص في سبيل إضاءة واقعة المثل والوقوف على مناسبته، وهي تشغل مع النوع الأول (الخبر العام) مساحةً نصيةً أوسع، مستغرقةً كمّاً أكبر من التفاصيل التي تغذي شبكة أحداثها، مما يتطلّب تشكيلاً سردياً خاصاً يكون بمقدوره تنمية الروابط بين وحدات النصوص وذلك ما يقترحه نظام تأليف يُعدّ سمةً أدبيةً مميزةً، وملمحاً نوعياً كما في نصوص أمثال (المفضّل الضّبّي). فيما يؤثِر النوع الثاني (الخبر الخاص) مؤكداً قابلية النصوص على توفير مجال حكائي مناسب لصيغ الأمثال يمكن تحديده بالسمات الآتية:
أ ـ الاختزال: سمة أساسية يكتفي معها نص المثل بخبر محدد ينبثق وينتهي في حدود تجربة صيغة المثل من خلال:
أولاً: اعتماد خبر واحد.
ثانياً: محدودية أفق الخبر مما يتطلب اقتصاداً في وحداته وتجريداً في مساحته الفضائية.
ثالثاً: اعتماد الحد الأدنى من الشخصيات التي تبدو في معظم الأحيان غير معلومة وغير مسماة.(1/229)
ب ـ التركيز: أو الانشغال التام بتحقيق هدف النص: الإخبار بواقعة المثل والتمثيل لها، مما يُشيرُ إلى جدل العلاقة بين (القصة) و(الصيغة) من جهة الإنتاج:
ـ أن تكون القصةُ قد أنتجت الصيغةَ، وهو مستوى خارجي أو قبل نصي في النظر إلى مهمة إنتاج المثل.
ـ وأن تكون الصيغةُ قد أنتجت القصةَ، أو أعادت، بصورة مناسبة روايتها وهو مستوى داخلي، نصي.
ج ـ الاستقلالية: وهي السمة التي تمنح نصوص الأمثال وبالتالي كتبها (بما يقيمه نص المثل من صلة مع نصوص الأمثال داخل الكتاب الواحد، وتمنح الكتاب الواجد بما يقيمه من صلة مع الكتب الأخرى خلال مراحل التأليف) صورةً بانوراميةً تُعين، إلى حد بعيد، على تقديم تصوّر مناسب عن التشكل النوعي للأمثال العربية.
3. أثر حركة السياق الثقافي في نصوص الأمثال:(1/230)
خضع نص المثل مع حركة السياق الثقافي لتغيرات طالت جانبيه الشكلي والمفهومي، فلم يَعد يعني، في صوره جميعها، قولاً في شيء يشبه قولاً آخر تميّزه دقته واختزاله وبيانه، ويحافظ عبر نظام نصوصه على احتضان (الخبر)، بقدر ما توجّه وجهةً لغويةً تطلبت النظر إلى مصادر العصر الثقافية وأهمها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، في وقت نُظر فيه مع كتاب (المفضّل الضّبّي) إلى الماضي بوصفه فضاءً لإنتاج المثل وإقامة واقعته، مما أضعف دور الحدث في بناء نصوص كتب الأمثال اللاحقة، فإذا كان الحدث في كتاب المفضّل قد استُحضر لإضاءة تجربة المثل وكشف مناسبته كما تَقدَّم، فقد أصبح مع الكتب اللاحقة عنصراً تكميلياً إنما يُعتَمد لتفسير معنى أو للاستشهاد عليه، إذ دفع الانشغال بالدرس اللغوي عدداً من مؤلفي كتب الأمثال لاعتماد طرائق تتوجّه بالأساس للتفسير والاستقصاء أكثر من عنايتها بالجانب القصصي، فلم تخضع وحدات الإطار وحدها لإثر هذا الانشغال وهي تستخدم من الصيغ ما يتضمن صدق السابق وأحقية قوله بالأخذ والمعاينة كما تتضمنه صيغ (قال، ذكر، حدَّث)، بل تأثرت وحدات المثل جميعها بذلك، مغيرةً من تشكيل عناصرها، بما يُشير إلى فهم مختلف لم يقف مع كتابي (أبي فيد) و(أبي فيد) و(أبي عكرمة) داخل حدود المثل بل تعدّاها إلى (صيغة المثل) نفسها وهي تضم الغريب والشاذ من الألفاظ.
***
المصادر والمراجع
ـ القرآن الكريم
المصادر:
ـ أبو عكرمة الضّبّي (ت250هـ)، كتاب الأمثال.
... تحقيق د. رمضان عبد التواب، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق/ 1974م.
ـ أبو عبيد البكري (ت 487هـ)، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال.
... حققه وقدم له د. عبد المجيد عابدين ود. إحسان عباس، جامعة الخرطوم، السودان 1958م.
ـ أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 223هـ)، كتاب الأمثال.
... تحقيق د. عبد المجيد قطامش، دار المأمون للتراث، جامعة الملك عبد العزيز، المملكة العربية السعودية 1980م.(1/231)
ـ أبو علي القالي (ت 356هـ)، كتاب أفعل.
... تقديم وتحقيق محمد الفاضل بن عاشور، مؤسسات عبد الله، تونس 1972م.
ـ أبو فيد مؤرِّج السدوسي (ت 195هـ)، كتاب الأمثال.
... تحقيق د. رمضان عبد التواب، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971م.
ـ حمزة الأصبهاني (ت 351هـ)، الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة.
... تحقيق عبد المجيد قطامش، دار المعارف، القاهرة 1971م.
ـ الميداني (ت 518هـ)، مجمع الأمثال.
... تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط2/ 1959م.
ـ المفضّل الضّبّي (ت 170هـ)، أمثال العرب.
... قدم له وعلق عليه د. إحسان عباس، دار الرائد العربي، بيروت 1981م.
ـ الأصمعي (ت 216هـ)، كتاب الأمثال.
... جمع نصوصه وحققها وقدم لها د. محمد جبار المعيبد، دار الشؤون الثقافية، بغداد 2000م.
ـ العبدري (ت 837هـ)، كتاب الأمثال.
... تحقيق د. أسعد ذبيان، دار المسيرة، بيروت 1982م.
ـ العسكري (ت 395هـ)، جمهرة الأمثال.
... تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة 1964م.
المراجع:
ـ أبو هلال العسكري (ت 395هـ)، كتاب الصناعتين، تحقيق محمد علي البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت 1986م.
ـ ابن هشام (ت 761هـ)، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد القاهرة مطبعة المدني (د. ت)
ـ ابن منظور (ت 711هـ)، لسان العرب، إعداد وتصنيف يوسف خياط، دار لسان العرب بيروت (د. ت).
ـ ابن النديم (ت 385هـ)، الفهرست، تحقيق رضا ـ تجدد، طهران (د. ت).
ـ ابن سنان الخفاجي (ت 466هـ)، سر الفصاحة، تحقيق عبد المتعال الصعيدي، القاهرة 1953م.
ـ ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ)، العمدة، تحقيق محي الدين عبد الحميد، القاهرة ط3/ 1963م.
ـ ابن خلكان (ت 681هـ)، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت 1968م.(1/232)
ـ إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات، حامد عبد القادر، المعجم الوسيط، محمد علي النجار، إشراف عبد السلام هارون، المكتبة العلمية، طهران (د. ت).
ـ أدوين موير، بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي، مراجعة د. عبد القادر القط، الدار المصرية للتأليف والنشر القاهرة 1965م.
ـ أوستن وارين، رينيه ويليك، نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة د. حسام الخطيب دمشق 1972م.
ـ أحمد بن محمد بن إمبيريك، صورة بخيل الجاحظ الفنية، دار الشؤون الثقافية، بغداد
1986م.
ـ أحمد جاسم النجدي (دكتور)، منهج البحث الأدبي عند العرب، وزارة الثقافة والفنون، دار الحرية للطباعة، بغداد 1978م.
ـ أحمد مطلوب (دكتور)، معجم المصطلحات البلاغية، المجمع العلمي العراقي 1/1983م، 2/ 1986م، 3/ 1987م.
ـ أحمد مطلوب (دكتور) وكامل البصير (دكتور)، البلاغة والتطبيق، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بغداد 1982م.
ـ أ. م. فورستر، أركان القصة، ترجمة كمال عيّاد جاد، مراجعة حسن محمود، دار الكرنك، مصر 1960م.
ـ أنيس المقدسي، تطور الأساليب النثرية في الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت ط5/ 1974م.
ـ أنيس فريحة، أحيقار، حكيم من الشرق الأدنى القديم، جامعة بيروت الأمريكية، بيروت 1962م.
ـ أرسطو ـ كتاب أرسطو طاليس في الشعر، تحقيق د. شكري محمد عياد، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة 1967م.
ـ الخطابة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1980م.
ـ بوريس أوسبنسكي، شعرية التأليف، ترجمة سعيد الغانمي وناصر حلاوي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1999م.
ـ بلاشير، تاريخ الأدب العربي، ترجمة إبراهيم كيلاني، دمشق 1956م.
ـ الجاحظ (ت 255هـ)، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، مصر: ط5/ 1985م.
ـ جواد علي (دكتور)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت 1976م.(1/233)
ـ جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، ترجمة محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ط2/ 1997م.
ـ والاس مارتن، نظريات السرد الحديثة، ترجمة د. حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، مصر 1998م.
ـ وديعة طه النجم (دكتورة)، الجاحظ والحاضرة العباسية، مطبعة الرشاد، بغداد 1965م.
ـ الأزهر الزنّاد، نسيج النص، المركز الثقافي العربي، بيروت 1993م.
ـ الزركشي (ت 794هـ)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1957م.
ـ حازم القرطاجني (ت 684هـ)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة تونس 1966م.
ـ حاتم الصكر، البئر والعسل، قراءات معاصرة في نصوص تراثية، دار الشؤون العامة، بغداد، 1992.
ـ حاجي خليفة (ت 1068هـ)، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مطبعة وكالة المعارف، مصر 1943م.
ـ حميد لحمداني (دكتور)، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت ط2/ 1993م.
ـ حسام الألوسي (دكتور)، الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1980م.
ـ حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت 1990م.
ـ الطاهر أحمد مكي (دكتور)، امرؤ القيس، حياته وشعره، دار المعارف، القاهرة ط4/ 1979م.
ـ طه حسين (دكتور)، في الأدب الجاهلي، دار المعارف، مصر (د. ت).
ـ ياقوت الحموي (ت 626هـ) ـ معجم الأدباء، دار الفكر، بيروت ط3/ 1980م.
ـ معجم البلدان، دار صادر، دار بيروت، بيروت 1957م.
ـ يمنى العيد (دكتورة)، فن الرواية العربية بين خصوصية الرواية وتميّز الخطاب، دار الآداب، بيروت 1998م.
ـ كلود ليفي شتراوس وفلاديمير بروب، مساجلة بصدد (علم تشكّل الحكاية)، ترجمة محمد معتصم دار عيون المقالات، الدار البيضاء 1998م.(1/234)
ـ ليفي بريل، العقلية البدائية، ترجمة د. محمد القصاص، منشورات مكتبة مصر (د. ت).
ـ المبرد (ت 285هـ)، الكامل، عارضه بأصوله وعلّق عليه محمد أبو الفضل إبراهيم، السيد شحاتة، دار نهضة مصر للطبع والنشر (د. ت).
ـ محمد حسين علي الصغير (دكتور)، الصورة الفنية في المثل القرآني، وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد للنشر، بغداد 1981م.
ـ محمد سويرتي، النقد البنيوي والنص الروائي، نماذج تحليلية من النقد العربي، 2. الزمن، الفضاء السرد، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء 1991م.
ـ محمد عابد الجابري (دكتور)، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1991م.
ـ محمد توفيق أبو علي (دكتور)، الأمثال العربية والعصر الجاهلي، دار النفائس، بيروت 1988م.
ـ محمد سليم الحوت، في طريق الميثولوجيا عند العرب، دار النهار للنشر، بيروت ط2/ 1979م.
ـ منذر الجبوري، أيام العرب وأثرها في الشعر الجاهلي، دار الحرية للطباعة، بغداد
1974م.
ـ منذر عياشي، اللسانيات والدلالة (الكلمة)، مركز الإنماء الحضاري، حلب 1996م.
ـ منيب محمد البوريمي، الفضاء الروائي في (الغربة)، الإطار والدلالة، آفاق عربية، بغداد (د. ت).
ـ مصطفى الغلاييني (الشيخ)، جامع الدروس العربية، بيروت ط5/ 1939م.
ـ مختلفون، نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1982م.
ـ مختلفون، السيميائية والنص الأدبي، جامعة عنابة، الجزائر 1995م.
ـ ناصر الدين الأسد (دكتور)، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار المعارف، القاهرة ط4/ 1969.
ـ نيقولاي برديائيف، العزلة والمجتمع، ترجمة فؤاد كامل، دار الشؤون الثقافية العامة، ط2/ 1986م.
ـ سوزان لوهافر، الاعتراف بالقصة القصيرة، ترجمة محمد نجيب لفته، مراجعة د. عزيز جمعة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1991م.(1/235)
ـ سيبويه (ت 180هـ)، الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3/ 1988م.
ـ سهير القلماوي (دكتورة)، ألف ليلة وليلة، دار المعارف بمصر، ط4/ 1976م.
ـ السيوطي (ت 911هـ) ـ بغية الوعاة، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964م.
ـ المزهر، تحقيق محمد جاد المولى وعلي البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي، القاهرة 1958م.
ـ سيزا قاسم (دكتورة)، بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر 1984م.
ـ سعيد يقطين ـ الرواية والتراث السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت 1992م.
ـ قال الراوي، البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، المركز الثقافي العربي، بيروت 1997م.
ـ الكلام والخبر، مقدمة للسرد العربي، المركز الثقافي العربي بيروت 1997م.
ـ سعيد علوش (دكتور)، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت ـ سوشبريس، الدار البيضاء 1985م.
ـ عادل جاسم البياتي (دكتور)، كتاب أيام العرب قبل الإسلام، دار الجاحظ، بغداد 1976م.
ـ عبد الله إبراهيم (دكتور) ـ المتخيّل السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت 1990م.
ـ السرديّة العربية، المركز الثقافي العربي، بيروت 1992م.
ـ التلقي والسياقات الثقافية، دار الكتاب الجديد المتحدة، أويا للنشر والتوزيع (د. ت).
ـ عبد الله أبو هيف (دكتور)، القصة العربية الحديثة والغرب، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1994م.
ـ عبد الحميد يونس (دكتور)، الحكاية الشعبية، دار الشؤون الثقافية، بغداد (د. ت).
ـ عبد المجيد عابدين (دكتور)، الأمثال في النثر العربي القديم، مكتبة مصر، دار مصر للطباعة 1956م.
ـ عبد الملك مرتاض (دكتور) ـ في نظرية الرواية، سلسلة عالم المعرفة (240) الكويت، 1988م.
ـ ألف ليلة وليلة، دراسة سيميائية تفكيكية لحكاية حمّال بغداد، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1989م.(1/236)
ـ عبد الفتاح كليطو ـ الأدب والغرابة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1982م.
ـ الغائب، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 1987م.
ـ الحكاية والتأويل، الدار البيضاء 1986م.
ـ عز الدين إسماعيل (دكتور)، المكونات الأولى للثقافة العربية، وزارة الإعلام، بغداد
1972م.
ـ علي عبد المعطي محمد (دكتور)، تيارات فلسفية معاصرة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية 1984م.
ـ فدوى مالطي ـ دوجلاس (دكتورة)، بناء النص التراثي، مشروع النشر المشترك، دار الشؤون الثقافية، بغداد، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة (د. ت).
ـ صلاح فضل (دكتور) ـ نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشؤون الثقافية، بغداد ط3/ 1987م.
ـ بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة عالم المعرفة (164) الكويت 1992م.
ـ القفطي (ت 646هـ)، إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتب المصرية 1950م.
ـ رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1996م.
ـ الراغب الأصبهاني (ت 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، تحقيق محمد سيد كيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1961م.
ـ روبرت شولز ـ البنيوية في الأدب، ترجمة حنا عبود، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق 1984م.
ـ السيمياء والتأويل، ترجمة سعيد الغانمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1994م.
ـ رودلف زلهايم، الأمثال العربية القديمة، ترجمة رمضان عبد التواب، دار الأمانة، مؤسسة الرسالة، بيروت 1991م.
ـ رولان بارت، التحليل البنيوي للقصة القصيرة، ترجمة د. نزار صبري، مراجعة د. مالك المطلبي الموسوعة الصغيرة (259) بغداد 1986م.
ـ رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، ترجمة د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (110) الكويت 1987م.(1/237)
ـ شجاع العاني (دكتور)، البناء الفني في الرواية العربية في العراق، جـ1 بناء السرد 1994م، جـ2 الوصف وبناء المكان 2000م، دار الشؤون الثقافية، بغداد.
ـ شوقي ضيف (دكتور)، العصر الجاهلي، دار المعارف، مصر 1961م.
ـ ت. ج. دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1957م.
ـ الخطيب البغدادي (ت 463هـ)، تاريخ بغداد، دار الكتاب العربي، بيروت (د. ت).
ـ الخطيب القزويني (ت 739هـ)، الإيضاح، بإشراف محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة (د. ت).
الدوريات:
ـ (الآداب) اللبنانية ع7 و8س 37/ 1989م، د. أحمد كمال زكي، الفن القصصي في التراث العربي.
ـ (الأستاذ) العراقية مج4 ع1-2/1967م، د. صفاء خلوصي، دراسة في الأمثال العربية القديمة.
ـ (المجلة العربية للعلوم الإنسانية) الكويتية ع10م3 ربيع 1983م، عفيف عبد الرحمن، الأمثال العربية القديمة.
ـ (المورد) العراقي مج24 ع1/1996م، د. زكي ذاكر العاني، دراسة تحليلية في أقدم كتاب في الأمثال.
ـ (المعرفة) السورية س18 ع204/ 1979م، جورج صدقني، في سيكولوجية الأمثال العربية/ 2.
ـ (عالم الفكر) الكويتية مج16 ع1/ 1985م، د. أحمد أبو زيد، الملاحم كتاريخ وثقافة.
ـ (علامات) السعودية ج35 مج9 مارس 2000م، سعيد يقطين، كتابة تاريخ السرد العربي، المفهوم والصيرورة.
ـ (فكر ونقد) المغربية س4 ع35/ 2001م (عدد خاص بالأمثال) عبد الغني أبو العزم، كتب الأمثال مجامع أم معاجم؟
ـ (فصول) المصرية مج2 ع2/ 1982م، د. نبيلة إبراهيم، لغة القص في التراث العربي.
مج2 ع4/ 1982م، د. شكري محمد عياد، فن الخبر في تراثنا القصصي.
ـ (التراث الشعبي) العراقية س6 ع2، 3/ 1975م، د. إبراهيم السامرائي، في الأمثال العربية.
ـ (الثقافة الأجنبية) العراقية ع1/ 1998م، روبرت كازينو، القص والخطاب وفلسفة الحدث ت. علاء العبادي.
رسائل علمية:(1/238)
ـ مشتاق فالح عبيد، البنى الوظائفية في مقامات الحريري (مقاربة سيميائية)، رسالة دكتوراه (مرقونة على الآلة الكاتبة) كلية الآداب/ جامعة البصرة 2000م.
ـ عبد الحسين معتوق الصكر، الظواهر اللغوية والنحوية في الأمثال العربية مع جمع وتحقيق كتاب الأمثال لأبي زيد الأنصاري (مرقونة على الآلة الكاتبة) كلية التربية/ جامعة البصرة 1997م.
***
الفهرس
المقدمة ... 3
الدراسة السردية لكتب الأمثال (في الرؤية والمنهج) تمهيد ... خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.
1ـ أدبيّة النص السردي القديم: ... 3
2-دراسة الأمثال بوصفها نوعاً ثانوياً: ... 3
3-من (المثل) إلى (النص): ... 3
4.مؤلفات الأمثال: ... 3
5-مراحل تأليف كتب الأمثال: ... 3
الفصل الأول الإطار ... 3
الإطار السردي: مدخل ... 3
الاستهلال: ... 3
الفصل والوصل: ... 3
الخاتمة: ... 3
الفصل الثاني الأحداث ... 3
التجربة والصيغة في المستوى البلاغي للمثل (مدخل) ... 3
الأنساق: ... 3
- الدورة القصصيّة (المتتاليات): ... 3
تغيّرات النصوص (حركة السياق الثقافي وأثرها في بناء الأحداث): ... 3
الفصل الثالث الشخصيَّة ... 3
الشخصيّة في نصوص الأمثال (مدخل) ... 3
1-شخصيات نصوص الأمثال العامة: ... 3
2-شخصيات نصوص الأمثال الخاصة: ... 3
أ-الشخصية الرئيسة: ... 3
ب-الشخصية الثانويّة: ... 3
ج-الشخصيّة الهامشيّة: ... 3
3-نصوص أخبار الشخصيّة وصيغ أمثالها: ... 3
الفصل الرابع الفضاء ... 3
عن الفضاء في السرد العربي القديم (مدخل) ... 3
الزمان والمكان في صيغة المثل (مقترب دلالي) ... 3
الزمان في نصوص الأمثال:
درجة الصفر(من زمن الرواية إلى زمن المروي) ... 3
الحلقة الزمنية الوسطى: ... 3
الزمانية والسببية: ... 3
المكان في نصوص الأمثال: ... 3
1ـ التعبير المباشر عن المكان: ... 3
2ـ التعبير غير المباشر عن المكان: ... 3
الخاتمة ونتائج البحث ... 3
1. سمات العناصر السرديّة: ... 3
2. علاقة نصوص الأمثال بـ (فن الخبر): ... 3
3. أثر حركة السياق الثقافي في نصوص الأمثال: ... 3
المصادر والمراجع ... 3
المصادر: ... 3
المراجع: ... 3
الدوريات: ... 3
رسائل علمية: ... 3(1/239)
الفهرس ... 3
***(1/240)